أن يأخذوا بقوله من غير أن يستفسروه وإن كان عالما غير ورع لم يسعهم ذلك ما لم يستفسروا وكذلك لو كان ورعا غير عالم لأن الورع الذي هو غير عالم قد يخطئ لجهله والعالم الذي ليس بورع قد يتعمد الجور ويميل إلى الرشوة وأما إذا كان عالما ورعا فإنهم يأمنون الخطأ لعلمه والجور لورعه فيسعهم الأخذ بقوله.
قال وليس للمولى أن يقيم الحد على مملوكه ومملوكته عندنا وقال الشافعي رحمه الله(9/139)
ص -68- ... تعالى له ذلك في الحدود التي هي محض حق الله تعالى إذا عاين سببه من العبد أو أقر به بين يديه وإذا ثبت بحجة البينة فله فيه قولان وفي حد القذف والقصاص له فيه وجهان وهذا إذا كان المولى ممن يملك إقامة الحد بولاية الإمامة إن كان إماما وإن كان مكاتبا أو ذميا أو امرأة فليس له ولاية إقامة الحد كما لا يثبت له ولاية إقامة الحد بتقليد القضاء والإمامة واحتج بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وحديث بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا زنت أمة أحدكم فليحدها" إلى أن قال بعد الثالثة "فليبعها ولو بظفير" والجلد متى ذكر عند حكم الزنى يراد به الحد دون التعزير وقد ذكر في بعض الروايات فليجلدها الحد والمعنى فيه أن هذه عقوبة مشروعة للزجر والتطهير فيملك المولى إقامته بولاية الملك كالتعزير وتأثيره أنه إصلاح للملك لأن ملكه يتعيب بارتكاب هذه الفواحش فما شرع للزجر عنها يكون إصلاحا لملكه بمنزلة التزويج وفي التطهير إصلاح ملكه أيضا ألا ترى أن ما كان مشروعا للتطهير كالختان وصدقة الفطر يملكه المولى بولاية الملك وهذا لأنه من مملوكه ينزل منزلة السلطان من رعيته أو هو أقوى حتى تنفذ فيه تصرفاته ولو حلف لا يضربه فأمر غيره حتى ضربه حنث كالسلطان في حق الرعية ولهذا قلنا إذا كان مكاتبا أو ذميا أو امرأة لا يقيم الحد لأنه بولاية السلطنة لا يقيم فكذلك بولاية الملك كما في حق نفسه لما كان لا يقيم الحد على نفسه بولايته السلطنة لا يقيم بملكه نفسه ولأن في القول بأنه يقيم التعزير عليه دون الحد جمعا بين التعزير والحد بسبب فعل واحد لأنه إذا علم بزناه عزره ثم رفعه إلى الإمام فيقيم عليه الحد ولا يجمع بينهما بسبب فعل واحد.(9/140)
وحجتنا فيه قوله {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] واستيفاء ما على المحصنات للإمام خاصة فكذلك ما على الإماء من نصف ما على المحصنات وعن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم موقوفا ومرفوعا ضمن الإمام أربعة وفي رواية أربعة إلى الولاة الحدود والصدقات والجمعات والفيء والمعنى فيه وهو أن هذا حق الله تعالى يستوفيه الإمام بولاية شرعية فلا يشاركه غيره في استيفائه كالخراج والجزية والصدقات وتأثيره أن بسبب الملك يثبت للمولى الولاية في ما هو من حقوق ملكه فأما حقوق الله تعالى استيفاؤها بطريق النيابة ألا ترى أن حق العبد لا يستوفيه إلا هو أو نائبه والإمام متعين للنيابة عن الشرع فأما المولى بولاية الملك لا يصير نائبا عن الشرع وهو كأجنبي آخر في استيفائه بخلاف التعزير فإنه من حقوق الملك والمقصود به التأديب ألا ترى أنه قد يعزر من لا يخاطب بحقوق الله كالصبيان وهو نظير التأديب في الدواب فإنه من حقوق الملك وكذلك الختان فإنه بمنزلة ألخصي في الدواب لإصلاح الملك وكذلك صدقة الفطر فإنها بمنزلة المؤن والنفقات فلما كان معنى حق الملك مرجحا في هذه الأشياء ملك المولى إقامته ألا ترى أنه لو كان مكاتبا أو ذميا أو امرأة كان له إقامة التعزير دون الحد.
يوضحه أن فيما يثبت للمولى الولاية بسبب الملك هو مقدم على السلطان كالتزويج(9/141)
ص -69- ... وبالاتفاق للإمام ولاية إقامة هذا الحد شاء المولى أو أبى عرفنا أنه لا يثبت ولاية إقامته بسبب الملك ووجه آخر أن وجوب هذه الحدود باعتبار معنى النفسية دون المالية إذ الحد لا يجب على المال بحال والعبد في معنى النفسية مبقي على أصل الحرية ولهذا يصح إقراره على نفسه بهذه الأسباب ولا يصح إقرار المولى عليه بشيء من هذه الأشياء وولاية المولى عليه فيما يتصل بالمالية فأما فيما يتصل بالبدن كأجنبي آخر ألا ترى أن في طلاق زوجته جعل المولى كأجنبي آخر بخلاف التعزير فذلك قد يستحق باعتبار المالية على ما بينا أنه نظير الضرب في الدواب والدليل عليه أنه لا يملك سماع البينة عليه ولو نزل منزلة السلطان لملك ذلك وإنما يحنث في اليمين بالضرب لاعتبار العرف.
وقوله أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم خطاب للأئمة كقوله فاقطعوا خطاب للأئمة وفائدة تخصيص المماليك أن لا تحملهم الشفقة على ملكهم على الامتناع عن إقامة الحد عليهم أو المراد السبب والمرافعة إلى الإمام وقد يضاف الشيء إلى المباشر تارة وإلى المسبب أخرى وهذا تأويل الحديث الآخر أن المراد به التعزير لأن الجلد وإن ذكر عند الزنى وإنما أضيف إلى من لم يتعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى فكان المراد التعزير ولا يبعد الجمع بين الحد والتعزير بسبب فعل واحد كالزاني في نهار رمضان يعزر لتعمد الإفطار ويحد للزنا وكما لو كان المولى مكاتبا يعزر مملوكه على الزنى ثم يرفعه إلى الإمام ليقيم عليه الحد.(9/142)
قال وإذا ادعى المشهود عليه بالزنى أن هذا الشاهد محدود في قذف وأن عنده بينة بذلك أمهلته ما بينه وبين أن يقوم القاضي من مجلسه من غير أن يخلي عنه لأنه أخبر بخبر متمثل فيتأنى في ذلك ولكن على وجه لا يكون فيه تضييع الحد الذي ظهر سببه عنده فإنه منهي عن ذلك شرعا مأمور بالإقامة والاحتيال للدرء فلهذا لا يخلي عنه ولكن يمهله إلى آخر المجلس لأنه يتمكن من إحضار شهود بيانه في هذا المقدار فإن جاء بالبينة وإلا أقام عليه الحد فإن أقر أن شهوده ليس بحضور في المصر وسأله أن يؤجله أياما لم يؤجله لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول ولو كان صادقا فليس على كل غائب يؤب والتأخير في المعنى كالتضييع فكما ليس له أن يضيع الحد فكذلك لا يؤخر إقامته بعد ما ظهر سببه من غير حجة بخلاف الأول فليس هناك تأخير الحد لأن مجلس الإمام كحالة واحدة ولو لم يدع ذلك المشهود عليه كان للإمام أن يؤخر الحد إلى آخر المجلس لأنه يجلس في المسجد وهو ممنوع من إقامة الحد فيها لحديث بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقام الحدود في المساجد" ولحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه في حديث فيه طول فلا يقام فيها حد ولأن تلويث المسجد حرام وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" وإقامة الحد في المسجد ربما يؤدي إلى التلويث فإن أراد الإمام أن يقام بين يديه فلا بد من أن يؤخره إلى أن يقوم من مجلسه ويخرج من المسجد ليقام بين يديه فلهذا جوزنا له ذلك القدر من التأخير وإن لم يدع المشهود عليه شيئا
ولكن إن أقام رجل البينة على بعض الشهود أنه قذفه فإنه يحبسه ويسأل(9/143)
ص -70- ... عن شهود القذف فإذا زكوا وزكى شهود الزنى بدىء بحد القذف ودرئ عنه حد الزنى لأنه اجتمع عليه حدان وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر فيبدأ بذلك احتيالا للدرء وبيانه أنه إذا بدأ بحد القذف صار شاهد الزنى محدودا في القذف والمعترض في الشهود قبل إقامة الحد كالمقترن بالسبب وفيه درء حد الزنى من هذا الوجه وكذلك لو قذف رجل من شهود الزنى رجلا من المسلمين بين يدي القاضي فإن حضر المقذوف وطالب بحده أقيم عليه حد القذف وسقط عنه حد الزنى فإن لم يأت المقذوف ليطالب بحده يقام حد الزنى لأن مجرد القذف عندنا لا يقدح في شهادته لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب ألا ترى أنه يتمكن من إثباته بالبينة وإنما الذي يبطل شهادته إقامة الحد عليه ولا يكون إلا بطلب المقذوف فإذا أقيم حد الزنى ثم جاء المقذوف وطلب حده يحد له أيضا لأنه لم يوجد منه ما يسقط حقه فإن تأخير الخصومة لا يسقط حد القذف وكذلك لو كان مكان الزاني سارق أو كانت الشهادة بشيء آخر من حقوق العباد وهذا القذف من الشاهد قبل قضاء القاضي بشهادته وما تقدم سواء يبدأ بإقامة حد القذف فإن أقاموا بطلت شهادته فلا يقضي بها فلو بدأ بقطع السارق أو بالقضاء بشهادته ثم أقام عليه حد القذف وسعه وذلك أيضا لأنه اعتمد في قضائه الحجة.(9/144)
قال وإذا ادعى الشهود عليه أن الشاهد آكل ربا أو شارب خمر أو أنه استؤجر على هذه الشهادة وجاء على ذلك ببينة لم تقبل بينته إلا على قول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى فإنه يقول هذا جرح في الشاهد فيمكن إثباته بالبينة كما لو ادعى أنه عبد أو محدود في قذف والدليل عليه أن المشهود له لو أقر بهذا أو الشاهد أقر به امتنع القضاء بشهادته فكذلك إذا أثبته الخصم بالبينة لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ولكنا نقول المشهود عليه بهذه البينة ليس يثبت شيئا إنما ينفي شهادته والشهادة على النفي لا تقبل كما لو قامت البينة على رجل بالغصب أو بالقتل في مكان في يوم فأقام البينة على أنه لم يحضر ذلك المكان في ذلك اليوم لم تقبل هذه البينة وفي الكتاب أشار إلى التهاتر فقال لو قبلت هذا لم تجز شهادة أحد فإن المشهود عليه بذلك يأتي بالبينة على الذين شهدوا عليه أنهم كذلك فهذا لا ينقطع بخلاف ما لو أقام البينة على أنه عبد أو محدود في قذف فإن ذلك إثبات وصف لازم فيه لأن كونه محدودا لازم مبطل لشهادته على التأبيد وقبول تلك البينة لا يؤدي إلى التهاتر لأن القاضي يسألهم من حده وما لم يثبتوا أن قاضي بلدة كذا حده لم تقبل شهادتهم ومثل هذا لا يجده كل خصم وهذا مما يمكن إثباته بالبينة أيضا أن تكون الشهادة في مال فيجيء بالبينة أن الشاهد شريك فيه قد ادعى شركته أو يقول أخذ مني كذا من المال رشوة لكيلا يشهد على الباطل فإنه تقبل بينته على ذلك لأنه يدعى استرداد ذلك المال فتقبل بينته لذلك ثم يظهر به فسق الشاهد.
قال فإن أقام البينة أن الشاهد محدود في قذف حده فلان قاضي بلد كذا وقال المشهود عليه أنا آتيك بالبينة على إقرار ذلك القاضي أنه لم يحدني أو على موته قبل ذلك الوقت الذي شهد هؤلاء أنه حدني فيه لا يقبل ذلك منه لأنه لا يثبت بهذا شيئا إنما ينفي شهادة(9/145)
ص -71- ... الذين شهدوا عليه وكذلك إن قال أنا آتي بالبينة أني كنت غائبا ذلك اليوم في أرض كذا لم يقبل ذلك منه إلا أن يجيء من ذلك بأمر مشهور فيقبل ذلك في الحدود والقصاص والأموال وغير ذلك لأن الشهرة في النفي حجة كما في الإثبات وإذا كان ذلك أمرا مشهورا فالقاضي عالم بكذب الشهود وإذا لم يجز له القضاء بشهادتهم عند تمكن تهمة الكذب فعند العلم بكذبهم أولى.
قال أربعة شهدوا على رجل بالزنى فأراد الإمام أن يحده فافترى رجل من الشهود على بعضهم فخاف المقذوف إن طلب بحقه في القذف أن تبطل شهادتهم فلم يطالب قال تجوز شهادتهم على الزنى ويحد المشهود عليه وليست هذه شبهة لأن القذف خبر فنفسه لا يكون جريمة وربما يكون حسنة إذا علم إصراره وله أربعة من الشهود وإنما الجريمة في هتك ستر العفة وإشاعة الفاحشة من غير فائدة فلا يظهر ذلك إلا بعجزه عن إقامة أربعة من الشهداء وإنما يتم ذلك بإقامة الحد عليه فلهذا لا يكون مجرد القذف عندنا شبهة مانعة من القضاء بشهادته.
قال وإذا حكم الحاكم بالرجم عليه ثم عزل قبل أن يرجمه وولى آخر لم يحكم عليه بذلك لأن الاستيفاء في الحدود من تتمة القضاء فهو كنفس القضاء في سائر الحقوق وإذا عزل القاضي بعد سماع البينة قبل القضاء في سائر الحقوق فليس للذي ولى بعده أن يقضي بتلك البينة قال وإنما هذا مثل قاض قضى على رجل بالرجم ثم أنه أتى به قاض آخر فقامت عليه البينة عند ذلك القاضي أن فلانا قضى عليه بالرجم فإن القاضي لا ينفذ ذلك وكذلك كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود لا يكون حجة للعمل به فكذلك هنا.(9/146)
قال وإن شهد الشهود على رجل فقالوا نشهد أنه وطئ هذه المرأة ولم يقولوا زنى بها فشهادتهم باطلة لأن سبب الحد الزنى ولا يثبت بهذا اللفظ فالوطء قد يكون حراما وقد يكون حلالا بشبهة وغير شبهة والزنا نوع مخصوص من الوطء وباللفظ العام لا يثبت ما هو خاص وكذلك لو شهدوا أنه جامعها أو باضعها ولا حد على الشهود لتكامل عددهم ولأنهم ما صرحوا بنسبته إلى الزنى.
قال وإذا زنى الذمي فقال عندي هذا حلال لم يدرأ عنه الحد لأنا علمنا بكذبه فالزنى حرام في الأديان كلها ولأنا ما أعطيناه الذمة على استحلال الزنى بخلاف شرب الخمر فذلك معروف من أصل اعتقادهم فأما استحلال الزنى فسق منهم فيما يعتقدون كاستحلال الربا وقد بينا أنهم يمنعون من الربا ولا يعتبر استحلالهم لذلك فكذلك الزنى.
قال وإذا شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بهذه المسلمة فشهادتهم باطلة لأنه لا شهادة للذمي على المسلمة فكانوا قاذفين لها فيحدون حد القذف وتبطل شهادتهم على الرجل إما لإقامة حد القذف عليهم أو لأن الزنى لا يتصور بدون المحل ولم يثبت بشهادتهم كون المسلمة محلا لذلك.(9/147)
ص -72- ... قال رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها فدخل بها لا حد عليه سواء كان عالما بذلك أو غير عالم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولكنه يوجع عقوبة إذا كان عالما بذلك وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان عالما بذلك فعليه الحد في ذوات المحارم وكل امرأة إذا كانت ذات زوج أو محرمة عليه على التأبيد.
وحجتهما في ذلك أن فعله هذا زنا قال الله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وكما في قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22] والفاحشة اسم الزنى وفي حديث البراء بن عازب مربي خالي أبو بردة بن نيار ومعه لواء فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح منكوحة أبيه وأمرني أن أقتله والدليل عليه أن العقد لا يتصور انعقاده بدون المحل ومحل النكاح هو الحل لأنه مشروع لملك الحل فالمحرمية على التأبيد لا تكون محلا للحل وإذا لم ينعقد العقد لا تحل له لأنه لم يصادف محله فكان لغوا كما يلغو إضافة النكاح إلى الذكور والبيع إلى الميتة والدم.
والدليل عليه أن العقد المنعقد لو ارتفع بالطلاق قبل الدخول لم يبق شبهة مسقطة للحد فالذي لم ينعقد أصلا أولى.(9/148)
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" فمع الحكم ببطلان النكاح أسقط الحد به فهو دليل على أن صورة العقد مسقطة للحد وإن كان باطلا شرعا واختلف عمر وعلي رضي الله عنهما في المعتدة إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج فقال علي رضي الله عنه المهر لها وقال عمر رضي الله عنه لبيت المال وهذا اتفاق منهما على سقوط الحد ولأن هذا الفعل ليس بزنا لغة لما بينا أن أهل اللغة لا يفصلون بين الزنى وغيره إلا بالعقد وهم لا يعرفون الحل والحرمة شرعا فعرفنا أن الوطء المترتب على عقد لا يكون زنا لغة فكذلك شرعا لأن هذا الفعل كان حلالا في شريعة من قبلنا والزنا ما كان حلالا قط وكذلك أهل الذمة يقرون على هذا ولا يقرون على الزنى بل يحدون عليه وكذلك لا ينسب أولادهم إلى أولاد الزنى فعرفنا أن هذا الفعل ليس بزنا وحد الزنى لا يجب بغير الزنى لأنه لو وجب إنما يجب بالقياس ولا مدخل للقياس في الحد ثم هذا العقد مضاف إلى محله في الجملة لأن المرأة بصفة الأنوثة محل للنكاح ولكن امتنع ثبوت حكمه في حقه لما بين الحل والحرمة من المنافاة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد كما لو اشترى جارية بخمر فإن الخمر ليس بمال عندنا ولكن لما كانت مالا في حق أهل الذمة جعل ذلك معتبرا في حق انعقاد العقد به فهذه هي التي محل في حق غيره من المسلمين لأن يعتبر ذلك في إيراث الشبهة في حقه أولى والدليل عليه ملك اليمين فإن من وطىء أمته التي هي أخته من الرضاع لا يلزمه الحد والنكاح في كونه مشروعا للحل أقوى من ملك اليمين ثم ملك اليمين في محل لا يوجب الحل بحال يصير شبهة في إسقاط الحد فعقد النكاح أولى وشبهة العقد إنما تعتبر بعد العقد لا بعد الرفع والطلاق رافع للعقد وقد(9/149)
ص -73- ... بينا أن اسم الفاحشة لا تختص بالزنى بل هو اسم لجميع ما هو حرام قال تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] وتأويل حديث أبي بردة بن نيار رحمه الله تعالى أن الرجل استحل ذلك الفعل فكان مرتدا ألا ترى أنه قال وأمرني أن أخمس ماله.
قال رجل تزوج امرأة فزفت إليه أخرى فوطئها لا حد عليه لأنه وطء بشبهة وفيه قضى علي رضي الله عنه بسقوط الحد ووجوب المهر والعدة ولا حد على قاذفه أيضا لأنه وطىء وطئا حراما غير مملوك له وذلك مسقط إحصانه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول ابني الحكم على الظاهر فقد كان هذا الوطء حلالا له في الظاهر فلا يسقط إحصانه به ولكنا نقول لما تبين الأمر بخلاف الظاهر فإنما يبقى اعتبار الظاهر في إيراث الشبهة وبالشبهة يسقط الحد ولكن لا يقام الحد.
قال ولو فجر بامرأة فقال حسبتها امرأتي فعليه الحد لأن الحسبان والظن ليس بدليل شرعي له أن يعتمده في الإقدام على الوطء بخلاف الزفاف وخبر المخبر أنها امرأته فإنه دليل يجوز اعتماده في الإقدام على الوطء فيكون مورثا شبهة.
قال رجل زنى بأمة ثم قال اشتريتها شراء فاسدا أو على أن للبائع خيارا فيه أو ادعى صدقة أو هبة وكذبه صاحبها ولم يكن له بينة درى ء الحد عنه لأن ما ادعاه لو كان ثابتا لكان مسقطا للحد عنه فكذلك إذا ادعى ذلك كما لو ادعى نكاحا أو شراء صحيحا وهذا لأنه لو أقام على ذلك شاهدا أو استحلف مولى الأمة فأبى أن يحلف يدرأ الحد عنه لأن انعقاد السبب مورث شبهة وإن امتنع ثبوت الحكم لمانع فكذلك إذا قال لا بينة لي لأنه متى آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف سقط حد الزنى وكذلك لو شهد عليه الشهود بالزنى وشهدوا أنه أقر بذلك فقال لست أملك الجارية ثم ادعى عند القاضي هبة أو بيعا درئ عنه الحد لما قلنا.(9/150)
قال ومن وطىء جارية له شقص فيها لا حد عليه وإن كان يعلم حرمتها عليه لأن ملكه فيها كان مبيحا للوطء فوجود جزء منها يكون مسقطا للحد ألا ترى أنه لو جاءت بولد فادعى نسبة ثبت النسب منه وصارت هي أم ولد له فكيف يلزمه الحد بمثل هذا الفعل ولكن عليه حصة شريكه من العقر إذا لم تلد.
قال ومن أعتق أمة بينه وبين آخر وهو معسر فقضى عليها بالسعاية لشريكه فوطئها الشريك فلا حد عليه لأنها بمنزلة المكاتبة وإن كان المعتق موسرا فوقع عليها الآخر قبل أن يضمن شريكه فلا حد عليه لأنه يملك نصفها ولو ضمن شريكه ثم وطئها المعتق فلا حد عليه لأنه يستسعيها فيما ضمن فتكون كالمكاتبة له وإن وطئها الشريك بعد ما ضمن شريكه فعليه الحد لأنها مكاتبة غيره وزعم بعض المتأخرين أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما عندهما يجب الحد على من وطئها المعتق والساكت فيه سواء بناء على أصلهما أن العتق لا يتجزى ولكن الأصح أن هذا قولهم جميعا لأن الأخبار متعارضة في تجزي العتق وبين الصحابة فيه اختلاف ظاهر فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد ولكن يسقط به إحصان الواطىء(9/151)
ص -74- ... حتى لا يحد قاذفه لأنه وطىء وطء غير مملوك فإن ثبوت ملك الواطئ باعتبار كمال ملك الرقبة وذلك غير موجود.
قال رجل طلق امرأته ثلاثا أو خالعها ثم وقع عليها في عدتها فإن قال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه وإن قال علمت أنها علي حرام فعليه الحد وفي الأصل أو طلقها واحدة بائنة والمراد الخلع فأما ما يكون بلفظ البينونة قد ذكر بعد هذا أنه لا حد عليه على كل حال والمعنى أن بعد الخلع والطلقات الثلاث هي معتدة وبسبب العدة له عليها ملك اليد وقد بينا أن ملك اليد معتبر في الاشتباه فإن اشتبه عليه سقط الحد وإلا فلا.
فإن قيل: بين الناس اختلاف أن من طلق امرأته ثلاثا جملة هل يقع الثلاث أم لا فينبغي أن يصير شبهة في إسقاط الحد.
قلنا هذا خلاف غير معتد به حتى لا يسع القاضي أن يقضي به ولو قضى لا ينفذ قضاؤه أرأيت لو وطئها بعد انقضاء العدة أكنا نسقط الحد بقول من يقول إذا طلقها ثلاثا جملة لا يقع شيء وكذلك لو أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة لأنها معتدته عن فراش صحيح بعد زوال الملك كالمطلقة ثلاثا والمختلعة ولا حد على قاذفه في الوجهين لارتكابه وطئا حراما غير مملوك.(9/152)
قال وإذا حرمت المرأة على زوجها بردتها أو مطاوعتها لابنه أو جماعه مع أمها ثم جامعها وهو يعلم أنها عليه حرام ففي القياس أنه يلزمه الحد لأن ارتفاع النكاح بهذه الأسباب أبلغ منه بالخلع ألا ترى أنها صارت محرمة على التأبيد ولكنه استحسن فدرأ عنه الحد لأن العلماء يختلفون في عدتها ومنهم من يقول يتوقف زوال الملك بالردة على انقضاء العدة وكذلك يختلفون في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام ومن لا يثبت ذلك يعتمد ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحرم الحلال الحرام" وهذا خلاف ظاهر لو قضي به القاضي نفذ قضاؤه فيصير شبهة في درء الحد وكذلك إن أبانها بقوله أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو حرام وقال أردت بذلك ثلاث تطليقات ثم جامعها ثم قال علمت أنها على حرام فلا حد عليه لأن بين الصحابة وأهل العلم رضي الله عنهم في هذا اختلاف ظاهر
وكان عمر رضي الله عنه يقول هي واحدة رجعية فيصير ذلك شبهة حكمية في درء الحد
وكذلك لو قال أمرك بيدك فطلقت نفسها ثلاثا والزوج ينوي ذلك لأن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في ذلك هي واحدة رجعية فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنهم. والحاصل أن الشبهة الحكمية مسقطة في حق من يعلم بالحرمة أو لا يعلم كالأب إذا وطىء جارية ابنه وشبهة الاشتباه تكون معتبرة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه.
قال وإن شهد الشهود عليه أنه زنى بامرأة لم يعرفوها فلا حد عليه لأن شهادتهم عليها غير معتبرة إذا لم يعرفوها والزنا من الرجل بدون المحل لا يتحقق ولأن من الجائز أن تلك المرأة التي رأوها يفعل بها زوجته أو أمته فإنهم لا يفصلون بين زوجته وأمته إلا بالمعرفة فإذا(9/153)
ص -75- ... لم يعرفوها لا يمكن إقامة الحد بشهادتهم وإن قال المشهود عليه التي رأوها معي ليست لي بامرأة ولا خادم لم يحد أيضا لأن الشهادة قد بطلت حين لم يبينوا الشهادة فهذه اللفظة منه ليس بإقرار بالزنى ولو كان إقرارا فحد الزنى لا يقام بالإقرار مرة وإن أقر بالزنى بامرأة غير معروفة فعليه الحد إذا أقر أربع مرات لأن الإنسان يعرف زوجته وأمته ويعلم أن فعله بها لا يكون زنا فلما أقر بالزنى فهذا تصريح منه بفعل الزنى في محله وأنه لا ملك له في تلك المرأة فيقام الحد عليه لذلك.(9/154)
قال أربعة غير عدول شهدوا على رجل بالزنى فلا حد عليه ولا عليهم أما عليه فلأن ظهور الزنى لا يكون إلا بعد قبول شهادتهم وشهادة الفساق غير مقبولة لأنا أمرنا فيها بالتوقف بالنص وأما عليهم فلا يقام الحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وهذا بناء على أن الفاسق له شهادة عندنا حتى أن القاضي لو قضى بشهادته نفذ قضاؤه فيكون كلامهم شهادة مانعة من وجوب الحد عليهم وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للفاسق شهادة وهي مسألة كتاب الشهادات وعلى هذا لو أقام القاذف أربعة من الفساق على صدق مقالته يسقط به الحد عندنا لأن الله تعالى قال {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 24] وهذا قد أتى بأربعة شهداء وإن لم تكن شهادتهم مقبولة فلا يلزمه الحد لانعدام الشرط وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا شهادة لهم بل يجب الحد عليهم وعلى القاذف بقذفه وإن كانوا عميانا أو محدودين في قذف أو عبيدا حدوا جميعا لأن العبيد لا شهادة لهم فكان كلامهم قذفا في الأصل والمحدود في القذف ليس له شهادة الأداء لأن الشرع أبطل شهادته وحكم بكذبه والعميان لا شهادة لهم في الزنى لأن الشهادة على الزنى لا تكون إلا بعد الرؤية كالميل في المكحلة وليس للأعمى هذه الآلة فكان كلامهم قذفا من الأصل ولو كان الشهود أربعة أحدهم زوج المشهود عليها بالزنى فهذه الشهادة تقبل عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بينا هذا في باب اللعان فإذا كانت الثلاثة كفارا والزوج مسلما فلا شهادة للكفار على المسلمة فيحدون حد القذف ويلاعن الزوج امرأته لأنه قذفها بالزنى وقذف الزوج موجب للعان.
قال وإن جاء شهود الزنى فشهدوا به متفرقين في مجالس مختلفة لم تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف عندنا.(9/155)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقبل شهادتهم ويقام الحد على المشهود عليه واعتبر هذا بالشهادة على سائر الحقوق فإن اختلاف المجالس لا يمنع العمل بالشهادة في شيء من الحقوق وما يندرىء بالشبهات وما لا يندرىء بالشبهات فيه سواء فكذلك الزنى وهذا لأن الثابت بالنص عدد الأربعة في الشهود فاشتراط اتحاد المجلس يكون زيادة على النص.
وحجتنا في ذلك ما روينا أن الثلاثة لما شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى بين يدي عمر رضي الله عنهما وامتنع زياد أقام الحد على الثلاثة ولم ينتظر مجيء رابع ليشهد عليه(9/156)
ص -76- ... بالزنى فلو كان اختلاف المجلس غير مؤثر في هذه الشهادة لا تنظر مجيء رابع ليدرأ به الحد عن الثلاثة وفي الكتاب ذكر عن الشعبي رحمه الله تعالى قال لو جاء مثل ربيعة ومضر فرادى حددتهم والمعنى فيه أن الشهادة على الزنى قذف في الحقيقة ولكن بتكامل العدد يتغير حكمها فيصير حجة للحد فيخرج من أن يكون قذفا به وفي مثل هذا المغير يعتبر وجوده في المجلس كالقبول مع الإيجاب فإن الإيجاب ليس بعقد فإذا انضم إليه القبول يصير عقدا فيعتبر وجود القبول في المجلس ليصير الإيجاب به عقدا وهذا لأن كلامهم من حيث أنه قذف مفترق ومن حيث إنه حجة كشيء واحد ولاتحاد المجلس تأثير في جمع ما تفرق من الكلام فإذا كان المجلس واحدا جعل كلامهم كشيء واحد بخلاف ما إذا تفرقت المجالس وإن كانوا في مقعد واحد على باب القاضي فقام إلى القاضي واحد بعد واحد وشهدوا عليه بالزنى ففي القياس لا تقبل شهادتهم أيضا وهو رواية عن محمد رحمه الله تعالى لأن اتحاد المجلس بهذا لا يحصل إنما يحصل بأن يجلسوا جميعا بين يدي القاضي فيشهدوا واحدا بعد واحد ولكنه استحسن فقال تقبل الشهادة هنا لأن الشهادات اجتمعت في مجلس واحد وهذا من القاضي مبالغة في الاحتياط لينظر أنهم هل يتفقون على لفظ واحد إذا لم يسمع بعضهم كلام بعض فلا يوجب ذلك قدحا في شهادتهم فإنا لو اعتبرنا هذا القدر من التفرق وجب اعتبار تفرق الأداء وإن جلسوا جميعا بين يدي القاضي ولا يتصور أداؤهم جملة لأن القاضي لا يتمكن من سماع كلام الجماعة وإن قال اثنان زنى بها في دار فلان آخر فقد بينا أن هذه الشهادة لا تقبل في إيجاب الحد على المشهود عليه ولكن لا حد على الشهود لاجتماع الأربعة على الشهادة بالزنى عليهما.(9/157)
قال وإذا شهد أربعة نصارى على نصرانيين بالزنى فقضى القاضي بشهادتهم ثم أسلم الرجل أو المرأة قال يبطل الحد عنهما جميعا لما بينا أن الطارئ من إسلام أحدهما بعد القضاء قبل الاستيفاء كالمقارن للسبب ولأن شهادة الكافر ليست بحجة على المسلم فيصير ذلك شبهة في حق الآخر فإن أسلم الشهود بعد ذلك لم ينفع أعادوا الشهادة أو لم يعيدوها لأن الحاكم أبطلها حين درأ الحد عنهما فلا يعمل بها بعد ذلك.
قال وإن كانوا شهدوا على رجلين وامرأتين بالزنى فلما حكم الحاكم بذلك أسلم أحد الرجلين أو إحدى المرأتين درئ الحد عن الذي أسلم وعن صاحبه ولا يدرأ عن الآخرين لأنهم شهدوا على كل رجل وامرأة كأنهم تفردوا بالشهادة عليهما والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالزنى
قال رضي الله عنه: حد الزنى لا يقام بالإقرار إلا بالإقرار أربع مرات في أربعة مجالس عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقام بالإقرار مرة واحدة وقال ابن ليلى رحمه الله تعالى يقام بالإقرار أربع مرات وإن كان في مجلس واحد واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم "أغد(9/158)
ص -77- ... يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وإن الغامدية لما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن بي حبلا من الزنى قال "اذهبي حتى تضعي حملك" ثم رجمها ولم يشترط الأقارير الأربعة واعتبر هذا الحق بسائر الحقوق فما يندرىء بالشبهات وما لا يندرىء بالشبهات يثبت بالإقرار الواحد وبهذا تبين أن الإقرار غير معتبر بالشهادة في العدد فإن في سائر الحقوق العدد معتبر في الشهادة دون الإقرار وكذلك في هذا الموضع العدالة تعتبر في الشهادة دون الإقرار وكذلك في هذا الموضع الذكورة ولفظ الشهادة يعتبر في الشهادة دون الإقرار وهذا لأن زيادة طمأنينة القلب تحصل بزيادة العدد ولا يحصل ذلك بتكرار الكلام من واحد وفي أحد الحكمين وهو سقوط الحد عن القاذف يعتبر عدد الأربعة في الشهادة دون الإقرار فكذلك في الحكم الآخر وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى اعتبر الإقرار بالشهادة بعلة أنه أحد حجتي الزنى ثم في الشهادة المعتبر عدد الأربعة دون اختلاف المجالس فكذلك في الإقرار.(9/159)
وحجتنا فيه حديث ماعز بن مالك رحمه الله تعالى فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زنيت فطهرني فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الآخر فقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الثالث وقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الرابع وقال مثل ذلك وفي رواية قال في كل مرة وأن هذا للآخر فلما كان في المرة الرابعة قال صلى الله عليه وسلم "الآن أقررت أربعا فبمن زنيت" وفي رواية الآن شهدت على نفسك أربعا فبمن زنيت قال بفلانة قال "لعلك قبلتها أو لمستها بشهوة لعلك باشرتها" فأبى إلا أن يقر بصريح الزنى فقال "أبك خبل أبك جنون" وفي رواية بعث إلى أهله هل ينكرون من عقله شيئا فقالوا لا فسأل عن إحصانه فوجده محصنا فأمر برجمه فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية والثالثة وحكم بالرابعة ولو لم يكن العدد من شرطه لم يسعه الإعراض عنه على ما قاله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لوال عنده حد من حدود الله ألا يقيمه" ألا ترى أنه في المرة الرابعة لما تمت الحجة كيف لم يعرض عنه ولكنه قال "الآن أقررت أربعا" واشتغل بطلب ما يدرأ عنه الحد فحين لم يجد ذلك اشتغل بالإقامة ولا يقال إنما أعرض عنه لأنه أحس به الجنون على ما روى أنه جاء أشعث أغبر ثائر الرأس وإليه أشار في قوله "أبك خبل" ثم لما رأى إصراره على كلام واحد علم أنه ليس به جنون وهذا لأنه قال "الآن أقررت أربعا" وفي هذا تنصيص أن الإعراض قبل هذا لعدم قيام الحجة وقد جاء نائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على الآخرة فكيف يكون هذا دليل جنونه وإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب ما يدرأ به عنه الحد كما لقن المقر الرجوع بقوله "أسرقت ما أخاله سرق أسرقت قولي لا" وإنما كان أشعث أغبر لأنه جاء من البادية وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا علامة الأبرار فقال "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره" وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى(9/160)
يستدل بهذا الحديث أيضا ويقول المذكور عدد الأقارير دون اختلاف المجالس ولكنا نقول قد وجد اختلاف مجالس المقر على ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرده في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة ثم رجع وفي رواية قال "اذهب(9/161)
ص -78- ... ويلك فاستغفر الله" فذهب حتى غاب عن بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع فالمعتبر اختلاف مجالس المقر دون القاضي حتى إذا غاب عن بصر القاضي في كل مرة يكفي هذا لاختلاف المجالس والذي روى أنه أقر خمس مرات فإنما يحمل ذلك على إقرارين كانا منه في مجلس واحد فكانا كإقرار واحد وروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال له أقررت ثلاث مرات أن أقررت الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية قال إياك والرابعة فإنها موجبة وعن بريدة الأسلمي قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا لو جلس في بيته بعد ما أقر ثلاثا ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من يرجمه فدل على أن اشتراط عدد الأقارير كان معروفا فيما بينهم وأن المراد من قوله "فإن اعترفت فارجمها" الاعتراف المعروف في الزنى وهو أربع مرات والصحيح من حديث الغامدية أنها أقرت أربع مرات هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله تعالى إلا أن الأقارير منها كانت في أوقات مختلفة قبل الوضع وبعد الوضع وبعد ما طهرت من نفاسها وبعد ما فطمت ولدها ولهذا لم تتفق الرواية على نقل الأقارير الأربعة في حديثها والذي روى أنها قالت أتريد أن ترددني كما رددت ماعزا لا يكاد يصح لأن ترديد ماعز كان حكما شرعيا فلا يظن بها أنها جاءت لطلب التطهير ثم تعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو حكم شرعي واعتبار هذا الحق بسائر الحقوق باطل فقد ظهر فيها من التغليظ ما لم يظهر في سائر الأشياء من ذلك أن النسبة إلى هذا الفعل موجب للحد بخلاف سائر الأفعال وموجب للعان إذا حصل من الزوج في زوجته بخلاف سائر الأفعال ويشترط في إحدى الحجتين من العدد ما لا يشترط في سائرها وكل ذلك للتغليظ فكذلك اعتبار عدد الإقرار إلا أن العدد في الشهادة يثبت حقيقة وحكما بدون اختلاف المجالس ولا يثبت في الإقرار حكما إلا باختلاف المجالس لأن الكلام إذا تكرر من واحد في مجلس واحد بطريق الإخبار(9/162)
يجعل ككلام واحد وإنما يتحقق معنى التغليظ باشتراط العدد في الإقرار الموجب للحد لا في الإقرار المسقط للحد عن القاذف ألا ترى أن التصريح بلفظ الزنى يعتبر في الإقرار الموجب للحد دون المسقط وكذلك عدد الأربعة بالشهود حتى إذا قذف امرأة بالزنى فشهد عليها شاهدان أنها أكرهت على الزنى سقط الحد عن القاذف إذا عرفنا هذا فنقول ينبغي للإمام أن يرد المعترف بالزنى في المرة الأولى والثانية والثالثة لحديث عمر رضي الله عنه قال اطردوا المعترفين بالزنى فإذا عاد الرابعة فأقر عنده سأله عن الزنى ما هو وكيف هو وبمن زنى وأين زنى لما بينا في الشهادة إلا أن في الإقرار لا يسأله متى زنا لأن حد الزنى يقام بالإقرار بعد التقادم وإنما لا يقام بالبينة فلهذا يسأل الشهود متى زنى ولا يسأل المقر عن ذلك فإذا وصفه وأثبته قال له فلعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة وهذا في معنى تلقين الرجوع والإمام مندوب إليه وهو نظير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز "لعلك قبلتها" فإن قال لا نظر في عقله وسأل أهله عن ذلك كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماعز وهذا لأن الإقرار من المجنون والمعتوه هدر والعقل ليس بمعاين فلا بد للإمام من أن يتأمل في ذلك فإذا علم أنه صحيح العقل يسأل عن الإحصان لأن ما يلزمه من العقوبة(9/163)
ص -79- ... يختلف بإحصانه وعدم إحصانه وسأله عن ذلك فعسى يقربه ولا يطول الأمر على القاضي في طلب البينة على إحصانه فإذا قال أحصنت استفسره في ذلك لأن اسم الإحصان ينطلق على خصال وربما لا يعرف المقر بعضها فيسأله لهذا فإذا فسره أمر برجمه فإذا رجم غسل وكفن وحنط وصلى عليه لأنه مقتول بحق فيصنع به ما يصنع بالموتى وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسل ماعز وتكفينه والصلاة عليه فقال "اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم" زاد في رواية "ولقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الحجاز لوسعتهم" وفي رواية "على أهل الأرض وقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة".
وروى أن رجلين من الصحابة قالا فيما بينهما ما ركنت نفسه حتى جاء واعترف فقتل كما يقتل الكلاب فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت حتى مروا بحمار ميت فقال للرجلين "انزلا فكلا" فقالا إنها ميتة فقال "تناولكما من عرض أخيكما أعظم من ذلك".
قال فإن أمر برجمه فرجع عن قوله درى ء الحد عنه عندنا وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا يدرأ عنه الحد برجوعه وكذلك الخلاف في كل حد هو خالص حق الله تعالى واعتبر هذا الإقرار بسائر الحقوق مما لا يندرىء بالشبهات أو يندرىء بالشبهات كالقصاص وحد القذف فالرجوع عن الإقرار باطل في هذا كله.
وحجتنا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن المقر بالسرقة الرجوع فلو لم يصح رجوعه لما لقنه ذلك فقد روينا أن ماعزا رضي الله عنه لما هرب انطلق المسلمون في أثره فرجموه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هلا خليتم سبيله" ولأن الرجوع بعد الإقرار إنما لا يصح في حقوق العباد لوجود خصم يصدقه في الإقرار ويكذبه في الرجوع وذلك غير موجود فيما هو خالص حق الله تعالى فيتعارض كلاماه الإقرار والرجوع وكل واحد منهما متمثل بين الصدق والكذب والشبهة تثبت بالمعارضة.(9/164)
قال وإذا أقر أربع مرات في أربعة مجالس وأنكر الإحصان وشهد الشهود عليه بالإحصان يرجم لأن الثابت بالبينة أقوى من الثابت بالإقرار ولا يجعل إنكاره للإحصان رجوعا منه عن الإقرار بالزنى لأنه مصر على الإقرار بالزنى والتزام العقوبة مع إنكار الإحصان وإنما أنكر الإحصان وقد ثبت بالبينة ولو أقر بالإحصان بعد إنكاره كان يرجم فكذلك إذا ثبت بالبينة.
