قيمة الولد كرد عينه في انجبار نقصان الولادة به.
رجل استودع رجلين جارية فباع أحدهما نصفها الذي في يده فوقع عليها المشتري فولدت له ثم جاء سيدها قال: يأخذها وعقرها وقيمة الولد لأن المستولد مغرور فإن قيام الملك له في نصفها كقيام الملك له في جميعها في صحة الاستيلاد ولو كان الملك له في جميعها ظاهرا كان يتحقق الغرور فكذلك في نصفها وولد المغرور حر بالقيمة ثم رد قيمة الولد كرد عين الولد في جبر نقصان الولادة به فإن لم يكن في قيمة الولد وفاء بالنقصان أخذ تمام ذلك من المشتري لأن المشتري كان غاصبا لها في حق مالكها فيكون ضامنا لما حدث من النقصان في يده ثم يرجع المشتري على البائع بالثمن وبنصف قيمة الولد لأن البائع إنما ملكه نصفها ولو ملكه كلها رجع عليه بجميع قيمة الولد إذا ظهر الاستحقاق فالجزء معتبر بالكل وأما الرجوع بالثمن فلانفساخ البيع بسبب الاستحقاق وإن شاء رب الجارية ضمن البائع نصف النقصان لأنه كان أمينا في نصفها وقد تعدى بالبيع والتسليم ألا ترى أنها لو هلكت كان له أن(11/232)
ص -108- ... يضمن البائع نصف قيمتها فكذلك إذا فات جزء منها بالولادة فإن لم يعلم أن الجارية لهذا الذي حضر إلا بقول المستودعين لم تقبل شهادتهما في ذلك لأن البائع منهما مناقض في كلامه والآخر قد تملك عليه المستولد نصيبه أيضا بالضمان فلا تقبل شهادتهما على إبطال ملك ثابت للمستولد عليهما ولكن الجارية أم ولد للمشتري باعتبار الظاهر ويضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها فيدفعه إلى شريكه فيها كما هو الحكم في جارية مشتركة بين شريكين يستولدها أحدهما.
فإن قيل: كيف يغرم للشريك هنا وهو يأبى ذلك ويزعم أنها مملوكة لغيره؟
قلنا: نعم ولكنه صار مكذبا في زعمه شرعا حين كانت الجارية أم ولد للمشتري فلهذا سقط اعتبار زعمه.
وإذا جحد المستودع ما عنده من الوديعة ثم أودع من ماله عند المودع مثل ذلك وسعه إمساكه قصاصا بما ذهب به من وديعته لأن المال صار دينا له على المستودع بجحوده وصاحب الحق متى ظفر بجنس حقه من مال المديون يكون له أن يأخذه والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف".(11/233)
وقيل: في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "لصاحب الحق اليد واللسان" أن المراد أخذ جنس حقه إذا ظفر به وكذلك إن كان المال دينا عليه وأنكره ثم أودعه مثله فأما إذا أودعه شيئا من غير جنس حقه لم يسعه إمساكه عنه لأن هذا بيع عند اختلاف الجنس فلا ينفرد هو به والأول استيفاء وصاحب الحق ينفرد بالاستيفاء وحكي عن ابن أبي ليلى رحمه الله التسوية بينهما للمجانسة من حيث المالية ولكنه بعيد فالوديعة عين لا يكون له أن يحبسها باعتبار صفة المالية إذا لم يثبت له حق تملك العين ولايدخل عليه المرهون لأن هناك المرتهن يحبس المرهون بإيجاب الراهن ملك اليد له في العين وإن كان عند الهلاك يصير مستوفيا دينه باعتبار المالية ثم عند المجانسة إذا طلب الثاني يمين المودع الأول كان له أن يحلف بالله لا يلزمني تسليم شيء إليك فإن قال للقاضي حلفه بالله ما استودعته كذا فله ذلك إلا أن يؤدي المدعى عليه فيقول قد يودع الرجل غيره شيئا ثم لا يلزمه تسليم شيء إليه فإن أدى بهذه الصفة فقد طلب من القاضي أن ينظر له فيجيبه إلى ذلك فأما إذا لم يذكر هذا فإن القاضي يحلفه كما طلب الخصم بالله ما أودعه ما يدعي ثم لا ينبغي له أن يحلف على ذلك لأنه يكون كاذبا في يمينه ولا رخصة في اليمين الكاذبة فطريق التخلص له أن يعرض للقاضي بما ذكرنا أو يحلف ما استودعتني شيئا إلا كذا وكذا يستثني ذلك بكلامه ويخفيه من خصمه ومن القاضي ويسعه ذلك لأنه مظلوم دافع الضرر عن نفسه غير قاصد إلى الإضرار بغيره إلا أن مجرد نيته لا تكفي لذلك لأنه يحتاج إلى إخراجه من جملة ما يتناوله كلامه لولا الاستثناء وذلك يحصل بالنية لأن الاستثناء بيان أن كلامه عبارة عما وراء المستثنى فلا يحصل ذلك إلا بما يصلح أن يكون ناسخاً(11/234)
ص -109- ... أو معارضا ومجرد النية لا تصلح لذلك فلهذا شرط التكلم بالاستثناء وجه ذلك ما لو قرب إنسان أذنه من فمه سمع ذلك وفهمه وأما إذا غاب رب الوديعة ولا يدري أحي هو أو ميت فعليه أن يمسكها حتى يعلم بموته لأنه التزم حفظها له فعليه الوفاء بما التزم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في العهود وفاء لا غدر فيه" بخلاف اللقطة فإن مالكها غير معلوم عنده فبعد التعريف التصدق بها طريق لإيصالها إليه وهنا مالكها معلوم فطريق إيصالها الحفظ إلى أن يحضر المالك أو يتبين موته فيطلب وارثه ويدفعها إليه وإن مات الرجل وعليه دين وعنده وديعة ومضاربة وبضاعة فإن عرفت بأعيانها فأربابها أحق بها من الغرماء لأن حق الغرماء بعد موت المديون يتعلق بماله دون مال سائر الناس وكما كانوا أحق بها في حياة المديون فكذلك بعد موته وإن لم تعرف بأعيانها قسم المال بينهم بالحصص وأصحاب الوديعة والمضاربة والبضاعة بمنزلة الغرماء عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى الغرماء أحق بجميع التركة وأصل المسألة أن الأمين إذا مات مجهلا للأمانة فالأمانة تصير دينا في تركته عندنا لأنه بالتجهيل صار متملكا لها فإن اليد المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك ولهذا لو شهد الشهود بها كان ذلك بمنزلة الشهادة بالملك حتى يقضي القاضي للوارث والمودع بالتمليك فيصير ضامنا ولأنه بالتجهيل يصير مسلطا غرماءه وورثته على أخذهاوالمودع بمثل هذا التسليط يصير ضامنا كما لو دل سارقا على سرقتها ولأنه التزم أداء الأمانة ومن أداء الأمانة بيانها عند موته وردها على المالك إذا طلب فكما يضمن بترك الرد بعد الطلب يضمن أيضا بترك البيان عند الموت وابن أبي ليلى يقول هذا كله إذا علم قيامها عند الموت ولا يعرف ذلك ولكنا نقول قد علمنا بقاءها والتمسك بما هو المعلوم واجب ما لم يتبين خلافه وربما يقول حق الغرماء كان في ذمته ويتحول بالموت إلى ماله وحق أصحاب الأمانة لم يكن في ذمته في حياته(11/235)
فكيف يزاحمون الغرماء في ماله بعد موته ولكنا نقول صار حقهم أيضا دينا قبل موته حين وقع اليأس عن بيانه ثم حق أصحاب الأمانة من وجه أقوى لعلمنا أنه كان في عين المال الذي في يده ومن له حق العين فهو مقدم على سائر الغرماء كالمرتهن في الرهن فإن كان لا يستحق صاحب الأمانة الترجيح فلا أقل من أن يزاحم الغرماء.
وإذا رد المستودع الوديعة إلى المودع ثم أقام رجل البينة أنها له وحضروا عند القاضي فلا ضمان على المستودع لأن فعله في القبض قد انتسخ بالرد إلى من أخذ منه فلا يبقى له حكم بعد ذلك وبيان الانتساخ من حيث الحس ظاهر ومن حيث الحكم فلأنه مأمور بالرد شرعا على من أخذها منه قبل حضور المالك ألا ترى أن الأول لو كان غاصبا معروفا فطالب المودع بالرد عليه قبل أن يحضر المالك ألزمه القاضي ذلك وكذلك لو كانت سرقة أو غصبا فالمودع بالرد على من أخذه منه يكون ناسخا حكم فعله فيبقى للمالك قبله حق وهذا لأن وجوب الضمان عليه باعتبار التفويت فإن بأخذه فات على المالك التمكن من الأخذ من الأول وقد زال ذلك بالإعادة إلى يده وكذلك إن كان المودع صبيا أو عبدا محجورا عليه وكذلك(11/236)
ص -110- ... إن كان رب الوديعة صبياً، أو عبداً لأن المسقط للضمان في حق المودع رده إلى من أخذه منه وذلك متحقق منه.
وإن كان المودع دفعها إلى إنسان بأمر المودع أو باع أو وهب وسلم بأمره ثم ظهر الاستحقاق كان للمستحق أن يضمن المستودع لأنه ما نسخ فعله بالرد إلى من أخذه منه إنما سلمه إلى غيره وذلك سبب موجب للضمان عليه بدون أمر المودع وقد ظهر بالاستحقاق أن أمره لم يكن معتبرا فكان المستودع ضامنا بخلاف الأول فقد رد هناك إلى الموضع الذي أخذه منه وذلك ناسخ لفعله عبد استودع رجلا وديعة ثم غاب لم يكن لمولاه أن يأخذ الوديعة تاجرا كان العبد أو محجورا" لأن المودع ما قبض منه شيئا ولأن تمكنه من أخذ هذا المال بشرطين
أحدهما: قيام ملكه في رقبة الدافع في الحال.
والثاني: فراغ ذمة الدافع عن دين العبد لأن دين العبد في كسبه مقدم على حق المولى والمودع ليس بخصم في إثبات هذين الشرطين عليه ولأنه إنما يتمكن من أخذه إذا علم أن الوديعة كسب العبد وذلك غير معلوم فلعلها كانت وديعة في يده لغيره وإنما أورد هذا لإيضاح ما سبق أن المودع رد الوديعة إلى من أخذها منه وليس عليه طلب المالك ليردها عليه فإن في هذا الموضع يلزمه ردها إلى العبد إذا حضر ولا يلزمه ردها على مالكها.
وإذا مات رب الوديعة فالوارث خصم في طلب الوديعة لأنه خليفة المورث قائم مقامه بعد موته فإن كان على الميت دين وله وصي فينبغي للمستودع أن يدفع الوديعة إلى الوصي لأنه قائم مقام الوصي بعد موته فأما الوارث فإنما يخلف المورث بشرط فراغ التركة عن حق الغرماء لأن حق الغرماء مقدم على حق الوارث فلهذا كان له أن يدفعها إلى الوصي ليبيعها فيقضي الدين ثم يدفع ما بقي إلى الوارث.(11/237)
وإن كانت الوديعة عبدا أو دابة أو ثوبا واحدا عند رجلين فإنهما يتهايآن على حفظه فيمسكه كل واحد منهما شهرا لأن اجتماعهما على الحفظ آناء الليل والنهار لا يتصور ولأنهما يحفظان ما لا يحتمل القسمة من ملكهما بهذه الصفة فكذلك من الوديعة لأنهما يحفظان الوديعة على الوجه الذي يحفظان مالهما.
وإن وضعه أحدهما عند صاحبه فهلك لم يضمنا شيئا اعتبارا بما لو هلك في يد أحدهما في زمان المهايأة وقد بينا هذا.
وإذا قال رب الوديعة: أودعتك عبدا وأمة وقال المستودع ما أودعتني إلا الأمة وقد هلكت فأقام رب الوديعة البينة على ما ادعى ضمن المستودع قيمة العبد لأنه جحد الوديعة في العبد فصار ضامنا قيمته ولا ضمان عليه في الأمة لأنه مقر بالوديعة فيها وقد زعم أنها هلكت فالقول قوله مع يمينه.(11/238)
ص -111- ... رجلان ادعى كل واحد منهما أمة في يد رجل أنه أودعها إياه وقال المستودع ما أدري لأيكما هي غير أني أعلم أنها لأحدكما.
قال يحلف لكل واحد منهما لأن كل واحد منهما يدعي عليه أنه أودعه الأمة بعينها وهو منكر لذلك إنما أقر بإيداع أحدهما بغير عينه منه والمنكر غير المعين فلهذا يحلف لكل واحد منهما وتمام بيان المسألة في كتاب الإقرار وإنما أورد المسألة هنا لبيان خلاف ابن أبي ليلى في فصل وهو أنه إذا أبى أن يحلف لهما فإنه يدفع الأمة إليهما ويغرم قيمتها بينهما نصفين وعند ابن أبي ليلى يردها عليهما ولا شيء عليه سوى ذلك وهو بناء على ما بينا أن التجهيل غير موجب للضمان على المودع وعندنا التجهيل موجب للضمان عليه وقد صار مجهلا في حق كل واحد منهما فيصير ضامنا ثم بنكوله صار مقرى لكل واحد منهما أنه أخذ جميعها منه وإنما رد على كل واحد منهما نصفها فيصير ضامنا لكل واحد منهما ما بقي من حقه وذلك بأن يغرم قيمتها بينهما ألا ترى أنه لو قال هذا استودعنيها ثم قال أخطأت بل هو هذا كان عليه أن يدفعها إلى الأول لأن إقراره له بها صحيح ورجوعه بعد ذلك باطل ويضمن للآخر قيمتها لإقراره أنها للثاني وأنه صار مستهلكا على الثاني بإقراره بها للأول فيكون ضامنا له قيمتها وهذا إذا دفعها إلى الأول بغير قضاءالقاضي وكذلك إن كان دفعها بقضاء القاضي في قول محمد وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون ضامنا لأن بمجرد إقراره لم يفت على الثاني شيء وإنما الفوات بالدفع إلى الأول وقد كان بقضاء القاضي ولكن محمد رحمه الله يقول هو الذي سلط القاضي على القضاء بها للأول بإقراره قد أقر أنه مودع فيها من الثاني والمودع إذا سلط الغير على أخذ الوديعة يصير ضامناً للمودع.(11/239)
رجل استودع رجلا وديعة فأودعها المستودع غيره من غير عياله فهلكت فالأول ضامن لها لأنه متعد بالتسليم إلى غير من أمر بحفظها منه ولا ضمان على مودع المودع في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو ضامن لها أيضا ولصاحب المال الخيار يضمن أيهما شاء.
وعند ابن أبي ليلى لا ضمان على واحد منهما بناء على أصله أن للمودع أن يودع غيره وقد بينا هذا فأما هما فيقولان الأول متعد في التسليم بغير إذن المالك والثاني متعد في القبض بغير إذن المالك فكان للمالك أن يضمن أيهما شاء كالغاصب مع غاصب الغاصب فإن ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه بالضمان ملك فتبين أنه أودع ملك نفسه وقد هلكت في يد المودع وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه مغرور من جهته فإنه أودعه على أنه ملكه وأنه لا يلحقه الضمان فهلك في يده فإذا لحقه الضمان رجع عليه ولأنه في القبض والحفظ كان عاملا له فيرجع عليه بما يضمن بسببه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الأول يصير ضامنا بالتسليم إلى الثاني بدليل أنه لو سلمها إليه ليحفظها بحضرته فهلكت لم يضمن واحد منهما وإنما يصير الأول ضامنا بترك الحفظ حين غاب بعد ما سلمها إلى الثاني فأما الثاني لم يترك الحفظ بل هو مقبل على الحفظ حين هلكت فلا يضمن(11/240)
ص -112- ... شيئاً يوضحه أن أصل قبض الثاني لم يكن موجبا للضمان عليه حتى لو هلك قبل غيبة الأول لم يضمن ولم يوجد من جهته صنع بعد ذلك فيصير به ضامنا والضمان لا يجب بدون الصنع إنما وجد الصنع من الأول وهو الذهاب وترك الحفظ ولما لم يصر الثاني ضامنا بالقبض كان هذا في حقه كثوب هبت به الريح وألقته في حجره فإذا هلكت من غير صنعه لم يضمن يقرره أن الأول لما لم يضمن بمجرد التسليم وإنما ضمن بتركها في يد الثاني بعد غيبته فقد صارت يده يدا معتبرة في إيجاب الضمان على الأول ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها في إيجاب الضمان على الثاني كأجير القصار إذا دق الثوب وتخرق لما وجب الضمان على الأستاذ بسبب فعل الأجير ولم يجب على الأجير شيء من الضمان لأنه لو ضمن إنما يضمن بذلك الفعل أيضا والفعل الواحد لا يكون موجبا للضمان على الشخصين فهذا مثله بخلاف الغاصب مع غاصب الغاصب فإن كل واحد منهما إنما يصير ضامنا بفعله وهو غصبه وغصب أحدهما غير غصب الثاني ولهذا يعتبر في كل حق واحد منهما قيمته حين غصبه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(11/241)
ص -113- ... كتاب العارية
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء العارية تمليك المنفعة بغير عوض سميت عارية لتعريها عن العوض فإنها مع العرية اشتقت من شيء واحد والعرية العطية في الثمار بالتمليك من غير عوض والعارية في المنفعة كذلك ولهذا اختصت بما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها أو ما يجوز تمليك منافعها بالعوض بعقد الإجارة. وقيل هي مشتقة من التعاور وهو التناوب فكأنه يجعل للغير نوبة في الانتفاع بملكه على أن تعود النوبة إليه بالاسترداد متى شاء ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضا لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك العين فلا تعود النوبة إليه في تلك العين لتكون عارية حقيقة وإنما تعود النوبة إليه في مثلها وما يملك الإنسان الانتفاع به على أن يكون مثله مضمونا عليه يكون قرضاً.
وكان الكرخي رحمه الله يقول موجب هذا العقد إباحة الانتفاع بملك العين لا بملك المنفعة بدليل أنه لا يشترط إعلام مقدار المنفعة فيه ببيان المدة والجهالة تمنع صحة التمليك أما لا تمنع صحة الإباحة وبدليل أن المستعير ليس له أن يؤاجر ومن تملك شيئا بغير عوض جاز له أن يملكه من غيره بعوض كالموهوب له والصحيح أن موجب هذا العقد ملك المنفعة للمستعير لأن المنفعة تحتمل التمليك بعوض فتحتمل التمليك بغير عوض أيضا كالعين والدليل عليه أن للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس بالانتفاع به والمباح له لا يملك أن يبيح لغيره.
والعارية تنعقد بلفظ التمليك بأن يقول ملكتك منفعة داري هذه شهرا أو جعلت لك سكنى داري هذه شهرا إلا أنه لا يؤاجره لما فيه من إلحاق الضرر بالمعير فإنه ملكه على وجه يتمكن من الاسترداد فهو نظير ما لو استأجر دابة أو ثوبا ليس له أن يؤاجر من غيره وإن ملك منفعة اللبس والركوب ولكن لما كان الناس يتفاوتون في ذلك ففي الإجارة من غيره إضرار بالآخر.(11/242)
فإن قيل: كان ينبغي أن يملك المستعير الإجارة ولا ينقطع حق المعير في الاسترداد بل يصير قيام حق المعير في الاسترداد عذرا في نقض الإجارة.
قلنا: لو ملك المستعير الإجارة كان ذلك من مقتضيات عقد المعير وكان صحة العقد بتسليطه فلا يتمكن من نقضه بعد ذلك وإنما لا يشترط إعلام المدة أو المكان في الإعارة لأن اشتراط ذلك في المعاوضات لقطع المنازعة وذلك لا يوجد في العارية لأنه لا يتمكن بينهما(11/243)
ص -114- ... منازعة إذا أراد المعير الاسترداد ولأن المعاوضات يتعلق بها صفة اللزوم وذلك لا يتحقق في غير المعلوم فأما العارية لا يتعلق بها صفة اللزوم فلهذا لا يشترط إعلام المكان ولا إعلام المدة ولا إعلام ما يحمل على الدابة وعند إطلاق العقد للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب كما ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها ما لم يطالبه المالك بالرد لأنه لا يؤاجرها فإن آجرها صار غاصبا وكان الأجر له يتصدق به وقد بيناه في كتاب الغصب وإن هلكت بعد ما آجرها كان ضامنا لها فإذا لم يؤاجرها ولكنها هلكت في يده لم يضمن في أقوال علمائنا رحمهم الله سواء هلكت من استعماله أو لا وهو قول عمر وعلي وبن مسعود رضوان الله عليهم وقال الشافعي رحمه الله إن هلكت من الاستعمال المعتاد لم يضمن وإن هلكت لا من الاستعمال ضمن قيمتها للمالك وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما واحتج في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العارية مضمونة" فقد جعل الضمان صفة للعارية فيقتضي أن يكون صفة لازمة لها كما أن الله تعالى لما جعل القبض صفة للرهن بقوله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: من الآية283] اقتضى أن يكون ذلك صفة لازمة للرهن واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان دروعا في حرب هوازن فقال له أغصبا يا محمد قال صلى الله عليه وسلم: "لا بل عارية مضمونة مؤداة" وكتب في عهد بني نجران "وما تعار رسلي فهلكت على أيديهم فضمانها على رسلي" وقال صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" والأخذ إنما يطلق في موضع يأخذ المرء لمنفعة نفسه وذلك موجود في العارية وهو المعنى الفقهي أنه لما قبض مال الغير لنفسه لا عن استحقاق تقدم فكان مضمونا عليه كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء والمستقرض وهذا لأنه لما لم يثبت بهذا العقد استحقاق تسليم العين عرفنا أنه مقصور على المنفعة لا يتعدى إلى العين فصار في حق العين كأنه(11/244)
قبضه بغير إذنه بخلاف الإجارة فقد تعدى العقد هناك إلى العين حتى تعلق به استحقاق تسليم العين وبخلاف الوديعة فإن المودع لا يقبض الوديعة لمنفعة نفسه إنما يقبضها لمنفعة المالك ولهذا لم يكن عليه مؤنة الرد وهو المعتمد لهم فإن قبض العارية يوجب ضمان الرد حال قيام العين فيوجب ضمان القيمة حال هلاك العين كالقبض بطريق الغصب يقرره أن ضمان الرد إنما يلزمه لأنه يسقط بالرد ضمان العين عن نفسه ولما لزمه ضمان الرد فعليه أداء ما لزمه ولا يتحقق أداء ذلك إلا برد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاك العين ليصير به مؤديا ما لزمه من ضمان الرد وهذا بخلاف ما لو تلف في الاستعمال لأن فعله في الاستعمال منقول إلى المالك فإنه يستعمل بتسليط المالك فيحصل به الرد معنى ويجوز أن يكون العين مضمونا عليه ثم يبرأ عن ضمانه بفعل يباشره بتسليط المالك كما لو غصب من غيره شاة فقال له المغصوب منه ضح بها فإن هلكت قبل أن يضحي بها ضمنها وإن ضحى بها لم يضمن شيئا ولا يقال قبضه بتسليط المالك أيضا لأنه يقبض من يد المالك لنفسه فلا يمكن أن يجعل فعله في القبض كفعل المالك والدليل عليه أنه لو ضمن للمستحق لم يرجع على المعير ولو كان يد المستعير في العين كيد المعير لرجع عليه بالمودع وحجتنا(11/245)
ص -115- ... في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" والمغل هو الخائن فقد نفى الضمان عن المستعير عند عدم الخيانة والمعنى فيه أنه قبض العين للانتفاع به بإذن صحيح فلا يكون مضمونا عليه كالمستأجر وتأثيره أن وجوب الضمان يكون للجبران وذلك لا يتحقق إلا بعد تفويت شيء على المالك وبالإذن الصحيح ينعدم التفويت ألا ترى أن القبض في كونه موجبا للضمان لا يكون فوق الإتلاف ثم الإتلاف بالإذن لا يكون موجبا للضمان فالقبض أولى ولا يجوز أن يجب الضمان هناك باعتبار العقد لأن العقد عقد تبرع فلا يكون عقد ضمان كالهبة والدليل عليه أن ما تناوله العقد وهو المنفعة لا يصير مضمونا بهذا العقد فما لم يتناوله العقد أولى ولأن العقد على المنفعة إذا كان بعوض وهو الإجارة لا يوجب ضمان العين وتأثير العوض في تقدير حكم ضمان العقد فإذا كان العقد على المنفعة مقرونا بالعوض لا يوجب الضمان فالمتعري عن العوض كيف يوجب الضمان والدليل عليه أنه لو تلف في الاستعمال لم يضمن ولا يجوز أن يجعل فعله كفعل المالك لأنه استعمل لمنفعة نفسه ولكن إنما لا يضمن لوجود الإذن من المالك في الاستعمال فكذلك للقبض وإن قال بحكم الإذن من المالك في الاستعمال جعل استعماله كاستعمال المالك فبحكم الإذن في القبض والإعطاء ينبغي أن يجعل قبضه كقبض المالك أيضا ووجوب ضمان الرد على المستعير ليس لما قال بل لأن منفعة النقل حصلت له والرد فسخ لذلك النقل فكانت المؤنة على من حصلت له منفعة النقل ولهذا توجب مؤنة الرد على الموصى له بالخدمة أيضا فأما ضمان العين إنما يجب على من فوت شيئا على المالك بقبضه كالغاصب ولم يوجد ذلك إذا كان القبض بإذنه والمقبوض على سوم الشراء إنما كان مضمونا ضمان العقد والإذن يقرر ضمان العقد ولأن المالك هناك ما رضي بقبضه إلا بجهة العقد ففيما وراء العقد كان المقبوض بغير إذنه والمستقرض(11/246)
كذلك إنما كان مضمونا بالعقد والإذن يقرر ضمان العقد وإنما لا يرجع المستعير بضمان الاستحقاق لأن الرجوع عند الاستحقاق بسبب الغرور أو بسبب العيب وذلك يختص بعقد المعاوضة فإنه يقتضي السلامة عن العيب فأما عقد التبرع لا يقتضي ذلك ولهذا لا يرجع الموهوب له بضمان الغرور عندنا.
وقوله: بأنه قبض العين لا عن استحقاق تقدم.
قلنا: نعم ولكنه قبض العين بحق والموجب للضمان القبض بغير حق لما فيه من التفويت على المالك وكما أن القبض موجب للضمان فالإتلاف كذلك ثم الإتلاف إنما يوجب الضمان إذا حصل بغير حق لا إذا حصل بغير استحقاق تقدم فالقبض مثله والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "العارية مضمونة" ضمان الرد ولأنه جعل الضمان صفة للعين وحقيقة ذلك في ضمان الرد لأنه يبقى ببقاء الرد وحديث صفوان فقد قيل إنه أخذ تلك الدروع بغير رضاه وقد دل عليه قوله أغصبا يا محمد ألا أنه إذا كان محتاجا إلى السلاح كان الأخذ له حلالا ثمة شرعا ولكن بشرط الضمان كمن أصابته مخمصة له أن يتناول مال الغير بشرط الضمان.(11/247)
ص -116- ... وقيل: كانت الدروع أمانة لأهل مكة عند صفوان فاستعارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته إليها فكان مستعيرا من المودع وهو ضامن عندنا.
وقيل: المراد ضمان الرد.
وقوله: مؤادة تفسير لذلك كما يقال فلان عالم فقيه يعلم باللفظ الثاني أن المراد بالأول علم الفقيه.
وقيل: كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراط الضمان على نفسه والمستعير وإن كان لا يضمن ولكن يضمن بالشرط كالمودع على ما ذكره في المنتقى ولكن صفوان كان يومئذ حربيا ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين.
وقيل: إنما قال ذلك تطبيبا لقلب صفوان على ما روي أنه هلك بعض تلك الدروع فقال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت غرمناها لك" فقال لا فإني اليوم أرغب في الإسلام مما كنت يومئذ ولو كان الضمان واجبا لأمره بالاستيفاء، أو الإبراء.(11/248)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما يعار رسلي فهلك على أيديهم" أي استهلكوه لأنه يقال هلك في يده إذا كان بغير صنعه وهلك على يده إذا استهلكه "وقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" يقتضي وجوب رد العين ولا كلام فيه إنما الكلام في وجوب ضمان القيمة بعد هلاك العين قال: وإن استعار الدابة يوما إلى الليل ولم يسم ما يحمل عليها لم يضمن إذا هلكت لأنه قبضها بإذن صحيح ولكن إن أمسكها بعد مضي اليوم فهو ضامن لها لأنه لما وقت فقد بين أنه غير راض بقبضه إياها فيما وراء المدة فإذا أمسكها بعد مضي المدة كان ممسكا لها بغير رضا صاحبها فيضمنها كما في المودع إذا طولب بالرد فلم يرد حتى هلكت وهذا بخلاف المستأجر فإنه بعد مضي المدة إذا أمسكها لا يضمنها ما لم يطالبه صاحبها بالرد لأن مؤنة الرد هناك ليست على المستأجر ولكنها على المالك فإذا لم يحضر المالك ليأخذها لم يوجد من المستأجر منع يصير به ضامنا وهنا مؤنة الرد على المستعير فإذا أمسكها بعد مضي المدة فقد وجد منه الامتناع من الرد المستحق عليه وذلك موجب ضمان المستعار عليه.
وإذا لم يؤقت المالك ولكنه أعارها ليحمل عليها الحنطة فجعل ينقل عليها الحنطة أياما فلا ضمان عليه لأن الإذن من المالك مطلق فلا ينعدم حكمه إلا بالنهي والمطالبة بالرد ولم يوجد وإن حمل عليها الآجر أو اللبن أو الحجارة فعطبت فهو ضامن لأنه خالف ما أمره به نصا فصار غاصبا مستعملا بغير إذنه وهذه المسألة على أربعة أوجه:
أحدها: أن يحمل عليها غير ما عينه المالك ولكنه مثل ما عينه في الضرر على الدابة من جنسه بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم1 من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتيم من حنطة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مخاتيم: جمع مختوم وهذا الصاع كما في القاموس اهـ . مصححه.(11/249)
ص -117- ... أخرى أو ليحمل عليها حنطة نفسه فحمل عليها حنطة غيره فلا ضمان عليه لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا وهذا التقييد والتعيين لا يفيد شيئا فإن حنطته وحنطة غيره في الضرر عليها سواء.
والثاني: أن يخالف في الجنس بأن استعارها ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فحمل عليها عشرة أقفزة شعير في القياس يكون ضامنا لأنه مخالف فإنه عند اختلاف الجنس لا تعتبر المنفعة والضرر. ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لم ينفذ بيعه وفي الاستحسان لا يكون ضامنا لأنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة فإن مقصوده دفع زيادة الضرر عن دابته ومثل كيل الحنطة من الشعير يكون أخف على الدابة وقد بينا أنه إنما يعتبر من تقييده ما يكون مفيدا دون ما لا يفيده شيئا حتى قيل لو سمى مقدارا من الحنطة وزنا فحمل مثل ذلك الوزن من الشعير يضمن لأنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ من الحنطة فهو كما لو استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حطبا أو تبنا فأما مثل ذلك كيلا من الشعير لا يأخذ من ظهرها أكثر مما يأخذ من الحنطة.
والثالث: أن يخالف إلى ما هو أضر على الدابة بأن استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حديدا أو آجرا مثل وزن الحنطة فهو ضامن لها لأن هذا يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة فكان أضر عليها من حمل الحنطة وتقييد المالك معتبر إذا كان مفيدا له وكذلك لو حمل عليها مثل وزن الحنطة قطنا لأنه يأخذ من ظهر الدابة فوق ما تأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه كما لو حمل عليها حطبا أو تبناً.(11/250)
والرابع: أن يخالف في المقدار بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها خمسة عشر مختوما فهلكت فهو ضامن ثلث قيمتها لأنه في مقدار عشرة مخاتيم موافق لأنه حامل بإذن المالك وفيما زاد على ذلك حامل بغير إذنه فيعتبر الجزء بالكل ويتوزع الضمان على ذلك وهذا إذا كان مثل تلك الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوما فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو ضامن لجميع قيمتها لأنه متلف لها بهذا الحمل والمالك ما أذن له في إتلافها وللشافعي ثلاثة أقاويل في هذه المسألة. قول مثل قولنا وقول آخر أنه يضمن جميع قيمتها لأنه خالف إلى ما هو أضر على الدابة فهو كما لو خالف في الجنس وقول آخر أنه يضمن نصف قيمتها لأنها تلفت من حملين أحدهما بإذن صاحبه والآخر بغير إذنه فيضمن نصف قيمتها كما لو أمره أن يضرب عبده عشرة أسواط فضربه أحد عشر سوطا فمات من ذلك يضمن نصف قيمته ولكن الفرق بينهما ظاهر لأن ذاك ضمان قتل وفي باب القتل المعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات فقد تقوى الطبيعة على دفع ألم عشر جراحات في موضع ولا تقوى على دفع ألم جراحة واحدة في موضع فلهذا اعتبرنا عدد الجناة وجعلنا الضمان نصفين. وهنا تلف الدابة باعتبار ثقل المحمول وثقل عشرة مخاتيم فوق ثقل خمسة مخاتيم في الضرر على الدابة فلا بد من أن يتوزع الضمان على قدر ثقل المحمول وهذا بخلاف ما لو استعار ثورا ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك فإنه يضمن جميع قيمته لأن الطحن يكون شيئاً(11/251)
ص -118- ... فشيئاً فلما طحن عشرة مخاتيم انتهى إذن المالك فبعد ذلك هو في الطحن مخالف في جميع الدابة مستعمل لها بغير إذن مالكها فيضمن جميع قيمتها فأما الحمل يكون جملة واحدة فهو في البعض مستعمل لها بإذن المالك وفي البعض مخالف فيتوزع الضمان على ذلك وإذا جاوز المكان الذي سمي له وأخذ إلى مكان غير ذلك فعطبت فهو ضامن لها لأنه استعملها بغير إذن صاحبها فالتقييد من صاحبها هنا مفيد لأن الضرر على الدابة يختلف بقرب الطريق وبعده والسهولة والوعورة وإن استعارها ليحمل كذا وكذا ثوبا هرويا فحمل عليها مثل ذلك مرويا أو فوهيا أو نرمقا لم يضمن لأن التقييد بالهروي غير مفيد فإن سائر أجناس الثياب كالهروي في الضرر على الدابة وكذلك في الوزنيات من الأدهان وغيرها كل تقييد يكون مفيدا فهو معتبر وإذا خالف ذلك كان ضامنا وما لا يكون مفيدا لا يعتبر.
وإن استعارها ليركبها هو فركبها هو وحمل معه عليها رجلا ضمن نصف قيمتها لأنه في نصفها موافق وفي النصف مخالف والجزء معتبر بالكل.
فإن قيل: أليس أنه لو لم يركبها وحمل عليها غيره فهلكت ضمن جميع قيمتها فإذا ركبها معه أولى لأن الضرر على الدابة أكثر.
قلنا: إذا حمل عليها غيره فهو مخالف في الكل وإذا ركبها فهو موافق فيما شغله بنفسه مخالف فيما شغله بغيره ألا ترى أنه لو كان استأجرها لركوبه لم يجب الأجر إذا حمل عليها غيره ووجب الأجر إذا ركبها وحمل مع نفسه غيره وهذا إذا كانت الدابة بحيث تطيق حمل رجلين فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو متلف لها ضامن لجميع قيمتها ثم لم يعتبر هنا الثقل والخفة بأن يكون الذي حمله مع نفسه أخف منه أو أثقل منه بخلاف مسألة الحنطة وهذا لأنه استقبح وزن الرجال في مثل هذا.(11/252)
فقال: أرأيت لو كان يوزن كل واحد منهما أيوزن قبل الطعام أو بعده قبل الخلاء أو بعده لأن الضرر في حق الراكبين على الدابة لا يكون باعتبار الثقل والخفة فرب ثقيل يروض الدابة إذا ركبها لهدايته في ذلك ورب خفيف يعقرها لخرقه في ذلك فلهذا اعتبرنا المناصفة فإن قضى حاجته من الدابة ثم ردها مع عبده أو بعض من هو في عياله فلا ضمان عليه إن عطبت لأن يد من في عياله في الرد كيده كما أن يد من في عياله في الحفظ كيده والعرف الظاهر أن المستعير يرد المستعار بيد من في عياله ولهذا يعولهم فكان مأذونا فيه من جهة صاحبها دلالة وكذلك إن ردها إلى عبد صاحب الدابة وهو الذي يقوم عليها فهو بريء استحسانا والقياس أن لا يبرأ ما لم تصل إلى صاحبها كالمودع إذا رد الوديعة لا يبرأ عن الضمان ما لم تصل إلى يد صاحبها ووجه الاستحسان أن صاحبها إنما يحفظ بيد هذا السائس ولو دفعها إليه لكان يدفعها إلى السائس أيضا فكذلك إذا ردها على السائس والعرف الظاهر أن صاحب الدابة يأمر السائس بدفعها إلى المستعير وباستردادها منه إذا فرغت فيصير مأذونا في دفعها إليه دلالة ولم يوجد مثل هذا العرف في الوديعة فإن صاحبها هو الذي يتولى استردادها(11/253)
ص -119- ... عادة وإنما أودعها لأنه لم يرض بكونها في يد عياله حتى قالوا في المستعار لو كان عقد لؤلؤ فرده المستعير على عبد هو سائس دواب المعير لا يبرأ لأنه في مثل هذا لا يرضى باسترداد مثله عادة وإن استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبس فهو ضامن لأن الناس يتفاتون في لبس الثوب ولبس القصاب والدباغ لا يكون كلبس البزاز والعطار فكان هذا تقييدا مفيدا في حق صاحب الثوب فإذا ألبسه المستعير غيره صار مخالفا وكذلك الدابة إذا استعارها ليركبها هو لأن الناس يتفاوتون في الركوب فرب راكب يروض الدابة وآخر يقتلها فأما إذا استعاره ولم يسم من يلبسه فأعاره غيره لم يضمن لأن صاحب الثوب رضي باستيفاء منفعة اللبس من ثوبه مطلقا فسواء لبسه المستعير أو غيره لم يكن مخالفا لما نص عليه المستعير وكذلك إن كان المستعار مما لا تتفاوت الناس في الانتفاع به كسكنى الدار وخدمة العبد لأن تقييده هنا بنفسه غير مفيد فيكون وجوده كعدمه وهو بناء على أصلنا أن للمستعير أن يعير وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمستعير أن يعير لأنه منتفع بملك الغير بإذنه فلا يكون له أن يأذن لغيره في ذلك كالمباح له الطعام لا يبيح لغيره وهذا لأنه يسوي غيره بنفسه فيما هو من حق الغير وإنما له هذه الولاية في حق نفسه لا في حق الغير ألا ترى أن الوكيل بالتصرف لا يوكل غيره به وحجتنا في ذلك أن المستعير مالك للانتفاع بهذا العين فيملك أن يعيره من غيره كالمستأجر والموصى له بالخدمة وهذا لما بينا أن المستعير يملك المنفعة بالعارية وإليه أشار بعد هذا فقال من أعارك شيئا فقد جعل لك منفعة ذلك والدليل عليه أنه لو قال ملكتك منفعة هذه العين كانت عارية صحيحة فإذا ثبت أنه مالك للمنفعة فهو بالتمليك من الغير يتصرف في ملك نفسه ويستوي غيره بنفسه في حق نفسه وذلك صحيح بخلاف المباح له الطعام فإنه لا يملك الطعام وإنما يتناوله على ملك المبيح إلا أن العين بقي على ملك صاحبه(11/254)
ففيما يتفاوت الناس في الانتفاع به لا يعيره من غيره وإن كان تصرفه في ملك نفسه لدفع الضرر وذلك صحيح كما أن أحد الشريكين في العبد إذا كاتبه كان للآخر أن يفسخ لدفع الضرر عن نفسه والمشتري إذا تصرف في الشقص المشفوع فهو متصرف في ملكه ثم ينقض تصرفه لدفع الضرر على الشفيع.
قال: رجل استعار من رجل أرضا على أن يبني فيها أو على أن يغرس فيها نخلا فأذن له صاحبها في ذلك ثم بدا له أن يخرجه فله ذلك عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأنه غير متعد في البناء والغرس فلا يهدم عليه ذلك وصاحب الأرض وإن كان يتضرر بذلك فقد رضي بالتزام هذا الضرر فأما صاحب البناء لم يرض بهدم بنائه وغرسه فلا يكون لصاحب الأرض أن يأخذها ما لم يفرغ ولكنا نقول الأرض بقيت على ملك صاحبها والعارية لا يتعلق بها اللزوم فلا يمتنع بسببه عليه إثبات اليد على ملكه والانتفاع به متى شاء وصاحب البناء والغرس لما بنى على بقعة هي مملوكة لغيره من غير حق لازم له فقد صار راضيا بأن يهدم عليه بناؤه وغرسه لأنه ملكه وقد شغل أرض الغير به فيؤمر بتفريغه ولا ضمان له على صاحب الأرض عندنا.
وقال ابن أبي ليلى البناء للمعير ويضمن قيمتها مبنية لصاحبها لأن دفع الضرر من(11/255)
ص -120- ... الجانبين واجب وإنما يندفع الضرر بهذا وشبه هذا بثوب إنسان إذا انصبغ بصبغ غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذه فإنه يضمن للصباغ قيمة صبغه ولكنا نقول صاحب الأرض غير راض بالتزام قيمة البناء ففي الزام ذلك عليه من غير رضاه إضرار به ولا يجوز المصير إليه بدون تحقق الضرورة ولا ضرورة هنا لأن رفع البناء وتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر ممكن بخلاف مسألة الصبغ فإن تمييز ملك أحدهما من ملك الآخر هناك غير ممكن ثم هناك لا يلزمه قيمة الصبغ بدون رضاه أيضا حتى يكون له أن يأبى التزام القيمة ليصار إلى بيع الثوب فكذلك هنا ينبغي أن لا يلزم قيمة البناء بغير رضاه فإن كان وقت له وقتا عشرين سنة أو نحو ذلك ثم أخرجه قبل الوقت فهو ضامن للمستعير قيمة بنائه وغرسه عندنا وعلى قول زفر رحمه الله لا يضمن ذلك لأن التوقيت في العارية غير ملزم إياه شيئا كأصل العقد فكما لا يكون له أن يضمنه قيمة البناء والغرس باعتبار مطلق الإعارة فكذلك بالتوقيت منها وبيان التوقيت غير ملزم إياه أنه يتمكن من إخراجه قبل مضي ذلك الوقت وحجتنا في ذلك أن المعير بالتوقيت يصير غارا للمستعير لأنه نص على ترك الأرض في يده وإقرار بنائه فيها في المدة التي سمى فإذا لم يف بذلك صار غارا له وللمغرور أن يدفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار بخلاف ما إذا أطلق فهلك المعير لم يصر غارا له ولكن المستعير مغتر بنفسه حتى ظن أنه بمطلق العقد يتركها في يده مدة طويلة ولكن قد بينا فيما سبق أن الغرور بمباشرة عقد الضمان يكون سببا للرجوع وذلك لا يوجد هنا فإن المعير لم يباشر عقد ضمان وإن وقت فالوجه أن يقول كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن ولا حاجة إلى التوقيت في تصحيح العارية فلا بد من أن يكون لذكر الوقت فائدة أخرى وليس ذلك إلا التزام قيمة البناء والغرس إذا أراد إخراجه قبله وصار تقدير كلامه كأنه قال ابن لي في هذه الأرض لنفسك على أن أتركها في يدك إلى كذا من(11/256)
المدة فإن لم أتركها فأنا ضامن لك ما تنفق في بنائك ويكون بناؤك لي فإذا بدا له في الإخراج ضمن قيمة بنائه وغرسه ويكون كأنه بنى له بأمره إلا أن يشاء المستعير أن يرفعها ولا يضمنه قيمتها فيكون له ذلك لأن البناء والغرس ملكه وإنما أوجبنا الضمان على المعير لدفع الضرر عن المستعير فإذا رضي بالتزام هذا الضرر كان هو أحق بملكه يرفعه بتفريغ ملك الغير.
وقيل: هذا إذا لم يكن في قلع الأشجار ضرر عظيم بالأرض فأما إذا كان فيه ضرر عظيم فليس للمستعير أن يرفعها بغير رضا المعير لما فيه من الإضرار به ولكن للمعير أن يتملكها عليه بالقيمة. وإن كان إعاره الأرض ليزرعها ووقت لذلك وقتا أو لم يوقت وقتا فلما تقارب حصاده أراد أن يخرجه ففي القياس له ذلك كما في البناء والغرس وهذا لأن الزارع زرع الأرض من غير حق لازم له فيها فلصاحبها أن يأخذها متى شاء كالغاصب للأرض إذا زرعها ولكن في الاستحسان لا يأخذها صاحبها إلى أن يحصد المستعير زرعها لأنه ما كان متعديا في الزراعة بجهة العارية ولإ دراك الزرع نهاية معلومة فلو تمكن المعير من قلع زرعه كان فيه إضرار بالمستعير في إبطال ملكه ولو تركت في يد المستعير كان فيه إضرار بالمعير من حيث تأخير(11/257)
ص -121- ... حقه وضرر الإبطال فوق ضرر التأخير فإذا لم يكن بد من الإضرار بأحدهما ترجح أهون الضررين. بخلاف البناء والغرس فإنه ليس له نهاية معلومة فيكون الضرر من الجانبين ضرر إبطال الحق فترجح جانب صاحب الأصل على جانب صاحب التبع وبخلاف الغصب لأن الغاصب متعد في الزراعة في الابتداء فلا يستحق بفعل التعدي إبقاء زرعه ولم يبين في الكتاب أن الأرض تترك في يد المستعير إلى وقت إدراك الزرع بأجر أو بغير أجر قالوا وينبغي أن يترك بأجر المثل كما لو انتهت مدة الإجارة والزرع نقل بعده وهذا لأن إبطال حق صاحب الأرض عن منفعة ملكه مجانا لا يجوز بغير رضاه وإنما يعتدل النظر من الجانبين إذاترك الزرع إلى وقت الإدراك بأجر المثل.
فإن رد المستعير الدابة مع غلامه فعقرها الغلام فهو ضامن لقيمتها يباع في ذلك أو يؤدي عنه مولاه لأنه استهلكها والعبد المحجور عليه يؤاخذ بضمان الاستهلاك في الحال.(11/258)
وإذا اختلف رب الدابة، والمستعير فيما أعارها له وقد عقرها الركوب أو الحمولة فالقول قول رب الدابة عندنا وعند ابن أبي ليلى رحمه الله القول قول المستعير لأن رب الدابة يدعي عليه سبب الضمان وهو الخلاف وهو منكر لذلك فالقول قوله ولكنا نقول الإذن يستفاد من جهة صاحب الدابة ولو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الإذن على الوجه الذي انتفع به المستعير وهذا لأن سبب وجوب الضمان قد ظهر وهو استعمال دابة الغير والمستعمل يدعي ما يسقط الضمان عنه وهو الإذن وصاحبها منكر لذلك فإذا حلف فقد انتفى المسقط ويبقى هو ضامنا بالسبب الظاهر وإن إعاره الأرض على أن يبني فيها أو يسكن ما بدا له فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض فهذا الشرط فاسد لأن البناء ملك الباني شرط رب الأرض ذلك عليه لنفسه بإزاء منفعة الأرض فيكون هذا إجارة لا إعارة وهي إجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه حين لم يذكر مدة معلومة وبجهالة الأجر حين لم يكن مقدار ما يبني معلوما لهما وقت العقد وعلى الساكن أجر مثل الأرض فيما سكن لأنه استوفى منفعتها بحكم عقد فاسد وينقض الساكن بناءه إذا طالبه صاحبها برد الأرض لأن البناء ملكه.
فإن قيل: لماذا لا يتملك البناء صاحب الأرض بحكم الإجارة الفاسدة لأنه صار قابضاً له باتصاله بالأرض.(11/259)
قلنا: كان الشرط بينهما أن يبني الساكن لنفسه ثم البناء كان معدوما عند العقد والعقد على المعدوم لا ينعقد أصلا وإنما يملك بالقبض ما يتناوله العقد الفاسد وإذا مات المعير والمستعير انقطعت العارية. أما إذا مات المعير فلأن العين انتقلت إلى وارثه والمنفعة بعد هذا تحدث على ملكه وإنما جعل المعير للمستعير ملك نفسه لا ملك غيره وأما إذا مات المستعير فلأن المنفعة لا تورث لأن الوراثة خلافة وذلك فيما كان للميت فيخلفه فيه وارثه وإذا كانت المنافع لا تبقى وقتين لا يتصور فيها هذه الخلافة ولأن الدلالة قامت لنا على أن العقد على المنفعة بعوض يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو الإجارة فما كان منها بغير عوض أولى(11/260)
ص -122- ... وكذلك إن كان قال له هذه الدار لك سكنى لأن معناه سكناه لك فإن قوله لك يحتمل تمليك العين ويحتمل تمليك المنفعة وقوله سكنى يكون تفسيرا لذلك المحتمل وكذلك إذا قال عمري سكني كان قوله سكني تفسيرا لقوله عمري فإنما تثبت العارية بهذا اللفظ ثم تنقطع بموته.
وإذا جاء رجل إلى المستعير وقال إني استعرت من فلان هذا الذي عندك وأمرني أن أقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فهلكت عنده ثم أنكر المعير أن يكون أمره بذلك فالمستعير ضامن له لأنه يدعي على المعير الأمر بالدفع إليه وهو منكر فالقول قوله مع يمينه وإذا حلف يتبين أن المستعير دفعه إلى غير المالك بغير إذنه وذلك موجب للضمان عليه.
فإن قيل: لماذا لم تجعل هذه إعارة من المستعير حتى لا يكون موجبا للضمان عليه.(11/261)
قلنا: المستعير إذا أعاره من غيره فإنه يقيمه مقام نفسه في الانتفاع وإمساك العين فيكون يد الثاني كيد الأول ولهذا كان له أن يسترده متى شاء وهنا تسليمه إلى الثاني لم يكن بهذا الطريق بل بطريق أنه أحق بالعين منه ولهذا لا يملك الاسترداد منه فلا يمكن أن يجعل كالمعير منه ثم إذا ضمن المستعير لا يرجع به على الذي قبضه منه لأنه صدقه فيما ادعى ففي زعمه أنه مستعير من المالك وأنه لا ضمان على واحد منهما إلا أن المالك ظلمه حين ضمنه ومن ظلم فليس له أن يظلم غير ظالمه وإن كان الذي جاء فقبض العارية منه خادم المعير وأنكر مولاه أن يكون أمره بذلك فلا ضمان على المستعير لما بينا أن الرد على خادم المعير كالرد على المعير فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المستعير وإذا رد المستعير الدابة فلم يجد صاحبها ولا خادمه فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت فهو ضامن لها في القياس لأنه ضيعها حين أخرجها من يده ولم يسلمها إلى أحد يحفظها ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان مضيعا ضامنا فكذلك المستعير وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأنه ربطها في موضعها المعروف ولو ردها على صاحبها لكان يربطها في هذا الموضع فكذلك إذا ربطها بنفسه وهذا للعادة الظاهرة أن المستعير يأخذ الدابة من مربطها ويردها إلى مربطها فيثبت الإذن له من جهة صاحبها في ذلك بهذا الطريق دلالة وهذا بخلاف الغاصب لأنه ضامن محتاج إلى إسقاط الضمان عن نفسه بنسخ فعله وذلك لا يتم بردها إلى مربطها بعد ما أخذها من صاحبها فأما المستعير فهو أمين فإنما الحاجة إلى دفع سبب الضمان عنه وهو التضييع وقد اندفع باعتبار العادة لأن المربط في يد صاحب الدابة فأعادتها إلى المربط بمنزلة الإعادة إلى يد صاحبها حكما ولو جحد المستعير العارية ثم زعم أنها هلكت فهو ضامن لها لأن العين كانت أمانة في يده فيصير ضامنا بالجحود كالمودع وإن لم يجحد ولكن قال قد رددته أو ضاع مني فهو مصدق مع يمينه في كل ما يصدق(11/262)
فيه المودع لأنه أمين ينكر وجوب الضمان عليه وعارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض لأن الإعارة إذن في الانتفاع ولا يتأتى الانتفاع بالنقود إلا باستهلاك عينها فيصير مأذونا في ذلك وفيه طريقان إما الهبة أو القرض فيثبت الأقل لكونه(11/263)
ص -123- ... متيقناً به، ولأن المستعير يلتزم رد العين بعد الانتفاع ويتعذر هنا رد العين فيقام رد المثل مقام رد العين والقبض الذي يمكنه من استهلاك المقبوض ويوجب عليه ضمان المثل القبض بجهة القرض وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد مثل الجوز والبيض قال في الأصل أرأيت لو استعار دراهم يشتري بها طعاما أو جارية أما كان له أن يأكل الطعام أو يطأ الجارية له ذلك والمال قرض عليه وإن استعار آنية يتجمل بها في منزله أو سكينا محلى أو سيفا أو منطقة مفضضة أو خاتما لم يكن شيء من هذا قرضا لأن الانتفاع بهذه الأعيان مع بقائها ممكن ولهذا تجوز إجارتها.
قالوا: ولو أن صيرفيا استعار دراهم أو دنانير ليتجمل بها في حانوته أو ليعبر بها صنجاته فإنه لا يكون قرضا لأنهما لما صرحا به علمنا أن مقصودهما الانتفاع مع بقاء العين دون الإذن في استهلاك العين وإذا استعار دابة ليركبها إلى مكان معلوم فأخذ بها في طريق آخر إلى ذلك المكان فعطبت لم يضمن لأنه مأذون في الوصول عليها إلى ذلك المكان ولم يقيد له طريق فلا يكون مخالفا في أي طريق ذهب بعد أن يكون طريقا يسلكه الناس إلى ذلك المكان فإن كان طريقا لا يسلكه الناس إلى ذلك المكان فهو ضامن لأن مطلق الإذن ينصرف إلى المتعارف وإن استعارها إلى حمام أعبر فجاوز بها حمام أعبر ثم جاء بها إلى حمام أعين أو إلى الكوفة فعطبت الدابة فهو ضامن لها حتى يردها إلى صاحبها.
قيل: هذا إذا استعارها ذاهبا لا راجعا فأما إذا استعارها ذاهبا وجائيا فلا ضمان عليه وهكذا ذكر في النوادر لأنه في الأول لما وصل إلى حمام أعين انتهى العقد فإذا جاوز كان غاصبا فلا يبرأ إلا بالرد على المالك وفي الثاني إنما يضمن بالخلاف وهو استعمالها وراء المكان المشروط فإذا رجع إلى حمام أعين فقد ارتفع الخلاف والعقد قائم بينهما فيكون أمينا.(11/264)
وقيل: الجواب في الفصلين سواء لأن يد المستعير يد نفسه وفي الوديعة إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق إنما أبرأناه عن الضمان لأن يده يد المالك فيجعل في الحكم كما لو رده على المالك وهذا لا يوجد هنا فبقى ضامنا كما كان وإن عاد إلى مكان العقد ما لم يوصله إلى المالك والإجارة في هذا كالعارية لأن يد المستأجر يد نفسه أيضا فإنه يقبض لمنفعة نفسه ورجوعه بضمان الاستحقاق لأجل الغرور الثابت بعقد ضمان لا لأن يده يد المالك يوضح الفرق أن المستعير والمستأجر يضمنان بالإمساك فإنه لو استعار أو استأجر دابة ليركبها إلى مكان كذا فأمسكها في المصر أياما كان ضامنا فكذلك إذا جاوز المكان المشروط فإنما ضمناه بإمساكها في غير الموضع الذي تناوله الإذن ولا ينعدم الإمساك إلا بالرد فأما المودع يصير ضامنا بالاستعمال لا بالامساك وقد انعدم الاستعمال حين عاد إلى الوفاق. يقول فإن أقام صاحبها البينة أنها نفقت تحته في دير عبد الرحمن من ركوبه وأقام المستعير شاهدين أنه قد ردها إلى صاحبها أخذت بينة رب الدابة لأنها تثبت سبب تقرر الضمان على الراكب وبينة(11/265)
ص -124- ... المستعير تنفي ذلك والبينات للإثبات وإذا نفقت الدابة تحت المستعير ثم أقام رجل البينة أنها دابته يقضي القاضي له بالملك لإثباته ذلك بالحجة ولا يسأله البينة أنه لم يبع ولم يهب لأن ذلك لا يدعيه أحد والقاضي نصب لفصل الخصومات لا لإنشائها فإن ادعى ذلك الذي أراد أن يضمنه أو قال أذن لي في عاريتها يحلف على ذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلفه فإن نكل كان نكوله كإقراره فلا يضمن المستحق أحدا وإن حلف كان له أن يضمن أيهما شاء لأن كل واحد منهما متعد في حقه المعير بالتسليم والمستعير بالقبض والاستعمال فإن ضمن المعير لم يرجع على المستعير لأنه ملكها من حين وجب عليه الضمان فيتبين أنه أعار ملك نفسه وإن ضمن المستعير لم يرجع على المعير أيضا لأنه ضمن بفعل باشره لنفسه بخلاف المودع ولأنه لم يصر مغرورا من جهة المعير حين لم يشترط المعير لنفسه عوضا بخلاف المستأجر فقد صار مغرورا من جهة الأجر بمباشرته عقد الضمان واشتراط العوض لنفسه ثم على المستأجر الأجر إلى الموضع الذي نفقت فيه الدابة لأنه استوفى المعقود عليه وذلك للأجر دون الملك لأن تقوم المنفعة كان بعقده وبه وجب الأجر ولا بأس بأن يعير العبد التاجر والعبد الذي يؤدي الغلة الدابة وفي القياس ليس لهما ذلك لأنه تبرع والمملوك ليس من أهله فإن تبرعه يكون بملك الغير ولأنه صار منفك الحجر عنه في التجارة والإعارة ليست من التجارة في شيء ووجه الاستحسان أن هذا من توابع التجارة فإن التاجر لا يجد منه بدا لأنه إذا أراد الإنسان أن يعامله فلا بد أن يجلسه في حانوته أو يضع وسادة له وهو إعارة لذلك الموضع منه وقد يستعار منه الميزان أو صنجات الميزان فإذا لم يعر لا يعار منه عند حاجته أيضا وما يكون من توابع التجارة يملكه المأذون كاتخاذ الضيافة اليسيرة والإهداء إلى المجاهدين بشيء والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك حديث(11/266)
أبي سعيد مولى أبي أسيد رضي الله تعالى عنه قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيهم أبو ذر فأجابوني فدل أن للعبد اتخاذ للدعوة حتى أجابه أبو ذر رضي الله تعالى عنه مع زهده والعبد الذي أمره المولى بأداء الغلة مأذون له في التجارة لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب فأمر المولى إياه بأداء الغلة يكون إذنا له في الاكتساب.
عبد مأذون له: أجر دابته من رجل فنفقت تحته فاستحقها رجل وضمن الراكب قيمتها يرجع بها على العبد المأذون كما يرجع على الحر لأنه صار مغرورا من جهته باشتراطه العوض لنفسه والمأذون يؤاخذ بضمان الغرور كالحر ولهذا تبين خطأ بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله تعالى أن ضمان الغرور كضمان الكفالة وأن الغار يصير كالقائل للمغرور إن ضمنك أحد بسبب ركوب هذه الدابة أو استيلاد هذه الجارية في البيع فأنا ضامن لك ذلك لأنه لو كان هذا بطريق الكفالة لم يؤاخذ به المأذون فإن العبد المأذون لا يؤاخذ بضمان الكفالة ولكن الطريق أن من باشر عقد المعاوضة فهو ملتزم سلامة المعقود عليه عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق والرجوع عليه لهذا ولهذا لا رجوع على المعير الواهب لأنه لا يلتزم صفة السلامة(11/267)
ص -125- ... بعقد التبرع ثم العبد في التزام صفة السلامة بعقد المعاوضة وهو التجارة كالحر وإذا أعار عبد محجور عليه عبدا مثله دابة فركبها فهلكت تحته ثم استحقها رجل فله أن يضمن أيهما شاء لأن أحدهما غاصب لملكه بالتسليم إلى الآخر والآخر مستهلك باستعماله فإن ضمن الراكب لم يرجع على المعير لانعدام الغرور منه ولأن المعير كان محجورا عليه فلا يؤاخذ بضمان الأقوال وإن ضمن المعير رجع به مولاه في رقبة الراكب لأن الدابة صارت كسب المعير حين تقرر عليه ضمانها وكسب العبد لمولاه. فتبين أن الراكب أتلف ملكه بغير رضاه وكذلك إن كانت الدابة لمولى المعير فله أن يضمن الراكب لأن إذن العبد المحجور عليه غير معتبر في إسقاط حق المولى فبقي الراكب مستعملا دابته بغير رضاه فكان غاصبا ضامنا وإن استعار الرجل دابة نتوجا فألقت من غير أن يعنف عليها فلا ضمان عليه لأنها لو هلكت من الركوب المعتاد لم يضمن فإذا هلك ما في بطنها أولى وإن ضربها ففقأ عينها أو كبحها باللجام فهلكت فهو ضامن لها لأنه متلف بما صنع وإنما أذن له المالك في الركوب دون الضرب ولو استعار من رجل سلاحا ليقاتل به فضرب بالسيف فانقطع نصفين أو طعن بالرمح فانكسر فلا ضمان عليه لأنه مأذون في الاستعمال والاستعمال لا يكون إلا هكذا وإن ضرب به حجرا فهو ضامن لأن المعير إنما أذن له في المقاتلة بالسلاح والمقاتلة مع الخصم لا مع الحجر والضرب بالسيف الحجر غير معتاد أيضا فكان به ضامنا.
قال: وإذا قال المستعير في صحته أو مرضه قد هلكت مني العارية فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين فيه كالمودع ولا يتغير حكم أمانته بمرضه.(11/268)
وإذا كان على دابة بإعارة أو إجارة فنزل عنها في السكة ودخل المسجد ليصلي فخلى عنها فهلكت فهو ضامن لها وكذلك إن أدخل الحمل في بيته وخلي عنها في السكة لأنه ضيعها حين تركها في غير حرز لا حافظ معها من أصحابنا رحمهم الله من قال هذا إذا لم يربطها بشيء فإن ربطها لم يضمن لأنه متعارف لا يجد المستعير من ذلك بدا والأصح أنه يضمن إذا غيبها عن بصره ألا ترى أنه قال وإن كان في صحراء فنزل ليصلي وأمسكها فانفلتت منه فلا ضمان عليه فبهذا تبين أن المعتبر أن لا يغيبها عن بصره ليكون حافظا لها فأما بعد ما غيبها عن بصره لا يكون هو حافظا لها وإن ربطها بشيء بل يكون مضيعا لها بترك الحفظ فيكون ضامنا وإذا استعارها ليركبها في حاجته إلى ناحية مسماة من النواحي في الكوفة فأخرجها إلى الفرات ليسقيها والناحية التي استعارها إليها من غير ذلك المكان فهلكت فهو ضامن لها لإمساكه إياها في غير الموضع المأذون فيه أو ركوبه إياها إلى موضع السقي.
ولا يقال: إنما فعل هذا لمنفعة الدابة لأنه لا ولاية له على ملك الغير في ذلك إلا أن يأذن صاحبها وهو لم يأذن له في سقيها ولأنه يمكنه أن يسقيها في خروجه إلى الناحية التي استعارها إليها لأن الماء موجود في كل موضع.
وإذا وجد المعير دابته مع رجل يزعم أنها له فهو خصم له فيها لأنها في يده وهو يدعي(11/269)
ص -126- ... رقبتها وذو اليد في مثل هذا خصم للمستحق وإن قال الذي هي في يديه أودعنيها فلان الذي أعرتها إياه فلا خصومة بينهما لأنهما تصادقا على أن الوصول إليه من ذلك الرجل وذلك الرجل ليس بخصم للمدعي لو كان حاضرا لأنه مستعير منه فكذلك من قامت يده فيها مقام يده لا يكون خصما ولأنهما تصادقا أنه مودع حافظ لها فلا يكون خصما وإن كان ذلك المستعير باعها من رجل أو باعها وصيه بعد موته فأخذها صاحبها وأقام البينة أنها له قضي بها له ورجع المشتري بالثمن على بائعه لأن بالاستحقاق يتبين بطلان البيع وإذا طلب المعير ثوبه فأبى المستعير أن يدفعه فهلك عنده فهو ضامن لقيمته لأنه بالمنع بعد الطلب صار غاصبا وإن لم يمنعه ولكنه قال دعه عندي إلى غد فرضي به صاحبه فلا ضمان عليه لأنه بهذا الرضا صار كالمجدد للإعارة منه فلا يكون في إمساكه إلى الغد متعدياً.(11/270)
رجل: أرسل رسولا يستعير له دابة من فلان إلى الحيرة فجاء الرسول إلى صاحبها وقال إن فلانا يقول لك أعرني دابتك إلى المدينة فدفعها إليه فجاء بها الرسول فدفعها إلى الذي أرسله ثم بدا للذي أرسله أن يركبها إلى المدينة وهو لا يشعر بما كان من قول الرسول فركبها فهلكت تحته فلا ضمان عليه لأنه استعملها بإذن مالكها وإن ركبها إلى الحيرة فهلكت تحته فهو ضامن لها لأنه جاوز المكان الذي أذن فيه المالك فصار مستعملا لها بغير إذنه وهذا لأن ظنه غير معتبر إنما المعتبر إذن المالك وقد كان إلى الموضع الذي طلب الرسول ثم لا يرجع المرسل على الرسول بشيء لأنه لم يوجد منه عقد ضمان إنما أخبره بخبر أو لم يخبره بشيء ولكنه لم يبلغ رسالته كما أمره به وذلك غير موجب للضمان عليه والكراء في هذا قياس العارية وإن قال أعرتني دابتك فنفقت وقال رب الدابة ما أعرتكها ولكن غصبتها فلا ضمان عليه إن لم يركبها لأنه أقر بفعل المالك في ملكه وذلك غير موجب للضمان عليه والمالك يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب فيكون القول قول المنكر وإن كان قد ركبها فهو ضامن لها لأن السبب الموجب للضمان عليه قد ظهر وهو استعمال دابة الغير بغير إذنه والإذن المسقط للضمان لا يثبت بدعواه وإن قال رب الدابة أجرتكها فالقول قول الراكب مع يمينه لأنهما تصادقا على أن الركوب حصل بالإذن ثم رب الدابة يدعى عليه الأجر والراكب منكر فالقول قوله لانكار ذلك وهذا بخلاف العين فإنه إذا هلك مال الغير في يده فقال وهبتها لي وقال المالك بل بعتها منك فإنه يكون ضامنا لأن العين مال متقوم بنفسه فلا يسقط حق المالك عن ماليته إلا بإسقاطه فأما المنفعة إنما تأخذ حكم المالية والتقوم بعقد الإجارة ورب الدابة يدعي ذلك والراكب منكر فلهذا لا يضمن شيئا وإن أقام رجل البينة على أرض ونخل أنها له وقد أصاب ذو اليد من غلتها وثمرتها فهو ضامن لما أصاب من ذلك.(11/271)
وقال ابن أبي ليلى: لا ضمان عليه لأن الثمرة منفعة الأشجار والمنفعة لا تكون مضمونة بغير عقد ضمان كمنفعة الدابة ولكنا نقول الثمرة عين مال متقوم بدليل جواز بيعها وهي مملوكة لصاحب الشجرة لتولدها من ملكه فيكون المصيب ضامنا لماله بالإتلاف كولد الجارية،(11/272)
ص -127- ... والحمل في الشاة إذا أتلفها وإذا غصب الرجل الأرض وزرعها فالزرع له لأنه حصل بعمله من بذره وهذا بخلاف ما إذا غصب جارية فأحبلها فإن الولد هناك يكون لصاحبها لأن حصول الولد بحضانتها في رحمها لا بفعل الواطئ فإن ماء الفحل يصير مستهلكها بالاختلاط بمائها ولأن الولد في حكم جزء من عينها وهي بجميع أجزائها مملوكة للمغصوب منه فأما الزرع ليس بجزء من الأرض. ألا ترى أنه من جنس البذر وأنه حاصل بعمل الزارع كما قررناه في الغصب ثم الزارع ضامن لما نقص الأرض عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى رحمه الله لا ضمان عليه لأن العقار لا يكون مضمونا بالغصب والنقصان لم يحصل بفعله ولأن النقصان في الأرض من حيث تقليل المنفعة والريع والمنفعة لا تكون مضمونة على الغاصب ولكنا نقول قد انتقص مالية العين بفعله وهو الزراعة فكان متلفا بقدر النقصان والعقار يضمن بالاتلاف كما لو هدم الأبنية أو قلع الأشجار ثم يرفع من الزرع مقدار بذره وما أنفق فيه وما غرم من نقصان الأرض ويتصدق بالفضل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه حصل له بكسب خبيث وفي قول أبي يوسف وبن أبي ليلى رحمهما الله لا يتصدق بشيء لأنه حصل له بزراعته وهو سبب مشروع للاكتساب وقد بينا هذا في الغصب وإذا استأجر أرضا سنة فزرعها سنتين فعليه الأجر للسنة الأولى لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد صحيح وعليه نقصان الأرض بالزراعة في السنة الثانية لأنه غاصب فيما صنع ويتصدق بالفضل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله كما في الفصل الأول وعند ابن أبي ليلى عليه أجر مثلها في السنة الثانية لاعتبار الظاهر فكأنه زرعها في السنة الثانية بناء على العقد في السنة الأولى وإنما لم يتعرض له صاحبها لهذا والعقد ينعقد بالدلالة كما ينعقد بالتصريح فيلزمه أجر مثلها.(11/273)
ثم ختم الكتاب بمسألة ذكرها في كتاب الزكاة أن من وجد كنزا في دار رجل ففيه الخمس وأربعة أخماسه لصاحب الخلطة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف وبن أبي ليلى رحمهما الله للواحد وإنما ذكر أبو يوسف رحمه الله هذه المسألة المختلفة بين أبي حنيفة وبن أبي ليلى رحمهما الله في آخر هذا الكتاب وآخر الوديعة لأن كل واحد منهما كان أستاذه فإنه كان في الابتداء يختلف إلى ابن أبي ليلى تسع سنين ثم تحول منه إلى أبي حنيفة واختلف عنده أيضا تسع سنين فأحب أن يذكر بعض الفصول عن أستاذيه جميعا فلهذا ذكر هذه الفصول والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.(11/274)
ص -128- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشركة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الأصل في جواز الشركة ما روي أن السائب بن شريك جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتعرفني فقال صلوات الله وسلامه عليه: "وكيف لا أعرفك وكنت شريكي وكنت خير شريك لا تداري ولا تماري" أي لا تداجي ولا تخاصم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يفعلون ذلك فأقرهم عليه وقد تعامله الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
ثم الشركة نوعان شركة الملك وشركة العقد.
فشركة الملك أن يشترك رجلان في ملك مال وذلك نوعان ثابت بغير فعلهما كالميراث وثابت بفعلهما وذلك بقبول الشراء أو الصدقة أو الوصية والحكم واحد وهو أن ما يتولد من الزيادة يكون مشتركا بينهما بقدر الملك وكل واحد منهما بمنزلة الأجنبي في التصرف في نصيب صاحبه.
وأما شركة العقد: فالجائز منها أربعة أقسام المفاوضة والعنان وشركة الوجوه وشركة التقبل ويسمى هذا شركة الأبدان وشركة الصنائع.
فأما العنان فهو مشتق من قول القائل عن لي كذا أي عرض قال امرؤ القيس:
فعن لنا سرب كان نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذبل
أي عرض وزعم بعض أهل الكوفة أن هذا شيء أحدثه أهل الكوفة ولم يتكلم به العرب وليس كذلك فقد قال النابغة الجعدي:
وشاركنا قريشاً في نقاها ... وفي احسابها شرك العنان
وقيل: هو مأخوذ من عنان الدابة على معنى أن راكب الدابة يمسك العنان بإحدى يديه ويعمل بالأخرى وكل واحد من الشريكين يجعل عنان التصرف في بعض المال إلى صاحبه دون البعض أو على معنى أن للدابة عنانين أحدهما أطول والآخر أقصر فيجوز في هذه الشركة أن يتساويا في رأس المال والربح أو يتفاوتا فسميت عنانا.
وأما المفاوضة فقد قيل اشتقاقها من التفويض فإن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه في جميع مال التجارة.(11/275)
وقيل: اشتقاقها من معنى الانتشار يقال فاض الماء إذا انتشر واستفاض الخير يستفيض(11/276)
ص -129- ... إذا شاع فلما كان هذه العقد مبنيا على الانتشار والظهور في جميع التصرفات سمي مفاوضة.
وقيل: اشتقاقها من المساواة قال القائل:
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
يعني متساوين فلما كان هذا العقد مبنيا على المساواة المال والربح سمي مفاوضة.
وأما شركة الوجوه تسمى شركة المفاليس وهو أن يشترك الرجلان بغير رأس مال على أن يشتريا بالنسيئة ويبيعا سميت بهذا الاسم على معنى أن رأس مالهما وجههما فإنه إنما يباع في النسيئة ممن له في الناس وجه. وشركة التقبل أن يشترك صانعان في تقبل الأعمال كالخياطة والقصارة ونحو ذلك وتسمى شركة الأبدان لأنهما يعملان بأبدانهما وشركة الصنائع لأن رأس مالهما صنعتهما.(11/277)
وأما شركة العنان: فهو أن يشترك الرجلان برأس مال يحضره كل واحد منهما ولا بد من ذلك إما عند العقد أو عند الشراء حتى أن الشركة لا تجوز برأس مال غائب أو دين ولا يشترط لجواز هذه الشركة خلط المالين عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يشترط وهي رواية عن زفر والأصل عنده أن شركة الملك أصل ثم شركة العقد تنبني عليه قال لأن الشركة عبارة عن الاختلاط وذلك إنما يتحقق في الملك والمعتبر في كل عقد ما هو قضية اسم ذلك العقد كالحوالة والكفالة والصرف. فإذا خلطا المالين على وجه لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر فقد ثبتت الشركة في الملك فينبني عليه شركة العقد فأما قبل الخلط فالشركة في الملك لم تثبت حتى إذا هلك رأس مال أحدهما كان هالكا عليه خاصة فلا تثبت شركة العقد لأن معنى الاختلاط فيه لا يتحقق مقصودا وعندنا موجب شركة العقد الوكالة على معنى أن كل واحد منهما يكون وكيل صاحبه في الشراء بالمال الذي عينه ولهذا شرطنا تعيين المال عند العقد أو عند الشراء لأن الوكالة بالشراء بماله لا تصح إلا به فإنه بدون تعيين المال يكون الوكيل مشتريا بما في ذمته وهذا التوكيل صحيح بدون خلط المالين ومعنى الاختلاط الذي تقتضيه الشركة في المشتري بالمال والربح لا في رأس المال وذلك ثابت بدون خلط وعلى هذا الأصل لو كان رأس مال أحدهما دراهم والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله وكذلك إن كان رأس مال أحدهما بيضا والآخر سودا لأن الشركة في الملك لا تثبت هنا حين كانا لا يختلطان وعلى الرواية التي شرط زفر الخلط جواب هذه الفصل ظاهر على مذهبه وأما على الرواية التي لا يشترط ذلك نقول في هذين الفصلين ربما يظهر الربح لأحدهما دون الآخر بتغيير سعر أحد النقدين وذلك تقتضيه الشركة وعندنا موجب هذا العقد الوكالة وذلك صحيح مع اختلاف النقدين فإنهما لو صرحا بالوكالة بأن يشتري أحدهما بهذه الدراهم على أن يكون المشتري(11/278)
بينهما ويشتري الآخر بهذه الدنانير على أن يكون المشتري بينهما كان صحيحاً. فكذلك تصح الشركة بهذه الصفة.
فأما شركة المفاوضة فهي جائزة عندنا: وقال مالك رحمه الله تعالى لا أعرف ما(11/279)
ص -130- ... المفاوضة. وقال الشافعي رضي الله عنه إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة وربما قال إنه نوع من القمار فأما مالك رحمه الله فإن كان لا يعرفها لغة فقد بينا اشتقاقها وإن كان لا يعرفها شرعا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفاضوا فإنه أعظم للبركة" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا فاوضتم فأحسنوا المفاوضة" وأما الشافعي رحمه الله فإنه ينبني على مذهبه أن الأصل شركة الملك وما هو موجب المفاوضة قط لا يثبت باعتبار شركة الملك فلهذا أفسدها وقال لأنها تتضمن الكفالة بالمجهول للمجهول فإن كل واحد منهما يكون كفيلا عن صاحبه فيما يلزمه بجهة التجارة والكفالة للمجهول بالمعلوم باطل فبالمجهول أولى والذي يقول أنه ضرب من القمار فإنما يدخل ذلك على مذهب الثوري لأنه يقول إذا ورث أحدهما مالا يكون ذلك مشتركا بينهما ولسنا نقول بذلك فلا يدخل ذلك على مذهبنا وحجتنا في ذلك أن هذه الشركة تتضمن الكفالة والوكالة وكل واحد منهما صحيح مقصودا فكذلك في ضمن الشركة فأما الجهالة بعينها لا تبطل الكفالة ولكن تمكن المنازعة سببا وذلك منعدم هنا لأن كل واحد منهما إنما يصير ضامنا عن صاحبه ما لزمه بتجارته وعند اللزوم المضمون له والمضمون به معلوم ومثل هذا لا يوجد في شركة العنان فإن التوكيل بشراء مجهول الجنس لا يصح مقصودا ثم صحت شركة العنان وإن تضمنت ذلك لأن ما يشتريه كل واحد منهما غير مسمى في العقد فكذلك المفاوضة ومن شروط هذه العقد أن يتساويا في رأس المال ولا يختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس ماله في الشركة من النقود وأن يتساويا في الربح فلا يشترط لأحدهما زيادة على صاحبه لما بينا أن قضية اللفظ المساواة ثم في ظاهر هذه الرواية تصح هذه الشركة من غير خلط المالين والمالان لا يختلطان كالدراهم والدنانير والسود والبيض وزفر رحمه الله لا يجوز هذه الشركة بدون خلط المالين برواية واحدة.(11/280)
قال: لأنه لو جاز لكان كل واحد منهما مختصا بملك مال بعد عقد الشركة وذلك لا يجوز في هذا العقد.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن هذه الشركة لا تجوز بمالين لا يختلطان لأن المساواة شرط في هذا العقد والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية إنما تكون بالتقويم وطريق ذلك الحزر والمساواة شرعا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها وإن كان رأس مال أحدهما بيضا ورأس مال الآخر سودا وبينهما تفاوت في الصرف لا يجوز هذا العقد في ظاهر الرواية لعدم المساواة.
وذكر إسماعيل بن حماد عن أبي يوسف رحمهم الله أنه يجوز لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وإنما تعتبر المساواة في الوزن قال صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديئها سواء". وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظة المفاوضة كان عنانا عاما والعنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا وتأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة فلا يتحقق منهما الرضا بحكم المفاوضة قبل علمهما(11/281)
ص -131- ... به ويجعل تصريحهما بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها لأن المعتبر المعنى دون اللفظ.
فأما شركة الوجوه فهي صحيحة عندنا وباطلة عند الشافعي بناء على أصله أن الأصل شركة الملك وذلك لا يوجد في شركة الوجوه وعندنا شركة العقد تصح باعتبار الوكالة وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن يكون المشترى بينهما نصفين أو ثلاثا صحيح فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك إلا أن في هذا العقد لا يصح التفاضل في اشتراط الربح بعد التساوي في ملك المشتري لأن الذي يشترط له الزيادة ليس له في نصيب صاحبه رأس مال ولا عمل ولا ضمان فاشتراط جزء من ذلك الربح له يكون ربح ما لم يضمن ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن أراد التفاوت في الربح فينبغي أن يشترط التفاوت في ملك المشتري بأن يكون لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان حتى يكون لكل واحد منهما الربح بقدر ملكه وهذه الشركة عندنا تجوز عنانا ومفاوضة إلا أن المفاوضة لا تكون إلا باعتبار المساواة في المشتري والربح جميعاً.(11/282)
فأما شركة التقبل فهي صحيحة عندنا ولا تصح عند الشافعي رحمه الله بناء على أصله أن شركة الملك أصل ولا يوجد ذلك في هذه الشركة فإن الخلط في العمل لا يتحقق ولكنا نقول جواز الشركة باعتبار الوكالة وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بتقبل العمل صحيح فكذلك الشركة والناس تعاملوا بهذه الشركة وشركة الوجوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير وهو الأصل في جواز الشركة ثم استحقاق الربح في طريق الشركة يكون بالمال تارة وبالعمل أخرى بدليل المضاربة فإن رب المال يستحق نصيبه من الربح بماله والمضارب بعمله وذلك العقد شركة الإجارة بدليل أنها لا تلزم وأنه لا يحتاج فيها إلى بيان المدة فإذا صح عقد الشركة بين اثنين بالمال فكذلك يصح باعتبار العمل لأن كل واحد منهما يستحق به الربح وسواء اتفقت الأعمال أو اختلفت عندنا وقال زفر رحمه الله إن اتفقت الأعمال كالقصارين والصباغين إذا اشتركا يجوز وإذا اختلفت بأن يشترك قصار وصباغ لا تجوز الشركة لأن كل واحد منهما عاجز عن العمل الذي يتقبله صاحبه فإن ذلك ليس من صنعته فلا يتحقق ما هو مقصود الشركة عند اختلاف الأعمال ولكنا نقول جواز هذه الشركة باعتبار الوكالة والتوكيل بتقبل العمل صحيح ممن يحسن مباشرة ذلك العمل وممن لا يحسن لأنه لا يتعين على المتقبل إقامة العمل بيده بل له أن يقيم بأعوانه وأجرائه وكل واحد منهما غير عاجز عن ذلك فكان العقد صحيحاً.
وهذا النوع من الشركة قد يكون عنانا وقد يكون مفاوضة عند استجماع شرائط المفاوضة ومعنى هذا أنه متى كان مفاوضة فإن كل واحد منهما مطالب بما يلتزمه صاحبه بحكم الكفالة ومتى كان عنانا فإنما يطالب به من باشر السبب دون صاحبه كما هو حكم الوكالة.(11/283)
ص -132- ... إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ الكتاب ببيان شركة العنان وأنهما كيف يكتبان كتاب هذه الشركة بينهما والشركة عقد يمتد فيستحب الكتاب في مثله ليكون حكما بينهما فيما يجري من المنازعة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ثم المقصود بالكتاب التوثق والاحتياط فينبغي أن يكتب على أوثق الوجوه ويتحرز فيه من طعن كل طاعن ثم بدأ فقال هذا ما اشترك عليه فلان وفلان وبعض أصحاب الشروط عابوا عليه في هذا اللفظ فقال هذا إشارة إلى الصك فالأحوط أن يكتب هذا كتاب فيه ذكر ما اشترك فلان وفلان ولكن محمدا رحمه الله اتبع الكتاب والسنة فيما اختار قال الله تعالى:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [صّ:53] وهو إشارة إلى ما هو المقصود من الوعد للأبرار والوعيد للفجار ولما اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أمر أن يكتب هذا ما اشترى محمد رسول الله من الغد بن خالد بن هوذة اليهودي.
ولما أمر صلى الله عليه وسلم بكتاب الصلح يوم الحديبية كتب علي رضي الله تعالى عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما اصطلح محمد بن عبد الله وسهل بن عمرو على أهل مكة.
ثم قال اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة فإن هذا العقد عقد أمانة والمقصود تحصيل الربح وذلك بالتقوى وأداء الأمانة يحصل.(11/284)
ثم يبين مقدار رأس مال كل واحد منهما لأن عند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فلا بد من إعلام ذلك في كتاب الشركة ليرجعا إليه عند المنازعة ثم قال وذلك كله في أيديهما وهذه إشارة إلى أن رأس المال ليس بغائب ولا دين بل هو عين في أيديهما ومن الناس من شرط الخلط ومنهم من شرط أن يكون المال في أيديهما جميعا فللتوثق يذكر ذلك ويذكر أنهما يشتريان به ويبيعان جميعا في شيء ويعمل كل واحد منهما فيه برأيه ويبيع بالنقد والنسيئة وعندنا هذا يملكه كل واحد منهما بمطلق عقد الشركة إلا أن من العلماء من يقول لا يملك كل واحد منهما ذلك ما لم يصرحا به في عقد الشركة فللتحرز عن قول هذه القائل يكتب هذا.
ثم يذكر فما كان فيه من ربح فهو بينهما على قدر رؤوس أموالهما وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف مقدار رأس المال باطل واشتراط الربح صحيح عندنا خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه على ما نبينه وأما مكاتبة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال الربح على ما اشترطا والوضيعة على المال وإنما يذكر هذا ليكون أبعد عن الاختلاف. ولكن إنما يكتب هذا إذا كان الشرط بينهما هكذا ثم قال:
اشتركاً على ذلك في شهر كذا من سنة كذا وإنما بتبيين التاريخ تنقطع المنازعة حتى لا يدعي أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه قبل هذاالتاريخ.
وكتب التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فإنه شاور الصحابة رضوان الله عليهم في التاريخ من أي وقت يعتبرونه فمنهم من قال من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: من(11/285)
ص -133- ... وقت مبعثه ومنهم من قال من وقت موته ثم اتفقوا على التاريخ من وقت الهجرة وهو المعروف الذي يتعامل عليه الناس إلى يومنا هذا.
قال ولا يجوز أن يفضل أحدهما صاحبه في الربح لا في المال العين أو العمل بأيديهما أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير فأما في المال العين إذا تساويا في رأس المال واشترطا أن يكون الربح بينهما أثلاثا أو تفاوتا في رأس المال فكان لأحدهما ألف وللآخر ألفان واشترطا أن يكون الربح بينهما نصفين يجوز عندنا" وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يجوز أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فلأن شركة الملك على مذهبه أصل وفي شركة الملك لا يجوز أن يستحق أحدهما شيئا من ربح ملك صاحبه فكذلك في شركة العقد واعتبر الربح بالوضيعة فهي بينهما على قدر رؤوس أموالهما واشتراطهما خلاف ذلك باطل فكذلك الربح ولكنا نقول استحقاق الربح بالشرط فإنما يستحق كل واحد منهما بقدر ما شرط له لقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون عند شروطهم" ثم جواز هذا العقد لحاجة الناس إليه والحاجة ماسة إلى هذا الشرط فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر في وجوه التجارة فلا يرضى بأن يساويه صاحبه في استحقاق الربح مع حذاقته وخرق صاحبه ثم الربح يستحق بالعمل بدون المال وهو في المضاربة فبالعمل مع المال أولى.(11/286)
ثم الوضيعة هلاك جزء من المال وكل واحد منهما أمين فيما في يده من مال صاحبه واشتراط الضمان على الأمين باطل ألا ترى أن في المضاربة لا يجوز اشتراط شيء من الوضيعة على المضارب ولهذا يقول زفر رحمه الله إن التساوي في الربح مع التفاضل في رأس المال لا يجوز هنا لأنه لو جاز إنما يجوز بالقياس على المضاربة على معنى أن صاحب الألفين يشترط جزأ من الربح للآخر بعمله فيه ومثل هذا في المضاربة لا يجوز لأن المال في أيديهما هنا والعمل مشروط عليهما وفي المضاربة لو شرط العمل على رب المال أو كون المال في يده لا يجوز ولكنا نقول موجب المضاربة التخلية بين المضارب وبين رأس المال فيكون أمينا عاملا فيه وذلك ينعدم بهذا الشرط فأما موجب الشركة ليس هو التخلية بين أحدهما والمال فهذا الشرط لا يؤدي إلى إبطال موجب الشركة.
ثم حكم المضاربة هنا ثبت تبعا للشركة وقد يثبت الشيء حكما على وجه لا يجوز إثباته قصدا كالكفالة الثابتة في ضمن المفاوضة وكذلك في العمل بأيديهما يجوز شرط التفاضل في الربح عندنا للحاجة إلى ذلك فقد يكون أحدهما أحذق في العمل من الآخر فأما قوله أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير فهو إشارة إلى شركة الوجوه فإن التفاضل في الربح هناك لا يجوز عند اشتراط التساوي في ملك المشتري لأن ذلك ربح ما لم يضمن وقد بينا ذلك. قال والشريكان في العمل إذا غاب أحدهما أو مرض أو لم يعمل وعمل الآخر فالربح بينهما على ما اشترطا لما روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعمل في السوق ولي شريك يصلي في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعلك بركتك منه" والمعنى أن استحقاق الأجر بتقبل العمل(11/287)
ص -134- ... دون مباشرته والتقبل كان منهما وإن باشر العمل أحدهما ألا ترى أن المضارب إذا استعان برب المال في بعض العمل كان الربح بينهما على الشرط أو لا ترى أن الشريكين في العمل يستويان في الربح وهما لا يستطيعان أن يعملا على وجه يكونان فيه سواء وربما يشترط لأحدهما زيادة ربح لحذاقته وإن كان الآخر أكثر عملا منه فكذلك يكون الربح بينهما على الشرط ما بقى العقد بينهما وإن كان المباشر للعمل أحدهما ويستوي إن امتنع الآخر من العمل بعذر أو بغير عذر لأن العقد لا يرتفع بمجرد امتناعه من العمل واستحقاق الربح بالشرط في العقد.
قال وإن جاء أحدهما بألف درهم والآخر بألفي درهم فاشتركا على أن الربح والوضيعة نصفان فهذه شركة فاسدة. ومراده أن شرط الوضيعة نصفين فاسد لأن الوضيعة هلاك جزء من المال فكأن صاحب الألفين شرط ضمان شيء مما يهلك من ماله على صاحبه وشرط الضمان على الألفين فاسد ولكن لا يبطل بهذا أصل العقد لأن جواز الشركة باعتبار الوكالة والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة وإنما تفسد الشروط وتبقى الوكالة فكذا هذا فإن عملا على هذا فوضعا فالوضيعة على قدر رؤوس أموالهما لأن الشرط بخلافه كان باطلا وإن ربحا فالربح على ما اشترطا لأن أصل العقد كان صحيحا واستحقاق الربح بالشرط في العقد فكان بينهما على ما اشترطا وإن اشترطا الربح والوضيعة على قدر رأس المال والعمل من أحدهما بعينه كان ذلك جائزا لأن العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله حين لم يشترط لنفسه شيئا من ربح مال صاحبه فهو كالمستبضع في مال صاحبه.(11/288)
وإن اشترطا الربح نصفين والوضيعة على رأس المال والعمل عليهما جاز ذلك لأن صاحب الألف شرط لنفسه جزأ من ربح مال صاحبه وهو السدس بعمله فيه فيكون في معنى المضارب له إلا أن معنى المضاربة تبع لمعنى الشركة والمعتبر موجب الأصل دون التبع فلهذا لا يضرهما اشتراط العمل عليهما فإن عملاه أو عمل أحدهما فالربح على ما اشترطا لأن الاستحقاق بعد صحة العقد بالشرط لا بنفس العمل وقد كان العمل مشروطا عليهما فلا يضرهما تفرد أحدهما بإقامة العمل وكذلك إن اشترطا العمل على صاحب الألف ووجه الجواز هنا أبين لأن صاحب الألفين دفع إليه ماله ليعمل فيه بسدس الربح فإن المشروط له نصف الربح ثلث الربح حصة رأس ماله وسدسه إلى تمام النصف يستحق من مال صاحبه بعمله فيه واشتراط العمل على المضارب يصحح المضاربة ولا يبطلها.
فإن قيل: إذا كان يعمل هو في شيء شريك فكيف يستوجب عوض عمله على شريكه.
قلنا: استحقاق الربح بطريق الشركة لا بطريق الإجارة ولهذا لا يشترط فيه تسمية مقدار العمل ولا بيان المدة والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر لأن استحقاق الأجر بنفس العمل فإذا العامل فيما هو شريك فيه يستحق الربح بالشرط في عقد صحيح وإن اشترطا العمل على صاحب الألفين لم تجز الشركة لأن العامل شرط لصاحبه جزأ من ربح ماله من غير(11/289)
ص -135- ... أن يكون له فيه رأس مال أو عمل وذلك باطل فإن استحقاق الربح باعتبار العمل والمال أو العمل أو الضمان ولم يوجد شيء من ذلك لصاحب الألف في مال صاحب الألفين فكان اشتراطه جزأ من الربح له باطلا والربح بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن العامل لم يطمع في شيء من ربح مال صاحب الألفين حين لم يشترط شيئا من ذلك لنفسه.
قال: وإذا أقعد الصانع معه رجلا في دكانه يطرح عليه العمل بالنصف فهو فاسد في القياس" لأن رأس مال صاحب الدكان منفعة والمنافع لا تصلح أن تجعل رأس مال في الشركة ولأن المتقبل للعمل إن كان صاحب الدكان فالعامل أجيره بالنصف وهو مجهول والجهالة تفسد عقد الإجارة وإن كان المتقبل هو العامل فهو مستأجر لموضع جلوسه من دكانه بنصف ما يعمل وذلك مجهول إلا أنه استحسن فأجاز هذا لكونه متعاملا بين الناس من غير نكير منكر وفي نزع الناس عما تعاملوا به نوع حرج فلدفع هذا الحرج يجوز هذا العقد إذ ليس فيه نص يبطله ولأن بالناس حاجة إلى هذا العقد فالعامل قد يدخل بلدة لا يعرفه أهلها ولا يأمنونه على متاعهم وإنما يأمنون على متاعهم صاحب الدكان الذي يعرفونه وصاحب الدكان لا يتبرع بمثل هذا على العامل في العادة ففي تصحيح هذا العقد تحصيل مقصود كل واحد منهما لأن العامل يصل إلى عوض عمله والناس يصلون إلى منفعة عمله وصاحب الدكان يصل إلى عوض منفعة دكانه فيجوز العقد ويطيب الفضل لرب الدكان لأنه أقعده في دكانه وأعانه بمتاعه وربما يقيم بعض العمل أيضا كالخياط يتقبل المتاع ويلي قطعه ثم يدفعه إلى آخر بالنصف فلهذا يطيب له الفضل وجواز هذه العقد كجواز عقد السلم فإن الشرع رخص فيه لحاجة الناس إليه.(11/290)
قال: ولا تصح الشركة بالعروض واعلم بأن الشركة بالنقود من الدراهم والدنانير جائزة ولا تجوز الشركة بالتبر في ظاهر المذهب وقد ذكر في كتاب الصرف أن من اشترى بتبر بعينه شيئا فهلك قبل القبض لا يبطل العقد فقد جعل التبر كالنقود حتى قال لا يتعين بالتعيين فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف العرف في كل موضع فإن كانت المبايعات بين الناس في بلدة بالتبر فهو كالنقود لا يتعين بالتعيين ويجوز الشركة به وإن لم يكن في ذلك عرف ظاهر فهو كالعروض لا تجوز الشركة به فإن كان التعيين مفيدا فيه فهو معتبر وإن لم يكن مفيدا لا يعتبر كتعين الصنجان والقمات.
فأما الشركة بالفلوس إن كانت نافعة لا تجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وتجوز في قول محمد رحمه الله.
وذكر الكرخي في كتابه أن قول أبي يوسف كقول محمد رحمهما الله والأصح ما قلنا وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا باع قلنا تعيينه بفلسين بأعيانها يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وتعين الفلوس بالتعيين بمنزلة الجوز والبيض وعند محمد رحمه الله لا يجوز ولا تتعين الفلوس الرائجة بالتعيين كالنقود فكذلك في حكم الشركة محمد رحمه الله يقول هي بمنزلة النقود ما دامت رائجة وهما يقولان الرواج في الفلوس عارض في اصطلاح(11/291)
ص -136- ... الناس وذلك يتبدل ساعة فساعة فلو جوزنا الشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت الفلوس وأخذ الناس غيرها لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية لا باعتبار العدد ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المضاربة بالفلوس الرائجة تصح وقال أبو يوسف رحمه الله لا تصح الشركة بها ولا تصح المضاربة وفرق بينهما فقال في المضاربة يحصل رأس المال أولا ليظهر الربح والفلوس ربما تكسد فلا تعرف ماليتها بعد الكساد إلا بالحزر والظن ولا وجه لاعتبار العدد لما فيه من الإضرار بصاحب المال فأما في الشركة إذا كسدت الفلوس يمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما باعتبار العدد لأن حالهما فيه سواء فلا يختص أحدهما بالضرر دون الآخر.(11/292)
فأما الشركة بالعروض من الدواب والثياب والعبيد لا تصح عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى ومالك رحمهما الله هي صحيحة للتعامل وحاجة الناس إلى ذلك ولاعتبار شركة العقد بشركة الملك وفي الكتاب علل للفساد فقال لأن رأس المال مجهول يريد به أن العروض ليست من ذوات الأمثال وعند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فإذا كان رأس مالهما من العروض فتحصيله عند القسمة يكون باعتبار القيمة وطريق معرفة القيمة الحزر والظن ولا يثبت التيقن به ثم الشركة مختصة برأس مال يكون أول التصرف به بعد العقد شراء لا بيعا وفي العروض أول التصرف يكون بيعا وكل واحد منهما يصير موكلا لصاحبه ببيع متاعه على أن يكون له بعض ربحه وذلك لا يجوز وقد بينا أن صحة الشركة باعتبار الوكالة ففي كل موضع لا تجوز الوكالة بتلك الصفة فكذلك الشركة ومعنى هذا أن الوكيل بالبيع يكون أمينا فإذا شرط له جزء من الربح كان هذا ربح ما لم يضمن والوكيل بالشراء يكون ضامنا للثمن في ذمته فإذا شرط له نصف الربح كان ذلك ربح ما قد ضمن ولأن في الشركة بالعروض ربما يظهر الربح في ملك أحدهما من غير تصرف بتغير السعر فلو جاز استحق الآخر حصته من ذلك الربح من غير ضمان له فيه وربما يخسر أحدهما بتراجع سعر عروضه ويربح الآخر فلهذه المعاني بطلت الشركة بالعروض. فإن باعا العروض بثمن واحد قسما الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم باعه لأن كل واحد منهما تابع لملكه والمسمى من الثمن بمقابلة جميع ما دخل في العقد من العروض فيقسم عليهما باعتبار القيمة ولكل واحد منهما حصة عرضه لأن الشركة لما فسدت كأنها لم تكن "وكذلك" لا يصح أن يكون رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر عروضا في مفاوضة ولا عنان لجهالة رأس المال في نصيب صاحب العروض على ما بينا.(11/293)
قال: وإن اشتركا في مكيل أو موزون أو معدود متفق في المقدار والصفة فإن لم يخلطاه فليسا بشريكين ولكل واحد منهما متاعه له ربحه وعليه وضيعته" لأن هذه الأشياء بمنزلة العروض وتستحق أعيانها بالعقد وأول التصرف فيها بعد الشركة يكون بيعا لا شراء فكانت(11/294)
ص -137- ... كالعروض لا تجوز الشركة بها وإن خلطاه فهو بينهما وما ربحا فيه فلهما وما وضعا فيه فعليهما وهذا ظاهر لأن الخلط حصل بفعلهما فالمخلوط يكون مشتركا بينهما على قدر ملكهما وقد كان ملكهما سواء فالربح والوضعية بعد البيع يكون بينهما على ذلك ولم يذكر في الكتاب أن الشركة بينهما بعد الخلط تكون شركة ملك أو شركة عقد وذكر في النوادر أن على قول أبي يوسف رحمه الله الشركة بينهما شركة ملك وعند محمد رحمه الله تكون شركة عقد وفائدة هذا الخلاف فيهما أنهما إذا اشترطا من الربح لأحدهما زيادة على نصيبه عند أبي يوسف رحمه الله لا يستحق ذلك بل لكل واحد منهما من الربح بقدر ملكه وعند محمد الربح بينهما على ما اشترطا محمد يقول المكيل والموزون عرض من وجه ثمن من وجه ألا ترى أن الشراء بهما دينا في الذمة صحيح فكان ثمنا وأن بيع عينهما صحيح فكانت مبيعة وما تردد بين الأصلين يوفر حظه عليهما فلشبههما بالعروض قلنا لا تجوز الشركة بهما قبل الخلط ولشبههما بالأثمان قلنا تجوز الشركة بهما بعد الخلط وهذا لأن باعتبار الشبهين تضعف إضافة عقد الشركة إليهما فيتوقف ثبوتها على ما يقويها وهو الخلط لأن بالخلط تثبت شركة الملك لا محالة فيتأكد به شركة العقد لا محالة وأبو يوسف رحمه الله يقول ما يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط كالنقود فكذلك ما لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط وهذا لأن قبل الخلط إنما يجوز شركة العقد بها لأنها متعينة فتعين رأس المال لا بد منه في عقد الشركة وأعيانها مبيعة وأول التصرف بها يكون بيعا وهذا المعنى موجود بعد الخلط بل يزداد تقررا بالخلط لأن الخلط لا يتقرر إلا في معين والمخلوط المشترك لا يكون إلا معينا فتقرر المعنى المفسد لا يكون مصححا للعقد والذي يقال لمحمد أن تحصيل رأس المال عند القسمة هنا ممكن لأنها من ذوات الأمثال يشكل بما قبل(11/295)
الخلط فإن هذا المعنى موجود فيه ومع ذلك لا يثبت بينهما شركة العقد وكذلك يشكل بما إذا كان رأس مال أحدهما حنطة ورأس مال الآخر شعيرا فالشركة لا تصح هنا بينهما خلطاه أو لم يخلطاه ورأس مال كل واحد منهما من ذوات الأمثال يمكن تحصيله عند قسمة الربح ولكن محمد رحمه الله يفرق ويقول عقد الشركة إنما يثبت بعد الخلط باعتبار المخلوط فعند اختلاف الجنس المخلوط ليس من ذوات الأمثال ألا ترى أن من أتلف هذا المخلوط كان عليه قيمته وإن لم يكن من ذوات الأمثال كان بمنزلة العروض وأما إذا كان الجنس واحدا فالمخلوط من ذوات الأمثال حتى أن من أتلفه يضمن مثله فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل.
ثم عند اختلاف الجنس إذا باعا المخلوط فالثمن بينهما على قدر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه مخلوطا لأن الثمن بدل المبيع فيقسم على قيمة ملك كل واحد منهما وملك كل واحد منهما كان معلوم القيمة وقت الخلط فتعتبر تلك القيمة ولكن مخلوطا لأنه دخل في البيع بهذه الصفة واستحقاق الثمن بالبيع فتعتبر صفة ملك كل واحد منهما حين دخل في البيع(11/296)
ص -138- ... فإن كان أحدهما يزيده الخلط خيرا فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط ومعنى هذا أن قيمة الشعير تزداد إذا خلطاه بالحنطة وقيمة الحنطة تنتقص فصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير مخلوط لأن تلك الزيادة ظهرت في ملكه من مال صاحبه فلا يستحق الضرب به معه وصاحب الحنطة يضرب بقيمة حنطته مخلوطة بالشعير لأن النقصان حصل بعمل هو راض به وهو الخلط وقيمة ملكه عند البيع ناقص فلا يضرب إلا بذلك القدر وقد طعن عيسى في الفصلين جميعا فقال قوله في الفصل الأول أنه يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه وفي الفصل الثاني يوم يقتسمون غلط بل الصحيح أنه يقسم الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم وقع البيع لأن استحقاق الثمن بالبيع وإنما يقسم الثمن على القيمة وقت البيع ألا ترى أنهما لو لم يخلطا ولكن باعا الكل جملة فقسمة الثمن تكون على القيمة وقت البيع فكذلك بعد الخلط إلا أن يكون تأويل المسألة أن تكون قيمته وقت الخلط والقسمة والبيع سواء.(11/297)
قال: الشيخ الإمام الأجل رحمه الله تعالى وعندي أن ما ذكره صحيح لأن معرفة قيمة الشيء بالرجوع إلى قيمة مثله مما يباع في الأسواق وليس للمخلوط مثل يباع في الأسواق حتى يمكن اعتبار قيمة ملك كل واحد منهما وقت البيع فإذا تعذر هذا وجب المصير إلى التقويم في وقت يمكن معرفة قيمة كل واحد منهما كما في جارية مشتركة بين اثنين أعتق أحدهما ما في بطنها فهو ضامن لنصيب شريكه معتبرا بوقت الولادة لتعذر إمكان معرفة القيمة وقت العتق لكونه مختبئا في البطن فيصار إلى تقويمه في أول الحال الذي يمكن معرفة القيمة فيه وهو بعد الولادة فكذلك هنا يصار إلى معرفة قيمة ملك كل واحد منهما في أول أوقات الإمكان وهو عند الخلط إلا أنه إذا علم أن الخلط يزيد في مال أحدهما وينقص من مال الآخر فقد تعذر قسمة الثمن على قيمة ملكهما وقت الخلط لتيقننا بزيادة ملك أحدهما ونقصان ملك الآخر فتعتبر القيمة وقت القسمة باعتبار أن عند الخلط ملك كل واحد منهما من ذوات الأمثال فيجعل حق كل واحد منهما بعد الخلط كالباقي في المثل إلى وقت القسمة فيقسم الثمن على ما هو حق كل واحد منهما بخلاف ما إذا لم يخلطه لأن تقويم ملك كل واحد منهما وقت البيع.(11/298)
قال: فإن كان لأحدهما ألف درهم وللآخر مائة دينار فخلطا أو لم يخلطا فهما سواء" لأنهما لا يختلطان وقد بينا أن خلط المالين في النقود ليس بشرط لصحة عقد الشركة فأيهما هلك هلك من مال صاحبه لأنه بقي على ملكه بعد عقد الشركة وكل واحد منهما أمين في رأس مال صاحبه سواء هلك في يده أو في يد صاحبه يكون هلاكه عليه ثم الشركة تبطل بهلاك أحد المالين لأن المقصود بالشركة التصرف بها لا عينها فإذا اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود ما لو اقترن بالعقد كان مانعا من العقد فكذلك إذا اعترض يكون مبطلا كالتخمر في العصير المشترى قبل القبض والكساد في الفلوس وانعدام رأس المال لأحدهما لو اقترن بالعقد كان مانعا فكذا إذا اعترض والمشتري بالمال الباقي بعد ذلك يكون لصاحبه(11/299)
ص -139- ... خاصة هكذا يقول في بعض المواضع وفي بعض المواضع يقول إذا اشترى الآخر بماله بعد ذلك يكون المشتري بينهما نصفين ويرجع المشتري على صاحبه بنصف ما نقد من الثمن وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فحيث قال يكون الباقي مشتريا لنفسه خاصة وضع المسألة فيما إذا أطلقا الشركة فيكون المشتري بمال أحدهما مشتركا بينهما عند الإطلاق من قضية عقد الشركة وقد بطلت بهلاك مال أحدهما فيكون الآخر مشتريا لنفسه وحيث قال المشتري بمال آخر لا بينهما وضع المسألة فيما إذا صرحا عند عقد الشركة على أن ما اشتراه كل واحد منهما بماله هذا يكون مشتركا بينهما وعند هذا التصريح الشركة في المشتري من قضية الوكالة لأن كل واحد منهما قد وكل صاحبه بالشراء بماله نصا على أن يكون نصف المشتري له والشركة وإن بطلت بهلاك أحد المالين فالوكالة باقية فلهذا كان المشتري بينهما نصفين ويرجع المشتري على صاحبه بنصف الثمن لأنه اشترى له النصف بحكم الوكالة ونقد الثمن من مال نفسه فيرجع به عليه وإذا تأملت موضوع المسألة في كل موضع يتبين لك صحة الجواب من غير حاجة إلى الفرق ومن غير تناقض في الجواب قال: فإن اشتريا متاعا على المال فنقدا الثمن من الدراهم ثم هلكت الدنانير فإنها تهلك من مال صاحبها خاصة" لبقائها على ملكه بعد الشراء بالدراهم والمشتري بالدراهم بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن الشركة كانت قائمة بينهما حين اشتريا بالدراهم وصار المشتري مشتركا بينهما فلا يتغير ذلك بهلاك الدنانير بعد ذلك ولكن يرجع صاحب الدراهم على صاحب الدنانير من ثمن المتاع بقدر حصته من المتاع لأنه اشترى ذلك القدر له بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وإنما رضي بذلك على أن يشتري الآخر بالدنانير لهما وينقد الثمن من مال نفسه فإذا فات ذلك رجع بما نقد من ثمن حصته من دراهمه.(11/300)
ثم لم يذكر أن شركتهما في المتاع المشتري شركة عقد أو شركة ملك وفيه اختلاف بين محمد والحسن رحمهما الله تعالى فعند محمد هي شركة عقد حتى إذا باعه أحدهما نفذ بيعه في الكل وعند الحسن رحمه الله هي شركة ملك حتى لا ينفذ بيع أحدهما إلا في حصته لأن شركة العقد قد بطلت بهلاك الدنانير كما لو هلكت قبل الشراء بالدراهم وإنما بقي ما هو حكم الشراء وهو الملك فكانت شركتهما في المتاع شركة ملك وجه قول محمد رحمه الله أن هلاك الدنانير كان بعد حصول ما هو المقصود بالدراهم وهو الشراء بها فلا يكون مبطلا شركة العقد بينهما في ذلك كما لو كان الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعاً.
قال: "فإن اشتريا بالدراهم والدنانير جميعا متاعا فالمتاع بينهما على قدر رؤوس أموالهما" والحاصل أن في شرط الربح يعتبر قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت عقد الشركة وفي وقوع الملك للمشتري يعتبر قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت الشراء وفي ظهور الربح في نصيبهما أو في نصيب أحدهما يعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لأنه ما لم يحصل رأس المال لا يظهر الربح وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع قال: وإن اشتريا بالإلف متاعاً(11/301)
ص -140- ... ثم اشتريا بعد ذلك بالدنانير متاعا فوضعا في أحد المتاعين وربحا في الآخر فذلك بينهما على قدر رؤوس أموالهما" لأن الوضيعة هلاك جزء من المال والربح كالمال فيكون على قدر رأس المال ما لم يغير ذلك بشرط صحيح.
وكذلك رجلان اشتريا متاعا بألف درهم وكر حنطة على أن لأحدهما من المتاع بحصة الألف وللآخر بحصة الكر ودفعا الثمن فهذا الشرط معتبر لمقتضى مطلق السبب لأن كل واحد منهما في الشراء يكون عاملا لنفسه وإنما يملك من المبدل بقدر ما نقده من البدل.(11/302)
وكذلك لو اشتريا متاعا بكر حنطة وكر شعير فكال أحدهما كر حنطة على أن له من المتاع بحصته وكال الآخر الشعير على أن له من المتاع بحصته ثم باعا ذلك بدراهم فإنهما يقتسمان الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان وكذلك كل ما يكال أو يوزن قال عيسى رحمه الله هذا غلط والصواب أن يقتسما ذلك على القيمة يوم الشراء لما بينا أن في وقوع الملك في المشتري يعتبر قيمة مال كل واحد منهما يوم الشراء فإنما يملك كل واحد منهما من المتاع المشتري بقدر رأس ماله عند الشراء ثم إذا باع ذلك فثمن حصة كل واحد منهما يكون له كما في العروض لو اشتريا متاعا بعرضين أحضراهما لكل واحد منهما عرض ثم باعا ذلك المتاع بدراهم اقتسما الثمن على قيمة عرض كل واحد منهما وقت الشراء بها إلا أن يكون تأويل المسألة أنهما باعا المتاع مرابحة فحينئذ الثمن في بيع المرابحة مبني على الثمن الأول على قدر الملك فيقسم الثمن بينهما على قدر قيمة رأس مالهما وقت القسمة بخلاف العروض فإن المشتري بالعروض لا يجوز بيعه مرابحة إنما يجوز بيع المرابحة في المشتري بماله مثل من جنسه فكانت القسمة على قدر قيمة العروض وقت الشراء بها ولكن هذا التأويل بعيد فإنه قال ثم باعا ذلك بدراهم وقد نص على حكم بيع المرابحة بعد هذا فقال إذا اشتريا بالمكيل والموزون وباعاه مرابحة استوفى كل واحد منهما رأس ماله الذي كاله أو وزنه ثم اقتسما الربح على قيمة رأس مال كل واحد منهما إن باعاه مرابحة بمال مسمى وإن باعاه بربح عشرة أحد عشر كان لكل واحد منهما رأس ماله وحصته من الربح على ما باعا لأنهما إذا باعا بربح عشرة أحد عشر فالربح من جنس أصل رأس المال بصفته وإذا باعاه مرابحة بمال مسمى فالربح مبني على الثمن الأول فيقسم على قيمة رأس مال كل واحد منهما بيان هذا فيما قال في كتاب المضاربة لو اشترى شيئا بألف درهم نقد بيت المال ثم باعه مرابحة بربح مائة درهم فالربح الغلة ولو باعه بربح عشرة أحد(11/303)
عشر فالربح من نقد بيت المال كأصل الثمن وبهذا الفصل يتبين ضعف التأويل الذي قلنا في مسألة الطعن فإنه قال هناك يقتسمان الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان فاعتبر في جميع ذلك الثمن دون الربح.
قال الشيخ الإمام رحمه الله والذي تخايل لي بعد التأمل في تصحيح جواب الكتاب أنه بني على قول محمد رحمه الله أن شركة العقد بالمكيل والموزون ثبتت عند خلط المال وقد بينا هذا إلا أن الخلط إذا كان في أصل رأس المال يختلف الجواب باتحاد الجنس وخلاف الجنس لأن(11/304)
ص -141- ... تمام الاختلاط عند اتحاد الجنس فأما الخلط هنا باعتبار المشتري والمشتري مختلط بينهما سواء اتفق جنس رأس المال أو اختلف فكان المشتري مشتركا بينهما شركة عقد ورأس مال كل واحد منهما ما أداه وهو من ذوات الأمثال فيجب تحصيله عند القسمة فلهذا قال يقسم الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان بخلاف العروض فإن شركة العقد لا تثبت بالعروض بحال ولا يكون حق كل واحد منهما في مثل عرضه لأنه لا مثل له فكان المعتبر قيمة عرض كل واحد منهما وقت الشراء. قال: ولو أن رجلا أعطى رجلا دنانير مضاربة فعمل بها ثم أرادا القسمة كان لرب المال أن يستوفي دنانيره أو يأخذ من المال بقيمتها يوم يقتسمون لأن المضارب شريك في الربح ولا يظهر الربح إلا بعد وصول كمال رأس المال إلى رب المال إما باعتبار العين أو باعتبار القيمة وقد بينا في إظهار الربح أن المعتبر قيمة رأس المال في وقت القسمة وإنما أورد فصل المضاربة لإيضاح ما أشار إليه في الشركة قال وينبغي لمن خالف ذلك أن يقول يأخذ قيمتها يوم أعطاه ولم يبين من المخالف قبل المخالف زفر رحمه الله قال لا يجوز شركة العقد بالدراهم والدنانير لاختلاف جنس رأس المال وإنما يكون لكل واحد من ملك المشتري بقدر ما أعطى من ماله فلهذا يعتبر قيمة كل واحد منهما وقت الإعطاء وفي النوادر لو دفع إلى رجل ألف درهم على أن يعمل بها على أن له ربحها وعليه الوضيعة فهلكت قبل الشراء فالقابض ضامن لها لأن المعطي مقرض المال منه حين شرط أن الربح كله له والوضيعة عليه فهو إشارة إلا أنه يعمل بها لنفسه وذلك لا يكون إلا بعد الإقراض والقبض بحكم القرض قبض ضمان ولو قال اعمل بها على أن الربح بيننا والوضيعة بيننا فهلكت قبل أن يعمل بها فلا ضمان عليه في قول أبي يوسف لأنه أمره بالعمل بها على وجه الشركة والمال أمانة في يد الشريك وثبوت حكم القرض في النصف هنا بمقتضى الشراء لأنه في النصف يصير مشتريا لنفسه فما ينقد(11/305)
فيه الثمن يكون قرضا عليه فلا يثبت ذلك قبل الشراء وعند محمد رحمه الله هذا والأول سواء فإذا هلكت قبل الشراء بها فعليه ضمان نصفها للمعطي اعتبارا للجزء بالكل وهذا لأنه شرط الوضيعة عليه في النصف وذلك لا يكون إلا بطريق الإقراض فإن المضارب ليس عليه من الوضيعة شيء فجعلناه مقرضا نصف المال منه وضمان القرض يثبت بالقرض.
قال: وإذا جاء كل واحد منهما بألف درهم فاشتركا بها وخلطاها كان ما هلك منها هالكا منهما وما بقي فهو بينهما لأن المخلوط مشترك بينهما وما يهلك من المال المشترك يهلك على الشركة إذ ليس صرف الهالك إلى نصيب أحدهما بأولى من صرفه إلى نصيب الآخر إلا أن يعرف شيء من الهالك أو الباقي من مال أحدهما بعينه فيكون ذلك له وعليه لأن الاختلاط في ذلك القدر لم يتحقق. وإنما يعرف ذلك بأن يكون مال أحدهما صحاحا والآخر مكسورا فما كان باقيا من الصحاح يعلم أنه ملك صاحبها والحال في هذا قبل الاختلاط وبعده سواء فأما إذا لم يعرف فإنه يجعل الهالك والقائم بينهما على قدر ما اختلط من رؤوس أموالهما ليتحقق الاختلاط في ذلك.(11/306)
ص -142- ... قال: وإذا اشتركا بغير رأس مال على أن ما اشتريا من الرقيق بينهما فهذا جائز" وهذا يفسد شركة الوجوه في الرقيق خاصة وقد بينا أن شركة الوجوه تكون مفاوضة تارة وعنانا أخرى والعنان منها يكون عاما وخاصا كالعنان في الشركة بالمال وهذا لأن جوازها باعتبار الوكالة والتوكيل بشراء نوع خاص صحيح وكذلك لو قالا في هذا الشهر لأنه توقيت في التوكيل والوكالة تقبل التخصيص في الوقت والعمل جميعاً.
قال: فإن قال أحدهما قد اشتريت متاعا فهلك مني وطالب شريكه بنصف ثمنه لم يصدق على شريكه بذلك القدر لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه بالشراء والوكيل بالشراء إذا لم يكن الثمن مدفوعا إليه فقال اشتريته وهلك في يدي لا يصدق في إلزام الثمن في ذمة الموكل بخلاف ما إذا كان الثمن مدفوعا إليه لأن الوكيل أمين فيقبل قوله في براءته عن الضمان ولا يقبل قوله في إلزام الدين لنفسه في ذمة الموكل لأنه في ذلك غير أمين ولكن إذا دخل في ملكه ظاهرا مثل ما لزمه صح إلزامه إياه وذلك بمباشرة الشراء لا بإقراره فكذلك هنا كل واحد منهما في مباشرة الشراء يلزم ذمة صاحبه مثل ما يدخله في ملكه ظاهرا فأما في الإقرار لا يدخل شيئا في ملك شريكه ظاهرا فلا يصدق في إلزام شيء في ذمته والقول قول الشريك لإنكاره بعد أن يحلف وإنما يحلف على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير وهو شراء المدعي والحلف على فعل الغير يكون على العلم كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القسامة "يحلف لكم اليهود خمسين يمينا بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا".(11/307)
قال: وإن أقام البينة على الشراء والقبض ثم ادعى هلاك المتاع فالقول قوله مع يمينه على الهلاك لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ثم هو أمين في المقبوض من نصيب صاحبه فيكون القول قوله في الهلاك مع يمينه ويتبع شريكه في نصف الثمن لأن هلاك المشتري في يد الوكيل إذا لم يمنعه من الموكل كهلاكه في يد الموكل وكذلك إذا اشتريا متاعا وقبضاه ثم قبضه أحدهما ليبيعه وقال قد هلك فهو مصدق مع يمينه لأنه وكيل بالبيع في نصف صاحبه والوكيل بالبيع أمين فيما في يده فالقول في هلاكه قوله مع يمينه.
قال: وإذا اشتركا بغير مال على أن ما اشترياه من شيء فهو بينهما نصفين ولأحدهما بعينه ثلثا الربح وللآخر الثلث فالشركة جائزة والشرط باطل" لأن أحدهما شرط لنفسه جزأ من ربح ملك صاحبه وهو غير ضامن لشيء من نصيب صاحبه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ولكن أصل الشركة لا تبطل بالشرط الفاسد فيجوز بيع كل واحد منهما فيما اشترى والربح بينهما نصفين على قدر ملكهما في المشتري.
قال: وإذا اشتركا شركة عنان بأموالهما أو بوجوههما فاشترى أحدهما متاعا فقال الشريك الذي لم يشتره: هو من شركتنا وقال المشتري هو لي خاصة وإنما اشتريته بمالي لنفسي قبل الشركة فالقول قول المشتري" لأن الظاهر شاهد له والأصل أن يكون كل أحد عاملاً(11/308)
ص -143- ... لنفسه ما لم يقم دليل على عمله لغيره ولأن سبب الملك له في المشتري ظاهر والآخر يدعي استحقاق بعض ما في يده عليه فكان القول قول المنكر مع يمينه بالله ما هو من شركتنا.
فإن قيل: قيام عقد الشركة بينهما في هذا النوع دليل ظاهر على أن المشتري بينهما فهو في قوله اشتريته قبل عقد الشركة يدعي لنفسه تاريخا سابقا في الشراء ومثل هذا التاريخ لا يثبت إلا بحجة.
قلنا: نعم هذا نوع ظاهر يشهد للآخر ولكن الظاهرحجة لدفع الاستحقاق فلا يثبت الاستحقاق بها وحاجة الآخر إلى إثبات الاستحقاق فلا يكفيه الظاهر لذلك فأما حاجة المشتري إلى دفع الاستحقاق للآخر عما في يده فالظاهر يكفيه لذلك.
قال: رجل أمر رجلاً أن يشتري عبدا بعينه بينه وبينه فقال المأمور نعم ثم ذهب فاشتراه وأشهد أنه يشتريه لنفسه خاصة فالعبد بينهما على الشركة" لأنه وكيل من جهة الآخر في شراء نصف العبد له والوكيل لا يعزل نفسه بغير محضر من الموكل كما أن الموكل لا يعزل وكيله بغير علم منه لما في فعل كل واحد منهما من الإلزام في حق صاحبه وذلك لا يثبت بدون علمه كخطاب الشرع لا يلزم المخاطب ما لم يعلم به ولأنه قصد عزل نفسه هنا في امتثال أمر الآمر فإنما عزله في مخالفته أمره لكيلا ينفذ تصرفه عليه فأما في امتثال أمره لا يمكنه أن يعزل نفسه وعلى هذا إذا اشتركا على أن ما اشترى كل واحد منهما اليوم فهو بينهما لم يستطع أحدهما الخروج عن الشركة إلا بمحضر من صاحبه لأن كل واحد منهما وكيل لصاحبه ولو أشهد الموكل على إخراج الوكيل عما وكله به وهو غير حاضر لم يجز ذلك حتى إذا تصرف قبل أن يعلم بالعزل نفذ تصرفه على الآمر فكذلك في الشركة.(11/309)
قال: رجل أمر رجلا أن يشتري له عبدا بعينه بينه وبين المأمور فقال نعم ثم لقيه آخر فقال اشتر هذا العبد بيني وبينك فقال المأمور نعم ثم ذهب المأمور فاشترى العبد فالعبد بين الآمرين نصفين ولا شيء للمشتري فيه" لأن الآمر الأول وكله بشراء نصفه له وقد تمت الوكالة بقبوله وصار بحال لا يملك شراء ذلك النصف لنفسه فكذلك لا يملك شراءه لإنسان آخر لأنه إنما يملك الشراء لغيره بإذنه فيما يملك شراءه لنفسه ولما أمره الثاني بأن يشتري العبد بينه وبينه فقد أمره بشراء نصفه له فينصرف هذا النصف إلى النصف الآخر غير النصف الذي قبل الوكالة فيه من الأول وهذا لأنه وإن ذكر كل النصف مطلقا ولكن مقصودهما تصحيح هذا التصرف ولا يمكن تصحيحه إلا أن يتعين في الوكالة من الثاني النصف الآخر وهو نظير عبد بين شريكين باع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى حصته خاصة فهنا أيضا ينصرف توكيل الثاني إلى النصف الآخر خاصة فلهذا يجعل مشتريا نصفه لكل واحد منهما بوكالته وخرج من البين.
قال: رجل اشترى عبدا وقبضه فطلب إليه رجل آخر الشركة فأشركه فيه فله نصفه" لأن الإشراك تمليك نصف ما ملك بمثل الثمن الذي ملكه به ولو ملكه منه جميع ما ملك بعد ما(11/310)
ص -144- ... قبضه بأن ولاه البيع كان صحيحا فكذلك إذا ملكه نصفه وبيان هذا أن مطلق عقد الشركة يقتضي التسوية قال الله تعالى في ميراث أولاد الأم: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: من الآية12] اقتضى التسوية بين الذكور والإناث فلما قال هنا أشركتك فيه فمعناه سويتك بنفسي وذلك تمليك للنصف منه وكذلك لو أشرك رجلين فيه صفقة واحدة كان العبد بينهم أثلاثا لأنه سواهما بنفسه وإنما تتحقق التسوية إذا كان العبد بينهم أثلاثاً.
قال: ولو اشترى رجلان عبدا فأشركا فيه رجلا فالقياس أن يكون للرجل نصفه ولكل واحد من المشتريين ربعه" لأن الإشراك تمليك بطريق التسوية بين المشتري وبين من أشرك على ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما اشترى بلالا رضي الله عنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه: "أشركني فيه" فقال قد أعتقته فعرفنا بهذا أن الإشراك تمليك حتى امتنع منه بالإعتاق ومقتضى لفظ الإشراك التسوية فكل واحد منهما صار مملكا نصف نصيبه منه حين سواه بنفسه في نصيبه فيجمع له نصف العبد ويبقى لكل واحد منهما ربعه وفي الاستحسان يكون له ثلثه لأنهما حين أشركاه فقد سوياه بأنفسهما فيقتضي هذا اللفظ أن يسوي بينهما في ملك العبد وإنما يتحقق ذلك إذا صار له ثلث العبد من جهة كل واحد منهما السدس ويبقى لكل واحد منهما ثلثه يوضحه أنهما حين أشركاه فقد جعلاه كالمشتري للعبد معهما ولو اشتراه معهما كان له ثلث العبد.
قال: ولو أشركه أحد الرجلين في نصيبه ونصيب صاحبه فأجاز شريكه ذلك كان للرجل نصفه وللشريكين نصفه لأن إشراكه في نصيبه نفذ في الحال وفي نصيب شريكه توقف على إجازة الشريك وعند الإجازة يصير الشريك مشركا له في نصيبه فكأن كل واحد منهما أشركه في نصيبه بعقد على حده.(11/311)
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله أن أحد المشتريين إذا قال لرجل أشركتك في هذا العبد فأجاز شريكه كان العبد بينهم أثلاثا لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ولو أشركه بإذن شريكه كان بينهم أثلاثا وهذا لأن المجيز صار راضيا بالسبب لا مباشرا له والحكم الثابت عند الإجازة يسند إلى وقت العقد فيصير كأنهما أشركاه معا فيكون بينهم أثلاثاً.
قال: وكذلك إن أشركه أحدهما في نصيبه ولم يسم في كم أشركه ثم أشركه الآخر أيضا في نصيبه" لأن كل واحد منهما سواه بنفسه في نصيبه في عقد على حده فيصير مملكا نصف نصيبه منه وذكر ابن سماعة عن ابن يوسف رحمهما الله أن أحد المشتريين لو قال لرجل أشركتك في نصف هذا العبد كان مملكا جميع نصيبه منه بمنزلة قوله قد أشركتك بنصف هذا ألا ترى أن المشتري لو كان واحدا فقال لرجل قد أشركتك في نصفه كان له نصف العبد بمنزلة قوله أشركتك بنصفه بخلاف ما لو قال أشركتك في نصيبي فإنه لا يمكن أن يجعل(11/312)
ص -145- ... بهذا اللفظ مملكا جميع نصيبه بإقامة حرف في مقام حرف الباء فإنه لو قال أشركتك بنصيبي كان باطلا فلهذا كان له نصف نصيبه.
قال: رجل اشترى عبدا ولم يقبضه حتى أشرك فيه رجلا لم يجز لأنه بيع ما لم يقبض وذلك منهي عنه؟
ألا ترى أنه لو ملكه الكل قبل القبض بطريق التولية لم يجز فكذلك إذا ملكه البعض بالإشراك فإن أشركه بعد القبض فهلك قبل أن يسلمه إليه لم يكن عليه ثمن ما أشركه فيه بمنزلة ما لو ولاه وهذا لأنه في حقه بائع وهلاك المبيع في يد البائع قبل التسليم مبطل للبيع ولم يذكر في الكتاب لو قبض نصف العبد ثم أشرك فيه غيره.
والجواب: أنه يصح إشراكه في نصف العبد اعتبارا للبعض بالكل.
فإن قيل: كان ينبغي أن ينصرف إشراكه إلى النصف الذي قبضه خاصة تصحيحا لتصرفه بمنزلة عبد بين شريكين باع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف البيع إلى نصيبه خاصة.
قلنا: الإشراك يقتضي التسوية وإنما يتحقق إذا انصرف إشراكه إلى الكل ثم يصح في المقبوض لوجود شرطه ولا يصح في غير المقبوض لانعدام شرطه فأما إذا انصرف إلى تمليك المقبوض خاصة لا يكون تسوية بينهما وتصحيح التصرف يجوز على وجه لا يخالف الملفوظ ففي تعيين المقبوض هنا مخالفة الملفوظ بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصف المقبوض فليس في تعيين نصيبه هناك لتصحيح العقد مخالفة الملفوظ.
قال: وإذا اشترك الرجلان في عبد قبل أن يشترياه فقال كل واحد منهما لصاحبه أينا اشترى هذا العبد فقد أشرك فيه صاحبه أو قال فصاحبه فيه شريك له فهو جائز" لأن كل واحد منهما يصير موكلا لصاحبه بأن يشتري نصف العبد له فأيهما اشتراه كان مشتريا نصفه لنفسه ونصفه لصاحبه بوكالته فإذا قبضه فذلك كقبضهما جميعا لأن القبض من حقوق العقد وذلك إلى العاقد ثم يد الوكيل كيد الموكل ما لم يمنعه منه حتى إذا مات كان من مالهما جميعاً.(11/313)
فإن اشترياه معا أو اشترى أحدهما نصفه قبل صاحبه ثم اشترى صاحبه النصف الباقي كان بينهما" لأنهما إن اشترياه معا فقد صار كل واحد منهما مشتريا نصفه لنفسه وإن اشترى أحدهما نصفه فقد صار مشتريا نصف هذا العبد لنفسه ونصفه لصاحبه وكان العبد بينهما فإن نقد أحدهما الثمن بأمر صاحبه أو بغير أمره وقد كانا اشتركا فيه قبل الشراء على ما وصفت لك فإنه يرجع بنصف الثمن على شريكه لأن بالعقد السابق بينهما صار كل واحد منهما وكيل صاحبه في نقد الثمن من ماله. ألا ترى أنه لو اشتراه أحدهما ونقد الثمن رجع على شريكه بنصفه بحكم تلك الوكالة فكذلك إذا اشترياه وأدى الثمن أحدهما فإنما أدى النصف عن نفسه والنصف عن شريكه بوكالته فيرجع به عليه.
قال: فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في بيعه ثم باعه أحدهما على أن له نصفه كان بائعا لنصف شريكه بنصف الثمن فإن باعه إلا نصفه كان جميع الثمن ونصف العبد بينه وبين شريكه نصفين" في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد(11/314)
ص -146- ... رحمهما الله: البيع على نصف المأمور خاصة فيحتاج في تخريج هذه المسألة إلى معرفة فصلين:
أحدهما: أن عند أبي حنيفة الوكيل ببيع العبد يملك بيع نصفه والوكيل ببيع نصف العبد يملك بيع نصف ذلك النصف وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يملك وقد بينا هذا في كتاب الوكالة.
والثاني: أن العبد إذا كان لواحد فقال لرجل بعته منك إلا نصفه بألف درهم كان بائعا للنصف بألف درهم ولو قال بعته منك بألف درهم على أن لي نصفه كان بائعا للنصف بخمسمائة لأن الاستثناء والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فكأنه قال بعت منك نصفه بألف درهم فأما قوله على أن لي نصفه ليس باستثناء بل هو عامل على سبيل المعارضة للأول فكان الإيجاب الأول متنا ولا لجميعه وبالمعارضة تبين أنه جعل الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه وذلك صحيح منه إذا كان مقيدا ألا ترى أن رب المال يشتري مال المضاربة من المضارب فيكون صحيحا وإن كان ذلك مملوكا له لكونه مقيدا فهنا أيضا ضم نفسه إلى المخاطب في شراء العبد مقيد في حق التقسيم فلهذا كان بائعا نصفه من المخاطب بخمسمائة إذا عرفنا هذا فنقول البائع منهما هنا بائع نصفه بحكم الملك وفي النصف وكيل عن صاحبه فإذا قال بعته منك على أن لي نصفه كان إيجابه متناولا للكل ثم قوله على أن لي نصفه معارض فيكون ذلك معتبرا في تقسيم الثمن وفي إبقاء نصيبه على ملكه ويبقى موجبا للمشتري نصيب شريكه بنصف الثمن وإذا قال بعته إلا نصفه فهذا بمنزلة قوله بعت نصفه بكذا فعند أبي حنيفة ينصرف إلى النصف من النصيبين جميعا لأن تعين نصيبه قبل الوكالة لتصحيح تصرفه وبعد الوكالة تصرفه صحيح وإن لم يتعين له نصيبه لأن من أصله أن الوكيل ببيع نصف العبد يملك بيع نصف ذلك النصف فلهذا كان جميع الثمن ونصف العبد بينه وبين شريكه نصفين وعندهما لا يمكن تصحيح تصرفه في النصيبين لأن الوكيل ببيع نصف العبد لا يبيع نصف ذلك النصف فينصرف(11/315)
بيعه إلى نصيب نفسه لتصحيح تصرفه قال: رجل اشترى عبدا وقبضه ثم قال لرجل آخر قد أشركتك في هذا العبد على أن تنقد الثمن عني ففعل كانت هذه الشركة فاسدة" لأنه ملكه نصف العبد بيعا بنصف الثمن وشرط فيه أن ينقد جميع الثمن عنه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط فيبطل هذا البيع بينهما لمكان الشرط وإن نقد عنه الرجل رجع عليه بما نقد عنه لأنه قضى دينه بأمره ولا شيء له في العبد لأن الإشراك كان فاسدا والبيع الفاسد بدون القبض لا يوجب شيئاً.
قال: رجل اشترى نصف عبد بمائة درهم واشترى رجل آخر نصف ذلك العبد الباقي بمائتي درهم ثم باعاه مساومة بثلثمائة درهم أو بمائتي درهم فالثمن بينهما نصفين ولو باعاه مرابحة بربح مائة درهم أو قال بالعشرة أحد عشر كان الثمن بينهما أثلاثا" وكذلك لو ولياه رجلا برأس المال أو باعاه بوضيعة كذا فالثمن بينهما أثلاثا لأن الثمن في بيع المساومة بمقابلة(11/316)
ص -147- ... الملك حتى يعتبر الملك هو في المحل دون الثمن الأول حتى لو كان موهوبا أو كان مشتري بعرض لا مثل له يجوز بيعه مساومة فعرفنا أن الثمن بمقابلة الملك وهما يستويان في ملك العبد فيستويان في ثمنه
وأما بيع المرابحة والتولية والوضيعة باعتبار الثمن الأول ألا ترى أنه لا تستقيم هذه البيوع في الموهوب والموروث وفي المشتري بعرض لا مثل له والثمن الأول كان أثلاثا بينهما فكذلك الثاني
يوضح الفرق أن في بيع المرابحة لو اعتبرنا الملك في قيمة الثمن دون الثمن الأول كان البيع مرابحة في حق أحدهما وضيعة في حق الآخر وقد نصا على بيع المرابحة في نصيبيهما فلا بد من اعتبار الثمن الأول كذلك بخلاف بيع المساومة قال: وإذا اشترك الرجلان شركة عنان في تجارة على أن يشتريا ويبيعا بالنقد والنسيئة فاشترى أحدهما شيئا من غير تلك التجارة فهو له خاصة" لأن كل واحد منهما بحكم الشركة يصير وكيل صاحبه والوكالة تقبل التخصيص فإذا خصا نوعا كان كل واحد منهما في شراء ما سوى ذلك كالأجنبي عن صاحبه فيكون مشتريا لنفسه خاصة فأما في ذلك النوع فبيع كل واحد منهما وشراؤه بالنقد والنسيئة ينفذ على صاحبه لأنهما صرحا بذلك وهكذا لو لم يصرحا فإن بمطلق التوكيل يملك الوكيل البيع والشراء بالنقد والنسيئة على الموكل فكذلك بمطلق الشركة إلا أنه إذا اشترى أحدهما بالنسيئة بالنقود أو المكيل أو الموزون فإن كان في يده من مال الشركة من ذلك الجنس جاز شراؤه على الشركة وإن لم يكن كان مشتريا لنفسه لأنه لو نفذ شراؤه على الشركة كان مستدينا على المالك وليس للشريك شركة عنان ولا للمضارب ولاية الاستدانة بمطلق العقد لمعين وهو أنه لو صح استدانتهما زاد مال الشركة والمضاربة وما رضي كل واحد من الشريكين بتصرف صاحبه إلا في مقدار ما جعلاه رأس المال فلهذا كان شراؤه بالنسيئة في هذه الحالة على نفسه خاصة.(11/317)
قال: وإن كان مال الشركة في يده دراهم فاشترى بالنسيئة بالدنانير عندنا يصير مشتريا على الشركة استحسانا" وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله يصير مشتريا لنفسه بناء على أصل معروف وهو أن الدراهم والدنانير في القياس جنسان وفي الاستحسان كجنس واحد في ضم أحدهما إلى الآخر وفي تكميل النصاب، وغيره ثم قد بينا أن عند زفر رحمه الله في حكم الشركة هما جنسان حتى لا تصح الشركة إذا كان رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر دنانير فكذلك في حكم الشراء بالنسيئة وعندنا هما كجنس واحد في صحة الشركة بهما فكذلك في الشراء بالنسيئة على شريكه.
قال: فإن أقر أحدهما بدين في تجارتهما وأنكره الآخر لزم المقر جميع الدين إن كان هو الذي وليه" لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد وكيلا كان أو مباشرا لنفسه وإن أقر أنهما ولياه لزمه نصفه لأنه في النصف مقر على نفسه وفي النصف على صاحبه وبعقد الشركة لا يثبت له ولاية إلزام الدين في ذمة صاحبه بإقراره فبطل إقراره وإن أقر أن صاحبه وليه لم يلزمه منه شيء لأنه أقر على غيره ولا ولاية له في إلزام الدين على غيره بإقراره وهذا بخلاف شركة(11/318)
ص -148- ... المفاوضة فإنها تتضمن الكفالة والوكالة جميعا فيكون كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه بما يلزمه فإذا أقر أحدهما كان كل واحد منهما مطالبا بجميع ذلك المال بحكم الكفالة فأما شركة العنان تتضمن الوكالة دون الكفالة وبحكم الوكالة لا يصير كل واحد منهما مطالبا بما على صاحبه.
قال: فإن كان لشريكي العنان على رجل دين فأخره أحدهما لم يجز على صاحبه بخلاف شريكي المفاوضة لأن المتفاوضين فيما هو من صنيع التجار كشخص واحد والتأجيل من صنيع التجار فمباشرة أحدهما فيه كمباشرتهما وبشركة العنان ما صارا كشخص واحد ولأن في شركة المفاوضة لكل واحد منهما حق المطالبة بما وجب لصاحبه بمباشرته فكان له أن يؤجل فيه وليس لشريك العنان حق المطالبة بما وجب بمباشرة صاحبه فلا يكون له أن يؤجل في نصيب صاحبه وفي نصيب نفسه اختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه رحمهم الله في صحة التأجيل موضع بيانه في كتاب الصلح.(11/319)
قال: وإن اشترى أحدهما شيئا من تجارتهما فوجد به عيبا لم يكن للآخر أن يرده" لأن الرد بالعيب من حقوق العقد وذلك يتعلق بالعاقد ولأن الآخر في النصف أجنبي وفي النصف موكل وليس للموكل أن يخاصم في العيب مع البائع فيما اشتراه وكيله وكذلك لو أخذ أحدهما مالا مضاربة فربح فيه كان الربح له خاصة لأن مال المضاربة ليس من شركتهما في شيء فعمله فيه يكون لنفسه خاصة دون شريكه واستحقاق المضارب الربح بعمله وكل وضيعة لحقت أحدهما من غير شركتهما فهي عليه خاصة لأن فيما ليس من شركتهما كل واحد منهما من صاحبه بمنزلة الأجنبي وعلى هذا لو شهد أحدهما لصاحبه بشهادة من غير شركتهما فهو جائز لأنه عدل لا تهمة في شهادته بخلاف ما هو من شركتهما فإنه متهم في شهادته لماله من النصيب في المشهود به وقال أبو حنيفة لشريك العنان أن يضع وأن يدفع المال مضاربة وإن لم يأذن له شريكه في ذلك ويجوز له أن يعمل في المال الذي ليس من شركتهما كل شيء يجوز للمضارب أن يعمله وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهذه المسألة تشتمل على فصول:
أحدها: أن لأحد الشريكين أن يوكل بالتصرف وهو استحسان وفي القياس ليس له ذلك لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه وليس للوكيل أن يوكل غيره وأن الموكل إنما رضي برأيه ولم يرض برأي غيره وفي الاستحسان التوكيل من عادة التجار وكل واحد منهما لا يجد بدا منه لأن الربح لا يحصل إلا بالتجارة الحاضرة والغائبة وكل واحد منهما عاجز عن مباشرة النوعين لنفسه ولا يجد بدا من أن يوكل غيره بأحد النوعين ليحصل مقصودهما وهو الربح فيصير كل واحد منهما كالآذن لصاحبه في ذلك دلالة ولأن الوكالة التي تتضمنها الشركة بمنزلة الوكالة العامة ولهذا صحت من غير بيان جنس المشتري وصفته وفي الوكالة العامة للوكيل أن يوكل غيره فإنه لو قال لوكيله عمل برأيك كان له أن يوكل غيره.(11/320)
ص -149- ... وكذلك لأحد الشريكين أن يضع لأن ذلك من عادة التجار ولأنه لو استأجر من يتصرف في مال الشركة لجاز ذلك منه على شريكه فإذا وجد من يتصرف بغير أجر كان له أن يضعه بطريق الأولى.
وكذلك له أن يودع من مال الشركة لأن له أن يستأجر من يحفظ مال الشركة فلأن يكون له أن يودع ليحفظ المودع بغير أجر أولى وله أن يدفع من مال الشركة مضاربة لأن له أن يستأجر من يتصرف في مال الشركة بأجر مضمون في الذمة فلأن يكون له أن يستأجر من يتصرف ببعض ما يحصل من عمله من غير أن يكون ذلك مضمونا في الذمة أولى لأن هذا أنفع لهما.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه ليس له أن يدفع المال مضاربة لأنه إيجاب الشركة للمضارب في الربح فيكون بمنزلة عقد الشركة وليس لأحد الشريكين أن يشارك مع غيره بمال الشركة فكذلك لا يدفعه مضاربة وما ذكره في الكتاب أصح ووجه الفرق بين الشركة والمضاربة أن ما يستفاد بعقد فهو من توابع ذلك العقد وإنما يتبع الشيء ما هو دونه لا ما هو مثله أو فوقه والمضاربة دون الشركة ألا ترى أنه ليس على المضارب شيء من الوضيعة وأن المضاربة لو فسدت لم يكن للمضارب شيء من الربح فيمكن جعل المضاربة مستفاد بعقد الشركة لأنه دونه فأما الاشتراك مع الغير مثل الأول فلا يمكن أن يجعل من توابعه مستفادا به فهو نظير ما يقول أن للمضارب أن يوكل لأن الوكالة دون المضاربة وليس له أن يدفع المال مضاربة لأن الثاني مثل الأول فلا يكون مستفادا به ولهذا لم يكن للوكيل أن يوكل بمطلق التوكيل لأن الثاني مثل الأول ولكن هذا كله في حق الغير فأما في حق نفسه فيجوز أن يوجب لغيره مثل ماله ولهذا كان للمكاتب أن يكاتب وللمأذون أن يأذن لعبده لأنه متصرف لنفسه بفك الحجر عنه والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب شركة المفاوضة(11/321)
روي عن أبي سيرين رحمه الله تعالى قال: لا تجوز شركة بعروض ولا بمال غائب وفي هذا دليل على أنه لا بد من إحضار رأس المال ولكن إن وجد الإحضار عند الشراء بها فهو والإحضار عند العقد سواء حتى إذا دفع إلى رجل ألف درهم على أن يشتري بها وبألف من ماله وعقدا عقد الشركة بينهما بهذه الصفة فأحضر الرجل المال عند الشراء جازت الشركة لأن المقصود هو التصرف لا نفس الشركة فإذا وجد إحضار المال عند المقصود كان ذلك بمنزلة الإحضار عند العقد.
وعن الشعبي رحمه الله قال الربح على ما اصطلحا عليه والوضيعة على المال فكذلك في الشركة وهو مروي وعن علي رضي الله تعالى عنه وبه نأخذ وتعتبر الشركة بالمضاربة فكما أن الربح في المضاربة على الشرط والوضيعة على المال فكذلك في الشركة.
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال ليس على من قاسم الربح ضمان وتفسير هذا أن(11/322)
ص -150- ... الوضيعة على المال في المضاربة والشركة لأن الوضيعة هلاك جزء من المال والمضارب والشريك أمين فيما في يده من المال وهلاك المال في يد الأمين كهلاكه في يد صاحبه.
قال: وإذا اشترك الرجلان شركة مفاوضة فكتبنا بينهما كتابا بينا فيه أنهما اشتركا فيه في كل قليل أو كثير شركة مفاوضة وأن رأس مالهما كذا وكذا بينهما نصفين يعمل كل واحد منهما برأيه فإذا اشتركا على هذا فهما متفاوضان" وهذا لما بينا أن اعتبار المساواة ركن المفاوضة فلا بد من أن تذكر التسوية بينهما في رأس المال والربح وأن الشركة بينهما في كل قليل أو كثير لأنه إذا اختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يكون العقد بينهما مفاوضة لانعدام المساواة ولكن إن اختص أحدهما بملك عرض أو دين على إنسان فالشركة بينهما مفاوضة لأن العرض لا يصلح أن يكون رأس مال الشركة والدين كذلك وهو نظير الاختصاص بالزوجة أو الولد وذلك لانعدام المساواة المعتبرة في المفاوضة ونص في الكتاب على لفظة المفاوضة وقد بينا أن هذا لا بد منه وإن كانا لا يعرفان جميع أحكام المفاوضة وبعد ما صارا متفاوضين فما اشترى أحدهما فهو جائز عليه وعلى صاحبه يؤخذ به كله لأن المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة فبحكم الوكالة يجعل شراء أحدهما كشرائهما وبحكم الكفالة يجعل كل واحد منهما مطالبا بما يجب على صاحبه بسبب التجارة.(11/323)
قال: وإن كان رأس مال كل واحد منهما ألف درهم فاشتركا ولم يخلطا المال فالشركة جائزة" وفي النوادر قال في القياس لا تكون الشركة مفاوضة بينهما قبل خلط المالين لأن كل واحد منهما مختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وذلك ينفي المفاوضة وفي الاستحسان يجوز لأن المساواة موجودة بينهما وإن لم يخلطا المال واختصاص أحدهما بملك مال غير صاف للمفاوضة بعينه بل بانعدام المساواة فإذا كانت المساواة موجودة كان الخلط وعدم الخلط سواء فإن هلك أحد المالين يهلك من مال صاحبه على ما بينا في شركة العنان وتبطل الشركة بينهما وإن اشتريا بأحد المالين في القياس تبطل المفاوضة أيضا لأن المشتري صار بينهما نصفين والآخر مختص بملك رأس ماله فتنعدم المساواة وفي الاستحسان لا يبطل العقد وللاستحسان وجهان:
أحدهما: أن المساواة قائمة معنى لأن الآخر وإن ملك نصف المشتري فقد صار نصف الثمن مستحقا عليه لصاحبه ونصف ماله مستحق به لصاحبه.
والثاني: أن ما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ولا يمكن التحرز عن هذا التفاوت عادة فقلما يجدان شيئا واحدا يشتريانه بمالهما ولا بد من أن يكون الشراء بأحد المالين قبل الآخر فيجعل هذا عفوا لعدم إمكان التحرز عنه قال: فإن كانت دراهم أحدهما بيضا ودراهم الآخر سودا فهو كذلك" لأن السود والبيض كل واحد منهما يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وبتفاوت الوصف ينعدم الاختلاط وقد بينا أن الخلط ليس بشرط إلا أن يكون لأحدهما على الآخر فضل في الصرف فلا تجوز شركة المفاوضة لانعدام التساوي بينهما إلا في رواية عن أبي(11/324)
ص -151- ... يوسف رحمه الله وقد بينا هذا ثم تكون الشركة بينهما عنانا لأن تحصيل مقصود المتعاقدين بقدر الإمكان واجب والعنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا وهذا عنان عاما وإن لقباه بالمفاوضة فهو لقب فاسد لانعدام شرط المفاوضة ولكن لا يبطل به أصل الشركة فإن كان شراء يوم وقعت الشركة ثم صار في أحدهما فضل قبل أن يشتريا شيئا فسدت المفاوضة أيضا لأنه اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود به ما يمنع ابتداء العقد وهو التفاوت في ملك المال فيكون مبطلا للعقد كما لو ورث أحدهما مالا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة تفسد به المفاوضة وإن كان ذلك بعد الشراء بالمالين جميعا فالشركة جائزة لأن المقصود قد حصل حين اشتريا بالمالين فلا معتبر بما يظهر من التفاوت في العرف بعد ذلك.
فإن قيل: أليس أنه لو ورث أحدهما مالا بعد الشراء بالمالين أو وهب له مالا فسدت المفاوضة؟
قلنا: لأن المساواة في ملك المال منعدم هناك بما اختص به أحدهما وهنا لا ينعدم لأن ملكهما تحول من الدراهم إلى المشتري والمشتري بينهما نصفان.
فإن قيل: لا كذلك بل لكل واحد منهما على صاحبه نصف رأس ماله دينا عليه حتى لو هلك المشتري يرجع كل واحد منهما على صاحبه بنصف رأس ماله فينعدم المساواة أيضا بظهور الفصل في النصف.
قلنا: نعم ولكن ما استوجبه كل واحد بينهما على صاحبه دين عليه والدين لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فالتفاوت بينهما في ذلك لا يمنع بقاء المفاوضة كما لو ورث أحدهما دينا أو عرضا وكذلك لو كان رأس مال أحدهما ألف درهم ورأس مال الآخر مائة دينار فإن كانت قيمتها مثل الألف فالشركة بينهما مفاوضة وهذا في التفريع كالسود والبيض وإن كانت قيمة الدنانير أكثر من ألف درهم لم تجز المفاوضة لانعدام المساواة وكانت الشركة بينهما عنانا حتى لا يطالب كل واحد منهما بما يجب على صاحبه لأن ذلك من حكم من الكفالة الثابتة بالمفاوضة.(11/325)
قال: وإذا اقتسما ضرب كل واحد منهما برأس ماله أو بقيمته يوم يقتسمون" لما بينا أن المعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لإظهار الربح فإنه لما لم يصل إلى كل واحد منهما جميع رأس ماله لا يظهر الربح ليقتسماه بينهما.
قال ولو قال أحدهما لصاحبه: بعتك نصف مالي هذا بنصف مالك هذا فرضي بذلك وتقابضا كانا شريكين فيهما بمنزلة المال المختلط" لأن العقد الذي جرى بينهما عقد صرف وقد تم بالتقابض فصار كل واحد من المالين مشتركا بينهما نصفين فإن كان رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر عروضا فباعه نصف العروض بنصف الدراهم وتقابضا ثم اشتركا شركة مفاوضة أو شركة عنان جاز ذلك لأن الدراهم بهذا العقد صارت نصفين بينهما فيكون ذلك رأس مالهما ثم يثبت في الشركة حكم العروض وهو بينهما نصفان بيعا وقد يدخل في العقد(11/326)
ص -152- ... بيعاً ما لا يجوز ايراد العقد عليه قصداً كالشرب والطريق في البيع والمنقولات في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا إذا وقف قرية بما فيها من الدواب والمماليك وآلات الحراثة وإن كان لا يثبت حكم الوقف في المنقولات قصدا فهذا مثله وقد بينا أن الشراء والحل بمنزلة العروض في أنه لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة.
قال: وإن اشتركا شركة مفاوضة بغير مال على أن يشتريا بوجوههما فهو جائز" كما بيناه في شركة العنان إلا أن تكون المفاوضة عامة ومثله في الوكالة لا يجوز فإن من قال لغيره اشتر بيني وبينك لا يكون ذلك صحيحا ما لم يعين المشتري أو يخص بذكر الوقت أو بتسمية الجنس في العروض والقدر في المكيل والموزون أو بتسميته الثمن وتفويض الأمر إلى رأيه على العموم وفي شركة الوجوه يجوز ذلك بدون التخصيص لأنها تشتمل على البيع والشراء ومقصودهما الربح لا عين المشتري ومثله في الوكالة يجوز أيضا لو قال كل واحد منهما لصاحبه ما اشترينا من شيء فهو بيننا نصفان على أن يبيعه ويقسم ربحه نصفين وكان ذلك تفسيرا للشركة فأما في الوكالة الخاصة المقصود عين المشتري فلا بد من اعتبار معنى الخصوص فيه لتصحيح الوكالة.
قال: وكذلك إن اشترك خياطان في الخياطة مفاوضة أو خياط وقصار أو شبه ذلك من الأعمال المختلفة أو المتفقة حتى إذا تقبل أحدهما عملا أخذ الآخر به وإن كان عمله غير ذلك العمل" لأن بشركة المفاوضة صار كل واحد منهما وكيل صاحبه في تقبل العمل له وكفيلا عن صاحبه فيما يجب عليه فكان كل واحد منهما مأخوذا بما يقبله الآخر ولا يمتنع صحة التقبل باعتبار أن ذلك ليس من عمله لأنه لا يتعين عليه إقامة ما يقبل ببدنه ولكن له أن يقيمه بأعوانه وأحزابه وهو يقدر له على إبقاء ما التزمه بهذا الطريق فلهذا كان مطالبا بحكم الكفالة والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب بضاعة المفاوض(11/327)
قال: ولأحد المتفاوضين أن يبيع بضاعة مع رجل وأن يدفع مضاربة وأن يودع" وقد بينا أن شريك العنان يملك هذا فالمفاوض أولى لأنه أعم تصرفا منه.
قال: وليس له أن يقرض لأن الاقراض تبرع وكل واحد من المتفاوضين إنما قام مقام صاحبه في التجارة في مال الشركة دون التبرع ألا ترى أنه لا يملك الهبة ولا الصدقة في نصيب صاحبه فالاقتراض في كونه تبرعا كالصدقة أو فوقه قال صلى الله عليه وسلم: "الصدقة بعشرة أمثالها والقرض بثمانية عشر" وقيل إنما جعل الثواب في القرض أكثر لأن ملتمس القرض لا يأتيك إلا محتاجا والسائل للصدقة قد يكون محتاجا وقد يكون غير محتاج.
وذكر الحسن أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأحد المتفاوضين أن يقرض مال المفاوضة من رجل ويأخذ منه ما نتحققه به وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له ذلك وجعل هذا بمنزلة الكفالة من حيث أنه متبرع في الأداء ولكن يرجع بمثله كما أن الكفيل متبرع(11/328)
ص -153- ... في الالتزام ولكن يرجع بمثل ما يؤدي ثم من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن أحد المتفاوضين إذا كفل بمال يلزم شريكه ويجعل معنى المفاوضة في ذلك راجحا لذلك الإقرار وعندهما كفالة أحد المتفاوضين لا يلزم شريكه وجعلا معنى التبرع فيه راجحا لذلك في الإقرار.
قال: فإن أقرض أحدهما فهو ضامن نصف ما أقرض لشريكه لأنه متعد في نصيب شريكه بتصرفه في المال على غير ما هو مقتضى الشركة ولكن لا يفسد ذلك المفاوضة لأن المضمون له إنما اختص بملك دين وذلك غير مفسد للمفاوضة ما لم يقبضه ولأن المقترض مستوجب مثل ذلك عن المستقرض فكانت المساواة بينهما قائمة.
قال: وليس له أن يعير دابة بغير رأيه من شركتهما في القياس لأن الإعارة تبرع بالمنفعة بغير بدل فهو كالتبرع بالعين بغير بدل كالهبة وذلك خلاف ما تقتضيه المفاوضة.
قال: فإذا فعل فعطبت الدابة تحت المستعير كان المعير ضامنا نصف قيمة الدابة لشريكه في القياس" لأنه متعد في نصيبه بالتسليم إلى المستعير ولكن استحسن فقال له أن يعير ولا ضمان عليه لأن الإعارة من توابع التجارة فإن التاجر لا يجد بدا منه لأنه إذا أتاه من يعامله فلا بد أن يعيره ثوبا ليلبس أو وسادة يجلس عليها ولا يجد بدا من إعارة الميزان وصنجاته من بعض الجيران فإن من لا يعير لا يعار عند حاجته وكل واحد منهما مالك للتجارة في هذا المال فيملك ما هو من توابع التجارة ألا ترى أن المأذون يعير والمفاوض أعم تصرفا من المأذون حتى أن المفاوض يكاتب والمأذون لا يكاتب وعلل في بعض النوادر فقال التاجر في المال وإن لم يكن مالكا لشيء منه فله أن يعير وإنما أراد به المأذون فالتاجر الذي يملك النصف يكون شريكا في الربح لأن تملك الإعارة أولى.(11/329)
قال: ولو أبضع أحدهما بضاعة مع رجل لم يفرق المتفاوضان ثم اشترى المستبضع بالبضاعة شيئا وهو لا يعلم توفرهما فشراؤه جائز على الآمر وعلى شريكه" لأن الإبضاع توكيل ومباشرة أحدهما فيه حال قيام المفاوضة كمباشرتهما ثم افتراقهما عزل منهما إياه عن التصرف قصدا وحكم العزل لا يثبت قصدا في حق الوكيل ما لم يعلم به فلهذا نفذ شراؤه عليهما ولو كان أمره بالشراء ولم يدفع إليه مالا كان ما اشترى للآمر خاصة لأن عمل أحدهما فيما هو من شركتهما كعملهما وإذا دفع إليه مالا من شركتهما وأمره أن يشتري بها فإنما وجد عمل أحدهما فيما هو من شركتهما فإذا لم يكن دفع إليه مالا فإنما عمل أحدهما بالتوكيل والإبانة فيما ليس من شركتهما إلا أن المفاوضة إذا بقيت بينهما حتى اشترى الوكيل جعل شراؤه كشراء الموكل وكان المشتري بينهما نصفين بهذا الطريق وذلك لا يوجد إذا افترقا قبل شراء الوكيل لأن عند شراء الوكيل لو اشتراه الموكل كان مشتريا لنفسه وكذلك الوكيل يكون مشتريا للآمر خاصة يوضحه أن دفع الضرر عن الوكيل واجب وإذا كان المال مدفوعا إليه لو جعلناه مشتريا للآمر خاصة كان ضامنا للآخر نصيبه من المال فلدفع هذا الضرر جعلناه مشتريا بينهما إذا لم(11/330)
ص -154- ... يعرف افتراقهما وذلك غير موجود فيما إذا لم يكن المال مدفوعا إليه لأنه لا يضمن للشريك شيئا وإن صار مشتريا للآمر ولكن يجب الشراء بالثمن في ذمته ويرجع به على الآمر وقد رضي بذلك حين قبل الوكالة.
قال: ألا ترى أنه لو مات الذي لم يبضع ثم اشترى المستبضع المتاع لزم الحي خاصة" إلا أن في فضل الموت إذا كان المال مدفوعا إلى المستبضع فورثه الميت بالخيار إن شاؤوا وضمنوا المستبضع وإن شاؤوا ضمنوا الآمر وهذا لأن الموت يوجب عزل الوكيل حكما بطريق أنه ينقل الملك إلى الورثة ولم يوجد من واحد منهم الرضا بتصرف الوكيل والعزل الحكمي يثبت في حق الوكيل وإن لم يعلم به بخلاف افتراقهما فإن ذلك من الذي لم يبضع عزل الوكيل في نصيبه قصدا فلا يثبت حكمه في حقه ما لم يعلم به.
وإن كان للورثة حق تضمين المستبضع لأنه جان في نصيبهم من المال بالدفع إلى البائع من غير رضاهم ثم فلهم أن يضمنوه إن شاؤوا وإن شاؤوا الآمر لأن دفعه كان بإذن الآمر فيكون كدفع الآمر بنفسه فإن ضمنوا المستبضع رجع به على الآمر لأنه غرم لحقه في عمل باشره له بأمره ولأن جميع المتاع صار للآمر فيكون عليه جميع الثمن وقد نقد نصف الثمن من ماله ونصفه من مال غيره وقد استحق يرجع عليه بمثله.(11/331)
قال: وإذا وكل أحد المتفاوضين رجلا بشراء جارية بعينها أو بغير عينها بثمن مسمى ثم إن الآخر نهاه عن ذلك فنهيه جائز لأن عزل الوكيل من صنيع التجارة كالتوكيل فكما جعل فعل أحدهما في التوكيل كفعلهما فكذلك يجعل نهي أحدهما إياه كنهيهما وإن اشتراه الوكيل فهو مشتر لنفسه فإن الوكالة قد بطلت بعزل أحدهما إياه فإن لم ينهه حتى اشتراها كان مشتريا لهما جميعا فيرجع بالثمن على أيها شاء لأن كل واحد يطالب بما وجب على صاحبه بحكم الكفالة وقد كان توكيل أحدهما كتوكيلهما جميعا فيستوجب الوكيل الرجوع عليها بالثمن فله أن يأخذ أيهما شاء بجميعه لأنه في النصف أصيل وفي النصف كفيل عن صاحبه وكذا إن اشترى أحدهما شيئا وقبضه كان للبائع أن يأخذ شريكه بالثمن لأنه كفيل عن المشتري بما يلزمه بطريق التجارة وإن كان بالمتاع عيب كان للشريك أن يرده على البائع بعينه لأن الرد بالعيب من حقوق التجارة وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما يجب بالتجارة له وعليه وكذلك إن باع أحدهما متاعا فوجد المشتري به عيبا كان له أن يرده على الذي لم يبع لأنه قائم مقام صاحبه فيما يلزمه بالتجارة والخصومة في العيب إنما لزمته بالتجارة فكان الآخر قائما مقام البائع في ذلك فرد عليه قال: أرأيت لو كانا قصارين متفاوضين فأسلم رجل إلى أحدهما ثوبا أما كان له أن يأخذ الآخر بعمله ذلك له ذلك" وللآخر أن يأخذه بالأجر إذا فرغ من العمل فحكم الرد بالعيب كذلك.
قال: وإذا أبضع أحد المتفاوضين بضاعة له ولشريك له شاركه شركة عنان فأبضع ألف درهم بينهما نصفين مع رجل يشتري له بها متاعا فرضي الشريك فمات الدافع ثم اشترى(11/332)
ص -155- ... المستبضع بذلك متاعا فالمتاع للمشتري أولا يقول فيما ذكرنا بيان أن لأحد المتفاوضين أن يشارك مع رجل شركة عنان وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ليس له ذلك لأنه يجاب إلى الشركة للغير في المال المشترك ولهذا لم يكن لشريك العنان أن يشارك غيره فكذلك في المفاوض وجه ظاهر الرواية أن العنان دون المفاوضة فيمكن أن يجعل من توابع المفاوضة مستفادا بها كالمضاربة وشركة العنان.
قال: وإن شارك أحد المتفاوضين رجلا شركة مفاوضة لم يجز ذلك على شريكه" في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الثاني مثل الأول فلا يكون من توابع الأول مستفادا به كما أنه ليس لشريك العنان أن يشارك غيره فكذلك وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يجوز ذلك منه لأن المتفاوضين كل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما هو من صنيع التجار فيكون كل واحد منهما كفعلهما إذا عرفنا هذا فنقول المستبضع وكيل للدافع فيعذل بموت الدافع علم به أو لم يعلم لأن هذا عزل من طريق الحكم فإذا اشترى المتاع بعد ذلك كان مشتريا لنفسه فإذا نقد الثمن بالمال المدفوع إليه فقد قضى بمال الغير دينا عليه فيكون ضامنا مثل ذلك المال لصاحب المال ونصف هذا المال لشريك العنان فيضمن له ذلك والنصف الآخر للمفاوض الحي ولورثة الميت فيضمن لهما ذلك وإنما قلنا إنه ينعزل بموت الدافع أما في حقه لا يشكل وفي حق الشريكين الآخرين لأن الشركة قد انقطعت من الدافع وبين كل واحد منهما بموته واعتبار أمره في حقهما كان بعقد الشركة فلا يبقى بعد انتقاضها ولو كان الدافع حيا ومات شريك العنان ثم اشترى المستبضع المتاع كان المتاع كله للمتفاوضين لأن شركة الدافع مع شريك العنان قد انتقضت بموته وانقطعت الوكالة التي كانت بينهما فلا يثبت له الملك في المتاع بشراء الوكيل لأن شراء الوكيل كشراء الموكل بنفسه والدافع لو اشترى المتاع بنفسه كان المتاع كله للمتفاوضين فكذلك وكيله ويرجع ورثة الميت بحصته من المال(11/333)
إن شاؤوا على المستبضع لأنه دفع ما صار ميراثا لهم إلى البائع بغير رضاهم ثم يرجع المستبضع به على أي المتفاوضين شاؤوا لأن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه ما يلزمه بحكم قيام المفاوضة بينهما وقد صار الدافع ضامنا لذلك لأن أداء وكيله بأمره كأدائه بنفسه فإن لم يمت هذا ولكن المتفاوض الآخر مات ثم اشترى المستبضع المتاع فنصف المتاع لشريك العنان لقيام الشركة بين الدافع وبين شريك العنان ولأن شراء وكيله له كشرائه بنفسه ونصف المتاع للآمر لا شيء له منه لورثة الميت لأن المفاوضة قد انتقضت بين الدافع وبين الميت ولو اشترى بنفسه في هذه الحالة لم يكن شيء من المشتري لورثة الميت فكذلك إذا اشترى وكيله ولورثة الميت الخيار إن شاؤوا ضمنوا نصيبهم من المال المفاوض الحي لأن أداء وكيله كأدائه بنفسه وإن شاؤوا ضمنوه المستبضع لأنه دفع مالهم إلى البائع بغير رضاهم ثم يرجع المستبضع به على الآمر لأنه عامل له فيما أدى بأمره فيرجع عليه بما يلحق من العهدة ولا يرجع بها على شريكه الآخر لأن الشركة بينهما عنان فلا يكون كل واحد منهما مطالبا بما يجب على الآخر.(11/334)
ص -156- ... قال: وإن أخذ أحد المتفاوضين من رجل مالا على بيع فاسد فاشترى به وباع كان البيع لهما والضمان عليهما لأن ما حصل إنما يحصل بطريق التجارة وما وجب بطريق التجارة وهذا لأن الفاسد من البيع معتبر بالجائز في الأحكام وفعل كل واحد منهما في التجارة كفعلها فيما يجب به عليهما وفيما يحصل به لهما.
قال: وإذا أمر أحد المتفاوضين رجلين بأن يشتريا عبدا لهما وسمى جنسه وثمنه فاشترياه وافترقا عن الشركة فقال الآمر اشترياه بعد التفريق فهو لي خاصة وقال الآخر اشترياه قبل الفرقة فهو بيننا فالقول قول الآمر مع يمينه" لأن الشراء حادث فيحال حدوثه إلى أقرب الأوقات ومن ادعى فيه تاريخا سابقا فعليه إثباته بالبينة وإن لم يكن له بينة فالقول قول من يجحد التاريخ مع يمينه ولأن سبب الملك في المشتري أظهر للآمر فإن فعل وكيله كفعله بنفسه والآخر يدعي استحقاق المشتري عليه وهو ينكر فالقول قوله مع يمينه وعلى الآخر البينة فإن أقاما البينة فالبينة بينة الآخر لأن فيه إثبات التاريخ فإثبات الاستحقاق له والبينات للإثبات فتترجح بزيادة الإثبات ولا تقبل فيه شهادة الوكيلين لأنهما خصمان في ذلك يشهدان على فعل أنفسهما فإن قال الشريكان لا ندري متى اشترياه فهو للآمر أيضا لأنه إنما يحال بالشراء على أقرب الأوقات لما يعلم فيه تاريخ سابق وإذا قال الآمر اشترياه قبل الفرقة وقال الآخر اشترياه بعد الفرقة فالقول قول الذي لم يأمر لإنكاره التاريخ وإنكاره وقوع الملك له ووجوب شيء من الثمن عليه والبينة بينة الآمر وكذلك هذا في شركة العنان بعد الفرقة.
باب خصومة المفاوضين فيما بينهما(11/335)
قال: وإذا ادعى رجل على رجل أنه شاركه شركة مفاوضة وجحد المدعى عليه والمال في يد الجاحد فالقول قول الجاحد مع يمينه وعلى المدعي البينة" لأنه يدعي العقد واستحقاق نصف ما في يده وذو اليد منكر فعلى المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وإن أقام المدعي البينة فشهد الشهود أنه مفاوضة أو زادوا على هذا فقالوا المال الذي في يده من شركتهما أو قالوا هو بينهما نصفين فإنه يقضى للمدعي بنصفه لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ولأنهما إن قالا المال الذي في يده بينهما نصفان أو هو من شركتهما فقد صرحا بالشهادة للمدعي بملك نصف ما في يد ذي اليد وإن قالا هو مفاوضة فمقتضى المفاوضة هذا وهو أن يكونا مستويين في ملك المال شريكين فيه فإذا قضى القاضي بذلك ثم ادعى ذو اليد عينا مما في يده أنه ميراث له وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله إن كان شهود المدعي شهدوا بأنه مفاوضة فبينة ذي اليد مقبولة وإن شهدوا أن المال الذي في يده من شركتهما أو هو بينهما فلا تقبل بينة ذي اليد بعد ذلك واحتج في ذلك فقال القاضي يقضى بما شهد به الشهود فإذا شهدوا بمطلق المفاوضة قضى القاضي بذلك أيضا ومطلق المفاوضة لا ينفي احتمال كون بعض ما في يده ميراثا له ألا ترى أن العقد لو كان ظاهرا بينهما وورث أحدهما ما لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة كان ذلك له(11/336)
ص -157- ... خاصة وتبقى المفاوضة بينهما إلا أنا إنما نجعل جميع ما في يده بينهما نصفين لاعتبار مقتضى المفاوضة وهذا ظاهر نعتبره والظاهر يسقط اعتباره إذا قام الدليل بخلافه فإذا أقام البينة على عين أنه ميراث له فقد ظهر الدليل المانع من اعتبار الظاهر في هذا العين فيجب العمل بذلك الدليل بخلاف ما إذا شهدوا بالشركة فيما في يده لأن القاضي قضى بالشركة بدليل موجب لذلك فإقامة البينة بعد ذلك على عين أنه ميراث يتضمن إبطال حكم الحاكم وبينة المقضى عليه على إبطال القضاء لا تكون مقبولة والدليل على الفرق بين حالة الإطلاق والبيان أن شاهدين لو شهدا بدار في يد رجل لإنسان وقضى القاضي بذلك ثم زعم المدعي أن البناء كان ملك المقضي عليه فإنه لا يبطل قضاء القاضي بالأرض له ولو كان الشهود شهدوا له بالبناء والأرض مفسرا ثم أقر المدعي أن البناء للمدعى عليه يكون ذلك إكذابا منه لشهوده ويبطل به قضاء القاضي له والفرق ما بينا أن البناء تبع فاستحقاقه في الفصل الأول باعتبار الظاهر إلى استحقاقه الأصل وعند التفسير والبيان استحقاقه البناء بالحجة فإذا أكذب شهوده في ذلك بطلت شهادتهم له وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن ذا اليد صار مقضيا عليه بنصف ما في يده لصاحبه وبينة المقضي عليه في إثبات الملك لا تقبل إلا أن يدعي تلقى الملك من جهة المقضي له كما لو كانت الشهادة مفسرة وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها والمفاوضة سبب وحكمها الشركة في المال ألا ترى أن دعوى المفاوضة لا تصح بدون دعوى الشركة في المال فكذا في الشهادة عليها إنما تقبل باعتبار الحكم ولا فرق بين أن يصرح الشاهد بالحكم وبين أن يذكر السبب في أن القاضي يقضي بالحكم والسبب جميعا بالشهادة كما لو شهدوا بالشراء أو بالشراء والملك جميعا للمشتري ثم عند التفسير لم تقبل بينة ذي اليد يعتبرون به مقضيا عليه فكذلك عند الإبهام.(11/337)
قال: فإن ادعى ذو اليد عينا في يده أنه له خاصة وهبه شريكه منه حصته فيه وأقام البينة على الهبة والقبض قبل ذلك منه" ومحمد رحمه الله يستدل بهذا على أبي يوسف رحمه الله ولا حجة له فيه على أبي يوسف رحمه الله لأن هنا بينته مقبولة سواء فسر شهود المدعي بشهادتهم أو لم يفسروا ثم الفرق أنه ليس في قبول هذه البينة إبطال القضاء الأول في هذا العين بل فيها تقرير القضاء الأول لأن القضاء الأول بالملك للمدعي وإنما تصح الهبة باعتبار ملكه بخلاف الأول مع قبول البينة هناك إبطال القضاء الأول فيما تناوله القضاء.