قال فإن كانت المرأة التي أقر أنه زنى بها غائبة فالقياس أن لا يحد الرجل لأنها لو حضرت ربما ادعت شبهة نكاح مسقطة للحد عنها فلا يقام الحد في موضع الشبهة وقيل هذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى على قياس مسألة السرقة إذا قال سرقت أنا وفلان مال فلان وفي الاستحسان يقام عليه الحد لحديث ماعز رضي الله تعالى عنه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحضر المرأة التي أقر أنه زنى بها ولكن أمر برجمه.(9/165)
ص -80- ... وفي حديث العسيف أوجب الجلد على بن الرجل ثم قال "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فدل أن حضور المرأة ليس بشرط وهذا لأن ما من شبهة تدعيها إذا حضرت فالرجل متمكن من أن يدعى ذلك وتوهم أن تحضر فتدعى الشبهة كتوهم أن يرجع المقر عن إقراره فكما لا يمتنع إقامة الحد على المقر لتوهم أن يرجع عنه فكذلك هذا وإن جاءت المرأة بعد ما حد الرجل فادعت النكاح وطلبت المهر لم يكن لها المهر لأن القاضي حكم بأن فعله كان زنا بها حين أقام عليه الحد والزنا لا يوجب المهر وهي تدعي إبطال حكم الحاكم بقولها.
قال أربعة فساق شهدوا على رجل بالزنى وأقر هو مرة واحدة فلا حد عليه لعدم الحجة فإن الحجة الأقارير الأربعة أو شهادة أربعة عدول ولا يقال إقراره مرة واحدة تعديل منه للشهود وتصديق لهم فينبغي أن يلتحقوا بالعدول في هذه الحادثة لأن القاضي لا يقضي بشهادة الفساق وإن رضي به الخصم فإن التوقف في خبر الفاسق واجب بالنص فلا يتغير ذلك بإقراره ثم إقراره مانع من القضاء بالشهادة لأن الشهادة تكون حجة على المنكر دون المقر إلا أنه إذا كان الشهود عدولا يجعل الإقرار الواحد كالمعدوم لما لم يتبين به سبب الحد فيتبين ذلك بالبينة وإن كان الشهود عدولا لم يذكر في الأصل وذكر في غير رواية الأصول أنه لا يحد عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الشهادة قد بطلت بإقراره لكونه حجة على المنكر لا على المقر وعند محمد رحمه الله تعالى يحد لأن الشهود عدول فاستغنى عن إقراره فبطل الإقرار ولا يوجد ذلك في شهادة الفاسق.(9/166)
فإن قيل: فبالإقرار الواحد إذا لم يثبت الحد يثبت الوطء الموجب للمهر فينبغي أن لا يعتبر ذلك وإن كرر الإقرار لأنه قصد بذلك إسقاط المهر عن نفسه فيكون متهما وهو نظير ما قلتم في الاستدلال على قول أبي يوسف في السرقة أنه إذا لم يثبت الحد فبالإقرار الواحد يجب الضمان فلا يعتبر إقراره بعد ذلك في إسقاط الضمان وهذا لأن حكم إقراره بالزنى مراعى من حيث أن الزنى غير موجب للمهر فإن تم عدد الأربعة تبين أنه لم يكن موجبا للمهر وإن لم يتم كان موجبا للمهر كما أنه بعد تمام الإقرار إن رجع تبين أن الواجب لم يكن عليه الحد بخلاف السرقة فإن نفس الأخذ موجب للضمان وإنما سقط الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى على ما نبينه.
قال وإذا وطىء الرجل جارية ولده وقال علمت أنها على حرام لا يحد للشبهة الحكمية التي تمكنت في الموطوءة بقوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك" وكيف يجب الحد ولو جاءت بولد فادعاه ثبت النسب وصارت أم ولد له وإن وطىء جارية أحد أبويه أو امرأته فإن اتفقا على أنهما كانا يعلمان بحرمة الفعل فعليهما الحد لأنه لا شبهة هنا في المحل وإنما الشبهة من حيث الاشتباه فلا يكون معتبرا إذا لم يشتبه فأما إذا قال الواطىء ظننت أنها تحل لي أو(9/167)
ص -81- ... قالت الجارية ظننت أنه يحل لي لا حد على واحد منهما لأن شبهة الاشتباه عند الاشتباه معتبر بالشبهة الحكمية ودعوى الشبهة الحكمية من أحدهما يسقط الحد عنهما فكذلك شبهة الاشتباه وحكى عن ابن أبي ليلى أنه أقر عنده رجل أنه وطىء جارية أمه فقال له أوطأتها قال نعم حتى قال أربع مرات فأمر بضربه الحد وخطأه أبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا القضاء من أوجه: أحدها: أن بإقراره بلفظ الوطء لا يلزمه الحد ما لم يقر بصريح الزنى والثاني: وهو أن القاضي ليس له أن يطلب الإقرار في هذا الباب بقوله أفعلت بل هو مندوب إلى تلقين الرجوع والثالث: أنه لم يسأله عن علمه بحرمتها وينبغي له أن يسأله عن ذلك وليس له أن يقيم الحد ما لم يعلم علمه بحرمة ذلك الفعل.
قال ولو وطىء جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي فعليه الحد لأن هذا ليس بموضع الاشتباه وإن كل واحد منهما في حكم الملك كالأجنبي.
قال في الأصل ولم يجعل هذا كالسرقة يعني إذا سرق مال أخيه أو أخته لا يقطع ثم أجاب وقال ألا ترى أنه لو زنى بأخته وعمته حددته ولو سرق من واحدة منهما لم أقطعه وإنما أشار بهذا إلى أن في حد السرقة لا بد من هتك الحرز والإحراز لا يتم في حق ذي الرحم المحرم لأن بعضهم يدخل بيت يعض من غير استئذان وحشمة بخلاف حد الزنى.(9/168)
قال وإن وطىء جارية ولد ولده فجاءت بولد فادعاه فإن كان الأب حيا لم تثبت دعوة الجد إذا كذبه ولد الولد لأن صحة الاستيلاد تنبني على ولاية نقل الجارية إلى نفسه وليس للجد ولاية ذلك في حياة الأب ولكن إن أقر به ولد الولد عتق بإقراره لأنه زعم أنه ثابت النسب من الجد وأنه عمه فيعتق عليه بالقرابة ولا شيء على الجد من قيمة الأمة لأنه لم يتملكها وعليه العقر لأن الوطء قد ثبت بإقراره وسقط الحد للشبهة الحكمية وهو البنوة فيجب العقر وكذلك إن كانت ولدته بعد موت الأب لأقل من ستة أشهر لأنا علمنا أن العلوق كان في حياة الأب وأنه لم يكن للجد عند ذلك ولاية نقلها إلى نفسه وإن كانت ولدته بعد موته لستة أشهر فهو مصدق في الدعوة صدقه بن الأب أو كذبه لأن العلوق به إنما حصل بعد موت الأب والجد عند عدم الأب بمنزلة الأب في الولاية فله أن ينقلها إلى نفسه بدعوة الاستيلاد.
قال وإذا شهد الشهود على زنا قديم لم أحد بشهادتهم المشهود عليه وقد بينا هذا ولم أحدهم أيضا لأن عددهم متكامل والأهلية للشهادة موجودة وذلك يمنع أن يكون كلامهم قذفا وإن أقر بزنا قديم أربع مرات أقيم عليه الحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يقام اعتبارا لحجة الإقرار بحجة البينة فإن الشهود كما ندبوا إلى الستر فالمرتكب للفاحشة أيضا مندوب إلى الستر على نفسه قال صلى الله عليه وسلم "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله" ولكنا نستدل بآخر الحديث حيث قال "ومن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله" وهذا قد أبدى صفحته بإقراره وإن كان تقادم العهد والمعنى فيه أن التهمة تنتفي عن إقراره وإن كان بعد تقادم العهد(9/169)
ص -82- ... فإن الإنسان لا يعادي نفسه على وجه يحمله ذلك على هتك ستره بل إنما يحمله على ذلك الندم وإيثار عقوبة الدنيا على الآخرة بخلاف الشهادة فبتقادم العهد هناك تتمكن التهمة من حيث أن العداوة حملتهم على أداء الشهادة بعد ما اختاروا الستر عليه وهنا كان إصراره يمنعه عن الإقرار ثم الندم والتوبة حمله على الإقرار بعد تقادم العهد.
قال والذمي والعبد في الإقرار بالزنى كالحر المسلم وأما الذمي فحرمة الزنى ثابت في حقه كما هو ثابت في حق المسلم وإقراره ملزم أيضا كإقرار المسلم فأما العبد فإقراره بالزنى يصح عندنا موجبا للحد عليه مأذونا كان أو محجورا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يصح لأن نفسه مملوكة للمولى وبهذا الإقرار يتضرر المولى من حيث أنه تنتقص ماليته بإقامة الحد عليه ولهذا لا يصح إقراره على نفسه بالمال إذا كان محجورا فكذلك بالحد ولكنا نقول ما لا يملكه المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كطلاق زوجته بخلاف الإقرار بالمال فإن المولى يملكه عليه ثم وجوب الحد على العبد باعتبار أنه نفس مخاطبة وفيما يرجع إلى ذلك هو كالحر ولأنه غير متهم بالإقرار على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة ولأن ما يلحقه من الضرر في ذلك فوق ما يلحق المولى فلانتفاء التهمة حكمنا بصحة إقراره بخلاف الإقرار بالمال.(9/170)
قال ولا يؤخذ الأخرس بحد الزنى ولا بشيء من الحدود وإن أقر به بإشارة أو كتابة أو شهدت به عليه شهود وعند الشافعي رحمه الله تعالى يؤخذ بذلك لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى أو أقطع اليدين أو الرجلين ولكنا نقول إذا أقر به بالإشارة فالإشارة بدل عن العبارة والحد لا يقام بالبدل ولأنه لا بد من التصريح بلفظة الزنى في الإقرار وذلك لا يوجد في إشارة الأخرس إنما الذي يفهم من إشارته الوطء فلو أقر الناطق بهذه العبارة لا يلزمه الحد فكذلك الأخرس وكذلك إن كتب به لأن الكتابة تتردد والكتابة قائمة مقام العبارة والحد لا يقام بمثله وكذلك إن شهدت الشهود عليه بذلك لأنه لو كان ناطقا ربما يدعي شبهة تدرأ الحد وليس كل ما يكون في نفسه يقدر على إظهاره بالإشارة فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة ولا يوجد مثله في الأعمى والأقطع لتمكنه من إظهار دعوى الشبهة والذي يجن ويفيق في حال إفاقته كغيره من الأصحاء يلزمه الحد بالزنى في هذه الحالة سواء أقر به أو شهد عليه الشهود وإن قال زنيت في حال جنوني لم يحد لأنه أضاف الإقرار إلى حالة معهودة وهو ليس بأهل لالتزام العقوبة في تلك الحالة لكونه مرفوع القلم عنه فهو كالبالغ إذا قال زنيت وأنا صبي وكذلك الذي أسلم إذا أقر أنه كان يزني في دار الحرب لأنه أضاف الإقرار إلى حالة تنافي التزام العقوبة بالزنى في تلك الحالة فإنه لم يكن تحت ولاية الإمام ولا كان ملتزما حكم الإسلام.
قال وإن أقر المجبوب بالزنى لا يحد لأنا نتيقن بكذبه فالمجبوب ليس له آلة الزنى فالتيقن بكذبه أكثر تأثيرا من رجوعه عن الإقرار(9/171)
ص -83- ... قال وإن أقر الخصى بالزنى أو شهدت به عليه الشهود حد لأن للخصي آلة الزنى وإنما ينعدم بالخصي الإنزال وذلك غير معتبر في إتمام فعل الزنى فيلزمه من الحد ما يلزم الفحل وإن قال العبد بعد عتقه زنيت وأنا عبد لزمه حد العبيد لأنه مصدق في إضافة الإقرار إلى حالة الرق لكونها حالة معهودة فيه ثم الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة ولو عايناه زنى في حالة رقه ثم عتق كان عليه حد العبيد فهذا مثله.
قال وإذا أقر الرجل أربع مرات أنه زنى بفلانة وقالت كذب ما زنى بي ولا أعرفه لم يحد الرجل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحد لحديث سهل بن سعد أن رجلا أقر بالزنى بامرأة وأنكرت فحده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الزنى فعلان من الزانيين وفعل كل واحد منهما يظهر بإقراره موجبا للحد عليه فإنكارها لا يؤثر في إقراره وأكثر ما فيه أنه يمتنع بإنكارها ظهور الزنى في حقها وذلك لا يمنع وجوب الحد على الرجل كما لو كانت حاضرة ساكتة أو غائبة وكما لو قالت زنا بي مستكرهة يجب الحد عليه وإن لم يجب عليها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول فعل الزنى من الرجل لا يتصور بدون المحل وبإنكارها قد انتفى في جانبها فينتفي في جانبه أيضا
ألا ترى أنه لو انتفى صفة الزنى في جانبها بدعوى النكاح سقط الحد عنهما فإذا انتفى أصل الفعل أولى وهذا لأن القاضي لا يتمكن من القضاء عليه بالزنى بها مع إنكارها(9/172)
ألا ترى أنها تبقى محصنة لا يتمكن من القضاء عليه بالزنى بغيرها لأنه لم يقر بذلك وبدون القضاء بالزنى لا يتمكن من إقامة الحد وفي الغائبة قياس استحسان والفصل المستحسن لا يدخل على طريقة القياس ثم بغيبتها واستكراهها لا ينتفي الفعل في جانبها وبإنكارها ينتفي ألا ترى أن من أقر لإنسان بشيء وكذبه بطل إقراره حتى لو صدقه بعد ذلك لم يصح ولو كان غائبا أو حاضرا ساكتا لم يبطل به الإقرار حتى إذا صدقه عمل بتصديقه وهذا بخلاف ما إذا قالت زنى بي مستكرهة لأن المحلية وأصل الفعل هناك قد ظهر في حقها ولهذا سقط إحصانها به وحديث سهل بن سعد قد ضعفه أهل الحديث ثم تأويل الحديث أنها أنكرت وطالبته بحد القذف فحده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقذفه إياها بالزنى لا بإقراره بالزنى على نفسه وعلى هذا لو أقرت امرأة أنه زنى بها فلان أربع مرات وأنكر الرجل فهو على الخلاف الذي بينا في إقامة الحد عليها وكلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى هنا أظهر لأن المباشر للفعل هو الرجل فلا يثبت أصل الفعل مع إنكاره وإن قال الرجل صدقت حدت المرأة ولم يحد الرجل لأنه بالتصديق صار مقرا بالزنى مرة واحدة وقد بينا أن بالإقرار الواحد لا يقام الحد.
قال الحربي المستأمن في دارنا إذا أقر بالزنى أربع مرات لا يقام عليه الحد وقد بينا الخلاف في هذا في البينة فكذلك في الإقرار وعلل في الأصل فقال بأنه لا يؤخذ منه الخراج ومعناه أن الجزية تؤخذ من أهل الذمة حقا لله تعالى ثم لا تؤخذ من المستأمن عرفنا أنه لا يجري عليه ما هو خالص حق الله تعالى.(9/173)
ص -84- ... قال وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فزنى هناك بمسلمة أو ذمية ثم خرج إلى دار الإسلام فأقر به لم يحد وهذا عندنا وقال الشافعي يحد لأن المسلم ملتزم لأحكام الإسلام حيث ما كان ومن أحكام الإسلام وجوب الحد على الزاني ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تقام الحدود في دار الحرب" والمعنى فيه أن الوجوب لا يراد لعينه بل للاستيفاء وقد انعدم المستوفي لأنه لا يملك إقامة الحد على نفسه وليس للإمام ولاية على من في دار الحرب ليقيم عليه الحد فامتنع الوجوب لانعدام المستوفي وإذا لم يجب عليه حين باشر السبب لا يجب بعد ذلك وإن خرج إلى دارنا.
قال وكذلك سرية من المسلمين دخلت في دار الحرب فزنى رجل منهم هناك أو كانوا عسكرا لأن أمير العسكر والسرية إنما فوض إليه تدبير الحرب وما فوض إليه إقامة الحدود وأما إذا كان الخليفة غزا بنفسه أو كان أمير مصر يقيم الحدود على أهله فإذا غزا بجنده فإنه يقيم الحدود والقصاص في دار الحرب لأن أهل جنده تحت ولايته فمن ارتكب منهم منكرا موجبا للعقوبة يقيم عليه العقوبة كما يقيمها في دار الإسلام هذا إذا زنى في المعسكر وأما إذا دخل دار الحرب وفعل ذلك خارجا من المعسكر لا يقيم عليه الحد بمنزلة المستأمن في دار الحرب.
قال ولا حد على من زنى أو شرب الخمر في معسكر أهل البغي منهم ولا من كان تاجرا من أهل العدل وأسرائهم فيه لأن يد إمام أهل العدل لا تصل إليهم لمنعة أهل البغي وولايته في الاستيفاء منقطعة لقصور يده وقد بينا أن الوجوب للاستيفاء فإذا انعدم المستوفي امتنع الوجوب كما لو فعل ذلك في دار الحرب وإن كان خروجه من دار الحرب أو من عسكر أهل البغي بعد تطاول المدة فلا إشكال في أنه يدرأ العقوبة إذا تطاولت المدة في حد الشرب سواء ثبت بالإقرار أو بالبينة وفي حد الزنى إذا ثبت بالبينة.(9/174)
قال ويقام الحد على العبد إذا أقر بالزنى أو بغيره مما يوجب الحد وإن كان مولاه غائبا وكذلك القطع والقصاص لأن الوجوب عليه باعتبار النفسية في محل لا حق للمولى فيه فإن حق المولى في المالية وقد بينا أنه في حكم النفسية هو والحر سواء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يفرقان بين حجة البينة والإقرار باعتبار أن للمولى حق الطعن في البينة دون الإقرار وأن الإقرار موجب للحق بنفسه والبينة لا توجب إلا بالقضاء وقد قررناه في الآبق.
قال وإذا وجب على المريض حد من الحدود في زنى أو شرب أو سرقة حبس حتى يبرأ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر عليا رضي الله عنه بإقامة الحد على أمة فرأى بها أثر الدم فرجع ولم يقم عليها ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يحمل هذا على أن أثر الدم بها كان نفاسا لا حيضا لأن الحائض بمنزلة الصحيحة في إقامة الحد عليها والنفساء بمنزلة المريضة ولأنه لو أقام الحد على المريض ربما ينضم ألم الجلد
إلى ألم المرض فيؤدي إلى الإتلاف والحد إنما يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد(9/175)
ص -85- ... على مريض تأويله أنه وقع اليأس عن برئه واستحكم ذلك المرض على وجه يخاف منه التلف وعندنا في مثل هذا يقام عليه الحد تطهيرا وهذا إذا لم يكن الحد رجما فأما الرجم يقام على المريض لأن إتلاف نفسه هناك مستحق فلا يمتنع إقامته بسبب المرض.
قال رجل ثبت عليه بإقراره الزنى والسرقة وشرب الخمر والقذف وفقء عين رجل فإنه يبدأ بالقصاص في الفقء لأنه محض حق العباد وحق العبد مقدم في الاستيفاء لما يلحقه من الضرر بالتأخير لأنه يخاف الفوت والله تعالى يتعالى عن ذلك ثم إذا بريء من ذلك أخرجه وأقام عليه حد القذف لأنه مشوب بحق العباد فيقدم في الاستيفاء على ما هو محض حق الله تعالى وهذا لأن المقصود من إقامة حد القذف دفع العار عن المقذوف فلهذا يبدأ به قبل حد الزنى والشرب وإذا بريء من ذلك فهو بالخيار إن شاء بدأ بحد الزنى وإن شاء بدأ بحد السرقة لأن كل واحد منهما محض حق الله تعالى وهو ثابت بنص يتلي ويجعل حد شرب الخمر آخرها لأنه أضعف من حيث أنه لا يتلى في القرآن وقد بينا ذلك وكلما أقام عليه حدا حبسه حتى يبرأ ثم أقام الآخر لأنه إن والى إقامة هذه الحدود ربما يؤدي إلى الإتلاف وقد بينا أنه مأمور بإقامة الحد على وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنه يحبس لأنه لو خلى سبيله ربما يهرب فلا يتمكن من إقامة الحد الآخر عليه ويصير مضيعا للحد والإمام منهي عن تضييع الحد بعد ظهوره عنده وإن كان محصنا اقتص منه في العين وضربه حد القذف لما فيهما من حق العباد ثم رجمه لأن حد السرقة والشرب محض حق الله تعالى ومتى اجتمعت الحدود لحق الله تعالى وفيها نفس قتل وترك ما سوى ذلك هكذا نقل عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم والمعنى فيه أن في الحدود الواجبة لله تعالى المقصود هو الزجر وأتم ما يكون من الزجر باستيفاء النفس والاستيفاء بما دونه اشتغال بما لا يفيد فلهذا رجمه ودرأ عنه ما سوى ذلك إلا أنه يضمنه السرقة لأن الضمان قد وجب عليه بالأخذ(9/176)
وإنما يسقط لضرورة استيفاء القطع حقا لله ولم يوجد ذلك فلهذا يضمنه السرقة ويأمر بإيفائها من تركته.
قال ولا يقام الحد في المسجد ولا قود ولا تعزيرلما فيه من وهم تلويث المسجد ولأن المجلود قد يرفع صوته وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت في المسجد بقوله صلى الله عليه وسلم "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" ورفع أصواتكم ولكن القاضي يخرج من المسجد إذا أراد إقامة الحد بين يديه كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الغامدية أو يبعث أمينا ليقام بحضرته كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماعز.
قال وإذا زنى الرجل مرات أو قذف مرات أو سرق مرات أو شرب مرات لا يقام عليه إلا حد واحد لأن مبني الحدود على التداخل لما أن المقصود بها الزجر وذلك يحصل بحد واحد ولأن المقصود إظهار كذب القاذف لدفع العار عن المقذوف وذلك يحصل بإقامة حد واحد ولأن المغلب في حد القذف حق الله تعالى عندنا على ما نبينه في بابه.(9/177)
ص -86- ... قال وليس على واطئ البهيمة حد عندنا ولكنه يعزر ومن الناس من أوجب عليه الحد لحديث روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أتى بهيمة فاقتلوه" ولكن الحديث شاذ لا يثبت الحد بمثله ولو ثبت فتأويله في حق من استحل ذلك الفعل ثم ليس لفرج البهيمة حكم الفرج حتى لا يجب ستره والإيلاج فيه بمنزلة الإيلاج في كوز أو كوة ولهذا قلنا أنه لا تنتقض طهارته بنفس الإيلاج من غير إنزال ولأن الحد مشروع للزجر ولا يميل طبع العقلاء إلى إتيان البهيمة فإنها ليست بمشتهاة في حق بني آدم وقضاء الشهوة يكون من غلبة الشبق أو فرط السفه كما يحصل قضاء الشهوة بالكف والألية ولكنه يعذر لارتكابه ما لا يحل.
قال في الأصل بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه أتى برجل أتى بهيمة فلم يحده وأمر بالبهيمة فذبحت وأحرقت بالنار وهذا ليس بواجب عندنا وتأويله أنه فعل ذلك كيلا يعير الرجل به إذا كانت البهيمة باقية.
قال ولو قذف قاذف رجلا بإتيان البهيمة فلا حد عليه لأن القاذف إنما يستوجب الحد إذا نسبه إلى فعل يلزمه الحد بمباشرته وذلك غير موجود هنا ألا ترى أنه لو قذفه بوطء الميتة أو تقبيل الحرام لا يجب الحد فكذلك إذا قذفه بإتيان البهيمة.
قال وإن قذفه بعمل قوم لوط لم يحد إلا أن يفصح معناه إذا قال يا لوطي لا حد عليه بالاتفاق لأنه نسبه إلى نبي من أنبياء الله تعالى فلا يكون هذا اللفظ صريحا في القذف فأما إذا أفصح بنسبته إلى ذلك الفعل فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعزر ولا يحد لأنه نسبه إلى فعل لا يلزمه الحد بذلك الفعل عنده وعندهما يلزمه حد القذف لأنه نسبه إلى فعل يستوجب بمباشرته الحد عندهما.
قال ومن وطىء امرأة في نكاح فاسد ثم قذفه رجل لا حد عليه لأنه ارتكب وطئا حراما غير مملوك فيسقط به إحصانه.(9/178)
قال ولا ينبغي للقاضي أن يلقن الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود لأنه مأمور بالاحتيال لدرء الحد لا لإقامته وفي هذا احتيال لإقامة الحد فلا يكون للقاضي أن يشتغل به.
قال وينبغي للقاضي إذا أشكل عليه شيء أن يسأل من هو أفقه منه ولا يسعه إلا ذلك لقوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وقال صلى الله عليه وسلم "هلا سألوه إذا لم يعرفوه" وإنما شفاء العي السؤال ولأنه مأمور بالقضاء بحق ولا يتصل إلى ذلك فيما أشكل عليه إلا بالسؤال فلا يسعه إلا ذلك فإن أشار عليه ذلك الذي هو أفقه منه في رأي نفسه بما هو خطأ عند القاضي فعليه أن يقضي بما هو الصواب عنده إذا كان يبصر وجوه الكلام لأنه مأمور شرعا بالاجتهاد إذا كان مستجمعا شرائطه ولا يحل للمجتهد أن يدع رأيه برأي غيره وإن كان أفقه منه فقد يسبق وجه الصواب في حادثة لإنسان ويشتبه على غيره وإن كان أفقه منه وإن ترك رأيه(9/179)
ص -87- ... وعمل بقول ذلك الفقيه كان موسعا عليه أيضا لأن هذا نوع اجتهاد منه فإن عند تعارض الأقاويل ترجيح قول من هو أفقه منه نوع اجتهاد ألا ترى أن القاضي إذا لم يكن مجتهدا واختلف العلماء في حادثة كان عليه أن يأخذ بقول من هو أفقه عنده ويكون ذلك اجتهاد مثله وهنا أيضا إذا قدم رأى من هو أفقه منه على رأي نفسه كان ذلك نوع اجتهاد منه فكان موسعا عليه والله أعلم بالصواب.
باب الرجوع عن الشهادات
قال وإذا شهد ثمانية نفر على رجل بالزنى كل أربعة يشهدون على الزنى بامرأة على حدة فرجمه القاضي ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة لم يضمنوا ولم يحدوا لأنه قد بقي على الشهادة أربعة منهم ولأن ما يثبته عليه شهادة الأربعة والمعتبر في مسائل الرجوع بقاء من بقي على الشهادة فإن بقي على الشهادة من تتم به الحجة لم يضمن الراجعون شيئا ولا يحدون أيضا لأنه غير محصن في حق أحد ما بقيت حجة تامة على زناة فإن رجع واحد من الآخرين أيضا فعلى الراجعين ربع الدية لأنه قد بقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس وإنما انعدمت الحجة في الربع فعلى الراجعين ذلك القدر وليس بعضهم بالوجوب عليه بأولى من البعض لأنه قبل شهادتهم جميعا ويحدون حد القذف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه الله تعالى لا يحدون وكذلك إن رجع الفريقان جميعا فعليهم ضمان الدية ويحدون عندهما ولا حد عليهم عند محمد لأن كل أربعة أثبتوا بشهادتهم زنا آخر فالزنى بزينب غير الزنى بعمرة ففي حق كل فريق يجعل كان الفريق الأول ثابتون على الشهادة في حكم سقوط الإحصان ألا ترى أن شهود الزنى لو رجعوا وقذف المرجوم إنسان فلا حد على القاذف ويجعل في حقه كأنهم ثابتون على الشهادة وكذلك لو شهد أربعة سواهم أنه كان زانيا بعد رجوعه لا يحدون إلا أن هذا المعنى لا يعتبر في سقوط ضمان يدل النفس لأنه يؤدي إلى إهدار الدم ويعتبر في امتناع وجوب الحد عليهم لأن الحد(9/180)
يندرىء بالشبهات وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا هم في حق الرجوع كالشاهدين عليه بزنا واحد لأن المقصود بهذه الشهادة إقامة الحد ولا يقام عليه إلا حد واحد وإن تعدد فعل الزنى منه.
والدليل عليه أن في حكم الضمان جعلوا كالشاهدين بزنا واحد وأنه لو رجع اثنان من كل فريق لا يضمنون شيئا أيضا ولو لم يجعلوا كذلك لضمنوا لأن الباقي على الشهادة شاهدان أنه زنى بامرأة وشاهدان أنه زنى بامرأة أخرى والحجة لا تتم بهذا فعرفنا أنهم جعلوا كالشاهدين عليه بزنا واحد.
قال ولو شهدوا بذلك ثم رجع خمسة حدوا جميعا فهذا مثله وهذا لأنهم إذا رجعوا جميعا فقد حكمنا في حقهم بأنه محصن مقتول ظلما حتى غرمناهم الدية فيبعد أن يقال لا يقام عليه الحد ومن زعمهم أنه عفيف وأنهم قذفوه بغير حق(9/181)
ص -88- ... قال وإن شهد خمسة على رجل بالزنى والإحصان فرجم ثم رجع واحد فلا شيء عليه لبقاء حجة تامة فإن رجع آخر غرما ربع الدية لأن الباقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس ويحدان جميعا لأنه لم يبق على الشهادة من تتم به الحجة وقد انفسخت الشهادة في حقهما بالرجوع فعليهما الحد.
فإن قيل: الأول منهما حين رجع لم يجب عليه الحد ولا ضمان فلو لزمه ذلك إنما يلزمه برجوع الثاني ورجوع غيره لا يكون ملزما إياه الحد.
قلنالم يجب لانعدام السبب بل لمانع وهو بقاء حجة تامة فإذا زال برجوع الثاني وجب الحد على الأول بالسبب المتقرر في حقه لا بزوال المانع فلو اعتبرنا هذا المعنى لوجب القول بأنهم لو رجعوا معا لم يحد واحد منهم لأن في حق كل واحد منهم لا يلزمه شيء برجوعه وحده لو ثبت أصحابه على الشهادة وهذا بعيد.
قال وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا فعل الإمام الذي ليس فوقه إمام شيئا مما هو إلى السلطان فليس فيه عليه الحد إلا القصاص والأموال فإنه يؤخذ بها لأن استيفاء الحد إلى الإمام وهو الإمام فلا يملك إقامة الحد على نفسه لأن الشرع ما جعل من عليه نائبا عنه في الاستيفاء من نفسه فإن إقامته بطريق الخزي والعقوبة فلا يفعل الإنسان ذلك بنفسه ومن هو دونه نائبه لا يمكنه أن يقيم فانعدم المستوفى وفائدة الوجوب الاستيفاء فإذا انعدم المستوفى قلنا أنه لا يجب والشافعي رحمه الله تعالى يقول يلزمه الحد ويجتمع الصلحاء من المسلمين على رجل ليقيم عليه ذلك الحد وأهل الزيغ يعللون في هذه المسألة ويقولون أنه بالزنى قد انعزل فكان زناه في وقت لا إمام فيه ولو زنى في مكان لا إمام فيه وهو دار الحرب لا يلزمه الحد فكذلك إذا زنى في زمان لا إمام فيه وهذا قول باطل عندنا لما قلنا أنه بالفسق لا ينعزل فأما القصاص والأموال محض حق العبد واستيفاؤه إلى صاحب الحق فيستوفيه منه إن تمكن من ذلك.(9/182)
قال وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى السكر الذي يجب به الحد على صاحبه أن لا يعرف الرجل من المرأة وإنما أراد به أن من شرب ما سوى الخمر من الأشربة فلا حد عليه ما لم يسكر وحد سكره عندهما أن يختلط كلامه فلا يتميز جده من هزله لأنه إذا بلغ هذا الحد يسمى في الناس سكرانا وإليه أشار الله عز وجل في قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال ما لم يبلغ نهاية السكر لا يلزمه الحد لأن في الأسباب الموجبة للحد يعتبر أقصى النهاية احتيالا لدرء الحد وذلك في أن لا يعرف الأرض من السماء والفرو من القباء والذكر من الأنثى إلى هذا أشار في الأشربة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(9/183)
ص -89- ... باب الشهادة في القذف
قال رضي الله تعالى عنه: وإذا ادعى رجل على رجل أنه قذفه ولا بينة له لم يستحلف على ذلك ولا يمين في شيء من الحدود لأن المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول والنكول إنما يكون بدلا والبدل لا يعمل في الحدود أو يكون قائما مقام الإقرار والحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره إلا أن على قول الشافعي رحمه الله يستحلف في حد القذف بخلاف سائر الحدود بناء على أصله أن حد القذف حق العبد فيستحلف فيه كالتعزير والقصاص ولأن في سائر الحدود رجوعه بعد الإقرار صحيح فلا يكون استحلافه مفيدا وفي حد القذف رجوعه عن الإقرار باطل فالاستحلاف فيه يكون مفيدا كالأموال ولكنا نقول هذا حد يدرأبالشبهة فلا يستحلف فيه كسائر الحدود وهو بناء على أصلنا أن المغلب فيه حق الله تعالى على ما نبينه.
قال إلا أنه يستحلف في السرقة لأجل المال فإن أبى أن يحلف ضمن المال ولم يقطع لأن المال حق العبد وهو يثبت مع الشبهات وحقيقة المعنى فيه أن في السرقة أخذ المال فإنما يستحلف على الأخذ لا على فعل السرقة وعند نكوله يقضي بموجب الأخذ وهو الضمان كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة يثبت الأخذ الموجب للضمان ولا يثبت القطع الذي ينبني على فعل السرقة فإن جاء المقذوف بشاهدين فشهدا أنه قذفه سئلا عن ماهيته وكيفيته لأنهم شهدوا بلفظ مبهم فالقذف قد يكون بالزنى وقد يكون بغير الزنى فإن لم يزيدوا على ذلك لم تقبل شهادتهم لأن المشهود به غير معلوم ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فكذلك يمتنع عن القضاء عند امتناعهما عن بيان ما شهدا به فإن قالا نشهد أنه قال يا زاني قبلت شهادتهما وحد القاذف إن كانا عدلين لأنهم شهدوا بالقذف بالزنى وهو موجب للحد بالكتاب والسنة.(9/184)
أما الكتاب فقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] واتفق أهل التفسير أن المراد بالرمي الرمي بالزنى دل عليه قوله تعالى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فإن عدد الأربعة في الشهود شرط في الزنى خاصة.
وأما السنة فما روى أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء قال صلى الله عليه وسلم "ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحذ في ظهرك"
قال وإن لم يعرف القاضي شهود القذف بالعدالة حبسه حتى يسأل عنهم لأنه صار متهما بارتكاب ما لا يحل من هتك الستر وأذى الناس بالقذف فيحبس لذلك ولا يكفله لأن التكفيل للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والإسقاط.
ثم ذكر أنه لا يكفل في شيء من الحدود والقصاص في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الأول ذكره في كتاب الكفالة.
وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه الكفيل في(9/185)
ص -90- ... دعوى حد القذف عليه وكذلك في دعوى القصاص ولا خلاف له أنه لا تصح الكفالة بنفس الحد والقصاص لأن النيابة لا تجري في إيفائهما والمقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في الإيفاء وهذا لا يتحقق في شيء من الحدود فلا تصح الكفالة بها فأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه فعند أبي حنيفة رحمه الله إذا زعم المقذوف أن له بينة حاضرة في المصر فإن القاضي لا يأخذ من المدعى عليه كفيلا بنفسه ولكن يحبسه إلى آخر المجلس فإن أحضر بينته وإلا خلى سبيله ومراده بهذا الحبس الملازمة أنه يأمره بملازمته إلى آخر المجلس لا حقيقة الحبس لأنه عقوبة وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة على أحد وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه كفيلا بنفسه إلى ثلاثة أيام ليأتي بالبينة وقالا إن حد القذف في الدعوى والخصومة بمنزلة حقوق العباد وفي أخذ الكفيل نظر للمدعى من حيث إنه يتمكن من إحضار الخصم بإقامة البينة عليه ولا ضرر فيه على المدعي عليه فيأخذ القاضي كفيلا بنفس المدعى عليه كما في الأموال وهذا لأن تسليم النفس مستحق على المدعى عليه حقا للمدعى ولهذا يستوفى منه عند طلبه وهو مما يجري فيه النيابة فيجوز أخذ الكفيل فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المقصود من هذه الخصومة إثبات الحد والكفالة للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والإسقاط فلا يحتاط فيه بأخذ الكفيل كما في حد الزنى.
وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول مراد أبي حنيفة أن القاضي لا يجبر الخصم على إعطاء الكفيل ولكن إن سمحت نفسه فأعطى كفيلا بنفسه صح ذلك لأن تسليم النفس مستحق عليه كما قلنا وإن أقام المدعى شاهدا واحدا فإن كان القاضي لا يعرف هذا الشاهد بالعدالة فهو وما لم يقم الشاهد سواء لا يحبسه إلا بطريق الملازمة إلى آخر المجلس(9/186)
وإن كان يعرف هذا الشاهد بالعدالة فادعى إن شاهده الآخر حاضر حبسه يومين أو ثلاثة استحسانا وفي القياس لا يفعل لأن الحجة لا تتم بالشاهد الواحد حتى لا يجوز القضاء به بحال ولكنه استحسن فقال قد تم أحد شرطي الشهادة فإن للشهادة شرطين العدد والعدالة فلو تم العدد حبسه قبل ظهور العدالة فكذلك إذا وجدت صفة العدالة قلنا أنه يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ويمهله في ذلك يومين أو ثلاثة فيحبسه هذا المقدار استحسانا وهذا كله عند أبي حنيفة لأنه لا يرى الكفالة بالنفس في الحد فأما عندهما يأخذ كفيلا بنفسه ولا يحبسه والمقصود يحصل بذلك.
قال وإذا تزوج المجوسي أمة ودخل بها ثم أسلما وفرق بينهما ثم قذفهما رجل فعليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله لأن من أصله أن نكاح المحارم فيما بينهم له حكم الصحة فلا يسقط به الإحصان.
قال وإن مات المكاتب وترك وفاء فأديت مكاتبته فقذفه رجل فلا حد عليه لشبهة الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم أنه مات حرا أو عبدا وقد بينا هذا فيما سبق وبعد ثبوت(9/187)
ص -91- ... القذف يسأله البينة أنه حر يريد به أنه إذا زعم القاذف أن المقذوف عبد وقد بينا أن الحرية الثابتة بالظاهر لا تكفي لثبوت الإحصان واستحقاق الحد على القاذف وكذلك إذا ادعى القاذف أنه عبد وعليه حد العبيد فالقول قوله فما لم يقم المقذوف البينة على حريته لا يقام عليه حد الأحرار فإن عرف القاضي حريته اكتفى بمعرفته لأن علم القاضي أقوى من الشهادة ولا يقال كيف يقضي القاضي بالحد بعلمه لأن في حد القذف له أن يقضي بعلمه ولأنه إنما يقضي بالحرية هنا بعلمه والحرية ليست بسبب لوجوب الحد فإن اختلف الشاهدان في الوقت أو المكان لم تبطل شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يحد القاذف بهذه الشهادة فالحاصل أن ما يكون قولا محضا كالبيوع والأقارير ونحوها فاختلاف الشهود في المكان أو الزمان لا يمنع قبول الشهادة لأنه مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان وكذلك لو اختلفا في الإنشاء والإقرار لأن حقيقة الإنشاء والإقرار واحد في هذا الباب ومن هذه الجملة القرض لأن تمام القرض وإن كان بالتسليم ولكن تحمل الشهادة على قول المقرض أقرضتك وذلك قول فألحقه بالإقرار لهذا فأما الجناية والغصب وما أشبههما من الأفعال اختلاف الشهود في المكان والزمان والإقرار والإنشاء يمنع قبول الشهادة لأن الفعل مما لا يتكرر والإقرار بالفعل غير الفعل وما لم يتفق الشاهدان على شيء واحد لا يتمكن القاضي من القضاء به والنكاح من هذا النوع أيضا لأنه وإن كان قولا فلا يصح إلا بمحضر من شاهدين وحضور الشهود فعل فالحق بالأفعال لهذا وفي القول الذي لا يتم إلا بالفعل كالهبة والصدقة والرهن اختلاف معروف نذكره في الهبة والرهن فأما القذف فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا اختلاف الشهود فيه في المكان والزمان يمنع قبول الشهادة لأنه إنشاء سبب موجب للحد وما لم يتفق الشاهدان على سبب واحد لا(9/188)
يتمكن القاضي من القضاء ألا ترى أنهما لو اختلفا في الإقرار والإنشاء لم تقبل شهادتهما وألحق ذلك بالأفعال فكذلك لو اختلفا في الوقت والمكان وهذا لأن وجوب الحد بالتناول من عرض المقذوف فالشهادة عليه بمنزلة الشهادة على التناول من نفسه بالجناية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القذف قول قد تكرر فيكون حكم الثاني حكم الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان كالطلاق والعتاق بخلاف الإقرار والأفعال وهذا هو القياس إذا اختلفا في الإنشاء والإقرار قال إلا أني أستحسن هناك لأن حكم الإقرار بالقذف مخالف لحكم الإنشاء بالقذف ألا ترى أن من تزوج امرأة ثم أقر أنه كان قذفها قبل أن يتزوجها فعليه الحد وإن قذفها في الحال لاعنها وكذلك لو أبان امرأته ثم أقر أنه كان قذفها قبل الإبانة فلا حد عليه ولا لعان ولو قذفها في الحال حد فلما كان حكم الإقرار مخالفا لحكم الإنشاء يتحقق الاختلاف بين الشاهدين إذا اختلفا في الإقرار والإنشاء فأما حكم القذف لا يختلف بالمكان والزمان فلا يتحقق الاختلاف بينهما في المشهود به وإن اختلفا في المكان والزمان قال وإذا قضى القاضي بحد القذف على القاذف ثم عفي المقذوف(9/189)
ص -92- ... عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد بعفوه عندنا وذكر بن عمران عن بشر بن الوليد عن أبي الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى أنه يسقط وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وأصل المسألة أن المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى وما فيه من حق العبد فهو في حكم التبع وعند الشافعي رحمه الله تعالى المغلب حق العبد وحجته لإثبات هذا الأصل أن سبب الوجوب التناول من عرضه وعرضه حقه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم إذا أصبح قال اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك" وإنما يستحق المدح على التصدق بما هو من حقه والمقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه ومن حيث الحكم حد القذف يستوفى بالبينة بعد تقادم العهد ولا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار وذلك دليل ظاهر على أنه حق العبد ولذلك لا يستوفى إلا بخصومته وإنما يستوفي بخصومته ما هو حقه بخلاف السرقة فخصومته هناك بالمال دون الحد ويقام هذا الحد على المستأمن بالاتفاق وإنما يواخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد إلا أن من له لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه لأن ألم الجلدات غير معلوم المقدار فإذا فوض إلى من له ربما لا يقف على الحد لغيظه فجعل الاستيفاء إلى الإمام مراعاة للنظر من الجانبين بخلاف القصاص فإنه معلوم بحده فإذا جاوز من له الحق ذلك الحد يعلم ذلك فيمنع منه.
وحجتنا في ذلك وهو أن هذا الحد يعتبر فيه الإحصان فيكون حقا لله تعالى كالرجم وتأثير هذا الكلام لأن الحدود زواجر والزواجر مشروعة حقا لله تعالى فأما ما يكون حقا للعبد فهو في الأصل جائز فما أوجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم القصاص الذي ينبئ عن المساواة ليكون إشارة إلى معنى الجبر وما أوجب باسم الحد فهو حق الله تعالى وفي هذا الاسم إشارة إلى معنى الزجر.(9/190)
والدليل عليه أن في حقوق العباد يعتبر المماثلة وبه ورد النص حيث قال تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولا مناسبة بين نسبة الزنى وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى والدليل عليه وهو أن الحد مشروع لتعفية أثر الزنى وحرمة إشاعة الفاحشة من حقوق الله تعالى فكان هذا نظير الواجب بمباشرة الزنى من حيث إن كل واحد منهما مشروع لإبقاء الستر وتعفية أثر الزنى واعتبار الإحصان لمعنى النعمة وذلك فيما هو من حق الله تعالى وما ذكره الخصم لا ينفي معنى حق الله تعالى لأن في عرضه حقه وحق الله تعالى وذلك في دفع عار الزنى عنه لأن في إبقاء ستر العفة معنى حق الله تعالى فإذا دل بعض الأدلة على أنه محض حق الله تعالى وبعض الأدلة على اجتماع الحقين فيه قلنا بأن المغلب حق الله تعالى مع اعتبار حق العبد فيه أيضا ليكون عملا بالأدلة كلها والدليل عليه أن الاستيفاء إلى الإمام والإمام إنما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما ما كان حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ولا معتبر بتوهم التفاوت فإن للزوج أن يعزر زوجته وإن كان ذلك يوهم التفاوت لكن التعزير لما كان(9/191)
ص -93- ... للزوج حقا له لا ينظر إلى توهم التفاوت من هذا الوجه وهذا لأن هذه المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من الجلاد ويمنع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره كما يمنع الجلاد منه مع أن توهم الزيادة لا يمنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في القصاص والدليل عليه أنه يتنصف هذا الحد بالرق وإنما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد لا لأن بدنه دون بدن الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر وإنما يتكامل بتكامل النعم ما كان حقا لله تعالى لأن شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم والدليل عليه أن ما كان متمما لهذا الحد وهو سقوط الشهادة كان حقا لله تعالى فكذلك أصل الحد ولكن قد بينا أن فيه معنى حق العبد أيضا فلهذا تعتبر خصومته وطلبه ولهذا لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار لأن الخصم مصدق له في الإقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما كان محض حق الله تعالى فإن هناك ليس من يكذبه ولهذا يقام بحجة البينة بعد التقادم لعدم تمكن الشهود من أداء الشهادة قبل طلب المدعي فلا يصيرون متهمين بالضغينة ولهذا يقام على المستأمن لأنه لما كان للعبد حق الخصومة والطلب به والمستأمن ملتزم لحقوق العباد فيقام عليه إذا ثبت هذا الأصل فنقول بعفوه لا يسقط عندنا ولأنه إنما يملك إسقاط ما يتمحض حقا له فأما حق الله تعالى لا يملك إسقاطه وإن كان للعبد فيه حق كالعدة فإنها لا تسقط بإسقاط الزوج لما فيها من حق الله تعالى وقد روي مثل مذهبنا عن علي رضي الله عنه ولكن الحد وإن لم يسقط بعفوه فإذا ذهب العافي لا يكون للإمام أن يستوفي لما بينا أن الاستيفاء عند طلبه وقد ترك(9/192)
الطلب إلا أنه إذا عاد فطلب فحينئذ يقيم الحد لأن عفوه كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن ولو صدقه فيما قال أو قال شهودي شهدوا بالباطل فليس له أن يخاصم في شيء لأنه إذا أكذب شهوده تبطل شهادتهم كالمسروق منه إذا أكذب شهوده وإذا صدقه فقد صار مقرا بالزنى وانعدم به إحصانه وقذف غير المحصن لا يوجب الحد فبإقراره ينعدم السبب الموجب للحد لا إنه يسقط فأما بعفوه لا ينعدم السبب وما أسقطه حق الشرع فكان إسقاطه لغوا لهذا.
قال ويستحسن للإمام أن يقول للطالب قبل إقامة البينة أترك هذا وانصرف لأن الحد لم يثبت عنده بعد وهذا نوع احتيال منه لدرء الحد وهكذا في السرقة يستحب له أن يقول للمسروق منه اترك دعوى السرقة قبل أن نثبت السرقة بالبينة.
قال ولو قذف جماعة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد عندنا وعند الشافعي إن قذفهم بكلام واحد فكذلك الجواب وإن قذفهم بكلمات متفرقة يحد لكل واحد منهم لأنه حق المقذوف عنده فلا يجري فيه التداخل عند اختلاف السبب وعندنا المغلب فيه حق الله تعالى وهو مشروع للزجر فيجري فيه التداخل كسائر الحدود وكذلك إن حضر بعضهم للخصومة ولم يحضر البعض فأقيم الحد بخصومة من حضر فعلى مذهبه إذا حضر الغائب وخاصم يقام عليه الحد لأجله أيضا وعندنا لا يقام إذا علم أنه قذفه بالزنى قبل(9/193)
ص -94- ... إقامة الحد عليه لأن حضور بعضهم للخصومة كحضور جماعتهم وما هو المقصود قد حصل وهو دفع العار عن المقذوف بالحكم بكذب القاذف.
قال ولا يقبل في القذف كتاب القاضي إلى القاضي ولا الشهادة على الشهادة ولا شهادة النساء مع الرجال لأن موجبه حد يندرىء بالشبهات وتجوز شهادة القاذف بعد ما ضرب بعض الحد إذا كان عدلا لأن رد شهادته من تتمة الحد فلو ثبت قبل كمال الجلد لم يكن متمما للحد ولأن الله تعالى عطف رد الشهادة على الجلدات والمعطوف لا يسبق المعطوف عليه.
قال رجل قال لامرأته زنيت مستكرهة أو قال جامعك فلان جماعا حراما أو زنيت وأنت صغيرة لا حد عليه لأنه نسبها إلى فعل غير موجب للحد عليها وقد بينا أن وجوب الحد على القاذف بنسبة المقذوف إلى فعل موجب للحد عليه ثم المستكرهة لا فعل لها وقوله جامعك جماعا حراما ليس بصريح بالقذف بالزنى وقوله زنيت وأنت صغيرة محال شرعا لأن فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا ألا ترى أنها لا تأثم به فهو كقوله زنيت قبل أن تولدي وذلك غير موجب للحد لأن الشين بهذا الكلام يلحق القاذف دون المقذوف وإقامة الحد لدفع العار عن المقذوف وإن قال زنيت وأنت كافرة وقد أسلمت أو قال زنيت وأنت أمة وقد أعتقت فعليه الحد لدفع العار عن المقذوف لأنه نسبها إلى فعل موجب للحد عليها فإن فعل الذمية والأمة زنا ويحدان على ذلك ولو قال قذفتك بالزنى وأنت كتابية أو أمة فلا حد عليه لأنه ما نسبها إلى الزنى بهذا الكلام بل أقر على نفسه أنه قذفها في حال لو علمنا منه القذف في تلك الحالة لم يلزمه الحد فكان منكرا للحد لا مقرا به ويضرب في حد القذف ضربا ليس بشديد مبرح وهكذا في سائر الحدود لأن المستحق فعل مؤلم لا متلف فالشديد المبرح متلف فعلى الجلاد أن يتحرز عن ذلك.(9/194)
قال رجل قذف ميتا بالزنى فعليه الحد لأن وجوب الحد باعتبار إحصان المقذوف والموت يقرر إحصانه ولا ينفيه ثم الخصومة في هذا القذف إلى من ينسب إلى الميت بالولاد أو ينسب إليه الميت بالولاد ولأنه يلحقهم الشين بذلك وحق الخصومة لدفع العار فمن يلحقه الشين به كان له أن يخاصم بإقامة الحد عليه.
قال وليس لأخيه أن يخاصم في ذلك عندنا وعند بن أبي ليلى له ذلك لأن للأخ علقة في حقوقه بعد موته كالولد ألا ترى أنه في القصاص يخلفه فكذا في حد القذف ولكنا نقول الخصومة هنا ليست بطريق الخلافة فإن حد القذف لا يورث ليخلف الوارث المورث فيه وإنما الخصومة لدفع الشين عن نفسه والأخ لا يلحقه الشين بزنا أخيه لأنه لا ينسب أحد الأخوين إلى صاحبه وإنما نسبة زنا الغير باعتبار نسبته إليه بخلاف الآباء والأولاد.
قال ولولد الولد أن يأخذ بذلك كما للولد ذلك قال وفي كتاب الحدود الاختلاف(9/195)
ص -95- ... فيمن يرث ويورث ولا معتبر بهذه الزيادة لأن المطالبة بالحد ليس بطريق الوراثة إلا أن محمدا رحمه الله تعالى روى عنه أنه ليس لولد الابنة حق الخصومة في هذا الحد لأنه منسوب إلى أبيه لا إلى أمه فلا يلحقه الشين بزنا أبي أمه وفي ظاهر الرواية النسب يثبت من الطرفين ويصير الولد به كريم الطرفين ولو قذف أمه كان له أن يخاصم باعتبار نسبته إليها ليدفع به عن نفسه فكذلك إذا قذف أبا أمه وقال زفر رحمه الله تعالى مع بقاء الولد ليس لولد الولد أن يخاصم لأن الشين الذي يلحق الولد فوق ما يلحق ولد الولد فصار ولد الولد مع بقاء الولد كالولد مع بقاء المقذوف واعتبر هذا بطلب الكفاءة فإنه لا خصومة فيه للأبعد مع بقاء الأقرب ولكنا نقول حق الخصومة باعتبار ما لحقه من الشين بنسبته إليه وذلك موجود في حق ولد الولد كوجوده في حق الولد فأيهما خاصم يقام
الحد بخصومته بخلاف المقذوف فإن حق الخصومة له باعتبار تناول القاذف من عرضه وذلك لا يوجد في حق ولده.
قال ولولد الكافر والمملوك أن يأخذ بالحد كما يأخذ به الولد الحر المسلم وعند زفر ليس له ذلك لأن الكافر والمملوك لو قذف في نفسه لم يجب الحد على قاذفه فإذا قذف في أبيه وأمه أولى ولكنا نقول الحد وجب لحق الله تعالى وخصومة الولد باعتبار الشين الذي لحقه وذلك موجود في حق الولد الكافر والمملوك لأن النسبة لا تنقطع بالرق والكفر وإنما تنعدم الخلافة إرثا بالكفر والرق فيما هو من حق الميت وحد القذف ليس من ذلك في شيء وهذا بخلاف ما إذا قذف في نفسه لأن الموجب للحد قذف المحصن والعبد والكافر ليس بمحصن أما هنا تم سبب وجوب الحد وهو قذف المحصن إذ الميت محصن فكل من يلحقه الشين بهذا القذف فهم خصم في المطالبة بالحد بعد تقرر سببه.(9/196)
قال وإن كان المقذوف حيا غائبا ليس لأحد من هؤلاء أن يأخذ بحده عندنا وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى الغائب كالميت لأن خصومته تتعذر لغيبته كما هو متعذر بعد موته ولكنا نقول ينوب أو يبعث وكيلا ليخاصم والخصومة باعتبار تناول العرض أصل فما لم يقع اليأس عنه لا يعتبر بالخصومة باعتبار الشين وفي الميت الخصومة باعتبار تناول العرض مأيوس عنه فيقام الحد بخصومة من يلحقه الشين بخلاف الغائب فإن مات هذا الغائب قبل أن يرجع لم يأخذ وليه أيضا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لأن المغلب عنده حق العبد فيصير موروثا عن المقذوف بعد موته لورثته وعندنا المغلب حق الله تعالى فلا يورث عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يجري الإرث فيما هو من حق الله تعالى" ولأن الإرث خلافة الوارث المورث بعد موته في حقه والله تعالى يتعالى عن ذلك.
فإن قيل: فحق لله تعالى لا يسقط أيضا بموت المقذوف.
قلنا لا نقول سقط بموته ولكنه يتعذر استيفاؤه لانعدام شرطه فالشرط خصومة المقذوف ولا يتحقق منه الخصومة بعد موته.(9/197)
ص -96- ... فإن قيل: كان ينبغي أن يقوم الوارث مقامه في خصومته أو وصية إن أوصى بذلك إلى إنسان.
قلنا شرط الحد معتبر بسببه فكما أن ما يقوم مقام الغير لا يثبت به سبب الحد فكذلك لا يثبت به شرط الحد بخلاف ما إذا قذف بعد الموت لأنا لا نقول خصومة ولده تقوم مقام خصومته وكيف يقال ذلك ولا يورث ذلك ولا يثبت له حق الخصومة بعد موته ولكن الولد خصم عن نفسه باعتبار ما لحقه من الشين فأما في حال الحياة لم يثبت للولد حق الخصومة فلو ثبت بعد الموت كان بطريق القيام مقامه وذلك لا يكون في الحدود.
قال ولو وكل الغائب من يطلب بحده صح التوكيل في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله تعالى ثم رجع وقال لا أقبل الوكالة في حد ولا قصاص لأن خصومة الوكيل تقوم مقام الموكل وشرط الحد لا يثبت بمثله ولأن بالإجماع لا يصح التوكيل باستيفاء الحد والقصاص لأنها عقوبة تندرىء بالشبهات فكذلك في الإثبات كما في الحدود التي هي حق لله تعالى وهما يقولان الإثبات من جملة ما إذا وقع الغلط فيه أمكن التدارك فيه وتلافيه والتوكيل في مثله صحيح كالأموال بخلاف الاستيفاء فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه ولو استوفاه الوكيل في حال غيبة الموكل كان استيفاؤه مع تمكن الشبهة لجواز أن من له القصاص قد عفي وأن المقذوف قد صدق القاذف أو أكذب شهوده وهذا لا يستوفي بحضرة الوكيل حال غيبة الموكل.
قال فإن مات المقذوف بعد ما ضرب القاذف بعض الحد فإنه لا يقام عليه ما بقي اعتبارا للبعض بالكل وكذلك إن غاب بعد ما ضرب بعض الحد لم يتم إلا وهو حاضر ألا ترى أنه لو عمي الشهود أو فسقوا بعد ما ضرب بعض الحد درى ء عنه ما بقي؟(9/198)
قال والقذف بأي لسان كان بالفارسية أو العربية أو النبطية يوجب الحد بعد أن يكون بصريح الزنى لأن المقصود دفع الشين وذلك لا يختلف باختلاف الألسن رجل قال لرجل يا زانية لا حد عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وفي القياس عليه الحد وهو قول محمد رحمه الله تعالى ورواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
ولو قال لامرأة يا زاني فعليه الحد بالاتفاق لوجهين أحدهما أن الإيجاز والترخيم معروف في لسان العرب قال القائل:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
معناه يا صاحب وقرىء {وَنَادَوْا يَا مَالِ} [الزخرف: 77] أي مالك وهذا أيضا حذف آخر الكلام للترخيم فلا يخرج به من أن يكون قذفا لها ألا ترى إلى قول امرئ القيس: أفاطم مهلا أي يا فاطمة ولأن الأصل في الكلام التذكير وإلحاق هاء التأنيث للفصل والفصل هنا حاصل(9/199)
ص -97- ... بالإشارة فلا يخرج بإسقاط حرف التأنيث من أن يكون قذفا لها واستدل في الأصل بقوله تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12] {وَقال نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] فأما إذا قال يا زانية فمحمد رحمه الله تعالى يقول صرح بنسبته إلى الزنى وزاد حرف الهاء فتلغو الزيادة ويبقى قاذفا له ملتزما للحد ولأن في لسان العرب إلحاق هاء التأنيث بآخر الكلام للمبالغة في الوصف فإنهم يقولون نسابة وعلامة وراوية للشعر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان هو كذلك ولكن المقصود هو المبالغة في الوصف بعلم ذلك الشيء فكأنه قال أنت أكثر الناس علما بالزنى أو أعلم الناس بالزنى وهكذا لا يكون قذفا موجبا للحد ثم نسبه إلى فعل لا يتحقق ذلك منه لأن الزانية هي الموطوءة الممكنة من فعل الزنى والرجل ليس بمحل لذلك فقذفه بهذا اللفظ نظير قذف المجبوب وذلك غير موجب للحد بخلاف ما إذا قال لامرأته يا زاني لأنه نسبها إلى مباشرة فعل الزنى وذلك يتحقق منها بأن تستدخل فرج الرجل في فرجها.(9/200)
قال وإذا ادعى القاذف أن له بينة على تحقيق قوله أجل ما بينه وبين قيام القاضي من مجلسه من غير أن يطلق عنه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى يستأني به ويمهل إلى المجلس الثاني ليحضر شهوده لأن القذف موجب للحد بشرط عجزه عن إقامة أربعة من الشهداء والعجز لا يتحقق إلا بالإمهال ألا ترى أن المدعي عليه إذا ادعى دفعا أو طعنا في الشهود يمهل إلى المجلس الثاني ليأتي به فهذا مثله وجه ظاهر الرواية أن سبب وجوب الحد ظهر عند القاضي فلا يكون له أن يؤخر الإقامة لما فيه من الضرر على المقذوف بتأخير دفع العار عنه ولكن إلى آخر المجلس لا يكون تأخيرا فلا يتضرر بذلك القدر ألا ترى أنه يؤخر إلى أن يحضر الجلاد فلهذا جوزنا له أن يمهله إلى آخر المجلس من غير أن يطلق عنه ولكن يقول له ابعث إلي شهودك وذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا لم يكن له من يحضر شهوده أطلق عنه وبعث معه بواحد من شرطه ليرده عليه وهذا لأن كل واحد لا يجد نائبا والقاضي مأمور بالنظر من كل جانب ولكن لم يعتبر هذا في ظاهر الرواية لأنه إذا لم يحضر الشهود بقي ستر العفة على المقذوف وذلك أولى الوجهين.
قال ولا يقبل منه أقل من أربعة شهود لقوله تعالى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال تعالى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13](9/201)
فإن جاء بهم فشهدوا على المقذوف بزنا متقادم درأت الحد عن القاذف استحسانا والقياس أن الشهادة على الزنى بعد التقادم لا تكون مقبولة فوجودها كعدمها إلا أنه استحسن فقال إنما لا تقبل الشهادة على الزنى بعد التقادم لتوهم الضغينة وذلك معتبر في منع وجوب الحد على المشهود عليه لا في إسقاط الحد عن القاذف كما لو أقام أربعة من الفساق على صدق مقالته وإن جاء بثلاثة فشهدوا عليه بالزنى وقال القاذف أنا رابعهم لم يلتفت إلى كلامه ويقام عليه وعلى الثلاثة الحد لأنه خصم ملتزم للحد فلا يكون شاهدا وبالثلاثة لا تتم الحجة فكانوا قذفة يحدون جميعا.(9/202)
ص -98- ... قال وإن شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنى يدرأ
الحد عن القاذف وعن الثلاثة لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس المقصود من إثبات الإقرار هنا إقامة الحد على المقر لأن الإقرار لا يثبت بحجة البينة موجبا للحد وإن كثر الشهود فإنه في الحال منكر ولو سمعنا إقراره ثم رجع عنه لم يقم عليه الحد فكيف يثبت إقراره بالبينة ولكن المقصود إسقاط الحد وذلك يثبت مع الشبهات بخلاف ما إذا شهد الشاهدان على زنا المقذوف لأن موجب تلك الشهادة الحد على الزاني إذا تم عدد الشهود فلهذا لا يكون للمثنى شهادة في ذلك.
قال ومن قذف الزاني بالزنى فلا حد عليه عندنا سواء قذفه بذلك الزنى بعينه أو بزنا آخر أو مبهما وحكى عن إبراهيم وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى أنه إن قذفه بغير ذلك الزنى أو بالزنى مبهما فعليه الحد لأن الرمي موجب للحد إلا أن يكون الرامي صادقا وإنما يكون صادقا إذا نسبه إلى ذلك الزنى بعينه ففي ما سوى ذلك فهو كاذب ملحق الشين به ولكنا نقول رمى المحصن موجب للحد بالنص قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} والمحصن لا يكون زانيا فقاذف الزاني بالزنى قاذف غير المحصن وهو صادق في نسبته إلى أصل فعل الزنى فلا يكون ملتزما للحد.(9/203)
قال وإذا وطىء الرجل امرأة وطئا حراما فهو على وجهين إما إن يكون وطؤه هذا في الملك أو في غير الملك أما في الملك فإن كانت الحرمة بعارض على شرف الزوال لم يسقط به إحصانه كوطء امرأته الحائض والمجوسية أو التي ظاهر منها أو المحرمة أو أمته التي زوجها أو هي في عدة من غيره لأن ملك الحل قائم ببقاء سببه والمحرم هو الاستمتاع وهو نظير وطء امرأته المريضة إذا كانت تستضر بالوطء وهذا لأن مع قيام الملك بالمحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه فأما إذا كانت محرمة عليه على التأبيد كأمته التي هي أخته من الرضاع فإنه يسقط بوطئها إحصانه في ظاهر المذهب وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أنه لا يسقط به الإحصان لأن حرمة الفعل مع قيام الملك الذي هو مبيح وهو نظير ما سبق
وجه ظاهر الرواية أن بين الحل والحرمة في المحل منافاة ومن ضرورة ثبوت الحرمة المؤبدة انتفاء الحل فالسبب لا يوجب الحكم إلا في محل قابل له وإذا لم يكن المحل قابلا للحل في حقه لا يثبت ملك الحل فكان فعله في معنى الزنى ولو وطى ء مكاتبته لم يسقط به إحصانه عندنا وعند زفر رحمه الله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى يسقط لأن المكاتبة غير مملوكة له وطئا بدليل أنه يلزمه العقر بوطئها والوطء في غير الملك يسقط الإحصان ولأن المكاتبة مملوكة له رقا لا يدا فهي بمنزلة الأمة المشتركة ووطء المشتركة مسقط للإحصان ولكنا نقول ملكه في المكاتبة قائم والحرمة بعارض على شرف الزوال فهو نظير الأمة المزوجة وبأن يلزمه العقر لا يدل على أنه يسقط به الإحصان كالزوجة.(9/204)
ص -99- ... قال فإن وطىء أمته التي هي محرمة عليه بوطء أبيه إياها أو بوطئه أمها يسقط إحصانه لأن في المصاهرة حرمة مؤبدة فهو نظير حرمة الرضاع فأما إذا نظر إلى فرج امرأة أو أمة بشهوة ثم اشترى أمها أو ابنتها أو تزوجها فوطئها فقذفه رجل حد قاذفه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يحد في قولهما لأنها محرمة عليه على التأبيد فإن اللمس والتقبيل يثبت حرمة المصاهرة فلا معنى لاعتبار اختلاف العلماء فيه كالزنا فإن أباه لو زنى بأمة ثم اشتراها هو فوطئها يسقط إحصانه وثبوت حرمة المصاهرة بالزنى مختلف فيه بين العلماء
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كثير من الفقهاء لا يرون اللمس والتقبيل موجبا للحرمة وليس في إثبات الحرمة نص ظاهر بل نوع احتياط أخذنا به من حيث إقامة السبب الداعي إلى الوطء مقام الوطء وبمثل هذا الاحتياط لا يسقط الإحصان الثابت بيقين بخلاف المزني بها فإن في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطء نص وهو قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فقد قامت الدلالة لنا أن النكاح حقيقة للوطء ومع وجود النص لا يعتبر اختلاف العلماء وأما الوطء في غير الملك مسقط للإحصان على كل حال وكذلك في الأب يطأ جارية ابنه.(9/205)
قال وإذا تزوج امرأة بغير شهود أو في عدة من زوج أو تزوجها وهي مجوسية ووطئها سقط به إحصانه لأن العقد الفاسد غير موجب للملك والوطء في غير الملك في معنى الزنى وكذلك إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج أختين أو امرأة وعمتها في عقد واحد فبالوطء بحكم هذه العقود الفاسدة يسقط الإحصان وكذلك إذا تزوج امرأة فوطئها ثم علم أنها كانت محرمة عليه بالمصاهرة وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وأما عند أبي يوسف رحمه الله إذا كان عالما عند الوطء بأنها غير مملوكة سقط إحصانه وإن لم يكن معلوما له لا يسقط إحصانه وهو رواية عن محمد لأن في الظاهر هذا الوطء حلال بدليل أنه لا يأثم به وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه معذور لجهله من حيث الظاهر فأما الوطء فغير مملوك له في الحقيقة بل هو في معنى الزنى فيكون مسقطا لإحصانه.
قال وإن ملك أختين فوطئهما حد قاذفه لأن هذا وطء في الملك والحرمة بعارض على شرف الزوال ألا ترى أنه لو أخرج إحداهما عن ملكه حل له وطء الأخرى وبمثل هذا الوطء لا يسقط الإحصان فإن وطىء المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يحد قاذفه لأن هذا وطء في غير الملك وإن وطىء امرأة مستكرهة لم يحد قاذفه ولا قاذفها لأن هذا وطء غير مملوك وعند الإكراه وإن كان يسقط الإثم عنها فلا يخرج من أن يكون الفعل زنا فلهذا سقط إحصانها وإن وطىء جارية ابنته أو أحد أبويه أو أخته ثم ادعى أن مولاها باعها منه ولم يكن له بينة فلا حد على قاذفه وكذلك إن أقام شاهدا واحدا على الشراء لأن سبب ملك الحل لا يثبت بالشاهد الواحد فيكون وطؤه في غير الملك وهو مسقط للإحصان فإن زنى في حال(9/206)
ص -100- ... كفره في دار الحرب أو في دار الإسلام ثم أسلم فقذفه إنسان لم يحد قاذفه لأن فعل الزنى يتحقق من الكافر وإن كان لا يقام به الحد عليه فيكون قاذفه صادقا في مقالته وإن باشر امرأة حراما وبلغ كل شيء منها سوى الجماع فقذفه قاذف فعليه الحد لأن سقوط الإحصان بالوطء فإن المسقط للإحصان الزنى أو ما في معناه واللمس والتقبيل ليس في معنى الزنى.
قال مجنون زنى بامرأة مطاوعة أو مستكرهة ثم قذف المجنون أو المرأة قاذف فلا حد على قاذفه أما المرأة فلوجود الوطء منها في غير الملك وأما المجنون فإن قذفه بعد الإفاقة لم يحد لأن الوطء الذي هو غير مملوك قد تحقق من المجنون وهو مسقط للإحصان وإن قذفه في حال جنونه فقاذف الصبي والمجنون لا يحد لأن إحصان المقذوف شرط والإحصان عبارة عن خصال حميدة فأول ذلك كمال العقل وذلك ينعدم بالصغر والجنون ولأن الحد لدفع الشين عن المقذوف والشين بقذف الصبي والمجنون يلحق القاذف دون المقذوف وكذلك المملوك لا يكون محصنا لقوله تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فهو بيان أن المملوك لا يكون محصنا وإن كان المملوك هو القاذف فعليه نصف حد الحر للآية.
قال ولا حد على قاذف الكافر لأن الإسلام من شرائط الإحصان قال صلى الله عليه وسلم "من أشرك بالله فليس بمحصن" وعلى الذمي في قذف المسلم حد كامل لأن المسلم محصن يلحقه الشين بقذفه والقاذف مع كفره حر فعليه حد الأحرار ثمانون جلدة والذي يجن ويفيق في حال إفاقته محصن ولا يحد قاذف الأخرس لأنه لو كان ينطق ربما يقر بما يكون فيه من تصديق القاذف ولا يقام الحد مع الشبهة ولا حد على قاذف المجبوب والرتقاء لأنه لا يلحقه الشين فإن الزنى منهما لا يتحقق ويلحق الشين القاذف في هذا القذف.(9/207)
قال والقاذف من أهل البغي متى قذف رجلا من أهل العدل في عسكرهم أو في عسكر أهل الحرب أو قذف رجل من أهل الحرب رجلا منهم لم يحد واحد منهم لأنه ارتكب السبب وهو ليس تحت ولاية الإمام وقد بينا أن ولاية الاستيفاء إنما تثبت للإمام إذا ارتكب السبب وهو تحت ولايته وبدون المستوفى لا يجب الحد.
قال ولو دخل حربي دارنا بأمان فقذف مسلما لم يحد في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول لأن المغلب في هذا الحد حق الله تعالى ولأنه ليس للإمام عليه ولاية الاستيفاء حين لم يلتزم شيئا من أحكام الإسلام بدخوله دارنا بأمان ويحد في قوله الآخر وهو قولهما فإن في هذا الحد معنى حق العبد وهو ملتزم حقوق العباد ولأنه بقذف المسلم يستخف به وما أعطي الأمان على أن يستخف بالمسلمين ولهذا يجبر على بيع العبد المسلم فكذلك يحد بقذف المسلم.
قال وكل شيء أوجبنا فيه الحد على الأجنبي فإنه إذا قال ذلك لامرأته وهما حران مسلمان فعليهما اللعان لأن اللعان موجب قذف الزوج زوجته بالنص وقد بيناه في باب اللعان.(9/208)
ص -101- ... قال وإن قال لامرأته زنيت قبل أن أتزوجك لاعنها لأنه قاذف لها في الحال بخلاف ما لو قال كنت قذفتك بالزنى قبل أن أتزوجك فإنه يحد لأنه ما صار قاذفا لها بكلامه بعد النكاح وإنما ظهر بكلامه قذف كان قبل النكاح فكأنه ظهر ذلك بالبينة فعليه الحد.
قال وإن قال لأجنبية يا زانية فقالت زنيت بك لا حد على الرجل لها وتحد المرأة للرجل لأنها صدقته بقولها زنيت فصارت قاذفة للرجل بقولها زنيت بك فعليها الحد له.
قال ولو قال ذلك لامرأته فقالت زنيت بك فلا لعان ولا حد لأنها صدقته فسقط اللعان بتصديقها ولم تصر قاذفة له لأن فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا.
قال ولو قالت المرأة لزوجها مبتدئه زنيت بك ثم قذفها الزوج بعد ذلك لم يكن عليه حد ولا لعان لوجود الإقرار منها بقولها زنيت.
قال رجل قال لآخر يا فاسق يا خبيث أو يا فاجر أو يا بن الفاجر أو يا ابن القحبة فلا حد عليه لأنه ما نسبه ولا أمه إلى صريح الزنى فالفجور قد يكون بالزنى وغير الزنى والقحبة من يكون منها ذلك الفعل فلا يكون هذا قذفا بصريح الزنى فلو أوجبنا به الحد إنما يوجب بالقياس ولا مدخل للقياس في الحد ولو قال يا آكل الربا أو يا خائن أو يا شارب الخمر لا حد عليه في شيء من ذلك ولكنه عليه التعزير لأنه ارتكب حراما وليس فيه حد مقدر ولأنه ألحقه نوع شين بما نسبه إليه فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه(9/209)
ولو قال يا حمار أو يا ثور أو يا خنزير لم يعزر في شيء من ذلك لأن من عادة العرب إطلاق هذه الألفاظ بمعنى البلادة أو الحرص ولا يريدون به الشتيمة ألا ترى أنهم يسمون به فيقال عياض بن حمار وسفيان الثوري ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام وإنما يلحق القاذف فكل أحد يعلم أنه آدمي وليس بحمار وأن القاذف كاذب وكذلك لو قال يا كلب وحكي عن الهندواني أنه قال يعزر في عرف ديارنا لأن هذا اللفظ فينا يذكر للشتيمة والأصح أنه لا يعزر لأن من عادة العرب إطلاق هذا الاسم لمعنى المبالغة في الطلب وقلة الاستحياء فقد يسمون به كالكلبي ونحوه ثم كل أحد يعلم أنه كاذب فالشين يلحقه دون المقذوف.
قال وإذا قال له فجرت بفلانة وجامعتها أو فعلت بها فسمى الفحش لم يكن عليه في ذلك حد لأنه ما صرح بالقذف بالزنى وفي الأسباب الموجبة للحد يعتبر عين النص فما لم يقذفه بصريح الزنى لا يتقرر السبب.
قال وإذا عرض بالزنى فقال أما أنا فلست بزان فلا حد عليه عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى يحد والاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم فعمر رضي الله عنه كان لا يوجب الحد في مثل هذا ويقول في حال المخاصمة مع الغير مقصوده بهذا اللفظ نسبة صاحبه إلى الشين وتزكيته لنفسه لا أن يكون قذفا للغير وأخذنا بقوله لأنه أن تصور معنى القذف بهذا اللفظ فهو بطريق المفهوم والمفهوم ليس بحجة.(9/210)
ص -102- ... قال فإن قال قد أخبرت أنك زان فلا حد عليه لأنه ما نسبه إلى الزنى إنما حكى خبر مخبر والخبر قد يكون صدقا وقد يكون كذبا فالمخبر يكون حاكيا للقذف عن الغير لا قاذفا وإن قال اذهب فقل لفلان أنك زان فالمرسل لا يكون قاذفا له بهذا لأنه أمر الغير أن يقذفه وبالأمر لا يصير قاذفا كما أنه بالأمر بالقتل لا يكون قاتلا فإن ذهب الرسول وحكى كلام المرسل على وجه تبليغ الرسالة لا حد عليه لأنه حاك كلام الغير وإن قال الرسول أنت زان فعليه الحد لأنه قاذف له بالزنى وكذلك لو قال أشهدني رجل على شهادته بأنك زان فهو إنما ذكر شهادة الغير إياه فيكون قاذفا.
قال وإذا قال للعبد يا زاني فقال لا بل أنت حد العبد لأن قوله لا بل أنت معناه بل أنت الزاني فإن كلمة لا بل لاستدراك الغلط وهو غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من أن يجعل ما تقدم معادا فيه فصار كل واحد منهما قاذفا لصاحبه ولكن الحد لا يجب على الحر بقذف العبد ويجب على العبد بقذف الحر وإن كانا حرين فعلى كل واحد منهما الحد لصاحبه.
قال وإن قال لرجل يا زاني فقال رجل آخر صدقت لم يحد المصدق لأنه ما صرح بنسبته إلى الزنى وتصديقه إياه لفظ محتمل يجوز أن يكون المراد به في الزنى وفي غيره وإن كان باعتبار الظاهر إنما يفهم منه التصديق في الزنى ولكن هذا الظاهر لا يكفي لإيجاب الحد إلا أن يكون قال صدقت هو كما قلت فحينئذ قد صرح بكلامه أن مراده التصديق في نسبته إلى الزنى فيكون قاذفا له.
قال وإن قال لرجل أشهد أنك زان وقال الآخر وأنا أشهد أيضا لا حد على الآخرلأن قوله أشهد كلام محتمل فلا يتحقق به القذف إلا أن يقول أنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به فحينئذ يكون قاذفا له.
قال وإن قال الرجل لرجل زني فرجك فعليه الحد لأن الفرج عبارة عن جميع البدن ولأن الزنى يكون بالفرج بخلاف قوله زنى يدك أو رجلك.(9/211)
قال وإن قال لامرأة يا زانية ثم قال بعد ما قطع كلامه وأنت مستكرهة لم يسقط الحد عنه بخلاف ما لو وصله بكلامه فقال زنيت وأنت مستكرهة لأن هذا بيان مغير حكم أول الكلام ومثله يصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء.
قال وإن قال الرجل لآخر زنيت أنت وفلان معك فهو قاذف للثاني لأنه عطف الثاني على الأول والعطف للإشراك في الخبر وقد أكد ذلك بقوله معك
ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر وفلان معك عتقا جميعا فإن قال عنيت أن فلانا معك شاهد لم يصدق إلا أن يصرح بذلك لأنه أضمر خبرا آخر للثاني وموجب العطف الاشتراك في الخبر الأول فلا يصدق في إضمار خبر آخر للثاني فلا يسقط به الحد عنه.(9/212)
ص -103- ... قال وإن قال لرجل يا ولد الزنى أو يابن الزنى فعليه الحد لأنه قذف أمه بهذا اللفظ فإن ولد الزنى من تكون أمه زانية وقد بينا أن قذف الميتة يوجب الحد ولولدها أن يطالب بحده إلا أنه يشترط إثبات إحصان الأم وموتها لأنها إذا كانت غير محصنة فلا حد على قاذفها وإذا كانت حية فلا خصومة للولد مع قاذفها.
قال وكذلك إن قال لست لأبيك فعليه الحد لأنه قذف أمه بهذا فإن الولد من الزنى لا يكون ثابت النسب من أبيه فأما الوطء إذا لم يكن زنا يكون مثبتا للنسب فعرفنا أن بهذا اللفظ قذف أمه فإذا كانت حرة مسلمة فعليه الحد وفي القياس لا حد عليه لأنه يجوز أن لا يكون ثابت النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية بأن كانت موطوءة بشبهة ولدت في عدة الوطء ولكنا تركنا هذا القياس لحديث بن مسعود رضي الله عنه حيث قال لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه ولأنها إذا وطئت بالشبهة فولدها يكون ثابت النسب من إنسان وإنما لا يكون الولد ثابت النسب من الأب إذا كانت هي زانية فعرفنا أنه بهذا اللفظ قاذف لأمه.
قال وإن قال إنك بن فلان لغير أبيه فعليه الحد إذا كانت هذه اللفظة في حالة المسابة لأن مقصوده نفي نسبه من أبيه ونسبة أمه إلى الزنى إذا لم يعرف بين أمه وبين فلان الذي نسبه إليه سبب ذلك ولكن في حالة الرضا لا يجب الحد عليه لأن مراده من هذا اللفظ في حالة الرضا أن أخلاقك تشبه أخلاق فلان فكأنك ابنه فهذا لا يكون قذفا.(9/213)
قال وإن قال لست بابن فلان يعني جده لا يحد لأنه صادق في مقالته فإنه بن ابنه الأدنى حقيقة ونسبته إلى الجد بطريق المجاز ألا ترى أنه يستقيم نفي اسم الأبوة عن جده فيقال أنه جده وليس بأبيه فإن نسبه إلى جده فلا حد عليه لأن الولد كما ينسب إلى أبيه حقيقة ينسب إلى جده مجازا ألا ترى أنه يقال ابنو آدم وآدم جدهم الأعلى عليه السلام وكذلك لو نسبه إلى عمه أو خاله فإن العم بمنزلة الأب قال تعالى {قالوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وهو كان عما وقال صلى الله عليه وسلم "الرجل صنو أبيه" وكذلك الخالة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما فيكون الخال أبا أيضا قال القائل:
وخال بني العباس والخال كالأب
وكذلك لو نسبه إلى زوج أمه قال تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] وفي العادة زوج الأم يقول لولد امرأته هو ولدي باعتبار أني أربيه والناس يسمونه ابنا له أيضا وإن كان ذلك مجازا ولكنه متى كان صادقا في كلامه مجازا أو حقيقة لم يكن قاذفا له وإن قال لست لأبيك وأمه حرة وأبوه عبد وقد ماتت فإنه قاذف لأمه وهي محصنة فعليه الحد وكذلك إن قال لكافر قد مات أبواه مسلمين أو لعبد وقد مات أبواه حرين لما بينا أن المقذوف بهذا اللفظ الأم والمعتبر إحصان المقذوف لا إحصان من يطالب بالحد فإن قال(9/214)
ص -104- ... المولى ذلك لعبده لم يكن له أن يأخذه بحده وإن عتق لأن العبد مملوك له فلا يجوز أن يكون مستوجبا عليه الحد ألا ترى أنه لا يقتل بقتله وعلى هذا إذا قذف الرجل امرأته بالزنى وهي ميتة فليس للابن أن يخاصم في الحد لأن الابن يضاف إلى أبيه كالعبد إلى سيده ألا ترى أنه لا يقتل بقتله ولا يحد في قذفه في نفسه فكذلك في قذفه في أمه لأن الأب كان سبب إيجاده فيستحيل أن يكون الولد مستوجبا عليه العقوبة بهذه الأسباب.