قال ألا ترى أنهم لو شهدا أن هذا العبد الذي في يده مشترك بينهما وقضى القاضي بذلك ثم أقام ذو اليد البينة أن المدعي وهبه له أو تصدق به عليه قبلت بينته. ولو أقام البينة أنه ورثه عن أبيه وهو يملكه أو أن رجلا آخر وهبه منه لم تقبل بينته على ذلك والفرق ما بينا فكذلك في المفاوضة وإن ادعى أنه شريكه شركة مفاوضة والمال في يد المدعى عليه فأقر له بالمفاوضة وقضي عليه بإقراره ثم ادعى عبدا مما كان في يده أنه ميراث له أو وهبه من فلان فأقام البينة على ذلك قبل ذلك وقضى له بالعبد وهو دليل لمحمد رحمه الله أيضا من الوجه(11/338)
ص -158- ... الذي قلنا إن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ولكن الفرق بينهما لأبي يوسف رحمه الله من وجهين:
أحدهما: أن ذا اليد هنا مقر بالمفاوضة مدع الميراث ولا منافاة بينهما وقد أثبت دعواه بالبينة فوجب قبول بينته ألا ترى أنه لو لم يكن له بينة لم كان يستحلف خصمه وفي الأول ذو اليد جاحد مدعى عليه وقد صار مقضيا عليه بحجة صاحبه ألا ترى أنه لو ادعى الميراث ولم يكن له بينه لم يكن له أن يستحلف خصمه فعرفنا بهذا أنه منكر والمنكر لا يكون مدعيا فلهذا لم تقبل بينته.
والثاني: أن الإقرار موجب الحق بنفسه بدون القضاء وإنما يقضي القاضي بالإقرار فقط ولهذا قلنا إن استحقاق الملك بالإقرار لا يظهر في حق الزوائد المنفصلة فأما البينة لا توجب إلا بقضاء القاضي وإنما يقضي القاضي بما هو المقصود وهو كون المال مشتركا بينهما فلهذا لا يقبل بينة ذي اليد بعد ذلك وكذلك لو كان المال في يديهما جميعا وهما مقران بالمفاوضة فادعى أحدهما شيئا من ذلك أنه له ميراث وأقام البينة قبلت بينته لأنه مدع أثبت دعواه بالحجة وإن لم يكن له بينة استحلف صاحبه لأنه منكرها لو أقر به يلزمه ولا إشكال في هذا الفصل أنه لو ادعى تملك نصيب صاحبه عليه بالهبة وأقام البينة على ذلك أن بينته تكون مقبولة.
وإن ادعى رجل قبل رجل شركا في عبد له خاصة وجحد ذو اليد وأقام المدعي البينة أن العبد بينهما نصفان فإنه يقضى له بنصفه لأنه نور دعواه بالحجة ولا تقبل من ذي اليد البينة أنه ادعى ميراثا فيه لأنه مقضى عليه بالملك في نصفه ولا بينة له إلا أن يدعي تلقى الملك من جهة المقضي له.(11/339)
قال: وإذا مات أحد المتفاوضين والمال في يد الباقي منهما فادعى ورثة الميت المفاوضة وجحد ذلك الحي فأقاموا البينة أن أباهم كان شريكه شركة مفاوضة لم يقض لهم بشيء مما في يد الحي لأنهم شهدوا بعقد قد علمنا ارتفاعه بأن المفاوضة تنتقض بموت أحدهما ولأنه لا حكم لما شهدوا به في المال الذي في يده في الحال لأن المفاوضة فيما مضى لا توجب أن يكون ما في يده في الحال من شركتهما إلا أن يقيموا البينة أنه كان في يده في حياة الميت وأنه من شركة ما بينهما فحينئذ يقضى لهم بنصفه لأنهم أثبتوا الاستحقاق بالحجة أما إذا شهدوا أنه كان من شركتهما فقد شهدوا بالنصف للميت وورثته خلفاؤه فيه بعد موته وإن شهدوا أنه كان في يده في حياة الميت فاليد الثابتة له في حال قيام الشركة كاليد الثابتة بالمعاينة أو بإقرار الخصم وذلك موجب ملك الميت في نصفه وورثته في ذلك يخلفونه.
فإن أقام الحي البينة أنه ميراث له من قبل أبيه لم تقبل بينته لأن الشهود قد فسروا وقضى القاضي عليه بالنصف للورثة بشهادتهم قالوا وهذا إذا شهدوا أنه من شركة ما بينهما فأما إذا شهدوا أنه كان في يده في حياة الميت فينبغي أن تكون المسألة على الخلاف كما في حال الحياة ولو كان المال في يد الورثة وجحدوا الشركة فأقام الحي البينة على شركة المفاوضة(11/340)
ص -159- ... وأقام الورثة البينة أن أباهم مات وترك هذا ميراثا من غير شركة بينهما لم أقبل منهم البينة على ذلك لأنهم جاحدون للشركة وإنما يقيمون البينة على النفي وقد أثبت المدعي الشركة فيما في أيديهم بالبينة فيقضى له بنصفه وهذا لأنهم حين زعموا أن أباهم مات وترك ميراثا فقد أقروا أنه كان في يد أبيهم حال قيام الشركة وهذا الفصل أيضا حمله بعضهم على الخلاف والأصح في الفصلين أنه قولهم جميعا لأن بعد الموت قبلت البينة للحكم لا للسبب فالسبب قد انتقض بالموت ولهذا يسوى بين ما إذا فسر الشهود أنه من شركتهما أو لم يفسروا ذلك بخلاف حال الحياة.
ولو قال ورثة الميت مات جدنا وترك ميراثا لأبينا وأقاموا البينة على هذا لم يقبل في قول أبي يوسف رحمه الله وقبلت في قول محمد رحمه الله بمنزلة ما لو كان المفاوض حيا وأقام البينة على ذلك بعد ما شهد الشهود عليه بالمفاوضة المطلقة فإن كان شهود الحي شهدوا على شيء بعينه أنه من شركتهما لم تقبل بينة الورثة في ذلك كما لا تقبل البينة فيه من المورث لو كان حياً.(11/341)
قال: وإذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما أن صاحبه كان شريكه بالثلث وادعى صاحبه النصف وكلاهما مقر بالمفاوضة فجميع المال من العقار وغيره بينهما نصفان" لأن موجب المفاوضة المساواة في ملك المال فاتفاقهما على المفاوضة يكون اتفاقا على حكمها وهو أن المال بينهما نصفان ثم مدعى التفاوت يكون راجعا بعد الإقرار ومناقضا في كلامه ولأن مطلق الإقرار بالعقد يتناول الصحيح من العقد ولا تصح المفاوضة إلا بعد التساوي بينهما في المال إلا ما كان من ثياب كسوة أو متاع بيت أو رزق العيال أو خادم يطؤها فإني أجعل ذلك لمن يكون في يديه ولا أجعله في الشركة استحسانا. وفي القياس يدخل هذا في الشركة لأنه مال في يد أحدهما وهو حاصل بالتصرف وكل واحد منهما في التصرف قائم مقام صاحبه ووجه الاستحسان أن هذه الأشياء مستثناة من عقد الشركة لعلمنا بوقوع الحاجة لكل واحد من المتفاوضين إليها مدة المفاوضة ولهذا لو عايناه اشترى ذلك جعلناه مشتريا لنفسه فإذا صار مستثنى لم يتناوله مطلق المفاوضة فينفي ظاهر الدعوى والإنكار ويجعل القول قول ذي اليد لإنكاره وكذلك الخادم يطؤها لأن فعله محمول على ما يحل شرعا ولا يحل له الإقدام على وطئها إلا إذا كان مختصا بملكها أرأيت لو كانت مدبرة أو أم ولد أما كان القول فيها قول ذي اليد وكذلك الأمة ولذلك لو لم يفترقا؟ ولكن مات أحدهما ثم اختلفوا في مقدار الشركة فهو على النصف لأنا علمنا بوجود المال في يد أحدهما في حال قيام المفاوضة وتأثير موت أحدهما في نقض العقد فهو وافتراقهما سواء.
ولو كانا حيين والمال في يد أحدهما وهو منكر للشركة وأقام الآخر البينة أنه شريكه شركة مفاوضة له الثلثان وللذي في يده الثلث فهذه الشهادة في القياس لا تقبل لأن إقراره بالمفاوضة إقرار بالمناصفة في المال وذلك إكذاب منه لشهوده فيما شهدوا به من الثلث،(11/342)
ص -160- ... والثلثين والمدعي إذا أكذب شاهده تبطل شهادته له. وفي الاستحسان شهادتهم على أصل المفاوضة مقبولة والمال بينهما نصفان لأنه لا حاجة بهم إلى إتمام الشهادة إلى ما ذكروا من الثلث والثلثين فتلغى تلك الشهادة فتبقى شهادتهم على أصل المفاوضة ولأن من الناس من يقول مع التفاوت في المال تصح المفاوضة فلعل الشهود ممن يعتمدون ذلك ففسروا بناء على اعتقادهم ولكن القاضي يبني ما ثبت عنده على اعتقاده لا على اعتقاد الشهود فتبين بهذا الفعل ضعف كلام محمد رحمه الله في الفرق بين ما إذا فسر الشهود أو أبهموا فإن تفسيرهم لما لم يعتبر في قبول شهادتهم على المفاوضة فكذلك لا يعتبر تفسيرهم في المنع من قبول بينة أحدهما على متاع في يده أنه ميراث بل المبهم والمفسر في ذلك سواء وكذلك لو كان المدعي ميتا وأقام وارثه البينة على مثل ذلك لأنه خليفة مورثه قائم مقامه.
قال: وإذا افترق المتفاوضان فأقام أحدهما البينة أن المال كله كان في يد صاحبه وإن قاضي كذا قد قضى بذلك عليه وقسموا المال وأنه قضى به بينهما نصفين وأقام الآخر البينة بمثل ذلك من ذلك القاضي بعينه أو من غيره فإن كان ذلك من قاض واحد وعلمنا التاريخ من القضائين أخذنا بالآخر وهو رجوع عن الأول لأنه عالم بقضاء نفسه فإنما يقضي ثانيا بخلاف ما قضى به أولا إذا تبين له الخطأ في القضاء الأول فلهذا جعلنا الثاني نقضا للأول وهو كما لو تباينا بألف ثم تبايعا بمائة دينار يجعل الثاني نقضا للأول وإن لم يعلم التاريخ بينهما أو كان القضاء من قاضيين لزم كل واحد منهما القضاء الذي لا نعده عليه لأن كل واحد منهما صحيح ظاهر وأنه قضى بالحجة ممن له ولاية القضاء فلا يجوز إبطاله بالشك إذ ليس أحدهما بالإبطال أولى من الآخر.(11/343)
وإذا كان من قاضيين وكل واحد منهما لا يملك نقض قضاء الآخر ولا يقصد ذلك إنما يقضى كل واحد منهما بما شهد عنده الشهود به ولا منافاة بينهما لجواز أن يكون في يد كل واحد منهما بعض مال الشركة فظن كل فريق أن ذلك جميع مال الشركة فيحاسب كل واحد منهما صاحبه بما عليه ويترادان الفضل.
قال: ولا يلزم المفاوض ما على شريكه من مهر أو أرش جناية لأن كل واحد منهما ملتزم لما وجب لطريق التجارة والنكاح ليس بتجارة فالمهر الواجب به لا يكون واجبا بسبب التجارة ولأنه بدل مما لا يحتمل الشركة وكفالة كل واحد منهما عن صاحبه بدين هو بدل ما يحتمل الشركة حتى يكون منفعة مباشرة بسبب الالتزام لهما وأرش الجناية واجب بطريق العدوان دون التجارة فهو بدل ما لا يحتمل الشركة بينهما والدليل على الفرق أن إقرار المأذون بالمهر وأرش الجناية غير صحيح في حق المولى بخلاف إقراره بديون التجارة.
قال: ولا يشارك أحدهما صاحبه فيما يرث من ميراث ولا جائزة يجيزها السلطان له أو هبة أو هدية إلا عند ابن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول مقتضى الشركة المساواة وقد بقيت الشركة بينهما فيثبت ما هو مقتضاها وهو بناء على مذهبه أن في الابتداء لو كان رأس مالهما(11/344)
ص -161- ... على التفاوت يجوز الشركة ويصير رأس المال بينهما نصفين فكذلك في الانتهاء ولكنا نقول لا بد للملك من سبب وسبب الإرث القرابة وذلك غير موجود في حق الشريك ولا يمكن جعل الوارث مملكا نصفه من شريكه بعقد الشركة لأن تمام سبب الملك له بعد موت المورث والتمليك لا يسبق سببه لأن كل واحد منهما يجعل كالوكيل عن صاحبه فيما يحتمله ويجوز الميراث يدخل في ملك الوارث بغير صنعه فلا يجوز أن يكون نائبا عن شريكه فيه وكذلك الصدقة فإن مع إضافة موجب العقد إليه لا يمكن جعله نائبا عن شريكه.
قال: ولا يفسد ذلك المفاوضة إلا أن يكون دراهم أو دنانير وقد قبضه" معناه لم يكن دينا وهذا بناء على ما بينا أنه متى اختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس مال الشركة ينعدم به موجب المفاوضة فتبطل المفاوضة.
قال: وكل وديعة كانت عند أحدهما فهي عندهما جميعا" لأنهما بعقد المفاوضة صار الشخص واحدا فيما يلتزمه كل واحد منهما بسبب هو من صنيع التجارة ويقول الوديعة من جملة ذلك فإن مات المستودع قبل أن يبين لزمهما جميعا لأن المودع إذا مات مجهلا للوديعة يصير متملكا للوديعة فهذا ضمان ما أوجب بتملك أحدهما ما يحتمل الشركة فيكون ملزما صاحبه.
فإن قيل: وجوب هذا الضمان بعد الموت ولا مفاوضة بينهما بعد الموت.(11/345)
قلنا: لا كذلك ولكنه لما أشرف على الموت وقد عجز عن البيان قد تحقق التجهيل وصار ذلك دينا عليه قبل موته فإن قال الحي ضاعت في يد الميت قبل موته لم يصدق لأنه لا عقد بينهما بعد موت أحدهما وإنما يجعل قول أحدهما كقول صاحبه بسبب العقد القائم بينهما ولأن المودع بنفسه بعد ما صار ضامنا بالجحود ولو زعم أنه كان هلك في يده لم يصدق فكذلك قول شريكه في ذلك لأن قول المرء مقبول فيما هو أمين فيه لنفي الضمان عنه فأما في إسقاط الضمان الواجب عليه غير مقبول وإن كان الحي هو المستودع صدق لأنه ما صار متملكا ولا ضامنا للوديعة ما دام حيا بعد موت شريكه فإنه قادر على ما التزمه فلهذا كان قوله مقبولاً.
فإن قيل: أليس أن كل واحد منهما فيما يلزمهما مقبول الوديعة مثل صاحبه؟
قلنا: نعم ولكن التمليك عند الموت باعتبار اليد لأن الأيدي المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك والوديعة في يد المودع حقيقة لا في يد شريكه.
وإن قال: أكلتها قبل موت صاحبي لزمه الضمان خاصة ولم يصدق على صاحبه" لأن وجوب الضمان عليه بإقراره وعند الإقرار لا مفاوضة بينهما وهو في الانتهاء غير مصدق في حق صاحبه إلا أن يقيم البينة أنه أنفقها في حياة الميت والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فيكون عليهما وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف هو عليه خاصة وأصل المسألة إذا وجب على أحدهما ضمان بغصب أو استهلاك مال فعند أبي يوسف رحمه الله هذا نظير أرش الجناية لأنه واجب بسبب ليس بتجارة ولأنه بدل المستهلك(11/346)
ص -162- ... والمستهلك لا يحتمل الشركة وهما قالا ضمان الغصب الاستهلاك ضمان تجارة بدليل صحة إقرار المأذون به وكونه مؤاخذا به في الحال وهذا لأنه بدل مال محتمل للشركة وإنما يجب بأصل السبب وعند ذلك المحل قابل للملك ولهذا ملك المغصوب والمستهلك بالضمان.
قال: وإذا أودع أحد المتفاوضين من مالهما وديعة عند رجل فادعى المستودع أنه قد ردها إليه أو إلى صاحبه فالقول قوله مع يمينه لأنه مسلط على الرد على كل واحد منهما أمين فيه فإنه كما يقوم أحدهما مقام صاحبه في الإيداع فكذلك في الاسترداد فلهذا كان القول قول المودع مع يمينه فإن جحد الذي ادعى عليه ذلك لم يضمن لقوله لشريكه شيئا لأن قول المودع مقبول في براءة نفسه عن الضمان لا في وصول المال إلى من أخبر بدفعه إليه ألا ترى أن المودع لو كان وصيا فادعى المودع الرد عليه لا يغرم الوصي لليتيم شيئا وكذلك لو أمره أن يقضي بالوديعة دينه فقال قد فعلت وقال صاحب الدين ما قضيت شيئا فالقول قول المودع في براءته ودين الطالب على المودع بحاله ولكن يحلف الشريك الذي ادعى المودع الرد إليه بالله ما قبضته لأن شريكه يدعي عليه ضمان نصيبه بجحوده القبض ولو أقر بذلك لزمه فإذا أنكر حلفه عليه.(11/347)
وكذلك لو مات أحدهما ثم ادعى المستودع أنه كان دفعه إلى الميت منهما لأنه بقي أمينا بعد موته ألا ترى أن قوله في الرد مقبول في حق ورثة المودع فكذلك في حق شريكه ثم يستحلف الورثة على العلم لأن المورث لو كان حيا وأنكر القبض استحلف لشريكه فكذلك بعد موته إلا أنه إذا كان حيا فإنما يستحلف على فعل نفسه والورثة يستحلفون على فعل المورث بالقبض فقد بينا أن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم فإن ادعى أنه دفعه إلى ورثة الميت فكذبوه وحلفوا أنهم ما قبضوه فهو ضامن لنصف حصة الحي من ذلك لأن في نصيب الميت كان له حق الدفع إلى ورثته وقد أخبر بأداء الأمانة في ذلك فأما نصيب الحي فليس له أن يدفعه إلى ورثة الميت لأنهم خلفاء الميت في حقه خاصة ولأن المفاوضة قد انقضت بالموت فهو في نصيب الحي مقر بوجوب الضمان له على نفسه يدفعه إلى ورثة الميت ثم يكون ذلك النصف بين الحي وورثة الميت نصفين
لأن المودع لم يصدق في وصول شيء من المال إلى ورثة الميت وإنما يصدق في براءته عن الضمان فيجعل ذلك النصف كالناوي والمال المشترك ما ينوي منه ينوي على الشركة وما يبقى يبقى على الشركة.
ولو قال: دفعت المال إلى الذي أودعني بعد موت الذي يودعني وحلف على ذلك فهو بريء من الضمان لأنه يدعي أداء الأمانة في الكل فإن للمودع حق الرد على من قبض منه مالكا كان أو غير مالك فرده عليه بعد انتقاض المفاوضة بينهما كرده في حال قيام المفاوضة ولا يصدق على إلزام الحي شيئا بعد أن يحلف ما قبضه فإن كان المودع ميتا فقال المستودع قد دفعت المال إليكما جميعا إلى الحي نصفه وإلى ورثة الميت نصفه وجحدوا ذلك فالقول قول المستودع مع يمينه وهو بريء لأنه يخبر عن أداء الأمانة بإيصال نصيب كل واحد منهما(11/348)
ص -163- ... إليه فإن أقر أحد الفريقين بقبض النصف شركه الفريق الآخر فيه لأن بإقراره يثبت وصول النصف إليه وبدعوى المودع لم يثبت وصول النصف الآخر إلى صاحبه فيما يثبت القبض فيه يكون مشتركا وما وراء ذلك يكون ناوياً.
قال: وإن كانا حيين وقال المستودع قد دفعت المال إليهما فأقر أحدهما بذلك وجحده الآخر فالمستودع بريء ولا يمين عليه لأن تصديق أحدهما وإياه في حال قيام المفاوضة كتصديقهما ولو صدقاه لم يكن عليه يمين وإن افترقا ثم قال المستودع دفعته إلى الذي أودعني فهو بريء لأن حق الرد على المودع باعتبار أن الوصول إلى يده كان من جهته لا بقيام المفاوضة بينهما وإن قال دفعته إلى الآخر وكذبه ذلك ضمن نصف ذلك المال للذي أودعه لأن بعد الفرقة ليس له حق دفع نصيب المودع إلى شريكه وله حق دفع نصيب الشريك إليه فكان هو في نصيب الشريك مخبرا بأداء الأمانة وفي نصيب المودع مقرى بالضمان على نفسه يدفعه إلى غيره ثم ما يقبضه المودع يكون بينهما نصفين لأن المودع غير مصدق في وصول نصيب الشريك إليه لما كذبه فجعل ذلك كالناوي فكان ما بقي بينهما نصفين وإن صدقه الشريك بذلك فالمودع بالخيار إن شاء ضمن شريكه نصيبه لأنه قبضه ولا حق له فيه وإن شاء ضمن المودع لأنه دفع نصيبه إلى شريك بعد انتقاض المفاوضة بينهما والدافع بغير حق ضامن كالقابض(11/349)
قال: وعارية المفاوض وأكل طعامه وقبول هديته في المطعوم وإجابة دعوته بغير أمر شريكه جائز لا بأس به ولا ضمان على الداعي ولا على الآكل استحسانا وفي القياس ليس له ذلك لأنه يتصرف في نصيب شريكه بخلاف ما أمره به فإنه أمره بالتجارة والعارية والإهداء واتخاذ الدعوة ليس بتجارة ولكنه استحسن فقال هذا من توابع التجارة وهما لا يجد التاجر منه بدا ألا ترى أن العبد المأذن يدعو المجاهدين إلى طعامه ويهدي إليهم المطعوم ليجتمعوا عنده والمأذون غير مالك لشيء من المال إنما هو تاجر والمفاوض تاجر مالك لنصف المال فلأن يملك ذلك كان أولى؟ وذكر حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال اهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عبد قبل أن أكاتب فقبل ذلك مني وحديث الأخرس ابن حكيم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة عبد وقال أبو سعيد مولى أبي أسيد رضي الله عنه قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فيهم أبو ذر رضي الله عنه وعنهم فأجابوني.
قال: ولو كسا المفاوض رجلا ثوبا أو وهب له دابة أو وهب له الفضة والذهب والأمتعة والحبوب كلها لم يجز في حصة شريكه لأنه تبرع وإنما استحسن ذلك في الفاكهة واللحم والخبز وأشباه ذلك مما يؤكل لأنه إهداء ذلك إلى المجاهدين من صنيع التجار فأما في سائر الأموال الهبة ليس من صنيع التجار والمرجع في معرفة الفرق بينهما إلى العرف.
قال: ولو أعار أحدهما دابة فركبها المستعير ثم اختلفا في الموضع الذي ركبها إليه وقد(11/350)
ص -164- ... عطبت الدابة فإنها صدقة في الإعارة إلى ذلك الموضع وبريء المستعير من ضمانها" لأن إقرار أحدهما فيما هو مملوك لهما بحكم المفاوضة كإقرارهما.
قال: ولو استعار أحدهما دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركبها شريكه فعطبت فهما ضامنان" لأن ركوب الدابة تتفاوت فيه الناس وصاحبها إنما رضي بركوب المستعير دون غيره فالآخر في ركوبها غاصب ضامن إذا هلكت وقد بينا أن ما يجب من الضمان على أحدهما بحكم الغصب فالآخر مطالب به فإن كان ركبها في حاجتهما فالضمان في مالهما لأن منفعة ركوبه ترجع إليهما فيما يجب من الضمان بسببه يكون في مالهما لأن الغرم مقابل بالغنم وإن ركب في حاجة نفسه فهما ضامنان لما قلنا إلا أنهما إن أذناه من مال الشريك رجع الشريك على الراكب بنصيبه من ذلك لأن منفعة الركوب حصلت للراكب فكان قرار الضمان عليه بمنزلة غصب اغتصبه أو طعام اشتراه فأكله وقد أدى الثمن من شركتهما فبقي الثمن دينا عليه.
قال: وإذا استعار أحدهما دابة ليحمل عليها طعاما له خاصة لرزقه إلى مقام معلوم فحمل عليها شريكه مثل ذلك إلى ذلك المكان من شركتهما أو لخاصتهما فلا ضمان عليه" من قبل أن التقييد الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا والضرر على الدابة لا يختلف بحمل ما عين من الطعام أو مثله وفعل كل واحد منهما في الحمل كفعل صاحبه ثم المستعير لو حمل عليها طعاما من شركتهما أو لغيرهما لم يضمن فكذلك شريكه ألا ترى أن رجلا لو استعار من رجل دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فبعث بالدابة مع وكيل له ليحمل عليها الطعام فحمل الوكيل طعاما لنفسه أنه لا يضمنه فللمفاوضة أوجب من الوكالة. وكذلك أحد المتفاوضين إذا استعارها ليحمل عليها عدل زطي فحمل عليها شريكه مثل ذلك العدل لم يضمن ولو حمل عليها طيالسة أو أكسية كان ضامنا لاختلاف الجنس وللتفاوت في الضرر على الدابة.(11/351)
قال: ولو حمل المستعير عليها ذلك ضمنه فكذلك شريكه" إلا أنه إن كان ذلك من تجارتهما فالضمان عليهما لحصول المنفعة لهما وإن كانت بضاعة عند الذي حمل فالضمان عليهما لأن الذي حمل عنه غاصب والآخر عنه كفيل ضامن ثم يرجع الشريك على الذي حمل بنصف ذلك إذا أديا من مال الشركة لأنه لا منفعة له في هذا الحمل فلا يكون عليه من قرار الضمان شيء ولو استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها شريكه عشرة مخاتيم شعير من شركتهما لم يضمن لأن هذا أخف على الدابة فلا يصير الحامل به مخالفا في حق صاحب الدابة سواء كان المستعير هو الذي حمله أو شريكه وكذلك لو كانا شريكين شركة عنان فاستعارها أحدهما فالجواب في هذا كالجواب في الأول لأن وجوب الضمان باعتبار زيادة الضرر على الدابة في الحمل ولم يوجد ذلك وإن كان الأول استعارها ليحمل عليها حنطة رزقا لأهله فحمل عليها شريكه شعيرا له خاصة كان ضامنا لأنه مستعمل لها بغير إذن مالكها وبغير إذن شريكه المستعير فإن المستعيرين عند الاستعارة أنه يستعيرها لمنفعة نفسه لأن ما أعده رزقا لأهله يكون ملكا له خاصة وذلك بعدم رضاه بانتفاع الشريك بها فلهذا كان ضامنا.(11/352)
ص -165- ... قال: وإذا ادعى رجل أن أحد المتفاوضين باعه خادما فجحد ذلك المتفاوضان فللمدعي أن يحلف المدعى عليه البيع على الثياب وشريكه على العلم لأن كل واحد منهما لو أقر بما ادعاه المدعي كان إقراره ملزما إياهما فإذا أنكر يستحلف كل واحد منهما لرجاء نكوله إلا أن المدعى عليه البيع يستحلف على فعل نفسه فيكون يمينه على الثبات وصاحبه يستحلف على فعل الغير فيكون يمينا على العلم وأيهما نكل عن اليمين قضى بالجارية للمشتري بالثمن الذي ادعاه لأن نكوله كاقراره وإقرار أحدهما ملزم إياهما وكذلك لو ادعى تولية أو شركة أو إجارة أو تسليم دين أو تسليم دار بالشفعة لأن فيما هو من عمل التجارة فعل أحدهما كفعلهما وإقرار أحدهما ملزم للآخر فيحلف كل واحد منهما بدعوى المدعي فإن ادعى شيئا من ذلك عليهما جميعا كان له أن يستحلف كل واحد منهما البتة لأن كل واحد منهما الآن يحلف على فعل نفسه فأيهما نكل عن اليمين أمضى الأمر عليهما وإن ادعى على ذلك أحدهما وهو غائب كان له أن يستحلف الحاضر على عمله فإن حلف ثم قدم الغائب كان له أن يستحلفه البتة كما لو كانا حاضرين وإن كان المفاوض هو الذي ادعى على رجل شيئا من ذلك وحلفه عليه ثم أراد شريكه أن يحلفه أيضا لم يكن له ذلك والفرق من وجهين:
أحدهما: أن المفاوض المدعي يكون نائبا عن صاحبه بمنزلة الوكيل وبعد ما استحلف بخصومة الوكيل لا يستحلف بخصومة الموكل لأن النيابة في الاستحلاف صحيح وإذا كانت الدعوى عليهما فلا يمكن أن يجعل المفاوض المدعى عليه نائبا عن صاحبه في الحلف لأن النيابة لا تجري في اليمين فلهذا كان للمدعي أن يحلف الآخر(11/353)
والثاني: أن الاشتغال بالاستحلاف فيما إذا كان مقيدا فأما إذا لم يكن مقيدا فلا يشتغل به وإن كانت الدعوى من المتفاوضين فاستحلف المدعى عليه بخصومة أحدهما فلا فائدة في استحلافه لخصومة الآخر لأنه بعد ما حلف في حادثة لخصومة إنسان لا يمتنع من اليمين في تلك الحادثة لخصومة الآخر فأما إذا كانت الدعوى عليهما وحلف أحدهما كان استحلاف الآخر مفيدا لأن أحدهما قد لا يبالي من اليمين والآخر يمتنع من ذلك إذ الناس يتفاوتون في الجرأة على اليمين فلهذا كان للمدعي أن يستحلف الآخر بعد ما حلف أحدهما لرجاء نكوله.
قال: وإن ادعى على أحد المتفاوضين جراحة خطأ لها أرش واستحلفه البتة فحلف له ثم أراد أن يستحلف شريكه لم يكن له ذلك ولا خصومة له مع شريكه لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما لزمه بسبب التجارة فأما ما يلزم بسبب الجناية لا يكون الآخر كفيلا به.
ألا ترى أنه لو ثبتت الجناية بالبينة أو بمعاينة السبب لم يكن على الشريك شيء من موجبه ولا خصومة للمجني عليه معه فذلك لا يحلفه عليه لأن الاستحلاف لرجاء النكول وإقراره بالجناية على شريكه باطل وكذلك المهر والجعل في الخلع والصلح من جناية العمد إذا ادعاه على أحدهما وحلفه عليه ليس له أن يحلف الآخر لما بينا.
قال: وإن ادعى على أحد المتفاوضين مالا من كفالة وحوله عليه فله أن يحلف شريكه(11/354)
ص -166- ... عليه أيضاً: في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ليس له ذلك. وأصل المسألة أن أحد المتفاوضين إذا كفل بمال فإن ذلك يلزم شريكه في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزم شريكه وجه قولهما أن الكفالة تبرع بدليل أنه لا يصح ممن ليس من أهل التبرع كالمأذون والمكاتب وأنه إذا حصل من المريض كان معتبرا من ثلاثة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه بالتجارة دون التبرع ألا ترى أن الهبة والصدقة من أحدهما لا تصح في حق شريكه فكذلك الكفالة ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان:
أحدهما: أن الكفالة من مقتضيات المفاوضة فإن كل واحد من المتفاوضين يكون كفيلا عن صاحبه كما يكون وكيلا عن صاحبه فيما يجب على أحدهما بالكفالة دين واجب بما هو من مقتضيات المفاوضة فيكون ملزما شريكه كما لو توكل أحدهما عن إنسان بشراء شيء كان شريكه مطالباً بثمنه.
والثاني: أن الكفالة تبرع في الابتداء ولكنها إذا صحت انقلبت مفاوضة؟ ألا ترى أن الكفيل يرجع بما يؤدي على المكفول عنه إذا كفل بأمره وقد صحت الكفالة هنا والذي كفل صار مطالبا بالمال ولما صحت الكفالة انقلبت مفاوضة وما يوجب على أحدهما بمفاوضة مال بمال يطالب بها الشريك كالدين الواجب بالشراء بخلاف كفالة المديون والمكاتب والمأذون والمريض فيما زاد على الثلث فإن ذلك غير صحيح أصلا فلا يكون مفاوضة وقد يجوز أن يكون تبرعا في الابتداء مفاوضة في الانتهاء كالهبة بشرط العوض فإنه تبرع في الابتداء ثم إذا اتصل به القبض من الجانبين كان مفاوضة وإذا ثبت أن كفالة أحدهما يلزم شريكه عند أبي حنيفة رضي الله عنه.(11/355)
قال: يحلف الشريك على دعوى الكفالة بالمال لأنه لو أقر به لزمهما جميعا فإذا أنكر يستحلف عليه لأنه مطالب بالمال لو ثبتت الكفالة على شريكه بالبينة فيستحلف عليه إذا أنكر بخلاف المهر والأرش لأنه غير مطالب به وإذا ثبت السبب على شريكه بالبينة فلا يستحلف عليه أيضا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لو ثبتت الكفالة على شريكه بالبينة لم يكن هو مطالبا بالمال فلا يستحلف عليه أيضا قال وإن كانت الكفالة من أحدهما بالنفس لم يلزم شريكه ولا يستحلف على ذلك إذا أنكره بالاتفاق لأن الكفالة بالنفس ليست بمال ولا يتحقق فيه معنى المفاوضة بحال فحكمه مقتصر على من باشر سببه لأن كفالة كل واحد منهما عن صاحبه بالمال الذي يحتمل الشركة والكفالة بالنفس لا تحتمل الشركة.
قال: ولا تجوز المفاوضة بين المسلم والذمي في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال: أبو يوسف رحمه الله: يجوز ذلك وهي مكروهة.ووجه قوله: إن كل واحد منهما من أهل الوكالة والكفالة على الإطلاق فتصح المفاوضة بينهما كالمسلمين والذميين وهذا(11/356)
ص -167- ... لأن مقتضى المفاوضة والكفالة والوكالة فإنما تشترط أهلية كل واحد منهما في ذلك ثم كل واحد منهما مالك للتصرف بنفسه فكان كل واحد منهما من أهل المفاوضة ألا ترى أن المفاوضة تصح بين الذميين والمسلمين فكذلك تصح بين المسلم والذمي ولا معتبر بتفاوتهما في التصرف من حيث أن المسلم لا يتصرف في الخمر والخنزير والذمي يتصرف في ذلك وهذا لأن الذمي الذي هو شريك المسلم مفاوضة لا يتصرف عندي في الخمر والخنزير ثم لا معتبر بالمساواة في التصرف ألا ترى أن المفاوضة تصح بين الكتابي والمجوسي والمجوسي يتصرف في الموقوذة لأنه يعتقد فيها المالية والكتابي لا يفعل وكذلك المفاوضة تصح بين حنفي المذهب وشافعي المذهب وإن كان الحنفي يتصرف في المثلث النبيذ لأنه يعتقد فيه المالية وشافعي المذهب يتصرف في متروك التسمية عمدا لأنه يعتقد فيها المالية. ثم هذا التفاوت لا يمنع صحة المفاوضة بينهما فكذلك المسلم والذمي وهما يقولان مبنى المفاوضة على المساواة ولا مساواة بين المسلم والذمي في التصرف ولا في محل التصرف وهو المال فإن الخمر والخنزير مال متقوم في حق أهل الذمة يجوز تصرفهم فيها بيعا وشراء وسلما في الخمر وهي ليست بمال في حق المسلم فتنعدم المساواة بينهما وبدون المساواة لا تكون الشركة مفاوضة ألا ترى أن المفاوضة لا تصح بين الحر والعبد لانعدام المساواة بينهما قال قوله بأنه لا يتصرف في الخمر والخنزير إذا كان مفاوضا للمسلم قلنا المعنى الذي لأجله كان ينفذ تصرفه في الخمر والخنزير إذا كان مفاوضا للمسلم هو اعتقاد المالية والتقوم فيه وذلك لا ينعدم بالمفاوضة مع المسلم فلا بد من القول بنفوذ التصرف عليه وهذا بخلاف المفاوضة بين الكتابي والمجوسي لأن من يجعل الموقوذة مالا متقوما في حقهم لا يفصل بين الكتابي والمجوسي فيتحقق المساواة بينهما في التصرف.(11/357)
فإن قيل: لا يتحقق المساواة فإن الكتابي يؤاجر نفسه للذبح والتضحية والمجوسي لا يؤاجر نفسه لذلك لأن ذبيحته لا تحل.
قلنا: لا كذلك بل كل واحد منهما أن يتقبل ذلك العمل على أن يقيمه بنفسه أو بنائبة وإجارة المجوسي نفسه للذبح صحيح يستوجب به الأجر وإن كان لا تحل ذبيحته فأما بين الحنفي والشافعي تتحقق المساواة لأن الدلالة قامت على أن متروك التسمية عمدا ليس بمال متقوم ولا يجوز التصرف فيه من الحنفي والشافعي جميعا لثبوت ولاية الإلزام بالمحاجة له والدليل فيتحقق المساواة بينهما في المال والتصرف وإنما كرهه أبو يوسف رحمه الله لأن في المفاوضة الوكالة ويكره للمسلم توكيل الذمي بالتصرف له.
قال: ولا تجوز المفاوضة بين الحر والعبد ولا بين العبدين ولا بين الحر والمكاتب ولا بين المكاتبين ولا بين الصبيين وإن أذن لهما أبوهما" لأن مبنى المفاوضة على الكفالة فإن كل واحد من المتفاوضين يكون كفيلا عن صاحبه والعبد والمكاتب والصبي ليسوا من أهل الكفالة فلهذا لا يجوز المفاوضة بينهما لأن كل واحد منهما غير مالك للتصرف بنفسه فإن العبد(11/358)
ص -168- ... يحجر عليه مولاه والصبي يحجر عليه وليه والمكاتب يعجز فيرد في الرق والمقصود من المفاوضة التصرف والاسترباح فإذا لم يكن كل واحد منهما مالكا للتصرف بنفسه لا تجوز المفاوضة بينهما ثم تكون الشركة بينهما عنانا في هذه المواضع لأنهما أهل الشركة وإنما فسدت المفاوضة خاصة فيبقى العنان وقد بينا أن العنان قد يكون عاما وقد يكون خاصاً.
قال: وإن تفاوض الذميان جاز ذلك وإن كان أحدهما نصرانيا والآخر مجوسيا لأن المساواة بينهما في الملك والتصرف تتحقق وكل واحد منهما من أهل الوكالة والكفالة فصحت المفاوضة بينهما.
قال: وإن شارك المسلم المرتد شركة عنان أو مفاوضة فهو موقوف عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب بطل وإن أسلم جاز لأن من أصله أن التصرفات تتوقف بالردة على أن ينفذ بالإسلام أو تبطل إذا قتل أو لحق بدار الحرب والشركة من جملة تصرفاته فأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله شركة العنان منه صحيحة لأن من أصلهما أن تصرف المرتد بعد ردته قبل لحاقه بدار الحرب نافذ فإن قتل أو لحق بدار الحرب انقطعت الشركة لأن في القتل موتا ولحوقه بدار الحرب كموته والموت مبطل للشركة وأما المفاوضة فعلى ما قال أبو حنيفة رحمه الله لا يرد به توقف أصل الشركة عندهما بل المراد توقف صحة المفاوضة فأما أصل الشركة صحيح عندهما وإنما توقف صفة المفاوضة عند محمد رحمه الله لأن المرتد عنده في التصرفات كالمريض وكفالة المريض مرض الموت معتبرة من ثلثه فلا يكون المرتد من أهل الكفالة المطلقة إلا أن يسلم فلهذا توقف صفة المفاوضة على إسلامه وعلى أصل أبي يوسف الكفالة وإن كانت تصح من المرتد لأنه بمنزلة الصحيح في التصرف إلا أن نفسه توقف بين أن تسلم له بالإسلام أو يتلف عليه إذا أصر على الردة فيكون في معنى المكاتب من هذا الوجه والمكاتب ليس من أهل المفاوضة فلهذا توقف المفاوضة منه.(11/359)
قال: وإن شارك المسلم المرتدة شركة عنان أو شركة مفاوضة جازت شركة العنان ولم تجز شركة المفاوضة إلا أن يسلم لأن تصرف المرتدة نافذ فإن المال باق على ملكها لأن نفسها لم تتوقف بالردة حتى لا تقبل فكذلك في مالها إلا أنها كافرة فهي كالذمية ومن أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن المفاوضة لا تصح بين المسلمة والذمية وتصح شركة العنان وهي مكروهة فكذلك في حق المرتدة.
قال: وينبغي في قياس قول أبي يوسف أن تكون المفاوضة جائزة مع الكراهة لأنه يجوز المفاوضة بين المسلمة والذمية فكذلك بين المسلمة والمرتدة وذكر عيسى بن أبان عن أبي يوسف رحمهما الله أن مفاوضتهما تتوقف كما تتوقف مفاوضة المرتد مع المسلم لأنها وإن كانت لا تقبل فإنها تسترق وإذا ألحقت بدار الحرب فنفسها موقوفة من هذا الوجه فلهذا تتوقف مفاوضتهما.(11/360)
ص -169- ... قال: ولأحد المتفاوضين أن يكاتب عبدا من تجارتهما لأن المفاوضة في حق شريكه أعم تصرفا من الوصي في حق اليتيم وللوصي أن يكاتب فللمفاوض ذلك بطريق الأولى وبيان هذا أن إقرار أحد المتفاوضين صحيح في حق شريكه وإقرار الوصي بالدين على اليتيم غير صحيح ثم الكتابة من عقود الاكتساب وهو أنفع من البيع لأن البيع يزيل الملك بنفسه والكتابة لا تزيل الملك قبل الأداء وكل واحد من المتفاوضين بمنزلة صاحبه في اكتساب المال وإن كانت الكتابة من التاجر الذي لا يملك شيئا من العبد وهو الأب والوصي صحيحة فصحتها من التاجر الذي يملك نصف العبد وهو المفاوض أولى وإذا ثبت أن لأحدهما أن يكاتب فله أن يأذن لعبده في التجارة بطريق الأولى فإن كل واحد منهما فك الحجر والكتابة لازمة والإذن في التجارة ليس بلازم ولهذا كان للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة وليس له أن يكاتب والإذن في التجارة من صنيع التجارة ومما يقصد به تحصيل المال وكل واحد من المتفاوضين في ذلك يقوم مقام صاحبه.
قال: وليس لأحد المتفاوضين أن يعتق عبدا بمال أو بغير مال لأن ذلك تبرع أما العتق بغير مال فلا إشكال فيه وكذلك العتق بمال لأن ذلك يتعجل زوال الملك عن العبد في الحال والمآل في ذمة مفلسة لا يدري أيقدر على الأداء أو لا يقدر؟ فلم يكن ذلك من عقود الاكتساب فلهذا لا يملك المفاوض في نصيب صاحبه وكذلك لا يزوج عبدا من تركتهما لأنه ليس في تزويج العبد تحصيل المال بل فيه تعييب رقبته من حيث الاشتغال بالمهر والنفقة فلا يملك أحدهما في نصيب شريكه بدون إذنه وله أن يزوج الأمة لأن تزويج الأمة من عقود الاكتساب فإنه يكتسب به المهر وتسقط نفقتها عن نفسه ولهذا يملك الأب والوصي تزويج أمة اليتيم ولا يملكان تزويج عبد اليتيم.(11/361)
قال: وليس لشريك العنان أن يكاتب لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه في التجارة والكتابة ليست من التجارة وما يكون معتادا بين التجار والكتابة ليست من هذه الجملة وكذلك لا يملك أحدهما تزويج الأمة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يملك ذلك وقد بينا هذا في كتاب النكاح.
قال: وإذا كان للمتفاوضين عبد تاجر فأدانه أحدهما دينا من تجارتهما لم يلزمه من ذلك شيء" لأن فعل أحدهما في الإدانة كفعلهما ولأن مالية العبد من شركتهما وما أداناه أو أحدهما فهو من شركتهما أيضا فلا فائدة في الإيجاب في ذمته فلا يشتغل بما لا يفيده شرعاً.
وكذلك في شركة العنان في البيع والشراء كل واحد منهما وكيل صاحبه في البيع بالنقد والنسيئة" والإدانة بيع بالنسيئة ولا فائدة في إيجاب ذلك في ذمته متعلقا بماليته لأن ماليته من شركتهما أما إذا كانا شريكين في عبد لهما خاصة فأذن لهما في التجارة ثم أدانه كل واحد منهما دينا فإنه يلزمه نصف دين كل واحد منهما في حصة الآخر لأن كل واحد منهما من حصة صاحبه كالأجنبي حتى لا يملك التصرف فيه فما أدانه كل واحد منهما نصفه في ملكه(11/362)
ص -170- ... والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا ونصفه في ملك شريكه وهو يستوجب الدين فيه لكونه مقيدا فإنه في ذلك النصف كأجنبي آخر ويجعل كل نصف من العبد كعبد على حدة ومن أدان عبده وعبد غيره يثبت من دينه ما يخص عبد غيره دون ما يخص عبده.
قال: وإن كان العبد التاجر بين المتفاوضين فباعه أحدهما ثوبا من ميراث ورثه لزمه نصف ذلك الدين في نصيب الآخر لأن ما أدانه ليس من شركتهما وفيما ليس من شركتهما كل واحد منهما من صاحبه كالأجنبي.
قال: ولو كان العبد ميراثا لأحدهما فأذن له الآخر في البيع والشراء لم يجز" لأن العبد ليس من شركتهما فإذن صاحبه له في التجارة كإذن أجنبي آخر فإن أذن له مولاه ثم أدانه الآخر دينا من ميراثه خاصة لزمه ذلك كما لو أدانه أجنبي آخر لأن ما أدانه ليس من شركتهما وإن أداناه من التجارة لزمه نصف ذلك لأن فعل أحدهما في الإدانة من مال التجارة كفعلهما فلا يجب عليه نصيب الإذن لأنه ملكه ولا يستوجب المولى الدين على عبده ويلزمه نصيب الآخر لأنه أجنبي عن ماليته.(11/363)
قال: وإذا استأجر أحد المتفاوضين أجيرا في تجارتهما أو دابة أو شيئا من الأشياء فللمؤجر أن يأخذ بالأجر أيهما شاء لأن الإجارة من عقود التجارة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بما يلزمه بالتجارة وكذلك إن استأجره لحاجة نفسه أو استأجر إبلا لحج إلى مكة فحج عليها فللمكري أن يأخذ به أيهما شاء إن شاء المستأجر بالتزامه بالعقد وإن شاء شريكه بكفالته عنه إلا أن شريكه إذا أدى ذلك من خالص ماله يرجع به عليه لأنه أدى ما كفل عنه بأمره وإن أدى من مال الشركة يرجع عليه بنصيبه من المؤدى وهو النصف وأما في شركة العنان فلا يؤاخذ به غير الذي استأجره لأنه هو الملتزم بالعقد وصاحبه ليس بكفيل عنه فإن شركة العنان لا تتضمن الكفالة وإن أدى العاقد من مال الشركة رجع شريكه بنصف ذلك عليه إذا كان استأجره لخاصة نفسه وإن كان استأجره لتجارتهما وأدى الأجر من خالص ماله رجع على شريكه بنصفه" لأنه وكيل عن صاحبه في هذا الاستئجار وقد أدى الأجر من مال نفسه ولو كانت الشركة بينهما في شيء خاص شركة ملك لم يرجع على صاحبه بشيء مما أدى لأنه ليس بوكيل عن صاحبه في هذا الاستئجار.
قال: ولو أجر أحد المتفاوضين عبدا من تجارتهما كان للآخر أن يأخذ الأجر لأن كل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما يجب لهما بالتجارة وفعل أحدهما كفعل صاحبه وللمستأجر أن يأخذه بتسليم العبد لأن التسليم مضمون على الآخر والآخر مطالب عنه بكفالته بما يلتزمه بالتجارة وإن أجر أحدهما عبدا له خاصة من الميراث لم يكن للآخر أن يأخذ الأجر لأنه بدل ما ليس من شركتهما ألا ترى أنه لو باع هذا العبد لم يكن للآخر أن يأخذ الثمن وحكم المنفعة حكم العين ولم يكن للمستأجر أن يأخذه بتسليم العبد لما بينا أن فيما ليس من شركتهما كل واحد من صاحبه كالأجنبي ولا تفسد المفاوضة وإن كان الأجر دراهم أو دنانير حتى(11/364)
ص -171- ... يقبضها لأن أحدهما إنما فضل صاحبه بملك دين والدين لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فإذا قبضها فسدت المفاوضة لأنه اختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وذلك بعدم المساواة وكذلك كل شيء مما هو له خاصة باعه فليس لشريكه أن يطالب به ولا تفسد المفاوضة ما لم يقبض الثمن فإذا قبض وكان من النقود فسدت المفاوضة لما قلنا.
قال: ولأحد المتفاوضين أن يشارك رجلا شركة عنان ببعض مال الشركة فيجوز عليه وعلى شريكه كان بإذنه أو بغير إذنه" وإن شاركه شركة المفاوضة بإذن شريكه فهو جائز عليهما كما لو فعلا ذلك وإن كان بغير إذنه لم تكن مفاوضة وكانت شركة عنان وقد بينا اختلاف الروايات في هذا الفصل ويستوي إن كان الذي شاركه أباه أو ابنه أو أجنبيا عنه لأن حكم الشركة واحد فلا يمكن التهمة فيه بسبب القرابة وذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن أحد شريكي العنان إذا شارك إنسانا آخر شركة المفاوضة فإن كان ذلك بمحضر من شريكه تصح مفاوضته وتبطل به شركته مع الأول وإن كان بغير محضر من شريكه لم تصح مفاوضته لأن مباشرته المفاوضة مع الثاني نقص منه لشركة العنان مع الأول فإن المساواة بينهما لا تتحقق إلا به ونقص أحد الشريكين الشركة بمحضر من صاحبه صحيح وبغير محضر منه باطل.
قال: وإذا أجر أحد المتفاوضين نفسه لحفظ شيء أو خياطة ثوب أو عمل معلوم بأجر واكتسب بهذا الطريق فهو بينهما لأنه إنما يستوجب الأجر لتقبل ذلك العمل وهو صحيح منه في حق صاحبه" فما يكتسب به يكون بينهما ويجعل فعل أحدهما فيه كفعلهما بخلاف ما إذا أجر نفسه للخدمة لأن البدل هناك يستوجبه بتسليم النفس ونفسه ليست من شركتهما فهو بمنزلة ما لو أجر عبدا له ميراثاً. وأما شريك العنان إذا اكتسب بتقبل العمل وليس ذلك من شركتهما فإنه يكون له خاصة ولأنه وكيل صاحبه في التصرف في مال الشركة وتقبل هذا العمل ليس بتصرف منه في مال الشركة وكان شريكه في ذلك كأجنبي آخر.(11/365)
قال: ولأحد المتفاوضين أن يرهن عبدا من مال المفاوضة بدين من مال المفاوضة وبدين عليه خاصة من مهر أو غيره بغير إذن شريكه لأن المقصود من الرهن قضاء الدين فإن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن وله أن يوفي من مال الشركة هذا الدين وكذلك يرهن به إلا أنه إذا هلك الرهن حتى صار المرتهن مستوفيا للدين فإن كان الدين من شركتهما فلا ضمان عليه وإن كان الدين عليه خاصة يرجع شريكه عليه بنصف ذلك لأنه قضى دينا عليه من مال مشترك وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين فلا ضمان عليه في الزيادة لأن الزيادة على قدر الدين أمانة في يد المرتهن فإن لأحد المتفاوضين أن يودع ولأن الأب لو رهن بدين الولد عينا قيمته أكثر من الدين لم يكن ضامنا للزيادة وكذلك المفاوض وإن رهن عبدا له خاصة بدين من المفاوضة وقيمته مثل الدين فهلك فهو بما فيه ويرجع بنصفه على شريكه لأنه صار قاضيا دين المفاوضة بخالص ملكه وهو في نصيب صاحبه وكيل عنه فيرجع عليه بما أدى من دينه من خالص ملكه.(11/366)
ص -172- ... قال: وإن كان الدين من تجارتهما على رجل فارتهن أحدهما به رهنا جاز سواء كان هو الذي ولى المبايعة أو صاحبه لأن كل واحد منهما قائم مقام صاحبه في استيفاء الدين الواجب بالتجارة وكذلك في الارتهان به وأما في شركة العنان فلا يجوز لأحدهما أن يرهن شيئا من الشركة بدين عليه خاصة إلا برضا صاحبه كما ليس له أن يوفي ذلك الدين من مال الشركة لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه في التجارة في ذلك المال له في لا صرفه إلى حاجة نفسه.
قال: ولا يجوز أن يرتهن رهنا بدين لهما من الشركة على رجل إلا أن يكون هو الذي ولى المبايعة أو يأمر من وليها منهما اعتبارا للارتهان بالاستيفاء وليس له حق المطالبة بالاستيفاء لما وليه صاحبه إلا بإذنه فكذلك الارتهان وهذا لأن الاستيفاء من حقوق العقد فيكون إلى العاقد وكيلا كان أو مالكاً.
قال: ولا يجوز لأحدهما أن يرتهن رهنا بدين ولياه جميعا لأن فيما وجب بعقد صاحبه هو لا يملك الاستيفاء فلا يصح ارتهانه به ولو جاز في نصيبه كان مشاعا والشيوع يمنع صحة الرهن فإن فعل وهلك الرهن وقيمته مثل الدين ذهب نصف الدين وضمن نصف الرهن في ماله خاصة لأن الفاسد من الرهن معتبر بالجائز في حكم الضمان فكما أن المقبوض بحكم الرهن الجائز يكون مضمونا بقدر الدين فكذلك المقبوض بحكم الرهن الفاسد.(11/367)
وطعن عيسى رحمه الله في هذه المسألة وقال الصحيح أن يذهب نصف الدين ولا يضمن شيئا آخر لأنه في نصيب صاحبه أجنبي وضمان الرهن ينبني على يد الاستيفاء فإذا لم تثبت له يد الاستيفاء في نصيب صاحبه لا يثبت الضمان في ذلك النصف كمن ارتهن بدين لرجل على آخر أن يكون هو عدلا فيه إن أجازه صاحب الدين ضمنه وإن لم يجزه فلا شيء عليه فهلك الرهن في يده قبل أن يجيزه صاحب الدين لم يضمن القابض شيئا وما ذكره في الكتاب أصح لأنه قبض الرهن هنا على جهة استيفاء الدين فلا يكون صاحبه راضيا بالتسليم إليه بدون هذه الجهة وفي مسألة العدل بشرط أنه لم يخبر صاحبه فلا شيء عليه وباعتبار هذا الشرط يتحقق رضا صاحب الرهن بقبضه لا على وجه الاستيفاء فلهذا لا يضمن شيئا ثم يكون للآخر أن يطالب المديون بنصيبه من الدين لأنه لم يصر نصيبه من الدين مستوفى بهلاك الرهن.
قال: وإقرار أحد المتفاوضين بالرهن والارتهان جائز كما يصح إقراره بالإيفاء والاستيفاء لأن كل واحد منهما قائم مقام صاحبه في ذلك ومن ملك مباشرة الشيء بالإقرار به لانتفاء التهمة فإن أقر بذلك بعد التصرف أو موت أحدهما لم يجز إقراره على صاحبه لأن الشركة قد انقطعت بينهما وقيامه مقام صاحبه في الإقرار كان بحكم الشركة فلا يبقى بعد انقطاع الشركة بينهما.
قال: ويجوز إقرار شريك العنان بالارتهان فيما تولاه عليه وعلى شريكه لأن حق القبض إليه فيما تولى سببه فكما يجوز إقراره بالاستيفاء في نصيبه ونصيب صاحبه فكذلك إقراره بالارتهان وفيما وليه صاحبه ولا يجوز إقراره بالاستيفاء في نصيب صاحبه ويجوز في نصيبه(11/368)
ص -173- ... استحسانا لأن الموكل إذا أقبض الثمن بتسليم المشتري إليه صح قبضه استحسانا وكذلك إقراره بالاستيفاء حقيقة أو بالارتهان يكون صحيحا في نصيبه دون نصيب صاحبه.
قال: وما غصبه المفاوض أو استهلكه أو عقد دابة أو أحرق ثوبا فلصاحبه أن يضمن أيهما شاء وقد بينا هذا إلا أن حاصل الضمان يكون على الفاعل خاصة حتى لو أدى الآخر من مال الشركة رجع عليه بنصفه إلا أن هذا الفعل لم يكن هو فيه قائما مقام شريكه ولا مأذونا له من جهته فيه فإن الغصب ليس بتجارة وبثبوت الملك في المغصوب يتحقق شرط تقرر الضمان فأما الواجب ضمان الفعل فيكون على الفاعل خاصة وإذا أدى غيره عنه بحكم الكفالة رجع عليه بخلاف الشراء الفاسد فإن الضمان الواجب به ضمان العقد والفاسد من العقد معتبر بالجائز فكما أن ما يجب بالصحيح من التجارة يكون عليهما وإذا أداه أحدهما من مال الشركة لم يرجع به على صاحبه فكذلك ما يجب بالشراء الفاسد.
قال: ولو كان عند أحدهما وديعة فعمل بها أو كانت مضاربة فخالف فيها كان الربح لهما لأن حصول الربح بطريق التجارة وفعل أحدهما فيه كفعلهما ولصاحبه أن يضمن أيهما شاء لمعنى الكفالة بينهما كما في ضمان الغصب والاستهلاك.
قال: وإذا غصب شريك العنان شيئا أو استهلكه لم يؤخذ به صاحبه لأن على صاحبه ليس بكفيل عنه وإن اشترى شيئا شراء فاسدا فهلك عنده ضمنه ورجع على صاحبه بنصفه لأنه وكيل صاحبه بالشراء وما يجب على الوكيل بالشراء الفاسد والصحيح يستوجب الرجوع به على صاحبه لأنه عامل له بأمره فإن مطلق التوكيل يتناول الجائز والفاسد من التصرف.(11/369)
قال: ولو كفل أحد المتفاوضين عن رجل بمهر أو بأرش جناية فهو بمنزلة كفالته بدين آخر لا يؤاخذ به شريكه في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يؤاخذ به لأن الواجب على المفاوض بسبب الكفالة لا بسبب النكاح والجناية والأرش والمهر في حقهما كسائر الديون بخلاف المهر والأرش الواجب على أحد المتفاوضين فإن وجوب ذلك بسبب النكاح والجناية والشريك غير متحمل فيه ما يجب لهذا السبب ولهذا لا يؤاخذ واحد من المتفاوضين بنفقة امرأة شريكه ولا متعتها ولا بنفقة يفرضها الحاكم عليه لذوي أرحامه لأن وجوب ذلك بسبب لا يحتمل الشركة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يجب باعتبار سبب يحتمل الشركة.
قال: وإن أقر أحد المتفاوضين بدين عليه لامرأته غير المهر من شراء أو قرض لم يلزم شريكه منه شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله ويلزم المفاوض المقر خاصة وكذلك إقراره لكل من لا تجوز شهادته له من آبائه وأولاده وعبيده ومكاتبيه في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما إقراره لهؤلاء جائز عليهما ما خلا عبده ومكاتبه وأصل المسألة في الوكيل بالبيع أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يبيع بمطلق الوكالة من واحد من هؤلاء وعندهما يجوز بيعه من هؤلاء إلا من عبده ومكاتبه فمن أصلهما أن الأملاك(11/370)
ص -174- ... بينهما متباينة فيكون لكل واحد منهما ولاية إيجاب الحق لصاحبه في ملك الغير عند تسليط من له الحق كما في حق الأجانب ولا يكون منهما في ذلك باعتبار ما بينهما من القرابة بخلاف العبد فكتبه ملك هؤلاء وللمولى حق الكسب في ملك المكاتب فلا يكون متهما في حق نفسه فكذلك في حق مكاتبه وعبده وبخلاف الشهادة فإن التسليط ممن له الحق غير موجود هناك إذا ثبت هذا في التوكيل فكذلك في الإقرار أو كل واحد من المتفاوضين يوجب الحق للمقر له في مال صاحبه بتسليطه فامرأته وأبوه في ذلك كأجنبي آخر وأبو حنيفة رحمه الله يقول هو متهم في حق هؤلاء بدليل أن شهادته لهم لا تصح موجبة للحكم والإنسان إنما يملك الحق للغير في مال الغير عند تسليطه بصفة الأمانة فلا يملك في حق هؤلاء لتمكن تهمة الميل إليهم كما في حق العبد والمكاتب ولكن هذه التهمة في نفوذ إقرار المفاوض على شريكه لا في نفوذ إقراره على نفسه فلهذا لزم المال المقر خاصة.
قال: وكذلك لو أقر لامرأته وهي بائنة معتدة منه. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يجوز إقراره لها في حق شريكه وأصله في الشهادة فإنه إذا شهد للمباينة وهي تعتد منه قبلت الشهادة في رواية الحسن رحمه الله لانقطاع السبب الممكن للتهمة وهو النكاح كما بعد انقضاء العدة وفي ظاهر الرواية لا تقبل شهادته لها لأن العدة حق من حقوق النكاح فبقاؤها كبقاء أصل النكاح ألا ترى أن في نكاح أختها وأربع سواها جعلت هذه العدة كالنكاح.
وكذلك في استحقاق النفقة والسكنى ووقوع طلاقه عليها فكذلك في المنع من قبول شهادته لها وفي امتناع صحة إقراره لها في حق الشريك.(11/371)
قال: ولو كان النكاح فاسدا وقد دخل بها فإن أقر لها بمهرها لم يلزم شريكه لأن وجوب المهر بسبب لا يحتمل الشركة فاسدا كان النكاح أو صحيحا وإن أقر لها بدين غير المهر لزمهما جميعا لأن هذه العدة ليست من حقوق النكاح ولكنها تجب لاشتغال الرحم بالماء ألا ترى أنها لا تستحق النفقة والسكنى باعتبارها وأنه لا يقع عليها طلاقه.
وكذلك لو أعتق أم ولده ثم أقر لها بدين لزمهما جميعا وإن كانت في عدته لأن هذه العدة ليست من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تستحق النفقة والسكنى باعتباره وكذلك لا تمنع من الخروج والسوق في هذه العدة بخلاف عدة النكاح وأنه لا يقع عليها طلاقه وللمولى أن يتزوج أربعا سواها في هذه العدة بخلاف عدة النكاح فلهذا كانت كالأجنبية في حكم الشهادة والإقرار لها حتى يثبت المقر به في حقهما ويجوز إقراره عليهما جميعا لأم امرأته وولدها من غير اعتبار الإقرار بالشهادة قال: ولا يجوز إقرار المرأة المفاوضة بالدين لزوجها على شريكها كما لا يجوز شهاداتها له" ويجوز إقرارها بالدين لأبوي زوجها وولده من غيرها عليها وعلى شريكها كما يجوز شهادتها.
قال: وإذا اعتق أحد المتفاوضين عبدا من شركتهما فالقول فيه كالقول في غير المفاوض(11/372)
ص -175- ... لأن العتق ليس مما تقتضيه المفاوضة وقد بينا حكم إعتاق أحد الشريكين العبد المشترك في كتاب العتاق.
قال: وإذا افترق المتفاوضان ثم قال أحدهما كنت كاتبت هذا العبد في الشركة لم يصدق على ذلك لأنه أقر على صاحبه بما لا يملك إنشاءه في الحال وصحة إقرار المقر في حق الغير باعتبار ملكه للإنشاء ولكن إقراره في نصيب نفسه صحيح فيكون ذلك كإنشاء مكاتبته وليس لشريكه أن يرده لدفع الضرر عن نفسه بعد ما يحلف على علمه لأنه لو أقر بما أقر به على شريكه صار العبد كله مكاتبا فإذا أنكر يستحلف عليه ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم فيحلف بالله ما يعلم أنه كاتب في المفاوضة وكذلك إن أقر أنه أعتقه في الشركة معناه أن إقراره يصح في نصيب نفسه خاصة ولا يشتغل باستحلاف الآخر هنا لأنه لو أنشأ العتق في حال بقاء الشركة لم ينفذ في نصيب شريكه فكذلك إذا أقر به بعد الافتراق بخلاف الكتابة.
قال: فإذا تفرقا وأشهد كل واحد منهما على صاحبه بالبراءة من كل شركة ثم قال أحدهما قد كنت أعتقت هذا العبد في الشركة وقد دخل نصف قيمته فيما ترتب إليك مرة فصدقه الآخر في عتقه وقال كنت اخترت استسقاء العبد فالقول قول الذي لم يعتق لأن الخيار إليه في تعيين محل حقه فلا يملك المقر إبطال هذا الحق عليه ولأن مالية نصف العبد عرفناه حقا له والمقر يريد إسقاط حقه بما ذكر فلا يقبل قوله إلا بحجة وعلى المنكر اليمين فإذا حلف كان له أن يستسقي العبد في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا شيء له على الشريك لإقراره أنه باختيار الاستسقاء وذلك موجب براءة المعتق عن الضمان بالبراءة.(11/373)
قال: فإن قال: قد كنت اخترت ضمانك فقد بريء من الضمان بالبراءة لأنه حقه تقرر في ذمته بزعمه وبرئ العبد من ذلك وقد صار مبرئا شريكه بالإشهاد على البراءة من كل شركة وإن قال ما كنت اخترت شيئا فأنا على خياري كان القول قوله لأن الخيار كان ثابتا له والاختيار حادث من قبله فإذا أنكره كان القول قوله ولكن له أن يستسقي العبد وليس له أن يضمن الشريك لأجل البراءة فإنه لو تقرر ضمان نصيبه في ذمته باختياره تضمينه سقط ذلك بالإشهاد على البراءة فقيل تقرر الضمان لأن يستفيد البراءة منه بالإشهاد على البراءة أولى وإذا سقط حقه في تضمينه تعين في استسقاء العبد كما لو أعتقه برضاه وإن أقام المقر البينة أنه قد كان اختار ضمانه جعل الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فيبرأ هو من ذلك ولا شيء على العبد وإن قال الشريك لم يعتقه إلا بعد الفرقة كان القول قوله أيضا لأن الإعتاق حادث فيحال به على أقرب الأوقات ولا يصدق المقر في الإسناد إلا بحجة فإن أقام المعتق البينة أنه أعتقه في المفاوضة وضمن له نصف قيمته وأقام الآخر البينة أنه أعتقه بعد الفرقة واختار سقاية العبد فالبينة بينة المعتق وبرئ هو والعبد من نصف قيمته لأنه أثبت بينته بسبق التاريخ في الإعتاق وأبقى ما لزمه من الضمان به والتشريك ببينته يبغي ذلك والبينات للإثبات فترجح بزيادة الإثبات.(11/374)
ص -176- ... قال: ولو أقر أحدهما أنه كاتب عبدا على ألف درهم في الشركة وقبضها منه ومات العبد فقد دخل فيما برئت إليك منه.
وقال الآخر: بل كاتبته بعد الفرقة فالقول قول الذي لم يكاتب" لأن المكاتب يدعى سبق التاريخ في عقده فلا يصدق إلا بحجة والقول قول المنكر مع يمينه على علمه فإذا حلف يأخذ نصف الألف من المقر لأنه أخذه من كسب العبد وقد كان مشتركا بينهما بعد الفرقة وإن كان العبد مات وترك مالا كثيرا فقال المكاتب كاتبته بعد الفرقة وأنا وارثه وقال الآخر كاتبته في المفاوضة ونحن وارثاه جميعا ولم يرد المكاتب شيئا بعد فالقول قول الذي لم يكاتب لأن ملكه في نصف المكاتب كان ظاهرا وذلك يوجب الملك له في نصف الكسب فالشريك بما قال يدعي بملك ذلك عليه فعليه البينة وهو منكر ذلك فالقول قول الذي لم يكاتب مع يمينه فإذا حلف كان مكاتبا بينهما وقد مات فيأخذ أن المكاتبة من تركته والباقي ميراث قال لأن ولاءه لهما.(11/375)
قال: ولو مات المتفاوضان واقتسم الورثة جميع ما تركا ثم وجدوا مالا كثيرا فقال أحد الفريقين كان هذا في قسمنا لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة لأنهم تصادقوا على إن هذا المال كان مشتركا في الأصل فدعوى أحد الفريقين للاختصاص به بعد ذلك لا يقبل في حق الآخر إلا بحجة وعلى الفريق الآخر اليمين فإذا حلفوا كان بينهما نصفين وإن كان في أيديهم صدقوا إن كانوا قد أشهدوا بالبراءة لأن سبب اختصاصهم بما في أيديهم قد ظهر وهو الإشهاد بالبراءة العامة وإن كانوا لم يشهدوا بالبراءة فهو بينهم جميعا بعد ما يحلف الآخرون ما دخل هذا في قسم هؤلاء لأنا عرفناه مشتركا في الأصل فإنما يستحق ذو اليد باعتبار يده ما لم نعلم فيه حقا لغيره فأما إذا كان معلوما فلا يستحق باعتبار يده بل بالإشهاد على البراءة وذلك غير موجود وهذا لأن دعوى البعض فيما في يد الغير كدعوى الدين في ذمته وبعد الإشهاد على البراءة المطلقة لا تسمع منه دعوى ما في ذمته مطلقا فكذلك لا تسمع منه دعوى ما في يده بخلاف ما قبل الإشهاد على البراءة.
قال: ولو كان في يد أحد الفريقين مال فقالوا هذا لأبينا قبل المفاوضة لم يصدقوا على ذلك لأنهم قائمون مقام مورثهم ولو ادعى المورث ذلك في حياته لم يسمع ذلك منه وكان ما في يده بينه وبين صاحبه نصفين كما هو مقتضى المفاوضة فكذلك دعوى الورثة بعده فإن كانوا قد أشهدوا بالبراءة مما كان في الشركة ثم أقروا بهذا وللفريق الآخر نصفه لأن الإقرار حجة في حق المقر وقد زعموا أن هذا ما لم يتناوله البراءة لأنه لم يكن من الشركة وكان حكم هذا المال بعد الإشهاد على البراءة كما قبله وإن كانت البراءة مما كان في الشركة وغيره فلا حق لهم فيه لأنه دخل في البراءة بهذا اللفظ سواء كان من شركتهما أو من غير شركتهما.(11/376)
قال: وكل ما اشترى أحد المتفاوضين من التجارة وغيرها فهو بينه وبين شريكه إلا أني أستحسن في كسوته وكسوة عياله وقوتهم من الطعام والإدام أن يكون له خاصة دون شريكه(11/377)
ص -177- ... لأن مقتضى المفاوضة المساواة وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف وكان شراء أحدهما كشرائهما جميعا والقياس في الطعام والكسوة والإدام كذلك فإن شراء ذلك من عقود التجارة ولكنه استحسنه فقال هذا مستثنى من قضية المفاوضة لأن كل واحد منهما حين شارك صاحبه كان عالما بحاجته إلى ذلك في مدة المفاوضة ومعلوم أن كل واحد منهما لم يقصد بالمفاوضة أن تكون نفقته ونفقة عياله على شريكه وقد كان يعلم أنه لا يتمكن من تحصيل حاجته من ذلك إلا بالشراء فصار كل واحد منهما مستثنيا هذا المقدار من تصرفه كما هو من مقتضى المفاوضة والاستثناء المعلوم بدلالة الحال كالاستثناء بالشرط ولأن سبب المفاوضة إنما يجب المساوة شرعا فيما يتمكن كل واحد منهما من الوقاية وذلك فيما سوى الطعام والكسوة والإدام فإن اشترى أحدهما شيئا من ذلك كان له خاصة وللبائع أن يطالب بالثمن أيهما شاء لأن المشتري باشر سبب الالتزام والآخر كفل عنه ما لزمه بالشراء بسبب الشركة فإذا أداه أحدهما من مال الشركة رجع المؤدي على المشتري بقدر حصته من ذلك لأن الثمن كان عليه خاصة وقد قضي من مال الشركة وإن كانت الأشياء في يد أحدهما فجحد المفاوضة فقد وقعت الفرقة لجحوده لأن كل واحد منهما ينفرد بفسخ الشركة بمحضر من صاحبه فجحوده يكون فسخا لأنه ينفي بالجحود عقد الشركة بينهما فيما مضى ومن ضرورة ذلك بعينه في الحال وهو ضامن لنصف جميع ما في يده إذا قامت البينة على المفاوضة لأنه كان أمينا في نصيب صاحبه فبالجحود يصير ضامنا كالمودع إذا جحد الوديعة وكذلك لو جحد وارثه بعد موته لأن نصيب الآخر في يد وارث الميت أمانة فبالجحود يصير ضامنا فإن ماتا وأوصى كل واحد منهما إلى رجل فوصى كل واحد منهما يطالب بما ولى موصيه مبايعته لأنه قائم مقام الموصي وقد انقطعت الشركة بموتهما ولا يطالب بالدين إلا من هو قائم مقام الذي ولى المبايعة فإذا قبضه فلا ضمان عليه في ذلك ولا على الورثة(11/378)
بعد أن يكونوا مقرين بالمفاوضة كما لو كان الموصي قبض بنفسه وهو مقر بالمفاوضة كان أمينا في نصيب صاحبه.
قال: وإذا اشترى أحد المتفاوضين جارية لخاصة نفسه ليطأها فإن كان اشتراها بغير أمر شريكه فهي بينهما وليس له أن يطأها لأن هذا الشراء ما صار مستثنى من مقتضى الشركة وأنه ما كان يعلم وقوع الحاجة إليه إلا عند الشركة فيقع على مقتضى الشركة وليس لأحد الشريكين وطء الجارية المشتركة وإن اشتراها بإذن شريكه وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء ويحتسبان به فيما بينهما من حصة الذي اشتراها بمنزلة ما يشتريه من الطعام والكسوة لنفسه وعياله.
وذكر في الجامع الصغير أن الجارية للمشتري بغير شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله وله أن يطأها وأيهما نقد الثمن لم يرجع على صاحبه بشيء منه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أديا الثمن من مال الشركة فللشريك أن يرجع على المشتري بحصته من الثمن فتبين بما ذكر هناك أن الجواب المذكور في كتاب الشركة قولهما وجه قولهما أنه اختص بملكها بالشراء فيلزمه ثمنها لأن الثمن بمقابلة الملك فإذا أداه من مال الشركة رجع شريكه عليه بحصته من(11/379)
ص -178- ... ذلك كما في الطعام والكسوة وهذا لأن اعتبار إذن الشريك ليصير به هذا العقد مستثنى من مقتضى الشركة فإذا وجد التحق بالمستثنى بدون إذنه وهو الطعام والكسوة وأبو حنيفة رحمه الله يقول صار مشتريا الجارية على الشركة وقد نقد الثمن من مال الشركة فلا يرجع عليه شريكه بشيء منه كما لو اشتراها بغير أمر شريكه وهذا لأنهما لا يملكان تغيير مقتضى الشركة مع بقائها ألا ترى أنهما لو شرطا التفاوت بينهما في ملك المشتري لم يعتبر ذلك مع عقد الشركة ولكن تأثير إذن شريكه في تمليك نصيبه من المشتري بعد الشركة فيكون واهبا لنصيبه من شريكه ولو أنهما اشتريا جارية ثم وهب أحدهما نصيبه من صاحبه كانت الجارية له خاصة يطأها والثمن عليهما فهذا مثله يقرره إن أذن الشريك عليهما معتبر فيما لا يثبت بدون إذنه وشراء أحدهما صحيح بدون إذن شريكه وكذلك الملك في المشتري يكون لهما والثمن عليهما بدون إذن الشريك فعرفنا أن اعتبار إذنه في القرار المشتري بملك الجارية ولذلك طريقان إما بنفس الشراء وذلك غير ممكن مع قيام الشركة بينهما وإما بهبة أحدهما نصيبه من صاحبه وذلك ممكن فيجب تحصيل مقصودهما بالطريق الممكن ويجعل هذا الطريق المتعين لتحصيل مقصودهما كتصريحهما به بخلاف الطعام والكسوة لأن ذلك مستثنى من مقتضى الشركة فكان الملك في المشتري للمشتري خاصة بعقد الشراء فلهذا كان الثمن عليه خاصة.
قال: فإن كان اشتراها بأمر صاحبه فوطئها ثم استحقت للمستحق أن يأخذ بالعقد أيهما شاء" لأنه دين وجب على أحدهما بسبب التجارة وهو الشراء فإنه لولا الشراء لكان الواجب عليه الحد بخلاف ما إذا تزوج امرأة فوطئها ثم استحقت لأن وجوب العقر عليه هناك باعتبار النكاح والنكاح ليس من التجارة في شيء والدليل على الفرق أن العبد المأذون يؤاخذ بالعقر بسبب الشراء في الحال ولا يؤاخذ بالعقر بسبب النكاح حتى يعتق.(11/380)
قال: وإذا باع أحدهما جارية من تجارتهما بنسيئة لم يكن لواحد منهما أن يشتريها بأقل من ذلك قبل استيفاء الثمن لأن فعل أحدهما في البيع كفعلهما ولأن أحدهما بائع والآخر تبع له ومن باع أو بيع له لم يجز شراؤه بأقل من الثمن الأول قبل العقد وإن وهب البائع الثمن للمشتري أو أبرأه منه جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن نصيب صاحبه لأنه في نصيب صاحبه وكيل بالبيع والوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن أو وهبه له قبل القبض جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وكان ضامنا مثله للموكل ولم يجز إبراؤه في قول أبي يوسف رحمه الله فكذلك هذا في نصيب الشريك وهذا لأن الهبة والإبراء ليس مما تقتضيه المفاوضة وإن كان الشريك هو الذي وهب الثمن من المشتري جاز في نصفه لأنه مالك لنصيبه فيجوز إسقاط الثمن باعتبار ملكه كالموكل إذا أبرأ المشتري فأما في نصيب البائع الشريك ليس بمالك ولا عاقد فلا تصح هبته وإن أقاله البيع جاز عليه وعلى الذي ولي البيع لأن الإقالة من صنيع التجار فكان من مقتضيات المفاوضة فإن الإقالة كالبيع الجديد ولهذا تصح من الأب والوصي وكذلك يصح من المفاوض والشريك شركة عنان.(11/381)
ص -179- ... قال: ولو أسلم أحد المتفاوضين دراهم في طعام جاز ذلك عليهما لأنه شراء بنسيئة وهو من صنيع التجار ففعل أحد المتفاوضين كفعلهما وكذلك لو تعين أحدهما عينة عينة وصورة العينة أن يشتري عينا بالنسيئة بأكثر من قيمته ليبيعه بقيمته بالنقد فيحصل له المال وهذا من صنيع التجار بفعل أحد المتفاوضين فيه كفعلهما وهذا بخلاف أحد شريكي العنان وقد بينا أن هناك إنما يملك كل واحد منهما الشراء بالنسيئة إذا كان في يده من مال الشركة جنس ذلك الثمن فأما إذا لم يكن فشراؤه بالنسيئة استدانة على المال وولاية الاستدانة لا تستفاد بشركة العنان وتستفاد بالمفاوضة.
قال: ولو قبل أحد المتفاوضين رأس مال أسلم إليه صاحبه في طعام كان جائزا على شريكه لأن قبول السلم من صنيع التجار.
فإن قيل: كيف يصح هذا والتوكيل بقبول السلم لا يصح وكل واحد منهما وكيل في حق صاحبه فإنما ينفذ من تصرفه على صاحبه ما ينفذ من الوكيل على الموكل.
قلنا: هذا في شركة العنان هكذا فأما المفاوضة فكل واحد منهما بمنزلة صاحبه فيما هو من تجارة وقبول السلم من التجارة يوضحه أن قبول السلم تبع ما في ذمته والتزام ضمان ما في الذمة بمال يأخذه فهو بمنزلة ما لو أجر نفسه بعمل من خياطة أو نحوها وقد بينا أن ذلك ينفذ منه في حق شريكه المفاوض حتى يطالب به فكذلك قبول السلم.
قال: وإذا باع أحد المتفاوضين عبدا بنسيئة ثم مات لم يكن لصاحبه أن يخاصم فيه لأن الشركة انقطعت بينهما بالموت فإنما تبقى ولاية المطالبة والخصومة بالعقد وذلك إلى العاقد أو إلى من قام مقامه بعد موته من وصى أو وارث ولكن إن أعطاه المشتري نصف الثمن بريء منه لأن نصف الثمن ملكه إذا قبضه وصى الميت يلزمه دفعه إليه فإذا دفعه المشتري إليه بنفسه بريء استحسانا كالمشتري من الوكيل إذا دفع الثمن إلى الموكل يبرأ استحساناً.(11/382)
قال: وإذا باع أحدهما من صاحبه ثوبا من الشركة ليقطعه جاز لأن هذا بيع مقيد فإن الثوب قبل هذا البيع من الشركة بينهما وبعد هذا البيع يختص المشتري بملكه فإنه لو اشترى ثوبا لكسوته من أجنبي يختص بملكه وكذلك إذا اشتراه من صاحبه والشراء إذا كان مقيدا كان صحيحا كالمولى إذا اشترى شيئا من كسب عبده المأذون المديون لنفسه أو رب المال إذا اشترى شيئا من مال المضاربة من المضارب كان صحيحاً.
قال: وكذلك لو باعه جارية ليطأها أو طعاما يجعله رزقا لأهله فهذا البيع مفيد يجب به الثمن ثم نصف الثمن له ونصفه لشريكه كما لو باعه من أجنبي آخر.
قال: وإذا اشترى شيئا من ذلك أحدهما من صاحبه للتجارة كان باطلا لأن هذا العقد غير مقيد فإن العين قبل هذا العقد من شركتهما وبعده كذلك والعقد إذا لم يكن مقيدا كان باطلا لأن العقود الشرعية أسباب مشروعة للفائدة فإذا خلت منها كانت لغوا واللغو لا يكون مشروعاً.
وإن كان لأحدهما عبد ميراث فاشتراه الآخر للتجارة كان جائزا لأنه مفيد فإنه يدخل به في(11/383)
ص -180- ... المفاوضة ما لم يكن فيها ولا يفسد المفاوضة حتى يقبض الثمن لأن اختصاصه قبل القبض بملك الدين فإذا قبض الثمن فقد اختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فتبطل المفاوضة.
وكذلك: إن كانت أمة لأحدهما ميراثا اشتراها الآخر منه ليطأها.
قال: وإذا ارتد أحد المتفاوضين ولحق بدار الحرب انقطعت المفاوضة بينهما لأن القاضي لما قضى بلحاقه بدار الحرب حتى يقسم ماله بين ورثته والمفاوضة تبطل بالموت حقيقة فكذلك إذا فقد موته حكما ولأنه صار حربيا ولا عصمة بين الحربي في دار الحرب والمسلم في دار الإسلام ألا ترى أن ابتداء المفاوضة بينهما لا يجوز وكذلك لا يبقى وإن رجع مسلما قبل أن يقضي القاضي بلحاقه كان على الشركة لأن اللحاق بدار الحرب قبل أن يتصل به قضاء القاضي بمنزلة الغيبة فلا تقطع الشركة ولأنه بمنزلة التوكيل لصاحبه والوكالة لا تبطل بردة الوكيل ولحاقه ما لم يقض القاضي به وكذلك المفاوضة وشركة العنان فإن حكم الحاكم بلحاقه بدار الحرب ثم رجع مسلما فلا شركة بينهما لأنها قد انقطعت بتمويت القاضي إياه حين قضى بلحاقه وفي ردة الوكيل والموكل اختلاف وكلام قد بيناه في كتاب الوكالة.
قال: وإذا ارتد ولم يلتحق بدار الحرب ثم أقر بدين ثم قتل على ردته لم يلزمه ذلك الدين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الإقرار تصرف منه في حال ردته وكان موقوفا عنده ويبطل إذا قتل كسائر تصرفاته وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه كما يلزم شريك العنان لأن عندهما شركة العنان تصح من المرتد فكذلك تبقى بعد ردته وأما المفاوضة فتوقف من المرتد عندهما إذا باشره ابتداء وكذلك إذا ارتد بعد المفاوضة يتوقف من المرتد عندهما تلك الزيادة فإذا قتل أو لحق بدار الحرب بطلت الزيادة وإنما بقيت شركة العنان بينهما إلى وقت موته.(11/384)
قال: وبيع أحد شريكي العنان وشراؤه وإقراره بالدين بجهة التجارة جائز على شريكه وكذا إذا فعل المرتد ذلك وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إن أقر المسلم منهما بدين لزمه ذلك في حقه وتوقف أمر المرتد فإن أسلم لزمه ما أقر به المسلم لبقاء الشركة بينهما وإن مات أو قتل على ردته لم يلزمه من ذلك شيء وكذلك ما أقر به المرتد إلا أن أصله إقرار المرتد موقوف وإذا قتل بطل كسائر تصرفاته وأصل إقرار المسلم صحيح في حقه وإنما يتوقف بثبوت حكمه في حق المرتد على إسلامه فإذا قتل أو مات بطل ذلك ويبقى المسلم مطالبا به.
قال: وإذا باع أحد المتفاوضين متاعا ثم افترقا ولم يعلم المشتري بافتراقهما فلكل واحد منهما أن يقبض الثمن كله لأن بيع أحدهما في حال قيام المفاوضة مثبت على حق قبض الثمن لصاحبه فلا يبطل ذلك بافتراقهما ما لم يعلم به المشتري حتى إذا قضى الثمن أحدهما وهو لا يعلم بالفرقة بريء لأنه بالعقد استحق براءة ذمته عند دفع الثمن إلى أحدهما فلا يبطل ذلك بافتراقهما ما لم يعلم به وهذا لأن المشتري بمنزلة الوكيل من جهة البائع في تسليم الثمن إلى(11/385)
ص -181- ... شريكه فهما بالافتراق قصدا عزله عن الوكالة وعزل الوكالة قصدا لا يثبت في حق من لم يعلم به حتى إذا علم بالفرقة لم يكن له أن يدفع جميع المال إلا إلى الذي ولى البيع لأن حكم العزل يثبت في حقه لما علم به إذ لا ضرر عليه في ذلك وهو بخلاف ما إذا مات البائع لأن موت الموكل يوجب عزل الوكيل حكما لتحول ملكه إلى وارثه ولا يتوقف بثبوت حكمه على العلم به ألا ترى أن الوكيل ينعزل بموت موكله وإن لم يعلم به بخلاف ما إذا عزله قصدا قال: وإن وجد المشتري به عيبا لم يكن له أن يخاصم إلا الذي ولي البيع لأن الشركة قد انقطعت والخصومة في العيب من حقوق العقد فإنما يتعلق بالعاقد خاصة ثم يرجع العاقد بنصف ذلك على شريكه لأنه في النصف كان وكيلا فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة فيه.
قال: ولو كان رده على شريكه بالعيب قبل الفرقة وحكم له عليه بالثمن أو بنقصان العيب عند تعذر الرد ثم افترقا كان له أن يأخذ أيهما شاء لأن هذا دين لزم أحدهما في حال قيام الشركة فصار الآخر مطالبا بحكم الكفالة فافتراقهما لا يبطل حق صاحب الدين عن مطالبة كل واحد منهما كسائر الديون.
قال: ولو استحق العبد بعد الفرقة وقد كان نقد الثمن قبلها كان له أن يأخذ بالثمن أيهما شاء لأن البيع في المستحق كان موقوفا فيبطل من الأصل بإبطال المستحق وتبين أن رد الثمن كان واجبا عليهما قبل افتراقهما وكان للمشتري أن يطالب بالثمن أيهما شاء فأما بالرد بالعيب بعد الفرقة لا يتبين بطلان البيع من الأصل ولكنه كان صحيحا إلى وقت الرد وإنما وجب الثمن على البائع حين رد عليه المبيع وإذا كان الرد بعد الفرقة فليس للمشتري أن يطالب به الآخر.
قال: رجل سلم ثوبا إلى خياط ليخيطه بنفسه وللخياط شريك في الخياطة مفاوضة فلصاحب الثوب أن يطالب بالعمل أيهما شاء ما بقيت المفاوضة بينهما لأن كل واحد منهما بمنزلة صاحبه فيما لزمه ما بقيت الشركة بينهما.(11/386)
فإن قيل: عمل الخياطة مستحق على من باشر السبب والآخر بمنزلة صاحبه الكفيل عنه فإذا شرط على الخياط أن يخيط بنفسه لم يجز كفالة الغير عنه فلا تطالب الكفيل به.
قلنا: ما بقيت المفاوضة بينهما فهما كشخص واحد وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما تقتضيه المفاوضة لأن المساواة التي هي ركن المفاوضة لا تتحقق إلا به فلا تظهر معنى الكفالة قبل الفرقة وإنما تظهر بعد الفرقة فلا جرم إذا تفرقا أو مات الذي قبض الثوب لم يؤاخذ الآخر بالعمل لأن الموجب للاتحاد هو الشركة وقد انقطعت وإنما بقي معنى الكفالة فكان الشرط على الخياط فلا يطالب الأحسن بحكم الكفالة وإذا مات الذي قبل بطل هذا التقبل لفوات المعقود عليه وهذا نظير ما لو دفع ثوبا إلى الخياط ليخيط بنفسه وأخذ منه كفيلا بالخياطة لم يجز ذلك وإن لم يكن شرط عليه أن يخيط بنفسه جازت الكفالة لأن الكفالة بمضمون بما تجري النيابة في إيفائه صحيح وبما لا تجري النيابة في إيفائه باطل وإذا شرط على الخياط العمل بنفسه هذا لا تجري النيابة في إيفائه وإذا لم يشترط ذلك عليه فهذا تجري النيابة(11/387)
ص -182- ... في إيفائه فتصح الكفالة وبعد صحتها إذا مات الخياط بريء الكفيل لأن الإجازة قد انقطعت بموت الخياط وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل وكذلك هذا في كراء الإبل إذا مات الجمال بريء الكفيل لأن الإجازة قد انقطعت بموته.
قال: وإذا كان بين رجلين كر حنطة وكر شعير ولم يأمر أحدهما صاحبه ببيعه فاستعار أحدهما دابة ليحمل عليها حنطة فحمل عليها الآخر الشعير بغير أمره كان ضامنا للدابة ولحصة صاحبه من الشعير" لأن الشركة بينهما شركة ملك وكل واحد منهما في التصرف كالأجنبي من صاحبه فيكون غاصبا للدابة ولنصيب شريكه من الشعير يحمله على الدابة فلهذا يضمن قيمة الدابة ونصيب صاحبه من الشعير إذا تلفت بحمله وليس هذا كشريك العنان والمفاوض لأن كل واحد منهما وكيل عن صاحبه في الحمل كما أنه وكيل صاحبه في التجارة فلهذا لم يكن ضامنا ثم ختم الباب في الأصل بما إذا اشترك الرجلان شركة مفاوضة وليس لهما مال على أن يشتريا بوجوههما أو يعملا بأبدانهما وقد بينا جواز المفاوضة في هذين النوعين من الشركة كالعنان إلا أن في المفاوضة لا يجوز اشتراط التفاوت بينهما وفي العنان لا يجوز ذلك في شركة الوجوه إلا أن يشترطا التفاوت في ملك المشتري وفي التقبل يصح منهما اشتراط التفاوت وبعض العراقيين من مشايخنا رحمهم الله يقول لا فرق وتأويل ذلك أنه إن اشترطا التفاوت في التقبل فأما مع اشتراط التساوي في أصل التقبل لا يصح منهما اشتراط التفاوت في الربح ولكن هذا بعيد لأنه ذكر قبل هذا وفي النوادر أيضا أن الربح بينهما على الشرط والوضيعة بينهما نصفان ولو كان التفاوت بينهما في أصل التقبل لكانت الوضيعة على ذلك ولكن الفرق من وجهين:(11/388)
أحدهما: أن في التقبل هما تابعان للعمل فقد يكون بينهما تفاوت في العمل فيصح منهما اشتراط التفاوت في الربح فأما في شركة الوجوه هما متساويان بثمن في ذمتهما فمع التساوي في ملك المشتري لا يصح منهما شرط التفاوت في الربح وتوضيح الفرق أن المنافع إنما تتقوم بالعقد فمنفعة كل واحد منهما تتقوم بقدر ما شرط لنفسه من الربح بخلاف عين المشتري فإنه يتقوم بنفسه فلا يصح من أحدهما اشتراط شيء من ربح مال صاحبه من غير رأس مال ولا ضمان وإذا تقبل العمل أحدهما فإن كانا متفاوضين فلا إشكال أن الآخر مطالب بذلك فأما إذا كانت الشركة بينهما مطلقة فقد ذكر في النوادر قياسا واستحسانا في هذا الفصل في القياس لا يطالب إلا من تقبل لأن الشركة بينهما عنان وذلك لا يتضمن الكفالة ألا ترى أنه لو أقر أحدهما بدين الإنسان لا يطالب الآخر به فكذلك إذا تقبل العمل وفي الاستحسان يكون الآخر مطالبا به لأن هذا التقبل مقصود بالشركة ففيما هو المقصود يقوم كل واحد منهما مقام صاحبه ويكونان فيه بمنزلة المتفاوضين وعلى هذا إذا عمل أحدهما كان للآخر أن يطالب بالآجر استحسانا لأنه هو المقصود بعقدهما وبيان كونه مقصودا أن الشركة التي بينهما لا تنفك عن هذا بخلاف الإقرار في الدين وذكر الشارح عن أبي يوسف رحمهما الله أن كل واحد منهما(11/389)
ص -183- ... ضامن لما جنت يد أحدهما استحسانا أيضا وأنه لو ادعى عينا في يدهما على أحدهما أنه تقبل العمل فيه فأقربه نفذ إقراره في نصيب شريكه أيضا استحسانا ومحمد رحمه الله في هذين الفصلين يأخذ بالقياس فيقول إقراره بالعين كإقراره بالدين وما يتلف بجناية في يده بمنزلة غصبه واستهلاكه والشركة بينهما قد تنفك عن ذلك فلا يطالب الشريك بشيء من ذلك وأبو يوسف رحمه الله أخذ بالاستحسان لأن وجوب ضمان ما جنت يده باعتبار العمل وما في العمل كالمتفاوضين فكذلك فيما يجب باعتباره له أو عليه وكذلك الإقرار بالعين فإن الشركة لا تنفك من ذلك لأن من يسلم إلى أحدهما العمل فلا بد له من أن يسلم إليه محل العمل وما يتقبله أحدهما يثبت عليه يدهما عند إقامة العمل فإذا لم يصح إقراره في حق شريكه يحذر الناس من المعاملة مع كل واحد منهما فلهذا أخذنا بالاستحسان والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الشركة الفاسدة(11/390)
قال: وإذا اشترك الرجلان على أن يحتطبا الحطب يبيعانه فما باعاه فهو بينهما نصفان كانت هذه الشركة فاسدة لأن صحة الشركة باعتبار الوكالة فلا تصح فيما لا تجوز الوكالة فيه ولو وكل إنسانا بأن يحتطب له لم يصح التوكيل وكان الحطب الذي لم يحتطب دون الموكل فكذلك الشركة لأن كل واحد منهما في المعنى يوكل صاحبه بمباشرة بعض ذلك العمل له ولأن الاحتطاب اكتساب والاكتساب في المحل المباح يوجب الملك للمكتسب وكل واحد منهما يشترط لنفسه بعض كسب صاحبه من غير رأس مال ولا ضمان له فيه أو يصير كل واحد منهما كالمفاوض مع صاحبه بنصف ما يكتسبه صاحبه وهذا مفاوضة في المجهول فلا تكون صحيحة ولكل واحد منهما ما احتطب وثمنه إذا باع لأن البدل يملك بملك الأصل فإن احتطب أحدهما وأعانه الآخر فله أجر مثله على الذي احتطب لأنه استوفى منافعه بحكم عقد فاسد فيلزمه أجر مثله ولا يجاوز به نصف الثمن في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله له أجر مثله بالغا ما بلغ فأبو يوسف رحمه الله يقول قد رضي هذا بنصف المسمى فيعتبر رضاه في إسقاط حقه في المطالبة بالزيادة على ذلك ألا ترى أنه لو استأجر حمالا ليحمل له حنطة إلى موضع كذا بقفيز منها فحملها كان له أجر مثله لا يجاوز به ما سمى وهذا لأن تقدم المنفعة باعتبار العقد والتسمية إذ المنافع لا تتقوم بنفسها بغير العقد وفيما زاد على المسمى لم توجد التسمية ومحمد رحمه الله تعالى يقول المسمى مجهول الجنس والقدر فإنه لا يدري أي نوع من الحطب يصيبان وهل يصيبان شيئا أم لا والرضا بالمجهول لا يصح؟ فإذا سقط اعتبار رضاه بقيت منافعه مستوفاة بعقد فاسد فله أجر مثله بالغا ما بلغ فإذا أصاب شيئا أولى بخلاف حمل الحنطة فإن القفيز منها معلوم فاعتبر رضاه بالمعلوم فلهذا لا يجاوز به المسمى وعلى هذه الشركة في سائر المباحات نحو احتشاش الحشيش واجتناء الثمار من الجبال والبرادي من الجوز والفسق وغيرهما فإذا عملا ذلك(11/391)
وخلطاه ثم باعا قسم الثمن على كيل ووزن ما كان لكل واحد منهما إن كان كيليا أو وزنيا لأن كل واحد منهما كان مالكا لما أصابه(11/392)
ص -184- ... والثمن في البيع إنما يقسم على ماليه المعقود عليه وماليه المكيل والموزون تعرف بالكيل والوزن فلهذا قسم الثمن بينهما على ذلك وإذا لم يكن كيليا أو وزنيا يقسم الثمن على قيمة ما كان لكل واحد منهما لأن معرفة المالية فيما لا يكال ولا يوزن بمعرفة القيمة وإذا لم يعرف مقدار ما كان لكل واحد منهما صدق كل واحد منهما في النصف لأنهما استويا في الاكتساب وقد كان المكتسب في أيديهما وكل واحد منهما في دعواه إلى النصف إنما يدعى ما كان في يده والظاهر يشهد له في ذلك فيقبل قوله ولا يصدق في الزيادة على النصف إلا ببينة لأنه يدعى خلاف ما يشهد له الظاهر ولأنه يدعى شيئا كان في يد صاحبه ولا يستحق المرء ما في يد غيره بدعواه إلا أن يقيم البينة عليه وكذلك الشركة بنقل الطين وبيعه من أرض لا يملكانها أو الجص أو الملح أو الكحل وما أشبه ذلك لأن التوكيل في هذه الأشياء لا يجوز فإنها على أصل الإباحة والناس فيها سواء فكذلك الشركة وكذلك إن اشتركا على أن ما يلبنان من طين لا يملكه أحد أو يطبخانه آجرا أو يشركان على طلب الكنوز أو على الاصطياد فهذا كله مما لا يصح التوكيل به لكون أصله مباحا غير مملوك فكذلك الشركة فيه.(11/393)
قال: وإن كان من طين النورة مملوكا فاشتركا على أن يشتريا منه ويطحناه فهو جائز" لأنه إن كان بينهما رأس مال فهو شركة العنان وإن لم يكن فهو شركة الوجوه في هذا النوع وقد بينا جواز كل واحد منهما وكذلك سهلة الزجاج إذا اشتركا على شيء يشتريانه من ذلك جاز وإن اشتركا على شيء لا يشتريانه بل هو مباح الأصل فهو فاسد لما قلنا وإذا اشتركا في الاصطياد فنصبا شبكة أو أرسلا كلبا لهما فالصيد بينهما نصفان لاستوائهما في السبب الموجب للملك وهو الاصطياد وإن كان الكلب لأحدهما فأرسلاه جميعا فالصيد لصاحب الكلب خاصة وإن كان لكل واحد منهما كلب فأرسل كل واحد كلبه فإن أصاب كل كلب صيدا على حدة كان ذلك الصيد لصاحبه وإن أصابا صيدا واحدا فهو بينهما نصفان وإن أصاب أحدهما صيدا فأثخنه ثم جاء الآخر فأعانه فهو لصاحب الكلب الأول فإن لم يكن الأول أثخنه حتى جاء الآخر فأثخناه فهو بينهما نصفان لأن الإرسال إذا وجد من صاحب الكلب فقد تم السبب الموجب للملك وهو الاصطياد والآخر معين له في ذلك.
قال: وإذا أرسل كل واحد منهما كلبه فإن أصابا صيدا واحدا فقد استوى المالكان في سبب الاستحقاق وإن أصابه أحد الكلبين فأثخنه فقد تم أخذه" لأنه أخرجه بفعله من أن يكون صيدا وإن أثخناه جميعا فقد تقررت المساواة بينهما في السبب فكان بينهما نصفين.
قال: وإن اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر بعير على أن يؤاجرا ذلك فما رزقهما الله تعالى من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد لأن كل واحد منهما في المعنى موكل لصاحبه بأن يؤاجر دابته ليكون نصف الأجر له وهذا التوكيل باطل فإنه لو قال أجر دابتك على أن يكون جميع الأجر لي كان باطلا فكذلك إذا قال على أن يكون نصف الأجر لي وهذا لأن بدل المنفعة يعتبر ببدل العين وكذلك إذا قال بع دابتك على أن يكون نصف ثمنها لي كان باطلاً(11/394)
ص -185- ... فكذلك في الإجارة وإذا ثبت أن التوكيل بهذه الصفة لا يصح فكذلك الشركة والمعنى في الكل واحد وهو أن التوكيل إنما يعتبر فيما لا يملك الوكيل مباشرته قبل التوكيل والمالك يبيع دابته ويؤاجرها قبل التوكيل وكذلك كل أحد يملك عند المباح قبل التوكيل فلهذا بطل التوكيل في جميع ذلك ولأن هذا في معنى الشركة بالعروض لأن منفعة العين نظرا لغبن لأنه يتعين في العقد وقد بينا أن الشركة في العروض لا تصح فإن أجراهما جميعا بأجر معلوم في عمل معلوم قسم الأجر بينهما على مثل أجر البغل وأجر البعير لأن الأجر بدل المنفعة للدابتين وأجر المثل في المنفعة كالقيمة في العين فكما لو باعا الدابتين قسم الثمن بينهما على قيمة كل واحد منهما فكذلك إذا أجراهما ولو تقبلا حمولة معلومة بأجر معلوم ولم يؤجر البغل والبعير فالأجر بينهما نصفان لأن استحقاق الأجر بتقبل العمل وقد استويا في ذلك وإن أجر البعير بعينه كان الأجر لصاحبه لأنه بدل منفعة دابته فإن كان الآخر أعانه على الحمولة والنقلان كان له أجر مثله لا يجاوز به نصف الأجر الذي أجر في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى عليه أجر مثله بالغا ما بلغ وهذه والمسألة الأولى سواء قال: وليست الشركة في إجارة الدواب بأعيانها مثل الشركة في عمل أيديهما بأدائهما حتى إذا اشترك قصاران لأحدهما أداة القصارين وللآخر بيت على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا على أن الكسب بينهما نصفان كان جائزا لأن استحقاق الأجر هناك باعتبار تقبل العمل والعمل بالتقبل يصير مضمونا على كل واحد منهما والتوكيل في ذلك صحيح فكذلك الشركة وهنا استحقاق الأجر بمقابلة منفعة الدابة فإذا كان كل واحد منهما مختصا بملك منفعة دابته لم يجز للشركة بينهما فيهما قال: ولو اشترك رجلان لأحدهما دابة وللآخر إكاف وجواليق على أن يؤاجر الدابة على أن الأجر بينهما نصفان فهذه شركة فاسدة لأنها في معنى الشركة بالعروض(11/395)
بطريق اعتبار المنفعة بالعين ولأن التوكيل في مثله لا يصح فإن أجر الدابة كان الأجر لصاحبها ولا يقبل معه أجر مثله لأن الأجر بمقابلة منفعة الدابة فإن الحمل على الدابة هو المقصود فأما الإكاف والجواليق يتأتى الحمل بدونهما فلا يقابلهما شيء من البدل فكان الأجر كله لصاحب الدابة وقد أعانه الآخر بنفسه وأدابه بحكم عقد فاسد فله أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد رحمه الله تعالى ولا يجاوز به نصف أجر الدابة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى.
قال: رجل دفع دابته إلى رجل يؤجرها على أن ما أجرها به من شيء فهو بينهما نصفان فهذه الشركة فاسدة اعتبارا للعقد الوارد على المنفعة به بالعقد الوارد على الدين ولو دفع الدابة إليه ليبيعها على أن الثمن بينهما نصفان كان فاسدا فكذلك الإجارة والأجر كله لرب الدابة ولأن المدفوع إليه وكيله في إجارتها وإجارة الوكيل كإجارة الموكل وللذي أجرها أجر مثله لأنه ابتغى عن منافعها عوضا ولم ينل ذلك لفساد العقد فكان له أجر مثله وكذلك السفينة والبيت بمنزلة الدابة في ذلك قال: ولو دفع إليه دابة يبيع عليها البر والطعام على أن الربح بينهما نصفان فهذه شركة فاسدة بمنزلة الشركة بالعروض فإن رأس مال أحدهما عرض، ورأس مال الآخر(11/396)
ص -186- ... منفعة دابته فإذا فسدت شركته فالربح لصاحب البر والطعام لأنه بدل ملكه فإن الثمن بدل المعقود عليه لا بد ما حمل عليه من المعقود عليه ولصاحب الدابة أجر مثلها لأنه شرط لنفسه عوضا عن منفعة دابته ولم ينل ذلك العوض فاستوجب أجر المثل على من استوفى منفعتها بحكم عقد فاسد وكذلك البيت والسفينة في هذه كالدابة اعتباراً لمنفعة العين بالعين والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/397)
ص -187- ... كتاب الصيد
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم بأن الاصطياد مباح في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] وأدنى درجات صفة الأمر الإباحة وقال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] الآية والسنة قوله صلى الله عليه وسلم: "الصيد لمن أخذه" فعلى هذا بيان أن الاصطياد مباح مشروع لأن الملك حكم مشروع فسببه يكون مشروعا وهو نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك فكان مباحا ويستوي إن كان الصيد مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم لما في اصطياده من تحصيل المنفعة بجلده أو دفع أذاه عن الناس والحيوانات نوعان نوع منها ما لا دم له فلا يحل تناول شيء منها إلا السمك والجراد لأن شرط تناول الحيوانات الذكاة شرعا وذلك لا يتحقق له فيما لا دم له إلا أن السمك والجراد مستثنى بالنص مما شرط فيه الذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" وماله دم نوعان مستأنس ومستوحش فالذي يحل تناوله من المستأنس بالاتفاق الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم والدجاج وذلك ثابت بالكتاب قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79] وفيما سواها من المتأنس نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى. والمستوحش نوعان منها صيد البحر لا يحل تناول شيء منها سوى السمك ومنها صيد البر ويحل تناولها إلا ماله ناب أو مخلب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ولمعنى الخبث فيهما فإن من طبعهما الاختطاف والانتهاب فلا بد من(11/398)
ظهور أثر ذلك في خلق المتناول للغذاء من الأثر في ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ترضع لكم الحمقاء فإن اللبن يعدي" والمستخبث حرام بالنص لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] ولهذا حرم تناول الحشرات فإنها مستخبثة طبعا وإنما أبيح لنا أكل الطيبات قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: من الآية172] فقد أكرم المؤمنين بهذا الخطاب حيث خاطبهم بما خاطب به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: من الآية51] الآية ثم شرط حل التناول منها فيما يحل منها بالذكاة قال الله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] وزعم بعض العراقيين من مشايخنا رحمهم الله أن الذبح والتذكية محظور بالعقل لما فيها من إيلام الحيوان وهذا عندي باطل(11/399)
ص -188- ... فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناول من اللحم قبل مبعثه ولا يظن أنه كان يتناول ذبائح المشركين لأنهم كانوا يذبحون باسم الأصنام فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه وما كان يفعل ما هو محظور عقلا كالظلم والكذب والسفه فإنه لا يجوز أن يظن به أنه فعل ذلك قط. ثم في الذبح والاصطياد تحصيل منفعة الغذاء لمن هو المقصود من الحيوانات وهو الآدمي فيكون ذلك سببا مباحا إليه وأشار الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: من الآية29] والإيلام لهذا المقصود فلا يكون محظورا عقلا كالفصد والحجامة مندوب وشرب الأدوية الكريهة في وقتها والذكاة لغة التوقد والتلهب الذي يحدث في الحيوان بحدة لأدلة سميت الشمس ذكاء لشدة الحرارة وسمى الرجل الذي في خاطره حدة ذكيا فبهذا يتبين أن اشتراط الذكاة لتطييب اللحم به فإنه نوع نضج ولهذا كان المذكى أطيب لحما من الميتة وأبعد من النسيس والفساد. وقيل: الذكاة عبارة عن تسييل الدم الفاسد النجس فإن المحرم في الحيوان الدم المسفوح قال الله تعالى في جملة المحرمات: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: من الآية145] فكانت الذكاة إزالة للخبث وتطييبا بتمييز الطاهر من النجس وهو نوعان الذبح في المذبح عند القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" وبالجرح في أي موضع أصابه عند تعذر الذبح في المذبح ثم يحصل بعض ذلك بالجرح والتكليف بحسب الوسع ففي كل موضع يكون الذبح في المذبح مقدورا له لا يثبت الحل إلا به وفي كل موضع تعذر يقوم الجرح مقامه. ثم حل التناول بالاصطياد مختص بشرائط.
أحدها: أن يكون ما يصطاد به معلما.
والثاني: أن يكونا جارحا قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: من الآية4] وفي معنى الجوارح قولان:(11/400)
أحدهما: أن يكون جارحا حقيقة بنابه ومخلبه
والثاني: الكواسب قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: من الآية60] أي كسبتم ويمكن حمله عليها فنقول الشرط أن يكون من الكواسب التي تخرج.
والثالث: الإرسال ثبت ذلك في السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل". فلما حرم التناول عند عدم الإرسال في أحد الكلبين دل أن الإرسال في ذلك شرط ولأن التذكية إنما تكون موجبا للحل إذا حصل من الآدمي فلا بد من جعل آلة الصيد نائبا عن الآدمي ليحصل الحل بفعله وذلك لا يكون إلا بالإرسال واشتراط كونه معلما لتحقق الإرسال فيه.
والرابع: التسمية.
والخامس: إمساكه على صاحبه لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: من الآية4] ومطلق الأمر مفيد للوجوب ولا يجب التسمية عند الأكل فعرفنا أن المراد به عند الإرسال.(11/401)
ص -189- ... والسادس: أن يكون الصيد مما يباح تناوله ويكون ممتنعا ومستوحشا.
والسابع: أن لا يتوارى عن بصره أولا يقعد عن طلبه حتى يجده لأنه إذا غاب عن بصره فلا يدري لعل موته كان بسبب آخر سوى جرح ما أرسله وإليه أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله كل ما أممت ودع ما أيمنت والامماء ما رأيته والإيماء ما غاب عنك وإذا قعد عن طلبه فلا يدري لعله لو تبعه وقع في يده حياء وقدر على ذبحه في المذبح وترك ذلك مع القدرة عليه محرم والأصل فيه أنه متى اجتمع في الصيد لعل وعسى أن لا يحل تناوله.
وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه "إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن الماء قتله أو سهمك" إذا عرفنا هذا فنقول كما يشترط فيما أرسله الصياد أن يكون خارجا فكذلك فيما يرمي به وبها الكتاب ببيانه مروى عن إبراهيم رحمه الله إذا خرق المعراض فكل وإذا لم يخرق فلا تأكل والمعراض سهم لا نصل له إلا أن يكون رأسه محددا وقيل سهم لا ريش له فربما يصيب السهم عرضا يندق ولا يخرج وهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سئل عن صيد المعراض فقال صلوات الله وسلامه عليه: "ما أصاب بحده فجرح فكل وما أصاب بعرضه فلا تأكل" والحرق هو الخرق إلا أن لفظة الحرق تستعمل فيما لا حياة له كالثوب ونحوه ولفظة الخرق تستعمل في الحيوان وقد بينا أن الحل باعتبار تسييل الدم النجس وذلك يحصل إذا خرق ولا يحصل إذا دق ولم يخرق فإن ذلك في معنى الموقوذة وهو حرام بالنص.(11/402)
وذكر عن رجل قال كانت لبعض أهل الحي نعامة فضربها إنسان فوقذها فألقاها على كناسة وهي حية فسألنا سعيد بن جبير فقال ذكوها وكلوها وبه نقول فإن الموقوذة إذا أدرك ذكاتها جاز تناولها لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] ولحصول ما هو المقصود وهو تسييل الدم النجس ومنه دليل إباحة تناول النعامة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الكلب يقتل الصيد فقال كل وإن أكل الكلب منه فلا تأكل فإنه أمسك على نفسه لأنه يضرب حتى يترك الأكل وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله قالوا الكلب إذا أكل من الصيد الذي أخذه يحرم تناوله وقال مالك رحمه الله تعالى لا يحرم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه لحديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيد الكلب: "كل وان أكل الكلب منه" ولأنه تناول اللحم دون الصيد لأنه يقتل الصيد أولا فيخرج من أن يكون صيدا وتناول الكلب من لحم الصيد لا يحرم ما بقي منه على صاحبه كما لو فتش في مخلاة صاحبه وتناول شيئا من القديد من لحم الصيد وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] وحين أكل منه فقد تبين أنه أمسكه على نفسه لا على صاحبه حين لا يتركه حتى يشبع منه وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعدي بن حاتم رضي الله عنه "فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" وتأويل حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه إن صح أنه كان قبل نزول الآية ثم انتسخ أو مراده إذا ولغ في دم الصيد وعندنا ذلك القدر لا يحرم ثم قد بينا أن ثبوت(11/403)
ص -190- ... الحل بفعله باعتبار أنه نائب عن صاحبه وينعدم ذلك إذا أكل منه لأنه تبين أن سعيه كان لمنفعة نفسه فهو كما لو انعدم الإرسال أصلاً.
ثم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في البازي يقتل الصيد ويأكل منه قال كل وقال تعليم البازي أن تدعوه فيجيبك ولا تستطيع أن تضربه حتى يترك الأكل وبه نأخذ وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى البازي والكلب إذا أكل من الصيد لا يحل لما بينا أنه يمسك على نفسه وليس بنائب عن صاحبه ولكن الفرق بينهما عندنا على وجهين:
أحدهما: أن جثة الكلب تحتمل الضرب فيمكن أن يضرب ليدع الأكل وجثة البازي لا تحتمل الضرب وقد بينا أن التكليف بحسب الوسع.
والثاني: أن الكلب ألوف وعلامته علمه أن يأتي بما يكون مخالفا لطبعه وإجابته صاحبه إذا دعاه غير مخالف لطبعه فلا يكون دليلا على علمه بل يكون علامة علمه ترك الأكل عند حاجته إليه لأن ذلك خلاف طبعه فإذا أكل منه لم يكن معلما والشرط في صيد الكلب أن يكون معلما والبازي متنفر فأجابته صاحبه إذا دعاه خلاف طبعه فيجعل ذلك علامة علمه دون ترك الأكل فهو وإن أكل منه فلا يتبين به أنه غير معلم ولكن هذا الفرق لا يتأتى في الفهد والنمر فإنه مستوحش كالبازي ثم الحكم فيه وفي الكلب سواء فالمعتمد هو الأول وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الكلب يشرب من دم الصيد ولا يأكل منه فقال لا بأس بأكل الصيد وبه نأخذ وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول يحرم بذلك لأن دم الصيد جزء منه كلحمه فتبين شربه من دمه أنه أمسكه على نفسه ولكنا نقول هذا دليل حذقه في كونه معلما لأنه شرب ما يعلم أن صاحبه لا يرغب فيه ولا يمنعه منه وأمسك عليه ما يعلم رغبته فيه فكان ذلك فكان دليل علمه وإمساكه على صاحبه ما يحتاج إليه صاحبه ولا يحرم تناول الصيد بخلاف ما لو أكل من لحمه.(11/404)
وعن إبراهيم رحمه الله في كلب المجوسي أو بازيه يصيد به المسلم قال لا بأس به لأن الصياد مرسل الكلب لا مالك الكلب ومرسل الكلب مسلم من أهل التسمية والكلب آلة الاصطياد فاصطياد المسلم به يوجب الحل فإن كان للمجوسي كاصطياده بقوسه وسهمه.
وعنه في الرجل يرسل كلبه فيذهب معه كلب آخر غير معلم فيرد عليه الصيد ويأخذ الصياد معه قال لا يؤكل وبه نأخذ لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي ابن حاتم رضي الله تعالى عنه: "وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" ولأن إرسال الكلب من شرائطه الحل وانعدامه يوجب الحرمة والصيد صار مأخوذا بالكلبين والأصل أنه متى اجتمع موجب الحل وموجب الحرمة يغلب الموجب للحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال من رمى صيدا فتردى من جبل فلا يأكله فإني أخاف أن يكون التردي قتله وإن رمى طيرا فوقع في ماء فلا تأكله فإني أخاف أن يكون الغرق قتله وبه نأخذ لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: "إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن(11/405)
ص -191- ... الماء قتله أم سهمك" ولأن التردي موجب للحرمة فإن الله تعالى ذكر جملة المحرمات المتردية وعند اجتماع معنى الموجب للحل ومعنى الموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة وهذا بخلاف ما لو رمى طيرا في الهواء فوقع على الأرض ومات فإنه يؤكل وإن كان من الجائز أنه مات بوقوعه على الأرض فإن ذلك لا يستطاع الامتناع عنه فيكون عفوا والتكليف بحسب الوسع بخلاف الوقوع في الماء والتردي من موضع فإنه يستطاع الامتناع عنه ويستوي في ذلك طير الماء وغيره لأن طير الماء يعيش في الماء غير مجروح فأما بعد الجرح يتوهم أن يكون الماء قاتلا له كما يتوهم بغيره وهذا بخلاف ما لو ذبح شاة وتردى بعد الذبح من موضع أو وقعت في ماء لأن قطع الحلقوم والأوداج زكاة مستقرة فإنه يحادي بالموت عليه دون ما يتعرض بعده فأما الرمي ليس بزكاة مستقرة حتى إذا وقع الصيد في يد الرامي حيا لم يحل إلا بالذبح فلهذا كان التردي من الجبل والوقوع في الماء محرما له وعن عبد الله بن يزيد قال سألت سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه عن شيء كان قومي يصفونه بالبادية ينصبون السنان فيصبح وقد قتل الضبع فقال لي وإنك ممن يأكل الضبع قلت ما أكلتها قط فقال رجل عنده حدثنا أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي خطفة ونهبة ومجثمة وعن كل ذي ناب من السباع فقال ابن المسيب رضي الله تعالى عنه صدقت وفي هذا دليل على أن الضبع غير مأكول اللحم وهو مذهبا وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ولا بأس بأكل الضبع لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الضبع أصيد هو قال نعم فقيل يؤكل لحمه قال نعم فقيل أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم وحجتنا في ذلك الحديث الذي روينا وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولأنه ذو ناب يقاتل بنابه فلا يؤكل لحمه(11/406)
كالذئب وتأثيره ما ذكرنا أنه مستخبث باعتبار ما فيه من القصد إلى الأذى والبلادة فيدخل في جملة قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] وحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن صح فتأويله أنه كان في زمن الابتداء ثم انتسخ بنزول الآية وهذا لأن الحرمة ثابتة شرعا فما يروى من الحل يحمل على أنه كان قبل ثبوت الحرمة ولا خلاف في أن الضبع صيد بحسب الجزاء على المحرم بقتله عندنا لأنه صيد وعنده لأنه مأكول اللحم فأما معنى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فالمراد بالخطف ما يختطف بمخلبه من الهواء كالبازي والعقاب والشاهين والمنهبة ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذئب والفهد والنمر وفي ذكر هذين الموضعين إشارة إلى معنى الحرمة حتى لا يسري إلى الأكل هذا الخلق الرديء وفي المحتمة روايتان بالفتح والكسر ومعنى الرواية بالفتح ما يحتم عليه الكلب فيقتله غما لا جرحا فذلك الصيد حرام لانعدام معنى الذكاة فيه ومعنى الرواية بالكسر ما يحتم على الصيود كالذئب والأسد والفهد فإنه غير مأكول ومعنى قوله: "وعن كل ذي ناب من السباع" ما يقصد بنابه ويدفع به فأما أصل الناب يوجد لكل صيد فعرفنا أن المحرم ما بينا وعن إبراهيم رحمه الله(11/407)
ص -192- ... تعالى قال: كانوا يكرهون كل ذي مخلب من الطير وما أكل الجيف وبه نأخذ لأن كل ما يأكل الجيف كالفراق والغراب الأبقع مستخبث طبعا فيدخل تحت قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه سئل عن أكل الغراب فقال ومن يأكله بعد ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاسقا" يريد به الحديث المعروف: "خمس فواسق يقتلهم المحرم في الحل والحرم" وذكر الغراب من جملتها والمراد به ما يأكل الجيف وأما الغراب الزرعي الذي يلتقط الحب فهو طيب مباح لأنه غير مستخبث طبعا وقد يألف الآدمي كالحمام فهو والعقعق سواء ولا بأس بأكل العقعق فإن كان الغراب بحيث يخلط فيأكل الجيف تارة والحب تارة فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يكره لأنه اجتمع فيه الموجب للحل والموجب للحرمة وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا بأس بأكله وهو الصحيح على قياس الدجاجة فإنه لا بأس بأكلها وقد أكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قد تخلط أيضا وهذا لأن ما يأكل الجيف فلحمه ينبت من الحرام فيكون خبيثا عادة وهذا لا يوجد فيما يخلط وعن ابن المسيب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تنخع الشاة إذا ذبحت وبه نأخذ. ومعناه أن يبالغ الذابح بالذبح حتى يبلغ بالسكين النخاع والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة وفي هذا زيادة إيلام غير محتاج إليه والشرع نهى عن ذلك والأصل فيه حديث أبي الأشعث الصبغاني رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" والنخع ليس من الاحسان في شيء وكان منهيا عنه وروى كراهية ذلك عن عمر وبن عمر رضي الله تعالى عنهما حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه لا تجروا العجماء إلى مذبحها برجلها وأحدوا الشفرة وأسرعوا الممر على الأوداج ولا تحفوا.(11/408)
وعن مكحول رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح لم ينخع ولم يبد بسلخ حتى تبرد الشاة وفي هذا دليل على أنه لا بأس للمرء أن يذبح بنفسه وإن ذلك ليس من ترك الترحم في شيء بخلاف ما قاله جهال المتقشفة وفيه دليل على أنه ينبغي للذابح أن يتحرز عن زيادة إيلام غير محتاج إليه وعن عكرمة رضي الله عنه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل قد أضجع شاة وهو يحد الشفرة وهي ملاحظة فقال عليه الصلاة والسلام: "أردت أن تميتها موتات" وبه نأخذ فنقول يكره له أن يحد الشفرة بين يديها لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه.
وضرب عمر رضي الله عنه من رآه يفعل ذلك بالدرة حتى هرب وشردت الشاة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وقد أخذ أذن شاة وهو يجرها إلى المذبح فقال: "قدها إلى الموت قودا رفيقا" وفي رواية قال: "خذ ساقها فإن الله يرحم من عباده الرحماء" والمعنى أنها تعرف ما يراد بها كما جاء في الخبر: "أبهمت البهائم إلا عن أربعة خالقها ورازقها وحتفها وسفادها" فإذا كانت تعرف ذلك وهو(11/409)
ص -193- ... يحد الشفرة بين يديها ففيه زيادة إيلام غير محتاج إليه وكذلك إذا لم يحد الشفرة ولكن الشاة لا تحرم بشيء من هذا لأن ما هو المطلوب من الذكاة وهي تسييل الدم النجس منها قد وجد والنهى لمعنى في غير المنهى عنه فلا يكون موجبا للحرمة وقد وجد.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل ما عدا السن والظفر والعظم فإنها مدى الحبشة" والمراد بيان آلة الذبح وفيه دليل أنه يشترط للذكاة آلة محددة يحصل بها إنهار الدم وإفراء الأوداج والأنهار التسييل ومنه سمى النهر لأن الماء يسيل فيه والنهار تجري فيه الشمس بمرأى العين من العباد والأفراء القطع والمراد بالأوداج الحلقوم والمرىء والودجان وفي هذا بيان أن المطلوب من الذكاة تمييز الطاهر من النجس بتسييل الدم من الحيوان والمراد بما استثنى من السن والظفر المركب لأنه باستعمال ذلك يصير قاتلا لا ذابحا فإنهما منه وآلة الذبح غير الذابح وإنما يحصل بانقطاع الأوداج بالقوة لا بحدة الآلة ألا ترى أنه قال فإنها مدى الحبشة وهم إنما يعتادون الذبح بسن أنفسهم وظفر أنفسهم وذلك يحرم بالإتفاق فأما في الذبح بالسن المقلوعة والظفر المنزوعة والعظم المنفصل إذا كان محدودا اختلاف نبينه.
وعن عامر قال لا بأس بذبيحة الأخرس إذا كان من أهل الإسلام أو من أهل الكتاب وبه نأخذ فإن إشارة الأخرس وتحريكه الشفتين بمنزلة البسملة من الناطق ألا ترى أنه يصير به شارعا في الصلاة كما يكون الناطق شارعا بالتكبير ثم الأهلية للذبح يكون للذابح من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص وذلك باعتقاده التوحيد والأخرس معتقد لذلك ثم المحرم بعده الإعراض عن التسمية ولا يتحقق الإعراض من الأخرس فعذره أبلغ من عذر الناسي وإذا كان بعذر النسيان ينعدم الإعراض فبعذر الخرس أولى.
وعن علي رضي الله عنه في الرجل إذا ذبح الشاة أو الطير فقطع رأسه قال لا بأس بأكله.(11/410)
وعنه أنه قال: تلك ذكاة وحية أي سريعة.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن رجل ضرب عنق بطة بالسيف فسبق فأماته قال يؤكل وبه نأخذ لأنه أتى بما هو المحتاج إليه وهو قطع الحلقوم والأوداج وزاد على ذلك إلا أنه بدأ بالقطع من قبل الحلق حتى أبان رأسه فلا يشك في إباحة أكله ويكره هذا الصنيع لأنه زيادة إيلام غير محتاج إليه وإن بدأ من قبل القفا فإن قطع الحلقوم والأوداج قبل أن تموت الشاة حلت فإن ماتت قبل أن تقطع الحلقوم والأوداج لم تؤكل لأن فعل الذكاة بقطع الحلقوم والأوداج عند القدرة وإن ماتت بفعل ليس بذكاة شرعا وذلك موجب للحرمة بخلاف ما إذا مات قبل قطع الحلقوم والأوداج.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال الذكاة ما بين اللبة واللحيين وبه نأخذ وقد(11/411)
ص -194- ... روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بيان محل الذكاة عند الاختيار وفيه دليل على أن أعلى الحلق وأوسطه وأسفله سواء في ذلك لأن الكل في المعنى المطلوب بالذكاة سواء.
وعن إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا ذبحت فلا تذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وهكذا نقل عن بن مسعود رضي الله عنه قال جردوا التسمية عند الذبح والأصل فيه قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: من الآية18] وإن أهل الجاهلية كانوا يذكرون آلهتهم عند الذبح فحرم ذلك الشرع بقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية173] وأمر بتسمية الله تعالى عند الذبح على الخلوص لمخالفة المشركين فلا ينبغي أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره وإذا أراد أن يدعو فيقول اللهم تقبل من فلان ينبغي أن يقدم ذلك على فعل الذبح أو يؤخره عنه فأما مع الحر لا يذكر غير اسم الله تعالى وهو تأويل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى عن أمته قال: "هذا عمن شهد لي بالبلاغ إلى يوم القيامة" إنما قال بعد الذبح لا معه.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن بعيرا من إبل الصدقة قد ند فرماه رجل بسهم وسمى فقتله فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لها أوابد كأوابد الوحش فإذا فعلت شيئا من ذلك فافعلوا به كما فعلتم بهذا ثم كلوه" وبه نأخذ فنقول عند تعذر الحل بذكاة الاختيار يثبت الحل بذكاة الاضطرار وذلك بالجرح في أي موضع أصابه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لها أوابد كأوابد الوحش" أي أن لها تنفرا واستيحاشا كما يكون الوحش إلا أن الأغلب من حالها الألف والوحشي أغلب حاله التوحش فإذا صار ألوفا التحق بما هو ألوف غالبا وإذا توحش التحق بالوحشي غالبا والمراد بإبل الصدقة ما يؤخذ بالصدقة أو ما كان ينحر لإطعام المساكين وقد كان ذلك معروفا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.(11/412)
وعن عتابة بن رافع بن خديج رضي الله عنه أن بعيرا تردى في نهر بالمدينة فوجئ من قبل خاصرته فأخذ منه ابن عمر رضي الله عنهما عسيرا بدرهمين وفي هذا دليل أن الحل يثبت بذكاة الاضطرار عند تعذر الذكاة بالاختيار وأنه لافرق بين أن يتعذر ذلك بتوحشه وبين أن يتعذر سقوطه في مهوى فإن ابن عمر رضي الله عنهما مع زهده وتفرده رغب في الشراء منه والعسير تصغير العسير وقد روى عشيراء وهو سواد البطن والأول أصح.
وعن إبراهيم رحمه الله قال إذا تردى بعير في بئر ولم يقدروا أن ينحروه فمن حيث نحر فهو له ذكاة. ففي هذا بيان أن السنة في البعير النحر وفي البقر والغنم الذبح وبه نطق الكتاب قال الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: من الآية67] وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] والمراد الشاة والذي جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرنا البدنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبعة والبقرة عن سبعة معناه وذبحنا البقرة عن سبعة ومثل هذا الإضمار مع العطف معلوم في لسان العرب قال القائل:
علفتها تبنا وماء باردا(11/413)
ص -195- ... أي وسقيتها ماء باردا لأن الماء لا يعلف وعن علي رضي الله عنه قال ذكاة السمك والجراد أخذه ومراده بيان أن الذكاة ليست بشرط فيهما بل يثبت الحل فيهما بالأخذ من غير ذكاة ألا ترى أنه لا تثبت الحرمة بكون الآخذ مجوسيا أو وثنيا وما يشترط فيه الذكاة يشترط فيه الأهلية للمذكي وحيث لم يشترط في السمك والجراد عرفنا أن الذكاة فيهما ليست بشرط كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان" وسئل علي رضي الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيه الميت وغيره قال كله كله وفي بعض الروايات كله كله فاللفظ الأول تكرار للمبالغة والثاني بيان أنه يؤكل كله وبه نأخذ وأن الجراد وإن وجد ميتا فلا بأس بأكله لأن موته لا بد أن يكون بسبب فإنه بحري الأصل بري المعاش كما قيل أن بيض السمك إذا انحصر عنه الماء يصير جرادا فإذا مات في البر فقد مات في غير موضع أصله وإذا مات في الماء فقد مات في غير موضع معاشه وذلك سبب لموته والدليل على إباحة أكل الجراد ما روى أن مريم رضي الله عنها سألت لحما هشا فرزقت الجراد وأن عمر رضي الله عنه كان مولعا بأكل الجراد حتى قال يوما في مجلسه ليت لنا قصعة من جراد فنأكله أو قال نقعة.(11/414)
وعن عمرة قالت خرجت مع وليدة لنا فاشترينا خريتة بقفيز من حنطة فوضعناها في زنبيل فخرج رأسها من جانب وذنبها من جانب فمر بنا علي رضي الله عنه فقال لي بكم أخذت فأخبرته فقال ما أطيبه وأرخصه وأوسعه للعيال ففي هذا الحديث دليل على أن الجراد مأكول وبه نأخذ وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه سئل عن الخريت فقال فأما نحن فلا نرى به بأسا فأما أهل الكتاب فيكرهونه وأما الروافض قاتلهم الله تعالى فيأخذون بقول أهل الكتاب ويحرمون الخريت ويدعون قول علي رضي الله عنه مع دعواهم محبته وأهل الكتاب يزعمون أن الخريت من جملة الممسوخات وهذا باطل فإن الممسوخ لا نسل له ولا يبقى بعد ثلاثة أيام بل الخريت نوع من السمك والسمك مأكول بجميع أنواعه يثبت الحل فيه بالكتاب والسنة قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] وقال صلى الله عليه وسلم "أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" فهذا دليل أنه لا بأس للإنسان أن يتكلم مع النساء والإماء بما لا يحتاج إليه فإن هذا ليس من جملة ما لا يعنيه فإنما الذي لا يعني المرء مما ورد النهي عنه أن يكون فيه مأثم.
وعن إبراهيم رحمه الله قال ما أطيب إهابه وهو كذلك وقد قيل إن أطيب الأشياء من السمك الذنب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أتاه عبد أسود فقال إنني في غنم لأهلي وإني سليل الطريق أفأسقي من لبنها بغير إذنهم فقال لا فقال إني أرمي الصيد فاصمى وأنمى قال كل ما أصميت ودع ما أنميت قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأصماء ما رأيته والأنماء ما توارى عنك وبه نأخذ إلا أن المراد به إذا توارى عنه وقعد في طلبه فإذا لم يقعد عن طلبه لا يحرم لما بينا أن ما لا يستطاع بالامتناع عنه يكون عفوا وفي الحديث دليل أنه ليس للراعي أن يسقي من لبن الغنم بغير إذن أهلها فإن ابن عباس رضي الله(11/415)
ص -196- ... تعالى عنهما نهاه عن ذلك وهذا لأن الراعي أمر بالرعي والحفظ والسقي ومن لبنها بمنزلة هبة عنها ولا يجوز له ذلك بدون إذن أهلها والذي جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر براعي الغنم فاستسقاه اللبن تأويله أن ذلك الراعي كان يرعى غنم نفسه أو كان مأذونا من جهة مالكه بذلك وقد عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه".
وعن موسى بن طلحة رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنبا مشويا قال لأصحابه "كلوا" قال الأعرابي إني رأيت دما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بشيء" وقال للأعرابي "إذن فكل" فقال إني صائم قال "صوم ماذا؟" قال صوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال "هلا جعلتها البيض" وبه نأخذ فنقول الأرنب مأكول وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية فيه وأكل منه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم بذلك.(11/416)
وقول الأعرابي: إني رأيت دما مراده ما يقول جهال العرب أن الأرنبة تحيض كالنساء فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بشيء وفيه دليل على أنه لا بأس للمهدى أن يأكل من هديته فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الأكل وإنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق فما كان يدعو أحدا إلى ما يخالف ذلك وفيه دليل على أنه إذا دعى إلى طعام وهو صائم لا بأس بأن يمتنع ويقول إني صائم وقد قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال حيث قال صلى الله عليه وسلم "صوم ماذا" قال صوم ثلاثة أيام من كل شهر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم على ذلك ويقول: "الحسنة بعشر أمثالها صوم ثلاثة أيام من الشهر كصوم جميع الشهر" وفيه دليل على أن الأفضل أن يكون صومه في الأيام البيض لقوله صلى الله عليه وسلم: "هلا جعلتها البيض" والبيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وعند بعضهم أولها الرابع عشر وآخرها السادس عشر سميت بيضا لطلوع القمر في لياليها من أول الليل إلى آخر الليل فكأن الليل يستوي بالنهار في البياض.(11/417)
وقيل: لما روى أن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما أهبط إلى الأرض بعد زلته أغبر جسده صام الرابع عشر فابيض ثلث جسده ثم صام الخامس عشر فابيض ثلث آخر ثم صام السادس عشر فابيض جميع جسده وعاد اللون الأول فسميت بيضا لذلك وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه أهدى لها ضب فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فكرهه فجاء سائل فأرادت أن تطعمه إياه فقال صلوات الله وسلامه عليه: "أتطعمين ما لا تأكلين" وبهذا نأخذ فنقول لا يحل أكل الضب وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: "لم يكن من طعام قومي فأجد نفسي تعافه فلا أحله ولا أحرمه". وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الآكلين أبو بكر رضي الله تعالى عنه كان ينظر إليه ويضحك واعتمادنا على حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فيه يبين أن امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله لحرمته لا لأنه كان يعافه ألا ترى أنه نهاها عن التصدق به ولو لم يكن كراهية الأكل للحرمة لأمرها بالتصدق به(11/418)
ص -197- ... كما أمرها به في شاة الأنصارى بقوله "أطعموها الأسارى" والحديث الذي فيه دليل الإباحة محمول على أنه كان قبل ثبوت الحرمة ثم الأصل أنه متى تعارض الدليلان أحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة يغلب الموجب للحظر وقال بعض المتأخرين رحمهم الله تعالى حرمة الضب لأنه من الممسوخات على ما روى أن فريقين من عصاة بني إسرائيل أخذ أحدهما طريق البحر والآخر طريق البر فمسخ الذين أخذوا طريق البر ضباباوقردة وخنازير "وروى" هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه غير مشهور ثم قد بينا أن الممسوخ لا نسل له ولا بقاء فهذا الذي يوجد الآن ليس بممسوخ وإن نسخ قوم من جنسه ولكنه من الخبائث ولهذا عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: من الآية157] لكونه مستخبثا طبعا كسائر الهوام.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا يوم حنين حمرا أهلية فذبحناها وأن القدر لتغلى بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكفئوها بما فيها" ونهى عن أكلها فقلنا بيننا إنما حرمها لأنها نهبة لم تخمس فلقيت سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فذكرت له ذلك فقال بل حرمها ألبتة وبه نأخذ فنقول لا يحل تناول الحمار الأهلي وكان بشر المريسي يبيح ذلك وهو قول مالك رحمه الله وقد روى أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن ذلك فتلت قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: من الآية145].(11/419)
وعن طاوس قال قلت لجابر بن فهر إنكم تزعمون أن لحم الحمار الأهلي حرام قال كان الحكم بن عمرو يقول ذلك عندنا بالبصرة فأتى ذلك الخبر يعني ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديث الجر بن غالب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لم يبق لي من مالي إلا حميرات" فقال صلى الله عليه وسلم: "كل من سمين مالك فإني إنما نهيتكم عن خول القرية واعتبروا الحمار الأهلي بالوحشي" فإنه مأكول بالاتفاق وكل حيوان وحشيه مأكول فالأهلي من جنسه مأكول كالإبل والبقر وما لا يكون أهليه مأكولا فوحشيه لا يكون مأكولا كالكلب والسنور وحجتنا في ذلك ما روينا من الحديث فيه يتبين أنه ما كان حرمها يوم خيبر لقلة الظهر لأنه أمر بإكفاء القدور بعد ما صار لحما ليس فيه منفعة الظهر وما حرمها لأنها نهبة لم تخمس فإنه كان مأكولا فللغانمين حق التناول منه قبل الخمس كالطعام والعلف وما حرمها لأنها حول القربة مأخوذ من الحوال متناول الجيف كالجلالة فإنه خص الحمر الأهلية بذلك وفي هذا المعنى الحمار وغيره سواء فعرفنا أنه حرمها ألبتة.
وقد روى أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه فنادى ألا إن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء وعن الحمار الأهلي ولما بلغ عليا رضي الله عنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بإباحة المتعة فقال له نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية زمن خيبر فترجح الآثار الموجبة للحرمة ثم لا حجة في حديث الحبر رضي الله تعالى عنه فإن معنى(11/420)
ص -198- ... قوله صلى الله عليه وسلم: "كل من سمين مالك" أي بعه واستنفق ثمنه فقد يقال فلان أكل عقاره والمراد هذا وقال القائل:
إن لنا أحمرة عجافاً ... يأكلن كل ليلة إكافاً
والمراد ثمن الإكاف وما نقلوه عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يكاد يصح عنه والمشهور عنه أنه حرم الخيل والبغال والحمير فاستدل لذلك بالآية: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8] على ما تبين وعائشة رضي الله عنها استدلت بعام دخله الخصوص بالاتفاق وقد ثبت النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحم الحمار فكان دليل الخصوص في هذا العام واعتبار الأهلي بالوحشي ساقط فإنه لا مشابهة بينهما معنى والمشابهة صورة لا تكون دليل الحل وقد صح في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح تناول الحمار الوحشي كما روى أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا عفيرا أو رجل حمار وحشي فأمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يقسمه بين الرفاق ثم كما ورد الحديث بالأمر بالإكفاء للقدر في لحم الحمار فقد ورد مثله في الضب وهو حديث عبد الرحمن بن حسنة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابتنا مجاعة ونزلنا في أرض كثيرة الضباب فأخذناها وإن القدور لتغلي بها فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور ومعلوم أن تضييع المال لا يحل فعرفنا أن الأمر بإكفاء القدور في الموضعين للحرمة وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الحريث قال كنا إذا نتجت فرس أخذنا فلوا ذبحناه وقلنا الأمر قريب فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فكتب إلينا أن لا تفعلوا فإن في الأمر تراخي وبهذين الحديثين يستدل من يرخص في لحم الخيل فإنهم كانوا يذبحونه لمنفعة الأكل وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه كان يكره لحم الخيل فظاهر اللفظ في كتاب(11/421)
الصيد يدل على أن الكراهة للتنزيه فإنه قال رخص بعض العلماء رحمهم الله في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله وما قال في الجامع الصغير أكره لحم الخيل يدل على أنه كراهة التحريم فقد روى أن أبا يوسف رحمه الله تعالى قال لأبي حنيفة رحمه الله إذا قلت في شيء أكرهه فما رأيك فيه قال التحريم ثم من أباحه استدل بالتعامل الظاهر ببيع لحم الخيل في الأسواق من غير نكير منكر ولأن سؤره طاهر على الإطلاق وبوله بمنزلة بول ما يؤكل لحمه فعرفنا أنه مأكول كالأنعام وإن روى فيه نهى فلأن الخيل كانت قليلة فيهم وكان سلاحا يحتاجون إليه في الحرب فلهذا نهاهم عن أكله لا لحرمته وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8] فقد من الله تعالى على عباده بما جعل لهم من منفعة الركوب والزينة في الخيل ولو كان مأكولا لكان الأولى بيان منفعة الأكل لأنه أعظم وجوه المنفعة وبه بقاء النفوس ولا يليق بحكمة الحكيم ترك أعظم وجوه المنفعة عند إظهار المنة وذكر ما دون ذلك ألا ترى أنه في الأنعام ذكر الأكل بقوله تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(11/422)
ص -199- ... [النحل: من الآية5] ولأنه ضم الخيل إلى البغال والحمير في الذكر دون الأنعام والقرآن في الذكر دليل القرآن في الحكم وبنحوه استدل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين كره لحم الخيل كما روى عنه في الكتاب وفي حديث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الخيل والبغال والحمير وفي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرام عليكم لحوم البغال والحمير والخيل" وقد بينا أن الدليل الموجب للحرمة يترجح فإن ما كان من الرخصة محمول على أنه كان في الابتداء قبل النهى ولأن نتاجه غير مأكول وهو البغل لأن البغل نتاج الفرس والولد جزء من الأم وحكمه حكمها في الحل والحرمة فإذا لم يكن مأكولا عرفنا أن الخيل ليس بمأكول ثم الخيل تشبه البغال والحمير من حيث أنه ذو حافر أهلي بخلاف الأنعام فإنها ذوات خف لا ذوات حوافر وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى الكراهة في سؤر الفرس كما في لبنه وإنما جعل بوله كبول ما يؤكل لحمه لمعنى البلوى فيه فللبلوى تأثير في تخفيف حكم النجاسة ومن قال الكراهة للتنزيه لا للتحريم قال إن الفرس كالآدمي من وجه ومن حيث إنه يحصل إرهاب العدوبة ويستحق السهم من الغنيمة والآدمي غير مأكول لكرامته لا لنجاسته والخيل كذلك كره أكلها على طريق التنزيه لمعنى الكرامة ولهذا جعل الخيل طاهرة السؤر وجعل بوله كبول ما يؤكل لحمه.(11/423)
وعن إبراهيم رحمه الله تعالى قال لا بأس بثمن كلب الصيد وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ثمن كلب الصيد وبه نأخذ فنقول بيع الكلب المعلم يجوز وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يجوز بيع الكلب أصلا معلما كان أو غير معلم لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فلو كانت مالا متقوما لما أمر بذلك ولأن الكلب نجس العين بدليل نجاسة سؤره فلا يجوز بيعه كالخنزير ولدليل عليه أنه لو كان محل البيع لم يفترق بين المعلم منه وغير المعلم كالفهد والبازي وحجتنا في ذلك ما رواه إبراهيم من الرخصة وذلك بعد النهي والتحريم فيه يتبين تيسير انتساخ ما روى من النهي وهذا لأنهم كانوا ألفوا اقتناء الكلاب وكانت الكلاب فيهم تؤذي الضيفان والغرباء فنهوا عن اقتنائها فشق ذلك عليهم فأمروا بقتل الكلاب ونهوا عن بيعها تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ثم رخص لهم بعد ذلك في ثمن منتفعا به من الكلاب وهو كلب الصيد والحرث والماشية وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب إلا كلب الصيد والحرث والماشية وروى أنه قضى في كلب الصيد بأربعين درهما وفي كلب الحرث بفرق من طعام وفي كلب الماشية بشاة منها.
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قضى على رجل أتلف كلبا لامرأة بعشرين بعيرا والحديث له قصة معروفة وإذا ثبت أنه مال متقوم وهو منتفع به شرعا جاز بيعه كسائر الأموال وبيان كونه منتفعا به أنه يحل الانتفاع به في حالة الاختيار ويجوز تمليكه بغير عوض في حالة(11/424)
ص -200- ... الحياة بالهبة وبعد الموت بالوصية فيجوز تمليكه بالعوض أيضا وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين فإن الانتفاع بما هو نجس العين لا يحل في حالة الاختيار كالخمر ولا يجوز تمليكه قصدا بالهبة والوصية ثم الصحيح من المذهب أن المعلم وغير المعلم إذا كان بحيث يقبل التعليم سواء في حكم البيع حتى ذكر في النوادر لو باع جروا جاز بيعه لأنه يقبل التعليم فأما الذي لا يجوز بيعه العقور منه الذي لا يقبل التعليم لأنه عين مؤذ غير منتفع به فلا يكون مالا متقوما كالذئب وهكذا يقول في الأسد إن كان بحيث يقبل التعليم ويصطاد به فبيعه جائز وإن كان لا يقبل ذلك ولا ينتفع به فحينئذ لا يجوز بيعه والفهد والبازي يقبل التعليم على كل حال فجاز بيعهما كذلك.(11/425)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب والسنور وقال أبو يوسف رحمه الله ينقض هذا الحديث في السنور حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصغي لها الإناء فتشرب منه وهو مشهور عنه صلى الله عليه وسلم وحديث عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفي الإناء للهر ليشرب منه ثم يتوضأ وفي هذا دليل على أنها ليست بنجسة وقد نص على ذلك بقوله: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" ويجوز الانتفاع بها من غير ضرورة وما يكون بهذه الصفة فهو مال متقوم يجوز بيعه والنهي إن ثبت محمول على أنه كان في الابتداء قال: وصيد الكلب المعلم وما أشبهه من الجوارح من السباع وغيرها يرسله المسلم أو الكتابي ويسمي عليه فيأخذه ويقتله جائز حلال وإنما يشترط أن يكون المرسل مسلما أو كتابيا لأن الاصطياد في كونه سببا للحل كالذبح والأهلية للذابح شرط لحل الذبيحة فكذا في الاصطياد وقد ذكرنا فيما سبق شرائط الاصطياد ودخل هذا الشرط في جملة ما ذكرنا دلالة وإن لم يدخل نصا لأنا شرطنا تسمية الله تعالى على الخلوص وإنما يتحقق ذلك عمن يعتقد توحيده جلت قدرته أو يظهر ذلك وهو مسلم أو كتابي فأما المجوسي يدعي الهين فلا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فلهذا لا يحل ذبيحة المجوسي وصيده.(11/426)
قال: وإذ ترك التسمية عامدا حرم به الصيد والمذبوح عندنا ولم يحرم عند الشافعي رحمه الله والمسلم والكتابي في ذلك سواء وإن ترك ناسيا لم يحرم عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى وأصحاب الظواهر يحرم وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما وكان علي وبن عباس رضي الله تعالى عنهما يفصلان بين العامد والناسي كما هو مذهبنا وقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا وكفى بإجماعهم حجة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله متروك التسمية عامدا لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه لأنه مخالف للإجماع فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم" وفي رواية قال: "ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم" وكون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما(11/427)
ص -201- ... عن متروك التسمية ناسيا قال يحل تسمية ملته وفي إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إن الأعراب يأتوننا بلحوم فلا ندري أسموا أم لم يسموا فقال عليه الصلاة والسلام: "سموا أنتم وكلوا" فلو كان التسمية من شرائط الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها ولأن التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت مأمورا بها وفي المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج وكالتكبير والقراءة في الصلاة إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم لأن موجب النهي الانتهاء والناسي يكون منتهيا اعتقادا فأما موجب الأمر الائتمار والتارك ناسيا أو عامدا لا يكون مؤتمرا ولأنه استصلاح الأكل فكانت التسمية فيه ندبا لا حتما كالطبخ والخبز ثم فيما هو المقصود وهو الأكل التسمية فيه ندب وليس بحتم فهذا هو طريق إليه أولى والدليل عليه أنه تحل ذبائح اليهود والنصارى ولو كانت التسمية شرطا لما حلت ذبائحهم لأنهم وإن ذكروا اسم الله تعالى فإنهم يريدون غير الله وهو ما يتخذونه معبودا لهم لأن النصارى يقولون المسيح بن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ونحن نتبرأ من إله له ولد وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: من الآية121] ومطلق النهي يقتضي التحريم وأكد ذلك بحرف من لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه والهاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إن كان كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام وإن كان كناية عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما كما قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: من الآية145] وفي الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر الله تعالى لأن التحريم بوصف دليل على أن ذلك الوصف هو الموجب(11/428)
للحرمة كالميتة والموقوذة وبهذا يتبين فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله تعالى حتى أنه وإن ذكر اسم الله تعالى لم يحل وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: من الآية36] يعني عند النحر بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: من الآية36] أي سقطت وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير الآية ذكر اسم الله تعالى أن يقول عند الطعن بسم الله والله أكبر وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] والمراد التسمية عند الإرسال فثبت بهذين النصين أن التسمية مأمور بها ومطلق الأمر الوجوب وهي من شرائط الحل ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل والمعطوف على الشرط شرط وأكد ذلك بقوله "وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فأنت إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" فعلل للحرمة بأنه لم يسم علي كلب غيره فهو دليل الحرمة إذا لم يسم علي كلب نفسه وشيء من المعنى يشهد له فإن ذبيحة الكتابي تحل وذبيحة المجوسي لا تحل وليس بينهما فرق يعقل معناه بالرأي سوى من يدعي التوحيد يصح منه تسمية الله على الخلوص ومن يدعى الاثنين لا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فبه يتبين أن التسمية من شرائط الحل أو إنما أمرنا ببناء(11/429)
ص -202- ... الحكم في حق أهل الكتاب على ما يظهرون دون ما يضمرون ألا ترى أن تسمية غير الله تعالى على سبيل التعظيم موجبة للحرمة لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية173] فلو اعتبرنا ما يضمرون لم تحل ذبيحتهم وكذلك يستحلفون في المظالم بالله والاستحلاف بغير الله لا يحل فعرفنا أنه يبني على ما يظهرون ثم إنا أمرنا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح ومخالفتهم واجبة علينا فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا بخلاف الطبخ والأكل فإنهم ما كانوا يسمون آلهتهم عند ذلك فالأمر بالتسمية عند ذلك ندب وكذلك عند الوصف فالأمر بالتسمية عند الوصف لم يكن لمخالفتهم فكان ندبا ألا ترى أن في حالة النسيان تقام ملته مقام التسمية كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لمعنى التخفيف وهذا التخفيف يستحقه الناسي دون العامد ولأن العامد معرض عن التسمية فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما بخلاف الناسي فإنه غير معرض بل معذور والفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح ألاترى أن في اعتبار الذبح في المذبح يفصل بين المعذور وغيره وفي الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد ولا يعتبر بالمأمور والمزجور فالأكل في الصلاة مزجور ثم سوى فيه بين النسيان والعمد والجماع في الإحرام كذلك ولكن متى اقترن بحالة ما يذكره كهيئة المحرمين والمصلين لا يعذر بالنسيان ومتى لم يقترن بحالة ما يذكره يعذر بالنسيان كالصوم وهنا لم تقترن بحالة ما يذكره وقد يذبح الإنسان الطير وقلبه مشتغل بشغل آخر فيترك التسمية ناسيا وعليه يحمل الحديث على أنه اذبح على اسم الله تعالى إذا كان ناسيا غير معرض بدليل أنه ذكر في بعض الروايات وإن تعمد لم يحل وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها دليلنا لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية فذلك دليله على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل(11/430)
وإنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي ثم التسمية في الذبح تشترط عند القطع وفي الاصطياد عند الإرسال والرمي لأن التكليف بحسب الوسع وفي وسعها التسمية عند الرمي وليس في وسعه التسمية عند الإصابة فتقام التسمية عند الإرسال والرمي مقامه كما يقام الجرح في المتوحش مقام الذبح في المذبح في الأهلي ولأن التسمية تقترن بفعله والقطع من فعله وفي الاصطياد فعله الإرسال والرمي وعلى هذا لو أضجع شاة وأخذ السكين وسمى ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عليها لا يحل ولو رمى سهما إلى صيد وسمى فأصاب صيدا آخر أو أخذ سكينا وسمى ثم تركها وأخذ سكينا أخرى أو أرسل كلبه إلى صيد وسمى وترك ذلك الصيد وأخذ غيره حل وكذلك لو ذبح تلك الشاة ثم ذبح شاة أخرى بعدها فظن أن تلك التسمية تكفيه لا يحل والسهم إذا أصاب ذلك الصيد وغيره أو أخذ الكلب في فوره ذلك الصيد وغيره حل الأكل وجهله ليس نظير النسيان ألا ترى أن الجهل بالحكم لا يمنع حصول الفطر بخلاف النسيان وكذلك لو نظر إلى قطيع من الغنم وأخذ(11/431)
ص -203- ... السكين وسمى ثم أخذ شاة منها وذبحها بتلك التسمية لا يحل وكذلك لو أرسل كلبه على جماعة من الصيود وسمى فأخذ أحدها يحل لأن التعيين في الاصطياد ليس في وسعه والتعيين في الذبح في وسعه.
قال: ولو أرسل كلبه ولم يسم عمدا ثم زجره وسمى فانزجر وأخذ الصيد لم يحل لأن إرساله مع ترك التسمية عمدا فعل محرم فلا ينسخ إلا بما هو مثله أو فوقه والزجر دون الإرسال بخلاف ما إذا اتبع الصيد بغير إرسال صاحبه ثم زجره صاحبه وسمى فإن انزجر بزجره وأخذ الصيد حل لأن اتباعه لم يكن فعلا معتبرا فإن فعل العجماء غير معتبر إذا لم يكن بناء على إرسال آدمي فكان زجره بمنزلة ابتداء الإرسال وقد اقتربت التسمية به وعلى هذا الأصل إذا أرسل المسلم كلبه علي صيد فزجره مجوسي فانزجر بزجره لم يضره لأن الإرسال من المسلم فعل موجب للحل فلا يرتفع إلا بما هو مثله والزجر دون الإرسال فلا يتغير به الحكم الثابت بالإرسال ولو كان المجوسي هو الذي أرسل لم ينفعه زجر المسلم لأن فعل المجوسي يحرم فلا يرتفع بزجر المسلم إياه لأنه دونه فأما إذا انبعث الكلب والبازي على أثر الصيد بغير إرسال ثم زجره صاحبه فإن لم ينزجر بزجر صاحبه لم يحل الصيد لأنه لا أثر لفعل المسلم فيأخذه وبدون الإرسال لا يحل وإن انزجره بزجر في القياس لا يحل أيضا لأن زجره ليس بإرسال فإن الإرسال يكون من يده ولم يكن في يده حين زجره وبدون الإرسال لا يحل صيد الكلب ولكنه استحسن ذلك فقال لما انزجر بزجره يجعل ذلك بمنزلة ابتداء الإرسال والصياد قد يبتلى بهذا لأن الكلب ربما يرى الصيد ولا يراه صاحبه فلو انتظر إرساله فإنه فينبعث على أثره وينظر إلى صاحبه ليزجره حتى إذا زجره كان بالقرب من الصيد فيتمكن من أخذه ثم انبعاثه لم يكن فعلا معتبرا فالحاجة إلى ابتداء الفعل لا إلى فسخ الفعل ولما انزجر بزجره جعل هذا ابتداء فعله بخلاف الأول فالحاجة هناك إلى فسخ فعل معتبر والفسخ لا يصلح لذلك وهو نظير ما(11/432)
قلنا فيمن حفر بئرا في الطريق فألقى إنسان حجرا على شفيره فيعثر إنسان في الحجر حتى هوى في البئر فالضمان على الملقى وبمثله لو ثنى حجرا من شفير البئر أو جاء به سيل فيعثر به إنسان فوقع في البئر فالضمان على الحافر لأنه لم يوجد من بعد فعله فعل معتبر فبقى حكم فعله بخلاف الأول.
قال: وإذا توارى الكلب والصيد عن المرسل المسلم ثم وجده المسلم وقد قتله وليس فيه أثر غيره حل تناوله إذا لم يترك الطلب لأنه يستطاع الامتناع منه والتواري عن بصره لا يستطاع الامتناع عنه خصوصا في القناص والمستأجر والطير بعد إصابة السهم ربما يتحامل ويطير حتى يغيب عن بصره فيسقط فإن كان ترك الطلب إلى عمل آخر حتى إذا كان قريبا من الليل طلبه فوجد الصيد ميتا والكلب عنده والبازي وبه جراحة لا يدري الكلب جرحه أو غيره لم يحل أكله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل لأنه ظهر لموته سبب وهوما كان منه من إرسال الكلب والبازي والرمي والحكم متى ظهر عقب سببه يحال عليه كما لو جرح إنساناً(11/433)
ص -204- ... فلم يزل صاحب فراش حتى مات فجعل قاتلا له ولكن نستدل بما روى أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم صيدا فقال عليه الصلاة والسلام من أين لك هذا قال كنت رميته بالأمس وكنت في طلبه حتى حال بيني وبينه ظلمة الليل ثم وجدته الليل وفيه من باقي فقال عليه الصلاة والسلام: "لعل بعض الهوام أعانك على قتله فلا حاجة لي فيه" وقال ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت والإنماء التواري عن بصرك إلا أن قدر ما لا يستطاع الامتناع عنه جعل عفوا فأما ترك الطلب مما يستطاع الامتناع عنه والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ثم في المدة القصيرة يؤمن إصابة آفة أخرى إياه ولا يؤمن ذلك إذا ترك الطلب وطالت المدة ولأنه لا يدري فلعله لو لم يترك الطلب وجده حيا فذكاه فمن هذا الوجه يكون تاركا ذكاة الاختيار فيه مع القدرة عليه وإن وجده وفيه جراحة أخرى ليس له أن يأكله ترك الطلب أو لم يترك لأنه ظهر لموته سببان أحدهما موجب للحل والآخر موجب للحرمة فيغلب كما لو وقعت الرمية في الماء.(11/434)
قال: وإذا أرسل كلبه أو بازيه على صيد فأخذ ذلك الصيد أو أخذ غيره أو أخذ عددا من الصيود فهو كله حلال ما دام على وجه الإرسال. لأن الإرسال قد صح من المسلم موجبا للعمل فما نأخذه من وجه إرساله وهو ممسك له على صاحبه يحل وتعيين الصيد في الإرسال ليس بشرط إلا على قول مالك رضي الله تعالى عنه فإنه يقول التعيين شرط حتى إذا ترك التعيين فهو كترك الإرسال وعن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال التعيين ليس بشرط ولكن إذا عين اعتبر تعيينه حتى إذا ترك ذلك وأخذ غيره لا يحل. ولكنا نقول الشرط ما في وسعه اتخاذه وهو الإرسال فأما التعيين ليس في وسعه لأنه لا يمكنه أن يعلم البازي والكلب على وجه لا يأخذ إلا ما يعينه ولأن التعيين غير مفيد في حقه ولا في حق الكلب فإن الصيود كلها فيما يرجع إلى مقصوده سواء وكذلك في حق الكلب فقصده إلى أخذ كل صيد يتمكن من أخذه وعلامة علمه إمساكه على صاحبه بترك الأكل وما ليس بمفيد لا يعتبر شرعا فسواء أخذ ذلك الصيد أو غيره حل.
قال: فإن قتل واحدا وجثم عليه طويلا ثم مر به صيد آخر فأخذه لم يؤكل" لأن فور الإرسال قد انقطع حين جثم على الأول طويلا فقد انعدم إرسال صاحبه في حق الصيد الثاني وهو شرط في الحل.
فإن قيل: كيف يكون فعله ناسخا لإرسال صاحبه؟
قلنا: إنما جثم على ذلك الصيد بناء على إرسال صاحبه ليأتيه فيأخذه منه فذلك بمنزلة فعل صاحبه ولو منعه انقطع به حكم الإرسال مع أن فعل العجماء معتبر في نسخ حكم فعل الآدمي به كمن أرسل دابة في الطريق فتركت سنن الإرسال وذهب يمنة أو يسرة فأتلفت مالا لم يجب الضمان على المرسل بخلاف ما لو ذهبت على سنن الإرسال.
قال: وإن وصل إليه صاحبه والصيد حي فأخذه فلم يذبحه حتى مات لم يؤكل أما إذا(11/435)
ص -205- ... تمكن من ذبحه فلا شك فيه لأنه ترك ذكاة الاختيار مع القدرة عليه وأما إذا لم يتمكن من ذلك فإن كان لفقد الآلة فكذلك الجواب لأن التقصير من قبله حيث لم يحمل آلة الذكاة مع نفسه وإن كان لضيق الوقت فكذلك الجواب عندنا.
وقال: الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل رحمهما الله تعالى يحل استحسانا وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأن ذكاة الاضطرار بدل عن ذكاة الاختيار وما لم يقدر على الأصل لا يسقط حكم البدل كالمتيمم إذا وجد الماء وبينه وبين الماء سبع أو عدو وهنا لم يقدر على الأصل فبقي ذكاة الاضطرار موجبا للحل ولكنا نقول ذكاة الاضطرار إنما تعتبر فيما إذا لم يقع في يده حيا وهذا قد وقع في يده حيا فسقط اعتبار ذكاة الاضطرار فيه وألحق بما كان في يده كالشاة والبعير إذا سقط فلم يتمكن من ذبحه في المذبح لضيق الوقت فجرحه فمات لم يحل فهذا مثله وهذا كله إذا كان يتوهم بقاؤه حيا مع الجرح الذي جرحه الكلب فأما إذا شق بطنه فأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حيا فمات حل تناوله لأنه استقر فيه فعل الذكاة قبل وقوعه في يده وما بقي فيه اضطراب المذبوح فلا يعتبر كمن ذبح شاة فاضطربت ووقعت في الماء بعد قطع الحلقوم والأوداج لم يحرم بذلك لهذا المعنى وقيل هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل وهو القياس لأنه وقع في يده حيا وموته مما أصابه وحياته موهوم فإنما ينبني الحكم على ما هو معلوم حقيقة وهو وقوعه حيا في يد صاحبه فلا يحل بدون ذكاة الاختيار.(11/436)
قال: والكلب الكردي والأسود في الاصطياد به إذا كان معلما كغيره لقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: من الآية4] وإنما أورد هذا لأن من الناس من يقول لا يحل ذلك وإنما الاصطياد بالكلاب الفقهية المسترخية الآذان وليس ذلك معتبرا عندنا وكذلك إذا علم شيئا من السباع حتى جعل يصيد به مثل عتاق الأرض وغيره فلا بأس بصيده لأنه مرسل معلم أمسك الصيد على صاحبه
قال: وإذا كمن الفهد في إرساله حتى استمكن من الصيد ثم وثب عليه فقتله لم يحرم أكله لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فهو عادة ظاهرة للفهد أنه يكمن ولا يعدو على أثر الصيد فيسقط اعتباره ولأنه تحقق ما قصده صاحبه بالإرسال فلا ينقطع به فور الإرسال كالوثوب.
قال: وكذلك الكلب إذا فعل ذلك فهو بمنزلة الفهد لما بينا أنه قصد به التمكن من الصيد فلا ينقطع به حكم الإرسال.
قال: وكان شيخنا رحمه الله يقول للفهد خصال ينبغي لكل عاقل أن يأخذ ذلك منه من ذلك أنه يكمن للصيد حتى يستمكن منه وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يجاهر بالخلاف مع عدوه ولكن يطلب الفرصة حتى يحصل مقصوده من غير إتعاب نفسه.
ومنه أنه لا يعدو خلف صاحبه حتى يركبه خلفه وهو يقول هو المحتاج إلي فلا أذل له فلهذا ينبغي للعاقل أن يفعله لا يذل نفسه فيما يعمل لغيره.(11/437)
ص -206- ... ومنه: أنه لا يتعلم بالضرب ولكن يضرب الكلب بين يديه إذا أكل من الصيد فيتعلم بذلك وهكذا ينبغي للعاقل أن يتعظ بغيره كما قيل السعيد من وعظ بغيره.
ومنه: أنه لا يتناول الخبيث وإنما يطلب من صاحبه اللحم الطيب وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يتناول إلا الطيب.
ومنه: أنه يثب ثلاثا أو خمسا فإن تمكن من الصيد وإلا تركه وهو يقول لا أقتل نفسي فيما أعمله لغيري وهكذا ينبغي لكل عاقل.
قال: وإذا شاركه في الصيد كلب آخر غير معلم لم يحل أكله لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: "وإذا شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" ولأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة وكذلك إن رد الصيد عليه حتى أخذه أو رده عليه سبع حتى أخذه لأنه قد أعانه على أخذ الصيد وبهذه الإعانة تثبت المشاركة بين الفعلين والبازي في ذلك كالكلب لأن فعل ما ليس بمعلم يحرم الصيد والبازي والكلب فيه سواء وإن رد الصيد على الكلب مجوسي حتى أخذه فلا بأس بأكله لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تثبت به المشاركة بل يكون الصيد مأخوذا بأخذ الكلب الذي أرسله المسلم فكان حلالا فأما فعل الكلب الذي لم يرسله صاحبه وفعل السبع من جنس فعل الكلب الذي أرسله المسلم فتتحقق المشاركة ويجتمع في الصيد الموجب للحل والموجب للحرمة.(11/438)
قال: وإذا أكل الكلب من الصيد فقد خرج عن حكم المعلم" لأن علامة المعلم فيه ترك الأكل وفي البازي الإجابة إذا دعاه فكما أن البازي إذا فر منه وامتنع من إجابته لا يكون معلما فكذلك الكلب إذا أكل من الصيد لا يكون معلما ويحرم ما عنده من صيوده قبل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحرم في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله من أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا إذا كان العهد قريبا بأخذ تلك الصيود فأما إذا تطاول عليه العهد بأن أتى عليه شهر أو نحو ذلك وقد قدر صاحبه صيوده لم تحرم تلك الصيود لأن في المدة الطويلة يتحقق النسيان فلا يكون ذلك دليلا على كونه غير معلم في ذلك الوقت وفي المدة القصيرة لا يتوهم نسيان الحرفة فتبين أنه كان عن غير علم حين اصطاد تلك الصيود وإنما لم يأكل منها للشبع لا للإمساك على صاحبه والأظهر أن الخلاف في الفصلين جميعا فهما يقولان قد حكمنا بالحل في الصيود المأخوذة وأكله من هذا الصيد محتمل قد يكون لفرط الجوع مع كونه معلما وقد يكون لإمساكه على نفسه وكونه غير معلم وما كان محكوما به لا يجوز إبطاله بالشك ولا معنى لقول من يقول قد حكمنا بكونه جاهلا حتى قلنا لا يؤكل هذا الصيد الذي أكل منه ولا ما يأخذه بعده ما لم يصر معلما إلا أنا إنما حكمنا بذلك لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال والاجتهاد دليل يصلح للعمل به في المستقبل وليس بدليل لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال والاجتهاد يصلح العمل به في المستقبل لا في بعض ما مضى بالاجتهاد والحل في(11/439)
ص -207- ... الصيود المحرزة حكم أمضى بالاجتهاد وأبو حنيفة رحمه الله يقول تبين أن ذلك صيد كلب جاهل فلا يؤكل منه كالصيد الذي أكل منه وبيان ذلك أن هذه الحرفة في الكلب إذا حصلت كانت ضرورية فلا ينسى أصلها ولكنها تضعف بالترك زمانا كالخياطة والرمي ونحوهما في الآدمي ولما وجب الحكم بكونه جاهلا في الحال تبين ضرورة أنه لم يكن معلما وأنه إنما ترك الأكل للشبع حتى لم يترك حين كان جائعا وهذا لأن الأكل وإن كان محتملا ولكن تعين فيه أحد الوجهين بدليل شرعي وهو كونه غير معلم حين حرم تناول هذا الصيد فسقط اعتبار احتمال وجه آخر وما قال أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى الاحتياط وعليه يبني الحل والحرمة.(11/440)
قال: ولا يحل صيده بعد ذلك حتى يصير معلما" بأن يصيد به ثلاثا فلا يأكل منها فيحل حينئذ الرابع في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ولكن أبو حنيفة رحمه الله لم يؤقت فيه وقتا ولكن يقول إذا صار عالما فكل من صيده وكذلك الخلاف في تعليمه في ابتداء أمره وعلى قولهما إنما يحصل بأن يجيبه إذا دعى ويرسله على الصيد فيصيده ولا يأكل منه ثلاث مرات ولم يؤقت فيه أبو حنيفة رحمه الله وقتا ولكنه قال هو مأكول إلى اجتهاد صاحبه فإن كان أكبر رأيه أنه صار معلما فهو معلم وربما قال يرجع إلى أهل العلم به من الصيادين فإذا قالوا صار معلما فهو معلم وحجتنا في ذلك أن المعلم يمسك الصيد على صاحبه وعلامة ذلك أن لا يأكل منه إلا أن ترك الأكل قد يكون للشبع وقد يكون للإمساك على صاحبه فإذا ترك ذلك مرارا على الولاء يزول به هذا الاحتمال ونعلم أنه معلم لإمساكه على صاحبه وقدرنا ذلك بالثلاث لأنه حسن الاختيار والأصل فيه قصة موسى مع معلمه عليه السلام حيث قال في الثالثة: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وكذلك الشرع قدر مدة الاختيار بثلاثة أيام للاختيار وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع" وقال عمر رضي الله تعالى عنه إذا لم يربح أحدكم في التجارة ثلاث مرات فليرجع إلى غيرها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا مدخل للقياس فيه فيكون طريق معرفته الاجتهاد والرجوع إلى من له علم في ذلك الباب قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] وهذا لأن احتمال الشبع كما يكون في المرة يكون في المرات.(11/441)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله مثل قولهما في التقدير بالثلاث إلا أن في تلك الرواية أبو حنيفة يقول يؤكل الصيد الثالث وهما يقولان لا يؤكل الصيد الثالث لأنه إنما حكم بكونه معلما حين ترك الأكل من الثلاث وآخره لهذا الصيد كان قبل ذلك فلا يؤكل منه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما يحكم بكونه معلما بطريق تعيين إمساكه الثالث على صاحبه وإذا حكمنا بأن يمسكه على صاحبه وقد أخذه بعد إرسال صاحبه حل التناول منه كالرابع.(11/442)
ص -208- ... قال: وإذاأخذ الرجل الصيد من الكلب ثم وثب عليه الكلب فانتهش منه قطعة ورمى بها صاحبها إليه فأكلها لم يفسدهما عليه" لأنه قد تم إمساكه على صاحبه حين لم يأكل منه حتى وصل إلى يد صاحبه وبعد ذلك انتهاشه منه ومن لحم آخر في مخلاة صاحبه سواء فلا يخرج به من أن يكون معلما ولأن هذا من عادة الصيادين أن يأخذ الصيد من الكلب ثم يرمي بقطعة منه إليه وكأن الكلب طالبه بهذه العادة فهو دليل حذقه لا دليل جهله وإن انتهش الكلب من الصيد قطعة في اتباعه إياه فأكلها ثم اتبعه فأخذه أو أخذ غيره فقتله لم يحل أكله لأنه لما أكل القطعة التي تمكن منها من الصيد عرفنا أنه غير معلم وأن سعيه لنفسه لا للإمساك على صاحبه وإنما ترك الأكل مما بقي لأنه شبع بتناول تلك القطعة وإن كان ألقى تلك القطعة وأخذه وقتله ولم يأكل حتى أخذه ثم عاد فأكل تلك القطعة لم تضره لأنه أمسك الصيد على صاحبه حين لم يأكل منه مع حاجته وتناوله تلك القطعة بعد وصول الصيد إلى صاحبه كتناول قطعة ألقاها إليه صاحبه بل ذلك دليل حذقه حتى اشتغل بتناول ما يعلم أن صاحبه لا يرغب فيه فهو بمنزلة ما لو شرب من دمه وقد بينا أن ذلك لا يحرم الصيد فكذلك هذا قال: ولا يحل صيد المجوسي ولا ذبيحته لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولأنهم يدعون لاثنين فلا يتحقق منهم تسمية الله تعالى على الخلوص وذلك شرط الحل في الذكاة إلا فيما يحتاج فيه إلى الذكاة من سمك أو جراد وبيضه بأخذها وما أشبه ذلك فإن الحل في هذه الأشياء ليس يثبت بالفعل حتى يحل وإن مات بغير فعل أحد ولا اقتراب التسمية بالفعل فلا يشترط التسمية للحل فيما لا يشترط فيه الفعل والمرتد في ذلك كالمجوسي أما إذا ارتد لغير دين أهل الكتاب فلا إشكال فيه لأنه كالكافر الأصلي فيما اعتقده وإن ارتد إلى دين أهل الكتاب فلأنه غير مقر على ما اعتقده وقد ترك ما كان عليه فلا(11/443)
ملة له والنكاح وحل الذبيحة ينبني على الملة قال: ولا بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي المعلم وبازيه كما يذبح بسكينه لأن المعتبر في الآلة أن تكون جارحا فلا يختلف ذلك بكون مالكه مجوسيا أو مسلما والشرط يقترن بالفعل والفاعل في الذبح والاصطياد والمسلم هو من أهل إيجاد هذا الشرط.