قال وإن قال لرجل لست من بني فلان لقبيلته لا يحد لأنه صادق فإن بني فلان حقيقة أولاده لصلبه وهو ليس منهم ولأنه لو كان هذا قذفا فإنما يكون قذفا لامرأة من تنسب إليه القبيلة وهي كانت كافرة غير محصنة وهو نظير ما لو قال له جدك زان أو جدتك زانية فإنه لا يكون قاذفا بهذا لأن في أجداده وجداته من هو كافر فإذا لم يعين مسلما لا يكون قاذف محصن بخلاف ما لو قال أنت بن ابن الزانية لأنه بهذا اللفظ قاذف لأمه الأدنى وهي كانت محصنة فعليه الحد.(9/215)
قال وإن قال له يابن مزيقيا أو يابن ماء السماء أو يابن جلا فليس عليه في شيء من هذا الحد لأنه كلام الناس وليس على سبيل القذف ومعنى هذا أن من عادة العرب إطلاق هذا اللفظ على سبيل المدح والمعنى أنه يشبه هؤلاء في حسن الخلق أو الجود أو الجلادة فقد كانوا معروفين بذلك فيهم فلذلك لا يكون قاذفا ملتزما للحد وإذا نسب رجل رجلا إلى غير أبيه في غير غضب فلا حد عليه وإن كان على سبيل الغضب والسب فعليه الحد استحسانا وفي القياس لا حد عليه في الوجهين لأنه تكلم بكلام مبهم محتمل وجوها إلا أنه استحسن فقال مطلق الكلام يجب تحصيله على قصد المتكلم ففي حالة الرضا مقصوده المدح بنسبته إلى جواد أو مبارز أو متبحر في العلم ألا ترى إلى ما روى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يأخذ الحسن ويقول يا شبيها بعله وفي حالة الغضب يعلم أن مقصوده إلحاق الشين به في ذكر نسبة أمه إلى الزنى فإذا كان يعتبر الحال في كنايات الطلاق فكذلك في لفظ القذف ألا ترى أن المصلي إذا قال يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد القراءة لم يضره وإن أراد خطاب إنسان فسدت صلاته.
قال وإن قال لعربي يا نبطي أو قال لعربي لست بعربي فلا حد عليه وقال ابن أبي ليلى إذا قال لعربي يا نبطي أو قال لست من بني فلان لقبيلته التي هو منها فعليه الحد لأنه نسبه إلى غير أبيه ولكنا نقول لا يراد بهذا اللفظ القذف ألا ترى أن الرجل يقول للآخر أنت رستاقي أو خراساني أو كوفي ولا يريد بشيء من ذلك القذف ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش يا نبطي فقال لا حد عليه.
قال وإذا قذف الوالد ولده لا حد عليه لأنه منسوب إليه بالولاد ولا يعاقب بجنايته على نفسه وأطرافه فكذلك لا يعاقب بالتناول من عرضه.(9/216)
ص -105- ... قال وإن قذف أباه أو أمه أو أخاه أو عمه فعليه الحد لأن المقذوف محصن ولو قتله القاذف قتل به فيحد بإلحاق الشين بقذفه.
قال رجل قال لابنه يابن الزانية وأمه ميتة ولها بن من غيره فجاء يطلب الحد يضرب القاذف الحد لأنه قذف الأم وهي محصنة ولكل واحد من الولدين حق الخصومة في الحد بنسبته إليها إلا أن أحدهما بن القاذف والابن لا يخاصم أباه في إقامة العقوبة عليه فيكون كالمقذوف يبقى الآخر فله المطالبة بالحد وكذلك إن كان للميت المقذوف ابنان فصدق أحدهما كان للآخر أن يأخذه بالحد لأن الحد واجب لحق الله تعالى والمعتبر الخصومة ممن يلحقه الشين وكل واحد منهما أصل في هذه الخصومة كأنه ليس معه غيره فتصديق أحدهما لا يكون عاملا في حق الآخر وهذا بخلاف ما إذا قتلت امرأة ولها ابنان فعفي أحدهما أو كان أحد الابنين لها من القاتل حيث لا يكون للآخر استيفاء القصاص لأن القصاص حق العبد فكان ميراثا بين الاثنين فيسقط نصيب أحدهما إما بإسقاطه أو لمعنى الأبوة ويتعذر على الآخر الاستيفاء لأنه لا يحتمل التجزؤ فأما حد القذف حق الله تعالى ولم يصر ميراثا للابنين بل المعتبر الخصومة من كل واحد منهما وحق الخصومة ثابت لكل واحد منهما بكماله.
توضيحه أن المقذوف هنا منكر وجوب الحد لا مسقط له فإذا أثبت الآخر وجوب الحد بالحجة استوفاه الإمام بخلاف العفو في القصاص وإن لم يكن للمقذوف إلا بن واحد فصدقه في القذف ثم أراد أن يأخذه بالحد ليس له ذلك لأنه مناقض في كلامه ومع التناقض لا تصح الدعوى فلا يقام الحد إلا بخصومة معتبرة ولو كان للمقذوف ابنان أحدهما عبد أو كافر كان له أن يطالب بالحد حاضرا كان الآخر أو غائبا لما بينا أن خصومته باعتبار أنه منسوب إليها وحال الابنين في ذلك سواء.(9/217)
قال رجل قذف رجلا قدام القاضي فله أن يضربه الحد وإن لم يشهد به غيره لأن العلم الذي يقع له بمعاينة السبب فوق العلم الذي يثبت له بشهادة الشاهدين وفي حد القذف معنى حق العبد فهو كالقصاص وسائر حقوق العباد فالقاضي يقضي في ذلك بعلمه وإن علمه قبل أن يستقضي ثم استقضى فليس له أن يقيم الحد بعلمه حتى يشهد الشاهد عنده في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى له أن يقضي بعلمه لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بعد ما قلد القضاء وقبله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حين عاين السبب استفاد علم الشهادة فلا يتغير ذلك بتقليد القضاء بخلاف ما إذا علم وهو قاض لأنه حين عاين السبب استفاد علم القضاء توضيحه أن معاينة السبب بمنزلة شهادة الشهود في الفصلين عنده ولو شهد الشاهدان عنده قبل أن يستقضي ثم استقضى لم يكن له أن يقضي بذلك فكذلك إذا عاين السبب فأما في الحدود التي هي خالص حق الله تعالى كحد الزنى والسرقة وشرب الخمر فإن عاين السبب في حالة القضاء فليس له أن يقضي بعلمه استحسانا.(9/218)
ص -106- ... وفي القياس له ذلك لأن علمه بمعاينة السبب أقوى من علمه بشهادة الشهود عنده ولكنه استحسن لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أرأيت لو لقيت رجلا على الزنى ما كنت أصنع به فقال شهادتك عليه كشهادة واحد من المسلمين فقال صدقت وروى نحو هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والمعنى فيه أن الإمام نائب في استيفاء ما وجب لحق الله تعالى فمن هذا الوجه يشبه الخصم ومجرد علم الخصم لا يكفي للقضاء فلا يتمكن القاضي من الاستيفاء توضيحه أنه لو سمع إقراره بذلك ثم جحد لم يكن له أن يقيم عليه الحد والمقر به في حق المقر كالمعاين بخلاف حد القذف والقصاص وروى بن سماعة أن محمدا رحمه الله تعالى رجع عن هذا فقال لا يقضي بعلم نفسه في شيء من الحدود لأنه هو المستوفى لذلك كله وإذا اكتفى بعلم نفسه اتهمه الناس فعليه أن يتحرز عن موضع التهمة.
قال رجل اشترى جارية شراء فاسدا فوطئها ثم قذفه إنسان فعلى قاذفه الحد لأنه ملكها بالقبض مع فساد السبب وملك الرقبة مبيح للوطء والحرمة بعده بعارض على شرف الزوال وذلك لا يسقط إحصانه بخلاف الوطء في النكاح الفاسد لأن النكاح الفاسد غير موجب للملك فإن موجب النكاح ملك الحل فلا يمكن إثباته بالسبب الفاسد فيكون وطؤه في غير الملك.
قال رجل قال لرجل يابن الزانيين فعليه حد واحد لأنه قذف أباه وأمه ولو كانا حيين فخاصماه لم يكن عليه إلا حد واحد فكذلك إذا كانا ميتين فخاصمه الابن.(9/219)
قال وإن قال لست لفلان ولا لفلانة لا حد عليه لأنه نفى ولادة الأم إياه فإن ثبوت النسب من الأم بالولادة فنفي ولادتها لا يكون قذفا لها إنما يكون قذفا لها إذا ذكر أنها ولدته من زنا فإنما يندرج ذلك في قوله لست لأبيك ولا لأمك لا يندرج قذف الأم يوضحه أن ولادتها إياه معاين فكل أحد يعلم بكذب القاذف في نفس ما هو معاين ولا يلحق الولد شين بهذا القذف بخلاف قوله لست لأبيك فإنه يلحقه الشين بنفي نسبه عن أبيه وإذا قال لم يلدك فلان لأبيه لا حد عليه لأنه صادق في مقالته وإنما ولدته أمه لا أبوه.
قال رجل قال لامرأة زنيت ببعير أو بثور أو بحمار لا حد عليه لأنه نسبها إلى التمكين من بهيمة وذلك غير موجب للحد عليها وقد بينا أن نسبته إلى فعل لا يوجب الحد على فاعله لا يكون قذفا موجبا للحد ولو قال زنيت بناقة أو ببقرة أو بثوب أو بدرهم فعليه الحد لأن معنى كلامه زنيت بدرهم بدل لك وهذا أفحش ما يكون من الزنى أن تكتسب المرأة بفرجها.
فإن قيل: بل معنى كلامه زنيت بدرهم استؤجرت عليه فينبغي أن لا يحد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض.(9/220)
ص -107- ... قلنا هذا محتمل والبدل أيضا محتمل فتقابل المحتملان يبقى قوله زنيت فكأنه لم يزد على هذا حتى لو قال استؤجرت على الزنى بدرهم فلا حد على القاذف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فالحاصل أنه متى كان في آخر كلامه ما يحقق تمكينها منه جعل كلامه بمعنى التمكين وإذا لم يكن فيه احتمال ذلك جعل بمعنى البدل.
قال وإن قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو ما أشبه ذلك لا حد عليه لأنه نسبه إلى إتيان البهيمة فإن قال بأمة فعليه الحد فإن قال لرجل يابن الأقطع أو يابن المقعد أو يابن الحجام وأبوه ليس كذلك ليس عليه حد لأنه لا يراد بمثل هذه اللفظة نفيه عن أبيه وإنما يراد به وصف الأب بهذه الأوصاف كمن يقول لبصير يا أعمى أو يشبه به في الحرفة وكذلك لو قال يابن الأزرق يابن الأصفر أو الأسود وأبوه ليس كذلك ألا ترى أنه لو قال يابن السندي أو يابن الحبشي لا يكون قاذفا له بهذا فالمقصود تحقيره لا قذفه بهذا اللفظ ولو قال لعربي يا عبد أو يا مولى لا حد عليه لأنه صادق في مقالته فإنه عبد الله وليس بقاذف له بقوله يا مولى قال تعالى {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: 5] والمراد الورثة وبنو الأعمام وكذلك لو قال لعربي يا دهقان لا حد عليه وهذا من أعجب المسائل فلفظ الدهقان فينا للمدح والتعظيم وقد ذكره من جملة القذف وهذا لأن العرب كانوا يستنكفون من هذا اللفظ ولا يسمون به إلا العلوج فلا زالة الأشكال ذكره وبين أنه ليس بقذف فإن الدهقان اسم لمن له ضياع وأملاك وذلك يتحقق للعرب والعجم.(9/221)
قال ولو قال يا بني لا حد عليه لأن هذا اللفظ يذكر على وجه اللطف دون القذف فهو كقوله يا أخي وكذلك لو قال لرجل أنت عبدي أو مولاي فهذا دعوى الرق والولاء عليه فليس من القذف في شيء وإن قال يا يهودي يا نصراني أو يا مجوسي أو يابن اليهودي لا حد عليه لأن القذف بالكفر ليس في معنى القذف فإنه لا يشين المقذوف إذا كان إسلامه معلوما ولكنه يعزر لأن نسبة المسلم إلى الكفر حرام وبارتكاب المحرم يستوجب التعزير.
قال وإن قال يا زانى ء وأدخل فيه الهمزة وقال عنيت أنه يصعد على الجبل أو على شيء فعليه الحد ونيته باطلة لأن أصل الكلمة لغة بالهمزة فذكر الهمزة يقرره ولا يخرجه من أن يكون قذفا.
قال وإن قال زنأت في الجبل وقال عنيت الصعود فيه عليه الحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولا حد عليه في قول محمد فمحمد رحمه الله يقول أهل اللغة يستعملون هذا اللفظ مهموزا عند ذكر الجبل ويريدون به الصعود قال القائل:
وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل(9/222)
ص -108- ... وأكثر ما فيه أن تكون الكلمة مشتركة والحد لا يجب بمثله ولكنا نقول مطلق اللفظ محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم والعامة لا يفهمون من هذا اللفظ إلا الزنى فبهذا الطريق يلحق المقذوف الشين فيقام الحد على القاذف لدفع الشين عنه ألا ترى أنه لو لم يذكر الجبل كان قاذفا ملتزما للحد بأن قال زنأت فلا يتغير بذكر الجبل كما لو قال زنيت لا يفصل بين قوله زنيت في الجبل وبين قوله بدون ذكر الجبل وكذلك لو قال زنأت على الجبل يلزمه الحد فكذلك إذا قال زنأت في الجبل إلا أن محمدا رحمه الله يقول أهل اللغة إذا استعملوا الكلمة لمعنى الصعود يصلون به حرف في لا حرف على ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا كان المتكلم بهذا اللفظ لغويا ومن أصحابنا من يقول هو يصدق في أنه أراد به الصعود والأصح أنه لا فرق بين اللغوي وبين غيره لأن اللفظ محمول على ما هو المتعارف في عادة العوام من الناس وهو القذف بالزنى.
قال وإذا زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف أو وطىء وطئا حراما غير مملوك فقد سقط الحد عن القاذف لأن إحصان المقذوف شرط فلا بد من وجوده عند إقامة الحد وقد زال إحصانه بهذا الوطء وكذلك إذا ارتد المقذوف وإن أسلم بعد ذلك فلا حد على القاذف لأنه قد سقط الحد لزوال إحصانه بالردة وكذلك إن صار معتوها ذاهب العقل أو أخرس وبقي كذلك وبالخرس لا يزول إحصانه ولكن تتمكن شبهة من حيث أنه إذا كان ناطقا ربما يصدقه ولهذا شرط بقاء الخرس حتى إذا زال الخرس وطالب بالحد فله ذلك بمنزلة المريض يبرأ.
قال ومن قذف ولد ملاعنة أو ولد زنا في نفسه فعليه الحد لأنه محصن عفيف وإنما الذنب لأبويه وفعلهما لا يسقط إحصانه وإن قذف أمه فلا حد عليه أما ولد الزنى فلان قاذف أمه صادق لأنها زانية وأما ولد الملاعنة فإن أمه ليست بمحصنة لأنه كان في حجرها ولد لا يعرف له والد ومثله في صورة الزانيات لا يحد قاذفه.(9/223)
قال وإن اختلفا شاهدا القذف في اللغة التي قذف بها من الفارسية والعربية والنبطية فشهادتهما باطلة لأن اللفظ معتبر في القذف ألا ترى أنه لا يجب الحد إلا بصريح الزنى وعند اختلافهما في اللغة يتمكن الاختلاف في المشهود به وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال يابن الزانية والآخر أنه قال لست لأبيك فقد اختلفا في اللفظ المشهود به وكذلك لو تزوج مجوسي أمه ودخل بها ثم أسلما فقذفه إنسان فعليه الحد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا حد عليه عندهما إذا كان الدخول بحكم نكاح يتركان عليه بعد الإسلام وإن كان بحيث لا يتركان عليه بعد الإسلام كالنكاح بغير شهود فعلى قاذفهم الحد وهو بناء على أن عند أبي حنيفة رحمه الله لأنكحتهم حكم الصحة ما لم يسلموا وعندهما كل نكاح لا يتركان عليه بعد الإسلام فليس له حكم الصحة ولكن لا يتعرض لهم في ذلك لاعتقادهم ما لم يسلموا واعتقادهم لا يكون حجة على القاذف.(9/224)
ص -109- ... قال أربعة شهدوا على عبد أن مولاه أعتقه وأنه قد زنى وهو محصن فرجم ثم رجعوا عن شهادة الزنى والعتق فعليهم ضمان القيمة للمولى لأنهم أقروا عند الرجوع أنهم أتلفوا ماليته بشهادتهم عليه بالعتق وبالزنا بغير حق ويضربون الحد لإقرارهم أنه كان عفيفا وبطلان معنى الشهادة من كلامهم عند رجوعهم وإن شهد اثنان منهم على العتق فأعتقه ثم شهدا مع آخرين على الزنى عليه فرجم ثم رجع شاهد العتق عن العتق ولم يرجعا عن الزنى ورجع الآخران عن الزنى فعلى شاهدي العتق جميع القيمة للمولى لأن تلف المالية كان بشهادتهما عليه بالعتق وعلى الآخرين نصف الدية للورثة لأنه بقي على الشهادة بالزنى من يستحق بشهادته نصف النفس فإنما انعدمت الحجة في النصف فلهذا ضمن الراجعان نصف الدية وعليهما الحد وإن شهد الرجلان على عتقه فأعتقه ثم شهد هو وآخر مع شاهدي العتق على رجل بالزنى فرجمه ثم رجعا عن العتق جميعا ضمنا قيمته للمولى ولم يضمنا من دية المرجوم شيئا لأنه قد بقى على الشهادة بالزنى حجة تامة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وفي زعمهما أنه عبد ولا شهادة له على الزنى.
قلنا ولو شهد أربعة على الزنى فرجم ثم ظهر أن أحد الشهود عبد لا ضمان على الشهود ولا يمكن إيجاب ضمان النفس عليهما من أجل شهادتهما بعتقه لأنه ما رجم لعتقه وإنما رجم لزناه وقيل على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يجب الضمان عليهما لأنه يقول المزكى للشهود إذا رجع ضمن وهما بشهادتهما بحرية الشاهد صارا مزكيين له وقد رجعا عن التزكية فينبغي أن يجب عليهما الضمان ولكن الأصح أن لا يجب لأن الشاهد على الزنى لا يصح أن يكون مزكيا للشاهد معه فلا يمكن جعل شهادتهما بالعتق تزكية للشاهد معهما على الزنى ولأن قضاء القاضي بالعتق لا يبطل برجوعهما فتبقى الحجة على الزنى تامة فلهذا لم يضمنا من دية المرجوم شيئا ولا حد عليهما.(9/225)
قال ولو أن صبيا زنى بصبية مطاوعة لا حد عليهما لانعدام الأهلية للعقوبة فيهما وعلى الصبي المهر في ماله لأنه ضمان الفعل والصبي أسوة البالغ في المؤاخذة بضمان الفعل بحق العباد إنما لا يؤخذ بضمان القول ولهذا لو كان أقر بالوطء لا يلزمه شيء.
قال ولو زنى الصبي بامرأة فأذهب عذرتها وشهد عليه الشهود بذلك فعليه المهر إذا استكرهها وإن كانت دعته إلى نفسها فلا مهر عليه لأنها رضيت بسقوط حقها ورضاها معتبر لكونها بالغة ولأنها صارت مستعملة للصبي ومن استعمل صبيا في شيء لحقه فيه ضمان ثبت لوليه حق الرجوع على المستعمل فلا فائدة في إيجاب المهر لها إذا طاوعته والمجنون في ذلك بمنزلة الصبي ولو كانت صبية أو مجنونة دعته إلى نفسها فالمهر واجب لأنها ليست من أهل الرضى بسقوط حقها ولأن اشتغالها بالأمر غير مثبت حق الرجوع عليها لإهدار قولها.(9/226)
ص -110- ... قال رجل قال لرجل أنت أزنى من فلان فلا حد عليه لأن افعل يذكر بمعنى المبالغة في العلم فكان معنى كلامه أنت أعلم بالزنى من فلان أو أنت أقدر على الزنى من فلان وكذلك لو قال أنت أزنى الناس أو أزنى الزناة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنت أزنى من فلان الزاني أو أزنى الزناة فعليه الحد لأنه بين بآخر كلامه أن المراد المبالغة في وصفه بفعل الزنى وكذلك قوله أزنى الناس لأن في الناس زان فهو كقوله أزنى الزناة بخلاف قوله أنت أزنى من فلان.
قال رجل زنى بخرساء أو أخرس زنى بامرأة لا حد عليه لأن الأخرس لو كان ناطقا ربما يدعي شبهة يسقط به الحد عن نفسه وعن صاحبه والخرس يمنعه من إظهار تلك الشبهة ولا يجوز إقامة الحد مع تمكن الشبهة بخلاف ما إذا زنى صحيح بمجنونة فعليه الحد لأن المجنونة ليست من أهل أن تدعى الشبهة وامتناع وجوب الحد لمعنى فيها وهو الجنون لا لشبهة في الفعل فهو نظير الزنى بمستكرهة.
قال ولو سرق رجلان سرقة واحدة وأحدهما أخرس أو مجنون لا قطع على واحد منهما لأن الفعل هنا واحد فإذا لم يكن موجبا للقطع على أحدهما لا يكون موجبا على الآخر فأما في الزنى كل واحد من الزانيين مباشر لفعل آخر إذ لا مجانسة بين الفعلين لأن فعله الإيلاج وفعلها التمكين فجنونها لا يعدم التمكين فلا يتمكن فيه نقصان فيكون فعل الرجل في الإيلاج مخصوصا بكمال الزنى فلهذا لزمه الحد.
قال وإذا شهد الشاهدان على رجل بالزنى وآخران على إقراره بالزنى لا حد عليه لأن الشهادة على الإقرار لغو في إيجاب حكم الحد فإن المشهود عليه جاحد ومن ضرورة جحوده الرجوع عن إقراره ولأنهم اختلفوا في المشهود به فشهد اثنان بالفعل والآخران بالقول ولا حد عليهم لأن الذين شهدوا على الإقرار ما نسباه إلى الزنى والآخران وإن نسباه إلى الزنى فشهادة الشاهدين على الإقرار يسقط الحد عنهما لأنهما شهدا على تصديق المقذوف والتصديق يثبت بشهادة شاهدين.(9/227)
قال وإن شهد ثلاثة بالزنى وواحد بالإقرار به فعلى الثلاثة الحد لأنهم قذفوه بالزنى وليس على التصديق إلا شاهد واحد وشهادة الواحد لا تثبت التصديق.
قال وإذا ضرب العبد حد القذف أربعين سوطا ثم أعتق لم تجز شهادته أبدا لوجهين أحدهما أن الأربعين حد في حقه وإقامة الحد عليه جرح في عدالته وحكم بكذبه فيسقط به شهادته على التأبيد كما في حق الحر ولأن العبد ليس من أهل الشهادة ورد الشهادة من تتمة الحد فيتوقف ذلك على صيرورته من أهل الشهادة وبالعتق صار من أهل الشهادة الآن فيصير مردود الشهادة تتميما لحده وكذلك إذا ارتد المحدود في قذف ثم أسلم لم تقبل شهادته لأن(9/228)
ص -111- ... الكفر لم يزده إلا شرا وإذا صار مردود الشهادة على التأبيد فبالردة لا يصير مقبول الشهادة فإن ضرب الكافر حد القذف ثم أسلم جازت شهادته لأن الكافر محكوم بكذبه ولكن يزول ذلك بإسلامه ويستفيد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة حين أقيم عليه الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة.
توضيحه أن الكافر ليس من أهل الشهادة فيصير مردود الشهادة بإقامة الحد عليه ويتم به حده ثم بالإسلام استفاد شهادة حادثة لم تكن موجودة عند إقامة الحد عليه فلهذا قبلت شهادته.
قال أربعة كفار شهدوا على كافر أنه زني بامرأتين كافرتين فلما قضي بالحد عليهم أسلم الرجل والمرأتان بطل الحد عنهم جميعا لأن الحجة لم تبق عليهم بعد الإسلام فشهادة الكفار لا تكون حجة على المسلمين ولا يمكن إقامة الحد بغير حجة وإن أسلمت إحدى المرأتين سقط عنها الحد وبقي الحد على الأخرى لبقاء الحجة في حقها وكذلك على الرجل لأن الحجة في الزنى بالتي هي باقية على الكفر باق وذلك كاف في إقامة الحد عليه وكذلك إن شهدوا على كافرين بالزنى بامرأة واحدة فإن أسلمت المرأة درى ء الحد عنها وعن الرجلين كما لو كانت مسلمة عند الشهادة وإن أسلم أحد الرجلين درئ الحد عنه خاصة ويقام الحد على الرجل الآخر والمرأة لبقاء الحجة الكاملة عليه في زناه بها.(9/229)
قال وإذا جنت الأمة جناية عمدا فيها القصاص فوطئها الولي ولم يدع شبهة فليس عليه الحد لوجهين أحدهما أن من العلماء من يقول أن لولي الجناية حق التملك إن شاء وهذا قول معتبر فإنه لا فرق في حق المولى بين أن يتلف ماليته باستيفاء القصاص وبين أن يتلف بتمليك الولي إياها عليه وفيه منفعة للولي سواء استوفى القصاص أو تملكها فله أن يختار أي الوجهين شاء فإذا ثبت له حق التملك فيها على قول بعض الفقهاء يصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه ولأن الوطء إتلاف جزء منها لأن المستوفى بالوطء في حكم الجزء من العين فإذا صار إتلاف الكل حقا له شرعا يصير ذلك شبهة في إتلافه جزءا منها والحد يسقط بالشبهة ثم يلزمه العقر لسيدها لأنه وطء في غير الملك فلا يخلو عن الحد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة فعليه العقر ويكون للسيد بمنزلة كسبها لأن حق من له القصاص في استيفاء القصاص فلا يثبت في المال والعقر والكسب مال فيكون لمولاها بملكه رقبتها وإن كانت الجناية خطأ فوطئها الولي ففي القياس عليه الحد وبه يأخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى سواء اختار المولى الدفع أو الفداء.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن اختار المولى الفداء فكذلك الجواب وإن اختار الدفع فلا حد عليه استحسانا لأن بالجناية الخطأ لم يثبت للولي حق التملك فيها وهذا لأن موجب جناية الخطأ يكون على أقرب الناس من الجاني ألا ترى أن في الحر موجب جنايته(9/230)
ص -112- ... على العاقلة وفي المملوك موجب جنايته على المولى لأنه أقرب الناس إليه ولهذا خير بين الدفع والفداء فإن اختار الفداء فقد وصل إلى ولي الجناية حقه وبقيت الجارية مملوكة للمولى كما كانت فتبين أنه وطئها ولا شبهة له فيها فكان عليه الحد فإن اختار الدفع فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن موجب الجناية كان على المولى ولكنه كان متمكنا من اختيار الدفع بأن يقول هذا الشغل إنما لحقني بجنايتها على أن أدفعها لا خلص نفسي من هذا الشغل فكان هذا ملكا حادثا للولي فيها بعد تقرر فعل الزنى فلا يسقط به الحد وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يسقط الحد استحسانا لأن حق ولي الجناية في رقبتها وإن كان المولى متمكنا من تحويل الحق عن الرقبة باختيار الفداء بدليل أنها لو هلكت يسقط حق ولى الجناية وإنما سقط لفوات محل حقه فإذا تقرر حقه في محله باختيار المولى الدفع فإنما يملكها بسبب تلك الجناية وتبين أنها وطئها وله فيها سبب ملك فيسقط الحد كمن اشترى جارية على أن البائع بالخيار فوطئها المشتري ثم اختار البائع البيع فلا حد على المشتري ولكن هذا ضعيف لأنه لو كان له فيها سبب ملك لم يلزمه الحد وإن اختار المولى الفداء كما في المشتراة بشرط الخيار للبائع فلا حد على المشتري وإن فسخ البيع فيها وحيث وجب الحد هنا عند اختيار الفداء عرفنا أنه ليس فيها سبب ملك ثم ذكر في بعض النسخ فصلا وهو أنه زنى بجارية ثم اشتراها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يحد ولا حد عليه في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فإن كان جواب هذا الفصل هكذا فلا حاجة إلى التكلف الذي قلنا في مسألة الدفع بالجناية لأن الملك الحادث بعد وجوب الحد قبل الاستيفاء عند أبي يوسف رحمه الله تعالى مسقط للحد وقد ثبت ذلك للولي بدفع الجارية إليه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يكون مسقطا للحد ولكن في هذا الفصل اختلاف الرواية في النوادر فذكر(9/231)
أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى أن من زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها لا حد عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعليه الحد في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى في نوادره على عكس هذا قال على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى عليه الحد في الوجهين جميعا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا حد عليه في الوجهين جميعا وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا زنى بأمة ثم اشتراها فلا حد عليه وإن زنى بحرة ثم تزوجها فعليه الحد.
فأما وجه الرواية التي قال لا حد عليه في الفصلين أن الملك في المحل لو اقترن بالفعل كان مانعا وجوب الحد فإذا طرأ بعد الوجوب قبل الاستيفاء يكون مسقطا للحد كملك السارق العين المسروقة بعد ما وجب عليه القطع والعمى والفسق في الشهود بعد وجوب الحد قبل الاستيفاء وهذا لأنه لو أقام الحد عليه إنما أقام بوطئه امرأة هي زوجته في الحال وذلك لا يجوز.(9/232)
ص -113- ... وجه الرواية التي قال يقام الحد في الفصلين أن وجوب الحد باعتبار المستوفى والمستوفى مثلا شيء فبالنكاح والشراء بعد الاستيفاء لا يثبت له الملك في المستوفي فلا يسقط الحد بخلاف السرقة فإن وجوب القطع على السارق باعتبار العين وقد ملك تلك العين فسقط القطع عنه بالشبهة وجه رواية الحسن في الفرق بين النكاح والشراء أنه بالشراء يملك عينها وملك العين في محل الحرث سبب لملك الحل فيجعل الطارئ قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب كما في باب السرقة فأما بالنكاح لا يملك عين المرأة وإنما يثبت له ملك الاستيفاء ولهذا لو وطئت بالشبهة كان المهر لها فلا يورث ذلك شبهة فيما تقدم استيفاؤه منها فلهذا لا يسقط الحد عنه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.(9/233)
ص -114- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب السرقة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى السرقة لغة أخذ مال الغير على وجه الخفية سمى به لأنه يسارق عين حافظه ويطلب غرته ليأخذه أو يسارق عين أعوانه على الحفظ بأن يسامره ليلا لأن الغوث بالليل قل ما يلحقه وهي نوعان صغرى وكبرى فالكبرى هي قطع الطريق لأنه يأخذ المال في مكان لا يلحق صاحبه الغوث ويطلب غفلة من التزم حفظ ذلك المكان وهو السلطان والعقوبة تستحق بكل واحد من الفعلين على حسب الجريمة في الغلظ والخفة فهذا الكتاب لبيان هذين الحدين وكل واحد منهما ثابت منهما بالنص أما في السرقة الصغرى الواجب بالنص قطع اليد قال الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] والواجب بأخذ المال في السرقة الكبرى قطع يد ورجل قال الله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية وكل واحد من الحدين عقوبة فإن الله عز وجل سمى أحدهما نكالا والآخر خزيا بقوله تعالى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] وكل واحد منهما جميع موجب الفعل فقد سمى كل واحد منهما جزاء وفيه إشارة إلى الكمال يقال خزي أي قضي وجزأ بالهمزة أي كفي فعرفنا أنه جميع موجب الفعل وإن كان كل واحد منهما مستحقا حقا لله تعالى لأن الجزاء على الأفعال المحرمة من العباد يكون حقا لله تعالى وفيه إشارة إلى أن الفعل محرم العين وإن عصمة المال فيما يرجع إلى موجب الفعل لله تعالى خالصا واختلف العلماء بعد هذا في السرقة الصغرى قال فقهاء الأمصار رضي الله عنهم المستحق قطع اليد اليمني من الرسغ وقال الخوارج إلى المنكب لأن اليد اسم للجارحة من رؤس الأصابع إلى الآباط وقال بعض الناس المستحق قطع الأصابع فقط لأن بطشه كان(9/234)
بالأصابع فتقطع أصابعه ليزول تمكنه من البطش بها وهو مخالف للنص والمنصوص قطع اليد وقطع اليد قد يكون من الرسغ وقد يكون من المرفق وقد يكون من المنكب ولكن هذا الإبهام زال ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أمر بقطع يد السارق من الرسغ ولأن هذا القدر متيقن به وفي العقوبات إنما يؤخذ بالمتيقن فأما قوله جل وعلا {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فقد قيل المراد يحاربون أولياء الله فإن أحدا لا يحارب الله تعالى ولكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو أصل في اللغة وقيل المراد بيان أن قاطع الطريق كأنه يحارب الله تعالى لأن المسافر في المفاوز في أمان الله تعالى،(9/235)
ص -115- ... وحفظه فالمتعرض له كأنه يحارب الله تعالى وهو نظير قوله سبحانه وتعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] فإن أحدا لا يشاقق الله حقيقة ولكن راد أمر الله تعالى كأنه يشاقق الله تعالى وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى أن نزول الآية في المرتدين واستدلوا عليه بحديث أنس رضي الله عنه أن العرنيين لما ارتدوا وقتلوا الرعاة وساقوا إبل الصدقة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم وجيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فنزلت الآية ولكن الأصح أن نزول الآية في الذين قطعوا الطريق من غير المرتدين لأن في الآية بيان عقوبة تستحق بقطع الطريق وقيل المرتد يستحق القتل قطع الطريق أو لم يقطع وإنما سبب نزول هذه الآية الذين قطعوا الطريق وما بدأ به محمد الكتاب ورواه عن أبي يوسف رحمه الله تعالى عن الكلبي عن أبي صالح عن بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.(9/236)
قال وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان في الشرك فقوله وادع يحتمل المؤقتة وهي الأمان ويحتمل المؤبدة وهي الذمة فأجرى أبو يوسف رحمه الله تعالى الكلمة على ظاهرها وقال يقام حد قطاع الطريق على المستأمنين وأهل الذمة بدليل الحديث وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا المراد الموادعة المؤبدة وهي عقد الذمة لأنه قد ثبت بالنص وجوب تبليغ المستأمنين مأمنهم والآية وإن نزلت في الكفار فالحكم غير مقصور عليهم لأن السبب الموجب للعقوبة قطع الطريق بالنص ففي حق كل من تقرر السبب ثبت الحكم ولكن بعد أن يصير محاربا بقطع الطريق والمستأمن محارب وإن لم يقطع الطريق لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب والمحارب بقطع الطريق يكون من أهل دارنا وقوله فجاء أناس يريدون الإسلام قيل معناه قد أسلموا فجاؤا يريدون الهجرة لتعلم أحكام الشرع وقيل بل جاؤا على قصد أن يسلموا ومن جاء من دار الحرب على هذا القصد فوصل إلى دار الإسلام فهو بمنزلة أهل الذمة والحد يجب بقطع الطريق على أهل الذمة كما يجب بقطع الطريق على المسلمين بخلاف المستأمنين على ما بيناه ثم في هذا الحديث دليل على أن هذا الحد مشروع على الترتيب بخلاف ما يقوله مالك رضي الله عنه أنه على التخيير بظاهر حرف أو وهذا لأن الجناية تختلف منه بمباشرة القتل أو أخذ المال أو إخافة الناس والعقوبة بحسب الجناية فيستحيل أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظ الأنواع فعرفنا أنها مرتبة كما ذكر في الحديث فظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب دليل لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أن(9/237)
الإمام لا يشتغل بقطع يده ورجله بهذه الحالة ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول المراد بيان ما يختص به بهذه الحالة فأما قطع اليد والرجل عند أخذ المال مبين في الحديث ألا ترى أنه لم يذكر القتل في هذه الحالة لأنه مبين في حق من قتل،(9/238)
ص -116- ... ولم يأخذ المال فأقول الإمام يتخير في هذه الحالة بين أن يقطع يده ورجله ثم يقتله ويصلبه أو يقتله ويصلبه ثم يطعن تحت تندوته اليسرى فيقتله على خشبة.
ففي ظاهر المذهب يتخير بين أن يصلبه حيا وبين أن يقتله ثم يصلبه وذكر الطحاوي أنه لا يصلبه قبل القتل فإن ذلك مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكن في هذا الحديث دليل على أن له ذلك لتحقيق معنى الخزي في حقه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يتركه على خشبته أبدا إلى أن يسقط لتحقيق معنى الخزي وليعتبر به غيره فأما قوله عز وجل {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فهو غير مذكور في هذا الحديث والمراد عندنا الحبس في حق من خوف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل لأنه إما أن يكون المراد نفيه من جميع الأرض وذلك لا يتحقق ما دام حيا أو المراد نفيه من بلدته إلى بلدة أخرى وبه لا يحصل المقصود وهو دفع أذيته عن الناس أو يكون المراد نفيه عن دار الإسلام إلى دار الحرب وفيه تعريض له على الردة فعرفنا أن المراد نفيه من جميع الأرض إلى موضع حبسه فإن المحبوس يسمى خارجا من الدنيا قال القائل:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا(9/239)
والشافعي رحمه الله تعالى يقول المراد إتباعه حتى لا يتمكن من القرار في موضع فذلك نفيه من الأرض فأما قوله من جاء مسلما هدم الإسلام ما كان في الشرك فهو معنى قوله جل وعلا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وفيه كلام نبينه في بابه ثم الإسلام يهدم ما كان في الشرك من الجناية على خالص حق الله تعالى قال الله جل وعلا {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله" والتوبة قبل قدرة الإمام عليه مسقطة لهذه العقوبة بالنص على ما نبينه إن شاء الله تعالى وذكر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقطع اليد إلا في ثمن المجن وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم وفيه دليل على أن النصاب في المسروق معتبر لإيجاب القطع على السارق وهو قول فقهاء الأمصار وأصحاب الظواهر يقولون لا يعتبر النصاب فيه وقد نقل ذلك عن الحسن البصري رحمه الله تعالى واستدلوا بالآية فإن الله عز وجل قال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الأنفال: 38] يعني بالسرقة لأن السارق اسم مشتق من فعل والفعل الذي اشتق منه الاسم يكون علة للحكم ولكن السرقة لا تتحقق إلا بصفة المالية والمملوكية والحرز فإن أخذ المال المباح يسمى اصطيادا أو احتطابا لا سرقة وكذلك ما ليس بمحرز محفوظ فأخذه لا يكون سرقة لانعدام مسارقة عين الحافظ فشرطنا ما يقتضيه اسم السرقة وليس في اسم السرقة ما يدل على النصاب فالسرقة تتحقق في القليل والكثير فاشتراط النصاب يكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ وفي الحديث أن صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله السارق(9/240)
ص -117- ... يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" والبيضة قد لا تساوي أكثر من فلس ولا يجوز أن يقال المراد بيضة الحديد وحبال السفن واللؤلؤ لأن المقصود بيان حقارة السارق وفي حمله على ما قلتم تفويت هذا المقصود ولكنا نقول لما كان في اسم السرقة ما ينبئ عن صفة الإحراز صار كون المال محرزا شرطا بالنص وشرائط العقوبة يراعى وجودها بصفة الكمال لما في النقصان من شبهة العدم والإحراز إنما يتم في المال الخطير دون الحقير فالقليل لا يقصد الإنسان إحرازه عادة وإليه أشارت عائشة رضي الله عنها في قولها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه فصار ما يتم به الإحراز وهو كون المال خطيرا ثابتا بالنص والمراد من الحديث بيضة الحديد إلا أن صاحب الشرع وإن ذكره لإظهار حقارة السارق فقد أضمر في كلامه هذا المعنى ليحصل المقصود ويكون كلامه حقا على ما روى أنه كان يمازح ولا يقول إلا حقا وقيل إن هذا كان في الابتداء لزيادة التغليظ والتشديد ثم انتسخ بالآثار المشهورة باعتبار النصاب في المسروق ثم اختلفوا في مقدار النصاب فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى عشرة دراهم أو دينار وقال الشافعي رحمه الله تعالى ربع دينار وقال مالك رحمه الله ثلاثة دراهم وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى خمسة دراهم وقال عكرمة رحمه الله تعالى أربعة دراهم وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما أربعون درهما واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بحديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال "القطع في ربع دينار فصاعدا" ولأنهم اتفقوا على أن القطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن واختلف في ثمن المجن وعند الاختلاف في القيمة يؤخذ بالأقل كما إذا اختلف المقومون في قيمة المسروق يؤخذ بالأقل في ذلك فأقل ما نقل فيه ثلاثة دراهم فلهذا قدر مالك رحمه الله تعالى(9/241)
النصاب به وقد كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما فثلاثة دراهم يكون ربع دينار وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يستدل بحديث عثمان رضي الله عنه لا تقطع الخمس إلا بخمسة يعني اليد التي عليها خمسة أصابع لا تقطع إلا بخمسة دراهم ومن اعتبر بأربعين استدل بحديث عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه فكانت تقطع في ثمن المجن وهو كان يومئذ ذا ثمن وهذا منها إشارة إلى أنه كان مالا خطيرا والخطير ما يكون مقدارا يعتبر لإيجاب الزكاة فيه وأدنى ذلك الأربعون في نصاب الشياه وعلماؤنا رحمهم الله استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم" وعن بن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا لا تقطع اليد إلا في دينار أو في عشرة دراهم وهكذا عن علي رضي الله عنه وفي الحديث المعروف لا مهر أقل من عشرة ولا قطع في أقل من عشرة دراهم وعن أيمن بن أبي أيمن وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن المجن الذي قطعت اليد فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يساوي عشرة دراهم والرجوع إلى قولهم أولى لأنهم من جلة الغزاة فكانوا أعرف بقيمة(9/242)
ص -118- ... السلاح من غيرهم وليس هذا من جملة ما قال أن الأخذ بالأقل أولى لأن في قيمة المسروق إنما يؤخذ بالأقل لدرء الحد وذلك يوجب أن يؤخذ بالأكثر ها هنا لأن معنى درء الحد فيه وقد روى أن عمر رضي الله تعالى عنه أتى بسارق سرق ثوبا فأمر بقطع يده قال عثمان رضي الله عنه أن سرقته لا تساوي عشرة دراهم فأمر بتقويمه فقوم بثمانية دراهم فدرأ الحد عنه فدل أنه كان ظاهرا معروفا فيما بينهم أن النصاب يتقدر بعشرة دراهم ويعتبر نصاب الحد بنصاب المهر وقد قامت الدلالة لنا على أن أدناه عشرة دراهم والمستحق بكل واحد منهما ماله خطر وهو مصون عن الابتذال فلا يستحق إلا بمال خطير والحديث الذي رواه عن عائشة رضي الله عنها اضطرب أهل الحديث فيه وأكثرهم على أنه غير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان القاسم بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى إذا سمع من يروي هذا الحديث مرفوعا رماه بالحجارة والدليل عليه ما اشتهر من قول عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه وكانت تقطع في ثمن المجن فلو كان عندها نص لما اشتغلت بهذا الجواب المبهم ثم يحتمل أنه كان التقدير بربع دينار في الابتداء ثم انتسخ ذلك بعشرة دراهم ليكون الناسخ أخف من المنسوخ قال الله جل وعلا {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ثم في ظاهر الرواية المعتبر عشرة دراهم من النقرة المضروبة حتى روى بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا سرق نقرة لا تساوي عشرة دراهم مضروبة فلا قطع عليه وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر عشرة دراهم من النقد الغالب بعد أن تكون الفضة فيها غالبة على الغش وأما ما يغلب عليه الغش فهو من الفلوس لا من الدراهم والأول أصح لما بينا أن شرط العقوبة يراعى وجوده بصفة الكمال فإذا كانت الدراهم مغشوشة فالغش ليس من الفضة في شيء ولو أوجبنا القطع عليه كان(9/243)
إيجاب القطع في موضع الشبهة وما يندرئ بالشبهات لا يستوفى مع الشبهة فلهذا اعتبرنا عشرة دراهم من النقرة المضروبة ثم المعتبر عشرة دراهم من وزن سبعة فإنه هو المعتبر في وزن الدراهم في غالب البلدان وقد بينا تفسير ذلك فيما أمليناه من شرح الإفرار وعن بن مسعود وابن عباس وإبراهيم رضوان الله عليهم أجمعين قالوا إذا أصاب من الحدود فيها القتل قتل وألغي ما سوى ذلك معناه ما سوى ذلك من الحدود التي حق لله تعالى فأما ما فيه حق العباد كحد القذف والقصاص في الطرف فلا بد من استيفائه مقدما لمراعاة من له الحق وفي حقوق الله تعالى القتل أهم وفي معنى الزجر أتم فيبدأ به ثم لا فائدة في الجلد والقطع بعده بهذا استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أن قاطع الطريق إذا استحق قتله لا يشتغل بقطع يده ورجله وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن المراد في الحدود لا في حد واحد وحد قاطع الطريق واحد ولا تداخل في أجزاء حد واحد فللإمام أن يقطع يده ورجله ثم يقتله لتحقيق معنى التغليظ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا بحضرته فإنما شهدوا على ضغن قال الحسن رحمه الله في حديثه ولا شهادة لهم والمراد الحدود التي هي(9/244)
ص -119- ... محض حق الله تعالى والشهادة عليها بطريق الحسبة من غير أن ينبني على خصومة في الحد كالزنا والسرقة وشرب الخمر وأما حد القذف فالشهادة عليه تنبني على الدعوى والخصومة في الحد فلا يمتنع قبولها بتقادم العهد وعن علي رضي الله عنه في رجل أخذ وقد نقب البيت ولم يأخذ المتاع قال لا حد عليه وبه نأخذ فإن سبب وجوب الحد ما لم يتم لا يجب الحد وتمام السرقة بإخراج المال من الحرز وهذا لأن الحد يتعلق بما هو المقصود من كل نوع ولهذا لم يجب حد الزنى إلا بالإيلاج في الفرج والمقصود في السرقة إخراج المال دون هتك الحرز فإن أخذ قبل إخراج المال فقد انعدم ما هو المقصود فلا حد عليه وعن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا في كثر" وبه نقول فالثمر اسم الرطب المعلق على الأشجار وهو مما يتسارع إليه الفساد ولا قطع عندنا في سرقة ما يتسارع إليه الفساد.
فإن قيل: المراد ثمار المدينة فإنها على رؤوس الأشجار وهي لا تكون محرزة لقصر الحيطان.(9/245)
قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على المعنى المانع من وجوب الحد والقطع وهو كون المسروق ثمرا وفي الحمل على ما قلتم تعطيل هذا السبب وإحالة الحكم إلى سبب آخر فأما الكثر فقد قبل المراد به الجمار هكذا قال يحيى بن سعيد وقال غيره هو الودى وهو النخل الصغار وقد حكي أن غلاما سرق وديا فغرسه في أرض مولاه فأتى به مروان فأمر بقطعه فجاء مولاه إلى رافع بن خديج رضي الله عنه فأخبره بذلك فقال لا قطع عليه فسأله أن يأتي معه مروان فقام إليه وقد روى الحديث أن صلى الله عليه وسلم قال "لا قطع في ثمر ولا في كثر" فدرأ الحد مروان وعن الحسن رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في الطعام المهيأ للأكل" فإن ذلك مما يتسارع إليه الفساد ولا يمكن إدخاره وأما الحنطة ونحوها يتعلق بسرقها القطع بعد تمام الإحراز وقبل تمام الإحراز لا يتعلق بها القطع لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن جريسة الجبل فقال "هي ومثلها والنكال وإذا جمعها المراح ففيها القطع" وفي رواية ففيها غرم مثله وجلدات نكال وفي رواية فإذا آواها الجرين وبلغ ثمن المجن ففيها القطع وقيل المراد لا قطع في عام السنة وهي زمان القحط لأن الضرورة تبيح التناول من مال الغير بقدر الحاجة فيمنع ذلك وجوب القطع لما روى عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا قطع في مجاعة مضطر" وذكر عن الحسن عن رجل قال رأيت رجلين مكتوفين ولحما فذهبت معهم إلى عمر رضي الله عنه فقال صاحب اللحم كانت لنا ناقة عشراء ننتظرها كما ينتظر الربيع فوجدت هذين قد اجتزراها فقال عمر رضي الله عنه هل يرضيك من ناقتك ناقتان عشراوان مربعتان فإنا لا نقطع في العذق ولا في عام السنة وكان ذلك في عام السنة والعشراء هي الحامل التي أتى عليها عشرة أشهر وقرب ولادتها فهي أعز ما يكون عند أهلها ينتظرون الخصب،(9/246)
ص -120- ... والسعة بلبنها كما ينتظرون الربيع وقوله فإنا لا نقطع في العذق منهم من يروي في العرق وهو اللحم والأشهر العذق وهو الكباسة ومعناه لا قطع في عام السنة للضرورة والمخمصة وقد كان عمر رضي الله عنه في عام السنة يضم إلى أهل كل بيت أهل بيت آخر ويقول لن يهلك الناس على إنصاف بطونهم فكيف نأمر بالقطع في ذلك وعن علي رضي الله عنه في الخلسة قال تلك الدعارة المغالبة لا قطع فيها وفي رواية الغالبة فهذا منه منه إشارة إلى أن القطع إنما يتعلق بفعل السرقة والخلسة لا تكون سرقة فإن المختلس يستدير صاحب المتاع ولا يسارق عينه وعن إبراهيم قال لا قطع على سارق الحر الصغير وإن سرق مملوكا قطع وبه نأخذ والحر ليس بمال بخلاف المملوك وفي الصغير يتحقق فعل السرقة وفيه اختلاف لأبي يوسف رحمه الله تعالى نبينه وعن علي رضي الله عنه في السارق تقطع يده اليمني فإن عاد قطعت رجله اليسرى فإن عاد استودعته السجن إني لأستحي من الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل بها ورجلا يمشي عليها وذكر في الأصل أنه عرض السجون فأتي برجل قد قطعت يده ورجله وقد سرق فقال ما ترون فيه قال بعضهم تقطع يده اليسرى فقال ليس ذلك عليه فبأي شيء يستنجي ويرفع لقمته وقال بعضهم تقطع رجله اليمني فقال ماذاك عليه فبأي شيء يمشي إلى حاجته قال إبراهيم رحمه الله تعالى وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من قال أقطعه حتى آتي على قوائمه كلها يريد به قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنهم من قال أقطع يده ورجله ثم أحبسه يريد به قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما قال هذا أحب إلي وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى لأن القطع شرع زاجرا لا متلفا وفي تفويت منفعة الجنس إتلاف حكمي على ما أشار إليه علي رضي الله عنه وسيأتي بيان هذا الفصل وذكر عن بن عمر رضي الله عنهما قال أضاف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقطع اليد والرجل فكان يصلى بالليل فقال له أبو بكر رضي الله(9/247)
عنه من قطعك فقال يعلى بن أمية باليمن قال أبو بكر رضي الله عنه ماليلك بليل سارق ثم أغار على حلي لأسماء فسرقه ثم أصبح يدعو مع القوم على من سرق أهل البيت الصالح وفي رواية كان يقول اللهم أظهر فلم يقم القوم حتى أتى بصائغ بالمدينة عنده الحلى فقال أتانى به هذا الاقطع واعترف فقال أبو بكر رضي الله عنه لعزته بالله أعز على من سرقته وفي رواية ما أجهلك بالله فقال عمر رضي الله عنه والله لا أبرح حتى يقطع فقطعت يده اليسرى وقد ذكرنا في كتاب الإكراه أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضي الله عنه رجله اليسرى وليس لحكاية الحال عموم فعند اختلاف الرواية فيه يضعف الاستدلال به والإشكال في الحديث أنه كان ضيفا عند أبي بكر رضي الله عنه والضيف إذا سرق من بيت المضيف لا يقطع لأنه مأذون بالدخول في الحرز ولكن تأويله أن بيت الضيافة لأبي بكر رضي الله عنه كان منفصلا عن بيت العيال فلم يكن الضيف مأذونا في بيت العيال فلهذا قطعه وفيه دليل على أنه لا يعتمد على ظاهر حال الرجل في دعائه وصلاته وقد كان يصلي بالليل ثم كان مقصوده السرقة لا الصلاة وتمام فوائد الحديث نبينه في الإكراه إن(9/248)
ص -121- ... شاء الله تعالى وذكر عن يزيد بن خصيف رضي الله عنه قال أتى صلى الله عليه وسلم بسارق فقال "أسرقت ما أخاله سرق" فقال نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به" ففعلوا به ذلك فقال "تب إلى الله" فقال تبت إلى الله تعالى فقال"اللهم تب عليه" وفيه دليل على أن الإمام مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد وتلقين المقر الرجوع ويدل عليه ما رواه عن أبي الدرداء أنه أتى بسارق أو بسارقة فقال أسرقت قولي لا وعن بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أتى بسوداء يقال لها سلامة فقال أسرقت قولي لا قالوا أتلقنها قال جئتموني بأعجمية لا تدري ما يراد بها حين تفسر فاقطعها وفيه دليل على أن المقر بالسرقة إذا رجع درى ء عنه الحد وأن الرجل والمرأة في ذلك سواء وإن للإمام أن ينيب غيره منابه ليستوفي الحد لا بحضرته فإنه عليه الصلاة والسلام قال "اذهبوا به فاقطعوه" وفيه دليل على أن القطع للزجر لا للإتلاف لأنه أمر بالحسم بعد القطع وهو دواء وإصلاح يتحرز به عن الإتلاف وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل بالحد إذا كان مصرا على ذلك ولأنه خزي ونكال وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب فإنه دعاه إلى التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم "تب إلى الله" وفيه دليل على أن التوبة لا تتم بقوله تبت فإنه صلى الله عليه وسلم قال "اللهم تب عليه" وتمام التوبة بالندم على ما كان منه والعزم على أن لا يعود إليه من بعد مع الوجل فيما بين ذلك.(9/249)
قال وإن شهد شاهدان على رجل بالسرقة سئلا عن ماهيتها وكيفيتها لأن مبهم الاسم محتمل فإن من يستمع كلام الغير سرا يسمى سارقا قال الله تعالى {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] ويقال سرق لسان الأمير ومن لا يعتدل في الركوع والسجود يسمى سارقا قال صلى الله عليه وسلم "إن أسوأ الناس سرقة من يسرق من صلاته" فيستفسرهما عن الماهية والكيفية لها ولأن المسروق قد يكون مالا متقوما وقد يكون غير مال وقد يكون محرزا أو غير محرز وقد يكون نصابا وما دونه فلا بد أن يسألهما عن الماهية والكيفية وينبغي أن يسألهما متى سرق وأين سرق كما بيناه في الزنى لأن حد السرقة لا يقام بعد تقادم العهد ولا يقام على من باشر السبب في دار الحرب فيسألهما عن ذلك ولم يذكر السؤال ممن سرق لأن المسروق منه حاضر يخاصم والشهود يشهدون بالسرقة منه ولا حاجة إلى السؤال عن ذلك فإذا بينوا جميع ذلك والقاضي لا يعرف الشاهدين حبسه حتى يسأل عنهما لأنه صار متهما بارتكاب الحرام فيحبس ولا يمكن التوثق بالكفيل لأنه لا كفالة في حقوق الله تعالى ولا يتمكن من القضاء قبل ظهور عدالتهما لأن القطع يتعذر تلافيه عند وقوع الغلط فيه فلهذا حبسه فإن زكيا وقيمة المسروق نصاب كامل والمسروق منه غائب لم يقطع إلا بحضرته وكان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول لا حاجة إلى حضرة المسروق منه وتقبل الشهادة على السرقة وحبسه كالزنا لأن المستحق بكل واحد منهما حد هو خالص حق الله تعالى والشافعي رحمه الله يقول إذا أقر السارق بالسرقة فلا حاجة إلى حضرة المسروق منه لقطعه فأما إذا قامت البينة عليه بذلك فلا بد من حضوره عند الشهادة لأن الشهادة تنبني على الدعوى في المال فما لم يحضر هو أو نائبه لا(9/250)
ص -122- ... تقبل شهادته وإن غاب بعد ذلك لا يتعذر استيفاء القطع وعندنا لا بد من حضرة المسروق منه في الإقرار والشهادة جميعا عند الأداء وعند القطع لأن ظهور فعل السرقة لا يكون إلا به فلا بد من أن يكون المسروق مملوكا لغير السارق فإذا قطع قبل حضوره كان استيفاء الحد مع الشبهة لجواز أن يرد إقراره فيبقى المال مملوكا لمن في يده أو كان أقر له بالملك بعد شهادة الشهود أو أنه كان ضيفا عنده ولا معتبر بحضور وكيله عند الاستيفاء لأن الوكيل قائم مقامه وشرط الحد لا يثبت بما هو قائم مقام الغير.
قال وإذا حضر المسروق منه والشاهدان غائبان لم يقطع حتى يحضرا في قول أبي حنيفة الأول رحمه الله تعالى وفي قوله الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقطع وكذلك بعد موت الشهود وقد ذكر في كتاب الحدود أنه يقام الحد بعد غيبة الشهود وموتهم إلا الرجم خاصة وقد بينا ذلك إلا أن هناك لم يذكر قول أبي حنيفة الأول رحمه الله تعالى وإنما ذكره ها هنا وهو القياس في كل عقوبة لأن الاستيفاء مع غيبة الشهود استيفاء مع الشبهة لجواز أن يكونا رجعا عن الشهادة أو ابتليا بما يسقط شهادتهما ورجوع الشاهد في العقوبات بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء ولكنه رجع عن هذا فقال الغيبة والموت لا تقدح في عدالة الشاهد والشرط بعد الأداء عدالته فلهذا لا يمتنع الإقامة لغيبته وموته إلا الرجم فالمعتبر فيه البداية بالشهود وذلك ينعدم بعد موتهم ثم بين أن العارض في شهود السرقة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من استيفاء القطع وهو غير مانع من استرداد عين المسروق لأنه محض حق العبد فتتأكد الشهادة فيه بنفس القضاء ولأن المال يثبت بالشبهات بخلاف الحد ولهذا قبلت شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة في السرقة بالمال دون القطع.(9/251)
قال وإذا سرق الرجل ثوبا يساوي عشرة من رجلين قطع لأن المسروق نصاب كامل فلا يختلف مقصود السارق بتعدد المسروق منه أو اتحاده.
قال وإن سرق رجلان ثوبا يساوي عشرة من رجل لم يقطعا لأن سرقة كل واحد منهما نصف النصاب فإن عند تعدد السراق لا يصيب كل واحد منهم إلا شيء يسير قل ما يرغب فيه ولا تقطع اليد في الشيء التافه بخلاف الأول فإن السارق واحد والنصاب كامل يرغب الواحد في أخذه سواء كان المالك واحدا أو جماعة وإن كانت قيمة الثوب بحيث يبلغ نصيب كل واحد من السارقين منه عشرة دراهم فإنه يقطع كل واحد منهما لأن التعاون مما يزيد رغبة السارق في الاجتراء على فعل السرقة فالحاجة إلى شرع الزاجر في هذه الحالة أظهر وهو نظير الصداق فإنه لو تزوج امرأتين على ثوب يساوي نصيب كل واحدة منهما عشرة دراهم كانت التسمية صحيحة في حقهما ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلكل واحدة نصف الثوب وخمسة لأن البضع لا يتملك على واحدة منهما إلا بنصاب كامل فكذلك ها هنا لا يقطع اليد من كل واحد منهما ما لم تبلغ سرقته نصابا كاملا.(9/252)
ص -123- ... قال ويقطع السارق من المستودع والمضارب والمستعير والغاصب والمرتهن عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يقطع بخصومة هؤلاء ما لم يحضر المالك والكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على أن لهؤلاء حق الخصومة في الاسترداد عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس لهم ذلك عند جحود من في يده ما لم يحضر المالك وقد بينا هذا في الوديعة فأما الكلام مع زفر رحمه الله تعالى يتحقق في هذه المسألة هو يقول خصومة هؤلاء تقوم مقام خصومة المالك فلا يستوفي القطع بمثله كما لا يستوفي بخصومة وكيل المسروق منه وهذا لأنه استوفى مع تمكن الشبهة فإن المالك إذا حضر ربما يقر بالملك له أو أنه كان مأذونا في الأخذ من جهته وما يندرىء بالشبهات لا يستوفي مع تمكن الشبهة ألا ترى أن القصاص في النفس لا يستوفي بخصومة المستودع عند غيبة المالك لهذا المعنى فأما الأب أو الوصي فقد قيل على قول زفر رحمه الله لا يستوفي القطع بخصومتهما أيضا لاعتبار معنى النيابة وقيل أنه يستوفي لأنه ليس فيه تمكن الشبهة في الحال فإن إقرار الصغير بالملك للسارق لغو ولهذا ملك الأب استيفاء القصاص في الطرف والنفس جميعا وملك الوصي استيفاء القصاص في الطرف في إحدى الروايتين.
توضيحه أن المال مضمون على السارق وفي استيفاء القطع إسقاط الضمان وصاحب اليد إذا لم يكن مالكا لا يملك إسقاط الضمان فلا يستوفي القطع بخصومته.(9/253)
وحجتنا فيه أن السرقة تمت موجبة للقطع فيستوفي القطع بخصومة المسروق منه كالمالك والأب والوصي إن سلم وبيانه أن المالك لو حضر وخاصم يستوفي القطع بالاتفاق وتأثيره أن بعد تمام الفعل موجبا للقطع الشرط ظهوره عند الإمام بلا شبهة وقد ظهر بخصومة هؤلاء لأن أيديهم صحيحة وصاحب اليد الصحيحة إذا أزيلت يده كان له حق الخصومة في الإعادة لأن اليد مقصود كالملك ألا ترى أن الغاصب يضمن بتفويت اليد ولأن صاحب اليد وإن كان أمينا فلا يتمكن من أداء الأمانة إلا بيده وإن كان ضامنا فلا يتمكن من إسقاط الضمان عن نفسه إلا بيده فكانت اليد مقصودة له ولا شك في حق المرتهن أن اليد مقصودة لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن وكل من كان خصما في إثبات إزالة يده يكون خصما في إثبات سبب الإزالة كمن ادعى عينا في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب وأقام البينة على ذلك قبلت بينته حتى إذا حضر الغائب وأنكر البيع لم يلتفت إلى ذلك لأنه لما كان خصما في إثبات الملك لنفسه كان خصما في إثبات سببه وسبب الإزالة ها هنا السرقة فيظهر بخصومته عند الإمام بلا شبهة لأنه أصل في هذه الخصومة وإنما يخاصم باعتبار حقه لا باعتبار ملك الغير ألا ترى أنه يستغني عن إضافة الخصومة إلى غيره فإنه يقول سرق مني وأزال يدي بخلاف الوكيل وإذا ظهرت السرقة بلا شبهة استوفي الإمام القطع حقا لله تعالى ولا يمتنع الاستيفاء لتوهم اعتراض إقرار من المالك إذا حضر ألا ترى أن المالك إذا حضر وغاب المودع(9/254)
ص -124- ... يستوفي القطع وإن كان يتوهم أن يحضر المودع فيقر أنه كان ضيفا عنده وهذا لأن المؤثر شبهة يتوهم وجودها في الحال فأما ما يتوهم اعتراضها لا يعتبر ألا ترى أن القطع يستوفي بالإقرار وإن كان يتوهم اعتراض الرجوع من المقر وصاحب اليد بهذه الخصومة إنما يقصد إحياء حق المالك لا إسقاطه ولكن الإمام إذا استوفى القطع حقا لله تعالى فمن ضرورته سقوط الضمان على ما نبينه فلا يصير به المودع مسقطا للضمان بل القطع مشروع بطريق الزجر فإذا علم السارق أنه لا يقطع بخصومة المودع في حال غيبة المالك يجترئ على سرقة الوديعة فلتحقيق الزجر يستوفي القطع بخصومته ويكون ذلك من الحفظ حكما كما أن الله تعالى وصف القصاص بأنه حياة وهو إماتة في الحقيقة ولكن فيه حياة بطريق الزجر. فأما القصاص إنما لا يستوفي بخصومة المودع لتمكن شبهة عفو من المالك في الحال ولأن اليد فيما تناوله من الإيداع له وهو المالية ووجوب القصاص باعتبار معنى النفسية وذلك لا يتناوله الإيداع بخلاف الخصومة في السرقة فإنه يكون في المال باعتبار معنى المالية فيكون المودع أصلا بنفسه ولأن الحرز الذي هو المودع لا أثر له في القصاص بخلاف القطع فإنه لا يجب إلا بهتك الحرز وأخذ المال وكل واحد منهما جناية تصلح سببا للعقوبة فكان المودع باعتبار هذا المعنى كالمودع لأنه صاحب أحد وصفي السبب فكما أن المالك أصل في الخصومة المظهرة للسرقة بلا شبهة فكذلك المودع وأما إذا سرق من السارق فإن كان الأول لم تقطع يده فهو بمنزلة الغاصب يقطع الثاني بخصومة الأول وإن كان الأول قد قطعت يده فالسرقة بعد لم تتم موجبة للقطع لأنه لا معتبر بيد السارق الأول بعد ما قطعت يده فإنه ليس بيد أمانة ولا يد ضمان ولا يد ملك ولهذا لا يكون له حق الخصومة في الاسترداد ولو حضر المالك لم يكن له أن يستوفي القطع من الثاني بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.(9/255)
قال وإذا أشهد كافران على مسلم وكافر بسرقة ثوب فشهادتهما باطلة في جميع ذلك إلا أنه يقضي على الكافر بنصف الثوب للمدعي لأنهما شهدا بسرقة واحدة ولم تظهر شهادتهما في حق المسلم لأنها ليست بحجة عليه فلا تظهر في حق الكافر أيضا لأن شهادتهما حجة في فعل يختص به الكافر لا في فعل يشاركه المسلم فيه وقد تقدم في الزنى نظيره وأما في حق الثوب فنصفه في يد المسلم فشهادتهما ليست بحجة فيه ونصفه في يد الكافر فشهادتهما حجة عليه فيقضي بشهادتهما على الكافر بنصف الثوب للمدعي فإن كان المشهود عليهما كافرين فأسلم أحدهما قبل القضاء فكذلك الجواب وإن أسلم أحدهما بعد القضاء فكذلك الجواب في حق القطع فأما في حق الثوب فللمدعي أن يسترده كله لأن شهادتهما في ملك الثوب تأكدت بالقضاء.
قال ويستحب لشاهدي السرقة أن لا يشهدا عليه بذلك ليندرى ء به الحد عندنا لما جاء في الحديث "ادرؤا الحدود ما استطعتم" وهذا خطاب لكل من تمكن من ذلك ولأنه بالامتناع من أداء الشهادة يقصد إبقاء الستر عليه وأنه مندوب إليه ولكن هذا إذا رد السارق المتاع فإن(9/256)
ص -125- ... أبى ذلك وقال صاحب المتاع إذا يذهب متاعي وسعهما أن يشهدا أنه متاع هذا أخذه هذا من غير أن يذكرا السرقة لأنهما ندبا إلى الستر عليه ونهيا عن كتمان الشهادة التي تتضمن إبطال حق المسلم فالطريق الذي يعتدل فيه النظر من الجانبين هذا وهو أن يشهدا بلفظ الأخذ دون السرقة ليكون الآخذ مجبرا على رد العين حال قيامها وعلى رد القيمة عند هلاكها فيتوصل صاحب المتاع إلى حقه ولا ينهتك ستر الآخذ وهما صادقان في هذه الشهادة فالسارق أخذ المتاع لا محالة وكل من كان في يده شيء أو في بيته فأخذه إنسان وسع الشاهدان أن يشهدا أنه لفلان الذي كان في يديه لأنه لا طريق لمعرفة الملك إلا اليد لأنه وإن عاين الشراء فالمشتري لا يملك إلا باعتبار ملك البائع ولا يعرف ملكه إلا باعتبار يده وكذلك الاحتطاب والاحتشاش وسائر الأسباب إنما يوجب الملك باعتبار اليد وهذا لأن إحراز الشيء يكون باليد وبالإحراز يثبت الملك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يسعه أن يشهد له بالملك ولو رآه في يده إلا أن يراه يتصرف فيه ولا يمنعه أحد منه لأن الأيدي قد تتنوع قد تكون يد ملك وقد تكون يد أمانة وقد تكون يد غصب ولكنا نقول لا معتبر بهذه الزيادة فاليد مع التصرف تتنوع أيضا ألا ترى أن الوكيل والمضارب متصرف وفي الكتاب قال الشاهد يبني على الظاهر فإن ما وراءه غيب لا يعلمه إلا الله تعالى ألا ترى أنه لو تزوج امرأة بين يدي الشهود كان لهم أن يشهدوا بالنكاح بينهما وإن كان من الجائز أنها كانت منكوحة الغير أو وقعت الفرقة بينهما بعد العقد وشهود الدين يسعهم أن يشهدوا عليه بعد زمان ولعل البراءة وقعت عنه بالاستيفاء أو الإبراء.(9/257)
قال ومن نقب البيت فأدخل يده وأخذ المتاع وذهب به لم يقطع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الإملاء أنه يقطع لأنه أخذ مالا محرزا على وجه السرقة وهو كما لو دخل البيت وأخرج المتاع وهذا لأن المقصود أخذ المال لا دخول الحرز وبناء الحكم على ما هو المقصود ألا ترى أنه لو سرق من الجوالق وأدخل يده وأخرج المتاع قطعت يده فكذلك في البيت وجه ظاهر الرواية ما روى عن علي رضي الله عنه اللص إذا كان ظريفا لا يقطع قيل وكيف ذلك قال أن ينقب البيت فيدخل يده ويخرج المتاع من غير أن يدخله ولأن هتك الحرز معتبر لإيجاب القطع وشرط الحد وسببه يراعي وجوده بأكمل الجهات وأكمل جهة هتك الحرز في البيوت أن يدخلها فلا يلزمه القطع بدون ذلك بخلاف الجوالق فالدخول فيه لا يتأتى وهو ليس بمعتاد أيضا فيتم هتك الحرز بإدخال اليد وإخراج المتاع منه وكمال أخذ المال مقصود فدخول الحرز كذلك ألا ترى أن من الجهال من يقصد ذلك إظهارا للجلادة من نفسه والاستخفاف بصاحب الحرز وإن لم يكن به قصد إلى أخذ ماله.
قال وإن دخل الحرز وجمع المتاع ولم يخرجه حتى أخذ لم يقطع لأن تمام السرقة بإخراج المال من الحرز فمقصود السارق لا يتم إلا به وقبل تتميم السبب لا يلزمه القطع.(9/258)
ص -126- ... وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقطع لأن سرقته قد تمت بأخذ المال المحرز والخروج بعد ذلك ليس تتميم فعل السرقة بل للنجاة من صاحبه وهو كحد الزنى يجب بنفس الإيلاج وإن أخذ على ذلك قبل أن ينزع نفسه ولكنا نقول هناك يحصل مقصوده في الإيلاج وها هنا يحصل مقصوده في صرف المسروق إلى شهواته وحاجاته وذلك يكون بعد الإخراج فلا يقطع إذا أخذ قبل أن يخرج.
قال فإن ناول صاحبا له على الباب لم يقطع واحد منهما لأن الذي وقف خارج البيت لم يدخل الحرز والآخر لم يخرج المال ألا ترى أنه خرج من الحرز وليس معه في يده مال حقيقة ولا حكما إذ المال في يد الآخذ منه فلا يقطع واحد منهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن كان الخارج أدخل يده حتى تناول المتاع فالقطع عليهما وإن كان الداخل أخرج يده مع المتاع حتى أخذ الخارج منه فالقطع على الداخل دون الخارج لأن الداخل قد تم منه هتك الحرز فصار المال مخرجا بفعله ومعاونته فعليه القطع على كل حال فأما الخارج فإن أدخل يده فقد وجد منه إخراج المال من الحرز وذلك يوجب القطع عليه عنده وإن لم يدخل يده ولكن أخرج الآخر يده إليه فإنما أخذ متاعا هو غير محرز فلا يقطع.(9/259)
قلاال فإن رمى بالثياب إلى الطريق ثم خرج وأخذها من الطريق قطع عندنا وعند زفر رحمه الله لا يقطع لأنه خرج من الحرز ولا مال في يده فهو كما لو ناول صاحبا له من خارج فإنما فارق هذا الأول في الأخذ من السكة وذلك غير موجب للقطع عليه ولكنا نقول خرج والمال في يده حكما فتتم سرقته كما لو كان في يده حقيقة بيانه أن يده تثبت عليه بالأخذ ثم بالرمي إلى الطريق لم تزل يده حكما لعدم اعتراض يد أخرى على يده ألا ترى أن من سقط منه مال فأخذه إنسان ليرده على صاحبه ثم رده إلى موضعه لم يضمن لأنه في ذلك الموضع في يد صاحبه حكما فرده إلى ذلك الموضع بمنزلة رده على صاحبه وإذا ثبت بقاؤه حكما وقد تقرر ذلك بالأخذ من الثاني فكان مستوجبا القطع فهذه مبالغة في الحيلة من السارق ليكون مستعدا لدفع صاحب البيت في بيته أن يدركه فلا يشغل يده بالمتاع وقد يحول ذلك بينه وبين الدفع واكتسابه زيادة حيلة لا يكون مسقطا للقطع عنه فأما إذا ناول غيره فقد زالت يده حقيقة وحكما باعتراض يد أخرى قبل خروجه من الحرز فلهذا لم يلزمه القطع.
قال ولو رمى به إلى السكة ثم لما خرج لم يجده بأن كان أخذه غيره وذهب به لم يقطع لأن فعله هذا كان تضييعا للمال لا تتميما لفعل السرقة وكما ثبتت يد الغير عليه بالأخذ زالت يده حكما فقد خرج ولا مال في يده.
قال ولو كان في البيت نهر جار ورمى بالمتاع في النهر حتى أخرجه الماء ثم خرج فأخذه فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى لا قطع عليه لأنه ما أخرج المتاع وإنما خرج به الماء بخلاف الأول فهناك هو الذي أخرجه بالرمي به إلى خارج والأصح أنه يلزمه(9/260)
ص -127- ... القطع لأن جري الماء به كان بسبب القائه في النهر فيصير الإخراج مضافا إليه من هذا الوجه وهو زيادة حيلة منه ليكون متمكنا من دفع صاحب البيت فلا يجوز أن يجعل مسقطا للحد عنه.
قال ولو حمل المتاع على ظهر دابة وساق الدابة حتى أخرجها فعليه القطع لأن فعل الدابة مضاف إلى سائقها ألا ترى أن ما وطئت دابته فضمانه على سائق الدابة فتتم سرقته بإخراج المال على ظهر الدابة.
قال وإن دخل جماعة الدار فجمعوا المتاع وحملوه على ظهر رجل منهم فكان هو الذي خرج به وقد خرجوا معه أو بعده في فوره أو خرجوا قبله ثم خرج هو في فورهم ففي القياس يقطع الحمال وحده وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى وفي الاستحسان عليهم القطع وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وجه القياس أن فعل السرقة إنما يتم من الحمال بإخراج المتاع فأما الآخرون لم يوجد إخراج المتاع منهم حقيقة ولا حكما فلا يلزمهم القطع وبيان ذلك أنهم خرجوا ولا شيء في أيديهم حقيقة ومن طريق الحكم المتاع في يد الحمال حتى لو نازعوه كان القول قوله ويده معتبرة في إيجاب القطع عليه ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها في إيجاب القطع على الآخرين بخلاف ما إذا حملوه على ظهر الدابة لأن فعل الدابة هدر فيبقى الإخراج مضافا إلى سوق الدابة فكانوا مخرجين له ولأنه لا يد للدابة على المتاع فيبقى في يد الآخذين حكما إلى أن أخرجوه على ظهر الدابة.(9/261)
وجه الاستحسان أنهم اشتركوا في هتك الحرز وصار المال مخرجا بمعاونتهم فيلزمهم القطع كما لو أخرجوه على ظهر الدابة وهذا لأن هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق أن يباشر حمل المتاع واحد منهم وأصحابه يكونون مستعدين لدفع صاحب البيت عنه وعن أنفسهم فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للحد عنهم والمسألة مع الشافعي رحمه الله تعالى إنما تنبني على الردء في قطع الطريق أنه هل تلزمه العقوبة على ما نبينه فإن الآخرين كالردء للحمال إلا أن زفر رحمه الله تعالى قد يفرق بينهما فيقول حد قطاع الطريق بسبب المحاربة والردء مباشر للمحاربة لأن المحاربة في العادة هكذا تكون فإنهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال فإذا وقعت الهزيمة عليهم لا تستقر قدمهم وإذا كان بعضهم ردءا فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجؤا إلى الردء فلهذا كانت العقوبة عليهم بخلاف السرقة فالحد ها هنا إنما يجب بمباشرة فعل السرقة وذلك في إخراج المال من الحرز فإذا كان المخرج من يؤاخذ بحكم فعله لم يجب القطع على غيره.
قال وإن دخل البيت وأخرج المتاع بعضهم دون البعض فالقطع على من دخل البيت وأخرج إن عرف بعينه وإن لم يعرف فعليهم التعزير ولا يقطع واحد منهم لأن فعل السرقة إنما تم من بعضهم وهو غير معروف بعينه فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنهم.(9/262)
ص -128- ... قال وإذا شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقال السارق هذا متاعي كنت استودعته فجحدني أو اشتريته منه أو قال هو أمرني به درى ء عنه القطع في جميع ذلك لأن المسروق منه قد صار خصما له فإنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه ويتمكن من إثباته عليه بالبينة وإن طلب يمينه كان له أن يستحلفه عليه وبعد ما آل الأمر إلى الخصومة لا يستوفي الحد الواجب لله تعالى وقد بينا هذا في حد الزنى وهذا لأنه إذا امتنع عن اليمين يقضي عليه بالنكول ولو حلف لو قلنا بأنه يقطع كان استيفاء الحد باليمين ولا يجوز استيفاء الحد باليمين والشافعي رحمه الله تعالى يقول لا يجوز أن يسقط الحد بمجرد الدعوى لأن ذلك لا يعجز عنه سارق فيؤدي ذلك إلى سد باب هذا الحد ولكنا نقول قد أمرنا بدرء الحد عند الشبهة والشبهة تتمكن بمجرد دعواه بدليل تمكنه من الخصومة وهو نظير المقر إذا رجع يدرأ عنه الحد وما من مقر إلا ويتمكن من الرجوع ثم كان ذلك معتبرا في إيراث الشبهة.(9/263)
قال وإن سرق باب دار أو مسجد لم يقطع لأنه ظاهر غير محرز ولا قطع في سرقة مال غير محرز ولأن بالباب يصير ما في البيت محرزا فسارق الباب يكون سارقا للحرز دون المحرز فهو كسرقة الحارس وكذلك لو سرق ثوبا قد سقط على حائط إلى السكة فإنه غير محرز فإن الحائط غير محرز بل به يحرز ما في داخل البيت فما على ظاهر الحائط لا يكون محرزا أيضا وكذلك إن سرق خشبة أو ساجة في السكة وكذلك لو سرق ثوبا من حمام أو بيت إنسان أذن له في دخوله أو حانوت تاجر في السوق قد أذن للناس في دخوله والأصل في جنس هذه المسائل أن المال يكون محرزا بالمكان تارة وبالحائط أخرى وكل مكان هو معد لحفظ الأمتعة فيه فهو حرز وما لم يكن معدا مبنيا لذلك لا يكون حرزا والإحراز بالحافظ إنما يعتبر فيما ليس بمحرز بالمكان فأما فيما كان محرزا بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ لأنه بدونه محرز فإنما يتحقق الإحراز فيما ليس محرزا إذا عرفنا هذا فنقول الحانوت حرز حتى لو سرق منه ليلا استوجب القطع وإذا فتح التاجر باب الحانوت بالنهار وأذن للناس بالدخول فيه والمعاملة معه فكل من دخل كان داخلا بإذن صاحبه وذلك شبهة مانعة من وجوب القطع لأن كل داخل بحكم الإذن بمنزلة صاحب الدار والحانوت فينعدم هتك الحرز من هذا الوجه ويستوي إن كان صاحب الحانوت هناك يحفظ متاعه أو لا يكون لأن الحافظ غير معتبر فيما هو محرز بالمكان وكذلك البيت المأذون بالدخول فيه أو الدار الواحدة إذا أذن له بالدخول في بعض بيوتها ويستوي إن سرق من ذلك البيت أو من بيت آخر فيها أو من صندوق مقفل لأن الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق ما لم يخرج المسروق من الدار لا يستوجب القطع بخلاف ما إذا كانت إحدى الدارين تنفصل عن الأخرى لأن كل واحدة منهما حرز على حدة ألا ترى أن المودع إذا أمر بحفظ الوديعة في دار فحفظها في دار أخرى فهلكت كان ضامنا بخلاف ما إذا أمر بحفظها في بيت فحفظها في بيت آخر من تلك الدار فإذا كان(9/264)
مأذونا في دخول بيت منها تنعدم الحرزية في حقه فلا يقطع سواء كان صاحب الدار هناك أو لم يكن،(9/265)
ص -129- ... وكذلك الحمام فإنه حرز في نفسه حتى لو سرق منه ليلا يقطع وبالنهار هو مأذون بالدخول فيه فيمتنع وجوب القطع عليه سواء كان هناك حافظ أو لم يكن فأما الصحراء فليس بحرز في نفسه وإنما يصير المال محرزا فيه بالحافظ فإذا كان هناك حافظ يجب القطع على السارق وإلا فلا قطع عليه وكذلك المسجد فإنه ما بني للإحراز وحفظ الأمتعة به فإنما يكون المتاع فيه محرزا بالحافظ فإذا لم يكن مع المال حافظ فلا قطع عليه سرق منه ليلا أو نهارا فإذا كان هناك حافظ فعليه القطع لحديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان نائما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا بردائه فجاء سارق فسرقه فاتبعه حتى أخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه.
قال ولو كابر إنسانا ليلا حتى سرق متاعه ليلا فعليه القطع لأن سرقته قد تمت حين كابره ليلا فإن الغوث بالليل قل ما يلحق صاحب البيت وهو عاجز عن دفعه بنفسه فيكون تمكنه من ذلك بالناس والسارق استخفي فعله من الناس بخلاف ما إذا كابره في المصر نهارا حتى أخذ منه مالا فإنه لا يلزمه القطع استحسانا لأن الغوث في المصر بالنهار يلحقه عادة فالآخذ مجاهر بفعله غير مستخف له وذلك يمكن نقصانا في السرقة قال صلى الله عليه وسلم "لا قطع على مختلس ولا منتهب ولا خائن".
قال وإذا سرق رجلان من رجل ثوبا وأحدهما أب المسروق منه لم يقطع واحد منهما أما الأب فللتأول له في مال ولده بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك" ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة فلا يكون بيته حرزا في حقه والسرقة فعل من السارق فإذا امتنع وجوب القطع على أحدهما للشبهة يمتنع وجوبه على الآخر للشركة وهو نظير ما قلنا في الأب والأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد لم يجب القصاص على واحد منهما.(9/266)
قال ومن سرق من ذي رحم محرم منه لم يقطع عند علمائنا وقال الشافعي رحمه الله في الوالدين والمولودين كذلك وفي غيرهم يجب القطع لأنه ليس بينهما ولاد ولا جزئية فلا تتمكن الشبهة لأحدهما في مال صاحبه كبني الأعمام والدليل عليه قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه وجواز وضع الزكاة فيه ولأن الثابت بهذه القرابة بينهما حرمة النكاح وذلك لا يمنع وجوب القطع كما لو سرق من أخيه من الرضاعة وهذا على أصله مستقيم فإنه يقول لا يتعلق بهذه القرابة استحقاق النفقة بحال ولا استحقاق العتق عليه عند دخوله في ملكه.