قال: "وإذا أرسل المجوسي كلبه على صيد ثم أسلم ثم زجره فانزجر بزجره وقتل الصيد لم يحل أكله" كما لو زجره مسلم آخر وهذا لأن أصل إرساله كان فعلا موجبا للحرمة ولم ينسخ ذلك بالزجر بعد إسلامه وإنما ينظر في هذا الجنس إلى وقت الإرسال والرمي فإن كان فيه مجوسيا أو مرتدا لم يحل صيده وإن تغير عن حاله قبل أن يأخذه وإن كان مسلما ثم ارتد والعياذ بالله لم يحرم الصيد لأن الحل باعتبار تسمية الله وقد بينا أن الشرط عند الإرسال والرمي لا عند الإصابة فإن كان مسلما في ذلك الوقت وسمى فقد تقرر فعله موجبا للحل فلا يتغير ذلك بردته كما لا يتغير ذلك بموته ولو مات قبل الإصابة فإن كان مجوسيا أو مرتدا فقد تقرر فعله موجبا للحرمة فلا يتغير بإسلامه بعد ذلك اعتبارا بفعل الرمي والإرسال هنا بالذبح في الشاة.(11/444)
ص -209- ... قال: ولا بأس بصيد اليهودي والنصراني وذبيحتهما لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: من الآية5] والمراد الذبائح إذ لو حمل على ما هو سواها من الأطعمة لم يكن لتخصيص أهل الكتاب بالذكر معنى ولأنهم يدعون التوحيد فيتحقق منهم تسمية الله تعالى على الخلوص إلا أن يسمعه المسلم يسمي عليه المسيح فإذا سمع ذلك منه لم يحل أكله لأنه ذبح بغير اسم الله عز وجل ولو فعل ذلك مسلم لم يحل لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3] فحال الكتابي في ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله يقولون يحل لأن المسلم إذا ذبح بغير اسم الله تعالى يصير مرتدا وإنما لا يؤكل بردته وهذا لا يوجد في حق الكتابي وقد أحل الشرع ذبائحهم مع قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: من الآية17] كما أخبر الله عنهم وهو يتعالى عن ذلك علوا كبيرا فإذا ظهر ذلك لم تحرم ذبيحتهم ولكنا نقول قد بينا أن الحرمة المعتبرة بالصفة إنما تثبت باعتبار تلك الصفة وقد نص الله تعالى على الحرمة بتسمية غير الله تعالى وإذا كان في حق المسلم الحرمة ليست باعتبار هذا الوصف عرفنا أن المراد بالآية الكتابي وإن كانت الحرمة في حق المسلم باعتبار هذا الوصف فكذلك في حق الكتابي.
وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وإذا سمعتموهم يذكرون اسم المسيح على ذبائحهم فلا تأكلوا
قال: فإن تهود المجوسي أو تنصر تؤكل ذبيحته وصيده لأنه يقر على ما اعتقده عندنا لأنه صار بحيث يدعى التوحيد فلا يجوز إخباره على العود إلى دعوى اثنين وإذا كان مقرى على ما اعتقده اعتبر بما لو كان عليه في الأصل ولو تمجس يهودي أو نصراني لم يحل صيده ولا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا في الأصل.(11/445)
قال: وإن كان غلام أحد أبويه نصراني والآخر مجوسي وهو يعقل الذبح تؤكل ذبيحته وصيده عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تؤكل لأنه تابع لأبويه واعتبار جانب أحدهما يوجب الحرمة والآخر يوجب الحل فيتغلب الموجب للحرمة كما لو اشترك المسلم والمجوسي في الاصطياد والذبح وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا فقد جعل العاقل اتفاق الأبوين ولم يوجد اتفاقهما في التمجس فلا يثبت حكم المجوسية في حقه ولأن أحد الأبوين ممن تحل ذبيحته فيجعل الولد تابعا له كما إذا كان أحد الأبوين مسلما والآخر مجوسيا وهذا لأن الصبي يقرب من المنافع ويبعد من المضار والنصرانية إذا قوبلت بالمجوسية فالمجوسية شر فكان اتباع الولد للكتابي أنفع للولد وإنما يترجح الموجب للحظر عند المساواة وقد انعدمت المساواة هنا فجعلنا الولد تابعا للكتابي منهما.
قال: فأما ذبيحة الصابئ وصيده يحل عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يحل وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أنه لا خلاف(11/446)
ص -210- ... بينهم في الحقيقة ولكن في الصابئين قوم يقرون بعيسى عليه السلام ويقرؤن الزبور فهم صنف من النصارى فإنما أجاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل ذبائح هؤلاء وفيهم من ينكر النبوات والكتب أصلا وإنما يعبدون الشمس وهؤلاء كعبدة الأوثان وإنما أجاب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في حق هؤلاء قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى وفيما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى عندي نظر فإن أهل الأصول لا يعرفون في جملة الصابئين من يقر بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما يقرون بإدريس عليه الصلاة والسلام ويدعون له النبوة خاصة دون غيره ويعظمون الكواكب فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم يعظمونها تعظيم الاستقبال لا تعظيم العبادة كما يستقبل المؤمنون بالقبلة فقال تحل ذبائحهم ووقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنهم يعظمونها تعظيم العبادة لها فألحقناهم بعبدة الأوثان وإنما اشتبه ذلك لأنهم يدينون بكتمان الاعتقاد ولا يستحيون باظهار الاعتقاد ألبتة وإنما احتجاج أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أولى لأن عند الاشتباه يغلب الموجب للحرمة.(11/447)
قال: ولا تؤكل السمكة الطافية فأما ما انحسر عنه الماء أو نبذه فلا بأس بأكله وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بأكل السمك الطافي واستدل بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: من الآية96] قيل الطعام من السمك ما يوجد فيه ميتا وقال عليه الصلاة والسلام في البحر: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث وفي حديث أبان بن أبي عياش رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أكل الطافي من السمك فلم ير به بأسا واعتبر السمك بالجراد بعلة أنه لا يشترط فيه الذكاة فيستوي موته بسبب وبغير سبب وحجتنا في ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما انحسر عنه الماء فكل وما طفا فلا تأكل" ولا يقال هذا نهي إشفاق لما قيل إن الطافي يورث البرص وهذا لأن الاستكثار من السمك يورث البرص الطافي وغيره سواء وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا للأحكام دون الطب وحرمة تناول الطافي مروى عن علي وبن عباس رضي الله تعالى عنهم حتى قال علي رضي الله تعالى عنه للسماكين لا تبيعوا الطافي في أسواقنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أكل الطافىء حرام ولأنه حيوان مات بغير سبب فلا يؤكل كسائر الحيوانات بخلاف الجراد فموته لا يكون إلا بسبب على ما بينا أنه بحري الأصل برى المعاش فإن مات في البحر فقد مات في غير موضع معاشه وما مات في البر فقد مات في غير موضع أصله وهذا سبب لهلاكه فوز أنه لو مات السمك بسبب وقد بينا أن الموجب للحرمة من الآثار يترجح على الموجب للحل لقوله عليه الصلاة والسلام "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ثم جميع أنواع السمك حلال الحريث والمارهيج وغيره في ذلك سواء ولا يؤكل من سوى السمك من حيوانات الماء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى(11/448)
يؤكل جميع ذلك وله في الضفدع قولان وفي الكتاب ذكر عن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: لا بأس(11/449)
ص -211- ... بصيد البحر كله وقيل الصحيح في مذهب ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى ما يؤكل جنسه من صيد البر يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل من صيد البر كالخنزير ونحوه لا يؤكل من صيد البر واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بالآية والخبر وليس فيهما تقييد السمك من بين صيد الماء وميتاتها وفي حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله تعالى قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في سفر فأصابتنا مجاعة فألقى البحر لنا دابة يقال لها عنترة فأكلنا منها وتزودنا فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه: "هل بقى عندكم شيء فتطعموني" وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {أَو لَحُمَ خِنزِيرِ} ولم يفصل بين البري والبحري وسئل عليه الصلاة والسلام عن مخ الضفدع يجعل في الدواء فنهى عن قتل الضفادع وقال: "إنها خبيثة من الخبائث" فإن ثبت بهذا الحديث أن الضفدع مستخبث غير مأكول فقيس عليه سائر حيوانات الماء ومن يقول يؤكل جميع صيد البحر دخل عليه أمر قبيح فإنه لا يجد بدا من أن يقول يؤكل إنسان الماء وهذا تشنع فعرفنا أن المأكول من المائي السمك فقط وإن المراد بقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] ما يؤخذ منه طريا ومن قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: من الآية96] المالح المقدد منه والصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه فألقى لنا البحر حوتا يقال له عنبر وهو اسم للسمك وتأويل الرواية الأخرى أنه جوز لهم التناول لضرورة المجاعة أو كان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] ثم الأصل عندنا في إباحة السمك أن ما مات منه بسبب فهو حلال كالمأخوذ منه وما مات بغير سبب فهو غير مأكول كالطافىء فإن ضرب سمكة فقطع بعضها فلا بأس بأكلها لوجود السبب وكذلك إن وجد في بطنها سمكة أخرى لأن ضيق المكان سبب(11/450)
لموتها وكذلك إن قتلها شيء من طير الماء وغيره وكذلك إن ماتت في جب لأن ضيق المكان سبب لموتها وكذلك إن جمعها في حظيرة لا تستطيع الخروج منها وهو يقدر على أخذها بغير صيد فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر لموتها سبب وإذا مات السمك في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكل شيئا ألقاه في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله وكذلك لو ربطها في الماء فماتت فهذا كله سبب لموتها وهو في معنى "ما انحسر عنه الماء" وقال عليه الصلاة والسلام "ما انحسر عنه الماء فكل" وكذلك لو انجمد الماء فبقيت بين الجمد فماتت فأما إذا ماتت بحر الماء أو برده ففيه روايتان فعلى إحدى الروايتين تؤكل لوجود السبب لموتها وفي الرواية الأخرى لا تؤكل لأن الماء لا يقتل السمك حارا أو بارداً.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه إذا انحسر الماء عن بعضه فإن كان رأسه في الماء فمات لا يؤكل وإن انحسر الماء عن رأسه وبقي ذنبه في الماء فهذا سبب لموته فيؤكل.
قال: وإذا أرسل بازيه المعلم على صيد ووقع على صيد ثم اتبع الصيد وأخذه وقتله فلا بأس بأكله" لأن هذا مما لا يستطاع الامتناع منه ولأن من عادة البازي هذا أن يقع على شيء(11/451)
ص -212- ... وينظر إلى صيد ليأتيه من الجانب الذي يتمكن من أخذه فهو بمنزلة كمين الفهد فلا يحرم به صيده ولا ينقطع به فور الإرسال.
قال: وإذا أصاب السهم الصيد فأثخنه حتى لا يستطيع براحا ثم رماه بسهم آخر فقتله لم يحل أكله" لأن هذا قد صار أهليا فقد عجز بالفعل الأول عن الاستيحاش والطيران فذكاته بعد ذلك بالذبح في المذبح لا بالرمي بل الرمي في مثله موجب للحرمة ولما اجتمع فيه الموجب للحرمة والموجب للحل يغلب الموجب للحرمة ولأن إثخانه إياه كأخذه ولهذا لو أثخنه أحدهما وأخذه الآخر فهو للأول ولو أخذه ثم رماه فقتله لم يؤكل فكذلك إذا أثخنه وإن رمى بالسهم الثاني غيره فقتله لم يحل أيضا لما بينا ويغرم قيمته مجروحا للأول في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأبو حنيفة في هذا لا يخالفهما ولكن لم يحفظ جوابه فذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهذا لأن الفعل من الأول موجب للملك له والحل له والثاني بفعله أتلف صيدا مملوكا للأول فيضمن قيمته بالصفة التي أتلفه وإنما أتلفه مجروحا بالجرح الأول وإن علم أنه مات من الجراحتين جميعا فإنه يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول ونصف قيمته لحما ذكيا لأن النصف مات بفعله والنصف بفعل الأول لأن الثاني أفسد عليه اللحم في ذلك النصف فلهذا ضمن نصف قيمته لحما ذكيا وإن أصابته رمية الثاني قبل أن يصيبه الأول لم يحرم أكله ولا يلزمه غرمه لأن رمية الثاني لم تخرجه من أن يكون صيدا فقد سبق ملكه فلا يغرم له شيئا وإذا كان الصيد يتحامل ويطير مع إصابه من رمية الأول فرماه الآخر فقتله فهو للثاني حلال لأنه هو الذي أخرجه من أن يكون صيدا بفعله والأول كالمقر له والثاني كالآخذ والصيد لمن أخذ لا لمن أثار.(11/452)
وإن رمياه جميعا معا أو أحدهما بعد صاحبه قبل أن يصيبه السهم الأول فقتلاه فهو لهما جميعا حلال لأن كل واحد منهما رمى إلى صيد مباح وأصابه الرميتان جميعا معا فقد استويا في سبب الملك وذلك موجب المساواة في الملك وفعل كل واحد منهما مذك للصيد فيحل تناوله لهما وإن رمياه معا فأصابه سهم أحدهما فأثخنه ثم أصاب السهم الآخر فهو للأول ويحل تناوله عندنا وقال زفر رحمه الله لا يحل لأن الرمية من الثاني أصابته وليس بصيد والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا نقول فعل كل واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى صيد وفي الحل المعتبر وقت الرمي لأن الحل بالذكاة وهو فعل المذكي وفعله الرمي فأما في الملك فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر لموتها سبب وإذا مات السمك بالشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكل منها شيئا ألقاه في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله وكذلك لو ربطها في الماء فهذا كله سبب لموتها والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا نقول فعل كل واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى الصيد وفي الحل المعتبر وقت الرمي لأن الحل بالذكاة وهو فعل المذكي وفعله الرمي فأما في الملك المعتبر وقت الإصابة لأن الملك يثبت بالإحراز وإحراز الصيد(11/453)
ص -213- ... بالإصابة دون الرمي وعلى هذا لو رمى إلى صيد وسمى فتكسر الصيد ثم أصابه السهم حل عندنا ولم يحل عند زفر ومن أخذ صيدا أو فرخ صيد من دار رجل أو أرضه فهو له لقوله عليه الصلاة والسلام "الصيد لمن أخذ" وهذا لأن صاحب الملك لم يثبت يده على فرخ الصيد لكونه في ملكه لأنه ما أفرخ ليتركه بل ليطيره بخلاف النحل العسالة إذا عسلت في أرض رجل فهو لصاحب الأرض لأنها القت ذلك للترك والقرار في ذلك الموضع فهو بمنزلة طين مجتمع في أرض رجل من السيل يكون له.
قال: مالم يحرزه صاحب الدار بالقبض عليه أو إغلاق باب ليحرزه به بحيث يقدر على أخذه بغير صيد فإذا فعل ذلك فقد تم إحرازه ثم الآخذ إنما أخذ صيدا مملوكا فعليه رده على مالكه كمن نصب شبكة فوقع فيها صيد ثم أخذه إنسان آخر فعليه رده على صاحب الشبكة.
ولو تكسر صيد في أرض إنسان فصار بحيث لا يستطيع براحا أو رمى صيدا فوقع في أرض رجل لا يدري من رماه فأخذه رجل آخر فهو للذي أخذه لأن الإحراز من الأخذ ولم يوجد من جهة صاحب الملك إحراز له وإن عجز الصيد عن الطيران بما أصابه والمباح إنما يملك بالإحراز.
قال: وكل من اصطاد سمكا من نهر جار لرجل فهو للذي أخذه لأن صاحب النهر ما صار محرزا له بل هو صيد في نهره فالمحرز له من اصطاده وكذلك إن كانت أجمة لا يقدر على أخذ صيدها إلا بالاصطياد فصاحب الأجمة صار محرزا لما حصل فيها من السمك إنما المحرز الآخذ فإن كان صاحب الأجمة احتال لذلك حتى أخرج الماء وبقي السمك فهو لصاحب الأجمة لأنه صار محرزا بما صنع فالسمك على اليبس لا يكون صيدا فإذا صار بفعله بحيث يتمكن من أخذه من غير صيد فهو محرز له قال: وإذا عجز المسلم عن مد قوسه وأعانه مجوسي على مده لم يحل الصيد لاجتماع الموجب للحظر والموجب للحل فإن فعل المجوسي من جنس فعل المسلم فتحققت المشاركة بينهما كما لو أخذ مجوسي بيد المسلم فذبح والسكين في يد المسلم.(11/454)
قال: وإذا أصاب السهم الصيد فوقع على الأرض ومات حل أكله استحسانا" وفي القياس لا يحل لجواز أن يكون مات بوقوعه على الأرض وجه الاستحسان أن هذا مما لا يستطاع الامتناع عنه إذ ليس في وسعه أن يرميه على وجه يبقى في الهواء ولا يسقط وإن وقع في ماء أو على جبل ثم وقع منه على الأرض ومات لم يؤكل وفي الوقوع في الماء أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه ونسلم قال لعدي بن حاتم رضي الله عنه وقد بينا ولأن من الجائز أن الماء قتله وهذا يستطاع الامتناع منه وكذلك إن وقع على جبل ثم منه على الأرض فهذا مترد ومن الجائز أن التردي قتله وقد قال الله تعالى في جملة المحرمات {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: من الآية3] وكذلك كل ما أصابه قبل أن يستقر على مكانه الذي يموت عليه يعني وقع على شجرة ثم وقع منها على الأرض وإن مات على ذلك الشيء ولم يقع على(11/455)
ص -214- ... الأرض حيا فهو حلال وكذلك إن مات قبل وقوعه في الماء ثم وقع في الماء لأن التردي والوقوع في الماء كان بعد تمام فعل الذكاة ولم يكن سببا لموته وإن وقع على جبل ومات ولو على السطح فمات حل لأن الموضع الذي وقع فيه بمنزلة الأرض وقد بينا أن ذلك لا يستطاع الامتناع منه فيكون عفوا وهذا إذا كان ما وقع عليه مما لا يقتل فإن كان ما يقتل مثل حد الرمح والقضيبة المنصوبة وحد الآجر واللبنة القائمة ونحوها لم يؤكل لأن هذا سبب لموته وهو فعل آخر سوى فعل الذكاة يستطاع الامتناع منه وفي الأصل قال إن وقع على آجرة موضوعة على الأرض فمات فهذا بمنزلة الأرض ويؤكل وذكر في المنتقى لو وقع على صخرة فانشق بطنه فمات لم يؤكل وليس هذا باختلاف الروايات بل مراده ما ذكر في المنتقى إذا أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك وهذا سبب لموته سوى الذكاة ومراده مما ذكر في الأصل أنه لم يصبه من الآجرة إلا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليه وذلك عفو لأنه لا يستطاع الامتناع منه.(11/456)
قال: فإن رمى صيدا بسهم فأصاب فمر السهم في سننه فأصاب ذلك الصيد أو غيره أو أصابه ونفذ إلى غيره فأصابه حل جميع ذلك لما بينا أن فعل الرمي يذكي لما يصيبه في سننه سواء أصاب صيدا أو صيدين وإن عرض للسهم ريح فرده إلى ما وراءه فأصاب صيدا لم يؤكل لأن الإصابة لم تكن بقوة الرامي بل بقوة الريح فهو نظير سهم موضوع في موضع حمله الريح فضربه على صيد فمات وفعل الريح لا يكون ذكاة الصيد وكذلك إن رده يمنة أو يسرة حتى إذا أصاب صيدا لم يحل وإن لم يرده عن جهته حل صيده لأنه ما دام يمضي في سننه فمضيه مضاف إلى قوة الرامي فأما إذا رده الريح يمنة أو يسرة فقد انقطع حكم هذه الإضافة لأن الرامي لا يحب مضي السهم يمنة أو يسرة فيصير مضافا إلى الريح لا إلى الرامي وما دام يمضي في جهته فالريح يزيده في قوته فلا ينقطع به حكم إضافة القوة إلى الرامي وعن أبي يوسف قال وإن رده يمنة أو يسرة يحل أيضا لأنه ليس بضد للجهة التي قصدها الرامي ولا يمكن الاحتراز عنه إذا كان يصطاد في يوم ريح وكذلك لو أصاب السهم حائطا أو شجرا أو شيئا آخر فرده فهو ورد الريح سواء في جميع ما ذكرنا لأن مضيه إلى ما وراءه بصلابة الشجر والحائط لا بقوة الرمي وكذلك لو أصابه سهم آخر قبل أن يصيب الصيد فرده عن وجهه فأصاب صيدا لم يؤكل وتأويل هذا إذا كان الرامي بالسهم الثاني مجوسيا أو لم يكن قصده الاصطياد إنما كان قصده الرمي إلى ذلك السهم فأما إذا كان قصد الثاني الاصطياد وسمى فإن الصيد يكون له ويحل تناوله ولا فرق بين أن يصيبه سهم أو يرد سهما آخر فيصيبه وقيل بل لا يحل على كل حال لأن الحل باعتبار فعل الرامي وجرح الآلة والسهم الذي رماه للثاني ما جرح الصيد والذي جرح الصيد ما رماه الثاني ولا كان مضيه بقوة من رمى به فهو بمنزلة ما لو أصاب السهم قصبة محدودة منصوبة في حائط وأصابت تلك القصبة الصيد بحدها فجرحته وذلك غير مأكول فهذا مثله.(11/457)
قال: ولا يحل صيد البندق والحجر والمعراض والعصا وما أشبه ذلك وإن جرح(11/458)
ص -215- ... لأنه لم يخرق إلا أن يكون شيئا من ذلك قد حدده وطوله كالسهم وأمكن أن يرمي به فإذا كان كذلك وخرقه بحده حل لما بينا أن المطلوب بالذكاة تسييل الدم وذلك يحصل بالخرق والبضع فأما الجرح الذي يدق في الباطن ولا يخرق في الظاهر فلا يحصل تسييل الدم به فهو في معنى الموقوذة والموقوذة حرام بالنص والمثقل بالحديد وغير الحديد في ذلك سواء وكذلك لو رمى الصيد بالسكين فأصابه بحده وجرحه يؤكل وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السكين لم يؤكل والمزراق كالسهم يخرق ويعمل في تسييل الدم وإن حدد مروة فذبح بها صيدا حل لحصول تسييل الدم بحد الآلة وفي حديث محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد رضي الله عنه قال أخذت أرنبتين فذبحتهما بمروة محددة ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجوز لي أكلهما.
قال: وما توحش من الأهليات حل بنا يحل به الصيد من الرمي" لما بينا من الخبر أن لها أوابد كأوابد الوحش وقد روى عن محمد في البعير والبقرة إذ أنه في المصر أو خارج المصر فرماه إنسان حل به لأنه يدفع عن نفسه نصيبا له ويخاف فوته وإن كان في المصر وأما الشاة إذا مدت في المصر فلا تحل بالرمي لأنه يمكنه أخذها في المصر عادة فلم يتحقق العجز عن ذكاة الاختيار وإذا مدت خارج المصر تحل بالرمي لأنه يخاف فوتها خارج المصر فللعجز عن ذكاة الاختيار يكتفي فيها بذكاة الاضطرار.
قال: وإذا أصاب السهم الظلف والقرن فقتله حل أيضا به إذا أدماه ووصلت الرمية إلى اللحم" لأن ما هو المقصود وهو تسييل الدم قد حصل وكذلك المتردي في بئر لا يقدر على ذكاته فأينما وجىء منه فأدماه فهو ذكاة لأن المعتبر وقوع العجز عن ذكاة الاختيار وقد يتحقق ذلك بالتردي في البئر فهو وما ند سواء(11/459)
قال: وإن ري صيدا بسيف فأبان منه عضوا ومات أكل الصيد كله إلا ما بان عنه لقوله عليه الصلاة والسلام "ما أبين من الحي فهو ميت" ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم ما كانوا يعتادونه في الجاهلية فإنهم كانوا يقطعون بعض لحم الألية من الشاة وربما لا يقطعون بعض لحم العجز منها فيأكلونه فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأن فعل الذكاة لا يتحقق في المبان مقصودا وأصل الشاة حية وبدون الذكاة لا يثبت الحل وهذا المعنى موجود هنا فحكم الذكاة استقر في الصيد بعد ما مات وهذا العضو مبان من حين مات فلا يسري حكم الذكاة إلى ذلك العضو ولا يمكن إثبات حكم الذكاة في ذلك العضو مقصودا بالإبانة كما لو بقي الصيد حيا فلهذا لا يؤكل ذلك العضو وإن لم يكن بأن ذلك العضو منه أكل كله لأن بقاء الاتصال يسري حكم الذكاة إلى ذلك العضو فيكون حلالا كغيره وإن كان تعلق منه بجلدة فإن كان بمنزلة ما قد بان منه فلا يؤكل ومراده من ذلك إذا كان بحيث لا يتوهم اتصاله بعلاج فهو المبان سواء وإن كان بحيث يتوهم ذلك فهذا جرح وليس بإبانة فيؤكل كله وإن قطعه نصفين يؤكل كله لأن فعله أثمر ما يكون من الذكاة إذ لا يتوهم بقاؤه حيا بعد ما قطعه نصفين طولا وإن قطع الثلث منه مما(11/460)
ص -216- ... يلي العجز فأبانه فإنه يؤكل الثلثان اللذان مما يلي الرأس ولا يؤكل الثلث مما يلي العجز فإن قطع الثلث مما يلي الرأس فأبانه فإنه يؤكل كله لأن ما بين النصف إلى العنق مذبح يريد به أن الأوداج من القلب إلى الدماغ وإن قطع الثلث مما يلي العجز لم يستقر فعل الذكاة بهذا حين لم تقطع الأوداج وإنما استقر بموته وهذا الجرح مبان عنه عند ذلك فأما إذا أبان الثلث مما يلي الرأس فقد استقر حكم الذكاة بقطع الأوداج بنفسه وكذلك إن قده نصفين فقد استفز فعل الذكاة بقطع الأوداج فلهذا يؤكل كله فإن أبان طائفة من رأسه فإن كان أقل من النصف لم يؤكل ما بان منه لأن الرأس ليس بمذبح فهو كما لو أبان جزءا من الذنب وإن كان النصف أو أكثر أكل لأنه يتقطع الأوداج به فيكون فعله ذكاة بنفسه.(11/461)
قال: ولو ضرب وسمى وقطع ظلفه فإن أدماه فلا بأس بأكله وإن لم يكن أدماه لم يؤكل لأن تسييل الدم النجس لم يحصل وعلى هذا لو ضرب عنق شاة بسيف فأبانه من قبل الأوداج فإنه يؤكل وفي الكتاب رواه عن عمران بن حصين رضي الله عنه وقد أساء فيما صنع حين ترك الإحسان في الذبح واختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله فيمن ذبح شاة في المذبح فلم يسل الدم منها وقد يكون ذلك إذا كانت قد أكلت العناب وكان أبو القاسم الصفار رضي الله تعالى عنه يقول لا يحل لانعدام معنى الذكاة وهو تسييل الدم النجس وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل" وكان أبو بكر الإسكاف رحمه الله تعالى يقول لا بأس بأكله لوجود فعل الذكاة على ما قال عليه الصلاة والسلام : "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" وقد يمتنع بعض الدم في العروق لحابس يحبسه وذلك غير موجب للحرمة بالاتفاق وهذا مثله لم يبن ما يؤكل وما لا يؤكل من الصيود وقد تقدم بيان ذلك وذكر في جملة ما لا يؤكل اليربوع والقنفذ وما أشبههما من الهوام لأن الطباع السليمة تستخبثها فيدخل تحت قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: من الآية157]
قال: ولا يجوز بيع الضفدع والسرطان وما أشبههما وكذلك جمل الماء ولا يجوز بيع شيء من ذلك إلا السمك لأنه ليس له ثمن ومعنى هذا ما بينا أن البيع لا يجوز إلا فيما هو مال متقوم والمال ما يتمول والتقوم به يكون منتفعا به وسائر حيوانات الماء سوى السمك غير مأكول اللحم ولا منفعة لها سوى الأكل فلم يكن مالا متقوما فإن كان شيئا له ثمن كجلود الحمر ونحوها فبيعه جائز لأن هذا منتفع به بوجه حلال فيكون متقوما فيجوز بيعه.
قال: ولا خير في أكل النسر والعقاب وأشباههما من صيد البر لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ذي مخلب من الطير فأما العقعق والسودانية وأشباه ذلك مما لا مخلب له فلا بأس بأكله وقد بينا الكلام في الغراب فيما سبق.(11/462)
قال: ولا تكره الصلاة على جلد ما يكره أكله من ذي الناب لأن الذكاة تعمل فيما يؤكل لحمه في طيبة اللحم وطهارة الجلد وفيما لا يؤكل لحمه يعمل في طهارة الجلد وإن كان لا يعمل في طيبة اللحم لأن الجلد محل قابل لهذا الحكم ألا ترى أنه يطهر بالدباغ قال عليه(11/463)
ص -217- ... الصلاة والسلام "إيما إهاب دبغ فقد طهر" فكذلك بالذكاة وقد بينا هذا الفصل في كتاب الصلاة وتكره لحوم الإبل الجلالة والعمل عليها وتلك حالها إلى أن تحبس أياما لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحم الجلالة وفي رواية أن يحج على الجلالة ويعتمر عليها وينتفع بها وتفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف ولا تخلط فيتعين لحمها ويكون لحمها منتنا فحرم الأكل لأنه من الخبائث والعمل عليها لتأذي الناس بنتنها وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه يظهر أثر ذلك من لحمه فلا بأس بأكله والعمل عليه حتى ذكر في النوادر لو أن جديا غذى بلبن خنزير فلا بأس بأكله لأنه لم يتغير لحمه وما غذى به صار مستهلكا ولم يبق له أثر وعلى هذا نقول لا بأس بأكل الدجاجة وإن كانت تقع على الجيف لأنها تخلط ولا يتغير لحمها ولا ينتن وقيل هي تنقش الجيف تبتغي الحب فيها لا أن تتناول الجيف وكان ابن عمر رضي الله عنه يكره أكل الدجاج لأنه يتناول الجيف ولسنا نأخذ بهذا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من لحم الدجاج ولو كان فيه أدنى خبث لامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تناوله والذي روى أنه كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يذبحها فذلك على سبيل التنزه من غير أن يكون ذلك شرطا في الدجاجة وغيرها مما يخلط وإنما يشترط ذلك في الجلالة التي لا تأكل إلا الجيف وفي الكتاب قال تحبس أياما على علف طاهر قيل ثلاثة أيام وقيل عشرة أيام والأصلح أنها تحبس إلى أن تزول الرائحة المنتنة عنها لأن الحرمة لذلك وهو شيء محسوس ولا يتقدر بالزمان لاختلاف الحيوانات في ذلك فيصار فيه إلى اعتبار زوال المضر فإذا زال بالعلف الطاهر حل تناوله والعمل عليه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/464)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثاني عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(12/1)
ص -3- ... كتاب الذبائح
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام السرخسي رحمه الله تعالى لا يحل ما ذبح بسن أو ظفر غير منزوع لأنه قتل وتخنيق وليس بذبح ففي الذبح الانقطاع بحدة الآلة وفي هذا الموضع الانقطاع بقوته لا بحدة الآلة ولأن آلة الذبح غير الذابح وسنه وظفره منه ولا بأس بأكله إذا كان منزوعا عندنا ولا يحل عند الشافعي رحمه الله تعالى لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل ما خلا السن والظفر فإنها مدى الحبشة" ولكنا نقول المراد غير المنزوع فإن الحبشة يستعملون في ذلك سنهم وظفرهم قبل النزع وذكر في بعض الروايات ما خلا العض بالسن والقرض بالظفر والعض والقرض إنما يتحقق في غير المنزوع عادة ثم المنزوع آلة محددة يحصل بها تسييل الدم النجس فكانت كالسكين إلا أنه يكره الذبح بها لزيادة ايلام ومشقة على الحيوان ولا يعد هذا الفصل من الاحسان في الذبح قال عليه الصلاة والسلام: "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح" الحديث.
قال: وما أنهر الدم وأفرى الأوداج فلا بأس بأن يذبح به حديدا كان أو قصبا أو حجرا محددا أو غير ذلك" لما روى أن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال أرأيت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صاد أحدنا صيدا وليس معه سكين فذبحه بشق العصا أو بالمروة أيحل ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "أنهر الدم بما شئت وكل" ولأن المقصود تمييز الطاهر من النجس وذلك حاصل بكل آلة محددة ثم تمام الذكاة بقطع الحلقوم والمريء والودجين فإن قطع الأكثر من ذلك فذلك كقطع الجميع في الجل لحصول المقصود في الأكثر من ذلك.(12/2)
واختلفت الروايات في تفسير ذلك فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا قطع ثلاثا منها أي ثلاث كان فقد قطع الأكثر وعن محمد رحمه الله تعالى قال إن قطع الأكثر من كل واحدة منها فذلك يقوم مقام قطع الجميع فأما بدون ذلك بتوهم البقاء فلا تتم الذكاة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال وإن قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين حل وشرط ثلاثة فيها الحلقوم والمريء وأحد الودجين لأن الحلقوم مجرى العلف والمريء مجرى النفس والودجان مجرى الدم فبقطع أحد الودجين يحصل ما هو المقصود من تسييل الدم فأما قطع مجرى النفس لا بد منه ولا يقوم غيره مقامه في ذلك
والشافعي رحمه الله تعالى يقول وإذا قطع الحلقوم والمريء حل وإن لم يقطع الودجين لأنه لا بقاء بعد قطع الحلقوم والمريء ولكن هذا فاسد لأن المقصود تسييل الدم النجس وبدون حصول المقصود لا يثبت الحل.(12/3)
ص -4- ... قال: وإذا ذبحت شاة من قبل القفا فقطع الأكثر من هذه الأشياء قبل أن تموت حلت لتمام فعل الذكاة وإن ماتت قبل قطع الأكثر لم تحل لأنها ماتت بالجرح لا بالذبح في المذبح ولأنه لا يثبت الحل عند القدرة على الذبح في المذبح ويكره هذا الفعل لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه.
قال: وكذلك إن ضربها بسيف فأبان رأسها حلت ويكره وكذلك إن ذبحها متوجهة لغير القبلة حلت ولكن يكره ذلك لأن السنة في الذبح استقبال القبلة هكذا روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بأضحيته القبلة لما أراد ذبحها وهكذا نقل عن علي رضي الله تعالى عنه وهذا لأن أهل الجاهلية ربما كانوا يستقبلون بذبائحهم الأصنام فأمرنا باستقبال القبلة لتعظيم جهة القبلة ولكن تركه لا يفسد الذبيحة بخلاف ترك التسمية لأن في التسمية تعظيم الله تعالى وذلك فرض فأما استقبال القبلة لتعظيم الجهة وذلك مندوب إليه في غير الصلاة فلهذا كان تركه موجبا للكراهة غير مفسد للذبيحة.
قال: وإن نحر البقرة حلت ويكره ذلك لما بينا أن السنة في البقرة الذبح قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: من الآية67].
بخلاف الإبل فالسنة فيها النحر وهذا لأن موضع النحر من البعير لا لحم عليه وما سوى ذلك من حلقه عليه لحم غليظ فكان النحر في الإبل أسهل فأما في البقر أسفل الحلق وأعلاه فاللحم عليه سواء كما في الغنم فالذبح فيه أيسر والمقصود تسييل الدم والعروق من أسفل الحلق إلى أعلاه فالمقصود يحل بالقطع في أي موضع كان منه فلهذا حل وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" ولكن ترك الأسهل مكروه في كل جنس لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه.(12/4)
قال: وإن ذبح الشاة فاضطربت فوقعت في ماء أو تردت في موضع لم يضرها شيء لأن فعل الذكاة قد استقر فيها فإنما انزهق حياتها به ولا معتبر باضطرابها بعد استقرار الذكاة فهذا لحم وقع في ماء أو سقط من موضع
قال: وإن أراد أن يذبح عددا من الذبائح لم تجز التسمية للأولى عما بعدها لما بينا أن الشرط أن يسمي على الذبح وذبحه للشاة الثانية غير ذبحه للشاة الأولى.
قال: ولو أضجعها للذبح وسمى عليها ثم القى تلك السكين وأخذ أخرى فذبح بها تؤكل لوجود التسمية منه على فعل الذبح بخلاف الرمي لأنه لو أخذ سهما وسمى عليه ووضعه وأخذ سهما آخر جدد عليه التسمية لما بينا أن المعتبر هناك التسمية على فعل الرمي وذلك يحل والسهم الثاني غير الأول وهنا الشرط التسمية على الذبح دون السكين وفعل الذبح يختلف باختلاف المذبوح لا باختلاف السكين فوزان هذا من ذلك أن لو ترك تلك الشاة وذبح أخرى بتلك التسمية.(12/5)
ص -5- ... قال: ولو كلم إنسانا أو شرب ماء أو حد سكينا وما أشبه ذلك من عمل لم يكثر ثم ذبح جاز بتلك التسمية لوجود التسمية على الذبح فبالعمل اليسير لا يقع الفصل بين التسمية والذبح بخلاف ما إذا طال الحديث أو طال العمل ثم ذبح فإنه مكروه لحصول الفصل بين التسمية والذبح ألا ترى أن بالعمل الكثير ينقطع المجلس وباليسير لا ينقطع وكذلك الكلام قال: وإن قال مكان التسمية الحمد لله أو سبحان الله أو الله أكبر يريد به التسمية أجزأه" لأن الشرط ذكر الله تعالى على التعظيم وقد حصل وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بين هذا وبين التكبير فيقول المأمور به هنا الذكر قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: من الآية36] وهناك المأمور به التكبير وبهذه الألفاظ لا يكون تكبيرا فلا يصير شارعا في الصلاة إذا كان يحسن التكبير وإن أراد بذلك التحميد دون التسمية لا يحل لأن الشرط تسمية الله تعالى على الذبح وإنما يتميز الذكر على الذبح وغيره يقصد منه التسمية فإذا لم يقصد التسمية لا يحل حتى إذا عطس فقال الحمد لله يريد التحميد على العطاس لم يحل بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الخطيب إذا عطس على المنبر فقال الحمد لله يجوز أن يصلي الجمعة بذلك القدر على إحدى الروايتين لأن المأمور به هناك ذكر الله تعالى مطلقا لقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: من الآية9] وهنا المأمور به ذكر الله على الذبح وبمعرفة حدود كلام الشرع يحسن الفقه قال: "ويكره أن ينخع وقد نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك" وبينا أن معناه أن يبلغ الحد النخاع وهو عرق أبيض في وسط عظم الرقبة ولكن مع هذا تؤكل لأن النهي ليس لنقصان فيما هو المطلوب للذبح وهو تسييل الدم بل لزيادة إيلام غير محتاج إليه قال: ويكره أن يجر الشاة إلى مذبحها" وقد بينا النهي عن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عمر رضي الله تعالى(12/6)
عنه وكذلك يكره أن يحد الشفرة بعد ما أضجعها وقد روينا النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن النهي ليس لنقصان فيما هو المطلوب للذبح فلا يوجب الحرمة.
قال: ويكره أن يسمى مع اسم الله تعالى شيئا فيقول اللهم تقبل من فلان لقول ابن مسعود رضي الله عنه جردوا التسمية ولأن الشرط بتسمية الله تعالى على الخلوص عند الذبح قبل فما يكون منه من الدعاء فينبغي أن يكون قبل الذبح أو بعده كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذبح أضحيته قال "اللهم هذا منك وإليك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين باسم الله والله أكبر" ثم يذبح وهكذا روي عن علي رضي الله عنه قال: ولا بأس بذبيحة المسلمة والكتابية لأن تسمية الله تعالى على الخلوص يتحقق من النساء كما يتحقق من الرجال وكذلك الصبي الذي يعقل ويضبط فهو من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص ولهذا صح إسلامه وإن كان لا يعقل فلا يتحقق منه تسمية الله تعالى على الخلوص وهو شرط الحل فهذا لا خير في ذبيحته.
قال: ولا بأس بذبيحة أهل الكتاب من أهل الحرب هكذا روي عن علي رضي الله تعالى(12/7)
ص -6- ... عنه وهذا لأنهم يدعون التوحيد سواء كانوا أهل الذمة أو أهل الحرب وإنما أباح الشارع ذبائحهم لأنهم أهل الكتاب قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: من الآية5] والحربي والذمي في ذلك سواء.
قال: وذبيحة الأخرس حلال مسلما كان أو كتابيا لأن عذره أبين من عذر الناس فإذا كان في حق الناس تقام ملته مقام تسميته ففي حق الأخرس أولى
قال: وما أدركت من المتردية والنطيحة وما أكل السبع ونظائر هذا فذكيته حل لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا علم أنها كانت حية حين ذبحت حلت سواء كانت الحياة فيها متوهمة البقاء أو غير متوهمة البقاء لأن المقصود تسييل الدم النجس بفعل ذكاة وقد حصل وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن كان يتوهم أن يعيش يوما أو أكثر تحل بالذكاة وفي رواية اعتبر توهم البقاء أكثر من نصف يوم لأن ما دون ذلك اضطراب المذبوح فلا معتبر به وعن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نقر الذئب بطن شاة وأخرج ما فيها ثم ذبحت لم تحل لأنه ليس فيها حياة مستقرة فإنه لا يتوهم أن تعيش بعدها فما بقي فيها إلا اضطراب مذبوح وذلك غير معتبر.
قال: ومن ذبح شاة أو غيرها فخرج من بطنها جنين ميت لم يؤكل الجنين" في قول أبي حنيفة وزفر وهو قول إبراهيم وحكم بن عيينة رحمهم الله تعالى(12/8)
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يؤكل إلا أنه روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إنما يؤكل الجنين إذا أشعر وتمت خلقته فأما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا يؤكل. واحتجوا بقول الله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: من الآية142] قيل الفرش الصغار من الأجنة والحمولة الكبار فقد من الله تعالى على عباده بأكل ذلك لهم وفي المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه ذكاة الأم نائبة عن ذكاة الجنين كما يقال لسان الوزير لسان الأمير وبيع الوصي بيع اليتيم وروى ذكاة أمه بالنصب ومعناه بذكاة أمه إلا أنه صار منصوبا بنزع حرف الخفض عنه كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: من الآية31] أي ببشر وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا لننحر الجزور فيخرج من بطنها جنين ميت أفنلقيه أم نأكله فقال صلوات الله وسلامه عليه: "كلوه فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه" والمعنى فيه أن الذكاة تنبني على التوسع حتى يكون في الأهل بالذبح في المذبح فإذا ند فبالجرح في أي موضع أصابه لأن ذلك وسع مثله والذي في وسعه في الجنين ذبح الأم لأنه ما دام مخبيا في البطن لا يتأتى فيه فعل الذبح مقصودا وبعد الإخراج لا يبقى حيا فتجعل ذكاة الأم ذكاة له لأن تأثير الذبح في الأم في زهوق الحياة عن الجنين فوق تأثير الجرح بحل رجل الصيد فالغالب هناك السلامة وهنا الهلاك ثم اكتفى بذلك الفعل لأنه وسع مثله فهنا أولى ولأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم حتى يتغذى بغذائها وينمو بنمائها ويقطع عنها بالمقراض كما في بيان الجزء من الجملة ويتبعها في الأحكام تبعية الأجزاء حتى لا يجوز استثناء في عنقها(12/9)
ص -7- ... وبيعها كاستثناء يدها ورجلها وثبوت الحل في البيع لوجود فعل الذكاة في الأصل والدليل عليه أنه يحل ذبح الشاة الحامل ولو لم يحل الجنين بذبح الأم لما حل ذبحها حاملا لما فيه من إتلاف للحيوان لا للمأكلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: من الآية3] فإن أحسن أحواله أن يكون حيا عند ذبح الأم فيموت باحتباس نفسه وهذا هو المنخنقة وقال عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضي الله عنه "إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن الماء قتله أم سهمك" فقد حرم الأكل عند وقوع الشك في سبب زهوق الحياة وذلك موجود في الجنين فإنه لا يدري أنه مات بذبح الأم أو باحتباس نفسه وقد يتأتى الاحتراز عنه في الجملة لأنه قد يتوهم انفصاله حيا ليذبح وعلل إبراهيم فقال ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين ومعنى هذا أن الجنين في حكم الحياة نفس على حدة مودعة في الأم حتى ينفصل حيا فيبقى ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال وكذلك بعد موت الأم يتوهم انفصال الجنين حيا ولا يتوهم بقاء حياة الجزء بعد موت الأصل والذكاة تصرف في الحياة فإذا كان في حكم الحياة نفسا على حدة فيشترط فيه ذكاة على حدة ولا نقول يتغذى بغذاء الأم بل يبقيه الله تعالى في بطن الأم من غير غذاء أو يوصل الله إليه الغذاء كيف شاء ثم بعد الانفصال قد يتغذى أيضا بغذاء الأم بواسطة اللبن ولم يكن في حكم الجزء ولما جعل في سائر الأحكام تبعا لم يتصور تقرر ذلك الحكم في الأم دونه حتى لا يتصور انفصاله حيا بعد موت الأم ولو انفصل حيا ثم مات لم يحل عندهم فعرفنا أنه ليس يتبع في هذا الحكم وحقيقة المعنى فيه ما بينا أن المطلوب بالذكاة تسييل الدم لتمييز الطاهر من النجس وبذبح الأم لا يحصل هذا المقصود في الجنين أو المقصود تطييب اللحم بالنضج الذي يحصل بالتوقد والتلهيب ولا يحصل ذلك في الجنين بذبح(12/10)
وهذا الجواب عما قالوا إن الذكاة تنبني على التوسع قلنا نعم ولكن لا يسقط بالعذر وكما لو قتل الكلب الصيد غما أو اختفاء وهذا لأن المقصود لا يحصل بدون الجرح وإباحة ذبح الحامل لأنه يتوهم أن ينفصل الجنين حيا فيذبح ولأن المقصود لحم الأم وذبح الحيوان لغرض صحيح حلال كما لو ذبح ما ليس بمأكول لمقصود الجلد والمراد بالحديث التنبيه لا النيابة أي ذكاة الجنين كذكاة أمه ألا ترى أنه ذكر الجنين أولا ولو كان المراد النيابة لذكر النائب أولا دون المنوب عنه كما قيل في الألفاظ التي استشهد بها ومثل هذا يذكر للتشبيه يقال فلان شبه أبيه وحظ فلان حظ أبيه وقال القائل:
وعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
والمراد التشبيه ويصح هذا التأويل في الرواية بالنصب فإن المنزوع حرف الكاف قال الله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: من الآية88] أي كمر السحاب ويحتمل الباء أيضا ولكن إن جعلنا المنزوع حرف الكاف لم يحل الجنين وإن جعلناه حرف الباء يحل ومتى اجتمع الموجب للحل والموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة والحديث مع القصة لا يكاد يصح ولو ثبت(12/11)
ص -8- ... فالمراد من قولهم فيخرج من بطنها جنين ميت أي مشرف على الموت قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم "كلوه" أي اذبحوه وكلوه والمراد بالفرش الصغار فلا يتناول الجنين ولئن كان المراد به الجنس ففيه بيان أن الجنين مأكول وبه نقول ولكن عند وجود الشرط فيه وهو أن ينفصل حيا فيذبح فيحل به والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الأضحية
قال رحمه الله تعالى اعلم بأن القرب المالية نوعان نوع بطريق التمليك كالصدقات ونوع بطريق الإتلاف كالعتق ويجتمع في الأضحية معنيان فإنه تقرب باراقة الدم وهو إتلاف ثم بالتصدق باللحم وهو تمليك.(12/12)
قال: وهي واجبة على المياسير والمقيمين عندنا" وذكر في الجامع عن أبي يوسف أنها سنة وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام: "كتبت علي الأضحية ولم تكتب عليكم" وقال عليه الصلاة والسلام: "خصصت بثلاث وهي لكم سنة الأضحية وصلاة الضحى والوتر" وقال صلى الله عليه وسلم: "ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام" وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه ليغدو علي ألف شاة ويراح فلا أضحي مخافة أن يراها الناس واجبة ولأنها لا تجب على المسافر وكل دم لا يجب على المسافر لا يجب على المقيم كالعنبرة وهذا لأنه لا يفرق بين المسافر والمقيم في العبادات المالية كالزكاة وصدقة الفطر لأنهما لا يستويان في ملك المال وإنما الفرق بينهما في البدن لأن المسافر يلحقه المشقة بالأداء بالبدن والدليل عليه أن يحل له التناول منه وإطعام الغنى ولو كان واجبا لم يحل له التناول كما في جزاء الصيد ونحوه ولأن التقرب بالإتلاف لا يجب ابتداء بل بسبب من العبد كالعتق في الكفارات ولهذا أوجبنا الأضحية بالنذر وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي وانحر الأضحية والأمر يقتضي الوجوب وقال عليه الصلاة والسلام: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" والحاق الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب وقال عليه الصلاة والسلام: "من ضحى قبل الصلاة فليعد ومن لم يضح فليذبح على اسم الله تعالى" والأمر يفيد الوجوب وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "ضحوا" أمر وقوله: "فإنها سنة أبيكم" إبراهيم أي طريقته فالسنة الطريقة في الدين وذلك لا ينفي الوجوب ولا حجه في قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم تكتب عليكم" فإنا نقول بأنها غير مكتوبة بل هي واجبة فالمكتوب ما يكون فرضا يكفر جاحده فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا بكون الأضحية مكتوبة عليه كما(12/13)
قال وتأويل حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما لا يضحيان في حال الإعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين أو في حال السفر وهو تأويل حديث أبي مسعود رضي الله عنه ولا كلام في المسألة على سبيل المقايسة والعبادات لا تثبت قياسا ولكن على سبيل الاستدلال نقول هذه قربة يضاف إليها وفيها فتكون واجبة كالجمعة وبيان الوصف: أنه(12/14)
ص -9- ... يقال يوم الأضحى وتأثيره أن إضافة الوقت إليه لا تتحقق الأوان يكون موجودا فيه ولا يكون موجودا فيه لا محالة الأوان تكون واجبة لجواز أن يجتمع الناس على ترك ما ليس بواجب ولا يجتمعون على ترك الواجب وإن اجتمعوا على ذلك لم يخرج من أن يكون موجودا فيه استحقاقا ولجواز الأداء فيه لا يصير الوقت مضافا إليه كسائر الأيام يجوز فيها الصوم ثم لا يسمى شهر الصوم إلا رمضان فعرفنا أن إضافة الوقت إلى القربة تدل على وجوبها فيه وإنما لا تجب على المسافر لمعنى المشقة فإن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استصحاب ذلك في السفر ويفوت بمضي الوقت فلدفع المشقة لا تلزمه كالجمعة بخلاف سائر العبادات المالية وإباحة التناول بإذن من له الحق فإنه بالتضحية يجعلها الله تعالى وقد قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: من الآية58] ولما كان من جنس التقرب بالتمليك ما هو واجب ابتداء فكذلك من جنس التقرب بالإتلاف ما هو واجب ابتداء وليس ذلك إلا في الأضحية وفي الوجوب بالنذر دليل على أن من جنسه واجبا شرعا فإن ما ليس من جنسه واجبا شرعا لا يصح التزامه بالنذر كعيادة المريض ثم يختص جواز الأداء بأيام النحر وهي ثلاثة أيام عندنا قال عليه الصلاة والسلام: "أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها فإذا غربت الشمس من اليوم الثالث لم تجز التضحية بعد ذلك" وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه تجوز في اليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق وهذا ضعيف فإن هذه القربة تختص بأيام النحر دون أيام التشريق ألا ترى أن الأفضل أداؤها في اليوم الأول وهو العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر لا أيام التشريق على ما قيل الأيام المعدودات ثلاثة وهي أيام النحر والمعلومات ثلاثة وهي أيام التشريق وتمضي هذه السنة في أربعة أيام فاليوم الأول من المعدودات خاصة واليوم الآخر من المعلومات خاصة وقيل المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق ثم يختص جواز الأضحية بالإبل(12/15)
والبقر والغنم ولا يجزئه إلا الثني من ذلك في الإبل والبقر والمعز ويجزي الجذع من الضأن إذا كان عظيما سمينا لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ضحوا بالثنيات ولا تضحوا بالجذعان" ولأن الجذع ناقص وقد أمرنا في الضحايا بالاستعظام والاستشراف قال عليه الصلاة والسلام "عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" فأما الجذع من الضأن يجزئ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا ساق جذعا إلى منى فبادت عليه فروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن فانتهبوها" ثم الثني من الغنم وهو الذي تم له سنتان عند أهل الأدب وعند أهل الفقه الذي تمت له سنة والثني من البقر الذي تم له حولان وطعن في الثالث عند جمهور الفقهاء رحمهم الله تعالى ومن الإبل الذي تم له خمس سنين والجذع من الإبل ما تم له خمس سنين ومن البقر ما تم له حولان وهكذا من الغنم عند أهل الأدب وعند أهل الفقة إذا تم له سبعة أشهر فهو جذع بعد ذلك ولا خلاف أن الجذع من المعز لا يجوز وإنما ذلك من الضأن خاصة ثم أول وقت الأضحية عند طلوع الفجر الثاني من يوم النحر إلا أن في حق أهل الأمصار يشترط تقديم الصلاة على(12/16)
ص -10- ... الأضحية فمن ضحى قبل الصلاة في المصر لا تجزئه لعدم الشرط لا لعدم الوقت ولهذا جازت التضحية في القرى بعد انشقاق الفجر ودخول الوقت لا يختلف في حق أهل الأمصار والقرى إنما يختلفون في وجوب الصلاة فليس على أهل القرى صلاة العيد وإنما عرفنا هذا في حق أهل الأمصار بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من ضحى قبل الصلاة فليعد" فقام خالي أبو بردة بن بشار رضي الله عنه قال إني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك شاة لحم فأعد نسيكتك" فقال عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله وسلامه عليه: "تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أول نسكنا في هذا اليوم أن نصلي ثم نذبح" ومن يذبح من أهل الأمصار أضحيته قبل أن يصلي الإمام لم تجزه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلي فيه صلاة العيد عادة جازت الأضحية بعد ذلك لأنهم لو صلوا جازت التضحية فلا يتغير ذلك بتأخير الإمام الصلاة كما لو زالت الشمس ولكن نقول الواجب مراعاة الترتيب المنصوص وما بقي وقت الصلاة فمراعاة الترتيب ممكن بخلاف مابعد الزوال فقد خرج وقت صلاة العيد بزوال الشمس في هذا اليوم ولهذا تجوز التضحية بعد ذلك.
قال: وإذا ذبحها بعد ما انصرف أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة أجزأه استحسانا ومعنى هذا أن للإمام أن يخرج بالناس إلى الجبانة ويستخلف من يصلي بالضعفة في الجامع هكذا فعله علي رضي الله تعالى عنه حين قدم الكوفة.(12/17)
قال: وإذا ذبح بعد ما فرغ أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة ففي القياس لا تجزئه لأن اعتبار جانب أهل الجبانة يمنع الجواز واعتبار جانب أهل المسجد يجوز ذلك وفي العبادات يؤخذ بالاحتياط ولكنا استحسنا وقلنا قد أديت صلاة العيد في المصر حتى لو اكتفوا بذلك أجزأهم فتجوز التضحية بعد ذلك لأن الترتيب المشروط قد وجد حين ضحى بعد صلاة العيد في هذا المصر ولم يذكر ما لو سبق أهل الجبانة بالصلاة فضحى رجل قبل أن يصلي أهل المسجد وقيل في هذا الموضع يجوز قياسا واستحسانا لأن المسنون في العيد الخروج إلى الجبانة فأهل الجبانة هم الأصل وقد صلوا وقيل للقياس والاستحسان فيهما لأن أداء الصلاة في المسجد أفضل منه بالجبانة وإذا كان في الموضع الذي صلى فيه أهل المسجد قياسا واستحسانا لما ذكرنا فهنا أولى قال: ولا بأس بأن يضحي بالجماء وبمكسور القرن أما الجماء فلان ما فات منها غير مقصود لأن الأضحية من الإبل أفضل ولا قرن له وإذا ثبت جواز الجماء فمكسور القرن أولى وقد روى في ذلك عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وكذلك الخصي لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين أو موحوين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته والمراد خصيان وكان إبراهيم يقول ما يزاد في لحمه بالخصاء أنفع للمساكين مما يفوت بالأنثيين إذ لا منفعة للفقراء في ذلك.
قال: ولا بأس أن يضحي بالجرباء والتولاء إذا كانت سمينة والجرباء التي بها جرب(12/18)
ص -11- ... وإذا كانت سمينة فالجرب في جلدها لا في لحمها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بالعجفاء التي لا تنقي والتولاء هي المجنونة والجنون عيب في القضاة لا في الشاة فإذا كانت سمينة فما هو المقصود منها باق واشتراط السمن في الحديث الذي روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين يرعيان في سواد وينظران في سواد ويأكلان في سواد ومقصود الراوي من هذه المبالغة بيان السمن.
قال: ولا بأس أن يشترك سبعة نفر في بقرة أو بدنة" وقال مالك رحمه الله تعالى يجوز عن أهل بيت واحد بقرة واحدة وإن كانوا أكثر من سبعة ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل من سبعة لقوله عليه الصلاة والسلام "على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعنبرة" ومذهبنا مروي عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما والاستدلال بحديث جابر رضي الله عنه قال اشتركنا يوم الحديبية في البقرة والبدنة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة والمراد بذكر أهل البيت قيم البيت لأن اليسار له عادة.(12/19)
وقد ذكر في بعض الروايات "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعنبرة" ويستوي إن كان قصدهم جميعا التضحية أو قصد بعضهم قربة أخرى عندنا وعند زفر لا يجوز إلا إذا قصدوا جميعا التضحية وقال الشافعي يجوز وإن كان قصد بعضهم للحم وقد بينا هذا في المناسك فإن كان الشركاء في البدنة ثمانية لم تجزهم لأن نصيب كل واحد منهم دون السبع وكذلك إن كان نصيب أحدهم دون السبع حتى لو سئل عن رجل مات وترك ابنا وامرأة وبقرة وضحى بها يوم العيد هل يجوز؟ والجواب أنه لا يجوز لأن نصيب المرأة الثمن فإذا لم يجز ثمنها في نصيبها لا يجوز في نصيب الابن أيضا فإن مات أحد الشركاء في البدنة ورضي ورثته بالتضحية بها عن الميت مع الشركاء في القياس لا يجوز وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن نصيب الميت صار ميراثا والتضحية تقرب بطريق الإتلاف فلا يصح التبرع به من الوارث عن الميت كالعتق وإذا لم يجز في نصيبه لم يجز في نصيب الشركاء وفي الاستحسان يجوز لأن معنى القربة حصل في إراقة الدم فإن التبرع من الوارث عن مورثه بالقرب المالية صحيح كالتصدق وإنما لا يجوز العتق لما فيه من إلزام الولاء وذلك غير موجود في الأضحية وعلى هذا إذا كان أحد الشركاء أم ولد ضحى عنها مولاه أو صغير ضحى عنه أبوه ولا خلاف أنه ليس على المولى أن يضحي عن أحد من مماليكه فإن تبرع بذلك جاز وإذا جعله شريكا في البدنة ففيه قياس واستحسان لما بينا وأما الأب ليس عليه أن يضحي عن ولده الصغار في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن ذلك عليه كصدقة الفطر لأنه جزء منه فكما يلزمه أن يضحي عن نفسه عند يساره فكذلك عن جزئه وجه ظاهر الرواية أن ما لا يلزمه عن مملوكه لا يلزمه عن ولده كسائر القرب بخلاف صدقة الفطر وهذا لأن كل واحد منهما كسبه ولو كانت التضحية عن أولاده واجبة لأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك كما أمر بصدقة الفطر وإن كان للصبي مال فقال بعض(12/20)
مشايخنا رحمهم الله تعالى على الأب والوصي أن يضحي من ماله(12/21)
ص -12- ... عند أبي حنيفة رضي الله عنه على قياس صدقة الفطر الأصح أنه لا يجب ذلك وليس له أن يفعله من ماله لأنه إن كان المقصود الإتلاف فالأب لا يملكه في مال الولد كالعتق وإن كان المقصود التصدق باللحم بعد إراقة الدم فذاك تطوع غير واجب ومال الصبي لا يحتمل صدقة التطوع.
قال: وإذا اشترى أضحية ثم باعها فاشترى مثلها فلا بأس بذلك لأن بنفس الشراء لا تتعين الأضحية قبل أن يوجبها وبعد الإيجاب يجوز بيعها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويكره وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجوز لتعلق حق الله تعالى بعينها ولكنهما يقولان تعلق حق الله تعالى بها لا يزيل ملكه عنها ولا يعجزه عن تسليمها وجواز البيع باعتبار الملك والقدرة على التسليم ألا ترى أنا نجوز بيع مال الزكاة لهذا والأصل فيه ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام دفع دينارا إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه ليشتري له شاة للأضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله في صفقتك" أما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به فقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعه بعد ما اشتراها للأضحية وإن كانت الثانية شرا من الأولى وقد كان أوجب الأولى فتصدق بالفضل فيما بين القيمتين أما جواز الثانية عن الأضحية فلاستجماع شرائط الجواز وأما التصدق فإنه لما أوجب الأولى فقد جعل ذلك القدر من ماله لله تعالى فلا يكون له أن يستفضل شيئا منه لنفسه فيتصدق بفضل القيمة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه بالتصدق بالدينار ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال هذا إذا كان فقيرا أما إذا كان غنيا ممن يجب عليه الأضحية فليس عليه أن يتصدق بفضل القيمة لأن في حق الغني الوجوب عليه بإيجاب الشرع فلا يتعين بتعيينه في هذا المحل ألا ترى أنها لو هلكت(12/22)
بقيت الأضحية عليه فإذا كان ما يضحى به محلا صالحا لم يلزمه شيء آخر وأما الفقير فليس عليه أضحية شرعا وإنما لزمه بالتزامه في هذا المحل بعينه ولهذا لو هلكت لم يلزمه شيء آخر فإذا استفضل لنفسه شيئا مما التزمه كان عليه أن يتصدق به.
قال الشيخ الإمام: والأصح عندي أن الجواب فيهما سواء لأن الأضحية وإن كانت واجبة على الغنى في ذمته فهو متمكن من تعيين الواجب في محل فيتعين بتعيينه في هذا المحل من حيث قدر المالية لأنه تعيين مقيد وإن كان لا يتعين من حيث فراغ الذمة.
قال: والأضحية أحب إلي من التصدق بمثل ثمنها والمراد في أيام النحر لأن الواجب التقرب بإراقة الدم ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة ففي حق الموسر الذي يلزمه ذلك لا إشكال أنه لا يلزمه التصدق بقيمته وهذا لأنه لا قيمة لإراقة الدم وإقامة المتقوم مقام ما ليس بمتقوم لا تجوز وإراقة الدم خالص حق الله تعالى ولا وجه للتعليل فيما هو خالص حق الله تعالى وأشرنا بهذا إلى الفرق بين هذا والزكاة وصدقة الفطر وأما في حق الفقير التضحية أفضل لما فيه من الجمع بين التقرب بإراقة الدم والتصدق ولأنه متمكن من التقرب بالتصدق(12/23)
ص -13- ... في سائر الأوقات ولا يتمكن من التقرب بإراقة الدم إلا في هذه الأيام فكان أفضل وأما بعد مضي أيام النحر فقد سقط معنى التقرب بإراقة الدم لأنها لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم وفي زمان مخصوص وهو أيام النحر ولكن يلزمه التصدق بقيمة الأضحية إذا كان ممن تجب عليه الأضحية لأن تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها والتقرب بالمال في غير أيام النحر يكون بالتصدق ولأنه كان يتقرب بسببين إراقة الدم والتصدق باللحم وقد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه.
قال: وليس على الرجل أن يضحي عن أولاده الكبار ولا عن امرأته كما ليس عليه صدقة الفطر عنهم في يوم الفطر وهذا لأن عليهم أن يضحوا عن أنفسهم فلا يجب عليه أن يضحي عنهم قال: وإذا ولدت الأضحية قبل أن يذبحها ذبح ولدها معها لأن حكم التقرب بإراقة الدم ثبت في عينها فيسرى إلى ولدها لأنه متولد من عينها والولد وإن لم يكن محلا للتقرب بإراقة الدم مقصودا يثبت الحكم فيه تبعا للأم ولأن الشرائط تعتبر فيما هو أصل ووجودها في الأصل يغني عن اعتبارها في البيع فإن باعه تصدق بثمنه لأن معنى القربة يثبت فيه فلا يكون له أن يصرف ماليته إلى نفسه كما في حق الأم وكذلك إن أمسك ولدها حتى مضت أيام النحر تصدق به قال الإمام ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها لأنه أعدها للقربة بجميع أجزائها فلا ينبغي له أن يصرف شيئا منها إلى حاجة نفسه لأن ذلك في معنى الرجوع في الصدقة وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه: "فيما دون هذا لا تعد في صدقتك".(12/24)
قال: ويكره أن يبيع جلد الأضحية بعد الذبح لقوله عليه الصلاة والسلام: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له" وقال لعلي رضي الله عنه: "تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا" فكما يكره له أن يعطي جلدها الجزار فكذلك يكره له أن يبيع الجلد فإن فعل ذلك تصدق بثمنه كما لو باع شيئا من لحمها.
قال: ولا بأس بأن يشتري بجلد الأضحية متاعا للبيت لأنه لو دبغه وانتفع به في بيته جاز وكذلك إذا اشترى به ما ينتفع به في بيته لأن للبدل حكم المبدل وهذا استحسان وقد ذكر في نوادر هشام قال يشتري به الغربال والجراب وما أشبه ذلك ولا يشتري به الخل والمري والملح وما أشبه ذلك والقياس في الكل واحد ولكنه استحسن فقال ما يكون طريق الانتفاع به تناول العين فهو من باب التصرف على قصد التمول فليس له أن يفعل ذلك في جلد الأضحية وما ينتفع به في البيت مع بقاء العين فهو نظير عين الجلد وكان له أن يفعل ذلك.
قال: ويكره له أن يحلب الأضحية إذا كان لها لبن فينتفع بلبنها كما يكره له الانتفاع بصوفها" لأن اللبن يتولد من عينها وقد جعلها للقربة فلا يصرف شيئا منها إلى منفعة نفسه قبل أن يبلغ محله ولكنه ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص منه اللبن ولا يتأدى به إلا أن هذا(12/25)
ص -14- ... إنما ينفع إذا كان يقرب من أيام النحر فأما إذا كان بالبعد فلا يفيد هذا لأنه ينزل ثانيا وثالثا بعد ما يتقلص ولكنه ينبغي له أن يحلبها ويتصدق باللبن كالهدي إذا عطبت قبل أن يبلغ محله فإن عليه أن يذبحها ويتصدق بلحمها وقد بيناه في المناسك.
قال: وإن اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه ثم اشترك معه ستة أجزأه استحساناً.
وفي القياس لا يجزئه وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه أعدها للقربة فلا يكون له أن يبيع شيئا منها بعد ذلك على قصد التمول والاشتراك بهذه الصفة يوضحه أن هذا رجوع منه عن بعض ما تقرب به وذلك حرام شرعا وجه الاستحسان أنه لو أشركهم معه في الابتداء بأن اشتروا جملة جاز فكذلك إذا أشركهم بعد الشراء قبل إتمام المقصود وهذا لأن الإنسان قد يبتلي بهذا فإنه قد يجد بقرة سمينة فيشتريها ثم يطلب شركاءه فيها فلو لم يجز ذلك أدى إلى الحرج.
قال: ولو فعل ذلك قبل أن يشتري كان أحسن لأنه أبعد عن الاختلاف وليس فيه معنى الرجوع في القربة لا صورة ولا معنى فكان ذلك أفضل.
قال: ولا تجوز العوراء في الأضحية لقوله عليه الصلاة والسلام: "استشرفوا العين والأذن" وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحي بأربعة العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي ثم الأصل أن العيب الفاحش مانع لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] واليسير من العيب غير مانع لأن الحيوان قلما ينجو من العيب اليسير فاليسير ما لا أثر له في لحمها وللعور أثر في ذلك لأنه لا يبصر بعين واحدة من العلف ما يبصر بالعينين وعند قلة العلف يتبين العجف ثم العين والأذن منصوص على اعتبارها فإذا كانت مقطوعة الأذن لم تجز لانعدام شرط منصوص وإذا كانت مقطوعة الطرف فكذلك بطريق الأولى.(12/26)
قال وإن كان المقطوع بعض ذلك ففي ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن كان المقطوع أكثر من الثلث لا يجزئه وإن كان الثلث أو أقل يجزئه وهكذا روى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى اعتبارا بالوصية فإن الثلث في الوصية كما دونه ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث وفي رواية بشر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان الذاهب أقل من الثلث يجوز وإن كان أكثر من الثلث لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: "الثلث والثلث كثير" وفي رواية ابن شجاع إذا كان الذاهب الربع لا يجزئ لأن للربع حكم الكمال كما في مسح الرأس وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا بقى الأكثر من العين والأذن أجزأه قال وذكرت قولي لأبي حنيفة فقال قولي قولك قيل هذا رجوع من أبي حنيفة إلى قوله وقيل معناه قولي قريب من ذلك وجه قول أبي يوسف أن القلة والكثرة من الأسماء المقابلة فإذا كان الذاهب أقل من النصف قلنا إذا قابلت الذاهب بالباقي كان الباقي أكثر وإذا كان الذاهب أكثر من النصف فإذا قابلته بالباقي كان الذاهب أكثر فإذا كان الذاهب النصف قال لا يجوز لأنه لما استوى المانع والمجوز يترجح المانع احتياطا فأما الشق في الأذن فهو عيب يسير ألا ترى أنه يفعل ذلك للعلامة بمنزلة السمة(12/27)
ص -15- ... فلا يمنع الجواز ومن العلماء رحمهم الله تعالى من لا يجوز لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحي بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة فالشرقاء أن يكون الخرق في أذنها طولا والخرقاء أن يكون عرضا والمقابلة قطع في مقدم أذنها والمدابرة في مؤخر أذنها وتأويل ذلك عندنا إذا كانت بعض الأذن مقطوعة وكان الذاهب أكثر من الثلث لما بينا فأما العرجاء إذا كانت تمشي فلا بأس به لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن العرجاء فقال: "إذا كانت تبلغ فلا بأس" به فإذا كانت لا تقوم ولا تمشي لا يجوز لأن ذلك يؤثر في لحمها فإنها لا تعلف إلا ما حولها وإذا كانت تمشي فهي تذهب إلى العلف فلا يؤثر في لحمها ولا تجزئ العجفاء التي لا تبقى للنهي الذي روينا ولأن هذا عيب فاحش أثر في لحمها ويستوي إن اشتراها كذلك أو صارت عنده كذلك وهو موسر لأن الواجب في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى بالناقص فأما إذا كان معسرا أجزأه لأنه لا واجب في ذمته بل يثبت الحق في العين فيتأدى بالعين على أي صفة كانت وذلك مروي عن علي رضي الله عنه وكذلك لو ماتت عنده أو سرقت فعليه بدلها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا وعلى هذا قالوا الموسر إذا ضلت أضحيته فاشترى أخرى ثم وجد الأولى فله أن يضحي بأيهما شاء وإن كان معسرا فاشتراها وأوجبها فضلت ثم اشترى أخرى فأوجبها ثم وجد الأولى فعليه أن يضحي بهما لأن الوجوب في العين بايجابه وقد وجد ذلك في الثانية كالأولى وإن أصابها شيء من هذه العيوب في اضطرابها حين أضجعها للذبح وذبحها على مكانها ففي القياس لا تجزئه لأنه تأدى الواجب بالأضحية لا بالإضجاع وهي معيبة عند التضحية بها وفي الاستحسان تجزئة لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فقد ينقلب السكين من يده فتصيب عينها فيجعل ذلك عفوا لدفع الحرج ولأنه أضجعها ليتقرب بإتلافها فتلف جزء منها في هذه الحالة من عمل التقرب فلا يمنع الجواز بخلاف ما قبل الإضجاع وعن أبي(12/28)
يوسف قال إذا أصابها ذلك في يوم النحر ثم ضحى بها بعد ذلك بيوم أو يومين جاز لأنه جاء وقت إتلافها تقربا فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يمنع الجواز.
قال: ولا يجوز أن يضحي بشاة ليس لها أذنان خلقت كذلك وهي السكاء لأن قطع الأذن لما كان مانعا من الجواز فعدم الأذن أصلا أولى بعض فأما صغيرة الأذن تجزئ لأن الأذن منها صحيحة وإن كانت صغيرة وأما الهتماء فكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أولا لا يجوز أن يضحي بها وإن كانت تعتلف ثم رجع وقال يجوز إذا كانت تعتلف لأنه وقع عنده في أن يضحي بها لأن الهتماء ليس لها أسنان ثم علم بعد ذلك أن الهتماء مكسورة بعض الأسنان فإذا كانت تعتلف فالباقي من الأسنان أكثر من الذاهب وذلك لا يمنع الجواز عنده ثم قال والتي لا أسنان لها بمنزلة التي لا أذن لها فكل واحد منهما مقصود في البدن بل السن في الأنعام أقرب إلى المقصود من الأذن لأنها تعتلف بالأسنان.
قال: ولا يجوز في الضحايا والواجبات بقر الوحش وحمر الوحش والظبي لأن الأضحية عرفت قربة بالشرع وإنما ورد الشرع بها من الأنعام ولأن إراقة الدم من الوحشي ليس(12/29)
ص -16- ... بقربة أصلا والقربة لا تتأدى بما ليس بقربة وإذا كان الولد بين وحشي وأهلي فإن كانت الأم أهلية جازت التضحية بالولد وإن كانت وحشية لا تجوز لأن الولد جزء من الأم فإن ماء الفحل يصير مستهلكا بحضانتها وإنما ينفصل الولد منها ولهذا يتبعها في الرق والملك فكذلك في التضحية وهذا لأنه ينفصل من الفحل وهو ماء غير محل لهذا الحكم وينفصل من الأم وهو حيوان محل لهذا الحكم فلهذا جعلناه معتبرا بالأم.
قال: رجل ذبح أضحية غيره بغير أذنه ففي القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية" وهو قول زفر لأنه متعد في ذبح شاة الغير فكان ضامنا كمن ذبح شاة القصاب ثم الأضحية لا تتأدى إلا بعمل المضحى وبيته ولم يوجد ذلك حين فعله الغير بغير أذنه ففي القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية ولكنا نستحسن ونقول يجزئه ولا ضمان على الذابح لأنه لما عينها للأضحية فقد صار مستغنيا بكل واحد بالتضحية بها في أيام النحر لأن ذلك يفوته بمضي الوقت وربما يعرض له عارض في أيام النحر والأذن دلالة كالأذن إفصاحا كما في شرب ماء في السقاية ونظائرها وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجزئه من الأضحية ولكن الذابح ضامن لقيمتها وهذا بعيد فالجواز لا يكون إلا بعد وجود الأذن دلالة ولو وجد الأذن إفصاحا لم يضمن فكذلك إذا وجد الأذن دلالة وعلى هذا لو أن رجلين غلطا فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه على نفسه أجزأ كل واحد منهما استحسانا ويأخذ كل واحد منهما مسلوخه من صاحبه فإن كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزئهما لأنه لو أطعم كل واحد منهما صاحبه لحم أضحيته جاز ذلك غنيا كان أو فقيراً.
قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن تشاحا فلكل واحد منهما تضمين صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة كما لو باع لحم أضحيته فعليه أن يتصدق بالثمن.(12/30)
قال: ولو أمر مجوسيا فذبح أضحيته لم تجزه" لأن هذا إفساد لا تقرب فإن ذبيحة المجوسي لا تؤكل ولو أمر يهوديا أو نصرانيا بذلك أجزأه لأنهما من أهل الذبح ولكنه مكروه لأن هذا من عمل القربة وفعله ليس بقربة قال:
فإن ذبح أضحيته بنفسه فهو أفضل لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ساق مائة بدنة نحر منها ثلاثا وستين بنفسه ثم ولى الباقي عليا رضي الله عنه وحين ضحى بالشاتين ذبحهما بنفسه ولكن هذا إذا كان يحسن ذلك فإن كان يخاف أن يعجز عن ذلك فالأفضل أن يستعين بغيره ولكنه ينبغي له أن يشهدها بنفسه لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: "قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب" أما أنه يجاء بلحمها ودمها يوم القيامة فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أهذا لآل محمد عليه الصلاة والسلام فهم أهل لما خصوا به من الخير أم للمسلمين عامة قال عليه الصلاة والسلام "لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة" قال: والأضحية تجب على أهل السواد كما تجب على أهل الأمصار لأنهم مقيمون مياسير وإنما لم(12/31)
ص -17- ... تجب على المسافرين لما يلحقهم من المشقة في تحصيلها وذلك غير موجود في حق أهل القرى وفي الأصل ذكر عن إبراهيم قال هي واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج وأراد بأهل الأمصار المقيمين وبالحاج المسافرين فأما أهل مكة فعليهم الأضحية وإن حجوا قال: ولا بأس لأهل القرى أن يذبحوا الأضاحي بعد انشقاق الفجر لما بينا أن دخول الوقت بانشقاق الفجر من يوم النحر إلا أن أهل الأمصار عليهم الصلاة فيلزمهم مراعاة الترتيب ولا صلاة على أهل القرى لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع" ثم المعتبر المكان الذي فيه الأضحية حتى إذا كان الرجل بالمصر وأضحيته بالسواد يجوز أن يضحي بها بعد انشقاق الفجر فأما إذا كان هو بالسواد وأضحيته بالمصر لا يجوز أن يضحي بها إلا بعد فراغ الإمام من الصلاة وقد بينا أن أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وذلك مروي عن عمر وعلي وبن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: ويجزيه الذبح في لياليها إلا أنهم كرهوا الذبح في الليالي لأنه لا يأمن أن يغلط فتفسد الظلمة الليل ولكن هذا لا يمنع الجواز قال: وليس على أهل منى يوم النحر صلاة العيد لأنهم في وقت صلاة العيد مشغولون بأداء المناسك فلا يلزمهم صلاة العيد ويجوز لهم التضحية بعد انشقاق الفجر كما لا يجوز لأهل القرى والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب من الصيد أيضاً(12/32)
قال رحمه الله تعالى ومن انفلت من يده صيد بعد ما أحرزه فأخذه غيره فهو للأول لأنه مال مملوك له فلا يزول ملكه بالانفلات من يده ولا يملكه الثاني بالأخذ لأنه بالأخذ يملك الصيد المباح لا المال المملوك كمن أبق عبده فأخذه إنسان آخر لا يملكه ومن نصب شبكة فوقع فيها صيد وصار بحيث لا يقدر على الذهاب فأخذه رجل فصاحب الشبكة أحق به لأنه صار آخذا له بالوقوع في شبكته وهذا بخلاف ما لو ضرب فسطاطا فتعلق به صيد فأخذه إنسان فهو للآخذ لأن ناصب الشبكة يقصد الاصطياد فيصير هذا آخذا للصيد بالوقوع في شبكته ولهذا لو فعله محرم كان ضامنا وضارب الفسطاط ما قصد الاصطياد فلا يكون آخذا له وإن تعلق بفسطاطه ولهذا لو فعله محرم لم يضمن قال: ومن أخذ بازيا أو شبهه في مصر أو سواد وفي رجليه سير أو جلاجل وهو يعرف أنه أهلي فعليه أن يعرفه ليرده على صاحبه لأنه تيقن بثبوت يد الغير عليه قبله فإنه لا يخرج من البيضة مع الجلاجل فأما أن يكون انفلت من يد صاحبه أو أرسله فلا يزول ملكه في الوجهين كمن سيب دابته فعرفنا أنه ملك الغير في يده بمنزلة اللقطة فعليه أن يعرفه ليرده على صاحبه وكذلك إن أخذ ظبيا وفي عنقه قلادة وكذلك لو أخذ حمامة في المصر يعرف أن مثلها لا يكون وحشية فعليه أن يعرفها لأنها بمنزلة اللقطة وبهذا تبين أن من اتخذ برج حمام فأوكرت فيه حمام الناس فما يأخذ من فراخها لايحل له لأن الفرخ يملك بملك الأصل فهو بمنزلة اللقطة في يده إلا أنه إن كان فقيرا يحل له التناول لحاجته وإن كان غنيا ينبغي له أن يتصدق بها على فقير ثم يشتري منه بشيء فيتناول وهكذا كان يفعله شيخنا الإمام شمس الأئمة رحمه الله تعالى وكان مولعا بأكل الحمام.(12/33)
ص -18- ... قال: ومن كان عنده صيد فأرسله عند إحرامه فأخذه حلال ثم حل الأول فله أن يسترده منه" لأن الواجب عليه رفع يده عن الصيد لا إزالة ملكه ألا ترى أن الرجل يحرم وله صيود في بيته فلا يلزمه شيء وإذا كان بعد الإرسال باقيا على ملكه لم يملكه الآخذ فله أن يسترده.
قال: ومن قتل بازيا معلما أو كلبا معلما لرجل فعليه قيمته وقد بينا في هذه المسألة أن الكلب المعلم مال متقوم يجوز بيعه عندنا ويضمن متلفه وإنما تعتبر قيمته كذلك بخلاف المحرم إذا قتل بازيا معلما فلا يعتبر في إيجاب القيمة عليه كونه معلما لأن الجزاء على المحرم يجب حقا لله تعالى لمعنى الصيد في يد المقتول وبكونه معلما ينتقص ذلك لأنه يخرج به من أن يكون متوحشا فلا يزاد به قيمته في حق الله تعالى فأما وجوب الضمان للآدمي لكونه مالا منتفعا به ويزداد ذلك بكونه معلما فلهذا اعتبر قيمته كذلك فإن كان الكلب ليس بكلب صيد ولا ماشية فقتله رجل غرم قيمته أيضا ومراده إذا كان بحيث يقبل التعليم حتى يكون مالا منتفعا به وإن كان عقورا لا يقبل التعليم فمتلفه لا يضمن شيئا لأنه غير مؤدى وليس بمال منتفع به وقد بينا جواز بيع كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لأنه يقبل التعليم ويتأتى الانتفاع به ولا يجوز بيع لحم شيء من ذلك لأنه لا منفعة في اللحم سوى الأكل فإذا لم يكن مالا مأكولا لا يكون مالا متقوما وجواز البيع يختص بمال متقوم حتى إذا كان له ثمن بأن كان يرغب فيه لإطعام الكلاب والسنانير جاز بيعه إذا كان مذكى إلا أن يكون ميتة وما كان من جلودها إذا دبغها رجل وباعها جاز بيعها لأنه مال منتفع به وإن كانت غير مدبوغة لم يجز ومراده إذا كانت ميتة فأما إذا كانت مذكاة يجوز وقد بينا أن عمل الذكاة في الحل والطهارة في مأكول اللحم وفي طهارة الجلد في غير مأكول اللحم كالدباغ قال: وإن وجد في الماء سمكة مقطوعة لا يدري من قطعها فلا بأس بأكلها لأنه ليس فيها ما يدل على سبق(12/34)
يد إليها لتوهم أن يكون فعله بها سمكة أخرى وإن أصاب في وسطها أو في موضع منها خيطا مربوطا لم يأكلها ويعرفها لأنه علم أن يدا أخرى سبقت إليها فكانت بمنزلة اللقطة فيعرفها.
قال: ومن سمع حسا ظن أنه حس صيد فرماه أو أرسل كلبه فأصاب صيدا فإن كان ذلك الحس حس صيد فلا بأس بما أصاب ذلك وإن كان حس إنسان أو غيره من الأهليات لم يحل له ذلك الصيد" لأنه رمى إلى الحس والرمي إلى الأهلي لا يكون اصطيادا وحل الصيد بوجود فعل الاصطياد فأما إذا كان الحس حس صيد فرميه وإرساله الكلب كان اصطيادا فيحل تناوله إذا أصاب صيدا مأكولا سواء كان الحس حس صيد مأكول أو غير مأكول وعن زفر رحمه الله تعالى قال إن كان الحس حس صيد مأكول لم يحل تناوله وإن أصاب صيدا مأكولا لأن فعله لم يكن مبيحا ألا ترى أنه لو أصاب ما قصده لم يفد الحل وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إذا كان الحس حس خنزير لم يحل وإن أصاب رميه الصيد بخلاف السباع لأن الخنزير من المحترم العين فأما في سائر السباع فإن فعله مؤثر في طهارة الجلد فإذا أصاب ما يحل تناوله كان مؤثرا في إباحة اللحم أيضا والصحيح ما بينا أن فعل الإنسان في كل متوحش(12/35)
ص -19- ... اصطياد فأما حل التناول باعتبار صفة في المحل فإذا أصاب فعله في الاصطياد محلا مأكولا قلنا يباح تناوله وإن لم يتبين ما كان ذلك الحس لم يحل له أكله لاجتماع المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة وفي النوادر إذا رمى طيرا فأصاب صيدا وذهب الطير فلم يعرف إن كان أهليا أو وحشيا حل له أن يتناول الصيد لأن الطير في الأصل وحشي بخلاف ما لو رمى بعيرا فأصاب صيدا وذهب البعير فلم يعرف إن كان أهليا أو متوحشا فإنه لا يحل تناول الصيد لأنه مألوف في الأصل والتوحش منه نادر فتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه وإن سمع حسا فظن أنه إنسان فرماه فأصاب ما رماه وتبين أنه كان صيدا يحل تناوله لأن حقيقة فعله اصطياد وظنه بخلاف حقيقة فعله لغو. قال: ولو رمى خنزيرا أهليا فأصاب صيدا لم يؤكل لأن الخنزير الأهلي ليس بصيد فهو وما لو رمى شاة سواء وكذلك لو رمى حربيا مختفيا موثقا فأصاب صيدا لم يأكله لأن رميه إلى الحربي ليس باصطياد ولا هو مؤثر في الحل فلهذا لا يحل تناول ما أصابه من الصيد والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الصيد في الحرم
قال: رحمه الله تعالى وإذا خرج الصيد من الحرم إلى الحل فلا بأس باصطياده" لأنه صيد الحل كما كان قبل دخوله الحرم وهذا لأن المانع من اصطياده كان حرمة الحرم وقد زال بخروجه إلى الحل فهو نظير محرم حل من إحرامه وفيه نص وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2].(12/36)
قال: وإن رمى رجل صيدا في الحل فأصابه ثم دخل الصيد الحرم فمات منه لم يكن عليه جزاء لأن وجوب الجزاء باعتبار فعل المحظور وفعله كان مباحا وهو الرمي إلى صيد في الحل أو باعتبار حرمة المحل ولم يكن محترما حين ما أصاب السهم الصيد فهو كما لو رمى إلى حربي أو مرتد فأصابه ثم أسلم وفي القياس لا بأس بأكله لأن فعله كان مذكيا له ألا ترى أنه لو مات في الحل حل تناوله فكذلك إذا مات بعد ما دخل الحرم لأنه دخله وهو مذكي وحرمة الحرم إنما تظهر في حق الصيد لا في حق المذكي ولكنه استحسن فقال يكره أكله لأن حل التناول عند زهوق الروح وهو عند ذلك في الحرم والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فاعتبار هذه الحالة يوجب الحرمة واعتبار حالة الإصابة يبيح فيغلب الموجب للحرمة وبه فارق الجزاء لأن الجزاء بالشك لا يجب ولأن الجزاء باعتبار الفعل فإن الحل صفة في المحل والمحل في الحرم عند ثبوت صفة الحل فيه.
قال: وإن أصابه في الحرم فمات في الحل فلا خير في أكله لأن الحل باعتبار الإصابة وقد أصابه وهو صيد الحرم وهذه هي المسألة المستثناة من أصلنا أن المعتبر لحالة الرمي فيما يبني عليه الأحكام دون حالة الإصابة فإن في حل التناول يعتبر حالة الإصابة أيضا لأن الحل صفة للمحل وإنما يثبت في المحل عند الإصابة فلا بد من اعتبار تلك الحالة فيه، وكذلك إن(12/37)
ص -20- ... أصابه في الحل وقد رماه من الحرم لأن الرمي من الحرم قيل محظور قال الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: من الآية95] قيل معناه وأنتم في الحرم لأنه يقال أحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشأم إذا دخل الشام والموجب للحل الذكاة لا القتل المحظور والدليل عليه وجوب الجزاء على الرامي فهو من هذا الوجه بمنزلة محرم يقتل صيدا وكذلك إن رماه من الحل في الحرم لأن الصيد إذا كان في الحرم فهو ممنوع من الرمي إليه وإن كان في الحل فيكون فعله فعلا محظورا ألا ترى أن عليه قيمة الجزاء ولو كان الرامي في الحل والصيد في الحل فمر السهم في الحرم حتى أصاب الصيد فلا بأس بأكله وإن تعمد ذلك لأن الرمي مباح له فكان فعله ذكاة شرعا وهذا لأن الحرمة باعتبار معنى في الحل وفي الرامي ولم يوجد ذلك لأن أصل السبب فعل الرامي وثبوت الحكم عند الإصابة وما بين ذلك غير معتبر أصلا في إضافة الحكم إليه.
قال: فإن رمى نصراني من الحرم صيدا في الحل فمات فلا خير في أكله" لأن النصراني في حكم الذكاة لا يكون أعلى من المسلم فإذا كان هذا الفعل من المسلم لا يبيح الصيد فكذلك من النصراني كما لو ترك التسمية عمداً.
فإن قيل: المنع من الرمي صوب الحرم حق الشرع والنصراني لا يخاطب بذلك ولهذا لا يلزمه الجزاء.
قلنا: حرمة الحرم تظهر في حق الكافر كما تظهر في حق المسلم ولهذا لا يقتل الحربي والمرتد في الحرم ثم النصراني في حكم الذكاة تبع للمسلم والتبع يلحق بالأصل في حكمه وإن لم يشاركه في علته وكذلك لو ذبح نصراني أو صبي صيدا في الحرم لم يؤكل لأنهما في حكم الذكاة تبع للمسلم البالغ فإذا لم يكن هذا الفعل من المسلم البالغ واجبا للحل فكذلك من النصراني والصبي.(12/38)
قال: ولو أن رجلا أخرج صيدا من الحرم فذبحه في الحل فعليه جزاؤه لأنه كان في الحرم آمنا صيدا وقد زال ذلك بأخذه وإخراجه وكان مطالبا شرعا بإعادته إلى مأمنه وإرساله فيه وقد فوت ذلك بذبحه فعليه الجزاء والتنزه عن أكله أفضل بخلاف ما إذا ذبحه في الحرم فإن ذلك حرام تناوله لأنه حين ذبحه كان صيد الحرم ففعله فيه يكون قتلا ولا يكون ذكاة وهنا حين ذبحه كان صيد الحل فيكون فعله فيه ذكاة وباعتبار هذا الفعل لا يلزمه الجزاء وإنما يلزمه بالأخذ السابق فلهذا لا يحرم تناوله إلا أن التنزه عنه أفضل لأن تقرر الجزاء عليه بفعل الذبح وإن كان الوجوب سبب الأخذ فباعتبار هذا المعنى يمكن شبهة فيه ولأنا لو أطلقنا له حق التناول تطرق الناس إلى ذلك فيخرجون الصيد من الحرم ويذبحونه في الحل وفي ذلك تعليل صيد الحرم فللمنع من هذا قلنا التنزه عن أكله أفضل وكذلك إن كان صاده أولا في الحل ثم أدخله الحرم ثم أخرجه إلى الحل لأنه حين أدخله الحرم فقد صار صيد الحرم فهو والمأخوذ في الحرم سواء بدليل وجوب الجزاء عليه وهذا عندنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى:(12/39)
ص -21- ... حرمة الحرم لا تظهر في حق صيد مملوك فإذا ملكه بالأخذ في الحل ثم أدخله الحرم لم يثبت له حرمة الحرم وعندنا حرمة الحرم في حق الصيد كحرمة الإحرام فكما يحرم عليه بالإحرام إمساك الصيد المملوك ويلزمه إرساله فكذلك يحرم بسبب الحرم إمساكه وقد بينا هذا في المناسك وكذلك حلال أحرم وفي يده صيد ثم حل ثم ذبحه فهذا والأول سواء لأنه لما أحرم فقد وجب عليه إرساله وحين ذبحه تقرر عليه جزاؤه وإن كان بعد الحل فلهذا كره أكله.
قال: محرم صاد صيدا فدفعه إلى حلال فذبحه فهو والأول سواء لأنه بما صنع مفوت ما لزمه من الإرسال ومقرر للجزاء على نفسه فهو كما لو ذبحه بنفسه بعد ما حل من إحرامه ولو ذبحه بنفسه بعد ما حل من إحرامه وهو محرم أو في الحرم كان ذلك أشد من هذا حالا فإن ذلك بمنزلة الميتة وهذا مكروه التناول لأن الحل باعتبار فعل الذكاة وفعل المحرم أو الذي في الحرم محظور فلا يكون ذكاة شرعا فأما المدفوع إليه حلال فعله في حق نفسه ذكاة ولكن باعتبار أنه مفوت للإرسال ومقرر للجزاء على الآخذ يلحقه نوع خطر وذلك ليس لمعنى في نفس الفعل فلا يثبت به الحرمة مطلقا وإنما تثبت الكراهة.
قال: وإن أرسله المحرم فذبحه حلال فلا بأس به لأن المحرم أتى بما هو المستحق عليه فيخرج به من عهدة أخذه وذبح الحلال إياه كذبح صيد آخر في الحكم.(12/40)
قال: ولو أن حلالا أخرج صيدا من الحرم إلى الحل فأرسله فصاده حلال فذبحه فلا بأس بأكله" لأنه صيد الحل فإنه بالإرسال قد خرج من يد الذي أخرجه من الحرم فهو والذي خرج بنفسه من الحرم سواء في حل التناول ولكن على الذي أخرجه الجزاء لأن المستحق عليه شرعا أعادته إلى مأمنه فإنه بالإخراج من الحرم أزال الأمن عنه فإذا تلف قبل العود إلى مأمنه تقرر الجزاء عليه لانعدام ما ينسخ فعله بخلاف الأول فإن على المحرم رفع اليد عنه بالإرسال فينفسخ حكم فعله بمجرد إرساله ووزان هذا من ذاك ما لو عاد الصيد إلى الحرم بعد ما أرسله ثم أصابه ما أصابه وكذلك لو كان الذي أخرجه من الحرم هو الذي صاده بعد ما أرسله فذبحه لم يكن بأكله بأس لأنه حلال ذبح صيدا في الحل فهو وغيره في الحالين سواء قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو وغيره سواء في ذلك إلا أن عليه الجزاء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا لا يخالفهما والمعنى فيه أن الحل باعتبار الفعل الثاني ووجوب الجزاء عليه باعتبار فعله الأول وهو إخراجه من الحرم ولم يبق ذلك الإخراج بعد ما أرسله فلهذا لا تثبت الحرمة ولكن بقاء الفعل غير معتبر في بقاء ما وجب به من الجزاء بخلاف ما إذا ذبحه في الحل قبل أن يرسله ودفعه إلى غيره فذبحه لأن تلك اليد باقية حقيقة وحكما وإنما تمكن من الذبح باعتبارها فلهذا كره أكلها.
قال: محرم أصاب صيدا فأدخله منزله في الحل فجاء بعض أهله فذبحه فلا بأس بأكله" وأضاف الجواب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه لم يحفظ جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن جوابه يخالف جوابهما وهذا لأن الذابح حلال وقد ذبحه في الحل. ولو أرسله(12/41)
ص -22- ... المحرم في غير منزله فذبحه حلال حل تناوله فكذلك إذا أرسله في منزله إلا أن على المحرم الجزاء لأنه ما نسخ حكم فعله بإرساله إياه من منزله فإن معنى الصيدية من حيث التنفير والاستيحاش لمن بعد إليه كما كان قبل أخذه فلهذا كان عليه الجزاء بخلاف ما لو أرسل جارحا من منزله.
قال: ولا يعجبنا هذا الفعل لأن فعل بعض أهله في الذبح كفعله من وجه فإنه ينفق عليهم ليفعلوا له مثل هذه الأفعال فمن هذا الوجه الذابح كالمأمور من جهته فلهذا قال لا يعجبنا هذا الفعل وكذلك إن أرسله في منزله فخرج من منزله فتبعه بعض أهله وذبحه ولم يأمره بذلك فهذا والأول سواء ولا أكره أكله وفي رواية أبي حفص قال وأكره أكله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا بأس بأكله والحاصل أنه لم يتم إرساله بعد في حق نسخ الفعل لأن الذي تبعه إنما يتمكن من أخذه باعتبار الفعل الموجود من المحرم فكان عليه الجزاء لذلك إلا أن في إباحة التناول هما يقولان لو أرسله خارجا من منزله حل تناوله إذا ذبحه إنسان بعد ذلك فكذلك إذا أرسله في منزله فخرج هكذا وجه رواية أبي سليمان حيث قال ولا أكره أكله ووجه رواية أبي حفص وهو أنه لما أرسله بمرأى العين من بعض أهله فقد طلب منه دلالة أن يتبعه فيأخذه ولو أمره بذلك نصا كان تناوله مكروها فكذلك إذا كان طالبا لذلك الفعل دلالة.
قال: وإن انفلت من المحرم في جوف المصر أو أرسله فأخذه إنسان فذبحه فهذا كأنه في يده حتى يرسله" لأن بالإرسال في جوف المصر لم يعد إليه التنفير والاستيحاش على الوجه الذي كان قبل أخذه فلا ينسخ به حكم فعله وهذا لأن ما في جوف المصر يمكن أخذه بغير اصطياده عادة ولهذا قلنا لو ندت شاة في المصر لم تحل بالرمي.
قال: وإذا انفلت منه في الصحراء لا يقدر على أخذه إلا بصيد فرماه حلال فلا بأس به كما لو أرسله في الصحراء وهذا لأن حكم فعله قد انتسخ حين عاد صيدا متوحشا كما كان فكأنه لم يأخذه قط.(12/42)
قال: حلال أرسل كلبه على صيد في الحل فتبعه الكلب حتى أدخله الحرم فقتله فيه كرهت له أكله لما بينا أن الحل يثبت عند الإصابة وعند ذلك هو صيد الحرم وإن كان أصل الإرسال في الحل فكذلك إذا أدركه صاحبه حيا فأخذه وأخرجه إلى الحل وذبحه لأنه حين أخذه من فم الكلب فهو صيد الحرم وقد بطل حكم ذلك الإرسال حين وقع في يده حياً.
فجواب هذا الفصل كجواب ما لو أخرج صيدا من الحرم وذبحه في الحل وإن أرسل كلبه من الحرم على صيد في الحل كرهت له أكله وعليه الجزاء لأن إرساله الكلب على الصيد اصطياد ومن هو داخل الحرم ممنوع من الاصطياد فإرسال الكلب عليه والرمي إليه سواء كما بينا.
قال: وإن أرسله في الحل على صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل ثم أخذه(12/43)
ص -23- ... وقتله كرهته أيضا لأنه أرسله على صيد الحرم وذلك فعل محظور فهو كما لو رمى الصيد في الحرم فخرج من الحرم قبل الإصابة.
قال: وإن أخذه من الكلب حيا في الحل فذبحه كرهت له هذا الصنع ولابأس بأكله في القياس لأنه حين أخذه حيا فقد بطل حكم إرسال الكلب حتى لا يحل إلا بذكاة الاختيار فإنما بقي المعتبر أخذه وذبحه وقد حصل في صيد الحل فلا بأس بأكله وإنما كره له هذا الصنع لتمكنه من أخذه بذلك الإرسال السابق وقد كان حراما بكون الصيد في الحرم عند ذلك.
قال: ظبي بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم رماه حلال في الحرم فقتله فإنه يكره أكله لوجوب الجزاء عليه وهذا لأن قوام الصيد بقوائمه واعتبار ما في الحرم من قوائمه يجعله صيد الحرم وهذا الجانب يترجح لأنه جانب الحظر وجانب الحرمة لحق الشرع وإن كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فلا بأس بأكله لأنه صيد الحل فإن قوام الصيد بقوائمه. وقيل: هذا إذا كان قائما فإن كان نائما فهذا والأول سواء لأن استمساكه على الأرض في حال نومه باعتبار جميع بدنه فإذا كان جانب منه في الحرم فهو صيد الحرم وقد بينا في المناسك في الشجرة أن المعتبر موضع أصلها لا موضع أغصانها وفي الصيد الواقع على بعض أغصانها يعتبر موضع ذلك الغصن لأن قوام الصيد ليس بغصن الشجرة قال الله تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل: من الآية79] فأما قوام غصن الشجرة فبأصلها ففي حق ضمان المحصن يعتبر موضع أصل الشجرة وفي حق ضمان الصيد يعتبر الموضع الذي فيه الصيد فإن كان في هواء الحرم فهذا الصيد صيد الحرم.
قال: وإن اشترك الحلال والمحرم في رمي الصيد لم يحل أكله لأن اعتبار فعل المحرم محرم والموجب للحرمة يغلب على الموجب للحل كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد".(12/44)
قال: رجل أرسل بازيا على صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل فقتله كرهت أكله لأن أصل السبب إرسال البازي وقد كان محظورا فإن أرسله على صيد في الحرم فاعتباره يثبت الكراهة
قال: حلال أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا ثم ذبحها وأولادها فليس أكلها وأكل أولادها بحرام" لأن الحل بالذبح وقد حصل من حلال في صيد في الحل ولكن لا يعجبني هذا الفعل لأنه لو أذن في ذلك تطرق الناس إليه ولأنه تمكن من الذبح بالأخذ السابق وقد كان ذلك الأخذ حراما عليه وعليه الجزاء فيها وفي أولادها لأن الإرسال والإعادة إلى الماء من مستحق عليه فيها وفي أولادها فإذا فوت ذلك بالذبح كان عليه الجزاء ولأنه إنما يضمن جزاء الأم لإتلافه معنى الصيدية فيها بإثبات اليد عليها وهذا المعنى موجود في ولدها وكذلك إن أدى الجزاء عنها ثم ذبحها فهذا والأول سواء لأنه مطالب بإرسالها وإعادتها إلى الماء من بعد أداء الجزاء فإن البدل إنما يظهر حكمه عند فوات الأصل فأما مع القدرة على الأصل فلا معتبر بالبدل وما ولدت في يده بعد أداء الجزاء فليس عليه في ذلك الولد جزاء لأنه(12/45)
ص -24- ... لو ماتت هي في يده بعد أداء الجزاء لم يلزمه شيء آخر فعرفنا أنه ليس في عينها حق مستحق بعد أداء الجزاء ليسرى إلى الولد بخلاف ما قبل أداء الجزاء.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم أنه لا معتبر بالبدل حال قيام الأصل وأنه مطالب بإعادتها إلى الماء من بعد أداء الجزاء؟
قلنا: نعم لا معتبر بالبدل حال قيام البدل ولكن لا يجمع الأصل والبدل فيبقى بعد أداء الجزاء الحق مترددا بين الإرسال الذي هو الأصل وبين المؤدي من الجزاء ولهذا لو باعه بعد بيعه يظهر ذلك عند فوات الأصل وباعتبار جانب المؤدي من الجزاء لا يظهر في الولد الحادث بعد ذلك استحقاق شيء فلهذا لا يلزمه الجزاء فيه ولأنه يتملك ذلك الصيد بما أدى من الجزاء ولهذا لو باعه نفذ بيعه فالولد إنما يتولد بعد ذلك من ملكه فلهذا لا يلزمه الجزاء فيه وكذلك لو كان محرما صاد ظبية ثم حل من إحرامه وهي في يده فحالها وحال أولادها كما بينا في الفصل الأول من الفرق بين ما قبل أداء الجزاء أو بعد أداء الجزاء فإن ما قررناه من المعنى يشتمل على الفصلين جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(12/46)
ص -25- ... كتاب الوقف
قال الشيخ الإمام الزاهد الأجل شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن الوقف لغة الحبس والمنع وفيه لغتان أوقف يوقف إيقافا ووقف يقف وقفا قال الله تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] وفي الشريعة عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أنه غير جائز على قول أبي حنيفة وإليه يشير في ظاهر الرواية فنقول أما أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه فكان لا يجيز ذلك ومراده أن لا يجعله لازما فأما أصل الجواز ثابت عنده لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ولهذا قال لو أوصى به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف إلى ما بعد الموت لأن تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا يكون تمليكا كالعتق كأنه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض بمنزلة ما لو باشره في الصحة في أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يمتنع الإرث بمنزلة العارية إلا أن يقول في حياتي وبعد موتي فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الأبد فيه كعمر الموصى له بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت فأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الوقف يزيل ملكه وإنما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته لأن الوارث يخلف المورث في ملكه وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أو لا يقول بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولكنه لما حج مع الرشيد رحمه الله تعالى فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف فقد رجع عند(12/47)
ذلك عن ثلاث مسائل:
إحداهما: هذه.
والثانية: تقدير الصاع بثمانية أرطال.
والثالثة: أذان الفجر قبل طلوع الفجر.
وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم فإنهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا وكذلك وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا وقد أمرنا باتباعه(12/48)
ص -26- ... قال الله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [آل عمران: من الآية95] والناس تعاملوا به من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يعني اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة وقد استبعد محمد رحمه الله تعالى قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة فقال ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء ولو جاز التقليد كان من مضي من قبل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله تعالى أحرى أن يقلدوا ولم يحمد على ما قال وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله تعالى ولو كان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في الأحياء حين قال ما قال لدمر عليه فإنه كما قال مالك رضي الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ولكن كل مجرى بالجلاء يسر ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو إخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها فكذلك في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلى مصالح معاشهم ومعادهم فإذا جاز هذا النوع من الإخراج والحبس لمصلحة المعاد فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ المقابر ولو جاز الفرق بين هذه الأشياء لكان الأولى أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى لا يورث لما في النبش من الأضرار والاستبعاد عند الناس أو كان ينبغي أن يلتزم الوقف دون المسجد لأن في الوقف وإن انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به وهو التصدق بالغلة وذلك لا يوجد في(12/49)
المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا معنى ما احتج به محمد رحمه الله تعالى وقد طوله في الكتاب ويستدلون بالعتق أيضا ففيه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب فكذلك في الوقف وحجة أبي حنيفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث" فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإرث إنما ينعدم في الصدقة التي أمضاها وذلك لا يكون إلا بعد التمليك من غيره.
وسئل الشعبي عن الحبس فقال جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا وأن شريعتنا ناسخة لذلك وقال ابن مسعود وبن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حبس عن فرائض الله تعالى ولكنهم يحملون هذا الأثر على ما كان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ولكنا نقول النكرة في موضع النفي تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث إلا ما قام عليه دليل.(12/50)
ص -27- ... واستدل بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فقالوا معناه ما تركناه صدقة لا يورث ذلك عنا وليس المراد أن أموال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تورث وقد قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: من الآية16] وقال تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] فحاشا أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل في الحديث بيان أن لزوم الوقف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد منهم كالعهد من غيرهم. ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها حين ادعت فدك بهذا الحديث على ما روى أنها ادعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ضمي إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أولادي فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ولا أرث أنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فعرفنا أن المراد بيان أن ما تركه يكون صدقة ولا يكون ميراثا عنه وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك الاشتغال به أسلم والمعنى فيه أن العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرورة بقائها مملوكة أن يكون هو المالك أو غيره ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه وبيان قولنا أنها بقيت مملوكة أنه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر وجوه الانتفاعات ولأنها خلقت مملوكة في الأصل وقد تقرر ذلك(12/51)
بتمام الإحراز فلا يتصور إخراجها عن أن تكون مملوكة إلا أن يجعلها لله تعالى خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك وفي هذه التسمية ما يدل على أنها مملوكة محبوسة وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الأصل ليكون مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع وإذا رفع كان مالكا كما كان ومن ضرورة إثبات قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فإن تلك البقعة تخرج من أن تكون مملوكة وتصير لله تعالى ألا ترى أنه لا ينتفع بها بشيء من منافع الملك وإن كانت تصلح لذلك وقد وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسييب أهل الجاهلية من حيث إنه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها ولو سيب دابته لم تخرج من ملكه فكذلك إذا وقف أرضه أو داره وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع الإرث فيها إلا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت فإنه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول أبي حنيفة في المسألة إلا باشتهار الآثار فأما من حيث المعنى كلامه قوي وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف إلى ما بعد الموت أو المنفعة في الحياة وبعد الموت قال: رحمه الله تعالى قد تم(12/52)
ص -28- ... الكتاب على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وإنما البيان بعد هذا على قولهما. ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن صخر بن جويرة عن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان نخلا نفيسا فقال عمر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن لينفق من ثمره" فتصدق به عمر رضي الله عنه في سبيل الله تعالى وفي الرقاب والضيف والمساكين وبن السبيل ولذي القربى منه ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يؤكل صديقا له غير متمول منه وهذه الأرض سهم عمر رضي الله عنه بخيبر حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين أصحابه رضي الله عنهم وثمغ لقب لها وقد كانت لأملاكهم ألقاب حتى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة ثم في هذا دليل أن من قصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله وأطيبها قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92] وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] فلهذا اختار عمر رضي الله عنه أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق وفيه دليل على أن من أراد التقرب إلى الله تعالى فالأولى أن يقدم السؤال عن ذلك وإن الربا لا يدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقف بقوله: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث" فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف وقد روى عن علي رضي الله عنه أنه وقف كما فعله عمر رضي الله عنه ولكن لم يستثن للوالي شيئا وفيه دليل على أن كل ذلك واسع إن استثنى للوالي أن يأكل بالمعروف كما(12/53)
فعله عمر رضي الله عنه وهو صواب وإن لم يستثن ذلك كما فعله علي رضي الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي أن يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما أن للإمام فعل ذلك في بيت المال ولوصى اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: من الآية6] ولكن لايكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله إلا إذا شرط الواقف ذلك كما فعله عمر رضي الله عنه أو يؤكل صديقاً له.
وقوله: غير متمول منه يعني يكتفي بما يأكل ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازي في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول بقدر حاجته ولا يتمول ذلك بالبيع والإقراض من غيره وفيه دليل محمد رحمه الله تعالى أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولى وفي قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك وقد روى أنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله تعالى عنهما قال محمد رحمه الله تعالى ولهذا يأخذ إذا تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جميع ماله وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من ثلثه لأنه إزالة الملك بطريق التبرع. ثم لا خلاف أنه لو قال تصدقت بأرضي هذه على الفقراء والمساكين أنه لا يكون وقفا بل يكون ذلك نذرا بالصدقة إذا قصد به الإلزام فإن عين إنسانا فهو تصدق عليه بطريق التمليك ولا يتم إلا بالتسليم(12/54)
ص -29- ... ولو قال: وقفت أرضي هذه أو حبستها أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق لأن كلامه يحتمل فلعل مراده وقفتها على ملكي لتكون مصروفة في حاجتي أو على قضاء ديوني فإن قال لإنسان بعينه وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس فهو باطل أيضا إلا على قول أبي يوسف فإنه يقول يكون تمليكا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك وقوله وقف أو حبس باطل ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسير كان الحكم لذلك التفسير كقوله داري لك سكني تكون عارية فإن قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأخرجها من يده إلى يد قيم يقوم بها وينفق عليها في مرمتها وإصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة وليس له أن يرجع فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم وإخراج الأصل عن ملكه والتأبيد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا وإنما يبدأ من غلتها بمرمتها وإصلاح مجاريها لأنها لا تبقى منتفعا بها إلا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام: "كل عمل بن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته وولد صالح يدعو له وصدقة جارية له إلى يوم القيامة" وفي بعض الروايات قال: "إلا سبعا" وذكر من جملة ذلك "نهرا أكراه وخانا بناه ومصحفا سبله" وإنما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها لأنه لا يتمكن من الزراعة إلا بذلك ولأن الغلة لا تطيب من الأراضي الخراجية إلا بأداء الخراج وإنما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه بأطيب المال وذلك عند أداء النوائب فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة وليس هذا بتوقيت لازم ولكن(12/55)
يقسم عند حصول الغلة ومن الأراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنة مرة فكما حصلت الغلة ينبغي له أن يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات وفي التعجيل من القربة تحصيل مقصود الواقف ولذلك إذا جعل أرضا له مقبرة للمسلمين ويأذن لهم أن يقبروا فيها فيفعلون فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها ويقبروا فيها إنسانا واحدا أو أكثر أن يرجع فيها لأن التسليم على قول من يشترط التسليم يتم بهذا فإن ما هو المقصود قد حصل إذا قبروا فيها إنسانا واحدا وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين وخلى بينهم وبينها فدخلها بإذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها لأن التسليم يتم بهذا وهذا لأنه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق وهو نظير ما جعل الشرع أمان الواحد من المسلمين كأمان الجماعة ثم النزول في الخان والدفن في المقبرة من مصالح الناس قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 -26]وجواز الوقف لمعنى المصلحة فيه للناس من حيث المعاش والمعاد وكذلك الرجل يكون(12/56)
ص -30- ... له الدار بمكة فيجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ويدفعها إلى ولي يقوم عليها ويسكن فيها من زار فليس له بعد ذلك أن يرجع فيها وإن مات لم تكن ميراثا وإن لم يسكنها أحد لأنه حين سلمها إلى ولي يقوم عليها فقد أخرجها من ملكه ويده والتسليم على قول من يشترط يكون بأحد الطريقين إما بإثبات يد القيم عليها أو بأن يحصل المقصود بسكنى بعض الناس فيها بإذنه وكذلك إن جعل دارا له في غير مكة سكنى للمساكين ودفعها إلى ولى يقوم بذلك وكذلك إن جعلها سكنى للغزاة والمرابطين في ثغر من الثغور أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى ولي يقوم به فهو جائز ولا سبيل له إلى رده لأنه قصد التقرب بما صنع فأما السكني فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير من الغزاة والمرابطين والحاج وكذلك نزول الخان والدفن في المقبرة فأما الغلة التي جعلت للغزاة فلا يعجبني أن يأخذ منها إلا محتاج إليها لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكني وحقيقة المعنى في الفرق أن الغني مستغن عن مال الصدقة بمال نفسه وهو لا يستغني بماله عن الخان لينزل فيه وعن الدفن في المقبرة فلا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما يستأجره فلهذا يستوي فيه الغني والفقير وهو نظير ماء السقاية والحوض والبئر فإنه يستوي فيه الغني والفقير لهذا المعنى وهذا لأن الماء ليس بمال قبل الإحراز والناس يتوسعون فيه عادة ولا يخصون به الفقراء دون الأغنياء بخلاف المتصدق بالمال ثم الواقف وإن أطلق الغزاة في سبيل الله فمراده التقرب وذلك بصرف المال إلى المحتاجين منهم وفي اللفظ ما يدل عليه شرعا قال الله تعالى من أصناف الصدقات وفي سبيل الله ثم يصرف الصدقة إلى الفقراء من الغزاة دون الأغنياء والحاصل أنه متى ذكر مصرفا فيه تنصيص على الفقر والحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أولا يحصون لأن المطلوب وجه الله تعالى ومتى(12/57)
ذكر مصرفا يستوي فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون فالفقراء والأغنياء فيه سواء وإن كانوا لا يحصون فالوقف صحيح وتصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره وتمام بيان هذه الفصول في كتاب الوصايا.
قال: وإن جعل أرضا له مسجدا لعامة المسلمين وبناها وأذن للناس بالصلاة فيها وأبانها من ملكه فأذن فيه المؤذن وصلى الناس جماعة صلاة واحدة أو أكثر لم يكن له أن يرجع فيه وإن مات لم يكن ميراثا" لأنه حرزها عن ملكه وجعلها خالصة لله تعالى قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: من الآية18] وقال عليه الصلاة والسلام: "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة ولا رجوع له فيما جعله لله تعالى خالصا كالصدقة التي أمضاها" ثم عند أبي يوسف يصير مسجدا إذا أبانه عن ملكه وأذن للناس بالصلاة فيه وإن لم يصل فيه(12/58)
ص -31- ... أحدكما في الوقف على مذهبه أن الوقف يتم بفعل الواقف من غير تسليم إلى المتولى وعند محمد لا يصير مسجدا ما لم يصل الناس فيه بالجماعة بنى على مذهبه أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولى وعن أبي حنيفة فيه روايتان في رواية الحسن عنه يشترط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي رواية غيره عنه قال إذا صلى فيه واحد يصير مسجدا وإن لم يصل بالجماعة وجه رواية الحسن أن تمام التبرع بحصول المقصود به بدليل الصدقة فالمقصود بها إغناء المحتاج ثم لا يتم ما لم يحصل هذا المقصود بالتسليم إليه فهنا المقصود من المساجد إقامة الصلاة فيها بالجماعة لأن جميع وجه الأرض موضع الصلاة وإنما تبنى المساجد لإقامة الصلاة فيها بالجماعة فلا تصير مسجدا قبل حصول هذا المقصود. وجه الرواية الأخرى أن المقصود أن المسجد موضع السجود وقد حصل ذلك بالصلاة فيه منفردا كان أو بجماعة وقد بينا أن الواحد من المسلمين ينوب عن جماعتهم فيما هو حقهم فتجعل صلاة الواحد فيه كصلاة الجماعة وقد بينا نظيره في نزول الخان والدفن في المقبرة.(12/59)
وروى عن معاذ بن جبل وبن عباس وشريح والحسن والشعبي رضي الله عنهم قالوا لا تجوز الصدقة حتى يقبض وبه نأخذ فنقول أن الصدقة لا تتم إلا بالقبض بخلاف ما يقوله مالك رحمه الله تعالى وهذا لأن المتصدق يجعل ما يتصدق به خالصا لله تعالى بإخراجه عن ملكه وحقه ولا يتم ذلك إلا بالإخراج من يده ولا خلاف فيه بين العلماء رحمهم الله تعالى في الصدقة المنفذة وقال أهل المدينة رحمهم الله تعالى مجرد الإعلام يكفي لذلك لما جاء في الأثر عن بن مسعود رضي الله عنه وغيره إذا أعلمت الصدقة جازت وجعلوا ذلك قياس العتق فإن العتق يزيل المعتق عن ملكه ويجعله لله تعالى ثم يتم ذلك بنفسه فكذلك الصدقة ولأن الآخذ للصدقة هو الله تعالى قال الله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: من الآية104] وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الصدقة تقع في كف الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد" ولكنا نقول هذا في ضمن الإتصال إلى الفقير ليكون الفقير آخذا كفايته من الله تعالى فإنه عبد الله وكفاية العبد على مولاه وقد وعد له ذلك بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: من الآية6] ولهذا لم يكن للمعطى منه على القابض وهذا المقصود لا يحصل قبل التسليم إلى الفقير فلا تتم الصدقة بخلاف العتق فالعبد في يد نفسه فيصير قابضا نفسه مع أن المعتق متلف للملك والرق فيه والإتلاف يتم بالتلف والمتصدق غير متلف للملك بل جاعل الملك لله تعالى خالصا وذلك في ضمن التمليك من الفقير فكما أن التمليك من الفقير لا يتم إلا بالتسليم إليه فكذلك جعله لله تعالى فأما الصدقة الموقوفة على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تلزم بالإعلام وإن لم يخرجها من يده إلى يد المتولى وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يتم إلا بالإخراج من يده والتسليم إلى المتولي وهو قول ابن أبي ليلى وحجته في ذلك أن إزالة الملك بطريق التبرع فتمامه بالتسليم(12/60)
كما في الصدقة المنفذة وهذا لأنه لو لزمه قبل التسليم لصارت يده مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع في غير ما تبرع به(12/61)
ص -32- ... فينبغي أن يكون متبرعا في إزالة يده كما في إزالة ملكه وذلك بأن لم تتم الصدقة قبل التسليم بل هذا أولى من الصدقة المنفذة فإن جواز ذلك متفق عليه بين العلماء رحمهم الله تعالى وفي جواز الصدقة الموقوفة ولزومها خلاف ظاهر ثم تلك الصدقة مع قوتها لا تتم إلا بالتسليم فهذا أولى وقال في الكتاب من جوز الصدقة غير مقبوضة لم يفصل بين الصدقة الموقوفة والمنفذة وهو قول أهل المدينة رحمهم الله تعالى وكذلك من لم يجوزها إلا مقبوضة والفرق بينهما من نوع التحكم وقد بينا أن ذلك لا يجوز وأبو يوسف رحمه الله يقول هذه إزالة ملك لا تتضمن التمليك فتتم بدون القبض كالعتق بخلاف الصدقة المنفذة فإنها تتضمن التمليك وهذا لأن القبض إنما يعتبر من المتملك أو من نائبه ليتأكد به ملكه ألا ترى أنه لا يعتبر قبض غيره له بغير إذنه والصدقة الموقوفة لا يتملكها أحد فلا معنى لاشتراط القبض فيها يوضحه أن المتولي مختار الواقف فيده تقوم مقام يد الواقف لا مقام يد الموقوف عليه فإنه ما اختاره وربما لم يعلم به أيضا فإذا كانت تتم بيد من اختاره الواقف فبيد الواقف أولى بخلاف العدل في الرهن فإن يده كيد المرتهن هناك لأنه لا يصير عدلا إلا برضا المرتهن واختياره ولهذا يصير المرتهن مستوفيا دينه بهلاكه في يد العدل ولأن حق المرتهن ثبت في العين فتمكن فيجعل العدل نائبا عنه وهنا الموقوف عليه في الغلة لا في العين فلا يمكن جعل المتولى نائبا عنه في قبض العين بل هو نائب عن الواقف فلا معنى لاشتراط قبضه واستدل محمد رحمه الله تعالى في الكتاب بحديث عمر رضي الله عنه فإنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله عنها وإنما فعل ذلك ليتم الوقف ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه أو ليكون في يدها بعد موته فأما أن يكون فعله لإتمام الوقف فلا وكان القاضي أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول قول أبي يوسف من حيث المعنى(12/62)
أقوى لمقاربته بين الوقف والعتق من حيث أنه ليس في كل واحد منهما معنى التمليك وقول محمد رحمه الله تعالى أقرب إلى موافقة الآثار وعلى هذا الخان والرباط يتم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى بالتخلية بينه وبين الناس وإن لم ينزل فيه أحد ولا يتم عند محمد رحمه الله تعالى إلا بالتسليم إلى المتولى أو بنزول الناس فيه وكذلك المقبرة والسقاية عند محمد لا تتم إلا بالتسليم إلى قيم يقوم عليه أو بأن يدفنوا في المقبرة رجلا واحدا أو يسقي من السقاية رجل واحد. وكذلك المسجد إلا أن في المسجد تمامه عند محمد رحمه الله تعالى بأن يصلي الناس فيه بالجماعة لأن التسليم إلى المتولي في المسجد لا يتحقق إذ لا تدبير فيه للمتولي في اختيار من يصلي بالمسجد أو الاستغلال لأن المسجد قد تحرز عن ذلك وكذلك لا تدبير لأحد في سد باب المسجد لأنه إن كره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد فكيف بغيرهم فلهذا يوقف التمام على إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي سائر الوقف للمتولي تدبير في ذلك فجعل التسليم إلى المتولي متمما للصدقة ولأن المقصود في سائر الوقف منفعة العباد فيمكن جعل يد المتولي في ذلك بمنزلة يدهم والمقصود هنا إقامة العبادة لله تعالى في المسجد خالصا ولا يحصل ذلك إلا(12/63)
ص -33- ... بإقامة الصلاة فيه قال: ولو وقف نصف أرض أو نصف دار مشاعا على الفقراء فذلك جائز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، لأن القسمة من تتمة القبض فإن القبض للحيازة وتمام الحيازة فيما يقسم بالقسمة ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوفة فكذلك ما هو من تتمة الوقف وهذا لأن الوقف على مذهبه قياس العتق والشيوع لا يمنع العتق فكذلك لا يمنع الوقف إلا أن العتق لا يتجزأ عنده لما في التجزيء من تضاد الأحكام عنده في محل واحد وذلك لا يوجد في الوقف فيحتمل التجزيء ويتم مع الشيوع في القدر الذي أوقفه وأما عند محمد رحمه الله تعالى لا يتم الوقف مع الشيوع فيما يحتمل القسمة لأن على مذهبه أصل القبض شرط لتمام الوقف فكذلك ما يتم به القبض وتمام القبض فيما يحتمل القسمة بالقسمة واعتبره بالصدقة المنفذة فإنها لا تتم في مشاع يحتمل القسمة كالهبة ويتم في مشاع لا يحتمل القسمة لأنه بالقسمة يتلاشى فلا تكون القسمة فيه حيازة فكذلك الصدقة الموقوفة تجوز في مشاع لا يحتمل القسمة ولا تجوز في مشاع يحتمل القسمة ما لم يقسم وعلى هذا الخان والمقبرة والمسجد والسقاية يعني فيما يحتمل القسمة لأنه لا يتم من الشيوع عند محمد رحمه الله تعالى فأما المسجد والمقبرة لا تتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لأن بقاء الشركة يمنع أن تكون البقعة لله تعالى خالصا ولأنا لو جوزنا ذلك وقعت الحاجة إلى المهايأة فتقبر فيه الموتى في سنة ثم تنبش في سنة أخرى ويزرع لمراعاة حق المالك ويصلي الناس في المسجد في وقت ويتخذ اصطبلا في وقت آخر بحكم المهايأة وذلك ممتنع بخلاف الوقف فالمقصود هناك الاستغلال فيما بقي منه ملكا وفيما صار منه وقفا فلو جاز مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يؤدي إلى تضاد الأحكام بل يستغل وتقسم الغلة على قدر الملك والوقف منه وذلك صحيح وكذلك لو جعل جميع الأرض أو الدار لشيء من ذلك وأخرجه من يده ثم استحق بعضه مشاعا بطل في الكل ورجع(12/64)
الباقي إليه في حياته وإلى وارثه بعد وفاته لأن بالاستحقاق يتبين بطلان تصدقه في القدر المستحق لأنه لم يكن مملوكا له يومئذ ولا أجازه مالكه ولو جاز في القدر المملوك لكان لزومه ابتداء في الجزء الشائع وقد بينا أن ذلك لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة وهذا بخلاف ما إذا فعله في مرضه ثم مات ولا مال له سواه فأبطله الوارث فيما زاد عن الثلث بقي الثلث صحيحا لأن حق الوارث إنما يثبت بعد الموت فإبطاله في القدر الذي له إبطاله يقتصر على هذه الحالة فلا يتبين به أن ابتداء الوقف في الجزء الشائع. وأصل هذا الفرق في الهبة والصدقة المنفذة فإن رجوع الوارث في البعض كرجوع الواهب وذلك لا يمنع بقاء الهبة فيما بقي لأنه شيوع طارىء فكذلك في الصدقة الموقوفة وإن استحق بعضه مميزا بعينه كان ما فعله جائزا فيما بقي ماضيا لوجهه لأن بهذا الاستحقاق لم يتبين الشيوع فيما بقي فإن المستحق مميز مما بقي فهو بمنزلة دارين وقفهما فاستحقت إحداهما وكذلك الحكم في الصدقة المنفذة إذا كان المستحق مميزا يقرر الصدقة فيما بقي وكذلك الحكم في الهبة بخلاف ما إذا استحق جزأ(12/65)
ص -34- ... شائعاً ولا فرق عند استحقاق الجزء الشائع بين أن يكون المستحق كثيرا أو لم يكن لأن المانع الشيوع وقد تحقق ذلك باستحقاق جزء قل ذلك أو كثر.
قال: وإذا كانت الأرض بين رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على بعض الوجوه التي وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزا" لأن مثله في الصدقة المنفذة جائز إذا تصدق رجلان على واحد والمعنى فيه أن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل ولا شيوع هنا فقد صار الكل صدقة مع كثرة المتصدقين بها والقبض للمتولي في الكل وجد جملة واحدة فهو وما لو تصدق رجل واحد سواء ولو تصدق كل واحد منهما بنصفها شائعا على حدة صدقة موقوفة وجعل لها واليا على حدة لم يجز لأنهما صدقتان متفرقتان لأن كل واحد منهما تصدق بنصيبه بعقد على حدة ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا على حدة ومثله في الصدقة المنفذة لا يجوز حتى لو تصدق أحدهما بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم تصدق الآخر بالنصف عليه وسلم لم يجز شيء من ذلك وهذا لأن قبضه في نصيب كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا فكذلك قبض كل واحد من الواليين هنا لاقى جزأ شائعا. قال: ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالي لذلك رجلا واحدا فسلماها إليه جميعا جاز لأن تمام الصدقة بالقبض والقبض مجتمع فقد حصل قبض الكل من واحد في محل عين والدليل على أن المعتبر هو القبض في الهبة والصدقة المنفذة أنه لو باشر ذلك مع رجل في النصف ثم في النصف ثم سلم الكل إليه جاز ولو باشره في الكل ثم سلم إليه النصف لم يجز وكذلك إن جعلاها جميعا إلى رجلين لأن الواليين هنا كوال واحد حيث جعلهما كل واحد منهما واليا في صدقة بخلاف ما تقدم هناك من أن كل واحد من المتصدقين خص واحدا من الواليين فجعله واليا في صدقته فإنما يلاقي قبض كل واحد منهما جزأ شائعا ألا ترى أن في الرهن لو أن رجلين رهنا عينا من رجلين بدين لهما عليهما جاز ولو قال على أن نصيب أحد الراهنين رهن عند(12/66)
أحدهما ونصيب الآخر عند الآخر لم يجز وكذلك في الهبة والصدقة المنفذة ولو وهبا من رجلين أو تصدقا عليهما جاز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولو قالا نصيب أحد الواهبين لأحدهما بعينه ونصيب الآخر للآخر لم يجز وكذلك في الصدقة الموقوفة.
قال: ولو تصدقا بها على واحد فوكل المتصدق عليه رجلين بقبضها كل واحد منهما يقبض نصيب أحدهما خاصة فقبضا ذلك معا جاز وإن كان القابض اثنين لأنهما إنما قبضاها لواحد فكل واحد منهما وكيل من جهته وقبض الوكيل كقبض الموكل فكان القبض مجتمعا حكما وإن كان متفرقا صورة.
فإن قيل: ففي الصدقة الموقوفة الوليان كل واحد منهما يقبض للموقوف عليه فينبغي أن يجوز وإن تفرق الوالي لاتحاد جهة الصرف.
قلنا: لا كذلك بل كل واحد من الواليين عامل لمن جعله واليا في صدقته ولهذا لو لحقه عهدة فيما قبض رجع به عليه فإذا اختار كل واحد منهما في صدقته قيما على حدته كان(12/67)
ص -35- ... قبض كل واحد منهما في جزء شائع ولو تصدقا به على رجلين صدقة واحدة فوكل المتصدق عليهما رجلين كل واحد منهما يقبض ما تصدق به عليه أحد الرجلين دون الآخر فقبض الوكيلان جميعا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لأن فعل الوكيلين كفعل الموكلين فإن كل واحد منهما نائب وكيله في القبض ولو قبض الموكلان معا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لاتحاد الصدقة في جانب المتصدقين وتمامها عند قبض الآخر منهما فكذلك الوكيلان ألا ترى أنه لو كان المتصدق والمتصدق عليه واحدا فقبض النصف ثم النصف كان هذا وما لو قبض الكل جملة سواء وإن قبضا أحد النصيبين كان لصاحبه أن يرجع فيه ما لم يقبضا نصيب الآخر لأن تمام الصدقة بتمام القبض ولا يتم القبض في مشاع يحتمل القسمة فلم تتم به الصدقة وكان لصاحبه أن يرجع فيه كما قبل التسليم فإن قبضا نصيب الآخر قبل رجوع الأول فيه فقد تمت الصدقة لتمام القبض منهما في الكل ولا رجوع فيه لواحد منهما بعد ذلك ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على حدة ووكلا فيها رجلا واحدا فقبض نصيبهما مجتمعا أو متفرقا كانت الصدقة جائزة لأنه حين قبض الكل فلا شيوع في المحل وإن كان قبض نصيب أحدهما فله أن يرجع فيه ما لم يقبض نصيب الآخر لما بينا أن قبضه في نصيبه لاقى جزأ شائعا فلا تتم به الصدقة.(12/68)
قال: فإن باعه وهو في يد الوكيل جاز بيعه لأن الصدقة في نصيبه لم تتم حين لم يقبض الوكيل نصيب الآخر وكان وجود القبض في نصيبه كعدمه فلهذا جاز بيعه وإن مات فهو ميراث عنه فإن قبض الوكيل نصيب الآخر بعد موت الأول فقبضه باطل والصدقة مردوده لأن بموت الأول بطلت الصدقة في نصيبه وصار ميراثا لورثته فلو جازت الصدقة في النصف الآخر بالقبض بعد ذلك كان ذلك في جزء شائع وذلك غير جائز ويستوي إن كان قبضه بإذن الثاني أو بغير إذن الثاني بخلاف ما قبل موت الأول لأن حكم الصدقة في نصيب الأول موقوف على أن تتم بتمام القبض وذلك يحصل بقبضه نصيب الثاني فلهذا تمت الصدقة في الكل.
قال: دار بين رجلين تصدق أحدهما بنصيبه منها على رجل وسلمه إليه أو إلى وكيله ثم تصدق الآخر أيضا عليه بنصيبه وسلمه إليه أو إلى وكيله لم يجز شيء من ذلك لأنهما صدقتان متفرقتان فإن تمام الصدقة بالقبض وقبضه في كل واحد من النصيبين لاقى جزأ شائعا وإن لم يقبض نصيب الأول حتى تصدق الآخر بنصيبه عليه أيضا وقد أذن كل واحد منهما له في القبض فقبضهما جملة جاز لما بينا أن المانع افتراق القبض وقد قبض الكل جملة فكأن الصدقة منهما عليه كانت جملة بعقد واحد، وكذلك لو قبض نصيب كل واحد منهما على حدة بيده أو بيد وكيله فهو جائز لأن قبضه تم حين قبض نصيب الآخر منهما وقبض وكيله له كقبضه وهذا بخلاف الأول فإن هناك حين قبض نصيب الأول ما كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر أصلا فتعين جهة البطلان في نصيب الأول فيبطل حكم قبضه في نصيب الثاني بعد ما بطل حكم الصدقة في نصيب الأول وبطل حكم قبضه في نصيب الثاني لملاقاته جزأ شائعاً(12/69)
ص -36- ... وهنا حين قبض نصيب الأول كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر فيتوقف حكم تمام الصدقة في نصيب الأول على تمام القبض وقد تم ذلك بقبض الثاني يوضحه أن هناك حين قبض نصيب الأول لم يكن متمكنا من قبض نصيب الثاني فإنما يعتبر حكم قبضه فيما تمكن منه خاصة وهو جزء شائع وهنا حين قبض نصيب الأول كان متمكنا من قبض نصيب الثاني فيجعل ما تفرق من قبضه كالمجتمع لتمكنه من قبض الكل.
قال: وإذا كانت الأرض لرجل أو رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة وسلماها إلى رجل واحد وجعل أحدهما نصيبه موقوفا على ولده وولد ولده أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين وجعل الآخر نصيبه وقفا على إخوته وأهل بيته فإذا انقرضوا كانت غلته في الحج يحج بها في كل سنة أو كان المتصدق واحدا فجعل نصف الأرض مشاعا على الأمر الأول ونصفها على الأمر الآخر فذلك جائز لأنها صدقة واحدة يقبضها وال واحد فلا يضرهم على أي الوجوه فرقوا غلتها ومعنى هذا أن تمام الصدقة بالقبض وإذا كان الوالي واحدا فهو يقبض الكل جملة فتتم الصدقة بالكل بقبضه ثم بتفرق جهات الصدقة لا تتفرق الصدقة ألا ترى أن المتصدق لوكان واحدا وفرق الغلة سهاما بعضها في الحج وبعضها في الغزو وبعضها في أهل بيته وبعضها في المساكين كان ذلك صدقة جائزة فكذلك إذا كان المتصدق اثنين وعين كل واحد منهما لنصيبه مصرفا وهذا كله قول محمد فأما عند أبي يوسف الصدقة الموقوفة في جميع هذه الوجوه جائزة لأنه يجوزها غير مقبوضة فكذلك غير مقسومة فالحاصل أن أبا يوسف يوسع في أمر الصدقة الموقوفة في قوله الآخر غاية التوسع وفي قوله الأول ضيق فيها غاية التضييق كما هو قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فقال لا تلزم في الحياة أصلا وتوسط قول محمد رحمه الله تعالى في ذلك ولهذا أفتى عامة المشايخ رحمهم الله تعالى فيها بقول محمد رحمه الله تعالى ومما توسع فيه أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يشترط التأبيد فيها حتى لو(12/70)
وقفها على جهة يتوهم انقطاعها يصح عنده وإن لم يجعل آخرها للمساكين ومحمد رحمه الله تعالى يشترط التأبيد فيها فقال إذا كانت الجهة بحيث يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة إذا لم يجعل آخرها للمساكين لأن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وذلك يتأبد كالعتق وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها فلم يتوفر على العقد موجبه والتوقيت في هذا العقد كالتوقيت في البيع فكان مبطلا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول المقصود هو التقرب إلى الله تعالى والتقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة يتوهم انقطاعها وتارة بالصرف إلى جهة لا يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة لتحصيل مقصود الواقف ومن ذلك أنه لو جعل مصرف الغلة لنفسه ما دام حيا فذلك جائز عند أبي يوسف أيضا اعتبارا للابتداء بالانتهاء لأنه يجوز الوقف على جهة يتوهم انقطاعها وإذا انقطعت عادت الغلة إليه في الانتهاء فكما يجوز ذلك في الانتهاء فكذلك في الابتداء لجواز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة وهذا لأن معنى التقرب لا ينعدم بهذا قال عليه الصلاة والسلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة" وقال عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فأما عند(12/71)
ص -37- ... محمد رحمه الله تعالى إذا جعله وقفا على نفسه أو جعل شيئا من الغلة لنفسه ما دام حيا فالوقف باطل وهو مذهب أهل البصرة رحمهم الله تعالى لأن التقرب بإزالة الملك واشتراط الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال ملكه فلا يكون ذلك صحيحا وكذلك لو شرط الغلة لامائة فهو كاشتراطه لنفسه ولكن ذكر محمد أنه إذا اشترط الغلة لأمهات أولاده فذلك جائز وهذا على أصل أبي يوسف غير مشكل وعلى قول محمد رحمه الله تعالى هو مستحسن على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى ومن ذلك أنه إذا شرط في الوقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد وهو قول أهل البصرة رحمهم الله تعالى الوقف جائز والشرط باطل لأن هذا الشرط لا يؤثر في المنع من زواله والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا فيكون باطلا في نفسه كالمسجد إذا شرط الاستبدال به أو شرط أن يصلي فيه قوم دون قوم فالشرط باطل واتخاذ المسجد صحيح فهذا مثله.(12/72)
قال: ولو شرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام في الوقف فعلى قول أبي يوسف الوقف جائز والشرط جائز كما هو مذهبه في التوسع في الوقف" وقال هلال بن يحيى الوقف باطل وهو قول محمد وقال يوسف بن خالد السمني الوقف جائز والشرط باطل لأنه إزالة ملك لا إلى مالك فيكون بمنزلة الإعتاق واشتراط الخيار في العتق باطل والعتق صحيح وكذلك في المسجد اشتراط الخيار باطل واتخاذ المسجد صحيح فكذلك في الوقف ومحمد يقول إن تمام الوقف يعتمد تمام الرضا ومع اشتراط الخيار لا يتم الرضا فيكون ذلك مبطلا للوقف بمنزلة الإكراه على الوقف ثم تمام الوقف على مذهبه بالقبض وشرط الخيار يمنع تمام القبض ألا ترى أن في الصرف والسلم لا يتم القبض مع شرط الخيار وبه فارق المسجد فالقبض هناك ليس بشرط إنما الشرط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وقد وجد ذلك مع شرط الخيار فلهذا كان مسجدا ثم شرطه غير معتبر في اتخاذ المسجد فلا يفسد بفساد الشرط وشرطه في الوقف مراعى وما يتعلق بالجائز من الشرط الفاسد فالفاسد من الشروط يبطله وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الوقت يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الأسباب واشتراط الخيار للفسخ فيكون بمنزلة البيع في أنه يجوز اشتراط الخيار فيه وهذا في الحقيقة بناء على الأصل الذي ذكرنا له فإنه يجوز أن يستثني الواقف الغلة لنفسه ما دام حيا فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام لتروي النظر فيه.
قال: فإن خرب ما حول المسجد واستغنى الناس عن الصلاة فيه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يعود إلى ملك الثاني ولكنه مسجد كما كان وعند محمد رحمه الله تعالى يعود إلى ملك الثاني وإلى ملك وارثه وإن كان ميتا" لأنه جعل هذا الجزء من ملكه مصروفا إلى قربة بعينها فإذا انقطع ذلك عاد إلى ملكه كالمحصر إذا بعث بالهدي ثم زال الإحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء.(12/73)
ص -38- ... قال: ولو اشترى حصر المسجد أو حشيشا فوقع الاستغناء عنه كان له أن يضع به ما شاء وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول إذا تم زوال العين عن ملكه وصار خالصا لله تعالى فلا يعود إلى ملكه بحال" كما لو أعتق عبده وهذا لأن القربة التي قصدها لم تنعدم بخراب ما حولها فإن الناس في المساجد شرعا سواء فيصلي في هذا الموضع المسافرون ومارة الطريق وهكذا يقول في الحصير والحشيش أنه لا يعود إلى ملكه ولكن يصرف إلى مسجد آخر بالقرب من ذلك المسجد وهدي الإحصار لم يزل عن ملكه قبل الذبح واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى بالكعبة فإن في زمان الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الأصنام ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع الطاعة والقربة خالصا لله تعالى فكذلك سائر هذه المساجد في الحقيقة إنما ينبني هذا على ما بينا فإن أبا يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء وإن ترك الناس الصلاة فيه لا يخرج من أن يكون مسجدا ومحمد يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه بالجماعة ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء إذا ترك الناس الصلاة فيه بالجماعة يخرج من أن يكون مسجدا وحكى أن محمدا رحمه الله تعالى مر بمزبلة فقال هذا مسجد أبي يوسف يريد به أنه لما لم يقل بعوده إلى ملك الثاني يصير مزبلة عند تطاول المدة ومر أبو يوسف باصطبل فقال هذا مسجد محمد يعني أنه لما قال يعود ملكا فربما يجعله المالك اصطبلا بعد أن كان مسجدا فكل واحد منهما استبعد مذهب صاحبه بما أشار إليه. ثم ذكر في الأصل بعض صكوك الوقف وشرح ما هو من رسم الصكوك في ذلك بذكره في كتاب الشروط وإنما نذكر هنا من ذلك ما يتصل بالوقف فمنه أنه ذكر في المصارف وعلى ذوي الحاجة من موالي فلان بن فلان ومولياته ولم يذكر الأسفل أو الأعلى وتأويل هذا إذا كان فلان من هؤلاء العرب لا ولاء عليه فإن كان عليه ولاء فالوقف بهذا اللفظ لا يصح ما لم يبين الأعلى أو(12/74)
الأسفل على قياس الوصية فإنه لو أوصى لموالى فلان ولفلان موال أعتقوه وأعتقهم فإنه لا تصح الوصية ما لم يبين الأسفل أو الأعلى منصوص عليه في الوصايا في الجامع فكذلك الوقف ومن ذلك أنه يشترط فيه أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر والخراج وما يحتاج إليه لبذر الأرض ومؤنتها وأرزاق الولاة لها ووكلائها وأجور وكلائها ممن يحصدها ويدرسها وغير ذلك من نوائبها لأن مقصود الواقف استدامة الوقف وأن تكون المنفعة واصلة إلى الجهات المذكورة في كل وقت ولا يحصل ذلك إلا برفع هذه المؤن من رأس الغلة وذلك وإن كان يستحق بغير الشرط عندنا إلا أنه لا يؤمن جهل بعض القضاة فربما يذهب رأي القاضي إلى قسمة جميع الغلة بناء على الظاهر وإذا شرط ذلك يقع إلا من بالشرط والمقصود بالكتاب التوثق فينبغي أن يكتب على أحوط الوجوه فيتحرز فيه من طعن كل طاعن وجهل كل جاهل ومن ذلك قال وإن مات القيم فيه في حياة الواقف فالأمر فيه إلى الموقف يقيم فيه من أحب ولا شك في جواز هذا الشرط على أصل أبي يوسف لأنه يجوز اشتراط الواقف الرأي لنفسه في الاستدلال بالوقف(12/75)
ص -39- ... ففي نصب القيم أولى وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأنه لا يجوز شرط الاستبدال بالوقف لما فيه من شرط إعادة العين الأولى إلى ملكه وذلك لا يوجد هنا وقد بينا أن القيم نائب عن الواقف بمنزلة الوكيل له في نصيبه ليعمل للموقوف عليهم باعتبار أنه جعل منفعتهم كمنفعته فاشتراط رأيه في نصب قيم آخر بعد موت الأول يحقق المقصود بالوقف ولا يغيره.
قال: فإن مات بعده فأوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته لأن الواقف نصبه ليكون ناظرا له محصلا لمقصوده وقد يعجز عن ذلك بموته فيكون آذنا له في الاستعانة بغيره بعد موته كما أن للوصي أن يوصي إلى غيره وهذا المعنى يخفي على بعض القضاة كما خفي على بعض العلماء فلم يجوزوا للوصي أن يوصي إلى غيره فيشترط ذلك في الكتاب للتحرز عن هذا.
قال: وإن مات ولم يوص إلى أحد فالرأي فيه إلى القاضي لأنه نصب ناظرا لكل من عجز بنفسه عن النظر والواقف ميت ومصرف الغلة عاجز عن التصرف في الوقف لنفسه فالرأي في نصب القيم إلى القاضي قال: ولا يجعل القيم من الأجانب ما وجد من أهل بيت الموقف وولده من يصلح لذلك" لأنه لو لم يذكر هذا الشرط كان للقاضي أن ينصب أجنبيا إذا رأى المصلحة في ذلك ومقصودا واقف أن يكون ذلك في أهل بيته وولده إما ليكون الوقف منسوبا إليه ظاهرا أو لأن ولده أشفق على وقف أبيه من غيره ويذكر هذا في الكتاب ليتحرز القاضي عن خلاف شرطه.(12/76)
قال: وإن لم يجد فيهم من يصلح له فجعله إلى أجنبي ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه لأنه بدون الشرط لا يستحق على القاضي أن يفعل ذلك والانتهاء لا يعتبر بالابتداء في بعض الأحكام ألا ترى أن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والإباق في المبيع كذلك فإذا ذكر هذا في كتابه وجب على القاضي مراعاة شرطه لقوله تعالى: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: من الآية181] وكونه في يد ولده إذا كان يصلح لذلك أنفع وإن خاف أن يبطل بعض القضاة وقفه ونقضه فأحب إلي أن يتحرز من ذلك وفيه طريقان:
أحدهما: أن يكتب في صكه وإن أبطله قاض أو غيره بوجه من الوجوه فهذه الأرض بأصلها وجميع ما فيها وصية من مال فلان تباع فيتصدق بثمنها على من سمينا في كتابنا وهذا لأن القاضي إنما يبطل عند خصومة وارث أو غريم لاتصال المنفعة إليه وذلك ينعدم بما يذكره الموقف فلا يشتغل أحد بإبطاله والوصية تحتمل التعليق بالشرط فإنها في الأصل إثبات الخلافة بعد الموت والتعليق بالشرط يليق به.
والوجه الثاني: أن الموقف بعد إتمام الوقف بالتسليم إلى المتولي يخاصم فيه إلى قاض يرى إجازته ويطلب منه إبطاله حتى يقضي القاضي بإجازته فينفذ قضاؤه لأنه قضي عن اجتهاد في مجلسه وليس لأحد بعد ذلك إبطاله فإما أن يكون إجازته في نسخة على حدة ويشهد(12/77)
ص -40- ... الشهود على ذلك ويكتب ذلك في آخر صك الوقف والذي جرى الرسم به الآن أنهم يكتبون إقرار الواقف بذلك والمقصود لا يحصل فإقراره لا يكون حجة في حق الذي يرى إبطاله وربما يكتبون وقد رفع هذا إلى قاض من القضاة وهذا كذب إن لم يكن رفع إلى أحد ولا رخصة في الكذب والمقصود لا يتم به أيضا فربما يذهب اجتهاد قاض إلى أن القضاء والإجارة من المجهول لا تعتبر فإنما يتم المقصود بما ذكرنا.
قال: ولا يجوز أن يوقف على تجهيز الرجل بالكراع والسلاح والنفقات في سبيل الله تعالى وبين ذلك في صك" وهذا لأنه من باب القربة والطاعة فإنه جهاد بالمال والجهاد سنام الدين وهذه جهة لا انقطاع لها ما بقيت الدنيا قال عليه الصلاة والسلام: "الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال" فلهذا يجوز الوقف على هذه الجهة.
قال: وإن كان في الضيعة مماليك وأزواجهم وأولادهم يعملون فيها فوقفها بمن فيها منهم وسماهم جاز ذلك لأن المقصود وهو الغلة بعملهم يحصل والوقف فإن كان يختص بالعقار فيجوز أن يثبت في المنقول تبعا للعقار وعلى هذا آلات الحراثة إذا ذكرها في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا وهو كالشرب والطريق يدخل في البيع تبعا وإن كان لا يجوز البيع فيه مقصودا ثم في وقف المنقول مقصودا اختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ذكره في السير الكبير.
والجواب: الصحيح فيه أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز باعتبار العرف وذلك كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والأواني في غسل الميت والمصاحف والكراع والسلاح للجهاد فإنه روى أنه اجتمع في خلافة عمر رضي الله عنه ثلاثمائة فرس مكتوب على أفخاذها حبيس في سبيل الله تعالى وهذا الأصل معروف أن ما تعارفه الناس وليس في عينه نص يبطله فهو جائز وبهذا الطريق جوزنا الاستبضاع فيما فيه تعامل لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".(12/78)
قال: وإذا وقفها على أمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك وسمى لكل واحدة منهن كل سنة شيئا معلوما في حياة فلان وبعد وفاته ما لم يتزوجن فهو جائز وعلى هذا أصل أبي يوسف ظاهر وقد بينا أن عنده لو شرط بعض الغلة لنفسه في حياته جاز فلأمهات أولاده أولى وإنما الإشكال على قول محمد رحمه الله تعالى فإنه لا يجوز أن يشترط ذلك لنفسه واشتراطه لأمهات أولاده في حياته بمنزلة الإشتراط لنفسه ولكنه جوز ذلك استحسانا للعرف ولأنه لا بد من تصحيح هذا الشرط لهن لأنهن يعتقن بموته واشتراطه لهن كاشتراطه لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حياته أيضا تبعا لما بعد الوفاة كما قال أبو حنيفة وأصل الوقف إذا قال في حياتي وبعد مماتي مما يتعلق به اللزوم وكذلك إن سمى في ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون بموته كأمهات الأولاد بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وأبو يوسف(12/79)
ص -41- ... يجوز ذلك كله وإنما يشترط ما لم يتزوجن لأن مقصوده توفير المنفعة عليهن ما دمن في بيته مشغولات بخدمة أولاده وذلك ينعدم بالتزوج أو مقصوده من ذلك التحرز عن ضياعهن لعجزهن عن التكسب ويختص ذلك بما قبل التزوج فمن تزوجت منهن تستحق النفقة على زوجها فلهذا قال ما لم يتزوجن. قال: فإن جعل الرأي في توزيع الغلة على الفقراء أو القرابة في الزيادة والنقصان إلى القيم جاز ذلك لأن رأي القيم قائم مقام رأيه وكان له في ذلك التفضيل عند الوقف رأيا فيجوز أن يشترط ذلك في القيم بعده وهذا لأن المصارف تتفاوت في الحاجة باختلاف الأوقات والأمكنة فمقصوده أن تكون الغلة مصروفة إلى المحتاجين في كل وقت وإنما يتحقق ذلك بالزيادة والنقصان بحسب حاجتهم والصرف إلى البعض دون البعض إذا استغنى البعض عنه فلهذا جوز له أن يجعل الرأي في ذلك إلى القيم وإن كتب لأمهات أولاده وجواريه اللاتي جعلن حرائر بعد موته كتابا أنه تصدق عليهن في حياته وجعل لهن بعد وفاته سكنى منازل وسماهن وبين حدودها ومواضعها تسكن كل امرأة منهن من ذلك بقدر ما يكفيها ما عاشت وأي امرأة منهن تزوجت أو خرجت منتقلة إلى غير هذه المنازل فلا حق لها في السكنى ونصيبها مردود على من بقيت منهن فذلك جائز اعتبارا للسكنى بالغلة فإن الغلة تدل على المنفعة وإذا صح منه هذا الشرط لهن في الغلة فكذلك في المنفعة وهذا لأن مقصوده اتصال حاجتهن إليهن لكيلا يضعن بعده وربما تكون حاجتهن إلى السكنى دون الغلة وقد أعطاهن في حياته من المال ما يكفيهن وإنما وضع هذه المسائل في أمهات الأولاد لأن الحكم في الزوجات الحرائر بخلافة لأن الزوجات يرجعن إلى قراباتهن ولا قرابة لأمهات الأولاد في دار الإسلام فلهذا ذكر المسائل فيهن. قال وإن لم يحتج من بقي منهن كان ذلك ميراثا على فرائض الله تعالى" ولكن هذا الشرط يجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الحياة والموت لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا(12/80)
يشترط التأبيد واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده فأما عند محمد رحمه الله تعالى التأبيد شرط للزوم الوقف في الحياة فاشتراط العود إلى الورثة يعدم هذا الشرط فيكون مبطلا للوقف إلا أن يجعل ذلك وصية من ثلثه بعد موته فحينئذ يجوز ذلك بمنزلة الوصية لمعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة فإن ذلك جائز من ثلثه ويعود إلى الورثة إذا سقط حق الموصي له فكذلك في حق أمهات الأولاد إذا سماهن وإن كتب أنه جعل لهن في حياته وأوصى لهن من بعد وفاته لكل واحد منهن بخدمها ومتاعها وحليها وثيابها وجوهرها وسمي ما جعل لكل واحدة منهن من ذلك وبين قيمته ووزنه وأنه قد جعل لها في حياته وصحته ذلك ودفعه إليها وأوصى لها بعد وفاته فإنه تجوز الوصية من الثلث ولا تجوز في الحياة عندهم جميعا وأما عند محمد رحمه الله تعالى لا يشكل وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه يملكهن الأعيان هنا والمملوكة ليست من أهل التمليك فلا يصح التمليك منهن إلا باعتبار حريتهن وذلك بعد وفاته فعرفنا أنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت(12/81)
ص -42- ... فيكون وصية من الثلث وفيما سبق لا يملك بالوقف أحد شيئا ولكن يخرج العين عن ملكه فيجعله موقوفا عليهن لحاجتهن إلى السكنى وذلك يتم منه في الحال فإذا كان صحيحا حين أخرج الوقف من ملكه تم ذلك معتبرا من جميع ماله ومحمد رحمه الله تعالى هكذا يقول فيما لا يعود إليه وإلى ورثته بعد ذلك بحال بأن جعل آخر وقفه على جهة لا تنقطع فإن كان بحيث يعود إليه وإلى ورثته بعد وفاته لا يتم زواله عن ملكه فإنما يبقى تمليكه منهن وذلك لا يجوز في حياته وإنما يجوز بعد وفاته فيكون بمنزلة الوصية بالسكنى تعتبر بالثلث من ماله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(12/82)
ص -43- ... كتاب الهبة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن الهبة عقد جائز ثبت جوازه بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] والمراد بالتحية العطية وقيل المراد بالتحية السلام والأول أظهر فإن قوله أو ردوها يتناول ردها بعينها وإنما يتحقق ذلك في العطية وقال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وإباحة الأكل بطريق الهبة دليل جواز الهبة والسنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها" ولأنه من باب الإحسان واكتساب سبب التودد بين الإخوان وكل ذلك مندوب إليه بعد الإيمان وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "تهادوا تحابوا" ثم الملك لا يثبت في الهبة بالعقد قبل القبض عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى يثبت لأنه عقد تمليك فلا يتوقف ثبوت الملك به على القبض كعقد البيع بل أولى لأن هناك الحاجة إلى إثبات الملك من الجانبين وهنا من جانب واحد فإذا كان مجرد القول يوجب الملك من الجانبين فمن جانب واحد أولى وحجتنا في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" معناه لا يثبت الحكم وهو الملك إذ الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على هذا فقد ذكر أقاويلهم في الكتاب ولأن هذا عقد تبرع فلا يثبت الملك فيه بمجرد القبول كالوصية وتأثيره أن عقد التبرع ضعيف في نفسه ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم والملك الثابت للواهب كان قويا فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به وهو موته في الوصية لكون الموت منافيا لملكه وتسليمه في الهبة لإزالة يده عنه بعد إيجاب عقد التمليك لغيره(12/83)
يوضحه أن له في ماله ملك العين وملك اليد فتبرعه بإزالة ملك العين بالهبة لا يوجب استحقاق ما لم يتبرع به عليه هو اليد ولو أثبتنا الملك للموهوب له قبل التسليم وجب على الواهب تسليمه إليه وذلك يخالف موضوع التبرع بخلاف المعاوضات والصدقة كالهبة عندنا في أنه لا يوجب الملك للمتصدق عليه إلا بالقبض خلافا لمالك رحمه الله تعالى وفي الصدقة خلاف بين الصحابة ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم وكان علي وبن مسعود رضي الله عنهما يقولان إذا أعلمت الصدقة جازت وكان ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم يقولان لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة وعن شريح وإبراهيم النخعي رحمهما الله تعالى فيه روايتان ذكرهما في الكتاب فأخذنا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما(12/84)
ص -44- ... وحملنا قول علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما على صدقة الرجل على ولده الصغير وذلك بالإعلام يتم لأنه يصير قابضا له. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام يقول: "ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث". فقد شرط النبي عليه الصلاة والسلام الإمضاء في الصدقة وذلك بالقبض يكون وقد بينا هذا في كتاب الوقف ثم الهبة والصدقة قد تكون من الأجانب وقد تكون من القرابات وذلك أفضل لما فيه من صلة الرحم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاسخ" ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن إبراهيم عن عمر رضي الله عنه قال من وهب لذي رحم محرم هبة فقبضها فليس له أن يرجع فيها. وذكر بعد هذا عن عطاء ومجاهد عن عمر رضي الله عنه قال من وهب هبة لذي رحم محرم فقبضها فليس له أن يرجع فيها ومن وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع فيها ما لم يثب منها والمراد بقوله ذي رحم محرم قد ذكر ذلك في بعض الروايات وهذا لأنه يفترض صلة القرابة المتأبدة بالمحرمية دون القرابة المتحرزة عن المحرمية وهو كما يتلى في القرآن في قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: من الآية1] أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها وقال الله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23-22].(12/85)
والمراد الرحم المتأبد بالمحرمية ثم إن الحديث دليل أن الهبة لا تتم إلا بالقبض لأنه اعتبر القبض للمنع عن الرجوع وهو دليل لنا أن الوالد إذا وهب لولده هبة ليس له أن يرجع فيها كالولد إذا وهب لوالده وهذا لأن المنع من الرجوع لحصول المقصود وهو صلة الرحم أو لما في الرجوع والخصومة فيه من قطيعة الرحم والولاد في ذلك أقوى من القرابة المتأبدة بالمحرمية وفيه دليل على أن من وهب لأجنبي هبة فله أن يرجع فيها ما لم يعوض منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما لم يثب" والمراد بالثواب العوض فعمر رضي الله عنه إمامنا في المسألتين يحتج بقوله رضي الله عنه على الخصم وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أينما دار الحق فعمر معه وان ملكا ينطق على لسان عمر".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت نحلني أبو بكر رضي الله عنه جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما حضره الموت حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال يا بنية إن أحب الناس إلى غني أنت وأعزهم علي فقرا أنت وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه وإنما هو مال الورثة وإنما هما أخواك وأختاك قالت فقلت فإنما هي أم عبد الله يعني أسماء قال إنه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية ثم ذكر عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها أرضا له وفي هذا دليل أن الهبة لا تتم إلا بالقبض وأنه يستوي في ذلك الأجنبي والولد إذا كانا بالغين وفيه دليل على أن الهبة لا تتم إلا بالقسمة فيما يحتمل القسمة لأن أبا بكر رضي الله عنه أبطل لعدم القبض والحيازة جميعا بقوله وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه والمراد بالحيازة القسمة لأنه(12/86)
ص -45- ... يقال: حاز كذا أي جعله في حيزه بقبضه وحاز كذا أي جعله في حيزه بالقسمة ولو حملناه على القبض هنا كان تكرارا وحمل اللفظ على ما يستفاد به فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار وفيه دليل أن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا تكون باطلة لأن أبا بكر رضي الله عنه باشرها ولكن لا يحصل الملك إلا بعد القسمة كما لا يحصل الملك إلا بعد القبض ولا نقول الهبة قبل القبض باطلة. وفيه دليل أن التسليم كالتمليك المبتدأ لأن أبا بكر رضي الله عنه امتنع من ذلك لمرضه فإن المريض ممنوع من إيثار بعض ورثته بشيء من ماله بطريق التبرع ولكن طيب قلبها بما قال انتدابا إلى ما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "رحم الله امرأ أعان ولده على بره" بدأ كلامه بالحمد والثناء على الله تعالى وكل مسلم مندوب إلى ذلك خصوصا في وصيته. ثم يستدل بقوله أن أحب الناس إلي غني أنت وأعزهم علي فقرا أنت أي أشدهم من تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب لها أعلى الدرجات ولكن المذهب عندنا أن الأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "الفقر أزين بالمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس" وكذلك أبو بكر رضي الله عنه اختار الفقر لنفسه حين أنفق جميع ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا أنه إنما قال ذلك تطييبا لقلبها أو أحب الغنى لها لعجزها عن الكسب أو ظن أنه يشق عليها الصبر على الفقر فلهذا قال أحب الناس إلي غني أنت وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية وذلك اسم موضع وقد كان وهب لها قدر عشرين وسقا من ماله في ذلك الموضع قال وإنما هو مال الورثة. وفيه دليل على أن حق الوارث يتعلق بمال المريض مرض الموت وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "وما سوى ذلك فهو مال(12/87)
الوارث" أو قال ذلك باعتبار أن مآله إلى ذلك كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وإنما هما أخواك وأختاك وإنما ذكر ذلك لتطييب قلبها أنه كان لا يسلم لك فلا يبعد عنك فأشكل على عائشة رضي الله عنها قوله وأختاك لأنها ما عرفت لها إلا أختا واحدة وهي أم عبد الله فقال أبو بكر رضي الله عنه أنه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية يعني أم حبيب امرأته وكانت حاملا وفيه دليل أن الحمل من جملة الورثة وأنه لا بأس للإنسان أن يتكلم بمثل هذا بطريق الفراسة فإن أبا بكر رضي الله عنه قال ذلك بفراسته ولم يكن ذلك منه رجما بالغيب فإن ما في الرحم لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: من الآية34] ولهذا قيل أفرس الناس أبو بكر رضي الله عنه حيث تفرس في حبل امرأته أنها جارية فكان كما تفرس وتفرس في عمر رضي الله عنه حين استخلفه بعده.
وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا إذا وهب الرجل لابنه الصغير هبة فأعلمها فهو جائز وبه نأخذ فإن حق القبض فيما يوهب لهذا الصغير إلى الأب لو كان الواهب أجنبيا فكذلك إذا كان الواهب يصير قابضا له من نفسه فتتم الهبة بالقبض ولا بد من الإعلام ليحصل(12/88)
ص -46- ... المقصود به فالولد لا يتمكن من المطالبة به ما لم يكن معلوما له وهو معنى ما روى شريح أنه سئل ما يجوز للصبي من نحل أبيه قال المشهود عليه والمراد الإعلام فالإشهاد في الهبة ليس بشرط للإتمام وإنما ذكر ذلك للتوثق حتى يتمكن الولد من إثبات ملكه بالحجة بعد موته على سائر الورثة.
وعن إبراهيم قال الرجل والمرأة بمنزلة ذي الرحم المحرم إذا وهب أحدهما لصاحبه هبة لم يكن له أن يرجع فيها وبه نأخذ فإن ما بينهما من الزوجية نظير القرابة القريبة ولهذا يتعلق بها التوارث من الجانبين بغير حجب ويمتنع قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه وهذا لأن المقصود حصل بالهبة وهو تحقيق ما بينهما من معنى السكن والازدواج وفي الرجوع إيقاع العداوة فيما بينهما والنفرة. والزوجية بمعنى الألفة، والمودة فلا يجوز لأحدهما الإقدام على ما يضاده وهذا كان مانعا من الرجوع فيما بين القرابات.
وقال: في الرجل يهب لامرأته أو لبعض ولده وقد أدرك وهو في عياله أن ذلك جائز إذا أعلمه وإن لم يقبض ذلك الموهوب له وبه يأخذ ابن أبي ليلى فيقول إذا كان الموهوب له في عياله فيده في قبض الهبة كيده كما في الصغار ولسنا نأخذ بذلك لأنه لا بد من نوع ولاية له ليجعل قبضه بذلك كقبض الموهوب له ولا ولاية له عليهم بعد البلوغ وإن كان يعولهم ألا ترى أن الغني يعول بعض المساكين فينفق عليهم ثم لو تصدق عليهم لا يتم ذلك إلا بالإعلام ما لم يسلمه إليه.(12/89)
وعن عطاء بن السائب عن شريح رحمهما الله تعالى أنه سأله عن الحبيس فقال إنما أقضي ولست أفتي فأعدت عليه المسألة فقال لا حبيس عن فرائض الله تعالى وبه يأخذ من يقول لا ينبغي للقاضي أن يفتي وهذا فصل تكلم فيه العلماء رحمهم الله تعالى فمنهم من يقول في العبادات لا بأس بأن يفتي وفي المعاملات لا يفتي لكيلا يقف الخصم على مذهبه فيشتغلوا بالحيل على مذهبه ومنهم من يقول لا يفتي في مجلس القضاء وله أن يفتي في غير مجلس القضاء لأنه لو اشتغل بها في مجلس القضاء وكل واحد منهما أمر عظيم فربما يتمكن الخلل في أحدهما وهو متعين للقضاء فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره والأصح عندنا أنه لا بأس له أن يفتي إذا كان أهلا لذلك وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقضون بين الناس ويفتون والقضاء في الحقيقة فتوى إلا أنه فتوى فيه إلزام ولهذا كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيا ألا ترى أن شريحا أفتى لما أعاد السؤال بقوله لا حبيس عن فرائض الله تعالى فهو دليل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وقد روى هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه بيناه في الوقف.
وعن ابن عباس وشريح رضي الله عنهما قالا جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس وهكذا عن الشعبي وفيه بيان أنه كان معروفا فيما بينهم أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وعن عمر رضي الله عنه قال ما بال أحدكم يتصدق على ولده بصدقة لا يحوزها ولا(12/90)
ص -47- ... يقسمها يقول: إن أنا مت كانت له وإن مات هو رجعت إلي وأيم الله لا يتصدق منكم رجل على ولده بصدقة لم يحزها ولم يقسمها ثم مات إلا صارت ميراثا لورثته وهكذا نقل عن عثمان رضي الله عنه وفيه دليل أن الصدقة لا تتم إلا بالقبض والقسمة لأن المراد بالحيازة المذكورة في هذا الحديث القبض فإنها قرنت بالقسمة فلو حملنا الحيازة على القسمة كانت تكرارا ولو حملناها على القبض كنا قد استفدنا بكل لفظ فائدة جديدة وفيه دليل أنه إذا مات بعد ما تصدق على ولده قبل أن يسلمها إليه فهو ميراث للورثة وتأويله إذا كان الولد بالغا فهو حجة على ابن أبي ليلى لأنه لم يفصل بين أن يكون في عيال الأب أولا يكون ولو كان المراد الولد الصغير فإذا لم يقسمها لم يثبت الملك للولد فكان ميراثا عن الأب بعد موته.
وعن علي رضي الله عنه قال إذا وهبت المرأة لزوجها هبة فإن شاءت رجعت فيها إذا هي ادعت أنه استكرهها وإن وهب هو لها شيئا فليس له أن يرجع في الهبة وليس مراده الفرق بينهما في الرجوع بحكم الزوجية وإنما مراده أن الدعوى من المرأة أنها كانت مكرهة مسموع ومن الزوج لا لاعتبار الظاهر فالظاهر أن الزوج يتمكن من إكراه زوجته والمرأة لا تتمكن من إكراه زوجها والظاهر أن المرأة تخاف على نفسها من جهة الزوج بما يثبت به الإكراه من الضرب والحبس والزوج لا يخاف ذلك من جهة امرأته وفيه دليل أن الهبة من المكره لا تصح لأن شرط صحة الهبة تمام الرضا والإكراه بعدم الرضا.
قال: ومن وهب هبة مقسومة لذي رحم محرم وسلمها إليه فليس له أن يرجع فيها وإن وهبها لأجنبي أو لذي رحم ليس بمحرم فله أن يرجع فيها وهما فصلان:(12/91)
أحدهما: إذا وهب لأجنبي شيئا فله أن يرجع في الهبة عندنا ما لم يعوض منها في الحكم وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة وعند الشافعي ليس له أن يرجع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده" وفي رواية قال: "لا يحل" فقد نفى الرجوع أو حرم ولا يجوز الإقدام على ارتكاب الحرام شرعا وقال عليه الصلاة والسلام: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" وفي رواية: "كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" والعود في القيء حرام فكذلك الرجوع في الهبة والمعنى فيه أن الهبة عقد تمليك فمطلقه لا يقتضي الرجوع فيه كالبيع وهذا لأن الرجوع يضاد المقصود بالتمليك والعقد لا ينعقد موجبا ما يضاد المقصود به وإنما يثبت حق الرجوع قبل تمامه كما فيما بين الوالد والولد باعتبار أن الولد كسبه على ما نبينه أو أنه بعضه فلا يتم إخراجه عن ملكه لما جعلها محرزة وهذا لا يوجد فيما بين الأجانب وهو معنى قولهم ليس بين الواهب والموهوب له حزونة فلا يرجع أحدهما فيما يهب لصاحبه كالأخوين وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها" والمراد حق الرجوع بعد التسليم لأنها لا تكون هبة حقيقة قبل التسليم وإضافتها إلى الواهب على معنى أنها كانت له كالرجل يقول أكلنا خبز فلان الخباز وإن كان قد اشتراه منه ولأنه مد هذا الحق إلى وصول(12/92)
ص -48- ... العوض إليه وذلك في حق الرجوع بعد التسليم وفي قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ما يدل على ذلك وقد بينا أن المراد بالتحية العطية قال القائل:
تحيتهم بيض الولائد بينهم
يريد عطاياهم: وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: "من وهب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فليوقف وليعرف قبح فعله" وفي رواية حسن فعله فإن أبى يرد عليه والمراد حسن فعله في الهبة وقبح فعله في الرجوع.