وحجتنا فيه قوله تعالى {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الآية فالله تعالى رفع الجناح على الداخل في بيت الأخوة والأعمام والأكل منه فظاهر هذا يقتضي الإباحة والظاهر وإن ترك لقيام الدليل يبقى شبهة ألا ترى أنه عطف بيوت الأخوة والأعمام على بيوت الآباء والأولاد وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه ولا يدخل عليه قوله تعالى في آخر الآية {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] لأن الصداقة لا تبقى مع السرقة فلانعدام السبب عند السرقة تنتفي الشبهة هناك فأما الأخوة تبقى مع السرقة كالأبوة والمعنى فيه أن بينهما قرابة محرمة للنكاح(9/267)
ص -130- ... فكانت كالولاد وتأثيره أن البعض يدخل بيت البعض من غير استئذان ولا حشمة ولهذا ثبت حل النظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة بهذه القرابة كما في الولاد فينتقص معنى الحرزية في حقهم وهو على أصلنا مستقيم لأنه يتعلق استحقاق النفقة بهذه القرابة والعتق عند دخوله في الملك فذلك دليل على ثبوت الحق لبعضهم في مال البعض من وجه وأدنى الشبهة تكفي لدرء الحد وإن كان أحد السارقين ذا رحم محرم من المسروق منه أو شريكا له يدرأ الحد عنه بالشبهة ويدرأ عن الآخر للشبهة للشركة لما بينا أنها سرقة واحدة فلا يكون بعضها موجبا للعقوبة وبعضها غير موجب كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا في القتل.(9/268)
قال ولا قطع على سارق المصحف عند علمائنا رحمهم الله تعالى وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليه القطع لأنه سرق مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه فإن الجلد والبياض مال متقوم قبل أن يكتب فيه القرآن يجب القطع بسرقته فكذلك بعد ما كتب فيه ألا ترى أنه يجوز بيعه وشراؤه وأنه لو كان المكتوب فيه شيئا آخر لم تنتقص ماليته فإذا كتب فيه القرآن أولى وفي الكتاب علل وقال لأن فيه القرآن فلا قطع فيه وفي هذا التعليل إشارة إلى أن في المصاحف قرآنا كما هو مذهب أهل السنة وتأثيره أن لكل واحد تأويلا في أخذ المصحف للقراءة فيه والنظر لإزالة أشكال وقع في كلمة فالقطع لا يجب مع تمكن الشبهة توضيحه أن المقصود ما في المصحف لا عين الجلد والبياض ولا يمكن إيجاب القطع عليه باعتبار هذا المقصود لأن ذلك ليس بمال فيصير ذلك شبهة كمن سرق آنية من خمر لا يلزمه القطع وإن كانت الآنية تساوي نصابا لأن المقصود ما فيه وهو ليس بمال وكذلك إن كان المصحف مفضضا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يقطع في هذه الحالة لأن ما عليه من الفضة ليس من المصحف في شيء فهو كالمنفصل يتعلق القطع بسرقته ووجه ظاهر الرواية أن المقصود ما في المصحف دون ما على جلده من الفضة وإذا لم يمكن إيجاب القطع باعتبار ما هو المقصود يعتبر ذلك شبهة في درء الحد كمن سرق ثوبا خلقا قد صر في الثوب دينار ولم يعلم السارق لا يلزمه القطع لأن ما هو المقصود ليس بنصاب فلا يلزمه القطع باعتبار غيره.(9/269)
قال ولا قطع على سارق الخبز واللحم والفاكهة والرمان والعنب والبقول والرياحين والحناء والوسمة سواء سرق من شجرة أو من غير شجره عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه القطع في هذا كله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه ودليل المالية والتقوم جواز البيع والشراء فيها ووجوب ضمان القيمة على غاصبها ومتلفها ودليل الحرزية أنه لو سرق مالا آخر من هذا الموضع يقطع وكل مكان هو حرز معتاد لمال فإنه يتم إحرازه بذلك المكان على وجه لا يبقى فيه شبهة.
وحجتنا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا في كثر" وبالإجماع المراد بالثمار الرطبة لأنه يتسارع إليها الفساد ولأن في مالية هذه الأشياء نقصانا لأن المالية بالتمول وذلك(9/270)
ص -131- ... بالصيانة والإدخار لوقت الحاجة ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان في ماليتها وفي النقصان شبهة العدم ولأنه تافه جنسا ولأن الناس يتساهلون به فيما بينهم فيلتحق بالتافه قدرا وهو ما دون النصاب والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها كانت لا تقطع الأيدي في الشيء التافه.
قال وكذلك لا قطع في الحرض والجص والنورة والزرنيخ عندنا لأن هذه الأشياء توجد مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب فيه فلا يتعلق القطع بسرقته عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه يتعلق القطع بسرقة كل مال تبلغ قيمته نصابا إلا التراب والسرجين وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه وقررنا هذا في المسألة الأولى وبأن كان يوجد جنسه مباحا لا يتمكن فيه شبهة بعد الإحراز كالذهب والفضة واللؤلؤ والفيروزج يتعلق القطع بسرقتها وإن كان يوجد جنسه مباحا ولأنه لو سرق سريرا أو كرسيا يلزمه القطع والخشب غير مصنوع يوجد مباحا ثم وجوب القطع باعتبار العين لا باعتبار الصنعة ولا يفترق الحال بينهما قبل الصنعة وما بعده في حكم القطع.(9/271)
وحجتنا فيه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاثة في الكلأ والماء والنار" وقد أثبت بين الناس شركة عامة في هذه الأشياء وذلك شبهة في المنع من وجوب القطع بها وإن انقطعت الشركة بإحرازها وإذا علم الحكم في هذه الأشياء وهي توجد مباح الأصل بصورتها غير مرغوب فيها فكذلك كل ما يوجد مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب فيه والمعنى فيه أنه تافه جنسا ألا ترى أن الإنسان قد يتمكن من أخذه ولا يرغب فيه فيكون نظير التافه قدرا يقرره أن التافه لا يتم إحرازه ألا ترى أن الخشب تكون مطروحة في السكك عادة وكذلك الجص والزرنيخ والنورة والناس لا يحرزونها كما يحرزون سائر الأموال لتفاهتها والنقصان في الحرزية يمنع من وجوب القطع فأما الذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر فقد روى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا سرقها على الصورة التي توجد مباحا لا يقطع وهو المختلط بالحجر والتراب وفي ظاهر المذهب يجب لأنه ليس بتافه جنسا فإن كل من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة وكذلك إحرازه يتم عادة فأما المصنوع من الخشب فهو لا يوجد بصورته مباحا فلم يكن تافها جنسا ولا يبعد أن لا يتعلق القطع بعين الشيء ثم يتعلق بالمصنوع منه كما قال هو في التراب لا يقطع بسرقته ثم يتعلق بسرقة المصنوع منه من الطوابق والكيزان ونحوهما.
قال ولا يقطع بسرقة النبيذ واللبن لأن ذلك مما يتسارع إليه الفساد وكذلك في سرقة الخمر والخنزير والسكر أما فيما بين المسلمين هذا حرام ولكل واحد تأول أخذه للأراقة وأما في حق أهل الذمة وإن كان مالا متقوما ولكنه مما يتسارع إليه الفساد وانعدام المالية والتقوم فيه في حق المسلم يصير شبهة والقطع يندرئ بالشبهات.(9/272)
ص -132- ... قال ولا قطع في الدف وما أشبهه من الملاهي أما عندهما فلأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو والمقصود التلهي به ولا يمكن اعتبار القطع باعتبار المقصود ولأن للآخذ تأويلا في أخذه لأنه يقصد به النهي عن المنكر وهو استعماله للتلهي فيصير ذلك شبهة.
قال ولا قطع في البازي والصقر وسائر الطيور ولا في الوحوش من الصيود لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لا قطع في الطير ولأن هذا يوجد مباح الأصل بصورته غير مرغوب فيه ولا يتم إحرازه في الناس عادة ولأن فعله اصطياد من وجه والاصطياد مباح وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "الصيد لمن أخذه" يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة وكذلك الفهد والكلب فإن الفهد من جنس الصيود والكلب صياد فلما لم يجب القطع بسرقة الصيد فكذلك بسرقة الصياد وبين العلماء رحمهم الله تعالى اختلاف ظاهر في مالية الكلب وجواز بيعه وظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب يورث الشبهة.(9/273)
قال فإن سرق التمر من رؤوس النخل في حائط محرز أو حنطة في سنبلها لم تحصد فلا قطع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا كثر" ولأن الثمار ما دامت في رؤوس الأشجار فإنه يتسارع إليها الفساد ألا ترى أنها لو تركت كذلك فسدت ولا يتم معنى الإحراز فيها ولا في الحنطة في سنبلها فإنها زرعت في ذلك الموضع لمقصود آخر سوى الإحراز والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "فما آواه الجرين ففيه القطع" وفي هذا بيان أن الثمار ما لم تجذ والزرع ما لم يحصد لا يجب القطع بسرقته وكذلك إن كان سرق النخلة بأصولها لقوله صلى الله عليه وسلم "ولا كثر" والمراد صغار النخل فإذا لم يجب القطع في الصغار من الأشجار فكذلك في الكبار وهذا لأنه بالإنبات في موضع لا يقصد إحرازه فإن معنى الحرز لا يتم فيه عادة فإن إحراز الثمر في حظيرة عليها باب أو حصدت الحنطة وجعلت في حظيرة فسرق منها قطع للحديث ولأن الإحراز قد تم فإنه إنما جمعه صاحبه في هذا الموضع ليكون محرزا محفوظا وكذلك إن كانت في الصحراء وصاحبها يحفظها لأن الصحراء ليس يحرز بنفسه فيتم الإحراز بالحافظ ويستوي إن كان الحافظ منتبها أو نائما عندهما لأن حفظ المال في الصحراء كذلك يكون عادة والآخذ يسارق عين الحافظ وكذلك المسافر ينزل في الصحراء فيجمع متاعه ويبيت عليه فيسرق منه قطع ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال في هذا اللفظ إشارة إلى أنه إنما يكون محرزا به في حال نومه إذا كان موضوعا بين يديه وإلا لا يكون محرزا به في حال نومه لأن النائم كالغائب لا يتأتى منه الحرز والأصح أنه يلزمه القطع على كل حال لأن المعتبر هو الإحراز المعتاد لا أقصى ما يتأتى والإحراز المعتاد يتأتى بهذا المقدار فإن الناس يعدون النائم عند متاعه حافظا له ألا ترى أن المودع والمستعير لا يضمن بمثله وهما يضمنان بالتضييع وما لا يكون محرزا يكون مضيعا(9/274)
ص -133- ... قال وكذلك إن كان في فسطاط قد جمع متاعه فيه لأن نصب الفسطاط في الصحاري كبناء البيوت في الأمصار ويكون ما في الفسطاط محرزا بالفسطاط وبالحافظ عنده.
قال وإن سرق الفسطاط بعينه لم أقطعه لأنه ظاهر ولم يحرزه صاحبه إنما أحرز صاحبه الأمتعة به ووجوب القطع بسرقة المحرز لا بسرقة الحرز وهذا لو كان الفسطاط منصوبا فإن كان ملفوفا بين يديه يجب القطع بسرقته لأنه متاع محرز بالحافظ كسائر الأمتعة وكذلك إن سرق الجوالق من ظهر الدابة مع ما في الجوالق لم يقطع لأنه ظاهر غير محرز فإن صاحب الجوالق يحرز بالجوالق ما فيه ولا يقصد إحراز الجوالق فإن شق الجوالق وسرق ما فيه قطع لأنه سرق مالا محرزا وقد بينا أن المعتبر في الإحراز ما هو المعتاد فإذا اعتاد إحراز المتاع بالجوالق كان الجوالق حرزا له فإذا شقه وأدخل يده فيه وأخرج المتاع فقد تم منه هتك الحرز وأخذ المال فيلزم القطع ثم في كل موضع كان المال محرزا بالحافظ فإذا أخذ السارق كما أخذ يلزمه القطع وفي كل موضع كان محرزا بالمكان فإذا أخذ قبل أن يخرجه من ذلك المكان لم يقطع لأن فعله في المحرز بالحافظ يتم بنفس الأخذ وهو إزالة اليد بإثبات اليد لنفسه على وجه السرقة فأما المحرز بالمكان فلا تتم سرقته فيه إلا بإخراج المال من الحرز وقد بينا أن الدار كلها حرز واحد فما لم يخرج المتاع منها لا يلزمه القطع.(9/275)
قال وإذا قطع السارق ردت السرقة إلى صاحبها لأن المسروق منه واجد عين ماله ومن وجد عين ماله فهو أحق به فإن لم يقدر عليها فلا ضمان على السارق عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو ضامن لقيمتها وقال مالك إن كان السارق صاحب مال يؤمر بأداء الضمان في الحال وإن لم يكن له شيء فلا ضمان عليه في الحال ولا بعد ذلك واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" فقد أوجب على الآخذ ضمان المأخوذ إلى غاية الرد وقد وجد منه الآخذ ها هنا فيكون ضامنا وهو المعنى في المسألة فإنه أخذ مال الغير بغير حق فيكون ضامنا له كالغاصب ولا شك أنه بالأخذ ضامن حتى إذا سقط الحد بشبهة كان ضامنا للمال فلو سقط الضمان إنما يسقط باستيفاء القطع والقطع حد واجب لله تعالى فاستيفاؤه لا يسقط الضمان الواجب لحق العبد ولأن وجوب الضمان عليه بنفس الأخذ ووجوب القطع بإتمام فعل السرقة بالإخراج والحقان إذا وجبا بسببين فاستيفاء أحدهما لا يسقط الآخر كما لو قتل إنسانا ومزق عليه ثيابه لا يسقط عنه ضمان الثياب باستيفاء القصاص ولأنهما حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا لأن محل القطع اليد ومستحقه هو الله تعالى وسببه السرقة ومحل الضمان الذمة ومستحقه المسروق منه وسببه إدخال النقصان عليه بأخذ ماله فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدية مع الكفارة في القتل والجزاء مع القيمة في الصيد المملوك في الحرم وشرب خمر الذمي على أصلكم فإنه يوجب الحد حقا لله تعالى والضمان للذمي(9/276)
ص -134- ... وحجتنا فيه قوله تبارك وتعالى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فقد نص على أن القطع جميع موجب فعله لما بينا أن في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال فلو أوجبنا الضمان معه لم يكن القطع جميع موجب الفعل فكان نسخا لما هو ثابت بالنص وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يده" وفي رواية "لا غرم على السارق فيما قطعت يمينه فيه" وفي رواية "إذا قطعت يد السارق لم يغرم" والمعنى فيه أن القطع عقوبة تندرىء بالشبهات والضمان غرامة تثبت مع الشبهات فلا يجمع بينهما بسبب فعل واحد كالقصاص مع الدية وتأثيره وهو أن الفعل الواحد صار بكماله معتبرا في حق ما يندرىء بالشبهات فلا يبقى شيء منه ليعتبر في حكم الضمان وبدون الفعل لا يجب الضمان ولا معنى لما قال الموجود منه فعلان الأخذ والإخراج لأن الإخراج تتميم لما هو المقصود بالأخذ فلا يأخذ حكم فعل آخر والإخراج بدون الأخذ لا يتحقق والخلاف ثابت فيما إذا سرق الثوب من تحت رأس نائم والأخذ والإخراج هنا حصل بفعل واحد ثم الفعل وإن تعدد صورة فالوجوب باعتبار حرمة المحل وهو بالسرقة ما هتك إلا حرمة واحدة هي من خالص حق الله تعالى وبيان ذلك أن القطع لا يجب إلا بسرقة مال متقوم محرز والقطع خالص حق الله تعالى فلا يجب إلا باعتبار جعل ما يجب به القطع لله تعالى لأن ما يجب باعتبار ما هو حق العبد يكون للعبد عقوبة كانت أو غرامة كالقصاص ولما وجب القطع لله تعالى عرفنا أنه يجب باعتبار أنه صار لله تعالى وإذا صارت المالية والتقوم في هذا المحل لله تعالى لم يبق للعبد فالتحق في حق العبد بما لا قيمة له ولكن هذا لا يتصور إلا باستيفاء القطع لأن ما يجب لله تعالى فتمامه بالاستيفاء فكان حكم الأخذ مراعي إن استوفى به القطع تبين أن حرمة المحل في ذلك الفعل كان لله تعالى فلا يجب الضمان للعبد وإن تعذر استيفاء القطع تبين أن حرمة(9/277)
المالية والتقوم كان للعبد فيجب الضمان له.
توضيحه أن العقوبة التي تندرىء بالشبهات لا تجب إلا بفعل حرام لعينه وإنما يكون فعل السارق حراما لعينه إذا لم يبق المحل محترما لحق العبد فأما إذا كانت حرمة المالية والتقوم لحق العبد فأخذه حرام لغيره وهو حق المالك ومثل هذا الفعل لا يوجب العقوبة كشرب عصير الغير إنما الموجب للعقوبة فعل هو حرام لعينه كشرب الخمر ولا يتحقق ذلك إلا بجعل المالية والتقوم في هذا المحل لله تعالى خالصا وإذا صار لله تعالى لم يبق للعبد كالعصير إذا تخمر لم يبق فيه المالية والتقوم لحق العبد ولا يدخل عليه الدية مع الكفارة لأن الكفارة ليست بعقوبة تندرى ء بالشبهات ولأنها جزاء الفعل من غير اعتبار وصف المحل فيبقى المحل محترما لحق العبد ووجوب الكفارة لا يستدعي فعلا هو حرام العين ألا ترى أنها تجب في الخطأ وكذلك الجزاء مع القيمة في الصيد المملوك فإنه لا معتبر بالمالية والتقوم في إيجاب الجزاء ولهذا يجب الجزاء بقتل صيد نفسه والكفارة بقتل عبد نفسه وكذلك في شرب الخمر لا معتبر بالمالية والتقوم في إيجاب الحد ولهذا يجب الحد على من شرب خمر نفسه فبقيت(9/278)
ص -135- ... المالية والتقوم في المحل حقا للذمي لأن مع بقائه الفعل محرم العين بما حدث من صفة الخمر في المحل ولا يدخل على هذا الملك فإنه يبقى للمسروق منه حتى يرد عليه لأن وجوب القطع باعتبار المالية والتقوم في المحل فأما الملك صفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء الملك ألا ترى أن فعله في شرب خمر نفسه يكون محرم العين مع بقاء الملك وليس من ضرورة انعدام المالية والتقوم في حقه انعدام الملك كالشاة إذا ماتت بقى ملك صاحبها في جلدها وإن لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت أن المالية والتقوم صار حقا لله تعالى خالصا فلو وجب الضمان إنما يجب لله تعالى وقد وجب القطع لله تعالى ولا يجمع بين الحقين لمستحق واحد كالقصاص مع الدية ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجب الضمان على السارق إذا تلف المال في يده أو أتلفه وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يضمن إذا أتلفه لأن انعدام المالية والتقوم حقا للعبد إنما كان في فعل السرقة لا فيما سواه ألا ترى أن بيع المسروق منه وهبته العين من السارق أو من غيره صحيح والإتلاف فعل آخر فلا يظهر حكم المالية والتقوم حقا لله تعالى في هذا الفعل حتى يجب الضمان على المتلف كما لو أتلفه غيره وهذا لأن العين باق على ملك صاحبه بعد القطع فأما أن يكون أمانة أو مضمونا وكيف ما كان فهو مضمون بالإتلاف وجه رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الإتلاف إتمام للمقصود بالسرقة فكما لا تبقى المالية والتقوم حقا للعبد في أصل السرقة بعد القطع فكذلك فيما يكون إتماما للمقصود به بخلاف بيع المسروق منه وهبته فإنه ليس بإتمام للمقصود بالسرقة بل هو تصرف آخر ابتداء وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أن السارق لا يضمن في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى يفتي بأداء الضمان لأن المسروق منه قد لحقه النقصان والخسران من جهته بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي القضاء(9/279)
بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في حق استيفاء القطع فلا يقضي بالضمان ولكنه يفتي برفع النقصان والخسران الذي ألحق به فيما بينه وبين الله تعالى.
قال ولا قطع على النباش في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله يقطع والاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فعمر وعائشة وابن مسعود وابن الزبير رضوان الله عليهم أجمعين قالوا بوجوب القطع وابن عباس رضي الله عنه كان يقول لا قطع عليه وعليه اتفق من بقي في عهد مروان من الصحابة على ما روى أن نباشا أتى به مروان فسأل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك فلم يبينوا له فيه شيئا فعزره أسواطا ولم يقطعه وبهذا تبين فساد استدلال من يستدل بالآية لإيجاب القطع عليه فإن اسم السرقة لو كان يتناوله مطلقا لما احتاج مروان إلى مشاورة الصحابة رضي الله عنهم مع النص وما اتفقوا على خلاف النص فأما من أوجب القطع استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "من نبش قطعناه" والمعنى فيه أنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه فيقطع كما لو سرق لباس الحي وهذا لأن الآدمي محترم حيا وميتا وبيان هذه الأوصاف فأما السرقة فهو أخذ المال على وجه الخفية وذلك(9/280)
ص -136- ... يتحقق من النباش وهذا الثوب كان مالا قبل أن يلبسه الميت فلا تختل صفة المالية فيه بلبس الميت فأما الحرز فلان الناس تعارفوا منذ ولدوا إحراز الأكفان بالقبور ولا يحرزونه بأحصن من ذلك الموضع فكان حرزا متعينا له باتفاق جميع الناس ولا يبقى في إحرازه شبهة لما كان لا يحرز بأحصن منه عادة والدليل عليه أنه ليس بمضيع حتى لا يضمن الأب والوصي إذا كفنا الصبي من مال الصبي وما لا يكون محرزا يكون مضيعا.
وحجتنا فيه قوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع على المختفي" وهو النباش بلغة أهل المدينة كما جاء في حديث آخر من اختفى ميتا فكأنما قتله وقوله صلى الله عليه وسلم "من نبش قطعناه" لا يصح مرفوعا بل هو من كلام زياد ألا ترى أنه قال في ذلك الحديث من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنفه جدعناه ولئن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نباشا أو أحدا من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإنه يحمل على أنه كان ذلك بطريق السياسة وللإمام رأى في ذلك والمعنى فيه أن وجوب القطع بسرقة مال محرز مملوك وجميع هذه الأوصاف اختلت في الكفن فأما السرقة فهو اسم أخذ المال على وجه يسارق عين صاحبه ولا تتصور مسارقة عين الميت وإنما يختفي النباش باعتبار أنه يرتكب الكبيرة كالزاني وشارب الخمر والدليل عليه أنه ينفي هذا الاسم عنه بإثبات غيره فيقال نبش وما سرق فأما المالية فإنها عبارة عن التمول والإدخار لوقت الحاجة وهذا المقصود يفوت في الكفن فإن الكفن مع الميت يوضع في القبر للبلى ولهذا يوضع في أقرب الأماكن من البلاء وإليه أشار الصديق رضي الله تعالى عنه فقال اغسلوا ثوبي هذين فكفنوني فيهما فإنهما للمهل والصديد والحي من الميت أحوج إلى الجديد فأما انعدام صفة المملوكية فلان المملوك لا يكون إلا لمالك والكفن ليس بملك لأحد لأنه مقدم على حق الوارث ولا يصير مملوكا له ألا ترى أن القدر المشغول بحاجة الميت بعد الكفن وهو الدين لا يصير ملكا للوارث فالكفن(9/281)
أولى وليس بملك للميت لأن الموت مناف للمالكية فإن المالكية عبارة عن القدرة وأدنى درجاته باعتبار صفة الحياة فعرفنا أن الوصف مختل أيضا فأما الحرزية فنقول الكفن غير محرز لأن الإحراز بالحافظ والميت لا يحرز نفسه فكيف يحرز غيره والمكان حفرة في الصحراء فلا يكون حرزا ألا ترى أنه لا يجعل حرزا لثوب آخر من جنس الكفن ومن ضرورة كونه حرز الثوب أن يكون حرز الثوب آخر من جنسه وكذلك لا يكون حرزا قبل وضع الميت فيه وقوله إن الناس تعارفوا أحراز الكفن في القبر فليس كذلك بل إنما يدفنون الميت للمواراة عن أعين الناس وما يخاف عليه من السباع لا للأحراز ألا ترى أن الدفن يكون في ملإ من الناس ومن دفن مالا على قصد الأحراز فإنه يخفيه عن الناس وإذا فعله في ملأ منهم على قصد الأحراز ينسب إلى الجنون ولا نقول أنه مضيع ولكنه مصروف إلى حاجته وصرف الشيء إلى الحاجة لا يكون تضييعا ولا إحرازا كتناول الطعام وإلقاء البذر في الأرض لا يكون تضييعا ولا إحرازا واختلف مشايخنا رحمهم الله فيما إذا كان القبر في بيت مقفل قال رحمه الله والأصح عندي أنه لا يجب القطع سواء نبش الكفن أو سرق مالا آخر من ذلك(9/282)
ص -137- ... البيت لأن بوضع القبر فيه اختلت صفة الحرزية في ذلك البيت فإن لكل واحد من الناس تأويلا للدخول فيه لزيارة القبر فلا يجب القطع على من سرق منه شيئا لأن صفة الكمال في شرائط القطع معتبر وكذلك يختلفون في قاطع الطريق إذا أخذ الكفن من تابوت في القافلة ولم يأخذ شيئا آخر فمنهم من قال يقام عليه الحد لأنه محرز بالقافلة قال رحمه الله تعالى والأصح عندي أنه لا يجب القطع لاختلاف صفة المالكية والمملوكية في الكفن من الوجه الذي قررنا.
قال ولا قطع على المخلس لانعدام فعل السرقة لأنه مجاهر بفعله ولا يسارق عين صاحبه وأما الطرار فهو على وجهين فإما أن تكون الدراهم مصرورة في داخل الكم أو في ظاهر الكم فإن كانت مصرورة في داخله فإن طر الصرة يقطع لأنه بعد القطع يبقى المال في الكم حتى يخرجه وإن حل الرباط لم يقطع لأنه إذا حل الرباط يبقى المال خارجا من الكم فلم يوجد إخراج المال من الكم والحرز وإن كان مصرورا ظاهرا فإن طر لم يقطع لانعدام الإخراج من الحرز وإن حل الرباط يقطع لأن الدراهم يبقى في الكم بعد حل الرباط حتى يدخل يده فيخرجه وتمام السرقة بإخراج المال من الحرز وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال استحسن أن أقطعه في الأحوال كلها لأن المال محرز بصاحبه والكم تبع له وفرق أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى بين الطرار والنباش فقالا اختصاص الطرار بهذا الاسم لمبالغة في سرقته لأن السارق يسارق عين حافظه في حال نومه وغفلته عن الحفظ والطرار يسارق عين المنتبه في حال إقباله على الحفظ فهو زيادة حذق منه في فعله فعرفنا أن فعله أتم ما يكون من السرقة فيلزمه القطع فأما النباش لا يسارق عين المقبل على حفظ المال أو القاصد لذلك بل يسارق عين من يهجم عليه من غير أن يكون له قصد إلى حفظ الكفن وذلك دليل ظاهر على النقصان في فعل السرقة فلهذا لا يلزمه القطع.(9/283)
قال وإن سرق صبيا حرا لم يقطع لأنه ليس بمال ووجوب القطع يختص بسرقة مال متقوم وكذلك لو كان عليه حلى كثير وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع لأن قيمة الحلي نصاب كامل لو سرقه وحده يلزمه القطع فكذا مع الصبي ولأن المقصود الحلي دون الصبي وجه ظاهر الرواية أن الحلي تبع للصبي والأصل يقطع بسرقته فالتبع مثله ولأن له تأويلا في أخذه فإنه يقول كان يبكي فأخذته لأسكته أو أحمله إلى موضع أهله قال ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا يساوي عشرة دراهم ووجد في جيبه عشرة دراهم مصرورة لم يعلم بها لم أقطعه وإن كان يعلم بها فعليه القطع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليه القطع في الأحوال كلها لأن سرقته قد تمت في نصاب كامل ولكنا نقول السارق إنما قصد إخراج ما يعلم به دون ما لا يعلم به وإذا كان قصده أخذ الثوب نظر إلى قيمة الثوب وهو ليس بنصاب كامل وإذا كان عالما بالدراهم فقصده أخذ الدراهم.
قال ولو سرق جرابا فيه مال أو جوالقا فيه مال أو كيسا فيه مال قطع لأنه وعاء يوضع(9/284)
ص -138- ... فيه المال فمقصود السارق المال دون الوعاء فأما القميص ونحوه من الثياب ليس بوعاء للمال فكان قصده سرقة الثوب إلا أن يكون عالما بالمال المصرور فيه فحينئذ يعلم أن قصده المال دون الثوب لما اختاره من بين سائر الثياب مع العلم.
قال وإن سرق عبدا فإن كان بالغا أوصبيا يعقل ويتكلم لا يقطع لأن هذا خداع لا سرقة ولأن من يعبر عن نفسه له يد على نفسه وذلك مانع من تقرير يد السارق عليه وإن كان لا يعبر عن نفسه ويتكلم قطع فيه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه أستحسن أن لا أقطعه لأن المملوك من جنس الحر فإن الجنسية لا تتبدل بالرق وإذا كان لا يقطع بسرقة جنسه من الأحرار يصير ذلك شبهة ولأن إحرازه لم يتم فإن الصغير الذي لا يعقل يخرج إلى السكة وقد يوضع في السكة ويترك حرا كان أو مملوكا وما لا يتم إحرازه عادة فهو تافه في حكم القطع وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا هو مال متقوم لا يد له في نفسه فهو بمنزلة الدابة والكارة يتعلق القطع بسرقته والتافه ما يوجد جنسه مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب وذلك لا يوجد في المماليك خصوصا في الصغار منهم.
قال فإن سرق شاة من مرعاها لم يقطع لأنها غير محرزة والمقصود من تركها في المرعى الرعي دون الإحراز وإن سرقها من دار قطع لأنها محرزة بالدار كسائر الأموال وكذلك الإبل والبقر والفرس والحمار والبغل فإن كانت تأوي بالليل إلى حائط قد بنى لها عليه باب يغلق عليها ومعها من يحفظها أو ليس معها حافظ فكسر الباب ودخل وسرق منه بقرة فآواها أو ساقها أو ركبها حتى أخرجها قال يقطع لما روينا أنه قال: "إذا جمعها المراح ففيها القطع" ولأنها بالليل تجمع في المراح للإحراز والحفظ ثم المذهب عندنا أن المكان الذي هو حرز لمال يكون حرزا لمال آخر حتى لو سرق ثياب الراعي من هذا الموضع يقطع.(9/285)
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى المراح حرز للدواب دون غيرها من الأموال لأن المعتبر في إحراز كل مال ما هو المعتاد ومعتاد إحراز الدواب بالمراح دون سائر الأموال ألا ترى أنه بابه قد يكون بحيث يمنع خروج الدواب ولا يمنع دخول الناس فيه فلهذا لا يقطع إذا سرق منه مالا آخر.
قال وإذا شهد شاهدان أنه سرق بقرة واختلفا في لونها فقال أحدهما بيضاء وقال الآخر سوداء فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقبل هذه الشهادة وعندهما لا تقبل قال الكرخي رحمه الله في لونين متشابهين كالحمرة والصفرة تقبل عنده فأما فيما لا يتشابه كالسواد والبياض لا تقبل الشهادة بالاتفاق والأصح أن الكل على الخلاف فهما يقولان اختلفا في المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فلا تقبل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه سرق ثورا والآخر أنه سرق أنثى أو شهد أحدهما أنه سرق بقرة والآخر أنه سرق بعيرا.(9/286)
ص -139- ... والدليل عليه أن في الغصب لو اختلف الشهود في لون البقرة لم تقبل مع أن الثابت به مما لا يندرئ بالشبهات وهو الضمان ففي السرقة التي يتعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى ولا معنى لقول من يقول لعله كان أحد شقي البقرة أبيض والآخر أسود لأن تلك بلقاء لا سوداء ولا بيضاء وأبو حنيفة رحمه الله يقول اختلفا فيما لم يكلفا نقله والتوفيق ممكن فتقبل الشهادة كما لو اختلف شهود الزنى في الزانيين في بيت واحد وبيان الوصف أنهما لو سكتا عن بيان لون البقرة لم يكلفهما القاضي بيان ذلك ولهذا تبين أنه ليس من صلب الشهادة والاختلاف فيما ليس من صلب الشهادة إذا كان على وجه يمكن التوفيق لا يمنع قبول الشهادة وها هنا التوفيق ممكن بأن كان أحد جانبيها أبيض والآخر أسود وقوله هذه تسمى بلقاء نعم ولكن في حق من يعرف اللونين أما في حق من لا يعرف إلا أحدهما فهو على ذلك اللون وشهود السرقة يتحملون الشهادة من بعيد في ظلمة الليل فلا يتمكنون من أن يقتربوا من السارق ليتأملوا في جانب البقرة وبه فارق الغصب فإن الغاصب مجاهر بما يصنع فالشاهد يتمكن من التأمل ليقف على صفة المغصوب فلهذا لا يشتغل بالتوفيق هناك وهذا بخلاف البقرة والبعير فإن الاختلاف هناك في صلب الشهادة وبخلاف الذكر والأنثى فإنه لا يوقف على هذه الصفة إلا بعد القرب منها وعند ذلك لا يشتبه ولا حاجة إلى التوفيق.(9/287)
قال ولو شهدا أنه سرق ثوبا فقال أحدهما هروي وقال الآخر مروي فقد ذكر هذه المسألة في نسخ أبي سليمان على الخلاف أيضا وفي نسخ أبي حفص قال لا تقبل هذه الشهادة عندهم جميعا ووجه الفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن الهروي والمروي جنسان مختلفان وبيان الجنس من صلب الشهادة فكان هذا اختلافا في صلب الشهادة وذلك مانع من قبول شهادتهما وإن اختلفا في الوقت لم تجز الشهادة عندهم جميعا لأن السرقة فعل والفعل الموجود في وقت غير الموجود في وقت آخر فإذا اختلفا في الزمان والمكان يمتنع قبول شهادتهما كما في الغصب والقتل.
قال وإذا سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه فإن كان لا يساوي عشرة دراهم بعد ما شقه لم يقطع بالاتفاق لأن المعتبر كمال النصاب عند تمام السرقة وتمامه بالإخراج من الحرز فإذا لم تكن قيمته نصابا عند الإخراج لم يلزمه القطع بخلاف ما لو شقه بعد الإخراج فانتقصت قيمته من النصاب وذلك لأن سرقته تمت في نصاب كامل ثم التعيب تفويت جزء من الثوب ولو استهلك الكل بعد ما أخرجه من الحرز لم يسقط القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه بخلاف ما قبل الإخراج فإنه لو استهلكه في الحرز لم يلزمه القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه وهذا لأن ما استهلك مضمون عليه في ذمته ولا يتصور إتمام فعل السرقة فيما هو دين لأن إتمام فعل السرقة بالإخراج وذلك في الدين لا يتحقق فأما إذا لم تنتقص العين بفوات شيء منه بعد الإخراج وإنما انتقصت قيمته من النصاب بنقصان السعر فلا قطع عليه عندنا وروى(9/288)
ص -140- ... هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأن السرقة تمت في نصاب كامل فالنقصان بعد ذلك لا يمنع استيفاء القطع كالنقصان في العين ولكنا نقول كما أن النصاب يشترط لإيجاب القطع فيشترط بقاؤه إلى وقت الاستيفاء كالثبات على الإقرار والشهادة وقد انعدم ذلك لأن نقصان السعر فتور رغائب الناس فيه وذلك لا يكون مضمونا على أحد فإنما يقطع باعتبار هذا العين فقط وقيمته دون النصاب بخلاف ما إذا كان النقصان في العين لأنه يتقرر الضمان عليه بقدر ما فات من العين فإنما يقطع باعتبار هذا العين فيما صار دينا في ذمته وهو نصاب كامل فأما إذا شق الثوب في الحرز ثم أخرجه وهو يساوي عشرة فإن كان هذا العيب يمكن نقصانا يسيرا فعليه القطع بالاتفاق ولأن حق صاحب الثوب في تضمين النقصان وليس له أن يضمنه القيمة إذا كان العيب يسيرا فأما إذا كان النقصان فاحشا فإن اختار أخذ الثوب وبتضمين النقصان فعليه القطع وإن اختار أن يضمنه قيمة الثوب وسلم له الثوب فلا قطع عليه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يقطع في الوجهين جميعا وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى هذا الخلاف على قلب هذا ولكن ما ذكر في الأصل أصح وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن سبب الملك قد انعقد له في الثوب قبل إتمام فعل السرقة وانعقاد سبب الملك يمكن شبهة كما لو اشترى ثوبا على أن البائع بالخيار ثم سرقته منه وبيان ذلك أنه ثبت للمالك خيار تضمين القيمة إياه والمضمونات تملك بالضمان فعرفنا أن سبب الملك انعقد له قبل الإخراج وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان تمت سرقته في نصاب كامل فعليه القطع كما لو كان النقصان يسيرا وبيان ذلك إن شق الثوب من السارق عدوان محض فلا يصلح سببا للملك إنما يكون سبب الملك ما هو مشروع وهو يقرر الضمان عليه وهذا الملك يثبت شرطا لتقرر الضمان كيلا يجتمع البدل(9/289)
والمبدل في ملك رجل واحد فأما أن يكون العدوان سبب المملك فلا إذا ثبت هذا فإذا اختار المالك تضمينه قبل أن يقطع فقد صار مملكا للثوب منه وذلك مسقط للقطع كما لو ملكه بالبيع أو الهبة وإن اختار استرداد الثوب فلم يحدث السارق فيه ملكا ولا سبب ملك فيبقى القطع عليه.
قال وإذا سرق شاة فذبحها في الدار وأخرجها فلا قطع عليه لأنها صارت لحما واللحم مما يتسارع إليه الفساد وإتمام فعل السرقة فيما يتسارع إليه الفساد غير موجب للقطع وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لهذه العلة ولثبوت حق التضمين للمالك فإن له أن يضمنه قيمة الشاة ويملكه ذلك اللحم فكان ذلك شبهة في إسقاط القطع عنه.
قال وإذا قطعت يد السارق ورد المتاع على صاحبه ثم سرقه مرة أخرى لم يقطع عندنا استحسانا وعن أبي يوسف أنه يقطع وهو القياس وهو قول الشافعي لأنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه وبهذه الأوصاف قد لزمه القطع في المرة الأولى فكذلك في(9/290)
ص -141- ... المرة الثانية وهذا لأنه تعذر رد المتاع على المسروق منه وهذه العين في حق السارق كعين أخرى في حكم الضمان حتى لو غصبه أو أتلفه كان ضامنا وكذلك في حكم القطع ألا ترى أنه لو باعه المسروق منه من إنسان فسرقه من المشتري أو باعه ثم اشتراه ثم سرقه منه ثانيا يقطع فكذلك قبل البيع والشراء والدليل عليه أنه لو سرق غزلا فقطعت يده ثم نسجه المالك ثم سرقه ثانيا يقطع وكذلك الحنطة إذا طحنها وكذلك لو كانت بقرة فولدت عند المسروق منه ثم سرق ولدها يقطع والولد جزء منها فإذا كان يقطع بسرقة جزء منها فكذلك بسرقتها والدليل عليه أنه لو سرق من حرز فقطعت يده فخرب ثم أعيد ذلك الحرز فسرق منه مرة أخرى قطع فكذلك المال ولأن هذا حد لله تعالى خالصا فيتكرر بتكر الفعل في محل واحد كحد الزنى فإن من زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى لزمه الحد بخلاف حد القذف فإنه حق المقذوف عندي وخصومته في الحد غير مسموعة في المرة الثانية لأن المقصود إظهار كذب القاذف ودفع العار عن المقذوف وقد حصل ذلك بالمرة الأولى.(9/291)
وحجتنا فيه نوعان من الكلام أحدهما ما بينا أن صفة المالية والتقوم لم يبق في هذا العين حقا للمسروق منه بعد ما قطعت يد السارق بدليل أنه لو تلف في يده أو أتلفه لم يضمن فبعد ذلك وإن ظهرت المالية والتقوم في حقه بالاسترداد يبقى ما سبق مورثا شبهة والقطع يندرىء بالشبهات وهو نظير ما يوجد مباح الأصل في دار الإسلام إذا أحرزه إنسان صار مالا متقوما له ومع ذلك لم يقطع السارق فيه باعتبار الأصل فهذا مثله فأما إذا باعه ثم اشتراه فقد قيل لا يلزمه القطع أيضا ولئن سلمنا فإن الملك هناك يتجدد بتجدد السبب والمالية والتقوم باعتبار الملك فجعل متجددا أيضا بخلاف ما قبل البيع والشراء هذا لأن اختلاف أسباب الملك كاختلاف الأعيان ألا ترى أن بريرة كان يتصدق عليها وهي تهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "هو لها صدقة ولنا هدية" والمشتري إذا باع من غيره ثم اشتراه ثم وجد به عيبا لم يرده على البائع الأول فدل أن تبدل سبب الملك كتبدل العين فأما الغزل إذا نسجه فهو في حكم عين آخر فلهذا لو فعله الغاصب كان الثوب مملوكا له فإنما سرق في المرة الثانية عينا أخرى وعلى هذا الحرز فإنه إذا أعيد الحرز كان هذا حرزا متجددا غير الأول لأن الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار بل هو عبارة عن التحفظ والتحصن وكذلك حد الزنى فإنه يجب باعتبار المستوفي فالمستوفي مثلا شيء والمستوفي في المرة الثانية غير المستوفي في المرة الأولى فلهذا لزمه الحد مع أن هناك حرمة المحل لا تسقط في حقه باستيفاء الحد منه في المرة الأولى بخلاف المالية والتقوم الذي هو حق المالك في العين فإنه يسقط اعتباره باستيفاء القطع من السارق ولأن هذا حد لا يستوفي إلا بخصومة فلا يتكرر بتكرر الخصومة من واحد في محل واحد كحد القذف وبيانه أن الشهود لو شهدوا بالسرقة من غير خصم لا يثبت القطع بالاتفاق وتأثيره أن في خصومته في المرة الثانية نوع شبهة لأنه قد استوفي بخصومته مرة ما هو(9/292)
جزاء سرقة هذا العين فيمكن شبهة في خصومته في المرة الثانية وذلك مانع من القطع الذي يندرىء(9/293)
ص -142- ... بالشبهات غير مانع من الضمان الذي يثبت مع الشبهات بخلاف حد الزنى فإنه لا تعتبر الخصومة فيه.
قال والسارق تقطع في المرة الأولى يده اليمني فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق بعد ذلك لم يقطع عندنا استحسانا ولكن يعزر ويحبس حتى تظهر توبته وعند الشافعي رحمه الله تعالى في المرة الثالثة تقطع يده اليسرى وفي المرة الرابعة تقطع رجله اليمنى ثم يحبس بعد ذلك وعند أصحاب الظواهر في المرة الخامسة يقتل وحجته قوله تبارك وتعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] واسم اليد يتناول اليسرى كما يتناول اليمنى بدليل آية الطهارة ولا معنى لاستدلالكم بقراءة بن مسعود رضي الله عنه وهو قوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لأن بهذه القراءة ينبغي أن تقطع رجله اليمنى ثم عندكم إذا سرق وهو مقطوع اليد اليسرى أو مقطوع الإبهام من اليد اليسرى لم تقطع يده اليمنى وبالقراءتين وبالإجماع صار قطع اليمنى مستحقا من السارق فلا يجوز تركه بالرأي(9/294)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا سرق السارق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه" إلى أن قال في الخامسة "فإن عاد فاقتلوه" وفي رواية مفسرا في المرة الأولى ذكر اليد اليمنى وفي الثانية الرجل اليسرى وفي الثالثة اليد اليسرى وفي الرابعة الرجل اليمنى وروى المعلى أنه قطع من السارق هكذا وقد بينا حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والمعنى فيه أن اليد اليسرى يد باطشة فتقطع في السرقة كاليمنى وهذا لأن سرقته بالبطش والمشي يتأتى فقطعت هذه الأعضاء للزجر لتفويت ما به تتأتى السرقة وذلك موجود في اليد اليسرى والرجل اليمنى وربما يقولون المتناول للسرقة متناول فيها كاليد اليمنى والرجل اليسرى وكل عقوبة تتعلق باليد اليمنى تتعلق باليد اليسرى كالقصاص والدليل عليه أنه إذا أخطأ الحداد فقطع اليسرى مكان اليمنى لم يضمن وكان مستوفيا للحد حتى لا يضمن السارق المسروق واستيفاء الحد من غير محله لا يتحقق فتبين أن اليسرى محل إلا أنه لا يصار إليها في المرة الثانية مراعاة للترتيب المشروع وكان المعنى في شرع هذا الترتيب أن يكون الحد زاجرا له بالتنقيص له من بطشه ومشيه فإن لم يحصل الانزجار به فالزجر بالتفويت يتحقق به الإنزجار.(9/295)
وحجتنا فيه قراءة بن مسعود رضي الله عنه فاقطعوا أيمانهما قال إبراهيم النخعي أن من قراءتنا والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال فاقطعوا أيمانهما من الأيدي فلا يتناول الرجل أصلا ولا يتناول اليسرى والدليل عليه أنه في المرة الثانية لا تقطع يده اليسرى ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره فلو كان النص متناولا لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد والأيدي وإن ذكرت بلفظ الجمع فالأصل أن ما يوجد من خلق الإنسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع قال الله سبحانه وتعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يقال ملأت بطونهما ولأن(9/296)
ص -143- ... الجمع المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد يقال ركب القوم دوابهم فيصير معنى الآية فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى منهما ولكن ثبت ذلك بدليل الإجماع ولا يجوز الاعتماد على الآثار المروية
فقد قال الطحاوي تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لشيء منها أصلا ثم يحتمل أنه كان هذا في الابتداء فقد كان في الحدود تغليظا في الابتداء ألا ترى أنه قطع الأيدي والأرجل من العرنيين وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك باستقرار الحدود وقيل كان ذلك الرجل مرتدا على ما قال جابر رضي الله عنه في حديثه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقال "اقتلوه" فقيل إنما سرق يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اقطعوه" ثم ذكر هكذا في كل مرة إلى أن قال في المرة الخامسة "ألم أقل لكم اقتلوه" فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي وجوب القتل عليه ولما خاف أن يظن ظان أن موجب السرقة القتل أمر بقطعه حتى تبين لهم ذلك في المرة الخامسة فأمر بقتله فلما كان مستوجبا للقتل يباح قطع الأعضاء منه وقد بينا أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة اختلافا ظاهرا واختلافهم يورث شبهة ثم أخذنا بقول علي رضي الله عنه لأنه حاجهم بالمعنى حيث قال إني لأستحيي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ورجلا يمشي عليها وفي هذا بيان أن القطع إنما شرع زاجرا لا متلفا وفي استيفاء الأعضاء الأربعة إتلاف حكما أو شبهة الإتلاف والشبهة تعمل عمل الإتلاف فيما يندرىء بالشبهات وبيان الوصف أن الإمام مأمور بالتحرز عن الإتلاف عند إقامة الحد بحسب الإمكان ألا ترى أنه لا يقيم في الحر الشديد والبرد الشديد ولا في حالة المرض كيلا يؤدي إلى الإتلاف وأنه مأمور بالحسم بعد القطع كيلا يؤدي إلى الإتلاف وأنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسرى واليد إلى اليد أقرب ألا ترى أن في باب الطهارة لا يتحول إلى الرجل إلا(9/297)
بعد الفراغ من اليدين وإنما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن الإتلاف الحكمي فدل أنه شرع زاجرا لا متلفا وفي قطع الأعضاء الأربعة إتلاف للشخص حكما فإن فيه تفويت منفعة الجنس على الكمال وبقاء الشخص حكما ببقاء منافعه فلهذا يتعلق بقطع اليدين من العبد كل قيمة النفس ولهذا لا يجوز إعتاق مقطوع اليدين في الكفارة فعرفنا أنه استهلاك حكما وفيه شبهة الإتلاف والشبهة كالحقيقة فيما يندرىء بالشبهات وهذا بخلاف القصاص فالمستحق هناك اعتبار المساواة دون التحرز عن الإتلاف ألا ترى أن الإتلاف الحقيقي يستحق به إذا كان المساواة فيه بخلاف ما نحن فيه فأما الحداد إنما لا يضمن إذا قطع اليسرى لأنه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير له منه والإتلاف بعوض لا يكون سببا لوجوب الضمان وإنما أسقطنا ضمان المسروق لتحقيق معنى التعويض ولأن الحداد مجتهد فاعتمد ظاهر النص فيما صنع فنفذ اجتهاده ولم يكن ضامنا وهذا هو الجواب عما قاله إنه إذا كان مقطوع اليد اليسرى في الابتداء عندكم لا تقطع يده اليمنى قلنا اليد اليمنى محل بالنص ولكن للاستيفاء شرط وهو أن لا يكون على وجه يفوت منفعة الجنس وقد انعدم هذا الشرط إذا كان مقطوع اليد اليسرى فلانعدام الشرط لا تقطع اليمنى في هذه الحالة كما إذا كان مريضا لا(9/298)
ص -144- ... تقطع يده اليمنى مع وجود المحل لانعدام الشرط فربما ينضم ألم القطع إلى ألم المرض فيؤدي إلى الإتلاف وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فهذا مثله.
قال وإن شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقطعت يده ثم أتيا بإنسان آخر وقالا هذا السارق الذي شهدنا عليه ولكنا أخطأنا بذلك لم تجز شهادتهما على هذا وضمنا دية يد الأول هكذا روي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل شهد عليه رجلان بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بآخر فقالا وهمنا يا أمير المؤمنين إنما السارق هذا فقال لا أصدقكما على الثاني وأغرمكما دية اليد ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وبه يستدل الشافعي رحمه الله تعالى في وجوب القصاص على الشهود وقطع اليدين بيد واحدة ولكنا نقول إنما ذكر هذا اللفظ على سبيل التهديد ولم يكن كذبا منه لأنه علقه بشرط لا سبيل إلى معرفته وقد صح عن علي رضي الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة ذكره محمد في كتاب الرجوع والمعنى أنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة وتناقض كلامهما في الشهادة على الثاني فقد رجعا عن الشهادة على الأول فكانا ضامنين لما استوفى بشهادتهما وإن لم يرجعا ولكنهما وجدا عبدين كانت دية اليد على بيت المال لأن هذا خطأ من الإمام لما استوفاه لله تعالى فإن رجعا عن شهادتهما بعد الحكم بالسرقة قبل أن تقطع يده أو قالا شككنا في شهادتنا درئ الحد ولكن السرقة تسلم للمشهود له لأن رجوعهما بعد القضاء مبطل للقضاء فيما كان عقوبة لتمكن الشبهة أو فيما كان حقا لله تعالى لأن تمامه بالاستيفاء فأما فيما هو حق العبد فالشهادة تتأكد بنفس القضاء والرجوع لا يبطل حق المقضى له والمال حق المسروق منه ولهذا لا يبطل حقه برجوعهما بعد القضاء وإن لم يرجعا عند الحاكم ولكن شاهدين شهدا عليهما بالرجوع قبل القطع أو بعده فلا معتبر بهذه الشهادة وتقطع يد السارق لأن الرجوع عن الشهادة معتبر بالشهادة والشهادة في غير مجلس الحكم لا توجب شيئا فكذلك(9/299)
الرجوع فإنما شهد هذين على رجوع باطل.
قال وإذا شهد رجلان وامرأتان على رجل بسرقة مال لم يقطع وأخذ بالمال وكذلك الشهادة على الشهادة لأن في شهادة النساء ضرب شبهة من حيث أن الغالب عليهن الضلال والنسيان وإليه أشار الله تبارك وتعالى في قوله {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فلا يثبت بشهادتهما ما كان يندرىء بالشبهات وهو السرقة الموجبة للقطع ولكن يثبت به أخذ المال لأن الثابت به رد العين ووجوب الضمان وهو مما يثبت مع الشبهات وكذلك في الشهادة على الشهادة ضرب شبهة من حيث أن الكلام إذا تداولته الألسن يتمكن فيه زيادة ونقصان.
قال وإذا شهد شاهدان على رجلين أنهما سرقا من هذا الرجل ألف درهم واحد الرجلين غائب قطع الحاضر وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قولهما وفي قوله الأول لا يقطع ذكر القولين بعد هذا في الإقرار إذا أقر أنه سرق مع فلان الغائب لم يقطع في قول أبي(9/300)
ص -145- ... حنيفة رحمه الله تعالى الأول وهو قول زفر رحمه الله تعالى ويقطع المقر في قوله الآخر وهو قولهما وقد بينا نظيره في الحدود إذا أقر أنه زني بغائبة وجه قوله الأول أن الغائب لو حضر ربما يدعي شبهة يدرأ بها القطع عن نفسه وعن الحاضر فلو قطعنا الحاضر قطعناه مع الشبهة وذا لا يجوز كقصاص مشترك بين حاضر وغائب لا يكون للحاضر أن يستوفيه حتى يحضر الغائب وجه قوله الآخر أن السرقة ظهرت على الحاضر بالبينة أو بالإقرار فيستوفي الإمام حقا لله تعالى وهذا لأن السراق يحضرون وقل ما يحضرون بل في العادة يهربون وبعضهم يوجد وبعضهم لا يوجد فلو لم يقطع الحاضر أدى إلى سد باب هذا الحد وما من شبهة يدعيها الغائب إلا والحاضر يتمكن من أن يدعي ذلك وقد بينا أن بالشبهة التي يتوهم اعتراضها لا يمتنع الاستيفاء بخلاف القصاص فالشبهة هناك توهم عفو موجود من الغائب في الحال فإن جاء الغائب بعد ذلك لم يقطع بالشهادة الأولى حتى تعاد تلك البينة عليه أو غيرها فيقطع حينئذ لأن تلك البينة في حق الغائب قامت بغير محضر من الخصم فإن الحاضر لا ينتصب خصما عنه إما لأن النيابة في الخصومة في الحد لا تجري أو لأنه ليس من ضرورة ثبوت السرقة على الحاضر ثبوتها على الغائب فلهذا يشترط إعادة البينة على الغائب ليقطع.(9/301)
قال وإن كان القاضي يعرف شهود الحدود والقصاص أنهم أحرار مسلمون غير أنه لا يعرف عدالتهم ولا يطعن فيهم السارق حبسه حتى يسأل عنهم لأنه صار متهما بارتكاب الكبيرة فيحبس ولا تقطع يده قبل السؤال عن الشهود لأن هذا شيء لو وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه وتلافيه فعلى الحاكم أن يسأل عن الشهود صيانة لقضاء نفسه طعن الخصم فيه أو لم يطعن وهذا لأن الشبهة متمكنة في شهادتهم قبل التزكية ومع تمكن الشبهة لا يقدم على استيفاء ما يندرىء بالشبهات فأما في غير الحدود والقصاص مما لا يندرئ بالشبهات فالقاضي يقضي عند أبي حنيفة رحمه الله قبل أن يسأل عنهم إلا أن يطعن الخصم فيهم أو يستريب فيهم وعندهما لا يقضي ما لم يسأل عنهم على كل حال لأنه مأمور بالقضاء بالشهادة العادلة فما لم تظهر العدالة عنده لا يجوز له أن يقضي شرعا كما في الحدود وهذا لأنه مأمور بالتوقف في خبر الفاسق منهي عن العمل به فإنما ينتفي الفسق عنهم بالتزكية فما لم يظهر ذلك عنده بالسؤال لا يحل له أن يقضي لأن قبل السؤال ثبوت عدالتهم بالظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون عدول بعضهم على بعض" وهكذا روى عن عمر رضي الله عنه فيما كتب به إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقد عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسلم بإسلامه فتعديل صاحب الشرع إياه لا يختلف عن تعديل المزكي فيتمكن القاضي من القضاء إلا أن يطعن الخصم فهو أيضا معدل بإسلامه على لسان صاحب الشرع فللتعارض احتاج الإمام إلى السؤال ولهذا يتبين أن هذا ليس بقضاء بالظاهر بل بدليل موجب له وهو إسلامه فالمسلم يكون منزجرا عن ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه حتى يظهر خلافه ثم المستحق بشهادتهما مال إذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه بالرد فلا(9/302)
ص -146- ... يجب على القاضي الاستقصاء فيه للقضاء بخلاف الحدود وبهذا تبين أن السؤال عن الشهود هناك لحق المدعي فإنما يشتغل به عند طلبه فأما قبل الطلب لو اشتغل القاضي به كان ذلك منه إنشاء لخصومة وهو مأمور بفصل الخصومة لا بإنشائها فكان ذلك إعانة منه لأحد الخصمين وهو منهي عن ذلك.
قال وإذا شهد الشهود على رجل بحد هو خالص حق الله تعالى بعد تقادم العهد لم تقبل شهادتهم وقد بينا هذا في كتاب الحدود وذكرنا حد التقادم في حد الزنى والسرقة فأما في شرب الخمر فكذلك الجواب عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى حد التقادم زوال رائحة الخمر حتى لا يقام عليه إذا شهدوا بعد زوال رائحة الخمر أو أقر هو بذلك فمحمد رحمه الله تعالى يقول هذا حد ظهر سببه عند الإمام فلا يشترط لإقامته بقاء أثر الفعل كحد الزنى والسرقة وهذا لأن وجود الرائحة لا يمكن أن يجعل دليلا فقد يتكلف لزوال الرائحة مع بقاء أثر الخمر في بطن الشارب وقد توجد رائحة الخمر من غير الخمر فإن من استكثر من أكل السفرجل والتفاح يوجد منه رائحة الخمر قال القائل:
يقولون لي: إنك شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا(9/303)
فكان هذا شاهد زور ألا ترى أنه لا يقام الحد لوجود الرائحة ما لم يشهد الشهود عليه بالشرب أو يقربه وهما احتجا بحديث بن مسعود رضي الله عنه أنه أتى بشارب الخمر قال مزمزوه وترتروه واستنكهوه فإن وجدتم رائحة الخمر فحدوه فقد شرط لإقامة الحد وجود الرائحة والمعنى فيه أن حد الخمر ضعيف من الوجه الذي بينا أنه لا نص فيه فلا يقام إلا على الوجه الذي ورد الأثر به وإنما ورد الأثر بإقامة الحد على من كان الخمر في بطنه ولوجود الخمر في بطنه علامة وهو وجود الرائحة منه فلا يقضي إلا بظهور تلك العلامة كالمرأة إذا ادعت الولادة ما لم تشهد القابلة بذلك لا يقضي القاضي به ثم زوال رائحة الخمر بعد الشرب لا يكون إلا بمضي زمان وقد بينا أنه لا نص في حق التقادم ففيما أمكن اعتبار التقادم لمعنى في الفعل كان المصير إليه أولى من المصير إلى غيره ووجود رائحة الخمر من غير الخمر نادر ولا يكون مستداما أيضا فلا يعتبر ذلك ولكن هذا إذا كان بحضرة الإمام فأما إذا كانوا بالبعد منه فجاؤا به بعد زوال الرائحة لبعد المسافة فالصحيح أنه لا يمتنع استيفاء الحد بشهادتهم لأنه لم يوجد منهم تفريط وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ألا ترى أن الإمام إذا علم أن الشارب تكلف لإزالة الرائحة لا يمتنع من إقامة الحد عليه فهذا مثله.
قال وإذا قطعت يد السارق وقد قطع الثوب قميصا ولم يخطه أو صبغه أسود أو باعه من رجل أو وهبه منه وهو بعيبه في يده فإنه يرد على المسروق منه لأن القطع نقصان وكذلك السواد في الثوب نقص والبيع والهبة من السارق باطل لأنه حصل في ملك الغير بغير أمر صاحبه فكما يكون للمسروق منه أن يأخذه إذا وجده في يد السارق فكذلك إذا وجده(9/304)
ص -147- ... في يد المشتري منه فإن كان خاط الثوب فلا سبيل للمسروق منه عليه لما اتصل بالثوب من وصف متقوم هو حق السارق ألا ترى أن الغاصب لو قطع الثوب وخاطه لم يتمكن المغصوب منه من أخذ الثوب منه بعد ذلك فهذا مثله إلا أن هناك يكون الغاصب ضامنا للثوب بمنزلة ما لو أتلفه أو تلف في يده وها هنا لا يكون ضامنا لأنه لو تلف في يده أو أتلفه بعد القطع لا يضمن فكذلك إذا احتبس عنده بما اتصل به من الوصف حقا له فأما إذا صبغه أحمر أو أصفر فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينقطع حق المسروق منه في الاسترداد وعند محمد رحمه الله لا ينقطع ولكنه يأخذ الثوب ويعطي السارق ما زاد الصبغ فيه لأن عين الثوب قائم بعد الصبغ ومن وجد عين ماله فهو أحق به بالنص ثم الصبغ لو حصل من الغاصب لم ينقطع به حق المغصوب منه في الاسترداد فكذلك من السارق إلا أن ما اتصل به من الصبغ مال متقوم من الصباغ وهو وصف والثوب أصل والوصف تبع للأصل فكان لصاحب الأصل أن يأخذه فيعطيه ما زاد الصبغ فيه كما في الغاصب ولو أراد أن يسلم له الثوب ويضمنه قيمة ثوبه أبيض لم يكن له ذلك بخلاف الغصب لأن عند تسليم الثوب له يجعله في حكم المستهلك ولو استهلك المغصوب حقيقة كان ضامنا له ولو استهلك المسروق حقيقة لم يكن ضامنا فباعتبار هذا المعنى يقع الفرق بينهما في هذا الجانب فأما عند اختيار الأخذ فلا فرق بين الغاصب والسارق ومن حيث أن كل واحد منهما جان وأن مراعاة حقه بأداء قيمة الصبغ إليه ممكن فلا ضرورة في قطع حق صاحب الثوب عن الثوب وجه قولهما أن الوصف الذي اتصل بالثوب متقوم حقا للسارق فينقطع به حق المسروق منه في الاسترداد كالخياطة وهذا لأن هذا حق ضعيف له مقصور على العين ألا ترى أنه لا يتعدى إلى بدل العين عند الاستهلاك ومثل هذا الحق يبطل بالصبغ كحق الواهب في الرجوع وترجيح الأصل عند مساواة الحقين في القوة فأما الضعيف لا يظهر في مقابلة القوي بخلاف الغاصب(9/305)
فإن حق المغصوب منه قوي يسري إلى بدل العين فيستقيم الترجيح هناك باعتبار الأصل والتبع واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي بحرف آخر فقال لو بقي الثوب على ملك المسروق منه بعد الصبغ تعذر استيفاء القطع من السارق لأنه يصير شريكا في العين بملكه في الصبغ واقتران الشركة بالسرقة يمنع وجوب القطع فاعتراضها بعد السرقة يمنع الاستيفاء وبالإجماع يستوفي القطع من السارق فعرفنا أنه لم يبق حق المسروق منه في الثوب.
فإن قيل: هذا فاسد فإنه إذا جعل السارق متملكا للثوب يمنع استيفاء القطع منه أيضا.
قلنا نعم ولكن يجعل الثوب في حكم المستهلك فإنما يقطع بسرقة ما قد صار مستهلكا لا باعتبار ما هو مملوك له في الحال كما إذا خاط الثوب فأما مع بقاء حق الأخذ له لا يمكن جعله مستهلكا فيتقرر معنى الشركة وعلى هذا الطريق نقول لو صبغه بعد ما قطعت يده لا يتعذر على المسروق منه الاسترداد لأنه لا تأثير للشركة بعد استيفاء القطع والدليل على(9/306)
ص -148- ... اعتبار معنى الشركة أن في المغصوب لو اختار المغصوب منه بيع الثوب استقام ذلك وضرب صاحب الثوب في الثمن بقيمة الثوب أبيض والآخر بقيمة الصبغ وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الشركة بينهما في المبيع وعلى هذا الخلاف لو كان المغصوب سويقا فلته بسمن لأن السمن زيادة في السويق من غير أن يكون مبدلا للعين حتى لا ينقطع به حق المغصوب منه فهو كالصبغ في الثوب في جميع ما ذكرنا وإن كان المسروق دراهم فسبكها أو صاغها قلنا كان للمسروق منه أن يأخذها لأن الصنعة بانفرادها لا تتقوم في الذهب والفضة فلا تثبت الشركة باعتبارها بينهما وقد ذكر الخلاف في الجامع الصغير في الغصب أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا ينقطع به حق المغصوب منه عن استرداد العين وعندهما ينقطع فكذلك في السرقة والأصح أنه على ذلك الخلاف ومنهم من يفرق لأبي يوسف رحمه الله تعالى فيقول هناك لو اعتبرنا الغاصب في الصنعة لم يبطل به حق المغصوب منه أصلا ولكنه يضمنه مثل المغصوب وها هنا لو اعتبرنا ذلك بطل به حق المسروق منه لأنه لا يتمكن من تضمين السارق والعين متقوم من كل وجه والصنعة تتقوم تبعا للأصل وإن كانت لا تتقوم منفردة عن الأصل فكان إبقاء حق المسروق منه في العين أولى فإن كانت السرقة صفرا فجعلها قمقمة أو حديدا فجعله درعا لم يأخذه لأن للصنعة قيمة في هذه الأعيان ولهذا يخرج بالصنعة من أن يكون مال الربا فلا بد من اعتبارها حقا للسارق ثم هذه الصنعة لو وجدت من الغاصب انقطع بها حق المغصوب منه عن استرداد العين فكذلك إذا وجدت من السارق وكذلك كل شيء من العروض وغيرها إذا كان قد غيره عن حاله فإن كان التغيير بالنقصان فللمسروق منه أن يأخذ كما للمغصوب منه إلا أن المغصوب منه يضمن الغاصب النقصان والمسروق منه لا يضمنه النقصان اعتبارا لإتلاف الجزء بإتلاف الكل وإن كان التغيير زيادة فيه فإن كان على وجه لو حصل من الغاصب لا يتمكن المغصوب منه من أخذ العين بعد ذلك(9/307)
فكذلك المسروق منه لا يتمكن من أخذه وإن كان على وجه لا يتعذر على المغصوب منه استرداد العين فهو على الخلاف الذي بينا.
قال وإن كانت السرقة شاة فولدت أخذهما جميعا المسروق منه لأن الولد زيادة متولدة من العين وكما يتمكن من استرداد العين قبل انفصال هذه الزيادة فكذلك بعدها ألا ترى أن المغصوب منه يتمكن من الاسترداد بعد الولادة وإن حق الواهب لا ينقطع في الرجوع بالولادة وهذا بخلاف السمن والصبغ فالزيادة هناك في ملك السارق يثبت باعتبارها معنى الشركة وها هنا الزيادة في ملك المسروق منه فلا يثبت باعتبارها للسارق شركة.
قال وإذا قطع في صوف أو كتان أو قطن فرده على صاحبه فصنع منه ثوبا ثم سرقه فعليه القطع لأن العين تتبدل بالصنعة والثوب في حكم الحادث بالنسج ألا ترى أنه لو وجد هذا من الغاصب كان الثوب مملوكا له فسرقته لذلك بعد صنعته بمنزلة سرقته مالا آخر.
قال فإن كان السارق أشل اليد اليمنى واليد اليسرى صحيحة قطعت اليمنى لأن اليمنى(9/308)
ص -149- ... لو كانت صحيحة وجب قطعها بسبب السرقة فإذا كانت شلاء أولى وهذا بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى شلاء فإنه لا تقطع يده اليمنى لأن شرط استيفاء القطع أن لا يكون مفوتا منفعة الجنس وفي قطع اليمنى إذا كانت اليسرى شلاء تفويت منفعة البطش وإذا كانت اليسرى صحيحة فليس في قطع اليمنى تفويت منفعة البطش ولا تقطع الرجل اليسرى أيضا لأن فيه تفويت منفعة المشي فإن اليد اليسرى إذا كانت شلاء فقطعت رجله اليسرى لا يمكنه المشي بعصى بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى صحيحة.
فإن قيل: التفويت لا يكون باستيفاء اليد اليمنى بل بالشلل في اليسرى.
قلنا لا كذلك فالحكم إذا كان ثابتا بعلة ذات وصفين يحال به على آخرهما وجودا وآخرهما قطع اليد اليمنى ها هنا فكان التفويت مضافا إليه وكذلك إذا كانت رجله اليمنى شلاء لم تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى لأن فيه تفويت منفعة الجنس وهو المشي فإنه لا يمكنه المشي بعده بعصى فإن كانت رجله اليسري شلاء قطعت يده اليمنى لأنه ليس فيه تفويت فإنه يتمكن من المشي بعصى إذا كانت يده اليسرى صحيحة.
قال وإذا حبس السارق ليسأل عن الشهود فقطع رجل يده اليمنى عمدا فعليه القصاص لأن بمجرد الشهادة قبل اتصال القضاء بها لا تسقط حرمة يده فالقاطع استوفى يدا متقومة من نفس محترمة فعليه القصاص وقد بطل الحد عن السارق لفوات المحل وهو ضامن قيمة المسروق لأن سقوط ذلك لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى ولم يوجد ذلك وكذلك إذا كان قطع يده اليسرى لأنه يتعذر استيفاء الحد بعده لما فيه من تفويت منفعة البطش.(9/309)
قال فإن حكم عليه بالقطع في السرقة فقطع رجل يده اليمنى من غير إذن الإمام فلا شيء عليه لأنه سقطت قيمة يده بقضاء الإمام عليه بالقطع فالقاطع استوفى يدا لا قيمة لها فلم يكن ضامنا ولكن الإمام يؤدبه على ذلك لأنه أساء الأدب حين قطعه قبل أن يأمر الإمام به وإن أمر القاضي الحداد بقطع يده اليمنى فأخطأ وقطع يده اليسرى فهو ضامن في القياس لأن بالقضاء بالقطع في اليد اليمنى لم تخرج اليد اليسرى من أن تكون محترمة متقومة فقطعها خطأ قبل القضاء وبعده سواء وفي الاستحسان لا شيء عليه لأن فعله حصل في موضع الاجتهاد فإن المنصوص عليه قطع اليد من السارق وقد قطع اليد واجتهد وإن أخطأ فلا ضمان عليه إذا كان فعله في موضع الاجتهاد يوضحه أنه وإن فوت عليه اليسرى فقد عوض اليمنى لأنه لا تقطع يده اليمنى بعد هذا وما عوضه من جنس ما فوت عليه فهو خير له مما فوت عليه لأن منفعة البطش في اليد اليمنى أظهر والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان وإن تعمد ذلك فإن كان السارق أخرج يده اليسرى فقال أقطعها فلا ضمان عليه بالاتفاق لأنه قطعها بإذن صاحب اليد ألا ترى أن من قطع يد الغير بإذنه من غير أن يكون قطعه مستحقا بالسرقة لم يكن ضامنا شيئا فهذا أولى وإن لم يكن أمره بذلك فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أخذا(9/310)
ص -150- ... بالقياس ها هنا وقالا يضمن الحداد لأنه جان فيما صنع متعد فيكون ضامنا كما لو قطع رجله أو أنفه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالاستحسان لما بينا أن الحداد مجتهد وفعله حصل في موضع الاجتهاد بخلاف ما لو قطع رجله أو أنفه ولأنه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير منه والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتعدي كالشهود إذا شهدوا عليه ببيع مال بمثل قيمته فأما إذا قطع أنفه فلم يعوضه مما أتلف عليه شيئا لأن القطع في اليد لا يسقط عنه بذلك وإن قطع رجله اليسرى فلم يعوضه شيئا لأن القطع لا يسقط عنه بهذا وإن قطع رجله اليمنى فلم يعوضه من جنس ما فوت عليه لأن منفعة البطش ليست من جنس منفعة المشي.
قال وإذا حكم عليه بالقطع بشهود في السرقة ثم انفلت ولم يكن حكم عليه حتى انفلت فأخذ بعد زمان لم يقطع لما بينا أن حد السرقة لا تقام بحجة البينة بعد تقادم العهد والعارض في الحدود بعد القضاء قبل الاستيفاء كالعارض قبل القضاء وإن اتبعه الشرط وأخذوه من ساعته قطعت يده لأن مجرد الهرب ليس بمسقط للحد عنه ولأنه لم يتمكن ها هنا تهمة التهاون والتقصير في الطلب من أحد.(9/311)
قال وإذا ردت السرقة إلى صاحبها قبل أن يرفع السارق إلى الإمام ثم رفع إليه لم يقطع لأن توبته قد تحققت برد المال وقد نص الله تعالى في السرقة الكبرى على سقوط الحد بالتوبة قبل قدرة الإمام عليه ففي الصغرى أولى ولأن الإمام لا يتمكن من إقامة الحد عليه إلا بعد ظهور السرقة عنده ولا تظهر إذا رد المال قبل أن يرفع إليه لأن السرقة لا تظهر عنده إلا بالخصومة في المال ولا خصومة بعد استرداد المال ولأنا قد بينا أن الخصومة شرط وانعدام الشرط قبل القضاء يمنع القاضي من القضاء بالقطع وإذا كانت إصبعان من اليسرى مقطوعة لم تقطع يده اليمنى في السرقة لأن قطع الإصبعين ينقص من البطش باليد اليسرى أو يفوت بمنزلة الشلل فقطع اليد اليمنى بعد ذلك يكون تفويتا لمنفعة الجنس وكذلك إن كانت الإبهام وحدها مقطوعة لأن منفعة البطش منها تفوت بقطعها كما تفوت بالشلل وإذا كانت أصبع واحدة سواها مقطوعة قطعت اليد اليمنى لأن قطع الإصبع الواحدة سوى الإبهام لا يفوت منفعة البطش من اليسرى فقطع اليد اليمنى في هذه الحالة لا يفوت عليه منفعة البطش وإن كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع فإن كان لا يستطيع القيام والمشي عليها قطعت يده وإن كان لا يستطيع أن يمشي عليها لم تقطع وكذلك إن كان المقطوع من رجله اليسرى أصبعين لأن فيه تفويت منفعة المشي عليه.
قال وكل شيء درأت فيه الحد ضمنته السرقة إن كانت مستهلكة وإذا قطعت لم أضمنه وإن كانت قائمة رددتها لبقاء الملك فيها لصاحبها.
قال وإذا سرق سرقات لم يقطع بها إلا يد واحدة لأن مبنى الحدود على التداخل ومعنى الزجر يتم بقطع يد واحدة فإن حضروا جميعا قطعت يده بخصومتهم ولم يضمن شيئا من السرقات المستهلكة لأن في حق كل واحد منهم قد استوفى الحد بخصومته بعد ما ظهرت(9/312)
ص -151- ... السرقة فكأنه ليس معه غيره وإن حضر أحدهم قطعت يده بخصومته على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يضمن شيئا من سرقاته المستهلكة وعندهما هو ضامن للسرقات كلها إلا السرقة التي قطعت يده بالخصومة فيها وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى في نوادره هذا الخلاف على عكس هذا وما ذكره في الأصل أصح وجه قولهما أن الأخذ الموجب للضمان متقرر في حق كل واحد منهم حتى لو سقط الحد بشبهة كان ضامنا لكل واحد منهم ماله فإنما سقط الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى وإنما وجد ذلك في حق الذي خاصم خاصة لأن القطع في سرقته دون غيره من السرقات فإن الشرط الخصومة المظهرة للسرقة ولم يوجد ذلك في حق الباقين لأن الحاضر ليس بخصم عنهم ولأنه ما خاصم إلا في سرقته فيجعل في حقهم كأنه تعذر إقامة الحد للشبهة فبقي الضمان واجبا لهم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في حق السارق حضور أحدهم كحضورهم فإنه لا يقطع به إلا يد واحدة في الأحوال كلها وكما لا يضمن شيئا لو حضروا فكذلك إذا حضر بعضهم وهذا لأن الحد هو المستحق عليه بكل شيء سرقه والمقام عليه حد واحد بالاتفاق فيكون مسقطا ضمان السرقات كلها ألا ترى أنه لو أقر بالسرقة والمسروق منه غائب فاجتهد الإمام وقطع يده لم يضمن للمسروق منه شيئا وإن حضر فصدقه.
قال وإن شهد شاهدان أنه نقب بيت هذا وأخرج منه كارة لا يدريان ما فيها لم يقطع لأن المشهود به مجهول وشرائط وجوب الحد بمثل هذه الشهادة المجهولة لا تثبت ولم يشهدوا للمسروق منه بالملك في شيء أيضا فالمخرج من بيته قد يكون ماله وقد يكون مال المخرج وإن قالوا نشهد أنه سرق منه هذا المتاع فإذا هو ثياب مختلفة تساوي مالا عظيما قطع لأنهم شهدوا بفعل السرقة في معلوم فإن الإعلام بالإشارة إلى العين أبلغ من الإعلام بالتسمية ولأن الشاهد لا يتمكن عند تحمل الشهادة من أن يقتص ما سرقه ليتأمل كل ثوب منه ولا يكلف أداء الشهادة بما ليس في وسعه.(9/313)
قال وإن كان للسارق دين على المسروق منه لم يبطل القطع عنه بخلاف ما يقوله بعض الناس أن قيام الدين عليه له سبب لاستحقاق ماله ألا ترى أن مال المديون لا يكون نصاب الزكاة بطريق أنه كالمستحق لصاحب الدين بدينه وسبب الاستحقاق يورث شبهة في درء الحد عنه ولكنا نقول محل الدين الذمة ولا تعلق له بالمال خصوصا في حال صحة المديون حتى يملك التصرف في ماله كيف شاء ومع من شاء ببدل وبغير بدل وإنما تعلق الدين بالمال من حيث إن قضاء الدين يكون به فأما قبل القضاء فلا حق لصاحب الدين في مال المديون إلا أنه إذا كان الدين من جنس ما أخذه كان فعله استيفاء ولصاحب الدين أن يستوفي جنس حقه إذا ظفر به فلا يلزمه القطع لذلك فأما إذا كان من خلاف جنس حقه ففعله ليس باستيفاء ولكنه سرقة موجبة للحد عليه فإن قال إنما أردت أن آخذه رهنا بحقي أو قضاء لحقي درئ عنه(9/314)
ص -152- ... الحد لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فإن بن أبي ليلى رحمه الله كان يقول وإن ظفر بخلاف جنس حقه كان له أخذه لوجود المجانسة باعتبار صفة المالية ومن العلماء من يقول يأخذه رهنا بحقه والاختلاف المعتبر يمكن شبهة وهذا لأن فعله كان في موضع الاجتهاد لا ينفك عن شبهة وإن كان هو مخطئا في ذلك التأويل عندنا.
قال وإن سرق الحربي المستأمن في دار الإسلام لم يقطع وهو ضامن إلا على قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى فإنهما يقولان يقطع ولا ضمان عليه وقد بينا نظيره في كتاب الحدود.
قال وإذا أشكل على الإمام قيمة المسروق واختلف أهل العلم فقال بعضهم قيمتها عشرة دراهم وقال بعضهم أدنى لم يقطع لأن كمال النصاب شرط يراعي وجوده حقيقة وذلك ينعدم عند اختلاف المقومين فيه وقد بينا حديث عمر حين قضى بالقطع على السارق فقال عثمان رضي الله تعالى عنه مرقته لا تساوي إلا ثمانية دراهم فدرأ القطع عنه.
قال وإن كان أراها واحدا منهم فقال هي تساوي عشرة دراهم لم يقطعها حتى يريها لآخر منهم لأن الحجة الحكمية لا تتم بقول واحد وشرط القطع يعتبر ثبوته بالحجة الحكمية فلهذا لا يكتفي بقول الواحد حتى يراها غيره فإن اجتمع اثنان على ذلك ولم يرها أحد بعد ذلك قطعه لأن سبب الحد يثبت بشهادة اثنين فكذلك شرطه يثبت بقولهما في الحكم فيستوفي القطع إلا أن يقول آخر لا يساوي ذلك فحينئذ للمعارضة تتمكن الشبهة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع.(9/315)
قال فإن سرق دينارا أو مثقال ذهب لا يساوي عشرة دراهم لم يقطع لقيام الدليل على أن نصاب السرقة يتقدر بعشرة دراهم وغير المنصوص يقام مقام المنصوص عليه باعتبار القيمة فإذا لم تبلغ قيمته نصابا لم يتم شرط القطع ولا يقال الدينار كان مقوما بعشرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك شيء يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة في قلة الوجود وكثرة الوجود وليس هذا الحكم شرعيا ليصار في معرفته إلى ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ولو شهدوا أن هذا سرق ولم يعرفوا اسمه قطع ولم يضرهم أن كانوا لا يعرفون اسمه لأنهم عرفوه بالإشارة إليه فهو أبلغ من ذكر الاسم والنسبة ولأنه إنما يحتاج إلى ذكر الاسم والنسبة لتعريف الغائب به وهو حاضر فلا يقدح في شهادتهم أن لا يعرفوا اسمه.
قال وإن قال السارق صاحب البيت أذن لي في دخولي أو قال كنت ضيفا عنده درى ء عنه القطع لأنه لو ثبت ما ادعاه لم يكن فعله موجبا للقطع فبمجرد دعواه تتمكن الشبهة كما لو ادعى ملك العين لنفسه وهذا لأنه إذا آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف فلا يستحسن إقامة القطع معه.
قال وإن كان القوم في دار واحدة كل رجل في مقصورة وباب عليه مغلق دون مقصورة(9/316)
ص -153- ... صاحبه فنقب رجل منهم على صاحبه فسرق منه قال لا يقطع إلا أن تكون دارا عظيمة فيقطع وقد بينا أن الدار العظيمة كالمحلة فكل مقصورة منها حرز على حدة ومن يسكن بعض المقاصير يتم منه فعل السرقة في مقصورة صاحبه فأما إذا كانت دارا صغيرة فبيوت هذه الدار كلها حرز واحد وإن كان يغلق على كل بيت منها باب فمن يسكن بعض هذه البيوت فهو متمكن من الدخول في الحرز شرعا فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه ولهذا قلنا في الدار الصغيرة لو أخذ مع المتاع في صحن الدار لا يقطع ما لم يخرجه إلى السكة بخلاف الدار العظيمة فإن السارق إذا أخذ من مقصورة منها إذا أخذ في صحن الدار يقطع.(9/317)
قال وإذا أجر الرجل منزله من رجل وهو في منزل آخر فسرق المؤاجر من المستأجر متاعه من ذلك الموضع قطع في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا قطع عليه لقيام ملكه في الحرز ووجوب القطع باعتبار هتك الحرز وأخذ المال ثم لو سرق العين الذي أجره من المستأجر لم يقطع لقيام ملكه في العين فكذلك إذا سرق من البيت الذي أجره وهذا لأن له نوع تأويل في الدخول لينظر هل أسترم شيء منه فيرم ذلك أو هل خرب المستأجر شيئا منه فيمنعه من ذلك وأبو حنيفة رحمه الله يقول سرق ملك الغير من حرز صاحب الملك فيلزمه القطع كما لو باع منزله ثم سرق منه متاع المشتري وهذا لأن الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار ولكنه عبارة عن التحفظ بها وذلك صار للمستأجر خالصا لا حق للآجر فيه في مدة الإجارة بخلاف المال الذي آجره لأن وجوب القطع باعتبار العين والعين باق على ملكه والدليل عليه أنه لو حدث الملك للسارق في المال بعد تمام فعل السرقة يسقط القطع عنه ولو حدث له الملك في الحرز لم يسقط القطع عنه فكذلك إذا اقترن بالسبب ولم يذكر في الكتاب أن المستأجر إذا سرق متاع الآجر من منزله ففي بعض النوادر ذكر أنه على الخلاف أيضا والأصح أنه إذا كان المنزل المؤاجر حرزا على حدة والمنزل الذي يسكنه المؤاجر حرزا على حدة فإنه يلزمه القطع عندهم لأنه لا تأويل للمستأجر في منزل المؤاجر ولا شبهة وقد ذكر الخلاف في بعض نسخ الأصل وتأويل ذلك فيما إذا كانت صغيرة أجر منزلا منها من إنسان حتى يكون الكل في حكم حرز واحد فحينئذ لا يلزمه القطع عندهما ولكن إذا كان التأويل هذا فكذلك ينبغى على قول أبى حنيفة رحمه الله كما لو باع منزلا منها من إنسان فهذا فصل مشتبه ولكن الجواب الصحيح فيه ما بينا ثم ذكر في الأصل ما يقطع فيه وما لا يقطع من الأعيان وذكر في الجملة أنه يقطع في الحناء والوسمة وقد ذكر قبل هذا أنه لا يقطع فيهما فتأويل ما ذكر قبل هذا في الرطب منه(9/318)
قبل أن يحرزه صاحبه إحرازا تاما وتأويل ما ذكر ها هنا في اليابس منه فهو نظير الثمار لا يقطع في الرطب ويقطع في الفواكه اليابسة إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ما لا يقطع في رطبه لا يقطع في يابسة لأن العين على حاله بعد اليبس فيصير ذلك شبهة وقد بينا أنه يقطع في اللؤلؤ والياقوت والزمرد والفيروزج إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى فإنه يقول هذا من الأحجار ولا قطع في(9/319)
ص -154- ... الحجر ولكنا نقول إنما لا يقطع في الحجر لمعنى التفاهة وما يكون من أعز الأموال يرغب فيه من يتمكن منه لا يكون تافها.