وعن فضالة بن عبيد أن رجلين اختصما إليه فقال أحدهما أني وهبت لهذا بازيا ليثيبني ولم يثبني فأنا أرجع فيه فقال فضالة: لا يرجع في الهبة إلا النساء والشرار من الناس اردد وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال الواهبون ثلاثة: رجل وهب على وجه الصدقة فليس له أن يرجع فيها ورجل استوهب فوهب فله أن يرجع فيها ما لم يعوض ورجل وهب بشرط العوض فهي دين له في حياته وبعد موته والمعنى فيه أنه يمكن الخلل في المقصود بالعقد فيتمكن العاقد من الفسخ كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا وبيان ذلك أن المقصود من الهبة للأجانب العوض والمكافأة والمرجع في ذلك إلى العرف والعادة الظاهرة أن الإنسان يهدي إلى من فوقه ليصونه بجاهه وإلى من دونه ليخدمه وإلى من يساويه ليعوضه وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لوفد ثقيف لما أتوه بشيء أصدقة أم هبة فالصدقة يبتغي بها وجه الله تعالى والهبة يبتغي فيها وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة ومنه يقال للأيادي قروض وقال القائل:
وإذا جوزيت قرضاً فأجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الحمل(12/93)
وبهذا يتبين أن حق الرجوع ليس بمقتضى العقد عندنا بل لتمكن الخلل في المقصود بالعقد على معنى أن المعروف كالمشروط ولا يقال إنما يقصد العوض بالتجارات فأما المقصود بالهبة إظهار الجود والسخاء والتودد والتحبب وقد حصل ذلك وهذا لأن العوض في التجارات مشروط وفي التبرعات مقصود ومعنى إظهار الجود أيضا مقصود فإنما يمكن الخلل في بعض المقصود وذلك يكفي للفسخ مع أن إظهار الجود مقصود كريم الخلق ولهذا يقول الراجع في الهبة لا يكون كريم الخلق فأما مقصود طيبة النفس العوض ومعنى التودد إنما يحصل بالعوض كما قال عليه الصلاة والسلام: "تهادوا تحابوا" فإن التفاعل يقتضي وجود الفعل من الجانبين كالمفاعلة فأما الحديث فالمراد به أن لا ينفرد بالرجوع من غير قضاء ولا رضا إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك فينفرد بالأخذ لحاجته وسمى ذلك رجوعا باعتبار الظاهر وإن لم يكن رجوعا في الحكم كما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل على فرس في سبيل الله ثم رأى ذلك الفرس يباع فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا تعد في صدقتك والشراء لا يكون رجوعا في الصدقة حكما والمراد لا يحل الرجوع بطريق الديانة والمروءة وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت(12/94)
ص -49- ... شبعان وجاره إلى جنبه طاو" أي لا يليق ذلك بالديانة والمروءة وإن كان جائزا في الحكم إذا لم يكن عليه حق واجب والمراد بالحديث الآخر التنبيه في معنى الاستقباح والاستقذار ألا ترى أنه شبه بعود الكلب في قيئه وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة وبه نقول وإنه يستقبح وقد بينا الفرق بين هذا وبين الأخوين والزوجين لحصول ما هو المقصود هناك وتمكن الخلل فيما هو المقصود هنا ولهذا يحتاج إلى القضاء أو الرضا في الرجوع لأنه بمنزلة الرد بالعيب بعد القبض من حيث أن السبب تمكن الخلل في المقصود فلا يتم إلا بقضاء أو رضا والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/95)
والفصل الثاني: إذا وهب الوالد لولده فليس له أن يرجع فيه عندنا وقال الشافعي له ذلك لما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام: "إلا الوالد فيما يهب لولده" والاستثناء من النفي إثبات ومن التحريم إباحة وفي حديث نعمان بن بشير رضي الله عنه قال نحلني أبي غلاما وأنا ابن سبع سنين فأبت أمي إلا أن يشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملني أبي على عاتقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه: "ألك ولد سواه" فقال نعم فقال عليه الصلاة والسلام: "أوكل ولدك نحلته مثل هذا؟" فقال لا فقال عليه الصلاة والسلام: "هذا جور وإنا لا نشهد على جور اردد" فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع فيه وأقل أحوال الأمر أن يفيد الإباحة ولأنه جاد بكسبه على كسبه فيتمكن من الرجوع فيه كما لو وهب لعبده. ومعنى هذا أن الولد كسبه. قيل في معنى قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] وما ولد وقال عليه الصلاة والسلام: "وإن ولده من كسبه" وتأثيره ما بينا أنه لا يتميز عن ملكه إذا كان الموهوب له كسبا له كالموهوب به وإذا كان الموهوب له جزأ منه فلا يشكل أنه لا يتم خروجه عن ملكه ولا يبعد أن يختص الوالد بما لا يشاركه الولد فيه كالتملك بالاستيلاد فإنه يثبت للأب في جارية ابنه ولا يثبت للابن في جارية أبيه وحجتنا ما روينا من حديث عمر رضي الله عنه فهو الإمام لنا في المسئلتين ولأن الهبة قد تمت لذي الرحم المحرم ملكا وعقدا فلا يملك الرجوع فيه كالابن إذا وهب لأبيه أو الأخ لأخيه وهذا لأن المقصود قد حصل وهو صلة الرحم ولأن في الرجوع معنى قطيعة الرحم وهذا موجود في حق الوالد مع ولده لأنه بالرجوع يحمله على العقوق وإنما أمر الوالد أن يحمل ولده على بره ولا يقال مقصود الوالد أن يخدمه الولد ولما رجع فالظاهر أنه لم ينل ذلك لأن شفقة الأبوة تمنعه من الرجوع بعد حصول المقصود وهذا لأن(12/96)
هذا المعنى خفي لا ينبني الحكم عليه وهو موجود في الولد إذا وهب لوالده فالظاهر أنه قصد أن يخصه بإكرام وإنما يرجع لأنه لم ينل ذلك ولا معتبر بما ذكر من الكسب فإنه لو وهب لمكاتبه أو لمعتقه لا يرجع فيه وهو كسبه أيضا وهذا لأن الولد كسبه لا ملكه بخلاف عبده فأما الحديث فقد قيل معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "إلا الوالد" ولا الوالد فإن كلمة إلا تذكر بمعنى ولا قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية150] "أي ولا الذين ظلموا منهم وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ(12/97)
ص -50- ... مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] أي ولا خطأ أو المراد إلا الوالد فإنه ينفرد بأخذه عند حاجته على ما قررنا وحديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قيل قوله وأنا ابن سبع سنين وقوله فحملني أبي على عاتقه لم ينقل في شيء من المشاهير فيحتمل أنه كان بالغا ولم يسلمه إليه وعندنا في مثله له أن يرجع ويحتمل أنه كان صغيرا ولكن كان فوض ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهبه له إن رآه صوابا ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "اردد" أي أمسك مالك وارجع إلى رحلك.وقيل: كان هذا منه بطريق الوصية بعد موته ألا ترى أنه اعتبر التسوية بين الأولاد وإنما تجب التسوية في الوصية بعد الموت فأما في الهبة في الصحة فلا ألا ترى أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص عائشة بالهبة لها في صحته كما روينا والدليل عليه أن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال فرجع أبي في وصيته وفي هذا التأويل كلام فالمذهب أنه ينبغي للوالد أن يسوي بين الأولاد في العطية عند محمد رحمه الله تعالى على سبيل الإرث للذكر مثل حظ الأنثيين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يسوي بين الذكور والإناث قال عليه الصلاة والسلام: "ساووا بين أولادكم حتى في القتل" ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت الإناث والاعتماد على التأويل الأول وذو الرحم الذي ليس بمحرم كالأجنبي في حق الهبة لأن ما بينهما من القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا يتعلق بها استحقاق العتق وحرمة النكاح وكذلك المحرم الذي ليس برحم لأنه لا تأثير للرضاع والمصاهرة في استحقاق الصلة فكانت الهبة بينهما المقصود العوض فإذا لم ينل كان له أن يرجع فيها إن كانت قائمة لم يزدد خيرا والموانع من الرجوع في الهبة إما أخذ العوض لأن المقصود به قد تم وفي قوله: "ما لم يثب" منها دليل على أنه لا رجوع بعد نيل العوض وأن يزداد الموهوب في ندمه خيرا فإن حق الرجوع فيما تتناوله الهبة وتلك الزيادة لم تتناولها الهبة ولا يتأتى الرجوع في(12/98)
الأصل بدون الزيادة المتصلة وهذا بخلاف ما لو زاد في سعره لأن ذلك ليس بزيادة في العين فإنه عبارة عن كثرة رغبات الناس فيه فأما العين على حاله كما كان ومنها أن يخرج الموهوب من ملك الموهوب له لأن تبدل الملك كتبدل العين ولأن حق الرجوع في الملك المستفاد في الهبة على معنى أن بالرجوع ينتهي ذلك الملك فلا يمكن إثباته في ملك آخر. ومنها أن يموت الواهب فليس لوارثه أن يرجع فيه لأن التمليك بعقد الهبة لم يكن منه فلا يخلف مورثه فيما لم يكن على ملكه عند موته ومنها أن يموت الموهوب له فإن الملك ينتقل من الموهوب إلى وارثه ولو انتقل الملك في حياته إلى غيره لم يرجع الواهب فيه وكذلك بعد موته قال: فإن مات أحدهما إما الواهب أو الموهوب له قبل التسليم بطلت الهبة لأن تمام الهبة بالقبض وكان القبض في الهبة كالقبول في البيع من حيث أن الملك يثبت به فكما أن موت أحدهما بعد الإيجاب قبل القبول يبطل البيع فكذلك الهبة.
قال: وإن كان الموهوب حاضرا في المجلس فقبضه الموهوب له بإذن الواهب ملكه وإن قبضه بغير إذنه في القياس لا يملكه وفي الاستحسان يملكه نص على ذلك في الزيادات وجه القياس أن العين باقية على ملك الواهب وليس لأحد أن يقبض ملك غيره بغير إذنه فكان(12/99)
ص -51- ... متعدياً في القبض لا متملكا ولأن إيجاب العقد لا يكون إذنا في القبض كالبيع فإن المشتري لو قبض المبيع بغير إذن البائع قبل نقد الثمن لم يكن هذا قبضا بإذن وإن كان المبيع حاضرا حتى لا يسقط حق البائع في الحبس بل أولى فإن هناك قد ملكه المشتري بالعقد فإنما يقبض ملك نفسه وهنا الموهوب له لم يملك بالعقد ووجه الاستحسان أن القبض في الهبة كالقبول في البيع ثم إيجاب البيع يكون إذنا في القبول فكذلك إيجاب الهبة يكون إذنا في القبض لأن مقصود الموجب إتمام تبرعه وذلك يكون بالقبض فكان في القبض تحصيل مقصوده فلهذا جعلناه مسلطا للموهوب له على ذلك إذا كان الموهوب حاضرا بخلاف البيع والقبض هناك لإسقاط حقه في الحبس ولم يكن ذلك مقصوده بالبيع وإنما كان مقصوده أن يسلم العوض له فلهذا لا يجعله بإيجاب البيع راضيا بسقوط حقه في الحبس ولو لم يكن الموهوب حاضرا في المجلس فقبضه الموهوب له بعد ما افترقا بغير إذن الواهب لا يملكه وإن قبضه بإذن الواهب فقياس الاستحسان الأول أن لا يملكه أيضا لأن القبض هنا بمنزلة القبول في البيع والقبول بعد الافتراق لا يوجب الملك بإذن الموجب كان أو بغير إذنه فكذلك القبض هنا وفي الاستحسان يملكه لأن العقد انعقد لوجود الإيجاب والقبول والقبض محتاج إلى ذلك ليتقوى به السبب فيكون موجبا للملك وذلك حاصل بعد الافتراق وإذنه يحتاج في القبض إلى إذن المالك صريحا أو دلالة فإذا كان الموهوب غائبا لم يثبت الإذن بقبضه دلالة فلا بد من التصريح بذلك فإذا قبضه بإذنه ملكه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر هداياه قال: "من شاء أن يقتطع فليقتطع وانصرف" فكان إذنا بالقبض لمجهول يملكه بالقبض فلأن يصح ذلك للمعلوم كان أولى وله أن يرجع قبل أن يقبضه الموهوب له سواء كان حاضرا أو غائبا أذن له في قبضه أو لم يأذن له ومراده التفرد بالرجوع فإن الملك لم يحصل للموهوب له فكان الراجع مستديما لملكه(12/100)
والمالك ينفرد باستدامة ملكه فأما بعد القبض لا يرجع في الهبة إلا بقضاء أو رضا بمنزلة الأخذ بالشفعة لأن الراجع يعيد إلى نفسه ملكا هو لغيره فلا ينفرد به من غير قضاء ولا رضا لأنه إن كان هو يطلب لحقه فالموهوب له يمنع تملكه فكان الفصل بينهما إلى القاضي كما في الأخذ بالشفعة والفرقة بين العنين وامرأته.
قال: وإذا أودع الرجل الرجل شيئا ثم لقيه فوهبه له وليس الشيء بحضرتهما فالهبة جائزة إذا قال الموهوب له قبلت ولا يحتاج فيه إلى قبض جديد" لأن الشيء في يد الموهوب له واليد مستدامة فاستدامتها كإنشائها بعد قبول الهبة وهذا لأن القبض بحكم الهبة ليس بموجب للضمان فيد الأمانة تنوب عنه بخلاف الشراء فإن المودع إذا اشترى الوديعة من المودع وهي ليست بحاضرة لا يصير قابضا بنفس الشراء فإن القبض بحكم الشراء قبض ضمان وقبض الأمانة دون قبض الضمان والضعيف لا ينوب عن القوى وكذلك هذا في العارية والإجارة لأن قبض المستعير والمستأجر قبض أمانة كقبض المودع أو أقوى منه.
قال: والنحلي والعمري والعطية بمنزلة الهبة فيما ذكرنا لأن هذه عبارات عن شيء(12/101)
ص -52- ... واحد وهو التمليك بطريق الهبة وإنما يعتبر المقصود لا العبارة عنه ألا ترى أن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمري وأبطل الشرط يعني شرط العود إليه بعد موت الموهوب له أما الصدقة إذا تمت بالقبض فليس له أن يرجع فيها سواء كانت لقرابته أو لأجنبي لأن المطلوب بالصدقة نيل الثواب وقد حصل ذلك ولا رجوع بعد حصول المقصود بتمامه ولأن المتصدق يجعل ذلك المال لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير فيكون كفاية له من الله تعالى ولهذا لم يكن للمعطى فيه منة على القابض وإنما له حق الرجوع في ملك ذلك المال المتملك من جهته وقد انعدم ذلك في الصدقة فلهذا لا يرجع فيها ويستوي في الهبة حكم الرجوع إن كان الموهوب له مسلما أو كافرا لأن المقصود لا يختلف بذلك فإنه إن كان أجنبيا فالمقصود العوض وإن كان قريبا له فالمقصود صلة الرحم وفي هذا المسلم والكافر سواء.
قال: وإذا وهب عبدا لأخيه ولأجنبي وقبضاه فله أن يرجع في نصيب الأجنبي اعتبارا للبعض بالكل" وهذا لأن في نصيب الأجنبي مقصوده العوض ولم ينل ذلك.
قال: وإن وهب لأخيه هبة وهو عبد فقبضها فله أن يرجع فيها لأن الملك بالهبة وقع للمولى والعبد ليس من أهل الملك والمولى أجنبي فعرفنا أن مقصوده العوض والمكافأة ولم ينل ذلك ولأنه إنما يخاصم في الرجوع المولى باعتبار أن الملك واليد له فلا يتمكن بينهما قطيعة رحم إذا كان المولى أجنبيا.(12/102)
قال: وإن وهب لعبد أخيه هبة فله أن يرجع فيها في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس له أن يرجع فيها وجه قولهما إن الملك بحكم الهبة وقع لذي الرحم المحرم فلا رجوع فيها كما لو كان وهب للمولى وهذا لأنه وإن أضاف العقد إلى العبد فالمقصود المولى وهو قريبه فعرفنا أن مقصوده صلة الرحم ألا ترى أنه لو أوصى لعبد وارثه أو لعبد قاتله كان ذلك كالوصية لمولاه حتى لا يصح ولأنه في الرجوع يخاصم المالك وهو قريب له وفي مخاصمته في الرجوع فيها قطيعة الرحم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الصلة ما تمت لذي الرحم المحرم عقدا وملكا فيكون له أن يرجع فيها كما لو كان وهب لأخيه وهو عبد لغيره وهذا لأن الرجوع باعتبار العقد والملك حتى إذا كان العقد معاوضة فليس فيه حق الرجوع وبعد زوال الملك لا رجوع والعقد هنا للعبد ألا ترى أن القبول والرد يعتبر منه دون المولى وأن المعتبر منه دين العبد حتى إذا كان الموهوب خمرا صحت الهبة إذا كان العبد كافرا وإن كان مولاه مسلما والملك بحكم الهبة يقع للعبد على أحد الطريقين لأن الحكم إنما يثبت لمن باشر سببه ولهذا يقدم فيه حاجة العبد حتى يقضي منه ديونه ثم ينتقل إلى المولى عند استغناء العبد عنه لأنه مالك لرقبته فيخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث، وعلى الطريق الآخر الملك يقع للمولى ولكن بطريق الخلافة عن العبد لأنه ليس بأهل للملك فيخلف القاتل في ذلك مولاه وهو نظير الطريقين في الوكيل بالشراء. إذا ثبت هذا فنقول: لما(12/103)
ص -53- ... وقع العقد للعبد وهو أجنبي فلا ينفك هذا العقد عن مقصود العوض فيثبت حق الرجوع فيه إذا لم يعوض.
فإن قيل:فإذا وقع الملك للعبد ثم انتقل منه إلى المولى ينبغي أن لا يثبت حق الرجوع فيه.
قلنا: هذا أن لو كان الثابت له ملكا مستقرا وهو ليس من أهل ذلك وعند العقد هذا الانتقال كان معلوما فلا يكون مانعا من الرجوع.
فإن قيل: كيف يقصد بالهبة من العبد العوض وهو ليس من أهل العوض فينبغي أن لا يثبت الرجوع في الهبة من العبد أصلا لعلمنا أنه لم يقصد العوض به كما لا يرجع في الهبة من الفقير؟
قلنا: العبد من أهل أن يعوض بمنافعه وخدمته ومن أهل أن يعوض بكسبه عند إذن المولى فكان المقصود بالهبة منه ما هو المقصود بالهبة من الحر وهو العوض وهذا بخلاف الوصية فالبطلان هناك لإيثار بعض الورثة وذلك بالملك لا بالعقد فاعتبرنا من يقع له الملك وهنا الرجوع لفوات المقصود بالعقد فإن العوض مقصود بعقد التبرع أيضا فإنما ينظر إلى من وقع العقد أو الملك له فأيهما كان أجنبيا ثبت حق الرجوع له لأنه لم ينفك عن قصد العوض فإن كان المولى والعبد كل واحد منهما ذا رحم محرم منه بان كان أخوه لأبيه عبدا لأخيه لأمه فقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله تعالى أن في قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن لا يرجع فيه أيضا لأنه لا معتبر بقرابة العبد في المنع من الرجوع بدليل الفصل الأول فكان هذا وما لو كان العبد أجنبيا سواء وكان أبو جعفر الهندواني رحمه الله تعالى يقول لا يرجع هنا وهو الصحيح عندنا لأنا علمنا أنه لم يقصد العوض بهذا العقد فإن تخصيصه هذا العبد من بين عبيد مولاه دليل على أنه قصد صلة الرحم دون العوض وكذلك تخصيصه عند هذا المولى دليل على أنه قصد صلة رحم مولاه فسواء اعتبرنا العقد أو الملك أو اعتبرناهما فالمقصود صلة الرحم دون العوض.(12/104)
قال: حربي دخل علينا بأمان وله عندنا أخ مسلم فوهب أحدهما لصاحبه شيئا وسلمه فلا رجوع له فيه" لأن المقصود لا يختلف بكون أحدهما مسلما أو مستأمنا ولأن الرحم مع المحرمية مانع من الرجوع في الهبة كما أنه موجب العتق عند دخوله في ملكه ويستوي في ذلك المستأمن والذمي والمسلم فكذلك في حق الرجوع فإن لم يقبض الموهوب له حتى رجع الحربي إلى دار الحرب بطلت الهبة لأن رجوعه إلى دار الحرب حربيا كموته فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت وموت الموهوب له قبل القبض يبطل الهبة وكذلك إن كان الحربي هو الواهب فقد بطلت الهبة وبقي المال على ملكه فيوقف حتى يحضر هو أو نائبه فيأخذ ولا يبعث به إلى دار الحرب بمنزلة مال خلفه في دارنا وهذا لبقاء حكم الأمان في المال الذي خلفه هنا فإن كان الحربي أذن للمسلم في قبضه وقبضه بعد رجوعه إلى(12/105)
ص -54- ... دار الحرب جاز استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لما صار بمنزلة الميت بطلت الهبة ولا يبقى حكم إذنه في القبض كما لو مات حقيقة بعد الإذن في القبض وهذا لأنه أذن له في قبض متمم للهبة وذلك لا يكون إلا مع بقائه حيا حقيقة وحكما ووجه الاستحسان أن إذنه في القبض باق بعد لحاقه لأن ابتداء إذنه في قبض هذا المال بعد لحاقه معتبر فإنه لو أرسل هذا الرجل ليأخذ ماله يجب تسليمه إليه فلأن يبقى إذنه كان أولى وإذا بقى إذنه يجعل في الحكم كأنه سلمه إليه بنفسه وحقيقة الفرق بين هذا والموت الحقيقي أن هناك المال صار حقا لوارثه وليس له إذن معتبر في ملك الغير وهذا المال بقى موقوفا على حقه فكان إذنه فيه معتبرا فلهذا يملك بالقبض بإذنه استحسانا قال: رجل وهب لامرأة هبة ثم تزوجها فله أن يرجع فيها" لأنها لما كانت أجنبية منه حين وهب لها علمنا أن مقصوده العوض ولم ينل ذلك.
فإن قيل: بل كان مقصوده أن تزوج نفسها منه وقد فعلت فينبغي أن لا يرجع في الهبة.
قلنا: هذا ليس بمقصود شرعي فيما شرعت الهبة له فلا معتبر به وبالنكاح وإن حصل له الملك فقد وجب عليه البدل فلا يعتبر ذلك في المنع من الرجوع في الهبة.
قال: وإن وهب لامرأته هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها" لأن الهبة لما كانت في حال قيام الزوجية بينهما عرفنا أنه لم يكن مقصوده العوض فلهذا لا يرجع فيها.(12/106)
قال: رجل وهب لابنه الكبير عبدا وهو في عياله ولم يسلمه إليه أو وهب لزوجته لم تجز الهبة إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه يقول من في عياله تحت يده فيقوم قبضه لهم مقام قبضهم كما لو وهب لولده الصغير والدليل عليه أن الصغير إذا كان في عيال أجنبي فوهب هو له أو غيره هبة وقبضه من يعوله تمت الهبة ولا نسب بينهما سوى أنه يعوله ولكنا نقول لا ولاية له على ولده البالغ ولا على زوجته فيما وراء حقوق النكاح وقبض الهبة ليس من حقوق النكاح في شيء وكان هو والأجنبي في ذلك سواء ولأنه متبرع بالإنفاق على ولده البالغ فهو كالغني إذا تبرع بالإنفاق على بعض المساكين ويعولهم فلا ينوب قبضه عن قبضهم في إتمام الصدقة والهبة بخلاف الأب في حق ولده الصغير فإنه وليه وهكذا نقول فيمن يعول يتيما إنما يعتبر قبضه له إذا لم يكن لليتيم ولي يقبض له وهنا الموهوب له ولى نفسه فلا حاجة إلى قبض من يعوله في حقه كما إذا كان الصغير في عيال أجنبي وله أب أو جد فإنه لا يعتبر قبض من يعوله في إتمام الهبة له.
قال: وكل شيء وهبه لابنه الصغير واشهد عليه وذلك الشيء معلوم فهو جائز" والقبض فيه بإعلام ما وهبه له والإشهاد عليه والإشهاد له ليس بشرط بل الهبة تتم بالإعلام إلا أنه ذكر الإشهاد احتياطا للتحرز عن جحود سائر الورثة بعد موته أو عن جحوده بعد إدراك الولد أما إذا اتفقوا على ذلك فالهبة تامة بدون الإشهاد وكذلك إن كان هذا الولد في عيال أمه لأن لها عليه نوع ولاية ألا ترى أنها تحفظه وتحفظ ماله وهذا القدر من الولاية يكفي لقبض الهبة والصدقة في هذا قياس الهبة لأن تمام كل واحد منهما بالقبض.(12/107)
ص -55- ... قال: وإن كان اليتيم في عيال أمه فوهبت له عبدا واشهدت عليه وأبوه ميت ولا وصي له جازت الهبة وقبض الأم بمنزلة الأب لو كان حياً لأن في القبض معنى الإحراز كالحفظ وللأم ولاية حفظ مال اليتيم فكانت في قبض الهبة كالأب.
قال: وكذلك إن كان اليتيم في عيال عمه فقبضه العم له وإن كان له أخ أو أم فقبض العم له قبض أيضاً لأنه يستوي بالأخ في ثبوت ولاية الحفظ له في ماله فكان ذلك محض منفعة له وبسبب قرابته القريبة يثبت هذا القدر من الولاية كقرابة العم لقرابة الأخ ثم تأيدت قرابة العم بكون اليتيم في عياله فتتم الهبة له بقبضه.
قال وكذلك إن كان له وصي فوهب له هبة وهو في عياله وأشهد على ذلك وأعلمه جاز وقبل مراده وصي الأم أو الأخ فأما وصي الأب والجد فله أن يقبض ما يوهب له سواء كان في عياله أو لم يكن لأنه قائم مقام الوصي في الولاية في ماله مطلقا سواء كان هو الواهب له أو غيره.(12/108)
قال: فإن كان رجل أجنبي يعول يتيما وليس بوصي له ولا بينهما قرابة وليس لهذا الوصي أحد سواه جاز له أن يقبض ما يوهب له استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لا ولاية له عليه وهو متبرع في تربيته والإنفاق عليه فكان كسائر الأجانب فيما ينبني على الولاية ولكنه استحسن فقال فيما يتمحض منفعة لليتيم فمن يعوله خلف عن وليه ألا ترى أنه أحق بحفظه وتربيته لو أراد أجنبي آخر أن ينتزعه من يده لم يكن له ذلك وأن يسلمه في تعليم الأعمال فيكون في ذلك بمنزلة وليه والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وإنما أثبتنا هذه الخلافة توفيرا للمنفعة على الصغير لأنه يقرب إلى المنافع ويبعد عن المضار وفي قبض الهبة محض منفعة له فإذا ثبت أن له أن يقبض هبة الغير له فكذلك إذا كان هو الواهب فاعلمها وأبانها فهو جائز وقبضه له قبض ويستوي إن كان الصبي يعقل أو لا يعقل وفيه نوع إشكال لأنه إذا كان يعقل فهو من أهل أن يقبض بنفسه فلا حاجة إلى اعتبار الخلف ها هنا ولكن الجواب أن يقول يقبض لا باعتبار الولاية على نفسه فالصغير تبقى ولايته عن نفسه ولكن لتوفير المنفعة عليه وفي اعتبار قبض من يعوله مع ذلك معنى توفير المنفعة أظهر لأنه ينفتح عليه بإبان لتحصيل هذه المنفعة بخلاف الولد الكبير لأنه يقبض هناك بولايته على نفسه وولاية الغير خلف فلا يظهر عند ظهور الأصل.(12/109)
قال: وكل يتيم في حجر أخ أو بن أخ أو عم يعوله فوهب له رجل هبة فإنما يقبضها الذي يعوله إذا كان هو صغيرا لا يحسن القبض وكذلك إن كان عاقلا يحسن القبض فقبض له من يعوله جاز لما بينا وإن قبض الصغير بنفسه ففي القياس لا يجوز قبضه وهو قول الشافعي لأنه لا معتبر بقبضه قبل البلوغ خصوصا فيما يمكن تحصيله له بغيره فإن اعتبار عقله للضرورة وذلك فيما لا يمكن تحصيله له بغيره فأما فيما يمكن تحصيله له بغيره فلا تتحقق الضرورة ولهذا لم يعتبر الشافعي رحمه الله تعالى عقله في صحة إسلامه واعتبره في وصيته واختياره أحد(12/110)
ص -56- ... الأبوين لأن ذلك لا يمكن تحصيله له بغيره وجه الاستحسان أنه إنما لا يعتبر عقله لدفع الضرر عنه فالظاهر أنه لا يتم نظره في عواقب الأمور بما له من العقل الناقص قبل بلوغه وهذا فيما يتردد بين المضرة والمنفعة فأما فيما يتمحض منفعته لا يتحقق هذا المعنى وقد بينا أن في اعتبار عقله توفير المنفعة عليه وإذا كان فيما لا يمكن تحصيله له بغيره إذا كان محض منفعة يعتبر عقله لتوفير المنفعة عليه بطريقتين ثم العادة الظاهرة بين الناس التصدق على الصبيان من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير منكر أصل من الأصول كبير ولأن حقيقة القبض توجد منه وهو محبوس فإنما يسقط اعتباره في حق حكمه لحجر شرعي ولا حجر عليه فيما يتمحض منفعته له.
قال: والصبية التي دخل بها زوجها فإن زوجها يقبض الهبة لها لأنه يعولها.
فإن قيل: الولاية عليها للأب دون الزوج.
قلنا: نعم ولكن الأب أقام الزوج مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها إذا زفها إلى بيت الزوج وقبض الهبة من باب الحفظ فيقوم الزوج فيه مقام الأب ولكن لهذا لا تنعدم ولاية الأب فإذا قبضها الأب صح قبضة لقيام ولايته وإن قبضت بنفسها جاز لأنها تعقل القبض وإن قبض الزوج جاز لما بينا ولا يكون الزوج في هذا بمنزلة ما لو سلم الأب ولده الصغير إلى من يعوله لأن ذلك لا يثبت به الاستحقاق فعرفنا أنه لا يقوم فيه مقام الأب والزوج فحكم النكاح يثبت له عليها استحقاق اليد حتى يصير أولى بها من أبيها وإن كانت لم تزف إلى زوجها لم يعتبر قبض الزوج لها لأن اعتبار ذلك بحكم أنه يعولها وإن له عليها يدا مستحقة وذلك لا يوجد قبل الزفاف وإن أدركت لم يجز قبض الزوج لها لأن اعتبار ذلك بحكم أنه يعولها لأنها صارت ولية نفسها حين بلغت عاقلة.(12/111)
قال: ولا يجوز قبض الأخ والجد على الصغير إذا كان الأب حيا حاضرا لأن من هو الأصل في هذه الولاية حاضر فلا حاجة إلى اعتبار من هو خلف في ذلك فإن كان الأب غائبا غيبة منقطعة فقد خرج الصغير من أن يكون منتفعا برأي الأب فيصير هو كالمعدوم فتكون ولاية القبض للأخ إذا كان الصغير في عياله وهذا نظير ولاية التزويج ونظير حق الحضانة والإنفاق من المال فإنه لا يعتبر مال الجد ما دام الصغير منتفعا بمال الأب فإذا انعدم ذلك بغيبة ماله جعل في حكم المعدوم أصلا ألا ترى أن التيمم لما جعل خلفا عن الماء في حكم الطهارة فحال عدم الماء وحال نجاسة الماء الموجود في ذلك سواء لأن ما هو المقصود وهو الطهارة لا يحصل بالماء النجس فإن كان الأب دفعه إلى غير الأخ وغاب غيبة منقطعة فكان في حجر الرجل وعياله جاز له قبض الهبة ولو قبض الأخ لم يجز قبضه لأن الأب أقامه مقام نفسه في النظر له فكان هو منتفعا برأيه قائما مقامه ولو كان منتفعا برأيه بأن كان حاضرا لم يجز قبض الأخ فهذا مثله وهذا لما بينا أن مجرد قرابة الأخ لا تثبت له الولاية بدون اليد. وإذا كان في عيال من اختاره الأب فليس للأخ عليه يد موجودة ولا مستحقة حتى أنه ليس له أن يسترده ممن(12/112)
ص -57- ... يعوله فكان كالأجنبي ولمن يعوله يد مستحقة ما لم يحضر الأب فهو الذي يقبض الهبة له والله أعلم بالصواب.
باب ما يجوز من الهبة وما لا يجوز
قال: وإذا وهب الرجل للرجل نصيبا مسمى من دار غير مقسومة وسلمه إليه مشاعا أو سلم إليه جميع الدار لم يجز" يعني لا يقع الملك للموهوب له بالقبض قبل القسمة عندنا وقال الشافعي يقع الملك وتتم الهبة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة نظر إلى موضع المسجد فوجده بين أسعد بن زرارة وبين رجلين من قومه فوهب أسعد رضي الله عنه نصيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وهب الرجلان نصيبهما منه أيضا فبنى المسجد.
وقال: عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أتاه بكبة من شعر فقال أخذت هذه من الغنيمة لأخيط بها بردعة بعير لي أما نصيبي منها فهو لك. فقد وهب المشاع.(12/113)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه جوز الهبة في المشاع ولأنه عقد تمليك للمال فيصح في المشاع كالبيع وتأثيره أن الجزء المشاع محل لما هو موجب هذا العقد وهو الملك وإنما يشترط في المحل المضاف إليه العقد كونه محلا لحكم العقد وبه فارق الصوف على ظهر الغنم فإنه مملوك وصفا وتبعا لا مقصودا وموجب الهبة الملك مقصودا ولهذا لا يجوز إضافة البيع إليه بخلاف الجزء الشائع ولأن الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع تمام الهبة وما يؤثر فيه الشيوع فيما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة فيه سواء كالرهن عندكم والنكاح عندي ولأن الهبة عقد تبرع فتكون بمنزلة القرض والوصية والشيوع لا يمنع صحة الوصية وهي تبرع بعد الموت فكذلك التبرع في الحياة ولا يمنع القرض أيضا فإنه لو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضا عليه ويعمل في النصف الآخر بشركته يجوز ذلك وبفضل القرض يبطل اعتمادكم على اشتراط القبض فاصل القبض شرط لوقوع الملك في القرض ثم لا تشترط القسمة والدليل على أن القبض مع الشيوع يتم أنه ينتقل الضمان إلى المشتري بالقبض مع الشيوع ويملك المشاع عندكم بالبيع الفاسد والمشاع يصلح أن يكون رأس مال السلم وبدل الصرف واعتمادنا في المسألة على إجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد روينا في أول الكتاب شرط القسمة عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعن علي رضي الله عنه من وهب ثلث كذا أو ربع كذا لا يجوز حتى يقاسم والمعنى فيه أن شرط القبض منصوص عليه في الهبة فيراعي وجوده على أكمل الجهات التي تمكن كشرط استقبال القبلة في الصلاة لما كان منصوصا عليه يشترط ذلك فيه حتى لو استقبل الحطيم لا تجوز صلاته والحطيم من البيت من وجه دون وجه وهذا لأن الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا وبدون الإطلاق لا يثبت الكمال ثم القبض مع الشيوع ثابت من وجه دون وجه لأن القبض عبارة عن الحيازة وهو أن يصير الشيء في حيز القابض والمشاع في حيزه من(12/114)
وجه وفي حيز شريكه من وجه لأنه لا يمكن أن يشار إلى شيء منه بعينه فيقال إنه في يد هذا دون هذا،(12/115)
ص -58- ... ولأن القسمة من تتمة القبض ألا ترى أن الشفيع لا ينقض قسمة المشتري كما لا ينقض قبضه وله حق نقض تصرفات المشتري فإن للمشتري أن يطالب البائع بالقسمة بعد الشراء وإنما يثبت له حق المطالبة بالقبض بالشراء فعرفنا أن القسمة من تتمة القبض فبدونها لا يتم ولكن هذا فيما يتأتى فيه القسمة فأما فيما لا يقسم القسمة لا يكون حيازة لأن المقصود الانتفاع وبالقسمة يتلاشى فعرفنا أن القسمة فيه ليست من تتمة القبض ولأن اشتراط أصل القبض في وقوع الملك هنا لمعنى ذلك المعنى موجود في القسمة وهو أن لا يصير عقد التبرع سببا لوجوب الضمان للمتبرع عليه على المتبرع في عين ما تبرع به لأنه لو ملك قبل القبض طالبه بالتسليم إليه وكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالتسليم إليه فكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالقسمة فيصير عقد التبرع موجبا ضمان القسمة عليه وهو خلاف موضوع التبرع بخلاف ما لا يحتمل القسمة فإنه لا يستوجب به حق المطالبة بالقسمة.(12/116)
فإن قيل: يستوجب به المهايأة قلنا: المهايأة قسمة المنفعة وعقد التبرع لاقى العين فلم يكن ذلك ضمانا في عين ما تبرع به ولا يرد على هذا ما لو أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم ضمن قيمته للموهوب له لأن ذلك الضمان يلزمه بالإتلاف لا بعقد التبرع وضمان المقاسمة هنا وإن كان بالملك فذلك الملك حكم الهبة فلا يمنع إضافة الضمان إلى الهبة ألا ترى أن شراء القريب إعتاق وإن كان العتق بسبب الملك لأن ذلك الملك حكم الشراء وبه فارق البيع فإنه عقد ضمان فيجوز أن يتعلق به ضمان المقاسمة ولأن أصل القبض هناك لا يشترط لوقوع الملك فذلك ما يتممه وبه فارق الوصية فأصل القبض هناك ليس بشرط للملك فكذلك ما يتممه وكما يستحق هناك ضمان التسليم على المالك يستحق ضمان المقاسمة أيضا والقرض تبرع من وجه ومن وجه هو عقد الضمان حتى كان المستقرض مضمونا بالمثل فلا يبعد أن يتعلق به ضمان المقاسمة وشرط القبض هناك ليس بمنصوص ليراعي وجوده على أكمل الجهات ثم لشبهه بالتبرع شرطنا فيه القبض ولشبهه بعقد الضمان لا يشترط فيه القسمة وذلك اعتبار صحيح فيما له سببان وحديث الكبة فإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المبالغة في النهي عن الغلول أي لا أملك إلا نصيبي فكيف أطيب لك هذه الكبة من الغنيمة ألا ترى أنه ليس لواحد من الغانمين أن يهب نصيبه قبل القسمة لأنه لا يدري أين يقع نصيبه أو كان ذلك مما لا يحتمل القسمة فالكبة من الشعر إذا قسمت على جند عظيم لا يصيب كل واحد منهم ما ينتفع به وحديث المسجد فذكر الواقدي أن أبا بكر رضي الله عنه هو الذي اشترى موضع المسجد باثني عشر دينارا ولئن تثبت الهبة فيحتمل أن أسعد رضي الله عنه وهب نصيبه ولم يسلم حتى وهب الرجلان نصيبهما ثم سلموا جملة وعندنا هذا يجوز فإن المؤثر الشيوع عند القبض لا عند العقد حتى لو وهب الكل وسلم النصف لا يجوز ولو وهب النصف ثم النصف وسلم الكل جاز.(12/117)
قال: ولو وهب أحد الشريكين نصيبه من شريكه مشاعا فيما يحتمل القسمة لا يجوز(12/118)
ص -59- ... عندنا أيضا" وقال ابن أبي ليلى يجوز لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: من الآية237] فهذا يقتضي أن الصداق إذا كان عينا يتنصف بالطلاق فإن المرأة تندب إلى أن تترك الكل للزوج والزوج يندب إلى أن يسلم الكل إليها وذلك من كل واحد منهما هبة في المشاع.
وعن أبي السباع مولى عطاء قال أقرضت ابن عمر رضي الله عنهما خمسمائة درهم فقضاني في كيس فوجدته يزيد على حقي ثمانين فقلت في نفسي لعله جربني بهذا فأتيته وأخبرته بذلك فقال هو لك فهذا كان منه هبة للمشاع في تلك الزيادة من الشريك ولأن المانع استحقاق ضمان المقاسمة وذلك لا يجوز في الهبة من الشريك وحجتنا في ذلك ما بينا أن اشتراط القسمة في الهبة فيما يحتمل القسمة كاشتراط القبض وفي ذلك يستوي الهبة من الشريك ومن الأجنبي فكذلك في القسمة وهذا لأن القبض في الهبة لا يتم في الجزء الشائع فقبض الشريك لا يتم باعتبار ما لاقاه في الهبة وإنما يتم به وبغيره وهو ما كان مملوكا له وما يشترط لإتمام العقد فإنما يعتبر ثانيا فيما تناوله العقد دون غيره فأما الاستدلال بالآية قلنا العفو حقيقته إسقاط وذلك في الدين دون العين ثم في العين كل واحد منهما مندوب إلى العفو عندنا ولكن بطريقة وذلك في أن يهب نصيبه من صاحبه بعد القسمة وليس في الآية ما يمنع ذلك وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما فمن وجد ما يستوفي أكثر من حقه يميز له الفضل ويأتي به ليرده فيحتمل أنه فعل ذلك فوهبه له ابن عمر رضي الله عنهما وعندنا هذا يجوز.(12/119)
قال: ولو وهب دارا لرجلين وسلمها إليهما فالهبة لا تجوز في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز لأن العقد والتسليم لاقى مقسوما فإنه حصل في الدار جملة فيجوز كما لو وهبها لرجل واحد وهذا لأن تمكن الشيوع باعتبار تفرق المالك والملك هنا حكم الهبة وحكم الشيء يعقبه فالشيوع الذي ينبني على ملك يقع للموهوب لهما لا يكون مقترنا بالعقد ولا تأثير للشيوع الطارئ في الهبة كما لو رجع الواهب بالنصف ولأن المعنى استحقاق ضمان المقاسمة على المتبرع وذلك لا يوجد هنا فالعين تخرج من ملك المتبرع جملة وإنما ضمان المقاسمة بين الموهوب لهما باعتبار تفرق ملكهما ولأن تأثير الشيوع في الرهن أكثر منه في الهبة حتى لا يجوز الرهن في مشاع لا يحتمل القسمة بخلاف الهبة ثم لو رهن من رجلين جاز فالهبة أولى وكذلك الإجارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا تصح مع الشيوع ثم إذا أجر داره من رجلين يجوز فكذلك الهبة وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول قبض كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا وذلك غير موجب للملك فيما يحتمل القسمة بحكم الهبة كما لو وهب النصف من كل واحد منهما بعقد على حدة وهذا لأن تأثير الشيوع باعتبار أن القبض لا يتم معه وذلك موجود هنا فكل واحد منهما لا يقبض إلا نصيبه ولا يتم قبضه مع الشيوع والدليل عليه أن المانع تمكن الشيوع في الملك المستفاد بعقد الهبة حتى لو(12/120)
ص -60- ... وهب من رجل النصف ثم النصف وسلم الكل جملة يجوز لأنه لا شيوع في الملك المستفاد بالهبة. ولو وهب رجلان من واحد يجوز مع وجود الشيوع في الواهبين لأنه لا شيوع في الملك المستفاد بالهبة وإن وهب أحدهما نصيبه من زيد والآخر نصيبه من عمرو لا يجوز لتمكن الشيوع في الملك المستفاد بالهبة فثبت أن المانع هذا وهو موجود في الهبة من رجلين والدليل على أن المعتبر جانب المتملك دون المملك حكم الشفعة فإن رجلين لو اشتريا دارا من واحد لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين بالشفعة لتفرق الملك في جانب المتملك فظهر بهذا أن المعتبر جانب المتملك لا جانب المملك ولا اعتماد عن انتفاء ضمان المقاسمة عن الواهب فإن رجلين لو وهبا من رجلين على أن يكون نصيب أحدهما لأحدهما بعينه ونصيب الآخر للآخر لا يجوز وليس على الواهبين ضمان المقاسمة وليس هذا كالرهن لأن المانع هناك تمكن الشيوع في المحل فإن موجب الرهن الحبس والحبس في الجزء الشائع لا يتأتى وفي الرهن من رجلين لا شيوع في الحبس لأن الحبس ثبت لكل واحد منهما في الكل حتى لو قضى دين أحدهما لا يكون له أن يسترد شيئا من الرهن ما لم يقبض دين الآخر وهذا لأنه لا مضايقة في الحبس فكما لا يجوز أن يكون الشخص الواحد كله محبوسا بدين زيد وكله محبوسا بدين عمرو فكذلك العين الواحدة وهنا موجب العقد الملك ولا يتأتى إثباته بكماله لكل واحد منهما فعرفنا أن كل واحد منهما يتملك جزأ شائعا وهذا بخلاف الإجارة فالمانع هناك تعذر استيفاء المنفعة التي تناولها العقد من الجزء الشائع وذلك لا يوجد في الإجارة من الرجلين أو المانع استحقاق عود المستأجر إلى يد المؤجر في مدة الإجارة بحكم المهايأة وذلك لا يوجد وفي الإجارة من الرجلين ولهذا جازت إجارة أحد الشريكين من شريكه بخلاف الهبة ثم قال في الأصل وكذلك في الصدقة وهذا يدل على أنه إذا تصدق بما يقسم على رجلين أنه لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه(12/121)
كالهبة وفي الجامع الصغير قال لو تصدق بعشرة دراهم على فقيرين يجوز قال الحاكم رحمه الله تعالى يحتمل أن يكون مراده من قوله وكذلك الصدقة على الغنيين فيكون ذلك بمنزلة الهبة لأن فعل الهبة من الفقير صدقة والصدقة على الغني تكون هبة والأظهر أن في المسألة روايتين وجه رواية الأصل ما بينا أن تمام الصدقة بالقبض كالهبة وقبض كل واحد منهما يلاقي جزأ شائعا فلا يتم به الصدقة كما لا تتم به الهبة ووجه الرواية الأخرى أن المتصدق يجعل ماله لله تعالى خالصا ولا يملكه الفقير من جهة نفسه وإنما يملكه الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى بعد ما تمت الصدقة من جهته وإذا تصدق على رجلين فلا شيوع في الصدقة لأنه جعل جميع العين لله سبحانه وتعالى خالصا بخلاف الهبة ألا ترى أن الجهالة في المصروف إليه لا تمنع صحة الصدقة حتى إذا أوصى بثلث ماله صدقة على الفقراء يجوز بخلاف ما لو أوصى به لقوم لا يحصون من الأغنياء وكذلك إذا أوصى بعين للفقراء أو لفلان ونصفه لفلان واعتبر للفقراء سهم واحد باعتبار أن الصدقة لله تعالى لا للفقراء؟.(12/122)
ص -61- ... قال: وإن وهب رجل دارا لرجلين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها وقبضاها لم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويجوز عند محمد رحمه الله تعالى وهذا على أصل أبي حنيفة لا يشكل فإنه عند الإطلاق لا يجوز هذا الإطلاق فعند التفصيل أولى وإنما الخلاف بينهما لو قال على أن يكون النصف لهذا والنصف لهذا يجوز عندهما ذكره ابن سماعة في نوادره فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول حالة التفصيل متى كانت لا تخالف حالة الإجمال فالتفصيل لغو ومتى كانت تخالف حالة الإجمال فلا بد من اعتبار التفصيل لأن كلام العاقل معتبر لفائدته لا لعينه فإذا لم يكن مفيدا لا يعتبر وإذا نصف بينهما فالتفصيل لا يخالف الإجمال لأن موجب العقد عند الإجمال أن يملك كل واحد منهما النصف فلا يعتبر تفصيله وإذا تفاوت بينهما فالتفصيل يخالف الإجمال فيجب اعتباره فإذا اعتبر بتفرق العقد فكأنه أوجب لكل واحد منهما العقد في جزء شائع على حدة وقاس الرهن فإنه لو رهن من رجلين مطلقا يجوز وإذا فصل لا يجوز لأن بالتفصيل يتفرق العقد إلا أن هناك يستوي إن فصل أو سوى في التفصيل لمخالفة حالة التفصيل حالة الإجمال في الوجهين فإن عند الإجمال يثبت حق الحبس لكل واحد منهما في الكل وعند التفصيل لا يثبت ومحمد رحمه الله تعالى يقول العقد والتسليم من الواهب جملة وإن فصل وفصل يجوز إذا أطلق أو سوى في التفصيل وهذا لوجهين:
أحدهما: أن الإطلاق في الهبة كالتفصيل حتى لو وهب لرجلين عينا لا تحتمل القسمة فقبل أحدهما دون الآخر لا يجوز كما لو فرق العقد.(12/123)
والثاني: أن العقد متى كان جملة عند الإطلاق فبالتفصيل لا يتفرق في عقود التمليكات كما في البيع فإن رجلا لو باع ثوبين من رجل بعشرين درهما فقبل المشتري العقد في أحدهما لا يجوز ولو قبل فيهما ثم نقد الثمن في أحدهما لا يكون له أن يقبض ما نقد ثمنه وكذلك لو فصل وسمى لكل واحد منهما ثمنه فعرفنا أن بالتفصيل لا يتفرق العقد فالشيوع باعتباره لا يفرق العقد وإنما يكون طارئا بعد ملك الموهوب لهما وذلك غير مؤثر في المنع من الهبة فأما في الرهن فالمانع تمكن الشيوع في المحل فيما هو موجب العقد وهو الحبس وذلك يتحقق عند التفصيل وإن كانت الصفقة واحدة ألا ترى أنه لو وهبه عينا بدينين نصفه بأحد الدينين ونصفه بالدين الآخر لا يجوز وقد بينا أن في الهبة عند اتحاد العقد لا يمنع صحته لتمكن الشيوع فيما هو موجب العقد وهو الملك المستفاد لكل واحد منهما.
قال: ولو وهب أحد الشريكين نصيبه من الدار من أجنبي لم يجز لأن الإيجاب والتسليم لاقى جزأ شائعا وإنما أورد هذا الإشكال وهو أن ضمان المقاسمة هنالك لا يستحق على المتبرع إنما يستحق على الشريك ولكن قد بينا أن هذا المعنى لا يتمشى في جميع الفصول كالهبة من الشريك ويجوز ذلك وإن الحرف الذي يتمشى أن القبض لا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة.
قال: وإن وهب رجل لرجلين ألف درهم لأحدهما ستمائة وللآخر أربعمائة فذلك لا(12/124)
ص -62- ... يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويجوز عند محمد رحمه الله تعالى وهذا وما تقدم من هبة الدار إذا فصل وفصل سواء.
قال: رجل وهب لرجل دينارا له على رجل وأمره بقبضه جاز ذلك استحساناً. وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر لأن الدين ليس بمال حتى أن من حلف لا مال له وله دين على إنسان لا يحنث في يمينه والهبة عقد مشروع لتمليك المال فإذا أضيف إلى ما ليس بمال لا يصح باعتبار مآله كما لو وهب مسلم خمرا من مسلم لا يصح باعتبار مآله وهو التحلل والدليل عليه أن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز لأنه عقد مشروع لتمليك المال فالهبة مثله أو أولى لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض وقبض ما في ذمة الغير لا يتصور ولا وجه لتصحيحه إذا قبضه لأن تمام عقد الهبة بقبض ما أضيف إليه العقد إلى الدين والمقبوض عين والعين غير الدين ووجه الاستحسان أنه أنابه في القبض مناب نفسه فيجعل قبض الموهوب له كقبض الواهب ولو قبضه بنفسه ثم وهبه وسلمه جاز وكذلك إذا أمر أن يقبضه له ثم لنفسه وهذا لأن في باب الهبة المعتبر وقت القبض فإن الملك عنده يثبت دليل ما بينا من فصل الشيوع وعند القبض هو مال قابل للتمليك كسائر الأسباب فكذلك بالهبة والمقبوض وإن كان غير الدين حقيقة جعل في الحكم كأنه هو بدليل جواز القبض في الصرف والسلم مع حرمة الاستبدال فيهما وليس البيع نظير الهبة فإنه يوجب الملك بنفسه قبل القبض فكان المعتبر فيه وقت العقد فإذا لم يكن عين مال لم يجز بيعه مع أن الدين في الذمة يقبل التمليك بالعقد فإنه لو باعه ممن عليه الدين بعوض جاز ولو وهبه منه جاز فعرفنا أنه مال قابل للتمليك حكما ولهذا تجب الزكاة فيه قبل القبض والشرط في عقد التمليك أن يضاف إلى محل قابل له وقد وجدتم لزومه قبل القبض وعند القبض بحكم الهبة هو عين فيتم العقد.(12/125)
قال: رجل رهن عبده من رجل وسلمه إليه ثم وهبه لابنه الصغير لم يجز لأنه ليس في يده فاليد بعقد الرهن مستحقة عليه للمرتهن فلا يكون الأب قابضا لولده ما ليس في يده ولأنه يبطل به حق المرتهن وهو حق مستحق عليه فلا يملك إبطاله وكذلك لو غصب عبده غاصب فوهبه لابنه لأنه ليس في يد المغصوب منه حقيقة ولا حكما فإنه مضمون على الغاصب وإنما يضمن بتفويت يد المغصوب منه بخلاف الوديعة إذا وهبها من أبيه لأن يد المودع في الحكم كيد المودع فيمكن أن يجعل قابضا لولده باليد التي هي قائمة مقام يده.
فإن قيل: فقد قلتم إذا وهب الوديعة من المودع جاز ولو كانت يده كيد المودع لم يكن قابضا لنفسه بحكم يده.
قلنا: في الحقيقة اليد للمودع فباعتبار هذه الحقيقة يجعله قابضا لنفسه ثم إنما قامت يده مقام يد المودع ما دام هو في الحفظ عاملا للمودع وذلك قبل التمليك بالهبة فأما بعد ذلك فهو عامل لنفسه. ولو باعه بيعا فاسدا وسلمه أو باعه بشرط الخيار للمشتري، ثم وهبه لابنه(12/126)
ص -63- ... الصغير لا يجوز لأنه خرج من ملكه بتصرفاته فإنما وهب ما لا يملك ولأن اليد لغيره حقيقة وحكما حين كان في ضمان الغير.
قال: ولا يجوز هبة المكاتب كما لا يجوز عتقه" لأنه تبرع محض ولو أجازه المولى فكذلك لأن إجازة المولى إنما يعمل فيها بملك المولى أنشأه وهو لا يملك ذلك في كسب المكاتب.
قال: رجل وهب لرجل ما على ظهر غنمه من الصوف أو ما في ضروع غنمه من اللبن لم يجز ذلك" لأن الصوف واللبن ما دام متصلا بالحيوان فهو ليس بمال مقصود بنفسه ولكنه وصف الحيوان وعقد التمليك مقصودا لا يتم فيما ليس بمال مقصود فإن أمره بجز الصوف وحلب اللبن وقبض ذلك استحسنت أن أجيزه وهذا لوجهين.
إحداهما: أن الصوف على ظهر الغنم واللبن في الضرع محل للتمليك بدليل جواز الوصية به وجواز الصلح عليه عند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الصوف وتمام عقد الهبة بالقبض فإذا كان قبضه بعد الجزاز وهو مال متقوم في هذه الحال يتم فيه الهبة كما بينا في الدين.
والثاني: أن امتناع جواز الهبة لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب مع إمكان الفصل فيكون ذلك بمنزلة الشائع وقد بينا أنه لو وهب شيئا مشاعا ثم قسم وسلم مقسوما تمت الهبة فهذا مثله وكذلك ثمر الشجرة والزرع إذا حصده فهو على القياس والاستحسان الذي ذكرنا.
قال: ولا يجوز هبة العبد المأذون" لأنه منفك الحجر عنه في التجارات دون التبرعات فإن أجازه مولاه ولا دين عليه جاز لأن كسبه خالص حقه يملك مباشرة الهبة فيه فينفذ بإجازته أيضا وإن كان عليه دين لم يجز ذلك وإن أجازه المولى والغرماء لأن حق الغرماء في دينهم لا يسقط بإجازة الهبة فلا معتبر بإجازتهم والمولى لا يملك مباشرة الهبة بنفسه فلا تعمل إجازته أيضاً.(12/127)
قال: ولو وهب له ما يثمر النخيل العام لم يجز لأنه معدوم في الحال والمعدوم ليس بشيء بنفوذ العتق وفي الهبة لو استثنى ما في البطن قصدا لم تبطل الهبة فكذلك إذا صار مستثنى حكما وذكر في كتاب العتاق أنه لو دبر ما في بطن جاريته ثم وهب الجارية لم يجز وقيل في الفصلين روايتان في إحدى الروايتين لا يجوز فيهما لأن الموهوب مشغول بما ليس بموهوب فهو كما لو وهب دارا فيها متاع الواهب وفي الرواية الأخرى يجوز فيهما لأنه لو استثنى الولد قصدا لم تبطل به الهبة في الأم فكذلك إذا صار مستثنى حكما والأصح هو الفرق بينهما فإن التدبير لا يزيل ملك المدبر والموهوب متصل بما ليس بموهوب في ملك الواهب فكان ذلك في معنى هبة المشاع فيما يحتمل القسمة فأما العتق فإنه يزيل ملك المعتق فإذا وهب الأم بعد إعتاق الجنين فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب في ملك الواهب فهو كما لو وهب أرضا فيها ابن الواهب واقف وسلمها إلى الموهوب له تمت الهبة فكذلك(12/128)
ص -64- ... هنا قال: ولا يجوز للأب أن يهب من ماله ابنه الصغير شيئا" لأنه صار نائبا عن الصغير في التصرف في ماله لتوفير المنفعة عليه وذلك بالتبرع لا يحصل فهو كسائر الأجانب كما لو طلق امرأته.
قال: عبد مأذون عليه دين كثير وهبه مولاه لرجل لم تجز هبته والدين في رقبته يباع فيه إلا أن يؤدى عند مولاه الذي في يده ومعنى قوله لم يجز أن الهبة لا تتم وللغرماء أن يبطلوا هبته لأن المولى مالك لرقبته ولكن حق الغرماء سابق على حقه في ماليته وفي إتمام الهبة إبطال هذا الحق عليهم ولكن ليس في أصل التمليك إبطال حقهم فيصير مملوكا للموهوب له مشغولا عن الغرماء على الوجه الذي كان في ملك الواهب لأنه أقامه مقام نفسه في ملك الرقبة وله هذه الولاية فيما هو خالص حقه ولهذا لو قضي الموهوب له دينه كان سالما له لأن تمكن الغرماء من إبطال ملكه لقيام دينهم وقد وصل إلى الغريم حقه.
قال: فإن ذهب الموهوب له بالعبد ولم يقدر عليه فللغرماء أن يأخذوا الواهب بقيمته يوم وهب لأنه هو الذي اتلف حقهم بالتمليك من الموهوب له والتسليم فيصير ضامنا قيمته لهم كما لو أعتقه.
قال: ولو وهب له ما في بطن أمته وسلطه على قبضه بعد الوضع فقبضه لم يجز وقد بينا الفرق بين هذا وبين هبة الدين والصوف على ظهر الغنم وفي الكتاب قال من قبل أنه وهب له ما لم يكن بعد فإنه وهب له الولد وقبل الانفصال لا يكون ولدا ألا ترى أنه لو وهب له دهن سمسم قبل أن يعتصر وسلطه على قبضه إذا عصر أو وهب الزيت في الزيتون والدقيق في الحنطة قبل الطحن والسمن في اللبن قبل أن يتمخص فهذا كله باطل لأنه هبة وإضافة عقد التمليك إلى غير محله لغو.
فإن قيل: لا كذلك فالوصية بما يثمر نخيله العام صحيح.(12/129)
قلنا: الوصية ليست بعقد تمليك مال وإنما شرعت للخلافة عن الموصى ثم الملك من ثمراته ولهذا لا يتوقف ثبوت الملك فيه على القبض وهنا العقد عقد التمليك فلا بد من إضافته إلى ما هو مملوك ليعتبروا الملك لا يسبق الوجود وبه فارق ما سبق من الصوف واللبن فإنه موجود مملوك وإن كان متصلا بالحيوان فإنما يمتنع جواز بيعه لتمكن المنازعة بينهما عند التسليم وذلك لا يوجد في الهبة. ثم الجزاز والحلب والقبض في اللبن في وسعه فيمكن أن يجعل فيه نائبا عن الواهب ثم قابضا لنفسه بعد ذلك فأما الإيجاب في الثمار ليس إليه.
قال: وكذلك لو وهب له ما في بطن جاريته وهي حبلى أو ما في بطن غنمه فهو باطل من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول إن أمره بقبضه بعد الولادة فقبض ينبغي أن يجوز استحسانا كما في الصوف واللبن والأصح أنه لا يجوز لأن ما في البطن ليس بمال أصلا ولا يعلم وجوده حقيقة ولأن إخراج الولد من البطن ليس إليه فلا يمكن أن يجعل في ذلك نائبا عن الواهب بخلاف الجزاز في الصوف والحلب في اللبن ومعنى هذا الفرق أن فيما ليس في(12/130)
ص -65- ... وسعه لو جاز العقد باعتباره كان تعليقا للهبة بالخطر وذلك غير جائز وما في وسعه يكون تأخيرا لملكه إلى قبضه لا تعليقا للهبة بالخطر وذلك جائز.
قال: ولو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهبها لرجل وسلمها إليه جازت الهبة في الأم فإن باعها لم يجز بيعه" لأنه لو باع جاريته واستثنى ما في بطنها لم يجز البيع ولو وهبها واستثنى ما في بطنها جازت الهبة في الأم والولد والاستثناء باطل.
أما مسألة استثناء ما في البطن تنقسم إلى ثلاثة أقسام. قسم منها لا يجوز أصل التصرف وهو البيع والإجارة والرهن لأن موجب إضافة العقد إلى الأمر دخول الولد فيه واستثناء موجب العقد في هذه العقود مبطل للعقد لأنه شرط فاسد وما يتعلق بالجائز من الشرط فالشرط الفاسد يبطله.
وقسم منها يجوز التصرف ويبطل الشرط وهو النكاح والخلع والصلح عن دم العمد والهبة لأن الشرط الفاسد لا يبطل هذه العقود بل العقد صحيح والشرط باطل والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز العمري وأبطل الرقبي.
وقسم يجوز التصرف والاستثناء جميعا وهو الوصية لأن في حكم الوصية ما في البطن كأنه شخص على حدة حتى يجوز إفراده بالوصية فيجوز استثناؤه أيضا لأنه غير مبني على السراية بخلاف العتق. فإذا عرفنا هذا فنقول في البيع لو استثنى ما في البطن قصدا لم يجز البيع فكذلك إذا صار مستثنى حكما المعدوم فإن الدهن حادث بالعصير والدقيق بالطحن ولهذا لو فعله الغاصب كان مملوكا له وهذا لأنه قبل الطحن في الحنطة والدقيق غير الحنطة وكون الشيء الواحد مثنى في وقت واحد مستحيل فعرفنا أنه أضاف العقد إلى المعدوم وكان لغوا بخلاف الوصية فإن هذا كله يجوز في الوصية لأنه خلافه وليس بإيجاب للملك ثم قال في بعض النسخ وكذلك اللبن في ضرع الشاة والصوف على ظهرها وهذا غلط فقد قيل هذا في الصوف واللبن إذا أذن له في الحلب والجز وقبض ذلك جاز استحسانا وبما بينا يظهر الفرق بينهما.(12/131)
قال: وإذا وهب الرجل للرجل نصف عبد أو ثلثه وسلمه جاز لأنه مما لا يقسم وقد بينا أن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة فإذا وهب جزأ مسمى وسلمه بالتخلية جاز وهذا لأن الحاجة تمس إلى إيجاب التبرع فيما لا يحتمل القسمة فلو لم يجز ذلك ضاق الأمر على الناس لإبطال هذا النوع من التصرف عليهم فيما لا يحتمل القسمة أصلا بخلاف ما يحتمل القسمة فإنه يتأخر فيه التصرف إلى القسمة ولا يبطل أصلا فلا يتحقق فيه الضرورة.
قال: وإن وهب عبده لرجلين أو وهب رجلان لرجل أو وهب أحدهما نصيبه لشريكه أو لأجنبي وسلمه فهو جائز كله" لأن الموهوب معلوم ولا أثر في الشيوع في المنع من الهبة في هذا المحل. وإن قال أحد الشريكين لرجل قد وهبت لك نصيبي من هذا العبد فاقبضه ولم يسمه له ولم يعلمه إياه لم يجز لجهالة الموهوب وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة بينه وبين الشريك الآخر ولأن المجهول لا يجوز تمليكه بشيء من العقود قصداً.(12/132)
ص -66- ... قال: ولو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف ثوبين مختلفين أو نصف عشرة أثواب مختلفة نمطي ومروى وهروى ونحو ذلك جاز لأن مثل هذه الثياب لا تقسم قسمة واحدة فكان واهبا لنصيبه من نصف كل ثوب وكل ثوب ليس بمحتمل للقسمة في نفسه وكذلك الدواب المختلفة على هذا فإن كان ذلك من نوع واحد لم تجز هبته إلا مقسوما لأن الثياب إذا كانت من نوع واحد تقسم قسمة واحدة والدواب كذلك فإنما وهب النصف مشاعا فيما يحتمل القسمة وذلك لا يجوز.
قال: وإن وهب نصيبا له في حائط أو طريق أو حمام وسمى وسلطه فهو جائز لأنه غير محتمل للقسمة فإنه إذا قسم لا يمكن الانتفاع به على الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة ما لا يحتمل القسمة.
قال: ولو وهب نصف داره لرجل وسلمها إليه ثم وهب نصفها الآخر لرجل لم يجز شيء من ذلك لأن كل واحد من العقدين لو تم إنما يتم في مشاع يحتمل القسمة وإن لم يسلم النصف الأول حتى وهب النصف الثاني للثاني ثم سلم الدار إليهما جازت الهبة لهما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى بمنزلة ما لو وهب الدار لهما جملة وإن وهب لرجل نصفها ثم قسمها ودفع النصف إليه جاز لأن المعتبر عند القبض ولا شيوع عند ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب العوض في الهبة(12/133)
قال: وإذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا وقبضه الواهب لم يكن للواهب أن يرجع في هبته ولا للمعوض أن يرجع في عوضه والحاصل أن العوض في الهبة نوعان متعارف ومشروط فبدأ الباب ببيان ما هو متعارف من العوض غير مشروط والأصل أن المعوض بمنزلة الواهب حتى يشترط في العوض ما يشترط في ابتداء الهبة فلا يحصل الملك للواهب إلا بالقبض بعد القسمة لأن المعوض متبرع مختار في هذا التمليك كالواهب وبعد وصول العوض إلى الواهب لا رجوع له في الهبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يثب منها" وحكم ما بعد الغاية بخلاف ما قبله ولأن حق الرجوع له في الهبة كان لخلل في مقصوده وقد انعدم ذلك لوصول العوض إليه فهو كالمشتري يجد بالمبيع عيبا فيزول العيب قبل أن يرده ولا يرجع المعوض في عوضه أيضا لأن مقصوده بالتعويض إسقاط حق الواهب في الرجوع وقد نال هذا المقصود ولأنه مجازى في التعويض وبقاء جزء الشيء ببقاء أصله فإذا كان الموهوب سالما له فينبغي أن يكون الجزء سالما لصاحبه أيضاً.
قال: وإن وهب عبدا لرجلين فعوضه أحدهما من حصته كان له أن يرجع في حصة الآخر لأنه لم يصل إليه العوض عن حصة الآخر والجزء معتبر بالكل والرجوع في النصف شائعا صحيح بخلاف ابتداء الهبة لأن الراجع ليس يتملك بالرجوع بل يعيده إلى قديم ملكه والشيوع من ذلك لا يمنع وبالرجوع في النصف لا تبطل الهبة فيما بقي لأنه شيوع طرأ بعد تمام(12/134)
ص -67- ... الهبة فلا يكون مؤثرا فيه فإن ما يتمم القبض معتبر بأصل العقد وعود الموهوب إلى يد الواهب لا يمنع بقاء الهبة فالشيوع كذلك فإن عوضه أحدهما عن نفسه وعن صاحبه لم يكن للواهب أن يرجع في شيء من العبد لأنه في نصيب صاحبه أجنبي والتعويض من الأجنبي صحيح وإن كان بغير أمر الموهوب له لأنه تصرف في المعوض في ملكه وإنما يسقط به حق الواهب في الرجوع ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الأجنبي مع صاحب الدين من دينه على مال نفسه يجوز ويسقط به الدين عن المديون فهذا مثله ولا يكون للمعوض أن يرجع في شيء من العوض لأن مقصوده قد حصل حتى سقط حق الواهب عن الرجوع في الكل ولا يرجع على صاحبه أيضا بشيء سواء عوضه بأمره أو بغير أمره وكذلك لو عوضه أجنبي عن الهبة شيئا أما إذا كان بغير أمره فلا يشكل وإن كان بأمره فالتعويض لم يكن مستحقا على الموهوب له فإنما أمره بأن يتبرع بمال نفسه على غيره وذلك لا يثبت له حق الرجوع عليه من غير ضمان ولأنه مالك للتعويض بدون أمره فلا معتبر بأمره فيه وهذا بخلاف الدين فإنه إذا كان أمر إنسانا بقضاء دينه يرجع عليه بما أدى لأن الدين كان معلوما في ذمته وهو كان مطالبا به فقد أمره أن يسقط عنه المطالبة بمال يستحق عليه وأمره أن يملكه ما في ذمته بعوض ولو أمره أن يملكه عينا بعوض رجع عليه بما أدى فيه من ملك نفسه فهذا مثله وهنا لم يكن للواهب في ذمة الموهوب له ملك فالمعوض غير مملوك منه ولا هو مسقط عنه مطالبة مستحقة لأنه ما كان يستحق عليه العوض إنما كان للواهب حق الرجوع فقط والموهوب له كان متمكنا من إسقاط حقه بدون التعويض بأن يتصرف فيه فلهذا لا يرجع عليه المعوض بأمره إذا لم يضمن له ألا ترى أنه فيما هو فوق هذا لا يرجع بالأمر بدون الشرط نحو ما إذا قال كفر يميني من طعامك أو أد زكاة مالي بمالك فهذا أولى.(12/135)
قال: إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا فقال هذا عوض من هبتك أو ثواب من هبتك أو بدلها أو مكانها فهذا كله عوض لأن الشرط في التعويض أن يضيف إلى الموهوب ليندفع به الغرر عن الواهب ويعلم الواهب أنه يعطيه جزاء صنعه وإتماما لمقصوده وقد حصل ذلك بهذه الألفاظ فإنما ينبني الحكم على ما هو المقصود فإذا حصل ذلك فالعبارات فيه سواء فإن استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه لأنه إنما عوضه ليتم سلامة الموهوب له بإسقاط حق الواهب في الرجوع وقد فات ذلك عليه باستحقاق الموهوب فيتمكن من الرجوع في العوض أو لأن المعوض كالواهب فإذا استحق الموهوب فلم يبق له بمقابلة هبته شيء فكان له أن يرجع بالهبة وإن كان المعوض هالكا ضمنه قيمته وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يضمنه شيئا لأن المعوض واهب وقبض الهبة ليس بقبض ضمان ولأنه تبين أنه بمنزلة الواهب ابتداء فيكون حقه في الرجوع مقصورا على العين لحق الواهب ابتداء وجه ظاهر الرواية أن المعوض إنما رضي بالتعويض ليتم له به سلامة الهبة فإذا استحق فقد تمكن الخلل في رضاه فيجعل كما لو قبض الواهب بغير رضاه وهلك في يده فعليه(12/136)
ص -68- ... ضمان القيمة ولأن الواهب عاد له في هبة المستحق ولولا ذلك ما عوضه وللمغرور أن يدفع الغرر عن نفسه بالرجوع على الغار بما لحقه من الخسران يوضحه أن التعويض لا يكون إلا مضافا إلى الهبة والتمليك مضافا إلى بدل مستحق يكون فاسدا فتبين أن الواهب قبضه لنفسه بسبب فاسد وكان مستحق الرد عليه عند قيامه مضمونا بالقيمة بعد هلاكه وإن استحق العوض كان للواهب أن يرجع في هبته إذا كانت قائمة بعينها لم تزدد خيرا لأن التعويض بطل بالاستحقاق من الأصل فظهر الحكم الذي كان قبل التعويض.
قال: وإن استحق نصف الهبة كان للمعوض أن يرجع في نصف العوض اعتبارا للجزء بالكل وإن استحق نصف العوض فليس للواهب أن يرجع في شيء من الهبة إلا أن يشاء أن يرد ما بقي من العوض ويرجع في الهبة فيكون له ذلك وقال زفر إذا استحق نصف العوض فله أن يرجع في نصف الهبة اعتبارا للجزء بالكل واعتبارا للعوض بالهبة فإنه لو استحق نصف الهبة كان له أن يرجع في نصف العوض فكذلك إذا استحق نصف العوض وهذا لأن كل واحد منهما يصير مقابلا بالآخر في حكم سلامته لصاحبه فهو كبيع العوض بالعوض إذا استحق نصف أحدهما يكون للمستحق عليه أن يرجع على صاحبه بنصف ما يقابله وجه قولنا إن المستحق يخرج من أن يكون عوضا فيصير كأن لم يكن ولو كان عوضه في الابتداء نصف العبد لم يرجع في شيء من الهبة فكذلك هنا وهذا لأن ما بقي يصلح أن يكون عوضا عن الكل وإنما يتمكن الخلل في رضاء الواهب فكان تأثيره في إثبات الخيار له فإن شاء رد ما بقي ليدفع الضرر به عن نفسه وإن شاء أمسك ما بقي ولم يرجع بشيء.
فإن قيل: في الابتداء يجعل تمليك النصف عوضا له عن جميع الهبة فأما في الاستحقاق فهو قد يجعل تمليك الكل عوضا عن جميع الهبة فيكون ذلك تنصيصا منه على أن النصف عوض نصف الهبة فلا يجوز أن يجعل بالاستحقاق النصف عوضا عن الجميع.(12/137)
قلنا: هذا مستقيم في المبادلات لأن البعض ينقسم على البعض لتحقق المقابلة وهذا ليس بمبادلة على سبيل المقابلة فلا يثبت هذا التقسيم في حقه ولكن كل جزء من آخر العوض يكون عوضا عن جميع الهبة فلا يكون له أن يرجع في شيء من الهبة مع سلامة جزء العوض له ثم الفرق بين استحقاق نصف العوض ونصف الهبة بهذا الحرف وهو أن المعوض ملك العوض إلا جزأ فيعتبر حكم المقابلة في حقه فإذا استحق نصف الهبة من يده رجع بنصف العوض فأما الواهب فقد ملك الهبة ابتداء من غير أن يقابله شيء ثم تأثير العوض في إسقاط حقه في الرجوع والجزء من العوض في ذلك بمنزلة الكل إذا تم رضاه به والحاصل أن للعوض شبهين شبه ابتداء الهبة من حيث أن العوض مختار فيه متبرع وشبه المبادلة له من حيث أنه ملكه مضافا إلى الهبة فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهه بالمبادلات إذا استحق الكل رجع في الهبة ولشبهة بابتداء الهبة إذا استحق النصف لا يرجع في شيء من الهبة إلا أن يرد ما بقي.
قال: وسواء كان العوض شيئا قليلا أو كثيرا من جنس الهبة أو من غير جنسها لأن هذه(12/138)
ص -69- ... ليست بمعاوضة محضة فلا يتحقق فيها الربا وإنما تأثير العوض في قطع الحق وفي الرجوع لتحصيل المقصود ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير إذا بينه للواهب ورضي الواهب به.
قال: فإن كانت الهبة ألف درهم والعوض درهم واحد من تلك الدراهم لم يكن عوضا وكان للواهب أن يرجع في الهبة وكذلك إن كانت الهبة دارا والعوض بيت منها وعن زفر أن هذا يكون عوضا لأن ملك الموهوب له قد تم في الموهوب بالقبض والتحق المقبوض بسائر أمواله فكما يصلح سائر أمواله عوضا عن الهبة قل ذلك أو كثر فكذلك هذا وجه قولنا إن مقصود الواهب بهذا لا يحصل لأنا نعلم يقينا أنه يهبه ألف درهم منه ما قصد تحصيل درهم من تلك الدراهم لنفسه لأن ذلك كان سالما له وسقوط حقه في الرجوع باعتبار حصول مقصوده بالهبة ولأنه إنما يجوز أن يجعل عوضا بالتراضي في الانتهاء ما يجوز أن يجعل عوضا شرطا في الابتداء فكذلك لا يستقيم أن يجعل عوضا في الانتهاء بخلاف مال آخر من ملك الموهوب له.
قال: ولو أن نصرانيا وهب للمسلم هبة فعوضه المسلم منها خمرا أو خنزيرا لم يكن ذلك عوضاً لما بينا أن هذا لا يصلح عوضا شرطا في الابتداء ولأن المعوض مملك ابتداء وتمليك المسلم الخمر أو الخنزير من النصراني بالعقد باطل وإذا بطل التعويض كان للنصراني أن يرجع في هبته.
قال: عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة فعوضه من هبته كان لكل واحد منهما أن يرجع في الذي له لأن الهبة من العبد باطلة فإنه غير منفك عنه الحجر بالتبرع وبالتعويض الهبة الباطلة لا تنقلب صحيحة وإنما تأثير العوض في إسقاط حق الرجوع في هبة صحيحة وإذا رجع العبد في الهبة لبطلانها فللمعوض أن يرجع في العوض لأنه عوضه ليسلم له الهبة ولم يسلم.
قال: وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال ابنه شيئا لرجل فعوضه الموهوب له لأن هذا تعويض عن هبة باطلة.(12/139)
قال: فإن كان الواهب هو الرجل فعوضه الأب من مال الصغير لم يجز العوض لأنه ملك مال الصغير بالتبرع ابتداء وليس للأب ذلك في مال الولد وقد بينا أن المعوض كالواهب ابتداء وإذا لم يسلم العوض للواهب فله أن يرجع في هبته كما قبل التعويض.
قال: وإذا تصدق الموهوب له على الواهب بصدقة أو نحلة أو أعمره فقال هذا عوض من هبتك فهو عوض لأن المقصود قد حصل ولا معتبر لاختلاف العبارة بعد حصول المقصود فبأي لفظ ملكه العوض أو أعلمه أنه عوض من هبته فهو عوض قال: رجل وهب لرجل عبدا على أن يعوضه عوضا يوما أو اتفقا على ذلك ولم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله ذلك فإن تقابضا جاز ذلك بمنزلة البيع وليس لواحد منهما أن يرجع فيه وهذا مذهبنا فإن الهبة بشرط العوض هبة ابتداء بيع انتهاء وقال زفر رحمه الله تعالى ابتداء وانتهاء بيع وفي أحد(12/140)
ص -70- ... أقاويل الشافعي رضي الله عنه هو فاسد لأن هذا شرط يخالف مقتضى العقد فيكون مبطلا للعقد. وبيانه أن عقد الهبة عقد تبرع واشتراط العوض فيه يخالف مقتضاه وزفر رحمه الله تعالى يقول هذا تمليك مال بمال شرطا وكان بيعا فاسدا ابتداء كما لو عقد بلفظ البيع أو التمليك وهذا لأن في العقود يعتبر المقصود وعليه ينبني الحكم ألا ترى أنه لو قال اشتريت منك كرا من حنطة صفتها كذا بهذا الثوب وبين شرائط السلم يكون سلما وإن لم يذكر لفظ السلم وأنه لو وهب ابنته من رجل كان نكاحا ولو وهب امرأته من نفسها كان طلاقا ولو وهب عبده من نفسه كان عتقا ولو وهب الدين ممن عليه كان إبراء فاللفظ واحد ثم اختلف العقد لاختلاف المقصود والدليل عليه أنه لو قال وهبت منك منفعة هذه الدار شهرا بعشرة دراهم يكون إجارة يلزم بنفسه وكذلك لو قال أعرتك والإعارة تمليك المنفعة بغير عوض فإذا شرط فيه البدل كان إجارة فكذلك الهبة تمليك الموهوب بغير عوض فإذا شرط العوض يكون بيعا والدليل عليه أن المكره على الهبة بشرط العوض لو باع كان مكرها وكذلك المكره على البيع والتسليم إذا وهب بشرط العوض ولو لم يكونا في الحكم سواء لم يكن المكره على أحدهما مكرها على الآخر وحجتنا في ذلك أن هذا تمليك المال بلفظ يخالف ظاهره معناه فيكون ابتداؤه معتبرا بلفظه وانتهاؤه معتبرا بمعناه كالهبة في المرض فإن ظاهره تمليك في الحال بطريق التبرع ومعناه معنى الوصية فيعتبر ابتداؤه بلفظه حتى يبطل بعدم القبض ولا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة وانتهاؤه معتبر بمعناه حتى يكون من الثلث بعد الدين وهذا لأن الألفاظ قوالب المعاني فلا يجوز إلغاء اللفظ وإن وجب اعتبار المعنى إلا إذا تعذر الجمع للمنافاة ولا منافاة هنا فشرط العوض لا يكون أبلغ من حقيقة التعويض وبحقيقة التعويض لا ينتفي معنى الهبة فبشرط العوض أولى بخلاف النكاح والطلاق والعتاق فإن هناك بين اللفظ والمعنى منافاة وقد وجب(12/141)
اعتبار المعنى فيسقط اعتبار اللفظ لذلك ثم انعقاد العقد باللفظ والمقصود هو الحكم وأوانه بعد تمام العقد فعند الانعقاد اعتبرنا اللفظ لأن العقد به ينعقد وعند التمام اعتبر المقصود وما تردد بين أصلين توفر حظه عليهما فالمكاتب لما كان بمنزلة الحر من وجه وبمنزلة المملوك من وجه اعتبر الشبهان فأما لفظ الإعارة أو الهبة في المنفعة فقد حكى عن ابن طاهر الدباس قال كنا في تدبر جواب هذه المسألة فوجدت رواية عن أبي حنيفة أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة وبعد التسليم يقول هناك يتعذر اعتبار الجانبين لأن المنفعة لا تبقى وقتين فلا يمكن جعل العقد عليها تبرعا ابتداء معاوضة انتهاء فجعلناه معاوضة ابتداء بخلاف العين على ما قررناه وأما مسألة الإكراه قلنا المكره مضار متعنت ومعنى الإضرار في حكم السبب لا في نفسه فلهذا استوفى في حقه البيع والهبة بشرط العوض ولهذا جعل الإكراه على الهبة إكراها على التسليم وبعد التسليم البيع والهبة بشرط العوض سواء إذا ثبت هذا الأصل فنقول قبل التقابض العقد تبرع فإن لكل واحد منهما أن يرجع عنه ولا يملك كل واحد منهما متاع صاحبه ما لم يقبضه ولا يجوز في مشاع يحتمل القسمة وبعد التقابض هو بمنزلة البيع(12/142)
ص -71- ... فليس لواحد منهما أن يرجع فيه ويجب للشفيع به الشفعة ولكل واحد منهما أن يرد ما في يده بعيب إن وجد فيه كما هو الحكم في البيع وإن استحق ما في يد أحدهما يرجع على صاحبه بما في يده إن كان قائما وبقيمته إن كان هالكا لأنه ما رضي بسقوط حقه عن متاعه إلا بشرط سلامة العوض له فإذا لم يسلم رجع بمتاعه إن كان قائما وبماليته إن كان هالكا وكذلك لو كان الاستحقاق بعد موت أحدهما وهو معنى ما ذكرنا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فهو دين عليه في حياته وبعد موته.
قال: رجل وهب لرجل ثوبا لغيره وسلمه إليه فأجاز رب الثوب جازت الهبة لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء من حيث أنه يتم رضا المالك بها ثم العاقد في الهبة يكون معيرا لا يتعلق به حقوق العقد والمجيز يكون كالمباشر لعقد الهبة فله أن يرجع فيما لا يعوضه الموهوب له أو يكون ذا رحم محرم منه وإن عوض الرجل الذي وهب له أو كان بينهما قرابة لم يمنع ذلك رب الثوب من الرجوع لأن العاقد معتبر كالرسول فلا معتبر بحاله وإنما المعتبر حال المالك فإذا لم يكن بينهما قرابة عرفنا أن مقصوده العوض ما لم ينل العوض كان له أن يرجع فيه.
قال: رجل وهب لرجل خمسة دراهم وثوبا وقبض ذلك الموهوب له ثم عوضه الثوب أو الدراهم من جميع الهبة لم يكن ذلك عوضاً لأنها هبة واحدة وقد بينا أن عقد الشيء في عقد واحد لا يكون عوضا ومعوضا وقد علمنا أن هذا لم يكن مقصود الواهب في الهبة.(12/143)
قال: وإن كانا في عقدين مختلفين في مجلس أو مجلسين فعوضه إحداهما على الأخرى فهذا عوض نأخذ فيه بالقياس وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يكون عوضا لأنا نعلم أن الواهب لم يقصد هذا فقد كان مملوكا له فالعقد الواحد والعقدان في هذا المعنى سواء وجه ظاهر الرواية أن اختلاف العقد كاختلاف العين ويستقيم جعل أحدهما عوضا عن الآخر شرطا عند اختلاف العقد فكذلك مقصودا وقد يقصد الواهب هذا بأن يهب شيئا ثم يحتاج إليه فيندم فيستقبح الرجوع فيه فيهب منه شيئا آخر على أن يعوضه الأول فيحصل منه مقصوده ويندفع عنه مذمة الرجوع في الهبة أرأيت لو كان الأول منهما صدقة والآخر هبة فعوضه الصدقة عن الهبة أما كان ذلك عوضا وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى لو وهب نصف داره من رجل وتصدق عليه بنصفها وسلم الكل لم يجز في قول زفر لأن اختلاف السبب كتفرق العقد والتسليم فكأنه وهب النصف وسلم ثم النصف وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى التسليم حصل جملة واحدة بعقد هو تبرع كله فيجوز كما لو وهب الكل وهذا لأن الفرق بين الصدقة والهبة في مقصود العوض ففي الصدقة المقصود الثواب دون العوض وفي الهبة المقصود العوض فأما في إخراج العين عن ملكه وتمليك القابض بطريق التبرع لا فرق بينهما.
قال: وإن وهب له حنطة فطحن بعضها وعوض دقيق تلك الحنطة كان جائزا لأن الدقيق(12/144)
ص -72- ... حادث بالطحن وهو غير الحنطة ولهذا يكون مملوكا للغاصب فكان تعويضه دقيق هذه الحنطة ودقيق حنطة أخرى سواء ولأن حقه في الرجوع قد انقطع بالطحن فتعويضه إياه لا يكون رجوعا فأما قبل الطحن حق الواهب في الرجوع ثابت والرد مستحق على الموهوب له إذا رجع فيه الواهب فيقع فعله على الوجه المستحق وعلى هذا لو وهب له ثيابا فصبغ منها ثوبا بعصفر أو خاطه قميصا ثم عوضه أو كان وهب له سويقا فلت بعضه ثم عوضه لأن حقه في الرجوع قد انقطع بهذا الصنع والتحق هذا بسائر أموال الموهوب له فكما أنه لو عوضه مالا آخر كان ذلك عوضا فكذلك هذا المال.
قال: وإذا وهب للواهب شيئا ولم يقل هذا عوض من هبتك فللواهب أن يرجع في هبته" لأنه لما لم يضف تمليكه إلى هبته كان فعله هبة مبتدأة لا تعويضا فلكل واحد منهما أن يرجع فيه ولأن سقوط حق الرجوع لحصول مقصود الواهب وإنما يعلم ذلك إذا بين له أنه عوض ويرضى به فأما بدونه لا يحصل المقصود وإن قال قد كافيتك هذا من هبتك أو جازيتك أو أثبتك كان عوضا لأن المقصود يحصل بهذه الألفاظ والغرور يندفع.
قال: وإن عوض من نصف الهبة شيئا كان له أن يرجع فيما بقي اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن التعويض مما يحتمل التحري في الموهوب فإذا أضاف العوض إلى بعض الهبة اقتصر حكمه عليه بخلاف الطلاق والنكاح فإنه لا يحتمل التحري في المحل ويجوز أن يثبت حق الرجوع في النصف دون النصف ابتداء كما لو وهب منه النصف وتصدق عليه بالنصف فلأن يجوز ذلك بقاء أولى.
قال: وليس للواهب أن يرجع في هبته عند غير قاض إلا أن يرد عليه الموهوب له فيجوز" لما بينا أن الرجوع في الهبة مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله تعالى منهم من رأى ومنهم من أبى وفي أصله وهي فيكون الفصل بينهما في القضاء والرضا لأن الواهب إن كان يطالب بحقه فالموهوب له يمنع ملكه والملك مطلق له ذلك فلا بد من اعتبار قضاء القاضي بينهما.(12/145)
قال: ولو كانت الهبة عبدا فباعه الموهوب له أو أعتقه قبل أن يقضي به القاضي للواهب أجاز ما صنع الموهوب له فيه من ذلك لأن ملكه قائم ما لم يقض القاضي عليه بالرجوع والملك في المحل منفذ للبيع فيه والعتق إذا صدر من أهله في محله ينفذ ولا يجوز ذلك إن فعله بعد قضاء القاضي عليه بالرد قبل أن يرده لأن بقضاء القاضي عاد العبد إلى ملك الواهب وتصرف ذي اليد في ملك الغير لا يكون نافذا إلا أن يجيز المالك.
قال: وإن مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي له لم يكن للواهب أن يضمنه قيمته لأن أصل قبضه لم يكن موجبا ضمان المقبوض عليه واستدامة الشيء معتبر بأصله وكذلك منعه قبل قضاء القاضي منع بسبب ملكه فلا يكون موجبا للضمان عليه ولم يوجد بعد القضاء في الموهوب سبب موجب للضمان عليه والضمان لا يجب بدون السبب إلا أن يكون منعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب فهذا المنع يتقرر بسبب الضمان(12/146)
ص -73- ... وهو قصر يد المالك عن ملكه بإزالة تمكنه من أخذه وهو حد الغصب الموجب للضمان.
قال: فإن كانت الهبة هالكة أو مستهلكة أو خارجة من ملك الموهوب له إلى ولده الصغير أو إلى أجنبي بهبة أو غيرها أو زادت عنده خيرا فلا رجوع فيها للواهب وقد بينا هذه الموانع والفرق بين زيادة العين وزيادة السعر وبين الزيادة في البدن والنقصان في حكم الرجوع.
قال: وإن كانت الهبة دارا أو أرضا فبنى في طائفة منها أو غرس شجرا أو كانت جارية صغيرة فكبرت وازدادت خيرا أو كان غلاما فصار رجلا فلا رجوع له في شيء من ذلك وقال ابن أبي ليلى له أن يرجع في جميع ذلك لأن حق الرجوع كان ثابتا في الأصل فيثبت في البيع فإن ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل ولا يجوز أن يبطل الحكم الثابت في الأصل بسبب المنع ولكنا نقول حق الرجوع للواهب مقصور على الموهوب بعينه فلا يثبت فيما ليس بموهوب تبعا كان أو أصلا وهنا الحق في الأصل ضعيف وحق صاحب الزيادة في الزيادة قوي فإذا تعذر التمييز بينهما رجحنا أقوي الحقين وجعلنا الضعيف مرفوعا بالقوي والبناء في بعض الأرض كالبناء في جميعها لأن البناء في جانب من الأرض يعد زيادة في جميع الأرض ألا ترى أنه يزداد به مالية الكل وهذا إذا كان ما بني بحيث يعد زيادة فإن كان لا يعد زيادة كالآري أو يعد نقصانا كالتنور في الكاشانة فإنه لا يمنع الرجوع لانعدام المانع وهو زيادة مالية الموهوب بزيادة في عينه.
قال: وإن كانت الهبة دارا فهدم بناءها كان له أن يرجع في الأرض وكذلك في غير الدار إذا استهلك بعض الهبة ببيع أو غيره وبقي بعضها كان له أن يرجع في الباقي اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن ما فعله من هدم البناء نقصان في الأرض وليس بزيادة.(12/147)
قال: وإن كانت الهبة ثوبا فصبغه أحمر أو أصفر وخاطه لم يكن له أن يرجع فيه لأن ما فعله زيادة وصف قائم في العين ولو قطعه ولم يخطه فله أن يرجع فيه لأن القطع قبل الخياطة نقصان ولم يذكر ما لو صبغه أسود.
والجواب: أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى له أن يرجع فيه لأن السواد عنده نقصان وعندهما ليس له أن يرجع وقد بينا المسألة في كتاب الغصب.
قال: وإذا وهب دينا له عليه فقبله لم يكن له أن يرجع فيه لأنه سقط عنه فإنه قابض للدين بذمته فيملك بالقبول ومن ملك دينا عليه سقط ذلك عنه والساقط يكون متلاشيا فلا يتحقق الرجوع فيه كما لو كان عينا فهلك عنده.
قال: فإن قال الموهوب له مكانها لا أقبلها فالدين عليه بحاله والحاصل أن هبة الدين ممن عليه الدين لا تتم إلا بالقبول والإبراء يتم من غير قبول ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء الله وعن زفر رحمه الله تعالى أنه يسوي بينهما وقال تتم الهبة والإبراء قبل القبول بناء على أصله أنه يعتبر ما هو المقصود والمقصود في الوجهين الإسقاط دون التمليك لأن ما في الذمة(12/148)
ص -74- ... ليس بمحل للتمليك ولكنه مجرد مطالبة يحتمل الإسقاط ولكن عند زفر رحمه الله تعالى إن رده المديون صح رده في الوجهين جميعا وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول لا يعمل رده لأن الإسقاط يتم بالمسقط والمسقط يكون متلاشيا فلا يتصور فيه الرد وقاس ذلك بالطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ولكنا نقول الدين مملوك للطالب في ذمة المديون فيكون قابلا للتمليك بملك العين ويجعل ذلك في الحكم كأنه ذلك الدين خصوصا في السلم والصرف فإذا ثبت أنه قابل للتمليك والهبة عقد تمليك فإذا ذكر لفظ الهبة وجب اعتبار معنى التمليك فيه والتمليك لا يتم بالمملك قبل قبول الآخر لأن أحدا لا يملك إدخال الشيء في ملك غيره قصدا من غير قبوله وهو محتمل للإسقاط أيضا لأنه في الحقيقة ليس إلا مجرد حق المطالبة وإبراء إسقاط إذا ذكر لفظ الإبراء وكان تصرفه إسقاطا والإسقاط تصرف من المسقط في خالص حقه فلهذا يتم بنفسه ولكنه يتضمن معنى التمليك من وجه لما بينا أن الدين مملوك في ذمته فإنما يسقط عنه إذا ملكه فلاعتبار هذا المعنى قلنا له أن يرده بخلاف الطلاق والعتاق فإنه إسقاط محض لا يتضمن معنى التمليك حتى أن الإبراء لو كان إسقاطا محضا لم يرتد بالرد أيضا وهو إبراء الكفيل فإنه إسقاط محض لأن الدين يبقى على الأصل على حاله فلا يرتد برد الكفيل والهبة من الكفيل تمليك منه حتى يرجع على المكفول عنه فلا يتم إلا بقبوله فإن كان الموهوب له غائبا ولم يعلم بالهبة حتى مات جازت الهبة وبرىء مما عليه وهذا استحسان فأما في القياس لا يبرأ فأصله في الموصى له إذا مات بعد موت الموصى قبل قبوله في القياس تبطل الوصية لأنه قبل القبول لم يملك وإنما يخلفه وارثه في ملكه بعد موته وفي الاستحسان جعل موته بمنزلة القبول فكذلك هنا في الاستحسان يجعل موت الموهوب له بمنزلة قبوله.(12/149)
قال: وإن وهبه له وهو معه قائم فسكتا حتى افترقا جازت الهبة" وهذا استحسان أيضا فإن سكوته عن الرد دليل على رضاه بالهبة منه عرفا ودليل الرضا كصريح الرضا ألا ترى أن السكوت من البكر جعل إجازة لعقد الولي استحسانا فهذا مثله ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من بنى الجواب في هذا الفصل على الظاهر ويقول هبة الدين ممن عليه الدين بمنزلة الإبراء يتم بنفسه من غير قبول وإن كان له حق الرد فيها فالموت قبل الرد يبطل حقه في الرد ويبقى تاما في نفسه وكذلك بالسكوت حتى افترقا ينعدم الرد فتبقى الهبة تامة ولكن الأول وهو الفرق بين الهبة والإبراء من حيث المعنى أصح ويتضح ذلك في الفرق بين إبراء الكفيل وبين هبة الدين منه.
قال: رجل وهب لرجل هبة وقبضها الموهوب له ثم وهبها الموهوب له لآخر وسلمها إليه ثم رجع فيها أوردها عليه الآخر فللواهب الأول أن يرجع فيها" أما إذا رجع فيها بقضاء القاضي فلان القاضي يفسخ بقضائه العقد الثاني فيعود إلى الأول ملكه المستفاد بالهبة من الأول وقد كان حق الرجوع ثابتا له في ذلك الملك وما سقط بزواله تعذر استيفاؤه لانعدام محله فإذا عاد المحل كما كان عاد حقه في الرجوع وإن رده عليه بغير قضاء القاضي فكذلك عندنا.(12/150)
ص -75- ... وقال زفر رحمه الله تعالى: ليس للأول أن يرجع لأن هذا ملك حادث له ثابت بتراضيهما فهو بمنزلة ما لو وهبه له ابتداء أو تصدق به عليه أو أوصى به له أو مات فورثه والدليل عليه أنه لو رده في مرضه بغير قضاء ومات من ذلك المرض اعتبر من ثلثه والدليل على الفرق بين القضاء والرضا الرد بالعيب فإنه إذا كان بقضاء القاضي كان فسخا وإن كان بغير قضاء فهو كالبيع المبتدأ ولكنا نقول حق الواهب في الرجوع مقصور على العين وفي مثله القضاء وغير القضاء سواء كالأخذ بالشفعة وهذا لأنهما فعلا بدون القاضي عين ما يأمر به القاضي أن لو رفعا الأمر إليه وإنما يكون التراضي موجبا ملكا مبتدأ إذا تراضيا على سبب موجب للملك منه كالهبة والصدقة والوصية وهنا تراضيا على دفع السبب الأول وذلك لا يصح موجبا ملكا مبتدأ بخلاف الرد بالعيب فحق المشتري ليس في عين الرد بل بالمطالبة في الجزء الثابت ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهنا حق الواهب في فسخ العقد مقصور على العين.
قال: وإذا رجع في مرض الموهوب له ففيه روايتان كلاهما في الكتاب في إحدى الروايتين قال يعتبر من جميع ماله وذكر ابن سماعة فيه القياس والاستحسان في القياس يعتبر من جميع ماله وفي الاستحسان يعتبر من الثلث لا لأنه تمليك ابتداء ولكن الراد في مرضه باختياره يتم بالقصد إلى إبطال حق الورثة كما تعلق حقهم به فلرد قصده جعل معتبرا من ثلثه.(12/151)
قال: رجل وهب عبدا لرجلين فله أن يرجع في نصيب أحدهما وكذلك إن جعل نصيب أحدهما هبة ونصيب الآخر صدقة كان له أن يرجع في الهبة اعتبارا للجزء بالكل وهذا في العبد غير مشكل فإن الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع ابتداء الهبة فكذلك الرجوع وفيما يحتمل القسمة كالدار ونحوها الجواب كذلك وهو دليلنا على زفر فإن الرجوع بغير قضاء القاضي لو كان بمنزلة الهبة ابتداء لما صح في مشاع يحتمل القسمة وحيث صح عرفنا أنه فسخ وأن العقد يبقى في النصف الآخر فيكون ذلك شيوعا طارئا ولا أثر للشيوع الطارئ في الهبة والدليل عليه أن بالرد بالتراضي يعود الملك إلى الواهب قبل القبض وابتداء الهبة لا يوجب الملك إلا بالقبض وهو الدليل على أن الشيوع لا يمنع منه لأن تأثير الشيوع في المنع من إتمام القبض فلا يؤثر فيما لا يشترط فيه القبض.
قال: فإن وهب لمكاتب رجل هبة ثم عتق المكاتب أو عجز فله أن يرجع في الهبة في قول أبي يوسف وقال محمد فله أن يرجع فيها إذ أعتق وليس له أن يرجع فيها إذا عجز فلا خلاف إن قبل العتق والعجز له أن يرجع فيها وفيه نوع إشكال فالمكاتب فقير والهبة من الفقير صدقة ولا رجوع فيها قال: ولكنا نقول المكاتب فقير ملكا ولكنه غني يدا وكسبا فالهبة منه لا تنفك عن قصد العوض إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد فله أن يرجع فيها إذا لم ينل العوض وكذلك بعد العتق لأن حق الرجوع ثبت له في ملك المكاتب فقد تقرر ذلك بعتقه فأما إذا عجز فالأصل عند أبي يوسف إن عجز المكاتب يقرر ملك المولى في كسبه كما أن عتقه يقرر ملكه(12/152)
ص -76- ... لأن لكل واحد منهما حق الملك في الكسب وعند محمد عجز المكاتب ناقل للملك من كسبه إلى مولاه بمنزلة موت الحر فكما أن موت الحر الموهوب له يقطع حق الواهب في الرجوع فكذلك عجز المكاتب والدليل على الفرق أن المكاتب إذا استبرأ جارية محيضة ثم عتق فليس عليه فيها استبراء جديد ولو عجز كان على المولى أن يستبرئها وسنقرر هذا الأصل في كتاب الإجارات إن شاء الله تعالى.
قال: فإن كان المكاتب أخ الواهب لم يرجع فيها في حال قيام الكتابة ولا بعد عتقه لأن الحق للمكاتب والمانع من الرجوع وهو الأخوة بينهما قائم وبعد العجز كذلك عند محمد رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف يرجع فيها بعد العجز لأنه يقرر الملك للمولى والمولى أجنبي عنه وقد بينا أنه لو وهب لأخيه وهو عبد كان له أن يرجع فيها والمكاتب بعد العجز بمنزلة العبد وكان أبو يوسف يعتبر معنى قطيعة الرحم بسبب المنازعة في الرجوع فيقول قبل العجز خصومته في الرجوع مع المكاتب فيؤدي إلى قطيعة الرحم وبعد العجز خصومته مع المولى وليس فيه قطيعة الرحم ولأن هبته تنفك عن قصد العوض ما دام الحق فيها لقريبه فإذا تقرر الحق لأجنبي لم ينفك عن قصد العوض.(12/153)
قال: رجل وهب لرجل أرضا فبنى فيها الموهوب له ثم أراد الرجوع فيها وخاصمه إلى القاضي فقال له القاضي ليس لك أن ترجع فيها ثم هدمها الموهوب له فعادت كما كانت فللواهب أن يرجع فيها لزوال المانع وهو البناء وفرق بين هذا وبين ما إذا اشترى عبدا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فحم العبد في الأيام الثلاثة وخاصمه في الرد فأبطل القاضي حقه للحمى ثم أقلعت قبل مضي الأيام الثلاثة ليس له أن يرده لأن هناك حقه في الخيار بعرض السقوط حتى يسقط بإسقاطه فكذلك يسقط بقضاء القاضي وهنا حق الواهب في الرجوع ليس بعرض السقوط حتى لا يسقط بإسقاطه فكذلك القاضي لا يسقط بقضائه حقه في الرجوع ولكن يكف عن القضاء بالرجوع لتعذر ذلك بسبب البناء فإذا زال ذلك فقد زال المانع وحقه قائم وكان له الرجوع فيها يوضحه أن السبب هناك للفسخ عدم لزوم العقد فبقضائه يصير لازما لأن صفة اللزوم تليق بالبيع وهنا السبب كون العقد تبرعا ويمكن الخلل في مقصوده وهو العوض وبقضائه لا يرتفع هذا السبب فكان له أن يرجع إذا زال المانع.
قال: رجلان وهبا لرجل عبدا وقبضه ثم أراد أحدهما أن يرجع في حصته والآخر غائب فله ذلك لأن كل واحد منهما مباشر للتصرف في نصيب نفسه فيكون متمكنا من الرجوع فيه كما لو انفرد بهبة نصيبه.
قال: وإذا أراد الواهب الرجوع في الهبة وقال الموهوب له أنا أخوك أو قال قد عوضتك أو قال إنما تصدقت بها علي وكذبه الواهب فالقول قول الواهب لأن السبب المثبت لحق الواهب في الرجوع ظاهر والموهوب له يدعى المانع فالقول فيه قول المنكر. ثم إذا قال تصدقت علي فالتمليك من جهة الواهب اتفاقهما والقول قول المملك في بيان سبب(12/154)
ص -77- ... التمليك وإذا قال عوضتك فهو يدعي تسليم شيء من ماله إليه وهو منكر وإذا قال أنا أخوك فالأخوة لا تثبت بمجرد دعواه ولا يتبين به أنه لم يكن قصد الواهب العوض.
قال: وإن كانت الهبة خادما فقال وهبتها لي وهي صغيرة فكبرت عندي وازدادت خيرا وكذبه الواهب فالقول قول الواهب عندنا وقال زفر القول قول الموهوب له لأنه مالك لها في الحال وهو منكر حق الواهب في الزيادة الحادثة فيها فيكون القول قوله كما إذا كان الموهوب أرضا وفيها بناء أو شجر وقال الواهب وهبتها لك وقال الموهوب له لم يكن فيها بناء ولا شجر حين وهبتها فالقول قول الموهوب له ولكنا نقول الموهوب له يدعى تاريخا سابقا في الهبة والهبة حادثة فمن يدعي فيها تاريخا سابقا لا يقبل قوله إلا بحجة ثم ليس فيها زيادة من غيرها وحق الواهب ثابت في عينها باتفاقهما فكان الموهوب له يدعي انتفاء حقه من الزيادة المتولدة من العين مثل السمن والكبر بخلاف البناء والشجر فإنه غير متولد من الأرض ولكنه ملك مبتدأ للموهوب له في الحال وهو ينكر تملكه من جهة الواهب وثبوت حقه فيه يوضح الفرق أن البناء من وجه أصل حتى يجوز إفراده بالبيع فالظاهر فيه شاهد للموهوب له دون الواهب والسمن والكبر وصف وهو بيع محض وثبوت الحق في البيع بثبوته في الأصل فكان الظاهر شاهدا للواهب وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى لو وهب له عبدا فعلمه الموهوب له الكتابة أو الخبز فليس للواهب أن يرجع فيه عند أبي يوسف وقال زفر له أن يرجع لأنه لا زيادة في عين الموهوب فهو كزيادة القيمة بتغيير السعر وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى تعلم الكتابة والخبز معنى في العبد تزداد به ماليته فهو بمنزلة السمن بخلاف زيادة السعر فإن ذلك ينبني على كثرة الرغائب فيه إلا أن يكون معنى في العين والدليل عليه أن صفة الكتابة والخبز يصير مستحقا للمشتري بالشرط ويثبت له الخيار عند فواته بمنزلة صفة السلامة عند إطلاق العقد فبه(12/155)
يتبين أنه وصف في العين وكل شيء زاد فيه من غيره نحو الثوب يصبغه والسويق يلته والثوب يخيطه فالقول فيه قول الموهوب له بمنزلة البناء والغرس وأما ما كان من حيوان فالقول فيه قول الواهب بمنزلة الكبر في الخادم.
قال: وإذا كانت الهبة جارية فولدت عند الموهوب له من زوج أو فجور فللواهب أن يرجع فيها دون الولد لأن الولد ليس بموهوب وحق الرجوع مقصور على عين الموهوب والولادة في الجارية نقصان وقد بينا أن النقصان لا يمنع الرجوع والزيادة المنفصلة ليست كالزيادة المتصلة لأن الأصل هناك لا يتميز عن الزيادة ليرجع فيها وهنا الزيادة منفصلة عن الأصل فله أن يرجع فيه وهذا بخلاف البيع فإن بعد الزيادة المنفصلة هناك لو رد الأصل ردها بجميع الثمن فيسلم له الولد مجانا بحكم عقد المعاوضة وذلك في المعاوضات ربا وفي الهبة يسلم له الولد مجانا وهذا غير ممتنع في التبرعات وقد كان الأصل سالما له مجاناً.
قال: وإذا أراد الواهب الرجوع وهي حبلى فإن كانت قد ازدادت خيرا فليس له أن يرجع فيها وإن كانت قد ازدادت شرا فله أن يرجع فيها والجواري في هذا تختلف فمنهن من إذا(12/156)
ص -78- ... حبلت سمنت وحسن لونها فكان ذلك زيادة في عينها فيمنع الرجوع ومنهن من إذا حبلت اصفر لونها ورق ساقها فيكون ذلك نقصانا فيها فلا يمنع حق الواهب من الرجوع.
قال: وإذا وهب جاريتين فولدت إحداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له أن يرجع في واحدة منهما لأنه لا حق للواهب في الولد فهو كسائر أملاك الموهوب له في صلاحية العوض فإذا عوضه عنهما ورضي به الواهب فقد تم مقصوده.
قال: وإن وهب له حديدا فضرب منه سيفا أو غزلا فنسجه أو وهب له دفاتر فكتب فيها لم يكن له أن يرجع فيها في شيء من ذلك أبدا" إما لتبدل العين أو للزيادة الحادثة في العين أو في ماليته بفعله فإن ذلك مانع من الرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الرقبى
قال: رجل حضره الموت فقال داري هذه حبيس لم تكن حبيسا وكان ذلك ميراثا لأن قوله حبيس أي محبوس فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول ومعناه محبوس عن سهام الورثة وسهام الورثة في ماله بعد موته حكم ثابت بالنص فلا يتمكن من إبطاله بقوله وهو معنى قول شريح لا حبيس عن فرائض الله تعالى وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبيس وكذلك إن قال داري هذه حبيس على عقبي بعد موتي فهو باطل لأن معناه محبوس على ملكهم لا يتصرفون فيه بالإزالة كما يفعله المالك وهو مخالف لحكم الشرع فكان باطلا.(12/157)
قال: ولو قال داري هذه لك رقبي فهو باطل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هي هبة صحيحة إذا قبضها وكذلك لو قال لك حبيس فأبو يوسف استدل بحديث ابن الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى والرقبي والمعنى فيه أن قوله داري لك تمليك صحيح وقوله حبيس أو رقبي باطل فكأنه لم يذكر ذلك يوضحه أن معنى قوله داري لك رقبي ملكتك داري هذه فأرقب موتك لتعود إلي فيكون بمنزلة العمري في معنى الانتظار والتعليق بالعود إليه دون التمليك فيبقى التمليك في الحال صحيحا وحجتهما في ذلك حديث الشعبي عن شريح رحمهما الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمري ورد الرقبي والحديثان صحيحان فلا بد من التوفيق بينهما فنقول الرقبي قد تكون من الأرقاب وقد تكون من الترقب حيث قال أجاز الرقبي يعني إذا كان من الأقارب بأن يقول رقبة داري لك وحيث قال رد الرقبي إذا كان من الترقب وهو أن يقول أراقب موتك فراقب موتي فإن مت فهي لك وإن مت فهي لي فيكون هذا تعليق التمليك بالخطر وهو موت المملك قبله وذلك باطل ثم لما احتمل المعنيان جميعا والملك لذي اليد فيها يقينا فلا يزيله بالشك وإنما يكون قوله داري لك تمليكا إذا لم يفسر هذه الإضافة بشيء أما إذا فسرها بقوله رقبي أو حبيس يتبين أنه ليس بتمليك كما لو قال داري لك سكنى تكون عارية وهذا لأن الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير.
قال: رجل قال لرجلين عبدي هذا لأطولكما حياة أو حبيس على أطولكما حياة فهذا(12/158)
ص -79- ... باطل لأنه لا يراد بهذا اللفظ طول الحياة فيما مضى حتى لو كان أحدهما شابا والآخر شيخا لا يتعين الشيخ بالتمليك منه بهذا اللفظ ولكن المراد طول الحياة في المستقبل معناه للذي يبقى منكما بعد موت الآخر فهو تعليق التمليك بالخطر وهو معنى الرقبي من حيث أنه يأمر كل واحد منهما أن يراقب موت صاحبه لتكون الدار له وذلك باطل والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الشهادة في الهبة
قال: وإذا شهد شاهدان على الهبة ومعاينة القبض جازت الهبة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة والهبة مع القبض سبب ملك تام وإن شهدا على إقرار الواهب بالقبض وهو يجحده لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة الأول ثم رجع فقال الشهادة جائزة وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى والصدقة والرهن على الخلاف أيضا وجه قوله الأول أن تمام هذه العقود بقبض يوجد وهو فعل لا قول والإقرار يحتمل الصدق والكذب والمخبر به إذا كان كذبا فبالأخبار لا يصير صدقا وما لم يكن موجودا من القبض فبإقراره لا يصير موجودا فظهر أن هذه الشهادة ليست بما هو سبب ملك تام. وجه قوله الآخر أن القبض في هذه العقود لا يكون أقوى من القتل والغصب ثم فعل القتل والغصب كما يثبت بالشهادة على معاينته يثبت بالشهادة على الإقرار به وهذا لأن الثابت من الإقرار بالبينة كالمسموع من المقر في مجلس الحكم ولو أقر الخصم بأنه وهبه وسلمه إليه قضي بالملك له فكذلك إذا ثبت إقراره بالبينة.(12/159)
قال: وإن كان العبد في يد الموهوب له فشهد على إقرار الواهب بالهبة والقبض جازت الشهادة كما لو سمع القاضي إقراره بذلك وكذلك إن كان العبد في يد الواهب فأقر عند القاضي أنه وهبه منه وسلمه إليه أخذ بإقراره" لأن كون العبد في يده لا ينافي ما أقربه من الهبة وقبض الموهوب والمقر يعامل في حق نفسه كأن ما أقر به حق وفرق أبو حنيفة على القول الأول بين ما إذا أقر بنفسه وبين ما إذا شهد الشهود على إقراره لأن الإقرار موجب بنفسه من غير قضاء والشهادة لا توجب إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي إلا أن يشهدوا بسبب ملك تام
قال: وإذا استودع الرجل رجلا وديعة ثم وهبها له ثم جحده فشهد بذلك عليه شاهدان ولم يشهدا بالقبض فهو جائز لأن العقد يثبت بالبينة وقبضه معلوم بالمعاينة فيتم به سبب الملك.
قال: فإن جحد الواهب أن تكون في يده يومئذ وقد شهد الشهود على الهبة ولم يشهدوا على معاينة القبض ولا على إقرار الواهب والهبة في يد الموهوب له يوم تخاصم إلى القاضي فذلك جائز إذا كان الواهب حياً لأنه في الحال قابض وقد أثبت عقده بالبينة فيجعل قبضه صادرا عن ذلك العقد لأن القبض حكم العقد أو متمم للعقد الذي هو سبب الملك والثابت من العقد بالبينة كالثابت معاينة فكما يجعل القبض هناك متمما للسبب فكذلك هنا ولكن هذا إذا(12/160)
ص -80- ... كان الواهب حيا فإن كان ميتا فشهادتهما باطلة لأن الملك في الحال للوارث فلا يكون إثبات العقد على الواهب بعد موته سببا للملك ألا ترى أنه ما دام الواهب حيا إذا قبض الموهوب بإذنه تتم الهبة ويملكه بعد موته لا يملكه بالقبض وإن كان قد أذن له في ذلك إلا أن يشهدا على أنها كانت في يده في حياة الواهب أو على إقرار الواهب بذلك فحينئذ يثبت الملك للموهوب له لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
قال: رجل وهب لرجل عبدا وقبضه الموهوب له ثم جاء رجل وأقام البينة أنه كان اشتراه من الواهب قبل الهبة والقبض أبطلت الهبة لأنه أثبت الشراء من المالك والشراء يوجب الملك بنفسه فتبين به أنه وهب وسلم ما لا يملك.
قال: فإن شهدوا على الشراء ولم يذكروا أنه كان قبل الهبة فهو للموهوب له لأنه في يده والاستحقاق له ثابت باعتبار يده وليس في هذه الهبة ما يوجب الاستحقاق عليه لأن شراءه محتمل فإنه لو كان قبل الهبة ثبت استحقاقه وإن كان بعد الهبة لا يثبت وبالاحتمال لا يثبت الاستحقاق. وكذلك إن أرخ شهود الشراء شهرا أو سنة لأن اليد للموهوب له معاين وهو دليل سبق عقده فإن تمكنه من القبض دليل يدل على ذلك والتاريخ في حق الآخر مشهود به وليس الخبر كالمعاينة. فإن كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب له البينة أنه وهبه له وقبضه قبل الشراء وأقام المشتري البينة أنه اشتراه قبل الهبة وقبضه فالعبد لصاحب الشراء لأن سبب ملكه أقوى من حيث أن الشراء يوجب الملك بنفسه وأنه عقد ضمان وأنه يوجب الملك في البدلين وعند المعاوضة يترجح أقوى السببين فإن الضعيف مدفوع بالقوي ولا يظهر عند المقابلة بالقوى.(12/161)
قال: رجل وهب لرجل متاعا ثم قال إنما كنت استودعتك فالقول قول صاحب المتاع مع اليمين لأن المستودع يدعي تملك العين عليه بسبب وهو منكر فعليه أن يثبت السبب بالبينة والقول قول المنكر مع اليمين فإذا حلف أخذ المتاع وإن وجده هالكا فإن كان قد هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فهو ضامن للقيمة لأنه بدعوى التملك بالهبة يكون جاحدا للوديعة والمودع يضمن الوديعة بالجحود ولأنه صار مفوتا لليد الحكمية التي كانت للمودع حين زعم أنه قابض لنفسه متملك فكان ضامنا القيمة لهذا.
فإن قيل: هذا أن لو ثبت الإيداع.
قلنا: لا حاجة إلى ذلك بقبض مال الغير لنفسه على وجه التملك موجب للضمان إلا أن يثبت تمليك من صاحبه إياه ولم يثبت ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الصدقة
قال: الصدقة بمنزلة الهبة في المشاع وغير المشاع وحاجتها إلى القبض وقد بينا اختلاف ابن أبي ليلى فيها إلا أنه لا رجوع في الصدقة إذا تمت لأن المقصود بها نيل الثواب وقد حصل وإنما الرجوع عند تمكن الخلل فيما هو المقصود ويستوي إن تصدق على غني أو(12/162)
ص -81- ... فقير في أنه لا رجوع له فيها ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول الصدقة على الغني والهبة سواء إنما يقصد به العوض دون الثواب ألا ترى أن في حق الفقير جعل الهبة والصدقة سواء في أن المقصود الثواب فكذلك في حق الغني الهبة والصدقة سواء فيما هو المقصود ثم له أن يرجع في الهبة فكذلك في الصدقة ولكنا نقول ذكره لفظ الصدقة يدل على أنه لم يقصد العوض ومراعاة لفظه أولى من مراعاة حال المتملك ثم التصدق على الغني يكون قربة يستحق بها الثواب فقد يكون غنيا يملك نصابا وله عيال كثيرة والناس يتصدقون على مثل هذا لنيل الثواب ألا ترى أن عند اشتباه الحال يتأدى الواجب من الزكاة بالتصدق عليه ولا رهن ولا رجوع فيه بالاتفاق فكذلك عند العلم بحاله لا يثبت له حق الرجوع عليه؟.(12/163)
قال: رجل تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه والمتصدق وارثه فورثه تلك الصدقة فلا بأس عليه فيها" بلغنا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا تصدق بصدقة ثم مات المتصدق عليه فورثه النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الصدقة والحديث فيه ما روى أن طلحة رضي الله تعالى عنه تصدق على أمه بحديقة ثم ماتت قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك" وفي المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا بخمسة" وذكر من جملتها رجلا تصدق بصدقة ثم مات المتصدق عليه فورث تلك الصدقة قال: رجل قال في صحته جعلت غلة داري هذه صدقة للمساكين ثم مات أو قال داري هذه صدقة في المساكين ثم مات قال هي ميراث عنه لأنها صدقة لم تتصل بهذا القبض ولأن هذا اللفظ منه بمنزلة النذر سواء التزم الصدقة بعينها أو بغلتها والمنذور لا يزول عن ملكه قبل تنفيذ الصدقة فيه وإنما عليه الوفاء بنذره حقا لله تعالى ولهذا يفتي به ولا يجبر عليه في الحكم ومثله لا يمنع الإرث فلا يبقى بعد الموت وإن كان حيا وتصدق بقيمتها أجزأه لأن ما لزمه من التصدق في عين مال بالتزامه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وهو الزكاة والواجب هناك يتأدى بالقيمة كما يتأدى بالعين فهذا مثله لأن المقصود في حق المتصدق عليه إغناؤه وسد خلته.(12/164)
قال: فإن قال جميع ما أملك صدقة في المساكين فعليه أن يتصدق بجميع ما يملك من الصامت وأموال السوائم وأموال الزكاة ولا يتصدق بالعقار والرقيق وغير ذلك استحساناً وفي القياس عليه أن يتصدق بجميع ذلك وهو قول زفر رحمه الله تعالى وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن في قوله جميع ما أملك يتصدق بالكل قياسا واستحسانا وإنما القياس والاستحسان في قوله مالي صدقة أو جميع مالي صدقة والأصح أنهما سواء وجه القياس أن اسم الملك حقيقة لكل مملوك له واسم المال لكل ما يتموله الإنسان ومال الزكاة في ذلك وغير مال الزكاة سواء ألا ترى أن في الإرث والوصية بالمال يستوي فيه ذلك كله وهذا لأن اللفظ معمول به في حقيقته ما أمكن ولكنه استحسن فقال إنما ذكر المال والملك عند ذكر الصدقة فيختص بمال الزكاة بدليل شرعي وهو أن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليه والله تعالى أوجب الحق في المال ولذلك يختص بمال الزكاة فكذلك ما(12/165)
ص -82- ... يوجبه على نفسه بخلاف الوصية وهذا لأن الصدقة شرعا إنما تكون عن غنى قال صلى الله عليه وسلم "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" والغني شرعا يختص بمال الزكاة حتى لا يكون مالك العقار والرقيق لغير التجارة غنيا شرعا فلهذا الدليل تركنا اعتبار حقيقة اللفظ وأوجبنا عليه التصدق بمال الزكاة وبخلاف الوصية والميراث فإن ذلك خلافه والحاجة إليه في مال الزكاة وغير مال الزكاة سواء ثم يمسك من ذلك قوته فإذا أصاب شيئا بعد ذلك تصدق بما أمسك لأن حاجته في هذا القدر مقدمة إذ لو لم يمسك احتاج أن يسأل الناس ولا يحسن أن يتصدق بماله ثم يسأل الناس من ساعته ولم يبين في الكتاب مقدار ما يمسك لأن ذلك يختلف بقلة عياله وكثرة عياله وقيل إن كان محترفا فإنما يمسك قوت يوم وإن كان صاحب غلة أمسك قوت شهر وإن كان صاحب ضياع أمسك قوت سنة لأن يد الدهقان إلى ما ينفق إنما تتصل سنة فسنة ويد صاحب الغلة شهرا فشهرا ويد العامل يوما فيوماً.
قال: رجل وهب للمساكين هبة ودفعها إليهم لم يرجع فيها استحسانا وفي القياس يرجع لأنه ملكه بطريق الهبة وفي أسباب الملك الغني والفقير سواء كالبيع وغيره ووجه الاستحسان أن قصده بالهبة من الفقير الثواب دون العوض إذ لو كان قصده العوض لاختار للهبة من يكون أقدر على أداء العوض ولما اختار الفقير مع عجزه عن أداء العوض عرفنا أن مقصوده الثواب وقد نال ذلك.
قال: وكذلك إن أعطى سائلا أو محتاجا على وجه الحاجة. فإن العطية بمنزلة الهبة وإنما قصده بفعله سد خلة المحتاج وذلك يفعل لابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل ثوابه وهو معنى ما روي عن عمر رضي الله عنه من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة لم يكن له أن يرجع فيها.(12/166)
قال: رجل جعل في داره مسجدا يصلي فيه الناس ثم مات قال هو ميراث لورثته لأنه لم يميزه عن ملكه فيكون هذا بمعنى صدقة المشاع ثم الأصل في المساجد المسجد الحرام وهذا ليس في معنى ذلك لأن ذلك يدخله من شاء من كل جانب وهذا ملكه محيط بكل جانب منه فلا يتمكن أحد من الدخول فيه بغير إذنه فإن كان أخرجه من داره وعزله وجعله مسجدا وأظهره للناس ثم مات فهو مسجد لا يورث وقد بينا تمام هذا الفصل في كتاب الوقف. قال: وإن بنى على منزله مسجدا وسكن أسفله أو جعله سردابا ثم مات فهو ميراث وكذلك إن جعل أسفله مسجدا وفوقه مسكنا لأن المسجد ما يحرز أصله عن ملك العباد وانتفاعهم به على قياس المسجد الحرام وذلك غير موجود فيما اتخذه حين استثنى العلو أو السفل لمنفعة نفسه وعن محمد قال إن جعل السفل مسجدا جاز وإن جعل العلو مسجدا دون السفل لا يجوز لأن المسجد ماله قرار وتأبيد وذلك في السفل دون العلو وعن الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أنه إذا دخل العلو مسجدا والسفل مستغلا للمسجد فهذا يجوز استحسانا وعن أبي يوسف أن ذلك كله جائز رجع إليه حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل(12/167)
ص -83- ... بأهلها فجوز أن يجعل العلو مسجدا دون السفل والسفل دون العلو وهو مستقيم على أصله وقد بينا أنه يوسع في الوقف فكذلك في المسجد.
قال: رجل وهب لمسكين درهما وسماه هبة ونواه من زكاته أجزأه" لما بينا أن في حق المسكين لفظة الهبة كلفظة الصدقة ولأنه لا معتبر باللفظ في أداءالزكاة إنما المعتبر الإعطاء بنية الزكاة ألا ترى أنه لو أعطاه ولم يتكلم بشيء كان ذلك زكاة له فلا يتغير ذلك الحكم بذكر الهبة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب العطية
وإذا قال الرجل لغيره قد أعمرتك هذه الدار وسلمها إليه فهي هبة صحيحة لحديث بن الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها فمن أعمر عمري فهي للمعمر له ولورثته بعده" وروى سلمة عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمري للمعمر له ولعقبه بعده وقال عليه الصلاة والسلام: "من أعمر عمري قطع قوله حقه" يعني قطع قوله وهبت لك عمرك حقه في الرجوع بعد موته والمعنى فيه أنه ملكه في الحال والوارث يخلفه في ملكه بعد موته فشرط الرجوع إليه بعد الموت فاسد والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة.(12/168)
قال: وكذلك لو قال نحلتك هذا الثوب أو أعطيتك هذا الثوب عطية فهذه عبارات عن تمليك العين بطريق التبرع وذلك يكون هبة" وكذلك لو قال قد كسوتك هذا الثوب فإن هذا اللفظ لتمليك العين بدليل قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فالكفارة لا تتأدى إلا بتمليك الثوب من المسكين ويقال في العرف كسا الأمير فلانا أي ملكه وإن قال حملتك على هذه الدابة كانت عارية لأن الحمل على الدابة إركاب وهو تصرف في منافعها لا في عينها فتكون عارية إلا أن يقول صاحب الدابة أردت الهبة لأن هذا اللفظ قد يذكر للتمليك يقال حمل الأمير فلانا على فرسه أي ملكه فإذا نوى ما يحتمله لفظه وفيه تشديد عليه عملت نيته وكذلك لو قال قد أخدمتك هذه الجارية فهي عارية لأن معناه مكنتك من أن تستخدمها وذلك تصرف في منافعها لا في عينها وإن قال قد منحتك هذه الجارية أو هذه الأرض فهي عارية لأن المنحة بدل المنفعة بغير بدل قال صلى الله عليه وسلم: "المنحة مردودة والعارية مؤداة" فيكون معنى كلامه جعلت لك منفعة هذه العين وهو نفس العارية فإن قال قد أطعمتك هذه الأرض فإنما أطعمه غلتها والرقبي لصاحبها لأن عينها لا تطعم فمعناه أطعمتك ما يحصل منها فيكون تمليكا لمنفعة الأرض دون عينها وله أن يأخذها متى شاء يعني إذا كانت فارغة فأما بعد الزراعة إذا أراد أن يستردها فإن رضي المستعير بأن يقلع زرعها ويردها فله ذلك وإن أبى تركت في يده بأجرة مثلها إلى وقت إدراك الغلة لأنه محق في زراعتهما غير متعد فلا بد من مراعاة حقه بخلاف الغاصب وإنما يعتدل النظر من الجانبين بأن تترك في يده بأجر إلى إدراك الغلة وإن قال قد أطعمتك هذا الطعام فاقبضه فقبضه فهذه هبة لأن عين الطعام تطعم فإضافة لفظة الإطعام إلى ما(12/169)
ص -84- ... يطعم عينه يكون تصرفا في العين تمليكا بغير عوض وذلك يكون هبة وكذلك لو قال جعلت هذه الدار لك فاقبضها لأن معنى كلامه ملكتك هذه الدار ألا ترى أن في التمليك ببدل لا فرق بين لفظ الجعل والتمليك فكذلك في التمليك بغير بدل فإن قال داري لك عمري سكنى فهذه عارية لأن قوله سكنى تفسير لقوله عمري والكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم للتفسير وبيان هذا وهو أن قوله لك عمري يحتمل تمليك عينها منه عمره ويحتمل تمليك منفعتها فكان قوله سكنى تفسيرا أي لك سكناها عمرك وكذلك قوله نحلي سكني وقوله هبة سكنى أو سكنى هبة أو سكنى صدقة فهذا كله عارية لما بينا أن قوله سكنى تفسير للمحمل من كلامه ألا ترى أنه لو قال هي لك فاقبضها كانت هبة ولو قال هي لك سكنى كانت عارية وجعل قوله سكنى تفسيرا وكذلك إذا زاد لفظه العمري والهبة والصدقة وإن قال هي لك هبة عارية أو هي عارية هبة فهي عارية قدم لفظة الهبة أو أخرها لأنه محتمل لجواز أن يكون مراده هبة العين ويجوز أن يكون مراده هبة المنفعة وقوله عارية تفسير لذلك المبهم لأنه في نفسه محكم لا يتناول إلا المنفعة فسواء قدمه أو أخره فالحكم له وأن قال هي لك هبة إجارة كل شهر بدرهم أو إجارة هبة فهي إجارة في الوجهين لأن لفظة الإجارة في حق المحل محكم فإنه لا يتناول إلا المنفعة ولفظة الهبة تحتمل تناول العين تارة والمنفعة تارة أخرى فكان الحكم للفظ المحكم قدمه أو أخره وتمليك المنفعة ببدل معلوم إلى مدة معلومة تكون إجارة وإن قال داري هذه لك عمري تسكنها وسلمها إليه فهي هبة لأن قوله تسكنها ليس بتفسير لقوله عمري فالفعل لا يصلح تفسيرا للاسم ولكنه مشورة أشار عليه في ملكه فإن شاء قبل مشورته وسكنها وإن شاء لم يقبل وهو بيان لمقصوده أنه ملكه الدار عمره ليسكنها وهذا معلوم وإن لم يذكره فلا يتغير به حكم التمليك بمنزلة قوله هذا الطعام لك تأكله أو هذا الثوب لك تلبسه.(12/170)
قال: وإن قال وهبت لك العبد حياتك وحياته وقبضه فهي هبة جائزة لأنه ملكه في الحال بقوله وهبت لك وقوله حياتك وحياته فضل من الكلام غير محتاج إليه فكان لغوا أو فيه إيهام شرط الرجوع إليه بعد موته وقد بينا أن هذا الشرط باطل وكذلك لو قال أعمرتك داري هذه حياتك أو أعطيتها حياتك أو وهبت لك هذا العبد حياتك فإذا مت فهي لي وإذا مت أنا فهي لورثتي فهذا كله تمليك صحيح في الحال وشرط الرجوع إليه أو إلى الورثة باطل وكذلك لو قال هي هبة لك ولعقبك بعدك لأنه ملك العين بأول كلامه وذكر العقب لغو واشتغال بما لا يفيد فهو يعلم أن عقبة من ورثته يخلفه في ملكه وإن قال اسكنتك داري هذه حياتك ولعقبك من بعدك فهذه عارية لأنه صرح بلفظ الإسكان وهو تصرف في المنفعة دون العين وقوله لعقبك بعدك عطف والعطف للإشتراك فمعناه سكناها لعقبك من بعدك فهي هبة له وذكر العقب لغو لأن قوله هي لك تمليك لعينها منه وبعد ما هلك عنها منه لا يبقى له ولاية إيجابها لغيره فكان قوله ولعقبك من بعدك لغو بخلاف الأول فإن بعد ايجاب المنفعة له(12/171)
ص -85- ... بطريق العارية يبقى له ولاية الإيجاب لغيره فكان كلامه عارية في حقه وفي حق عقبه بعده وله أن يأخذها متى شاء قال: رجل وهب لرجل عبدا على أن يعتقه ويسلمه إليه فالهبة جائزة والشرط باطل" لأن شرط العتق عليه بعد تمام ملكه في الموهوب باطل ولكن الهبة لا تبطل بالشرط كما قلنا. قال: رجل وهب لرجل عبدا مريضا به جرح فداواه الموهوب له فبرأ لم يكن للواهب أن يرجع فيه للزيادة الحاصلة في العين عند الموهوب له وكذلك لو كان أصم أو أعمى فسمع وأبصر لأنه زوال للعين فزوا له يكون بوجود ذلك الجزء والزيادة في العين تمنع الرجوع كما لو كان مهر ولم يسم. قال: مريض وهب عبده لرجل ولا مال له غيره فتبعه الموهوب له فأعتقه أو باعه ثم مات من مرضه أو فعل ذلك بعد موت المريض قبل أن يقضي القاضي فيه بشيء فعتقه وبيعه جائز" لأن تصرف المريض إذا كان على وجه يحتمل النقض بعد صحته فحكم بصحته في الحال لوجود العلة المطلقة للتصرف وهو الملك وكون المانع محتملا لأن المانع مرض الموت وهو ما يتصل به الموت ولا يدري أن مرضه هذا يتصل به الموت أم لا والموهوم لا يعارض المتحقق فحكم بنفوذ تصرفه لهذا وثبت الملك للموهوب له بالقبض وإنما تصرف في ملكه بالبيع والعتق وكذلك إن كان تصرفه بعد موت المريض لأن أكثر ما فيه أن الهبة فكت بموته في البعض أو في الكل وفساد السبب لا يمنع ابتداء الملك عند القبض فلا يمنع بقاءه بطريق الأولى إلا أن يقضي القاضي عليه بالرد لاستغراق تركة الميت بالعين فحينئذ يبطل ملكه بقضاء القاضي ولا ينفذ تصرفه بعد ذلك فأما قبل ذلك إذا نفذ تصرفه فهو ضامن قيمة العبد إذا كان على الميت دين مستغرق لتركته لأن الهبة في المرض وصية فيتأخر عن الدين ولزمه رد العين لرد الوصية وقد تعذر رده بإخراجه إياه من ملكه فكان ضامنا قيمته وإن لم يكن عليه دين ولكن لا مال للميت سواه فقد بطلت الوصية في قدر الثلثين منه فيضمن ثلثي قيمته لورثة الميت وإن(12/172)
كان الموهوب له معسرا وقد كان أعتق العبد فلا سبيل لغرماء الواهب ولا لورثته على العبد لأن القيمة دين في ذمة الموهوب له لزمه باكتساب سببه وهو الإتلاف ودين الحر الصحيح في ذمته لا تعلق له بملكه وإنما يجب على العبد السعاية بعد العتق في دين كان تعلق بماليته قبل العتق فإن كان الموهوب له أعتقه وهو مريض ثم مات ولا مال له غيره وعليه دين فعلى العبد السعاية في قيمته لأن عتق الموهوب له إياه في مرضه وصية فيجب ردها للدين المستغرق عليه وقد تعذر رد الرقبة بالعتق فيجب عليه السعاية في قيمته وتكون تلك القيمة بين غرماء الموهوب له وغرماء الواهب يضرب فيه غرماء الموهوب له بديونهم وغرماء الواهب بقيمة العبد لا بديونهم لأن تلك القيمة تركة الموهوب فيقسم بين غرمائه بحسب ديونهم عليه ودين غرماء الموهوب له كان عليه فأما دين غرماء الواهب أصله كان على الواهب وإنما استوجبوا على الموهوب له مقدار قيمة العبد لاتلاف مالية الرقبة عليهم فلهذا ضربوا بقيمة العبد وتعلق حق الفريقين بمالية العبد لأن باعتبار مرض الموت له فلهذا لا يقدم إحداهما على الآخر.(12/173)
ص -86- ... قال: رجل وهب لرجل عبدا وسلمه فدبره فليس للواهب أن يرجع فيه" لأن بالتدبير يجب له حق العتق على وجه لا يمكن نقله من ملك إلى ملك بعد ذلك فاعتبر ذلك بحقيقة العتق في المنع من الرجوع وإن كاتبه ثم عجز فرد رقيقا فله أن يرجع فيه لأنه عاد قنا كما كان وقد بينا أن بالكتابة لا يبطل حق الرجوع بل يتعذر لمعنى في المحل فإذا زال ذلك صار كأن لم يكن وإن جنى العبد على الموهوب له فللواهب أن يرجع فيه والجناية باطلة لأنه حين جنى كان مملوكا للموهوب له وجناية المملوك على مالكه فيما يوجب المال تكون هدرا وبالرجوع لا يتبين أنه لم يكن مملوكا له حين جنى فالرجوع من وجه ينهي الملك المستفاد بالهبة ألا ترى أنه لو وطئها الموهوب له ثم رجع فيها الواهب فلا عقر على الموهوب له بعد رجوع الواهب فيها وإن كان الولد سلم للموهوب له بعد رجوع الواهب فيها فكذلك لا تعتبر جنايته عليه بعد رجوع الواهب وكذلك لو أبق العبد عند الموهوب له فرده راد فللواهب أن يرجع فيه لأن الإباق عيب والنقصان لا يمنع الرجوع في الهبة والجعل على الموهوب له لأنه رد عليه ملكه وإنما يستوجب الجعل بإحياء الملك بالرد فإذا أحياه ملك الموهوب له كان الجعل عليه قال: رجل وهب لرجل شجرة بأصلها فقطعها فله أن يرجع فيها قال أبو عصمة هذا غلط إلا أن يريد بقوله "بأصلها" بعروقها ويأذن له في قطعها" لأن اتصال الموهوب بما ليس بموهوب في ملك الواهب في معنى الشيوع فلا تتم الهبة إلا بعد القطع وإذا تمت الهبة فيها وهي مقطوعة فله أن يرجع فيها فأما إذا كان المراد بقوله بأصلها بعروقها من الأرض وذلك معلوم مميز فالهبة تمت في الحال ثم القطع بعد ذلك يجعل الشجرة في حكم شيء آخر لأنها كانت نامية وقد صارت حطبا فليس له أن يرجع فيها ألا ترى أنه قال لو قطعها فجعلها أبوابا أو جذوعا لم يكن له أن يرجع فيها إذا عمل فيها شيئا قل أو كثر لأنها الآن ليست بشجرة كما وهبها له وله أن يرجع في(12/174)
موضعها من الأرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن مجرد القطع في الشجرة نقصان وإن كان يزيد في ماليتها فهو باعتبار رغائب الناس فيه بمنزلة الذبح في الشاة والنقصان في الموهوب لا يمنعه من الرجوع بخلاف ما إذا جعلها أبوابا أو جزوعا فذلك زيادة صفة حادثة في الموهوب بفعل الموهوب له فيمنعه من الرجوع فيها قال:ولو وهبها له بغير أصلها وأذن له في قبضها فقطعها وقبضها كان له أن يرجع فيها لأن الهبة جازت وهي مقطوعة وفي الباب الأول جاز بالهبة وهي شجرة وهذا إشارة إلى ما ذكره أبو عصمة أنه بعد القطع لا يكون له أن يرجع فيها إذا تمت الهبة قبل القطع وإنما يرجع فيها إذا كان تمام الهبة بعد القطع قال وإن وهب له ثمرة في نخل وأذن له في قبضها كان له أن يرجع فيها لما بينا أن تمام الهبة إذا كان معرض الفصل.
قال: رجل وهب لرجل عبدا فجنى عبد الموهوب له جناية بلغت قيمته ففداه الموهوب له فللواهب أن يرجع في هبته لأن بالفداء يظهر عن الجناية وعاد كما كان قبل الجناية ولم يتمكن في عينه زيادة فكان للواهب أن يرجع فيه ولا يرد على الموهوب له شيئا من الفداء،(12/175)
ص -87- ... لأنه فدى ملكه باختياره وقد بينا أن بالرجوع ينتهي ملكه المستفاد بالهبة وإن رجع قبل أن يفديه كانت الجناية في عتق العبد يدفعه الواهب بها أو يفديه لأن المستحق بالجناية نفس العبد واستحقاق نفسه بالجناية نقصان فيه فلا يمنع الواهب من الرجوع ثم برجوعه بقضاء القاضي ينعدم ملك الموهوب له بغير اختياره فلا يصير هو مستهلكا ولا مختارا ولكن الجناية تبقى في رقبة العبد فيخاطب مالكه بالدفع أو الفداء ومالكه الواهب في الحال فهو المخاطب بذلك كما لو مات مولى العبد الجاني فورثه وارثه قال: ولو وهبه ثوبا فشقه نصفين فخاط نصفا قباء ونصفه الآخر على حاله كان له أن يرجع في النصف الباقي لأن الشق نقصان في الثوب وخياطة القباء زيادة في النصف الذي حدثت الزيادة بفعله فيه تعذر الرجوع وقد بينا أن تعذر الرجوع في النصف لا يمنعه من الرجوع في النصف الباقي وإن قال وإن وهب له شاة فذبحها كان له أن يرجع فيها لأن الذبح نقصان في العين فإن عمله في إزهاق الحياة قال وإن ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف وقال محمد يرجع فيها وتجزئة الأضحية والمتعة للذابح ولم يذكر قول أبي حنيفة وقيل قوله كقول أبي يوسف أما محمد يقول ملك الموهوب له لم يزل عن عينها والذبح نقصان فيها فلا يمنع الرجوع فيما بقي كالشاة للقصاب وهذا لأن معنى القربة في نيته وفعله دون العين والموجود في العين قطع الحلقوم والأوداج سواء كان على نية اللحم أو نية القربة والذي حدث في العين أنه تعلق به حكم الشرع من حيث التصدق به وذلك لا يمنع الرجوع كرجوع الزكاة في المال الموهوب في يد الموهوب له بل أولى لأن التصدق هنا ليس بمتحتم حتى يكون له أن يأكله ويطعم من شاء من الأغنياء بخلاف الزكاة وأبو يوسف يقول في التضحية جعلها الله تعالى خالصا وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه بعد ذلك كما لو كان الموهوب له أرضا فجعلها مسجدا وبيان قولنا أن في(12/176)
التقرب بإراقة الدم وقد حصل ذلك ألا ترى أنه لو سرق المذبوح أو هلك كان مجزئا عنه وإباحة التناول منه بإذن من له الحق بقوله تعاليا افطرا منها ألا ترى أنه يجوز له أن يتصرف فيها على غير الوجه المأذون فيه وهو بطريق التجارة ويمنع من ذلك ولو فعله كان ضامنا فعرفنا أنه تم معنى التقرب به فيكون نظير هذا من الزكاة ما إذا أداه إلى الفقير بنية الزكاة وليس للواهب أن يرجع فيه بعد ذلك وهذا الفعل في صورة ذبح شاة القصاب ولكن في المعنى والحكم غيره ولا تعتبر الصور ألا ترى أن الذبح يتحقق من المسلم والمجوسي والتضحية لا تتحقق إلا ممن هو أهل فعرفنا أنه في المعنى غير الذبح ثم عند محمد برجوع الواهب لا تبطل التضحية لأن رجوعه في القائم دون ما يلاشى منه وقد بينا أن الرجوع ينهي ملك الموهوب له فإنما انعدم ملكه بغير اختياره وهو في حق نظير ما لو هلك بعد الذبح. قال: رجل وهب لرجل درهما فقبضه الموهوب له وجعله صدقة لله تعالى فللواهب أن يرجع فيه ما لم يقبضه المتصدق عليه" لأنه التزم فيه الصدقة بنذره فلا يكون ذلك أقوى من وجوب الصدقة عليه فيه بإيجاب الله(12/177)
ص -88- ... تعالى وهو الزكاة وذلك لا يمنعه من الرجوع وهذا لأن قبض المتصدق عليه لا يتم معنى العبادة والتقرب فيه وكذلك لو وهب له ناقة فجعلها الموهوب له بدنة وقلدها فللواهب أن يرجع فيها قبل أن ينحرها الموهوب له وفرق أبو يوسف بين هذا والأول فقال بالتقليد رأيتم جعلها لله تعالى ألا ترى أنه لو قلدها عن هدى واجب فهلكت قبل أن ينحرها فإنه عليه أخرى بخلاف ما بعد النحر وإن وهب له أجزاعا فكسرها وجعلها حطبا فله أن يرجع فيها لأن هذا نقصان في العين وإن كان يزيد في المالية فذلك بزيادة رغائب الناس فيه لا لمعنى في العين فلهذا كان له أن يرجع فيها.
وكذلك لو وهب له لبنها فجعله طينا فهذا نقصان فإن أعاده لبنا لم يرجع فيها لأن هذا اللبن حادث بفعله أو ضرب اللبن من الطين زيادة في عينه فإذا كان حادثا في يد الموهوب له منع ذلك الواهب من الرجوع وإن وهب له نجيحا فجعله خلا لم يرجع فيه لأن مالية الخل غير مالية النجيح وهذه مالية حدثت بصنعة حادثة في العين في يد الموهوب له وإن وهب له سيفا فجعله سكاكين أو سكينا لم يكن له أن يرجع فيه لأن السكين غير السيف.(12/178)
وكذلك إن كسره فجعل منه سيفا آخر لأن هذا الثاني حادث بعلمه ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان ضامنا قيمة السيف المغصوب منه ويجعل ما ضربه له قال: وإن وهب له دارا فبناها على غير ذلك البناء وترك بعضها على حالها لم يكن له أن يرجع في شيء منها" لأن ما زاد في البناء في جانب منها يكون زيادة في جميعها كما في الأرض إذا بنى في ناحية منها قال وإن وهب له حماما فجعله مسكنا أو وهب له شيئا فجعله حماما فإن كان البناء على حاله لم يزد فيه شيء فله أن يرجع فيه لأن تصرفه في المنفعة دون العين والمانع من الرجوع زيادة في العين وإن كان زاد عليه بناء أو غلق عليه بابا أو جصصه أو أصلحه أو جعله بصاروج أو طنية فليس له أن يرجع فيه لأن هذا كله زيادة في عينها قال: مريض وهب لصحيح عبدا يساوي ألفا ولا مال له غيره فعوضه الصحيح منه عوضا وقبضه المريض ثم مات والعوض عنده فإن كان العوض مثل ثلثي قيمة العبد أو أكثر فالهبة ماضية لأن العوض المقبوض بمنزلة المشروط أو أقوى والثلث منه كان من خالص حقه والثلثان حق الورثة فإذا كان العوض مثل ثلثي قيمة العبد عرفنا أنه لم يبطل شيئا من حق الورثة بتصرفه وإنما تصرف فيما هو خالص حقه فكانت الهبة ماضية وإن كانت قيمته قيمة العوض نصف قيمة الهبة يرجع ورثة الواهب في سدس الهبة لأن حقهم في ثلثي العبد وقد وصل إليهم من العوض بقدر مالية نصف العبد فإنما تبقى لإتمام حقهم سدس العبد فلهذا يرجع الوارث بسدس الهبة وإن كان العوض شرطا في أصل الهبة فإن شاء الموهوب له رد الهبة كلها وأخذ العوض وإن شاء رد سدس الهبة وأمسك الباقي لأنه ما رضي بسقوط حقه عن عوضه إلا بأن يسلم له جميع الموهوب ولم يسلم ولأن التبعيض في الملك المجتمع عيب فاستحقاق جزء من العبد وإن قل بتعيب ما بقي منه وحق الرد بالعيب ثابت بعد التقابض إذا كان العوض مشروطا لأن الهبة بشرط العوض تصير بيعاً(12/179)
ص -89- ... بالقياس فلهذا ثبت له الخيارفي رد ما بقي فإذا لم يكن العوض مشروطا فإنه لا يصير معاوضة بالتقابض في حكم الرد بالعيب فيرد سدس الهبة ولا يكون له أن يسترد العوض لأن ملكه على سبيل الهبة وقد مات الموهوب له فلا رجوع له فيه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب هبة المريض
قال: ولا يجوز هبة المريض ولا صدقته إلا مقبوضة فإذا قبضت جازت وقال ابن أبي ليلى تجوز غير مقبوضة لأنها وصية بدليل أنها تعتبر من الثلث فالوصية تتأكد بالموت قبضت أو لم تقبض ولا تبطل به فكذلك الهبة في المرض وهذا لأن المرض سبب الموت وجعل ما يباشره المريض في الحكم كالثابت بعد موته حتى لو طلق زوجته ثلاثا ورثته بمنزلة ما لو وقعت الفرقة بينهما بالموت فهذا مثله ولكنا نقول المعنى الذي له ولأجله لا تتم الهبة والصدقة من الصحيح إلا بالقبض موجود في حق المريض وهو أنه تمليك بعقد تبرع فيكون ضعيفا في نفسه لا يفيد حكمه حتى ينضم إليه ما يؤيده وهذا في حق المريض أظهر لأن تصرفه أضعف من تصرف الصحيح واعتباره من الثلث لا يدل على أنه غير ثابت في الحال ككفالته فإعتاقه وهذا بخلاف الوصية فإنها خلافة ثم الملك من ثمراتها والخلافة لا تكون إلا بعد الموت وهذا عقد تمليك لا يحتمل الإضافة فإذا لم يتفق قبل الموت تبطل بالموت كالبيع الموقوف إذا لم يتصل به الإجازة حتى مات أحدهما ولا يقول الطلاق يصير كالمضاف ولكن تقام العدة عند الموت مقام حقيقة النكاح أنها لحقها في ماله بعد تعلقه ولهذا اعتبرنا هبته من الثلث هنا وإن حق الوارث تعلق بثلثي ماله بمرضه فلإبقاء حقهم جعلنا هبته من الثلث قال فإن كانت الهبة دارا فقبضها ثم مات ولا مال له غيرها جازت الهبة في ثلثها ورد الثلثين إلى الورثة.(12/180)
وكذلك سائر ما يقسم وما لا يقسم إلا فيما لا ينقسم فلا إشكال وأما فيما يقسم فلأن الموهوب له ملك الكل بالقبض ثم بطل ملكه في الثلثين بعد موته إذا لم تجز الورثة فكان هذا شيوعا طاريا فيما بقي بخلاف ما إذا استحق نصف الدار فإنه يتبين أنه لا يملك المستحق بالقبض وقد بطل العقد فيه من الأصل فلو جاز في الباقي كان شائعا فيما يحتمل القسمة وذلك يمنع ابتداء الملك بالهبة.
قال: فإن كانت الهبة جارية فكاتبها الموهوب له ثم مات المريض ولا مال له غيرها فعلى الموهوب له ثلثا قيمتها للورثة ولا ترد الكتابة لأن الكتابة منه صحيحة لازمة لكونه مالكا لها حين كانت فما دامت باقية لا تحتمل النقل من ملك إلى ملك ولأن في رد ثلثها على الورثة إبطال الحق الثابت لها في نفسها وكسبها وذلك لا يجوز وإن تعذر رد عينها بسبب باشره الموهوب له كان ضامنا للورثة قيمة حصتهم منها كما لو كان أعتقها أو دبرها فإن قضى القاضي عليه بثلثي قيمتها ثم عجزت المكاتبة لم يكن للورثة عليها سبيل لأن القاضي قضى بالقيمة والسبب الموجب للقضاء به وهو العجز عن رد العين يتحقق فانتقل(12/181)
ص -90- ... حقهم إلى القيمة ثم لا يعود في العين بعد ذلك بزوال العجز كالمغصوب إذا عاد من إباقه بعد ما قضى القاضي بقيمته على الغاصب وإذا عجزت قبل القضاء أخذوا ثلثيها لأن المانع زوال قبل انتقال حقهم من عينها إلى محل آخر فهو كالمغصوب إذا عاد قبل قضاء القاضي بالقيمة وكذلك إن كاتبها بعد موت المريض "فالجواب" على ما تقدم ما لم يقض القاضي بثلثيها للورثة لأن ملك الموهوب له بأن ببقاء قبضه وإذا فسد السبب ما لم يقض القاضي عليه بالرد فإن قضي القاضي بذلك عاد الملك له في ثلثيها إلى الورثة بقضاء القاضي فإن أعتقها الموهوب له بعد ذلك فهو بمنزلة عتق أحد الشريكين الجارية المشتركة وقد بينا ذلك في كتاب العتق قال: مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له قال يسعى العبد في ثلثي قيمته لورثة الواهب" لأن عتق الموهوب له في مرض موته بمنزلة الوصية فيتأخر عن الدين وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له فإنه أتلف عليهم حقهم في ثلثي العبد بالإعتاق فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم وإنما بقي مال الموهوب له ثلث رقبته فسلم له بطريق الوصية ثلث هذا الثلث ويسعى في ثلثي هذا الثلث لورثة الموهوب له وكان جميع ما عليه السعاية في ثمانية أتساع قيمته وإنما يسلم له التسع وإن كان على الموهوب له دين ألف درهم وقيمة العبد ألف درهم سعى العبد في قيمته يضرب فيها غيرها الموهوب له بدينهم وورثة الواهب بثلثي قيمة العبد لأن دين الموهوب له محيط بتركته فعلى العبد السعاية في جميع القيمة لرد الوصية ثم هذه القيمة تركة الموهوب له فيضرب فيها غرماؤه بديونهم ودين ورثة الواهب عليه ثلثا قيمته ودين الغريم الآخر ألف فتقسم التركة بينهما بالحصة قال: مريض وهب لمريض عبدا وهو ثلث ماله وسلمه إليه ثم أن الموهوب له قتل الواهب في مرضه فالهبة مردودة إلى وارثه" لأن الهبة في المرض في حكم التنفيذ معتبر(12/182)
بالوصية ولهذا ينفذ من الثلث بعد الدين ولا وصية للقاتل عند عدم إجازة الورثة فكذلك الهبة في المرض وهذا لأن بطلان الوصية للقاتل لدفع المعاضلة عن الورثة حتى لا يزاحمهم قاتل أبيهم في مال أبيهم وهذا المعنى موجود فيما وهبه في مرضه قال رجل وهب لرجل عبدا في مرضه وقيمته ألف درهم وسلمه إليه ولا مال له غيره ثم أن العبد قتل الواهب يقال للموهوب له ادفعه أو افده لأن الموهوب له ملك العبد بالقبض فإنما جنى على الواهب ملكه وفي جناية المملوك خطأ على غير المالك يخاطب المالك بالدفع أو الفداء كما لو جنى على إنسان آخر ودليل تمام ملك الموهوب له أنها لو كانت جارية حل له وطؤها بعد الاستبراء فإن اختار الفداء فداؤه بعشرة آلاف لأن الفداء بأرش الجناية وهو دية النفس ثم بدل نفس الواهب بمنزلة مال خلفه حتى يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه فتبين أن ماله عند موته إحدى عشر ألفا وأن العبد خارج من ثلثه وزيادة فكانت الهبة صحيحة في جميعه وإن اختار الدفع دفعه ولا شيء عليه لأن المولى يتخلص عن عهدة الجناية بدفع الجاني ولم يبين كيفية الدفع هنا وإنما بين ذلك في كتاب الدور(12/183)
ص -91- ... فقال: يدفع نصفه إليهم على وجه رد الهبة ونصفه على وجه الدفع للجناية" لأن الهبة تجوز في نصف العبد وكان ينبغي أن يكون جواز الهبة في ثلث العبد لأنه لا مال للواهب سواه ولكن لضرورة الدور جوز الهبة في نصف العبد وبيان ذلك إنما يجعل العبد على ثلاثة أسهم وتجوز الهبة في سهم وتبطل في سهمين ثم يدفع الموهوب له هذا السهم بالجناية فيزداد مال الواهب ويجب بحسابه الزيادة في تنفيذ الهبة وإذا زدنا في تنفيذ الهبة يزداد ماله بالدفع بالجناية أيضا فلا يزال يدور هكذا وسهم الدور ساقط لأنه شاع بالفساد فالسبيل يقيد وإنما يطرح هذا السهم من قبل من خرج الدور من جهتهم وإنما الدور هناك بزيادة ظهرت في نصيب الورثة فالسبيل أن تطرح من أصل حقهم بينهما وحق الموهوب له في سهم وبه يظهر أن العبد يكون في الأصل على سهمين تنفذ الهبة في أحدهما وهو النصف ثم يدفع الموهوب له ذلك السهم بالجناية فسلم للورثة سهمان وقد نفذ بالوصية في سهم فاستقام الثلث والثلثان والعبد وإن كان واحدا في الصورة ففي الحكم صار بمنزلة عبد ونصف فكان تنفيذ الوصية في نصف العبد ولما بطلت الهبة في النصف بالرد سقط حكم الجناية فيه لأن جناية المملوك على مالكه خطأ واعتبر في النصف الآخر وقد دفعه المالك بالجناية فلهذا لا شيء عليه سواه قال: وإذا رجع الواهب في هبته والموهوب له مريض وقد كانت الهبة في الصحة فإن كان بقضاء قاض فالرجوع فيه صحيح ولا سبيل لغرماء الموهوب له وورثته بعد موته على الواهب لأن الواهب يستحقه بحق سابق له على حقهم وإن كان ذلك بغير قضاء قاض كان رد المريض لها حين طلب الواهب فيها بمنزلة هبة جديدة من المريض فيكون من الثلث إن لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين يحيط بماله أبطل ذلك الرجوع وردت الهبة إلى تركة الميت وقد تقدم بيان ما في هذه المسألة من اختلاف الروايات والقياس والاستحسان ووجهه أنه بالرد باختياره ورضاه قصد إبطال حق الغرماء والورثة(12/184)
عنه بعد تعلق حقهم به يوضحه أن حق الواهب في الرجوع ضعيف حتى يتمكن الموهوب له من إسقاطه بتصرفه فإذا اتصل قضاء القاضي به يقوي فيقدم على حق غرماء الموهوب له وورثته لقوته وإذا لم يتصل به القضاء يقدم حق الغرماء والورثة على حقه لقوة حقهم وضعف حق الواهب قال: مريض له عبد يساوي خمسة آلاف درهم وهبه لرجل وقبضه الموهوب له ولا مال له غيره ثم أن العبد قتل المريض خطأ فإنه يقال للموهوب له ادفعه أو افده" لما بينا أنه مالك للعبد حين جنى فإن اختار الدفع فقد بينا التخريج وإن اختار الفداء فداه بالدية وسلم له العبد كله لأن الدية بدل نفس الواهب بمنزلة مال خلفه فتبين به أن مال خمسة عشر ألفا وقيمة العبد خمسة آلاف فهو خارج من ثلثه فلهذا تنفذ الهبة في جميعه وإذا ظهر نفوذ الهبة في جميع العبد ظهر أن على الموهوب له دية كاملة للورثة باختياره فإن كان يساوي ستة آلاف درهم واختار الفداء فإنه يرد على ورثة الواهب ربعه ويفدي ما بقي بثلاثة أرباع الدية وذكر محمد في كتاب الدور طريقا في تخرج هذا الجنس من المسائل هو أسهل الطرق.(12/185)
ص -92- ... قال: ولو كان للواهب سوى ألفي درهم كانت الهبة صحيحة في جميع العبد" لأن اختيار الفداء يؤدى الدية عشرة آلاف درهم فيسلم ذلك للورثة مع الألفين فيكون اثني عشر ألفا وقد نفذ بالهبة في العبد وهو يساوي ستة آلاف فيسلم للورثة ضعف ما نفذنا فيه الهبة فإذا عدمنا الألفين تعذر علينا تنفيذ الهبة في جميع العبد فالسبيل أن يضم ما عدمنا وهو الألفان إلى قيمة العبد وهو ستة آلاف ثم يبطل من الهبة بقدر ما عدمنا وتجوز بقدر الموجود والذي عدمنا من الجملة مقدار الربع فتبطل الهبة في ربع العبد ويجوز هنا وقيمة ذلك أربعة آلاف وخمسمائة ثم يفدي ذلك بثلاثة أرباع الدية وذلك سبعة آلاف وخمسمائة فيسلم ذلك للورثة مع ربع العبد وقيمته ألف وخمسمائة وجملة ذلك تسعة آلاف وقد نفذنا الهبة في نصف ذلك أربعة آلاف وخمسمائة فيستقيم الثلث والثلثان فهذا طريق ظاهر من غير دور فأما بيان طريق الدور أن العبد في الابتداء على ثلاثة أسهم صحت الهبة في سهم منه ثم على الموهوب له أن يفدي السهم بمثله ومثل ثلثيه فعرفنا أن كل سهم من العبد يقابله من الدية مثله ومثل ثلثيه فإذا فداه بسهم وثلثين ازداد مال الورثة وجاء الدور من الوجه الذي قررنا فالسبيل أن يطرح من أصل حق الورثة مقدار الزيادة وهو سهم وثلثا سهم وقد كان حقهم في سهمين فإذا طرحنا سهما وثلثي سهم بقي حقهم في ثلث سهم وحق الموهوب له في سهم فيكون العبد على سهم وثلث انكسر بالإثلاث فأصرفه في ثلثه وسهم وثلث في ثلثه يكون أربعة فتبين أن العبد على أربعة أسهم وأن الهبة تنفذ في ثلاثة أرباعه فيقدر ذلك بثلاثة أرباع الدية ثم التخريج إلى آخره كما بينا وتخرج هذه المسألة على طريق الحساب من الجبر والمقابلة وغيرها ولكن يؤخر بيان ذلك إلى كتاب الدور وهذه المسألة وأخواتها تعود هناك إن شاء الله تعالى.(12/186)
قال: وأهل الذمة في حكم الهبة بمنزلة المسلمين لأنهم التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات إلا أنه لا يجوز المعاوضة بالخمر عن الهبة فيما بين المسلم والذمي سواء كان المسلم هو المعوض للخمر أو الذمي لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وهو ممنوع من تمليكه وتملكها فهي في حقه كالميتة والدم لا تصلح عوضا قال: وإن صارت الخمر خلا في يد القابض لم تصر معوضا ويرده إلى صاحبها" لأن تمليكها على وجه التعويض باطل فتثبت على ملك صاحبها فإذا تخللت كان الخل مملوكا له مردودا عليه وأصل التعويض لما بطل لا ينقلب صحيحا بالتخلل كما لو باع خمرا من إنسان فتخللت في يد المشتري وتجوز المعاوضة بالخمر والخنزير فيما بين الذميين كما يجوز ابتداء المبايعة لأن ذلك مال متقوم في حقهم ولا يجوز بالميتة والدم لأن ذلك ليس بمال في حقهم كما في حقنا وصحة التعويض تختص بمال متقوم قال: مسلم وهب لمرتد هبة فعوضه منها المرتد ثم قتل أو لحق بدار الحرب جازت الهبة ولم يجز تعويضه في قول أبي حنيفة" لأن التعويض تصرف من المرتد في ماله ومن أصل أبي حنيفة أن تصرف المرتد في ماله يبطل إذا قتل أو مات أو ألحق بدار(12/187)
ص -93- ... الحرب وأما هبة المسلم من المرتد صحيحة لأن قبول الهبة من المرتد ليس بتصرف في ماله والحجر بسبب الردة لا يكون فوق الحجر بسبب الرق وذلك لا يمنع قبول الهبة فهذا أولى إلا أنه إذا كان للواهب حق الرجوع في حال حياة الموهوب له وقد مات حقيقة أو حكما بلحاقه بدار الحرب فكانت الهبة جائزة وقد بطل التعويض وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعويضه صحيح كسائر تصرفاته إلا أن عند أبي يوسف يكون من جميع ماله وعند محمد من ثلثه بمنزلة سائر تصرفات المرتد على وجه التبرع فإن كان المرتد هو الواهب وقد عوضه الموهوب له من هبته ثم قتل أو لحق بدار الحرب فإنه يرد هبته إلى ورثته لأنه كان تصرفا منه في ماله وإذا كان تصرفه في ماله بيعا يبطل عنده إذا مات فتصرفه هبة أولى فترد هبته إلى ورثته ويرد عوضه إلى صاحبه إن كان قائما وإن كان قد استهلكه كان ذلك دينا في مال المرتد لأنه قبضه على وجه العوض ولم يسلم الموهوب للموهوب له فلا يسلم العوض له أيضا ولكن إن كان قائما رده على الموهوب له بعينه وإن كان مستهلكا فقد تعذر رده مع قيام السبب الموجب للرد فتجب قيمته دينا في ماله سواء كان الآخر علم بارتداده أو لم يعلم لأن حكم تصرف المرتد لا يختلف بعلم من عامله بردته وجهله فإن التوقف لحق الورثة وحقهم ثابت في الحالين قال: وإذا وهب المرتد للنصراني هبة أو النصراني للمرتد على أن عوضه عنها خمرا فذلك باطل" لأن المرتد في حكم التصرف في الخمر كالمسلم فإنه مجبر على العود إلى الإسلام غير مقر على ما اعتقده فيبطل تصرفه في الخمر تعويضا عن الهبة كما يبطل من المسلم قال وإذا وهب الحربي المستأمن هبة لمسلم أو وهبها له مسلم فقبضها ثم رجع إلى دار الحرب ثم عاد مستأمنا فلكل واحد منهما أن يرجع في هبته لبقاء الملك المستفاد بالهبة وبقاء العين على حاله فإن المستأمن وإن كان في دارنا صورة فهو في أهل دار الحرب حكما فلا يتبدل ملكه بالرجوع إلى دار(12/188)
الحرب وإن سبى وأخذت الهبة منه لم يكن للواهب أن يرجع فيها لزوال الملك المستفاد بالهبة فإن نفسه بالسبي قد تبدلت وخرج هو من أن يكون أهلا للملك والموهوب صار ملكا للسابي بمنزلة سائر أمواله إذا أخذه معه فلا سبيل للواهب عليه وإن حضر قبل القسمة لأنه إنما يتمكن من أخذ ما بقي ووقع الظهور عليه من ماله وهذا مال أزاله عن ملكه باختياره فلا يأخذه من الغنيمة وإن حضر قبل القسمة قال: وإن وقع الحربي في سهم رجل فأعتقه ثم وصلت تلك الهبة إليه بشراء أو غيره لم يكن للواهب أن يرجع فيها لأن هذا ملك حادث له وحق الواهب كان في الملك المستفاد بالهبة فلا يثبت في ملك حدث بسبب آخر وصار اختلاف سبب الملك كاختلاف العين قال: وإن كان الحربي هو الواهب فسبي ووقع في سهم رجل لم يكن له أن يرجع في هبته لأن نفسه تبدلت بالرق وذلك بمنزلة موته فإن الحرية حياة والرق تلف وبموت الواهب يبطل الحق في الرجوع ولأنه لو رجع كان معيدا للعين إلى ملك مولاه لا إلى ملك نفسه وبالهبة لم يخرج من ملك مولاه وكذلك إن أعتق لا يستطيع الرجوع فيها لأن حق الرجوع قد بطل بتبدل نفسه كما قلنا والساقط من الحق يكون(12/189)
ص -94- ... متلاشيا لا يتصور عوده قال: حربي وهب لحربي هبة ثم أسلم أهل الدار أو أسلما جميعا وخرجا إلى دار الإسلام فله أن يرجع في هبته لبقاء الملك المستفاد بالهبة فإن بالإسلام يتأكد الملك الذي كان قبله ولا يتبدل وكذلك العين على حاله في يد الموهوب له فإن كان عوضه من هبته لم يكن له أن يرجع فيها لحصول ما هو المقصود له بالهبة وهو وصول العوض إليه تم كتاب الهبة ولله الحمد والمنة والله أعلم. قال رحمه الله تعالى انتهى شرح الصفار من الفروع من الاستحسان إلى البيوع بالموثر من المعاني مع الخبر المسموع بإملاء الملتمس لرفع الباطل الموضوع المنفي لأجله المحصور الممنوع عن الأهل والولد والكتاب المجموع الطالب للفرج بالدعاء والخشوع في ظلم الليالي بالبكاء والدموع مقرونا بالصلاة على سيد أهل الجموع وعلى آله وأصحابه أهل التقى والخضوع.(12/190)
ص -95- ... كتاب البيوع
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن الله سبحانه وتعالى جعل المال سببا لإقامة مصالح العباد في الدنيا وشرع طريق التجارة لإكسابها لأن ما يحتاج إليه كل أحد لا يوجد مباحا في كل موضع وفي الأخذ على سبيل التغالب فساد والله لا يحب الفساد وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والتجارة نوعان حلال يسمى في الشرع بيعا وحرام يسمى ربا كل واحد منهما تجارة فإن الله أخبر عن الكفرة إنكارهم الفرق بين البيع والربا عقلا فقال عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:27] ثم فرق بينهما في الحل والحرمة بقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 27] فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وأن الحلال الجائز منها بيع شرعا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملونه فأقرهم عليه وانعقاد هذا البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وهو بقوله بعت واشتريت في محلين كل واحد منهما مال متقوم على طريق الاكتساب حتى إن ما يدخله معنى التبرع كالهبة بشرط العوض لا يكون بيعا ابتداء ولو كان أحد اللفظين عبارة عن المستقبل بأن يقول أحدهما بعني فيقول الآخر بعت أو يقول اشتري فيقول الآخر اشتريت لا ينعقد البيع عندنا بخلاف النكاح والشافعي يسوي بينهما باعتبار أن كل واحد منهما عقد تمليك بعوض من الجانبين والفرق لنا من وجهين:
أحدهما: أن النكاح يتقدمه خطبة عادة فقوله زوجيني نفسك في مجلس العقد لا يجعل خطبة لأن الخطبة قد تقدمته فيجعل أحد شطري العقد فأما البيع يقع بغتة من غير تقدم استيام فيجعل قوله بعني استياما فلا بد من لفظ العقد بعده.(12/191)
والثاني: أن قوله: زوجيني نفسك تفويض للعقد إليها فيجعل قولها زوجت عقدا تاما لأن كلام الواحد يصلح للعقد من الجانبين في النكاح إذا كان مأمورا به وفي البيع لا يتأتى مثل هذا لأن كلام الواحد لا ينعقد به البيع من الجانبين إذا لم يكن أحدهما موليا عليه من الآخر فأما الربا في اللغة هو الزيادة يقال أربى فلان على فلان أي زاد عليه ويسمى المكان المرتفع ربوة لزيادة فيه على سائر الأمكنة وفي الشريعة الربا هو الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع لما بينا أن البيع الحلال مقابلة مال متقوم بمال متقوم فالفضل الخالي عن(12/192)
ص -96- ... العوض إذا دخل في البيع كان ضد ما يقتضيه البيع فكان حراما شرعا واشتراطه في البيع مفسد للبيع كاشتراط الخمر وغيرها والدليل على حرمة الربا الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمسا من العقوبات:
أحدها: التخبط قال الله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] قيل معناه ينتفخ بطنه يوم القيامة بحيث لا تحمله قدماه وكلما رام القيام يسقط فيكون بمنزلة الذي أصابه مس من الشيطان فيصير كالمصروع الذي لا يقدر على أن يقوم وقد ورد بنحوه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يملأ بطنه نارا بقدر ما أكل من الربا" والمراد أن يفتضح على رؤس الأشهاد كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أن لواء ينتصب يوم القيامة لأكلة الربا فيجتمعون تحته ثم يساقون إلى النار".
والثاني: المحق قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] والمراد الهلاك والاستيصال وقيل ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعده.
والثالث: الحرب قال الله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] والمعنى من القراءة بالمد أعلموا الناس أكلة الربا إنكم حرب الله ورسوله بمنزلة قطاع الطريق والقراءة بالقصر اعلموا أن أكلة الربا حرب الله ورسوله.
والرابع: الكفر قال الله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]
وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: من الآية276] أي كفار باستحلال الربا أثيم فاجر بأكل الربا(12/193)
والخامس: الخلود في النار قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] والسنة جاءت بتأييد ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكل درهم واحد من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها الرجل من نبت لحمه من حرام فالنار أولى به".
والمقصود من هذا الكتاب بيان الحلال الذي هو بيع شرعا والحرام الذي هو ربا ولهذا قيل لمحمد ألا تصنف في الزهد شيئا قال قد صنفت كتاب البيوع ومراده بينت فيه ما يحل ويحرم وليس الزهد إلا الاجتناب عن الحرام والرغبة في الحلال ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الذهب بالذهب مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والفضة بالفضة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والحنطة بالحنطة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والملح بالملح مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والتمر بالتمر مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا" وهذا حديث مشهور تلقته العلماء رحمهم الله تعالى بالقبول والعمل به ولشهرته بدأ محمد ببعضه كتاب البيوع وببعضه كتاب الإجارات وببعضه كتاب الصرف ومثله حجة في الأحكام تجوز به الزيادة على الكتاب عندنا ودار هذا الحديث على أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم مع اختلاف ألفاظهم ثم الحديث يشتمل على تفسير وحكم ومعنى يتعلق به(12/194)
ص -97- ... الحكم في الفرع أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب" أي بيع الذهب بالذهب أو بيعوا الذهب بالذهب لأن الباء تصحب الأعواض والإبدال فإنه للإلصاق فهو دليل فعل مضمر كقولنا: بسم الله، وقوله: "مثل بمثل" روى بالرفع والنصب فمعنى الرواية بالرفع بيع الذهب بالذهب مثل بمثل ومعنى الرواية بالنصب بيعوا الذهب بالذهب مثل بمثل والمراد به المماثلة في القدر دون الصفة وإن كان مطلق اسم المماثلة يتناولهما ولكنه ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله: "مثل بمثل وزن بوزن" فبذلك اللفظ يتبين أن المراد من هذا اللفظ المماثلة في الوزن وبهذا اللفظ يتبين أن المراد قوله وزن بوزن المماثلة قدرا لا وصفا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضا وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "تبره وعينه سواء" فهذا تنصيص على أن المراد المماثلة في الوزن دون الصفة لأن التبر لا يساوي العين في الصفة وإنما يساويه من حيث المقدار وقوله: "يدا بيد" يجوز أن يكون المراد به عين بعين لأن التعيين يكون بالإشارة باليد ويجوز أن يكون المراد قبض بقبض لأن القبض يكون باليد وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن المراد به القبض هنا لبيانه في حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه قال في الصرف: "من يدك إلى يده وإن استنظرك إلى خلف السارية فلا تنتظره وإن وثب من السطح فثب معه" ولكن الأصح أن المراد التعيين لأنه لو كان المراد به القبض لقال من يد إلى يد لأنه يقبض من يد غيره فعرفنا أن المراد التعيين إلا أن التعيين في النقود لا يتم إلا بالقبض لأنها لا تتعين في العقود بالإشارة فكان اشتراط القبض لتحقيق التعيين المنصوص عليه وإليه أشار في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بقوله: "ها وها" أي هذا بهذا وقوله: "والفضل ربا" يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال بأن يكون أحدهما نقدا والآخر نسيئة وكل واحد منهما مراد باللفظ(12/195)
وقوله ربا أي حرام أي فضل خال عن العوض والمقابلة إما متيقنا به عند فضل القدر أو موهوم الوجود عادة لتفاوت بين النقدين والنسبة في المالية وكذلك تفسير قوله "الفضة بالفضة" فأما قوله "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" يحتمل المماثلة في الكيل ويحتمل المماثلة في الصفة ولكنه في كتاب الصرف ذكر مكان قوله "مثلا بمثل" كيلا بكيل فتبين به أن المراد المماثلة من حيث القدر وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال "جيدها ورديها سواء" فهو بيان أن المراد المماثلة في القدر وقوله يدا بيد معناه عندنا عين بعين ولهذا لا يشترط التقابض في بيع الحنطة بالحنطة لأن التعيين فيها يتم بالإشارة وقوله: "والفضل ربا" يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال وكل واحد منهما مراد وقد فسر ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه فقال: "من زاد أو ازداد فقد أربى" وكذلك الشعير والتمر والملح فأما الحكم ففي الحديث حكمان حرمة النساء في هذه الأموال عند المبايعة بجنسها وهو متفق عليه وحرمة التفاضل وهو قول الجمهور من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا البتى روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يجوز التفاضل في هذه الأموال ولا معتبر بهذا القول فإن(12/196)
ص -98- ... الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يسوغوا له هذا الاجتهاد على ما روى أن أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مشى إليه فقال يا ابن عباس إلى متى تؤكل الناس الربا أصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يصحب أسمعت منه ما لم يسمع فقال لا ولكن حدثني أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ربا إلا في النسيئة" فقال والله لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول وقال جابر بن زيد رضي الله تعالى عنه ما خرج ابن عباس رضي الله تعالى عنه من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فإن لم يثبت رجوعه فإجماع التابعين رحمهم الله تعالى بعده يرفع قوله فهذا معنى قولنا لا يعتد بهذا القول وتأويل حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا ربا إلا في النسيئة" فهذا بناء على ما تقدم من السؤال فكأن الراوي سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله وأما المعنى فنقول اتفق فقهاء الأمصار رحمهم الله تعالى على أن حكم الربا غير مقصود على الأشياء الستة وإن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال إلا داود من المتأخرين وعثمان البتى من المتقدمين فإن داود يقول حكم الربا مقصور على هذه الأشياء الستة لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص لإثبات الحكم وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله تعالى القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص والبتى يقول بأن القياس حجة ولكن من أصله أنه لا يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه ولم يقم ذلك الدليل هنا وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله تعالى يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل يمنع القياس على كل أصل ثم قد قام الدليل هنا على جواز القياس فإن مالك بن أنس واسحاق بن إبراهيم(12/197)
الحنظلي رحمهما الله تعالى رويا هذا الحديث وذكر في آخره وكذلك كل ما يكال ويوزن فهو تنصيص على تعدية الحكم إلى سائر الأموال وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخشى عليكم الربا" أي الربا ولم يرد به عين الصاع وإنما أراد به ما يدخل تحت الصاع كما يقال خذ هذا الصاع أي ما فيه ووهبت لفلان صاعا أي من الطعام وفي حديث عامل خيبر رضي الله تعالى عنه أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيا فقال صلى الله عليه وسلم "أو كل تمر خيبر هكذا؟" فقال لا ولكني دفعت صاعين من عجوة بصاع من هذا فقال صلى الله عليه وسلم "أربيت هلا بعت تمرك بسلعة ثم اشتريت بسلعتك تمرا؟" ثم قال صلى الله عليه وسلم "وكذلك الميزان" يعني ما يوزن بالميزان فتبين بهذه الأثار قيام الدليل على تعدية الحكم من الأشياء الستة لا غيرها وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" ثم لم يجوز قياس ما سوى هذا الخمس على الخمس لأن التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص لإبطال المنصوص وقد نص في ذلك الحديث على أن الفواسق خمس فلو اشتغلنا بالتعليل كان أكثر من خمس فيكون إبطالا للمنصوص وهنا ليس في الحديث أن مال الربا ستة أشياء ولكن ذكر حكم الربا في الأشياء الستة فالاشتغال بالتعليل لا(12/198)
ص -99- ... يؤدي إلى إبطال المنصوص عليه فلهذا جوزنا ذلك وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر أن عامة المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي الأشياء المذكورة ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال قال علماؤنا رحمهم الله تعالى الجنسية والقدر عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة" والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم "مثل بمثل" ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن العلة مع الجنس الفضل على القدر وذلك محكي عن الكرخي ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلام قفيز حنطة في قفيز شعير ولا تثبت حرمة النساء إلا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي الفضل لما حرم النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا أن العلة نفس القدر مع الجنس وقال مالك رضي الله عنه العلة الاقتيات والادخار مع الجنس وقال ابن سيرين تقارن المنفعة مع الجنس وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم وقال في الجديد العلة هي الطعم وفي الذهب والفضة العلة الثمنية وهو أنهما جوهر الأثمان والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند وجودها ولهذا لا يجعل للجنسية أثرا في تحريم النساء فحاصل المسألة أن بيع كل مكيل أو موزون بجنسه لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في القدر وأن يكون عينا بعين وعنده بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند وجود المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي وأن يكون قبضا بقبض في المجلس والحاصل أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر الأموال والفساد يعارض انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي عن العوض(12/199)
متيقنا به أو موهوما احتياطا والمقصود من التعليل عنده منع قياس غير المطعومات على المطعومات وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من إلحاق غيره به وعندنا التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة لأن الثابت بالنص مقطوع به والمنع بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوا عندنا وبيان هذا الأصل إذا باع تفاحة بتفاحتين عنده لا يجوز لأن الحرمة هي الأصل في بيعها والحل يثبت بعارض بوجود المساواة في المعيار الشرعي ولم يوجد فلا يجوز وعندنا يجوز لانعدام الفضل على القدر وهو المعيار الشرعي والحرام هو الفضل على القدر ولم يوجد فيجوز لأن الجواز أصل في البيع والحرمة تثبت بعارض انعدام المماثلة في القدر وهو المعيار الشرعي وهذا لا معيار له فيجوز العقد ولو باع قفيز جبس بقفيزي جص عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده يجوز لعدم الطعم ولو باع حفنة بحفنتين عنده لا يجوز لكونه مطعوما وقد عدمت المساواة في المعيار الشرعي وعندنا يجوز لعدم الكيل مع الجنس ولو باع منا سكر بمنوي سكر عندنا لا يجوز لوجود(12/200)
ص -100- ... الجنس مع القدر وعنده لا يجوز أيضا لوجود الطعم مع الجنس ولو باع منا قطن بمنوى قطن عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده يجوز لعدم الطعم وحجة الشافعي لإثبات أصله ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا سواء بسواء وفي رواية قال: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" ففي هذا بداية ببيان النهى والمنع لو اقتصر على قوله: "لا تبيعوا" لم يجز بيع أحدهما بالآخر بحال فبه تبين أن حرمة البيع أصل وأن الجواز يعارض المساواة بين ذلك بقوله: "إلا سواء بسواء" والمراد المساواة في القدر ثم اسم الطعام يتناول القليل والكثير وما يكال من الأطعمة وما لا يكال فثبت حرمة البيع في جميع ذلك وتبين بهذا أن التعليل بالقدر يوجب تخصيص الأصل المعلل وذلك باطل وكذلك في الحديث المشهور قال: "الحنطة بالحنطة" فهذا اللفظ يتناول القليل والكثير وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثلا بمثل" نصب على الحال أي إنما يكون بيعا في حالة ما يكون مثلا بمثل والمراد المماثلة في القدر فتبين به أيضا أن الحرمة أصل فيها وأن الحل يعارض المماثلة في القدر وليس المراد بالربا الزيادة فقد قال عمر رضي الله عنه أن آية الربا آخر ما نزل وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن فتبين بهذا أنه علم أن الاسم غير عما عليه مقتضى اللغة وأنه ليس المراد من الربا الزيادة فإنه ليس في السلم في السن زيادة خالية عن العوض وقد جعله من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد ولئن كان المراد الزيادة فإنما أراد فضلا قائما في الذات لأن المطعوم إذا قوبل بجنسه لا يتساويان في الطعم إلا نادرا ولا ينبني الحكم عن النادر فذلك الفضل القائم في الذات حرام وربا إلا أنه سقط اعتباره شرعا بالمساواة في القدر تيسيرا على الناس فتبين بهذا أن الحرمة أصل أيضا وفي ذكر الطعام ما يدل على(12/201)
أن العلة هي الطعم لأن الطعام اسم مشتق منه معنى والحكم إذا علق باسم مشتق من معنى فالمعنى الذي اشتق منه الاسم هو العلة للحكم كما في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وفي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38] ومن حيث الاستدلال وهو أن الشرع شرط لجواز البيع في هذه الأموال شرطين المساواة واليد باليد فعرفنا أن الموجب لهذين الشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة شرطين الولي والشهود كان ذلك دليلا على أن الموجب للشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة خطر وهو أن المستحق به ما في حكم النفوس ثم هنا المعنى ينبئ عن الخطر في الذهب والفضة الثمنية لأنهما خلقا لذلك وبالثمنية حياة الأموال والمعنى أن الذي ينبئ عن زيادة الخطر في الأشياء الأربعة الطعم لأن بالطعم حياة النفوس فعرفنا أن العلة الموجبة لهذين الشرطين الطعم والثمنية ولهذا جعلنا الجنسية شرطا لا علة لأن الحكم يدور مع الشرط وجودا وعدما كما يدور مع العلة والفرق بينهما بالتأثير فإذا لم يكن في الجنسية ما ينبئ عن زيادة الخطر ولا يثبت الحكم إلا عند وجوده جعلناه شرطا لا علة وبهذا تبين فساد التعليل بالقدر فإنه لا ينبئ عن زيادة خطر في المحل لأن الجص شيء هين يكال فلا يتعلق به حياة نفس ولا مال إنما هو معد لتزين البناء ولأن الشرع ذكر عند بيان حكم الربا(12/202)
ص -101- ... جميع الأثمان وهي الذهب والفضة وذكر من المطعومات أنفس كل نوع فالحنطة أنفس مطعوم بني آدم والشعير أنفس علف الدواب والتمر أنفس الفواكه والملح أنفس التوابل فلما أراد المبالغة في بيان حكم الربا ولم يمكنه ذكر جميع المطعومات نص من كل نوع على أعلاه ليبين بذلك أن العلة هي الطعم فأما إذا جعل العلة القدر يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا لأن صفة القدر لا تختلف في الأشياء الأربعة وحمل كلام صاحب الشرع على ما يفيد أولى ولهذا قال مالك العلة الاقتيات لأنه خص بالذكر كل مقتات مدخر وقال ابن سيرين العلة تقارب المنفعة لوجود ذلك في الأشياء المذكورة فإن الحنطة مع الشعير تتقارب في المنفعة فإذا ثبت أن العلة هي الطعم والثمنية امتنع قياس غير المطعوم على المطعومات وغير الأثمان على الأثمان لانعدام العلة فيها ولما جعل الشرع القدر معتبرا في الخلاص عن الربا لا يجوز اعتبار ذلك بعينه في الوقوع في الربا لاستحالة أن يتضمن الشيء حكمين متضادين بل القدر في المقدرات بمنزلة العدد في المعدودات والزروع في المزروعات فكما لا يصلح جعل علة ذلك للربا فكذلك القدر وحجتنا في المسألة ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر الأشياء الستة بصفة الكيل والوزن فذلك دليل على أن العلة فيها الكيل والوزن وإن لم تثبت هذه الزيادة فقوله "الحنطة بالحنطة" معناه بيع الحنطة بالحنطة والبيع لا يجري باسم الحنطة فالاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد وإنما يعرف ماليتها ولو باعها لم يجز لأنها ليست بمال متقوم فعلم ضرورة أن المراد الحنطة التي هي مال متقوم ولا يعلم ماليتها إلا بالكيل فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص وكذلك قوله: "الذهب بالذهب" فالاسم قائم بالذرة ولا يبيعها أحد وإنما تعرف ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة الوزن ثابتة بمقتضى النص فكأنه قال الذهب الموزون بالذهب والحنطة المكيلة بالحنطة والصفة من اسم العلم(12/203)
يجري مجرى العلة للحكم كقوله صلى الله عليه وسلم "في خمس من الإبل السائمة شاة" وما ثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص ألا ترى أنه لو قال غصبت من فلان شيئا يلزمه أن يبين مالا متقوما لثبوت صفة المالية بمقتضى الغصب وكذلك قوله:صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الطعام بالطعام" ذكر الطعام عند ذكر البيع فلا يتناول إلا الحنطة ودقيقها كمن وكل وكيلا بأن يشتري له طعاما فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه وهذا لأن سوق الطعام الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبيع الحنطة ودقيقها وهذا من أبواب الكتاب ليس من فقه الشريعة في شيء وأما الكلام في المسألة من حيث الاستدلال فينبني على معرفة النص فنقول حكم نص الربا وجوب المماثلة في المعيار شرط لجواز العقد ثم ضرورة الفضل لعدم تلك المماثلة ربا لوجوب المماثلة لا كما قاله الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات ثم المماثلة شرط لإزالة فضل حرام والدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" فقد أوجب المماثلة لجواز العقد ثم جعل الفضل بعد تلك المماثلة بقوله عليه الصلاة والسلام "والفضل ربا" وفي الحديث الآخر قال "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" وبالإجماع المساواة في الكيل فعرفنا أن المراد اشتراط المماثلة لجواز(12/204)
ص -102- ... العقد لأن الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون المعنى فساد البيع عند عدم المماثلة التي هي واجبة وإذا ثبت أن الحكم وجوب المماثلة ولا يتصور ثبوت الحكم بدون محله عرفنا أن المحل الذي لا يقبل المماثلة لا يكون مال الربا أصلا والحفنة والتفاحة لا تقبل المماثلة بالاتفاق فلم يكن مال الربا والدليل عليه أن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ما نص على حكم الربا إلا مقرونا بالمخلص فكل علة توجب الحكم في محل لا يقبل المخلص أصلا فهي علة باطلة والطعم بهذه الصفة فإنها توجب الحكم في الرمان والسفرجل ولا يتصور فيه المخلص وكذلك قوله: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" كلام مقيد بالاستثناء والمستثنى من جنس المستثنى منه لأن الاستثناء لا خراج ما لولاه لكان الكلام متنا ولا له وإن كان المستثنى الكثير القابل للماثلة لا يتناوله الحديث أصلاً فإن قال هو استثناء مقطوع بمعنى لكن أي جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر قلنا هذا مجاز ولا يترك العمل بالحقيقة إلا عند قيام الدليل وباعتبار الحقيقة يتبين أن حكم النص وجوب المماثلة فيما يختص بمحل قابل للمماثلة والدليل عليه أنه لو باع قفيز حنطة يملكه بقفيز حنطة أرخوة أو قد أكلها السوس يجوز وقد تيقنا بفضل في الذات ومع ذلك جاز العقد لوجود المماثلة في القدر فإن قال سقط اعتبار الفضل القائم في الذات لوجود المساواة في القدر قلنا هذا جائز ولكن عند قيام الدليل فإذا أمكن أن يجعل الحكم في الذات وجوب المماثلة والفضل الذي هو ربا بعد تلك المماثلة فلا حاجة بنا إلى إسقاط ما هو موجود حقيقة خصوصا فيما إذا بنى أمره على الاحتياط وهو الربا والذي قال إن الاسم غير عما عليه مقتضى اللغة ممنوع فإنه دعوى المجاز أيضا فلا يمكن إثباته أيضا إلا بدليل فأما حديث عمر رضي الله عنه فله تأويلان:(12/205)
أحدهما: أن المراد بقوله وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن ما كانوا اعتادوا في الجاهلية أن الواحد منهم يسلم في ابنة مخاض فإذا حل الأجل زاده في السن وجعله ابنة لبون ليزيده في الأجل ثم يزيده إلى سن الحقة والجذعة وفي ذلك نزل قوله تعالى {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فتلك الزيادة خالية عن عوض هو مال ولهذا قال إنه من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد.
والثاني: أن المراد السلم في الحيوان والحيوان مما يتفاوت والمسلم فيه دين فإنما يصير معلوما بذكر الوصف ورأس المال بمقابلة الأوصاف المذكورة عند العقد ثم عند القبض يتمكن التفاوت في المالية بين المقبوض والموصوف عند العقد لا محالة فتلك الزيادة كأنها خالية عن عوض هو مال ولهذا جعل من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد وإن سلموا أن حكم النص وجوب المماثلة لا يبقى لهم شيء لأن وجوب المماثلة لا تكون إلا في محل قابل للمماثلة وإن لم يسلموا فالدليل على إثبات هذه القاعدة أن الأموال أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها كالثياب والدواب فلا تجب المماثلة فيها للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب المماثلة فيها أيضا للمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس الرائجة وتجب المماثلة فيها حتى إذا باع فلسا بغير عينه(12/206)
ص -103- ... بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز للرسنة فإن بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن أحدى الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالا متساوية بصفة الرواج فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن الاصطلاح على كونها أمثالا متساوية ولهذا يتبين بالتعيين فتصير أمثالا متقاربة كالجوز والبيض إذا عرفنا هذا فنقول الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال فعرفنا أنها أمثال متساوية وإنما تكون أمثالا متساوية بالجنس والقدر لأن كل حادث في الدنيا موجود بصورته ومعناه فإنما بطلت المماثلة من هذين الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر لأن المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعا إلا بشرط وهو سقوط قيمة الجودة منها لجواز أن يكون أحدهما أجود من الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالا متساوية قطعا فإنما يقابل البعض بالبعض في البيع من حيث الذات فإذا كان في أحد الجانبين فضل كان ذلك الفضل خاليا عن المقابلة كالخيطين إذا تقابلا وأحدهما أطول فتلك الزيادة تكون خالية عن المقابلة والفضل الخالي عن المقابلة ربا فإذا جعل شرطا في العقد فسد به العقد وهكذا في سائر الأموال إلا أن الفضل الخالي عن المقابلة هناك إنما يظهر بالشرط حتى لو باع ثوبا بثوب بشرط أن يسلم له مع ذلك ثوبا آخر لا يجوز لأن هناك الفضل يظهر بالشرط وهنا يظهر شرعا لوجوب المماثلة فثبت بما قررنا أن العلة لهذا الحكم بالتأثر في إيجاب المماثلة وهو الجنس والقدر وإن شرط عمل العلة سقوط قيمة الجودة منها وهذا شرط عرفناه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديها سواء" وبدليل مجمع عليه وهو أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة ردية ودرهم لا يجوز وما كان مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه كالبيع وإنما يجوز الاعتياض عما فسد بتقومه شرعا كالخمر ونحو ذلك فلما لم يجز(12/207)
الاعتياض عن الجودة هنا عرفنا أنه لا قيمة للجودة عند المقابلة بالجنس ثم إثبات الحكم بهذا الطريق يكون على موافقة الأصول وعلى ما يدعيه الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات يكون إثبات الحكم على مخالفة الأصول فالبيع ما شرع إلا لطلب الربح والفضل فالفضل الذي يقابله العوض حلال ككسبه بالبيع فكيف يستقيم أن يجعل حراما بالرأي وإن أردت تحرير النكتة قلت التفاح والرمان مال لم يسقط قيمة الجودة منه عند المبايعة فيجوز بيع بعضه ببعض كيف ما كان كالثياب والدواب ثم تقريره من الوجه الذي ذكرنا وبهذا يعلل في القليل من الحنطة كالحفنة ونحوها فإن قيل كيف يستقيم هذا ولو غصب من آخر حفنة من حنطة فنقصت عنده ليس للمغصوب منه أن يضمنه النقصان مع أخذ حنطته ولو كان للجودة منها قيمة لكان له ذلك كما في التفاح والرمان والثياب ونحوها قلنا الواجب على الغاصب ضمان القيمة لأن الحفنة ليست من ذوات الأمثال فإن المماثلة بالمعيار وليس للحفنة معيار فعرفنا أن الواجب هو القيمة وقد بينا أن المالية والقيمة في الحنطة لا تعلم إلا بالكيل فلا بد من إظهار قيمة هذا المغصوب من اعتبار الكثير وهو القفيز وعند اعتبار ذلك لا قيمة للجودة فلا يمكن معرفة(12/208)
ص -104- ... النقصان ليوجب ذلك على الغاصب ويمكن معرفة القيمة بالحرز فيوجب القيمة ويكون شرط الاستيفاء تسليم العين إلى الغاصب فإذا أراد استرداد العين لم يكن له أن يرجع بشيء كما لو قطع يد عبد عند إنسان فأراد المولى إمساك العبد لم يرجع بشيء على قول أبي حنيفة وعلى هذا الأصل قلنا لو باع حفنة بقفيز لا يجوز أيضا لأن القفيز لا قيمة للجودة منه فتكون المقابلة باعتبار الذات فيظهر الفضل الخالي عن المقابلة بخلاف الحفنة بالحفنتين فكل واحد منهما يقابل الآخر في البيع والشراء من غير اعتبار القفيز وبدون اعتباره للجودة قيمة فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة ويتبين بما ذكرنا فساد علة الخصم بالطعم والثمينة فإنها علة قاصرة لا تتعدى إلى الفروع ولأنها تثبت الحكم على مخالفة الأصول ولأن الطعم عبارة عن أعظم وجوه الانتفاع بالمال وكذلك الثمنية فإنها تنبئ عن شدة الحاجة إليه وتأثير الحاجة في الإباحة لا في الحرمة كتناول الميتة تحل باعتبار الضرورة ولا معنى لما قال إن الشرع ما حرم البيع في هذه الأموال إلا ما حرم في سائر الأموال وهو الفضل الخالي عن المقابلة وهذا لأن هذه الأموال بذلة كسائر الأموال حتى يجوز تناولها بدون الملك بالإباحة وبالملك بغير عوض وهو الهبة بخلاف البضع فإنه مصون عن الابتذال يلحق بالنفوس فيجوز أن يشترط في النكاح زيادة شرط لإظهار خطر المحل وبهذا تبين فساد ما قال إن الاسم المشتق من فعل إذا علق به الحكم يصير ذلك الفعل علة لأنه إنما يكون ذلك الفعل علة إذا كان صالحا له كالزنا والسرقة وإذا كانت الثمنية والطعم ينبئان عن شدة الحاجة فلا يصلحان أن يكونا علة للحرمة والذي قال إن صاحب الشرع نص على الأشياء الأربعة قلنا قد نص على الأشياء الستة وعطف بعضها على البعض فينبغي أن تكون العلة في الكل واحدة وذلك الجنس والقدر ثم الكيل والوزن اختلاف عبارة في القدر كالصاع والقفيز ونحوه فأما إذا كانت العلة في النقود(12/209)
الثمنية وفي سائر الأشياء الأربعة الطعم لم يستقم عطف بعضها على البعض إذ لا موافقة بين الثمنية والطعم والذي قال القدر علة للخلاص لا كذلك قد بينا أن جواز البيع في هذه الأموال أصل فحيث مفسد إنما يفسد لوجود العلة المفسدة لذلك فأما جواز باعتبار الأصل لا باعتبار المخلص ولئن كان هذا مخلصا فهو مخلص في حالة التساوي وعلة الربا في حالة الفضل والشيء الواحد يتضمن حكمين في محلين كالنكاح يثبت المحل للمنكوحة والحرمة في أمها وإنما جعلنا القدر مخلصا لأن الخلاص عن الربا بالمساواة في القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن فكذلك الوقوع في الربا بالفضل على القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن وربما يقول بعضهم إن الحفنة مقدرة إلا أنه لا يمكن معرفة مقدارها إلا بضم أمثالها إليها ولا تخرج به من أن تكون مقدارا كالصبرة وهذا فاسد فإن المقدر لا يمكن معرفة مقداره فإذا ضم إلى الحفنة أمثالها وكيلت يصير مقدار القفيز معلوما لا مقدار الحفنة بخلاف الصبرة فإنها إذا فرقت جزاء وكيلت يصير مقدار الصبرة معلوما فأما علة ربا النساء أحد هذين الوصفين إما الجنس أو القدر ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم بعد الأشياء الستة: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف(12/210)
ص -105- ... شئتم بعد أن يكون يدا بيد" فقد ألغي ربا النساء بعد انعدام الجنسية لبقاء أحد الوصفين والشافعي لا يخالفنا فيما هو العلة عنده أيضا وإنما يخالفنا في الجنسية بناء على أصله أن الجنسية شرط لا علة وسنبين هذا الفضل في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى وعن إبراهيم قال أسلم ما يكال فيما يوزن وأسلم ما يوزن فيما يكال ولا تسلم بالوزن فيما يوزن ولا ما يكال فيما يكال وإذا اختلف النوعان مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد ولا بأس به نسيئة وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد يدا بيد ولا خير في نسيئته ونقول أما قوله: "أسلم ما يكال فيما يوزن" غير مجرى على ظاهره بل المراد إذا كان الموزون مما يصلح أن يكون مسلما فيه يكون مبيعا مضبوطا بالوصف حتى إذا أسلم الحنطة في الذهب والفضة لا يجوز عندنا وللشافعي قول في القديم أن ذلك يجوز بناء على مذهبه أن النقد يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين بالتعين فأما عند الذهب والفضة لا يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين بالتعيين والمسلم فيه مبيع فإذا لم يكن هذا أسلما.(12/211)
قال عيسى بن إبان يكون هذا عقدا باطلا وكان أبو بكر الأعمش يقول أنه بيع الحنطة بدراهم مؤجلة فيكون صحيحا لأن تحصيل مقصود المتعاقدين بحسب الإمكان واجب وقد قصدا مبادلة الحنطة بالدراهم مؤجلة وما ذكره عيسى أصح لأن المعقود عليه في السلم المسلم فيه فإنما يشتغل بتصحيح العقد في المحل الذي أوجبنا العقد فيه وذلك غير ممكن ولا وجه لتصحيحه في محل آخر لأنهما لم يوجبا العقد فيه وقوله وأسلم ما يوزن فيما يكال مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في الموزون جائز على كل حال لانعدام الوصفين جميعا إذ الاتفاق بين البدلين في الجنس ولا في القدر والموزون غير المكيل وقوله ولا تسلم ما يوزن فيما يوزن غير مجرى على ظاهره أيضا بل المراد إذا كانا متفقين في المعنى بأن كانا مثمنين كالزعفران مع القطن فأما إذا كان مختلفين في المعنى فذلك جائز كما لو أسلم النقود في الزعفران أو الحديد أو القطن فإنه يجوز والعراقيون من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون الجواز للحاجة لأن رأس المال يكون من النقود عادة والحاجة تمس إلى إسلامها في الموزونات والمكيلات جميعا ولكن هذا كلام من يجوز تخصيص العلل الشرعية ولسنا نقول به بل نقول اتفاقهما في الوزن صورة لا معنى وحكما فإن الوزن في النقود ليس نظير الوزن في الزعفران فإن الزعفران يوزن بالأمناء ويكون مثمنا يتعين في العقود والنقد يوزن بالصنجات ويكون ثمنا لا يتعين في العقد ومن حيث الحكم صفة الوزن يلزم في الزعفران حتى لو اشترى زعفرانا بشرط الوزن ليس له أن يتصرف فيه قبل أن يزنه ولا يلزم في النقود حتى لو باع شيئا بدرهم بشرط الوزن كان له أن يتصرف فيه قبل أن يزنه فما كان هذا إلا نظير الموزون مع المكيل فإنهما استويا من حيث إن كل واحد منهما مقدر صورة ولكن لما اختلفا في المعنى والحكم جوز إسلام أحدهما في الآخر فكذلك النقود مع سائر الموزونات وقوله: "ولا ما يكال فيما يكال" مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في(12/212)
المكيل لا يجوز بحال لاتفاقهما في قدر واحد(12/213)
ص -106- ... وقوله: "وإذا اختلفا النوعان مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد" هذا مجرى على ظاهره لانعدام العلة المحرمة للفضل وقوله ولا بأس به نسيئة هذا غير مجرى على ظاهره ولكن المراد إذا كان ما يجعل مسلما فيه يصير مضبوطا بالوصف على وجه يلتحق بذكر الوصف بذوات الأمثال حتى لو أسلم ثوبا في جوهره أودرة لا يجوز وكذلك في الحيوان عندنا وقوله وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد هذا مجرى على ظاهره وهو متفق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالافراس يدا بيد" وقوله لا خير فيه نسيئة هو قول علمائنا رحمهم الله تعالى فإن الجنس عندنا يحرم النساء بانفراده حتى لو أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي لا يجوز عندنا وعند الشافعي يجوز وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن اختلفا في الصفة يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الصفة ولو أسلم هرويا في مروى جاز عندنا وعند ابن أبي ليلى لا يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الأصل فأما إذا اتحد الأصل فالكل عنده جنس واحد أو باعتبار تقارب المنفعة يجعل الهروى والمروى جنسا واحدا وقد نقل ذلك عنه في الحنطة والشعير أيضا أنهما من جنس واحد لتقارب المنفعة لكن هذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم عطف الشعير على الحنطة ثم قال وإذا اختلفا النوعان فكذلك بيان أنهما جنسان وكذلك المصنوع من أصل لا يكون جنسا للأصل كالقطن مع الثوب فكيف يكون جنسا لمصنوع آخر على هيئة أخرى من ذلك الأصل فعرفنا أن باتحاد الأصل لا تثبت المجانسة وباختلاف الصفة لا تنعدم المجانسة أيضا كما في الأموال الربوية فالحنطة العفنة مع الحنطة الجيدة جنس واحد وكذلك السقي مع التجنبي والفارسي مع الدقل في التمر جنس واحد مع اختلاف الوصف فأما الشافعي فإنما بنى مذهبه على ما قلنا أن الجنسية عنده شرط وقد بينا فساد ذلك وعلى سبيل الابتداء يحتج(12/214)
بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جهز جيشا ففرت الإبل فأمرني أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه باع بعيرا يقال له عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه باع بعيرا بأربعة أبعرة إلى أجل ولأن هذا عقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه عينا حل التفاضل بينهما فيجوز إسلام أحدهما في الآخر كالهروي مع المروي وتأثير هذا الكلام أن باعتبار التأجيل في أحد البدلين يظهر التفاوت في المالية حكما والتفاوت في المالية حقيقة أكثر تأثيرا من التفاوت في المالية حكما فإذا كان التفاوت في المالية في هذه الأموال حقيقة لا أثر له في المنع من جواز العقد فالتفاوت حكما أولى وهذا لأن حكم الربا في خاص من الأموال وجعل الجنسية علة تؤدى إلى تعميم حكم الربا في كل مال فما من مال إلا وله جنس فما كانت الجنسية إلا نظير المالية ثم لا يجوز جعل المالية علة الربا فكذلك الجنسية وحجتنا في ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ولا يحمل هذا على النسيئة من الجانبين لأن ذلك يستفاد بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ولأنه إذا قيل باع فلان عبده بالحيوان نسيئة فإنما يفهم منه(12/215)
ص -107- ... النسيئة في البدل خاصة ومطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس وتأويل ما رووا من الآثار أنه كان قبل نزول آية الربا وكان ذلك في دار الحرب وعندنا لا يجوز الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب فتجهيز الجيش وإن كان في دار الإسلام تقل الآلات كما لو كان في دار الحرب لعزتها في دار الإسلام يومئذ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الجنسية والقدر في أول الحديث ثم قال: "وإذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" فقد أبقى ربا النساء لبقاء ما هو قريبه وهو الجنس فكان ذلك تنصيصا على ثبوت ربا النساء عند وجود الجنسية لأنه متى ثبتت المساواة بين الشيئين بالنص ثم خص جنس أحدهما بحكم كان ذلك تنصيصا على ذلك الحكم في الآخر كالرجل يقول اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول اعط زيدا درهما يكون ذلك تنصيصا على أن يعطى عمرا أيضا درهما ولا يستقيم اعتبار ربا النساء بربا الفضل لاتفاقنا على أن ربا النساء أعم حتى يثبت في بيع الحنطة بالشعير وإن كان لا يثبت ربا الفضل وليس الجنس كالمالية لأن جعل المالية علة تؤدي إلى تعميم الربا في البيوع كلها لأن البيع لا يجوز إلا في مال متقوم والشرع فصل بين البيع والربا فعرفنا أن المالية ليست بعلة فيه وليس في جعل الجنسية علة تعميم الربا في العقود كلها والقياس على أصول تنعدم فيها الجنسية باطل لأن انعدام الحكم عند عدم العلة دليل صحة العلة لا دليل فسادها ولأن إسلام الشيء في جنسه يؤدي إلى إخلاء العقد عن الفائدة وإلى أن يكون الشيء الواحد عوضا ومعوضا وإلى فضل خال عن العوض مستحق بالبيع وذلك باطل بيانه أنه إذا أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي فإنه يلزم تسليم رأس المال في الحال ثم إذا حل لأجل يرد ذلك الثوب بعينه والمقبوض بحكم السلم في حكم عين ما يتناوله العقد فلو جوزنا هذا العقد لم يكن مفيدا شيئا ويكون الثوب الواحد عوضا ومعوضا وإذا أسلم ثوبا هرويا في ثوبين(12/216)
هرويين لو جوزنا ذلك لكان إذا حل الأجل أخذ منه ذلك الثوب بعينه وثوبا آخر فالثوب الآخر يكون فضلا خاليا عن العوض مستحقا بالبيع وهو الربا بعينه.
قال: وإذا أسلم الرجل في الطعام كيلا معلوما وأجلا معلوما وضربا من الطعام وسطا أو رديا أو جيدا واشترط المكان الذي يوفيه فيه فهو جائز.
قال رحمه الله تعالى: إعلم بأن السلم أخذ عاجل بآجل وهو نوع بيع لمبادلة المال بالمال اختص باسم لاختصاصه بحكم بدل الاسم عليه وهو تعجيل أحد البدلين وتأخير الآخر كالصرف وقيل السلم والسلف بمعنى واحد وإنما سمى هذا العقد به لكونه معجلا على وقته فإن أوان البيع ما بعد وجود المعقود عليه في ملك العاقد وإنما يقبل السلم في العادة فيما ليس بموجود في ملكه فلكون العقد معجلا على وقته سمى سلما وسلفا والقياس يأبى جوازه لأنه بيع المعدوم وبيع ما هو موجود غير مملوك للعاقد باطل فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا تركنا القياس بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أشهد أن السلم(12/217)
ص -108- ... المؤجل في كتاب الله تعالى أنزل فيه أطول آية وتلا هذه الآية والسنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ففي هذا دليل أنه جوزه للحاجة مع قيام السبب المعجز له عن التسليم وهو عدم وجوده في ملكه ولكن بطريق إقامة الأجل مقام الوجود في ملكه رخصة لأن بالوجود في ملكه يقدر على التسليم وبالأجل كذلك فإنه يقدر على التسليم إما بالتكسب في المدة أو مجىء أو أن الحصاد في الطعام وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال صلوات الله تعالى عليه: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فقد قررهم على أصل العقد وبين شرائطه فذلك دليل جواز العقد ثم الشرائط التي يحتاج إلى ذكرها في السلم عند أبي حنيفة سبعة إعلام الجنس في المسلم فيه وإعلام النوع وإعلام القدر وإعلام الصفة وإعلام الأجل وإعلام المكان الذي يوفيه فيه فيما له حمل ومؤنة وإعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره والأصل في هذه الشرائط الحديث الذي روينا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإعلام القدر بأن ترك إعلامه يفضي إلى المنازعة التي تمنع البائع عن التسليم والتسلم فدل ذلك عن أن كل جهالة تفضي إلى المنازعة المانعة عن التسليم والتسلم يجب إزالتها بالإعلام وجهالة الجنس تفضي إلى ذلك لأنه إذا أسلم في شيء فرب السلم يطالبه بإعلام الأشياء والمسلم إليه لا يعطي إلا أدنى الأشياء ويحتج كل واحد منهما على صاحبه بمطلق الاسم فلا بد من إعلام الجنس لقطع هذه المنازعة وكذلك إعلام النوع فإنه إذا أسلم إليه في تمر فالمسلم إليه يعطيه الدقل ورب السلم يطالبه بالفارسي ويحتج كل واحد منهما على صاحبه بمطلق الاسم فلا بد من إعلام النوع لقطع هذه المنازعة وكذلك إعلام الصفة لأنه إذا أسلم إليه في الحنطة فرب السلم يطالبه(12/218)
بحنطة جيدة والمسلم إليه لا يسلم إلا الرديء ويحتج كل واحد منهما باسم الحنطة فلا بد من بيان الصفة لقطع هذه الخصومة وإعلام القدر منصوص عليه في الحديث وجهالته تفضي إلى المنازعة ولأن المقصود بهذا العقد الاسترباح ولا يعرف ذلك إلا بمعرفة مقدار المالية والمالية تختلف باختلاف الجنس والنوعوالصفة والقدر فلا بد من إعلام ذلك كله ليصير ما هو المقصود لكل واحد منهما معلوماً له. فأما الأجل فهو من شرائط السلم عندنا وقال الشافعي الأجل يثبت ترفيها لا شرطا حتى يجوز السلم عندنا حالا في الموجود فأما في المعدوم لا يجوز السلم إلا مؤجلا واحتج في ذلك بالحديث ورخص في السلم فأثبت في السلم رخصة مطلقة واشتراط التأجيل فيه لا يكون زيادة على النص والمعنى فيه أنه صار معاوضة مال بمال فيكون الأجل فيه ترفيها لا شرطا كالبيع والإجارة وهذا لأن المسلم فيه دين وشرط جواز العقد القدرة على التسليم وتسليم الدين بالمثل الموجود في العالم والظاهر من حال العاقل أنه لا يقدم على التزام تسليم ما لا يقدر على تسليمه فإذا قيل السلم فيما هو موجود في العالم فالظاهر أنه قادر على تسليمه وذلك يكفي لجواز العقد وإن لم يكن قادرا على التسليم فيما يدخل في ملكه من رأس المال يقدر على التحصيل والتسليم ولهذا(12/219)
ص -109- ... أوجبنا تسليم رأس المال على رب السلم أولا قبل قبض المسلم فيه وبهذا فارق الكتابة الحالة.
قال: فإني لا أجوز الكتابة الحالة فإن العبد يخرج من يد مولاه غير مالك لشيء" فلا يكون قادرا على تسليم البدل وربما يدخل في ملكه بالعقد لا يقدر على التحصيل إلا بمدة فلهذا لا أجوزه إلا مؤجلا فأما المسلم إليه حر من أهل الملك قبل العقد فالظاهر قدرته على التسليم إلا أن يكون معدما في العالم فحينئذ لا يقدر على التسليم إلا بوجوده في أوانه فلا يجوز السلم فيه إلا مؤجلا وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فقد شرط لجواز السلم إعلام الأجل كما شرط إعلام القدر والمراد بيان أن الأجل من شرائط السلم كالرجل يقول من أراد الصلاة فليتوضأ إلا أن يكون المراد به إذا أسلم مؤجلا ينبغي أن يكون الأجل معلوما وفي قوله صلى الله عليه وسلم رخص في السلم ما يدل على الأجل أيضا لأن الرخصة في الشيء تيسير مع قيام المانع والمانع هو العجز عن التسليم فعرفنا أنه رخص فيه مع قيام العجز عن التسليم بإقامة الأجل مقامه لأن به يقدر على التسليم إما بالتكسب أو بمجيء زمان الحصاد وهو كالرخصة في المسح على الخفين فإن إقامة المسح مقام الغسل للتيسير وهو المعنى في قوله في المسألة فإنا نقول باع ما لا يقدر على تسليمه عند وجوب التسليم فلا يجوز العقد كما لو قيل السلم في المعدوم حالا وبيان ذلك أن عقد السلم من عقود المفاليس فإنه يكون بدون ثمن المثل ولو كان موجودا في ملكه لكان يبيعه بأوفى الأثمان ولا يقبل السلم فيه بدون القيمة ولا يقال أنه إنما يقبل السلم فيه لإسقاط مؤنة الإحضار والإراءة للمشتري فيه لأن صاحب الشرع استثنى السلم من بيع ما ليس عند الإنسان وبالإجماع المراد بيع ما ليس في ملكه فإن ما في ملكه وإن لم يكن حاضرا يجوز بيعه إذا كان المشتري رآه قبل ذلك وما ليس في ملكه وإن كان حاضرا(12/220)
لا يجوز بيعه فعرفنا أن المراد قبول السلم فيما لا يقدر على تسليمه وبالعقد لا يصير قادرا على التسليم لأن العقد سبب للوجوب عليه لا له فلا تثبت به قدرته على التسليم وإنما تكون قدرته بالاكتساب ويحتاج ذلك إلى مدة فإذا كان مؤجلا لا يظهر المانع وهو عجزه عن التسليم وإذا كان حالا يظهر المانع والدليل عليه أن بالاتفاق يجب تسليم رأس المال أولا فلو جاز أن يكون المسلم فيه حالا لم يجب تسليم رأس المال أولا لأن قيضة المعاوضة التسوية بين المتعاقدين في التمليك والتسليم ويتضح هذا فيما إذا كان رأس المال عينا فإن أول التسلمين في البدل الذي هو دين كالثمن في بيع العين والدليل عليه أن السلم اختص بالدين مع مشاركة العين الدين فيما هو المقصود فما كان ذلك إلا لاختصاصه بحكم يختص به الدين وليس ذلك إلا الأجل وبه يبطل قولهم إن السلم الحال أبعد عن الغرر من المؤجل لأن السلم في العين أبعد عن الغرر من السلم في الدين ومع ذلك اختص السلم بالدين وهذا بخلاف الكتابة عندنا فإن البدل في الكتابة معقود به لا معقود عليه والقدرة على تسليم المعقود به ليس بشرط لجواز العقد كالثمن في المبيع فأما المسلم فيه معقود عليه والقدرة على تسليم المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع العين(12/221)
ص -110- ... ولأن الكتابة عقد ارفاق فالظاهر أن المولى لا يضيق عليه في المطالبة بالبدل وأما السلم عقد تجارة وهو مبنى على الضيق فالظاهر أنه يطالبه بالتسليم عقيب العقد وهو عاجز عن ذلك فلهذا لم يجوزه إلا مؤجلا ولم يبين في الكتاب أدنى الأجل في السلم وذكر أحمد بن أبي عمران من أصحابنا رحمهم الله تعالى أن أدنى الأجل فيه ثلاثة أيام اعتبارا للأجل بالخيار الذي ورد الشرع فيه بالتقدير بثلاثة أيام وكان أبو بكر الرازي يقول أدنى الأجل فيه أن يكون أكثر من نصف يوم لأن المعجل ما كان مقبوضا في المجلس والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس ولا يبقى المجلس بينهما في العادة أكثر من نصف يوم ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من قال أدنى الأجل شهرا استدلالا بمسئلة كتاب الإيمان إذا حلف المدين ليقضين دينه عاجلا فقضاه قبل تمام الشهر بر في يمينه فإذا كان ما دون الشهر في حكم العاجل كان الشهر فما فوقه في حكم الآجل فأما تعجيل رأس المال فنقول إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير يكون التعجيل فيه شرطا قياسا واستحسانا لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود فيكون هذا بيع الدين الدين وذلك لا يجوز لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ يعني النسيئة بالنسيئة فأما إذا كان رأس المال عروضا هل يكون التعجيل شرطا القياس أن لا يكون شرطا وفي الاستحسان يكون شرطا وجه القياس أن العروض سلعة تتعين في العقود بخلاف الدراهم فلو لم يشترط التعجيل لا يؤدى إلى بيع الدين بالدين وجه الاستحسان أن السلم أخذ عاجل بآجل والمسلم فيه آجل فوجب أن يكون رأس المال عاجلا ليكون حكمه ثابتا على ما يقتضيه الاسم لغة كالصرف والحوالة والكفالة فإن هذه العقود تثبت أحكامها بمقتضيات أساميها لغة ومن علماؤنا رحمهم الله تعالى من عبر وقال شرط جواز السلم إعلام قدر رأس المال وتعجيله وإعلام المسلم فيه وتأجيله وبعضهم عبر بعبارة أخرى شرط جواز السلم أن يكون(12/222)
المسلم فيه مضبوط الوصف معلوم القدر موجودا من وقت العقد إلى وقت التسليم فأما بيان مكان الإيفاء فيما له حمل ومؤنة من شرائط جواز السلم في قول أبي حنيفة الآخر وكان يقول أولا ليس بشرط ولكن إن بين مكانا تعين ذلك المكان للإيفاء وإن لم يبين يتعين موضع العقد للإيفاء وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى. وحجتهما في ذلك أن موضع العقد موضع الالتزام فيتعين لإيفاء ما التزمه في ذمته كموضع الاستقراض والاستهلاك وهذا لأن المسلم فيه دين ومحله الذمة فإنما يصير مملوكا لرب السلم في ذلك المكان والتسليم إنما يجب في الموضع الذي ثبت الملك له فيه ألا ترى أن من باع حنطة بعينها بالسواد يجب تسليمها موضع الحنطة لأنه ملكها في ذلك الموضع ولأن أحد البدلين وهو رأس المال يجب تسليمه في موضع العقد فكذلك البدل الآخر لأن العقد في حكم مكان التسليم مطلق فيقتضي المساواة بين البدلين وبأن جاز تعبيره بالشرط فذلك لا يدل على أنه غير ثابت بمطلق العقد ويجوز تعبره باشتراط الأجل والمطلق بمطلق البيع ثبت عقيب العقد ويجوز تعبيره بشرط الخيار وتوجه المطالبة بتسليم الثمن ثابت بمطلق العقد عقيبه ثم يجوز تعبيره باشتراط الأجل وأبو حنيفة يقول: مكان(12/223)
ص -111- ... الإيفاء مجهول وجهالته تفضي إلى المنازعة فيجب التحرز عن ذلك بإعلامه كزمان التسليم وإنما قلنا ذلك لأن موضع الإلزام إنما يتعين للتسليم بسبب يستحق به التسليم بنفس الالتزام كالقرض والغصب والاستهلاك والسلم لا يجوز إلا مؤجلا فعرفنا أنه لا يستحق التسليم عقيب العقد فيه بحالي وإنما استحقاق التسليم عند حلول الأجل وعند ذلك لا ندري أنه في أي مكان يكون ثم قال: أرأيت لو عقد اعقد السلم في السفينة في لجة البحر أكان يتعين موضع العقد للتسليم عند حلول الأجل هذا مالا يقوله عاقل والدليل عليه أن مكان العقد لو تعين لتسليم المسلم فيه لم يجز تعبيره بالشرط كمكان البيع في بيع العين فإنه لو باع حنطة في السواد على أن يسلمها في المصر لا يجوز العقد ولما أجاز هنا بيان مكان الإيفاء عرفنا أن موضع العقد غير متعين له وهذا بخلاف رأس المال فإنه لما تعين مجلس العقد بتسليمه لم يجز تعبيره بالشرط ثم هناك موضع العقد غير متعين ولكن الشرط تسليم رأس المال قبل الافتراق حتى لو مشيا فرسخا ثم سلم إليه رأس المال قبل أن يفارقه كان صحيحا فأما فيما لا حمل له ولا مؤنة فلا خلاف أن بيان مكان الإيفاء ليس بشرط ولكن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أظهر الروايتين يجب تسليمه في موضع العقد لأنه موضع الالتزام وفي رواية أخرى عنهما يسلم إليه حيث ما لقيه وهو قول أبي حنيفة سواء بينا المكان أو لم نبين لأن الشرط الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا والمالية فيما لا حمل له ولا مؤنة لا تختلف باختلاف الأمكنة إنما تختلف لعزة الوجود وكثرة الوجود فأما فيما له حمل ومؤنة تختلف ماليته باختلاف المكان فإن الحنطة والحطب موجود في المصر والسواد جميعا ثم يشتري في المصر بأكثر مما يشترى به في السواد وما كان ذلك إلا لاختلاف المكان وقد بينا أن ما يختلف مالية المسلم فيه باختلافه فإعلامه شرط لجواز العقد وهذا الخلاف في فصول أربعة:
أحدها: السلم.(12/224)
والثاني: إذا باع عبدا بحنطة موصوفة في الذمة إلى أجل يشترط بيان مكان الإيفاء لجواز العقد عند أبي حنيفة وعندهما لا يشترط بيان مكان الإيفاء.
والثالث: إذا استأجر دارا بماله حمل ومؤنة دينا في ذمته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يشترط بيان مكان الإيفاء وعندهما يتعين موضع الدار للاستيفاء لا موضع العقد.
والرابع: إذا اقتسما دارا وشرط أحدهما على صاحبه شيئا له حمل ومؤنة فهو على هذا الخلاف ويأتي بيان ذلك في الإجارات والقسمة إن شاء الله تعالى فأما إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره كالمكيل والموزون فشرط السلم عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط والإشارة إلى عينه تكفي وكذلك إذا كان رأس المال عدديا متقاربا كالفلوس والجوز والبيض وجه قولهما إن المقصود من إعلام القدر القدرة على التسليم وانقطاع المنازعة وذلك حاصل بالإشارة إلى العين فيغني ذلك عن إعلام القدر كما في الثمن والأجرة وكما في المضاربة لو دفع إليه دراهم غير معلومة المقدار مضاربة بالنصف كان جائزا والدليل عليه أن(12/225)
ص -112- ... رأس المال لو كان ثوبا لا يشترط إعلام ذرعانه والذرع في المذروعات للإعلام بمنزلة القدر في المقدرات ألا ترى أن في المسلم فيه كما يشترط إعلام القدر يشترط إعلام الذراع إذا كان ثوبا ثم في رأس المال لا يشترط إعلام الذرع في المذروعات لكونه عينا فكذلك لا يشترط إعلام القدر في المقدرات ومذهب أبي حنيفة مروى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكره في كتاب الصلح وقول الفقيه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقدم على القياس والمعنى فيه أن هذا مقدر يتناوله عقد السلم فلا بد من إعلام قدره كالسلم فيه وتحققه أن جهالة قدر رأس المال تؤدى إلى جهالة المسلم فيه لأن المسلم إليه ينفق رأس المال شيئا فشيئا وربما يجد بعد ذلك زيوفا فيرده ولا يستند له في مجلس الرد فيبطل العقد بقدر ما ردوا لا لم يكن مقدار رأس المال معلوما لا يعلم في كم انتقض السلم وفي كم بقي وإذا كان مقدار رأس المال معلوما بوزن المردود فيعلم أنه في كم انتقض العقد وما يؤدي إلى جهالة المسلم فيه يجب الاحتراز عنه وإن كان ذلك موهوما ألا ترى أنه لو أسلم في مكيل بمكيال رجل بعينه لا يجوز العقد لأنه يتوهم هلاك ذلك المكيال وهو مخالف لغيره من المكاييل فإذا هلك صار مقدار المسلم فيه مجهولا فكذلك هنا يجب التحرز عن الجهالة بإعلام مقدار رأس المال بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لأن الذرعان في الثوب المعين صفة ولهذا لو اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع فوجده أحد عشر ذراعا تسلم له الزيادة ولو وجده تسعة أذرع لا يحط عنه شيئا من الثمن فالمسلم فيه لا ينقسم على عدد الذرعان فيشترط فيه إعلامه ثم لا يتصور استحقاق ذرع بعينه من الثوب وإنما يتصور استحقاق النصف أو الثلث وذلك لا يؤدي إلى جهالة المسلم فيه وإن لم يكن معلوم الذرع بخلاف المقدار على ما بينا وإنما لم يذكر في جملة الشرائط تعجيل رأس المال في المجلس لأنا عددنا الشرائط التي يحتاج إلى ذكرها في العقد وتعجيل رأس(12/226)
المال ليس من ذلك في شيء لأن ذلك شرط بقاء العقد لا شرط انعقاده صحيحا فإن العقد بينهما لازم قبل تعجيل رأس المال ما داما في المجلس فلهذا لم يذكره من جملة الشرائط.
قال: وإذا شرط طعام قرية بعينها أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد لما روى أن زيد بن شعبة أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمر فقال أسلمت إليك في تمر حائط فلان فقال صلى الله عليه وسلم: "أما حائط فلان فلا أسلم إلا في تمر جيد" وفي مثله قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو أذهب الله ثمرته بم يستحل أحدكم مال أخيه لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" وفي هذا إشارة إلى المعنى وهو أن قدرة العاقد على التسليم عند وجوب التسليم شرط لجواز العقد ولا يعلم قدرته على التسليم عند حلول الأجل إلا بوجود الثمار في تلك النخلة أو الحائط الذي عينه ووجود ذلك موهوم وبالموهوم لا تثبت القدرة على التسليم وكذلك إذا عين أرضا لا يبقى طعامها في أيدي الناس فقدرته على التسليم عند وجوب التسليم موهوم.
قال: ولا بأس بأن يأخذ بعض رأس ماله وبعض ما أسلم فيه إذا حل الأجل عندنا وهو(12/227)
ص -113- ... قول ابن عباس رضي الله عنهما وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يجوز ذلك وبه أخذ ابن أبي ليلى.
قال: وإذا أخذ بعض رأس ماله فسد العقد ويسترد ما بقي من رأس المال لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" فإذا أخذ بعض كل واحد منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك فلا يتمكن منه شرعا ولأنه حين أخذ بعض رأس المال فقد اختار فسخ العقد فينفسخ في الكل وحجتنا في ذلك أن أخذ رأس المال إقالة ولو أقاله في الكل جاز فلذلك إذا أقاله في البعض يجوز أيضا كما في بيع العين وتأويل الحديث أن النهي عن أخذ شيء آخر سوى رأس المال والمسلم فيه وأنه في هذا الموضع ما أخذ غير رأس المال وغير المسلم فيه وإنما يكون ذلك عند الاستبدال وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ذلك المعروف الحسن الجميل وكان يكفيه أن يقول جائز وإنما ذكر هذا اللفظ لأن السلم بدون ثمن المثل يكون عادة والمسلم إليه يندم عند محل الأجل وقال صلى الله عليه وسلم: "من أقال نادما بيعته أقال الله عثراته يوم القيامة" إلا أنه لو أقاله في الكل فات مقصود رب السلم وهو الربح فأقاله في البعض انتدابا إلى ما ندب إليه واستوفى بعض المسلم فيه ليحصلا مقصوده في الربح ففيه النظر لهما وهو المعروف الحسن الجميل.
قال: والسلم جائز فيما يكال أو يوزن مما لا ينقطع من أيدي الناس والأصل فيه أن كل ما كان مضبوطا بوصفه معلوما بقدره موجودا من وقت عقده إلى حين أجله يجوز السلم فيه وما لا فلا وقيل كل ما يمكن أن يؤتى على حصر متقاربة ويكون مقدور التسليم يجوز السلم فيه وقيل كل ما يمكن معرفة كميته اجتهادا وكيفيته ضرورة يجوز السلم فيه والمكيلات والموزونات بهذه الصفة.(12/228)
قال: ولا خير في السلم في الرطبة ولا في الحطب حزما ولا جرزا وأوقارا لأن هذا مجهول لا يعرف طوله وعرضه وغلظه فإن الأوقار تختلف وبسبب هذه الجهالة تتمكن المنازعة بينهما وقد بينا أن كل جهالة تفضي إلى المنازعة فهي مفسدة للعقد وإن عرف ذلك فهو جائز" معناه إذا بين طول ما تشد به الحزمة أنه ذراع أو شبر فإن كان ذلك على وجه لا يتفاوت فحينئذ يجوز السلم لكون المسلم فيه معلوما مقدور التسليم.
قال: ولا خير في السلم في جلود الإبل والبقر والغنم عندنا وقال مالك بأنه يجوز لأنه مقدور التسليم معلوم المقدار بالوزن والصفة بالذكر ولكنا نقول الجلود لا توزن عادة ولكنها تباع عددا وهي عددية متفاوتة فيها الصغير والكبير فلا يجوز السلم فيها وفي الحاصل هذا مبنى على السلم في الحيوان فقد قامت الدلالة لنا على أن السلم في الحيوان لا يجوز فكذلك في أبعاض الحيوان ولهذا لا يجوز السلم في الأكارع والرؤس وكذلك لا يجوز السلم في الأدم والورق لأنه مجهول فيه الصغير والكبير إلا أن يشترط من الورق والصحف والأدم ضربا معلوم الطول والعرض والجودة فحينئذ يجوز السلم فيه كالثياب،(12/229)
ص -114- ... وكذلك الأدم إذا كان يباع وزنا فإنه يجوز السلم فيه بذكر الوزن إذا كان على وجه لا تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم.
قال: ولا خير في السلم في شيء من الحيوان عندنا وعند الشافعي يجوز إذا بين الجنس والنوع والصفة والسن واحتج في ذلك بما روينا من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا وقضاه رباعيا وقال: "خيركم أحسنكم قضاء" والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض فإذا ثبت جواز استقراض الحيوان بهذا الحديث ثبت جواز السلم فيه بطريق الأولى والمعنى فيه أنه مبيع معلوم مقدور التسليم فيجوز السلم فيه كالثياب والمكيلات والموزونات وبيان الوصف أنه يجوز بيعه عينا والدليل على أنه معلوم فإنه إذا سمى الإبل صار الجنس معلوما وإذا قال حيوان صار النوع معلوما وإذا قال جذع أوثنى يصير السن معلوما وإذا قال ثمين تصير الصفة معلومة وإعلام الشيء من الأعيان بهذه الأشياء وشرط جواز العقد إعلام العين ولا يعتبر بعد ذلك جواز نفع في المالية كما في الذبائح والثياب الفاخرة والدليل عليه أن بني إسرائيل استوصفوا البقرة فوصفها الله تعالى لهم وأدركوها بتلك الصفة حيث قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يصف الرجل الرجل بين يدي امرأته حتى كأنها تنظر إليه" فقد جعل الموصوف من الحيوان كالمرئي والدليل عليه أنه يثبت في الذمة مهرا وأن الدعوى والشهادة في الحيوان تسمع بذكر الصفة فدل أنها تصير معلومة بذكر الوصف بخلاف اللآلئ والجواهر فالسلم في الصغار من اللآلئ يجوز وزنا أما الكبار منها فلا يمكن إعلامها لكون المقصود التدوير والصفا والماء وليس لذلك حد معلوم يوقف عليه فإذا بالغ في بيانه يصير بذلك عديم النظير وفي مثله لا يجوز السلم ولهذا لا يثبت مهرا في الذمة وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان وفي الكتاب.(12/230)
قال: بلغنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وإنما فسر هذا الحديث في أول كتاب المضاربة أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه دفع مالا مضاربة إلى زيد ابن خليدة فأسلمها زيد إلى عتويس ابن عرقوب في قلانص معلومة فقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه اردد مالنا لا نسلم أموالنا في الحيوان وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال أن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن وقد بينا تأويل آثارهم وما روي أنه استقرض بكرا فالمراد استعجل في الصدقة ثم لم تجب الزكاة على صاحبها فردها رباعيا أو استقرض لبيت المال وكما يجوز أن يثبت لبيت المال حق مجهول يجوز أن يثبت ذلك على بيت المال أيضا والمعنى فيه أنه أسلم في مجهول فلا يجوز كما لو أسلم في الحلقات أو الجواهر وهذا لأن المسلم فيه مبيع وشرط جواز العقد القدرة على التسليم ولا يوجد ذلك إذا كان المسلم فيه مجهولا وبيان الوصف أن بعد ذكر الأوصاف التي يشترطها الخصم يبقى تفاوت عظيم في المالية فإنك تجد فرسين مستويين في السن والصفة ثم تشتري(12/231)
ص -115- ... أحدهما بأضعاف ما تشتري به الآخر لتفاوت بينهما في المعاني الباطنة كالهملجة وشدة العدو وكذلك في البعيرين وهذا في بني آدم لا يخفى فإن العبدين والأمتين يتساويان في السن والصفة ويختلفان في المالية لتفاوتهما في الذهن والكياسة وفيه يقول القائل:
رب واحد يعدل ألفا زائداً ... وألوف تراهم لا يساوون واحداً
وكما أن العين مقصود فالمالية أيضا مقصودة بل أكثر لأن المقصود هو الاسترباح وذلك بالمالية يكون فإذا كان الحيوان بذكر الأوصاف لا يلتحق بذوات الأمثال في معنى المالية قلنا لا يجوز السلم فيها بخلاف الثياب فإنها مصنوع بني آدم فما لم يكن معلوما لهم لا يتمكنون من اتخاذها والثياب إذا نسجت في منوال واحد على هيئة واحدة لا تتفاوت في المالية إلا يسيرا ولا معتبر بذلك القدر كالتفاوت بين الجيد والردي في الحنطة في المالية فأما الحيوان مصنوع الله تعالى وذلك يكون على ما يريده فقد يكون على وجه لا نظير له ولو بالغ فاستقصى في بيان وصفه يصير عديم النظير وذلك لا يجوز السلم فيه بالاتفاق ويوضحه أن أقرب الحيوانات إلى الثياب الغنم وما هو المقصود من الغنم غير مرئي بل هو تحت الجلد ويقع فيه تفاوت عظيم وما هو المقصود في الثياب ظاهر مرئي وقد ذكر عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمهما الله تعالى قال قلت له إنما لا يجوز السلم في الحيوان لأنه غير مضبوط بالوصف.(12/232)
قال: لا فإنا نجوز السلم في الذبائح ولا نجوز في العصافير ولعل ضبط العصافير بالوصف أهون من ضبط الذبائح ولكنه للسنة وإنما ذكر الله تعالى لبني إسرائيل الأوصاف الظاهرة وذلك يمكن إعلامه عندنا ثم كان المقصود التشديد عليهم لما استقصوا في الاستيصاف هكذا قاله ابن عباس رضي الله عنه وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستيصاف لخوف الفتنة وذلك يقع بالأوصاف الظاهرة وكذلك سماع الدعوى والشهادة لأن الأوصاف الظاهرة منها تصير معلومة وثبوته في الذمة مهرا لكون النكاح مبنيا على التوسع فإن المقصود به شيء آخر سوى المالية بخلاف السلم ولهذا يجوز من غير بيان الوصف هناك.
قال: ولا بأس بالسلم في الثياب كلها بعد أن يشترط ضربا معلوما وطولا وعرضا بذراع معلوم وأجلا وصفة معلومة لأن مقدار المالية بذكر هذه الأوصاف يصير معلوما عادة والتفاوت الذي يقع بعد هذا يسير واليسير من التفاوت غير معتبر لأنه لا يتمكن بسببه منازعة مانعة من التسليم والتسلم ولا يشترط الوزن بخلاف الحرير فإنه إذا أسلم في الحرير ينبغي أن يشترط الوزن لأن قيمة الحرير تختلف باختلاف الوزن وينبغي أن يشترط الطول والعرض مع الوزن لأن المسلم إليه ربما يأتي وقت حلول الأجل يقطع الحرير بذلك الوزن ونحن نعلم يقينا أنه لم يرد به قطع الحرير.
قال: وكل شيء ينقطع من أيدي الناس فلا خير في السلم فيه" وهذه المسألة على أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون المسلم فيه موجودا عند العقد منقطعا عن أيدي الناس عند حلول(12/233)
ص -116- ... الأجل فلهذا لا يجوز بالاتفاق لأن السلم إليه بالعقد يلتزم التسليم عند حلول الأجل فإذا لم يكن مقدور التسليم عند ذلك لا يجوز العقد.
الثاني: أن يكون منقطعا وقت العقد موجودا في أيدي الناس عند حلول الأجل فهذا لا يجوز عندنا ويجوز عند الشافعي.
الثالث: أن يكون موجودا عند العقد وعند حلول الأجل ولكنه ينقطع عن أيدي الناس فيما بين ذلك فهذا لا يجوز عندنا وعلى قول مالك والشافعي رحمهما الله.
الرابع: أن يكون موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل على وجه لا ينقطع فيما بين ذلك فيكون العقد صحيحا بالاتفاق وحجتهم في ذلك حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين وربما قال ثلاث سنين فقال: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم" ومعلوم أن الثمار الرطبة لا تبقى إلى هذه المدة الطويلة ومع هذا قرهم على السلم فيها والمعنى فيه وهو أن المسلم فيه معلوم مقدور التسليم عند وجوب التسليم فيجوز العقد كما لو كان موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل وبيان الوصف أن وجوب التسليم بحكم العقد عند حلول الأجل وعند ذلك هو موجود في العالم والقدرة على تسليم الدين بوجود جنسه في العالم ولا معنى لقول من يقول من الجائز أن يموت المسلم إليه عقيب العقد فيحل الأجل لأن هذا موهوم ولا يبنى العقد على الموهومات ألا ترى أن اعتبار هذا الموهوم يؤدي إلى الحلول أو جهالة الأجل وذلك مبطل لعقد السلم وإن كان موجودا في الحال فدل أنه لا يعتبر ذلك وكذلك إن كان ينقطع فيما وراء ذلك المحل يجوز العقد وإن كان يتوهم أن يتأخر التسليم إلى أن ينقطع وليس هذا نظير ما لو عين مكيالا أو قيما تخالف ما بين الناس لأن بطلان العقد ليس باعتبار هلاك ما عينه بل باعتبار جهالة قدر المسلم فيه كتعيين المسلم فيه لا لأنه يتوهم أو يصيب ثمار تلك النخلة آفة والدليل أن وجود السلم فيه في مكان العقد ليس(12/234)
بشرط بجواز العقد فكذلك في زمان العقد لا التسليم لا يتأتى إلا بمكان أو زمان فكل يسقط اعتبار وجوده في مكان العقد فكذلك في زمان العقد.
وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ولم يرد به النهي عن بيعها سلما والمعنى فيه أن قدرة العاقد على تسليم المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع العين وهذا لأن الملتزم للتسليم هو العاقد فيشترط قدرته على التسليم ولا يوجد ذلك إذا كان المسلم فيه معدوما في الحال لأن العاقد لا يقدر على تسليمه إلا بايصال حياته وأن ذلك الشيء وإيصال حياته بأوان الوجود موهوم وبالموهوم لا تثبت القدرة على التسليم فإن قيل حياته معلومة في الحال والأصل بقاؤه حيا إلى ذلك الوقت وإنما الموت موهوم قبله قلنا نعم ولكن بقاؤه حيا إلى ذلك الوقت باستصحاب الحال فيكون معتبرا في إبقاء ماله على ملكه لا في توريثه من مورثه فبهذا الطريق لا تثبت قدرته على التسليم إلا أن يكون موجودا في الحال حتى تكون(12/235)
ص -117- ... حياته متصلة بأوان ذلك الشيء ثم عجزه بالموت أو بآخر التسليم إلى أن ينقطع موهوم فلا يعتبر ذلك في إفساد العقد يقرره أن ما بعد العقد بمنزلة حالة المحل لأن زمان المحل وقت وجوب التسليم بشرط بقائه حيا إلى ذلك الوقت وذلك موهوم وما بعد العقد وقت وجوب التسليم يشترط موته وذلك موهوم أيضا فاستويا من هذا الوجه ثم يشترط الوجود وقت المحل بالاتفاق فلذلك يشترط الوجود من وقت العقد إلى وقت المحل بخلاف ما وراء المحل لأن ذلك ليس بزمان وجوب التسليم ابتداء وإنما هو زمان بقاء ما وجب من التسليم ولا يعتبر في حالة البقاء ما يعتبر في حالة الابتداء كخلو المحل عن الردة والعدة في النكاح والشهود تعتبر عند ابتداء العقد لا عند البقاء واعتبار الزمان بالمكان ساقط لأنه يتحقق نقله من مكان إلى مكان فبانعدامه في مكان العقد لا تنعدم القدرة على التسليم ولا يتحقق نقله من زمان إلى زمان فتنعدم القدرة على التسليم لعدم الوجود في زمان العقد ألا ترى أنه لا يشترط وجوده في المكان الذي جعلاه محل التسليم ويشترط وجوده في زمان المحل وما افترقا إلا لما قلنا وإذا كان المسلم فيه موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل ثم لم يأخذه بعد محل الأجل حتى انقطع فرب المسلم بالخيار إن شاء أخذ رأس المال وإن شاء صبر حتى يجيء حينه فيأخذ ما أسلم فيه عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وقال زفر يبطل العقد ويسترد رأس المال لأن الانقطاع من أيدي الناس في العجز عن تسليم الدين بمنزلة هلاك العين في العجز عن التسليم ولو هلك المبيع في بيع العين قبل التسليم بطل به البيع فكذلك إذا انقطعت من أيدي الناس وقاس بما لو اشترى بفلوس شيئا فكسدت قبل القبض يبطل العقد لهذا المعنى فكذلك إذا انقطع المسلم فيه من أيدي الناس وحجتنا في ذلك أنه يعذر بتسليم المعقود عليه بعارض على شرف الزوال فيتخير فيه العاقد كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض وهذا لأن المعقود عليه دين(12/236)
وبقاء الدين ببقاء محله ومحل الدين إنما هو الذمة فكان المعقود عليه باقيا ببقاء الذمة ولكن تأخر تسليمه إلى أوان وجوده وفيه يعتبر شرط العقد فيثبت للعاقد الخيار بين أن يفسخ العقد ويسترد رأس المال وبين أن يصبر حتى يأتي أوانه فيأخذ المسلم فيه وبه فارق هلاك العين فالمعقود عليه هناك يفوت أصلا وكذلك الفلوس إذا كسدت فإن العقد إنما تناول فلوسا هي ثمن فبعد الكساد لا يبقى ثمنا أصلا يوضحه أن ما يكسد من الفلوس لا يروج بعد ذلك أو لا يدري متى يروج فلم يكن للقدرة فيه على التسليم أوان معلوم فلهذا يبطل العقد هنا لإدراك الثمار للقدرة على التسليم أوان معلوم فيخير رب السلم إن شاء رضي بالتأخير وإن شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله.
قال: ولا خير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار وما أشبه ذلك مما لا يكال ولا يوزن لأنه يختلف فيه الصغير والكبير فلا يمكن أن يؤتي على حصر متقاربة وأصل هذا الجنس مروي عن أبي يوسف.
قال: ما يتفاوت آحاده في القيمة فهو عددي متفاوت لا يجوز السلم فيه عدداً وما لا(12/237)
ص -118- ... يتفاوت آحاده في القيمة وإن ما يتفاوت أنواعه فهو عددي متفاوت لا يجوز السلم فيه عددا والرمان والبطيخ تتفاوت في المالية آحاده والباذنجان وما أشبه ذلك لا يتفاوت آحاده في المالية وعلى هذا الأصل يجوز السلم في البيض والجوز عددا لأن آحاده في المالية لا تتفاوت فإنك لا ترى جوزة بفلس وجوزة بفلسين وإنما تتفاوت أنواعه في المالية وذلك التفاوت يزول بذكر العد في العدديات كالقدر في المقدرات وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجوز السلم في بيض النعام لأنه تتفاوت آحاده في المالية وعلى قول زفر لا يجوز السلم في البيض والجوز عددا لأن فيه الصغير والكبير وتجري فيه المنازعة بينهما في التسليم والتسلم وإنما يجوز السلم في البيض وزنا وفي الجوز كيلا بعد أن يكون بمكيال معروف له ونحن نجوز السلم فيه كيلا أيضا لأنه يكال تارة ويعد أخرى فتنقطع فيه المنازعة بينهما بذكر الكيل كما ينقطع بذكر العدد.
قال: ولا بأس بالسلم في الفلوس عددا لأنه عددي متقارب أو هي أمثال متساوية قطعا ما دامت متساوية رائجة لسقوط قيمة الجودة منها باصطلاح الناس وذكر أبو الليث الخوازم عن محمد أنه لا يجوز السلم في الفلوس لأنها ثمن ما دامت رائجة والمسلم فيه مبيع فما هو ثمن لا يجوز أن يكون مسلما فيه كالذهب والفضة وبعد الكساد هي قطع صغار موزونة فلا يجوز السلم فيها عددا ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن صفة الثمنية في الفلوس عارضة باصطلاح الناس والمتعاقد إن أعرض عن هذا الاصطلاح حين عقد السلم وما أعرض على الاصطلاح على كونه عدديا ولكن ليس من ضرورة خروجه في حقهما من أن يكون ثمنا خروجه من أن يكون عدديا كالجوز والبيض فأما الذهب والفضة ثمن بأصل الحقة فلا ينعدم ذلك بجعلهما إياه مبيعا ألا ترى أن الفلوس تروج تارة وتكسد أخرى وتروج في ثمن الخسيس من الأشياء دون النفيس بخلاف النقود ولا خير في السلم في اللحم(12/238)
لأنه مختلف في قول أبي حنيفة ولا بأس به في قول ابن أبي ليلى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا أسلم في موضع منه معلوم وسمى صفة معلومة فهو جائز وقيل لا خلاف بينهما وبين أبي حنيفة بل جواب أبي حنيفة فيما إذا أطلق السلم في اللحم وهما لا يجوزان ذلك وجوابهما فبما إذا بين منه موضعا معلوما وأبو حنيفة يجوز ذلك والأصح أن الخلاف ثابت وأن عند أبي حنيفة لا يجوز السلم فيه وإن بين منه موضعا معلوما وجه قولهما أنه موزون معلوم فيجوز السلم فيه كسائر الموزونات وبيان الوصف أن الناس اعتادوا بيعه وزنا ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه الربا بعلة الوزن ثم الموزون المثمن معتبر بالمكيل المثمن ويجوز السلم فيه وإن اشتمل على ما هو مقصود وعلى ما ليس بمقصود كالتمر فما فيه من النوى غير مقصود ولا يمنع ذلك جواز السلم فكذلك ما في اللحم من العظم لأن كل واحد منهما ثابت بأصل الخلقة والدليل عليه جواز السلم في الإلية مع ما فيها من العظم وكذلك يجوز السلم في الشحم لأنه موزون فكذلك في اللحم ولأبي حنيفة طريقان:(12/239)
ص -119- ... أحدهما: أن اللحم يشتمل على ما هو المقصود وعلى ما ليس بمقصود وهو العظم فيتفاوت ما هو المقصود بتفاوت ما ليس بمقصود منه ألا ترى أنه تجري المماكسة بين البائع والمشتري في ذلك فالمشتري يطالبه بالنزع والبائع يدسه فيه وهذا نوع من الجهالة والمنازعة بينهما لا ترتفع ببيان الموضع وذكر الوزن بخلاف النوى الذي في التمر فالمنازعة لا تجري في نزع ذلك وكذلك العظم الذي في الإلية وعلى هذا الطريق إذا أسلم في لحم منزوع العظم يجوز عند أبي حنيفة وهو اختيار ابن شجاع والطريق الآخر أن اللحم يشتمل على السمن والهزال ومقاصد الناس في ذلك مختلفة وذلك يختلف باختلاف فصول السنة وبقلة الكلاء وبكثرة الكلاء والسلم لا يكون إلا مؤجلا فلا يدري أن عند حلول الحول على أي صفة تكون وهذه الجهالة لا ترتفع بذكر الوصف فكان السلم في اللحم بمنزلة السلم في الحيوان وبه فارق الاستقراض فالقرض لا يكون إلا حالا وفي الحال صفة السمن والهزال معلومة وبخلاف الشحم والإلية فالتفاوت فيهما من حيث القلة والكثرة وبذكر الوزن يزول ذلك وعلى هذا الطريق منزوع العظم سواء وهو الأصح.(12/240)
قال: ولا خير في السلم في السمك الطري في غير حينه لأنه ينقطع عن أيدي الناس ولأنه مختلف فالنكتة الأولى تدل على أنه إذا أسلم في حينه يجوز والنكتة الثانية تمنع من ذلك وحاصل الجواب أن السلم فيه في غير حينه لا يجوز وزنا ولا عددا وفي حينه يجوز وزنا ولا يجوز عددا لأن فيه الصغير والكبير إلا أن الناس اعتادوا بيعه وزنا والتفاوت في المالية ينعدم بذكر الوزن وأبو حنيفة يفرق بين هذا وبين السلم في اللحم لما بينا أن العظم ليس بمقصود من اللحم حتى يجري المماكسة في نزعه فإنه يشتمل على السمن والهزال وذلك لا يوجد في السمك وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الكبار من السمك الذي يقطع لا يجوز السلم فيها وزنا بمنزلة السلم في اللحم فإنه إذا كان يقطع تجري المماكسة في نزع العظم منه وتختلف رغائب الناس باختلاف الموضع منه فأما السمك المالح فلا بأس بالسلم فيه وزنا معلوما ولا خير فيه عددا أما الصغار منه فإنه يباع وزنا ولا سمن له وهو مما لا ينقطع عن أيدي الناس فيجوز السلم فيه وزنا وفي الكبار لا يجوز السلم عددا للتفاوت ويجوز وزنا وعن أبي يوسف أنه لا يجوز ذلك بخلاف اللحم فهناك يتمكن من إعلام موضع الخبث أو الطهر ولا يتأتى ذلك في السمك فلا يجوز السلم فيه وزناً.
قال: وإذا أسلم في الجذوع ضربا معلوما وسمى طوله وغلظه وأجله والمكان الذي يوفيه فيه فهو جائز لأنه مذروع معلوم كالثياب وكذلك الساج وصنوف العيدان والخشب والقصب وإعلام الغلظ في القصب بإعلام ما يسد به الظن بشبر أو ذراع أو نحو ذلك فعند ذلك لا تجري المنازعة بينهما.
قال: وإذا استصنع الرجل عند الرجل خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزا أو آنية من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا(12/241)
ص -120- ... يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه فكذلك إذا كان معدوما بل أولى ولكنا نقول نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وهو نظير دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولا وكذلك شرب الماء من السقا بفلس والحجامة بأجر جائز لتعامل الناس وإن لم يكن له مقدار فما يشترط أن يصنع من الكنة على ظهره غير معلوم وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتما واستصنع المنبر فإذا ثبت هذا يترك كل قياس في مقابلته وكان الحاكم الشهيد يقول الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه ولهذا ثبت فيه الخيار لكل واحد منهما والأصح أنه معاقدة فإنه أجرى فيه القياس والاستحسان والمواعيد تجوز قياساً واستحسانا ثم كان أبو سعيد البردعي يقول المعقود عليه هو العمل لأن الاستصناع اشتغال من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والأديم والصرم فيه بمنزلة الآلة للعمل والأصح أن المعقود عليه المستصنع فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف فإن المعقود هو المستصنع فيه ألا ترى أنه لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه كان جائزاً والدليل عليه أن محمدا قال إذا جاء به مفروغا عنه فللمستصنع الخيار لأنه اشترى شيئا لم يره وخيار الرؤية إنما يثبت في بيع العين فعرفنا أن المبيع هو المستصنع فيه.(12/242)
قال: وإذا عمله الصانع فقبل أن يراه المستصنع باعه يجوز بيعه من غيره لأن العقد لم يتعين في هذا بعد ولكن إذا أحضره ورآه المستصنع فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم يره وقال صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" وعن أبي يوسف قال إذا جاء به كما وصفه له فلا خيار للمستصنع استحسانا لدفع الضرر عن الصانع في إفساد أديمه وآلاته فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة فلدفع الضرر عنه قلنا بأنه لا يثبت له الخيار وفرق في ظاهر الرواية بين هذا والسلم وقال لا فائدة في إثبات الخيار في السلم لأن المسلم فيه دين في الذمة وإذا رد المقبوض عاد دينا كما كان وهنا إثبات الخيار مقيد لأنه مبيع عين فبرده ينفسخ العقد ويعود إليه رأس ماله ويوضح الفرق أن إعلام الدين بذكر الصفة إذ لا يتصور فيه المعاينة فقام ذكر الوصف في المسلم فيه مقام الرؤية في بيع العين فأما إعلام العين فتمامه بالرؤية والمستصنع فيه مبيع عين فلهذا يثبت فيه خيار الرؤية.
قال: فإن ضرب لذلك أجلا وكانت تلك الصناعة معروفة فهو سلم في قول أبي حنيفة تعتبر فيه شرائط السلم من قبض رأس المال في المجلس ولا خيار فيه لرب السلم إذا أحضره المسلم إليه وهو عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى استصناع على حاله لأنه بدون ذكر الأجل عقد جائز غير لازم فبذكر الأجل فيه لا يصير لازما لعقد الشركة والمضاربة وهذا(12/243)
ص -121- ... لأن ذكر الأجل تيسر فيه وتأخير المطالبة فلا يتغير به العقد من جنس إلى جنس آخر ولو كان الاستصناع بذكر الأجل فيه يصير سلما لصار السلم بحذف الأجل منه استصناعا ولو كان هذا سلما لكان سلما فاسدا لأنه شرط فيه صنعة صانع بعينه وذلك مفسد للسلم وأبو حنيفة يقول هذا مبيع دين والمبيع الدين لا يكون إلا سلما كما لو ذكر لفظة السلم وبيانه ما ذكرنا أن المستصنع فيه مبيع والأجل لا يثبت إلا في الديون فلما ثبت فيه الأجل هنا عرفنا أنه مبيع دين فتأثيره أن المعتبر ما هو المقصود وبه يختلف العقد لا باعتبار اللفظ ألا ترى أنه لو قال ملكتك هذا العين بعشرة دراهم كان بيعا ولو قال بسكنى هذا الدار شهرا كانت إجارة فعرفنا أن المعتبر ما هو المقصود ثم السلم أقرب إلى الجواز من الاستصناع فإن كل واحد منهما مستحسن ولكن الآثار في السلم مشهورة وهو جائز فيما للناس فيه تعامل وفيما لا تعامل فيه فكان الأصل فيما قصداه السلم إلا إذا تعذر جعله سلما بأن لم يذكرا فيه أجلا فحينئذ جعل استصناعا فأما إذا أمكن جعله سلما بأن ذكر الأجل يجعل سلما ولأن الأجل مؤخر للمطالبة ولا يكون ذلك إلا بعد لزوم العقد واللزوم في السلم دون الاستصناع فثبوت الأجل فيه دليل على أنه سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته يجبر على القبول وبهذا تبين فساد قولهم أنه سلم شرط فيه صنعة صانع بعينه وما قالا بأن السلم بحذف الأجل لا يصير استصناعا يشكل بالمتعة فإنه لا يصير نكاحا بحذف المدة عنه ثم النكاح بذكر المدة فيه يصير متعة وهو إذا تزوج امرأة شهرا وهذا إذا كان ذكر المدة على سبيل الاستمهال أما إذا كان على سبيل الاستعجال بأن قال على أن يفرغ منه غدا أو بعد غد فهذا لا يكون سلما لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير المطالبة بالتسليم ألا ترى أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ فيها من العمل ويحكى عن الهندواني قال إن كان ذكر(12/244)
المدة من قبل المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلما وإن كان الصانع هو الذي ذكر المدة فهو سلم لأنه يذكر على سبيل الاستمهال وقيل إن ذكر أدنى مدة يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم لأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال فلا يمكن تقديره بشيء معلوم قال: ولا بأس بالسلم في اللبن في جبنه وزنا أو كيلا معلوما لأنه يكال تارة ويوزن أخرى فيصير معلوما بذكر كل واحد منهما على وجه لا يبقى فيه منازعة في التسليم.
قال: في الكتاب وهذا قبل انقطاعه وهذا في عرف ديارهم لأن اللبن ينقطع عن أيدي الناس في بعض الأوقات فأما في ديارنا لا ينقطع وإن كانت تزاد قيمته في بعض الأوقات ولكن لا يعد ذلك انقطاعا فيجوز السلم فيه في كل وقت.
قال: ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا شرط فيه شيئا معلوما لأنه عددي متقارب فإن آحاده لا تختلف في المالية وإنما تختلف أنواعه وإنما يكون معلوما بذكر الملبن فملبن كل نوع منه معلوم عند أهل الصنعة وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه.(12/245)
ص -122- ... قال: ولا بأس بالسلم في التبن كيلا معلوما وكيمانا معلومة لأنه مكيل مقدور التسليم وكيله الغرارة إذا كان معلوما وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه.
قال: ولا خير في السلم في رؤس الغنم والأكارع لأنها عددية متفاوتة ألا ترى أن المشتري ينازع البائع فيقول أريد هذا ولا أريد هذا والمقصود ما عليها من اللحم وهي تختلف ثم هذا على قول أبي حنيفة غير مشكل لأنها أبعاض الحيوان كاللحم وهما يقولان اللحم موزون أما الرؤس والأكارع فغير موزونة عادة وبذكر الوزن لا يصير المقصود منها معلوما فلا يجوز السلم فيها.
قال: ولا خير في السلم في كل شيء مما يكال أو يوزن إذا شرط بمكيال غير معروف أو بإناء بعينه غير معروف أو بوزن حجر غير معروف" لأن مقدار السلم فيه لا بد من أن يكون معلوما عند العقد وبما ذكر لا يصير مقداره بالمكيال المعروف والميزان المعروف معلوما فكان هذا سلما في المجهول ولأن القدرة على التسليم وقت وجوب التسليم شرط وذلك لا يتحقق إلا ببقاء ما عينه من المكيال إلى وقت حلول الأجل وبقاؤه موهوم فربما يهلك قبل ذلك وإن اشترى بذلك الإناء يدا بيد فلا بأس به لأن في العين يجوز البيع مجازفة فمكيال غير معروف أولى وهذا لأن التسليم عقيب العقد والقدرة على التسليم للحال ثابتة وهذا لأن التسليم عقيب العقد لا بقيام المكيال الذي عينه وعن أبي حنيفة في غير الأصول أنه لا يجوز لأن البيع في المكيلات والموزونات إما أن تكون مجازفة أو يذكر القدر ففي المجازفة والمعقود عليه ما يشار إليه وعند ذكر القدر المعقود عليه ما سمى من القدر ولم يوجد واحد منهما هنا فإنه ليس بمجازفة ولا يشترط فيه الكيل إذا لم يكن المكيال معلوما وعن أبي يوسف قال في بيع العين إن عين مكيالا لا ينكبس بالكبس فيه كالزنبيل ونحوه لا يجوز العقد فيه فإنه تتمكن المنازعة بينهما في الكيل وإن كان شيئا لا ينقبض ولا ينبسط كالقصعة ونحوها يجوز.(12/246)
قال: ولا بأس بالسلم في العصير في حينه وزنا أو كيلا" لأنه يوزن أو يكال كاللبن وكذلك الخل لا بأس بالسلم فيه كيلا معلوما أو وزنا معلوما لأنه يكال ويوزن وإعلام المقدار بذكر كل واحد منهما محصل والأصل أن ما عرف كونه مكيلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكيل أبدا وإن اعتاد الناس بيعه وزنا وما عرف كونه موزونا في ذلك الوقت فهو موزون أبدا وما لم يعلم كيف كان يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع إن تعارفوا فيه الكيل والوزن جميعا فهو مكيل وموزون وعن أبي يوسف أن المعتبر في جميع الأشياء العرف لأنه إنما كان مكيلا في ذلك الوقت أو موزونا في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على ما تعارفوه في ذلك الشيء بمنزلة النص منه فلا يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص
قال: وإن أسلم في تمر ولم يسم فارسيا ولا دقلا لم يجز. لأن التمر أنواع فبدون ذكر(12/247)
ص -123- ... النوع لا تنقطع المنازعة فإن اشترط فارسيا فلا بد من أن يشترط جيدا أو وسطا أو رديا لأن كل نوع من التمر يشتمل على هذه الأوصاف الثلاثة والمالية تختلف بجنسها.
قال: ولا خير في السلم في شيء من الطيور ولا في لحومها لأن آحادها تختلف في المالية فكانت عددية متفاوتة وهما فرقا بين هذا وبين السلم في اللحم لأن هناك يمكن إعلام المسلم فيه بذكر الموضع ولا يتأتى ذلك في لحوم الطير وعن أبي يوسف قال مالا تتفاوت آحاده في المالية كالعصافير ونحوها يجوز السلم في لحومها قال: ولا خير في السلم في شيء من الجواهر واللؤلؤ" أما الصغار من اللآلئ التي تباع وزنا وتجعل في الأدوية يجوز السلم فيها وزنا وأما الكبار منها تتفاوت آحادها في المالية وهي عددية متفاوتة لا يمكن إعلام ما هو المقصود منها فلا يجوز السلم فيها قال: ولا بأس بالسلم في الجص والنورة كيلاً لأنه مكيل معلوم وهو مقدور التسليم في كل وقت.(12/248)
قال: ولا خير في السلم في الزجاج إلا أن يكون مكسورا فيشترط وزنا معلوما وكذلك جوهر الزجاج فإنه موزون معلوم على وجه لا تفاوت فيه أما الأواني المتخذة من الزجاج فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم فيها بذكر العدد ولا بذكر الوزن لأن ذلك لا يوزن ولا تعلم ماليته بوزنه إلا أن يكون شيئا معروفا يعلم أنه لا يتفاوت في المالية كالمكاحل والمطابق فإن آحاد ذلك لا تختلف في المالية إنما تختلف أنواعه وكل نوع منه معلوم عند أهل الصنعة فيجوز السلم فيه بذكر العدد. قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل ألف درهم في طعام خمسمائة من ذلك كانت دينا عليه وخمسمائة نقدها إياه جازت حصة العين من ذلك وبطلت حصة الدين وعن زفر أن العقد في الكل باطل أما في حصة الدين فلنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين وهذا فساد قوى يمكن في البعض فيفسد به الكل باعتبار أنه جعل قبول العقد في حصة الدين شرطا للقبول في حصة العين وهذا شرط فاسد ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم يعتبر البعض بالكل في الدين والمعنى جميعا وحقيقة المعنى أن العقد انعقد صحيحا في الكل حتى لو نقد جميع الألف في المجلس كان العقد صحيحا وهذا لأنه لا يتعلق العقد بالدين المضاف إليه وإنما يتعلق بجنسه ومثله ولو اشترى بالدين شيئا ممن عليه الدين ثم تصادقا على أن لا دين بقي الشراء صحيحا وإنما فسد العقد هنا بمقدار الخمسمائة بترك القبض في المجلس وهذا فساد طارئ فيقتصر على ما وجدت فيه علته كما لو هلك بعض المعقود عليه قبل التسليم.(12/249)
قال: وإذا أسلم الرجل مائة درهم في كر حنطة وكر شعير ولم يبين رأس مال كل واحد منهما فلا خير فيه عند أبي حنيفة بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" وهذا بناء على ما بينا أن إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على شرطه شرط عنده وهنا المائة التي تنقسم انقسمت على الحنطة والشعير باعتبار القيمة وطريق معرفته الحرز فلا يكون مقدار رأس المال(12/250)
ص -124- ... لكل واحد منهما معلوما ولو تتاركا السلم في أحدهما لم يعلم يقينا مقدار ما يرده فلا يجوز العقد وعندهما الإشارة إلى العين تكفي لجواز العقد وقد وجد.
قال: ولا يجوز السلم إذا كان فيه شرط خيار لأن خيار الشرط يعدم الملك ويجعل العقد في حق الحكم كالمتعلق بشرط سقوط الخيار فكان تأثيره أكثر من تأثير عدم القبض وعدم قبض رأس المال في المجلس مبطل للسلم فاشتراط الخيار فيه أولى وهذا لأن للقبض حكم العقد وقد صار العقد بشرط الخيار في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله وبهذا تبين أن القبض لا يتم والافتراق قبل تمام القبض مبطل للعقد إلا أن يبطل صاحب الخيار خياره قبل أن يتفرقا فحينئذ ينقلب العقد صحيحا عندنا خلافا لزفر فإن من أصله أن تصحيح العقد الفاسد في استقباله فقط وعندنا المفسد متى زال قبل تقرره جعل كأن لم يكن وتقرر الفساد هنا بالافتراق قبل تمام القبض وقد انعدم ذلك متى أسقطا الخيار قبل أن يتفرقا ولأن حالة المجلس كحالة العقد ولهذا جعل قبض رأس المال في المجلس كالمقترن بالعقد فكذلك لزوم العقد بإسقاط الخيار في المجلس يجعل كالمقترن بالعقد وهذا إذا كان رأس المال قائما في يد المسلم إليه عند اسقاط الخيار وإن كان قد أنفقه حتى صار دينا عليه لم يصح العقد بإسقاط الخيار ذكره في الجامع لأن ابتداء العقد برأس مال هو دين لا يجوز فكذلك إتمامه بإسقاط الخيار.(12/251)
قال: وإذا أسلم إليه عشرة دراهم أو ثوبا أو عبدا في طعام ثم افترقا قبل قبض رأس المال لم يجز السلم وقال مالك يجوز وإن لم يقبض رأس المال يوما أو يومين بعد أن لا يكون مؤجلا بمنزلة الثمن في البيع فإنه لا يشترط قبضه في المجلس إلا أن هنا الشرط أن يكون حالا لأن ما يقابله مؤجل والنسيئة بالنسيئة حرام ولا تنعدم صفة الحلول بترك القبض فيه يوما أو يومين ولكنا نقول السلم أخذ عاجل بآجل فيشترط كون أحد البدلين فيه معجلا كما يشترط أن يكون الآخر مؤجلا ليتوفر على هذا العقد مقتضاه والتعجيل إنما يحصل بالقبض في المجلس فكان ينبغي أن يشترط اقتران القبض بالعقد فإنه أتم ما يكون من التعجيل ولكن الشرع جعل ساعات المجلس كحالة العقد تيسيرا كما في عقد الصرف ثم إن كان رأس المال دينا فالعقد يبطل بالافتراق قبل قبض رأس المال قياسا واستحسانا لأنه دين بدين وإن كان رأس المال عينا ففي القياس لا يبطل العقد لأنهما افترقا عن عين بدين وذلك جائز كبيع العين بثمن مؤجل ولكنه استحسن لمراعات اسم هذا العقد ولأن جواز عقد السلم لحاجة المسلم إليه وإنما يتوفر عليه حاجته إذا وصل رأس المال إليه فيشترط وصوله إلى يده مقرونا بالعقد ثم حالة المجلس جعلت كحالة العقد فلهذا يفسد بترك قبض رأس المال في المجلس وإن كان عينا وإن قبض الدراهم ثم افترقا فوجدها زيوفا فإنه يردها وينتقض السلم أما إذا تجوز بها جاز العقد لأن الزيوف من جنس الدراهم ولكن فيه عيب ووجود العيب في الشيء لا يجعله في حكم جنس آخر ثم الزيوف ما زيفه بيت المال ولكن يروج فيما بين التجار ولتبهرجة ما(12/252)
ص -125- ... تبهرجه التجار وربما تسامح فيه بعضهم وربما يأباه بعضهم لغش فيه وبهذا لا يخرج من أن يكون من جنس الدراهم فقابضه يكون مستوفيا لحقه فإذا تجوز به تجوز بخلاف ما إذا وجد المقبوض ستوقه أو رصاصا فإن ذلك ليس من جنس الدراهم فإن الستوقة فلس مموه بالفضة ومعناه من طاقه والرصاص ليس من جنس الدراهم فلا يصير بقبضه مستوفيا لرأس المال فإذا تجوز بها كان مستبدلا لا مستوفيا والاستبدال برأس المال قبل القبض لا يجوز فأما إذا رده في القياس ينتقص السلم سواء استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل وصار الكل زيوفا أو البعض وهو قول زفر لأن الرد بعيب الزيافة ينقض القبض من الأصل بدليل أنه يرجع بموجب العقد وهو الجياد والعقد لا يوجب القبض مرتين فلو لم ينتقض القبض الأول من الأصل لما كان له أن يرجع بموجب العقد وبدليل أنه لو لم يستبدل في مجلس الرد بطل العقد وبقاء القبض ليس بشرط لبقاء العقد وإذا ثبت انتقاض القبض من الأصل صار كأن لم يوجد فيبطل العقد بقدر المردود كما لو وجده مستحقا ولأن رأس المال دين والدين يختلف باختلاف الوصف وإنما يكون الزيوف رأس المال باعتبار إسقاط حقه عن الجودة إذا تجوز به فإذا أتى ذلك بالرد تبين أنه فارقه قبل قبض حقه فبطل العقد كما لو وجد المقبوض ستوقا أو رصاصا واستحسن أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا إذا استبدل في مجلس الرد بقي العقد صحيحا سواء وجد الكل زيوفا أو البعض لأنهما افترقا عن قبض صحيح حتى لو تجوز به جاز فإنما انتقض ذلك القبض بالرد وصار العقد عند الرد موجبا قبض الجياد وهما مجتمعان في مجلس الرد فيجعل اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد فإذا افترقا بعد قبض موجب العقد وهي الجياد بقي العقد صحيحا كما لو زاد في رأس المال وافترقا عن مجلس الزيادة قبل القبض وهذا بخلاف الاستحقاق فقبض المشترى موقوف على إجازة صاحبه ألا ترى أن المسلم إليه لو أراد أن يرضي به لا يتمكن من ذلك(12/253)
والموقوف إذا بطل صار كأنه لم يكن فإذا نفذ بإجازة المستحق التحق بما لو كان نافذا في الابتداء كالمبيع الموقوف فلهذا إذا أجاز المستحق بقي العقد صحيحا وإذا أتى وأخذ دراهمه كان العقد باطلا وأبو حنيفة أخذ بالقياس إذا وجد الكل زيوفا أو كانت الزيوف أكثر وأخذ بالاستحسان إذا قل المردود بعيب الزيافة لأن في القليل بلوى وضرورة فدراهم الناس لا تخلو عن قليل زيف فيذهب على الناقد وإن كان بصيرا وإقامة مجلس الرد مقام مجلس العقد لدفع الحرج فإن الموجود في هذا المجلس شرط بوجه المطالب بموجب العقد وهو الرد لا سببه وإقامة الشرط مقام السبب لدفع الحرج وذلك يتحقق فيما تتحقق فيه البلوى وهو القليل دون ما لا بلوى فيه وهو الكثير بل الكثير كالمستحق قل أو كثر لأن دراهم الناس لا تخلو عن المستحق عادة وهذا بخلاف الزيادة لأن أصل العقد ما كان موجبا لهذه الزيادة وإنما صار الآن موجبا فكان هذا المجلس في حق الزيادة مجلس السبب بمنزلة مجلس العقد في حق رأس المال وإذا وجد القبض في مجلس الزيادة لم يضرهما الافتراق بعد ذلك ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة في الفرق بين القليل والكثير ففي(12/254)
ص -126- ... كتاب البيوع يقول ما دون النصف قليل والنصف فما فوقه كثير وفي كتاب الصرف يقول النصف فما دونه قليل وفي رواية عن أبي حنيفة الثلث كثير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد رضي الله تعالى عنه "والثلث كثير" فإذا وجد الثلث زيوفا فرده يبطل العقد بقدره ووجه هذه الرواية أن قلة الشيء وكثرته تتبين بالمقابلة فإن العشرة بمقابلة الدرهم كثيرة وبمقابلة المائة قليلة فإذا كانت الزيوف دون النصف قلنا إذا قوبلت الزيوف بالجياد فالزيوف قليلة وإن كانت أكثر من النصف فهي كثيرة عند المقابلة بالجياد فإذا كان النصف سواء ففي رواية كتاب البيوع قال هذا كثير لا يقابله ما هو أكثر منه لتتبين قلته بالمقابلة وفي كتاب الصرف قال الشرط كثرة المردود ولا تتبين كثرته إذا لم يكن ما يقابله أقل منه وقد كان العقد صحيحا في الكل فلا تنتقض بالشك وكذلك حكم الصرف في جميع ما ذكرنا.(12/255)
قال: رجل أسلم إلى رجل في طعام وأخذ منه كفيلا بالمسلم فيه ثم صالح الكفيل على رأس ماله وذلك دين" فالصلح موقوف على إجازة المسلم إليه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فإن اختار رد رأس المال جاز وإن رد الصلح بطل واسترد الكفيل دراهمه وطالب رب السلم بطعام السلم أيهما شاء وعند أبي يوسف الصلح جائز بين الكفيل ورب السلم ويرجع الكفيل على المسلم إليه بطعام السلم وهذا إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير فإن كان رأس المال عروضا لا يجوز الصلح بالاتفاق لأنه إذا كان رأس المال ثوبا فإما أن يصح الصلح عن ذلك الثوب بعينه وهو باطل لأنه ملك المسلم إليه فلا يكون الكفيل قادرا على تسليمه وإما أن يصح على ثوب غيره وهو باطل أيضا لأنه يكون استبدالا برأس المال وكذلك الصلح على قيمة ذلك الثوب يكون استبدالا فلا يجوز فأما إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير فالخلاف فيه يتحقق وجه قول أبي يوسف وهو أن صلح الكفيل عن المسلم فيه على رأس المال كالصلح عن سائر الديون على أي بدل كان بدليل جواز ذلك من الأصل ثم الكفيل في سائر الديون لو صالح على بدل جاز صلحه ورجع على المكفول عنه بما كفل عنه فكذلك الكفيل بالسلم إذا صالح على رأس المال وهذا لأن الكفيل مطلوب بالمسلم فيه كالأصيل إذا كان قادرا على تسليم رأس المال إليه وبهذا فارق ما لو كان رأس المال عينا في يد المسلم إليه لأن الكفيل لا يقدر على تسليمه ولو صالح على قيمته كان مستبدلا لا مستردا لرأس المال ولا يقال في هذا الصلح تمليك طعام السلم من الكفيل لأن تمليك الدين من غير من عليه الدين في سائر الديون لا يجوز الصلح أيضا ثم جاز الصلح مع الكفيل في سائر الديون عرفنا أنه ليس بتمليك الدين ولكن يعقد الكفالة كما وجب للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل إلا أنه مؤخر إلى أن يسقط مطالبة الطالب عن الأصيل وقد سقط ذلك بصلحه على رأس المال كما يسقط بإيفائه فلهذا كان له أن يرجع على(12/256)
المسلم إليه بطعام السلم وجه قولهما أن الصلح عن المسلم فيه على رأس المال فسخ للعقد بدليل أنه يختص برأس المال وأنه يصح بلفظ المتاركة والإقالة فإنه لو لم يكن فسخا كان هذا استبدالا لبقاء العقد الموجب لطعام(12/257)
ص -127- ... السلم والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز والكفيل أجنبي من العقد فلا يملك الفسخ كسائر الأجانب والكفيل بالثمن في البيع وهذا لأن الفسخ تصرف في العقد فلا يجوز من العاقد أو ممن قام مقام العاقد أو ممن كان وقع العقد له والكفيل بهذه الصفة وإنما التزم ما التزمه من الكفالة فلا يصير به في حكم العاقد للسلم بخلاف المسلم إليه فإنه عاقد فيجوز صلحه بطريق الفسخ والدليل على الفرق أن رب السلم إذا زاد للمسلم إليه درهما جاز ولو زاد الكفيل في رأس المال درهما كان باطلا وبه فارق سائر الديون فالصلح هناك ليس بتصرف في السبب الموجب للفسخ وإنما هو تصرف في الدين الواجب ولهذا جاز بأي بدل كان والكفيل مطلوب بالدين كالأصيل ولهذا جاز الصلح معه.(12/258)
قال: وإذا أسلم الرجلان إلى رجل في طعام فصالحه أحدهما على رأس ماله فالصلح موقوف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فإن أجازه الآخر جاز وكان المقبوض من رأس المال مشتركا بينهما وما بقي من طعام السلم مشتركا بينهما وإن لم يجزه فالصلح باطل وعند أبي يوسف الصلح جائز بين المصالح والمسلم إليه لما قلنا في المسألة الأولى أن الصلح عن المسلم فيه على رأس المال كالصلح عن سائر الديون على أي بدل كان عنده ثم أخذ رب الدين إذا صالح عن نصيبه مع المديون على بدل جاز الصلح ويخير الآخر بين أن يشاركه في المقبوض وبين أن يرجع على المديون بنصيبه من الدين كذلك هنا إذا صالح على رأس المال ولأن أكثر ما فيه أن هذا فسخ العقد ولكل واحد من المتعاقدين حق التفرد بالفسخ في نصيب نفسه كما في بيع العين لو اشترى رجلان عينا ثم أقال أحدهما البيع في نصيبه مع البائع جاز بدون رضي الآخر فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال في هذا الصلح قسمة الدين قبل القبض وذلك لا يجوز بيانه أنه إن كان صلحه عن نفسه خاصة فلا يتحقق ذلك إلا بأن يتميز نصيبه عن نصيب صاحبه وهذا هو القسمة وإن كان صالحه عن النصف من النصيبين جميعا فلا يمكن تصحيحه بدون إجازة الآخر لتناوله نصيبه وفقه هذا الكلام أن وجوب المسلم فيه بعقدهما إذا هو لم يمكن موجودا قبل العقد والعقد منهما واحد فكل واحد منهما في التصرف فيه كشطر العلة وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم ما لم يتم ذلك بإجازة الآخر كالمعتقة بين رجلين زوجها أحدهما وبه فارق بيع العين فقد كانت العين هناك موجودة قبل العقد محلا لتصرف كل واحد منهما إلا أن يكون ثبوت ولاية التصرف فيه لكل واحد منهما بالعقد فلهذا كان الفسخ من كل واحد منهما في نصيبه كأنه كان منفردا به وهناك المسلم فيه لم يكن موجودا قبل العقد وجواز التصرف باعتبار وجوبه بالعقد فكان كل واحد منهما فيه كشطر العلة ولأنه لو جاز الصلح من أحدهما هنا يؤدي إلى(12/259)
أن يسقط حق رب السلم عن المسلم فيه ويتقرر في رأس المال ثم يعود في المسلم فيه وذلك لا يجوز كما لو تقايلا السلم ثم أراد فسخ الإقالة لم يجز ذلك بخلاف بيع العين وبيان الوصف أن الآخر إذا اختار المشاركة في المقبوض مع المصالح كان ما بقي من طعام السلم مشتركا بينهما وقد سقط بالصلح حق المصالح عن(12/260)
ص -128- ... المسلم فيه وتقرر في رأس المال فلا يجوز أن يعود حقه بعد ذلك في المسلم فيه وبه فارق سائر الديون إلا أن أبا يوسف يقول إنما لا يجوز أن يعود حقه فيما كان ساقطا لأن الساقط مثلا شيء كما في فصل الإقالة وهنا إنما يعود بحقه فيما هو قائم وهو النصف الباقي من طعام السلم وأما بيان قول أبي يوسف فإنه يقول للآخر الخيار فإن شاء شارك القابض في المقبوض لأن أصل رأس المال كان مشتركا بينهما فلا يسلم لأحدهما منه شيء إلا بتسليم الآخر وإذا شاركه في المقبوض كان الباقي في ذمة المسلم إليه مشتركا بينهما وإن شاء سلم المقبوض للقابض ويرجع على المسلم إليه بطعام السلم فإذا فعل ذلك ثم أراد الرجوع عن شريكه لم يكن له ذلك لأنه كان مخيرا بين شيئين فإذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما فليس له أن يرجع فيضمن للآخر بعد ذلك فإن نوى ما على المسلم إليه كان له أن يرجع على شريكه بنصف المقبوض لأنه إنما سلم له المقبوض بشرط أن يسلم له ما في ذمة المسلم إليه فإذا نوى بطل تسليمه كالمحتال عليه إذا مات مفلسا عاد الدين إلى ذمة المحيل.(12/261)
قال: وهذا بمنزلة رجلين لهما على رجل مائة درهم فصالحه أحدهما من حصته على ثوب وسلم له الآخر واختار اتباع المديون فنوى ما عليه كان له أن يرجع على صاحب الثوب في الثوب فيأخذ منه نصفه إلا أن يرضى صاحب الثوب أن يرد عليه خمسة وعشرين درهما ولا يعطيه شيئا من الثوب كان له ذلك حينئذ والخيار فيه إلى صاحب الثوب كما في الابتداء لو اختار المشاركة معه كان صاحب الثوب بالخيار بين أن يعطيه خمسة وعشرين درهما وبين أن يعطيه نصف الثوب لأن من حجته أن يقول مبنى الصلح على التجوز بدون الحق إنما توصلت إلى نصيبي لأني رضيت بدون حقي بخلاف ما إذا اشترى بنصيبه ثوبا وهذا فرق معروف في كتاب الصلح وكذلك لو كان بالسلم كفيل فصالح أحد صاحب السلم مع الكفيل على رأس ماله فهو كالصلح مع الأصيل على الخلاف الذي بينا.
قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل دراهم في طعام ثم صالحه على رأس ماله ثم أراد أن يشتري برأس ماله شيئا قبل أن يقبضه في القياس له ذلك وهو قول زفر لأن عقد السلم ارتفع بالفسخ بقي رأس المال في ذمته بحكم القبض لا بحكم العقد وهو دين لا يستحق قبضه في المجلس فيجوز الاستبدال به كسائر الديون ألا ترى أن السلم لو كان فاسدا كان له أن يستبدل برأس المال قبل الاسترداد لهذا المعنى واستحسن علماؤنا رحمهم الله فقالوا لا يجوز ذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلمت في شيء فلا تصرفه في غيره" فلو جوزنا هذا كان صارفا حقه من طعام السلم إلى شيء آخر بهذا الطريق وفي الحديث المعروف "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" وبهذا الطريق نأخذ شيئا آخر غير رأس المال وغير المسلم فيه وذلك غير جائز ثم حال رب السلم مع المسلم إليه بعد الفسخ كحال المسلم إليه مع رب السلم حال قيام العقد قبل قبض رأس المال فكما لا يجوز الاستبدال(12/262)
ص -129- ... هناك فكذلك لا يجوز هنا وبه فارق السلم الفاسد من الأصيل لأنه ما كان موجبا تسليم رأس المال ليعتبر الانتهاء بالابتداء وهنا العقد كان موجبا تسليم رأس المال فاعتبرنا حال الفسخ بحال العقد في المنع من الاستبدال.
قال: وإذا أسلم دراهم ودنانير في طعام وقد علم وزن أحدهما ولم يعلم وزن الآخر فلا خير فيه عند أبي حنيفة وجائز عندهما لأن إعلام قدر رأس المال عندهما ليس بشرط والإشارة إلى العين تكفي وعند أبي حنيفة إعلام القدر فيما يتعلق العقد على قدره شرط فإذا لم يعلم وزن أحدهما بطل العقد في حصته لانعدام شرط الجواز فيبطل في حصة الآخر أيضا لاتحاد الصفقة أو لجهالة حصة الآخر والسلم في المجهول لا يصح ابتداء.(12/263)
قال: وإذا أسلم عشرة دراهم في ثوبين أحدهما هروي والآخر مروي فما لم تتبين حصة كل واحد منهما من رأس المال لا يجوز العقد" عند أبي حنيفة كما في الحنطة والشعير لأن الانقسام باعتبار القيمة وطريق معرفته الحرز فلا يتيقن بحصة كل واحد من الثوبين إلا بالقسمة وإن كانا موصوفين بصفة واحدة ففي القياس كذلك لأن الثياب ليست من ذوات الأمثال والانقسام على الثوبين باعتبار القيمة كما لو اشتراهما عينا وفي الاستحسان يجوز لأن الموصوفين بصفة واحدة لا يتفاوتان في الظاهر في المالية ما داما في الذمة والانقسام حال كونهما في الذمة فحصة كل واحد منهما نصف رأس المال بيقين فيجوز العقد من غير إعلام حصة كل واحد منهما كما لو أسلم عشرة في كرين من حنطة بخلاف ما لو اشتراهما عينا فإنهما يتفاوتان في المالية إذا كانا عينين فلهذا كان انقسام الثمن عليهما باعتبار القيمة فإن قبض الثوبين في السلم ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة على خمسة دراهم فليس له ذلك عند أبي حنيفة إلا أن يبين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا بأس بذلك لأن حصة كل واحد منهما من رأس المال معلومة بيقين فبيعه مرابحة على ذلك كالكرين وبيانه ما ذكرنا أن الثمن بمقابلة ما تناوله العقد ولا تفاوت في ذلك ولهذا جاز العقد عند أبي حنيفة والدليل عليه أنهما لو تقايلا السلم في أحدهما يرد من رأس المال خمسة ولو وجد بأحدهما عيبا فرده يرده بخمسة فعرفنا أن حصة كل واحد منهما خمسة بيقين فكأنه سمى ذلك في العقد وأبو حنيفة يقول اشترى الثوبين بثمن واحد فلا يبيع أحدهما مرابحة كما لو اشتراهما عينا بخلاف الكرين فإن هناك لو اشتراهما عينا كان له أن يبيع أحدهما مرابحه وبيان الوصف أن رب السلم مشترى والمسلم فيه مبيع فإذا قبض المسلم فيه كان المقبوض عين ما تناوله العقد لا غيره لأنه إن جعل غيره كان استبدالا بالمسلم فيه وذلك لا يجوز فمن هذا الوجه جعل كأنه عين ما تناله العقد فأما في الحقيقة هو(12/264)
غيره لأن العقد يتناول دينا في الذمة والعين غير الدين فباعتبار هذه الحقيقة لم يكن المقبوض عين ما تناوله العقد فلا بد من طريق يجعل بذلك الطريق كأنه عين المعقود عليه وذلك الطريق أن يجعل عند القبض كأنهما جددا ذلك العقد على المقبوض وهو معنى قول المتقدمين رحمهم الله للقبض في باب السلم حكم عقد جديد والدليل عليه ما قاله في(12/265)
ص -130- ... الزيادات لو أسلم إلى رجل مائة درهم في كر حنطة ثم اشترى المسلم إليه من رب السلم كر حنطة بمائتي درهم إلى سنة وقبضه فما حل الطعام في السلم أعطاه ذلك الكر لم يجز لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن وإنما يكون ذلك إذا جعلا عند القبض كأنهما جددا العقد عليه وإذا تقرر هذا فهو وما لو اشتراهما عينا بثمن واحد سواء وقال في السير الكبير لو أحرز المشركون كرا لرجل من المسلمين بدراهم فدخل إليهم مسلم وأسلم إليهم مائة درهم في كر حنطة فأعطوه ذلك الكر فأخرجه فلا سبيل للمالك القديم عليه لأنه أخذه عوضا عن الكر الذي له في ذمتهم فلو
أخذه المالك القديم أخذه بمثله وذلك غير مفيد وفي السلم عند القبض يصير كالمجدد للعقد على ذلك الكر بالمائة فيأخذه المالك القديم بذلك ثم أكثر ما في الباب أن يثبت شبهة تجديد العقد بينهما وإن لم يثبت الحقيقة والشبهة في بيع المرابحة بمنزلة الحقيقة ألا ترى أنه لو أشترى شيئا بثمن مؤجل لا يبيعه مرابحة من غير بيان لشبهة الزيادة بسبب الأجل ولو أخذ عينا صلحا من دين له على إنسان لا يبيعه مرابحة على ذلك الدين لشبهة الحط بسبب الصلح والذي يوضح كلام أبي حنيفة أن الثوبين الموصوفين لا يتفاوتان في الذمة ويتفاوتان بعد التعيين ألا ترى أنه لو قبضهما وباع أحدهما من إنسان ثم استهلك ذلك الثوب على المشتري لا يجب عليه تسليم الثوب الآخر وإنما يجب قيمة المستهلك فدل أنهما لا يتماثلان عينا فجاز العقد في الابتداء في الدين وكذلك الإقالة في أحدهما وأما بيع المرابحة لا يكون إلا بعد التعيين فيعتبر التفاوت في حكم بيع المرابحة فلا يبيع أحدهما مرابحة من غير بيان ولا بأس بأن يبيعهما مرابحة على غيره لأن ثمنهما مسمى معلوم كما لو اشتراهما عيناً.(12/266)
قال: ولا بأس بالسلم في المسوح والأكسية والعبا والجواليق والكرابيس بصفة معلومة عرضا وطولا ورفعة لما بينا أن إعلامه على وجه لا يبقى فيه تفاوت في المالية ولا يبقي بينهما منازعة في التسليم تمكن قال: ولا بأس بالرهن والكفيل في السلم أما برأس المال يجوز أخذ الكفيل والرهن عندنا" ولا يجوز عند زفر وله في السلم روايتان لأن الرهن والكفيل مما يتأخر قبضه وقبض رأس المال مستحق في المجلس فأخذ الكفيل والرهن به لا يفيد ولكنا نقول رأس المال دين واجب على رب السلم فالكفيل يلتزم المطالبة بما هو مضمون على الأصيل وهو شرط صحة الكفالة والرهن للاستيفاء ورأس مال السلم دين يستوفي فإن هلك الرهن في المجلس وفي قيمته وفاء برأس المال صار مستوفيا به رأس المال فإن افترقا قبل هلاك الرهن بطل السلم لأن الاستيفاء لا يتم إلا بهلاك الرهن والافتراق قبل تمام القبض يبطل السلم وكذا إن نقد الكفيل رأس المال قبل أن يتفرق المتعاقدان ثم العقد وإن افترقا قبل أن ينقد الكفيل بطل العقد ولا معتبر بذهاب الكفيل لأنه ليس بعاقد حتى لو ذهب وجاء برأس المال قبل افتراق المتعاقدين فأدى تم العقد وهذه ثلاثة فصول الوكالة والكفالة والحوالة والجواب في الكل واحد أن قبض رأس المال من الوكيل أو المحتال عليه قبل افتراق المتعاقدين تم عقد السلم ولا معتبر بذهاب الوكيل والمحتال عليه. وأما أخذ(12/267)
ص -131- ... الرهن والكفيل يجوز بالمسلم فيه وهكذا ذكر ابن شجاع عن زفر رحمهما الله تعالى وذكر الحسن عن زفر رحمهما الله تعالى أنه لا يجوز فعلى رواية ابن شجاع قال كل دين لا يجوز قبضه في المجلس ويجوز التأجيل فيه فأخذ الرهن والكفيل به صحيح للتوثيق والمسلم فيه بهذه الصفة بخلاف رأس المال وبدل الصرف وعلى الرواية الأخرى قال كل دين لا يجوز الاستبدال به قبل القبض فأخذ الرهن والكفيل به لا يجوز لأن في الكفالة إقامة ذمة الكفيل مقام ذمة الأصيل فيكون في معنى الاستبدال من حيث المحل والحوالة كذلك وفي الرهن يصير مستوفيا بالهلاك والرهن ليس من جنس الدين فكان هذا استبدالا فعلى هذا لا يجوز الرهن بالمسلم فيه ورأس المال وبدل الصرف. وحجتنا في ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من يهودي طعاما نسيئة ورهنه درعه وشراء الطعام نسيئة يكون سلما وقد روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه جوز الرهن بالسلم واستدل فيه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283-283] والمعنى فيه أن عند هلاك الرهن يصير مستوفيا عين حقه لا مستبدلا فإن عين الرهن لا تكون مملوكة للمرتهن ولهذا لو كان الرهن عبدا فمات كان كفنه على الراهن وإنما يصير مستوفيا دينه من ماليته والأعيان باعتبار صفة المالية جنس واحد ولهذا لو ارتهن أحد الشريكين بنصيبه من الدين فهلك الرهن يرجع شريكه عليه بنصف نصيبه من الدين وإذا ثبت أنه استيفاء لا استبدال جاز الرهن بكل دين يجب استيفاؤه وفي الحوالة والكفالة لا شك فإن المستوفي من الكفيل والمحتال عليه كالمستوفي من الأصيل في أنه عين حق الطالب لا بدله.(12/268)
قال: وإذا أسلم في شيء من الثياب واشترط طوله وعرضه بذراع رجل معروف لم يجز كما في المكيل إذا عين المكيال وهذا لأن مقدار المسلم فيه بالذراع المعروف وربما يموت ذلك الرجل فيتعذر تسليم المسلم فيه إذا حل الأجل وإذا اشترط كذا وكذا ذراعا فهو جائز وله ذراع وسط لأن مطلق التسمية تنصرف إلى المتعارف كمطلق تسمية الدراهم في الشراء تنصرف إلى نقد البلد والمتعارف الذراع الوسط ويسمى المكسرة وسمى لذلك لأنه كسره من ذراع قبضة الملك وإن الذراع الوسط سبع قبضات وهي تسع مسببات ومعرفة هذا في كتاب العشر والخراج قال: وإذا أسلم في الحرير وزنا ولم يشترط الطول والعرض لم يجز" لأن المالية لا تصير معلومة إلا ببيان الطول والعرض في الثياب ولأنه لو جاز هذا لكان يأتيه بقطاع الحرير بذلك الوزن الذي سمى فيجبر على أخذه ونحن نعلم أنه لم يقصد ذلك فلهذا لا يجوز ما لم يبين الطول والعرض ولا بد من بيان الوزن أيضا فيما تختلف ماليته بالثقل والخفة كالحرير والوذاري وما أشبه ذلك وإن اشترط الطول والعرض بقيمان غير الذراع فإن كان قيمانا معروفا من قيامين التجار فهو جائز لأن المقدار يصير معلوما بذلك وهو المقصود وكذلك القدرة على التسليم تحصل بتسمية ذلك.
قال: وإن اشترط الرجل في سلمه ثوبا جيدا ثم جاء به المسلم إليه فقال رب السلم:(12/269)
ص -132- ... ليس هذا بجيد وقال المسلم إليه جيد فإن الحاكم يريه رجلين من أهل تلك الصناعة" لأنه لا علم عنده فيما إذا اختلفا فيه فيرجع إلى من له فيه علم كما لو احتاج إلى معرفة قيمة المستهلك والأصل فيه قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإذا اجتمعا على أنه جيد مما يقع عليه إسم الجودة وإن كان ليس نهاية في الجودة أجبر رب السلم على أخذه لأن المسلم إليه وفي بما شرط له فالمستحق بالتسمية أدنى ما يتناوله الاسم إذ لا نهاية للأعلى فإنه ما من جيد إلا وفوقه أجود منه ألا ترى أنه لو اشترط في العبد أنه كاتب أو خباز فإنه يستحق به أدنى ما يتناوله الاسم وإنما شرط المثنى لأنه يحتاج إلى فصل الخصومة بينهما وإنما يمكنه ذلك بحجة تامة وهو قول المثنى.
قال: وإن كان اشترط وسطا فأتاه المسلم إليه بجيد أجبر رب السلم على قبوله وعلى قول زفر لا يجبر لأن الجيد غير الوسط وهو متبرع عليه بصفة الجودة ولو تبرع عليه بزيادة قدر كان له أن لا يقبل تبرعه فكذلك إذا تبرع بالجودة ولكنا نقول أوفاه حقه بكماله وأحسن في قضاء الدين قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم أحسنكم قضاء للدين" وقال للوزان: "زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن".(12/270)
قال: فإن أتاه بالثوب الجيد والمشروط عليه ثوب وسط وقال خذ هذا وزدني درهما فلا بأس بذلك إن فعل وهذه في الحاصل ثمانية فصول أربعة في الثياب وأربعة في المقدرات أما في الثياب إن أتاه بأزيد وصفا أو بأدون وصفا أو بأزيد قدرا أو بأنقص قدرا أما في الثياب إن أتاه بأزيد وصفا أو ذرعا بأن أتاه بأحد عشر ذراعا وقد كان المسلم فيه عشرة أذرع فقال خذ هذا وزدني درهما يجوز وتكون تلك الزيادة بمقابلة صفة الجودة أو الذراع الزائد وذلك مستقيم ألا ترى أنه لو باعه ثوبا جيدا بثوب وسط ودرهم يجوز ولو باعه أحد عشر ذراعا بعشرة أذرع ودرهم يجوز فكذلك القبض بحكم السلم ولو أتاه بأنقص وصفا بأن أتاه بثوب رديء فقال خذ هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لأن هذا منهما إقالة للعقد في الصفة وحصة الصفة من رأس المال غير معلومة فلا تجوز الإقالة فيه وكذلك لو أتاه بتسعة أذرع فقال خذ هذا وأرد عليك درهما لأن الذرع في الثوب صفة ولأن رأس المال لا ينقسم على ذرعان الثوب باعتبار الأجزاء فلم تكن حصة الذرع معلومة من رأس المال فلا تجوز الإقالة فيه أما في المقدرات لو أسلم عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط فأتاه بطعام جيد وقال خذ هذا وزدني درهما فإنه لا يجوز لأن الدرهم الزائد بمقابلة الجودة ولا قيمة للجودة في الأموال الربوية؟ ألا ترى أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز وسط ودرهم لا يجوز وهذا في معنى ذلك فإنه يأخذ هذا القفيز الجيد عوضا عن الوسط الذي له في ذمته وعن الدرهم الزائد ولو أتاه بأحد عشر قفيزا وقال خذ هذا وزدني درهما جاز لأن الدرهم الزائد بمقابلة القفيز الزائد وهو جائز ولو أتاه بعشرة أقفزة رديئة فقال خذ هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لأنه لا قيمة للصفة فكيف تستقيم الإقالة على القيمة فيه ولو أتاه بتسعة أقفزة وقال: خذ هذا(12/271)
ص -133- ... وأرد عليك درهما يجوز بخلاف الثوب لأن رأس المال ينقسم على القفيزين باعتبار الأجزاء فحصة القفيز من رأس المال معلومة بخلاف ذرعان الثوب وعن أبي يوسف أنه يجوز في الفصول كلها ذكر قوله في كتاب الصلح لأن رب السلم يزيد في رأس المال فتلحق الزيادة بأصل العقد أو المسلم إليه يحط شيئا من رأس المال والحط أيضا يلتحق بأصل العقد لا أن يكون بمقابلة الصفة أو يكون فيه إقالة العقد في شيء ثم المسلم إليه أجنبي في قضاء الدين إذا أتى بالأجود ورب السلم أحسن إليه حين تجوز بالرديىء فإذا أمكن تحصيل مقصودهما بهذا الطريق وجب حمل تصرفهما عليه عملا بقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر 17-18] ولكنا نقول هذا إذا لم ينصا على النص والمقابلة أما إذا نصا على ذلك لا يمكن حمل فعلهما على التبرع كما لو باع درهما بدرهمين لا يجوز ولا يجعل أحد الدرهمين هبة وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله أن أبا حنيفة جوز ذلك في الثياب ولم يجوزه في الطعام وهذه الرواية تخالف رواية محمد في الثوب إذا أتاه بأردىء مما شرط أو بأنقص مما شرط والاعتماد على رواية محمد.(12/272)
قال: وإذا اختلفا في السلم فقال الطالب شرطت لي جيدا وقال المطلوب شرطت لك وسطا أو قال الطالب أسلمت إليك في حنطة وقال المطلوب أسلمت إلي في شعير تحالفا وترادا" وحكم التحالف ثابت بالسنة بخلاف القياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" وفي حديث آخر قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها فالقول ما يقوله البائع أو يترادان" وسنقرر هذا في باب التحالف إن شاء الله تعالى فنقول الآن إذا اختلفا في جنس المعقود عليه فتعلق العقد بالمعقود عليه أكثر من تعلقه بالثمن ثم لو اختلفا في جنس الثمن تحالفا ففي جنس المعقود عليه أولى وكذلك إذا اختلفا في الصفة لأن المسلم فيه دين وإنما يعرف الدين بصفته فالجيد منه غير الوسط ألا ترى أنهما لو أحضرا كانا غيرين والاختلاف في الصفة فيما هو دين يكون اختلافا في المعقود عليه فيجرى التحالف بينهما بخلاف ما إذا اختلفا في الصفة في بيع العين فإن العين لا تختلف باختلاف صفته فلا يكون ذلك اختلافا بينهما في المعقود عليه.
قال: والذي يبدأ به في اليمين المطلوب في قول أبي يوسف الأول، لأنه بمنزلة البائع وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام قال: "فالقول ما يقوله البائع" فظاهر هذا يقتضى أن يكتفي بيمينه وقد قام الدليل على أنه لا يكتفي بذلك فيبقى هذا الظاهر معتبرا في البداية بيمينه ولأنه أشبه بالمنكرين فإنه ينكر ما ادعاه الطالب من الجنس والصفة لنفسه واليمين على المنكر ثم رجع وقال يبدأ بيمين الطالب وهو قول محمد لأن أول التسليمين في عقد السلم على الطالب وهو رأس المال فلذلك أول اليمينين عليه ولأنه بنكوله يثبت ما ادعاه المطلوب منه ويقع الاستغناء عن يمينه وبعض مشايخنا رحمهم الله يقول: القاضي يقرع بينهما ويبدأ بيمين من خرجت قرعته نفيا لتهمة الميل عن نفسه وقيل الرأى في ذلك إلى القاضي.(12/273)
ص -134- ... وقيل ينظر أيهما سبق بالدعوة يبدأ بيمين خصمه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله قائم مقام إقراره وإن قامت لهما جميعا بينة أخذت بينة الطالب لأن في بينته زيادة إثبات ولأنه يقيم البينة على حق نفسه فالمطلوب إنما يقيم البينة على حق الطالب وبينة الإنسان على حق نفسه أولى بالقبول وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعن محمد إن كان افترقا عن مجلس العقد فكذلك الجواب وإن لم يفترقا عن مجلس العقد يقضي بسلمين عشرة في كر حنطة ببينة رب السلم وعشرة في كر شعير بينة المسلم إليه ومحمد رحمه الله يقول البينات حجج فمهما أمكن العمل بها لا يجوز إبطال شيء منها وهنا العمل بالبينتين يمكن إذلا منافاة بين العقدين فيجب العمل بهما كحجج الشرع بخلاف ما بعد الافتراق فإنه ما قبض في المجلس إلا عشرة واحدة فلا يمكن القضاء بالعقدين فلهذا رجحنا بينة الطالب وقاس هذا ببيع العين فإنه لو قال بعت منك هذه الجارية بألف درهم وقال المشتري بعتني العبد بألف درهم وأقاما جميعا البينة يقضى بالعقد فيهما جميعا بالاتفاق فكذلك في السلم وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يكن بينهما إلا عقد واحد فالقضاء بالعقدين قضاء بما لم يطلبا وليس للقاضي ذلك يقرره أنه لا مقصود للمطلوب في هذة البينة إثباتا لأن حقه في رأس المال وهو سالم له ولا مؤنة عليه في ما في ذمته حنطة كان أو شعيرا فإنما مقصوده نفي بينة الطالب فرجحنا بينة الطالب للإثبات بخلاف بيع العين فالبائع هناك ببينته يثبت إزالة العين عن ملكه ليسقط مؤنته عن نفسه بالتسليم إلى المشتري فكان هو مثبتا كالمشتري فلهذا قضينا بالعقدين ثم نص على الخلاف فيما إذا اختلفا في جنس المسلم فيه ولم يذكر ذلك فيما إذا اختلفا في صفته ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال هو على الخلاف أيضا ومنهم من فرق لمحمد بينهما فقال باختلافهما في الصفة لا يتحقق(12/274)
الخلاف في العقد ألا ترى أنه قد يسلم في الجيد ويأخذ مكانه رديئا ويجوز أن يسلم في الرديء فيعطيه مكانه جيدا فعرفنا أن باختلاف الصفة لا يختلف العقد فلا يمكن القضاء هناك بالعقدين بخلاف الجنس فإن بالسلم بالحنطة لا يجوز أخذ الشعير فكان الاختلاف في ذلك اختلافا في العقد وقد أثبت كل واحد منهما ما ادعي من العقد بالبينة فيقضي بالعقدين فإن لم يكن لهما بينة وتحالفا فسخ القاضي العقد بينهما إذا طلب ذلك أحدهما قطعا للمنازعة لما في امتدادها من الفساد ودفع الضرر عن كل واحد منهما بإعادة رأس ماله إليه وقد بينا في باب اللعان أنه يفرق بينهما بعد التلاعن من غير طلبهما لأن حرمة الاجتماع بين المتلاعنين ما داما مصرين حق الشرع فلا يتوقف التفريق على طلبهما أو طلب أحدهما وهنا فسخ العقد حقهما فيتوقف على طلبهما أو طلب أحدهما.
قال: فإن لم يختلفا في المسلم فيه ولكن اختلفا في مكان الإيفاء فقال الطالب شرطت لي مكان كذا وكذا وقال المطلوب بل مكان كذا وكذا فإن أقام البينة فالبينة بينة الطالب وإن لم يكن لهما بينة فالقول قول المطلوب مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه(12/275)
ص -135- ... وإن لم ينص عليه في الكتاب وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يتحالفان ويتردان السلم وقيل هذا الاختلاف على القلب فإن من مذهب أبي حنيفة أن بيان مكان الإيفاء شرط كالصفة فلا بد من ذكره فالاختلاف فيه يوجب التحالف عنده وعندهما ليس بمنزلة الصفة بل هو زائد لا يحتاج إلى ذكره والأصح أن الخلاف في موضعه فإن عندهما متعين مكان الإيفاء موجب العقد ولهذا لا يحتاج إلى ذكره بل يتعين موضع العقد للإيفاء والاختلاف في موجب العقد يوجب التحالف وعند أبي حنيفة هو موجب بالشرط كالأجل والاختلاف فيه لا يوجب التحالف ثم وجه قولهما أن المالية فيما له حمل ومؤنة تختلف باختلاف الأمكنة فالاختلاف فيه كالاختلاف في الصفة وهذا لأن المقصود بالعقد المالية وأبو حنيفة يقول القياس يمنع التحالف تركنا ذلك بالسنة وإنما جاءت السنة بالتحالف عند الاختلاف فيما هو من صلب العقد وهو البدل فأما المكان ليس من صلب العقد فالاختلاف فيه كالاختلاف في الأجل وهذا لأن المعقود عليه لا يختلف باختلاف مكان تسليمه بخلاف الصفة فالمعقود عليه إذا كان دينا يختلف باختلاف صفته فلهذا فرق بينهما في حكم التحالف.(12/276)
قال: وإن اختلفا في الأجل فهو على ثلاثة أوجه ما أن يختلفا في مقدار الأجل أو في مضي الأجل أو في أصل الأجل فإن اختلفا في مقدار الأجل فقال الطالب كان الأجل شهرا وقال المطلوب شهرين فالقول قول الطالب مع يمينه لأن الأجل حق المطلوب قبل الطالب فإن باعتباره تتأخر مطالبته عنه فالمطلوب يدعي زيادة في حقه والطالب ينكر والقول قول المنكر مع يمينه فإن أقاما البينة فالبينة بينة المطلوب لإثباته الزيادة في حقه وإن اختلفا في مضيه فقال الطالب كان الأجل شهراً وقد مضى وقال المطلوب إنما عقدنا العقد اليوم والأجل شهر فالقول قول المطلوب إما لأن الطالب يدعي تاريخا سابقا في العقد والمطلوب منكر لذلك أو لأنهما تصادقا على ثبوت الأجل حقا للمطلوب ثم الطالب يدعي إيفاء حقه والمطلوب ينكر فالقول قول المنكر وإن أقام البينة فالبينة بينة المطلوب أيضا لأن المقصود إثبات الأجل وذلك ببينة المطلوب لأنه يثبت قيام الأجل في الحال والطالب ينفي ذلك ببينته فكان القول قوله من وجه والبينة بينة من وجه كالمودع إذا ادعى رد الوديعة فالقول قوله لإنكاره الضمان. وإن أقام البينة فالبينة بينته أيضا لإثباته الرد فإن اختلفا في شرط الأجل ففي القياس القول قول من ينكر شرط الأجل والعقد فاسد لأن عقد السلم لا يصح إلا باشتراط الأجل فمن ينكر الأجل فهو منكر للعقد في المعنى فالقول قوله ولأن الأجل شرط زائد فإذا اختلفا فيه كان القول قول من ينكره كالخيار في البيع استحسن أبو حنيفة فقال القول قول من يدعي الأجل أيهما كان وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان الطالب يدعي الأجل فكذلك وإن كان المطلوب هو الذي يدعي الأجل فالقول قول الطالب لانكاره قياسا لأن الأجل حق المطلوب قبل الطالب فإذا ادعاه المطلوب وأنكر الطالب فكلاهما خرج مخرج الدعوى والإنكار فكان القول قول المنكر وذا ادعى الطالب الأجل فكلام المطلوب(12/277)
ص -136- ... في الإنكار تعنت لأن الطالب أقر له بحقه وهو أنكر ذلك ليفسد العقد ولا يلتفت إلى قول المتعنت فهو كما لو اختلفا المضارب ورب المال فقال رب المال شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب بل شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال لإنكاره الزيادة ولو قال رب المال شرطت لك نصف الربح وقال المضارب إلا عشرة فالقول قول رب المال لأن المضارب متعنت في إنكاره بعض ما أقر به ليفسد العقد وأبو حنيفة يقول الأجل من شرائط السلم فاتفاقهما على عقد السلم يكون اتفاقا على شرائطه فكان المنكر منهما للأجل راجعا عما أقر به والرجوع عن الإقرار باطل ألا ترى أن الاختلاف لو وقع بين الزوجين في النكاح أنه كان بشهود أو بغير شهود يجعل القول قول من يدعى أن النكاح بشهود لهذا المعنى وهذا لأن شرط الشيء تبع له وثبوت التبع بثبوت الأصل.
ألا ترى أن من نذر صلاة تلزمه الطهارة فاتفاقهما على أصل العقد يكون اتفاقا على ما هو من شرائطه فإن أقام البينة فالبينة بينة من يثبت الأجل لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد إذ الأجل شرط زائد كالخيار فمن يثبته بالبينة كانت بينته أولى بالقبول.(12/278)
قال: وإذا تتاركا السلم بعد قبض رأس المال ثم اختلفا في رأس المال فالقول قول المطلوب مع يمينه والبينة بينة الطالب لأنه يثبت الزيادة ببينته والمطلوب ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه ولا يتحالفان بخلاف بيع العين فإنهما إذا اختلفا هناك في الثمن بعد الإقالة تحالفا وهذا لأن المقصود بالتحالف الفسخ والإقالة كالبيع في احتمال الفسخ ألا ترى أنه لو هلك المبيع بعد الإقالة قبل الرد تنفسخ الإقالة ولو وجد به عيبا فإن حدث عند المشتري يرده بذلك وإقالة السلم لا تحتمل الفسخ حتى لو كان رأس المال عينا لم تنفسخ الإقالة بالهلاك في يد المسلم إليه ولا بالرد بالعيب وهذا لأن المسلم فيه دين وبالإقالة يسقط والساقط متلاشى فلا يتصور فسخ السبب فيه وإنما كان وجوبه بالعقد فلا يبقى بعد انفساخ العقد وبدون بقاء ما تتناوله الإقالة لا يتصور فسخ الإقالة وهناك العقد تناول العين وهو باقي بعد الإقالة.
قال: وإذا أسلم الرجل عشرة دراهم إلى رجل في طعام فوجد فيها درهما زائفا بعد ما افترقا فأنكر رب السلم أن يكون ذلك من دراهمه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لأنه ينكر استيفاء حقه لأن حقه في الجياد وهذا بخلاف بيع العين فإن هناك المشتري إذا طعن بعيب وأنكر البائع أن يكون ما أحضره هو المبيع فالقول قول البائع لأن العقد تناول العين وقد تصادقا على قبض المشتري لما هو المعقود عليه ثم المشتري يدعي عليه لنفسه حق الرد والبائع منكر لذلك وهنا حق المسلم إليه يثبت في الجياد دينا وهو منكر لقبض الجياد فالقول قوله وهذا إذا لم يسبق منه إقرار باستيفاء الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال بأن كان ساكتا أو أقر بقبض الدراهم فاسم الدراهم يتناول الجياد والزيوف فأما إذا أقر بشيء مما ذكرنا كان هو في دعوى الزيافة بعد ذلك مناقضا فلا يقبل قوله.
قال: وإذا أسلم إليه مائة درهم في طعام وأعطاه بعضها وأحاله على رجل ببعضها وبقي(12/279)
ص -137- ... عنده بعضها ثم تفرقا فله من السلم بحساب ما نقده وقد بطل ما سوى ذلك" لافتراقهما قبل قبض رأس المال فإنه بالحوالة لا يصير قابضا بل حقه في ذمة المحال عليه كهو في ذمة المحيل وقد بطلت الحوالة لأنها كانت برأس مال السلم وقد بطل حق المسلم إليه عن ذلك حين افترقا قبل القبض فتبطل الحوالة لذلك ويرجع رب السلم بالدراهم التي أحاله بها على المحتال عليه يريد به أن ذلك كان دينا للمحيل على المحتال عليه فيرجع عليه بدينه كما كان.
قال: ويجوز أن يسلم الحيوان ولا مالا يكال ولا يوزن فيما يكال ويوزن لأن رأس المال معجل في هذا العقد يجوز تعينه فكل ما يصلح مبيعا عينا يصلح أن يكون رأس المال وإنما يجوز السلم عند انعدام وصفى علة ربا الفضل الجنسية والقدر وقد وجد ذلك قال: ويسلم الثوب الفوهي في الثوب الهروى والمروى وما أشبه ذلك من الثياب المختلفة باختلاف البلدان والصنعة يسلم بعضها في بعض" وكذلك الزطي في الهروي والكسا في الطيلسان والطيلسان في الكسا والثوب من الكتان في الثوب من القطن إما لاختلاف الأصول أو لاختلاف الصنعة على وجه يوجب تبديل الاسم والمقصود والوذاري يراد به ما لا يراد به البلدى والزنديجي كذلك وإن كان أصل الكل واحدا وهو القطن وهو كالسعلاطوى مع الخمار الأسود جنسان وإن اتحد الأصل وهو الإبريسم واليعفوري مع الكساجنسان وإن اتحد الأصل وعند اختلاف الجنس فيما لا يكال ولا يوزن يجوز إسلام البعض في البعض.(12/280)
قال: ولا بأس بالسلم في الكتان والقطن والقز والإبريسم لأنه موزون معلوم مقدور التسليم وإن اشترط أن يوفيه السلم في مدينة كذا وفي مصر كذا فحيث ما دفعه إليه من ذلك المصر أو من تلك المدينة فله ذلك وليس لرب السلم أن يكلفه تسليمه إليه في موضع آخر منه لأن المستحق بالشرط أدنى ما يتناوله الاسم كما بينا في شرط الجيد فحيث ما دفعه إليه في ذلك المصر فقد وفى بالشرط ولأن نواحي المصر في المصر كمكان واحد بدليل جواز عقد السلم فإذا لم يعين موضعا من المصر كان له أن يسلم في أي موضع شاء منه فإن قيل:أليس أنه إذا استأجر دابة إلى مصر كذا فدخلها كان له أن يتبلغ عليها إلى منزله في المصر؟
قلنا: هذا مستحسن للعرف والعادة فإن الإنسان إذا استأجر دابة إلى مصر من الأمصار أنه لا يستأجر دابة أخرى بعد دخول ذلك المصر ليتبلغ عليها إلى منزله فالمستحسن من القياس بالعرف لا يرد نقضا على القياس ولا يعدو الموضع الذي فيه الغرف.
قال: ولا خيار في السلم في المسابق والفرا لأنها تختلف منها الصغيرة والكبيرة والمسبق ماله كمان طويلان كما يكون للأكراد وبعض العرب والفرو ما لا كم له قال: إلا أن يشترط من ذلك شيئا معروف الطول والعرض والتقطيع والصفة فحينئذ يجوز" لأنه معلوم مقدور التسليم.
قال: ولا خير في السلم في كل شيء اشترط فيه الأوقار والأحمال لأن ذلك يختلف فبعضها يكون أثقل من بعض وهذه الجهلة تفضي إلى المنازعة بينهما.(12/281)
ص -138- ... قال: وإن اشترط على المسلم إليه أن يحمل السلم إلى منزل صاحب السلم بعد ما يوفيه إياه في المكان الذي شرطه فلا خير فيه على هذا الشرط لأن العقد ينتهي بالإيفاء في المكان المشروط ثم قد شرط لنفسه منفعة بعد انتهاء العقد وهو الحمل وذلك مفسد للعقد كما لو شرط أن يطحنه وإن اشترط أن يوفيه إياه في منزله فلا بأس به استحسانا والقياس فيه مثل الأول من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول موضع هذا القياس والاستحسان إذا اشترط أن يوفيه في منزله بعد ما يوفيه في مكان كذا ليكون الفصل الثاني على وزان الفصل الأول وفي القياس لا يجوز لاشتراطه منفعة لنفسه بعد ما انتهى العقد نهايته إذ لا يتأتى إيفاؤه في منزله بعد الأيفاء في المكان المشروط إلا بالحمل فلفظ الحمل والأيفاء فيه على السواء وفي الإستحسان.(12/282)
قال: إن اشترط بلفظة الإيفاء فالثاني مثل الأول من جنسه فينفسخ به الشرط الأول ويصير كأنه اشترط ابتداء هذا فأما الحمل ليس من جنس الأيفاء فلا ينفسخ به الشرط الأول وهو نظير ما لو باعه بألف ثم باعه بالفين انفسخ به العقد الأول ولو وهبه لم ينفسخ به العقد الأول وبيان المجانسة أن العقد يقتضي الإيفاء لا محالة ولا يقتضي الحمل ألا ترى أن رب السلم قد يأتي إلى المسلم إليه ليوفيه في منزله فلا يحتاج إلى الحمل فعرفنا أن الحمل ليس من جنس الإيفاء من حيث أن العقد قد يخلو منه. وقيل بأن القياس والاستحسان فيما إذا اشترط ابتداء أن يوفيه في منزله في القياس لا يجوز لأنه لم يعين منزله وإنما المراد منزله عند حلول الأجل وذلك غير معلوم وقد يكون في هذا المصر وقد يكون في مصر آخر ولكنه استحسن فقال العادة لم تجر باستبدال المنزل بالمنزل في كل وقت أو الانتقال من المصر إلى المصر للتوطن ومنزله للحال معلوم فباعتبار الظاهر يكون هذا منزله عند حلول الأجل والتعين بالعرف كالتعيين بالنص وقيل بل موضع القياس والاستحسان ما إذا شرط أن يوفيه في منزله ولا يعلم المسلم إليه منزله في المصر في أي محلة هو ففي القياس لا يجوز للجهالة وفي الاستحسان يجوز لأن نواحي المصر كمكان واحد ولكن في هذين الوجهين لا فرق بين أن يكون بلفظ الحمل أو بلفظ الإيفاء وفي الكتاب قال نأخذ بالحمل في القياس وفي هذا بالاستحسان فعرفنا أن مراده الوجه الأول.
قال: ولا بأس بالسلم بالجبن والمصل لأنه موزون معلوم وبعض المتأخرين رحمهم الله يقولون هذا في مصل ديار خوارزم فإنه لا يخالطه الدقيق فإنا في مصل ديارنا ينبغي أن لا يجوز لأنه يخالطه دقيق الشعير وقد نقل ذلك وقد يكثر وبجنسه تختلف المالية فكان قياس السلم في الناطف الممون والأصح أنه إن كان معلوما عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت فالسلم صحيح.(12/283)
قال: وإذا اختلفا فقال رب السلم أسلمت إليك في ثوب يهودي وقال المسلم إليه بل هو في زطي يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لاختلافهما في جنس المعقود عليه وأيهما أقام البينة وجب قبول بينته وإن أقاما البينة فالبينة بينة الطالب في قول أبي يوسف. وفي(12/284)
ص -139- ... قول محمد يقضي بسلمين إذا كانا في المجلس وقد بينا هذا وإذا اتفقا على أنه يهودي غير أن الطالب قال هو ستة أذرع في ثلاثة أذرع وقال المطلوب خمسة أذرع في ثلاثة أذرع في القياس يتحالفان ويترادان وبالقياس نأخذ وفي الاستحسان القول قول المطلوب لأن المسلم فيه مبيع ولو كان مبيعا عينا واختلفا في طوله وعرضه لا يتحالفان بل القول قول من ينكر الزيادة فكذلك في السلم وهذا لأن زيادة الطول والعرض لا تستحق إلا بالشرط فكان بمنزلة الأجل وقد بينا أنهما إذا اختلفا في الأجل لم يتحالفا فهذا مثله وفي القياس المسلم فيه دين والذرعان لا علامة في المذروعات بمنزلة العقد في المقدورات ولو اختلفا في مقدار المسلم فيه تحالفا ثم أكثر ما في الباب أن الذرعان صفة ولكن المسلم فيه دين فيختلف باختلاف الصفة وقد بينا هذا في الجيد والردى أنهما إذا اختلفا فيه تحالفا فكذلك في الذرعان ونأخذ بالقياس لقوة جانب القياس والاستحسان قياسان فأيهما كان أثره أقوى يؤخذ به ولم يذكر هذا القياس والاستحسان عند الاختلاف في صفة الجودة والرداءة لتحقق المغايرة بينهما والجيد غير الردى إذا كان دينا ولا يتحقق مثل تلك المغايرة هنا فالطويل من الثوب قد يصير قصيرا بقطع بعضه والقصير قد يزاد فيه فيصير طويلا فلهذا ذكر القياس والاستحسان هنا ولم يذكر ثمنه.(12/285)
قال: وإذا اختلفا في السلم أو في رأس المال ولم يقبضه ولم يتفرقا" فالحاصل أن هذه ثلاثة فصول "أحدها" أن يكون الاختلاف في رأس المال وهو على وجهين إما أن يكون عينا أو دينا فإن كان عينا فقال الطالب أسلمت إليك هذا الثوب في كر حنطة وقال المطلوب بل هذا الثوب الآخر وأقاما البينة فإنه يقضي بالسلمين بالاتفاق لأن كل واحد منهما ببينته يثبت حقه فالطالب يثبت إزالة الثوب بالذي عينه عن ملكه بكر حنطة والمطلوب يثبت ملكه في الثوب الآخر فلا بد من القضاء بالعقدين. وإن قال الطالب أسلمت إليك هذا الثوب وقال المطلوب مع هذا الثوب الآخر وأقاما البينة فالبينة بينة المطلوب بالاتفاق لأن القضاء بالعقدين غير ممكن فالثوب الواحد لا يكون جميع رأس المال في عقد وبعض رأس المال في عقد آخر والمطلوب يثبت الزيادة في حقه ببينته فلهذا قضينا ببينته بإسلام الثوبين في كر حنطة وإن كان رأس المال دينا فإن اختلفا في جنسه فقال رب السلم عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه دينار في كر حنطة وأقاما البينة فلا إشكال على قول محمد أنه يقضي بالعقدين وقيل هكذا ينبغي في القياس على قول أبي يوسف اعتبارا للدين بالعين والدنانير غير الدراهم ولكنه استحسن فقال يقض بعقد واحد وتكون البينة بينة المطلوب لأن الطالب لما لم يثبت لنفسه شيئا إذ لا مؤنة عليه فيما في ذمته وحقه في الكر ثابت باتفاقهما والمطلوب يثبت حقه ببينته فكانت بينته أولى وإن اختلفا في قدر رأس المال فقال الطالب عشرة دراهم وقال المطلوب عشرون وأقاما البينة فهو على هذا الخلاف وكذلك لو كان الاختلاف في المسلم فيه في الجنس والقدر وقد بينا الاختلاف وإن كان الاختلاف فيهما جميعا بأن قال رب السلم:(12/286)
ص -140- ... عشرة دراهم في كري حنطة وقال المسلم عشرون درهما في كر حنطة فعند أبي يوسف تقبل بينة كل واحد منهما على ما يدعي من الزيادة في حقه ويقضي بعقد واحد وهو إسلام عشرين درهما في كري حنطة وعند محمد يقضي بعقدين كما شهد به كل فريق فالحاصل أن عند محمد يقضي بعقدين ما أمكن إلا إذا تعذر فحينئذ يشتغل بالترجيح للضرورة وعند أبي يوسف يقضي بعقد واحد إلا إذا تعذر فحينئذ يقضي بعقدين للضرورة وقول أبي حنيفة كقول أبي يوسف رحمهما الله.
قال: ولو أسلم عبدا أو ثوبا في حنطة أو شعير ولم يسم رأس مال كل واحد منهما فهو جائز لما بينا أن الثوب والعبد ليس بمقدر فلا يضر ترك تسمية رأس مال كل واحد منهما ولكن ينقسم عليهما باعتبار القيمة كما لو اشترى كر حنطة وكر شعير عينا بثوب واحد أو عبد بعينه فإنه ينقسم باعتبار القيمة للتعارض بينهما وليس أحدها في تخصيصه بشيء بأولى من الآخر.(12/287)
قال: وإذا باع جارية بألف مثقال ذهب وفضة أو دراهم ودنانير كان له من كل واحد منهما النصف لأن الواو للعطف ومطلق العطف يوجب الاشتراك على وجه المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه إلا أنه إذا كان قال ألف مثقال فعليه خمسمائة مثقال ذهب وخمسمائة مثقال فضة لأنه فسر المثاقيل بالذهب والفضة. وإن قال ألف من الدراهم والدنانير فعليه خمسمائة دينار بالمثاقيل وخمسمائة درهم وزن سبعة لأنه هو المتعارف في وزن الدراهم فينصرف إليه وكل ما يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح ذلك في الإجارة أيضا لأن المنافع في حكم الأموال أو بالعقد يثبت لها حكم المالية حتى لا يثبت الحيوان دينا فيه في الذمة لا حالا ولا مؤجلا كما في البيع ويثبت المكيل والموزون حالا ومؤجلا والثياب المرصوفة فيه تثبت مؤجلة لا حالة لأن استقراض الثياب لا يجوز والسلم فيها صحيح والقرض لا يكون إلا حالا والسلم لا يكون إلا مؤجلا فعرفنا أنها تثبت في الذمة مؤجلة لا حالة لأن استقراض الثياب لا يجوز عوضا عما هو مال وأما الحيوان لا يجوز استقراضه ولا السلم فيه فعرفنا أنه لا يثبت في الذمة مؤجلا ولا حالا بدلا عما هو مال.
قال: وإذا أسلم إليه عشرة دراهم في عشرين مختوم شعير أو عشرة مخاتيم حنطة بالشك أنه يعطيه أيهما شاء فلا خير فيه لأن المسلم فيه مبيع وهو مجهول حين أدخل حرف أو بين الحنطة والشعير ومثل هذه الجهالة في بيع العين يمتنع جواز العقد ففي السلم أولى وكذلك لو قال إن أعطيتني إلى شهر فكذا أو إن أعطيتني إلى شهرين فكذا فهو فاسد لجهالة المعقود عليه عند لزوم العقد إما جنسا وإما قدرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن صفقتين في صفقة وعن شرطين في بيع وتفسير ذلك هذا ونحوه.(12/288)
قال: ولا يستطيع رب السلم أن يبيع ما أسلم فيه قبل القبض لأن المسلم فيه مبيع وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز لحديث عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غياث بن أسد رضي الله عنه قاضيا وأميرا قال:(12/289)
ص -141- ... انههم عن أربعة عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف ولأن العين أقبل للتصرف من الدين ثم المبيع العين إذا كان منقولا لا يجوز التصرف فيه قبل القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق للتصرف فإذا كان دينا أولى وذلك الغرر هنا قائم فإن الدين ينوي بفوات محله يعنى إذا مات المديون مفلسا ولهذا تبطل الحوالة فكما لا يبيع المسلم فيه قبل القبض لا يشرك فيه شريكا ولا يوليه أحدا لأن التولية تمليك ما يملك بمثل ما ملك به والإشراك تمليك مثل ما ملكه بمثل نصف ما ملك به فكما لا يجوز هذا التصرف منه في الكل لا يجوز منه في البعض قال: رجل قال لرجل أسلمت إلى عشرة دراهم في كر حنطة ثم قال بعد ما سكت ولكني لم أقبض الدراهم منك وقال رب السلم بل قبضتها فالقول قول رب السلم استحسانا وفي القياس القول قول المسلم إليه" وكذلك لو كان رأس المال ثوبا وجه القياس أن السلم اسم للعقد وإقراره لا يكون إقرارا بالقبض كالبيع فإنه إذا قال ابتعت منك كذا ثم قال لم أقبض كان القول قوله في ذلك لأنه منكر للقبض والآخر يدعى عليه التسليم فجعل القول قول المنكر فكذا في السلم ألا ترى أنه لو قال ذلك موصولا بكلامه كان القول قوله ولو صار بالإقرار بالسلم مقرى بالقبض لكان هذا رجوعا والرجوع لا يعمل موصولا كان أو مفصولا ولكنه استحسن فقال السلم أخذ عاجل بآجل فمطلقه يقتضي الإقرار بالعقد والقبض جميعا فكان قوله لم أقبضه بيانا فيه تغيير لمقتضي مطلق كلامه والبيان المغير للفظه صحيح موصولا بكلامه لا مفصولا وهذا تخصيص للفظه العام والتخصيص ممن لا يملك الإبطال صحيح موصولا لا مفصولا بمنزلة الاستثناء قال في الأصل وهذا مثل قوله قد أعطيتني عشرة دراهم في كر حنطة أو أسلفتني أو أقرضتني عشرة دراهم برؤسها ثم قال لم أقبض والقياس والاستحسان في الكل ولكن من عادته الاستشهاد بالأوضح وكذلك لو قال على ألف درهم من ثمن جارية بعتنيها(12/290)
ثم قال لم أقبضها وقال الآخر قد قبضت فهو غير مصدق في قوله لم أقبضها وصل أم قطع في قول أبي حنيفة وكان أبو يوسف يقول أولا إن وصل يصدق وإن فصل لم يصدق ثم رجع وقال إذا فصل يسأل المقر له عن جهة المال فإن أقر بجهة البيع وقال قد قبضتها فالقول قول المقر إني لم أقبضها وإن قال المال عليه من جهة أخرى فالقول قوله والمال لازم على المقر وهو قول محمد وهذا في الحقيقة ليس برجوع بل تفسير لما أبهمه في الابتداء وجه قولهما أنهما تصادقا على البيع فالبائع يدعي تسليم المعقود عليه والمشتري منكر فالقول قول المنكر كما لو قال ابتعت منك جارية بألف درهم ثم قال لم أقبضها أو قال لك على ألف درهم ثمن هذه الجارية التي بعتها مني ولم أقبضها فالقول قوله في ذلك فإن لم يصدقه المقر له في الجهة فقد أقر بوجوب المال له عليه ثم ادعى ما يسقطه فلا يصدق إذا كان مفصولا لما بينا أن قوله لم أقبضها بيان مغير لموجب إقراره فيصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء إذا قال لفلان على ألف درهم إلا مائة أو قال إلا وزن خمسة وأبو حنيفة يقول أقر بالقبض ثم رجع والرجوع باطل موصولا كان أومفصولاً. ومعنى هذا(12/291)
ص -142- ... أنه أقر بكون المال دينا في ذمته بقوله له على ألف درهم ثمن جارية غير معينة وثمن الجارية التي هي غير معينة لا يكون واجبا إلا بالقبض لأن التي هي غير معينة في حكم المستهلكة وثمن الجارية المستهلكة لا يكون واجبا إلا بعد القبض فعرفنا أنه أقر بالقبض ثم رجع بخلاف قوله ابتعت فهنالك ما أقر بأن المال واجب في ذمته إنما أقر بالابتياع وذلك لا يكون إقرارا بالقبض وبخلاف قوله ثمن هذه الجارية لأنه إنما أقر بوجوب المال عليه بمقابلة جارية معينة وثمن الجارية المعينة يكون واجبا قبل القبض يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا غير متناه فإن المشترى لا يلزمه تسليم الثمن إلا بعد إحضار البائع المبيع وما من جارية يحضرها البائع إلا وللمشترى أن يقول المبيعة غيرها ولو ادعى لنفسه أجلا معلوما كشهر أو سنة لم يقبل قوله في ذلك وصل أو فصل فهنا أولي بخلاف الجارية المعينة فإن هناك ما ادعى لنفسه أجلا لأنها حاضرة وإنما أقر على نفسه بالمال بشرط أن يسلم له تلك الجارية ألا ترى أن المقر له لو قال الجارية جاريتك ما بعتها ولي عليك ألف درهم يلزمه المال ولو قال الجارية جاريتي ولي عليك المال لم يلزمه شيء لأنه لم يسلم له شرطه قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل في كر حنطة فأعطاه كرا بغير كيل فليس له أن يبيعه ولا يأكله حتى يكتاله" لأن المسلم فيه مبيع وإنما اشتراه رب السلم بذكر الكر فلا يتصرف فيه حتى يكتاله والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشترى يعني إذا اشتراه بشرط الكيل فليس له أن يكتفي بكيل البائع ولا يتصرف فيه بعد القبض حتى يكيله وهذا لأنه إنما يملك المعقود عليه والمعقود عليه القدر المسمى ولا يعلم ذلك إلا بالكيل ألا ترى أنه لو كاله فوجده أزيد يلزمه رد الزيادة وتصرفه من حيث الأكل والبيع بحكم الملك فما لم يتعين ملكه بمعرفة المقدار لم يكن له أن يتصرف(12/292)
فيه وإن هلك عنده وهو مقر بأنه كر واف فهو مستوف لأنه قبضه على وجه التملك بعقد السلم فيصير مضمونا عليه بالقبض وقد هلك عنده فيلزمه مثله وقد أقر أنه كان كرا فيصير مستوفيا بطريق المقاصة لأن ما في المقاصة آخر الدينين قضاء عن أولهما وآخره دين المسلم إليه فيصير رب السلم مقتضيا طعام السلم به ولأن القبض تلاقي العين واستيفاء الدين لا يكون إلا من العين فإذا أقر أنه كان كرا فقد علمنا أنه بقبضه صار مستوفيا لحقه وهذا الحكم في كل مكيل وموزون فأما في المذروعات له أن يتصرف قبل الذرع لأن الذرع صفة حتى لو وجدوه أزيد يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص لا يحط شيئا من الثمن فعرفنا أن الملك بالعقد إنما يثبت له في العين وقد تم قبضه في العين وفي العدديات المتقاربة أظهر الروايتين عن أبي حنيفة أنه لا يتصرف قبل العد في العدديات مقدار كالكيل والوزن حتى لو وجده زائدا لا يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط حصة النقصان من الثمن وقد روى عنه أنه جوز التصرف فيه قبل العد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن بصفة العدد لا يصير مال الربا فهو بمنزلة الذرع في المذروعات والزيادة والنقصان لا يتحققان فيه إلا بغلط في العدد بخلاف الكيل والوزن والزيادة والنقصان هناك(12/293)
ص -143- ... يظهران باجتهاد من الكيال والوزان من غير أن يتيقن بالخطأ فيه وهنا الزيادة والنقصان لا يظهران إلا بغلط في العد فكان العقد متنا ولا للعين فيجوز التصرف فيه قبل العد كما في المذروعات وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن المقصود عليه في العدديات العدد لأنه مقدار كالكيل والوزن ألا ترى أنه لو وجده أزيد لا يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط بحصة النقصان من الثمن فصار المعقود عليه القدر والقدر لا يصير معلوما إلا بالعد إلا أنه لا يجري فيه الربا لأنه صار عدديا باصطلاح الناس لا بجعل الشرع أمثالا متساوية فإذا باع جوزة بجوزتين فقد أعرضا عن ذلك الاصطلاح وما ثبت باصطلاح الناس يبطل باصطلاحهم أيضا بخلاف المكيل والموزون.(12/294)
قال: وإن اشترى المسلم إليه من رجل كرا ثم قال لرب السلم اقبضه قبل أن يكتاله من المشترى فليس ينبغي لرب السلم أن يقبضه حتى يكتاله المشتري لأن في هذا القبض وكيل المسلم إليه فكما أن المسلم إليه لو قبض بنفسه كان عليه أن يكيله فكذلك إذا قبضه وكيله كان عليه أن يكتاله للمسلم إليه بحكم الشراء ثم يكيله ثانيا للقبض بنفسه بحكم السلم وليس له أن يأخذ بكيله ذلك لأنه في ذلك نائب عن المسلم إليه فكأن المسلم إليه فعله بنفسه ثم سلمه إليه فعليه أن يكتاله لنفسه بحكم السلم وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم حتى يجرى فيه الصاعان أي إذا تلقاه البائع من غيره بشرط الكيل ولقاه غيره بشرط الكيل واختلف مشايخنا رحمهم الله في فصل وهو ما إذا اشترى طعاما مكايلة فكاله البائع بمحضر من المشتري ثم سلمه إليه فمنهم من يقول ليس للمشترى أن يكتفي بذلك الكيل ولكنه يكيله مرة أخرى استدلالا بهذه المسألة وكيل البائع بحضرته لا يكون أقوى من كيله بنفسه والأصح له أن يكتفي بذلك الكيل لأن استحقاق الكيل بحكم عقده ففعل البائع بحضرته كفعله بنفسه وفي مسألة السلم استحقاق الأول بالكيل كان بالشراء فلا ينوب ذلك عن الكيل المستحق بالسلم فلهذا يلزمه الكيل مرة أخرى فإن دفع المسلم إليه إلى رب السلم دراهم فقال اشتري لي بها طعاما فاقبضه لي بكيل ثم كله لنفسك بكيل مستقبل كان جائزا لأنه وكيل المسلم إليه في الشراء له وفعل الوكيل كفعل الموكل فكأنه اشتراه بنفسه ثم أمر رب السلم بقبضه وهي المسألة الأولى ولو قال رب السلم للمسلم إليه كل مالي عليك من الطعام فأعز له في بيتك أو في غرائرك ففعل ذلك لم يكن رب السلم قابضا بمنزلة قوله اقبضه لي بيسارك من يمينك وهذا لأن المسلم فيه دين على المسلم إليه والمديون لا يصلح أن يكون نائبا عن صاحب الدين في قبض الدين من نفسه ولو وكل رب السلم بقبض ذلك غلام المسلم إليه أو ابنه فهو جائز لأنه يصلح نائبا عن رب السلم في قبض(12/295)
حقه وهو في ذلك كأجنبي آخر والإنسان يصير قابضا حقه بيد نائبه كما يصير قابضا بيد نفسه.
قال: ولو دفع إليه غرائره فقال كل مالي عليك اجعله في غرائري ففعل ذلك ورب السلم ليس بحاضر لم يكن ذلك قبضا وفرق بين هذا وبين ما إذا اشترى منه طعاما بعينه على أنه كر ثم دفع إليه غرائره وأمره أن يكيله فيها ففعل فإنه يصير قابضا والفرق بينهما أن القبض(12/296)
ص -144- ... في باب السلم موجب بملك العين وغرائره لا تصلح نائبة عنه في تملك العين وفي باب الشراء قد ملك العين بالعقد وإنما القبض للاحراز والغرائر تصلح نائبة عنه في الاحراز والثاني أن أمره بالكيل في غرائره غير معتبر بنفسه في السلم لأن المسلم إليه إنما يكيل ملك نفسه وله في ملك نفسه ولاية الكيل من غير إذنه فأما في الشراء إذنه معتبر في الكيل لأنه إنما يكيل ملك المشتري وله في ملك نفسه إذن معتبر فكان كيله في غرائره ككيل المشتري بنفسه ألا ترى أنه لو أمر المسلم إليه بأن يطحن ما عليه من طعام السلم ففعل ذلك كان الدقيق له ولا يكون لرب السلم أن يقبضه لأنه يصير به مستبدلا وفي الشراء لو أمره أن يطحنه ففعل جاز وكان الدقيق للمشتري وكذلك في الشراء لو أمره أن يلقيه في البحر ففعل جاز وكان الثمن مقررا عليه ولو أمره بذلك في السلم لم يجز ثم قال: في الشراء وله أن يبيعه إذا كان له البائع في غرائر المشتري بأمره قبل هذا غلط لأن الغرائر نائبة عنه في الإحراز لا في معرفة القدر فكأنه قبضه بنفسه فلا يتصرف فيه حتى يكيله ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لما بينا أن أمره إياه بالكيل معتبر لمصادفته ملكه فكان البائع في الكيل كالنائب عنه والغرائر في القبض والاحراز تنوب عنه وفعل نائبه كفعله بنفسه وفي السلم إن كان في الغرائر طعام لرب السلم فكاله فيه بأمره فقد قيل لا يصير قابضا لما ذكرنا أن أمره غير معتبر في ملك الغير قال رضي الله عنه والأصح عندي أنه يصير قابضا هنا لأنه أمره بخلط طعام السلم بطعامه على وجه لا يمكن التميز معتبر فيصير بهذا الخلط قابضا وهو مثل ما ذكر في كتاب الصرف لو دفع إلى صائغ نصف درهم فضة وقال زد من عندك نصف درهم وصغ لي منهما خاتما ففعل ذلك جاز وصار بالخلط قابضاً له.(12/297)
قال: وإذا أسلم الرجل في كر حنطة ثم أسلم المسلم إليه إلى رب السلم في كر حنطة وأجلهما واحد وصفتهما واحدة أو مختلفة لم يكن أحدهما قصاصا بالآخر إذا حلا وإن تقاصا" لأن المسلم فيه مبيع فيستحق قبضه بحكم العقد ولا يجوز أن يقضي به دين آخر لأن المستحق بعقد السلم قبض بكيل بعد عقد السلم ولا يحصل ذلك بقضاء دين آخر به فإذا تقاصا منا فلا بد من أن يكون أحدهما قابضا المسلم فيه ويكون دينا عليه وذلك غير جائز.
قال: فإن كان أولهما مسلما والآخر قضاء لا يصير أحدهما قصاصا في الحال من قبل أن القصاص عبارة عن المساواة ولا مساواة بينهما لأن أحدهما معجل والآخر مؤجل والمعجل خير من المؤجل إلا إذا حل الأجل في السلم فحينئذ يكون أحدهما قصاصا بالآخر ولا بأس بأن يكون قصاصا إذا كان سواء تقاصا أو لم يتقاصا لوجود القبض بكيل بعد عقد السلم وهو قبض المستقرض ألا ترى أن رب السلم لو غصب من المسلم إليه كرا بعد ما حل طعام السلم كان مستوفيا حقه بطريق المقاصة فكذلك إذا استقرض وهذا لأن في باب المقاصة آخر الدينين قضاء من أولهما ولا يكون أول الدينين قضاء عن آخرهما لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسبقه ولهذا في الدين المشترك لو وجب للمدين على أحد الشريكين دين بقدر حصة وصار قصاصاً(12/298)
ص -145- ... كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه لأنه صار مستوفيا حصته ولو كان دين المديون عليه سابقا على دينهما فصار قصاصا لم يكن لشريكه أن يرجع عليه بشيء لأنه صار بنصيبه قاضيا دينا عليه لا مقتضيا إذا ثبت هذا فنقول إذا كان آخر الدينين قرضا فالمسلم إليه بما أوجب له من القرض يصير قاضيا طعام السلم ورب السلم يكون مستوفيا وإذا كان القرض أولا لم يكن قصاصا وإن تقاضيا به لأن رب السلم يصير قاضيا بطعام السلم ما عليه من القرض ودين السلم يجب قبضه ولا يجوز قضاء دين آخر به فإن كان للمسلم إليه كر حنطة دينا على رجل أو استقرض من رجل كرا فقال لصاحب السلم كله فاكتاله رب السلم كيلا واحدا جاز ويصير قابضا لأن القرض لا يشترط فيه الكيل ألا ترى أن المقرض لو استرد ما أقرض ولم يكله كان له أن يتصرف فيه والمستقرض لو قبض ولم يكل كان له أن تتصرف فيه ورب السلم في القبض من المقرض أو المستقرض نائب عن المسلم إليه فكما قبضه تم فيه ملك المسلم إليه قبل أن يكيله ثم إنما يكيله بعد ذلك لنفسه بحكم السلم فلهذا يكفيه كيل واحد بخلاف ما سبق من الشراء فإن المسلم إليه لما اشتراه بشرط الكيل لا يتعين ملكه إلا بالكيل فكان الكيل الأول من رب السلم كتعيين ملك المسلم إليه فلا بد من أن يكيله لنفسه بعد ذلك كيلا مستقبلا.
قال: وإن تتاركا السلم ورأس المال ثوب فهلك عند المسلم إليه فعليه قيمته وكذلك لو تتاركا بعد هلاكه وهذه أربعة فصول:(12/299)
أحدهما: أن يشتري عينا بدراهم فتقابضا ثم تقايلا ثم هلك المبيع قبل الرد بطلت الإقالة سواء كان الثمن قائما أو هالكا لأن الإقالة رفع العقد وإنما يرفع الشيء من المحل الوارد عليه ومحل العقد المعقود عليه والمعقود عليه المبيع دون الثمن فإن الثمن معقود به ولهذا شرط قيام الملك في المبيع عند العقد دون الثمن فإن كان المبيع هالكا عند الإقالة فالإقالة باطلة لفوات محلها وكذلك إذا هلك بعد الإقالة قبل الرد لأن العارض من هلاك المحل بعد الإقالة قبل الرد كالمقترن بالإقالة ألا ترى أن هلاك المعقود عليه بعد العقد قبل القبض يبطل العقد ويجعل كالمقترن بالعقد.
والثاني: لو تبايعا عبدا بجارية وتقابضا ثم تقايلا ثم هلك أحدهما بقيت الإقالة لأن ابتداء الإقالة بعد هلاك أحد العوضين صحيح فإن كل واحد منهما معقود عليه بدليل أنه يشترط قيام الملك في العوضين جميعا للمتعاقدين بخلاف الثمن ألا ترى أن بعد هلاك أحدهما يمكن فسخ العقد برد الآخر بالعيب فكذلك بالإقالة وإذا جاز ابتداء الإقالة بعد هلاك أحدهما فكذلك تبقي الإقالة في القائم وعليه رد قيمة الهالك لأنه تعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب للرد فترد القيمة إذ القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ولو هلكا جميعا بعد الإقالة قبل التراد بطلت الإقالة لأن ابتداء الإقالة بعد هلاكهما باطل إذا لم يبق شيء من المحل الذي(12/300)
ص -146- ... تناوله العقد فكذلك لا تبقي الإقالة بعد هلاكهما.
والثالث: السلم إذا تقايلا ورأس المال عين فهلكت بعد الإقالة لم تبطل الإقالة لأن ابتداء الإقالة بعد هلاك رأس المال صحيح فإن السلم بمنزلة بيع المقابضة لأن المسلم فيه مبيع معقود عليه فجازت الإقالة بعد هلاك ما يقابله وإذا بقيت الإقالة فعليه رد قيمة رأس المال لتعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب له والقول قول المطلوب في مقدار القيمة إذا اختلفا لأن الطالب يدعي عليه زيادة وهو منكر لتلك الزيادة.(12/301)
والرابع: الصرف فإنهما لو تصارفا دينارا بعشرة دراهم وتقابضا وهلك البدلان جميعا ثم تقايلا ثم هلك البدلان قبل التراد جازت الإقالة لأن المعقود عليه ما استوجب كل واحد منهما في ذمة صاحبه ألا ترى أن بعد الإقالة لا يلزمه رد المقبوض بعينه ولكن إن شاء رده وإن شاء رد مثله فلا يكون هلاك المقبوض مانعا من الإقالة هذا هو الصحيح في تخريج هذه المسائل وقع في الأصل تشويش وتقديم وتأخير وألفاظ مختلفة وذلك كله غلط من الكاتب وقد تكلف لتصحيحه بعض مشايخنا رحمهم الله فإنه قال بعد مسألة القرض ألا ترى أنه لو اشتريا جارية بعبد وتقابضا فمات أحدهما في يديه ثم تناقضا أنه جائز ومعنى هذا الاستشهاد أن القرض وإن كان في معنى البيع من حيث أنه تمليك الطعام بمثله فليس ببيع حقيقة فلا يشترط فيه من الكيل ما يشترط في المبيع كما أن الإقالة في حكم البيع ولكن ليس ببيع على الحقيقة فيجوز بعد هلاك أحد العوضين وإن كان لا يجوز ابتداء البيع فإنه لو اشترى عبدا بقيمة جارية هالكة لا يجوز وإليه أشار بقوله وليس هذا بمنزلة شراء الحي قبل أن يموت يعني شراء الحي بقيمة الميت أو شراء الحى بالحي إذا مات أحدهما قبل القبض ولكن هذا تكلف ولا يليق هذا اللفظ بفصاحة محمد رحمه الله فإن شراء الحي يعلم أنه يكون قبل أن يموت فعرفنا أنه غلط من الكاتب ثم قال وكذلك السلم لأن السلم بيع يعنى أن الإقالة بعد هلاك رأس المال يجوز كما يجوز في بيع المقابضة الإقالة بعد هلاك أحدهما ثم قال ولا يشبه هذا الأثمان الدنانير بالدراهم يعنى أن في عقد الصرف تجوز الإقالة بعد هلاكهما بخلاف بيع المقابضة وفي بعض النسخ قال الدنانير والدراهم يعني إذا اشتريا عينا بنقد ثم تقايلا فهلك المعقود عليه بطلت الإقالة فإن كان الثمن قائما وقد قررنا هذا الفرق.(12/302)
قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل دراهم في كر حنطة فوجد فيها دراهم ستوقة فجاء يردها فقال المسلم إليه هذا من نصف رأس المال وقد بطل نصف السلم وقال رب السلم بل هو ثلث رأس المال فالقول قول المسلم إليه لأن السوقة ليست من جنس الدراهم فقد علمنا أن السلم لم يتم في جميع الكر وحاصل الاختلاف بينهما في قبض المسلم إليه مقدار حقه من رأس المال فرب السلم يدعي عليه أنه قبض ثلثي حقه والمسلم إليه ينكر القبض فيما زاد على النصف فكان القول قول المنكر مع يمينه وعلى المدعي أن يثبت ما يدعيه بالبينة وإذا أسلم(12/303)
ص -147- ... عشرة دراهم في كر حنطة فأقام رب السلم البينة أنهما تفرقا قبل قبض المسلم إليه رأس المال وأقام المسلم إليه البينة أنه قبض رأس المال قبل أن يفترقا فالسلم جائز ويؤخذ بينة المسلم إليه لأنها تثبت القبض في المجلس وبينة رب السلم تنفي ذلك والبينات تترجح بالإثبات ولم يذكر في الكتاب أنه لو لم يكن لهما بينة فالقول قول من يكون وأورد هذا في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله وقال على قول زفر القول قول من يدعى القبض منهما لأن العقد لا يتم إلا بقبض رأس المال فكان اتفاقهما على العقد إتفاقا منهما على قبض رأس المال والذي ينكر القبض في حكم الراجع عن الإقرار وقد قررنا هذا المعنى في الأجل فكذلك في قبض رأس المال وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الذي في يده رأس المال لأن الآخر يدعى تملك ما في يده عليه وهو منكر والقول قول المنكر فإن كان رأس المال في يد رب السلم فظاهر لأن المسلم إليه يدعى أنه يملك ما في يده بالقبض وأنه غصبه منه بعد ذلك وإن كان في يد المسلم إليه فرب السلم يدعي أنه غصبه منه والمسلم إليه منكر لذلك فكان القول قول المنكر لذلك فلو كانت الدراهم في يد رب السلم بأعيانها فقال المسلم إليه أودعتها إياه أو غصبها بعد قبضي لها وقد قامت البينة بالقبض فكان القول قوله ويقضي له بالدراهم لأنه لما أثبت قبضه بالبينة فقد تم ملكه فيها ثم ظهرت في يد غيره بعد ذلك فيؤمر بردها عليه سواء زعم أن وصولها إلى يده بالوديعة أو بالغصب ولو أسلم فلوسا في طعام يجوز لأن هذا عددي متقارب يصلح أن يكون ثمنا في باب البيع فيصلح أن يكون رأس المال في باب السلم ولا يجوز في الصفر رجل باع عبدا أو ثوبا بشيء مما يكال أو يوزن ثم تفرقا قبل أن يقبض المشتري ما اشترى فالبيع جائز لأنهما تفرقا عن عين بدين وذلك جائز في البيع كما لو اشترى شيئا بثمن مؤجل وقبض المشتري وتفرقا أو تفرقا قبل قبض المشتري وقد بينا أن القياس في السلم هكذا ولكنا(12/304)
تركنا القياس هناك لمقتضي اسم السلم وإليه أشار في الفرق فقال لو باعه ثوبا بحنطة وسمى الكيل ولم يجعل له أجلا كان جائزا ولو أسلم هذا الثوب في كر حنطة موصوفة ولم يجعل له أجلا كان فاسدا ومعنى هذا الإستشهاد أن التأجيل في السلم في المسلم فيه جعل شرطا لتحقق معنى الاسم فكذلك التعجيل في رأس المال مقتضي الاسم بخلاف البيع وقد بينا أن جواز أخذ الرهن بالمسلم فيه وإن بهلاك الرهن يصير المرتهن مستوفيا حقه من مالية الراهن إذا كان فيه وفاء بحقه فسقط حق رب السلم عن المطالبة بعد هلاك الرهن في يده وقد بينا أيضا جواز التوكيل بدفع رأس المال وأن القبض من الوكيل في مجلس العقد بمنزلة القبض من الموكل ويستوى إن كان الوكيل شريكا لرب السلم أو أجنبيا لأن أداءه قام مقام أداء الموكل بحكم الوكالة إذا قبض المسلم إليه حتى لو تبرع أجنبي بأداء رأس المال وقبضه المسلم إليه قبل أن يفارق رب السلم كان جائزا وإن كان بالمسلم كفيل فاستوفى الكفيل السلم من المسلم إليه على وجه الاقتضاء ثم باعه وربح فيه فذلك حلال له إذا قضى رب السلم طعاما مثله لأن عقد الكفالة كما يوجب لرب السلم على الكفيل يوجب للكفيل على المسلم إليه إلا أن مال الكفيل على(12/305)
ص -148- ... المسلم إليه مؤجل إلى وقت أدائه الطعام إلى رب السلم فإذا استوفى قبل الأجل فقد استعجل دينا له مؤجلا والمقبوض بهذا السبب يملك ملكا صحيحا فإنما تصرف وربح في ملك حلال له فلهذا طاب له الربح ولا خلاف في هذا إذا تقرر ملكه بأداء طعام السلم وإنما الخلاف فيما إذا كان المسلم إليه هو الذي قضى رب السلم طعام السلم فإنه يرجع على الكفيل بطعام مثل ما دفع إليه لأنه إنما أعطاه في ذلك ليسقط دين رب السلم عنه بأدائه ولم يفعل ذلك فكان له أن يرجع عليه بما أدى ثم قال في هذا الكتاب فما ربح يطيب للكفيل وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه عنهما في الجامع الصغير وذكر عن أبي حنيفة أنه قال أحب إلي أن يرده على الذي قضاه ولا أجبره عليه في القضاء وفي كتاب الكفالة قال له أن يتصدق بالفضل ووجه تلك الرواية أن المسلم إليه إنما رضي بقبضه ويملكه بشرط أن يؤدي عنه طعام السلم فإذا لم يفعل لم يتم رضاه وصار هذا كالمقبوض بغير إذنه فإنما حصل له الربح فيه بسبب خبيث شرعا والسبيل في الكسب الخبيث التصدق ووجه رواية الجامع الصغير أن معنى الخبث ليس في معنى السبب بل لخلل في رضى المسلم إليه فإذا رده عليه مع الربح انعدم الخبث فكان هذا أولى الوجهين ولكن لا يجوز عليه في القضاء لأن المتصرف إنما ربح على ملك نصيبه ووجه رواية هذا الكتاب أن المقبوض كان مملوكا له ملكا صحيحا وكان التصرف فيه مطلقا له شرعا فالربح الحاصل به يكون حلالا ألا ترى أنه لو أدى طعام السلم كان الربح طيبا له فإذا لم يؤد فإنما يثبت حق الرجوع للمسلم إليه على الكفيل يكن في ذمته وبأن لحقه دين لا يتمكن فيه خبث فيما حصل له من الكسب كما إذا وجب عليه دين آخر بسبب آخر هذا إذا قبضه الكفيل على وجه الاقتضاء فأما إذا قبضه على وجه الرسالة بأن يسلم إليه المسلم إليه طعام السلم ليكون رسوله في تبليغه إلى رب السلم فتصرف فيه وربح فالربح لا يطيب له في قول أبي حنيفة(12/306)
ومحمد رحمهما الله ويطيب له في قول أبي يوسف لأنه أمين فيما قبضه على وجه الرسالة كالمودع وقد بينا الخلاف في المودع إذا تصرف في الوديعة وربح في كتاب الوديعة وإن قضى الكفيل السلم من مال قبل أن يقبضه من المكفول عنه ثم صالح المكفول عنه على دراهم أو غير ذلك مما يكال أو يوزن أو على عروض أو حيوان فهو جائز ولا يكون استبدالا لأن الكفيل هنا مقرض معناه أن ما يرجع به الكفيل على المسلم إليه لا يكون مسلما فيه لأن المسلم فيه ما يجب بعقد السلم ووجوب هذا بعقد الكفالة ثم الكفالة توجب طعام السلم على الكفيل لا للكفيل فعرفنا أنه دين آخر بمنزلة سائر الديون فلم يكن استبدالا ولأنه يصير كالمقرض لما أدى من المسلم إليه وإن لم يكن قرضا على الحقيقة حتى لو أجل المكفول عنه فيه لزمه الأجل والأجل في بدل القرض لا يلزم فعرفنا أن مراده أنه دين آخر سوى السلم فيجوز الاستبدال به قبل القبض وإن أكفل رجل لرب السلم برأس ماله قبل أن يترادا فالكفالة باطلة لأن الكفالة بما هو واجب في ذمة الأصيل وقيل الإقالة الواجب في ذمة الأصيل لرب السلم المسلم فيه لا رأس المال وإنما كفل بما ليس بواجب له ولم يضف الكفالة إلى سبب الوجوب فكان باطلا بخلاف ما لو قال إذا تقايلتما العقد فأنا كفيل برأس المال لك ولأن رأس المال قبل أن يترادا فالكفالة باطلة لأن الكفالة بمل هو واجب في ذمة الأصيل وقيل: الإقامة الواجب في ذمة الأصيل لرب السلم المسلم فيه لا رأس المال وإنما كفل بما ليس بواجب له ولم يضف الكفالة إلى سبب الوجوب(12/307)
ص -149- ... الإقالة حق المسلم إليه فإنما كفل عنه بما هو حقه وذلك ليس من موضوع الكفالة في شيء.
قال: وإذا أسلم الرجل في بعض الأدهان المربى بالبنفسج والزئبق والحنا وغيره يجوز لأنه موزون مضبوط بالوصف مقدور التسليم من أصحابنا رحمهم الله من قال هذا يجوز في الدهن الصافي أما المربى بالبنفسج وغيره فلا لأن المربى يختلف باختلاف ما يرى به من الأدوية والرياحين والصحيح أنه يجوز لأنه يمكن إعلامه بإعلام قدر ما يؤدى به.(12/308)
قال: وكل شيء وقع عليه كيل الرطل فهو موزون يريد به الأدهان ونحوها لأن الرطل إنما يعدل بالوزن إلا أنه يشق عليهم وزن الدهن بالأمناء والسنجات في كل وقت لأنه لا يتمسك إلا في وعاء وفي وزن كل وعاء نوع حرج فاتخذ الرطل لذلك تيسيرا فعرفنا أن ما يقع عليه كيل الرطل فهو موزون فيجوز السلم فيه بذكر الوزن وإذا أسلم النصراني إلى النصراني في خمر بكيل معلوم فهو جائز وهذا عندنا بناء على الأصل الذي بينا في كتاب الغصب أن الخمر مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والعصير في حقنا فيجوز السلم فيما بينهم بذكر الكيل والوزن وإن أسلم أحدهما قبل قبض خمر السلم بطل السلم ورد المسلم إليه رأس المال لأن الإسلام وجد الخمر مملوكة بالعقد غير مقبوضة فيجعل وجود إسلام أحدهما عند القبض كوجوده عند العقد وهذا لأن قبض المسلم فيه قبض تملك فإنه بعقد السلم ملك المسلم فيه دينا وإنما يتعين ملكه بالقبض فإن كان رب السلم هو الذي أسلم فالمسلم لا يملك الخمر بحكم عقده فإن كان المسلم إليه هو الذي أسلم فليس له أن يملك الخمر من غيره بعقد فعلمنا أنه تحقق فوات قبض المسلم فيه وذلك مبطل للعقد فإن المسلم فيه مبيع ومتى تحقق فوات قبض المبيع بطل البيع كما إذا تحقق ذلك بالهلاك في بيع العين وإن كان قبض بعضه بطل ما بقي وجاز ما قبض لأن ملكه تم في المقبوض فبإسلامه بعد ذلك لا يبطل ولكن إسلامه يمنع من قبض ما بقي فيبطل العقد فيه لفوات القبض وهذا لأن السبب الطارئ يلاقي المنتهي بالعفو عنه والقائم بالرد قال الله تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فبنزول حكم الربا إنما لزمهم ترك ما لم يقبضوا لا رد ما قبضوا منه فهذا مثله ثم النصراني والمسلم في حكم السلم سواء ما خلا الخمر حتى لا يجوز السلم بينهم في المنقطع لأن فساد ذلك فيما بين المسلمين لعجز العاقد عن تسليم المعقود عليه وهم في ذلك كالمسلمين والسلم بينهم في الخنزير(12/309)
لا يجوز بمنزلة السلم في الشاة بين المسلمين لأن امتناع جواز السلم في الحيوان لمعنى الجهالة وهم يستوون في ذلك بالمسلمين وإذا أسلم في طعام جيد من طعام العراق أو الشام فهو جائز بخلاف ما لو أسلم في طعام قرية أو قراح بعينه لأن ذلك يتوهم انقطاعه بآفة فأما طعام ولاية كالعراق والشام لا يتوهم انقطاعه عرفا بآفة فإنما أسلم فيما هو مقدور التسليم وقت وجوب التسليم ولا بأس بالسلم في الصوف وزنا لأنه موزون معلوم في نفسه وإن اشترى كذا جزة بغير وزن لم يجز للجهالة لأن مقدار الصوف في كل جزة غير معلوم وذلك يتفاوت على وجه يفضي إلى المنازعة بينهما وإن أسلم في صوف غنم بعينها لم يجز لأن ذلك يتوهم انقطاعه بالهلاك(12/310)
ص -150- ... ولأن تعين محل المسلم فيه كتعين المسلم فيه ولأنه لو باع الصوف الذي على ظهر الشاة بعينه لا يجوز فكذلك إذا أسلم فيه وكذلك ألبانها وسمونها لما بينا ولأن هذه الأعيان ما دامت متصلة بالحيوان فهي وصف للحيوان ولا تثبت فيها المالية مقصودا إلا بعد الانفصال فلا تكون قابلة للعقد مقصودا وكذلك إن أسلم في سمن حديث أو زيت حديث في غير حينه وجعل أجله في حينه فلا خير فيه لأنه منقطع في الحال من أيدي الناس وكذلك لا خير في السلم في الحنطة الحديثة لأنها اليوم منقطعة عن أيد الناس ولا يدري أيكون في تلك السنة أم لا فلا يكون مقدور التسليم له وبدون قدرة التسليم لا يجوز العقد.(12/311)
قال: وإذا أسلم في حنطة من حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس فلا خير فيه كما لو أسلم في طعام قراح بعينه قيل لم يرد بهذا هراة خراسان وإنما مراده قرية من العراق تسمى هراة وتلك القرية يتوهم أن يصيبها آفة فأما هراة خراسان لا يتوهم انقطاع طعامها فهو والسلم في طعام العراق سواء ثم قال وإن أسلم في ثوب هروي فلا بأس به من أصحابنا رحمهم الله من يقول لأن الثوب الهروي لا يتوهم انقطاعه بخلاف الطعام فالمراد قد يستأصل طعام هراة ولا يستأصل حركة هراة وهذا ضعيف قالوا قد يستأصل حركة هراة أيضا ولكن المعنى الصحيح في الفرق أن نسبة الثوب إلى هراة لبيان جنس المسلم فيه لا لتعين المكان فإن الثوب الهروي ما ينسج على صفة معلومة فسواء نسج على تلك الصفة بهراة أو بغير هراة يسمى هرويا بمنزلة الزنديجي والوداري وإلى هذا أشار في الكتاب فقال الثوب الهروي من الثياب بمنزلة الحنطة من الحبوب يعني بهذا بيان الجنس بخلاف الحنطة فإن حنطة هراة ما تنبت بأرض هراة حتى أن النابت في موضع آخر لا ينسب إلى هراة وإن كان بتلك الصفة فكان هذا تعينا منه للمكان ولذلك يتوهم انقطاعه وقال مشايخنا رحمهم الله أن نسب الطعام إلى موضع يعلم أن مراده بذلك بيان الصفة فذلك لا يفسد السلم كالحمراني سحاري فإنه يذكر ذلك لبيان صفة جودة الحنطة فلا يختص به ما يثبت في تلك القرية فكأنه قال في حنطة جيدة ووقع في الأصل والثوب الهروي لا يصنع بغير تلك البلاد وهو غلط بل الصحيح أن الثوب الهروي يصنع في غير تلك البلاد وعلى ما بينا أنه اسم للمنسوج بصفة فيسمى به وإن نسج في غير هراة.(12/312)
قال: ولا بأس بالسلم في البواري والحصير إذا وصف الطول والعرض والصفة لأنه مذروع معلوم كالثياب فالحصير ما يتخذ من البردى والحشيش والبوريا ما يتخذ من القصب ولا بأس بالسلم في نصل السيف إذا كان معلوم الطول والعرض والصفة لأن ذلك لا يتفاوت في المالية بعد بيان نوع الحديد الأشياء يسيرا وذلك غير معتبر كما في الثياب والجيد من الطعام ولا خير في السلم في الطلع وهو اسم لأول ما يبدو من النخيل قيل هو شيء أحمر مثل لسان البقر يبدو من النخل ثم يخرج التمر منه وقد يقطع ذلك فيؤكل كما هو أو يطبخ منه المرقة لحموضة فيه وهو عددي متفاوت يختلف فيه الصغير والكبير وتتفاوت آحاده في المالية(12/313)
ص -151- ... فلا يجوز السلم فيه كذلك.
قال: ولا يجوز للشريكين قسمة السلم وغيره من الديون قبل القبض لأن القسمة للحيازة وذلك بأن يجعل كل واحد منهما نصيبه في حيزه وفي الدين لا يتحقق ذلك ثم القسمة لتوفير المنفعة على كل واحد منهما في نصيبه وقطع الانتفاع عن نصيبه وذلك لا يتحقق في الدين قبل القبض فإذا كان الشرط في عقد السلم أن يوفيه في مكان كذا فقال المسلم إليه خذه في مكان آخر وخذ مني الكرا إلى ذلك المكان فقبضه كان قبضه جائزا لأنه أخذ حقه ولا يجوز أخذ الكر إلا أنه يملك المقبوض بقبضه وإنما يحمل ملك نفسه والإنسان في حمل ملك نفسه لا يستوجب الأجر على الغير وإنما يستوجب الأجر على الغير بعمل يعمل للغير لا لنفسه فعليه رد ما أخذ من الكرا وهو بالخيار إن شاء رضي بقبضه وإن شاء يرده حتى يوفيه في المكان الذي شرط لأنه إنما رضي بقضبه في غير ذلك المكان بشرط أن يسلم له الكرا فإذا لم يسلم لا يكون راضيا به وبدون رضاه لا يسقط ما كان مستحقا له وهو المطالبة بالإيفاء في المكان المشروط فإن هلك المقبوض في يده فلا شيء له لأنه تم قبضه للمسلم فيه وإنما كان الباقي له مجرد خيار وقد سقط ذلك بهلاك المقبوض في يده والخيار ليس بمال فلا يستوجب حق الرجوع بشيء عند سقوط خياره.(12/314)
قال: ولا خير في أن يسلم العروض في تراب المعدن ولا في تراب الصواغين لأن عين التراب غير مقصود بل ما فيه من الذهب والفضة وقد بينا أن السلم في الذهب والفضة لا يجوز ولأن بذكر وزن التراب لا يصير ما هو المقصود معلوما وقد يخلو بعض التراب منه وقد يقل فيه وقد يكثر فعرفنا أنما هو المقصود مجهول جهالة لا تقبل الإعلام فكان العقد باطلا لذلك ولا بأس بأن يسلم الحنطة وما أشبهها فيما يوزن أو يكال بالرطل لما بينا أن ما يكال بالرطل فهو موزون وإسلام المكيل في موزون هو مبيع جائز لأنه لا يجتمع في البدلين أحد الوصفين وهو الجنسية والقدر الواحد وإذا اختلف النوعان مما يكال فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد ولا خير فيه نسيئة وكذلك الموزونات وقد بينا هذه الفصول في أول الكتاب ولا بأس بالبنفسج بالحنا والزئبق والورد رطلين برطل فإن الأدهان أجناس مختلفة عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه ما اتحد أصله منها جنس واحد وفيما اختلف أصله له قولان لأن الاسم والهبة واحد وإنما اختلف فيها الرائجة وباختلاف الرائجة لا يختلف الجنس كالمنتن من اللحم مع غير المنتن ولكنا نقول بما حل بكل واحد منهما من الصفة اختلف الأصل والمقصود ومنع عود كل واحد منهما إلى مثل حال صاحبه فيختلف الجنس كالثياب والوداري مع الزنديجي جنسان مع اتحاد الأصل لاختلاف المقصود وعلى هذا الزبد مع السمن وكذلك الزيت المطبوخ مع غير المطبوخ والدهن المربى بالبنفسج مع غير المربى يجوز بيع رطل من المطبوخ والمربى برطلين من غير المطبوخ وغير المربى لأن تلك الرائجة بمنزلة زيادة في عينها فكأنه باع رطلا من زيت وبقله برطلين من زيت فيكون المثل بالمثل والباقي بإزاء الزيادة وعن أبي يوسف(12/315)
ص -152- ... رحمه الله قال: هذا إذا كان المطبوخ ينتقص إذا ذهبت تلك الرائجة منه فإن كان لا ينتقص فقد عرفنا أنه ليس بزيادة في العين فلا يجوز بيعه بغير المطبوخ إلا رطلا برطل بخلاف المربى بالبنفسج مع المربى بالياسمين فهناك كل واحد منهما لا يصير مثل صاحبه بحال وهنا غير المطبوخ من الزيت يطبخ فيكون مثل المطبوخ فتعتبر المماثلة باعتبار المال وعلى هذا الألبان فإنها أجناس عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه الكل جنس واحد لبن الإبل والبقر والغنم لاتفاق الاسم والهيئة وتقارب المقصود ولكنا نقول أصولها أجناس واللبن يتولد من العين كالولد فكان اختلاف جنس الأصل دليلا على اختلاف أجناسها ولا تقارب في المقصود أيضا فإن مقصود المسلي يحصل بلبن البقر دون لبن الإبل حتى أن ما يكون أصله جنسا واحدا كالبقر مع الجواميس والعراب مع البخاتي والمعز مع الضأن فلبنهما جنس واحد ودليل اتحاد جنس الأصل تكميل نصاب البعض بالبعض في باب الزكاة وكذلك اللحوم أجناس مختلفة عندنا وللشافعي قولان في أحد القولين يقول كذلك لاختلاف الهيئة هنا ألا ترى أنه يمكن تمييز البعض عن البعض برؤية الأعيان بخلاف الأدهان والألبان وفي القول الآخر يقول الكل جنس واحد لاتفاق اسم العين وهو اللحم وتقارب المقصود منها فإن كلها يصلح لما هو المقصود وهو اتخاذ المرقة منها وعندنا هي أجناس لأن أصولها أجناس حتى لا يضم البعض إلى البعض في حكم الزكاة وكذلك الأسامي مختلفة لاختلاف الإضافة كدقيق الحنطة مع دقيق الشعير والثوب الهروي مع المروي وكذا لحم البقر والغنم والمقصود مختلف أيضا فبعض الناس يرغب في بعض اللحوم دون البعض فربما ينفعه البعض ويضره البعض ولا تفاوت في المقصود أبلغ من هذا ولكن مع اختلاف الجنس هي موزونة كلها فكذلك لا يجوز بيع البعض بالبعض نسيئة ويجوز متفاضلا يدا بيد لانعدام أحد الوصفين.(12/316)
قال: ولا خير في الحنطة بالدقيق متساويا ولا متفاضلا لأن من الحنطة والدقيق شبهة المجانسة فإن عمل الطحن في الصورة هو تفريق الأجزاء وإن كان في الحكم الدقيق غير الحنطة ويجعل الدقيق حاصلا بالطحن ولهذا كان للغاصب إذا طحن الحنطة إلا أن الربا مبنى على الاحتياط فالشبهة فيه تعمل على الحقيقة وعند وجود حقيقة المجانسة لا يجوز بيع البعض بالبعض إلا متساويا فكذلك إذا وجبت شبهة المجانسة ولا يعرف التساوي في الكيل بين الدقيق والحنطة فالدقيق لا يصير حنطة قط ولكن الحنطة تطحن ولا يدري أن بعد الطحن يتساويان في المكيال أم لا فإذا كان بالتساوي في المعيار في الحال لا يعلم التساوي بينهما بعد الطحن لا يجوز بيع أحدهما بالآخر وكذلك بيع الحنطة بالنخالة والنخالة أجزاء الحنطة كالدقيق إلا أنه جزء خشن والدقيق جزء لين فأما بيع الدقيق بالدقيق عندنا كيلا بكيل يجوز وعند الشافعي لا يجوز لأن الدقيق لا يعتدل في الدخول في الكيل فإنه ينكبس بالكبس والكيل عنده لا يكون معيارا شرعا إلا فيما يعتدل في الكيل ولهذا قال ولا يجوز بيع الباقلاء والرطب بالرطب والمطعوم بالمطعوم إذا قوبل بجنسه فشرط جواز البيع عنده التساوي في(12/317)
ص -153- ... المعيار الشرعي وذلك لا يوجد فيما لا يعتدل بالكيل ولكنا نقول الكيل فيما هو مكيل معيار شرعي والدقيق مكيل ومعرفة كونه مكيلا بالرجوع إلى عرف الناس وهم يكيلون الدقيق كالحنطة ويجوز السلم في الدقيق كيلا كما يجوز في الحنطة فكان الكيل فيه معيارا شرعيا وما يتوهم فيه من التفاوت عند التكلف في كيل الدقيق يتوهم في الحنطة أيضا ثم يسقط اعتباره ووجب بناء الحكم على الوسط من ذلك فكذلك الدقيق ولا يجوز بيع السويق بالدقيق في قول أبي حنيفة متساويا ولا متفاضلاً. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز البيع تساويا أو تفاضلا بعد أن يكون يدا بيد لأنهما جنسان مختلفان فإن الاسم مختلف والمقصود مختلف لأنه يقصد بالدقيق اتحاد الخبز والعصايد والأطولة منه ولا يحصل شيء من ذلك بالسويق إنما يلت بالسمن والعسل فيؤكل كذلك أو يضرب بالماء فيشرب فكان التفاوت بينهما في المقصود أظهر من التفاوت في الهروى والمروى من الثياب وكذلك كل واحد منهما لا يصير مثل صاحبه بحال فالسويق لا يصير دقيقا والدقيق لا يصير سويقا بحال واختلاف الجنس يعرف بهذا ثم اتحاد الأصل لا يمنع اختلاف الجنس باعتبار هذه المعاني كالأدهان. وعن أبي يوسف أنه يجوز البيع متساويا لا متفاضلا لأن الدقيق قد يصير سويقا بأن يرش عليه الماء ثم يقلي فيصير سويقا وببغداد يتخذ السويق بهذه الصفة فتعتبر المساواة بينهما لجواز العقد باعتبار المال ولأبي حنيفة طريقان:(12/318)
أحدهما: أن السويق أجزاء الحنطة المقلية والدقيق أجزاء حنطة غير مقلية وبيع الحنطة المقلية بغير المقلية لا يجوز بحال فكذلك بيع السويق بالدقيق وتحقيق هذا أنهما إنما جعلا جنسا واحدا قبل الطحن فعرفنا أنهما جنس واحد بعد الطحن لأن الطحن فيهما عمل بصفة واحدة فلا يوجب اختلاف الجنس وإذا كان جنسا واحدا تعتبر المماثلة على الوجه الذي صار مال الربا وهو قبل القلي والطحن وبتساويهما كيلا في الحال لا تظهر تلك المماثلة فلا يجوز العقد والطريق الآخر أن بيع الحنطة بالسويق لا يجوز بالاتفاق وربا الفضل لا يثبت إلا باعتبار المجانسة ولا مجانسة بين الحنطة والسويق صورة فعرفنا أن المجانسة باعتبار ما في الضمن والذي في ضمن الحنطة دقيق فتثبت المجانسة بين السويق والدقيق بعد الطحن كما تثبت المجانسة بين السويق والحنطة باعتبار ما في الضمن قبل الطحن يوضحه أن بيع الحنطة بالدقيق ربا وبيع الحنطة بالسويق ربا ومن ضرورة كون كل واحد منهما جنسا للحنطة أن يكون أحدهما جنسا للآخر وإنما اختلف الاسم للصنعة لا اسم العين فكل واحد منهما أجزاء متفرقة فيما كان له لت الحنطة قبل التفريق وليس فيه أكثر من أنه فات بعض المقاصد في السويق وبه لا يختلف الجنس كالحنطة المقلوة بغير المقلوة والعلكة مع الرخوة والتي أكلها السوس فإنها لا تصلح للزراعة واتخاذ الهريسة والكشك منها ولا يوجب ذلك اختلاف الجنس فكذلك الدقيق مع السويق ولا خير في الزيت بالزيتون إلا أن يعلم أن ما في الزيتون أقل فحينئذ يجوز والأصل في جنس هذه المسائل أن المجانسة بين الشيئين تكون باعتبار العين تارة وباعتبار ما(12/319)
ص -154- ... في الضمن أخرى ففيما وجدت المجانسة عينا لا تعتبر في الضمن حتى يجوز بيع قفيز حنطة علكة بقفيز حنطة أكلها السوس ولا يعتبر ما في الضمن وفي الحنطة بالدقيق تعتبر المجانسة بما في الضمن حقيقة وإن كان ذلك شيئا آخر حكما ثم لا مجانسة بين الزيت والزيتون صورة فإنما تعتبر المجانسة بما في الضمن وهو الزيت الذي في الزيتون وبيع أحدهما بالآخر على أربعة أوجه إن علم أن ما في الزيتون من الزيت أكثر من المنفصل فقد يتحقق الفضل الخالي عن العوض فلا يجوز البيع وكذلك إن علم أنه مثله لأن تفل الزيتون يكون فضلاً خاليا عن العوض وإن كان لا يعلم كيف هو لا يجوز العقد عندنا. وقال زفر يجوز لأن الأصل في مقابلة مال بمال متقوم جواز العقد وإنما الفساد بوجود الفضل الخالي عن العوض فما لم يعلم به لا يفسد البيع وعندنا الفضل الذي هو يتوهم الوجود كالمتحقق في باب الربا احتياطا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الربا والريبة والريبة" شبهة الربا وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام فإذا لم تعلم المساواة جعل ذلك لتحقق الفضل احتياطا فيفسد العقد وإن علم أن ما في الزيتون من الزيت أقل من المنفصل فالبيع جائز لأن المثل يصير بإزاء المثل والباقي من الزيت بإزاء التفل فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة بهذا الطريق وكذلك دهن السمسم بالسمسم والعصير بالعنب واللبن بالسمن والرطب بالدبس ولا خير في شيء من ذلك نسيئة لوجود الجنسية بينهما باعتبار ما في الضمن ولا بأس بخل الخمر بخل السكر متفاضلاً يدا بيد لأنهما جنسان فإن أصلهما جنسان لأن السكر ماء التمر والخمر بالعنب وكما أن العنب مع التمر جنسان فكذلك الخل المتخذ منهما فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً ولا خير في ذلك نسيئة لأنه جمعهما قدر واحد وهو الكيل والوزن وإن اشترى شاة بصوف وعلى ظهرها صوف أو شاة في ضرعها لبن بلبن فإن ذلك لا يجوز إلا(12/320)
بطريق الاعتبار وهو أن يعلم أن اللبن المنفصل أكثر مما في الضرع وأن الصوف المجزوز أكثر مما على ظهر الشاة وذكر الطحاوي أن هذا على الخلاف وجعله نظير بيع لحم الشاة بالشاة فإن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يجوز بيع لحم الشاة بالشاة الحية على كل حال وعند محمد لا يجوز إلا بطريق الاعتبار وهو أن يعلم أن اللحم المنفصل أكثر من اللحم الذي في الشاة فيكون المثل بالمثل والباقي بإزاء المسقط وهو القياس لأن المجانسة بين الشاة واللحم ثابتة باعتبار ما في الضمن فلا يجوز البيع إلا بطريق الاعتبار كما في الفصول المتقدمة وبيان ذلك أن اللحم موجود في الشاة وهو المقصود وبه تختلف المالية ألا ترى أن الشاة في الغنيمة من جملة الطعام يباح لكل واحد من الغانمين تناوله وذلك باعتبار ما فيه من اللحم بل وجود اللحم في الشاة أبين وأظهر من وجود الدهن في السمسم فإن ذلك حادث بالعصير حكما ولهذا كان ملكا للغاصب واللحم لا يحدث بالذبح ولهذا لو غصب شاة فذبحها لم يكن اللحم له والذبح نقصان محض بمنزلة القطع في الثوب فلا يحدث به اللحم وهو إزهاق الحياة فيفوت به معنى النسل بمنزلة القلي في الحنطة يفوت ما كانت الحنطة باعتباره مثبتة وإذا ثبت(12/321)
ص -155- ... أن اللحم موجود قبل الذبح لا يجوز البيع إلا بطريق الاعتبار وجه قولهما أنه باع عدديا متفاوتا بوزنى فيجوز كيف ما كان كما لو باع الثوب بالقطن وبيان الوصف أن الحيوان عددي متفاوت ولهذا لا يجوز السلم فيها ويجوز بيع الشاة بالشاتين وتأثيره أن المجانسة باعتبار ما في الضمن إنما تطلب إذا كان كل واحد من البدلين مقدرا فأما إذا لم يكن أحدهما مقدرا لا يشتغل بطلب المجانس بينهما وبهذا يقع الفرق بين هذا وبين ما تقدم من الفصول ولكن بهذا التقرير لا يتضح الفرق في جميع الفصول فإن بيع دهن الجوز بالجوز لا يجوز إلا بطريق الاعتبار والجوز ليس بمقدر ولهذا يجوز بيع جوزة بجوزتين ولكن نقول اللحم في شراء الحيوان غير مقصود وإنما المقصود منه الدر والنسل والأسامة ليزداد عينها بالسمن فأما اللحم آخر المقاصد من الحيوان وإنما تعتبر المجانسة بما في الضمن إذا كان مقصودا والدليل عليه أن المالية في الحيوان لا تختلف باختلاف اللحم فقد نرى فرسين أو نجبين يتساويان في اللحم ويتفاوتان في القيمة تفاوتا فاحشا والبيع مبادلة مال بمال فإذا كانت مالية الحيوان لا تعرف بمقدار اللحم لا يعتبر ذلك في البيع قبل الذبح بخلاف جميع ما تقدم فالمالية هنا تختلف باختلاف مقدار الدقيق في الحنطة والدهن في السمسم والجوز ونحو ذلك نوضحه أن اللحم في الحيوان وإن كان موجودا حقيقة فهو كالمعدوم حكما حتى لو أخذ بضعة من لحم الحيوان لا يباح تناولها عرفنا أن مقصود اللحم حاصل بالذبح حكما فلا يعتبر قبله وعلى هذا الحرف نقول في مسألة الصوف واللبن الجواب قولهم جميعا فإنه مال موجود قبل الفصل ألا ترى أنه مفصل من الحيوان فيجوز الانتفاع به وهذا لأنه لا حياة في الصوف واللبن فكان الحال فيهما قبل الذبح وبعد الذبح سواء وعلى الطريق الأول هو على الخلاف كما ذكره الطحاوي لأن مالية الشاة لا تعرف بما على ظهرها من الصوف ولا بما في ضرعها من اللبن كما لا تعرف مالية(12/322)
الحيوان بمقدار اللحم فإن باع لحم شاة بالبقر والإبل جاز عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز بيع اللحم بالحيوان أصلا لحديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع اللحم بالحيوان وروى أن جزورا نحر على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه فجاء رجل بعناق وقال اعطوني بهذا العناق قطعة من هذا اللحم فقال أبو بكر رضي الله عنه هذا لا يصلح ولكنا نقول هما جنسان مختلفان فيجوز بيع أحدهما بالآخر كيف ما كان يدا بيد كما يجوز بيع الشاة بالبقر والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد والمراد بالنهي عن بيع الحيوان إذا كان أحدهما نسيئة فقد ذكر ذلك في بعض الروايات وبه نقول فإن السلم في كل واحد منهما لا يجوز عند أبي حنيفة وتأويل حديث أبي بكر رضي الله عنه أن ذلك البعير كان من إبل الصدقة فكره أبو بكر رضي الله عنه بيع لحمه لأنه إنما نحر ليتصدق به على الفقراء فلهذا قال لا يصلح وإذا أسلم الرجل حنطة في شعير وزيت كان باطلا في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز في حصة الزيت لأن الفساد(12/323)
ص -156- ... بوجود العلة المفسدة وذلك في الشعير خاصة فإن صحة الكيل لما جمع البدلين حرم النساء وفي حصة الزيت لم يوجد ذلك فإن إسلام المكيل في الموزون صحيح وثبوت الحكم بحسب العلة وليس من ضرورة فساد العقد في أحدهما فساد العقد في الآخر كما لو باع عبدا ومدبرا وكما لو باع عبدين فهلك أحدهما قبل القبض لا يفسد العقد في الآخر وأبو حنيفة يقول العلة المفسدة للعقد وجدت في الكل أما في حصة الشعير فظاهر وفي حصة الزيت فقد جعل قبول العقد في الشعير شرطا في قبول العقد في الزيت لأن من جمع بين الشيئين في العقد الواحد فإنه يكون شارطا عليه قبول العقد في كل واحد منهما ولهذا لو قبل العقد في أحدهما دون الآخر لا يجوز وهذا شرط فاسد والسلم يفسد بالشرط الفاسد يوضحه أن فساد العقد في الشعير لاشتراط الأجل واشتراط الأجل في العقد والعقد واحد فإذا تمكن فيه الشرط الفاسد فسد العقد كله بخلاف بيع القن والمدبر فالعقد في المدبر ليس بفاسد ولهذا لو أجاز القاضي بيعه جاز ولكنه غير نافذ لحق المدبر وذلك لمعنى فيه لا في العقد فلهذا لا يتعدى إلى الآخر وكذلك لو هلك أحد العبدين فالمفسد فوت القبض وذلك لمعنى في الهالك لا في العقد ونظائر هذه المسألة تذكر في باب البيوع الفاسد إن شاء الله تعالى وكذلك إن أسلم فوهبه في فوهية ومروية لأن الجنس يحرم النساء كالكيل وبهذا يتبين أن الطريق ما قلنا دون ما يقوله بعض مشايخنا رحمهم الله لأبي حنيفة إذا كان الفساد قويا مجمعا عليه ويمكن في البعض تعدي إلى ما بقي فإن فساد العقد بسبب الجنسية غير مجمع عليه وقد سوى بين الفصلين فعرفنا أن الطريق ما قلنا قال: ولا بأس بأن يسلم الفلوس فيما يوزن" لأن الفلوس عددية متقاربة فيجوز إسلامها في كل مكيل أو موزون إلا الصفر خاصة فإنه لا يجوز إسلام الفلوس فيه للجنسية فالفلوس صفر فإن قيل إذا كانت الفلوس صفرا والصفر موزون فينبغي أن لا يجوز إسلام الفلوس في الموزونات قلت(12/324)
الصفر موزون في العرف لا بالنص ولا عرف فيه في الفلوس الرائجة ألا ترى أنها لا تتفاوت في المالية بتفاوت الوزن وكذلك لو أسلم سيفا في شيء مما يوزن كان جائزا لأن السيف خرج من أن يكون موزونا عادة إلا في الحديد فإنه لا يجوز إسلام السيف في الحديد للمجانسة وكذلك كل إناء خرج بالصنعة من الوزن فلا بأس بأن يسلمه في الموزونات إلا في نوعه ولا بأس بأن يبيع إناء مصوغا بأناء مصوغ من نوعه يدا بيد وإن كان أكثر منه في الوزن إذا كان ذلك الإناء لا يباع وزنا لأنه عددي متفاوت كالثياب وهذا بخلاف أواني الفضة والذهب فإنه يجرى فيها ربا الفضل وإن كانت لا تباع وزنا في العادة لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص عليها فلا يتغير ذلك بالصنعة ولا يخرج من أن يكون موزونا بالعادة والعادة لا تعارض النص فأما في الحديد والشبه وما أشبه ذلك صفة الوزن ثابتة في العرف فيخرج من أن يكون موزونا بالصنعة وبالعرف وبتعارف الناس بيع المصوغ منه عددا فأما بيع فلس بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز لأن الفلوس الرائجة أمثال متساوية قطعا لاصطلاح الناس على سقوط قيمة الجودة فيها ليكون أحد الفلسين فضلا خاليا عن العوض(12/325)
ص -157- ... مشروطا في البيع وذلك هو الربا بعينه وإن باع فلسا بعينه بفلس بغير أعيانهما لم يجز أيضا لأنه لو أجاز أمسك الفلس المعين وطالبه بفلسين آخر أو أسلم إليه الفلس المعين ثم قبض ذلك منه بعينه مع فلس آخر لاستحقاقه فلسين في ذمته فيكون الفلس الآخر فضلا خاليا عن العوض وكذلك لو باع فلسين بأعيانهما بفلس بغير عينه لا يجوز لأنه لو جاز بقبض المشترى الفلسين ثم دفع إليه أحدهما فكان ما استوجب في ذمته فيبقى الآخر له بغير عوض فأما إذا باع فلسا بعينه بفسلين بأعيانهما يجوز في قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة رحمهما الله ولا يجوز في قول محمد رضي الله عنه وهذا ينبني على أن الفلوس لا تتعين بالتعيين ما دامت رائجة عند محمد وعلى قولهما تتعين بالتعين إذا قوبلت بجنسها حتى لو هلك أحدهما قبل القبض بطل العقد عندهما ومحمد رحمه الله يقول الفلوس الرائجة ثمن والأثمان لا تتعين في العقود بالتعيين كالدراهم والدنانير ألا ترى أنها لو قوبلت بخلاف جنسها لم تتعين حتى لو اشترى بفلوس معينة شيئا فهلكت قبل التسليم لا يبطل العقد ولو اشترى بها جاز فكذلك إذا قوبلت بجنسها لأن ما يتعين بالتعيين فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالمكيلات والموزونات وما لا تتعين فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالذهب والفضة وهما يقولان الفلوس عددي والعددي يتعين بالتعيين فيجوز بيع الواحد منه بالمثنى كما لو باع جوزة بجوزتين بأعيانهما وتحقيقه أن صفة الثمنية في الفلوس ليست بصفة لازمة ولا هو ثابت بأصل الخلقة بل بعارض اصطلاح الناس والعاقد إن قصد تصحيح العقد ولا وجه لتصحيح العقد إلا بأن تتعين الفلوس وتخرج من أن تكون رائجة ثمنا في حقهما فيجعل كأنهما أعرضا عن ذلك الاصطلاح والدليل على أن معنى الثمنية في الفلوس بالاصطلاح أنه يصلح ثمن الخسيس من الأشياء دون النفيس وأنه يروج بعض الأشياء دون البعض ويروج في بعض المواضع دون البعض بخلاف الذهب والفضة فإن قيل تحت هذا(12/326)
الكلام فساد فإنه إذا خرج في حقهما من أن يكون ثمنا كان هذا بيع قطعة صفر بقطعتين من صفر وذلك لا يجوز قلنا الاصطلاح في الفلوس على صفة الثمنية والعدد فيهما في هذه المبايعة إعراضا عن اعتبار صفة الثمنية فيها وما أعرض عن اعتبار صفة العدد فيها وليس من ضرورة خروجها من أن تكون ثمنا في حقهما خروجها من أن تكون عددية كالجوز والبيض فهو عددي وليس بثمن فهذا باتفاقهما يصير بهذه الصفة.
قال: ولا بأس بأن يشتري شقة خز بشقة خز هي أكثر منها وزنا لأنها لا توزن وإنما تذرع كسائر الثياب وبيع ما ليس بمكيل أو موزون بجنسه يدا بيد يجوز كيف ما كان.
قال: ولا بأس بالتمر بالرطب مثلا بمثل وإن كان الرطب ينقص إذا جف وهذه مسائل:
أحدها: بيع الرطب بالرطب كيلا بكيل جائز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز وكذلك الباقلا وعلل في كتابه فقال لأن بين الباقلتين فضاء ومتسعا معناه أنه لا يعتدل في الدخول في الكيل حتى لا ينضم بعضه إلى بعض بل يتجافي ويتفاوت مقدار التجافي فيه فلا يكون الكيل فيه معيارا شرعيا والمخلص عن الربا يكون بالتساوي في المعيار الشرعي وقاس بيع الحنطة المقلية بغير المقلية فإن المقلية لا تعتدل في الدخول في الكيل لانتفاخ يحدث فيها(12/327)
ص -158- ... بالقلي أو صخور فإنها إذا قليت رطبة انتفخت وإذا قليت يابسة ضمرت. وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "التمر بالتمر كيل بكيل" والتمر اسم للثمرة الخارجة من النخل من حين ينعقد عليها صورتها إلى أن تدرك فكان الرطب تمرا والدليل عليه قول القائل:
وما العيش إلا نومة وشرق ... وتمر على رؤس النخيل وماء
والمراد الرطب والمعنى فيه أن الرطب أمثال متساوية بدليل ثبوت حكم الربا فيها وقد بينا أن حكم الربا لا يثبت في المال ما لم يصر أمثالا متساوية وإنما صارت أمثالا متساوية بصفة الكيل فكان الكيل فيها عيارا شرعيا والأصل أنه يراعى وجود المساواة بين المثلين على الوجه الذي صار مال الربا كما في الحنطة وغيرها وبه فارق المقلوة فإن الحنطة لا تخلق كذلك بل تكون في الأصل غير مقلوة وتصير مال الربا بتلك الصفة فتراعى تلك المماثلة وبعد القلي لا تعرف تلك المماثلة وإن تساويا في الكيل فلهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية ولا بالمقلية فإن قيل هذا فاسد فقد جوز تم بيع الحنطة الرطبة بالحنطة الرطبة كيلا بكيل والرطوبة صفة حادثة بصنع العباد كالقلي.(12/328)
قلنا: الحنطة في الأصل تخلق رطبة ويكون مال الربا على هذه الصفة فإذا بلت بالماء عادت إلى تلك الصفة فإذا وجدت المماثلة على الوجه الذي صارت مال الربا جاز العقد وهي لا تخلق في الأصل مقلوة حتى يكون هذا إعادة إلى تلك الصفة فيها فأما بيع الرطب بالتمر كيلا بكيل يجوز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال صلى الله عليه وسلم "أينقص إذا جف؟" قالوا نعم فقال عليه الصلاة والسلام "فلا إذا" وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهي عن بيع الرطب بالتمر كيلا وعن بيع العنب بالزبيب كيلا ثم في قوله عليه السلام "أينقص إذا جف؟" إشارة إلى أنه يشترط لجواز العقد المماثلة في أعدل الأحوال وهو ما بعد الجفاف ولا يعرف ذلك بالمساواة في الكيل في الحال فهذا الحديث دليل الشافعي رضي الله عنه أيضا في المسألة الأولى من هذا الوجه واعتبار المماثلة في أعدل الأحوال صحيح كما في بيع الحنطة بالدقيق فإنه لا يجوز لتفاوت بينهما بعد الطحن ولأن العقد جمع بين البدلين أحدهما على هيئة الإدخار والآخر ليس على هيئة الإدخار ولا يتماثلان عند التساوي في الصفة فلا يجوز بيع المقلية بغير المقلية وهذا بخلاف الجودة والرداءة فالرداءة من نوع العيب والرطوبة في الرطب ليس بعيب فإن العيب ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة فأما ما لا يخلو عن أصل الفطرة السليمة لا يكون عيبا كالصغير في الآدمي وانعدام العقل بسببه وهذا بخلاف الحديث مع العتق وكل واحد من البدلين هناك على هيئة الادخار ثم الحديث إذا عتق لا يظهر فيه التفاوت إلا شيء يسير لا يمكن التحرز عنه وذلك عفو كالتراب في الحنطة ودخل أبو حنيفة بغداد فسئل عن هذه المسألة وكانوا أشد يدا عليه لمخالفته الخبر فقال الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أو ليس بتمر فإن كان تمرا جاز(12/329)
العقد عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:(12/330)
ص -159- ... "التمر بالتمر" وإن لم يكن تمرا جاز لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" فأورد عليه حديث سعد رضي الله تعالى عنه فقال مدار هذا الحديث على زيد بن أبي عياش وزيد بن أبي عياش لا يقبل حديثه واستحسن منه أهل الحديث هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو يقول زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل حديثه وهذا الكلام في المناظرة يحسن لدفع شغب الخصم ولكن الحجة لا تتم بهذا لجواز أن يكون هنا قسما ثالثا كما في المقلية بغير المقلية ولكن الحجة لأبي حنيفة الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر مثل بمثل يد بيد كيل بكيل" وقد بينا أن التمر اسم للثمرة الخارجة من النخيل حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك وما يتردد عليها من الأوصاف باعتبار الأحوال لا يوجب تبدل اسم العين كالآدمي يكون صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا فإذا ثبت أن الكل تمر يراعى وجود المماثلة حالة العقد على الصفة التي دخلت في العقد لأن اعتبار المماثلة سبب المقابلة وذلك يكون عند العقد وما كان اعتبار المساواة إلا نظير الأجود فكما لا يعتبر التفاوت في ذلك فكذلك في هذا وقد تحققت المساواة بينهما في الكيل في الحال لأن الرطوبة التي في الرطب مقصودة وهي شاغلة للكيل فلا يظهر التفاوت إلا بعد ذهابها بالجفاف فلا يتبين به أن التفاوت كان موجودا وقت العقد بخلاف الحنطة بالدقيق فإن بالطحن تتفرق الأجزاء ولا يفوت جزء شاغل للكيل فتبين بالتفاوت بينهما بعد الطحن أنهما لم يكونا متساويين عند العقد وكذا المقلية بغير المقلية فإن بالقلي لا يفوت جزء شاغل للكيل إنما تنعدم اللطافة التي كانت بها الحنطة منبتة ولما ظهر التفاوت بعد القلي عرفنا أن هذا التفاوت كان موجودا عند العقد ثم صاحب الشرع أسقط اعتبار التفاوت في الجودة بقوله صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديئها سواء" واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حتى شرط اليد(12/331)
باليد وصفة الجودة لا تكون حادثة يصنع العباد والنقاوة بين النقد والنسيئة حادث بصنع العباد وهو اشتراط الأجل فصار هذا أصلا أن كل تفاوت ينبني على صنع العباد فذلك مفسد للعقد وفي المقلوة بغير المقلوة والحنطة بالدقيق بهذه الصفة وكل تفاوت ينبني على ما هو ثابت بأصل الخلقة من غير صنع العباد فهو ساقط الإعتبار والتفاوت بين الرطب والتمر بهذه الصفة فلا يكون معتبرا كالتفاوت بين الجيد والردئ.
قال: وبيع العنب بالزبيب كبيع الرطب بالتمر فأما بيع الحنطة المبلولة باليابسة أو الرطبة باليابسة يجوز في قول أبي حنيفة وفي قول محمد لا يجوز وذكر في نسخ أبي حفص قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو قوله الآخر فأما قوله الأول كقول محمد فأبو حنيفة مر على أصله وهو اعتبار المساواة في الكيل عند العقد ومحمد مر على أصله وهو اعتبار المماثلة في أعدل الأحوال كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد رضي الله تعالى عنه وذلك لا يوجد في الحنطة الرطبة والمبلولة بعد الجفوف وأبو يوسف يقول القياس ما قاله أبو حنيفة ولكن تركت القياس في الرطب بالتمر للحديث والمخصوص من القياس بالأثر لا يلحق به إلا ما كان في معناه من كل وجه والحنطة الرطبة ليست في معنى الرطب من كل وجه(12/332)
ص -160- ... فالرطوبة في الرطب مقصودة وفي الحنطة غير مقصودة بل هو عيب فلهذا أخذت فيه بالقياس وأبو حنيفة يقول تأويل الحديث إن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر نسيئة وقد نقل ذلك في بعض الروايات وفائدة قوله صلى الله عليه وسلم "أينقص إذا جف؟" أن الرطب إذا جف ينقص إلا أن يحل الأجل فلا يكون هذا التصرف مفيدا وكان السائل وصيا ليتيم فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك التصرف منفعة لليتيم باعتبار النقصان عند الجفوف فمنع الوصي منه على طريق الاشفاق لا على وجه بيان فساد العقد فأما الحنطة المبلولة بالمبلولة تجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا ولا يجوز عند محمد وكذلك الزبيب المنقع بالمنقع والتمر المنقع بالمنقع ومحمد يفرق بين هذه الفصول وبين بيع الرطب بالرطب فيقول هناك التفاوت يظهر بعد خروج البدلين عن الاسم الذي عقد به العقد فلا يكون ذلك تفاوتا في المعقود عليه وهذه الفصول تظهر التفاوت بعد الجفوف مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد به العقد فبهذا الحرف يتضح مذهبه في هذه الفصول ثم ذكر بيع الحنطة المقلية بغير المقلية وقد بينا الحكم فيه وأهل الأدب طعنوا عليه في هذا اللفظ فقالوا إنما يقال حنطة مقلوة فأما المقلية المبعضة يقال قلاه يقلية إذا أبغضه، ولكنا نقول محمد كان فصيحا في اللغة إلا أنه رأى استعمال العوام هذا اللفظ في الحنطة ومقصوده بيان الأحكام لهم فاستعمل فيه اللغة التي هي معروفة عندهم وما كان يخفي عليه هذا الفرق ولا يجوز الحنطة بالسويق متساويا ولا متفاضلا إلا أن تكون الحنطة أكثر ومع السويق فضة أو ذهب فيكون ما معه بفضل الحنطة" لأن الصحة مقصود المتعاقدين ومتى أمكن تحصيل مقصودهما بطريق جائز شرعا يحمل مطلق كلامهما عليه ويجعل كأنهما صرحا بذلك كما لو باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره يجوز البيع وينصرف تسمية النصف مطلقا إلى نصيبه خاصة وكذا لو قال(12/333)
لرجل أوصيت لك بثلثي يجوز ويحمل على إيجاب ثلث المال لأنه عرف أنه مقصوده فهذا مثله والأصل فيه قوله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17- 18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملاً" ولو أسلم ثوبا فوهيا في ثوب مروي ويجعل من المسلم إليه فضل دراهم أو متاع جاز لأن ما بخص الدراهم أو المتاع من الثوب الفوهي يكون مبيعا وما يخص الثوب الهروي منه يكون رأس المال وإسلام الفوهي في المروي جائز وكذلك لو أعطاه ثوبا في حنطة وشعير فجعل بعضه عاجلا وبعضه إلى أجل فهو جائز لأن ما يخص العاجل منه إن كان بعينه فهو متقابضة وإن كان بغير عينه وكان موصوفا فهو ثمن وما يخص الأجل فهو بيع الثوب بثمن مؤجل وهذا لأن الثوب مبيع والمكيل إذا كان بعينه يكون مبيعا وإذا كان بغير عينه وما يقابله مبيع فهو ثمن والبيع بثمن مؤجل صحيح إذا كان معلوم الوصف ولو أعطاه ثوبا فوهيا في ثوب فوهي بنسيئة فهو مردود لأنه لا وجه لتصحيحه بيعا مقابضة فإن أحد البدلين ليس بمعين ولا وجه لتصحيحه سلما لأن البدلين من جنس واحد ولا وجه لتصحيحه قرضا فإن استقراض الثوب لا يجوز فإن زاد فيه درهماً مع(12/334)
ص -161- ... الثوب الذي عجل أو زاده الآخر مع ثوبه درهما عاجلا كان ذلك كله أو آجلا كان ذلك فاسدا لأن الزيادة بيع يقصد بها إخراج العين من العقد وإدخال الرخص فيه وقد تعذر تصحيح الأصل هنا فلا يمكن تصحيح البيع لأن ثبوت البيع بثبوت الأصل وإذا أثبتنا الحكم في البيع بدون الأصل لم يكن بيعا وكذا لو كانت الزيادة دنانير أو ثوبا يهوديا أو كر حنطة أو غير ذلك لأنه بيع للأصل حين أوجبه باسم الزيادة عينا كان أو دينا وإن أسلم طعاما في شيء مما يوزن وزاد مع ذلك دراهم أو دنانير أو ثوبا عاجلا فهو جائز لأن العقد في الأصل المؤاجلة بمقابلة بعضه يكون دينا بدين وإن كانت الزيادة صحيحة هنا فيثبت حكمه في الزيادة أيضا وإن جعله مؤجلا لم يجز لأن المسلم فيه دين فالزيادة من الذي عليه السلم دراهم أو دنانير أو ثوبا أو شيئا مما يوزن عاجلا فهو جائز وإن جعله مؤجلا فهو جائز أيضا إذا كان معلوما في نفسه لأن رأس المال عين فلا يخص المسلم فيه من رأس المال يكون عقد السلم فيه صحيحا وما يخص الزيادة يكون بيعا بثمن إلى أجل معلوم وذلك جائز أيضا فأما إذا أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم إن المسلم إليه زاد كرا آخر أو نصف كر لا تجوز الزيادة لأنه لا يمكن جعل الزيادة ثمنا وجعل الدراهم مبيعا فلا بد من أن يجعل زيادة في المسلم فيه والزيادة في المسلم فيه من المسلم إليه على سبيل الالتحاق بأصل العقد لا يجوز لأن عقد السلم جوز بخلاف القياس لحاجة الناس إليه ولا حاجة له إلى الزيادة بل حاجته إلى زيادة رأس المال فلا جرم الزيادة في رأس المال على سبيل الالتحاق بأصل العقد جائزة في المجلس.(12/335)
قال: وإن أسلم طعاما في ثياب مختلفة أو في أشياء من الوزنيات مختلفة ولم يسم رأس مال كل صنف منها فهو فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اشتراط إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره وقد سبق بيانه ولا بأس بأن يشتري الرجل الشاة الحية بالشاة المذبوحة يدا بيد لأنه بيع عددي فوري فالشاة الحية لا توزن ولا خير فيه نسيئة لأن النسيئة إن كانت في الشاة الحية فهو سلم في الحيوان وإن كانت في البدل الآخر فهو سلم في اللحم ولو كانتا شاتين مذبوحتين قد سلختا اشتراهما رجل بشاة مذبوحة لم تسلخ كان ذلك جائزا أيضا لأن المثل من لحم الشاة بمقابلته من الشاتين والباقي من لحم الشاتين بإزاء الجلد والسقط فيجوز ذلك ويحمل مطلق كلامهما عليه لتحصيل مقصودهما ولو كانت الشاة ليس معها جلد كان ذلك فاسدا لأن العقد اشتمل على اللحم فقط من الجانبين واللحم موزون فإذا وجدت الجنسية والوزن حرم التفاضل.
قال: ولا بأس بكر حنطة وكر شعير بثلاثة أكرار حنطة وكر شعير يدا بيد فتكون حنطة هذا بشعير هذا وشعير هذا بحنطة هذا عندنا استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله وكذلك لو باع مد عجوة وزبيب بمدي عجوة وزبيب أو باع ديناراً ودرهماً بدرهمين ودينارين فأما إذا باع درهماً جيدا ودرهماً زيفا بدرهمين جيدين يجوز عند أصحابنا رحمهم الله وعند الشافعي لا يجوز وكذلك لو باع دينارا نيسابوريا أو ديناراً هروياً(12/336)
ص -162- ... بدينارين نسابوريين أو هرويين وهذا بناء على الأصل الذي تقدم فإن عند الشافعي رحمه الله للجودة قيمة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها فإنما ينقسم الدرهمان الجيدان على الجيد والزيف باعتبار القيمة فيصيب الجيد أكثر من وزنه والزيف أقل من وزنة وذلك ربا وعندنا لا قيمة للجودة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها فالمقابلة باعتبار الأجزاء ويجوز العقد لوجود المساواة في الوزن عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب مثل بمثل والفضة بالفضة مثل بمثل يد بيد" وبقوله صلى الله عليه وسلم "جيدها ورديئها سواء" وأما الكلام في الفصل الثاني فوجه القياس فيه أن العقد متى اشتمل على أعواض من أجناس مختلفة ينقسم البعض على البعض باعتبار القيمة كما لو باع عبدا أو ثوبا بجارية وحمار وهذا لأن الانقسام يكون على وجه يعتدل فيه النظر من الجانبين حال بقاء العقد وحال انفساخه في البعض يعارض وإنما يكون ذلك في الانقسام باعتبار القيمة وأما في صرف الجنس إلى خلاف الجنس يتضرر أحدهما عند انفساخ العقد في البعض بعارض والدليل عليه أنه لو باع قفيز تمر بقفيزي تمر لا يجوز ولا يجعل التمر من كل جانب بمقابلة القوى من الجانب الآخر ولو باع منا من لحم بنوى لحم لا يجوز ولا يجعل اللحم من كل جانب بمقابلة العظم من الجانب الآخر حتى يجوز ولو اشترى عبدا بألف درهم نسيئة ثم باعه من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز العقد فيما اشتراه لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع وتصحيح العقد هنا يمكن بأن يجعل بمقابلة العبد الأول من الثمن الثاني مثل الثمن الأول والباقي بإزاء الآخر ومع ذلك اعتبر الانقسام بالقيمة فهذا مثله يدل عليه أن في الأموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس لا إلى خلاف الجنس فإنه إذا باع ثوبا وعشرة بثوب وعشرة بشرط قبض الدراهم في المجلس لأنه يجعل صرفا في حق الدراهم ووجه الاستحسان الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم:(12/337)
"فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" وقد اشتمل العقد هنا على نوعين مختلفين فينبغي أن يجوز العقد كيف شاء المتعاقدان والمعنى فيه ما بينا أن تحصيل مقصود المتعاقدين ممكن بطريق شرعي وهو صرف الجنس إلى خلاف الجنس فيجب المصير إليه ويجعل ذلك كالمصرح به وهذا لأن الانقسام في سائر المعاوضات باعتبار القيمة ليس بمقتضى العقد بل للمعاوضة والمساواة إذا ليس صرف البعض أولى من البعض فيصير الانقسام والتوزيع باعتبار القيمة للمعاوضة وذلك غير موجود هنا لأنه لو صرف الجنس إلى الجنس فسد العقد ولو صرف الجنس إلى خلاف الجنس صح العقد ولا معاوضة بين الجائز والفاسد فالجائز مشروع بأصله ووصفه والفاسد مشروع بأصله حرام بوصفه فإذا لم تتحقق المعاوضة على وجه المساواة لا يصار إلى الانقسام باعتبار القيمة ولكن يترجح ما هو مشروع من كل وجه عل ما هو مشروع من وجه دون وجه بخلاف النوى مع التمر فالتمر والنوى كله مكيل من جنس واحد ولو صرح بصرف التمر إلى النوى لم يجز العقد وكذلك العظم مع اللحم لأنه مركب فيه خلقة كالنوى في التمر فإذا كان عند التصحيح لا يصح العقد فعند الاطلاق لا(12/338)
ص -163- ... يحمل عليه أيضا فأما مسألة العبدين قلنا: فصل المعاوضة يتحقق هناك لأن جهات الجواز تكثر فإنه إن جعل بمقابلته مثل الثمن الأول يجوز وكذلك إن جعل بمقابلته أكثر من الثمن الأول فلكثرة جهات الجواز يتحقق معنى المعاوضة ويجب المصير إلى الانقسام باعتبار القيمة وهنا لا وجه للجواز إلا واحد وهو صرف الجنس إلى خلاف الجنس يوضحه أن شرط الجواز هناك أن لا يكون الثمن الثاني أقل من الثمن الأول فكأنهما ولو صرحا بهذا لم يصر مقدار الثمن معلوما فلا يجوز العقد فإن قيل المعاوضة هنا تتحقق أيضا فإنه إذا جعل الدراهم بمقابلة الدينارين يجوز وإن جعل نصف درهم والنصف الباقي بمقابلة الدينار ونصف ونصف دينار بمقابلة نصف الدينار والباقي بمقابلة درهم ونصف يجوز أيضاً.
قلنا: نعم ولكن هذا بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس ونحن ادعينا أنه لا وجه للجواز هنا إلا هذا الطريق فكيف ما يشتغل به لا يخرج به الطريق من أن يكون عينا وإذا اشترى ثوبا وعشرة بثوب وعشرة.
قلنا: هناك العقد صحيح من غير أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس فإن القبض في مجلس شرط بقاء العقد صحيحا لا شرط الانعقاد صحيحا ونحن إنما صححنا هذا التصحيح العقد لا للبقاء صحيحا فلا يلزم.
قال: وإن اشترى قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود منه فلا خير فيه لأنه لا قيمة للجودة فنصف القفيز بمقابلة نصف قفيز والنصف الآخر خال عن العوض وبهذه المسألة يتبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز لما بينا أنها إنما تصير مال الربا لكونها مكيلا والمكيل ما يعرف مقداره بالكيل وذلك يوجد في نصف قفيز ولا يوجد فيما دونه ولا بأس بأن يشتري الكفرى بما يناسب من التمر يدا بيد لأن الكفرى ليس بتمر ولا يكال أيضا ولا خير فيه إذا كان الكفرى نسيئة لأنه مجهول فيه الصغير والكبير وهو عددي متفاوت فإن آحاده تتفاوت في المالية.(12/339)
قال: ولا خير في التمر بالبسر اثنان بواحد وإن كان البسر لم يحمر ولم يصفر لأن البسر تمر على ما بينا أن التمر اسم لتمرة خارجة من النخل من حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك فأما في الكفرى قبل انعقاد صورة التمر فلا يكون تمرا وكذلك في كل صنف من صنوف التمر فلا خير في بعضه ببعض إلا مثلا بمثل يدا بيد ولا خير في أن يبتاع حنطة مجازفة بحنطة مجازفة وكذلك كل مكيل أو موزون لأن المساواة في القدر شرط لجواز العقد إذا صارت الأموال أمثالا متساوية وعند البيع مجازفة لا تظهر المساواة في القدر فلا يجوز العقد.
قال: فإن تبايع صبرة بصبرة مجازفة ثم كلنا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا وقال زفر يجوز لأن ما هو شرط الجواز وهي(12/340)
ص -164- ... المماثلة قد تبين أنه كان موجودا وإن لم يكن معلوما للمتعاقدين فجاز العقد كما لو زوجت امرأة نفسها من رجل وهناك شاهدان يسمعان كلامهما والمتعاقدان لا يعلمان ذلك كان النكاح جائزاً. وحجتنا في ذلك أن المعتبر لجواز العقد العلم بالمساواة عند العقد لأنه إذا لم يعلم ذلك كان الفضل معدوما موهوما وما هو موهوم الوجود يجعل كالمتحقق فيما بني أمره على الاحتياط كما في العقوبات التي تندرئ بالشبهات ولأن باب الربا مبنى على الاحتياط فالفضل الموهوم فيه كالمتحقق وكذلك لو باع الحنطة بالحنطة وزنا بوزن لا يجوز لأن الحنطة مكليلة فشرط الجواز فيها المماثلة الكيل وبالمساواة في الوزن لا تعلم المماثلة في الكليل وهذا بخلاف ما لو أسلم في الحنطة وزنا فإنه يجوز على ما ذكره الطحاوي لأن في المسلم فيه لا تعتبر المماثلة وإنما يعتبر الإعلام على وجه لا يبقى بينهما منازعة في التسليم وذلك يحصل بذكر الوزن كما يحصل بذكر الكيل وبهذه المسألة يتبين الجواب عن الإشكال الذي ذكرنا في مسألة علة الربا على من علل في مسألة بيع الحفنة بالحفنتين إنه إنما جاز لأن للجودة من الحفنة فيما عند مقابلتها بجنسها لأن سقوط قيمة الجودة باعتبار كون المال من ذوات الأمثال والمماثلة بالمعيار ولا معيار للحفنة بخلاف القفيز فزد على هذا الكلام مسألة الغصب وهو أن يقال لا قيمة للجودة من الحفنة أيضا حتى إذا غصب حفنة من حنطة وذهبت جوتها عنده فاستردها صاحبها لم يكن له أن يضمن الغاصب النقصان لأنا نقول لا قيمة للجودة منها لأنها موزونة لا لأنها مكيلة وكما أن اعتبار بالكيل يسقط قيمة الجودة فكذلك باعتبار الوزن إلا أن الشرع أسقط اعتبار الوزن في الحنطة في حكم الربا حيث نص على المماثلة فيه كيلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة كيل بكيل" فلذا جوزنا بيع الحفنة بالحفنتين ولم يجعل للجودة من الحفنة قيمة في الغصب لأنها موزونة كما جوزنا السلم في(12/341)
الحنطة بذكر الوزن.
قال: ولا خير في شراء التمر على رؤس النخل بالتمر كيلا أو مجازفة عندنا. وقال الشافعي يجوز شراء التمر على رؤس النخل بتمر مجذوذ على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق ولا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وله في مقدار خمسة أوسق قولان وحجته في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهي عن المزابنة ورخص في العرايا" وهي أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق والدليل على أن المراد بالعراية التي رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا قول زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فإنه لما سئل ما عرايا كم هذه قال إن الرطب ليأتينا ولم يكن في أيدينا بعد نبتاعه به وعندنا فضالات من التمر فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتاع بخرصها تمرا فنأكل مع اليابس الرطب ولأن ما على رؤوس النخل لا يتأتى فيها الكيل فأقام الشرع الخرص فيها مقام الكيل للحاجة تيسيرا بخلاف ما إذا كانا موضوعين على الأرض وهذه الحاجة في القليل دون الكثير والتفاوت مع الخرص ينعدم أو يقل في القليل ويكثر في الكثير والفرق بين التفاوت الكثير واليسير في التبرع أصل حتى أن الزيادة تدخل في الكيلين يجعل عفوا بخلاف ما زاد على ذلك وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "التمر(12/342)
ص -165- ... بالتمر كيل بكيل" وما على رؤوس النخل تمر فلا يجوز بيعه بالتمر إلا كيلا بكيل وهذا الحديث عام متفق على قبوله فيترجح على الخاص المختلف في قبوله والعمل به ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة فالمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بالتمر خرصا وأما العرية التي فيها الرخصة بقوله ورخص في العرايا هي العطية دون البيع قال صلى الله عليه وسلم للخراصين "حققوا في الخرص" فإن في المال العرية والوصية والمخروص له لا يستحق التخفيف بسبب البيع بل بسبب العطا وقال القائل شاعر الأنصار.
ليست بسيبها ولا رحبيه ... ولكن عرايا في السنين الحوائج
والافتخار بالعطاء دون البيع وتفسير العرية أن يهب الرجل ثمر نخله من بستانه لرجل ثم يشق على المعرى دخول المعرى له في بستانه كل يوم لكون أهله في البستان ولا يرضي من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة فيعطيه مكان ذلك تمرا محدودا بالخرص ليدفع الضرر عن نفسه ولا يكون مخلفا للوعد وهذا عندنا جائز لأن الموهوب لم يصر ملكا للموهوب له ما دام متصلا بملك الواهب فما يعطيه من التمر لا يكون عوضا عنه بل هبة مبتدأة وإنما سمى ذلك بيعا مجازا لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن خلف الوعد واتفق أن ذلك كان فيما دون خمسة أوسق فظن الراوي أن الرخصة مقصورة على هذا فنقل كما وقع عنده والقياس معنى في المسألة لأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا يجوز لطريق الخرص كما لو كانا موضوعين على الأرض أو كانا على رؤس النخيل وكما في سائر المكيلات من الحنطة والشعير فإنه لو باع الشعير المتحصل بشعير مثله بطريق الخرص لم يجز وكذلك الحنطة والشافعي لا يجوز ذلك في الحنطة لمعنيين:
أحدهما: أن شراء الحنطة في سنبلها بالدراهم عنده لا يجوز لأنه شراء ما لم يره بخلاف الشعير فإنه ظاهر مرئي.(12/343)
والثاني: أنه بيع مطعوم بمطعوم من جنسه لم يعرف التساوى بينهما في المعيار الشرعي.
قال: ولا بأس بشراء فضل الحنطة بحنطة مجازفة أو كيلا بعد أن يكون بعينه لأن الفضل ليس بمكيل ولا موزون إنما هو علف الدواب بمنزلة الحشيش ثم بيع الزرع النابت قبل أن يصير منتفعا به لا يجوز سواء باعه بالنقد أو بغيره لأن البيع يختص بعين مال متقوم والزرع في أول ما يبدو قبل أن يصير منتفعا به لا يكون مالا متقوما أما بعد ما صار منتفعا به بحيث يعمل فيه المناجل ومشافر الدواب يجوز بيعه لأنه مال متقوم منتفع به فإن باعه بشرط القطع أو مطلقا جاز لأن مقتضي مطلق البيع تسليم المعقود عليه عقبه فهو وشرط القطع سواء وإن باعه بشرط الترك في أرضه حتى يدرك فلا خير فيه لأنه إن كان بمقابلة منفعة الترك بعض البدل فهو إجارة مشروطة في البيع وإن لم يكن بمقابلتها شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في العقد وكل واحد منهما مفسد للعقد وإن اشتراه مطلقاً، ثم تركه إلى وقت الإدراك فإن كان الترك بإذن البائع فالفضل طيب للمشتري لأنه تبرع عليه بمنافع أرضه وإن كان الترك بغير إذن البائع فعليه(12/344)
ص -166- ... أن يتصدق بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث فإنه غاصب للأرض والزيادة إنما حصلت بقوة الأرض فكان بمنزلة من غصب أرضا وزرعها فعليه أن يتصدق بالفضل
قال: وإن استأجر الأرض مدة معلومة بأجر معلوم ليترك الفضل فيها فذلك جائز لأن استئجار الأرض صحيح إذا كان المستأجر يتمكن من استيفاء منفعتها والتمكن هنا موجود لاشتغالها بزرعه بمعنى أنه وصلت منفعة الأرض إلى زرعه فصار كأن زرعه استوفى منفعة الأرض وإن استأجرها إلى وقت الإدراك فهو فاسد لجهالة المعقود عليه وقد يتقدم الإدراك إذا تعجل الحر وقد يتأخر إذا طال البرد ويلزمه أجر المثل لأنه استوفى في المنفعة بحكم عقد فاسد ولا يجاوز به ما سمى لانعدام المقوم في الزيادة ثم يرفع من الغلة ما غرم فيه ويتصدق بالفضل لأنه حصل بحكم عقد فاسد فتمكن فيه نوع خبيث.
قال: ولا بأس بأن يبتاع زرع الحنطة بعد ما أدرك بغير الحنطة عندنا وعند الشافعي لا يجوز في أحد القولين لأنه اشترى ما لم يره وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .قال: وإذا كان الشيء مما يكال أو يوزن بين رجلين وهما نوعان فاقتسماه مجازفة فأخذ أحدهما أحد النوعين والآخر النوع الأخر بغير كيل وأخذ كل واحد منهما نصف نوع مجازفة فهو جائز إذا اصطلحا عليه لأنهما جنسان مختلفان والمعاوضة عند اختلاف الجنس يدا بيد يجوز كيف ما كان وكل واحد منهما يأخذ نصف النوع الذي أخذه بتقديم ملكه والنصف الآخر عوضا عما تركه لصاحبه من نصيبه في النوع الآخر وبيع الحنطة بالشعير مجازفة يجوز.(12/345)
قال: ولا يجوز شراء اللبن في الضرع كيلا ولا مجازفة بدراهم أو غير ذلك لنهى النبي صلى الله عليه وسلم: "عن الغرر" والغرر ما يكون مستور العاقبة ولا يدري أن ما في الضرع ريح أو دم أو لبن ولأن البيع يختص بعين مال متقوم بنفسه واللبن في الضرع بمنزلة الصفة في الحيوان ولا يكون مالا متقوما بنفسه قبل الحلب وأوصاف الحيوان لا تقبل البيع كاليد والرجل ولأن اللبن يزداد ساعة فساعة وتلك الزيادة لا يتناولها البيع واختلاط المبيع بما ليس بمبيع من ملك البائع على وجه يتعذر تمييزه مبطل للبيع ثم تتمكن المنازعة بينهما في التسليم لأن المشترى يستعصى في الحلب والبائع يطالبه بترك داعية اللبن وكذلك بيع أولادها في بطونها لا يجوز لمعنى الغرور وانعدام المالية والتقوم فيه مقصودا قبل الانفصال وعجز البائع عن تسليمه واستدل بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن بيع حبل الحبلة" منهم من يروي بالكسر الحبلة فيتناول بيع الحمل ومنهم من يروى بالنصب الحبلة فيكون المراد بيع ما يحمل هذا الحمل بأن ولدت الناقة ثم حبلت ولدها فالمراد بيع حمل ولدها وقد كانوا في الجاهلية يعتادون ذلك فأبطل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع المضامين والملاقيح وعن بيع حبل الحبلة قيل المضامين ما تتضمنه الأصلاب والملاقيح ما تتضمنه الأرحام وقيل على عكس هذا المضامين ما تضمه الأرحام والملاقيح ما تضمه الأصلاب وكذلك شراء أصوافها على ظهورها لأن الصوف قبل الجزاز وصف للحيوان وليس بمال متقوم في نفسه ولأن المنازعة بينما يتمكن في التسليم فإن(12/346)
ص -167- ... المشتري يستعصى في الجزاز والبائع يمنعه من ذلك وعن أبي يوسف رحمه الله أنه جوز ذلك لأن الصوف عين مال ظاهر وقاسه ببيع قوائم الخلاف وذلك جائز والفرق بينهما على ظاهر الرواية أن النمو في أغصان الشجرة يكون من رأسها لا من أصلها فلا يختلط ملك البائع بملك المشتري وأما النمو في الصوف يكون من أصله وذلك يتبين فيما إذا حصب الصوف على ظهر الشاة ثم تركه حتى نما فالمحصوب يكون على رأسه لا في أصله فيختلط ملك البائع بملك المشتري مع أن ما يكون متصلا بحيوان فهو وصف محض بخلاف ما يكون متصلا بالشجرة فهو عين مال مقصود من وجه فيجوز بيعه لذلك.(12/347)
قال: وكل شيء اشتراه من الثمار على رأس الشجر بصنف من غيره يدا بيد فلا بأس به وشراء الثمار قبل أن تصير منتفعا بها لا يجوز لأنه إذا كان بحيث لا يصلح لتناول بنى آدم أو علف الدواب فهو ليس بمال متقوم فإن صار منتفعا به ولكن لم يبد صلاحه بعد بأن كان لا يأمن العاهة والفساد عليه فاشتراه بشرط القطع يجوز وإن اشتراه بشرط الترك لا يجوز، وإن اشتراه مطلقا يجوز عندنا لأن مطلق العقد يقتضي تسليم المعقود عليه في الحال فهو وشرط القطع سواء. وعند الشافعي لا يجوز هذا العقد لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار "حتى يبدو صلاحها" أو قال "حتى يزهي" أو قال "حتى تؤمن العاهة" وتأويله عندنا في البيع بشرط الترك بدليل قوله أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه المسلم وإنما يتوهم هذا إذا اشترى بشرط الترك إلى أن يبدو صلاحها أما إذا اشتراها بعد ما بدا صلاحها إلا أنها لم تدرك بعد شرط القطع يجوز وكذلك مطلقا ويؤمر بأن يقطعها في الحال بمقتضي مطلق العقد وعند الشافعي رحمه الله يتركها إلى وقت الإدراك لأنه هو المتعارف بين الناس ولو اشتراها بشرط الترك فالعقد فاسد عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله لأنه متعارف بين الناس ومن الشرائط في العقود ما يجوز العرف كما إذا اشترى نعلا وشراكين بشرط أن يحذوها البائع ولكنا نقول إن كان بمقابلة منفعة الترك شيء من البدل فهذه إجارة مشروطة في البيع وإن لم يكن فهي إعارة مشروطة في البيع وقد ورد الشرع بالنهى عن ذلك حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن صفقتين في صفقة وعن بيع وشرط وعن بيع وسلف" وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر ثم أن الثمار على رؤس الأشجار تزداد وهذه الزيادة تحدث من ملك البائع بعد البيع فكأنه ضم المعدوم إلى الموجود واشتراهما فكان باطلا وفصل النعل مستحسن من القياس ولا يتمكن في ذلك الشرط شراء المعدوم فأما إذا تناهى عظم الثمار وصار بحيث لا يزداد(12/348)
ذلك ولكن لم ينضج فإن اشتراه بشرط القطع أو مطلقا يجوز وإن اشتراه بشرط الترك ففي القياس العقد فاسد وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما قلنا وجوز محمد العقد في هذا الفصل استحسانا لأنه شرط متعارف ومدة الترك يسيرة وقد يتحمل اليسير فيما لا يتحمل فيه الكثير مع أنه لا يؤخذ للزيادة من ملك البائع بعد هذا ولكن الشمس تنضجه بتقدير الله ويأخذ اللون من القمر بتقدير الله والطعم من الكواكب بتقدير الله فلم يبق فيه إلا(12/349)
ص -168- ... عمل الشمس والقمر والكواكب فلهذا قال محمد أستحسن أن أجوزه بخلاف ما قبل أن يتناهى عظمه فإن اشتراه مطلق ثم تركه إلى وقت الإدراك فهو على قياس ما قدمنا من التفصيل في الفصل إلا في فصلين:
أحدهما: أن هناك لو استأجر الأرض مدة معلومة يجوز وهنا لو استأجر الأشجار مدة معلومة لا يجوز بحال لأن استئجار الأرض بالدراهم صحيح واستئجار الأشجار لا يجوز بحال.
والثاني: أن هناك لو استأجر الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل وهنا لا يلزمه شيء من الأجر ويطيب له الفضل لأن استئجار الأشجار لا يجوز له بحال فلا ينعقد العقد عليهما فاسدا أيضا وبدون انعقاد العقد لا يجب الأجر وإذا صار العقد لغوا بقي مجرد الإذن والترك متى كان بإذن البائع فالفضل يطيب له ولم يذكر فصلا آخر في الكتاب وهو ما إذا صار بعض الثمار منتفعا به ولم يخرج البعض بعد أو لم يصر منتفعا به ولم يخرج البعض أو لم يصر منتفعا به كالتين ونحوه فاشترى الكل فظاهر المذهب أن هذا العقد لا يجوز عندنا خلافا لمالك فإنه يقول وجود صفة المالية والتقوم في شيء مما هو المقصود يجعل كوجوده في الكل للحاجة إلى ذلك كما أن في باب الإجارة يجعل وجود جزء من المنفعة كوجود الكل في حق جواز العقد أو يجعل ما خرج أصلا وما لم يخرج منه جعل تبعا له في حق جواز العقد لتعامل الناس ولكنا نقول جمع في العقد بين المعدوم والموجود والمعدوم لا يقبل البيع وحصة الموجود من البدل غير معلوم فلا يجوز العقد وجعل المعدوم حقيقة موجودا حكما للضرورة وذلك فيما لا يقبل العقد بعد الوجود حقيقة فأما الثمار تقبل العقد بعد الوجود قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة يفتي بجواز هذا البيع في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك وهكذا حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل قال أجعل الموجود أصلا في العقد وما يحدث بعد ذلك تبعا قال أستحسن فيه لتعامل الناس فإنهم تعاملوا بيع(12/350)
ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس عن عادتهم حرج بين.
قال: وقد رأيت رواية في هذا عن محمد وهو في بيع الورد على الأشجار فإن الورد مثلا حق ثم جوز البيع في الكل مطلقا بهذا الطريق قال الشيخ الإمام ولكن الأول عندي أصح لأن المصير إلى هذا الطريق عند تحقق الضرورة ولا ضرورة في الباذنجان والبطيخ فإنه يمكنه أن يبيع أصولها حتى يكون ما يحدث من ملك المشتري له وفي الثمار كذلك فإنه يمكنه أن يشتري الموجود المنتفع به ببعض الثمن ثم يؤخر العقد فيما بقى إلى أن يصير منتفعا به أو يشتري الموجود بجميع الثمن ويحل للبائع أن ينتفع بما يحدث فيحصل مقصودهما بهذا الطريق.
قال: وإن اشترى طعاما بطعام مثله فعجله له وترك الذي اشترى ولم يقبض حتى افترقا(12/351)
ص -169- ... فلا بأس به عندنا وقال الشافعي يبطل البيع والتقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام من جنسه أو من خلاف جنسه ليس بشرط عندنا وقال الشافعي هو شرط عندي واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الأشياء الأربعة يدا بيد والمراد به القبض ألا ترى أن هذا اللفظ في الذهب والفضة أفاد شرط القبض ثم قال في آخر الحديث: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" وهذا ينصرف إلى جميع ما سبق ثم فهم منه في بيع الذهب والفضة شرط القبض في المجلس فكذلك في الأشياء الأربعة ولأن العقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه عينا يحرم التفاضل بينهما فيشترط القبض فيه في المجلس كبيع الذهب والفضة وهذا لأن بالاتفاق يحرم النساء هنا مع اختلاف الجنس وليس ذلك للتفاوت في المالية لأن حقيقة التفاضل عند اختلاف الجنس يجوز فعرفنا أن حرمة النساء لوجوب القبض في المجلس ولنا في المسألة طريقان:(12/352)
أحدهما: أن القبض حكم للعقد فلا يشترط اقترانه بالعقد كالملك فإنه يجوز أن يتأخر عن حالة العقد بخيار شرط أو نحوه وهذا لأن حكم الشيء يعقبه ولا يقترن به وإنما يقترن بالشيء شرطه والقبض في كل بيع إنما يستحق بالعقد فيكون حكم العقد لا شرطه وساعات المجلس إنما تجعل كحالة العقد فيما هو شرط العقد فأما في الحكم مجلس العقد وما بعده سواء وهذا بخلاف الصرف فالقبض الذي هو حكم العقد لا يشترط هناك عندنا وإنما يشترط التعيين لأن التعين شرط العقد بدليل نهى النبي صلى الله عليه وسلم: "عن الكالئ بالكالئ" والنقود لا تتعين في العقود فكان اشتراط القبض للتعيين وليس أحد البدلين في الصرف بأولى من الآخر بهذا شرطنا القبض فيهما للتعين وفي باب السلم شرطنا القبض في رأس المال للتعيين حتى لا يكون دينا بدين ولكن ما يقابله وهو السلم فيه مؤجل فلا يشترط التعيين فيه بمقتضى العقد ثم قد يرد عقد الصرف والسلم على ما يتعين بالتعيين إلا أنه يشق على كل تاجر معرفة ما يتعين ومعرفة ما لا يتعين فأقام الشرع اسم الصرف والسلم مقام عدم التعيين في البدلين تيسيرا على الناس.(12/353)
والطريقة الثانية: ما علل في الكتاب وقال لأنه حاضر ليس له أجل ومعنى هذا أن الحرمة باعتبار فضل في المالية حقيقة أو حكما باشتراط الأجل وذلك لا يوجد هنا فالتجار لا يفصلون في المالية بين المقبوض في المجلس وبين غير المقبوض بعد أن يكون حالا وإذا لم يتمكن فضل خالي عن المقابلة كان العقد جائزا كما في بيع العبيد والدواب بجنسه أو بغير جنسه وأما الصرف والسلم فقد اختصا باسم شرعا واختصاصهما باسم لاختصاصهما بحكم يقتضيه ذلك الاسم وهو صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه بالقبض في المجلس ولهذا شرطنا ذلك مع اختلاف الجنس والسلم أخذ عاجل بآجل فشرطنا التعجيل في أحد البدلين بمقتضي الاسم وقد يؤخذ حكم العقد من اسمه كالكفالة والحوالة والنكاح فأما هذا البيع كسائر البيوع في الاسم وكل واحد من العوضين فيه يتعين بالتعيين فيكون حكم العقد فيه استحقاق التسليم لا وجوب القبض في المجلس كما في سائر البيوع وقد بينا في أول الكتاب(12/354)
ص -170- ... أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم يدا بيد أي عين بعين لأن التعيين بالإشارة باليد كما أن القبض يكون باليد فيصلح ذكر اليد كناية عنهما ولكن لو كان مراده القبض لقال من يد إلى يد فلما قال يدا بيد عرفنا أنه بمنزلة قوله عين بعين وأما بيع العبد بالعبدين والثوب بالثوبين فجائز بدون القبض في المجلس لأنهما يفترقان عن عين بعين وكذلك بيع العبد والثوب بالنقد لأنهما يفترقان عن عين بدين وذلك جائز ولو شرط فيه أجل يوم في العين كان فاسدا لأن العين لا تقبل الأجل فالمقصود بالأجل أن يحصل في المدة فيسلمه وذلك في العين لا يتحقق ولأنه منفعة في اشتراط الأجل في العين لا يدا بيد لا يسقط فيه بالتعرف بعد أن كان مملوكا لغيره بالعقد لأن الأجل لا يمنع الملك ولكن فيه ضرر على المشترى من حيث قصور يده عن العين إلى مضى الأجل وجواز الشرط في العقد الانتفاع به لا لضرر بغيره.
قال: وإذا اشترى طعاما بطعام مثله واشترط أحدهما على صاحبه أن يوفيه طعامه في منزله لم يجز لأن شرط المساواة عند اتحاد الجنس ثابت بالنص وبهذا الشرط متمكن في أحد الجانبين فضل وهو منفعة الحمل إلى منزله ليوفيه فيه فتنعدم به المساواة وإن كان اشتراه بغير جنسه بأن اشتراه خارجا من المصر وشرط أن يوفيه في منزله في المصر فالعقد فاسد أيضا لأن وجوب التسليم بالعقد في الموضع الذي فيه المعقود عليه فالمشترى يملك بنفس العقد وهو عين فإذا اشترط لنفسه منفعة الحمل على البائع فسد به العقد كما لو شرط أن يطحنه وإن كان اشتراه في المصر وشرط أن يحمله إلى منزله فالعقد فاسد فإن شرط أن يوفيه في منزله ففي القياس العقد فاسد وهو قول محمد وفي الاستحسان هو جائز وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى.(12/355)
وجه القياس ما بينا أن بنفس العقد صار المبيع مملوكا للمشتري في الموضع الذي فيه المعقود عليه ففي اشتراط تسليمه في مكان آخر شرطه منفعة لا يقبضه العقد فإن كان بمقابلتها شيء من البدل فهي إجارة مشروطة في البيع وإلا فهي إعارة مشروطة في البيع وذلك مفسد للبيع كما لو اشتراها خارج المصر أو كان الشرط بلفظ الحمل وإنما استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف للعرف فإن الإنسان يشتري الحطب في المصر ولا يكتري دابة أخرى لتحمله إلى منزله ولكن البائع هو الذي يتكلف لذلك وما كان متعارفا وليس في عينه نص يبطله فالقول بجوازه واجب لما في النزع عن العادة من حرج بين ومثل هذه العادة لا توجد خارج المصر بل إذا اشترى الحنطة أو الحطب خارج المصر فالمشتري هو الذي يتكلف الحمل ذلك يوضحه أن نواحي المصر كناحية واحدة حتى أن قيمة ما له حمل ومؤنة لا يختلف في نواحي المصر بخلاف المصر مع القرية فقيمتها في المصر أكثر من قيمتها خارج المصر وما كان ذلك إلا لأن المشترى هو الذي يتكلف بالنقل ثم هذا الاستحسان عند بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى في لفظ الحمل والإيفاء سواء وقالوا لا فرق خصوصا في لسان الفارسية بين أن يقول يسارنجاته من أو بيادنخانه من أو يردادبخانه من والأصح هو الفرق من قبل أن الايفاء من مقتضيات العقد(12/356)
ص -171- ... فالعقد يوجب إيفاء المعقود عليه لا محالة فكان شرط الإيفاء ملائما لمقتضي العقد فأما الحمل ليس من مقتضيات العقد ألا ترى أن العقد قد يخلو عنه بأن يسلمه إلى المشتري في ذلك المكان وشرط الحمل لا يلائم مقتضى العقد فلهذا أخذنا فيه بالقياس.
قال: وإن اشترى شعيرا بصوف متفاضلا فلا بأس به لأنهما جنسان لاختلاف الاسم والهيئة والمقصود وأصلهما وإن كان نوعا واحدا ولكن باختلاف هذه المعاني يختلف الجنس مع اتحاد الأصل كالثياب المتخذة من القطن وكذلك القطن بالكتان والمشاقة بالكتان لا بأس به متفاضلا لأنهما جنسان مختلفان إلا في رواية عن أبي يوسف قال المشاقة والكتان جنس واحد فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا وزنا بوزن بمنزلة أنواع التمر والحديد والنحاس كذلك جنسان لا بأس ببيع أحدهما بالآخر متفاضلا ولا خير في أن يسلم هذا في شيء من الموزونات لأن الكل موزون بثمن وكذلك الأواني المتخذة من الصفر والنحاس إذا كان يباع وزنا لا يجوز إسلامهما في الموزونات أما أواني الذهب والفضة فيجوز إسلامهما في الموزونات من الزعفران والسكر وغيرهما كما يجوز إسلام الدراهم في هذه الأشياء لأن صفة الثمينة لها ثابتة بأصل الخلقة فلا تتغير بالصفة وعند زفر لا يجوز لأنه موزون مثمن حتى يتعين بالعقد في التعيين فهذا كالمتخذ من الصفر والحديد وإذا كان شرط السلم طعاما وسطا فأعطاه أجود أو أردأ فرضى به جاز لأنه إن أعطاه أجود فقد أحسن في قضاء الدين وإن أعطاه أردأ فقد أحسن الآخر إلى أسيره حين رضي منه به وأبرأه من صفة الجودة حين تجوز بدون حقه فجاز ذلك وذكر الطحاوي أنه لو أسلم إليه دراهم في حنطة فقبضها رب السلم فوجد بها عيبا وقد تعيب عنده فإن رضي المسلم إليه أن يقبلها مع العيب الحادث رد المقبوض وطالبه رب السلم بحقه وإن أبى أن يرضى لم يرجع رب السلم عليه بشيء في قول أبي حنيفة لأن الفائت وصف ولا قيمة للصفة في الأموال الربوية منفردة عن الأصل(12/357)
وعند محمد رجع بحصة نقصان العيب من رأس المال لأن بقدر ما يرجع يخرج من أن يكون رأس المال بمنزلة ما لو حط بعضه فلا يؤدي إلى الربا إذا رجع بحصة العيب بهذا الطريق وقال أبو يوسف إن أبي المسلم إليه أن يقبل المعيب غرم رب السلم طعاما قبل المقبوض ورجع بحقه وهو مستقيم على أصله في رد المثل عند تعذر رد العين لصاحب الدين إذا وجد المقبوض زيوفا وقد هلك في يده وفي اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله.
قال: لو قال لآخر اشتريت منك كر حنطة وسط إلى أجل كذا بهذه العشرة دراهم على أن تؤديها إلي في مكان كذا فهو سلم جائز عندنا وقال زفر لا يجوز لأنه بيع ما ليس عند الإنسان وهو منهي عنه شرعا وإنما الرخصة في السلم خاصة فإذا ذكر لفظ السلم جاز بطريق الرخصة وإلا فهو فاسد ولا كنا نقول قد أتينا بمعنى السلم وذكر شرائطه والعبرة للمعنى دون الألفاظ ألا ترى أنه لو قال ملكتك هذه العين بعشرة دراهم وقبل الآخر كان بيعا وإن لم يذكرا لفظ البيع وهذا على أصل زفر أظهر فإنه يجعل الهبة بشرط العوض بيعا ابتداءً. ثم ختم الباب(12/358)
ص -172- ... بفصل من فصول التحالف وهو ما إذا اشترى عبدين وقبضهما وهلك أحدهما عنده ثم اختلفا في الثمن فعلى قول أبي حنيفة القول قول المشتري ولا يتحالفان لا في القائم ولا في الهالك إلا أن يشاء البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئا وعند أبي يوسف القول قول المشتري في حصة الهالك ويتحالفان ويترادان في الحي وعند محمد يتحالفان ويترادان القائم وقيمة الهالك وهذا بناء على ما إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة فإن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هلاك السلعة يمنع جريان التحالف بينهما وعند محمد لا يمنع وبيان هذا الفصل يأتي في بابه إن شاء الله فلما كان من أصل محمد أن هلاك جميع السلعة لا يمنع جريان التحالف فكذلك هلاك البعض ثم بعد التحالف فسخ العقد في القائم منهما على العين ممكن فرد العين وفي الهالك رد العين متعذر فيقوم رد القيمة مقام رد العين كما لو كان الكل هالكا عنده والقول في قيمة الهالك قول المشتري مع يمينه لإنكاره الزيادة بمنزلة الغاصب مع المغصوب منه إذا اختلفا في قيمة المغصوب وعند أبي يوسف لو كانا قائمين فسخ العقد فيما بينهما بالتحالف ولو كانا هالكين لم يجز التحالف بينهما فإذا مات أحدهما يعتبر كل واحد منهما في نفسه كما في الفسخ بسبب الرد بالعيب ثم تفسير قوله أن المشتري يحلف بالله ما اشتراهما بألفين ثم يحلف البائع بالله ما باعهما بألف كما يدعيه المشتري ولا يفضل أحدهما عن الآخر في اليمين لأنه إذا فضل أحدهما عن الآخر في التحالف يفوت مقصود اليمين فكل واحد منهما يكون بارا في يمينه وإن كان الحال كما يدعيه خصمه فلهذا يجمع بينهما في التحالف فإذا تحالفا ترد العين منهما ثم يحلف المشترى في حصة الهالك بالله ما عليه من ثمنه إلا خمسمائة إذا كانت قيمتها سواء وإن اختلفا في قيمة الهالك فينبغي أن يكون القول في قيمته قول البائع مع يمينه وإن اختلفا في قيمة الحي لتوزيع الثمن عليهما تحكم(12/359)
قيمته في الحال فإن كانت مثل ما يقوله البائع أو أقل فالقول قول البائع مع يمينه وإن كانت مثل ما يقوله المشتري أو أكثر منه فالقول قول المشتري مع يمينه وإن كانت فيما بين ذلك يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه فإذا حلفا اعتبرت قيمته في الحال لتوزيع الثمن عليهما وأما بيان قول أبي حنيفة فإنه يقول الصفقة صفقة واحدة والمقصود بالتحالف هو الفسخ فإذا تعذر ذلك بهلاك بعض المعقود عليه يجعل بمنزلة ما لو تعذر بهلاك الكل ألا ترى أنهما لو كانا قائمين لم يستقم ثبوت حكم التحالف والفسخ في أحدهما دون الآخر فكذلك بعد هلاك أحدهما بخلاف الرد بالعيب لأن العيب مما لا يمنع تمام الصفقة فإذا هلك أحدهما في يده ووجد بالآخر عيبا فرده يكون هذا تفريقا للصفقة قبل التمام وذلك لم يجز بخلاف ما نحن فيه فإن جهالة الثمن تمنع تمام الصفقة فلو قلنا فإنه يجوز رده يكون القول في الثمن قول المشترى إلا أن شاء البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الهالك شيئا فحينئذ يصير الهالك كأن لم يتناوله العقد وكأنه ما اشترى إلا القائم ثم عند ذلك يحلف المشتري بالله ما اشتراهما بألفين ثم يحلف البائع بالله ما باعهما بألف لأن من اشترى شيئين بألفين ثم حلف ما اشترى أحدهما بألف كان صادقاً(12/360)
ص -173- ... وكذلك من باع شيئين بألف ثم حلف ما باع أحدهما بخمسمائة كان صادقا فلهذا يجمع بينهما في التحالف فإذا تحالفا رد العين ولا شيء للبائع على المشتري في الهالك من ثمن ولا قيمة" لأنه قد أبرأه من ذلك حين رضي بأن يأخذ الحي فقط والله أعلم.
باب الوكالة في السلم
قال: وإذا وكل الرجل الرجل أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها الوكيل بشروط السلم ودفع الدراهم من عنده فهو جائز لأن السلم عقد تمليك الآمر بمباشرته بنفسه فيجوز منه توكيل غيره به كبيع العين لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في تحصيل مقصوده وهذا عقد يملك المأمور مباشرته لنفسه فيصح منه مباشرته لغيره بأمره كالبيع لأن العاقد باشر العقد بأهليته وولايته الأصلية سواء باشر لنفسه أو لغيره والأصل فيه قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19] ومن دفع إلى آخر دراهم ليشتري بها شيئا فإن المدفوع إليه يكون وكيلا من جهة الدافع وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى حكيم بن حزام أو إلى عروة البارقي رضي الله عنهما دينارا ليشتري له به أضحية فدل أن التوكيل جائز في البيع فكذلك في السلم لأن السلم نوع بيع على ما عرف وكذلك الناس تعاملوا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا التوكيل في البيع والسلم جميعا فإذا عرفنا هذا فنقول الوكيل في السلم كالعاقد لنفسه في حقوق العقد حتى تتوجه عليه المطالبة بتسليم رأس المال دون الموكل وكذلك حق قبض المسلم فيه عند حلول الأجل يكون للوكيل دون الموكل وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله ذلك للموكل كله وعليه وأصل المسألة في البيع فإن حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق بالوكيل عندنا وعند الشافعي رحمه الله بالموكل.(12/361)
قال: لأن الوكيل سفير ومعبر عنه بمنزلة الرسول فإذا عقد العقد خرج من الوسط وصار في الحكم كأن الموكل عقده بنفسه ألا ترى أن ما هو حكم العقد وهو الملك يثبت للموكل دون الوكيل فكذلك في سائر أحكامه وشبه هذا بالوكيل بالنكاح فإنه لا يتوجه عليه المطالبة بالصداق ولا يكون له حق قبض المعقود عليه بل ذلك كله للموكل والجامع بينهما أن كل واحد منهما عقد معاوضة فتتعلق أحكامه بمن قصد تحصيله لنفسه دون من عبر عنه ولنا أن العاقد هو الوكيل وسبب تعلق حقوق العقد بالمرء مباشرته العقد وثبوت الحكم باعتبار السبب فإذا كان هو العاقد حقيقة وحكما تتعلق حقوق العقد به كما لو باشر العقد لنفسه وهذا لأن ولايته مباشرة العقد باعتبار أهليته وباعتبار كون ما هو ركن العقد وهو الكلام من خالص حقه وذلك لا يختلف بمباشرته لنفسه أو لغيره ونفوذه شرعا باعتبار ولايته الأصلية لا أن يثبت له بأمر الموكل إياه ولاية لم تكن ثابتة من قبل هذا لبيان أنه عاقد حقيقة وشرعا ومن حيث الحكم فلأنه مستغن عن إضافة العقد إلى الموكل ولو كان معبرا عنه لم يستغن عن ذكره عند العقد فثبت أنه عاقد حكما مباشر للعقد بخلاف الرسول فإنه عبارة عن مبلغ الأمر إلى من أرسل إليه ولا يستغنى عن الإضافة إليه وكذلك الوكيل بالنكاح فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى(12/362)
ص -174- ... الموكل حتى لو قال تزوجتك كان النكاح له دون الموكل فأما حكم العقد وهو الملك ففيه طريقان:
أحدهما: أنه يثبت للوكيل ثم ينتقل منه إلى الموكل من ساعته كما اتفقا عليه بالتوكيل السابق ومباشرته السبب تستدعي ثبوت الحكم إلا أنه يستقر له فيثبت أولا له ثم ينتقل منه إلى غيره ولهذا لو كان قريبه لا يعتق عليه ولو كانت زوجته لا يفسد النكاح لأن ذلك يستدعى ملكا مستقرا ولا يثبت ذلك للوكيل وعلى الطريق الآخر وهو الأصح لسبب انعقد حكمه موجبا للوكيل إلا أن الموكل قام مقامه في ثبوت الملك له بالتوكيل السابق فيثبت للموكل على وجه الخلافة عن الوكيل كالعبد يقبل الهبة والصدقة ويصطاد فيقع الملك فيه لمولاه على وجه الخلافة وإذا ثبت أن الوكيل كالعاقد لنفسه كان هو المطالب بتسليم رأس المال فإذا نقده من عنده رجع بمثله على الأمر لأنه نقد مال نفسه في عقد حصل مقصود ذلك العقد للآمر فأمره إياه بالعقد يكون أمرا بأداء رأس المال من عنده على أن يرجع عليه بمثله وكذلك الوكيل هو الذي يقبض الطعام إذا حل الأجل بمنزلة العاقد لنفسه والغنم بمقابلة الغرم فإذا كان هو المطالب بتسليم رأس المال كان حق قبض الطعام إليه أيضاً فإذا قبضه كان له حبسه حتى يستوفي الدراهم من الموكل عندنا خلافا لزفر كذلك الوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه وقبض السلعة كان له أن يحبسه أما إذا هلك في يده قبل أن يحبسه فإنما يهلك من مال الموكل وللوكيل أن يرجع عليه بما أدى من الدراهم لأنه في أصل القبض عامل له حتى يتعين به ملك الموكل في السلم ويتم ملكه به في المشترى فيكون هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فإن لم يهلك وأراد الوكيل حبسه بالثمن فله ذلك عندنا وقال زفر ليس له ذلك لأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل بدليل أن هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فكأنه قبض حقيقة ثم دفعه إلى الوكيل وهذا لمعنيين:(12/363)
أحدهما: أن المقبوض أمانة في يد الوكيل والثمن دين له على صاحبه وليس للأمين أن يحبس الأمانة بدينه على صاحبها.
والثاني: أن الوكيل لما قبضه مع علمه أن الموكل يصير به قابضا فقد رضي بقبض الموكل فكان بمنزلة ما لو سلمه إليه ثم أراد أن يسترده منه أو بمنزلة بائع سلم السلعة إلى المشترى ثم أراد أن يستردها للحبس بالثمن ولنا أن الموكل ملك المشترى بعقد باشره الوكيل ببدل استوجبه الوكيل عليه حالا وإلا فكان له أن يحبس العين به كالبائع مع المشترى وهذا لأن الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشترى إما لأن الموكل يتلقي الملك فيه من الوكيل بعوض ولهذا لو اختلف الوكيل والموكل في الثمن تحالفا ولو وجد به الموكل عيبا رده على الوكيل قوله بأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل ففيه طريقان:
أحدهما: أن قبض الوكيل متردد لجواز أن يكون لضم مقصود الوكيل ويجوز أن يكون لأحياء حق نفسه وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بحبسه فكان الأمر فيه موهوما في الابتداء إن لم(12/364)
ص -175- ... يحبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا للموكل وإن حبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا لنفسه وإن الموكل لم يصر قابضا بقبضه.
والثاني: أن هذا قبض لا يمكن التحرز عنه لأن الوكيل لا يتوصل إلى الحبس ما لم يقبض ولا يمكنه أن يقبض على وجه لا يصير الموكل به قابضا وما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو فلا يسقط به حقه في الحبس لأن سقوط حقه باعتبار رضاه بتسليمه ولا يتحقق منه الرضا فيما لا طريق له إلا التحرز عنه فإذا حبسه الوكيل وهلك في يده فعلى قول زفر هو غاصب فعليه ضمان مثله وفي قول أبي يوسف يهلك في يده هلاك الرهن مضمونا بالأقل من قيمته ومن الثمن وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يهلك هلاك المبيع مضمونا بالثمن قل أو كثر وهذا الخلاف ذكره في كتاب الوكالة فأبو يوسف يقول إنما كان مضمونا عليه بالحبس بحقه بعد أن لا يكون مضمونا فيكون في معنى المرهون بخلاف المبيع فإنه مضمون بنفس العقد حبسه أو لم يحبسه يوضحه أنه يحبسه ليستوفي ما أدى عنه من الدين والحبس للاستيفاء حكم الرهن ولأن بهلاكه لا ينفسخ أصل البيع بخلاف المبيع إذا هلك في يد البائع وسقوط الثمن هناك لانفساخ البيع وهما يقولان الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري بدليل ما بينا فكما أن المبيع إذا هلك في يد البائع سقط الثمن قل أو كثر فكذلك هنا ولا نقول العقد لا ينفسخ هنا بل انفسخ فيما بين الموكل والوكيل وإن لم ينفسخ في حق البائع وهو كما لو وجد الموكل بالمشترى عيبا فرده ورضي به الوكيل فإنه يلزم الوكيل وينفسخ العقد فيما بينه وبين الموكل والدليل على أن هذا ليس نظير الرهن أن هذا الحبس ثبت في النصف الشائع فيما يحتمل القسمة والحبس بحكم الرهن لا يثبت في الجزء الشائع فيما يحتمل القسمة وإنما يثبت ذلك بحكم البيع فعرفنا أنه كالمبيع.(12/365)
قال: وإن كان الوكيل دفع رأس المال من مال الموكل وأخذ بالسلم كفيلا أو رهنا فهو جائز لأن موجب الرهن بثبوت يد الاستيفاء والوكيل يملك الاستيفاء حقيقة فيملك أخذ الرهن به والكفالة للتوثيق والوكيل هو المطالب بالمسلم فيه فكان له أن يتوثق بأخذ الكفيل به لأنه ملك المطالبة فملك التوثق بالمطالبة.
قال: فإن حل السلم فأخره الوكيل مدة معلومة فهو جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن طعام السلم للموكل وعلى قول أبي يوسف لا يصح تأخيره وكذلك إن أبرأ المسلم إليه عن طعام السلم وأصل هذا أن طعام السلم أصل يقبل الإبراء قبل القبض وأصل هذا فيما إذا عقد لنفسه ثم أبرأه عن طعام السلم صح ابراؤه في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصح ما لم يقبل المسلم إليه فإذا قبل كان فسخا لعقد السلم لأن المسلم فيه مبيع وتمليك المبيع من البائع قبل القبض لا يجوز ما لم يقبل فإذا قبل انفسخ العقد كالمشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض ووجه ظاهر الرواية أن المسلم فيه دين لا(12/366)
ص -176- ... يستحق قبضه في المجلس فيصح الإبراء عنه كالثمن في البيع بخلاف بدل الصرف أو رأس مال السلم فإن قبضه في المجلس مستحق وهذا لأن استحقاق القبض في المجلس للتعيين الذي هو شرط العقد والإبراء مفوت لذلك وأما الدين الذي لا يستحق قبضه في المجلس فتعيينه ليس شرطا لجواز إسقاط القبض فيه بالإبراء يوضحه أن المسلم فيه من حيث أنه دين يجب بالعقد كان بمنزلة الثمن ومن حيث إن العقد يضاف إليه ويورد عليه كان بمنزلة المبيع فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهة بالبيع لا يجوز الاستبدال به قبل القبض ولشبهه بالثمن يجوز إسقاط القبض فيه بالإبراء إذا ثبت هذا فيما إذا كان عقد السلم فنقول لنفسه فكذلك الجواب إذا كان وكيلا يصح ابراؤه ويضمن مثله للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا يصح ابراؤه في قول أبي يوسف وكذلك الخلاف في المتاركة إذا تارك الوكيل السلم مع المسلم إليه وكذلك الخلاف في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن أو وهب له أو أجله فيه صح ذلك وضمنه للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف لا يصح شيء من ذلك أستحسن ذلك وأدع القياس فيه قال محمد بن مقاتل وهذا عجب من أبي يوسف يقول أستحسن والقياس ما قاله لأن الثمن والمسلم فيه ملك الموكل فإنه بدل ملكه وإنما يملك البدل بملك الأصل ألا ترى أن بقبضه يتعين ملك الموكل وإنما يتعين بالقبض ملك من كان مالكا قبله فالوكيل تصرف في ملك الغير بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه ما أمره به أن الوكيل ضامن عندكم ولا يضمن إلا بالخلاف والدليل على أنه ملك الموكل أن الموكل لو كان هو الذي أبرأه عنه صح ولو قبضه جاز قبضه وكذلك لو اشترى به شيئا أو صالح منه على عين بالثمن صح ولو كان للمشترى على الموكل دين فاشترى من الوكيل شيئا حتى وجب للموكل على المشتري دين(12/367)
أيضا يصير قصاصا بدينه فبه يتبين أن الثمن الذي يجب بعقد الوكيل ملك الموكل وأن الزكاة في هذا المال تجب على الموكل فعرفنا أن الملك له وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الوكيل تصرف في خالص حقه فينفذ تصرفه كما لو كان عاقدا لنفسه وبيان الوصف في التأجيل ظاهر لأنه يؤخر المطالبة ولا يسقط أصل الثمن والمطالبة حق الوكيل حتى ينفرد به على وجه لا يملك أحد عزله عنه وليس لأحد أن يطالب إلا بأمره وكذلك الإبراء فإنه إسقاط حق القبض والقبض خالص حقه لأنه حكم العقد وهو في حكم العقد بمنزلة العاقد لنفسه بدليل أنه لا يعزله أحد عنه وأن المشترى لا يجبر على التسليم إلا إليه وإنما يخلفه الموكل في ملك المال بمقابلة ملكه والمال هو المقبوض دون الدين والدين ليس بمال حتى أن من حلف أن لا مال له وله ديون على الناس لا يحنث فعرفنا أن القبض خالص حقه فيصح إسقاطه بالإبراء ثم يتعدى هذا التصرف إلى إبطال حق الموكل في المال باعتبار المال لأنه لو قبض كان المقبوض ملكه وقد فات ذلك بإسقاطه فيكون ضامنا له كالراهن إذا أعتق المرهون ينفذ تصرفه لمصادفة حقه ويضمن قيمة المالية للمرتهن لأنه تلفه بتصرفه ملك المالية وكذلك أحد الشريكين إذا أعتق وهو موسر أو هو مسقط للقبض على(12/368)
ص -177- ... وجه يتضمن تمليك الدين ممن عليه فمن حيث إنه إسقاط صح منه وبرئ المشترى ومن حيث إنه تمليك الثمن الذي هو حق الموكل من المشترى صار ضامنا له كالوكيل بالشراء إذا رضي بالعيب وإلى الموكل أن يرضي به فإن رضي الوكيل يعتبر بانقطاع منازعته مع البائع غير معتبر في إلزام الموكل فيختص هو بضررة وهذا لأن الإسقاط أصل في الإبراء ومعنى التمليك بيع ولهذا صح بدون القبول وإن كان يرتد بالرد وأما قبض الثمن فالمقبوض عين ملك الموكل فهبته بعد ذلك تصرف في حق الغير وأما فصل المقاصة فهو على ثلاثة أوجه إن كان دين المشترى على الوكيل وهو مثل الثمن يصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويضمن للموكل مثله وإن كان دين المشترى على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لأن باعتبار المال الحق للموكل ولهذا لو أسلم إليه المشترى جاز قبضه فيصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن الموكل مثله وإن كان دين المشتري على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لأن باعتبار المال الحق للموكل فيصير قصاصا بدينه وإن كان الدين له على كل واحد منهما صار قصاصا بدين الوكيل لأنه لو جعل قصاصا بدين الوكيل كان ضامنا للموكل مثله ثم يحتاج إلى قضاء دينه به وإذا جعل قصاصا بدين الموكل لم يضمن أحد شيئا فرجحنا هذا الجانب لهذا والأب والوصي يصح إبراؤهما وتأجيلهما فيما وجب للصبي بعقدهما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وكانا ضامنين له فأما فيما وجب لا بعقدهما لا يصح لأنهما ثابتان أمرا بالتصرف في ماله على وجه الأحسن وذلك لا يحصل بالإبراء.(12/369)
قال: والتأجيل والمتاركة من الوكيل بالثمن صحيح في حق المسلم إليه بخلاف الوكيل بالشراء فإن إقالته لا تصح لأن هناك عين المشترى مملوك للموكل فالإقالة تصرف منه في محل هو حق الغير وهنا المسلم فيه دين والثابت به حق القبض ما دام في الذمة وهو حق الوكيل وإن احتال بالمسلم فيه على ملي أو غير ملي جاز عليه خاصة ويضمن للأم طعامه لأنه تصرف في خالص حقه بالتحويل من محل إلى محل فهو على الخلاف الذي بينا في الإبراء ويستوفى في حكم الضمان أن يكون المحتال عليه أعلا أو أسفل بخلاف الأب والوصى فإنهما لو قبلا الحوالة على من هو أعلى لم يضمنا شيئا لأنه تصرف منهما في حق الصبي على وجه الأحسن وهما يملكان المبادلة في حقه بصفة النظر فإذا بادلا ذمة بذمة على وجه النظر لم يضمنا والوكيل لا يملك مثله في حق الموكل فلهذا ضمنه.
قال: وإن اقتضى الطعام أدون من شرطه فهو جائز لأنه أبرأه عن صفة الجودة ولو أبرأه عن أصله جاز وضمن للموكل مثل طعامه عندهما فكذلك إذا رضي بدون حقه وإذا عقد الوكيل السلم ثم أمر الموكل بأداء رأس المال وذهب الوكيل بطل السلم لأن وجوب قبض رأس المال قبل الافتراق من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وهو الوكيل والموكل فيه كأجنبي آخر فلا معتبر ببقائه في المجلس بعد ذهاب العاقد ولا بذهابه إذا بقي المتعاقدان في المجلس فإذا وكله أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها في قفيز حنطة فهو جائز على الوكيل دون(12/370)
ص -178- ... الموكل لأنه وكيل بالشراء فالمسلم فيه مبيع ورب السلم مشترى والوكيل بالشراء لا يملك الشراء في حق الموكل بالغبن الفاحش لما فيه من التهمة أنه باشر التصرف لنفسه ثم لما علم بالغبن أراد أن يلزمه الموكل فإذا نفذ العقد عليه ضمن للموكل كل دراهمه لأنه قضى بدراهمه دين نفسه فإن أسلمها في حنطة يكون نقصانها عن رأس المال مما يتغابن الناس في مثله جاز على الموكل لأن هنا العذر لا يستطاع الامتناع عنه إلا بحرج فكان عفوا في تصرفه لغيره شراء كان أو بيعاً.(12/371)
قال: وإذا وكله أن يسلم له عشرة دراهم في طعام فالطعام الدقيق والحنطة عندنا استحسانا وفي القياس هذا التوكيل باطل" لأن اسم الطعام حقيقة لكل مطعوم بدليل ما لو حلف أن لا يأكل طعاما وما لو أوصى للإنسان بطعامه والمطعومات أجناس مختلفة وجهالة الجنس تمنع صحة الوكالة ولكنه استحسن فقال السلم بيع والطعام إذا أطلق عند ذكر البيع والشراء يراد به الحنطة ودقيقها فإن سوق الطعام الموضع الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبع الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه وهذا لأن الشراء لا يتم إلا بالبائع فكل ما يسمى بائعه بائع الطعام يصير هو به مشتريا للطعام بخلاف الأكل فإنه يتم بالآكل والوصية تتم بالموصى فاعتبرنا فيهما حقيقة الاسم قالوا وهذا إذا كانت الدراهم كثيرة فأما إذا كانت قليلة فإنما ينصرف إلى الخبز فأما الدقيق ففيه روايتان وفي رواية هو بمنزلة الحنطة لأنه يذكر كما تذكر الحنطة وفي رواية هو بمنزلة الخبز وهذا القياس والاستحسان ثابت في الوكيل بالشراء وإذا ثبت أن اسم الطعام يتناول الحنطة ودقيقها فالتوكيل صحيح لأنه إن كثرت الدراهم عرفنا أن مراده الحنطة فإذا قلت عرفنا أن مراده الدقيق والمعلوم دلالة كالمعلوم نصا فنقول إذا وكله بأن يسلم له دراهم في طعام فأسلم في شعير أو غيره فهو مخالف وللموكل أن يضمن الوكيل دراهمه لأن عقده نفذ على نفسه ثم قضي بدراهم الآمر دين نفسه وإن شاء الآمر أخذها من المسلم إليه لأن المقبوض من الدراهم عين ملكه فهو أحق به فإن أخذها من المسلم إليه يبطل السلم فيما بينه وبين الوكيل وإن كان قد فارقه لأن رأس المال استحق انتقض القبض فيه من الأصل وإن لم يكن فارقه حتى أعطاه مثلها كان السلم صحيحا بينهما لأن المقبوض لما استحق فكأنه لم يقبض إلى آخر المجلس وعقد السلم ما تعلق بعين تلك الدراهم بل تعلق بمثلها في ذمته وإن أخذها من الوكيل يبقى عقد السلم بينهما صحيحا لأنه يملك رأس المال بالضمان(12/372)
وإذا وكله بأن يأخذه دراهم في طعام مسمى فأخذها الوكيل ثم دفعها إلى الموكل فالطعام على الوكيل وللوكيل على الموكل دراهم قرض لأن أصل التوكيل باطل فإن المسلم إليه أمره ببيع الطعام في ذمته ولو أمره أن يبيع عين ماله على أن يكون الثمن للآمر كان باطلا فكذلك إذا أمره أن يبيع طعاما في ذمته وهذا لأنه إنما يعتبر أمره فيما لا يملك المأمور بدون أمره وهو في قبول السلم في الطعام مستغنى عن أمر الغير وقبول السلم من صنيع المفاليس فالتوكيل به باطل كالتكدى فالحاصل أن التوكيل من المسلم إليه بقبول عقد السلم باطل والتوكيل من رب السلم(12/373)
ص -179- ... بإعطاء الدراهم في طعام السلم جائز وإذا بطل التوكيل كان الوكيل عاقدا لنفسه فيجب الطعام في ذمته ورأس المال مملوك له فإذا سلمه إلى الآمر على وجه التمليك منه كان قرضاً له عليه.
قال: وإذا دفع إليه عشرة دراهم وأمره أن يسلمها في ثوب لم تصح الوكالة حتى يتبين الجنس لأن الثياب أجناس مختلفة ومع جهالة الجنس لا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الموكل فيبطل التوكيل فإن الوكيل كان عاقدا لنفسه وروي عن أبي يوسف أنه قال ينظر الوكيل إلى لباس الموكل فإذا اشترى الوكيل من جنس لباس الموكل يجوز ويلزم الموكل لأن الظاهر أن الإنسان إنما يأمر غيره بشراء الثوب ليلبسه فيعتبر بثيابه فإن سمى الموكل ثوبا يهوديا أو غيره جاز لأن الجنس صار معلوما وإنما بقيت الجهالة في الصفة ولا تأثير لجهالة الصفة في القعود المبينة على التوسع والوكالة بهذه الصفة فإن خالفه الوكيل فأسلم في غيره أو إلى غير الأجل الذي سماه كان عاقدا لنفسه وللموكل أن يضمنه دراهمه فإن ضمنه إياها جاز السلم وإن ضمنها المسلم إليه بطل السلم لانتقاض قبضه في رأس المال بعد الانتقاص من الأصل.
قال: وإذا دفع الوكيل الدراهم سلمها على ما أمره به الآمر ولم يشهد على المسلم إليه بالاستيفاء ثم جاء المسلم إليه بدراهم زيوف يردها عليه فقال وجدتها فيها فهو مصدق لأنه ينكر استيفاء حقه فالقول قوله مع يمينه ويقضي له على الوكيل ببدله ويرجع به الوكيل على الموكل لأنه في تصرفه عامل له فيرجع عليه بما يلحقه بالعهدة وإن كان أشهد عليه بالاستيفاء لم يصدق بعد ذلك على ادعائه أنه زيف معناه إذا أقر المسلم إليه باستيفاء الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال فهو مناقض بعد ذلك في دعواه أنه زيوف فلا يسمع بعد ذلك منه ولا تقبل بينته عليه ولا يتوجه اليمين على خصمه فأما إذا أقر باستيفاء الدراهم فاسم الدراهم يتناول الزيوف والجياد فلا يكون مناقضا في قوله وجدتها زيوفاً.(12/374)
قال: وإذا وكله بأن يسلم له عشرة دراهم من الدين الذي له عليه في حنطة فأسلمها له فهو عاقد لنفسه حتى يقبض الطعام فيرده إلى الآمر مكان دينه فحينئذ يسلم للآمر إذا تراضيا عليه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز على الآمر وكذلك لو أمره أن يصرفها له بدنانير أو يشتري له بها شيئا سماه وجه قولهما أن الدين في ذمة المديون ملك صاحب الدين بدليل أن يطالبه بالتسليم وينفرد باستيفاء جنسه من ماله ويشتري منها شيئا فيجوز فإنما أضاف التوكيل إلى ملكه وذلك صحيح كما لو كانت الدراهم وديعة له في يده أو غصبا فوكله أن يشتري له بها والدليل عليه أنه لو عين المسلم إليه بقوله أسلمها في طعام إلى فلان أو عين البائع أو المبيع بقوله اشترى لي بها عبد فلان فإنه يصح فكذلك إذا أطلق لأن تسمية من يعامله الوكيل ليس بشرط لصحة الوكالة يوضحه أنه لو قال تصدق بمالي عليك على المساكين يجوز بمنزلة ما لو قال تصدق به على فلان فكذلك إذا أمره بالشراء به ولأبي حنيفة حرفان:
أحدهما: أنه أمره بصرف في الدين إلى من يختاره المديون بنفسه وذلك باطل كما لو(12/375)
ص -180- ... قال: ادفع مالي عليك من الدين إلى من يثبت أو ألقه في البحر كان صحيحا والمعنى في الفرق أن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه وهو في تصرفه في ملك نفسه بالدفع إلى الغير لا يحتاج إلى إذن الآمر فكان وجود أمره كعدمه فأما في العين تصرفه في ملك الغير ولا يملك ذلك إلا بإذن من له الحق وهذا بخلاف ما إذا عين المسلم إليه أو البائع لأن من أمره بالصرف إليه هناك معلوم فكان أمره معتبرا في توكيله ذلك الرجل بالقبض له أولا ثم لنفسه وكذلك إذا عين المتاع لأن بتعينه يتعين المالك فالإنسان في العادة يشترى الشيء من مالكه وهنا لا يمكن اعتبار أمره في توكيل القابض بقبضه لأنه توكيل المجهول وذلك باطل وهذا بخلاف قوله تصدق بمالي عليك لأن المتصدق يجعل المال لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى فلا جهالة فيمن أمره أن يجعل ذلك له فهو بمنزلة ما لو أمره بالدفع إلى آدمي عينه.
والثاني: أن بعقد السلم يجب رأس المال على الوكيل ثم يجب له مثله على الموكل فإما أن يكون هو مقرضا له في ذمته ليقضي به دينا عليه وذلك لا يجوز أو أمره له بأن يقبض من نفسه ثم يقضي به دينا عليه وذلك لا يجوز يوضحه أن يقيم الوكيل مقام نفسه فيما يأمره به من التصرف وهو بنفسه له أسلم الدين الذي له على زيد إلى عمر وفي طعام لا يجوز فكذلك إذا وكل المديون بأن يفعل له ذلك وبه يظهر الفرق بين الدين والعين ولكن الاعتماد على الحرف الأول.(12/376)
قال: وإذا وكل الرجل الرجلين أن يسلما له عشرة دراهم في طعام فأسلمها أحدهما لم يجز" لأن عقد السلم يحتاج فيه إلى الرأى والتدبير كبيع العين وهو إنما رضي برأي المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فإن أسلماها ثم تارك أحدهما مع المسلم إليه السلم لم يجز عندهم جميعا أما عند أبي يوسف لأن الوكيل بالسلم لا يملك المشاركة ولو تاركا لم يجز فكذلك إذا تارك أحدهما. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الوكيلين لو عقدا لأنفسهما ثم تارك أحدهما لم يجز بغير رضي الآخر فإذا كان وكيلين أولى.
قال: وإذا عقد الوكيل السلم ثم اقتضى الآمر الطعام فهو جائز استحساناً وفي القياس لا يجوز لأن القبض من حكم العقد والموكل منه كسائر الأجانب ألا ترى أن الإيفاء لم يجب على المسلم إليه بطلبه فكذلك لا يبرأ بالتسليم إليه وجه الاستحسان أن يقبض الوكيل بتعين ملك الموكل فكان الموكل في هذا القبض عاملا لنفسه في تعيين ملكه فهو يكفي الوكيل مؤونة القبض والتسليم إليه ولا يلحق به ضرر في تصرفه يوضحه أنا لو نقضنا قبضه احتجنا إلى إعادته بعينه في الحال لأنه يرده على المسلم إليه فيقبضه الوكيل منه ثم يسلمه إلى الموكل وهذا اشتغال بما لا يفيد والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد ولا ينقص شيئا ليعيد وإن تارك السلم إليه مع الموكل جاز لأنه قائم مقام العاقد في ملك المعقود عليه فتصح منه المتاركة كما تصح من وارث رب السلم بعد الموت وإن لم يتاركه فأراد قبض الطعام منه فللمسلم إليه أن يمتنع من(12/377)
ص -181- ... دفعه إليه لأن المطالبة بالتسليم تتوجه بالعقد والموكل من العقد أجنبي فمطالبته لا تلزم المسلم إليه الدفع إليه.
قال: وإذا دفع إلى رجل عشرة دراهم ليسلمها في طعام فناول الوكيل رجلا فبايعه فإن أضاف العقد إلى دراهم الأمر كان العقد للآمر وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان عاقدا لنفسه" لأن الظاهر يدل على ذلك ولأن فعله محمول على ما يحمل وفيما يعقد لنفسه لا يحل له إضافة العقد إلى دراهم غيره وإن عقد السلم بعشرة مطلقة ثم نواها للآمر فالعقد له وإن لم تحضره نية فإن دفع دراهم نفسه فالعقد له وإن دفع دراهم الآمر فهو للآمر في قول أبي يوسف وقال محمد هو عاقد لنفسه ما لم ينو عند العقد أنه للآمر وإن تكاذبا في النية فقال الآمر نويته لي وقال المأمور نويته لنفسي فالطعام للذي نقد دراهمه بالاتفاق فمحمد يقول الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا أن يقترن بعمله دليل يدل على أنه يعمل لغيره وذلك بإضافة العقد إلى دراهم الغير أو النية للغير فإذا انعدم ذلك كان عاملا لنفسه ولا يمكن أن يجعل نقد الدراهم دليلا على ذلك لأن نقد الدراهم لا يقترن بالعقد بل يكون بعده وبعد ما أوقع العقد له لا يتحول إلى غيره وإن نقد دراهم الغير وبه فارق التكاذب لأن النقد موجود عند التكاذب فيمكن أن يجعل دليلا من حيث شهادة الظاهر لأحدهما لأن الظاهر أنه فيما عقد لنفسه لا ينقد دراهم الغير فإذا كان المنقود دراهم الآمر فالظاهر يشهد له فكان القول قوله. يوضحه أن بقبول الوكالة من الغير لا يحيل ولايته على نفسه وقبل قبول الوكالة كان مطلق عقده لنفسه فكذلك بعد قبول الوكالة لأن تلك الولاية باقية بعد قبول الوكالة كما كانت قبله ولأن موجب العقد وقوع الملك له في الطعام للعاقد إلا أنه إذا نوى للموكل فالموكل يخلفه في ذلك الملك والمصير إلى الخلف عند فوات ما هو الأصل وعند إطلاق العقد ما هو الأصل ممكن الاعتبار فلا يضاف إلى الخلف وأبو يوسف يقول العقد والنقد(12/378)
كشيء واحد حكما لأن النقد وإن كان بعد العقد صورة فهو كالمقترن بالعقد إذ لو لم يجعل كذلك كان دينا بدين وذلك لا يجوز والدليل عليه أن بعد ما نقد الدراهم لو أراد أن يستردها ليعطى غيرها لم يملك كما لو اقترن التعيين بالعقد بأن أضاف العقد إلى دراهم الآمر ثم أراد أن يدفع غيرها ويجعل العقد لنفسه لم يملك ذلك فإذا صار كشيء واحد فهو دليل ظاهر على من وقع العقد له فيجب تحكمه كما في حالة التكاذب يوضحه أنه بعد قبول الوكالة يعقد للموكل بولايته الأصلية كما يعقد لنفسه ولهذا تعلق به حقوق العقد في الوجهين فإذا استوى الجانبان يصار إلى ترجيح أحدهما بالنقد كما يصار إليه عند التكاذب وفرق أبو يوسف بين هذا وبين المأمور بالحج عن الغير إذا أطلق النية عند الإحرام فإنه يكون عاقدا لنفسه فإن الحج عبادة والعبادات لا تتأدى إلا بالنية فكان مأمورا بأن ينوي عن المحجوج عنه ولم يفعل فصار مخالفا بترك ما هو الركن وأما في المعاملات فالنية ليست بركن فلا يصير بترك النية عن الآمر مخالفا فيبقي حكم عقده موقوفا على النقد قال: وإن وكله بثوب يبيعه بدراهم فأسلمه في طعام إلى أجل فهو عاقد لنفسه" لأنه خالف ما أمره به نصا وإن(12/379)
ص -182- ... أمره ببيعه ولم يسم له الثمن فأسلمه في طعام جاز على الآمر في قول أبي حنيفة ولم يجز في قولهما وهذه فصول:
أحدها: أن الوكيل في البيع مطلقا يبيع بالنقد والنسيئة عندنا وقال الشافعي لا يبيع إلا بالنقد لأن مطلق التوكيل بالبيع معتبر بمطلق إيجاب البيع ومطلق إيجاب البيع ينصرف إلى الثمن الحال دون النسيئة فكذلك مطلق التوكيل وهذا لأن الأجل شرط زائد على ما يتم به العقد فلا يثبت الإذن فيه إلا بالتنصيص ولكنا نقول أمره ببيع مطلق فلا يحوز إثبات التقييد فيه من غير دليل والتقييد بالثمن الحال بعدم صفة الإطلاق ولا دلالة عليه في كلامه نصا ولا عرفا فالبيع بالنسيئة معتاد بين التجار كالبيع بالنقد وربما يكون البيع بالنسيئة أقرب إلى تحصيل مقصودهما وهو الربح والدليل عليه أن المضارب والأب والوصى يملكون البيع بالنسيئة وأما مطلق إيجاب البيع فإنما يحمله على النقد لتعذر اعتبار الإطلاق فإن البيع يستدعى صفة معينة في الثمن ألا ترى أنه لو بعته منك بالنقد والنسيئة لا يجوز وفي التوكيل لا يوجد مثل هذا فالتوكيل صحيح بدون تعيين أحد الوصفين حتى لو قال بعته بالنقد أو بالنسيئة يجوز ثم قيل على قول أبي حنيفة يجوز بيعه بثمن مؤجل طالت المدة أو قصرت وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز بأجل متعارف ولو أجله مدة غير متعارفة في مثل تلك السلعة لا يجوز بمنزلة البيع بالغبن الفاحش عندهما وعند أبي يوسف قال: إن أمره بالبيع على وجه التجارة فله أن يبيعه بالنسيئة أما إذا أمره بالبيع لحاجته إلى النفقة أو إلى قضاء دينه فليس له أن يبيعه بالنسيئة ولو باعه بغبن جاز عند أبي حنيفة سواء كان الغبن يسيرا أو فاحشا وعندهما لا يجوز بيعه بغبن فاحش لأن دليل العرف يفيد مطلق التوكيل حتى يتقيد التوكيل بشراء الأضحية بأيام النحر والتوكيل بشراء الفحم زمان الشتاء والجمد بزمان الصيف فإنه إذا وكله أن يشتري له جمدا في الشتاء يكون مشتريا لنفسه وإن(12/380)
كان التوكيل مطلقا فصح ما ذكرنا والبيع بغبن فاحش ليس بمتعارف فالظاهر إنما يستعين بغيره فيما يعجز عن مباشرته بنفسه وهو لا يعجز عن بيع ما يساوي مائة درهم بعشرة دراهم وقاسا بالوكيل بالشراء فإن شراءه بالغبن الفاحش لا ينفذ على الآمر كذلك الوكيل بالبيع لأن كل واحد منهما أمر بما هو من صنيع التجار وكذلك الأب والوصي لا يملكان بيع مال اليتيم بغبن فاحش لهذا المعنى ولأن المحاباة الفاحشة كالهبة حتى إذا حصلت من المريض تعتبر من الثلث والوكيل بالبيع لا يملك الهبة وأبو حنيفة يقول أمره بمطلق البيع وقد أتى به لأن البيع مبادلة مال بمال شرطا وقد وجد ذلك فما من جزء من المبيع إلا ويقابله جزء من الثمن ألا ترى أن المبيع لو كان دارا يجب للشفيع الشفعة في جميعه وبه يتبين أنه بيع وليس بهبة وبأن اعتبر من الثلث في حق المريض هذا لا يدل على أنه ليس ببيع مطلق وإن الوكيل لا يملكه كالبيع بغبن يسير والدليل عليه أن من حلف لا يبيع فباع بغبن فاحش يحنث ولا يحنث إلا بكمال الشرط فعرفنا أنه بيع مطلق(12/381)
ص -183- ... فيصير الوكيل به ممتثلا للآمر فإنا لو قيدنا بالبيع بمثل القيمة أبطلنا حكم الإطلاق من كلامه وذلك لا يجوز من غير دليل فأما العرف الذي قال قلنا هذا مشترك فالإنسان قد يبيع الشيء تبريا منه ولا يبالى عند ذلك بقلة الثمن وكثرته وقد يبيعه لطلب الربح فعند ذلك لا يبيعه بالغبن عادة وبالمشترك لا يبطل حكم الإطلاق ثم البيع بالغبن متعارف فالمقصود من البيع الربح وذلك لا يحصل إلا وأن يصير أحدهما مغبونا والإنسان يرغب في شراء ما يساوي عشرة بدرهم ولكن لا يجد ذلك فأما أن لا يكون متعارفا فلائم العرف لا يعارض النص والإطلاق ثابت بالنص فلا يبطل بالعرف كما في اليمين فإن العرف كما يعتبر في الوكالة يعتبر في اليمين وما ذكر من مسألة الأضحية وغيرها فهي مروية عن أبي يوسف فأما عند أبي حنيفة يعتبر الإطلاق في جميع ذلك ودليل التقييد التهمة في الموضع الذي يثبت التقييد فيه ولهذا قال أبو حنيفة الوكيل بالبيع لا يبيع من أبيه وابنه للتهمة ولا تهمة في بيعه من الأجنبي بقليل القيمة لأن ما يستوفى من الثمن يسلمه إلى الآمر قل أو كثر وبه فارق الوكيل بالشراء فهناك التهمة متمكنة فربما اشتراه لنفسه فلما علم بالغبن أراد أن يلزمه الآمر ولأن الوكيل بالشراء كما يستوجب الثمن في ذمة نفسه يوجب لنفسه مثله في ذمة الآمر والإنسان متهم في حق نفسه فلا يملك أن يلزم ذمة الآمر الثمن ما لم يدخل في ملكه بازائه ما يعدله ولهذا لو قال اشتريت وقبضت الثمن وهلك في يدي فهات الثمن فإنه لا يقبل قوله بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لو قال بعت وقبضت الثمن وهلك عندي كان القول قوله ولأن أمره بالشراء يلاقي ملك الغير وليس للإنسان ولاية مطلقة في ملك الغير فلا يعتبر إطلاق أمره فيه بخلاف البيع فإن أمره يلاقي ملك نفسه وله في ملك نفسه ولاية مطلقة ولأن اعتبار العموم والإطلاق في الوكيل بالشراء غير ممكن لأنه لو اعتبر ذلك اشترى ذلك المتاع بجميع ما يملكه الموكل(12/382)
وبما لا يملكه من المال ونحن نعلم أنه لم يقصد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد بالغبن اليسير وفي جانب البيع اعتبار العموم والإطلاق ممكن لأنه لا يتسلط به على شيء من ماله سوى المبيع الذي رضي بزوال ملكه وهذا بخلاف الأب والوصي لأن ولايتهما مقيدة بالأنظر والأصلح ولا يوجد في البيع بالغبن الفاحش وعلى هذا الخلاف لو باعه الوكيل بعرض يجوز عند أبي حنيفة لإطلاق الآمر ولا يجوز عندهما لأن البيع بعرض شراء من وجه فكل واحد منهما في بدل صاحبه مشترى وإنما أمره بالبيع فلا يملك به ما هو متردد بين البيع والشراء وأبو حنيفة يقول فعله فيما يتناوله الآمر بيع من كل وجه لأنه يزيله عن ملكه بعرض هو مال والبيع ليس إلا هذا ثم جانب البيع يترجح على جانب الشراء في البيع ألا ترى أن أحد المضاربين إذا اشترى بغير إذن صاحبه كان مشتريا لنفسه ولو باع بغير إذن صاحبه شيئا من مال المضاربة يتوقف على إجازة صاحبه فإن باعه بعرض يتوقف أيضا فإن أجاز صاحبه كان تصرفه على المضاربة فعرفنا أن جانب البيع يترجح فيه وعلى هذا لو باعه الوكيل بمكيل أو موزون فعند أبي حنيفة يجوز على الآمر وعندهما لا يجوز إلا أن يبعه بالنقد إذا عرفنا هذا فنقول: إذا(12/383)
ص -184- ... أسلم الثوب في طعام إلى أجل فقد أزال الثوب عن ملكه بالطعام وذلك جائز على الآمر عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز لأنه لم يبعه بالنقد والتوكيل انصرف إليه خاصة قال: وإذا وكله بالسلم فأدخل الوكيل في العقد شرطا أفسده لم يضمنه الوكيل لأنه لم يخالف وإنما يضمن الوكيل بالخلاف لا بالإفساد وهذا لأنا لو ضمناه بإفساد العقد تحرز الناس عن قبول الوكالات فكل أحد لا يكون كأبي حنيفة في العلم بأحكام والأسباب المقيدة للعقد قال: وأكره توكيل الذمي يعقد له السلم وإن فعله يجوز لأن الذمي لا يتحرز عن الربا وعن مباشرة العقد الفاسد إما لجهله بذلك أو لاعتقاده أو قصده أن يوكل المسلم الحرام فلهذا يكره له أن يأتمنه على ذلك ويجوز له إن فعله لأن عقد السلم من المعاملات وهم في ذلك يستوون بالمسلمين قال: وليس للوكيل بالسلم أن يوكل غيره به لأن هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأى والتدبير والموكل رضي برأيه دون رأى غيره بخلاف المضارب يوكل بالسلم فيجوز لأن رب المال قد رضي برأيه وبتوكيله حين فوض إليه الاسترباح عاما وذلك بتجارة حاضرة وغائبة وإذا اشتغل بأحدهما بنفسه فلا يجد بدا من أن يستعين فيه بالآخر بخلاف الوكيل إلا أن يكون الآمر قال له ما صنعت فيه من شيء فهو جائز فيجوز حينئذ لأنه أجاز صنيعه عاما والتوكيل من صنعه فيدخل في عموم إجازته ولا يجوز للمسلم عقد بيع ولا يسلم لنفسه على الخمر ولا للكافر لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وهو العاقد عليها سواء عقده على ذلك لنفسه أو لكافر بخلاف المسلم يتوكل عن المجوسي في أن يزوجه مجوسية فيجوز ذلك لأن الوكيل في النكاح معبر لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل فيعتبر جانب الموكل وفي البيع والسلم هو عاقد لنفسه ليستغني عن الإضافة في العقد إلى غيره فيعتبر جانبه.(12/384)
قال: وإن وكل المسلم الذمي بأن يشترى له خمراً أو يسلم له فيها ففعل ذلك مع ذمي جاز على الآمر في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو مشترى لنفسه لأن المسلم لا يملك هذا العقد لنفسه بنفسه فلا يصح توكيل غيره به كما لو وكل المسلم مجوسيا بأن يزوجه مجوسية وهذا لأنه لو نفد عقده على الآمر ملك المسلم الخمر بالعقد ولا يجوز أن يملك المسلم الخمر بعقد التجارة وهذا منهما نوع استحسان فكأنهما يقولان في البيع والشراء طرفان طرف العقد وطرف الملك فكما أن الكافر إذا وكل به المسلم لا يجوز لاعتبار طرف العقد فكذلك المسلم إذا وكل الكافر به لا يجوز لاعتبار طرف الملك بل أولى لأن العقد سبب الملك والثابت به الملك في المحل وهو المقصود فإذا وجبت مراعاة جانب العقد فلأن تجب مراعاة جانب الملك أولى وأبو حنيفة يقول الذي ولي الصفقة هو الوكيل والخمر مال متقوم في حقه يملك أن يشتريها لنفسه فيملك أن يشتريها لغيره وهذا لأن الممتنع ها هنا بسبب الإسلام هو العقد على الخمر لا الملك فالمسلم من أهل أن يملك الخمر ألا ترى أنه إذا تخمر عصير المسلم يبقي مملوكا له وإذا مات قريبة عن خمر يملكها بالإرث وهنا إن اعتبرنا جانب العقد فالعاقد من أهله وهو في حقوق العقد كالعاقد لنفسه(12/385)
ص -185- ... وإن اعتبرنا جانب الملك فللمسلم من أهل ملك الخمر فيصح التوكيل ألا ترى أن في جانب العقد إفساد التوكيل إذا كان الوكيل مسلما يعتبر جانب العقد دون الملك فكذلك في جانب تصح الوكالة وبه فارق النكاح فالوكيل في باب النكاح سفير ومعبر فكان العاقد هو الموكل وقوله بأن الموكل يملك الخمر بالعقد فليس كذلك بل العقد يوجب الملك للعاقد ثم الموكل يخلفه في ذلك على ما قررنا والمسلم من أهل أن يملك الخمر بهذا الطريق كما إذا أذن لعبده الكافر في التجارة فاشترى العبد خمرا فإن المولى يملكها على سبيل الخلافة عنه وكذلك المكاتب إذا كان كافرا واشترى خمرا ثم عجز فمولاه المسلم يملكها بطريق الخلافة عنه وفرقهما أن العبد والمكاتب يتصرفان لأنفسهما ولهذا لا يرجعان على المولى بعهدة تصرفهما فلهذا اعتبرنا حالهما فأما الوكيل فيتصرف للموكل حتى يرجع عليه بما يلحقه من العهدة ويكون الموكل في قرار العهدة عليه كأنه باشر التصرف بنفسه فكذلك في عقد الوكيل له على الخمر فإذا تعذر تنفيذ العقد على الآمر نفذ العقد على الوكيل. قال: وإذا وكل الرجل الرجل بدراهم يسلمها له في طعام فصرفها الوكيل بدراهم غيرها فقد خالف في العقد فكان مباشرا العقد لنفسه ضامنا لما صرفه من دراهم الآمر بعد ذلك وكذلك لو كان المدفوع دينارا فصرفه بدراهم ثم أسلمها في طعام فهو للوكيل لأنه خالف في العقد والبدل ثم أسلم بدراهم نفسه في الطعام فكان الطعام له وهو ضامن للدنانير قال: وإذا وكله رجلان أن يسلم لهما في طعام واحد ولكن من غير خلط جاز لأنه حصل مقصود كل واحد منهما بكماله فلا فرق بين أن يفعل ذلك في عقدة أو عقدتين وإذا خلط الدراهم ثم أسلمها في الطعام كان مخالفا ضامنا لأن دراهم كل واحد منهما في يده أمانة فيصير بالخلط ضامنا متملكا كما هو أصل أبي حنيفة ثم أضاف عقد السلم إلى دراهم نفسه فكان الطعام له بخلاف الأول فلم يوجد هناك خلط موجب للضمان وإنما حصل(12/386)
الاختلاط في المسلم فيه حكما لاتحاد العقد حكما وبمثله لا يصير الأمين ضامنا وإن أسلم دراهم كل واحد منهما عن حدة إلى إلى رجل واحد ثم اقتضى شيئا فادعى كل واحد منهما أي الأمرين أنه من حقه فالقول قول المسلم إليه لأنه هو الملك لما يوفي من الطعام فرجع في بيان ما يتملك إليه فإن كان هو غائبا فالقول قول الوكيل لأنه أحد المتعاقدين ولأن كل واحد منهما إنما يتملك بعقد باشره الوكيل فعند الاشتباه يرجع في البيان إليه فإذا قدم المسلم إليه وكذب الوكيل فالقول قول المسلم إليه لأنه هو الأصل في هذا البيان وسقط اعتبار الخلف عند ظهور الأصل وإن أسلم الوكيل إلى نفسه فهو باطل لأن الواحد في عقد التجارة لا يصلح أن يكون مباشرا للعقد من الجانبين لما فيه من تضاد الأحكام فإنه يكون مملكا متملكا مسلما متسلما مخاصما متخاصما وذلك لا يجوز ولأنه متهم في حق نفسه وقد بينا أن التهمة تخصص الأمر المطلق وكذلك لو أسلم إلى شريك له مفاوض لأنهما بعقد المفاوضة صار كشخص واحد في عقود التجارة فكل واحد منهما مطالب بما يجب على صاحبه فهو وما لو أسلم إلى نفسه سواء وكذلك إن أسلم إلى عبده لأن كسب العبد لمولاه فهو متهم في ذلك.(12/387)
ص -186- ... وكذلك إلى مكاتبه لأن له حق الملك في كسب المكاتب وينقلب ذلك صحيحا حقيقة ملك يعجزه فإن أسلم إلى شريك له عنان جاز إذا لم يكن من تجارتهما لأن كل واحد منهما من صاحبه كسائر الأجانب فيما ليس من تجارتهما حتى تجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما ليس من تجارتهما فإن أسلمها إلى ابنه أو إلى أحد أبويه أو زوجته ممن لا تقبل شهادته له لم يجز عند أبي حنيفة وهو جائز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه ليس لواحد منهما في مال صاحبه ملك ولا حق ملك فكان بمنزلة ما لو أسلم إلى أخيه فإنه يجوز وهذا بخلاف الشهادة لأن ذلك خبر ممثل بين الصدق والكذب فلا يترجح جانب الصدق فيها مع تمكن تهمة الميل وأبو حنيفة يقول مطلق الوكالة تتقيد بالتهمة وكل واحد منهما متهم في حق صاحبه بدليل أنه لا تقبل شهادته له فكان إسلامه إليه كإسلامه إلى عبده ومكاتبه وهذا لأن تصرف الوكيل إنما يكون في حق الغير والظاهر من حال المرء إيثار ولده وزوجته على الأجنبي وسوى هذا في المسألة كلام وخلاف في معاملة الوكيل مع هؤلاء بمثل القيمة أو بالغبن اليسير وقد أملينا تمام ذلك في كتاب الوكالة وإذا وكل الوكيل بالسلم رجلا بقبض المسلم فيه ممن عليه فقبضه بريء المسلم إليه منه لأن الوكيل في حق القبض كالعاقد لنفسه حتى يختص بالمطالبة به ولو كان عاقدا لنفسه كان قبض وكيله في براءة المسلم كقبضه بنفسه فإن كان الوكيل الثاني عبدا للوكيل الأول أو ابنه في عياله أو أجير له فهو جائز على الآمر حتى لو هلك في يده هلك من مال الآمر والمراد الأجير الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة لأن يد هؤلاء في الحفظ كيده ألا ترى أنه لو قبض بنفسه ثم سلم إلى واحد من هؤلاء ثم هلك لا يجب الضمان على واحد وإن كان الوكيل الثاني أجنبيا فالوكيل الأول ضامن للطعام إن ضاع في يد وكيله لأن قبض وكيله كقبضه بنفسه ولو قبضه بنفسه ثم دفعه إلى أجنبي كان ضامنا فكذلك هنا وإن لم يذكر أن(12/388)
الوكيل الثاني هل يكون ضامنا في حق رب المسلم فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يكون ضامنا بمنزلة مودع المودع وقد بينا الخلاف فيه وفي الوديعة وإن وصل إلى الوكيل الأول بريء هو ووكيله عن ضمانه كما لو قبض الوكيل الأول بنفسه إذ لا فرق بين أن يصل إلى يده من يد المسلم إليه أو من يد وكيله فلهذا لا ضمان فيه على أحد فإذا أسلم الوكيل الدراهم إلى امرأة جاز كذلك لو كان الموكل أو الوكيل امرأة يجوز لأن هذا من باب المعاملات فيستوي فيه الرجال والنساء والله تعالى أعلم.
تم الجزء الثاني عشر من كتاب المبسوط،
ويليه الجزء الثالث عشر
وأوله باب البيوع الفاسدة(12/389)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثالث عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(13/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
باب البيوع الفاسدة
قال: وإذا اشترى الرجل عدل زطي أو جراب هروي على أن فيه خمسين ثوبا بألف درهم فوجد فيه تسعة وأربعين ثوبا أو أحدا وخمسين ثوبا فالبيع فاسد لأنه إن وجده أكثر فإنما يدخل في البيع العددي المسمى من الثياب وذلك خمسون وهو مجهول لأنه وجب على المشتري رد هذه الزيادة وهذه الزيادة مجهولة فيصير الباقي مجهولا وفي مثله لا يجوز البيع مع الجهالة ألا ترى أنه لو اشترى مما في العدل خمسين ثوبا لا يجوز لأنها تتفاوت في المالية فالمشتري يطالب بخيار العدل والبائع يعطيه شرار العدل وكل جهالة تفضي إلى المنازعة فهي مفسدة للعقد فإن وجده أقل يفسد العقد لجهالة الثمن لأن المسمى من الثمن بمقابلة خمسين ثوبا فيقسم ذلك على قيمة الموجود والمعدوم ولا يدري صفة المعدوم أنه كيف كان جيدا أو وسطا أو رديئا وباختلافه تختلف حصة الموجود فيفسد العقد في الموجود لجهالة الثمن فالبيع بالحصة لا ينعقد صحيحا ابتداء فإن كان سمى لكل ثوب عشرة دراهم فوجده أحدا وخمسين ثوبا كان فاسدا أيضا لأن العاقد يتناول خمسين ثوبا فعليه رد الثوب الزائد وهو مجهول وبجهالته يصير المبيع مجهولا أيضا وإن وجده تسعة وأربعين ثوبا وقد قبض أو لم يقبض كان البيع جائزا لأن الموجود معلوم والمسمى بمقابلة الموجود من الثمن معلوم فيجوز البيع ويتخير المشتري لتفرق الصفقة عليه بنقصان ثوب مما سمى وله في عدد الخمسين مقصود لا يحصل ذلك بما دونه فيتخير إن شاء أخذ كل ثوب بما سمى وإن شاء ترك وأكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون بأن هذا الجواب قولهما أما عند أبي حنيفة العقد فاسد كله لأنه فسد بعضه بفساد قوي إذ لا سبب لبطلان البيع أقوى من عدم المعقود عليه واستدلوا عليه بما ذكر في الزيادات ولو اشترى ثوبين على أنهما هرويان كل واحد منهما بثمن مسمى فوجد أحدهما مرويا فالعقد كله فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإذا كان في الموضع(13/2)
الذي كان أحد الثوبين بخلاف جنس ما سمى يفسد العقد كله ففي الموضع الذي لم يجد أحد ما سمى أصلا أولى أن يفسد العقد كله وهما في المعنى سواء لأن بطلان العقد عند اختلاف الجنس لأنه عدم الجنس الذي سمى وقد تعلق العقد به كذا هنا.
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أن هذا قولهم جميعا لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في نظائر هذه المسألة إنما يفسد العقد في الكل لوجود العلة المفسدة وهو أنه جعل قبول العقد(13/3)
ص -4- ... فيما يفسد فيه العقد شرطا لقبوله في الآخر وهذا لا يوجد هنا فإنه ما شرط قبول العقد في المعدوم ولا قصد إيراد العقد على المعدم وإنما قصد إيراده على الموجود فقط ولكنه غلط في العدد بخلاف مسألة الزيادات فإن هناك جعل قبول العقد في كل واحد من الثوبين شرطا في قبوله في الآخر وهو شرط فاسد وهكذا الجواب في كل عددي يتفاوت نحو ما إذا اشترى قطيعا من الغنم على أنها خمسون فوجده أزيد فالجواب على التقسيم الذي ذكرنا وفي المكيلات إذا اشترى صبرة من حنطة على أنها خمسون فإنه يجوز العقد سواء سمى ثمن كل واحد من القفزان أو لم يسم لأن القفزان مما لا تتفاوت في نفسها فكانت حصة كل قفيز من الثمن معلومة وكذلك الوزنيات وكذلك في العدديات المتقاربة نحو ما إذا اشترى عدل جوز على أنه خمسة آلاف فإذا هي أنقص أو أزيد فإنه يجوز العقد لما ذكرنا وإذا اشترى الرجل من الرجل عبدين صفقة واحدة بألف درهم فإذا أحدهما حر فالبيع فاسد فيهما فكذا إذا لم يسم لكل واحد منهما ثمنا فظاهر لأن الحر لا يدخل في العقد لأن دخول الشيء في العقد بصفة المالية والتقوم وذلك لا يوجد في الحر فلو جاز العقد في العبد إنما يجوز بالحصة والبيع بالحصة لا ينعقد ابتداء على الصحة لمعنى الجهالة كما لو قال اشتريت منك هذا العبد بما يخصه من الألف إذا قسم على قيمته وقيمة هذا العبد الآخر لجهالة الثمن كذلك هنا فإن كان سمى لكل واحد منهما ثمنا بأن قال اشتريتهما بألف كل واحد منهما بخمسمائة فكذلك الجواب عند أبي حنيفة.(13/4)
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: العقد جائز في العبد بما سمى بمقابلته من الثمن وكذلك لو اشترى شاتين مسلوختين فإذا أحدهما ميتة أو ذبيحة مجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عليها عمدا فإن ذلك والميتة سواء عندنا والجواب على التفصيل الذي قلنا وكذلك إذا اشترى دنين من خل فإذا أحدهما خمر وهذا الجنس نظير ما سبق إذا أسلم كر حنطة في شعير وزيت فطريقهما أن الفساد يقتصر على ما وجدت فيه العلة المفسدة وعند تسمية الثمن لكل واحد منهما قد انعدمت العلة المفسدة فيما هو مال متقوم منهما وهذا لأن أحدهما ينفصل عن الآخر في البيع ابتداء وبقاء فوجود المفسد في أحدهما لا يؤثر في العقد على الآخر لأن تأثيره في العقد على الآخر إما باعتبار التبعية وأحدهما ليس بتبع للآخر أو باعتبار أنهما كشيء واحد وليس كذلك فكل واحد منهما ينفصل عن الآخر في العقد ألا ترى أنه لو هلك أحدهما قبل القبض بقي العقد في الآخر وذلك فيما إذا كان كل واحد منهما عبدا وإنما يشترط قبول العقد في أحدهما لقبول العقد في الآخر إذا صح الإيجاب فيهما حتى لا يكون المشتري ملحقا الضرر بالبائع في قبول العقد في أحدهما دون الآخر وذلك ينعدم إذا لم يصح الإيجاب في أحدهما وصار هذا كما لو اشترى عبدا أو مكاتبا أو مدبرا فالبيع يفسد في المدبر ويبقى العقد على العبد صحيحا كذلك هنا وأبو حنيفة يقول البائع لما جمع بينهما في الإيجاب فقد شرط في قبول العقد في كل واحد منهما قبول العقد في الآخر بدليل(13/5)
ص -5- ... أن المشتري لا يملك قبول العقد في أحدهما دون الآخر واشتراط قبول العقد في الحر في بيع العبد شرط فاسد والبيع يبطل بالشرط الفاسد.
وقولهما: إن هذا عند صحة الإيجاب قلنا عند صحة الإيجاب فيما يكون هذا شرطا صحيحا ونحن إنما ندعي الشرط الفاسد وذلك عند فساد الإيجاب لأن هذا الشرط باعتبار جمع البائع بينهما في كلامه لاعتبار وجود المحلية فيهما وقد ذكر الكرخي رجوع أبي يوسف في فصل من هذا الجنس إلى قول أبي حنيفة وهو مسألة الطوق والجارية إذا باعهما بثمن مؤجل كما بينا في الصرف فاستدلوا برجوعه في تلك المسألة على رجوعه في جميع هذه المسائل لأن الفرق بينهما لا يتضح فإذا اشترى عبدين فإذا أحدهما مدبر أو مكاتب أو اشترى جاريتين فإذا أحدهما أم ولد جاز البيع في الآخر سواء سمى لكل واحد منهما ثمنا أو لم يسم وعند زفر لا يجوز لأن الإيجاب في المدبر والمكاتب وأم الولد فاسد لما ثبت لهم من حق العتق وقد جعل ذلك شرطا لقبول العقد في الفرق بينهما فيفسد العقد كما في مسألة الحر وجه قولهما أن كل واحد منهما دخل في العقد لأن دخول الآدمي في العقد باعتبار الرق والتقوم وذلك موجود فيهما ثم استحق أحدهما نفسه فكان بمنزلة ما لو استحقه غيره بأن باع عبدين فاستحق أحدهما فهناك البيع جائز في الآخر سواء سمى لكل واحد منهما ثمنا أو لم يسم يوضحه أن البيع في المدبر ليس بفاسد على الإطلاق بدليل جواز بيع المدبر من نفسه فإنه إذا باع نفس المدبر من نفسه يجوز وبدليل أن القاضي إذا قضى بجواز بيع المدبر ينفذ قضاؤه وكذلك المكاتب فإن بيعه من نفسه جائز ولو باعه من غيره برضاه جاز في أصح الروايتين والذي روي في النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف هذا غير معتمد عليه وكذلك بيع أم الولد من نفسها جائز ولو قضى القاضي بجواز بيعها نفذ قضاؤه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولم ينفذ عند محمد لأن عنده إجماع التابعين رحمهم(13/6)
الله تعالى على فساد بيعها يرفع الخلاف الذي كان في عهد الصحابة رضوان الله عليهم فإن هذه المسألة كان مختلفا فيها في الصدر الأول فكان عمر رضي الله عنه يقول بأن بيع أم الولد لا يجوز وعلي رضي الله عنه كان يقول بأنه يجوز ثم من بعدهم من السلف رحمهم الله تعالى اتفقوا على أن بيع أم الولد لا يجوز.
والحاصل أن الإجماع المتأخر هل يرفع الاختلاف المتقدم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا يرفع وعند محمد يرفع وقضاء القاضي بخلاف الإجماع لا ينفذ وعندهما ليس لإجماع التابعين رحمهم الله تعالى من القوة ما يرفع الخلاف الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم فكان هذا قضاء في فصل مجتهد فيه فإذا ثبت أن المحل قابل للبيع حتى نفذ قضاء القاضي فيه وقضاء القاضي لا ينفذ في غير محله عرفنا أنه دخل في العقد ثم خرج فصار كما لو خرج بالهلاك قبل القبض فيبقى العقد صحيحا في الآخر حتى إذا كان قبضهما لزم البيع في القن بحصة من الثمن وكذلك إن كان عالما بذلك وقت البيع وإن لم يكن عالما به وقت البيع(13/7)
ص -6- ... ولكن علم بذلك بعد القبض كان له أن يرد القن منهما لتفرق الصفقة قبل التمام فإن خيار تفرق الصفقة بمنزلة خيار العيب فإنما يثبت إذا لم يكن معلوما له وإذا نظر إلى إبل أو غنم أو إلى رقيق أو إلى عدل زطي أو جراب هروي فقال قد أخذت كل واحد من هذا بكذا ولم يسم جماعتها فالعقد فاسد عند أبي حنيفة في الكل وعندهما جائز في الكل وهذا لأن الأصل عند أبي حنيفة أنه متى أضاف كلمة كل إلى ما لا يعلم منتهاه فإنما يتناول أدناه وهو الواحد كما لو قال لفلان علي كل درهم يلزمه درهم واحد.(13/8)
قال: وإذا أجر داره كل شهر لزم العقد في شهر واحد عند أبي حنيفة فإذا اشترى صبرة من حنطة كل قفيز بدرهم عند أبي حنيفة يجوز العقد في قفيز واحد وعندهما يجوز في الكل وإذا كفل بنفقة امرأة عن زوجها كل شهر فإنما يلزمه ذلك في شهر واحد عند أبي حنيفة وعندهما هو كذلك فيما لا يكون منتهاه معلوما بالإشارة إليه فأما فيما يعلم جملته بالإشارة فالعقد يتناول الكل كما لو كان معلوم الجملة بالتسمية لأن الإشارة أبلغ في التعريف من التسمية إذا عرفنا هذا فنقول هنا الجملة معلومة بالإشارة فيجوز العقد في الكل عندهما ولا جهالة في ثمن كل واحد منهما والجهالة التي في جملة الثمن لا تفضي إلى المنازعة فإنها ترفع بعد المشار إليه وعند أبي حنيفة لما لم يكن العدد معلوما عند العقد فإنما يتناول العقد واحدا من الجملة وبيع شاة من القطيع لا يجوز لأنها متفاوتة وإذا كانت العبرة للإشارة فثمن جميع ما أشار إليه مجهول عند العقد وجهالة مقدار الثمن تمنع صحة العقد وما هو شرط العقد إذا انعدم عند العقد يفسد العقد ولا يمكن اعتبار إيجابه في الثاني كشرط الشهود في النكاح وعلى هذا لو باع صبرة حنطة كل قفيز منها بدرهم ولم يسم عدد الجملة إلا أن أبا حنيفة قال: هناك العقد جائز في قفيز واحد فإنه إذا اشترى قفيزا من الصبرة جاز بالإجماع فإن القفزان لا تتفاوت بخلاف الغنم فإن علم مبلغ الجملة بعد الافتراق لا ينقلب العقد جائزا لأن المفسد قد تقرر بالافتراق عن المجلس قبل إزالته وإن كان ذلك قبل أن يفترقا كان العقد استحسانا لأن حالة المجلس جعلت كحالة العقد ولكن يتخير المشتري لتنكشف الحالة له الآن فإن شاء أخذ الكل بجميع الثمن وإن شاء تركه لأن مقدار ما يلزمه من الثمن إنما يصير معلوما له الآن فيتخير لأجله وكذلك لو اشترى دارا كل ذراع بدرهم ولم يسم جملة الذرعان فهو على هذا الخلاف فعند أبي حنيفة العقد يفسد في الكل لأن قيمة الذرعان تتفاوت في مقدم الدار(13/9)
ومؤخرها فلا يمكن تصحيح العقد في ذراع منها وكذلك الثوب والخشب ولو اشترى ذراعا من عشرة أذرع من هذه الدار عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز العقد لأن ما سمى عبارة عن عشر الدار بمنزلة قوله سهم من عشرة أسهم أو جزء من عشرة أجزاء وعند أبي حنيفة لا يجوز لأن الذراع اسم لموضع معلوم يقع عليه الذراع وذلك يتفاوت موضعه من الدار بخلاف السهم والجزء.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا اشترى ذراعا من هذه الدار بكذا يجوز(13/10)
ص -7- ... العقد وإن لم يقل من كذا ذراعا ثم يذرع الدار فإن كانت عشرة أذرع فله العشر بخلاف ما لو اشترى سهما من الدار ولم يقل من كذا سهما لأن تلك الجهالة لا يمكن إزالتها فسهم من سهمين النصف وسهم من عشرة أسهم العشر وفي الذراع يمكن إزالة الجهالة بأن يذرع جميع الدار فيصير الجزء المسمى في العقد معلوما به وإذا اشترى غنما أو بقرا أو عدل زطي كل اثنين منها بعشرة فهو باطل لأن ثمن كل واحد غير معلوم فإنه يضم إلى كل واحد آخر فيقسم العشر على قيمتهما ولا يعرف كيفية الضم أنه يضم الجيد إلى الجيد أو الرديء إلى الرديء أو إلى الوسط فيبقى عن كل واحد مجهولا وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة فإنه إذا وجد بثوب عيبا بعد القبض يرد المعيب خاصة وتتمكن المنازعة بينهما في ثمنه وكذلك إذا هلك أحدهما قبل القبض واستحق أو تقايلا العقد في ثوب واحد فعرفنا أن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة فيفسد العقد بها وإذا اشترى عدل زطي بقيمته فالبيع فاسد لجهالة الثمن عند العقد والقيمة ما تظهر عند تقويم المقومين وذلك مجهول عند العقد ويختلف المقومون في التقويم أيضا ثم ما سميا تفسير العقد الفاسد لأن المقبوض بحكم الشراء الفاسد مضمون بالقيمة فقد نصا على ما هو حكم العقد الفاسد وكذلك إن قال بحكمه لأن ما يحكم به مجهول الجنس والقدر والصفة ويتمكن بسببه منازعة وله أن يرجع عن تفويض الحكم إليه وإن لم يرجع حتى مات أحدهما بطل ما له من الحكم وبقي الثمن مجهولا وكذلك لو قال بألف درهم ويحلف يمينه فالبيع فاسد.(13/11)
قيل: معنى هذا أن المشتري كان ساومه بألف فحلف البائع أن لا يبيعه بألف فاشتراه بألف وزيادة بقدر ما يبر به البائع في يمينه وتلك الزيادة مجهولة الجنس والقدر والصفة وقيل بل معناه أن البائع كان حنث في يمينه وكان تهمة تكفره فاشتراه منه بألف وما يكفر به البائع يمينه وهذا أيضا مجهول لأن التكفير يكون بالإعتاق تارة وبالكسوة أخرى وبالإطعام تارة وضم المجهول إلى المعلوم يوجب جهالة الكل وجهالة الثمن مفسدة للبيع وإذا اشتراه بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينار إلا درهما أو بألف درهم إلا قفيز حنطة أو إلا شاة فالبيع فاسد لأن المستثنى إذا كان من غير جنس المستثنى منه فإنما يستثنى من المستثنى بالقيمة وطريق معرفة القيمة الحرز والظن فلا يتيقن به وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى منه يوضحه أن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء الاستثناء وما وراء المستثنى من الألف مجهول فالبيع بالثمن المجهول فاسد.
وإن قال: قد أخذته منك بمثل ما يبيعه الناس كان فاسدا أيضا لأن المستثنى مجهول الجنس والقدر والصفة والناس في المبايعة يتفاوتون فمن بين مسامح ومستعصي وإذا فسد البيع فإن قبضه وهلك عنده فعليه مثله إن كان من ذوات الأمثال وقيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال لأن المقبوض بحكم الشراء الفاسد بمنزلة المغصوب أو المقبوض على سوم الشراء في حكم الضمان ولو قال أخذته منك بمثل ما أخذ به فلان من الثمن فإن كان ذلك معلوما(13/12)
ص -8- ... عندهما وقت العقد فهو جائز وإلا كان العقد فاسدا فإن علم ذلك قبل أن يتفرقا جاز العقد ويتخير المشتري لأن حالة المجلس كحالة العقد ولكن إنما يكشف الحال للمشتري إذا علم مقدار ما أخذ به فلان رضاه به قبل ذلك لا يكون تاما فلهذا يتخير بين الأخذ والترك وإذا عقد العقد على أنه إلى أجل كذا بكذا وبالنقد بكذا أو قال إلى شهر بكذا أو إلى شهرين بكذا فهو فاسد لأنه لم يعاطه على ثمن معلوم ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع وهذا هو تفسير الشرطين في بيع ومطلق النهي يوجب الفساد في العقود الشرعية وهذا إذا افترقا على هذا فإن كان يتراضيان بينهما ولم يتفرقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شرط صحة العقد.(13/13)
قال ومن اشترى شيئا فلا يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه ولا يوليه أحدا ولا يشرك فيه لأن التولية تمليك ما ملك بمثل ما ملك والإشراك تمليك نصفه بمثل ما ملك به والكلام في بيع المبيع قبل القبض في فصول أحدها في الطعام فإنه ليس لمشتري الطعام أن يبيعه قبل أن يقبضه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض وكذلك ما سوى الطعام من المنقولات لا يجوز بيعه قبل القبض عندنا وقال مالك رضي الله عنه يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الطعام بالذكر عند النهي فذلك دليل على أن الحكم فيما عداه بخلافه وإلا فليس لهذا التخصيص فائدة وحجتنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يقبض وقال صلى الله عليه وسلم لغياث بن أسد حين وجهه إلى مكة قاضيا وأميرا: "سر إلى أهل بيت الله وانههم عن بيع ما لم يقبضوا" وكلمة ما للتعميم فيما لا يعقل ثم تخصيص الشيء بالذكر عندنا لا يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه قال الله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وذلك لا يدل على أنه يجوز ذلك في غير الأشهر الحرم كيف وراوي هذا الحديث ابن عباس رضي الله عنهما.(13/14)
وقال: بعد روايته وأحسب كل شيء مثله والكلام في هذه المسألة ينبني على أصل وهو أن عند مالك فيما سوى الطعام البيع لا يبطل بهلاك المعقود عليه قبل القبض وعندنا يبطل لفوات القبض المستحق بالعقد كما في الطعام فلتوهم الغرر في الملك المطلق للتصرف قلنا لا يجوز تصرفه قبل القبض أو لعجزه عن التسليم بحبس البائع إياه لحقه والإجارة في ذلك كله كالبيع وأما الهبة والصدقة في المبيع قبل القبض لا يجوز عند أبي يوسف وقال محمد رحمه الله تعالى كل تصرف لا يتم إلا بالقبض فذلك جائز في المبيع قبل القبض إذا سلطه على قبضه فيقبضه لأن تمام العقد لا يكون إلا بالقبض والمانع زائد عند ذلك بخلاف البيع والإجارة فإنه ملزم بنفسه وقاس بهبة الدين من غير من عليه الدين فإنه يجوز إذا سلطه على قبضه بخلاف البيع وأبو يوسف يقول البيع أسرع نفاذا من الهبة بدليل أن الشيوع فيما يقسم يمنع تمام الهبة دون البيع ثم بيع المبيع قبل القبض لا يجوز لأنه تمليك لعين مالكه في حال قيام الغرر في ملكه فالهبة أولى لأن الهبة في استدعاء الملك أقوى من البيع حتى يجوز البيع(13/15)
ص -9- ... من المأذون والمكاتب دون الهبة ثم المبيع قبل القبض ليس محل التمليك من غيره ألا ترى أنه لا ينفذ البيع فيه وإن أجازه البائع فكان هذا بمنزلة عين مملوكه أيضا كالصيد في الهواء وذلك لا يجوز إيجاب البيع والهبة فيه فهذا مثله.
وأما بيع العقار قبل القبض يجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله تعالى ولا يجوز في قوله الأول وهو قول محمد والشافعي رحمهما الله تعالى لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وبيع العقار قبل القبض بأكثر مما اشترى فيه ربح ما لم يضمن والمعنى فيه أنه باع المبيع قبل القبض فلا يجوز كما في المنقول وتأثيره أن ملك التصرف يستفاد بالقبض كما أن ملك العين يستفاد بالعقد ثم العقار والمنقول سواء فيما يملك به العين وهو العقد فكذلك فيما يملك به التصرف أو لأن السبب وهو البيع لا يتم إلا بالقبض ولهذا جعل الحادث بعد العقد قبل القبض كالموجود وقت العقد والملك إنما يتأكد بتأكد السبب وفي هذا العقد العقار والمنقول سواء يوضحه أن قبل القبض المبيع مضمون بغيره وهو الثمن والعقار في هذا كالمنقول حتى إذا استحق أو تصور هلاكه فهلك سقط الثمن ولأن القدرة على التسليم شرط لجواز البيع في العقار والمنقول جميعا وذلك بيده أو بيد نائبه ويد البائع الأول ليست بنائبة عن يده فلا تثبت قدرته على التسليم باعتبارها وأبو حنيفة وأبو يوسف يقولان بيع العقار قبل القبض في معنى بيع المنقول بعد القبض فيجوز كما يجوز بيع المنقول بعد القبض.(13/16)
وإنما قلنا ذلك لأن المطلق للتصرف الملك دون اليد ألا ترى أنه لو باع ملكه وهو في يد مودع أو غاصب وهو مقر له بالملك كان البيع جائزا إلا أنه إذا بقي في الملك المطلق للتصرف غرر يمكن الاحتراز عنه فذلك يمنع جواز التصرف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وفي المنقول قبل القبض في الملك غرر لأن بهلاكه ينتقض البيع ويبطل ملك المشتري فإذا قبضه انتفى هذا الغرر ولا يبقى إلا معنى الغرر بظهور الاستحقاق وذلك لا يمكن الاحتراز عنه وفي العقار قبل القبض ليس في ملكه إلا غرر الاستحقاق لأنه لا يتصور هلاكه وانفساخ البيع به وانتفاء الغرر لعدم تصور سببه أصلا يكون أبلغ من انتفاء الغرر إذا تصور سببه ولم يعمل وإنما يتصور الغرر فيه من حيث الاستحقاق وذلك لا يمكن الاحتراز عنه والدليل عليه أن التصرف في الثمن قبل القبض جائز لأنه لا غرر في الملك وكذلك التصرف في المهر قبل القبض يجوز عندنا لانعدام الغرر في الملك فإن بالهلاك لا يبطل ملكها ولكن على الزوج قيمته لها وأصحاب الشافعي يختلفون في ذلك فمنهم من يقول التسمية تبطل بهلاك الصداق قبل القبض فعلى هذا يقولون لا يجوز التصرف لبقاء الغرر في الملك ومنهم من يقول لا تبطل التسمية وعلى الزوج القيمة وعلى هذا يقولون يجوز التصرف في الصداق قبل القبض فعرفنا أن الأصل ما قلنا والدليل عليه أن التصرف الذي لا يمتنع بالغرر نافذ في المبيع قبل القبض وهو العتق والتزويج وبه يتبين فساد قولهم أن تأكد الملك بتأكد السبب(13/17)
ص -10- ... وذلك بالقبض لأن العتق في استدعاء ذلك تام في المحل فوق البيع ثم يجوز في المبيع قبل القبض وما يقولون من أنه يدخل في ضمان المشتري بالقبض قلنا شرط ثبوت الملك بالتصرف في المحل أصل الملك دون الضمان بدليل جواز التصرف في الموهوب بعد القبض وكذلك القدرة على التسليم كما يثبت بيد غيره إذا لم يمنعه والحديث عام دخله الخصوص لإجماعنا على جواز التصرف في الثمن والصداق قبل القبض ومثل هذا العام يجوز تخصيصه بالقياس فنحمله على المنقول بدليل ما قلنا والدليل عليه أن حق الشفعة يثبت للشفيع قبل القبض والشفيع يتملك ببدل فلو كان العقار قبل القبض لا يحتمل التملك ببدل لما ثبت للشفيع حق الأخذ قبل القبض إلا أن حق الشفيع مقدم على حق المشتري فلا يمكن أن يجعل قائما مقامه فلهذا يبطل بأخذه ملك المشتري ويكون عهدته على البائع بخلاف المشتري الثاني يوضحه أن المبيع في مكانه الذي يقبضه فيه يتعين فيجوز تصرفه فيه كما بعد قبضه بالتخلية وبخلاف المنقول فإنه لا يدري في أي مكان يقبضه ما لم يقبضه ولا يدخل على شيء لما ذكرنا أن التصرف في المسلم فيه قبل القبض لأنا بما قررنا أثبتنا الملك المطلق للتصرف دون سائر الشروط فمن الشرائط في المبيع العينية وجواز السلم رخصة بخلاف القياس ومن الشرائط الكيل فيما اشتراه مكايلة فلا يجوز التصرف فيه قبل أن يكيله وإن كان قبضه.
قال: رجل باع عبدا آبقا فهو باطل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وعن بيع العبد الآبق ولأنه عاجز عن تسليمه والمالية في الآبق ثاوية فهو كالمعدوم حقيقة في المنع من البيع حتى أنه وإن عاد من إباقه لا يتم ذلك العقد لأنه لم يصادف محله بمنزلة ما لو باع الطير في الهواء ثم أخذه إلا رواية عن محمد فإنه يقول الملك والمالية بعد الإباق باق حقيقة والمانع كان هو العجز عن التسليم فإذا زال صار كأن لم يكن كالراهن يبيع المرهون ثم يفتكه قبل الخصومة.(13/18)
قال: ولو باع جارية كان قد أعتق ما في بطنها أو باعها واستثنى ما في بطنها فهذا فاسد لا يجوز وقد بينا هذا الفصل في كتاب الهبة.
قال: ولو باع عبدا مغصوبا فالبيع موقوف فإن جحده الغاصب ولم يكن للمغصوب منه بينة لم يجز البيع لأنه عقد غير مقدور التسليم للعاقد ولأن الملك تاوى في حقه وجواز بيعه باعتبار الملك.
قال: وإن أقر به فإن سلمه إليه تم البيع لأن ملكه قائم في المحل بإقرار الغاصب والقدرة على التسليم ثابتة حين سلمه الغاصب فإن لم يسلمه الغاصب حتى تلف انتقض البيع لفوات القبض المستحق بالعقد بمنزلة ما لو كان في يد البائع فهلك قبل أن يقبضه المشتري فإن قيل قد وجبت القيمة على الغاصب والمبيع إذا فات وأخلف بدلا يبقى البيع كما لو قبله أجنبي قبل القبض قلنا هذا إذا وجب البدل بسبب بعد البيع حتى يجعل قيام البدل كقيام الأصل في إبقاء حكم البيع فيه وهنا القيمة تجب في الغصب السابق على البيع بدليل أنه يعتبر(13/19)
ص -11- ... قيمته وقت الغصب ولو تعينا البيع باعتباره كان هذا إثبات حكم البيع في القيمة ابتداء وكذلك لو كان العبد رهنا فباعه الراهن وأبى المرتهن أن يجبره لم يجز البيع وهو موقوف لأن الراهن عاجز عن التسليم فإن حق المرتهن في الحبس لازم ثم في موضع يقول بيع المرهون فاسد وفي موضع يقول جائز والصحيح ما ذكره هنا أنه موقوف وتأويل قوله فاسد يفسده القاضي إذا خوصم فيه وطلب المشتري التسليم إليه ومنع المرتهن ذلك فتأويل قوله جائز إذا اجتازه المرتهن وسلمه إليه وإذا لم يجز المرتهن وفسخه ففيه روايتان ففي إحدى الروايتين ينفسخ البيع حتى لو افتكه الراهن فلا سبيل للمشتري عليه لأن حق المرتهن بمنزلة الملك ومن باع ملك الغير فإن أجازه المالك تم البيع وإن فسخ انفسخ فهذا مثله وفي أصح الروايتين لا ينفسخ بفسخه حتى لو صبر المشتري حتى أفتكه الراهن كان له أن يأخذه ولفظ الكتاب يدل عليه فإنه قال بعد إباء المرتهن وهو موقوف وهذا لأن المرتهن لا حق له في هذا العقد حتى إذا أجازه كان المشتري متملكا على الراهن لا على المرتهن بخلاف المالك فإن هناك إذا أجاز العقد كان المشتري متملكا عليه فكانت له ولاية الفسخ وهنا للمرتهن حق دفع الضرر عن نفسه بالحبس إلى أن يصل إليه دينه وليست له ولاية فسخ العقد إنما كان ذلك إلى القاضي إذا خوصم وعجز البائع عن التسليم فإنه يفسخ البيع لقطع المنازعة فما لم يوجد ذلك كان البيع موقوفا(13/20)
قال: رجل باع سمكا محصورا في أجمة فالبيع باطل وقال ابن أبي ليلى هو جائز إذا كان قد أخذه ثم أرسله في الأجمة لأن بإرساله لا يزول ملكه وإن كان لا يتمكن من أخذه إلا بالصيد ولكنا نستدل بما روي عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا لا تبيعوا السمك في الماء فإنه غرر ثم إن كان لم يأخذه فقد باع ما ليس بمملوك له والتمليك لا يسبق الملك فهو كبيع الطير في الهواء وإن كان قد أخذه ثم أرسله فهو آبق في الماء فبيعه كبيع الآبق وأنه لا يقدر على تسليمه إلا باكتساب سبب يثبت ابتداء الملك به وهو الاصطياد فكان هذا في معنى الأول.
قال: وإن كان في وعاء أوجب يقدر عليه بغير صيد فبيعه جائز عندنا لبقاء ملكه وقدرته على التسليم من غير صيد والمشتري بالخيار إذا رآه وعند الشافعي لا يجوز بيعه وأصله شراء ما لم يره وبيانه يأتي إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كان في بركة يمكن أخذه من غير صيد فإن كان أخذه ثم أرسله فيها فهو كالجب وإن لم يأخذه ولكنه دخل مع الماء فإن سد موضع دخول الماء حتى صار بحيث لا يقدر على الخروج فقد صار آخذا له بمنزلة ما لو وقع في شبكة فيجوز بيعه وإن لم يفعل ذلك لم يجز بيعه لأنه لا يملك السمك بدخوله في البركة ما لم يأخذه ولم يوجد منه الأخذ لا حقيقة ولا حكما.
قال: وإذا اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو غير ذلك فالبيع فاسد والأصل في هذا(13/21)
ص -12- ... الجنس أن من جمع في كلامه بين الإشارة والتسمية فإن كان المشار إليه من خلاف جنس المسمى فالبيع باطل لأن انعقاد العقد بالتسمية فإن ما ينعقد على المسمى وهو معدوم وإن كان المشار إليه من جنس المسمى فالبيع جائز لأن التسمية تتناول ما وقعت الإشارة إليه فكانت الإشارة من يده مؤيدة للتسمية فينعقد العقد بالمشار إليه وهو مال إلا أنه إن كان المشار إليه دون المسمى فللمشتري الخيار لفوات شرطه كما لو اشترط في العبد على أنه كاتب فوجده غير كاتب إذا ثبت هذا فنقول إن كان المشار إليه زجاجا فالبيع فاسد لانعدام المجانسة وإن استهلكه المشتري فعليه قيمته لأنه استهلك ملك الغير بغير إذنه وإن سمى يقوتا أحمر والمشار إليه أصفر فالبيع جائز وللمشتري الخيار لفوات صفة مشروطة وكذلك لو اشترى ثوبا على أنه هروي فإذا هو من صنف آخر فهو فاسد لأن الثياب أجناس مختلفة ولو اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هو جارية فالبيع فاسد عندنا و قال زفر جائز وللمشتري الخيار لأن بني آدم جنس واحد ذكورهم وإناثهم كسائر الحيوان ولو اشترى بقرة على أنها أنثى فإذا هي ثور كان البيع جائزا وكذلك الإبل والبقر والغنم فكما يتفاوت المقصود هنا في بني آدم بين الذكور والإناث يتفاوت هناك يوضحه أنه لو اشترى عبدا على أنه تركي فإذا هو رومي أو سندي جاز البيع وبينهما تفاوت فيما هو المقصود وهو المالية وحجتنا في ذلك أن الذكور والإناث من بني آدم في حكم جنسين لأن ما هو المقصود بأحدهما لا يحصل بالآخر فالمقصود بالجارية الاستفراش والاستيلاد وشيء من ذلك لا يحصل بالغلام فكان التفاوت بينهما في المقصود أبلغ من التفاوت بين الحنطة والشعير وبين الهروي والمروي من الثياب وبه فارق سائر الحيوانات لأن ما هو المقصود بالعين فيهما لا يتفاوت في الذكور والإناث وذلك اللحم أو الانتفاع من حيث الركوب أو الحمل عليه وإنما التفاوت في صفة المقصود لا في أصله فكان جنسا واحدا كذلك ذكر(13/22)
في الأصل والله أعلم.
باب البيوع إذا كان فيها شرط
قال: إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه ولا يهبه ولا يتصدق به فالبيع فاسد عندنا وقال ابن أبي ليلى البيع جائز والشرط باطل و قال ابن سيرين البيع جائز والشرط صحيح وحكي عن عبد الوارث بن سعيد قال حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألته عن البيع بالشرط فقال باطل فخرجت من عنده ودخلت على بن أبي ليلى وسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط باطل فدخلت على بن سيرين وسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت هؤلاء من فقهاء الكوفة وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه فأعاد جوابه فقلت إن صاحبيك يخالفانك فقال لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط فدخلت على بن أبي ليلى فقلت له مثل ذلك فقال لا أدري ما قال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله(13/23)
ص -13- ... تعالى عنها أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله عليه وسلامه: "اشتري واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق" ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق والولاء لمن أعتق" فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك فقال لا أدري ما قالا حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات وشرط له ظهرها إلى المدينة والصحيح ما استدل به أبو حنيفة فإنه حديث مشهور ومطلق النهي يوجب فساد المنهي عنه فأما حديث هشام بن عروة فقد قال أبو يوسف أوهم هشام بن عروة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشترطي لهم الولاء" لأن هذا أمر بالغرور ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولو صح فتأويله اشترطي الولاء عليهم واللام تذكر بمعنى على قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25] أو معناه أعلميهم معنى الولاء فالاشتراط في اللغة الأعلام ومنه أشراط الساعة قال القائل:
فاشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا(13/24)
أي جعل نفسه علما لذلك الأمر وتأويل حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن ذلك لم يكن شرطا في البيع على أن ما جرى بينهما لم يكن بيعا حقيقة وإنما كان ذلك من حسن العشرة والصحبة في السفر والدليل عليه قصة الحديث فإن جابرا رضي الله تعالى عنه قال كانت لي ناقة ثغال فقامت علي في بعض الطريق فأدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بالك يا جابر" فقلت جرى أن لا يكون لي إلا ناقة ثغال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فدعا بماء ورشه في وجه ناقتي ثم قال "اركبها" فركبتها فجعلت تسبق كل راحلة الحديث إلا أن قال "أتبيعني ناقتك بأربعمائة درهم" فقلت هي لك يا رسول الله ولكن من لي بالحمل إلى المدينة فقال صلى الله عليه وسلم: "لك ظهرها إلى المدينة" فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم فلما قدمت المدينة جئت بالناقة إلى باب المسجد ودخلت المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الناقة" قلت بالباب فقال صلوات الله عليه: "جئت لطلب الثمن" فسكت فأمر بلالا رضي الله تعالى عنه فأعطاني أربع مائة درهم فقال صلى الله عليه وسلم: "خذها مع الناقة فيما لك بارك الله لك فيهما" وبهذا يتبين أنه لم يكن بينهما بيع ثم الشرط في البيع على أوجه إما أن يشترط شرطا يقتضه العقد كشرط الملك للمشتري في المبيع أو شرط تسليم الثمن أو تسليم المبيع فالبيع جائز لأن هذا بمطلق العقد يثبت فالشرط لا يزيده إلا وكادة وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر فذلك جائز أيضا كما لو اشترى نعلا وشراكا بشرط أن يحذوه البائع لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة جرحا بينا وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر.
قال فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد لأن الشرط باطل في نفسه،(13/25)
ص -14- ... والمنتفع به غير راض بدونه فتتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط فلهذا فسد به البيع وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه فإن العقد يعجبه أن لا تتناوله الأيدي وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلا فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين.
قال: وإن لم يكن فيه منفعة لأحد فالشرط باطل والبيع صحيح نحو ما إذا اشترى دابة أو ثوبا بشرط أن لا يبيع لأنه لا مطالب بهذا الشرط فإنه لا منفعة فيه لأحد وكان لغوا والبيع صحيح إلا في رواية عن أبي يوسف قال يبطل به البيع نص عليه في آخر المزارعة لأن في هذا الشرط ضررا على المشتري من حيث أنه يتعذر عليه التصرف في ملكه والشرط الذي فيه ضرر كالشرط الذي فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولكنا نقول لا معتبر بعين الشرط بل بالمطالبة به والمطالبة تتوجه بالمنفعة في الشرط دون الضرر.(13/26)
قال: وإذا اشترى عبدا على أنه يعتقه فالبيع فاسد وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن البيع جائز بهذا الشرط وهو قول الشافعي لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة قالت إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك فرضيت بذلك فاشترتها وأعتقتها وإنما اشترتها بشرط العتق وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأن الشراء بشرط الإعتاق متعارف بين الناس لأن بيع العبد سمة متعارف في الوصايا وغيره وتفسيره البيع بشرط العتق ولأن العتق في المبيع قبض حتى إذا أعتق المشتري المبيع قبل القبض صار قابضا والقبض من أحكام العقد فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به في العقد كما لو شرط أن لا يبيع يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسدا فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملائمة ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد وبيع العبد لسمة لا يكون بشرط العتق بل يكون ذلك وعدا من المشتري ثم البيع بعقد مطلقا وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقا ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها فإن استهلكه المشتري فعليه قيمته لأنه قبضه بعقد فاسد فيكون مضمونا بالقيمة عند تعذر رد العين وإن أعتقه فعليه الثمن المسمى في قول أبي حنيفة استحسانا وفي قولهما عليه قيمته وهو القياس لأنه قبضه بعقد فاسد وقد تعذر رده بإعتاقه فيلزمه قيمته كما لو تعذر بيعه أو استهلاكه بوجه آخر يوضحه أنه لو اشتراها بشرط التدبير أو الاستيلاد كانت مضمونة(13/27)
عليه بالقيمة إذا تعذر ردها ثان وفى بذلك الشرط فكذا إذا اشترى بشرط العتق اعتبارا لحقيقة الحرمة بحقيقة العتق وأبو حنيفة استحسن فقال زال المفسد قبل تقرره فيجب الثمن كما لو اشتراه بأجل مجهول ثم أسقطه قبل مضيه.(13/28)
ص -15- ... وبيان ذلك أن الحكم بفساد هذا العقد كان لمخافة أن لا يفي المشتري بالعتق وليكون في الإقدام على التصرف في ملكه مختارا غير مجبر عليه وقد زال هذا المعنى حين أقدم على إعتاقه مختارا وحقيقة المعنى فيه أن هذا الشرط لا يلائم العقد بنفسه ولكن يلائم العقد بحكمه لأن العتق ينهي الملك فإن الملك في بني آدم ثابت إلى العتق فيكون العتق مهينا له وإنهاء الشيء يقرره ولهذا لو اشترى عبدا فأعتقه ثم اطلع على عيب به رجع بنقصان العيب بخلاف ما إذا باعه والدليل عليه أن شراء القريب إعتاق على معنى أنه متمم عليه العتق وهي الملك فكان هذا الشرط ملائما بحكمه للعقد وبصورته غير ملائم لأن الإنسان لا يجبر على إنهاء ملكه بالعتق وبالشرط يجبر عليه فلا يحكم بفساد العقد على الثبات ولكنه موقوف فإن استهلكه بوجه آخر يتقرر الفساد لوجود صورة الشرط دون الحكم وإن أعتقه تتقرر صفة الجواز باعتبار الملائمة بحكم العقد وهو إنهاء الملك به فيلزمه الثمن المسمى وإنما سماه استحسانا لمعنى التوقف فيه في الابتداء ومخالفة صورته معنى بخلاف شرط الاستيلاد والتدبير فالملك به لا ينتهي ومعنى الملائمة باعتبار إنهاء الملك به فلهذا تتعين صفة الفساد هناك وفى بالشرط أو لم يف.
قال: وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضا أو يهب له هبة أو يتصدق عليه بصدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن فالبيع في جميع ذلك فاسد لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة وكل شيء فسد فيه البيع فالمشتري إذا استهلكه فهو ضامن لقيمته بالغة ما بلغت لأن الضمان الأصلي في البيع ضمان القيمة ولهذا كان المقبوض على سوم المبيع مضمونا بالقيمة وقبض الغصب ينوب عن قبض الشراء وإنما يتحول من القيمة إلى المسمى عند صحة السبب وتمامه فإذا فسد السبب بقي الضمان الأصلي كما إذا كان البيع بالخيار فإن البيع يكون مضمونا على المشتري بالقيمة لعدم تمام السبب.(13/29)
قال: ولو اشترى ثوبا على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فالبيع فاسد في القياس وهو قول زفر وفي الاستحسان يجوز وهو قول علماؤنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وجه القياس أنه شرط في البيع إقالة معلقة لخطر عدم النقد ولو شرط إقالة مطلقة فسد به العقد فإذا شرط إقالة معلقة أولى أن يفسد به العقد وهذا الشرط ليس في معنى شرط الخيار لأن هناك لو سكت حتى مضت المدة تم البيع وهنا لو سكت حتى مضت المدة بطل البيع وجواز البيع مع شرط الخيار ثابت بالنص بخلاف القياس فلا يلحق به ما ليس في معناه ولكن تركنا هذا القياس لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فإنه باشر البيع بهذا الشرط وقول الواحد من فقهاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مقدم على القياس عندنا لأن قوله بخلاف القياس كروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يظن به أنه قال: جزافا والقياس لا يوافق قوله فعرفنا أنه قال سماعا ثم هذا الشرط من حيث المقصود كشرط الخيار لأنه إنما يشترط الخيار ليتروى النظر فيه ويكون مخيرا في الأيام الثلاثة بين فسخ العقد وتمامه بهذا الشرط لا يحصل إلا(13/30)
ص -16- ... هذا المقصود والشرع إنما جوز شرط الخيار لهذا المقصود حتى قال لحيان بن منقد: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام".
قال: فإن اشتراه على أنه لم ينقده إلى أربعة أيام فلا بيع بينهما فهذا العقد فاسد عند أبي حنيفة كقوله في شرط الخيار فإن عنده شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام يفسد العقد وعند محمد العقد جائز بمنزلة شرط الخيار عنده فإنه يجوز شرط الخيار مدة معلومة طالت المدة أو قصرت ولم يذكر في الكتاب قول أبي يوسف وفي بعض نسخ المأذون ذكر قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وذكر بن سماعة في نوادره أن هذا قوله الأول فأما قوله الأخير كقول محمد لأن هذا في معنى شرط الخيار وقوله كقول محمد في جواز اشتراط الخيار أربعة أيام فكذلك في هذا الشرط وجه قوله الذي ذكره في المأذون أن القياس ما قاله زفر فإن هذا الشرط من حيث الحكم ليس نظير شرط الخيار ولكن تركنا القياس في ثلاثة أيام لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ففيما زاد على ذلك نأخذ بالقياس وهذا لأن الغرر يزداد بطول المدة وقد يجوز أن يحمل العقد لليسير من الغرر دون الكثير منه ألا ترى أنا نجوز شراء أحد الثياب الثلاثة على أنه بالخيار فيها ثم لا يجوز ذلك في الأربعة لما ذكرنا.
قال: وكل فاسد رده المشتري على البائع بهبة أو صدقة أو بيع فهو متاركة للبيع ويبرأ المشتري من ضمانه لأن الرد بسبب فساد البيع مستحق في هذا المحل بعينه شرعا فعلى أي وجه أتى به يقع من الوجه المستحق كرد المغصوب والودائع وهذا لأنه ممنوع من تمليكه من البائع بسبب مبتدأ مأمور برده لفساد البيع ولا معاوضة بين المنهي عنه ويكره المأمور به فيترك جانب المأمور به في رده عليه.(13/31)
قال: وإن اشترى شيئا وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد وكذلك لو اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل.
قال: ولو اشترى شيئا على أن يرهنه بالثمن رهنا أو على أن يعطيه كفيلا بنفسه أو بالثمن فهذا العقد فاسد والكلام في هذين الفصلين ينقسم على أربعة أقسام أما في شرط الكفيل سواء سمى الكفيل أو لم يسمه فالعقد فاسد إذا كان الكفيل غائبا عن مجلس العقد لأنه لا يدري أيكفل أم لا فيفسد العقد لمعنى الغرر ولأن جواز هذا العقد يتعلق بقبول الكفيل الكفالة فمتى شرط قبوله إذا كان غائبا عن مجلس العقد لم يجز العقد وإن قبله بعد المجلس كالمشتري فإن كان الكفيل حاضرا أو حضر وقبل قبل أن يتفرقا جاز البيع استحسانا وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر لأن الكفالة عقد آخر ليس من حقوق العقد(13/32)
ص -17- ... في شيء واشتراط هذا عقد آخر في عقد البيع مفسد للعقد إذا كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين وجه الاستحسان أن المقصود بالكفالة التوثق بالثمن في معنى اشتراط زيادة وصف الجودة في الثمن ولو اشترط في البيع ثمنا جيدا كان البيع جائزا ثم تمام هذا العقد بقبول الكفيل فإنه بقبوله ينتفي معنى الغرر فإذا وجد ذلك في المجلس كان هذا بمنزلة انتفاء الغرر عند العقد وشرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري فإن الحوالة تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي وجوب العقد فكان مفسدا للعقد.(13/33)
قال: وإن شرط أن يرهنه بالثمن رهنا فإن كان الرهن مجهولا فالعقد فاسد لأن قبول العقد في الرهن لا بد منه عند هذا الشرط وما يشترط قبول العقد فيه لا بد أن يكون معلوما ولكن لو أوفاه الثمن صح العقد لأن المفسد قد زال قبل تقريره لأن شرط الرهن للاستيفاء وقد استوفاه حقيقة وإن شرط أن يرهنه هذا المبتاع بعينه ففي القياس العقد فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد وفي الاستحسان يجوز هذا العقد لأن المقصود بالرهن الاستيفاء فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن وكذلك إن سمى مكيلا أو موزونا موصوفا بغير عينه وجعله رهنا بالثمن لأن قبول ذلك في البيع قبول صحيح ألا ترى أنه يصلح أن يكون ثمنا فكذلك يصلح اشتراطه رهنا بالثمن فإن أبى المشتري أن يرهنه ما سمى لم يجبر عليه لأن تمام الرهن بالقبض ولم يوجد القبض وعلى قول ابن أبي ليلى يجبر عليه لأنه ثبت في ضمن عقد لازم فيصير الوفاء به مستحقا كالعدل في الرهن إذا سلطه على البيع كان مجبرا عليه ولا يملك الراهن عزله بخلاف التوكيل بالبيع مقصودا ولكنا نقول عقد الرهن ليس من حقوق البيع فلا بد في إتمامه من اتحاد شرط العقد وإتمامه بالقبض فما لم يوجد لا يلزم حكم الرهن ألا ترى أن يد الاستيفاء لا تثبت له إلا بالقبض فكذا اشتراطه في العقد لا يلزم إلا بالقبض ولكن إن أبى المشتري أن يرهنه فللبائع أن يفسخ العقد لأن رضاه بالبيع كان بهذا الشرط فبدونه لا يكون راضيا وإذا لم يتم رضاه كان له أن يفسخ.(13/34)
قال: وإن باع شيئا من الحيوان واستثنى ما في بطنه فالبيع فاسد لأن ما في البطن لا يجوز إيجاب البيع فيه مقصودا فلا يجوز استثناؤه مقصودا كاليد والرجل وهذا لأن الجنين ما دام متصلا بالأم فهو في حكم الأجزاء ألا ترى أنها تقطع بالمقراض عنها وأجزاء الحيوان لا تقبل العقد مقصودا ولا يكون مقصودا بالاستثناء وهذا لأن الجنين في البطن مجهول ولا يدري أذكر هو أم أنثى واحدا أو مثنى فإذا كان المستثنى مجهولا فالمستثنى منه يصير مجهولا أيضا وجهالة المعقود عليه تمنع جواز العقد وكذلك إن وقع العقد على عدل بر أو أغنام أو نخيل واشترط أن يرد المشتري أحد العينين أو يأخذ البائع إحداهن بغير عينها فالبيع فاسد لأن(13/35)
ص -18- ... المستثنى مجهول وبه يصير المستثنى منه مجهولا أيضا وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة لأنها متفاوتة في المالية فيفسد البيع.
قال: وإن اشترى شاة على أنها حامل فالعقد فاسد لأن الحبل في البهائم وهي زيادة مجهولة فإنه لا يدري أن انتفاخ بطنها من ريح أو ولد وإن الولد حي أو ميت ذكر أم أنثى واحدا أو مثنى والمجهول إذا ضم إلى معلوم يصير الكل مجهولا وكذلك إن شرط أنها تحلب كذا فالبيع فاسد لأنه لا يدري لعل الشرط باطل يعني أن اشتراط مقدار من البيع ليس في وسع البائع إيجاده ولا طريق إلى معرفته فكان شرطا باطلا فيفسد به العقد.
قال: وإن شرط أنها حلوب أو لبون لم يذكر هذا الفصل في الأصل وقد ذكر الكرخي أن هذا ما لو شرط أنها تحلب كذا وكذا سواء لأن اللبن زيادة مال منفصل ولا يكون لبونا حلوبا إلا به وتلك الزيادة مجهولة على ما مر فصار كما لو اشترى على أنها حامل وذكر الطحاوي أن هذا شرط وصف مرغوب فيه فلا يفسد العقد به كما لو شرط في العبد أنه كاتب أو خبار ولأن هذا يذكر على سبيل بيان الوصف لا على سبيل الشرط لأن هذا وصف مرغوب فيه كما إذا اشترى فرسا على أنها هملاج أو اشترى كلبا على أنه صائد فإنه يجوز كذا هنا وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في الحلوب بخلاف ما إذا اشترط أنها تحلب كذا لأن الفساد باشتراط مقدار لبن في الضرع لا طريق إلى معرفته.
قال: وكذلك إن اشترى سمسما أو زيتونا على أن فيهما من الدهن كذا أو اشترى حنطة بشرط أن يطحن منها كذا مختوم دقيق فهذا شرط باطل لا طريق للبائع إلى معرفته ولا يقدر على الوفاء به فيكون مفسدا للعقد.
قال: ولو باع جارية وتبرأ من الحبل وكان بها حبل أو لم يكن فالبيع جائز لأن الحبل في بنات آدم ألا ترى أن للمشتري حق الرد به فإنما تبرأ البائع من العيب وذلك غير مفسد للعقد(13/36)
قال: وليست البراءة في هذا كالبهائم قيل معناه كالشرط في البهائم فإن الحبل في البهائم زيادة فذكره في العقد شرط زيادة مجهولة وفي الآدمية عيب فذكره يكون تبريا من العيب ولا يكون شرط زيادة مجهولة وقيل معناه إذا ذكر الحبل في الجارية على وجه التبري عرفنا أن مراده العيب فلا يفسد به العقد وإذا ذكره على وجه الشرط عرفنا أن مراده شرط زيادة مجهولة فيفسد به العقد وقد ذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا اشترى جارية على أنها حامل فالبيع جائز إلا أن يظهر المشتري أنه يريدها للطؤرة فحينئذ يفسد به العقد لعلمنا أنه قصد الحبل بالشرط وهو مجهول وعلى هذا يحكى عن الهندواني أنه كان يقول إن شرط الحبل إذا وجد من البائع لم يفسد به العقد وأن شرطه المشتري يفسد لأن البائع إنما يذكر الحبل على وجه بيان العيب عادة والمشتري يذكر على وجه اشتراط الزيادة.
قال: رجل اشترى جارية بجاريتين إلى أجل فالعقد فاسد لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال ولأن الجنس بانفراده يحرم النساء فإن قبض الجارية فذهبت عينها(13/37)
ص -19- ... عنده من عمله أو من غير عمله فللبائع أن يأخذها ويضمنه نصف قيمتها لأن العين من الآدمي نصفه وفوات النصف في ضمان المشتري كفوات الكل ولو هلكت كان عليه ضمان قيمتها سواء هلكت بفعله أو بغير فعله فكذلك إذا ذهب نصفها وهذا لأنها صارت مضمونة بالقبض والأوصاف تضمن بالقبض ألا ترى أنها تضمن بالغصب فإن الجارية المغصوبة إذا ذهبت عينها عند الغاصب أخذها المغصوب منه مع نصف قيمتها ولو فقأ عينها غيره فإن البائع يأخذها لأن فسخ العقد فيها مستحق شرعا فما دامت قائمة كان على البائع أن يأخذها ثم يتخير في نصف قيمتها فإن شاء ضمن ذلك الفاقئ وإن شاء ضمن المشتري لأن بالأخذ ينفسخ العقد فيها ويعود إلى قديم ملك البائع فجناية الفاقئ كانت على ملكه فله أن يضمنه نصف قيمتها وإن شاء ضمن المشتري ذلك لأنها كانت مضمونة عليه بالقبض بجميع أجزائها فكانت كالمغصوبة في هذا الحكم فإن ضمن المشتري يرجع المشتري بذلك على الفاقئ لأن ملكه تقرر في ذلك الجزء حين ضمن بدله وهو كالغاصب في ذلك وإن ضمن الفاقئ لم يرجع على المشترى بشيء لأنه ضمن بجنايته فأما إذا قتلها في يد المشتري قاتل فللبائع أن يضمن المشتري قيمتها ولا سبيل له على القاتل بخلاف المغصوبة فإن المغصوبة إذا قتلها إنسان في يد الغاصب يتخير المغصوب منه إن شاء ضمن الغاصب قيمتها وإن شاء ضمن القاتل بخلاف المشتراة شراء فاسدا في يد المشتري لأن المغصوبة على ملك المغصوب منه فالقاتل من القاتل جناية على ملكه فيتخير في التضمين إن شاء ضمن الغاصب بالغصب أو القاتل بالقتل وهنا قد صارت الجارية مملوكة للمشتري بالقبض وبالقتل يتعذر فسخ البيع فيها ولا يعود إلى ملك البائع فلهذا تعين حق البائع في تضمين المشتري وليس له أن يضمن القاتل وفي فقء العين ما تعذر فسخ العقد فيها وإذا انفسخ العقد فيها بالرد كانت جناية الفاقئ على ملك البائع فلذلك يتخير البائع إن شاء ضمن القاتل بالقتل وإن شاء ضمن(13/38)
المشتري بالقبض كما في الغصب ثم إذا ضمن البائع المشتري قيمتها في القتل كان للمشتري أن يضمن القاتل قيمتها لأنه أتلف ملكه فيها بالجناية فكان له أن يضمنه قيمتها.
قال: فلو كانت الجارية كما هي غير أنها ولدت ولدين فمات أحدهما أخذ البائع الجارية والولد الباقي لأنها في يده كالمغصوبة مستحقة الرد بزوائدها المتصلة والمنفصلة وهذا لأن الولد متولد من العين ووجوب الرد كان حكما متقررا فيها فيسري إلى الولد ولأن ملك الأصل يسري إلى الولد والثابت للمشتري في الأصل كان ملكا مستحق الإزالة بالرد على البائع فثبت مثله في الولد وليس له أن يضمنه قيمة الميت بمنزلة ولد المغصوب إذا مات في يد الغاصب من غير صنعه لم يضمن لانعدام الصنع منه فهذا مثله.
قال: فإن كانت الولادة قد نقصتها وفي الولد الثاني وفاء بجميع ذلك النقصان فلا شيء على المشتري لرده ما ينجبر به النقصان فإن نقصان الولادة ينجبر بالولد عندنا وقد بينا ذلك في المغصوبة وكذلك في المشتراة شراء فاسدا والولد الميت صار كأن لم يكن فكأنها ولدت ولدا واحدا.(13/39)
ص -20- ... قال: وإن لم يكن في الولد الباقي وفاء النقصان فعلى المشتري تمام ذلك لأن انجبار النقصان بالولد لصفة المالية وإنما ينجبر بقدر مالية الولد وما زاد على ذلك ليس بإزائه ما يجبره فعلى المشتري ضمان ذلك.
قال: وإن كان الميت مات من فعل المشتري أو منعه بعد طلب البائع حتى مات صار المشتري ضامنا بقيمته يردها مع الأم لأن الولد إنما لم يكن مضمونا عليه لانعدام الصنع الموجب للضمان فيه وقد وجد ذلك بالإتلاف أو المنع بعد الطلب ثم رد قيمة الولد كرد عينه حتى إذا كان فيها وفي مالية الحي وفاء بالنقصان فلا شيء على المشتري وإن لم يكن فيها وفاء بنقصان الولادة فعلى المشتري تمام ذلك لأن الانجبار بقدر المالية على ما مر.(13/40)
قال: ولو كانت الأم هي الميتة والولدان حيان أخذ البائع الولدين وقيمة الأم يوم قبضه المشتري وهكذا القول في كل بيع فاسد لأن حق الاسترداد ثابت للبائع في الولدين فلا يسقط ذلك بهلاك الأم كالمغصوبة إذا ولدت ثم ماتت كذلك هنا وإن كان ضامنا قيمتها للبائع حين قبضها لأنها دخلت في ضمانه بالقبض وتعذر ردها فيجب ضمان قيمتها والولد تبع فلا يقوم مقام الأصل في حق الرد حتى لا يسقط برد الولدين ضمان قيمة الأم وإن كان في ماليتهما وفاء بذلك بخلاف نقصان الولادة فالفائت هناك وصف هو بيع ثم الخلافة هناك باتحاد السبب فإن سبب النقصان والزيادة واحدة وهذا لا يوجد هنا فإن موت الأم لم يكن بالولادة ولو كان بالولادة فالولادة من حيث أنها موت لا توجب الزيادة ولدا ولذا لا ينجبر قدر النقصان بالولدين بعد موت الأم حتى يضمن كمال قيمتها لأن هنا لا يحتاج إلى جبر النقصان بعد موت الأم لأن الملك يثبت للمشتري بعد القبض على ما ذكرنا وتقرر القيمة عليه من حين قبضها فإذا مات تبين أن ذلك النقصان حاصل في ملك المشتري فلا تقع الحاجة إلى جبر هذا النقصان بالولد بخلاف ما إذا بقيت الأم لأنه أمكن فسخ العقد فيها بالرد فإن ردها عادت إلى قديم ملك البائع فتبين أن النقصان حصل فوقعت الحاجة إلى انجبار النقصان بخلف قائم مقامه وهو الولد فلهذا افترقا.(13/41)
قال: والبيع الفاسد ينعقد موجبا للملك إذا اتصل به القبض عندنا وعند الشافعي لا ينعقد للملك وفي الحقيقة هذه المسألة تنبني على مسألة من أصول الفقه وهو أن النهي عن العقود الشرعية لا يخرجها من أن تكون مشروعة عندنا فإن ذلك موجب النسخ والنهي عن النسخ وعندنا يخرجها من أن تكون مشروعة بمقتضى النهي فإن صفة القبح من ضرورة النهي كما أن صفة الجنس من ضرورة الأمر والمشروع ما يكون مرضيا والقبيح ما لا يكون مرضيا فينعدم أصل العقد لضرورة النهي ومقتضاه ولكنا نقول موجب النهي الانتهاء على وجه يكون المنتهي مختارا فيه كما أن موجب الأمر الائتمار على وجه يكون المؤتمر مختارا فيه فإن استحقاق الثواب والعقاب ينبني على ذلك وذلك لا يكون إلا بعد تقرر المشروع مشروعا باعتبار هذا الأصل ثم يخرج المقتضى عليه بحسب الإمكان أولى من إعلام المقضي(13/42)
ص -21- ... بالمقتضى وهذه في أصول الفقه فأما التخريج هنا على الأصل المتفق عليه وهو أن النهي متى كان لمعنى في غير المنهي عنه فإنه لا يعدم المشروع كالنهي عن البيع وقت النداء وإن كان المنهي عنه بعدمه كالنهي عن بيع المضانين والملاقيح والشافعي يقول في البيوع الفاسدة النهي لمعنى في غير المنهي عنه ولهذا أفسد البيع ويتضح هذا في البيع بالخمر فالبيع مبادلة مال متقوم بمال متقوم والخمر ليس بمال متقوم حتى لا يملك بالعقد وإن قبض فلا ينعقد موجبا حكمه فعرفنا أنه غير منعقد في حق حكمه وهو الملك والدليل عليه أن البيع موجب للملك بنفسه ثم الفاسد منه لا يكون موجبا الملك بنفسه فعرفنا أنه ليس ينعقد في حكم الملك وثبوت الضمان بالقبض ليس من حكم انعقاد العقد بالمقبوض على سوم الشراء مضمون بالقيمة ولا عقد وإن كان منعقدا بصفة الفساد لما منعت ثبوت الملك بالبيع قبل القبض فكذلك بعده لأن الفساد قائم بعده ولأن بالقبض يزداد الفساد والحرمة وكل ما يمنع ثبوت الملك بالبيع قبل القبض يمنع بعد القبض كخيار الشرط وهذا في معناه لأن مع خيار الشرط لا يتم الرضا من البائع ومع الفساد كذلك فإنه لو صار مملوكا إنما يصير مملوكا بالقيمة والبائع لم يرض بهذا ولهذا ثبت خيار الفسخ لكل واحد منهما ولأن هذا عقد معاوضة فالفاسد منه لا ينعقد موجبا للملك كالنكاح وهذا لأن الملك مشروع محبوب فيستدعي سببا مرضيا شرعيا بخلاف الكتابة الفاسدة حيث انعقد العقد مع صفة الفساد ففيها معنى المعاوضة واليمين لأنه تعليق العتق بشرط الأداء والحرمة لا تمنع صحة التعليق كما لو قال: إن زنيت فأنت حرة فإنما ينزل العتق هناك لمعنى التعليق دون المعاوضة.(13/43)
وحجتنا في ذلك من حيث التخريج على الأصل المجمع عليه أن يقول هذا النهي لمعنى في غير المنهي عنه لأن البيع ينعقد بالإيجاب والقبول في محل قابل له ولا يختل شيء من ذلك بالشرط الفاسد وانعقاد العقد يوجب ركنه من أهله والنهي كان للشرط وهو وراء ما يتم العقد به وكذلك النهي عن الربا للفضل الخالي عن المقابلة وهو وراء ما يتم به العقد فلا ينعقد فيه أصل العقد والعقد لا ينعقد شرعا إلا موجبا حكمه لأن الأسباب الشرعية تطلب لأحكامها فإذا كانت خالية عن الحكم تكون لغوا ولكن الحكم متصل بها تارة ويتأخر أخرى كالهبة فإنها عقد تمليك ثم الملك بها يتأخر إلى القبض قوله بأن البيع يفسد به قلنا لأن النهي اتصل بوصفه لأن الخيار والأجل لو كان جائزا كان عمله في تغيير وصف العقد لا في تغيير أصله فكذلك إذا كان فاسدا يكون عمله في تغيير وصف العقد حتى يصير العقد فاسدا وليس من ضرورة انعدام الوصف انعدام الأصل بل من ضرورته انعقاد الأصل فالصفة لا تكون بدون الموصوف وهكذا نقول في النكاح فإنه ينعقد مع الفساد ولهذا يتعلق به وجوب المهر والعدة والنسب عند الدخول إلا أنه لا يثبت الملك به لأن الحكم يثبت بحسب النسب فالعقد الفاسد إنما يثبت ملكا حراما وليس في النكاح إلا ملك الحل وبين الحل والحرمة منافاة فكان من ضرورة الفساد هناك انتفاء الملك وهنا بالبيع الفاسد إنما يثبت ملك(13/44)
ص -22- ... حرام. ولهذا لو كانت جارية لا يحل له وطؤها وليس من ضرورة ثبوت الحرمة انتفاء ملك اليمين كالعصير يتخمر يبقى مملوكا وإن كان حراما وكشراء الرجل أخته من الرضاع فيملكها وإن كانت حراما عليه فأثبتنا الملك لهذا ولكن العقد بصفة الفساد يضعف فيتأخر الحكم إلى انضمام ما يقوم إليه وهو القبض كعقد التبرع ولأنه لو ثبت الملك قبل القبض يثبت بغير عوض فإن المسمى لا يجب للفساد والضمان لا يجب إلا بالقبض فلهذا تأخر الملك إلى ما بعد القبض وهكذا نقول في البيع بشرط الخيار فإنه انعقد مفيدا لحكمه ولكنه تأخر ثبوت الحكم إلى سقوط الخيار على أن ذلك في معنى المعلق بالشرط لأنه يقول على أني بالخيار والمتعلق بالشرط مقدم قبل الشرط ألا ترى أنه تعذر أعمال التعليق في أصل السبب فيجعل عاملا في الحكم وليس من ضرورة الفساد انعدام العقد شرعا كالإحرام يفسد بالجماع ويبقى أصله والطلاق في حالة الحيض حرام شرعا ويكون مفيدا بحكمه والظهار حرام شرعا ثم ينعقد موجبا حكمه والدليل عليه أن المقبوض يصير مضمونا والضمان إنما يجب بطريق الجبران أو بالعقد وهنا وجوب الضمان ليس بطريق الجبر لأنه يقبضه بإذن المالك فعرفنا أن وجوب الضمان بالعقد وهكذا نقول في المقبوض على سوم البيع أنه مضمون بالعقد ولكن على وجه وهو أن يجعل الموعود من العقد كالمتحقق وليس بينهما عقد موجود هنا فعرفنا أن الضمان باعتبار العقد المتحقق وإذا ثبت هذا في البيع مع الشرط الفاسد فكذلك في الربى لأن الفساد يكون لمعنى في وصف العقد فإن بالفضل يصير البيع رابحا وكذلك في البيع بالخمر فإن ركن العقد المالية في البدلين وبتخمر العصير لا تنعدم المالية وإنما ينعدم التقوم شرعا فإن المالية تكون بكون العين منتفعا بها وقد أثبت الله تعالى ذلك في الخمر بقوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[البقرة:219] ولأنه كان مالا متقوما قبل التحريم وإنما ثبت بالنص حرمة التناول ونجاسة العين وليس من(13/45)
ضرورته انعدام المالية كالسرقين إلا أنه فسد تقومه شرعا لضرورة وجوب الاجتناب عنه بالنص ولهذا يكون مالا في حق أهل الذمة فانعقد العقد بوجود ركنه في محله بصفة الفساد ولكن الخمر لا يملك بالقبض لأنه غير متقوم شرعا فيملك بأدائه لانعقاد العقد موجبا الملك فيه بخلاف البيع بالميتة والدم فذلك ليس بمال في حق أحد فلانعدام ركن العقد في محله لا ينعقد العقد.
قال: ولو كان المشتري أعتق الجارية التي اشتراها بعقد فاسد بعد قبضه إياها أو باعها أو أمهرها أو وهبها وسلمها أو دبرها أو كاتبها أو استولدها جاز جميع ذلك لأنه تصرف في ملكه وهذا التعليل نص عليه محمد في كتاب الشهادات في نظير هذا قال لأنه مالك رقبتها وهنا قال: لأن البائع سلطه عليها وهو إشارة إلى ما قلنا لأن التمليك تسليط على التصرف فصار كما لو سلطه على الإعتاق نصا بأن قال: أعتقتها ألا ترى أنه ذكر في كتاب الاستحسان إذا اشترى طعاما حل له أن يتناول من ذلك الطعام لأن البائع سلطه على ذلك فلما كان في العقد الجائز يعتبر التسليط في حق تناول الطعام فكذا في حق الفاسد ولهذا قلنا إنه لا يحل(13/46)
ص -23- ... له أن يطأها لأن الوطء مما لا يستباح بصريح التسليط فكذلك لا يستباح به دلالة ويعود التصرف باعتبار أصل الملك دون صفة الحل وقد ثبت أصل الملك فيثبت التسليط على التصرف ثم قد تعذر رد عينها فيلزمه رد قيمتها وإنما تعذر الرد باعتبار هذه التصرفات نحو البيع والهبة وما أشبه ذلك لأن المشتري شرا فاسدا لما باع من غيره وسلمه إليه تعلق بهذا العين حق المشتري الثاني وحق الله تعالى من حيث فسخ العقد بالرد على البائع الأول وحق الله تعالى مع حق العبد إذا اجتمعا تقدم حق العبد لا تهاونا بحق الله تعالى ولكن الله تعالى أغنى والعفو منه أرجى بخلاف المشتري من الغاصب لأنه تعلق به حق المشتري وحق المغصوب منه وكل واحد من الحقين حق العبد فترجح حق المغصوب منه لأنه أسبق.
قال: وليس عليه في الوطء مهر وفي كتاب السرب يقول وعليه العقر قبل تأويل المسألة إذا لم يستولدها بالوطء حتى ردها على البائع فإن بردها ينفسخ الملك من الأصل فتبين أن الوطء صادق ملك الغير فيلزمه العقر بالوطء وهنا قال: استولدها وبالاستيلاد يتقرر ملكه فإنما وطئها وهي مملوكة له فلا يلزمه العقد بذلك وقيل ما ذكر هنا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وما ذكر هناك قول محمد وأصله فيما ذكر هشام أنها لو زادت في يد المشتري في بدنها ثم أعتقها فعليه ضمان قيمتها وقت القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد وقت العتق فلما كان محمد ثبت حق البائع في الزيادة ويجعلها مضمونة على المشتري بالإتلاف فكذلك المستوفي بالزيادة في حكم زيادة هي ثمرة ومن أصلها أن الزيادة تكون في يد مضمونة على المشتري بالإتلاف فكذلك المستوفي بالوطء فلهذا لا مهر عليه.(13/47)
قال: وإن رهنها فعليه قيمتها لأن عقد الرهن إذا اتصل به القبض يكون لازما في حق الراهن فيثبت به عجزه عن رد العين فلهذا لزمته قيمتها وإن افتكها قبل أن يضمنه القاضي قيمتها ردها عليه لأن المانع قد زال قبل تحول حق البائع إلى القيمة وكذلك إن عجزت عن الكتابة لأن المانع حق المكاتب وقد سقط قبل أن يتحول الحق إلى القيمة فإن التحول إنما يكون بقضاء القاضي فكذلك إن رجع في الهبة بقضاء أو بغير قضاء ردها على البائع لأنه يعود إليه قديم ملكه في الوجهين فكذلك إن رد عليه بعيب قبل أن يقضي القاضي عليه بالقيمة فإن ذلك كله يمنع قضاء القاضي بالقيمة فإن كان ذلك كله بعد قضاء القاضي بالقيمة فقد تم تحول الحق إلى القيمة فلا يعود في العين بعد ذلك كما لو أبق المغصوب فقضى القاضي بقيمته على الغاصب ثم عاد.
قال: ولو كان أجرها فله أن ينقص الإجارة ويردها لأن الإجارة تنفسخ بالأعذار وقيام حق الشرع في الرد لفساد السبب منه أقوى الأعذار فتنفسخ الإجارة ألا ترى أن المشتري لو أجر المبيع ثم وجد به عيبا كان له أن ينقص الإجارة ليرده فهذا أولى.
قال: وإن اشترى الرجل شيئا إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء أو إلى جذاذ(13/48)
ص -24- ... النخل أو رجوع الحاج فهذا كله باطل بلغنا نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البيع إلى العطاء فإن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تجيز البيع إلى العطاء وابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يفسد ذلك وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى أخذ بقول عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: البيع جائز والمال حال لأن العقد لما لم يكن صالحا للأجل الذي ذكره لغى ذكره فأما عائشة كانت تقول وقت خروج العطاء معلوم بالعرف لا يتأخر الخروج عنه إلا نادرا فكان هذا بيعا بأجل معلوم ولكنا أخذنا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن العطاء فعل العباد قد يتقدم وقد يتأخر بحسب ما يبدوا لهم والآجال بالأوقات دون الأفعال قال الله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:189] ثم الشرط في البيوع ببدل مؤجل إعلام الأجل كما قال صلى الله عليه وسلم في السلم: "إلى أجل معلوم" وإعلام الأجل يكون بما لا يتقدم ولا يتأخر من الأيام والشهور فأما ما يتقدم ويتأخر من أفعال العباد يكون مجهولا وكذلك الحصاد فإنه من أفعالنا وقد يتقدم أو أنه قد يتعجل الحر وقد يتأخر إذ أبطاء البرد والدياس وجذاذ النخل كذلك ورجوع الحاج فعله قد يتقدم وقد يتأخر.(13/49)
قال: فإن أبطل المشتري الأجل الفاسد ونقد الثمن في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس جاز البيع عندنا استحسانا وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى: لا يجوز البيع لأنه انعقد فاسدا وتصحيح العقد الفاسد في استقباله كالنكاح بغير شهود لا ينقلب صحيحا بالإشهاد والنكاح إلى أجل لا ينقلب صحيحا بإسقاط الأجل ودليل فساد العقد أن المبيع مضمون على المشتري بالقيمة لو هلك في يده وأن كل واحد منهما يتمكن من فسخ العقد بغير رضاء صاحبه وأن للبائع أن يسترده بزوائده المتصلة والمنفصلة ولكنا نقول المانع من صحة البيع زال قبل تقرره فيصح البيع كما لو باع فصا في خاتم أو جذعا في سقف ثم نزعه وسلمه إلى المشتري البيع كان صحيحا وتحقيق هذا الكلام أن نفس الأجل غير مفسد للبيع وإنما المفسد جهالة وقت الحصاد وذلك غير موجود في الحال فالشتاء ليس زمان الحصاد بيقين ولكنه وصل ذلك الزمان بما قبله في الذكر ولأجله فسد العقد وهذا اتصال يعرض للفصل فإذا أسقطه مجيء أوان الحصاد فقد تحقق الانفصال فبقي العقد صحيحا كما في الجذع فإنه عين مال متقوم ولكن لاتصاله بالسقف وللضرر في نزعه كان لا يصح البيع فإذا نزعه زال ذلك المعنى كذا هذا حتى لو جاءه زمان الحصاد وتحقق الاتصال على وجه لا يمكن فصله بتقرر الفساد وهذا بخلاف النكاح بغير شهود لأن المفسد هناك انعدام شرط الجواز ولا يزول ذلك بالإشهاد بعد العقد والنكاح إلى أجل متعة والمتعة عقد آخر سوى النكاح وهذا بخلاف البيع إلى هبوب الريح وأمطار السماء لأن ذلك ليس بأجل فالأجل ما يكون منتظر الوجود وهبوب الريح وإمطار السماء قد يتصل بكلامه فعرفنا أنه ليس بأجل بل هو شرط فاسد ولأجله فسد العقد وهذا بخلاف ما إذا باع بألف وبرطل من خمر فإن ذلك العقد ينقلب صحيحا عندنا إذا اتفقا على إسقاط الخمر نص عليه في آخر الصرف إلا أن هناك لا ينفرد به(13/50)
ص -25- ... البائع لأنه تصرف في البدل فلا يتم إلا بهما وهنا ينفرد به من له الأجل لأنه خالص حقه فيسقط بإسقاطه
قال: وإن اشترى إلى النيروز أو إلى المهرجان فهو فاسد أيضا لأنه ليس من آجال المسلمين ولأنهم لا يعرفون وقت ذلك عادة وإن كان معلوما عند المتعاقدين فهو جائز بمنزلة الأهلة لأن الشرط إعلام المتعاقدين الأجل بينهما وكذلك إلى الميلاد قيل المراد وقت نتاج البهائم وذلك قد يتقدم وقد يتأخر بمنزلة الحصاد وقبل ولادة امرأة بعينها هي حبلى وقد يتقدم وقد يتأخر وقبل وقت ولادة عيسى عليه السلام وذلك غير معلوم عند المسلمين وكذا إلى صوم النصارى لأن المسلمين لا يعرفون وقت ذلك وقد يتقدم وقد يتأخر وكذا إلى فطر النصارى قبل أن يشرعوا في صومهم لأن ذلك قد يتقدم وقد يتأخر بحسب شروعهم في الصوم إلا أن يكون ذلك معلوما عند المتعاقدين على وجه لا يتقدم ولا يتأخر وإن اشتراه إلى فطر النصارى بعد ما شرعوا في الصوم جاز لأن مدة صومهم معلومة بالأيام فإذا شرعوا في الصوم صار وقت فطرهم معلوما.
قال: وإذا اشترى شيئا إلى أجلين وتفرقا عن ذلك لم يجز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرطين في بيع وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز ولا بأس بطيلسان كردي بطليسانين حواريين إلى أجل لأنهما جنسان باختلاف الصنعة والمقصود وكذا لا بأس بمسح موصلي بمسحين ساريين إلى أجل وكذلك لا بأس بقطيفة يمانية بقطيفتين كرديتين إلى أجل وهذا مبني على الأصل الذي بينا أن اختلاف الصنعة والمقصود تختلف باختلاف الجنس وإن كان الأصل واحدا وحرمة النساء لا تثبت إلا باعتبار أحد الوصفين والله أعلم.
باب الاختلاف في البيوع(13/51)
قال رحمه الله تعالى: إذا اشترى سمنا أو غيره في زق فوزنه ثم جاء بالزق ليرده فقال البائع ليس هذا بزقي وقال المشتري بل هو زقك فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الزق أمانة في يد المشتري والقول في تعيين الأمانة قول الأمين وإن كان مضمونا في يده كان القول في تعيينه أيضا قوله كالمغصوب ولأن حقيقة الاختلاف بينهما في مقدار ما قبض من المعقود عليه فإن ذلك يختلف باختلاف وزن الزق فالبائع يدعي الزيادة فعليه البينة والمشتري منكر للزيادة فالقول قوله مع يمينه.
قال: وإن اشترى عبدين فقبض أحدهما ومات عنده ومات الآخر عند البائع ثم اختلفا في قيمة المقبوض وفي قيمة الآخر فالقول قول المشتري مع يمينه لأن حاصل اختلافهما في مقدار ما قبضه المشتري فالبائع يقول قبضت ثلثي المعقود عليه فإن قيمة المقبوض ألف وقيمة الآخر خمس مائة والمشتري ينكر ذلك ويقول ما قبضت إلا ثلث المعقود عليه فإن قيمة المقبوض خمسمائة وقيمة الآخر ألف فالقول قول المشتري مع يمينه لإنكاره القبض فيما زاد(13/52)
ص -26- ... على الثلث ألا ترى أنه لو اشترى كر حنطة فقبض بعضه وهلك الباقي عند البائع فقال المشتري قبضت منك ثلثه و قال البائع نصفه كان القول قول المشتري مع يمينه ولو كان المشتري قبض العبدين فمات أحدهما عنده وجاء بالآخر يرده بالعيب فاختلفا في قيمة الميت كان القول قول البائع مع يمينه لأن المشتري هنا قبض جميع المعقود عليه ثم وقع الاختلاف بينهما في مقدار ما رده بالعيب فالمشتري يدعي الزيادة فيه والبائع ينكره فكان القول قول المنكر مع يمينه يوضح الفرق نحن نعلم أن الثمن كله لم يتقرر على المشتري وإنما الاختلاف بينهما في مقدار ما تقرر من الثمن على المشتري فالبائع يدعي في ذلك زيادة والمشتري منكر ردهما اتفقا أن جميع الثمن متقرر على المشتري بالقبض ثم الاختلاف بينهما في مقدار ما سقط عنه بالرد فالمشتري يدعي زيادة في ذلك والبائع منكر فكان القول قوله مع يمينه ويقسم الثمن على قيمة الذي يريد رده غير معيب وعلى قيمة الميت كما أقر به البائع لأن الانقسام على قيمة المبيع كما دخل في العقد وقد دخل في العقد غير معيب ولو أقاما جميعا البينة على قيمة الميت أخذت بينة البائع أيضا لأنها مثبتة الزيادة في المشهود به وهو قيمة الميت والمثبت للزيادة من البينتين يترجح.
قال: وإذا اختلف البائع والمشتري في الثمن والسلعة قائمة في يد البائع أو المشتري فإنهما يتحالفان ويترادان استحسانا وفي القياس القول قول المشتري لأنهما اتفقا على أصل البيع وادعى البائع زيادة في حقه وهو الثمن والمشتري منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر" ولكن تركنا القياس بالسنة والمروي في الباب حديثان.
أحدهما حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلفا المتبايعان والسلعة قائمة بعينها فالقول ما يقوله البائع ويترادان".(13/53)
والثاني حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" فالحديث صحيح مشهور فيترك كل قياس بمقابلته وكان أبو حازم القاضي يقول إن كانت السلعة في يد البائع فالتحالف بطريق القياس لأن كل واحد منهما يدعي حقا لنفسه على صاحبه فإن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري يدعي وجوب تسليم السلعة إليه عند أداء ما أقر به من الثمن فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه قياسا وإن كانت في يد المشتري فالتحالف بخلاف القياس لأن المشتري لا يدعي لنفسه على البائع شيئا فإن المبيع مسلم إليه باتفاقهما وكان أبو يوسف يقول أولا يبدأ بيمين البائع وهو قول زفر وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة لأن الشرع جعل القول قول البائع وهو يقتضي الاكتفاء بيمينه وإن كان لا يكتفي بيمينه فلا أقل من أن يبدأ بيمينه ولأن المقصود من الاستحلاف النكول وبنكوله تنقطع المنازعة بنفسه وبنكول المشتري لا تنقطع المنازعة ولكن يجبر على أداء ما ادعى من الثمن واليمين تقطع المنازعة فيبدأ بيمين من يكون نكوله أقرب إلى قطع المنازعة ثم رجع فقال يبدأ بيمين المشتري وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة لأنه أظهرهما(13/54)
ص -27- ... إنكارا واليمين على المنكر ولأن أول التسليمين على المشتري وهو تسليم الثمن فأول اليمينين عليه ولهذا قلنا في بيع المقابضة القاضي يبدأ بيمين أيهما شاء لأنه لا يجب على أحدهما التسليم قبل صاحبه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله بدل أو هو قائم مقام الإقرار وإن حلفا جميعا معا ذكر في كتاب الدعوى أن في القياس يكون البيع بينهما بألف درهم لأن الزيادة التي ادعاها البائع انتفت بيمين المشتري وقد تصادقا على صحة البيع بينهما فيقضي بالبيع بما وقع عليه الاتفاق من الثمن ولكنا تركنا القياس وقلنا يفسخ البيع بينهما بالسنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ويترادان" والمراد رد العقد لا رد المقبوض لأن ما يكون على ميزان التفاعل يقتضي وجوده من الجانبين وأحد البدلين غير مقبوض وقد بينا في السلم أنه إنما يفسخ العقد إذا طلب ذلك أحدهما وأيهما أقام البينة أوجب قبول بينته أما البائع فلأنه مدعي حقيقة وقد أثبت الزيادة بالبينة وأما المشتري فلأنه مدعي صورة لأنه يدعي العقد بألف درهم والدعوى صورة تكفي لقبول البينة كالمودع إذا ادعى رد الوديعة وأقام البينة وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة البائع لما فيها من إثبات الزيادة.(13/55)
قال: وإن كانت السلعة قد هلكت في يد المشتري ثم اختلفا في الثمن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى القول قول المشتري مع يمينه وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى يتحالفان ويترادان العقد لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفا المتبايعان تحالفا وترادا" ولا يمنعا من الاستدلال لظاهر هذا الحديث الآخر من ظاهر قوله والسلعة قائمة بعينها لأن ذلك مذكور على سبيل التثنية أي تحالفا وإن كانت السلعة قائمة لأن عند ذلك يتأتى تميز الصادق من الكاذب بتحكيم قيمة السلعة في الحال ولا يتأتى ذلك بعد هلاك السلعة فإذا كان تحري التحالف مع إمكان تميز الصادق من الكاذب فعند عدم الإمكان أولى ولأن التحالف عند قيام السلعة إنما يصار إليه لأن كل واحد منهما يدعي عقدا ينكره صاحبه فالبيع بألف غير البيع بألفين ألا ترى أن شاهدي البيع إذا اختلفا في مقدار الثمن لا تقبل الشهادة والدليل عليه أنه لو انفرد كل واحد منهما بإقامة البينة وجب قبول بينته فعرفنا أن كل واحد منهما يدعي عقدا ينكره صاحبه فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وهذا المعنى عند هلاك السلعة متحقق فصار كما لو ادعى أحدهما البيع والآخر الهبة أو كان البيع مقابضة وهلك أحد البدلين ثم اختلفا أو قبل المبيع قبل القبض ثم اختلفا في الثمن فإنهما يتحالفان ثم إذا حلفا فقد انتفى كل واحد من الثمنين بيمين المنكر منهما فيبقى البيع بلا ثمن والبيع بغير ثمن يكون فاسدا والمقبوض بحكم عقد فاسد يجب رد عينه في حال قيامه ورد قيمته بعد هلاكه.(13/56)
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" والبائع هو المدعي والمشتري منكر فكان القول قوله مع اليمين فأما المشتري لا يدعي لنفسه شيئا على البائع لأن المبيع مملوك له مسلم إليه باتفاقهما وهذا هو القياس حال قيام السلعة أيضا ولكنا تركناه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان(13/57)
ص -28- ... والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا" وقوله: "والسلعة قائمة" مذكور على وجه الشرط لا على وجه البينة لأن قوله: "إذا اختلفا المتبايعان" شرط وقوله: "والسلعة قائمة بعينها" معطوف على الشرط فكان شرطا لأن موجب الاشتراط والمخصوص من القياس بالسنة لا يلحق به إلا ما كان في معناه وحال هلاك السلعة ليس في معنى حال قيام السلعة لأن عند قيام السلعة يندفع الضرر عن كل واحد منهما بالتحالف فإنه ينفسخ العقد فيعود إلى كل واحد منهما رأس ماله بعينه وبعد هلاك السلعة لا يحصل ذلك فالعقد بعد هلاك السلعة لا يحتمل الفسخ ألا ترى أنه لا ينفسخ بالإقالة والرد بالعيب فكذلك بالتحالف وهذا لأن الفسخ لا يراد إلا على ما ورد عليه العقد والمعقود عليه فات لا إلى بدل فإن القيمة قبل الفسخ لا تكون واجبة على المشتري والفسخ على غير محله لا يتأتى بخلاف بيع المقابضة فإن أحد العوضين هناك قائم وهو معقود عليه ولهذا جاز الفسخ بالإقالة والرد بالعيب فكذلك بالتحالف وكذلك إذا قبل المبيع قبل القبض فالقيمة هناك واجبة على القاتل وهي قائمة مقام العين في إمكان فسخ العقد عليها لأن القيمة الواجبة قبل القبض لما ورد عليها القبض المستحق بالعقد كانت في حكم المعقود عليه ولا معنى لقوله إن كل واحد منهما يدعي عقدا آخر فإن العقد لا يختلف باختلاف الثمن ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف يبيع بألفين وأن البيع بألف قد يصير بألفين بالزيادة في الثمن والبيع بألفين يصير بألف عند حط بعض الثمن واختلاف الشاهدين في مقدار الثمن إنما يمنع قبول الشهادة لا لاختلاف العقد بل لأن المدعي يكذب أحدهما وقبوله بينة المشتري عند الانفراد لأنه مدعي صورة لا معنى وذلك يكفي لقبول بينته ولكن لا يتوجه به اليمين على خصمه كالمودع يدعي رد الوديعة فلا يتوجه اليمين على خصمه وإن كانت بينته تقبل عليه والدليل عليه أن المشترى لو كان جارية حل للمشتري وطؤها ولو كان الاختلاف في الثمن(13/58)
موجبا اختلاف العقد لما حل له وطؤها كما لو ادعى أحدهما البيع والآخر الهبة ولهذا تبطل دعوى الفساد وهو قوله إنهما إذا حلفا يبقى العقد بلا ثمن لأنه لو كان هكذا لما حل له وطؤها ولأن القاضي إنما يفسخ البيع عند طلب أحدهما وما لم يفسخ حل للمشتري وطؤها ولو فسد البيع بالتحالف لما حل له وطؤها ولما تأخر حكم الفسخ إلى طلب أحدهما والحديث المطلق فيه ما يدل على قيام السلعة وهو لفظ التراد لأنه إن كان المراد رد المأخوذ حسا وحقيقة فذلك يتأتى عند قيام السلعة وإن كان المراد العقد فقد بينا أن الفسخ إنما يتأتى عند قيام السلعة مع أن المطلق والمقيد في حادثة واحدة في حكم واحد إذا ورد فالمطلق محمول على المقيد.
قال: وإن كان البائع قد مات واختلفت ورثة المشتري في الثمن فالقول قول ورثة البائع إن كان المبيع في أيديهم ويجري التحالف بالاتفاق استحسانا لأنهم قائمون مقام البائع حتى يطالبون بالثمن ويطالبون بتسليم المبيع وذلك بحكم العقد فإذا ثبت في حقهم عرفنا أنهم صاروا كالبائع وإن كان المشتري قد قبض المبيع فالقول قوله مع يمينه في قول أبي حنيفة(13/59)
ص -29- ... وأبي يوسف وعند محمد يتحالفان ويترادان وكذلك إن مات المشتري وبقي البائع فإن كانت السلعة لم تقبض جرى التحالف استحسانا لأن ورثة المشتري قاموا مقامه في وثوق العقد فإنه يثبت لهم حق المطالبة بتسليم المبيع وإن كانت السلعة مقبوضة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى القول قول ورثة المشتري وعند محمد يتحالفان ويترادان وكذلك إذا ماتا جميعا ثم وقع الاختلاف بين الورثة في الثمن فإن كانت السلعة مقبوضة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا يتحالفان وعند محمد يتحالفان وإن لم تكن مقبوضة يتحالفان بالإجماع وهذا بناء على الفصل الأول فإن الوارث يخلف الميت كما أن القيمة تخلف العين فكما أثبت محمد رحمه الله تعالى حكم التحالف والفسخ عند هلاك السلعة باعتبار ما يخلفها وهي القيمة فكذلك أثبت حكم التحالف عند موت العاقد باعتبار من يخلفه وهو الوارث إذا كانت السلعة قائمة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى فرقا في الأصل بين هلاك السلعة قبل القبض إلى ما يخلفها وهو القيمة بأن قتل قبل القبض ثم اختلفا في الثمن وبين هلاكها بعد القبض في حكم التحالف فكذلك في موت العاقد فرقا بين ما قبل القبض وبين ما بعده لأن هذا حكم ثبت بخلاف القياس بالنص وصاحب الشرع اعتبر اختلاف المتبايعين وقيام السلعة فقبل القبض وارث البائع في معنى البائع حكما لأنه مطالب بتسليم السلعة فيمكن إثبات حكم التحالف فيه بالنص فأما بعد القبض وارث البائع ليس ببائع حقيقة ولا حكما فلم يكن هذا في معنى المنصوص عليه فيؤخذ فيه بالقياس وكذلك وارث المشتري على هذا ولا يقال الوارث يقوم مقام المورث في الإقالة والرد بالعيب فكذلك في الفسخ بالتحالف لأن صحة ذلك منه باعتبار الخلافة في الملك لا في العقد ألا ترى أن الموكل يملك الإقالة والرد بالعيب باعتبار الملك وإن لم يكن هو عاقدا حقيقة ولا حكما.(13/60)
قال: وإن كانت السلعة في يد المشتري وقد ازدادت خيرا ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى يتحالفا فيفسخ العقد على العين لأن الزيادة المتصلة لا عبرة بها في عقود المعاوضات عند محمد ولهذا قال لا يمنع بنصف الصداق في الطلاق وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الزيادة المتصلة تمنع الفسخ كما تمنع بنصف الصداق عندهما وإذا تعذر الفسخ امتنع التحالف لأنه لا يفسخ العقد إلا فيما ورد عليه العقد والزيادة الحادثة بعد القبض لم يرد عليها العقد ولا القبض المستحق بالعقد فلا يمكن فسخ العقد فيها فيمتنع الفسخ في الأصل لأجلها كالموهوبة إذا زادت في بدنها خير لا يملك الواهب الرجوع فيها بعد ذلك لهذا المعنى أنه تعذر فسخ العقد عليه بهلاكه العبد في الزيادة فيتعذر في الأصل لأن الزيادة لا تنفصل عن الأصل وعند محمد تعذر الفسخ في جميع المعقود عليه بهلاكه لا يمنع التحالف ففي البعض أولى وقد ذكر في المأذون أنهما لو تبايعا عند الجارية وقبض الجارية وازدادت في بدنها ثم هلك العبد قبل(13/61)
ص -30- ... القبض أو وجد به المشتري عيبا فرده فإنه يسترد الجارية بزيادتها فهو دليل محمد في أن الزيادة المتصلة لا تمنع الفسخ عن العين وقيل هو قول محمد خاصة وبعد التسليم الفرق بينهما أن هناك سبب الفسخ قد تقرر وهو هلاك العين قبل القبض أو رده بالعيب وبتقرر السبب يثبت الحكم ضرورة في محله وهو أصل الجارية ومن ضرورة ثبوت حكم الفسخ فيها ثبوته في الزيادة لأن الزيادة المتصلة بيع محض وثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل وهنا سبب الفسخ التحالف ولم يتقرر لما بينا أن هذا ليس في معنى المنصوص من كل وجه فيمتنع التحالف بطريق القياس فيه ومن ضرورته أن يجعل القول قول المشتري مع يمينه.
قال: وإن كانت الزيادة المتصلة غير متولدة في الأصل كالضبع في الثوب والسمن في السويق فكذلك الجواب في حكم التحالف إنه على الاختلاف إلا أن عند محمد يفسخ العقد على القيمة هنا أو المثل لأن هذه الزيادة ليست من عين المعقود عليه فلا يثبت فيها حكم العقد.(13/62)
قال: وإن كانت الزيادة منفصلة فإن كانت متولدة من العين كالجارية إذا ولدت أو جنى عليها فأخذ المشتري أرشها فحكم التحالف على الاختلاف الذي قلنا إلا أن عند محمد يفسخ العقد على القيمة لأن الزيادة المنفصلة المتولدة من العين تمنع الفسخ بالرد في العيب عنده فكذلك بالتحالف فتكون الجارية كالهالكة وعند الشافعي رضي الله عنه الزيادة المنفصلة لا تمنع الرد بالعيب فلا تمنع فسخ العقد على العين بالتحالف ولكنها ترد ويسلم الولد للمشتري وإن كانت الزيادة المنفصلة غير متولدة كالكسب والعلة فإنها لا تمنع التحالف وفسخ العقد على العين بالاتفاق كما لا يمنع الفسخ بالإقالة والرد بالعيب وإن انتقصت السلعة عند المشتري بعيب دخلها فالقول قول المشتري أيضا لا أن يرضي البائع أن يأخذها ناقصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأن حدوث العيب في يد المشتري يمنع الرد بالعيب والإقالة إلا أن يرضى به البائع فكذلك البيع انفسخ بالتحالف وعند محمد يتحالفان ثم يفسخ العقد على الغير إن رضي به البائع وإن أبى فعلى المشتري رد القيمة كما لو كانت هالكة.
قال: وإن اختلفا في الثمن وقد خرجت السلعة من ملك المشتري فهو على الخلاف الذي بينا فيما إذا هلكت السلعة وكذلك إن كانت قد رجعت إليه لوجه غير الذي خرجت به من يده لأن هذا ملك حادث فاختلاف أسباب الملك كاختلاف الأعيان فكما لا يجري التحالف باعتبار رجوع عين آخر إليه فكذلك باعتبار رجوع هذه العين بسبب مستقل.
قال: وإن كان البائع باعها من رجلين فباع أحدهما نصيبه من شريكه ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري الذي باع نصيبه لزوال ملكه المستفاد من جهة البائع ويجعل في حقه كأنهما باعا ويتحالفان على حصة الآخر لقيام ملكه في النصف الذي استفاده من جهة البائع وقيل هذا قول أبي يوسف فأما عند أبي حنيفة لا يجري التحالف إلا أن يرضى البائع لأن(13/63)
ص -31- ... أصله إن تعذر الرد في نصيب أحدهما يمنع الفسخ في نصيب الآخر بسبب العيب أو الخيار على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى فيكون القول قولهما في الكل إلا أن يرضى البائع به فحينئذ يتحالفان على حصة الآخر وعند محمد التحالف يجري في الكل ثم في حصة الذي باع يفسخ العقد على القيمة وفي حصة الذي لم يبع يفسخ العقد على العين.
قال: وإذا اختلفا البائع والمشتري في الأجل فالقول قول البائع ولا يتحالفان عندنا و قال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى: يتحالفان لأن هذا في معنى الاختلاف في مقدار مالية الثمن فإن المؤجل أنقص من الحال في المالية ولكنا نقول اختلفا في مدة ملحقة بالعقد شرطا فيكون القول قول من ينكرها ولا يجري التحالف كما لو اختلفا في خيار الشرط وهذا لأن حكم التحالف عرف بالنص وإنما ورد النص عند الاختلاف فيما يتم به العقد والأجل وراء ما يتم به العقد فلم يكن في معنى المنصوص فأخذنا فيه بالقياس وجعلنا القول قول البائع سواء أنكر زيادة الأجل أو أنكر أصل الأجل وفرق بين هذا وبين الأجل في باب السلم فإن هناك القول قول من يدعي الأجل عند أبي حنيفة وهنا القول قول من ينكر الأجل من قبل أن هناك الأجل من شرائط صحة العقد فإقراره بالعقد إقرار به وبما هو من شرائط العقد فإذا أنكر الأجل بعد ذلك فقد رجع عن الإقرار بعد ما أقر به فلا يصدق فأما هنا الأجل ليس من شرائط العقد ولا من مقتضياته لأن العقد يقتضي أيضا الثمن والمعقود عليه في المجلس فالمشتري يدعي عليه التأخير وهو منكر فكان القول قول المنكر.
قال: وإن اتفقا على الأجل واختلفا في نصيبه فالقول قول المشتري لأن الأجل حقه وهو منكر استيفاء حقه.(13/64)
قال: وإن قال البائع بعتك هذه الجارية بمائة دينار وقال المشتري بعتنيها مع هذا الوصيف بخمسين دينارا وأقاما البينة فهما جميعا للمشتري بمائة دينار وتقبل البينتان جميعا ويقضي بالعقدين لأن كل واحد منهما يثبت زيادة في حقه فبينة كل واحد منهما على ما أثبت من الزيادة في حقه مقبولة وقيل هذا قول أبي حنيفة الآخر فأما في قوله الأول وهو قول زفر يقضي بهما للمشتري بمائة وخمسة وعشرين دينارا إذا استوت قيمتهما وقد قررنا هذا في نظير هذه المسألة في شرح الإجارات.
قال: ولو قال البائع بعتك هذه الجارية لعبدك هذا وقال المشتري اشتريتها منك بمائة دينار وأقاما البينة لزمه البيع بالعبد وتقبل بينة البائع دون المشتري لأن حق المشتري في الجارية ثابت باتفاقهما وإنما الاختلاف في حق البائع فبينته على حقه أولى بالقبول ولأنه يثبت ببينته الحق لنفسه في العبد والمشتري ينفي ذلك والبينات للإثبات لا للنفي.
قال: وإذا اشترى عبدا بثوبين وتقابضا ثم استحق العبد أو وجد به عيبا فرده وقد هلك أحد الثوبين فإنه يأخذ الباقي وقيمة الهالك لأن العقد انفسخ باستحقاق العبد أو رده بالعيب فعلى قابض الثوبين ردهما لأنه قبضهما بحكم العقد وهو في القائم فيهما القادر على رد(13/65)
ص -32- ... العين وفي الهالك عاجز عن رد العين فيلزمه رد قيمته وكذلك لو هلكا فعليه رد قيمتهما لأنه تعذر رد العين مع تقرر السبب الموجب للرد فتجب القيمة كالمغصوب والقول في القيمة قول الذي كانا في يديه لأن القيمة دين في ذمته فالقول في بيان مقداره قوله.
قال: ولو كان الثمن جارية فولدت من غير السيد ثم استحق العبد كان لصاحب الجارية أن يأخذها وولدها لأن باستحقاق العبد يبطل العقد من الأصل فتكون الجارية في يد القابض بمنزلة المقبوضة بحكم عقد فاسد فيجب ردها بزوائدها وإن كان قد دخلها عيب ينقصها أخذ معها النقصان أيضا كما في المشتراة شراء فاسدا وهذا لأنها مضمونة بالقبض والأوصاف تضمن بالتناول.
قال: ولو كان الذي الجارية في يده أعتقها نفذ عتقه فيها لأنها مملوكة له فإن بدل المستحق مملوك عند القبض بمنزلة المشتراة شراء فاسدا وعليه رد قيمتها مع الولد إن كانت ولدته قبل العتق لتعذر رد عينها بنفوذ العتق فيها
قال: ولو وجد العبد حرا كان عتق البائع في الجارية باطلا لأن بدل الحر لا يملك بالعقد فإن الحر ليس بمال والبيع مبادلة مال بمال فعند انعدام المالية في أحد البدلين لا ينعقد البيع أصلا وبدون انعقاد البيع لا يثبت الملك بالقبض كما في المشتراة بميتة أو دم.(13/66)
قال: ولو اشترى العبد بثوبين وقبض العبد ثم هلك الثوبان قبل أن يقبضهما فعليه رد العبد لفساد العقد بفوات القبض المستحق بالعقد فإن أعتقه أو باعه قبل هلاك الثوبين أو بعده قبل أن يقضي القاضي بينهما بشيء فهو جائز لأنه أعتق ملكه أما قبل هلاك الثوبين فلا إشكال وبعد هلاكهما وإن فسد العقد فقد بقي الملك ببقاء القبض لأن فساد العقد لا يمنع ثبوت الملك بالقبض ابتداء فلا يمنع بقاؤه بطريق الأولى ثم عليه قيمته لتعذر رد العين بعد ما فسد السبب فيه ولو تقابضا ثم استحق أحد الثوبين فقال الذي كان عنده الثوبان استحق أعلاهما ثمنا وقال الذي باعهما بل أستحق أرخصهما ثمنا فالقول قول المشتري في الثوبين مع يمينه لأنهما تصادقا على أنه لم يسلم لبائع الثوبين جميع العبد حين استحق أحد الثوبين وإنما الاختلاف بينهما في مقدار ما يثبت لبائع الثوبين من العبد وهو يدعي زيادة في ذلك فعليه أن يثبتها بالبينة وإن لم يكن لهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه.
قال: وإن قال البائع بعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم وقال المشتري بل هذه الجارية بخمسين دينارا فهنا كل واحد منهما مدعي ومنكر حقيقة لأنه يدعي كل واحد منهما العقد في عين آخر فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وإن أقاما البينة قضى بالبيع فيهما جميعا بألف وخمسين دينارا وقد بينا هذا في باب السلم وإن قال المشتري ابتعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم ونفذت الثمن وقال البائع ما بعتك هذا العبد إنما بعتك جارية بهذه الألف وقبضت الثمن ودفعتها إليك فكل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه فإن حلف البائع رد عليه العبد لأن العقد قد انتفى بيمينه فيه وقد أقر ذو اليد(13/67)
ص -33- ... أنه كان مملوكا له في الأصل وإذا حلف الذي كان في يديه العبد ما اشترى الجارية فعلى بائعها رد الألف عليه وإن قامت لهما بينة قضى بالبينتين وعلى المشتري أداء ألف أخرى.
قال: رجل اشترى عدل زطي وأقر أنه زطي ولم يره وقبضه ثم جاء بعد ذلك يرده فقال وجدته كرابيس لم يصدق والثمن له لازم لأنه مناقض في دعواه والمناقض لا قول له ولأن بسبب خيار الرؤية إنما يتمكن من الفسخ إذا أحضر المعقود عليه والذي أحضره كرابيس والمعقود عليه زطي يزعمه فلا يتمكن من فسخ العقد على غير المعقود عليه بخيار الرؤية وإن قال لا أدري أزطي هو أم لا ولكني أخذته على قولك فانظر ثم جاء يرده فقال وجدته كرابيس كان مصدقا في ذلك مع يمينه لأن المشتري ينفرد بفسخ العقد بخيار الرؤية وخيار الشرط وإذا انفسخ العقد بخيار الرؤية وخيار الشرط بقي المقبوض في يده ملك البائع فالقول قوله في تعيينه ضامنا كان أو أمينا وهذا لأنه غير مناقض في كلامه هنا بل منكر لقبض الزطي فالقول قوله مع يمينه وفي الأول هو مناقض في كلامه لأنه أقر بقبض المعقود عليه وهو الزطي فلا يقبل منه قوله بخلاف قوله ذلك.
قال: ولو اشترى ثوبا فقال البائع هو هروي وقال المشتري لا أدري وقد رآه ولكني أخذته على ما يقول ثم جاء يرده وقال وجدته يهوديا لم يصدق لأنه كان قد رأى المعقود عليه فليس له فيه خيار الرؤية بعد ذلك بقي دعواه حق الرد لنفسه على البائع في هذه العين والبائع منكر لذلك فلا يقبل قوله كما ادعى المشتري العيب بالمعقود عليه إلا بحجة قال: وإذا نظر إلى العدل مطويا ولم ينشره ثم اشتراه فليس له أن يرده إلا بعيب لأنه قد رأى طرفا من كل ثوب ورؤية جزء من المعقود عليه كرؤية الكل في إسقاط خيار الرؤية إلا أن يكون في طي الثوب ما هو مقصود كالطراز والعلم فحينئذ لا يسقط خياره ما لم ير ذلك الموضع لأن مالية المعقود عليه تختلف باختلاف المقصود والمقصود بالرؤية العلم بمقدار المالية.(13/68)
قال وإذا اشترى خادمة على أنها خراسانية فوجدها سندية كان له أن يردها فهذا بمنزلة هذا العيب فيها لأن العبيد جنس واحد لاتحاد الأصل وتقارب المقصود إلا أن الخراسانيات أكثر مالية من السنديات فإنما فات زيادة صفة مشروطة وذلك بمنزلة العيب في إثبات حق الرد كما لو اشترى عبدا على أنه كاتب أو خباز فوجده لا يحسن ذلك العمل والله أعلم بالصواب.
باب الخيار في البيع
قال: رحمه الله تعالى بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اشترى شاة محفلة فهو يؤخر النظرين ثلاثة أيام" وفي رواية "يخير النظرين" ففيه دليل جواز اشتراط الخيار في البيع والمراد خيار الشرط ولهذا قدره بثلاثة أيام وذكر التحفيل لبيان السبب الداعي إلى شرط الخيار والمحفلة التي اجتمع اللبن في ضرعها والمحفل هو المجمع واجتماع اللبنين في ضرعها قد يكون لغزارة اللبن وقد يكون بتحصيل البائع بأن يسد ضرعها حتى يجتمع اللبن في ضرعها(13/69)
ص -34- ... فلا يتبين أحدهما عن الآخر للمشتري إلا بالنظر مدة وذلك ثلاثة أيام لأنه إذا حلبها في اليوم الأول لا يتبين له شيء وكذلك في اليوم الثاني فلعل النقصان تعارض فإذا حلبها في اليوم الثالث وكان مثل اليوم الثاني علم أن لبنها هذا القدر وأن الزيادة في اليوم الأول كان للتحفيل فيحتاج إلى أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام حتى يدفع الغرور به عن نفسه فجوز له الشرع ذلك وجعله يؤخر النظرين ثلاثة أيام وأما إذا اشتراها بغير شرط خيار فليس له أن يردها بسبب التحفيل عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى له أن يردها ويرد معها صاعا من تمر لأجل اللبن وكذلك لو اشترى ناقة فوجدها مصراة وهي التي سد البائع ضرعها حتى اجتمع اللبن فيه فصار ضرعها كالصراة وهي الحوض فليس له أن يردها والتصرية ليست بعيب عندنا.(13/70)
و قال الشافعي رحمه الله له أن يردها بسبب التصرية والتحفيل وكذلك لو سود أنامل العبد حتى ظنه المشتري كاتبا أو ألبسه ثياب الخبازين حتى ظنه خبازا وعن أبي يوسف في الشاة المحفلة أخذ بالحديث وأقول يردها وفيما سوى ذلك أخذنا بالقياس واستدل الشافعي بالحديث وهو حديث صحيح مشهور وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة محفلة فهو يؤخر النظرين إلى ثلاثة أيام إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها ورد معها صاعا من تمر" وبعد ما صح الحديث فكل قياس متروك بمقابلته مع أن الحديث موافق للأصول لأنه أثبت الخيار لغرور كان من البائع والتدليس والغرور يثبت للمشتري حق الرجوع كما لو اشترى صبرة حنطة فوجد في وسطها دكانا أو اشترى قفة من الثمار فوجد في أسفلها حشيشا ثم ذكر الأيام الثلاثة ليس للتوقيت في خيار العيب بل لبيان المدة التي يظهر فيها العيب وأما رد التمر لمكان اللبن فلأن ما كان موجودا عند العقد من اللبن قد أتلفه المشتري أو فسد في يده ولا يعلم مقداره ليرد مثله فأمره برد التمر مكانه للتحرز عن الربا فالقوت فيهم كان هو التمر واللبن فلهذا أقام أحدهما مقام الآخر وأكثر ما فيه أن هذا مخالف للقياس فيجعل كالمسكوت عنه فيبقى أول الحديث معمولا به.(13/71)
واختلف أصحاب الشافعي فيما إذا سقى الدابة وعلفها حتى ظنها المشتري حاملا فمنهم من يقول له حق الرد إذا تبين أنها ليست بحامل للتدليس والغرور ومنهم من يقول ليس له حق الرد هنا لأن اكتساب سبب هذا الغرور يجعل كالشرط فيما يجوز اشتراطه وشرط الحبل في بيع الدابة لا يجوز فلا يجعل ذلك كالمشروط وأما شرط كون الناقة لبونا والعبد كاتبا أو خبازا يجوز فيجعل البائع إنما اكتسب من السبب كالشارط ذلك للمشتري وحجتنا في ذلك أن مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع وبقلة اللبن لا تنعدم صفة السلامة لأن اللبن ثمرة وبعدمها لا تنعدم صفة السلامة فبقلتها أولى وإذا ثبت صفة السلامة انتفى العيب ضرورة ولا يجوز أن يثبت الخيار للغرور لأن المشتري مغتر لا مغرور فإن ظنها عزيزة اللبن بالبناء على شيء مثبتة فإن انتفاخ الضرع قد يكون بكثرة اللبن في الضرع وقد يكون بالتحفيل وعلى ما ظهر من عادات الناس احتمال التحفيل فيه أظهر فيكون هو مغترا في تباطنه على المحتمل والمحتمل(13/72)
ص -35- ... لا يكون حجة وقد كان متمكنا من أن يسأل البائع ليبني على النص الذي سمع منه فحين لم يفعل كان مغترا ولئن كان مغرورا فلا يمكن أن يجعل هذا الشرط غزارة اللبن عندنا لأن اشتراط ذلك مفسد للبيع كشرط الحمل فأكثر ما في الباب أن يجعل ذلك بمنزلة جبر يجبره البائع أنها عزيزة اللبن من غير أن يجعل ذلك مشروطا في العقد والغرور بالخبر لا يثبت حق الرجوع على الغار كمن أخبر إنسانا بأمن الطريق فسلكها فأخذ اللصوص متاعه وإنما يثبت للمغرور حق الرجوع إذا كان مشروطا في عقد الضمان ولم يوجد ذلك بخلاف الصبرة فقد شرط له أن جميع الصبرة حنطة وأن جميع ما في القفة عنب فإذا وجده بخلاف ما شرط كان له حق الرد لذلك فأما الحديث قلنا من مذهبنا أنه إنما يقبل من أحاديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ما لا يخالف القياس فأما ما خالف القياس الصحيح فالقياس مقدم عليه لأنه ظهر تساهله في باب الرواية وقد رد بن عباس رضي الله تعالى عنهما بعض رواياته بالقياس نحو حديث الوضوء من حمل الجنازة فقال أيلزمنا الوضوء عن حمل عيدان يابسة ونحو الوضوء مما مسته النار حيث قال لو توضأت بما سخن كنت أتوضأ منه
وهذا الحديث مخالف للكتاب والسنة والأصول من وجوه:(13/73)
أحدهما: أن ضمان المتلفات يتقدر بالمثل بالكتاب والسنة وفيما لا مثل له بالقيمة فإن كان اللبن من ذوات الأمثال فالواجب المثل والقول قول من عليه في بيان المقدار وإن لم يكن من ذوات الأمثال فالواجب هو القيمة فأما إيجاب التمر مكان اللبن مخالف لما ثبت بالكتاب والسنة وفيه تسوية بين قليل اللبن وكثيره فيما يجب مكانه وهذا مخالف للأصول لأن الأصل أنه إذا قل المتلف قل الضمان وإذا كثر المتلف كثر الضمان وهنا الواجب صاع من التمر قل اللبن أو كثر وهو مخالف للأصول من وجه آخر من حيث إن فيه توقيت خيار العيب فوجب رده لذلك ثم يحمله عن تأويل وإن بعد للتحرز عن الرد فنقول يحتمل أنه اشتراها على أنها عزيزة اللبن فكان العقد فاسدا بالشرط فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بردها مع ما حلب من لبنها لأن المشتراة شراء فاسدا ترد بزوائدها وقد كان المشتري أكل اللبن فدعاهما إلى الصلح ورد مكان اللبن صاعا من تمر بطريق الصلح فظن الراوي أنه ألزمه ذلك وقد يقع مثل هذا لمن قل فهمه من الرواة ولهذا لم يرو الحديث أحد من كبار الصحابة المشهورين بالفقه رضوان الله تعالى عليهم.
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل رجلا من الأنصار بالخيار في كل بيع يشتريه بثلاثة أيام واسم هذا الرجل حبان بن منقد وأبوه منقد بن عمر فالاختلاف في اسمه روي الحديث باللفظ الذي ذكرنا وقد كان يعين في البياعات لمأمومة أصابت رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام" وكان ألثغ باللام فكان يقول لا خيابة ففي الحديث دليل جواز البيع مع شرط الخيار والقياس يأبى ذلك لأن شرط الخيار تعلق العقد وعقود المعاوضات لا تحتمل التعليق ويبقى مقتضى العقد وهو اللزوم وموجبه(13/74)
ص -36- ... وهو الملك ولكنا نقول تركنا هذا القياس للحديث ولحاجة الناس إلى ذلك فالبيع عقد معاينة والمقصود به الاسترباح ولا يمكنه تحصيل ذلك إلا أن يرى النظر فيه ويريه بعض أصدقائه ليحتاج لأجل ذلك إلى شرط الخيار فإذا كان يجوز بعض العقود لحاجة الناس كالإجارة ونحوها فشرط الخيار في العقد أولى ثم أصل العقد لا يتعلق بالشرط لأن الخيار صفة في العقد يقال بيع بات وبيع بخيار وبالصفة لا يتعلق أصل الموصوف وإنما يدخل الخيار في الحكم فيجعله في معنى المعلق بالشرط لأن الشرط لا يخلو السبب عن الحكم إلا أن يتصل الحكم به فقد يجوز أن يتأخر الحكم عنه لمؤخر كما يتأخر وجوب تسليم الثمن بشرط الأجل ثم خيار الشرط يتقدر بثلاثة أيام وما دونها ولا يجوز أكثر من ذلك في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى.(13/75)
وقد قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وابن أبي ليلى يجوز إذا كانت المدة معلومة طالت أو قصرت لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم" فإذا شرط الخيار شهرا وجب الوفاء به لظاهر الحديث وعن عمر رضي الله تعالى عنه عنه أنه أجاز الخيار لرجل في ناقة شهرين والمعنى فيه أن هذا مدة ملحقه بالعقد شرطا فلا تتقدر بالثلث كالأجل وهذا لأن ما زاد على الثلث كالثلث في المعنى الذي لأجله جوزنا شرط الخيار ثم يعتبر هذا الخيار بخيار العيب والرؤية أو بنفس هذا العقد على عقد الكفالة فكما يجوز اشتراط الخيار هناك أكثر من ثلاثة أيام فكذلك يجوز هنا وأبو حنيفة استدل بالحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر الخيار بثلاثة أيام والتقدير الشرعي إما أن يكون لمنع الزيادة والنقصان أو لمنع أحدهما وهذا التقدير ليس لمنع النقصان فاشتراط الخيار دون ثلاثة أيام يجوز فعرفنا أنه لمنع الزيادة إذ لو لم تمنع الزيادة لم يبق لهذا التقدير فائدة وما نص عليه صاحب الشرع من التقدير لا يجوز إخلاؤه عن الفائدة لأنه ما كان بحارق في بيان الأحكام ثم بسبب اشتراط الخيار يتمكن معنى الغرر وبزيادة المدة يزداد الغرر(13/76)
وقد كان القياس أن لا يجوز اشتراط الخيار في البيع أصلا وهو قياس يسده الأثر لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر إلا أنا تركنا القياس في مدة الثلاثة لورود الأثر فيه وجواز العقد مع القليل من الغرر لا يدل على الجواز عند كثرة الغرر وبه فارق الطفالة لأنها تحتمل الغرر والخطر ألا ترى أنه يجوز تعليق أصل الطفالة بأن يقول مالك على فلان فهو علي وبه فارق خيار العيب والرؤية لأنه لا يتمكن الغرر بسببه وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه أجاز الخيار وليس فيه بيان خيار الشرط ولعل المراد خيار الرؤية والعيب وأنه أجاز الرؤية بعد الشهرين وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون عند شروطهم" فقد قال أيضا: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل" ثم جواز شرط الخيار لحاجة وهذه الحاجة ترفع بثلاثة أيام ففيما رآه لحاجة وإن شرط الخيار أربعة أيام فسد البيع في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى فإن أسقط من له الخيار خياره قبل مجيء اليوم الرابع صح العقد عند أبي حنيفة ولم يصح عند زفر وهو بناء على ما بينا من الشراء بثمن إلى الحصاد وهذا لأن شرط الخيار غير(13/77)
ص -37- ... مفسد للعقد وإنما المفسد وصل الخيار في اليوم الرابع بالأيام الثلاثة وهو يعرض الفصل الخيار في اليوم الرابع بالأيام الثلاثة وهو يعرض الفصل قبل مجيء اليوم الرابع فإذا فصل بالإسقاط صار كأن لم يكن فأما إذا جاء اليوم الرابع قبل إسقاط الخيار فقد تقرر المفسد باتصال جزء من اليوم الرابع بالأيام الثلاثة على وجه لا يقبل الفصل لأن عمل الإسقاط فيما بقي لا فيما مضى فلهذا يتقرر الفساد به.
قال: وإن كان الخيار للمشتري ثلاثة أيام فمات قبل أن يختار فقد انقطع خياره ولزم البيع وكذلك إن كان الخيار للبائع فمات البائع أو كان الخيار لهما جميعا فماتا فقد لزم البيع وأجمعوا أنه إذا مات من عليه الخيار فإن الخيار باق ولا يورث خيار الشرط عندنا وقال الشافعي يورث ويقوم وارث من له الخيار مقامه في التصرف بحكم الخيار لأن هذا حق لازم ثبت في عقد بيع فيخلف الوارث فيه المورث كما في ملك المبيع والثمن وحق الكفالة والرهن بخلاف خيار القبول فإنه غير لازم ولا ثابت في بيع منعقد وبخلاف الأجل فإنه ليس بثابت في البيع ولكنه صفة الدين ثم الإرث فيما ينتفع به الوارث أو المورث ولا منفعة لواحد منهما في إبقاء الأجل فإن ذمة الميت مرتهنة بالدين ما لم يقض عنه فلا نبسط يد الوارث في التركة لقيام الدين على المورث فأما في توريث الخيار فيه منفعة للوارث وللمورث جميعا فإن الضرر والعين يدفع به وربما يقولون هذا خيار ثابت في عين مبيعة فيخلف الوارث المورث فيه كخيار العيب ولأن البدل الذي من جانب من له الخيار يبقى على ملكه ما بقي خياره والوارث يخالف المورث فيما كان مملوكا له فإذا كان الملك باقيا للبائع في المبيع إلى وقت موته انتقل إلى وارثه ولا يبطل العقد بهذا الانتقال فمن ضرورة انتقال الملك إلى الوارث مع بقاء العقد انتقال الخيار إليه ليقوم الوارث مقام المورث في التصرف بحكمه وحجتنا ما قال في الكتاب إن البيع منعقد مع الخيار وقد كان(13/78)
الخيار مشيئته في رده ولا يتحول بالموت مشيئته إلى غيره لأن إرادته ومشيئته صفة فلا يحتمل الانتقال منه إلى غيره وإنما يورث ما يحتمل الانتقال إلى الوارث فأما ما لا يحتمل الانتقال إلى الوارث لا يورث كملكه في منكوحته وأم ولده وكذلك العقد لا ينتقل إلى الوارث لأنه إنما يورث ما كان قائما والعقد قول قد مضى ولا يتصور انتقاله إلى الوارث وإنما يملك الوارث الإقالة لقيامه مقام المورث في الملك لا في العقد فإن الملك يثبت ولاية الإقالة.
ألا ترى أن إقالة الموكل مع البائع صحيحة والعاقد هو الوكيل دون الموكل وإنما يخلفه في الملك الباقي بعد موته ولما انقطع خياره بالموت صارت العين مملوكة للمشتري ووارث البائع لا يخلفه في ملك العين وهذا لأن البيع سبب موجب للملك والخيار مانع فإذا سقط صار كأن لم يكن ولهذا ملك المشتري المعقود عليه بزوائده المتصلة والمنفصلة فأما خيار العيب لا يقول بأنه يورث ولكن سبب الخيار يتقرر في حق الوارث وهو استحقاق المطالبة بتسليم الجزء الفائت لأن ذلك جزء من المال مستحق للمشتري بالعقد فإذا طالب البائع(13/79)
ص -38- ... بتسليمه وعجز عن التسليم فسخ العقد لأجله وقد وجد هذا المعنى في حق الوارث لأنه يخلف المشتري في ملك ذلك الجزء.
ألا ترى أن الخيار قد يثبت ابتداء للوارث وإن لم يكن ثابتا للمورث بأن يتغيب المبيع في يد البائع بعد موت المشتري قبل أن يقبضه الوارث بخلاف خيار الشرط فإن السبب وهو الشرط لا يوجد في حق الوارث ولا يمكن التوريث له فيه ولأن المشروط له الخيار مسلط على الفسخ من جهة صاحبه لأن الخيار يشترط للفسخ لا للإجازة وهو مالك للفسخ في حق نفسه بدون شرط الخيار فإنما يشترط الخيار ليفسخ العقد في حق صاحبه والمسلط على التصرف في حق الغير لا يقوم وارثه مقامه بعد موته كالوكيل بالبيع إذا مات بخلاف خيار العيب فالمقصود هناك ليس هو الفسخ ولكن المطالبة بتسليم ما هو المستحق بالعقد حتى إذا تعذر الرد بالعيب رجع بحصة البيع من الثمن والوارث يخلف المورث فيما هو مال ولأن هذه مدة ملحقة بالعقد شرطا فلا تبقى بعد موت من هي له كالأجل فإنه حق لمن عليه الدين قبل من له الدين فيبطل لموته ولا معنى لقوله بأن الأجل صفة الدين لأن الدين حق المطالب والأجل حق المطلوب فكيف يكون صفة للدين وفي إبقاء الأجل فائدة فربما لا يكون في تركته ما بيديه ثم يصير عند حلول الأجل فيها وفاء بالدين يتم بغير السعر أو يتصرف الوارث في التركة لأنه إنما لا يبسط في التركة يده إذا حل الأجل فأما إذا بقي الأجل قام الوارث مقام المورث في التصرف في التركة ومع هذا لم يبق الأجل فكذلك الخيار وكذلك إذا سكت من له الخيار حتى مضت الثلاثة أو ذهب عقله أو أغمي عليه أو ارتد فقتل أو مات لأنه عجز عن التصرف بحكم الخيار وقد تقرر ذلك بمضي المدة فلزم البيع وهذا لأن الخيار المؤقت لا يبقى بعد مضي الوقت والبيع في الأصل لازم وإنما الخيار كان مانعا من اللزوم فبأي وجه سقط صار كأن لم يكن.(13/80)
قال وإن كان الخيار للمشتري فهلكت السلعة في يده لزمه الثمن وانقطع الخيار لأنه عجز عن التصرف بحكم الخيار حين أشرفت السلعة على الهلاك فإنها قد تعينت بذلك وليس له أن يردها بحكم الخيار إلا كما قبضها فإذا عجز عن ذلك سقط خياره وتم البيع وتقرر عليه الثمن لكونه قابضا للمبيع وكذلك إن أصاب السلعة عيب عنده بفعله أو بفعل أجنبي أو بآفة سماوية أو بفعل المبيع بنفسه لأنه عجز عن رده كما قبض بأي وجه تعيب عنده يسقط خياره وكذلك إن كانت جارية فوطئها لأن الوطء لا يحل إلا في ملك مستقر فإقدامه على وطئها من أدل الدلائل على الرضا باستقرار ملكه فيها وذلك لا يكون إلا بعد سقوط الخيار وكذلك إن عرضها البيع لأنه إنما يعرضها على البيع ليبيعها والبيع تصرف منه بحكم الملك ولا يكون ذلك إلا بعد إسقاط الخيار ورضاه يقرر ملكه فيها وكذلك لو قال قد رضيتها لأنه بالرضى يسقط حقه في الرد ولا يلزم البائع شيء فالمبيع لازم في جانب البائع وهو راض بتمامه ولو لم يكن شيء من ذلك ولكنه اختار ردها على البائع بغير محضر منه فليس ذلك بشيء وله أن(13/81)
ص -39- ... يرضى بعد ذلك ما لم يعلم البائع بفسخه في الأيام الثلاثة فإن علم بعد ذلك تم الفسخ وليس للمشتري أن يرضى به بعد ذلك وإن لم يعلم بفسخه حتى مضت الأيام الثلاثة بطل ذلك الفسخ وتم البيع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال رده جائز بغير محضر من البائع وبغير علمه لأن تصرفه يلاقي خالص حقه فيكون نافذا كالزوج إذا طلق امرأته ثم راجعها بغير علمها والمعتقة إذا اختارت نفسها بغير علم الزوج كان اختيارها صحيحا وبيان الوصف أن الخيار خالص حق من له الخيار ولهذا لا يشترط رضا الآخر في تصرف من له الخيار بحكم الخيار فكذلك لا يشترط حضوره واعتبر الفسخ بالإجازة وتقرير كلامه من وجهين:
أحدهما: أن المشروط له الخيار مسلط على الفسخ من جهة صاحبه والمسلط على التصرف ينفذ تصرفه بغير محضر من المسلط كما ينفذ تصرف الوكيل بغير محضر من الموكل.
والثاني: أن الخيار شرط ليدفع به الضرر عن نفسه فلو لم يكن متمكنا من الفسخ بغير محضر من صاحبه يفوت مقصوده لأن الآخر يخفي شخصه حتى تمضي مدة الخيار فيلزمه العقد شاء أو أبى ولهذا سقط اعتبار رضاه فكذلك يسقط اعتبار حضوره.(13/82)
وهذا بخلاف خيار العيب فإنه غير موقت فلو شرطنا حضور البائع فيه للفسخ لا يتضرر به المشتري من حيث سقوط خياره بمضي المدة ثم هناك المشتري غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا إنه بالفسخ يلزم غيره حقا فلا يبطل تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به كالموكل إذا عزل الوكيل حال غيبة لا يثبت حكم العزل في حقه ما لم يعلم به وبيان الوصف أن العقد منعقد مع الخيار وبالفسخ ارتفع الانعقاد في حق الآخر وحكم الفسخ ضد حكم العقد فعرفنا أن بتصرفه يلزمه غيره حقا وتأثيره أنه لا يتمكن صاحبه من العمل بموجب الفسخ إذا لم يعلم به ولا يثبت حكم الخطاب في حق المخاطب ما لم يعلم به كما في خطاب الشرع يقرره أن البائع لا يطلب لسلعته مشتريا آخر بناء على أن البيع قد تم بمضي المدة فإذا جاء المشتري بعد ذلك فأخبره أنه كان فسخ العقد فلو ثبت حكم الفسخ في حقه لتضرر البائع به وهذا ضرر يلحقه بتصرف المشتري وإذا لم يثبت حكم الفسخ قبل علمه في حقه فالمشتري وإن تضرر ولكن هذا ضرر يلحقه لا من جهة البائع بل لعجز المشتري عن اتحاد شرط صحة الفسخ وهو بمنزلة خيار الرد بالعيب قبل القبض وهذا بخلاف الإجارة فإنه لا يلزم البائع بإجارته شيء وهو نظير الرضى بالعيب من المشتري فإنه يصح بغير علم البائع لأنه لا يلزمه شيء ولأن العقد بشرط الخيار يصير غير لازم في حق من له الخيار فيلتحق بالعقود التي هي غير لازمة كالوكالات والشركات والمضاربات وهو لا يملك فسخ هذه العقود بغير علم من صاحبه وإن كان يملك فسخها بغير رضا صاحبه وتقرير هذا الكلام من وجهين:(13/83)
ص -40- ... أحدهما: أن تصرف المشروط له الخيار لا ينعقد في حق صاحبه بتسليطه إياه على ذلك وكيف يقال هو مسلط على الفسخ من جهة صاحبه وصاحبه لا يملك الفسخ ولكن إنما يتمكن من الفسخ لأن العقد غير لازم في حقه وبانعدام صفة اللزوم يتمكن من الفسخ بغير رضا صاحبه ولكن إنما يتمكن من الفسخ بغير علمه كما في الوكالات والشركات والمضاربات وهذا بخلاف الوكيل حيث يتصرف بغير علم الموكل لأن الوكيل مسلط على التصرف من جهة الموكل بتسليطه إياه على التصرف فوق علمه به يوضحه أن اشتراط الخيار في العقود التي هي غير لازمة كالوكالة والشركة والمضاربة لا يجوز ولو كان اشتراط الخيار ليتمكن به من الفسخ بغير علم صاحبه يصح في هذه العقود لكونه محتاجا إليه فحيث لم يصح عرفنا أن موجب الخيار دفع صفة اللزوم فيسقط وليس هذا كالطلاق فإن الزوج بايقاع الطلاق لا يلزمها شيء إنما يرفع الحل الثابت له وكذلك في الرجعة لا يلزمها شيء لأن النكاح باق بعد الطلاق الرجعي على حاله وقيل في خيار المعتقة إن فسخها لا ينفذ إلا بمحضر من الزوج فلا يسلم على هذا وبعد التسليم هناك ثبوت الخيار لدفع زيادة الملك لأن ملك الزوج يزداد بحرمتها ودفعها زيادة الملك يكون امتناعا من الالتزام لا إلزام الغير شيئا ولا يتمكن من الامتناع من هذا الالتزام إلا برفع أصل النكاح فثبت لها ولاية رفع النكاح لضرورة حاجتها إلى دفع الزيادة عن نفسها ويوضحه أنها مسلطة بتخير الشرع إياها بقوله صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختاري" فيجعل كأن الزوج خيرها فلهذا صح اختيارها بغير محضر منه وهنا من له الخيار غير مسلط على الفسخ من جهة صاحبه كما قررنا(13/84)
قال: وإن اختارت ردها عليه فعليه أو الإجارة بقلبه كان باطلا أيهما كان صاحب الخيار لأن ما يكون بالقلب فهو نية والنية بدون العمل لا تثبت الفسخ ولا الإجارة كما لا ينعقد أصل العقد منها والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي عن ما حدثت به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا"
قال: ولو كان الخيار للبائع فما ثبت في يد المشتري فعليه قيمتها وقال ابن أبي ليلى هو أمين فيها لأنه قبضها بإذن صاحبها ووجوب ضمان القيمة باعتبار تفويت شيء على صاحبها وذلك غير موجود وإن كان القبض برضاه ولكنا نقول البائع ما رضي بقبضه إلا بجهة العقد والمقبوض بجهة العقد يكون مضمونا بالقيمة كالمقبوض على سوم البيع وهذا لأن الضمان الأصلي الثابت بالعقد هو القيمة وإنما يتحول منه إلى الثمن عند تمام الرضا ولم يوجد ذلك حين شرط البائع الخيار لنفسه فيبقى الضمان الأصلي وهذا بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري لأن هناك لما أشرف على الهلاك سقط خياره بعجزه عن الرد كما قبضه فيتم البيع وهو قائم فلزمه الثمن المسمى وهنا وإن أشرف على الهلاك فخيار البائع لم يسقط لأنه لم يعجز عن التصرف بحكم الخيار فلو لزم البيع فيه إنما يلزم بعد موته وذلك لا يجوز فكان مضمونا بالقيمة كذلك.(13/85)
ص -41- ... قال ولو كانت جارية فأعتقها البائع أو دبرها أو وطأها أو قبلها من شهوة أو كاتبها أو رهنها وسلمها أو وهبها وسلمها أو أجرها وسلم أو لم يسلم فهذا كله نقض للبيع.
فأما العتق والتدبير والكتابة فلأنه خرج المحل بتصرفه عن أن يكون محلا لابتداء البيع ولإثبات حكم البيع فيه ومن ضرورته انفساخ العقد وأما الوطء والتقبيل فدليل الرضا بتقرر ملكه ولا يكون ذلك إلا بعد انفساخ البيع لأن هذا تصرف لا يحل إلا في الملك فلو لم ينفسخ البيع به لكان إذا جاز البيع بعد هذا ملك المشتري المبيع من وقت العقد بزوائده فتبين أن وطأه في غير الملك وذلك لا يحل فأما بالهبة والتسليم فلأنه أزال ملكه عن العين وبالرهن والتسليم أوجب للغير فيه حقا وبالإجارة يوجب للغير فيه حقا وذلك يمنعه من إلزام البيع ولهذا شرط التسليم في الرهن لأن حق المرتهن لا يثبت بدون القبض ولم يشترط ذلك في الإجارة لأنه يلزم بنفسه ثم ففسخ العقد بهذه الأسباب صحيح بغير محضر من المشتري لأن ثبوت الفسخ بطريق الحكم لا بقصد التصرف إلى ذلك فلا يتوقف على العلم كالموكل إذا أعتق العبد الذي وكل ببيعه ينعزل الوكيل وإن لم يعلمه بخلاف ما إذا عزله قصدا ولو اختار البائع رد المبيع بغير محضر من المشتري فلا يتوقف على العلم كالموكل فهو على الخلاف الذي بينا وإن اختار لزوم البيع والمشتري غائب فهو جائز لأنه لا يلزم المشتري بتصرفه ما لم يلتزم فالبيع لازم في جانب المشتري وإنما يسقط البائع حق نفسه في الفسخ بالإجارة وذلك صحيح منه بعد غيبة المشتري فليس له بعد ذلك أن ينقضه كما لو لم يكن في البيع خيار لواحد منهما.(13/86)
قال: وإذا اشترط أحد المتبايعين الخيار لإنسان من أهله أو من غيرهم فهو جائز عندنا بمنزلة اشتراطه لنفسه وقال زفر لا يجوز البيع بهذا لشرط لأن خلاف ما يقتضيه العقد فإن خيار الشرط من حقوق العقد وحقوق العقد تثبت للعاقد فاشتراطه لغير العاقد خلاف مقتضى العقد فيكون مفسدا للعقد ولأن هذا يتعلق بانفساخ العقد وإبرامه بفعل الغير والبيع لا يحتمل ذلك واعتبر خيار الشرط بخيار العيب والرؤية فإن ذلك لا يثبت لغير العاقد فكذلك هذا وحجتنا في ذلك أن هذا في معنى اشتراط الخيار لنفسه منه لأنه يجعل الغير نائبا عنه في التصرف بحكم الخيار ولا يكون ذلك إلا بعد ثبوت الخيار له ولهذا أثبتنا الخيار للشارط بهذا اللفظ ولو شرط الخيار لنفسه ثم وكل الغير بالتصرف بحكمه استقام ذلك وهذا لأن جواز اشتراط الخيار للحاجة إلى دفع العين وقد يشتري الإنسان شيئا وهو غير مهتد فيه فيحتاج إلى شرط الخيار لمن يكون مهتديا فيه من صديق أو قريب حتى ينظر إليه فللحاجة إلى ذلك جعلناه كاشتراط الخيار لنفسه.
قال: وإذا هلكت السلعة في يد البائع وله الخيار أو للمشتري فلا ضمان على المشتري فقد بطل البيع لفوات القبض المستحق بالعقد كما لو كان البيع باتا وإن كان في البيع خيار للبائع أو للمشتري فجاء به المشتري ليرده فقال البائع ليس هو الذي بعتك فالقول قول(13/87)
ص -42- ... المشتري فيه لأنه ينفرد بالفسخ بخياره فيبقى ملك البائع في يده والقول في تعينه قوله أمينا كان أو ضامنا لأن المشتري قابض والأصل أن القول قول القابض في المقبوض أمينا كان أو ضمينا كما في الغاصب وكذلك إن كان غير مقبوض وأراد البائع أن يلزمه فقال المشتري ليس هذا الذي بعتني فالقول قول المشتري مع يمينه ولا يلزمه البيع إلا أن تقوم عليه بينة أنه هو المبيع فيلزمه إن لم يكن له خيار وإن كان له خيار رده إن شاء لأن البيع إذا كان فيه شرط الخيار للبائع فهو في حكم الملك كالمعلق بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وكان إلزام المبيع إياه بمنزلة ابتداء التمليك من هذا الوجه والبائع يدعي ثبوت حق التمليك له في هذه العين والمشتري منكر دعواه ولو أنكر العقد أصلا كان القول قوله فكذلك هنا يوضحه أن البائع لا يملك بحكم خياره إلزام البيع إلا إذا كان المبيع قائما في يده وقوله في تعيين المبيع ليس بحجة على المشتري في إيجاد الشرط وبدون التعيين لا يملك إيجاب البيع فيه فحال البائع فيه الآن كحال المشتري إذا ادعى الرد بالعيب بعد القبض في أنه لا يقبل قوله في تعيين المبيع وبدون التعيين لا يتمكن من رده بالعيب بعد القبض.(13/88)
قال: وإن شرط المشتري الخيار لغيره ثم آن زمن الخيار رد المبيع بمحضر من البائع جاز البيع لأنه قائم مقام المشتري في التصرف بحكم الخيار وكذلك لو كان المشتري هو الذي رده لما بينا أن شرط الخيار لغيره اشتراط منه لنفسه وإن قال المشتري قد أجرته وقال الذي له الخيار قد رددته فإن سبق أحدهما فإن تصرف السابق منهما أولى إذا كان ردا كان أو إجازة لأن برد السابق منهما انفسخ العقد والمنفسخ لا تلحقه الإجازة وبإجازة السابق منهما انبرم العقد وبعد انبرامه لا ينفرد أحد المتعاقدين بفسخه ولو وجد الأمران معا فالفسخ أولى لأن الفسخ يرد على الإجازة والإجازة لا ترد على الفسخ فيترجح الفسخ باعتبار أنه عامل لاحقا كان أو سابقا كنكاح الحرة والأمة إذا اجتمعا يقدم نكاح الحرة وكذلك لو كان البائع شرط الخيار لبعض أهله فقال قد أوجبت البيع وقال الذي له الخيار لا أرضى فهو جائز.
وقد أشار في بعض نسخ البيوع إلى أنه إذا أجاز أحدهما وفسخ الآخر فما فعله العاقد أولى فسخا كان أو إجازة لأن العاقد يتصرف بحكم ملكه والآخر بحكم النيابة عنه وفقه هذا الكلام أن الحاجة إلى الثابت للتصرف عند امتناع المنوب عنه عن التصرف بنفسه وذلك ينعدم إذا اقترن تصرفه بتصرف النائب ولكن الأول أصح وقد فسره في المأذون أن الفسخ أولى لما بينا ولأن الخيار مشروط بالفسخ لا للإجازة والفاسخ منهما يتصرف بحكم الخيار تصرفا شرع الخيار لأجله فكان تصرفه أولى.
قال: وإذا كان الخيار للبائع أو للمشتري فالتقيا فتناقضا البيع ثم هلك عند المشتري قبل أن يقبضه البائع فعلى المشتري الثمن إن كان له الخيار والقيمة إن كان الخيار للبائع لأن تمام الفسخ بالرد على البائع كما أن استحكام البيع بالقبض ثم هلاك المعقود عليه بعد العقد(13/89)
ص -43- ... قبل القبض يبطل العقد فكذلك هلاكه بعد الفسخ قبل الرد وإذا بطل الفسخ عاد إلى ملك المشتري وهو في يده هلك فيهلك مضمونا عليه بالثمن إذا كان الخيار للمشتري وإذا كان الخيار للبائع يكون مضمونا عليه بالقيمة لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه وبالفسخ يرتفع العقد وبالهلاك في يد المشتري يرتفع الفسخ فيبقى الحال بعد الفسخ كالحال قبله وقبل الفسخ لو هلك في يد المشتري لا يكون مضمونا عليه بالقيمة لأنه مقبوض بجهة العقد فصار كالمقبوض على سوم الشراء وهذا لأن الفسخ بحكم الخيار يحتمل الفسخ في نفسه حتى لو تفاسخا ثم تراضيا على فسخ الفسخ وعلى إعادة العقد بينهما جاز فينفسخ الفسخ بهلاك محله قبل حصول المقصود به وبعد الفسخ لا يجوز فيه عقد عتق المشتري ولا شيء من عقوده أما إذا كان الخيار للبائع فظاهر لأن العقد على ملكه نفذ فكيف يجوز فيه عتق المشتري وكذلك إذا كان الخيار للمشتري لأنه بفسخ المشتري يعود العبد إلى ملك البائع ولكن يجوز فيه عتق البائع لأنه عاد إلى ملك البائع بمنزلة البيع بعد العقد قبل التسليم لما ذكرنا.
قال: وإذا اشترى الرجل عدل زطي برأس ماله ولم يعلم ما هو فالبيع فاسد لجهالة الثمن عند العقد فإن أخبره بذلك فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه وقد بينا أن مراده إذا أخبر بذلك في المجلس فإن حال المجلس كحال العقد وكذلك إن اشترى برقمه فهو فاسد فإن أخبره برقمه فهو بالخيار ليكشف الحال له لأن البيع إنما يظهر كونه رابحا أو خاسرا في حقه إذا علم بالثمن فصار كما لو اشترى شيئا لم يره ثم رآه كذلك هاهنا.(13/90)
قال: وإن استهلكه المشتري قبل أن يجيزه فعليه القيمة لأنه في يده بحكم عقد فاسد فيكون مضمونا بالقيمة عند تعذر الرد وبعد الاستهلاك لا يمكن تصحيح العقد فيه بإعدام رأس ماله لانعدام المحل فإن تصحيح العقد بإزالة المفسد نظير الإجازة في البيع الموقوف فكما لا ينفذ البيع بالإجازة إلا عند قيام المحل فكذلك لا يصح بإقامة المفسد بعد هلاك المحل.
قال: وإذا كان البائع والمشتري جميعا بالخيار لم يتم البيع بإجازة أحدهما حتى يجتمعا عليه لأن الذي أجاز منهما أسقط الخيار فصار كما لو لم يشترط الخيار لنفسه في الابتداء فيبقى خيار الآخر وبقاء خيار الآخر يكفي للمنع من انبرام العقد.
قال: وقد بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما أنه جائز استحسانا فرع عليه وقال فإن أعتقه ثم لم ينقد الثمن حتى مضت ثلاثة أيام فالعتق جائز وعليه الثمن لأن هذا في معنى اشتراط خيار المشتري لنفسه وخيار المشتري لا يمنع نفوذ عتقه عندهما لأنه مالك وعند أبي حنيفة رضي الله عنه خيار المشتري يمنع دخوله في ملكه ولا يمنع نفوذ العتق لأنه متمكن من إسقاط خياره بتصرفه فإذا سقط خياره تقرر عليه الثمن المسمى نقده في الأيام الثلاثة أو لم ينقده ولأن امتناعه من أداء الثمن في آخر جزء من(13/91)
ص -44- ... الأيام الثلاثة بمنزلة فسخ البيع لأنه نفى البيع عن ذلك بقوله فلا بيع بيننا وبعد الإعتاق هو لا يملك الفسخ فنقده الثمن وعدم نقده في الحكم سواء.
قال: وإن كان المشتري اثنين وهما بالخيار فاختار أحدهما رده والآخر إمساكه فليس لواحد منهما أن يرد حصته دون الآخر في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله تعالى له ذلك وكذلك الخلاف في الرد بخيار الرؤية وخيار العيب بأن اشتريا شيئا لم يرياه ثم رأياه فأراد أحدهما أن يرده فليس له ذلك عنده وعندهما له ذلك وكذلك إذا اشتريا شيئا فوجد أحدهما به عيبا فأراد أن يرده فهو على الاختلاف وهما يقولان الراد منهما يرد ما اشترى كما اشترى فيتمكن من ذلك وإن لم يساعد الآخر عليه كما لو كان العقد في صفقتين وتحقيقه أن الرد يلاقي ملك المشتري والمبيع في ملك المشتريين متفرق فصار نصيب كل واحد منهما كعقد على حدة وبه فارق القبول لأن القبول يلاقي ملك البائع والقبض يلاقي يد البائع وهو مجتمع في ملكه ويده فلا يكون لأحدهما أن يفرقه عليه وهو نظير الشفعة فإن للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين لأن أخذه يلاقي ملك المشتري ولو كان البائع اثنين والمشتري واحدا لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين لهذا المعنى لأن أخذه يلاقي ملك المشتري وملك المشتري مجتمع لأنه واحد وإن كان البائع اثنين وكل واحد منهما شرط الخيار لنفسه ليكون متخيرا مستبدا بالتصرف فيما يرجع إلى دفع الضرر عنه ولو لم يكن له حق الفسخ إذا لم يساعده الآخر على ذلك فات عليه مقصوده وربما يكون في الإجازة لأحدهما ضرر وللآخر نظر فكما لا يكون للفاسخ أن يلزم شريكه ضرر تصرفه بالفسخ فكذلك لا يكون للمجيز أن يلزم شريكه ضرر تصرفه للإجازة يوضحه أن الراد منهما ما ثبت له الخيار إلا في نصفه ولو اشترى العبد كله على أنه بالخيار في نصفه كان له أن يرد النصف بحكم الخيار فإذا اشترى النصف وما ثبت له الخيار(13/92)
إلا في نصفه فهو أولى وأبو حنيفة يقول إن الراد منهما يرد نصيبه بعيب لم يكن ذلك عند البائع وليس له حق الرد بعيب حادث بسبب الخيار كما لو تعيب في يده وهذا لأنه بالرد يدفع الضرر عن نفسه ولكن يلحق الضرر بغيره وليس له أن يلحق الضرر بغيره.
وبيان الوصف أن المبيع خرج من ملك البائع جملة فإذا رد أحدهما النصف فإنما يرد النصف معيبا بعيب الشركة فإن الشركة فيما يضره التبعيض عيب فاحش ولهذا يرد الصداق به والرجوع في معرفة العيب إلى العرف فالأشقاص في العادة لا يشترى بمثل ما يشترى به في الأشخاص فعرفنا أنه يتضرر البائع بالرد عليه والبائع أوجب العقد لهما جملة وذلك لم يكن منه رضا بعيب التبعيض بدليل أنه لا يملك أحدهما القبول دون الآخر ولو قبلا ثم نقد أحدهما حصته من الثمن لا يملك قبض حصته من المبيع ولو كان البائع راضيا بعيب التبعيض لملك ذلك أحدهما وإن كان الملك واليد في جانب البائع مجتمعا لوجود الرضا منه بذلك ولكن كان راضيا بعيب التبعيض فإنما يرضى به في ملك الغير وذلك لا يدل على أنه رضي به(13/93)
ص -45- ... في ملك نفسه ألا ترى أن المشتري لو زوج المبيعة ثم وجد بها عيبا لا يردها لأنها تعيبت بعيب النكاح وقد سلطه البائع على تزويجها وذلك أقوى من الرضى بتصرفه ولكن إنما يرضى به في ملك الغير لا في ملك نفسه ولا يقال بأن هذا العيب حدث في يد البائع لأن تصرف الملك ثبت بالعقد قبل القبض لأنه وإن حدث في يد البائع فإنما حدث بفعل المشتري والمشتري إذا عيب المعقود عليه في يد البائع لم يكن له أن يرده بحكم خياره إلا أن هذا العيب يعرض الزوال بأن يساعده في الرد على الراد وإذا انعدم ذلك ظهر عمله في المنع من الرد ولا معنى لما قالا أن في امتناع الرد ضررا على الراد لأن هذا ضرر يلحقه بعجزه عن إيجاد شرط الرد لا يتصرف من الغير ولأن مراعاة جانب البائع أولى لأن البائع يتضرر بتصرف الراد والراد لا يتضرر بتصرف باشره البائع ثم هذا في الرد بالعيب يتضح فإن في مراعاة جانب المشتري إبطال حق البائع وليس في مراعاة جانب البائع إبطال حق المشتري لأنه يرجع بحصة العيب من الثمن فلهذا كان اعتبار جانب البائع أولى وليس هذا كما لو شرط الخيار في نصفه فالبائع هناك رضي بعيب التبعيض حين شرط الخيار في النصف مع علمه أن الخيار يشترط للفسخ وهنا ما رضي بذلك لأنه شرط الخيار في الكل وإنما ثبوت الخيار لكل واحد منهما في النصف بمقتضى قوله وملكه لا ينتقص من البائع على ذلك وهو نظير ما لو أوجب البيع في النصف صح قبول المشتري في ذلك النصف وإذا أوجب البيع لهما في الكل لا يصح قبول أحدهما في النصف.(13/94)
قال: وإن اشترى شيئا على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر فله الغد كله والليل كله ووقت الظهر كله في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى له الخيار إلى طلوع الفجر أو إلى أن تغيب الشمس أو إلى أن تزول الشمس ولا تدخل الغاية في الخيار عندهما لأن الغاية حد والحد لا يدخل في المحدود كما لو قال بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الحائطان في البيع وهذا لأن الحد غاية ومن حكم الغاية أن يكون ما بعده بخلاف ما قبله لكن هذا إنما يتحقق فيما يكون بعضه متصلا بالبعض كما في المساحات والأوقات وهي مسئألتنا فأما في الأعداد لا يتحقق هذا لأنه ليس بينهما اتصال ليكون حدا فلهذا جعلنا المعتبر هناك أكثر الأعداد ذكرا حتى إذا قال لامرأته أنت طالق من واحدة إلى ثلاث تطلق ثلاثا وإذا قال لفلان علي من درهم إلى عشرة يلزمه عشرة فأما الأوقات يتصل بعضها ببعض فيتحقق فيها معنى الغاية بيان ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة:187] ومن حيث الأحكام إذا باع بثمن مؤجل إلى رمضان أو أجر داره إلى رمضان أو حلف لا يكلم فلانا إلى رمضان لا يدخل الحد فأما الموافق في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}[المائدة:6] فإنما عرفنا دخولها بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين توضأ فأدار الماء على مرافقه وبه يتبين أن إلى بمعنى مع ولكنه نوع من المجاز لا يحمل الكلام عليه إلا عند قيام الدليل عليه ولأبي حنيفة في المسألة حرفان:(13/95)
ص -46- ... أحدهما: أن البدل الذي في جانب من له الخيار باق على ملكه سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري والملك الثابت له بيقين لا يزال بالشك وإذا كانت الغاية تدخل في الكلام وفي بعض المواضع ولا تدخل في بعض المواضع فلو لم تدخل الغاية كان فيه إزالة ملكه بالشك يوضحه أن البيع بشرط الخيار في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وهو سقوط الخيار فما لم يتيقن بوجود الشرط لا يثبت ما علق به وفي موضع الغاية شك وعليه تخريج المسائل لأبي حنيفة فإن في وقوع التطليقة الثالثة شك وفي وجوب الدرهم العاشر في ذمته شك وفي مسألة الأجل البيع موجب ملك اليمين والأجل مانع من توجه المطالبة والمانع بالشك لا يثبت وفي الإجارة ملك الرقبة سبب لحدوث المنفعة على ملكه إلا إذا ثبت الحق فيه لغيره وبالشك لا يثبت الحق للغير فتحدث المنفعة على ملك المؤاجر فسبب ملك الرقبة وفي اليمين إباحة الكلام أصل فلا تثبت الحرمة والمنع بالشك والأصل فراغ ذمته عن الكفارة فلا يشغلها بالشك في موضع الغاية.(13/96)
والحرف الآخر أن في كل موضع تكون الغاية لمد الحكم إلى موضع الغاية لا تدخل الغاية كما في الصوم لو قال ثم أتموا الصيام إلى الليل اقتضى صوم ساعة فقوله إلى الليل لمد الحكم إلى موضع الغاية وفي كل موضع ذكر الغاية لإخراج ما وراءها يبقى موضع الغاية داخلا كما في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}[المائدة:6] لأن مطلق الأيدي في الطهارة يتناول الحارحة إلى الآباط ولهذا فهمت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بإطلاق الأيدي في التيمم الأيدي إلى الآباط فكان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا هنا ولو شرط الخيار مطلقا يثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد فكان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا وفي مسألة الأجل ذكر الغاية لمد الحكم إلى موضع الغاية لأن الأجل للترقية فمطلق الاسم يتناول أدنى ما يحصل به الترقية وكذلك في الإجارة فإنها عقد تمليك المنفعة بعوض فمطلقها لا يوجب إلا أدنى ما يتناوله الاسم وذلك مجهول ولأجل الجهالة يفسد العقد فكان ذكر الغاية لبيان مقدار المعقود عليه وذلك لمد الحكم إلى موضع الغاية ولكن يدخل فصل اليمين على هذه الطريقة وقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن في اليمين تدخل الغاية فيأخذ في اليمين على هذه الطريقة بتلك الرواية.(13/97)
قال: وإذا اشترى شيئا لغيره بأمره واشترط الخيار له فقال البائع رضي الآمر وهو غائب لم يصدق على ذلك لأن البيع غير لازم للخيار المشروط للآمر والبائع يدعي لزومه ولو ادعى أصل البيع لم يصدق على ذلك إلا بحجة فكذلك إذا ادعى صفة اللزوم ولا يمين على المشتري في ذلك لأنه لا يدعي عليه الرضا وإنما يدعيه على الآمر فلو استحلف المشتري على ذلك كان بطريق النيابة عن الآمر ولا نيابة في اليمين ولأنه لا يمين له في هذه الدعوى على الآمر لو كان حاضرا فإذا لم يتوجه اليمين على من يدعي عليه الرضا فعلى وكيله أولى وإنما لم يتوجه اليمين على الآمر لأنه لا خصومة بين البائع والآمر فإن العقد لم يجز بينهما(13/98)
ص -47- ... والاستخلاف ينبني على الدعوى والخصومة ولأنه لو كان على الأمر يمين لم يكن للوكيل أن يرده حتى يحضر الآمر فيحلف كما في الوكيل بالرد بالعيب إذا ادعى البائع الرضا على الموكل لم يكن للوكيل أن يرده حتى يحضر الموكل فيحلف وهنا للوكيل أن يرده بغير يمين لأن اشتراط الخيار للآمر اشتراط منه لنفسه وما لم يظهر المسقط لنفسه بخياره فهو متمكن من الرد فعرفنا أن بهذه الدعوى لا يتوجه اليمين على أحد وإذا أقام البائع البينة أن الآمر قد رضي فالبيع لازم للآمر لأنه أثبت ما ادعى من صفة اللزوم بالبينة والثابت بالبينة كالثابت معاينة والوكيل خصم في إثبات ذلك عليه لأنه نائب عن الموكل والإثبات بالبينة على الثابت صحيح ولأن العقد جرى بينهما فيكون هو خصما في إثبات صفته عليه ألا ترى أنه لو كان شرط الخيار لنفسه كان خصما في إثبات الرضى عليه فكذلك إذا شرطه للآمر وإن لم يقم البينة وصدقه المشتري فيه وقال الآمر في الثلث بحضرة البائع قد أبطلت لزم البيع المشتري لأن إقرار المشتري حجة عليه دون الآمر وقد أقر بلزوم العقد برضا الآمر فيجعل ما أقر به في حقه كالثابت بالبينة فلا يتمكن من الرد على البائع بعد ذلك وهو في حق الآمر كالمعدوم فإذا قال في الأيام الثلاثة بمحضر من البائع قد أبطلت البيع فقد أقر بما يملك إنشاءه فلا تمكن التهمة في إقراره بخلاف ما إذا قال ذلك بعد مضي المدة لأنه أقر بما لا يملك إنشاءه وما يلزم البيع وهو مضي الأيام قبل ظهور الفسخ معلوم فلا يصدق فيما يدعي من الفسخ في المدة يوضحه أن إقرار الوكيل برضا الآمر بمنزلة مباشرته للعقد في الابتداء بغير خيار ولو أمره بأن يشتري بشرط الخيار له فاشترى ولم يشترط الخيار لزمه دون الآمر فكذلك إذا أقر برضا الآمر بعد ما شرط الخيار.(13/99)
قال: وإذا اشترى عدلا على أنه زطي فيه خمسون ثوبا كل ثوب بكذا أو جماعته بكذا أو شرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام فإن أراد أن يرد بعضه دون بعض لم يكن له ذلك لأن خيار الشرط يمنع تمام الصفقة ألا ترى أن البدل الذي من جانب من له الخيار لا يخرج عن ملكه فهو برد البعض يفرق صفة مجتمعة على البائع قبل التمام فليس له ذلك كما لو قبل العقد في الابتداء في البعض دون البعض فكذلك ما اشتراه صفقة واحدة من المكيل والموزون والعروض والحيوان وما يضره التبعيض وما لا يضره في ذلك سواء لأن في تفريق الصفقة قبل التمام ضررا فإن من عادة الناس ضم الجيد إلى الرديء لترويج الردى ء بثمن الجيد والمشروط له الخيار بدفع الضرر عن نفسه ولا يملك إلحاق الضرر بصاحبه.
قال: ولو اشترى ثوبين كل واحد منهما بعشرة دراهم على أنه بالخيار ثلاثة أيام يمسك أيهما شاء ويرد الآخر جاز العقد عندنا استحسانا وكذلك هذا في ثلاثة أثواب وفيما زاد على الثلاثة العقد فاسد و قال زفر رحمه الله تعالى ما زاد على الثلاث وما دون الثلاث فيه سواء فالعقد فاسد وهو القياس في الثلاثة والاثنين لأن المبيع مجهول فإن المبيع أحد الثياب وهي متفاوتة في نفسها وجهالة المبيع فيما يتفاوت يمنع صحة العقد ألا ترى أنه لو لم يسم لكل ثوب(13/100)
ص -48- ... ثمنا كان العقد فاسدا لجهالة المبيع؟ وكذلك لو لم يشترط الخيار لنفسه كان العقد فاسدا فكذلك إذا اشترط الخيار لأن شرط الخيار يزيد في معنى الغرور ولا يزيله وجه الاستحسان أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأنه شرط الخيار لنفسه وبحكم خياره يستند بالتعتين والجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة العقد كما إذا اشترى قفيزا من الصبرة بخلاف ما إذا لم يشترط الخيار لنفسه فالجهالة هناك تفضي إلى المنازعة وبخلاف ما إذا لم يسم لكل ثوب ثمنا لأن هناك ثمن ما يتناوله العقد مجهول فإنما فسد العقد لجهالة الثمن ثم الجهالة التي تتمكن بسبب عدم تعيين الثمن معتبر بالقدر الذي يتمكن بسبب شرط الخيار وذلك يتحمل في الثلث وما دونه ولا يتحمل في الزيادة على ذلك فكذا هذا اعتبارا للمحل بالزمان وهذا لأن احتمال هذه الجهالة لأجل الحاجة فقد يشتري الإنسان لعياله ثوبا ولا يعجبه أن يحمل عياله إلى السوق ولا يرضى البائع بالتسليم إليه ليحمله إلى عياله بغير عقد فيحتاج إلى مباشرة العقد بهذه الصفة وهذه الحاجة مقصورة على الثلاث لأن كل نوع يشتمل على أوصاف ثلاثة جيد ووسط ورديء فإذا حمل الثلاثة إلى أهله ثم المقصود فأخذنا فيما زاد على ذلك بالقياس لعدم الحاجة فيه كما فعلنا ذلك في شرط الخيار ثم نص في هذا الموضع على تقدير الخيار بثلاثة أيام وهو الصحيح لأن هذا خيار ثبت بالشرط فلا بد فيه من إعلام المدة وإن أطلق ذلك في غير هذا الموضع من الكتب.(13/101)
قال: فإن هلك أحدهما أو دخله عيب لزمه ثلثه ويرد الباقي وهو فيه أمين لأنه عجز عن رد الهالك منهما بحكم الخيار فيتعين البيع فيه وهذا لأنه حين أشرف على الهلاك فقد ثبت في يده وعجز عن رده كما قبضه فيلزمه البيع فيه ثم يكون هالكا على ملكه فإذا تعين البيع في الهالك كان هو أمينا في الآخر لأنه قبضهما بإذن البائع على أن يكون المبيع أحدهما دون الآخر فكان أحدهما بغير عينه مبيعا والآخر أمانة لأنه ما قبض الآخر للشراء فإذا تعيين البيع في أحدهما تعيين البيع في الهالك كان أمينا في الآخر لأنه قبضهما بإذن البائع على أن يكون تعين الآخر للأمانة وفرق بين هذا وبين ما إذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق أحد عبديه ثم مات أحدهما تتعين الباقية للطلاق دون الهالكة وهنا تتعين الهالكة للبيع قال علي القمي لا فرق بين المسألتين في الحاصل لأن في الفصلين ما يهلك على ملكه أما الثوب فلأنه يهلك على ملكه حيث يتعين الباقي للرد وفي الطلاق كذلك يهلك الهالكة على ملكه حتى تتعين الباقية للطلاق إلا أن الصحيح ما ذكرنا ووجه الفرق أن الثوب لما أشرف على الهلاك خرج من أن يكون محلا للرد لأنه عجز عن رد ما اشترى كما اشترى فبتعين العقد فيه وتعين الباقي للرد ضرورة فأما في الطلاق والعتاق حين أشرفت على الهلاك لم يتعين محلا لوقوع الطلاق عليها فلو وقع الطلاق عليها إنما يقع بعد الموت والطلاق لا يقع بعد الموت فتتعين الباقية للطلاق وهذا بخلاف ما إذا اشترى كل واحد منهما بعشرة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فهلك أحدهما عنده فإنه لا يرد الباقي لأن العقد يتناولهما جميعا ألا ترى أنه يملك العقد فيهما(13/102)
ص -49- ... فبعد ما تعذر عليه رد أحدهما لا يتمكن من رد الآخر لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام وهنا العقد يتناول أحدهما ألا ترى أنه لا يملك إتمام العقد فيهما فبعدما هلك أحدهما وتعيب كان له رد الباقي.
قال: وإن هلكا معا فعليه نصف ثمن كل واحد منهما إن كان الثمن متفقا أو مختلفا لأن أحدهما بغير عينه مبيع لزمه ثمنه بالهلاك في يده والآخر أمانة وليس أحدهما لتعينه مبيعا بأولى من الآخر لأن حالهما قبل الهلاك سواء فبعد الهلاك لا يتحقق تعيين البيع في أحدهما فللمعارضة قلنا فيستتبع حكم الأمانة وحكم البيع فيهما فيكون هو أمينا في نصف كل واحد منهما مشتريا نصف كل واحد منهما ولأن كل واحد من الثمنين يلزمه من وجه دون وجه فلهذا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما.
قال: وإن كان قائمين بأعيانهما وأراد ردهما فله ذلك لأنه أمين في أحدهما فرده بحكم الأمانة وفي الآخر مشتر قد شرط الخيار لنفسه فيتمكن من رده فإن اختار أحدهما لزمه ثمنه لأنه عين البيع فيه والتزمه باختياره فيلزمه ثمنه وكان في الآخر أمينا فإن ضاع عنده بعد ذلك لم يكن عليه فيه ضمان لما ذكرنا.
قال: وإذا اشترى جاريتين أحدهما بألف والأخرى بخمسمائة على أن يأخذ أيهما شاء ويرد الأخرى فأعتقهما في كلمة واحدة فإنه يخير فأيتهما اختار وقع العتق عليها ويرد الأخرى لأن عتقه نفذ في أحديهما وهي المشتراة منهما فإن إعتاق المشتري في المشتراة بشرط الخيار له صحيح فيسقط الخيار فيها والأخرى كانت أمانة عنده فإعتاقه إياها باطل فإذا عرفنا نفوذ العتق منه في إحداهما بغير عينها كان البيان في ذلك إليه لأن الإبهام كان منه فإذا عين أحديهما تعينت هي للعتق ورد الأخرى كما لو كانتا مملوكتين له فاعتق إحديهما بغير عينها.(13/103)
قال: ولو لم يعتقها ولكن حدث بهما عيب ولا يدري أيهما أول فقال المشتري حدث العيب بالتي قيمتها خمسمائة أولا فالقول قوله لأنه كان الخيار له وكان متمكنا من تعيين البيع فيها فإذا زعم أن البيع تعين فيها بأن تعينت في يده أولا وجب قبوله في ذلك ويرد الأخرى ونصف قيمة عينها في القياس لأنهما لو هلكتا معا لزمه نصف بدل كل واحدة منهما فإذا تعينتا فقد فات جزء من كل واحدة منهما في الجملة والجزء معتبر بالجملة ثم كل واحد منهما يتردد بين الضمان والأمانة فللتردد كان نصف ما فات من كل واحد منهما في ضمان المشتري وقوله في تعين المبيع مقبول ولكن في إسقاط ما لزمه من ضمان العيب في الأخرى غير مقبول فلهذا يرد نصف قيمة عينها وفي الاستحسان لا يرد شيئا من حصة عينها لأن من ضرورة تعيين أحديهما للبيع تعيين الأخرى للأمانة وتعيين الأمانة في يد الأمين لا يوجب عليه شيئا من الضمان وهذا لأن بالقبض ما لزمه إلا ضمان ثمن واحدة منهما ألا ترى أنهما لو هلكتا لم يلزمه إلا نصف ثمن كل واحدة منهما وقد وجب عليه كمال ثمن أحديهما وهي التي عينها للمبيع فلا يلزمه مع ذلك شيء من قيمة الأخرى.(13/104)
ص -50- ... قال: وإن حدث العيب بهما معا رد أيتهما شاء وأمسك الأخرى بخلاف ما إذا هلكتا لأن الهالك ليس بمحل لابتداء البيع فيه فلا يكون محلا لتعيين البيع فيه والمعيب محل لابتداء البيع فيه فيكون محلا لتعيين البيع فيه أيضا فلهذا يبقى خياره بعد ما تعينتا معا إذ ليست إحداهما بتعيين البيع فيها بالأولى من الأخرى ولكن ليس له أن يردهما بخلاف ما قبل التعييب لأن العقد قد لزمه في المبيعة منهما بالتعيب وسقط خيار الشرط فيها فلهذا لا يتمكن من ردهما وإذا رد أحديهما في القياس يرد معها نصف قيمة العيب وفي الاستحسان ليس عليه ذلك كما في الفصل الأول.
قال: وإن حدث بإحديهما عيب آخر بعد ذلك لزمه البيع لأن العيب الأول لما لم يؤثر في التعيين لاستوائهما فيه كان كالمعدوم فكأنه ما تعيب إلا إحداهما الآن وذلك موجب تعيين البيع لعجزه عن ردها كما قبضها وكذلك لو ماتت إحداهما أو جنى عليها المشتري لزمته ورد الأخرى لأن العيب الأول صار كالمعدوم ولو ماتت إحداهما في يده أو جنى عليها قبل التعيب لزمه البيع فيها ويرد الأخرى فهذا مثله وإن أعتق البائع التي اختار المشتري لم يعتق لأن باختيار المشتري تعين البيع فيها فإنما أعتق البائع ما لا يملكه وإن أعتقهما جميعا عتقت التي ترد عليه منهما لأن عتقه نفذ في أحديهما فإن أحديهما مبيعة خارجة عن ملكه وإن كان للمشتري فيها خيار فلا ينفذ عتقه فيها والأخرى أمانة وهي باقية على ملكه فينفذ عتقه فيها إلا أن بإعتاقه لا يسقط الخيار الثابت للمشتري لأن البائع غير متمكن من إسقاط خياره فيقال للمشتري اختر أيتهما شئت فإذا اختار أحديهما تعينت الأخرى للرد فينفذ عتق البائع فيها.
قال: وإن اختار ردهما جميعا فعتق البائع إنما ينفذ في أحديهما لأن أحديهما ما كانت مملوكة له حين أعتق فلا ينفذ عتقه فيها وإن عادت إليه بعد ذلك وإذا نفذ عتقه في أحديهما بغير عينها كان البيان فيه إلى البائع.(13/105)
قال: ولو لم يعتق واحد من الموليين شيئا منهما ولكن المشتري وطئهما فحبلتا ثم مات قبل أن يبين أيتهما اختار فإن عرفت الموطوءة أولا فهي أم ولده لأن إقدامه على وطئها تعيين للبيع فيها وإسقاط للخيار فإن الوطء لا يحل إلا في الملك فإقدامه عليه دليل تقريره الملك فيها ألا ترى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خير بريرة رضي الله تعالى عنها قال لها: "إن وطئك زوجك فلا خيار لك" فقد جعل تمكينها نفسها من الزوج مسقطا لخيارها وإذا تعين بيعه فيها وقد استولدها كان عليه ثمنها وهي أم ولد له ويرد الأخرى وولدها على البائع ولا يثبت نسبه من المشتري لأنه ليس له في الأخرى ملك ولا شبهة ملك وعليه عقرها وهذا لأن الحد قد سقط بالشبهة صورة العقد والوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو عقر فإذا سقط الحد لزمه عقرها وإن لم يعلم أيتهما وطئت أولا فالقول قول ورثته لأنهم قائمون مقامه وهو لو بين الموطوءة أولا منهما وجب قبول بيانه فكذلك بيان ورثته بعده وهذا لأن ثمن الموطوءه أولا وجب على الوارث قضاؤه من التركة والقول قوله في بيان ما لزمه ثمنه فإنهم(13/106)
ص -51- ... إن قالوا لا نعلم لزم المشتري نصف ثمن كل واحدة منهما ونصف عقرها لأنه ليست إحداهما بتعيين البيع فيها بأولى من الأخرى فيتبع البيع فيهما ويلزمه نصف ثمن كل واحدة منهما وقد لزمه عقر أحديهما بالوطء وليست إحداهما بذلك بأولى من الأخرى فلزمه نصف عقد كل واحدة منهما وتسعى كل واحدة منهما في نصف قيمتها للبائع لأن المبيعة منهما أم ولده وقد عتقت بموته وليست إحداهما بذلك بأولى من الأخرى فلهذا يعتق نصف كل واحدة منهما وتسعى كل واحدة منهما في نصف قيمتها للبائع لأن حكم أمية الولد لا يثبت فيما هو ملك البائع منهما وكذلك يعتق أحد الولدين على المشتري وليس أحدهما بذلك بأولى من الآخر فيعتق نصف كل واحد منهما ويسعى كل واحد منهما في نصف قيمته للبائع ولا يثبت نسب كل واحد منهما لأن من ثبت نسبه من المشتري منهما مجهول وإنما يثبت في المجهول ما يحتمل التعليق بالشرط والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط فلا يثبت في المجهول.(13/107)
قال: وإذا وطئها المشتري والبائع جميعا فادعى هو والمشتري ولديهما جميعا فالقول قول المشتري في التي وطئها أولا وهي أم ولده والولد ولده لأن خيار البيان كان للمشتري دون البائع فالمصير إلى قوله بالتعيين أولى من المصير إلى قول البائع ثم عليه عقر الأخرى لأنه وطئها وهي مملوكة للبائع والأخرى وولدها للبائع ويثبت نسب ولدها من البائع لأنه ظهر أنه استولدها في ملكه وعلى البائع عقر أم ولد المشتري لإقراره بأنه وطئها وقد سقط الحد عنه بالشبهة فلزمه العقر فيجعل العقر بالعقر قصاصا ويترادان الفضل إن كان فيه فضل وإن مات البائع والمشتري قبل البيان فالقول قول ورثة المشتري لأنهم قائمون مقامه ولأن الثمن يلزمهم فإن لم يعلموا لم يثبت نسب واحد من الولدين لا من البائع ولا من المشتري لأن الثابت نسبه من كل واحد منهما مجهول والأمتان وولدهما أحرار لأن كل واحدة منهما أم ولد لأحدهما وقد عتقت بموت مولاها والولدان كذلك وعلى المشتري نصف ثمن كل واحدة منهما لأجل التعارض والتساوي فإن كل واحد من الثمنين يلزمه في حال دون حال وعليه نصف عقر كل واحد منهما وعلى البائع كذلك نصف عقر كل واحد منهما وهذا قصاص لأنه لا فائدة في القبض والرد ولا الجاريتين والولدين بين البائع والمشتري لأن كل واحدة عتقت منهما جميعا.(13/108)
قال: وإذا اختلف البائع والمشتري في اشتراط الخيار فالقول قول الذي ينفيه منهما لأنه متمسك بمقتضى العقد وهو اللزوم ولأن الخيار مانع لا يثبت إلا بالشرط فالمدعي منهما يدعي شرطا زائدا والآخر ينكر فالقول قول المنكر كما في دعوى الأجل وإن اختلفا في مقداره فالقول قول المقر بأقصر الوقتين لأن الثابت من الخيار ما وقع الاتفاق عليه واختلافهما في الزيادة على ذلك في هذا الفصل كاختلافهما في أصل الخيار في الفصل الأول وإن اختلفا في مضيه فالقول قول الذي ينكر مضيه لأنهما تصادقا على ثبوت الخيار ثم ادعى أحدهما سقوطه بمضي المدة فلا يقبل قوله إلا بحجة كما في الأجل ولأن البيع حادث فإنما يحال(13/109)
ص -52- ... بحدوثه إلى أقرب الأوقات والذي يدعي مضي الخيار يسند البيع إلى ما قبل هذه الساعة بثلاثة أيام فلا يصدق في ذلك إلا بحجة وإذا لم يصدق فإنما يظهر البيع بينهما في الحال فلا يكون مضي مدة الخيار إلا بمضي أيامها.
قال: ولو كان المبيع دارا وكان للبائع فيها خيار لم يكن فيها شفعة لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه فإنه لا يتم رضاه بالسبب مع شرط الخيار وخروج المبيع عن ملكه يعتمد تمام الرضا به ووجوب الشفعة يعتمد انقطاع حق البائع لأن الشفعة لدفع ضرر سوء مجاورة الجار الحادث وذلك لا يكون إلا بعد انقطاع حق البائع.
قال: وإذا كان الخيار للمشتري فللشفيع فيها الشفعة لأن حق البائع قد انقطع فقد تم البيع من جهته ووجوب الشفعة تعتمد لثبوت الملك للمشتري ألا ترى أنه لو قال كنت بعت هذه الدار من فلان وقال المشتري ما اشتريتها كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ولأن المشتري قد صار أحق بها ملكا أو تصرفا فيتحقق ضرر سوء مجاورة الجار الحادث فكان للشفيع أن يدفع ذلك بالآخر.
قال: وإذا قال الرجل للرجل اذهب بهذه السلعة فانظر إليها اليوم فإن رضيتها فهي لك بألف درهم أو قال إن رضيتها اليوم فهي لك بألف درهم فهو جائز على ما اشترطا استحسانا وفي القياس هو باطل وهو قول زفر رحمه الله تعالى وجه القياس أنه صرح بتعليق الإيجاب بشرط الرضا وإيجاب البيع لا يحتمل التعليق بالشرط كما لو قال إن تكلمت فهي لك بكذا ووجه الاستحسان أنهما أتيا بمعنى شرط الخيار يوما والمعتبر والمقصود هو المعنى فكأنه قال بعت منك على أنك بالخيار إلى الليل وهذا لأن حمل كلامه على الصحة واجب ما أمكن والتقديم والتأخير في الكلام محتمل وتصحيح الكلام بالتقديم والتأخير طريق في الشرع فكأنه قال هي لك بألف فإن رضيتها اليوم وإلا فردها علي.(13/110)
قال: وإذا كان المشتري بالخيار فاستخدم الجارية فهو على خياره ثلاثة أيام لأنه إنما يشترط الخيار في شراء الرقيق لهذا حتى يستخدمه في المدة فينظر أيوافقه أو لا وكذلك إن ركب الدابة ينظر إلى سيرها أو لبس القميص ينظر إلى قده عليه فهو على خياره لأنه لا يعرف مقصوده إلا بالامتحان ولأجله يشترط الخيار والامتحان في الدابة بالركوب والسير وفي الثوب باللبس فإن لبس بعد ذلك ثانيا فهذا منه رضا لأن معنى الاختيار قد تم باللبس الأول فالثاني يكون اختيارا وكذلك إن سافر على الدابة فقد رضيها لأن الاختيار لا يكون بالسفر على الدابة ولا يفعل ذلك إلا في الملك عادة فإن الإنسان لا يسافر بدابة الغير عادة من غير كراء وكذلك إذا سكن الدار فهو على خياره وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فإذا كان ساكنا في الدار قبل الشراء فاستدام السكنى بعد الشراء لا يسقط خياره فإن انتقل إليها وسكنها بعد الشراء سقط خياره لأنه لا يكون ذلك اختيارا عادة بل يكون رضا بتقرر الملك.(13/111)
ص -53- ... قال: وإذا قبل جارية بشهوة ونظر إلى فرجها بشهوة فهو رضا لأن هذا الفعل لا يحل إلا في الملك فإقدامه عليه دليل الرضى فتقرر ملكه فيها بمنزلة الغشيان.
قال: وإن كانت الجارية هي التي نظرت إلى فرجه أو قبلته أو مسته بشهوة فأقر المشتري أنها فعلت ذلك بشهوة لزمته الجارية أيضا وحرمت عليه أمها وابنتها وكذلك هذا في الرجعة وهذا قول أبي يوسف وقاسه على قول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يعني في الرجعة وأما في قول محمد فلا يكون ما صنعت الجارية بالمشتري رضا منه لأنه لم يصنع شيئا والخيار من المشتري إنما يسقط باعتبار صنع أو يوجد دليل الرضا منه وصنعها به لا يكون دليل الرضا من المشتري بها وإنما هو دليل رضا بكون المشتري مولى لها ولو صرحت بذلك أو أسقطت الخيار كان ذلك لغوا منها وليس هذا نظير ما لو جنت على نفسها لأن سقوط خيار المشتري هناك بعجزه عن ردها كما قبضها لا لفعلها ألا ترى أنها وإن تعيبت من غير فعل أحد سقط خياره أيضا وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن فعلها به في الحكم كفعله بها بدليل الوطء فإنه لو كان نائما فاستدخلت فرجه فرجها سقط خياره كما لو فعل بها فكذلك دواعي الوطء ألا ترى أن في حرمة المصاهرة يسوي بين الوطء ودواعيه وبين فعلها به وفعله بها وهذا لأن الفعل غير مسقط الخيار بنفسه بل بحكمه وهو أنه لا يحل إلا في الملك والحل باعتبار الملك يثبت من الجانبين فكما يسقط الخيار باعتبار هذا المعنى عند فعله بها فكذلك عند فعلها به وبعد قيام الدليل الحكمي لا يبقى خياره وإن انعدم رضاه كما لو تعيبت في يده بفعله أو بغير فعله وكما عجز هناك عن ردها كما قبض فقد عجز هنا عن ذلك لأنه إذا كان اشتراها من أبيه فقد اشتراها وهي حلال للأب وبعد هذا الفعل يردها وهي حرام عليه فيمتنع الرد كذلك والدليل عليه الرجعة فإن المرأة إذا صرحت بالرجعة لم يصح ذلك منها ثم جعل فعلها به في حكم ثبوت الرجعة كفعله بها فهذا مثله.(13/112)
قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: وهذا في الخيار أقبح ولكن الكل قياس واحد يريد أن ملك الحل بسبب النكاح مشترك بين الزوجين ولا شركة بين المشتري والجارية في حقوق عقد الشراء والملك الثابت ولكن الكل قياس واحد من الوجه الذي قررنا وإنما يسقط إقرار المشتري أنها فعلت ذلك من شهوة لأن قول الأمة غير مقبول في إسقاط خياره وإقرار المشتري بذلك حجة عليه ألا ترى أن في حرمة أمها وابنتها عليه يعتبر إقرار المشتري بذلك فكذلك في سقوط خياره وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنها إن اختلست ذلك منه وهو كاره لم يسقط خياره وإن مكنها من ذلك حينئذ يسقط خياره لوجود دليل الرضا منه لتمكنها من تقبيله أو مسه بشهوة.
قال: وإذا باع الوكيل خادما واشترط الخيار للآمر بأمره فقال البائع يعني الوكيل قد رضي الآمر وقال الآمر ما رضيت فالقول قول الآمر مع يمينه أنه ما رضي لأنه في أصل التوكيل استثنى الرضا حيث أمره باشتراط الخيار له ولهذا لو باعه ولم يشترط الخيار له لم(13/113)
ص -54- ... ينفذ بيعه فعند ذلك الوكيل يدعي عليه أنه ما عرف أنه استثناه لنفسه والآمر ينكر فالقول قوله مع يمينه بمنزلة ما لو أنكر أصل الأمر بالبيع.
قال: وإن اختلف الآمر والمشتري في الخادم وقد فسخ الآمر العقد بخياره فقال الآمر ليست هذه بخادمي وقال المشتري هي الخادم التي اشتريت منك فالقول قول المشتري لأن الآمر لما فسخ العقد بخياره فالخادم ملكه في يد المشتري والقول في تعيين الملك قول ذي اليد أمينا كان أو ضامنا كالغاصب.
قال: وإذا لم يكن للخيار وقت فلصاحب الخيار أن يختار في الثلاث فإن مضت الثلاث قبل أن يختار البيع فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز إن اختار بعد الثلاث وقال زفر لا يجوز وإن اختاره في الأيام الثلاث وهو بناء على ما تقدم أن عند أبي حنيفة اشتراط الخيار لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام ومطلق اشتراط الخيار يقتضي التأبيد ألا ترى أن ما لا يتوقت من الخيار كخيار العيب فإنه يثبت على التأبيد ثم الإسقاط إنما يعمل في المستقبل دون الماضي فإذا سقط قبل مضي الأيام الثلاثة عمل إسقاطه في المستقبل وما مضى غير مناف لصحة العقد فكان العقد صحيحا عنده وإذا سقط بعد مجيء اليوم الرابع فما مضى كاف لإفساد العقد وإسقاطه غير ممكن وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ما مضى غير معلوم في نفسه وهو غير مناف لصحة العقد وعلى قول زفر العقد متى فسد لا طريق لتصحيحه إلا الاستقبال ومشايخنا رحمهم الله تعالى مختلفون في الحكم في هذا العقد في الابتداء فمنهم من يقول هو فاسد ثم ينقلب صحيحا بإسقاط الخيار.(13/114)
والأوجه أن يقول الحال فيه مراعى وهو عقد غير منبرم في الحال لأن تأثير الخيار في المنع من انبرام العقد لا في إفساد العقد وإنما المفسد هو الخيار في اليوم الرابع وذلك لا يتصور إلا بعد مضي الأيام الثلاثة ما لم يتقرر عليه الفساد لا يتعين عليه صفة الفساد للعقد ويستوي إن أسقط المشتري خياره في الأيام الثلاثة أو أعتقه أو مات في يده أو تعيب في أنه يسقط خياره في المستقبل باعتراض هذه المعاني ويجب عليه الثمن المسمى ذكره الكرخي في جامعه الصغير وبهذا يتبين أن العقد غير محكوم بفساده قبل مجيء اليوم الرابع.
قال: وإذا اشترى عبدين أحدهما بألف والآخر بخمسمائة على أن يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر فمات فقال البائع مات الذي بألف درهم قبل وقال المشتري لا بل مات الذي بخمسمائة قبل وكان أبو يوسف يقول أولا لم يصدق واحد منهما على ما قال ويحلف المشتري ما يعلم أنه مات الذي بألف أول مرة ويحلف البائع ما يعلم أنه مات الذي بخمسمائة أولا فأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه فإن حلفا لزمهما نصف ثمن كل واحد منهما ثم رجع أبو يوسف بعد ذلك فقال القول قول المشتري إلا أن يقيم البائع البينة وهو قول محمد وجه قوله الأول أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه العقد في مجلس آخر،(13/115)
ص -55- ... فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه كما لو قال بعت منك هذا العبد بألف وقال المشتري إنما اشتريت منك هذا العبد الآخر بخمسمائة وقد بينا فيما سبق أن كل واحد منهما في هذا الفصل مدع ومنكر حقيقة فالهلاك لا يمنع جريان التحالف وإنما يحلف كل واحد منهما على العلم لأنه استحلاف على ما ليس من صنعه وهو الموت أولا فإذا حلفا فقد انتفى دعوى كل واحد منهما بيمين صاحبه وقد علمنا يقينا بلزوم البيع في أحدهما ووجوب ثمنه عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر فيلزمه نصف ثمن كل واحد منهما أو لم يعلم التاريخ بين موتيهما يجعل كأنهما ماتا معا فيتسع حكم البيع والأمانة فيهما ووجه قوله الآخر أن حاصل الاختلاف في مقدار ما وجب للبائع على المشتري من الثمن فالبائع يدعي الزيادة فعليه أن يقيم البينة على ذلك والمشتري منكر لتلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه وليس هذا على أصل محمد نظير اختلاف المتبايعين في الثمن بعد هلاك السلعة لأن هناك كل واحد منهما يدعي عقدا آخر فالبيع بألف غير البيع بألفين على ما بينا وهنا هما صادقان على العقد بالثمن المسمى في كل واحد منهما وإنما يختلفان في مقدار ما لزم المشتري من الثمن المسمى فالقول قوله لإنكاره الزيادة وإن قامت لهما بينة لزمه ألف درهم لأن بينة البائع تثبت الزيادة وكذلك لو حدث بهما جميعا عيب فاختلفا في الذي أصابه العيب أولا وأقاما البينة فالبينة بينة البائع لإثبات الزيادة في حقه قبل المشتري.(13/116)
قال: وإذا اشترى عبدا على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقطعت يده عند المشتري فالبائع بالخيار إن شاء ألزمه البيع وأخذ منه الثمن وإن شاء أخذ منه عبده لأن التعيب حصل في ضمان المشتري وذلك لا ينافي خيار البائع ومحل الإجازة بعد القطع قائم فيبقى على خياره فإن اختار أخذ العبد يخير في نصف القيمة بين أن يرجع به على الجاني أو على المشتري لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه فالجناية من القاطع حصلت على ملكه ولكن ضمان المشتري بالقبض فيكون له الخيار في التضمين كالعبد المغصوب إذا قطعت يده عند الغاصب فإذا اختار اتباع القاطع لم يرجع القاطع على المشتري لأن القاطع ضمن بجنايته وإن اختار اتباع المشتري فللمشتري أن يرجع به على القاطع لأن ذلك الضمان تقرر عليه بجناية القاطع فيرجع به عليه كالغاصب وإن كان البائع هو الذي قطع يده فهذا منه رد للبيع وليس له أن يلزمه البيع بعد ذلك لأن اليد من الآدمي نصفه فهو قد استرد نصفه بقوله وفي الاسترداد بحكم الخيار العقد لا يتجزى ء وفسخه البيع في النصف بالاسترداد يكون فسخا في الكل فلهذا لم يكن له أن يلزمه البيع بعد ذلك.
قال: وإن اشترى جارية على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام فولدت عنده فقد انقطع خياره لأنها تعينت بالولادة وكذلك لو وطئها هو أو غيره بفجور أو غير ذلك لأن وطأه إياها دليل الرضا ووطء الغير إياها بالفجور تعييب لها وقد بينا أن حدوث العيب في ضمان المشتري مسقط لخياره المستوفي بالحكم في حكم جزء من آخر العين لأن المستوفي بالوطء ما يملك(13/117)
ص -56- ... بالنكاح والمملوك بالنكاح في حكم العين ولهذا يثبت مؤيدا واستيفاء جزء من العين مسقط لخياره سواء كان المستوفي هو أو غيره.
قال: مسلم اشترى من مسلم عبدا على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم ارتد المشتري في الثلاثة والعياذ بالله فله أن يرد العبد ولا يوجب عليه الإسلام ولا الكفر شيئا لأن مشيئته لا تنقطع بردته ثم عندهما خياره لا يمنع دخول العبد في ملكه فرده بالخيار بمنزلة الإخراج عن ملكه وذلك صحيح من المرتد عندهما وعند أبي حنيفة خياره يمنع دخول العبد في ملكه فهو بالرد يمتنع من التملك إلا أن يملك غيره شيئا وردته لا تمنعه من ذلك.ثم لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله تعالى أن البدل الذي من جانب المشروط له الخيار لا يخرج عن ملكه وللشافعي فيه ثلاثة أقوال في قول مثل هذا وفي قول يخرج ويدخل في ملك الآخر لأن العقد منعقد مع شرط الخيار فيثبت حكمه وهو الملك إذ الخيار لا ينافي ذلك كخيار العيب وفي قول آخر يقول أنه إذا أسقط الخيار تبين أنه كان خارجا من ملكه إلى ملك صاحبه من وقت العقد بناء على أصله أن الخيار ما يقع بعد ما انعقد السبب موجبا للملك فإذا زال بسقوط الخيار تبين أن الملك كان ثابتا من وقت السبب ووجه قولنا أن العين لا تخرج من ملكه بطريق التجارة إلا بعد تمام رضاه وباشتراط الخيار ينعدم رضاه به والسبب بدون الشرط لا يكون عاملا في الحكم كاليمين بالطلاق فإنه سبب لوقوع الطلاق عند وجود الشرط فما لم يوجد الشرط لا يثبت الحكم به وعند وجود الشرط لا يتبين أن الحكم كان ثابتا قبله كما في حكم الطلاق وهذا معنى ما يقول أن البيع بشرط الخيار في حق الحكم كالمتعلق بسقوط الخيار وإنما تثبت حقيقة الملك عند سقوط الخيار ولهذا لو كان المشتري أعتقه قبل ذلك لم ينفذ عتقه إلا أن السبب المنعقد في الأصل يسري إلى الزوائد المتصلة والمنفصلة لكونها محلا له فعند وجود الشرط كما يثبت الحكم في الأصل يثبت في الزوائد وأما البدل الذي(13/118)
من جانب الآخر على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يخرج في ملكه ولا يدخل في ملك المشروط له الخيار وعندهما يدخل في ملك المشروط له الخيار لأن البيع لازم في جانب من لا خيار له فيتوفر على البدل الذي في جانبه حكم البيع اللازم وهو الانتقال من ملك أحدهما إلى ملك الآخر ولهذا خرج من ملكه ولو لم يدخل في ملك صاحبه بقي مملوكا بلا مالك وذلك لا يجوز وليس من حكم العقد الخروج عن الملك من غير دخول في ملك الغير والدليل عليه أن المبيع إذا كان دارا والخيار للمشتري فبيعت دار بجنب هذه الدار كان له حق الشفعة ولو لم يصير مالكا لها لما استحق بها الشفعة كخيار السكنى وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول من شرط الخيار لنفسه فقد استثنى الرضا فيما هو حكم العقد ودخول بدل صاحبه في ملكه من حكم العقد كما أن خروج البدل الذي من جانبه عن ملكه من حكم العقد فإذا لم يثبت أحدهما لانعدام الشرط فكذلك الآخر لمعنيين:
أحدهما: أنه لو دخل العوض في ملكه بحكم العقد ولم يخرج المعوض عن ملكه،(13/119)
ص -57- ... اجتمع البدلان في ملك رجل واحد بحكم المعاوضة مع كونها بمحل النقل وذلك لا يجوز.
والثاني: أنه لو دخل في ملكه من غير أن يخرج البدل الآخر عن ملكه كان مالكا بغير عوض وليس هذا بموجب البيع إن ثبت الملك به بغير عوض وإذا ثبت الملك له بغير عوض فلا يجوز أن يجب عليه العوض بعد ذلك إذن يكون ذلك عوضا يلزمه عن ملك نفسه.
فالحاصل أنهما بينا مذهبهما على اعتبار حال البدل وأبو حنيفة رضي الله عنه بنى مذهبه على اعتبار حال العاقد وأن الذي شرط الخيار لما استثنى الرضا لم يثبت حكم العقد أصلا في حقه لا في البدل الذي من جانبه ولا في البدل الذي من جانب صاحبه واعتبار هذا الجانب أولى لما قررنا ووجوب الشفعة للمشتري بها لأنه صار أحق بها تصرفا لأنه ملكها بمنزلة العبد المأذون إذا بيعت دار بجنب داره يجب له الشفعة لهذا المعنى ولهذا لو أعتقه المشتري نفذ عتقه لأنه صار أحق بالتصرف فيه وإقدامه على الإعتاق إسقاط منه لخياره.(13/120)
ويتفرع على الأصل الذي بينا مسائل منها أن من اشترى قريبه على أنه بالخيار ثبت خياره عند أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يعتق عليه لأنه لم يملكه وعندهما عتق عليه لأنه قد ملكه ولا خيار له فيه وكذلك لو قال أن ملكت هذا العبد فهو حر فاشتراه على أنه بالخيار بخلاف ما إذا قال إن اشتريته فهو حر لأن عند وجود الشرط يصير كالمنشئ للعتق فإذا كان الشرط هو الشراء يجعل بعد الشراء كأنه أعتقه فلهذا يعتق عندهم جميعا وعلى هذا لو اشترى زوجته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لا يفسد النكاح عند أبي حنيفة ولو وطئها في المدة كان الوطء بحكم النكاح ولا يمنعه من ردها بخياره وعندهما يفسد النكاح ولو وطئها في المدة لم يكن له أن يردها بحكم خياره ومنها أن المسلم إذا اشترى عصيرا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقبضه فتخمر في يده فعلى قولهما يسقط خياره لأنه قد صار مالكا فلا يتمكن من رده بعد التخمر وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لم يكن مالكا فيفسد البيع بالتخمر لأنه لو لم يفسد البيع لكان متملكا بإسقاط الخيار بعد ما تخمر وذلك لا يجوز(13/121)
وقيل في هذا الموضع تتغير العين من صفة إلى صفة في ضمان المشتري فينبغي أن يسقط الخيار عندهم جميعا وإنما هذا للاختلاف في ذمي اشترى من ذمي خمرا على أن المشتري بالخيار وقبضها ثم أسلم فعندهما يسقط خياره لأنه كان مالكا فلا يردها بعد إسلامه وعند أبي حنيفة يبطل البيع لأنه لم يكن مالكا ولو لم يبطل البيع يتملكها عند إسقاط الخيار بحكم العقد بعد إسلامه وذلك لا يجوز ومنها أن من اشترى جارية على أنه بالخيار وقبضها ثم ردها بحكم الخيار فعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجب على البائع استبراء جديد لأنه لم يدخل في ملك غيره عنده وعندهما يجب ولو حاضت عند المشتري في مدة الخيار ثم أسقط خياره عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجتزي بتلك الحيضة من الاستبراء وعندهما يجتزي بها ومنها العبد المأذون إذا اشترى عبدا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فأبرأه البائع من الثمن ثم أراد رده بخياره فله ذلك عند.(13/122)
ص -58- ... أبي حنيفة لأنه لم يكن مالكا له فهو بالرد يمتنع من تملكه وعندهما كان مالكا فلو رده بعد ما أبرأه عن الثمن يخرج العبد عن ملكه بغير عوض والعبد المأذون لا يملك ذلك.
قال: نصراني اشترى من نصراني خمرا فلم يقبضها حتى أسلم أحدهما إما البائع أو المشتري فلا بيع بينهما استحسانا وفي القياس يبقى البيع بينهما صحيحا لأن المشتري ملك الخمر بنفس العقد والإسلام لا يمنعه من قبضها ألا ترى أنه لو كانت خمرا مغصوبة له في يد غيره كان له أن يقبضها بعد الإسلام فكذلك في البيع وجه الاستحسان أن الإسلام يمنع القبض هنا لأن هذا القبض مشابه بالعقد من حيث أنه يتأكد به ملك العين ويستفاد به ملك التصرف فكما أن الإسلام من أحدهما يمنع ابتداء العقد على الخمر فكذلك يمنع القبض بحكم العقد وفوات القبض المستحق بالعقد مبطل للعقد يوضحه أن الطارئ بعد العقد قبل القبض من الزوائد يجعل كالموجود عند العقد حكما فكذلك الطارئ من إسلام أحدهما يجعل كالموجود عند العقد وكذلك السلم في الخمر يعين إذا أسلم نصراني إلى نصراني في خمر يجوز فإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر فهو على هذا القياس والاستحسان وعن أبي يوسف أنه قال في السلم أخذ بالاستحسان وفي مبيع العين أخذنا بالقياس لأن القبض بحكم السلم يوجب الملك في غير المقبوض وهو نظير العقد في أن إسلام أحد المتعاقدين يمنع العقد على الخمر فأما في بيع العين القبض ناقل للضمان وليس بموجب ملك العين فهو بمنزلة استرداد المغصوب.(13/123)
قال: وإن كان المشتري قبض الخمر ولم يرد الثمن حتى أسلما أو أسلم أحدهما فالبيع ماض والثمن عليه لأن حكم العقد ينتهي في الحرام بالقبض والإسلام الطارئ لا يؤثر في المنع من قبض الثمن يقرره أن الإسلام إذا طرأ فإنه يلاقي الحرمة القائمة بالرد والماضية بالعفو كنزول آية الربا على ما نص الله تعالى عليه بقوله {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}[البقرة:278] أي ما بقي غير مقبوض فعرفنا أن الإسلام المحرم إذا طرأ لا يتعرض للمقبوض.
قال: وإذا اشترى الرجل عبدين بألف درهم على أن أحدهما له لازم وهو في الآخر بالخيار فهو فاسد لأن الذي لزمه العقد فيه منهما مجهول وإلزام العقد في المجهول لا يجوز وكذلك إن سمى لكل واحد منهما ثمنا فإن لم يبين الذي لزمه العقد فيه منهما فهذا فاسد أيضا لما قلنا وإن بين ذلك فحينئذ يجوز لأن الذي لزمه العقد فيه معلوم وثمنه مسمى معلوم والذي له الخيار فيه معلوم فكأن العقد كان في صفقتين متفرقتين فإن اشترى أحدهما بعينه في صفقة واحدة على أنه بالخيار فيه والآخر في صفقة من غير خيار ولو لم يكن الذي لزمه العقد فيه معيبا وقبضهما وماتا في يده فهو ضامن لقيمتهما لأنه قبضهما بحكم الشراء الفاسد فكل واحد منهما يكون مضمونا عليه بالقيمة والله أعلم بالصواب.
باب الخيار بغير الشرط
قال رحمه الله تعالى: وإذا اشترى الرجل جراب هروي أو زيتا في زق أو حنطة في جوالق(13/124)
ص -59- ... فلم ير شيئا من ذلك فهو بالخيار إذا رآه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن لم يكن جنس المبيع معلوما للمشتري فالعقد باطل قولا واحدا وإن كان جنس المبيع معلوما فله فيه قولان احتج في ذلك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر والغرر ما يكون مستور العاقبة وذلك وجود فيما لم يره وبنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان والمراد ما ليس بحاضر مرئيا للمشتري لإجماعنا على أن المشتري إذا كان رآه فالعقد جائز وإن لم يكن حاضرا عند العقد لأنه لم يعرف من المعقود عليه إلا الاسم فلا يجوز البيع كما لو قال بعت منك عبدا ولم يشر إليه ولا إلى مكانه ومعنى هذا الكلام أن جميع أوصاف المعقود عليه مجهولة وطريق معرفتها الرؤية دون الخبر ألا ترى أن العقد لا يلزم قبل الرؤية مع سلامة المعقود عليه والرضا بلزومه ولو كان الوصف طريقا للإعلام هنا لكان العقد يلزم باعتباره يوضحه أن المقصود هو المالية ومقدار المالية لا يصير معلوما إلا بالرؤية فالجهل بمقدار المالية قبل الرؤية بمنزلة انعدام المالية في إفساد العقد كبيع الآبق فإن المالية في الآبق قائمة حقيقة ولكن لا يتوصل إليه للبعد عن اليد فيجعل ذلك كفوات المالية في المنع من جواز البيع ولهذا لا يجوز بيع الجنين في البطن وبيع اللبن في الضرع ولأن البيع نوعان بيع عين وبيع دين وطريق معرفة المبيع فيما هو دين الوصف يعني المسلم فيه وفي ما هو عين المشاهدة ثم ما هو الطريقة لمعرفة المعقود عليه في بيع الدين وهو الوصف إذا تراخى عن حالة العقد لم يجز العقد فكذلك ما هو الطريق للمعرفة في بيع العين وهو الرؤية إذا تأخر عن حالة العقد لا يجوز العقد.(13/125)
وحجتنا في ذلك ما روي في المشاهير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" والهاء في قوله لم يره كناية فينصرف إلى المكنى السابق وهو الشيء المشتري والمراد خيار لا يثبت إلا بعد تقدم الشراء وذلك الخيار بين فسخ العقد وإلزامه دون خيار الشراء ابتداء وتصريحه بإثبات هذا الخيار له تنصيص على جواز شرائه وهذا الحديث رواه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء والحسن البصري وسلمة بن المجير رحمهم الله تعالى مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم لشهرته والمعنى فيه أن المبيع معلوم العين مقدور التسليم فيجوز بيعه كالمرئي وبيان الوصف أنه مشار إلى عينه فإن الخلاف في جارية قائمة بين يديه مبيعة فلا شك أن عينها معلومة بالإشارة إليها وكذلك إن أشار إلى مكانها وليس في ذلك المكان مسمى بذلك الاسم غيرها فأما كونها جارية وكونها مملوكة فلا طريق إلى معرفة ذلك الأخير التابع له فإنها وإن رفعت النقاب لا يعلم ذلك إلا بقول البائع وقد أخبرته وهذا لأن خبر الواحد في المعاملات يوجب العلم من حيث الظاهر ولهذا من علم شيئا مملوكا لإنسان ثم رآه في يد غيره يبيعه ويزعم أنه اشتراه من الأول أو أنه وكله ببيعه جاز له أن يشتري منه بناء على خبره فإنما نفى تقدم رؤية وجهها الجهل بصفات الوجه وجواز العقد وفساده لا ينبني على ذلك لأن الجهل ببعض أوصافها لا يكون أكثر تأثيرا من فوات بعض(13/126)
ص -60- ... الأوصاف بأن كانت محترقة الوجه أو معيبة بعيب آخر وذلك لا يمنع جواز العقد وإن كان يمنع لزوم العقد فكذلك الجهل لبعض الأوصاف.
ألا ترى أن عدم المعقود عليه يمنع العقد والجهل بالمعقود عليه في بعض المواضع لا يمنع العقد وهو أنه إذا باع قفيزا من الصبرة فإن عين المعقود عليه مجهول وجاز العقد فدل أن تأثير العدم فوق تأثير الجهل يوضحه أن الجهالة إنما تفسد العقد إذا كانت تفضي إلى المنازعة كما في شاة من القطيع فأما إذا لم تفض إلى المنازعة لا تفسد البيع كبيع القفيز من الصبرة وجهالة الأوصاف بسبب عدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة بعد ما صار معلوم العين وإنما تأثير هذه الجهالة في انعدام تمام الرضا به وذلك شرط انبرام العقد لا شرط جوازه ألا ترى أن البيع يجوز مع خيار الشرط ولا يلزم لانعدام تمام الرضا وكذلك في العيب إلا أن هناك السبب المانع من تمام الرضا شرط الخيار منه وهو محتمل للإسقاط فإذا أسقطه تم الرضا في العيب والسبب بثبوت الحق المطالبة بالجزء الفائت وهو محتمل للإسقاط فإذا أسقطه تم الرضاء به وهنا السبب هو الجهل بأوصاف المعقود عليه وذلك لا ينعدم إلا بالرؤية فلهذا لا يسقط خياره وإن أسقطه قبل الرؤية والدليل عليه أن جهالة العين كما تمنع جواز البيع تمنع جواز النكاح حتى لو قال زوجتك إحدى ابنتي أو زوجتك إحدى أمتي لم يصح النكاح ثم عدم الرؤية لا تمنع صحة النكاح فعرفنا أنه لا يوجب جهالة العين إلا أن في النكاح العقد يلزم لأن لزومه لا يعتمد تمام الرضا ولهذا لزم مع اشتراط الخيار والعيب بخلاف البيع وعليه نقيس لعله أن هذا عقد معاوضة فعدم رؤية المعقود عليه لا تمنع جوازه كالنكاح ولأنه ليس في هذا أكثر من أن ما هو المقصود بالعقد مسترد بغيره وهذا لا يمنع جواز الشراء كما إذا اشترى جوزا أو بيضا أو اشترى قفاعا في كوز يجوز فالمقصود بالعقد مسترد بغيره.(13/127)
يوضحه أن الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز بيع اللوز الرطب والجوز الرطب في قشرين ويجوز بيع اليابس منهما لأنه في قشر واحد وفي الوجهين المقصود وهو اللب دون القشر وهو مسترد بما ليس بمقصود وهذا بخلاف السلم لأن جهالة الوصف هناك تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم ولأن العقد يرد على الأوصاف في باب السلم فإن الدين وصف في الذمة والبدل بمقابلتها فإذا لم يذكر عند العقد لم يجز العقد لانعدام المعقود عليه وبيع الآبق إنما لا يجوز للعجز عن التسليم لا لعدم المالية ولهذا جوزنا هبته من ابنه الصغير وبيعه ممن في يده وبيع الجنين في البطن إنما لا يجوز لانعدام المالية فيه مقصودا فإنه في البطن جزء من أجزاء الأم ألا ترى أنه لا يحتمل التزويج مقصودا فكذلك البيع بخلاف ما نحن فيه وتأويل النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان بيع ما ليس في ملكه بدليل قصة الحديث فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال يا رسول الله إن الرجل يطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فاستحدثها فاستجيدها فأشتريها فأسلمها إليه فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك" والنهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين إذا عرفنا هذا فنقول هنا فصلان:(13/128)
ص -61- ... أحدهما: البائع إذا لم ير المبيع قط بأن ورث شيئا فباعه قبل الرؤية فالبيع جائز عندنا وكان أبو حنيفة رضي الله عنه أولا يقول له الخيار ثم رجع وقال لا خيار له وقال الشافعي لا يجوز بيعه قولا واحدا والدليل على جوازه ما روي أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه باع أرضا كانت له بالبصرة من طلحة رضي الله تعالى عنه فقيل لطلحة إنك قد عينت فقال: الخيار لي لأني اشتريت ما لم أره فذكر ذلك لعثمان رضي الله تعالى عنه فقال لي الخيار لأني بعت ما لم أره فحكما جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه في ذلك فقضى بالخيار لطلحة رضي الله تعالى عنه فقد اتفقوا على جواز الشرط ولهذا رجع أبو حنيفة حين بلغه الحديث و قال لا خيار للبائع وهذا لأن تمام رضاه باعتبار علمه بما يدخل في ملكه لا بما يخرج عن ملكه والمبيع يخرج عن ملك البائع وإنما يدخل في ملكه الثمن وهو طريق إعلامه التسمية دون الرؤية فأما إذا كان البائع قد رأى المعقود عليه ولم يره المشتري فهو على الخلاف الذي قلنا وبعد العقد قبل الرؤية للمشتري أن يفسخ العقد لأن تمكنه من الفسخ باعتبار أن العقد غير لازم وما لم يتم الرضا به لا يكون العقد لازما فكان له أن يفسخ العقد قبل الرؤية وليس له أن يلزم العقد قبل الرؤية لأن اللزوم يعتمد تمام الرضا وإنما يتم رضاه إذا علم بالأوصاف التي هي مقصوده وإنما يصير ذلك معلوما بالرؤية وهذا بخلاف خيار العيب فإن العلم بالأوصاف قبل رؤية موضع العيب يثبت على الوجه الذي اقتضاه العقد وهو صفة السلامة فإنما يثبت خيار العيب لثبوت حق المطالبة له بتسليم الجزء الفائت وذلك يحتمل الإسقاط فلهذا صح الإبراء قبل رؤية العيب.(13/129)
يوضحه أن في الرضا قبل الرؤية هنا إبطال حكم ثبت بالنص وهو الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه لأنه يراه بعد ذلك ولا خيار له وليس له في الفسخ إبطال حكم ثابت بالنص لأنه يوجد رؤية المعقود عليه خاليا عن الخيار وقد أثبت الشرع الخيار عند رؤية المعقود عليه بخلاف الفسخ قبل الرؤية لأن بالفسخ خرج من أن يكون معقودا عليه فلا يوجد بعد ذلك رؤية المعقود عليه خاليا عن الخيار ثم يشترط لإسقاط الخيار هنا الرؤية التي توجب إعلام ما هو المقصود وذلك في بني آدم برؤية الوجه وفي الدواب برؤية وجهها وكفلها ومؤخرها فيما يروى عن أبي يوسف وفي الغنم يحتاج مع ذلك إلى الجنس وفيما يكون المقصود منه اللبن يحتاج إلى رؤية الضرع وفيما يعلم بالذوق والشم يحتاج إلى ذلك أيضا لأن العلم بما هو المقصود إنما يحصل به فلا يسقط خياره ما لم يرض بعد العلم بما هو المقصود صريحا أو دلالة وليس للخيار في هذا وقت لأن الحديث ورد بخيار مطلق للمشتري فالتوقيت فيه زيادة على النص ولأن هذا في معنى خيار العيب وذلك لا يتوقت إلا أن خيار العيب يجوز الصلح عنه على مال بخلاف خيار الرؤية لأن الحق هناك في الجزء الفائت والاصطلاح يكون على رد حصة الجزء الفائت من الثمن ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهنا الخيار للجهل بأوصاف المعقود عليه وذلك ليس بمال فلا يجوز الصلح(13/130)
ص -62- ... عنه على مال كخيار الشرط ولهذا قلنا إن خيار العيب يورث لأن الوارث يقوم مقام المورث فيما هو مال وخيار الرؤية لا يورث كخيار الشرط.
قال: فإن رأى بعض الثياب فهو فيما بقي منها بالخيار لأن الثياب تتفاوت فلا يستدل برؤية بعضها على رؤية البعض وإذا أراد الرد فليس له أن يرد ما لم يره خاصة ولكن يرد الكل أو يمسك الكل لأن خيار الرؤية يمنع تمام الصفقة كخيار الشرط فإن كل واحد منهما يمنع اللزوم لعدم تمام الرضا فكما أن من له خيار الشرط لا يتمكن من تفريق الصفقة قبل التمام بلزوم العقد فكذلك من له خيار الرؤية ويستوي في ذلك ما قبل القبض وما بعد القبض لأن الصفقة إنما تتم بالقبض باعتبار تمام الرضا ولا يكون ذلك قبل الرؤية بخلاف خيار العيب فهناك الصفقة تتم بالقبض لتمام الرضا به على ما هو مقتضى العقد وهو صفة السلامة.(13/131)
قال: ولو تعذر رد البعض الهالك في يد المشتري قبل الرؤية فليس له أن يرد ما بقي لأنه تعذر عليه رد الهالك وليس له أن يفرق الصفقة في الرد قبل التمام فمن ضرورة تعذر الرد في الهالك تعذر الرد فيما بقي إلا في رواية عن أبي يوسف قال له أن يرد ما بقي لأنه لو صرح بإلزام العقد قبل الرؤية لم يسقط خياره فبهلاك البعض أولى أن لا يسقط خياره فيما بقي ولكنه قبل الهلاك باختياره رد البعض هو فاسد للإضرار بالبائع فيرد عليه قصده وذلك لا يوجد بعد الهلاك فيتمكن من رد ما بقي وكذلك كل حيوان أو عرض فأما السمن والزيت والحنطة فلا خيار له إذا اشتراها بعد رؤية بعضها لأن المكيل أو الموزون من جنس واحد لا يتفاوت فبرؤية البعض تصير صفة ما بقي منه معلوما والأصل أن كل ما يعرض بالنموذج فرؤية جزء منه يكفي لإسقاط الخيار فيه وما لا يعرض بالنموذج فلا بد من رؤية كل واحد منهما لإسقاط الخيار وفيما يعرض بالنموذج إنما يلزم العقد إذا كان ما لم يره مثل ما رآه أو أجود مما رآى فإن كان أدنى مما رأى فله الخيار لأنه إنما رضي بالصفة التي رآى فإذا تغير لم يتم الرضا به وإن اختلفا فقال المشتري قد تغير وقال البائع لم يتغير فالقول قول البائع مع يمينه وعلى المشتري البينة لأن دعواه التغير بعد ظهور سبب لزوم العقد وهو رؤية جزء من المعقود عليه بمنزلة دعوى العيب في المشترى ولو ادعى عيبا بالمبيع فعليه أن يثبت ذلك بالبينة والقول قول البائع مع يمينه إن لم يكن له بينة فهذا مثله.(13/132)
قال: وإذا رأى متاعا مطويا ولم يقسه ولم ينشره فاشتراه على ذلك فلا خيار له لأن في الثوب الواحد يستدل برؤية طرف منه على ما بقي فلا تتفاوت أطراف الثوب الواحد إلا يسيرا وذلك غير معتبر ولأن رؤية كل جزء منه يتعذر قالوا وهذا إذا لم يكن في طي الثوب ما هو المقصود فإن كان في طي الثوب ما هو مقصود كالعلم لم يسقط خياره ما لم ير ذلك الموضع يعني موضع العلم لأن المالية تتفاوت بجنسه وهو نظير النظر إلى وجه الآدمي فإنه وإن رأى سائر المواضع من جسده لا يسقط خياره ما لم ير وجهه.
قال: ولو كان رآه قبل الشراء ثم اشتراه فلا خيار له إلا أن يكون قد تغير عن الحال الذي(13/133)
ص -63- ... رآه عليه وإن ادعى المشتري التغير فالقول قول البائع مع يمينه لإنكاره وعلى المشتري البينة وهذا إذا كانت المدة قريبة يعلم أنه لا يتغير في مثل تلك المدة فأما إذا تطاولت المدة فالقول قول المشتري أرأيت لو كانت جارية شابة ثم اشتراها بعد عشرين سنة فزعم البائع أنها لم تتغير أكان يصدق على ذلك فهذا مما يعرفه كل عاقل فالظاهر يشهد فيه للمشتري فالقول قوله.
قال: وإذا اشترى شيئا ثم أرسل رسولا يقبضه فهو بالخيار إذا رآه ورؤية الرسول وقبضه لا يلزمه المتاع لأن المقصود علم العاقد بأوصاف المعقود عليه ليتم رضاه وذلك لا يحصل برؤية الرسول فأكثر ما فيه أن قبض رسوله كقبضه بنفسه ولو قبض بنفسه قبل الرؤية كان بالخيار إذا رآه فكذلك إذا أرسل رسولا فقبضه له فأما إذا وكل وكيلا بقبضه فرآه الوكيل وقبضه لم يكن للموكل فيه خيار بعد ذلك في قول أبي حنيفة رضي الله عنه و قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى له الخيار إذا رآه لأن القبض فعل والرسول والوكيل فيه سواء وكل واحد منهما مأمور بإحراز العين والحمل إليه والنقل إلى ضمانه بفعله ثم خياره لا يسقط برؤية الرسول فكذلك برؤية الوكيل وكيف يسقط خياره برؤيته وهو لو أسقط الخيار نصا لم يصح ذلك منه لأنه لم يوكله به فكذلك إذا قبض بعد الرؤية وقاسا بخيار الشرط والعيب فإنه لا يسقط بقبض الوكيل ورضاه به فكذلك خيار الرؤية وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول التوكيل بمطلق القبض يثبت للوكيل ولأنه إتمام القبض كالتوكيل بمطلق العقد يثبت للوكيل ولأن إتمامه وتمام القبض لا يكون إلا بعد تمام الصفقة والصفقة لا تتم مع بقاء خيار الرؤية فيضمن التوكيل بالقبض إنابة الوكيل مناب نفسه في الرؤية المسقطة لخياره بخلاف الرسول فإن الرسول ليس إليه إلا تبليغ الرسالة فأما إتمام ما أرسل به ليس إليه كالرسول بالعقد ليس إليه من القبض والتسليم شيء والدليل على الفرق بين الوكالة والرسالة أن الله تعالى أثبت صفة(13/134)
الرسالة لنبيه صلى الله عليه وسلم وبقي الوكالة بقوله تعالى {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:66] وهذا بخلاف خيار العيب فإن بقاءه لا يمنع تمام الصفقة والقبض ولهذا ملك بعد القبض رد المعيب خاصة.
يوضحه أن خيار العيب لثبوت حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت وذلك للموكل والوكيل لا يملك إسقاطه لأنه فوض إليه الاستيفاء دون الإسقاط فأما خيار الشرط فقد منعه بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى والأصح هو التسليم والفرق بينهما أنا نجعل في الموضعين فعل الوكيل كفعل الموكل والموكل لو قبض بنفسه بعد الرؤية سقط به خياره فكذلك قبض الوكيل ولم يسقط خيار الشرط بقبض الوكيل بحال وهذا لأن من شرط الخيار استثنى رضاه نصا فلا بد لسقوط خياره من إسقاطه أو إسقاط نائبه والوكيل ليس بنائب عنه في إسقاط حصة الذي استثناه لنفسه أو يقول سقوط خيار الرؤية من حقوق العقد لأن الرؤية تكون عند القبض عادة والوكيل بالشيء فيما هو من حقوقه كالمباشر لنفسه بمنزلة الوكيل بالعقد بخلاف خيار الشرط فإسقاطه لا يكون عند القبض والرؤية بل بالتأكد فيه بعد مدة بعيدة ولأن الوكيل بقبض المبيع(13/135)
ص -64- ... بمنزلة الوكيل بالعقد لأن القبض مشابه بالعقد من حيث أنه يستفاد به ملك التصرف ثم رؤية الوكيل بالعقد تجعل كرؤية الموكل فكذلك رؤية الوكيل بالقبض بخلاف خيار العيب فرضاء الوكيل بالعيب لا يكون ملزما الموكل ألا ترى أنه بعد الشراء لو وجد بالمبيع عيبا فرضي به الوكيل وأبى الموكل أن يرضى به فله أن لا يرضى بخلاف خيار الشرط فالوكيل بالعقد لا يملك إسقاط خيار الشرط الذي استثناه الآمر لنفسه نحو ما إذا أمره بأن يشترط له الخيار فكذلك الوكيل بالقبض لا يملك إسقاطه.(13/136)
قال: وإذا اشترى عدل زطي لم يره ثم باع منه ثوبا ثم نظر إلى ما بقي فلم يرض به لم يكن له أن يرده إلا من عيب يجده فيه لأنه تعذر الرد فيما باع وليس له أن يفرق الصفقة في الرد بخيار الرؤية فإذا عاد إلى ملك البائع ما باع بسبب فهو فسخ من كل وجه فله أن يرد الكل بخيار الرؤية لزوال المانع إلا في رواية علي بن الجعد رحمه الله تعالى عن أبي يوسف أنه يقول خيار الرؤية كخيار الشرط فلا يعود بعد ما سقط وإن عاد إلى قديم ملكه وإن كان باعه على انه بالخيار فإن كان بعد الرؤية فهو دليل الرضى منه فيسقط خياره وإن كان قبل الرؤية فهو على خياره لأنه لم يتعذر عليه رد الكل بما أحدث من التصرف فلو أسقطنا خياره لأسقطنا بإيجابه البيع في الثوب وذلك لا يكون أقوى من تصريحه بإسقاط خيار الرؤية ولو صرح بذلك لم يسقط خياره قبل الرؤية فكذلك إذا باعه على أنه بالخيار فإن كان بعد الرؤية فهو دليل الرضى منه فسقط خياره وإن كان قبل الرؤية فهو على خياره لأنه لم يتعذر عليه رد الكل بما أحدث من التصرف فلو أسقطنا خياره لأسقطنا بإيجابه البيع في الثوب وذلك لا يكون أقوى من تصريحه بإسقاط خيار الرؤية ولو صرح بذلك لم يسقط خياره قبل الرؤية فكذلك إذا باعه على أنه بالخيار وكذلك لو قطع ثوبا منه وألبسه حتى تغير فقد تعذر عليه رد هذا الثوب كما قبضه وليس له أن يرد ما بقي لما فيه من تفريق الصفقة قبل التمام.(13/137)
قال: وإذا اشترى عدل زطى بثمن واحد أو كل ثوب بعشرة أو كر حنطة أو خادمين فحدث في شيء من ذلك عيب قبل أن يقبضه أو كان العيب فيه فعلم به فليس له إلا أن يرده كله أو يأخذه كله لما في رد البعض من تفريق الصفقة قبل التمام ولأن الرد بالعيب قبل القبض بمنزلة الرد بخيار الشرط وخيار الرؤية ولهذا ينفرد الراد به من غير قضاء ولا رضاء وهذا لأنه لا حصة من الثمن قبل القبض فهو مجرد خيار يثبت له ليدفع به الضرر عن نفسه لا حصة للجزء الفائت من المثمن قبل القبض لأنه وصف فلا يمكن من إلحاق الضرر بالبائع في تفريق الصفقة عليه ولكن يرد الكل أو يمسك الكل والحادث من العيب قبل القبض كالموجود عند العقد لأن المبيع في ضمان البائع ولو هلك كان هلاكه على البائع فكذلك إذا فات جزء منه ولأن الزيادة التي تحدث في العين قبل القبض لما جعلت في حكم الموجود عند العقد فكذلك النقصان الحادث في العين قبل القبض وكذلك لو قبض أحدهما دون الآخر لأن تمام الصفقة تعلق بالقبض فلا يثبت إلا بعد قبض الجميع كسقوط(13/138)
ص -65- ... حق البائع في الجنس لما تعلق بوصول الثمن إليه فما لم يقبض جميع الثمن بقي حقه في الجنس فيستوي في ظاهر الرواية إن وجد العيب بالمقبوض فله أن يرده خاصة وإن وجد بالذي لم يقبض فليس له إلا أن يردهما لأنه يجعل في حكم ما وجد به العيب كان الآخر بصفته وأما إذا علم بالعيب بعد ما قبضهما فله أن يرد المعيب خاصة وقد لزمه البيع في الآخر بحصته من الثمن إلا على قول زفر فإنه يقول يردهما إن شاء لأن ضم الجيد إلى الرديء عادة ظاهرة في البيع فلو رد الرديء بالعيب خاصة تضرر به البائع فلدفع الضرر عنه أما أن يردهما أو يمسكهما كما في الرد بخيار الشرط والرؤية ولكنا نقول حق المشتري بعد القبض في المطالبة بتسليم الجزء الفائت ولأجله يتمكن من الرد ولهذا إذا تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهذا المعنى تقتصر على العيب فلا يتعدى حكم الرد إلى محل آخر وهذا لأن الصفقة تتم بالقبض لوجود تمام الرضا من المشتري عند صفة السلامة كما أوجبه العقد وبه فارق خيار الشرط والرؤية فالمانع من تمام الصفقة هناك عدم الرضا للجهل بأوصاف المعقود عليه أو بشرط الخيار وهذا باق وفي رد أحدهما تفريق الصفقة قبل التمام فلهذا لا يتمكن منه وأما ما كان من مكيل أو موزون من ضرب واحد فليس له إلا أن يرد كله أو يمسك كله لأن الكل في الحكم واحد ألا ترى أن الكل تسمى باسم واحد وهو الكر فالشيء الواحد لا يرد بعضه بالعيب دون البعض.(13/139)
يوضحه أنه إذا ميز المعيب ازداد عيبه فالمعيب من الحنطة عند الاختلاط بما ليس بمعيب لا يتبين فيه من العيب ما يتبين إذا ميز عما ليس بمعيب والمشتري لا يتمكن من الرد بعيب أكثر مما خرج من ضمان البائع وبعض المتأخرين رحمهم الله تعالى يقولون هذا إذا كان الكل في وعاء واحد فأما إذا كان في وعائيين فوجد ما في أحد الوعائين معيبا فله أن يرد ذلك بالعيب إن شاء بمنزلة الثوبين والجنسين كالحنطة والشعير لأنه يرده على الوجه الذي خرج من ضمان البائع والأظهر في الجنس الواحد بصفة واحدة أنه كشيء واحد سواء كان في وعاء واحد أو في وعائين فإما أن يرد الكل أو يمسك الكل.
قال: وإذا اشترى ثوبين أو عبدين بثمن واحد وقبضهما ثم استحق أحدهما فالآخر له لازم لأن الاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة بالقبض فإن العقد حق العاقد فتمامه يستدعي تمام الرضا من العاقد به وبالاستحقاق ينعدم رضا المالك لا رضا العاقد ولهذا قلنا في الصرف ورأس مال السلم لو أجاز المستحق بعد ما افترقا يبقى العقد صحيحا فإذا عرفنا تمام الصفقة بالقبض قلنا يرجع بثمن المستحق لأن ذلك لم يسلم له والبيع لازم له في الآخر لأنه سالم واستحقاق أحدهما لا يمكن نقصانا في الآخر وإن استحق أحدهما قبل القبض فله الخيار في الآخر ليفرق الصفقة عليه قبل التمام وكذلك لو قبض أحدهما ولم يقبض الآخر حتى استحق المقبوض أو الذي لم يقبض فله الخيار في الباقي لما بينا أن تمام الصفقة يقبض جميع ما يتناوله العقد فما بقي شيء منه غير مقبوض لا تكون الصفقة تامة ولو كان ثوب واحد أو عبد أو(13/140)
ص -66- ... شيء مما لا يتبعض فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده فله أن يرد ما بقي بعيب الشركة فالتجار يعدون الشركة فيما يضره التبعيض عيبا فاحشا.
قال: وإذا اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فاستحق بعضه قبل القبض أو وجده ناقصا فله أن يترك ما بقي لتفرق الصفقة عليه قبل التمام وإن استحق البعض بعد القبض فلا خيار له فيما بقي لأن هذا لا يضره التبعيض وباستحقاق البعض لا يتعيب ما بقي وقد تمت الصفقة بالقبض.
قال: ولو اشترى دارا فنظر إلى ظاهرها خارجا منها ولم يدخلها فليس له أن يردها إلا بعيب عندنا و قال زفر له أن يردها
وقيل هذا الجواب بناء على دورهم بالكوفة فإنها تختلف بالسعة والضيق وفيما وراء ذلك يكون بصفة واحدة وهذا يصير معلوما بالنظر إلى جدرانها من خارج فأما في ديارنا مالية الدور تختلف بقلة المرافق وكثرتها وذلك لا يصير معلوما إلا بالنظر إليها من داخل فالجواب على ما قال زفر ومن حقق الخلاف في المسألة فحجة زفر هنا الذي ذكرنا الجواب وحجتنا أن النظر إلى كل جزء من أجزائها متعذر فإنه يتعذر عليه أو ينظر إلى ما تحت السور وإلى ما بين الحيطان من الجذوع والاسطوانات وإذا سقط شرط رؤية الكل للتعذر أقمنا رؤية جزء منها مقام رؤية الجميع تيسيرا.
قال: والأعمى في كل ما اشترى إذا لم يقلب ولم يجس بالخيار فإذا قلب أو جس فهو بمنزلة النظر من الصحيح ولا خيار له إلا أن يجد به عيبا والكلام في فصول:(13/141)
أحدها جواز العقد عندنا من الأعمى بيعا كان أو شراء وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كان بصيرا فعمي فكذلك الجواب وإن كان أكمه فلا يجوز بيعه وشراؤه أصلا لأنه لا يعرف لون الأشياء وصفتها وهذا غلط منه فالناس تعارفوا معاملة العميان من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير منكر أصل في الشرع ثم من أصله أن من لا يملك أن يشتري بنفسه لا يملك أن يأمر غيره به فإذا احتاج الأعمى إلى مأكول ولا يتمكن من أن يشتري أو يوكل به مات جوعا وفيه من القبح ما لا يخفى فإذا ثبت جواز شرائه قلنا إن كان المشترى مما يعرف بالجس أو الذوق فهو كالبصير في ذلك وإن كان مما تعرف صفته بالجس كما تعرف بالرؤية فالمس فيه كالرؤية من البصير حتى لو لمسه وقال رضيت به يسقط خياره وما لا يمكن معرفته كالعقارات فإنه يوصف له بأبلغ ما يمكن فإذا قال قد رضيت سقط خياره لأن ذكر الوصف يقام مقام الرؤية في موضع من المواضع كما في عقد السلم والمقصود رفع العين عنه وذلك يحصل بذكر الوصف وإن كان بالرؤية أتم وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال تعاد إلى ذلك الموضع فإذا كان بحيث لو كان بصيرا رأى فقال قد رضيت سقط خياره وجعل هذا كتحريك الشفتين من الأخرس فإنه يقام مقام عبارة الناطق في التكبير والقراءة لأن الممكن ذلك القدر وقال الحسن بن زياد يوكل بصيرا بالقبض حتى يرى البصير له فيقبض وهذا أشبه بقول أبي حنيفة فالوكيل بالقبض عنده يجعل في الرؤية كالموكل وقال بعض أئمة بلخ(13/142)
ص -67- ... رحمهم الله: تعالى يمس الحيطان والأشجار فإذا قال قد رضيت يسقط خياره لأن الأعمى إذا كان زكيا يقف على مقصوده في ذلك بالمس وحكي أن أعمى اشترى أرضا فقال قيدوني فقادوه إليها فقادوه فجعل يمس الأرض حتى انتهى إلى موضع منها فقال أموضع كدس هذا فقالوا لا فقال هذا الأرض لا تصلح لأنها لا تكسوا نفسها فكيف تكسوني فكان كما قال: فإذا كان الأعمى بهذه الصفة فرضي بها بعد ما مسها سقط خياره والله أعلم بالصواب.
باب المرابحة
قال رحمه الله تعالى: وإذا اشترى شيئا بنسيئة فليس له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين أنه اشتراه بنسيئة لأن بيع المرابحة بيع أمانة تنفي عنه كل تهمة وجناية ويتحرز فيه من كل كذب وفي معاريض الكلام شبهة فلا يجوز استعمالها في بيع المرابحة ثم الإنسان في العادة يشتري الشيء بالنسيئة بأكثر مما يشتري بالنقد فإذا أطلق الإخبار بالشراء فإنما يفهم السامع من الشراء بالنقد فكان من هذا الوجه كالمخبر بأكثر مما اشترى به وذلك جناية في بيع المرابحة
يوضحه أن المؤجل نقص في المالية من الحال ولهذا حرم الشرع النساء عند وجود أحد الوصفين للفضل الخالي عن المقابلة حكما فإذا باعه وكتم ذلك فالمشتري بالخيار إذا علم للتدليس الموجود من البائع وهذا لأن المشتري إنما التزم ربحا بناء على خبره أنه اشتراه لنفسه بكذا من الثمن فلو علم أنه اشتراه بالنسيئة لم يرغب في شرائه بالنقد بذلك القدر من الثمن فضلا من أن يعطيه على ذلك ربحا فللحاجته إلى دفع الضرر أثبتنا له الخيار كما إذا وجد المعقود عليه دون ما شرط البائع فإن كان هذا قد استهلك المبيع فالمبيع له لازم وليس له أن يرد الباقي منه ولا يرجع في شيء من الثمن لأنه تعذر رده ومجرد الخيار إذا سقط لتعذر الرد بسببه لا يرجع بشيء بمنزلة خيار الرؤية والشرط.(13/143)
وروي عن محمد أنه يرد قيمة المبيع ويرجع بالثمن إن شاء وهو صحيح على أصله فإنه جوز فسخ العقد بسبب التحالف على القيمة بعد هلاك السلعة وجعل رد القيمة عند تعذر رد العين كرد العين فكان ذلك باعتبار معنى في الثمن فهذا مثله والمعنى في الكل تحقق الحاجة إلى دفع الضرر عن المشتري وهذا بخلاف خيار العيب على ظاهر الرواية فالمستحق للمشتري هناك المطالبة بتسليم الجزء الفائت ولهذا يرجع بحصة العيب من الثمن إذا تعذر الرد وهنا الثابت له مجرد الخيار والخيار ليس بمال وكذلك إن استهلك بعضه فليس له أن يرد الباقي منه لما فيه من تفريق الصفقة على البائع ولا يرجع في شيء من الثمن لما قلنا إن المبيع سلم له كما استحقه بالعقد وإن لم يكن الأجل مشروطا وإنما كان متعادا كما هو الرسم بين الباعة أن يودي المشتري الثمن منجما في كل أسبوع نجما فقد اختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في هذا الفصل قال بعضهم له أن يبيعه مرابحة من غير بيان لأن الثمن حال وبأن سامحه البائع واستوفى الثمن منه منجما لا يخرج من أن يكون حالا ومنهم من يقول المعروف كالمشروط بالنص ولو كان الأجل مشروطا لم يكن له أن يبيعه مرابحة من غير(13/144)
ص -68- ... بيان فكذلك إذا كان متعارفا ألا ترى أن الورثة في بعض الأشياء تستحق بالعرف وتجعل كالمشروط فهذا قياسه.
قال: وإذا اشترى خادما فاعورت أو ثوبا أو طعاما فأصابه عيب عند المشتري بغير فعل أحد فله أن يبيعه مرابحة على جميع الثمن من غير بيان وقال زفر ليس له ذلك ما لم يبين لأن المشتري لو علم أنه اشتراه غير معيب بما سمى من البدل لم يلتزم له على ذلك ربحا ما لم يبين بعد ما تعيب وهذا مذهب الشافعي أيضا بناء على مذهبه أن للأوصاف من الثمن حصة وأن التعيب بآفة سماوية وبصنع العباد فيه سواء ولكنا نقول بأن المشتري غير حابس شيئا من المعقود عليه فيكون له أن يبيعه مرابحة كما لو تغير السعر وهذا لأن الفائت وصف فيكون تبعا لا يقابله شيء من البدل إذا فات بغير صنع أحد وإنما البدل بمقابلة الأصل وهو باق على حاله فيبيعه مرابحة أرأيت لو اصفر الثوب أو توسخ أو نكس كان له أن يمنعه من المرابحة وفي نوادر هشام ذكر عن محمد رحمه الله تعالى قال هذا إذا نقصه العيب شيئا يسيرا فإن نقصه العيب قدر مالا يتغابن الناس فيه لم يبعه مرابحة.(13/145)
قال: وكذلك إن تعيب بفعل المبيع بنفسه لأن ذلك هدرا وإن تعيب بفعل المشتري فليس له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين لأنه حابس لجزء من المبيع بما أحدث فيه من العيب وما يكون بيعا إذا صار مقصودا بالتناول كان له من الثمن حصة كالبائع إذا أتلف شيئا من أوصاف المعقود عليه يسقط حصته من الثمن بخلاف ما إذا تعيب بغير فعل وكذلك إن عيبه أجنبي بأمر المشتري أو بغير أمره فإن فعله بأمر المشترى كفعل المشتري بنفسه وبغير أمره جناة موجبة ضمان النقصان عليه فيكون المشتري حابسا بدل جزء من المعقود عليه وذلك يمنعه من أن يبيعه مرابحة حتى يبين فإن باعه ولم يبين كان للمشتري رده إذا علم به وإن كان قد استهلك شيئا منه لم يكن له رد الباقي ولا الرجوع بشيء من الثمن فإن لم يصبه عيب ولكنه أصاب من علة الدابة أو الدار أو الخادم شيئا فله أن يبيع المشتري مرابحة على ثمنه لأن العلة ليست بمتولدة من العين فلا يكون حابسا شيئا من المعقود عليه باعتبارها ولأن العلة بدل المنفعة واستيفاء المنفعة لا تمنعه من بيعها مرابحة وهذا لأنه أنفق عليها بإزاء ما نال من المنفعة.
قال: وإذا ولدت الجارية أو السائمة أو أثمر النخيل فلا بأس ببيع الأصل مع الزيادة مرابحة لأنه لم يحبس شيئا من المعقود عليه وإن نقصتها الولادة فهو نقصان بغير فعل أحد وبإزائه ما يجبره وهو الولد وفي مثل هذا النقصان كان له أن يبيعه مرابحة وإن لم يكن بإزاء النقصان ما يجبره فإذا كان بإزائه ما يجبره أولى فإن استهلك المشتري الزيادة لم يبع الأصل مرابحة حتى يبين ما أصاب من ذلك لأن ما استهلك متولد من العين ولو استهلك جزء من عينها لم يبعها مرابحة بغير بيان فكذا إذا استهلك ما تولد من العين.
قال: وكذلك البان الغنم وأصوافها وسمونها إذا أصاب من ذلك شيئا فلا يبيع الأصل(13/146)
ص -69- ... مرابحة حتى يبين ما أصاب منها لأن ما أصاب في حكم جزء من عينها وعند الشافعي رحمه الله تعالى له أن يبيعها مرابحة بناء على مذهبه أن الزيادة المنفصلة وإن كانت متولدة من العين فهي بمنزلة الغلة حتى لا يمنع رد الأصل بالعيب وسيأتي بيانه في باب العيوب إن شاء الله تعالى.
قال: فإن كان أنفق عليها ما يساوي ذلك في علفها وما يصلحها فلا بأس بأن يبيعها مرابحة من غير بيان لأن حصول الزيادة باعتبار ما أنفق عليها من ماله والغنم مقابل بالغرم ولأن في بيع المرابحة يعتبر عرف التجار ومن عاداتهم إذا أنفقوا بقدر ما أصابوا من الزيادة لا يعدون ذلك خيانة في بيع المرابحة وإن هلكت هذه الزيادة من غير أن ينتفع بها المشتري فله أن يبيعها مرابحة ولا يبين وإن كان قد نقصت الأصول لأن النقصان حصل بغير صنع أحد.(13/147)
قال: وإذا اشترى متاعا فله أن يحمل عليه ما أنفق في القصارة والخياطة والكراء ويقول قام علي بكذا ولا يقول اشتريته بكذا فإنه كذب وهذا لأن عرف التجار معتبر في بيع المرابحة فما جرى العرف بإلحاقه برأس المال يكون له أن يلحقه به ومالا فلا أو يقول ما أثر في المبيع فتزداد به ماليته صورة أو معنى فله أن يلحق ما أنفق فيه برأس المال والقصارة والخياطة وصف في العين تزداد به المالية والكراء كذلك معنا لأن مالية ماله حمل ومؤنة تختلف باختلاف الأمكنة فنقله من مكان إلى مكان لا يكون إلا بكري ولكنه بعد إلحاق ذلك برأس المال لو قال اشتريته بكذا يكون كذبا فإنه ما اشتراه بذلك فإذا قال قام على بكذا فهو صادق في ذلك لأن الشيء إنما يقوم عليه بما يغرم فيه وقد غرم فيه القدر المسمى وإن كان في عقود متفرقة ولم يحمل عليه ما أنفق على نفسه في سفره من طعام ولا كراء ولا مؤنة لانعدام العرف فيه ظاهرا ولأن بما أنفق على نفسه لا تزداد مالية البيع صورة ولا معنى وأما الرقيق فله أن يلحق بهم طعامهم وكسوتهم بالمعروف ثم يقول قاموا علي بكذا للعرف الظاهر في ذلك ولأن في هذه النفقة إصلاح مالية الرقيق فإن بقاءهم على هيئتهم لا يكون بدون الإنفاق بالمعروف.(13/148)
قال: وإذا اشترى طعاما فأكل نصفه فله أن يبيع النصف الباقي مرابحة على نصف الثمن وكذلك كل مكيل أو موزون إذا كان صنفا واحدا لأنه مما لا يتفاوت بحصة كل جزء منه من الثمن يكون معلوما وبيع المرابحة على ذلك يبنى وإن كان مختلفا لا يبيع الباقي منه مرابحة لأن انقسام الثمن على الأجناس المختلفة باعتبار القيمة وطريق معرفتها الحزر والظن فلم يكن حصة كل جنس من الثمن معلوم يقينا ليبيعه مرابحة عليه وكذلك الثوب الواحد إذا ذهب نصفه أو احترق أو أحرقه إنسان أو باعه أو وهبه فلا يبيع النصف الباقي مرابحة على الثمن الأول لأن المسمى لا ينقسم على ذرعان الثوب باعتبار الأجزاء والذرع صفة في الثوب وانقسام الثمن لا يكون على الأوصاف فقد تتفاوت أطراف الثوب الواحد إذا ذهب نصفه ألا ترى أنه يشتري ذراعا من أحد جانبيه بثمن لا يشتري بمثله من جانب آخر بخلاف القفزان من الصبرة الواحدة وهكذا الثوبان إذا اشتراهما صفقة واحدة فلا يبيع أحدهما مرابحة دون الآخر،(13/149)
ص -70- ... فإن انقسام الثمن عليهما باعتبار القيمة وكذلك إن اشترى عدل زطي بألف درهم وإن كان أخذ كل ثوب بعشرة دراهم فله أن يبيع كل ثوب منها مرابحة على عشرة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يبيع شيئا من ذلك مرابحة حتى يبين أنه اشتراه مع غيره لأن من عادات التجار ضم الجيد إلى الرديء وبيعهما بثمن واحد مع التفضل فيرغب المشتري في شراء الرديء لماله من المقصود في الجيد ويرغب البائع في بيع الجيد لماله من المقصود في ترويج الرديء فلو جوزنا له أن يبيع أحدهما مرابحة من غير بيان لأمسك الجيد وباع الرديء مرابحة وإذا علم منه المشتري أنه كان معه في العقد أجود منه لم يعطه ربحا عن ما سمى فيه من الثمن فلأجل هذا العرف استحسن محمد وقال لا يبيعه مرابحة حتى يبين والقياس ما قال فإن حصة كل واحد منهما من الثمن مسمى معلوم فله أن يبيعه مرابحة كما لو كان في عقدين ومثل هذا العرف الذي اعتبره محمد يوجد في العقدين أيضا فقد يسامح الإنسان لمن يعامله في ثمن جيد من الترويج عليه رديئا بعده بثمن مثل ذلك الثمن ثم لم يعتبر ذلك لأن اعتبار العادة عند عدم النص فأما عند وجود النص فلا يعتبر بالعادة فكذلك هنا بعد التنصيص على ثمن كل واحد منهما لا يعتبر بالعادة.
قال: وإذا اشترى متاعا بحنطة أو شعير أو شيء مما يكال أو يوزن فلا بأس بأن يبيعه مرابحة على ذلك لأن بيع المرابحة تمليك بثمن ما ملك به من ربح ضمه إليه في بيعه فإذا كان الثمن مما له مثل في جنسه يتحقق هذا المعنى فيه فله أن يبيعه مرابحة عليه.(13/150)
قال: وإذا اشترى ثوبا بعشرة دراهم فباعه بخمسة عشر درهما ثم اشتراه بعشرة فلا يبيعه مرابحة حتى يطرح ربحه الأول من رأس المال في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ببيعه مرابحة على عشرة دراهم لأنه شراء مستقل فلا يدخل فيه ما قبله من ربح أو وصية ألا ترى أنه لو كان أصله هبة أو ميراثا أو وصية فباعه ثم اشتراه كان له أن يبيعه مرابحة على الثمن الآخر ولا يعتبر بما كان قبله كذا هذا وهذا لأن بالشراء الثاني يتجدد له ملك غير الأول لأن ثبوت الحكم بثبوت سببه فإذا كان السبب متجددا فالملك الثابت به كذلك واختلاف أسباب الملك بمنزلة اختلاف العين ولو كان للمشتري في المرة الثانية عين آخر باعه مرابحة على ما اشتراه به وقاس بما لو استفاد في المرة الثانية زيادة من العين فإن ذلك لا يمنعه من بيع المرابحة في الشراء الثاني فكذلك إذا استفاد ربحا قبل الشراء الثاني وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما استفاد من الربح إنما يؤكد حقه فيه بالشراء الثاني لأن قبل شرائه كان حقه فيه يعرض السقوط بأن يرد عليه بعيب والمؤكد في بعض المواضع كالموجب فكأنه استفاد ذلك بالعقد الثاني وبه فارق الزيادة المتولدة من العين فتأكد حقه فيها لم يكن بالعقد الثاني ولأن مبني بيع المرابحة على ضم المعقود بعضها إلى بعض ألا ترى إنما أنفق في القصارة والقتل والخياطة يلحق برأس المال فإذا كان يضم بعض العقود إلى بعض فيما(13/151)
ص -71- ... يوجب زيادة في الثمن فلأن يضم المعقود إلى بعض فينظر إلى حاصل ما غرم فيه فيطرح من ذلك بقدر ما رجع إليه ويبيع مرابحة فيما يوجب النقصان من الثمن أولى فإن هذا إلى الاحتياط أقرب ولكن ضم العقود عند اتحاد جنسها فأما عند الاختلاف فلا ألا ترى أنه لو استعان بخياط حتى خاطه لم يلحق بسببه شيئا من رأس المال وكذلك إذا كان العقد الأول هبة أو صدقة لا يضم أحدهما إلى الآخر لأن أحد العقدين تبرع والآخر تجارة فأما إذا اتحد جنس العقود يضم بعضها إلى بعض فينظر إلى حاصل ما عزم فيه فيطرح من ذلك بقدر ما رجع إليه ويبيع مرابحة على ما بقي إن شاء وفي هذه المسألة قد غرم عشرين درهما في دفعتين وعاد إليه خمسة عشر درهما فيبيعه مرابحة على خمسة. قال ولو كان اشتراه بعشرة ثم باعه بعشرين ثم اشتراه بعشرة لم يبيعه مرابحة عند أبي حنيفة أصلا لأنه رجع إليه مثل ما غرم فيه فلم يبق له فيه رأس المال ليبيعه مرابحة عليه ولو كان اشتراه بعشرة ثم باعه بوصيف أو بدابة ثم اشتراه بعشرة كان له أن يبيعه مرابحة على عشرة لأن ما عاد إليه ليس من جنس ما غرم فيه فلا يمكن طرحه إلا باعتبار القيمة ولا مدخل لذلك في بيع المرابحة ولأن الربح لا يظهر ما لم يعد إليه رأس ماله وإذا كان ما عاد إليه من عين جنس ما غرم فيه لا يظهر ربحه فيه فلهذا كان له أن يبيعه مرابحة على الثمن الثاني وإذا اشترى نصف عبد بمائة درهم واشترى آخر نصفه بمائتي درهم ثم باعاه مرابحة أو وضيعة أو تولية فالثمن بينهما أثلاثا بخلاف ما لو باعه مساومة فإن في بيع المساومة المسمى بمقابلة الملك ولهذا يستوي فيه المشتري والموهوب وملكهما في العبد سواء بخلاف المرابحة والوضيعة والتولية فإن الثمن الثاني مبني على الأول في هذه العقود لأن التولية تمليك لما ملك والوصيفة بنقصان شيء يسمى عما ملكت به والمرابحة بزيادة معدومة على ما ملكت به ولهذا اختصت هذه العقود بالمشتري دون الموهوب فإذا أثبت(13/152)
أن الثمن الثاني مبني على الثمن الأول وقد كان الثمن الأول أثلاثا فيقسم الثمن الثاني بينهما كذلك والأصل في جواز هذه العقود ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بعيرين عند قصد الهجرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولني أحدهما" فقال: هو لك بغير شيء فقال صلوات الله عليه: "أما بغير شيء فلا".
قال: وإذا أنفق على عبده في تعليم عمل من الأعمال دراهم لم يلحقه برأس المال لأنه ليس فيه عرف ظاهر وكذلك الشعر والغناء والعربية وأجر تعليم القرآن والحساب حتى لو كان في شيء من ذلك عرف ظاهر في موضع بإلحاقه برأس المال كان له أن يلحقه به لأن زيادة المالية باعتبار معنى من المتعلم وهو الذهن والذكاء بما أنفق على المعلم فلم يكن ما أنفق موجبا زيادة في مالية العين وعلى هذا أجر الطيب والرابص والبيطار والراعي وجعل الآبق والحجام والخباز لا يلحق شيء من ذلك برأس المال لما قلنا وأما أجر سائق الغنم الذي يسوقها من بلد إلى بلد يحلق برأس المال للعرف الظاهر فيه ولأن هذا بمنزلة الكراء فيما له(13/153)
ص -72- ... حمل ومؤنة. وكذلك أجرة السمسار فقد جرى العرف بإلحاقه برأس المال فهو كأجرة القصار وأجرة الراعي ليس نظير أجرة سائق الغنم لأن الراعي لا يستحق الأجر بالنقل ولا يعمل الراعي بل يحفظ الغنم فهو كأجرة البيت الذي تحفظ فيه الغنم.
وكذلك جعل الآبق ليس نظير أجر سائق الغنم لأن الإباق نادر وفي إلحاق شيء برأس المال العرف الظاهر وذلك لا يوجد في النادر قال وإذا باع المتاع مرابحة ثم حط البائع الأول منه شيئا من الثمن فإنه يحط ذلك من المشتري الآخر وحصة من الربح ولو كان ولاية حط ذلك عندنا وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يحط عن الثاني شيء بهذا السبب وأصل المسألة أن الزيادة في الثمن والمثمن ثبتت على سبيل الالتحاق بالأصل عندنا وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى هو هبة مبتدأة لا تتم إلا بالتسليم ويستوي إن كانت الزيادة من العاقد أو من أجنبي آخر وكذلك حط بعض الثمن عندنا يلتحق بأصل العقد ويصير كأن العقد بقي العقد على ما في حق الشفيع والمولى وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى هو بر مبتدأ في حق من حط عنه خاصة وحجتهما في ذلك أن الثمن لا يستحق بالعقد إلا عوضا والمبيع كله صار مملوكا للمشتري بالعقد الأول فيبقى ملكه ما بقي ذلك العقد ومع بقاء ملكه في المبيع لا يمكن إيجاب الزيادة عليه عوضا إذ يلتزم العوض عن ملك نفسه وذلك لا يجوز كالمودع يشتري الوديعة من المودع وهذا في حق الأجنبي أظهر فإنه لا يملك شيئا من المبيع فكيف يلتزم الثمن بمقابلة ما لا يملكه ولا يمكنه إثبات الزيادة في وقت العقد فإن المبيع لو كان هالكا في الحال أو كانت جارية فأعتقها المشتري أو دبرها لم تثبت الزيادة في الثمن وكذلك في الصداق الزيادة لا تتنصف بالطلاق قبل الدخول فلو ثبتت من وقت العقد لكان حكمها حكم المسمى فإذا ثبت هذا في الزيادة فكذلك في الحط لأن الثمن كله إذا صار مستحقا بالعقد فلا يخرج البعض من أن يكون ثمنا إلا بفسخ العقد(13/154)
في ذلك القدر والفسخ لا يكون في أحد العوضين دون الآخر مع أن الثمن معقود به وفسخ العقد في المعقود عليه دون المعقود به وقاسا حط البعض بحط الجميع فكما أن ذلك لا يثبت في حق المولى والشفيع فكذلك حط البعض وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24] أي من فريضة بعد الفريضة فذلك تنصيص على أن حكم الزيادة المفروضة بعد العقد كحكم المفروض في العقد إلا فيما قام الدليل عليه وقد قام الدليل على أنه لا ينتصف الطلاق قبل الدخول إلا ما تأكد بالتسمية في أصل العقد بالنص ففيما سوى ذلك حكم الزيادة حكم الأصل والمعنى فيه أنهما غيرا العقد بتراضيهما من وصف إلى وصف مشروع له فيصح ذلك ويجعل ذلك كالمذكور في أصل العقد كما لو كان البيع لخيار لهما فأسقط الخيار أو بغير الخيار فشرطا الخيار لهما أو لأحدهما وبيان الوصف أنهما يجعلان الخاسر عدلا بالزيادة في الثمن أو العدل رابحا والرابح عدلا أو خاسرا بالحط وهذا وصف مشروع في البيوع والبيوع أنواع منه خاسر ورابح(13/155)
ص -73- ... وعدل فعرفنا أنهما قصدا تعبيره إلى وصف مشروع وتأثيره أن العقد قائم بينهما بملكان التصرف فيه رفعا وإبقاء فيملكان التصرف فيه بالتغيير من وصف إلى وصف لأن التصرف في صفة الشيء أهون من التصرف في أصله فإذا كان باتفاقهما يملكان التصرف في أصل العقد ففي صفته أولى.
فأما قوله إنه يلتزم العوض عن ملكه قلنا قيام العقد بقيام المعقود عليه والمعقود عليه قائم في يد المشتري على وجه يجوز الاعتياض عنه فيصح منه التزام العوض بمقابلته أيضا لأن الإنسان إنما لا يلتزم العوض عما هو مملوك له أصلا ومقصودا فأما ربحا فقد يلتزم العوض وهذا لأن الأرباح في حكم الصلاة ولهذا لو حصل من المريض كان معتبرا من الثلث ولأنه بيع والعوض بمقابلة الأصل دون البيع ألا ترى أن أطراف المبيع يستحق بالمعاوضة تبعا ولا يقابلها شيء من الثمن بل العوض بمقابلة الأصل يعني عن اعتبار العوض بمقابلة البيع فكذلك الزيادة بعد هلاك المعقود عليه وقد روي في غير الأصول عن أبي حنيفة أن الزيادة تصح كما يصح الحط بطريق التغيير لأصل العقد وفي ظاهر الرواية لا تثبت الزيادة لأن المعقود عليه لم يبق على وجه يجوز الاعتياض عنه ولا يمكن إثبات الزيادة عوضا وكذلك بعد العتاق والتدبير لم يبق على وجه يجوز الاعتياض عنه وهذا لأنه لا بد لإثبات الزيادة عوضا من اعتبار الحال ثم الاستناد إلى وقت العقد وقد تعذر إثباتها في الحال فلا يظهر فيها حكم الاستناد كما قلنا في البيع الموقوف أنه لا بد من قيام المعقود عليه عند الإجارة ليثبت الملك مستندا إلى وقت العقد وبالاتفاق في البيع يشترط الخيار على البائع وعلى هذا إن كانت الزيادة من الأجنبي وضمنها لأنه التزمها عوضا وهذا الالتزام صحيح منه فإن لم يملك بمقابلته شيئا كما لو خالع امرأته مع أجنبي على مال وضمنه الأجنبي أو تصالح مع أجنبي من الدين على مال وضمنه صح الصلح وإن لم يملك الملتزم بمقابلته شيئا وعلى هذا الحط إلا أن عمل(13/156)
الحط في إخراج قدر المحطوط من أن يكون ثمنا فالشرط فيه قيام الثمن لا قيام المعقود عليه والثمن باق فثبت الحط على سبيل الالتحاق بأصل العقد وقد بينا أنه مغير لوصف العقد وليس بفاسخ للعقد حتى يقال الفسخ في الثمن لا يكون والدليل عليه الحط بسبب العيب والحط في مجلس العقد على أحد قولي الشافعي فإنه يثبت ملتحقا بأصل العقد لما قلنا بخلاف حط الجميع فإنه مغير لوصف العقد لأن الإنسان لا يكون مغبونا بجميع الثمن ولو التحق بأصل العقد فإما أن يفسد به العقد لأنه يبقى بيعا بلا ثمن وقد علمنا أنهما لم يقصدا ذلك أو يصير ذلك العقد هبة وقد كان قصدهما التجارة في البيع دون الهبة فأما حط البعض لو التحق بأصل العقد تحقق به مقصودهما وهو التغير.
قال: وإذا باع المتاع مرابحة فخانه فيه فالمشتري بالخيار إذا اطلع عليه إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك وإن استهلك المتاع أو بعضه فالثمن كله لازم له في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى يحط عنه الخيانة(13/157)
ص -74- ... وحصتها من الربح على كل حال ولا خيار له في ذلك وإن خان في التولية فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يحط عنه مقدار الخيانة وعند محمد هو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك فأبو يوسف يقول في المرابحة والتولية جميعا يحط عنه مقدار الخيانة وحصتها من الربح لأن العقد الثاني في حق الثمن بناء على الأول وقدر الخيانة لم يكن ثمنا في العقد الأول فلا يمكن إثباته في العقد الثاني كما في الشفيع فإن المشتري إذا خان الشفيع لا يثبت مقدار الخيانة في حقه فإنه يأخذ بمثل الثمن الأول فلا يمكن إثباته في العقد الثاني كما في الشفيع وهذا لأن السبب الثاني لما أضافه إلى السبب الأول فإنما يؤثر في إيجاب مثل ما وجب بالسبب الأول إلا مقدار ما زاد فيه من الربح ففيما وراء ذلك لا يثبت وبدون السبب لا يثبت الحكم والدليل عليه أنه لو خرج البعض من أن يكون ثمنا في العقد الأول بالحط يخرج ذلك من أن يكون ثمنا في العقد الثاني فإذا ثبت أنه لم يكن ثمنا فيه أولى ومحمد يقول فيهما جميعا لا يحط الثمن عن المشتري الثاني لأنهما باشرا عقدا باختيارهما بثمن سمياه فينعقد بجميع ذلك الثمن كما لو باعاه مساومة وهذا لأن انعقاد سبب الثاني يعتمد التراضي منهما ولا يتم رضا المشتري الأول إذا لم يجب له جميع الثمن المسمى بخلاف الأخذ بالشفعة فلا معتبر برضا المشتري هناك ثم حق الأخذ للشفيع بالثمن الأول مستحق على المشتري على وجه لا يمكن إبطاله ولا نعتبره وبالخيانة قصد تغيره فيرد عليه قصده وهنا البيع مرابحة أو تولية لم يكن مستحقا على المشتري الأول فهو في تسمية ما سمى غير قاصد إبطال ما هو مستحق عليه ولكنه يدلس والتدليس يثبت للمشتري الخيار كتدليس العيوب وهذا بخلاف الحط بعد العقد لأن الاستحقاق يثبت للمشتري الثاني بمثل الثمن الأول وثم رضي المشتري الأول به فما خرج من أن يكون ثمنا في العقد الأول يخرج من أن يكون ثمنا في العقد(13/158)
الثاني فكان المشتري الثاني بعد ما تم استحقاقه بمنزلة الشفيع.
وأبو حنيفة يفرق بين التولية والمرابحة من وجهين:
أحدهما أن التولية بناء على السبب الأول من كل وجه فلا يثبت فيه ما لم يكن ثابتا في العقد الأول كالإقالة لما كانت فسخا عند الأول فما لم يكن ثابتا في العقد لا يمكن إثباته في الإقالة فأما المرابحة فليست تبنى على العقد الأول من كل وجه وإن ثبتت عليه من وجه وهو العيار في الثمن ألا ترى أنهما سميا فيه ما لم يكن مسمى في العقد الأول فيه يتبين أنه سبب مبتدأ باشراه باختيارهما فينعقد بالثمن المسمى فيه يقرره أنه لا حاجة في التولية إلى ذكر الثمن وتسمية مقدار خيانة فيه فيكون لغوا أيضا وفي المرابحة لا بد من تسمية الثمن وتعيين قدر الربح فكان انعقادها بالتسمية الثانية فينعقد بجميع ما سميا فيها وفرق آخر أن في إثبات الخيانة في التولية تغير العقد عن موضوع ما صرحا به لأن به يصير البيع مرابحة لا تولية وقد صرحا بالتولية وكان ذلك منهما نفيا لمقدار الخيانة فأما في المرابحة لو أثبتنا جميع المسمى لا يتغير به العقد عن موضوع ما صرحا به فإنما صرحا ببيع المرابحة وهو مرابحة إلا أن الربح(13/159)
ص -75- ... فيه أكثر مما ظنه المشتري والبائع دلس بتسمية بعض ربحه رأس المال فكان ذلك مثبتا الخيار للمشتري وإذا سقط خياره بهلاك المبيع في يده لزمه جميع الثمن المسمى.
قال: وإذا اشترى ثوبا بعشرة دراهم فليس له أن يبيع منه ذرعا مرابحة لما بينا أن الثمن ينقسم على ذراعان الثوب باعتبار الأجزاء وله أن يبيع نصفه أو ثلثه مرابحة لأن ثمن النصف معلوم يقينا وهذا لأن النصف جزء شائع فلا يتفاوت والذراع اسم لموضع معين يقع عليه الذراع وذلك مختلف في الثوب.
قال: ولو اشترى نصف عبد بمائة درهم ثم اشترى النصف الآخر بمائتي درهم فله أن يبيع أي النصفين شاء مرابحة على ما اشتراه لأنه يملك كل نصف بعقد على حدة فيجعل كل نصف بمنزلة عبد على حدة وإن شاء باع كله على ثلاثمائة درهم مرابحة لأن العبد قام عليه في العقدين جميعا بثلثمائة وبيع المرابحة بيع بما قام عليه.
قال: ولو اشترى عبدا بألف درهم فوهب له البائع الثمن كله فله أن يبيعه مرابحة على الألف ولو وهب له بعض الثمن أو حط عنه بعضه باعه مرابحة على ما بقي للفرق الذي بينا بينهما في حكم الالتحاق بأصل العقد وإن باعه بالثمن عرضا أو أعطاه به رهنا فهلك الرهن كان له أن يبيع العبد مرابحة على ألف درهم لأنه صار قابضا لهذا الثمن بهذا الطريق فكأنه قضاه مشاهدة ولأنه يبيعه مرابحة على ما يملك وإنما يملك المسمى عند الشراء ألا ترى أنه قبل أن ينقد الثمن له أن يبيعه مرابحة.(13/160)
قال: ولو اشترى ثوبا بعشرة دراهم جياد فنقدها زيوفا وتجوز البائع عنه فله أن يبيعه مرابحة على عشرة جياد لأنه يتملكه بالجياد وبما نقد من الزيوف صار قاضيا لما عليه بدليل جواز ذلك في السلم والصرف وكذلك إن اشتراه بعشرة نقد فلم ينقده الثمن شهرا فله أن يبيعه مرابحة على العشرة النقد لأنه يملك بالنقد وبأن لم يطالبه البائع بالثمن شهرا لا يخرج الثمن من أن يكون نقدا فلم يجعل تجوز البائع بالزيوف وتركه المطالبة بالثمن مدة بمنزلة الحط لأن هناك القدر المحطوط يلتحق بأصل العقد فيكون مغيرا الوصف وهنا يترك المطالبة بالثمن زمانا لا يلتحق شيء بأصل العقد وكذلك بالتجوز بالزيوف لأن الوصف تبع للأصل فإذا لم يخرج شيء من أصل العشرة من أن يكون ثمنا لا يمكن إخراج الوصف من ذلك لئلا يصير البيع مقصودا فيما هو بيع فيه وذلك ممتنع.
قال: فإن وهب الثوب المشتري بعشرة لإنسان ثم رجع فيه فله أن يبيعه مرابحة على عشرة لأن بالرجوع يعود العين إلى قديم ملكه سواء رجع بقضاء أو بغير قضاء وقد بينا هذا في الهبة وكذلك إن باعه فرد عليه بعيب أو فساد بيع أو خيار أو إقالة فله أن يبيعه مرابحة على عشرة لأنه إن عاد إليه بسبب هو فسخ من كل وجه فقد عاد إليه قديم ملكه وإن عاد إليه بسبب هو متردد كالإقالة فأكثر ما فيه أنه بمنزلة عقد جديد وقد تملك فيه الثوب بعشرة فيبعه مرابحة عليه ولو تم البيع فيه رجع إليه بميراث أو هبة لم يكن له أن يبيعه مرابحة لأنه ما عاد(13/161)
ص -76- ... إليه الملك المستفاد بالشراء الأول فإن ملك الوارث ينبني على ملك المورث فإنما يبقى له ما كان لمورثه فيبيعه مرابحة على ما اشتراه مورثه به لو باعه مرابحة وليس له ذلك لأن الملكية قد تحددت له وإن كان الملك هو الذي كان لمورثه وأما في الهبة فقد يثبت له ملك جديد بسبب التبرع فلا يكون له أن يبيعه مرابحة.
قال: وإذا اشترى شيئا من أبيه أو أمه أو ولده أو مكاتبه أو عبده أو اشترى العبد أو المكاتب من مولاه بثمن قد قام على البائع بأقل منه لم يكن له أن يبيعه مرابحة إلا بالذي قام على البائع في العبد والمكاتب بالاتفاق لأن بيع المرابحة على ما يتيقن بخروجه في ملكه بمقابلة هذا العين وهو المدفوع إلى البائع الأول فأما الربح الذي حصل لعبده لم يخرج من ملكه لأن كسب العبد لمولاه وما حصل لمكاتبه من وجه كان له أيضا فللمولى حق الملك في كسب المكاتب وينقلب ذلك حقيقة الملك لعجزه ولأن تهمة المسامحة تتمكن فالإنسان يسامح في المعاملة مع عبده ومكاتبه لعلمه أنه لا يتعذر عنه ما يحصل لهما وبيع المرابحة بيع أمانة ينفي عنه كل تهمة وخيانة فأما في غير المماليك من الآباء والأولاد والأزواج والزوجات فكذلك الجواب عند أبي حنيفة و قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى له أن يبيعه مرابحة على ما اشتراه به من هؤلاء لتباين الأملاك بينهما إذ ليس لكل واحد منهما في ملك صاحبه ملك ولا حق ملك فهما في ذلك كالأخوين وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول ما يحصله المرء لهؤلاء بمنزلة ما يحصل لنفسه من وجه ولهذا لا تقبل شهادته لهؤلاء فباعتبار هذا الوجه صاروا في حقه كالعبد والمكاتب ولأن مسامحة بعض هؤلاء مع البعض في المعاملة أمر ظاهر وبيع المرابحة يؤخذ فيه بالاحتياط فلا يبيعه مرابحة إلا على القدر الذي يتيقن بالالتزام فيه لا على وجه المسامحة وذلك أقل الثمنين كما في العبد والمكاتب.(13/162)
قال: وإذا اشترى ثوبا بثوب قد قام عليه الأول بعشرة دراهم فليس له أن يبيعه مرابحة على العشرة لأنه ملك هذا الثوب بالعقد الثاني فالعوض ما كان مذكورا فيه ولا مثل للثوب من جنسه فلهذا لا يبيعه مرابحة على ما اشترى به ولا على الثمن الأول لأنه ما التزم ذلك عوضا عن هذا الثوب.
قال: وإذا اشترى الرجلان عدل زطي بألف درهم فاقتسماه فليس لواحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة لأن القسمة فيما تتفاوت يتمكن فيها معنى المعاوضة من حيث أن كل واحد منهما يأخذ نصف ما يصيبه بقديم ملكه ونصفه عوضا عما ترك لصاحبه فيمنعه ذلك من البيع مرابحة يوضحه أنا لا نتيقن بأن ما يصيبه بالقسمة هو النصف وإنما يعرف ذلك بطريق الحزر وقبل القسمة لو ميزا بعض الثياب وأرادا بيع ذلك مرابحة على ما يخصها من الثمن لم يملكا ذلك فكذلك بعد القسمة وبه فارق المكيل والموزون.
قال: وإذا اشترى عبدا به عيب قد دلس عليه فلما علم به رضي فله أن يبيعه مرابحة لأنه اشتراه بالثمن الذي يبعه مرابحة عليه وسبب العين يثبت له الخيار فإسقاطه لا يمنعه من البيع(13/163)
ص -77- ... مرابحة كما لو كان فيه خيار الشرط أو رؤية فأسقط وكذلك لو اشتراه مرابحة فخانه صاحبه فيه كان له أن يبيعه مرابحة على ما أخذه به لما بينا أن الثابت له بسبب هذه الخيانة الخيار فقط.
قال: وإذا ولى رجل رجلا بيعا بما قام عليه ثم اطلع على أنه أخذه بأقل من ذلك بشهادة شهود أو بإقرار البائع الأوسط أو بنكوله عن اليمين فيه وقد ادعاه المشتري الآخر فإنه يرجع عليه بالفضل وتم له البيع وقد بينا الخلاف في هذه المسألة وإنما الشبهة في حرف وهو أنه سمع دعوى المشتري الآخر أن الثمن الأول كان أقل مما سمى في التولية منه حتى سمع بينته على ذلك واستحلفه على ذلك خصمه يقضي عليه بنكوله من أصحابنا رحمهم الله يقول هو مناقض في هذه الدعوى والمناقض لا قول له ولا طريق لظهور ذلك إلا إقرار البائع الأوسط به ومنهم من يقول بل دعوى الخيانة من المشتري الآخر بمنزلة دعوى العيب أو بمنزلة دعوى الحط ولو ادعى شيئا من ذلك فأقام البينة قبلت بينته وإذا لم يكن له بينة يستحلف خصمه فكذلك هنا وإن كان المولى قد باعه مرابحة قبل أن يرجع على البائع الأول بشيء ثم رجع عليه بقدر الخيانة يرد ذلك القدر وربحه على المشتري منه بمنزلة ما لو حط بائعه عنه بعض الثمن.
قال: وإذا اشترى شيئا من شريك له شركة عنان فلا بأس بأن يبيعه مرابحة لأنهما فيما ليس من شركتهما كسائر الأجانب ولهذا قبلت شهادة كل واحد منهما لصاحبه فإن كان للأول فيه حصة فليس له أن يبيعه حصة نفسه مرابحة إلا على ما اشتراه به لأنه يملك حصته بالعقد الأول وإنما يملك على شريكه بالعقد الثاني حصته فبيع كل حصته مرابحة على ما اشتراه به.(13/164)
قال: وإن كانت خادم لشريك مفاوض للخدمة فاشتراها شريكه منه للخدمة ثم بدا له أن يبيعها مرابحة فله ذلك لأن هذا ليس من شركتهما وكل واحد منهما من صاحبه فيه كأجنبي آخر وكل شيء كان لأحدهما خاصة فالحكم فيه كذلك وكل شيء كان بينهما فلا يبيعه واحد منهما مرابحة إذا اشتراه من صاحبه إلا على الأصل الأول لأن العقد الثاني غير معتبر فإن قبله كانت العين مشتركة بينهما شركة مفاوضة فكذلك بعده بخلاف ما يشتري أحد شريكي العنان من صاحبه للشركة لأن ذلك شراء معتبر فإنه يدخل في شركتهما ما لم يكن داخلا إلا أن البائع في حصة نفسه إنما يبيعه مرابحة على أقل الثمنين وهو ما اشتراه به لأنه متيقن بخروج ذلك القدر عن ملكه.
قال: عبد بين اثنين قام عليهما بمائة دينار فربح أحدهما صاحبه في حصته دينارا فلا بأس بأن يبيعه مرابحة على مائة دينار ودينار لأنه يملك جميع العبد بهذا القدر وفي شركة الملك شراء أحدهما من صاحبه كشرائه من أجنبي آخر.
قال: وإذا اشترى الرجل متاعا ثم رقمه بأكثر من ثمنه ثم باعه مرابحة على رقمه فهو جائز ولكن لا ينبغي أن يقول قام علي بكذا ولا أخذته بكذا فإن ذلك كذب والكذب لا(13/165)
ص -78- ... رخصة فيه، ولكن يقول رقمه بكذا وأنا أبيعه مرابحة على ذلك وعن أبي يوسف قال هذا إذا كان المشتري ممن يعلم عادة التجار أنهم يرقمون السلع بأكثر مما يشترون به فإن كان لا يعلم ذلك فهذه خيانة وللمشتري حق الرد به إذا علم وهذا منه احتياط وقد كان يبالغ في الاحتياط في باب المرابحة حتى قال إذا اشترى شيئا بأكثر من ثمنه مما لا يتغابن الناس في مثله وهو يعلم ذلك فليس له أن يبيعه مرابحة من غير بيان وكذلك لو اشترى بالدين ممن عليه الدين شيئا وهو لا يشتري ذلك الشيء بمثل ذلك الثمن من غيره فليس له أن يبيعه مرابحة وإن كان يشتري بمثل ذلك الثمن من غير غريمه فله أن يبيعه مرابحة سواء أخذه بلفظة الشراء أو بلفظة الصلح وفي ظاهر الرواية يفرق بين الصلح والشراء فنقول مبني الصلح على الحط والتجوز بدون الحق ومبني الشراء على الاستقصاء والمماكسة ولو كان أصل الثوب له بميراث أو هبة أو وصية فقومه قيمة ثم باعه مرابحة على تلك القيمة كان جائزا أيضا لأنه ما أخبر المشتري بشيء هو كذب وإنما قال قيمته كذا أو رقمه كذا وهو صادق في ذلك فإن صار المشتري مغبونا فيه فذلك من قبل جهله.
قال: وإذا باع الرجل المتاع بربح ده يازده أو بربح أحد عشر فكذلك سواء إن كان المشتري قد علم بالثمن قبل عقده البيع وليس أن يرده لأن مقدار الثمن وربحه معلوم له عند العقد وإن لم يكن عالما بالثمن فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه ليكشف الحال له حين يعلم بمقدار الثمن وكذلك إن باعه له برقمه فللمشتري الخيار إذا علم بالرقم لما بينا.(13/166)
قال: وإذا اشترى ثوبا بعشرة دراهم ثم باعه بوضيعة ده يازده عن الثمن فإن الثمن يكون تسعة دراهم وجزء من إحدى عشر جزءا من درهم ولو باعه بربح ده يازدة كان الربح درهما ثم إذا باعه بوضيعة ده يازده لم يجعل الوضيعة درهما ففي الحقيقة لا فرق بينهما فإنه إذا باعه بربح ده يازده كان الثمن أحد عشر درهما فالربح جزء من إحدى عشر جزءا من الثمن وذلك بأن تضرب العشرة في إحدى عشر فتكون مائة وعشرة فمقدار الوضيعة جزءا من إحدى عشر جزء وذلك عشرة أجزاء يبقى مائة جزء وكل إحدى عشر جزءا درهم وذلك تسعة دراهم وجزءا من إحدى عشر جزءا من درهم.
قال: وإذا اشترى ثوبا بخمسة دراهم واشترى آخر ثوبا بستة دراهم ثم باعاهما بصفقة واحدة مرابحة ومواضعة فالثمن بينهما على قدر رأس ماليهما لأن الثمن الثاني في هذا النوع من البيع مبنى على الثمن الأول.
قال: ولو ولى المشتري رجلا ثم حط البائع الأول عنه جميع الثمن فإنه لا يحط عن الآخر شيء لأن حط الكل مبتدأ غيره ملتحق بأصل العقد فلا يثبت في حق المولى والله أعلم.
باب العيوب في البيوع
قال رحمه الله تعالى: وإذا بريء البائع إلى المشتري عند عقده البيع من كل عيب فهو جائز وإن لم يسم العيوب عندنا و قال الشافعي شرط البراءة عن العيوب المجهولة باطل إلا أن يكون(13/167)
ص -79- ... عيبا في باطن الحيوان فله في ذلك قولان وفي البيع بشرط البراءة من كل عيب له قولان في أحد القولين البيع فاسد وفي القول الآخر البيع صحيح والشرط باطل واحتج بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا بيع غرر لأنه لا يدري أن المعقود عليه على أي صفة هو ولأن هذا شرط يمنع موجب العقد لأن موجب المعاوضة استحقاق صفة السلامة وهذا الشرط يمنع من ذلك فهو نظير شرط يمنع الملك ولأن البائع يلتزم تسليم المجهول لأنه يلتزم تسليمه على الصفة التي عليها البيع وذلك غير معلوم عند المتعاقدين والتزام تسليم المجهول بالبيع لا يصح كبيع ثوب من العدل أو شاة من القطيع بخلاف ما إذا سمى العيب أو أبرأه المشتري فإن ما يلتزم تسليمه بالعقد بعد تسمية العيب معلوم وما لا يمكن إعلامه نحو عود الجراحة أو يلحق الجرح بإعلامه نحو ما يكون في باطن الحيوان يسقط اعتباره للتعذر.(13/168)
والدليل على الفرق بين المسمى وغير المسمى أن المشتري لو عرض على إنسان و قال اشتره فإنه لا عيب به ثم وجد به عيبا كان له أن يخاصم فيه بائعه وبمثله لو قال اشتره فإنه ليس بآبق ثم وجد به عيب الإباق لم يكن له أن يخاصم فيه بائعه وحجتنا في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ابتاع مملوكا من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بشرط البراءة من كل عيب ثم طعن فيه بعيب فاختصما إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فحلفه بالله لقد بعته وما به عيب يعلمه وكتمته فنكل عن اليمين فرده عليه فقد اتفقوا على جواز البيع بهذا الشرط وإنما اختلفوا في حصة الشرط فيستدل باتفاقهم على جواز البيع وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم" على صحة الشرط والكلام في شرط صحة البراءة من كل عيب ينبني على صحة الإبراء عن الحقوق المجهولة فالشافعي لا يجوز ذلك وقد قام الدليل على جوازه لنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالح بني جذيمة فواداهم حتى ميلغة الكلب وبقي في يديه مال فقال هذا لكم ما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر فهذا دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة والمعنى فيه أن هذا إسقاط حق لا يحتاج فيه إلى التسليم فيصح في المجهول كالطلاق والعتاق وتأثيره أن نفس الجهالة لا تمنع صحة الالتزام ولكن جهالة تفضي إلى تمكن المنازعة ألا ترى أن التمليكين يصح في هذا وهذا أضيق من الإسقاطات ثم الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة التمليك كجهالة القفيز من الصبرة فلأن لا يمنع صحة الإسقاط أولى فالسقوط يكون متلاشيا لا يحتاج فيه إلى التسليم والجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة أولى ولا معنى لقول من يقول أن الإيجاب في المجهول في معنى التعليق بشرط البيان فما لا يحتمل التعليق بالشرط لا يصح إيجابه في المجهول لأن الشرط داخل على نفس السبب(13/169)
حتى يجعله في حكم تصرف آخر هو يمين والجهالة تدخل على حكم السبب فإذا كانت تفضي إلى المنازعة يتعذر إثبات الحكم مع الجهالة وإذا كانت لا تفضي إلى المنازعة لا تتعذر فلا يمنع صحته إذا ثبت صحة هذا الشرط ثبت جواز العقد معه لأن هذا الشرط يقرر(13/170)
ص -80- ... مقتضى العقد ومقتضى العقد اللزوم والعقد بهذا الشرط يلزم سليما كان المبيع أو معيبا ثم البائع بهذا الشرط يمتنع من التزام ما لا يقدر على تسليمه لأن عند إطلاق العقد يلتزم تسليم المبيع بصفة السلامة وإذا كان معيبا فهو عاجز عن تسليمه سليما وعند هذا الشرط يلتزم التسليم على الصفة التي عليها المبيع وهو قادر على تسليمه بتلك الصفة والقدرة على التسليم شرط جواز العقد لا أن يكون موجبا فساد العقد ثم لا يتمكن جهالة في المبيع بهذا الشرط لأنه مشار إليه معلوم بالإشارة إلى عينه وإلى مكانه وليس مقصوده من هذا الشرط الإقرار بالعيوب به فلا يجتمع كل عيب في عيب واحد وإنما يقصد بذكر هذا الشرط التزام البيع والتزام التسليم على وجه يقدر عليه وهذا من الحكمة ولهذا قلنا إن المشتري بقوله لا عيب به لا يصير مقرى بإسقاط العيوب عنه بل قصده من ذلك ترويج السلعة بخلاف قوله ليس بآبق ففي تخصيصه هذا العيب بالذكر ما يدل على أن مراده نفي هذا العيب عنه ولئن تمكنت جهالة في وصف المعقود عليه بهذا الشرط فهي جهالة لا تفضي إلى المنازعة فلا يؤثر في العقد كجهالة مقدار العيب المسمى.(13/171)
وكان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول لا تصح البراءة من العيب مع التسمية ما لم يره المشتري وقد جرت المسألة بينه وبين أبي حنيفة في مجلس الدوانيقي فقال له أبو حنيفة أرأيت لو أن بعض حرم أمير المؤمنين باع عبدا برأس ذكره برص أكان يلزمها أن يرد ذلك المشتري وما زال به حتى أفحمه وضحك الخليفة مما صنع به فإذا عرفنا جواز العقد لهذا الشرط قلنا تدخل فيه البراءة من كل عيب موجود به وقت العقد فإن حدث به عيب آخر بعد البيع قبل التسليم فهو داخل في هذه البراءة أيضا في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد وزفر والحسن رحمهم الله تعالى لا تدخل البراءة عن العيب الحادث في هذا الشرط وهو رواية عن أبي يوسف لأن ذلك مجهول لا يدري أيحدث أم لا وأي مقدار يحدث ولو صرح بالتبري من العيب الذي يحدث قبل القبض فسد به العقد ولو دخل في هذا الشرط لفسد العقد به أيضا فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول العيب الحادث قبل القبض لما جعل كالموجود عند العقد في ثبوت حق الرد فكذلك يجعل كالموجود عند العقد في دخوله في شرط البراءة من كل عيب وهذا لأن مقصود البائع إثبات صفة اللزوم للعقد والامتناع من التزام ما لا يقدر على تسليمه وفي هذا لا فرق بين العيب الموجود والحادث قبل القبض ولا رواية عن أبي يوسف فيما إذا نص على البراءة عن العيب الحادث وقيل ذلك صحيح عندنا باعتبار أنه يقيم السبب وهو العقد مقام نفس العقد الموجب للرد في صحة الإسقاط ولئن سلمنا فنقول هنا ظاهر لفظه يتناول العيوب الموجودة ثم يدخل فيه ما يحدث قبل القبض تبعا لأن ذلك يرجع إلى تقرير مقصودهما وقد يدخل في التصرف تبعا ما لا يجوز أن يكون مقصودا بذلك التصرف كالشرب في بيع الأرض والمنقولات في وقف القربة ولو كان شرط البراءة من كل عيب به فهذا يفسد العيب الموجود فلا يتناول الحادث بالاتفاق.(13/172)
ص -81- ... وإن اختلفا في عيب فقال المشتري أنه حدث بعد العقد قال البائع بل كان موجودا عند العقد فإن كان شرط البراءة من كل عيب فالقول قول المشتري وإن كان شرط البراءة من كل عيب فعلى قول محمد القول في ذلك قول البائع وعند زفر القول قول المشتري لأنه هو المسقط لحقه فالقول في بيان ما أسقط قوله كما في الفصل الأول ومحمد يقول قد ظهر المسقط مطلقا فالمشتري إذا ادعى خروج شيء بعينه من ذلك المطلق لا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة كما لو أبرأه عن كل حق له عليه ثم اختلفا في دين أنه كان موجودا وقت الإبراء أو حدث بعده فإنه يجعل القول قول من يدعي دخوله في البراءة المطلقة لهذا المعنى بخلاف ما إذا شرط البراءة من كل عيب به لأن المسقط هنا ما ظهر إلا مقيدا بوصف فإذا أنكر المشتري في عيب عينه أنه ما دخل في ذلك الإيجاب المقيد وجب المصير إلى قوله كما في البراءة المقيدة بمكان أو زمان.
قال: وإذا شهد شاهدان على البراءة من كل عيب في خادمة ثم اشتراها أحد الشاهدين بغير براءة فوجد بها عيبا كان له أن يردها لأن البراءة من كل عيب لا تتضمن الإقرار بوجود كل عيب فيها فلا يكون الشاهد راضيا بعيب فيها بعد تلك الشهادة وكذا لو شهدا على البراءة من الإباق ثم اشتراها أحدهما فوجدها آبقة فله أن يردها لأن الإباق مذكور في البراءة مطلقا غير مضاف إليها فلا يكون ذلك إقرارا من الشاهد ولا من المشتري بوجود ذلك فيها بمنزلة البراءة من كل عيب ولو شهدا أنه تبرأ من إباقها ثم اشتراها أحد الشاهدين فوجدها آبقة فليس له أن يردها لأن الإباق هنا مضاف إليها بحرف الكتابة وتخصيصه من بين سائر العيوب بالإضافة إليها يكون إخبار بوجوده فيها فالشاهد أقدم على شرائها وهو عالم بعيبها فلا يكون له أن يردها بالعيب.(13/173)
قال: وإذا اشترى جارية ولم يتبرأ البائع من عيوبها فوطئها المشتري ثم وجد بها عيبا فليس له أن يردها بالعيب عندنا بكرا كانت أو ثيبا عندما اشتراها وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كانت بكرا فكذلك الجواب وإن كانت ثيبا فله أن يردها بالعيب ولا يغرم للوطء شيئا
وقال ابن أبي ليلى: يردها بكرا كانت أو ثيبا ويرد معها عقرها وعقرها عشر قيمتها إن كانت بكرا أو نصف عشر قيمتها أن كانت ثيبا وجه قول الشافعي أنه قادر على ردها كما قبضها فله أن يردها كما قبل الوطء وهذا لأن الوطء في الثيب لا يوجب نقصانا في عينها حقيقة ولا حكما وإنما استوفى منها محض منفعة فهو كما لو استخدمها ثم اطلع على عيب بها بل أولى فإن الاستخدام يعيبها والوطء يمنعها بخلاف ما إذا كانت بكرا فالوطء هناك يفوت جزء منها فإن صفة البكارة في الجارية بمنزلة جزء من عين هو مال متقوم ولهذا استحق بالبيع شرطا والدليل على الفرق إن المشتري بعد ما وطء البكر ليس له أن يبيعها مرابحة من غير بيان وفي الثيب له أن يبيعها مرابحة بعد الوطء من غير بيان وكذلك لو كانت ذات زوج فوطئها الزوج عند المشتري فإن كانت بكرا ليس للمشتري أن يردها بعيب النكاح بعد ذلك،(13/174)
ص -82- ... وإن كانت ثيبا فله ذلك وكذلك البائع إذا وطئ المبيعة قبل القبض فإن كانت ثيبا لم يسقط شيئا من الثمن ولا يتخير المشتري به في قول أبي حنيفة بخلاف ما إذا كانت بكرا وبهذه الفصول يتبين أن الوطء في الثيب بمنزلة الاستخدام وكما أن الوطء لا يحل إلا في الملك فالإجبار على الخدمة لا تحل إلا في الملك ثم لا يمنع نسبة الرد بالعيب.
وحجتنا في ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم فقد قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما لا يردها بعد الوطء و قال عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما يردها ويرد معها عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصف عشر قيمتها إن كانت ثيبا فقد اتفقوا على أن الوطء لا يسلم للمشتري مجانا فمن قال يردها ولا يرد معها شيئا فقد خالف أقاويل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكفى بإجماعهم حجة عليه ثم إنهم مجمعين على أن الوطء بمنزلة الجناية إلا أنه كان من مذهب عمر وزيد رضوان الله عليهما أن المشتري إذا جنى عليها ثم علم بعيب يردها ويرد معها الأرش ففي الوطء أجابا نحو ذلك وعلي وابن مسعود رضي الله عنهما كان يقولان لا يردها بعد الجناية فكذلك بعد الوطء وبالإجماع بيننا وبين الشافعي الجناية تمنع الرد فكذلك الوطء وهو المعنى الفقهي في المسألة أن الوطء يسلك فيه مسلك الجناية فيمنع الرد بمنزلة الجناية عليها بنفسها.(13/175)
والدليل على إثبات هذا الوصف اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كما بينا والدليل على أن المستوفي بالوطء في حكم جزء من العين فإن المستوفي بالوطء ما يملك بالنكاح والمملوك بالنكاح في حكم العين ولهذا لا يملك العقد إلا مؤبدا والدليل عليه أن استيفاءه في غير الملك لا يخلو عن عقوبة أو غرامة واستيفاء المنفعة تنفك عن ذلك وإن المستوفي بالوطء مصون عن الابتدال حتى لا يجوز استيفاؤه بالبدل بدون الملك والمصون من الآدمي نفسه وأجزاؤه لا منافعه والمنفعة تتبدل من الآدمي كما تتبدل من غيره فإذا ثبت أنه في حكم جزء من العين فاستيفاؤه كاستيفاء جزئه بالجناية وذلك يمنعه من الرد بالعيب والدليل عليه ما إذا كانت بكرا تقرر ما قلنا إن الرد بالعيب فسخ للعقد من الأصل ولهذا لو كان موهوبا كان للواهب أن يرجع فيه ولو كان مبيعا كان للبائع أن يرده على بائعه ولو لم يتعذر ردها بالعيب لأجل الوطء لكان إذا ردها ويفسخ العقد من الأصل تبين أن وطأه إياها كان في غير الملك والوطء لا يحل إلا في الملك فللتحرز عن الوطء الحرام قلنا لا يردها والوطء في غير الملك بمنزلة تناول جزء من العين حتى لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وبهذا فارق حكم بيع المرابحة لأنه لا يتبين بالبيع مرابحة أن وطأه إياها كان في غير الملك ولأن ذلك في حكم جزء من العين أيضا ولكن هو جزء وهو ثمرة لما لم يتمكن به نقصان في العين وذلك لا يمنع بيع المرابحة عندنا فإنه لو تناول لبن الشاة وأعلفها بقدره كان له أن يبيعها مرابحة وهذا بخلاف وطء الزوج إياها عند المشتري لأن ذلك حصل بتسليط البائع وإيجابه له بالنكاح فيجعل كفعل البائع بنفسه بخلاف ما إذا كانت بكرا فإنه بالنكاح يوجب الوطء للزوج(13/176)
ص -83- ... لا صفة البكارة فيصير أصل الوقت مضافا إلى البائع ولكن بزوال صفة البكارة لا يصير مضافا إلى البائع فكأنها ذهبت إلى المشتري من غير صنع أحد أو بصنع إنسان بأصبع أو خشبة وذلك يمنع المشتري من ردها وكذلك وطء البائع قبل التسليم فثبوت الخيار للمشتري وسقوط شيء من الثمن إذا كانت بكرا باعتبار صفة البكارة دون الوطء وهذا لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء هو ثمرة كما بينا وذلك لا يوجب الخيار للمشتري كتناول الثمار واللبن إلا أن ذلك مال متقوم فيقابله جزء من الثمن إذا صار مقصودا يتناول البيع وهذا الجزء ليس بمال متقوم ألا ترى أنه يملك بالنكاح والمملوك بالنكاح ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن ثم المبيعة قبل التسليم في ضمان البائع وفي حكم الوطء إنما تصير مملوكة للمشتري بالقبض فإن الوطء تصرف وملك التصرف يثبت للمشتري بالقبض ولهذا لا يجتزأ بالحيضة التي توجد قبل القبض من استبراء المشتري فلهذا لم يوجب العقد على البائع إذا وطئها وسنقرر لأبي حنيفة الكلام في موضعه إن شاء الله تعالى وهذا بخلاف الاستخدام فالمنفعة ليست في حكم جزء من العين ولكنها أعراض تحدث شيئا فشيئا وهو يتبدل ويجوز استيفاؤها في عين الملك واستيفاؤها بخلو عن عقوبة أو غرامة فأكثر ما فيه أنه يتبين بالرد أنه استخدمها في غير ملكه وذلك لا يوجب عليه شيئا فلهذا لا يمنع الرد بسبب الاستخدام بخلاف الوطء إذا ثبت أنه لا يمكنه ردها بالعيب قلنا يرجع بحصة العيب من الثمن لأن الجزء الفائت صار مستحقا بالعقد للمشتري وقد تعذر تسليمه إليه فيرد حصة من الثمن لأنه صار مقصودا بالمنع فيكون له حصة من الثمن فطريق معرفة ذلك أن يقومها وبها العيب ويقومها ولا عيب بها فإن كان تفاوت ما بين القيمتين العشر رجع بعشر الثمن وإن كان نصف العشر رجع بنصف عشر الثمن إلا أن يقول البائع ردها علي فأنا أرضى بذلك فحينئذ يردها لأن المانع من الرد حقه وقد زال حين رضي به.(13/177)
ولو لم يطأها ولكن حدث بها عيب عند المشتري ووجد بها عيب لم يردها عندنا وقال ابن أبي ليلى يردها ويرد معها نقصان العيب الحادث عنده لأن رد البدل عند تعذر رد العين بمنزلة رد العين ولكنا نقول حق الرد للمشتري إنما ثبت لدفع الضرر عن نفسه وإنما يدفع الضرر عن نفسه بطريق لا يلحق الضرر فيه بالبائع وبعد ما تعيب عنده لو ردها كان في ذلك إلحاق الضرر بالبائع ولا يقال لا بد من إلحاق الضرر بأحدهما فيترجح جانب المشتري في دفع الضرر عنه لأن البائع دلس له العيب والمشتري صار مغرورا من جهته وهذا لأن الشرع ينظر لهما جميعا والضرر عن المشتري يندفع إذا أثبتنا له حق الرجوع بحصة العيب من الثمن فإن لم يندفع فذلك لعجزه عن الرد كما قبض لا لتصرف يباشره البائع ولو رده تضرر البائع بتصرف يباشره المشتري وهو ردها عليه فكان مراعاة جانب البائع أولى من هذا الوجه وإذا لم يردها رجع بنقصان العيب من الثمن كما بينا إلا أن يرضى البائع بأن يردها عليه لأن المانع من الرد حق البائع وقد رضي بالتزام هذا الضرر.(13/178)
ص -84- ... قال: فإن باعها المشتري بعد ما رأى العيب بها وقد وطئها أو تعيبت عنده لم يكن له أن يرجع على البائع بنقصان عيبها لأن البائع يقول أنا أقبلها فإنما تعذر الرد ببيع المشتري إياها بعد العلم بالعيب وذلك يمنعه من الرجوع بحصة العيب والأصل في جنس هذا أن في كل موضع يجوز ردها برضا البائع فإذا باعها المشتري لم يكن له أن يرجع بنقصان عيبها وفي كل موضع لم يكن له أن يردها وإن رضي البائع فبيعه إياها لا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب لأن تعذر الرد هنا بمعنى حكمي دون بيع المشتري إياها وفي الأول إنما تعذر الرد ببيع المشتري إياها فكأنه حبسها عنده وأراد الرجوع بنقصان العيب وعلى هذا لو اشترى ثوبا فقطعه ولم يخطه حتى رأى به العيب ثم باعه لم يكن له أن يرجع بنقصان العيب لأن بعد القطع يجوز رده إذا رضي به البائع وإنما تعذر الرد ببيع المشتري إياه ولو قطعه وخاطه ثم رأى به العيب فباعه كان له أن يرجع بنقصان العيب لأن الرد كان متعذرا قبل البيع وإن رضي به البائع بصفة الخياطة التي أحدث المشتري فيه وكذلك لو اشترى ثوبا فصبغه بعصفر أو زعفران ثم وجد به عيبا فباعه رجع بنقصان العيب لأن الرد كان متعذرا قبل البيع للزيادة الحادثة في الثوب من ملك المشتري ولو صبغه أسود فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن السواد عندهما زيادة وعند أبي حنيفة السواد نقصان كالقطع فإنما تعذر الرد ببيعه إياه فلا يرجع بنقصان العيب وقد ذكرنا هذا في كتاب الغصب.(13/179)
قال: ولو وطئها غير المشتري بزنا لم يردها المشتري بالعيب لحدوث العيب بها عنده بالزنى فالزنى عيب في الجارية ولكنه يرجع بنقصان العيب إلا أن يقول البائع ردها علي وهذا بخلاف ما إذا جنى عليها أجنبي فالجناية توجب الأرش والأرش زيادة منفصلة متولدة من العين حكما وذلك يمنع ردها بالعيب عندنا وإن رضي البائع بذلك على ما يذكره وأما الزنى فلا يوجب إلا الحد ووازن الأرش النكاح فإن المشتري لو زوجها فوطئها الزوج أو لم يطأها ثم وجد بها عيبا لم يكن له أن يردها به لمكان المهر الذي وجب بالنكاح للمشتري وكذلك لو وطئت بالشبهة وأخذ المشتري العقد لم يردها بالعيب بعد ذلك وإن رضي البائع به ولكن يرجع بنقصان العيب لأن الرد قد تعذر فيدفع الضرر عن المشتري برد حصة العيب من الثمن عليه وكل عيب وجده المشتري في السلعة فعرضها بعد ما رآه على بيع أواطئها أو قبلها أو لمسها بشهوة أو أجرها أو رهنها أو كاتبها فذلك رضا منه بالعيب وليس له ان يردها ولا يرجع بنقصان عيبها لأنه يعرضها على البيع لحاجته إلى ثمنها وذلك دليل الرضا منه بسقوط حقه من الثمن المدفوع إلى البائع ودليل الرضا كصريح الرضا وأما الوطء ودواعيه فلا يحل إلا في الملك المتقرر فإقدامه عليه دليل الرضا بتقرر ملكه فيها ولو وجد ذلك قبل العلم بالعيب امتنع ردها بالعيب كان هذا في القياس رضا فبعد العلم بالعيب أولى إلا أن قبل العلم بالعيب لم يصر هو راضيا بالعيب فيرجع بالنقصان وبعد العلم بالعيب يصير هو بالإقدام على هذا الفعل راضيا بالعيب ولا يرجع بالنقصان وأما الإجارة والرهن فلانه أوجب هذا التصرف للغير(13/180)
ص -85- ... فيها حقا لازما وذلك يعجزه عن ردها فالإقدام عليه دليل الرضا بالعيب والكتابة توجب لها حقا لازما في نفسها وذلك يعجزه عن ردها فالإقدام عليه دليل الرضا بالعيب ودليل الرضا فيما يسقط الخيار كصريح الرضا.
قال: ولو استخدمها بعد العلم بالعيب كان هذا في القياس رضا لأنه يستخدمها لملكه فيها فالإقدام عليه دليل الرضا ويتقرر ملكه وفي الاستحسان هذا لا يكون رضا بالعيب لأن الناس قد يتوسعون في الاستخدام فقد يستخدم الإنسان ملك غيره بأمره وبغير أمره وإنما يستخدمها للاختبار أنها مع هذا العيب هل تصلح لخدمته أم لا فكان ذلك اختبارا لا اختيارا ولو كان ثوبا فلبسه فهو رضا منه لأنه تصرف بحكم الملك وقلما يفعله الإنسان في ملك غيره فيكون ذلك منه دليل الرضا فيتقرر ملكه وكذلك إن كانت دابة فركبها غير أني أستحسن إذا ركب الدابة ليعلفها أو ليسقيها أو ليردها أن لا يكون هذا رضا منه لأنه يحتاج في ردها إلى سوقها وربما لا تنقاد له ما لم يركبها وكذلك في سقيها وعلفها فالركوب لأجله لا يكون دليل الرضا منه وإنما دليل الرضا أن يركبها في حاجة نفسه أو يسافر عليها.(13/181)
قال: وإذا ولدت الجارية عند الرجل أو وطئها ثم باعها وكتم ذلك فليس للمشتري أن يردها لأن هذا ليس بعيب لازم لأن العيب ما يعده التجار عيبا أو يؤثر نقصانا في المالية وصفة الثيوبة لا يعدها التجار عيبا فالجواري عليها في أغلب أحوالهن والبكارة صفة زائدة لا تستحق إلا بالشرط والولادة كذلك فالنقصان الممكن فيها بسببها يزول بمضي المدة وبعد زواله لا أثر له في مالية العين فلا يعده التجار عيبا وفي كتاب المضاربة يقول الجارية إذا ولدت فهذا فيها عيب لازم أبدا فللمشتري أن يردها إذا علم بذلك لأنه يدخل عليها بالولادة كسر لا يرتفع ويظهر ذلك في عكن بطنها ولا بأس بأن يبيعها مرابحة بعد ما وطئها إن لم يكن الوطء نقصها لأن المعتبر في بيع المرابحة عرف التجار وهم لا يعدون هذا من الخيانة ولأن المستوفي بالوطء ليس بمال وبيع المرابحة يلاقي ماليتها فاستيفاء ما ليس بمال منها إذا كان لا يوجب النقصان في ماليتها لا يعتبر في بيع المرابحة بخلاف ما إذا كانت بكرا فإن الوطء في هذه الحالة يؤثر نقصانا في ماليتها والنقصان فيها إذا كان بفعل المشتري فذلك يمنعه من أن يبيعها مرابحة.
قال: وإذا اشترى جارية فأعتقها أو دبرها أو ولدت له ثم وجد بها عيبا فليس له أن يردها لبطلان ملكه فيها وخروجها من أن يكون محلا للنقل من ملك إلى ملك وفي القياس ليس له أن يرجع بنقصان العيب لأن تعذر الرد كان بفعل المشتري فهو كما لو قبلها وهذا لأنه لما اكتسب سببا يتعذر الرد فيه كان حابسا لها حكما فكأنها في يده يحبسها ويريد الرجوع بنقصان العيب وفي الاستحسان يرجع بنقصان عيبها لأن ملكه تقرر فيها بما صنع أما التدبير والاستيلاد فلا يزيل الملك ولكنها تخرج من أن تكون محل النقل من ملك إلى ملك وأما(13/182)
ص -86- ... العتق فهو منه للملك لأن الملك في الآدمي إلى وقت العتق والشيء ينتهي بمضي مدته والمنتهي متقرر في نفسه ولهذا قلنا يثبت الولاء بالعتق والولاء أثر من آثار الملك فبقاؤه كبقاء أصل الملك فمتى تعذر الرد مع بقاء الملك المستفاد بالشراء حقيقة أو حكما يرجع بنقصان العيب لأنه استحق ذلك الملك بصفة السلامة كما لو تعيب في يده.
يوضحه أنها لو ماتت عنده رجع بنقصان العيب لأنه بالموت تنتهي مدة حياته والملك فيها باعتبارها فكذلك بالعتق ينتهي الرق والمالية فيها باعتبارها وأما إذا قتلها فقد روي عن أبي يوسف أنه يرجع بنقصان العيب أيضا لأن القتل موت بأجل فكأنها ماتت حتف أنفها وفي ظاهر الرواية قال لا يرجع بعد القتل بنقصان العيب لأن القتل فعل مضمون لو باشره في ملك الغير كان موجبا للضمان عليه وإنما استفاد البراءة عن الضمان هنا لملكه فيها وذلك في معنى عوض سلم له فكأنه باعها بخلاف العتق فإنه ليس بفعل موجب للضمان على الإنسان في ملك الغير على الإطلاق لأن عتقه في ملك الغير لا ينفذ ومن أحد الشريكين وإن نفذ فلا يتعلق به الضمان مطلقا حتى إذا كان معسرا لم يضمن شيئا فهو لم يستفد عوضا عن ملكه حقيقة وحكما وكذلك إن ماتت لأنه لم يوجد منه فعل مضمون فيها أما إذا باعها ثم علم بالعيب فيها لم يرجع بنقصان العيب لأنه لو خاصم إنما يخاصم في عيب ملك الغير ولأنه نال العوض حيث باعها بصفة السلامة ولأن البيع والتسليم فعل مضمن في ملك الغير فهو بمنزلة القتل والهبة والصدقة في هذا كالبيع لأنه أوجب الملك فيها باختياره فيكون قاطعا ملكه الذي استفاده من جهة البايع فكان كالبيع ثم هذا فعل مضمون في ملك الغير فإنما استفاد البراءة عن الضمان باعتبار ملكه فيها.(13/183)
قال: ولو باع منها بعضا لم يكن له أن يرد ما بقي عندنا وقال ابن أبي ليلى له ذلك إلا أن يشاء البائع أن يرد عليه نقصان العيب لأنه يتمكن من رد ما بقي ولكنه معيب بعيب الشركة ولو تعيب في يده بعيب آخر كان له أن يرجع بنقصان العيب إلا أن يشاء البائع أن يقبلها معيبة فهذا مثله ولكنا نقول عجز عن رد الباقي على الوجه الذي قبض لأنه قبض غير معيب وإنما حدث عيب الشركة عنده وذلك يمنعه من الرد وسبب هذا كان بيع النصف ومتى كان تعذر الرد بسبب البيع فليس له أن يرجع بشيء من نقصان العيب كما لو باع الكل وعند زفر له أن يرجع بنقصان العيب في النصف الذي لم يبع اعتبارا للبعض بالكل إذا لم يبع ولو كاتبها فالكتابة نظير البيع من حيث أنه يوجب لها حقا بعوض يستوجبه المولى عليها فلا يرجع بنقصان العيب بعد ذلك وكذلك لو أعتقها بمال فيما رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله لأنه أزال ملكه عنها بعوض فهو كما لو باعها وفي رواية أخرى يرجع بنقصان العيب لأن العتق منه للرق سواء كان بعوض أو بغير عوض ألا ترى أنه يثبت به الولاء في الموضعين جميعا ولو قتلها أجنبي لم يرجع بنقصان العيب على البائع لأنه أخذ العوض من القاتل فكان ذلك بمنزلة عوض سلم له بالبيع وكذلك لو كان ثوبا فأحرقه أجنبي أو طعاما فأكله لأنه قد(13/184)
ص -87- ... سلم للمشتري العوض من جهته وكذلك إن كان المشتري هو الذي أحرقه لأنه قد استفاد البراءة عن الضمان بسبب ملكه.
قال: ولو لبس الثوب حتى تخرق أو أكل الطعام ثم علم بالعيب لم يرجع بشيء في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرجع بنقصان العيب من الثمن استحسانا لأنه صنع بالمبيع ما يشتري لأجله ويعتاد فعله به فلا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب كما لو أعتق العبد وأبو حنيفة يقول تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فلا يرجع بنقصان العيب كالإحراق والقتل وهذا لأن اللبس والأكل موجب للضمان عليه في ملك الغير وإنما استفاد البراءة باعتبار ملكه في المحل فذلك بمنزلة عوض سلم إليه وكما أن الأكل واللبس مقصودان بالشراء فالمبيع مقصود بالشراء ثم لا يعتبر ذلك المعنى في إثبات حق الرجوع له بنقصان العيب لسلامة العوض له فكذلك الأكل وإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذلك الجواب عند أبي حنيفة بمنزلة ما لو باع البعض لأن الطعام في الحكم كشيء واحد فلا يرد بعضه بالعيب دون البعض وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله روايتان فيما إذا أكل البعض في إحدى الروايتين يرجع بنقصان العيب في الكل لأن الطعام في حكم شيء واحد يرد بعضه بالعيب وأكل الكل عندهما لا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب فأكل البعض أولى وفي الرواية الأخرى يرد ما بقي لأن هذا مما لا يضره التبعيض وهو قادر على الرد كما قبضه ويرجع بنقصان العيب فيما أكله وبعد بيع البعض عنهما روايتان أيضا ففي إحدى الروايتين لا يرجع بشيء كما هو قول أبي حنيفة لأن الطعام في حكم شيء واحد فبيع البعض فيه كبيع الكل وفي الرواية الأخرى يرد ما بقي لأنه لا يضره التبعيض ولكنه لا يرجع بنقصان العيب فيما إذا باع اعتبارا للبعض بالكل.(13/185)
قال: وإذا طحن الحنطة أولت السويق ثم علم بعيب به كان له أن يرجع بنقصان العيب لأن الملك المستفاد له بالشراء باق وإنما تعذر الرد لمكان الزيادة التي هي غير متولدة من العين بمنزلة الثوب إذا قطعه وخاطه أو صبغه فله أن يرجع بنقصان العيب.
قال: وإذا اشترى خفين أو نعلين أو مصراعي باب فوجد في أحدهما عيبا فله أن يردهما جميعا لأنهما في الصورة شيئان وفي المنفعة والمعنى كشيء واحد فإنه لا يتأتى الانتفاع المقصود بإحداهما دون الأخرى والمعتبر هو المعنى وفي الشيء الواحد وجود العيب بجزء منه ممكن من رد الكل لأنه لو رد المعيب خاصة لعاد إلى البائع بعيب حادث إذ التفريق بينهما يمنع الانتفاع وذلك عيب في كل واحد منهما فإن كان قد باع الذي ليس به عيب لم يكن له أن يرد ما بقي ولا يرجع بشيء كما في الشيء الواحد حقيقة إذا باع بعضه أما إذا اشترى ثوبين أو عبدين وقبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا رد المعيب خاصة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر له أن يردهما جميعا وليس له أن يرد أحدهما لأن الصفقة واحدة وضم الجيد إلى الرديء عادة معروفة ولو رد المعيب تضرر البائع بذلك فليس له ذلك إلا أن(13/186)
ص -88- ... يردهما جميعا كما في الفصل الأول ألا ترى أنه في الرد بخيار الشرط والرؤية ليس له أن يفرق بينهما وكذلك في الرد بالعيب قبل القبض فكذلك بعد القبض ولكنا نقول الصفقة قد تمت بالقبض لأن العيب لا يمنع تمام الصفقة ثم علة الرد العيب وذلك وجد في أحدهما والحكم إنما يثبت بحسب العلة ألا ترى أنه لو استحق أحدهما بعد القبض لم يتخير في الآخر فكذلك إذا وجد العيب في أحدهما بخلاف النعلين فهناك لو استحق أحدهما كان له أن يرد الآخر لاتصال أحدهما بالآخر انتفاعا وبخلاف خيار الشرط والرؤية لأن ذلك يمنع تمام الصفقة بالقبض وكذلك خيار العيب قبل القبض لأن الصفقة لا تتم قبل القبض وتفريق الصفقة قبل التمام لا يجوز ثم إن تضرر البائع هنا من الوجه الذي ذكره زفر فكذلك من قبل تدليسه فلا يعتبر في حق المشتري وليس من ضرورة ثبوت الخيار له في أحدهما ثبوته في الآخر كما لو سمى لكل واحد منهما ثمنا وشرط الخيار لنفسه في أحدهما بعينه.
قال: وإذا اشترى عبدا ثم باعه فرد عليه بعيب بغير قضاء قاض فليس له أن يرده على بائعه بالعيب لأن هذا بمنزلة الإقالة فإنه حصل بتراضيهما والإقالة في حق البائع الأول بمنزلة بيع مبتدأ فلم يعد إليه الملك المستفاد من جهة البائع الأول في حقه فلهذا لا يخاصمه في عينه قال ولو قبله بقضاء قاض ببينة قامت عليه أو بإباء اليمين أو بإقرار عند القاضي أنه باعه والعيب به وهو لا يعلم به كان له أن يرده على الأول إن كان له على العيب بينة وإلا استحلفه لأن الرد عليه بقضاء القاضي فسخ فإن للقاضي ولاية الفسخ بسبب العيب دون ابتداء البيع فيعود إليه الملك المستفاد من جهة البائع فهو على خصومته في العيب معه بمنزلة ما لو وهبه ثم رجع في الهبة إلا أن في الرجوع في الهبة القضاء وغير القضاء سواء بخلاف الرد بالعيب وقد قررنا هذا الفرق في كتاب الهبة.(13/187)
قال: ولو اشترى جارية ولها زوج أو عبدا وله امرأة فله أن يردهما بالعيب لأن النكاح مما يعده التجار عيبا في الغلام والجارية جميعا ولأن المقصود بملك الجارية الاستفراش وهذا المقصود يختل إذا ظهر أنها منكوحة الغير وفي العبد بسبب النكاح يلزمه نفقة امرأته وذلك ينقص من ماليته فلهذا كان النكاح عيبا فيهما جميعا وإذا اشترى شاة أو بقرة فحلبها وشرب اللبن ثم علم بعيبها لم يكن له أن يردها بالعيب ولكنه يرجع بنقصان العيب عندنا وقال الشافعي يردها بالعيب بجميع الثمن والأصل أن الزيادة نوعان متصلة ومنفصلة والمتصلة نوعان زيادة غير متولدة من العين كالصبغ في الثوب والسمن والعسل في السويق وهي تمنع الرد بالعيب بالاتفاق لمراعاة حق المشتري في مالية الزيادة والزيادة المتصلة التي هي متولدة من الأصل كالسمن وانجلاء البياض من العين وثياب اللبس لا يمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية لأنه لا معتبر بها في عقود المعاوضات ألا ترى أنها إذا حدثت قبل القبض لا يتغير حكم انقسام الثمن بسببها وقيل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هذه الزيادة تمنع الرد بالعيب وعند محمد لا تمنع على قياس مسألة التحالف وقد تقدم بيانها.(13/188)
ص -89- ... وأما الزيادة المنفصلة فهي نوعان عين متولدة من الأصل كالكسب والغلة فلا تمنع الرد بالعيب ولكن الزيادة تسلم للمشتري به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخراج بالضمان" ثم الكسب والغلة بدل المنفعة وسلامة المنفعة للمشتري لا تمنع رد الأصل بالعيب بجميع الثمن فكذلك سلامة بدل المنفعة وأما الزيادة المنفصلة التي هي متولدة من الأصل كاللبن والثمار والولد والعقد إذا وطئت الجارية بالشبهة والأرش إذا جنى عليها بعد ما قبضها المشتري فهو يمنع رد الأصل بالعيب عندنا وعند الشافعي لا يمنع ولكن يرد الأصل بجميع الثمن والزيادة تسلم للمشتري لأن هذه زيادة تملك بسبب ملك الأصل فلا يمنع رد الأصل بالعيب كالكسب والغلة وتأثيره أنه لا يقابل هذه الزيادة شيء من الثمن لأنها لم تكن موجودة لا عند العقد ولا عند القبض فكان جميع الثمن بمقابلة الأصل ألا ترى أن هذه الزيادة إذا هلكت من غير صنع أحد كان له أن يرد الأصل بالعيب بجميع الثمن فكذلك إذا كانت قائمة في يد المشتري أو استهلكها أو غيره وبهذا يتبين أن هذه الزيادة ليست بمبيعة لأن المبيع ما يقابله الثمن فلو صارت هذه الزيادة مبيعة لقابلها شيء من الثمن كما قلتم في الزيادة الحادثة قبل القبض إذا قبضها المشتري مع الأصل والدليل عليه أنه لا يرد هذه الزيادة بعيب إذا وجد بها فلو صارت مبيعة لثبت فيها حكم الرد بالعيب ويجوز فسخ سبب الملك في الأصل مع بقاء الزيادة سالمة للمتملك كالموهوبة إذا زادت زيادة منفصلة ثم رجع الواهب فيها تبقى الزيادة سالمة للموهوب له.(13/189)
وحجتنا في ذلك أن تملك المشتري في هذه الزيادة تملك مبيع فلو رد الأصل بجميع الثمن لبقيت الزيادة له مبيعا بلا ثمن وذلك ربا وبيان هذا أنه لا سبيل لملك الزيادة سوى التولد من الأصل وإنما يسري إليها الملك الثابت في الأصل وملكه في الأصل ملك مبيع لأن هذا الملك يثبت له بالشراء وما ثبت فهو باق من غير دليل منفي حتى يقوم الدليل والدليل عليه أن باعتبار قيام ذلك الملك التصرف في العقد بالإقالة وإذا ثبت أن ملكه في الأصل ملك مبيع فذلك الملك يسري إلى الزيادة لأن المتولد من عين الشيء يكون بصفته ألا ترى أن ولد المكاتبة وولد أم الولد من غير السيد يكون الملك فيه بصفة الملك في الأصل وبه فارق الكسب والعلة لأنه ملكه بسبب مبتدأ وما سرى إليه ملك الأصل ألا ترى أن كسب المكاتب لا يثبت فيه حكم الكتابة فإذا ثبت أن هذه الزيادة في حكم المبيع قلنا ليس بمقابلتها شيء من الثمن لأنها بيع محض والثمن بمقابلة الأصل دون البيع كأطراف المبيع لا يقابلها شيء من الثمن إلا أن يصير مقصودا بالتناول فكذلك الزيادة إن حدثت قبل القبض ثم قبضها المشتري مع الأصل صارت مقصودة بالتناول فيقابلها جزء من الثمن ومن ضرورة ذلك استحقاق صفة السلامة فيها فإذا وجد بها عيبا كان له أن يردها بذلك وقبل القبض لما كان لا يقابلها شيء من الثمن كان ردها مقصودا ولكن يردها مع الأصل تبعا وأما الزيادة الحادثة بعد القبض فلم تصر مقصودة بالتناول والقبض بحكم العقد فلا يقابلها ثمن فلهذا لا يكون له أن يردها ولا يرد الأصل دونها بجميع الثمن لأنها تبقى مبيعة سالمة للمشتري بغير(13/190)
ص -90- ... عوض والربا ليس إلا هذا ولهذا لا يملك ردها وإن رضي البائع لأن تعذر الرد لحق الشرع ولهذا رجع بالنقصان وإن باعها بعد العلم بالعيب لأن الرد ممتنع لمكان الزيادة سواء رضي البائع بذلك أو لم يرض ولا يقال قبل رد الأصل الزيادة تسلم للمشتري مبيعا بلا ثمن فكذلك بعد رد الأصل لأن قبل رد الأصل الزيادة تبع فتكون الزيادة بمقابلة الأصل يعني عن اعتبار الثمن بمقابلة المبيع فإذا تعذر رد الأصل بالعيب فقد انفسخ العقد فيه فالزيادة بعد ذلك لا تكون تبعا للأصل وإذا صارت مقصودة ولا يقابلها ثمن كانت ربا ولهذا يرد الأصل بالعيب بعد هلاك الزيادة لأن المانع زيادة كانت تبقي للمشتري مبيعا بلا ثمن وقد انعدم ذلك إذا هلك من غير صنع أحد وإن استهلكها أجنبي غرم بدلها فسلامة البدل للمشتري كسلامة الأصل وإن كان المشتري هو الذي استهلكها فلأنه حابس لها باستهلاكه أو لأنه استفاد البراءة عن الضمان بملكه فيها وذلك بمعنى عوض سلم إليه منها فمنفعة ذلك من ردها بالعيب بخلاف الموهوبة لأن بعد الرجوع في الأصل هناك الزيادة تبقي للموهوب له بغير عوض والأصل كان سالما له موهوبا بغير عوض ولم يكن له ذلك ربا فكذلك الزيادة وهذا لأن حكم الربا إنما يثبت في المعاوضات دون التبرعات.(13/191)
قال: وإذا اشترى عبدا فوجده مخنثا أو سارقا أو كافرا له أن يرده والأصل أن مطلق العقد يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من العداء بن خالد عبدا وكتب في عهدته: "هذا ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد بن هودة عبدا لاداء ولا غائله ولا خبثة بيع المسلم من المسلم" ففي هذا تنصيص على أن البيع يقتضي سلامة المبيع عن العيب وتفسير الداء فيما رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله المرض في الجوف والكبد قال المرض ما يكون في سائر البدن والداء ما يكون في الجوف والكبد والرئة وفيما روي عن أبي يوسف قال الداء المرض والغائلة لا تكون من قبل الأفعال كالإباق والسرقة والخبثة هو الاستحقاق وقيل الجنون ثم المرجع في معرفة العيوب إلى عرف التجار وفي كل شيء إنما يرجع إلى أهل تلك الصنعة فما يعدونه عيبا فهو عيب يرد به أو ما ينقص المالية فهو عيب لأن المقصود بالبيع الاسترباح وذلك بالمالية فما ينقص المالية فهو يمكن خللا في المقصود وذلك عيب يرد به وإذا وجد العبد مخنثا فهذا مما يعده التجار عيبا فيمكن نقصانا في ماليته وفيما هو المقصود بملك العبد وهو الاستعمال في الأعمال الشاقة وكذلك إن وجده سارقا فإن ذلك يخل بمقصوده لأنه لا يمكنه استخدامه إذ لا يأتمنه على ماله ويشق عليه حفظ ماله عليه آناء الليل والنهار وإن سرق مال الغير يقطع بسببه وكذلك إن وجده كافرا كان له أن يرده إذ لا عيب تبلغ درجته درجة الكفر وهذا لأنه ربما يحتاج إلى استخدامه في الأمور الدينية نحو اتخاذ الماء لطهوره وحمل المصحف إليه والكافر نجس لا يؤدي الأمانة في الأمور الدينية ولو اشتراه بشرط أنه كافر فوجده مسلما لم يكن له أن يرده عندنا وقال الشافعي له أن يرده لأنه وجده بخلاف شرطه وله في هذا الشرط غرض فربما(13/192)
ص -91- ... قصد أن يستخدمه في المحقرات من الأمور ولا يستخير من نفسه أن يستخدم المسلم في مثله فإذا فات عليه مقصوده يمكن من رده وأصحابنا رحمهم الله قالوا الكفر عيب فذكره في العقد لا يكون على وجه الشرط بل على وجه التبري من العيب فكأنه اشتراه على أنه معيب فإذا هو سليم وهذا لأنه وجد أزيد مما شرط وثبوت حق الرد لدفع الضرر عن نفسه فإذا وجده أزيد مما شرط فلا حاجة إلى دفع الضرر عن نفسه بإثبات حق الرد له.
قال: وإن وجد الغلام زانيا لم يكن له أن يرده بالعيب عندنا وقال الشافعي له أن يرده لأن عيب الزنى كعيب السرقة أو فوقه ألا ترى أن في الجارية كل واحد منهما عيب فكذلك في الغلام ولكنا نقول اشتراه على أنه فحل فوجده أفحل ثم الذي به ليس إلا تمني الزنى فإن تمني الزنى معدوم في حقه فإن فعل الزنى لا يتهيأ للعبد إلا بمال ولا مال له بخلاف الجارية ثم المقصود من العبد الاستخدام في أمور خارج البيت وزناه لا يخل بمقصود المولى وأما في الجارية فالمقصود هو الاستفراش وزناها يخل بهذا المقصود فإنها تلوث عليه فراشه وقيل في الغلام إذا صار ذلك عادة له بحيث لا يصبر عنه فله أن يرده لأنه يتمكن الخلل في مقصوده فكلما يوجهه في حاجته ذهب في متابعة هواه فهو كالسرقة فإنها تخل بالاستخدام من الوجه الذي قلنا وكذلك إن وجد العبد ولد زنا لم يكن له أن يرده لأن هذا لا يخل بمقصوده من الاستخدام ولأن أكثر المماليك بهذه الصفة لا تعرف أنسابهم فأما الجارية إذا كانت ولد زنا فله أن يردها لأن ذلك يخل بمقصوده منها وهو الاستيلاد فإن ولده يعير بأمه إذا كانت ولد زنا وعلى هذا الغلام إذا لم يكن مختونا أو الجارية إذا لم تكن مخفوضة ففي الحلية من دار الحرب هذا لا يكون عيبا لأنا لا نعلم أنهم لا يفعلون ذلك وفي المولد لا يكون عيبا في الصغير أيضا ويكون عيبا بعد البلوغ لأن المولد في دار الإسلام لا يترك كذلك حتى يبلغ والتجار يعدون ذلك عيبا في المولد.(13/193)
قال: والثؤلول عيب إذا كان ينقص الثمن وإن كان لا ينقصه فليس بعيب لأنه لا يخل بالمقصود فيعتبر نقصان المالية بسببه والخال كذلك فقد يكون الخال رتبة لا تنقص من المالية وهو ما إذا كان على الخد وقد يشينه إذا كان على رأس الأرنبة وذلك ينقص من المالية فلهذا يعتبر فيه أن ينقصه من الثمن.
قال: والصهوبة في الشعر عيب لأن التجار يعدونه عيبا وكذلك الشمط فإن الشمط في أوانه من الهرم والهرم عيب وفي غير أوانه ومن داء في الباطن وهو عيب ثم اللون المستوى للشعر السواد فما سوى ذلك إذا كان ينقص من الثمن ويعده التجار عيبا ثبت به حق الرد قال والبخر عيب في الجارية وليس بعيب في الغلام إلا أن يكون من داء وهو نتن الفم وهذا يخل بما هو المقصود من الجارية وهو الاستفراش ولا يخل بما هو المقصود من الغلام لأنه يستخدمه بالبعد من نفسه إلا أن يكون من داء فالداء نفسه عيب قال والذفر كذلك وهو نتن الإبط وهو يخل بالمقصود من الجارية دون الغلام إلا أن يكون فاحشا لا يكون في الناس مثله،(13/194)
ص -92- ... فهذا يكون لداء في البدن وهو ينقص الثمن قال والبجر عيب وهو انتفاخ تحت السرة وبه سمى بعض الناس أبجر وهو يكون لداء في البدن ويعده التجار عيبا والأدرة عيب وهي عظم الخصيتين وإنما يكون ذلك لداء في البدن وفي بعض النسخ الآذن عيب وهو الذي يسيل من منخره الماء ومنه قول القائل:
وترى الذنين على مناخرهم ... يوم الهياج كمارن النمل
وذلك يستقذر منه ولا يكون إلا لداء في الدماغ واليسر عيب وهو الذي يعمل بيساره ولا يستطيع أن يعمل بيمينه إلا أن يكون أعسر يسر وهو الأضبط الذي يعمل باليدين وقد كان عمر رضي الله عنه بهذه الصفة فحينئذ يكون زيادة وليس بعيب.
قال: والعشي عيب وهو ضعف في البصر حتى لا يبصر من شدة الظلمة أو شدة الضوء ومنه يسمى الأعشى والعسم عيب وهو يبوسة وتشنج في الاعصاب منه أصل العرج والسن السوداء عيب لأنه لا ينتفع به وهو يشين صاحبه والسواد في السن دليل موت السن عند من يقول في السن حياة وكذلك السن الساقطة عيب ضرسا كان أو غيره لأنه ينقص من الثمن ويعده التجار عيبا ثم سقوط السن فيما لا يبدو منها كالطواحين ينقص من المنفعة وفيما يبدو منها كالضواحك وفي الأصل كالنواجذ ينقص من الجمال ولهذا وجب الأرش إذا قلع من الغير وأفسد المنبت.(13/195)
قال: والظفر الأسود عيب إذا كان ينقص الثمن لأنه ينقص من الجمال والسواد في الظفر دليل موته كما في السن وإنما يشترط هذه الزيادة لأن ذلك قد لا ينقص من الثمن فيمن هو اسود اللون كالحبشي وإنما ينقص فيمن هو أبيض اللون كالأتراك وإذا كان بحيث لا ينقص الثمن لا يثبت حق الرد به والإباق مرة واحدة عيب من الصغير ما دام صغيرا فإذا بلغ فليس ذلك بعيب إلا أن يأبق بعد الكبر وهذا إذا كان بحيث يميز أما في الصغير جدا فهذا لا يكون عيبا لأنه يضل ولا يأبق والإباق يكون عن قصد منه وهو ليس من أهله ولكنه لا يهتدي إلى بيت مولاه فيضل كالدابة فأما إذا كان مميزا فالإباق والقصد إلى ذلك يتحقق منه وهو عيب فيه ما لم يبلغ فإذا بلغ زال ذلك وان أبق بعد البلوغ مرة فهو عيب لازم أبدا والسرقة كذلك.
قال: والبول في الفراش كذلك في حق الصغير جدا لا يكون عيبا لأنه يكون من أمثاله عادة وأما الجنون إذا وجد مرة فهو عيب لازم أبدا سواء وجد في حالة الصغر أو بعد البلوغ والفرق أن سبب الجنون واحد لا يختلف بالصغر والكبر وهو آفة في العقل فإذا وجد مرة فأثره يبقي فيه ما عاش وذلك يظهر في حماليق عينيه بمعرفة أهل البصر فيه وأما سبب الإباق والسرقة والبول في الفرش في حالة الصغر فمخالف لسبب هذه العيوب بعد البلوغ لأن الإباق في الصغر سببه سوء الأدب وحب اللعب وسببه بعد البلوغ التمرد وقلة المبالاة بالمولى وكذلك السرقة سببها قبل البلوغ قلة التأمل في عواقب الأمور بسبب الصغر وبعد البلوغ سببها(13/196)
ص -93- ... التمرد ولهذا لا يجب بها على الصبي ما يجب على البالغ وسبب البول في الفراش قبل البلوغ استرخاء في المثانة بسبب الصغر وسببه بعد البلوغ آفة في الآلة الماسكة فإذا وجد في حالة الصغر فهو عيب ما دام صغيرا فإذا بلغ زال ذلك السبب فزال الحكم أيضا فإذا وجد بعد البلوغ فهو عيب لازم أبدا لأن التجار يعدونه عيبا فهو ينقص من المالية والإباق سوى المالية فيه حكما فكان من أفحش العيوب.
قال: والحبل في بنات آدم عيب لأنه ينقص المالية ويخل بالمقصود وليس بعيب في البهائم لأنه يزيد في المالية قال والقرن عيب وهو عظم في المأتى يمنع الوصول إليها وبه قضى شريح رحمه الله قال اقعدوها فإن أصاب الأرض فهو عيب والرتق عيب وهو لحم في المأتى يمنع وصول الواطئ إليها والعفل عيب وهو أن يكون في المأتى شبه الكيس لا يتلذذ الواطئ بوطئها وهذا كله يخل بالمقصود قال والبرص عيب وهو معلوم يعده التجار عيبا فينقص من المالية قال والجذام عيب وهو قيح تحت الجلد يوجد نتنه من بعد وربما تنقطع الأعضاء به وهو أفحش العيوب قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" قال والفتق عيب وهو ريح في المثانة ربما يهيج بالمرء فيقتله ولا يكون ذلك الا لداء في البدن.
قال: والسلعة عيب وهو القروح التي تكون في العنق ويسمى بالفارسية خوك وذلك لا يكون إلا لداء في بدنه وربما يتلف بسببه وكل شيء ينقص الثمن في الرقيق والدواب فهو عيب لأن المقصود في البيع الاسترباح فما ينقص من الثمن يكون خللا في المقصود.(13/197)
قال: والكي عيب لأنه إنما يفعل ذلك لداء في البدن إلا أن يكون سمة في بعض الدواب فإن كان من ذلك شيء لا يعده التجار عيبا لا يرد به قال والفدع عيب وهو في الكف زيغ في الرسغ بينه وبين الساعد وفي القدم كذلك زيغ بينه وبين عظم الساق وفي الفرس هو التواء الرسغ عن عرضه الوحشي وهو الجانب الأيمن قال والفحج عيب وهو في الفرس تباعد ما بين الكعبين والافحج من الآدمي الذي تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه وتنفحج ساقاه والدحس عيب وهو ورم يكون في أطراف حافر الفرس قال والصكك عيب وهو أن يصطك ركبتاه قال أبو عمر وأبو عبيد رحمهم الله الصكك في الرجلين في الكعبين.
قال: والحنف عيب وهو إقبال كل واحد من الإبهامين إلى صاحبه وذلك ينقص من قوة المشي وقال ابن الأعرابي الأحنف الذي يمشي على ظهر قدميه قال والصدف عيب وهو التواء في أصل العنق.
قال: والشدق عيب وهو وسع مفرط في الفم وفيه الحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشدق في الكلام" وهو مما يعده التجار عيبا.
ثم العيوب التي يطعن المشتري بها أنواع أربعة نوع منها يكون ظاهرا في موضع يراه القاضي وغيره ولا تسمع الخصومة في ذلك ما لم يره العيب لأن قيام العيب عند الخصومة شرط لتوجه الخصومة وحقيقة معرفة ذلك بالمعرفة ممكن فإذا رآه القاضي فإن كان عيبا لا(13/198)
ص -94- ... يحدث مثله في مثل تلك المدة وقد علم القاضي وجوده عند البائع فيقضي بالرد إلا أن يدعي البائع أن المشتري علم به عند العقد ورضي به فحينئذ يحلف المشتري على ذلك ثم يرده وإن كان شيئا مما يحدث مثله في مثل تلك المدة فالقول قول البائع أن العيب لم يكن عنده لأن الحوادث إنما يحال بحدوثها على أقرب الأوقات ومن ادعى تاريخا سابقا فعليه أن يثبته بالبينة فإن أقام المشتري البينة على أن العيب كان عند البائع قضي بالرد وإن لم يكن له بينة يحلف البائع ألبتة بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب وإنما يذكر التسليم لجواز أن يكون العيب حدث بعد العقد قبل التسليم إلا أنهم قالوا النظر للمشتري ينعدم إذا استحلفه بهذه الصفة فإن العيب لو كان حادثا بعد العقد وقبل التسليم كان للمشتري حق الرد والبائع بار في يمينه بأن العيب لم يكن موجودا عند العقد فالأحوط أن يحلفه بالله لقد سلمه بحكم هذا العقد إليه ولم يكن به هذا العيب قال الشيخ الإمام عندي الأول أصح لأن البائع ينفي العيب عند البيع وعند التسليم ولا يكون بارا في يمينه إذا لم يكن العيب منتفيا في الحالين جميعا وإنما يستحلف على الثبات لأن استحلافه على فعل نفسه وهو التسليم كما لو التزمه بالعقد فإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره وإن حلف انقطعت المنازعة بينهما.(13/199)
ونوع من ذلك عيب لا يعرفه إلا الأطباء فعلى القاضي أن يريه مسلمين عدلين من الأطباء لأن علم ذلك عندهم وإنما يرجع إلى معرفة كل شيء إلى من له بصر في ذلك الباب كما في معرفة القيمة والأصل فيه قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ولا بد من العدد في ذلك لأنه قول ملزم كالشهادة فإذا قالا العيب موجود فيه وقالا هو مما لا يحدث في مثل هذه المدة حكم بالرد بقولهما وإن قالا قد يحدث ذلك حينئذ يحلف البائع كما بينا في الفصل الأول إلا أن يقيم المشتري البينة على إقرار البائع أن العيب كان عنده.
ونوع منه لا يعرفه إلا النساء بأن يكون في موضع لا يطلع عليه الرجال فالقاضي يريها النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال والمرأة الواحدة تكفي لذلك بعد أن تكون حرة مسلمة فإن كانتا اثنتين فهو أحوط وهذه المسألة معروفة في الطلاق والشهادات فإن أخبرت بوجود العيب توجهت الخصومة لظهور السبب في الحال بقولها ولكن لا يثبت الرد بقول النساء وإن كان ذلك مما لا يحدث في مثل تلك المدة لأن هذه الزيادة يمكن الوقوف عليها لا من جهة النساء فلا يعتبر قول النساء فيها ولأن شهادة النساء حجة ضعيفة لا يفصل الحكم بها ما لم تتأيد بمؤيد وذلك بنكول البائع فيستحلف حتى إذا انضم نكول البائع إلى شهادة النساء فسخ البيع وعن أبي يوسف أنه يقضي بالرد بقول النساء لأن شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال كشهادة الرجال فيما يطلعون عليه وقاس بالعنين إذا ثبتت البكارة بقول النساء بعد مضي السنة فإنه يفرق بينهما وقد بينا الفرق بين الفصلين في كتاب النكاح وعن محمد قال إن كانت الخصومة قبل القبض يفسخ العقد بقول النساء وإن كان(13/200)
ص -95- ... بعد القبض لا يفسخ لأن الحاجة إلى نقل الضمان من المشتري إلى البائع وشهادة النساء في ذلك ليست بحجة تامة.
ونوع من ذلك ما هو حكمي كالإباق والسرقة والبول في الفراش فإن القاضي لا يسمع خصومة المشتري في ذلك ما لم تقم البينة على وجود العيب عنده لأن قيام العيب في الحال شرط لتوجه الخصومة ولا طريق لمعرفة ذلك إلا بالبينة فإن طلب المشتري يمين البائع على وجود ذلك العيب عنده فقد ذكر في الجامع أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يستحلف البائع بالله ما يعلم أنه أبق عند المشتري أو سرق أو بال في الفراش وقد بينا هذا الفصل فيما أمليناه من شرح الجامع الكبير وأن يثبت وجود العيب عند المشتري فإن كان اشتراه وقبضه وهو صغير والخصومة بعد البلوغ لم تسمع الخصومة في ذلك لأن العيب الذي كان عند البائع قد زال وهذا عيب حادث عند المشتري.
قال: وان كانت الخصومة في الصغر أو كان الشراء بعد البلوغ فالآن تسمع خصومة المشتري ويحتاج إلى إقامة البينة على الذي كان أبق عنده بعد ما بلغ قبل شرائه فإن لم يكن له بينة يستحلف البائع بالله لقد باعه وقبضه المشتري وما أبق ولا سرق ولا بال في الفراش منذ بلغ مبلغ الرجال وهذا استحلاف على الثبات لأنه على التسليم الذي التزمه واليمين الأولى على العلم لأنها على فعل الغير وفي ظاهر الرواية الجنون كذلك إلا أن في الجنون يستحلف بالله لقد باعه وسلمه وما جن قط لما بينا أن الجنون إذا وجد مرة في الصغر أو الكبر فهو عيب لازم أبدا وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله قالوا في الجنون لا يشترط عوده عند المشترى لتوجه الخصومة لأن أثر ذلك الذي كان قائم فيه على ما بينا فالجنون بعد انقلاعه يعقب أثرا يظهر ذلك في حماليق عينيه وذلك يكفي لتوجه الخصومة بخلاف الإباق والسرقة والبول في الفراش فإنه ليس لما قد كان أثر في العين فلا بد من عوده عند المشتري لتوجه الخصومة.(13/201)
قال: وإن طلب البائع يمين المشتري بالله ما رضي بالعيب منذ علم به ولا عرضه على بيع حلفه على ذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف عليه لرجاء نكوله.
قال: والعزل عيب وهو أن يعزل ذنبه في أحد الجانبين وذلك يكون عادة لا خلقة وإنما يفعل ذلك إذا راث وربما يحول الذنب من جانب إلى جانب حتى يلطخ وركيه بالروث وذلك ليتقذر ويعد عيبا يرد به قال والمشش عيب وهو شيء يشخص في وظيفة حتى يكون له حجم ليس له صلابة العظم قال الوظيف مستدق الساق قال والحرد عيب وهو كل ما حدث في عرقوبه من تزيد أو انتفاخ عصب.
قال والزوائد عيب وهو أطراف عصب يتفرق عند العجانة وينقطع عندها ويلصق بها والحرن عيب فمنهم من يقول الخزر وهو ضيق مفرط في العين والأظهر هو الحرن فإنه ذكر في جملة عيوب الفرس وهو أن لا تنقاد للراكب عند العطف والسير وهو نوع من الجمح(13/202)
ص -96- ... والجمح عيب يخل بالمقصود وخلع الرأس عيب.وهو أن يكون به حيلة يخلع رأسه من العذار وإن شد عليه وهو مما يعد عيبا وربما بطل سببه وبل المخلاة عيب إذا كان ينقص الثمن وهو أن يسيل لعاب الفرس على وجه تبتل المحلاة به إذا جعلت على رأسه وفيها علفه وقيل أن يأخذ المخلاة بشفتيه فيرمي بها وهذا نوع من الجمح فهو عيب إذا كان ينقص الثمن والمهقوع عيب والهقعة دائرة في عرض زوره يعد عيبا ويتشاءم به ومنه يقال اتق الخيل المهقوع والانتشار عيب وهو انتفاخ العصب عند الاتعاب والعصب الذي ينشر هي العجانة وتحرك السطا كانتشار العصب غير أن الفرس لانتشار العصب أشد احتمالا منه لتحرك السطا والغرب عيب وهو ورم في المآقي وربما يسيل منه شيء حتى قال محمد إذا كان ذلك سائلا فصاحبه في حكم الطهارة كصاحب الجرح السائل والشتر عيب وهو انقلاب في الأجفان وبه كان يسمى الأشتر وهذا يمكن ضعفا في البصر والحول عيب فإنه يمكن ضعفا في البصر حتى يرى الأحول الشيء الواحد شيئين والحوص والفتل عيب وهو نوع من الحول إلا أنه إذا كان يمل إنسان العين إلى الجانب المقدم يسمى فتلا وإذا كان إلى الجانب المؤخر فهو الحوص والطفر عيب وهو بياض يبدو في إنسان العين يسمى بالفارسية باحسه وذلك يمكن ضعفا في البصر وربما يمنع البصر أصلا والشعر في جوف العين يكون عيبا لأنه يضعف البصر والجرب عيب سواء كان في العين أو في غير العين لأن الجرب في العين يمكن ضعفا في البصر وفي غير العين يكون لداء في البدن وكذلك الماء في العين عيب لأنه يضعف البصر وريح السبل عيب فإنه يضعف البصر وربما يذهب به.(13/203)
والسعال القديم عيب إذا كان من داء أما القدر المعتاد منه فلا يعد عيبا فإذا كان قديما فذلك من داء في البدن والداء نفسه عيب والاستحاضة عيب لأن الاستحاضة لداء في البدن ثم سيلان الدم إذا كان مستداما فربما يصيبها ويقتلها والتي يرتفع حيضها زمانا عيب لأن ذلك لا يكون إلا من داء في البدن ومنه يكون مواد المرض للمرأة فإن الرطوبة إذا كانت تسيل منها في وقتها تكون صحيحة البدن وإذا لم تسل اصفر لونها ولأنها إذا كانت لا تحيض فإنها لا تحبل أيضا فعرفنا أنه يخل بما هو المقصود منها.
وإذا اشترى عبدا عليه دين لم يعلم به ثم علم بذلك فله أن يرده لأن قيام الدين عليه مما يعده التجار عيبا وتكون ماليته مشغولة بحق الغرماء فهو عيب حكمي كعيب النكاح إلا أن يقضي عنه البائع دينه أو يبرئه الغرماء منه فبذلك يزول العيب وزوال العيب قبل الخصومة يسقط حق المشتري في الرد أما إذا علم بالدين ثم اشتراه هل له أن يرده عند محمد لا استدلالا بسائر العيوب وعند أبي يوسف له أن يرده كما إذا كان مستحقا وهو عالم به له أن يرده كذلك هنا وإذا اشترى جارية فوجدها محرمة فليس ذلك بعيب لأن له أن يحللها عندنا وقال زفر ليس له أن يحللها ولكنه يردها بالعيب لأنها دخلت في ملكه وهي بهذه الصفة فلا يكون له أن يحللها كما لو اشتراها وهي منكوحة لا يكون له أن يفسخ النكاح ولكنه يردها(13/204)
ص -97- ... بالعيب ولكنا نقول المشتري قائم فيها مقام البائع وقد كان للبائع أن يحللها فإذا كانت أحرمت بغير إذنه حللها من غير كراهة وإذا كانت أحرمت بإذنه فله أن يحللها وإن كان ذلك مكروها لما فيه من خلف الوعد فكذلك المشتري ولا يكره ذلك للمشتري لأن خلف الوعد لا يوجد منه بهذا وبه فارق النكاح فهناك لم يكن للبائع أن يفرق بينهما بعد صحة النكاح فكذلك للمشتري وهذا لأن لزوم النكاح لحق الزوج وقد كان مقدما على حق المشتري فأما لزوم الإحرام فلحق الشرع وحق الآدمي في المحل مقدم فلهذا كان للمشتري أن يحللها وإذا تمكن من إزالة العيب فليس له أن يردها به وإن كانت في عدة من زوج فإن كان الطلاق رجعيا وله أن يردها كان النكاح قائما والزوج يستند بالرجعة إلا إذا انقضت العدة قبل الخصومة فحينئذ لا يردها لزوال العيب وإن كانت العدة من طلاق بائن أو موت فليس هذا بعيب لأن هذا مما لا يعده التجار عيبا فالعيب هو النكاح وقد انقطع والحرمة بهذا السبب نظير الحرمة بسبب الحيض كما أن ذلك لا يكون عيبا فهذا مثله.
وإذا وجد بالجارية عيبا فاراد أن يردها فقال البائع ما هذه بجاريتي فالقول قوله مع يمينه لأن العيب لا يمنع تمام القبض والرد بحكمه لا ينفرد المشتري به من غير قضاء ولا رضا فالمشتري يدعي ثبوت حق الرد له في هذا المحل والبائع ينكر والقول قوله مع يمينه بخلاف ما سبق من خيار الشرط والرؤية وإن اشتراها على أنها بكر فقال وجدتها ثيبا لا يصدق على ذلك إلا ببينة لأن البكارة في النساء أصل فالمشتري يدعي عارضا ليثبت لنفسه حق الرد به فهو بمنزلة دعوى العيب فلا يصدق عليه إلا ببينة.(13/205)
قال: وإذا اشترى جوزا أو بيضا فوجده فاسدا كله وقد كسره فله أن يرده ويأخذ الثمن كله أما البيض فالفاسد منه ليس بمال متقوم إذ هو غير منتفع به ولا قيمة لقشرة فتبين أن أصل البيع كان باطلا وأما الجوز فالمقصود منه اللب دون القشر ولا قيمة لقشره في المواضع التي يكثر فيها الحطب وفي المواضع التي يندر فيه الحطب فإن كان لقشره قيمة لكن مالية الجوز قبل الكسر باعتبار اللب دون القشر فإذا كان حادثا أو منتن اللب لا يصلح للانتفاع به فكان البيع باطلا فأما إذا كان قليل اللب أو أسود اللب فهذا بمنزلة العيب فإذا وجده كذلك بعد الكسر رجع بنقصان العيب من الثمن عندنا وقال الشافعي يرده وكذلك البطيخ والقرع والفاكهة إذا وجدها فاسدة كلها بعد ما يكسرها فإن كانت لا تساوي شيئا رجع بجميع الثمن لأنه تبين بطلان البيع وإن كانت بحيث يأكلها بعض الناس أو تصلح لعلف الدواب يرجع بحصة العيب من الثمن عندنا وقال الشافعي له أن يرده لأنه لا يتمكن من الرد إلا بعد العلم بالعيب ولا طريق له إلى معرفة العيب سوى الكسر ولا يصير ذلك مانعا حقه في الرد وهذا لأن دفع الضرر عن المشتري واجب بحسب الإمكان والبائع هو الذي سلطه على الكسر فكأنه فعل ذلك بنفسه ولكنا نقول الكسر عيب حادث بفعل المشتري وذلك يمنعه من الرد كما لو تعيب المبيع بعيب آخر وهذا لأن الرد لدفع الضرر عن المشتري وإنما يتمكن منه على وجه(13/206)
ص -98- ... لا يلحق الضرر بالبائع ثم مراعاة جانب البائع أولى فإن حق المشتري لا يبطل أصلا ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن والضرر الذي يلحق البائع بالرد لا يمكن دفعه بعوض فلهذا رجحنا جانبه وهذا إذا وجد الكل فاسدا فإن وجد البعض بهذه الصفة فالكلام في حصة ذلك كالكل إذا وجده فاسدا إلا أن في الجوز إذا كان الفاسد منه مقدار ما لا يخلو الجوز منه عادة كالواحدة والاثنتين في كل مائة فليس له أن يخاصم البائع لأجله لأنه عند الأقدام على الشراء راض به على الوجه المعتاد والجوز في العادة لا يخلو عن هذا فلا يخاصم فيه لأجل ذلك.
قال: وإذا اشترى عبدا قد حل دمه بقصاص أو ردة فقتل عند المشتري رجع على البائع بالثمن كله في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقوم حلال الدم وحرام الدم فيرجع بتفاوت ما بين القيمتين من الثمن لأن العبد بعد ما حل دمه مال متقوم وحل الدم عيب فيه ومن اشترى شيئا معيبا وتعذر عليه رده بعد ما قبضه رجع بحصة العيب من الثمن كما لو كان زانيا فجلد عند المشتري ومات وبيان الوصف أن بيع حلال الدم صحيح وبالقبض ينتقل إلى ضمان المشتري بدليل أنه لو مات كان الثمن متقررا على المشترى ولو تصرف فيه المشتري نفذ تصرفه فيه ولو كان عالما حين اشتراه أنه حلال الدم لم يرجع بشيء فعرفنا أن حل الدم عيب فيه.(13/207)
يوضحه أن البيع يرد على محل غير مستحق بسبب حل الدم فالمستحق به النفس وإنما يملك بالبيع المالية ومحل الدم لا يعدم المالية ولا يصير يستحقه وإنما تلفت المالية باستيفاء القتل وذلك فعل أنشأه المستوفي باختياره بعد ما دخل المبيع في ضمان المشتري بخلاف ما إذا استحق المبيع بملك أو حق رهن أو دين لأن المستحق هناك ما تناوله البيع فينقص به قبض المشتري من الأصل وفي الكتاب استدل بما لو اشترى حاملا وقبضها فولدت وماتت في نفاسها لم يرجع بجميع الثمن وإن كان أصل السبب في يد البائع وعذركم أن الغالب في الولادة السلامة يشكل على أصل أبي حنيفة بالجارية المغصوبة إذا حبلت ثم ردها الغاصب فماتت في نفاسها يرجع المغصوب منه على الغاصب بقيمتها وفي هذا الفرق نوع تناقض وأبو حنيفة يقول زالت يد المشتري عن المبيع لسبب كانت الإزالة مستحقة في يد البائع فيرجع بالثمن كما لو استحقه مالك أو مرتهن أو صاحب دين وهذا لأن الإزالة لما كانت مستحقة قبل قبض المشتري ينتقض بها قبض المشتري من الأصل فكأنه لم يقبضه وإنما قلنا ذلك لأن القتل بسبب الردة مستحق لا يجوز تركه وبسبب القصاص مستحق في حق من عليه إلا أن ينشئ من هو له عفوا باختياره والبيع وإن كان يرد على المالية ولكن استحقاق النفس بسبب القتل والقتل متلف للمالية في هذا المحل فكان في معنى علة العلة وعلة العلة تقام مقام العلة في الحكم فمن هذا الوجه المستحق كأنه المالية ولا تصور لبقاء المالية في هذا المحل بدون النفسية والنفسية مستحقة بالسبب الذي كان عند البائع فيجعل ذلك بمنزلة استحقاق المالية لأن ما لا ينفصل عن الشيء بحال فكأنه هو ولا تصور لبقاء المالية في هذا المحل بدون النفسية إلا أن استحقاق النفسية في حكم الاستيفاء فقط وانعقاد البيع صحيحا وراء ذلك.(13/208)
ص -99- ... وإذا مات في يد المشتري فلم يتم الاستحقاق في حكم الاستيفاء فلهذا هلك في ضمان المشتري وإذا قبل فقد تم ذلك الاستحقاق ولا يبعد أن يظهر الاستحقاق في حكم الاستيفاء دون غيره كملك الزوج في زوجته وملك من له القصاص في نفس من عليه القصاص لا يظهر إلا في الاستيفاء حتى إذا وطئت المنكوحة بالشبهة كان المهر لها وإذا قتل من عليه القصاص إنسان فالدية تكون لورثته دون من له القصاص وهذا بخلاف الزنى وزنا العبد لا يصير نفسه مستحقة وإنما المستحق عليه ضرب مؤلم واستيفاء ذلك لا ينافي المالية في المحل وإذا اشتراه وهو يعلم محل دمه ففي أصح الروايتين عن أبي حنيفة يرجع بالثمن أيضا إذا قتل عنده لأن هذا بمنزلة الاستحقاق وفي الرواية الأخرى لا يرجع لأن حل الدم من وجه كالاستحقاق ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة المبيع فلشبهه بالاستحقاق قلنا عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه بالعيب قلنا لا يرجع عند العلم بشيء لأنه إنما جعل هذا كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به وأما الحامل فهناك السبب الذي كان عند البائع يوجب انفصال الولد لا موت الأم بل الغالب عند الولادة السلامة فهو نظير الزاني إذا جلد وليس هذا كالغصب لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله وهو أن يرد المغصوب كما غصب ولم يوجد ذلك حين ردها حاملا وهنا الواجب على البائع تسليم المبيع كما أوجبه العقد وقد وجد ذلك ثم إن تلف بسبب كان الهلاك مستحقا به عند البائع ينتقض قبض المشتري فيه وإن لم يكن مستحقا لا ينتقض قبضه فيه وعلى هذا الأصل لو كان العبد سارقا فقطعت يده عند المشتري رجع بحصة العيب من الثمن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بأن يقوم سارقا وغير سارق وعند أبي حنيفة يرجع بنصف الثمن لأن قطع اليد كان مستحقا عليه بسبب كان عند البائع واليد من الآدمي نصفه فينتقض قبض المشتري في النصف فيكون المشتري بالخيار إن شاء رجع بنصف الثمن وإن شاء رد ما بقي ويرجع(13/209)
بجميع الثمن على البائع كما لو قطعت يده عند البائع.
وإن مات العبد من ذلك قبل أن يرده لم يرجع إلا في نصف الثمن لأن النفس ما كانت مستحقة في يد البائع ألا ترى أن على الإمام أن يتحرز عن السراية بأن لا يقطع في البرد الشديد ولا في الحر الشديد وأن يحسم بعد القطع فقبض المشتري لا ينتقض في النصف الباقي وإن سرى.
قال: وإن اشترى جارية وعبدا فزوجهما ثم وجد بهما عيبا لم يكن له أن يردهما لأن النكاح فيهما عيب حادث عنده فإن أبانها ولم يكن دخل بها كان له أن يردهما لزوال العيب الحادث عنده ولم يجب المهر بهذا النكاح فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا قال وإذا شهد شاهد أنه اشترى هذا العبد وهذا العيب به وشهد آخر على إقرار البائع به لم تجز الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به فأحدهما يشهد بقول والآخر بعيب معاين وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين.(13/210)
ص -100- ... ولو باع عبده من نفسه بجارية ثم وجد بها عيبا كان له أن يردها ويأخذ منه قيمة نفسه في قول أبي حنيفة الآخر وهو قول أبي يوسف رحمهما الله وكان يقول أولا يرجع بقيمة الجارية وهو قول محمد وكذلك لو ماتت قبل أن يقبضها المولى واستحقت وكذلك لو حدث بها عيب عند المولى حتى تعذر ردها بالعيب ففي قوله الآخر يرجع بحصة العيب من قيمة العبد وفي قوله الأول من قيمة الجارية.
وجه قوله الأول أن هذا مبادلة مال بما ليس بمال فعند الاستحقاق والرد بالعيب يكون رجوعه بقيمة ما هو بدل له كما في النكاح والخلع والصلح من دم العمد إذا استحق البدل وكان بعينه رجع بقيمته وبيان الوصف أن الذي من جهة المولى في هذا العقد الإعتاق فإن بيع العبد من نفسه إعتاق وذلك ليس بمال والدليل عليه أن الحيوان يثبت دينا في الذمة بمقابلته فإن العبد يعتق على ملك المولى حتى يكون الولاء له وأن الوكيل من جانب المولى في هذا العقد لا يكون له قبض البدل ولا يبطل بقيامه عن المجلس قبل قبول العبد أنه لا يملك الرجوع عنه.
والأجل إلى الحصاد ونحوه يثبت في بدله وأن البدل لا يرد إلا بالعيب الفاحش عرفنا أنه في حكم مبادلة مال بما ليس بمال وتأثيره وهو أن استحقاق الجارية لورودها بالعيب لا ينفسخ العقد فكيف ينفسخ وقد عتق العبد فإذا لم ينفسخ فقد تعذر تسليم الجارية مع قيام السبب الموجب للتسليم فتجب قيمتها واستدل بالكتابة فإنه لو كاتبه على جارية بغير عينها فأداها وعتق ثم وجد المولى بها عيبا ردها وأخذ مثلها صحيحة فإن حدث بها عيب عند المولى رجع بنقصان العيب من قيمة الجارية وكذلك في بيع العبد من نفسه بجارية.(13/211)
ووجه قوله الآخر إن المولى أزال عن ملكه مالا بإزاء مال فإذا لم يسلم ما بذل له رجع بقيمة ما بذل كما لو باعه من فرسه بجارية فعتق على القريب ثم استحقت الجارية رجع المولى بقيمة العبد وبيان الوصف أن يقول تصرف المولى باعتبار ملكه وليس له في العبد إلا ملك المالية إلا أن إزالة ملك المالية إذا لم تكن إلى مالك يكون موجبا عتق العبد فأما تصرف المولى من حيث الإزالة فتلاقي ملكه وملكه ملك المالية.
وتحقيق هذا الكلام أن في حق ما يسلم للعبد في هذا في معنى مبادلة المال بما ليس بمال لأن الذي سلم للعبد العتق وهو ليس بمال وفيما يزيله المولى عن ملكه هذا مبادلة المال بالمال فعند الاستحقاق والرد بالعيب مراعاة جانب المولى أولى لأن الحاجة في دفع الضرر عن المولى فأما العتق فسالم للعبد بكل حال ولأن العتق للعبد يبني على إزالة المولى ملكه فيعتبر ما هو الأصل وباعتباره هذا مبادلة مال بمال ألا ترى أنه إذا أعتق عبدا على خمر يجب على العبد قيمة نفسه وما كان ذلك إلا بالطريق الذي قلنا فكذلك إذا استحق البدل أو هلك قبل التسليم وقوله أن السبب لم ينفسخ على إحدى الطريقتين يقول في حق المولى قد انفسخ السبب ولأن في حقه مبادلة المال بالمال ولكن يتعذر عليه استرداد العبد لنفوذ العتق فيجب رد قيمته كالمدبر إذا مات المولى وعليه دين مستغرق أو قتله مولاه تبطل وصيته ولكن يتعذر(13/212)
ص -101- ... رده إلى الرق فيجب عليه السعاية في قيمته وعلى الطريق الآخر يقول لا ينفسخ السبب ولكن لم يسلم للمولى العوض فيرجع بمثله ومثل الجارية بحكم هذا العقد ما هو عوضها وهو مالية العبد فإنما يرجع بقيمة العبد بهذا بخلاف النكاح فإن عوض الصداق هناك ليس بمال متقوم ليكون الرجوع بماليته فلهذا صرنا إلى قيمة الصداق هناك وفي الكتاب قيل الجواب قول محمد فإن من عادته الاستشهاد بالمختلف لإيضاح الكلام ولئن سلمنا فنقول بدل الكتابة ليس بمقابلة رقبة المكاتب بل بمقابلة ما يسلم للمكاتب لعقد الكتابة وهو كونه أحق بنفسه ومكاسبه وذلك ليس بمال فلهذا كان الحكم فيه بمنزلة الحكم في النكاح وهنا بدل الجارية مالية العبد في حق المولى فإذا لم يسلم له الجارية كان رجوعه بمالية العبد وهو قيمته وإذا باع رجل جارية رجل بأمره ثم خوصم في عيب فقتلها بغير قضاء قاض فإنها تلزم البائع دون الآمر لأن هذا بمنزلة الإقالة في أنه يعتمد تراضيهما فالإقالة في حق الموكل كالبيع الجديد فكأن الوكيل اشتراها ابتداء قال إلا أن يعلم أن مثله لا يحدث فيلزم الآمر لأنا تيقنا بوجود العيب عند الآمر وإنما لم يشتغل الوكيل بالخصومة لأنه لم ير فيها فائدة وفي كتاب الوكالة والمأذون قال لا يلزم الآمر على كل حال وهو الأصح لما قلنا أن هذا بمنزلة الإقالة وفي هذا المعنى لا فرق بين العيب الذي يحدث مثله أو لا يحدث وإن أبى البائع أن يقبلها فخاصمه المشتري إلى القاضي فأقر عنده بالعيب كان إقراره عند القاضي وعند غيره سواء لا يلزم الأمر إلا في عيب لا يحدث مثله.(13/213)
ومعنى هذا الكلام أن في العيب الذي لا يحدث مثله رد القاضي بإقرار الوكيل وبالبينة سواء في أنه يلزم الآمر لأن الرد بقضاء القاضي فسخ وقد تيقنا بوجود سببه عند الآمر وإن كان العيب يحدث مثله فإقرار الوكيل لا يكون حجة على الآمر ولكن يحتاج إلى أن يثبت على الآمر بالبينة أن العيب كان عنده ليردها عليه وإن لم يكن له بينة فعلى الآمر اليمين على ذلك وإن ردها القاضي على الوكيل ببينة أقامها المشتري فالبينة حجة على الآمر فيلزم الآمر فإن ردها بإباء اليمين من الوكيل فإنها تلزم الآمر عندنا وقال زفر هذا والإقرار سواء لأن النكول بدل عن الإقرار وهو بمنزلة البدل فلا يكون حجة على الآمر ولكن الوكيل على خصومته مع الآمر كما في الإقرار ألا ترى أن المشتري لو باع الجارية من غيره ثم ردت عليه بعيب بنكوله جعل هذا وما لو ردت عليه بإقراره سواء في حق البائع الأول فكذلك في حق الوكيل ولكنا نقول الوكيل مضطر في هذا النكول لأنه لا يمكن أن يحلف كاذبا إذا كان عالما بالعيب وإنما اضطر إلى ذلك في عمل باشره للآمر فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة بخلاف ما إذا أقر فإنه غير مضطر إلى الإقرار لأنه يمكنه أن يسكت حتى يعرض عليه الثمن ويقضي عليه بالنكول فيكون هو في الإقرار مختارا لا مضطرا وبخلاف المشتري الأول فإنه مضطر في النكول ولكن في عمل باشره لنفسه فلا يرجع بعهدة عمله على غيره فإن أنكر الآمر أن تكون الجارية التي باعها فالقول قوله مع يمينه لأن الوكيل يدعي لنفسه حق الرجوع على الآمر بما يلحق من العهدة(13/214)
ص -102- ... في هذا المحل والموكل منكر فالقول قوله مع يمينه إلا أن يقيم البائع البينة أنها هي الجارية التي باعها فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإذا اشترى الرجل جارية لرجل بأمره ثم وجد بها عيبا فله أن يردها بالعيب قبل أن يدفعها إلى الآمر من غير أمر الآمر عندنا وقال ابن أبي ليلى ليس له ذلك لأنها مملوكة للآمر فلا يملك إخراجها عن ملكه بغير أمره ولأنها أمانة في يد الوكيل ويد الأمين كيد صاحبها ولو كان سلمها إلى الآمر لم يردها بالعيب إلا بأمره.(13/215)
وجه قولنا أن الرد بالعيب من حقوق العقد ولهذا اختص به الوكيل والعاقد في حقوق العقد مستبد به وإن كان قد عقده لغيره ولأنه في الحقوق كالعاقد لنفسه ألا ترى أن في الرد بخيار الشرط والرؤية لا تحتاج إلى استطلاع رأي الآمر فكذلك في الرد بخيار العيب بخلاف ما بعد التسليم إلى الآمر لأنه لا يتمكن من ردها إلا بإعادتها إلى يده وليس له ولاية إثبات اليد عليها بغير رضا الآمر بعد ما سلمها إليه فأما قبل التسليم فهو لا يحتاج إلى ذلك ألا ترى أن المضارب يرد ما اشترى بالعيب وإن كان رب المال غائبا والعبد المأذون يرد ما اشترى بالعيب وإن كان مولاه غائبا فإن ادعى البائع أن الآمر قد رضي بالعيب فطلب يمين الآمر أو يمين المأمور ما رضي بذلك الآمر لم يكن على واحد منهما في ذلك يمين عندنا وقال ابن أبي ليلى لا يردها الوكيل ولا المضارب حتى يحضر الآمر أو رب المال فيحلف ما رضي بالعيب لأن رضا الآمر ورب المال يسقط حق الوكيل في الرد بدليل أن البائع لو أقام البينة على ذلك وأقر به الوكيل لم يكن له أن يردها فإذا ادعى البائع سببا مسقطا لحقه في الرد استحق اليمين على من يدعى ذلك عليه كما لو ادعى الوكيل أنه قد رضي به وجه قولنا أنه لا يمين على الوكيل في هذه الدعوى لأنه لا يدعي البائع عليه الرضا فلو استحلف كان بطريق النيابة ولا نيابة في اليمين ولا يمين على الآمر لأن الاستحلاف يترتب على دعوى وخصومة ولم يجر بين البائع والآمر معاملة فلا يكون هو خصما له في دعوى الرضا بخلاف ما إذا أقام البينة فإن الوكيل خصم للبائع وإن كان نائبا عن الآمر وإثبات الحق بالبينة على خصم هو ثابت صحيح وإذا أقر الوكيل فرضا الآمر بإقراره لا يثبت ولكن إقراره حجة عليه وقد زعم أنه لا خصومة له مع البائع في هذا العيب فباعتبار زعمه تنقطع الخصومة ولو أقر الوكيل على نفسه أنه رضي بهذا العيب فذلك منه صحيح في حق نفسه دون الآمر لو أقر أن الآمر رضي بالعيب فالجارية(13/216)
تلزمه إلا أن يقر الآمر بذلك أو تقوم بينة على ذلك أو يرضى بما رضي به الوكيل.
قال: وإذا اشترى الرجلان جارية فوجدا بها عيبا فرضي أحدهما فهو على الخلاف الذي ذكرنا في خيار الرؤية والشرط وقول ابن أبي ليلى كقول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في أن له ذلك قال: وإذا اشترى عبدا بجارية وتقابضا ثم وجد بالعبد عيبا ومات عنده فإنه يرجع بحصة العيب من الجارية فيقوم العبد صحيحا ويقوم وبه العيب فإن كان ذلك ينقصه العشر(13/217)
ص -103- ... رجع بعشر الجارية لأن بدل العبد الجارية ألا ترى أنه لو كان قائما بعينه رده وأخذ الجارية والرجوع بحصة العيب من البدل يكون وكذلك الحيوان والعروض كلها إذا استحق أحد العوضين أو رد بالعيب فقد انفسخ العقد فيرجع بالبدل إن كان قائما وبقيمته إن كان هالكا لأنه تعذر استرداده مع قيام السبب الموجب للرد وكذلك ما يكال أو يوزن إن كان بعينه فإن فوات القبض فيه مبطل للعقد كما في العروض ولو أقر المشتري به لإنسان ولم يقم عليه بينة لم يرجع على البائع بشيء لأن إقراره حجة في حقه دون البائع فهو في حق البائع متلف للسلعة بإقراره وإن استحق ببينة فقال البائع ليس هو عبدي الذي بعتك فالقول قوله مع يمينه لأنه ينكر البيع في هذا العبد ولو أنكر جريان البيع بينهما أصلا كان القول قوله مع يمينه وكان على المشتري إثبات العقد بالبينة فكذلك إذا أنكر العقد في هذا المحل قال: وإذا اشترى خادما بكر حنطة وليس الكر عنده لم يجز لأنه إن عين الكر وهو ملك غيره فهذا بيع ما ليس عند الإنسان وإن لم يعين فهو مجهول الصفة وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فإن قال بكر حنطة جيدة أو وسط ففي القياس لا يجوز هذا أيضا لأنه في جانب الكر بائع وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا بشرائط السلم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم.(13/218)
وفي الاستحسان يجوز هذا العقد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى جزورا بكري تمر ثم استقرضه فأعطاه إياه ولأن المكيل أو الموزون إذا لم يكن بعينه فهو يثبت في الذمة ثمنا فكان شراء بثمن ليس عنده وذلك صحيح كالشراء بالدراهم والدليل على أنه ثمن جواز الاستبدال به قبل القبض والاستبدال بالمبيع قبل القبض لا يجوز عينا كان أو دينا فإن وجد بالجارية عيبا وقد استهلك البائع الكر ردها وأخذ كرا مثل كره وكذلك لو كان ذلك الكر عند البائع بعينه كان له أن يرد كرا مثله لأن ألا ترى أن البيعت يستدعي محلا هو مال متقوم كالشراء؟ فنفوذ بيع دليل على أنه مال متقزم في حقه.وفي تصحيح البيع إظهار سلطان مالكيته ولم يكن سلطان الملكية ولا يكون في عينه من معنى الإذلال شيء، وبهذا يتبين أن النهي ليس لمعنى في قصده، وهو الاستخدام قهراً بملك اليمين، ولا يمنع صحة الشرء كالنهي عن الشراء وقت النداء ولهذا ندب الولد إلى شراء أبيه مع أنه ممنوع من إذلاله لأنه لا يقصد بشرائه الاستخدام.ولو كان إثبات الملك بطريق الشراء عينه إذلالا لكان القريب ممنوعاً عنه في قريبه، لأن كل طاعة لا تصل إليها إلا بمعصية لا يجوز الإقدام عليها، ثم تحقيق هذا الكلام أن بالشراء لا تتبدل صفة المحل لأنه كان مملوكاً قبل شرائه وبقي مملوكاً بعد شرائه، وإنما تتحول الإضافة من المسلم إلى الكافر وهي إضافة مشروعة. ألا ترى أنه يرث الكافر العبد المسلم و بالإرث تتجدد الإضافة في حق الوارث ولكن لا تتبدل وصف المحل فلا يكون عينه إذلالاً؟ بخلاف الاسترقاق فبه تتبدل صفة المحل فيصير مملوكاً بعد أن كان مالكاً،(13/219)
ص -104- ... والمملوكية إذا بالمالكية كانت المملوكية في غاية الذل والهوان, وهذا غير مشروع للكافر على المسلم. وكذلك النكاح يتجدد ثبوت المملوكية في المحل وكان ينبغي أن لا يثبت للمسلم على المسلمة إلا أن لضرورة الحاجة إلى قضاء الشهوة وإقامة النسل أثبت الشرع ذلك للمسلم على المسلمة، فيبقى في حق الكافر إذلالاً فلا يكون مشروعاً للكافر على المسلمة ألا ترى أن ملك النكاح فيبقى للكافر على المسلمة لأنه ليس في إبقاء الملك تبديل صفة المحل، فصار الشراء هنا في معنى الإذلال بمنزلة البقاء في ملك النكاح.(13/220)