قال ولا يقطع في الزجاج أما جوهر الزجاج فلأنه يوجد مباح الأصل بصورته في دار الإسلام غير مرغوب فيه فأما المعمول منه فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول يجب فيه القطع بمنزلة المعمول من الخشب لأن هذا لا يوجد بصورته مباحا والأصل فيه أنه لا يجب لأن هذا مما يتسارع إليه الكسر فهو في معنى ما يتسارع إليه الفساد ولأن الصنعة فيه لا تغلب على الأصل عادة وعلى هذا الأصل قال لا يقطع في البواري والقصب لأن القصب يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه ثم الصنعة لا تغلب على الأصل من حيث أنه لا يتضاعف قيمته بالصنعة ويكون تافها بعد الصنعة في الاستعمال والبسط في المواضع المحرزة وغير المحرزة بخلاف المعمول من الخشب فالصنعة هناك تغلب على الأصل ألا ترى أن القيمة تزداد بالصنعة أضعافا وذكر أن في العاج يجب القطع وكذلك في الأبنوس لأن هذا مما لا يوجد مباح الأصل في دار الإسلام ولأنه لا يكون تافها فإن من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة وعلى هذا يجب القطع في الصندل والعنبر وما أشبهه لأنه لا يوجد مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب فيه وإنما يوجد ذلك في دار الحرب وذلك لا يمكن شبهة في الأموال لأن الأموال كلها في دار الحرب على الإباحة.
قال وإذا شهد شاهدان أنه سرق من هذا العبد كذا وكذا يقطع وكذلك السارق من أهل الذمة ومن مال اليتيم لأنه لا تأويل له في مال هؤلاء ولا شبهة والسرقة تظهر بخصومة العبد والذمي ووصي اليتيم عند الإمام بلا شبهة.(9/320)
قال ولا يقطع السارق من مال الحربي المستأمن عندنا استحسانا وفي القياس يقطع وهو قول زفر رحمه الله لأن ماله محرز بدارنا فإنه معصوم كمال الذمي وجه الاستحسان أن العصمة بالإحراز بالدار وإحراز المستأمن لا يتم ألا ترى أن إحراز المال تبع لإحراز النفس ولا يتم إحراز نفسه بدار الإسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فكذلك لا يتم إحراز ماله ولأنه بقي حربيا حكما حتى يبقى النكاح بينه وبين زوجته في دار الحرب ومال الحربي مباح الأخذ إلا أنه يتأخر إباحة الأخذ بسبب الأمان إلى أن يرجع إلى دار الحرب فيصير ذلك شبهة في إسقاط القطع عن السارق بخلاف الذمي فإنه يتم إحراز نفسه بعقد الذمة ويخرج به من أن يكون حربيا من كل وجه.
قال رجل من أهل العدل أغار في عسكر أهل البغي ليلا فسرق من رجل منهم مالا فجاء به إلى الإمام العدل قال لا يقطعه لأن لأهل العدل أن يأخذوا أموال أهل البغي على أي وجه يقدرون على ذلك ويمسكوه إلى أن يتوبوا أو يموتوا فيرد على ورثتهم فتتمكن الشبهة في أخذه بهذا الطريق وكذلك لو أغار رجل من أهل البغي في عسكر أهل العدل لم يقطع أيضا(9/321)
ص -155- ... لأن أهل البغي يستحلون أموال أهل العدل وتأويلهم وإن كان فاسدا فإذا انضم إليه المنعة كان بمنزلة التأويل الصحيح ألا ترى أنه لا يضمن الباغي ما أتلف من مال العادل بهذا الطريق فكذا لا يلزمه القطع.
قال ولو أن رجلا من أهل دار العدل سرق مالا من آخر وهو ممن يشهد عليه بالكفر ويستحل ماله ودمه قطعته لأن التأويل ها هنا تجرد عن المنعة ولا معتبر بالتأويل بدون المنعة ولهذا لا يسقط الضمان به فكذلك القطع وهذا لأنه تحت حكم أهل العدل فيتمكن أمام أهل العدل من استيفاء القطع منه بخلاف الذي هو في عسكر أهل البغي فإن يد أمام أهل العدل لا تصل إليه فلهذا افترقا.(9/322)
قال وإذا أقر السارق بالسرقة مرة واحدة قطعت يده في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى لا يقطع ما لم يقر مرتين وكذلك الخلاف في الإقرار بشرب الخمر وذكر بشر رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وحجتهما ما روى عن علي رضي الله عنه أن رجلا أقر بالسرقة عنده مرتين فقطع يده وهذا لأنه حد لله تعالى خالصا فيعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهادة كحد الزنى ولهذا روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه شرط إقرارين في مجلسين مختلفين وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بسارق فقال: "أسرقت ما أخاله سرق" فقال سرقته فأمر بقطعه ولم يشترط عدد الإقرار فيه ولأن ما ثبت بشهادة شاهدين من العقوبات يثبت بإقرار واحد كالقصاص وقد بينا أن الزنى مخصوص من بين نظائره وفي الكتاب علل فقال لو لم أقطعه في المرة الأولى لم أقطعه في المرة الثانية لأن المال صار دينا عليه بالإقرار الأول فهو بالإقرار الثاني يريد إسقاط الضمان عن نفسه بقطع يده فيكون متهما في ذلك وإن كان المال قائما بعينه رددته بعد الإقرار الأول قبل الإقرار الثاني فكيف يلزمه القطع بالإقرار بعد رد المال ألا ترى أن بالشهادة لا يلزمه القطع بعد رد المال فبالإقرار أولى وإن رجع قبل أن يقطع درى ء القطع لأنه ليس ها هنا من يرد جحوده إذ القطع من حق الله تعالى فيتحقق التعارض بين الخبرين فأما في حق المال لا يصح رجوعه لأن المسروق منه يكذبه في الرجوع والمال حقه.
قال فإن شهد شاهدان على إقراره وهو منكر أو هو ساكت لا يقر ولا ينكر لم أقطعه لأن الإقرار غير ملزم إياه حتى يتمكن من الرجوع عنه فلا يمكن إثباته بالبينة وسكوته كإنكاره فإن البينة لا تقبل إلا على المنكر وإنكاره بمنزلة الرجوع أو أقوى منه ولكن عليه الضمان لأن رجوعه في حق الضمان باطل فكذلك إنكاره.(9/323)
قال وإذا أقر العبد بسرقة مال فهو على وجهين إما أن يكون مأذونا له أو محجورا عليه وكل وجه على وجهين إما أن يكون المال مستهلكا أو قائما بعينه في يده فإن كان العبد مأذونا(9/324)
ص -156- ... أقر بسرقة مال مستهلك فعليه القطع في قول علمائنا الثلاثة وقال زفر رحمه الله تعالى لا قطع عليه ولكن يضمن المال وإن كان المال قائما بعينه في يده تقطع يده ويرد المال على المسروق منه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرد المال ولا يقطع يده لأن إقراره في حق المال يلاقي حقه فإنه يلاقي كسبه أو ذمته وهو منفك الحجر عنه في ذلك فأما في حق القطع يلاقي نفسه والفك بحكم الإذن لم يتناوله ألا ترى أنه لو أقر برقبته لإنسان كان إقراره باطلا فكذلك إقراره بما يوجب استحقاق نفسه أو جزء منه يكون باطلا وجه قول علمائنا رحمهم الله تعالى أن وجوب الحد باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك والعبد في هذا كالحر فإقراره فيما يرجع إلى استحقاق الحر كإقرار الحر فلهذا لا يملك المولى الإقرار عليه بذلك وما لا يملك المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كالطلاق يوضحه أنه لا تهمة في إقراره لأن ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما يلحق المولى والإقرار حجة عند انتفاء التهمة عنه.(9/325)
قال فإن كان العبد محجورا عليه فأقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده إلا على قول زفر رحمه الله تعالى لأن فيما كان العبد مبقيا على أصل الحرية المأذون والمحجور عليه فيه سواء وإن أقر بسرقة مال قائم بعينه في يده فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقطع يده ويرد المال إلى المسروق منه وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تقطع يده والمال للمولى وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا تقطع يده والمال للمولى أما محمد رحمه الله تعالى يقول إقرار المحجور عليه بالمال باطل لأن كسبه ملك مولاه وما في يده كأنه في يد المولى ألا ترى أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة وإذا لم يصح إقراره في حق المال بقي المال على ملك مولاه ولا يمكن أن يقطع في هذا المال لأنه ملك لمولاه ولا في مال آخر لأنه لم يقر بالسرقة فيه والمال أصل ألا ترى أن المسروق منه لو قال أبغي المال تسمع خصومته ولو قال أبغي القطع ولا أبغي المال لا تسمع خصومته وكذلك قد يثبت المال ولا يثبت القطع ولا يتصور أن يثبت القطع قبل أن يثبت المال فإذا لم يصح إقراره فيما هو الأصل لم يصح فيما ينبني عليه أيضا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أقر بشيئين بالقطع والمال للمسروق منه وإقراره حجة في حق القطع دون المال فيثبت ما كان إقراره فيه حجة لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع وهو ما إذا شهد به رجل وامرأتان فكذلك يجوز أن يثبت القطع دون المال كما إذا أقر بسرقة مال مستهلك وهذا لأنا لا نقبل إقراره في تعيين هذا المال فيبقى المسروق مستهلكا ويجوز أن تقطع يده وإن لم يقبل إقراره في تعيين المال كالحر إذا قال الثوب الذي في يد زيد أنا سرقته من عمرو فقال زيد هو ثوبي فإنه تقطع يد المقر وإن لم يقبل إقراره في ملك ذلك العين للمسروق منه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لا بد من قبول إقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقي على أصل الحرية ولأن(9/326)
القطع هو الأصل ألا ترى أن القاضي يقضي بالقطع إذا ثبتت السرقة عنده بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع العبد(9/327)
ص -157- ... في مال هو مملوك لمولاه وبثبوت الشيء يثبت ما كان من ضرورته كما لو باع أحد ولدي التوأم فأعتقه المشتري ثم ادعى البائع نسب الذي عنده يثبت نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة فهذا مثله بخلاف الحر فإن المال هناك لغير السارق وهو ذو اليد ولا يستحيل أن يقطع في مال الغير فأما ها هنا يستحيل أن يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه فوزان هذا من ذاك أنه لو أقر بسرقة مال من إنسان فقال المقر له هو مالك لا حق لي فيه أو قال المقر له هذا المال لمولاك لا حق لي فيه ولو قال ذلك لا تقطع يده بالاتفاق ولا بد من القضاء عليه بالقطع لما قلنا فيقضي برد المال على المقر له بالسرقة.
قال وإقرار الصبي بالسرقة باطل ثم بلوغه قد يكون بالعلامة وقد يكون بالسن فأما البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام أو بالاحبال وأقل المدة في ذلك اثني عشرة سنة وفي الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام وأدنى المدة في ذلك تسع سنين وعند عدم ذلك فعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة سنة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى التقدير في الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام في إحدى الروايتين بثمان عشرة سنة وفي الرواية الأخرى بتسع عشرة سنة وهو الأصح باعتبار أنه زاد على أدنى المدة سبع سنين وأدنى المدة التي اعتبرها الشرع بقوله صلى الله عليه وسلم "مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا" وقد بينا المسألة فيما أمليناه من شرح الوكالة.(9/328)
قال وإذا أقر بالسرقة عند العذاب أو عند الضرب أو عند التهديد بالحبس فإقراره باطل لحديث ابن عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوعت أو خوفت أو أوثقت وقال شريح رحمه الله تعالى القيد كره والسجن كره والوعيد والضرب كره وهذا لأن الإقرار إنما يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه فلما امتنع من الإقرار حتى هدد بشيء من ذلك فالظاهر أنه كاذب في إقراره وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله تعالى أفتوا بصحة إقرار السارق بالسرقة مع الإكراه لأن الظاهر أن السراق لا يقرون في زماننا طائعين وسئل الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أيحل ضرب السارق حتى يقر فقال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم وأفتى مرة بجواز ضربه ثم ندم واتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق وأقر بالمال وجاء به فقال ما رأيت جورا أشبه بالحق من هذا وإن أقر طائعا ثم قال المتاع متاعي أو قال استودعنيه أو قال أخذته رهنا بدين لي عليه درأت القطع عنه لأن ما ادعاه محتمل فقد آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف وقد بينا أن صاحب الدين إذا سرق خلاف جنس حقه على سبيل الرهن بحقه لا يلزمه القطع ويستوي إن كان دينه حالا أو مؤجلا وكذلك إذا أخذ جنس حقه والدين مؤجل وهذا استحسان وكان ينبغي في القياس أن يقطع لأنه لا حق له في أخذ المال قبل حلول الأجل ولكنه استحسن فقال التأجيل لا ينفي وجوب أصل المال إنما يؤخر حق الاستيفاء فيكون وجوب الدين عليه شبهة.(9/329)
ص -158- ... قال ويستحب للإمام أن يلقن السارق حتى لا يقر بالسرقة لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال "أسرقت ما أخاله سرق" وهذا لأن هذا احتيال من الإمام لدرء الحد عنه وهو مندوب إليه وإذا ثبتت السرقة في البرد الشديد والحر الشديد الذي يتخوف عليه الموت أن قطعه حبسه حتى ينكشف الحر والبرد لأن القطع يستوفي على وجه يكون القطع زاجرا لا متلفا وإذا كان لا يتخوف عليه الموت إن قطع لم يؤخر لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لوال ثبت عنده الحد أن لا يقيمه" وإن حبس إلى فتور الحر والبرد فمات في السجن فضمان المسروق دين في تركته لأنه تعذر استيفاء القطع.
قال وإذا اجتمع في يده قطع في السرقة والقصاص بدئ بالقصاص وضمن السرقة لأنه إن كان القصاص في النفس فقد بينا أنه إذا اجتمع في النفس وما دونه يقتل ويترك ما سوى ذلك وإن كان القصاص في اليد اليمنى فقد اجتمع في اليد حقان أحدهما لله تعالى والآخر للعبد فيقدم حق العبد لحاجته إلى ذلك وكذلك إن كان القصاص في اليد اليسرى أو في الرجل اليمنى أو في الرجل اليسرى يبدأ باستيفاء القصاص وإذا استوفى تعذر استيفاء القطع فيضمن المسروق فإن قضى بالقصاص فعفي عنه صاحبه أو صالحه قطعت يده في السرقة لأن القطع في السرقة كان مستحقا وقد سقط ما كان مقدما عليه وهو القصاص وإن لم يصالحه حتى مضى زمان وهما يتراضيان فيه على الصلح ثم صالحه درأت القطع في السرقة لتقادم العهد فإن ذلك مانع من استيفاء القطع بحجة البينة وإن كان القصاص في الرجل اليسرى بدئ بالقصاص ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده في السرقة وكذلك إن كان القصاص في شجة في رأسه لأن الإمام لو والى في الاستيفاء بالضرب ربما يموت لتضاعف الآلام عليه فليتحرز عن ذلك بجهده ولهذا قلنا بأنه يحبس حتى يبرأ ثم يقام عليه الحد.(9/330)
قال وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة أو بإقرار ثم قال المسروق منه هذا متاعه أو قال لم يسرقه مني إنما كنت أودعته أو قال شهد شهودي بزور أو قال أقر هو بالباطل بطل القطع عنه لانقطاع خصومته وقد بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع شرط وإن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد كالمقترن بأصل السبب وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء لأن رد المال منه للخصومه فالمقصود بالخصومة استرداد المال والمنتهى يكون متقررا في نفسه فكانت خصومته قائمة باعتبار قيام يده في المال وإن قال قد عفوت لم يبطل القطع لأن العفو إسقاط فإنما يصح من صاحب الحق والقطع حق لله تعالى لا حق للمسروق منه فيه والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجافوا العقوبة بينكم" فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفى الله عنه إن عفي عنه فأما إذا وهب المسروق منه المال من السارق أو باعه منه فإن كان قبل قضاء القاضي بالقطع سقط القطع عنه لانقطاع خصومته وإن كان بعد القضاء فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى(9/331)
ص -159- ... إنه لا يسقط القطع عنه وهو قول الشافعي رحمه الله وحجتهما حديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان نائما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا بردائه فجاء سارق وسرق رداءه فاتبعه حتى أخذه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقال أتقطعه بسبب ردائي وهبتها له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلا قبل أن تأتيني" فهذا يدل على أن الهبة بعد القضاء لا تسقط القطع ولأن هذا حد لله تعالى خالصا فإذا وجب بتقرر سببه لا يمتنع استيفاؤه لملك عارض في المحل كحد الزنى فإن من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد عنه وهذا لأن وجوب القطع باعتبار الملك والعصمة وقت السرقة والهبة توجب ملكا حادثا ولا أثر لها فيما وجب القطع باعتباره بخلاف ما إذا أقر بالملك للسارق لأن في إقراره احتمال الصدق وبهذا الاحتمال تبين أن الملك كان للسارق عند السرقة وذلك مانع تقرر فعل السرقة بخلاف ما إذا كانت الهبة قبل المرافعة لأن هناك لا يظهر عند الإمام لانقطاع حق المسروق منه فأما الآن فقد ظهرت السرقة عنده وتمكن من استيفاء القطع حقا لله تعالى فلا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في المحل كما لا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في الحرز أو برد المال بعد القضاء.(9/332)
وحجتنا فيه أن انتفاء ملك السارق عن المسروق شرط لوجوب القطع عليه وما يكون شرطا لوجوب القطع عليه يراعي قيامه إلى وقت الاستيفاء لأن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب بدليل العمى والخرس والردة والفسق في الشهود والدليل عليه أن انتفاء الأبوة لما كان شرطا لوجوب القصاص يشترط بقاؤه إلى وقت الاستيفاء حتى أن المعترض من الأبوة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب وهذا لأن وجوب القطع باعتبار العين والملك وإن كان حادثا ها هنا فالعين الذي وجد فعل السرقة فيه عين ذلك ولو اتحد الملك بأن أقر المسروق منه له بالملك أو أثبت السارق ملكه بالبينة لم يقطع فكذلك إذا اتحدت العين واختلف الملك لأنه تتمكن شبهة باعتبار اتحاد العين وقد بينا اختلاف الروايات في حد الزنى وبعد التسليم العذر واضح فإن وجوب الحد باعتبار ما استوفي من العين وذلك المستوفي مثلا شيء وها هنا وجوب القطع باعتبار العين وملكه حدث في ذلك العين وبخلاف الحرز فإنه عبارة عن التحرز والتحصن وقد فات ذلك فإنما حدث الملك له في حرز آخر وبخلاف رد المال لأن الرد منه للخصومة فإن ما هو المقصود يحصل بالرد والمنتهى في حكم المتقرر فأما الهبة تقطع الخصومة لأنه ما كان يخاصم ليهب منه وما يفوت المقصود بالشيء لا يكون منهيا له فأما حديث صفوان رضي الله عنه فقد ذكر في بعض الروايات عفوت عنه والحديث حكاية حال لا عموم له ثم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "هلا قبل أن تأتيني به كيلا ينهتك ستره" ألا ترى أن ما روى أن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير فقال صفوان رضي الله عنه كأنه شق عليك ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "وكيف لا يشق علي وكأنكم أعوان الشياطين على أخيكم المسلم" فعرفنا أنه كره هتك الستر عليه ولم يرو مشهورا أنه قطع يده(9/333)
ص -160- ... بعد هبته وإن روى ذلك فيحتمل أن السارق لم يقبل الهبة ولما انهتك ستره استحب أن يطهره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فلم يقبل الهبة لذلك وعندنا إذا لم يقبل الهبة السارق لا يسقط القطع.
قال فإن أقر بالسرقة والمسروق منه غائب ففي القياس يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه أقر بوجوب الحد عليه حقا لله تعالى فيستوفيه الإمام منه وفي الاستحسان لا يقطع للشبهة فإن المسروق منه إذا حضر ربما يكذبه في الإقرار وقد بينا.
قال ولا يقطع السارق من بيت المال حرا كان أو عبدا لأن له فيه شركة أو شبهة شركة فإن مال بيت المال مال المسلمين وهو أحدهم فإنه إذا احتاج يثبت له الحق فيه بقدر حاجته وفي الكتاب روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتى برجل قد سرق من المغنم فدرأ عنه الحد وقال إن له فيه نصيبا ولأنه ليس لهذا المال مالك متعين ووجوب القطع على السارق لصيانة الملك على المالك ولهذا لا يقطع بسرقة مال لا مالك له.(9/334)
قال ولا يقطع السارق من امرأة ابنه أو زوج ابنته أو زوج أمه أو امرأة أبيه إذا سرق من المنزل المضاف إليه لأن له أن يدخل منزل أبيه وأمه ومنزل ابنه وابنته من غير استئذان ولا حشمة فلا يتم معنى الحرزية في حقه في منازلهم فلهذا لا يلزمهم القطع فأما إذا سرق مال هؤلاء من غير منزل ولده أو والده أو سرق من بن امرأته أو من أبويها فلا قطع عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وفي قولهما يقطع وهو القياس وهو الخلاف في الأختان والأصهار كلهم سواء على ما ذكرناهما يقولان لا شبهة للبعض في ملك البعض ولا تأويل ولا في حرزه فكانوا بمنزلة الأجانب إلا أن بينهما محرمية ثابتة بالمصاهرة ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية الثابتة بالرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول بين الأختان والأصهار مباسطة في دخول بعضهم في منزل البعض من غير استئذان فتتمكن شبهة في الحرزية وأدنى الشبهة تكفي في المنع من وجوب القطع كما لو سرق من منزل أبيه مال امرأته يوضحه أن إقامة المضاف مقام المضاف إليه أصل في الشرع وامرأة الابن مضاف إليه ولو سرق الأب من المضاف إليه لا يقطع فكذلك إذا سرق من المضاف باعتبار إقامة المضاف مقام المضاف إليه يوضحه أن الابن جزء من أبيه ولو سرق الابن مال هذه المرأة من منزلها لم يقطع فكذلك أبوه وهذا بناء على أصل علمائنا رحمهم الله تعالى أن أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر لم يقطع والشافعي رحمه الله تعالى يقول إن سرق من بيت يسكنان فيه فكذلك الجواب وإن سرق من حرز آخر لصاحبه يقطع بناء على أصله أن فيما وراء حقوق النكاح هما كالأجانب حتى تقبل شهادة أحدهما لصاحبه وعندنا بسبب الزوجية يثبت معنى الاتحاد بينهما ولهذا لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه وتباسط كل واحد منهما في مال صاحبه كتباسط الولد في مال والده فكما أن ذاك مانع من وجوب القطع عليه فكذلك هذا.(9/335)
ص -161- ... قال وإن أقر بسرقة مع صبي أو معتوه لم يقطع وكذلك لو شهدت عليه الشهود بذلك لأنها سرقة واحدة فإذا لم يوجب القطع على أحدهما للشبهة لا يوجب على الآخر للشركة بخلاف ما إذا زنى بصبية لأن فعله هناك ليس من جنس فعلها لتحقق الشركة في الفعل بل هو الفاعل وهي محل الفعل وعن أبي يوسف رحمه الله قال إن كان الصبي هو الذي حمل المتاع فلا قطع على واحد منهما لأنه مقصود بالفعل وإن كان الحامل للمتاع هو البالغ فعليه القطع ولا معتبر بفعل الصبي فإني أستقبح أن أدرأ القطع لهذا فيتطرق السراق به إلى إسقاط القطع لأن كل سارق لا يعجز عن أن يستصحب صبيا أو معتوها مع نفسه وكذلك إن كان مع أخرس لا قطع على واحد منهما أما الأخرس فلتمكن الشبهة في حقه لأنه لو كان ناطقا ربما يدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه وأما الناطق فلأجل الشركة.
قال ولو سرق خمرا في ظرف وقيمة الظرف نصاب لا قطع عليه لأن المقصود الخمر وهي حرام إلا أن يشرب الخمر في الحرز ثم يخرج الظرف وهو مما يقطع في جنسه فحينئذ يلزمه القطع وهذه المسألة ذكرها في الأصل لإيضاح الفصل الأول أن وجوب القطع باعتبار العين والفعل ثم إذا كان أحد العينين مما لا يقطع بسرقته يصير ذلك شبهة في إسقاط الحد فكذلك إذا كان أحد الفاعلين ممن لا يجب عليه القطع.(9/336)
قال وقد بينا أن القطع يستوفي بخصومة الغائب والمودع والمستعير وإن كان المالك هو الذي حضر فقد ذكر في الجامع الصغير أنه يقطع السارق وذكر بن سماعة رحمه الله في نوادره إذا حضر المالك وغاب المسروق منه لم يقطع بخصومته حتى يحضر المسروق منه فعلى هذا قيل مراده مما ذكر في الجامع الصغير إذا حضرا جميعا وقيل بل فيه روايتان وجه رواية الجامع أن المالك هو الأصل في هذه الخصومة لأن بها يحيي ملكه وحقه فلا معتبر بغيبة غيره مع حضوره وجه رواية النوادر أن المسروق منه غيره والشرط حضور المسروق منه ألا ترى أنه لا يستوفي بخصومة وكيله لأنه غير المسروق منه فكذلك المالك ها هنا وهذا لأن المسروق منه إذا حضر ربما يدعي أنه كان ضيفا عنده فلهذا النوع من الشبهة لا يستوفي القطع وكاسب الربا يقطع السارق منه بخصومته لأنه مالك للمكسوب وهو ملك معصوم وإن كان حراما وقد بينا الكلام في السارق من السارق فإن كان السارق من المودع ذا رحم محرم منه لم يقطع بخصومته ولا بخصومة المالك كما لو سرق مال المودع وهذا لأن المسقط للحد عن ذي الرحم المحرم الشبهة في الحرز من حيث أن بعضهم يدخل على البعض من غير حشمة ولا استئذان وفي هذا لا يفترق بين أن يسرق ماله أو مال أجنبي وديعة عنده.
قال ولا يقطع السارق من امرأته المبتوتة المعتدة منه في منزل على حدة لأن العدة حق من حقوق النكاح فتعمل عمل حقيقة النكاح في ايراث الشبهة ولأنه قد يدخل عليها إذا أتاها بالنفقة والسكنى عليها فمن هذا الوجه تصير السكنى كالمضاف إليه وإن سرق بعد انقضاء(9/337)
ص -162- ... العدة قطع لأنه لم يبق بينهما حق ولا علاقة فصارت في حقه كما قبل أن يتزوجها وكما يقطع بعد انقضاء العدة إذا سرق منها فكذلك من أبويها لأن المانع في حال قيام النكاح دخول بعضهم على بعض من غير استئذان عادة وقد زال ذلك بارتفاع النكاح بجميع علائقه.
قال ولا يقطع السارق من امرأة قد تزوجها بعد سرقته لأن العارض بعد وجوب الحد قبل استيفائه كالمقترن بأصل السبب ولو كان النكاح قائما بينهما وقت السرقة لم يقطع وإن لم تزف إليه فكذلك إذا اعترض النكاح وعن أبي يوسف قال إذا تزوجها قبل القضاء بالقطع فكذلك الجواب لأن القاضي لا يسمع خصومتها في حكم الحد وهي منكوحته فأما إذا تزوجها بعد القضاء بالقطع لا يمنع استيفاء القطع لأن الزوجية عينها لا تمنع القطع بل معنى الشبهة من حيث أنه يدخل عليها من غير استئذان وهذا لا يوجد في زوجية معترضة بعد القضاء بالقطع.
قال ولو سرق من امرأته ثم أبانها ولم يدخل بها فلا قطع عليه لأن الشبهة في الحرزية كانت موجودة وقت السرقة فلم يكن أصل فعله موجبا للقطع ثم لا يصير موجبا بعد ذلك وإذا سرق من أمه من الرضاعة أو من أخته فعليه القطع لأنه لا سبب بينهما سوى المحرمية ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية بسبب المصاهرة بعد ارتفاع النكاح أو بسبب المصاهرة الثابتة بالزنى أو بالتقبيل من شهوة لا تؤثر في إسقاط القطع
وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا سرق من أمه من الرضاعة فلا قطع عليه لأنه يدخل عليها من غير استئذان عادة بخلاف أخته من الرضاعة وغيرها وهذا بعيد فإن الأمية من الرضاعة لو كانت مؤثرة في إسقاط القطع لكانت الأختية مؤثرة فيه كما لو كانت بالنسب.(9/338)
قال وإن أقر الرجل بالسرقة ثم هرب لم يطلب وإن كان في فوره ذلك لأن هربه دليل رجوعه ولو رجع عن الإقرار لم يقطع فكذلك إذا هرب والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز حين أخبر بالهرب فقال "هلا خليتم سبيله" ولكنه إذا أتى به بعد ذلك كان ضامنا للمال كما لو رجع عن إقراره فإنه يسقط القطع به دون الضمان.
قال وإذا أقر أنه سرق من هذا مائة ثم قال وهمت إنما سرقت من هذا الآخر لم يقطع لأنه رجع عن إقراره بالسرقة من الأول وتناقض كلامه في إقراره بالسرقة من الآخر والتناقض كالرجوع في إيراث الشبهة ويقضي لكل واحد منهما بمائة لأن بالرجوع والتناقض يبطل إقراره في حق الحد دون المال وقد أقر بسرقة مائة درهم من كل واحد منهما وصدقه كل واحد منهما في ذلك فكان ضامنا له وإن قال ذلك الشهود قبل القضاء للأول لم يقضعليه بقطع ولا مال لأنهم رجعوا عن شهادتهم بالسرقة من الأول وتناقض كلامهم بالسرقة من الثاني حين شهدوا أولا بسرقة هذه المائة بعينها من الأول والرجوع عن الشهادة قبل القضاء والتناقض فيها مانع من القضاء بالمال والحد جميعا.(9/339)
ص -163- ... قال وإن كانت الشهود أربعة فثبت اثنان على الشهادة للأول به ورجع اثنان فشهدوا على هذا الآخر لا قطع عليه لواحد منهما للشبهة التي دخلت من حيث أن الراجعين شهدوا بسرقة ذلك المال بعينه من الآخر فيكون ذلك معارضا لشهادة الثابتين على السرقة من الأول فيمتنع وجوب القطع عليه بشهادة الثابتين للمعارضة وبشهادة الراجعين للتناقض ويقضي بالمال للأول لبقاء حجة كاملة على الشهادة في حق المال وتأثير المعارضة في إيراث الشبهة ولكن المال يثبت مع الشبهات ولا يقضي للآخر بشيء للتناقض من الشهود في حق الآخر لأن ذلك مانع من القضاء بالمال.
قال رجل أقر أنه سرق من هذا مائة درهم ثم جاء آخر فقال لم يسرقها هذا ولكني أنا سرقتها فقال المسروق منه كذبت فإنه يقطع الأول بخصومته لأنه صدقه في إقراره بالسرقة منه فأما إقرار الثاني فقد بطل بتكذيب المسروق منه إياه فصار كالمعدوم فإن قال المسروق منه لم يسرقها الأول فقد علمت وذكرت أن هذا الآخر هو الذي سرقه لم يقطع الآخر ولا الأول لأن دعواه على الأول براءة منه للآخر ودعواه على الآخر براءة منه للأول ولأنه قد تناقض كلامه والخصومة من المناقض غير مسموعة وشرط القطع الخصومة فلهذا لا يقطع واحد منهما ولا يضمن الأول السرقة أيضا لأنه قد أبرأه منها بالدعوى على الآخر فصار مكذبا له في إقراره وقد كذب الآخر في إقراره قبل هذا فلا ضمان له على واحد منهما ألا ترى أنه لو أقر بأنه سرق منه فقال المقر له كذبت ثم قال له صدقت أنت سرقتها لم يكن له أن يضمنه شيئا وإن لم يقل كذبت ولكنه قال صدقت ثم قال آخر أنا سرقتها فقال له صدقت لم يقطع واحد منهما لمعنى التناقض ويضمن الآخر دون الأول لأنه بتصديق الآخر صار مكذبا للأول مبرئا له عما أقر به.(9/340)
فإن قيل: فكذلك هو بتصديق الأول صار مكذبا للآخر قلنا نعم لكن وجد من الآخر الإقرار له بعد ذلك التكذيب فيصح تصديقه في ذلك كمن أقر لإنسان بمال فكذبه ثم أقر له ثانيا به فصدقه كان له أن يأخذ المال وإن كان ذلك في شهادة لم يضمن واحد منهما شيئا لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء ولا يقضي القاضي بها إلا إذا ترتبت على خصومة صحيحة وقد سقط اعتبار خصومته للتناقض ولأنه صار مكذبا كل فريق بتصديق الآخر كالمدعي إذا أكذب شاهده لم تقبل شهادته له.
قال رجل قال لآخر سرقت منك كذا وكذا فقال كذبت لم تسرق مني ولكنك غصبته غصبا وإنما أردت بذكر السرقة أن تبرأ من الضمان ففي القياس لا شيء عليه لأنه كذبه ثم ادعى عليه غصبا مبتدأ فبطل إقراره بالتكذيب ولم يثبت ما ادعاه بغير حجة ولكنه استحسن فقال له أن يضمنه لأن كلامه موصول وفي آخره بيان أن مراده التكذيب في جهة السرقة لا في أصل المال المضمون عليه والبيان المغير صحيح إذا كان موصولا بالكلام ثم المقر له انتدب(9/341)
ص -164- ... بما صنع إلى ما ندب إليه في الشرع من إبقاء الستر على المسلم والاحتيال لدرء العقوبة عنه فلا يكون ذلك مسقطا حقه في المال وإن قال سرقت منك كذا فقال الطالب غصبته غصبا فهو مستهلك فعليه ضمانة لأنه كما صدقه في الإقرار بملك أصل المال له فقد صدقه في إيجاب الضمان في ذمته لأن الغصب والسرقة كل واحد منهما سبب للضمان والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فمع التصديق في الحكم لا يعتبر التكذيب في السبب وإن قال غصبتك كذا فقال سرقته مني فله أن يضمنه لأنه صدقه فيما أقر له به وادعى زيادة جهة السرقة ولم يثبت له تلك الزيادة بدعواه فعليه ضمان القيمة والقول في مقدار القيمة قول الضامن مع يمينه لإنكاره الزيادة التي يدعيها الطالب وإن قال سرقت من فلان وفلان ثوبا وأحدهما غائب لم يكن للحاضر أن يقطعه ولكن يقضي له بنصف الثوب إن كان قائما وبنصف قيمته إن كان مستهلكا لأن التصديق من الغائب لم يعرف فإذا حضر ربما يكذبه فيبقى نصف الثوب على ملكه فلو قطعناه لقطعناه فيما هو شريك فيه وذلك لا يجوز وهذا بخلاف ما لو قال زنيت بفلانة وفلانة فكذبته إحداهما وصدقته الأخرى يقام عليه الحد لأن فعله بكل واحدة منهما متميز عن فعله بالأخرى وهنا إنما أقر بفعل واحد في ثوب بينهما ولم يثبت بإقراره السرقة في نصيب الغائب قبل تصديقه فلا يمكن القضاء بالسرقة في نصيب الحاضر خاصة لأن فعل السرقة في نصف الثوب شائعا لا يتحقق منفردا عن النصف الآخر فلهذا لم يقطع فإذا تعذر استيفاء القطع ظهر حكم المال فيقضي للحاضر بما أقر له به وذلك نصف الثوب إن كان قائما ونصف قيمته إن كان مستهلكا فإن كانا حاضرين فقال أحدهما كذبت لم تسرقه ولكنك غصبته أو استودعناكه أو أعرناكه أو قال هو ثوبك لا حق لنا فيه لم يقطع في شيء من ذلك أما للشركة له في الثوب بإقرار أحدهما له بالملك أو لانتفاء فعل السرقة عن نصيب أحدهما بتكذيبه لأنه لا يتحقق فعل السرقة في نصيب الآخر(9/342)
من الثوب منفردا ولكن يقضي بنصف الآخر أو بنصف قيمته إن كان مستهلكا لما بينا أن في حق الثاني ينبني القضاء على ما أقر له وإن كان ذلك ببينة وأحدهما غائب فقضي للحاضر بنصف الثوب أو بنصف قيمته ثم جاء الغائب وادعى السرقة يقضي له بمثل ذلك لأن أحد الشريكين في إثبات الملك قائم مقام صاحبه ولكن لا يقطع السارق لأن القاضي حين قضى بنصف الثوب للأول أو بنصف قيمته فقد درأ القطع عنه في نصيبه إذ القاضي لا يشتغل بالضمان إلا بعد درء الحد ولأنه بالضمان ملك ذلك النصف واعتراض الملك في البعض كاعتراضه في الجميع في إسقاط الحد عنه وإن كان الآخر حاضرا وقت الخصومة فقال الثوب وديعة أو عارية لنا عندك لم يقض له بشيء لأنه أكذب شهوده فإنهم شهدوا بالسرقة وإكذاب المدعي شاهده يبطل الشهادة في حقه وليس للآخر أن يشاركه في تلك الخصومة لأنه أبطل حق نفسه بإكذابه شهوده وصار كما لو أبرأه عن نصيبه من الضمان وبعد الإبراء لا يبقى له حق مشاركة الآخر فيما يقبض.
قال رجلان أقرا أنهما سرقا هذا الثوب من هذا الرجل والرجل يدعى ذلك فلما أمر(9/343)
ص -165- ... الحاكم بقطعهما قال أحدهما الثوب ثوبنا لم نسرقه قال يدرأ القطع عنهما لأن المعترض
من دعوى الملك من أحدهما كالمقترن بالسبب ألا ترى أنهما لو ادعيا جميعا الملك بعد القضاء كان شبهة في درء الحد بمنزلة المقترن بالسبب فكذلك إذا ادعى ذلك أحدهما وهذا لأن الحد وجب عليهما في شيء واحد وقد آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف في ذلك الشيء ولو كان أحدهما قال سرقنا هذا الثوب من هذا الرجل وقال الآخر كذبت لم نسرقه ولكنه لفلان قال يقطع المقر بالسرقة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمهم الله أحب إلي أن لا يقطع واحد منهما وكذلك لو قال أحدهما سرقناه وقال الآخر لم أسرق معك ولا أعرفك ولا أعرف هذا الثوب فهو على الخلاف وقد كان أبو يوسف رحمه الله تعالى أولا يقول كقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ثم رجع وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن المقر منهما أقر بسرقة شيء واحد وقد تعذر إيجاب القطع على واحد منهما لإنكاره فصار كما لو تعذر إيجاب الحد عليه لدعواه الملك لنفسه فيكون شبهة في درء الحد عنهما وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن المقر أقر بالفعل الموجب للعقوبة على نفسه وعلى غيره وقد انعدم أصل الفعل في حق الآخر لتكذيبه فلا يوجب ذلك شبهة في الفعل الثابت في حق المقر بإقراره ولا في موجبه كما لو قال قتلت أنا وفلان فلانا وقال الآخر أنا ما قتلت فالقصاص واجب على المقر وكذلك لو قال زنيت أنا وفلان بفلانة وكذبه الآخر كان على المقر الحد بخلاف ما لو ادعى الآخر الملك فإن أصل الفعل ثبت هناك مشتركا لاتفاقهما ثم امتنع وجوب القصاص على أحدهما للشبهة فيمتنع وجوبه على الآخر للشركة كما في المقرين بالقتل إذا زعم أحدهما أنه كان مخطئا وقد ذكر في الحدود أنه إذا أقر أنه زنى بامرأة وكذبته أنه لا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يقام عليه الحد فمحمد رحمه الله تعالى يسوى بين(9/344)
الفصلين ويقول تكذيب المكذب لا يؤثر في حق المقر وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول هناك يقام الحد عليه وها هنا لا يقام لأن فعلها في الزنى ليس من جنس فعله فإن فعله إيلاج وفعلها تمكين وهي في الحقيقة محل الفعل والمباشر هو الرجل فانتفاؤه في جانبها بتكذيبها لا يمكن شبهة في الرجل وها هنا الفعل من السارقين واحد والمشاركة بينهما تتحقق فانتفاؤه عن أحدهما بإنكاره يمكن شبهة في حق الآخر كما في القتل إذا اشترك الخاطئ مع العامد وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما أيضا فيقول هناك لا يقام عليه الحد وهنا يقام على المقر منهما لأن فعل الزنى من الرجل لا يتصور بدون المحل وقد انعدم المحل بتكذيبها فأما فعل السرقة من المقر يتحقق بدون الآخر فانتفاء الفعل في حق الآخر بإنكاره لا يمنع تقرر الفعل في حق المقر موجبا للقطع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب قطاع الطريق
قال رضي الله عنه وإذا قطع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة على قوم من المسلمين(9/345)
ص -166- ... أو من أهل الذمة الطريق فقتلوا وأخذوا المال قال يقطع الإمام أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى من خلاف أو يصلبهم إن شاء وإنما شرطنا أن يكونوا قوما لأن قطاع الطريق محاربون بالنص والمحاربة عادة من قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم ولأن السبب هنا قطع الطريق ولا ينقطع الطريق إلا بقوم لهم منعة وشرط أن يكونوا من المسلمين أو من أهل الذمة ليكونوا من أهل دارنا على التأبيد فإنهم إذا كانوا من أهل الحرب مستأمنين في دارنا ففي إقامة الحد عليهم خلاف وقد بيناه وشرط أن يقطعوا الطريق على قوم من المسلمين أو من أهل الذمة لتكون العصمة المؤبدة ثابتة في مالهم فإنهم إذا قطعوا الطريق على المستأمنين لا يقام عليهم الحد لانعدام العصمة المؤبدة في ما لهم وقد بينا ذلك في السرقة الصغرى فهو مثله في السرقة الكبرى ثم قد بينا في أول الكتاب أن حد قطع الطريق على الترتيب بحسب جنايتهم عندنا وهو قول ابن عباس وإبراهيم رضي الله عنهما وعند مالك رحمه الله تعالى هو على التخيير وهو قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى ولم نأخذ بذلك لأن الذي أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا قدهم بالمعصية والقتل والقطع أغلظ العقوبات فلا يجوز إقامته على من هم بالمعصية ولم يباشر والقطع جزاء أخذ المال كما في السرقة الصغرى إلا أن ذاك دخله نوع تخفيف من حيث أنه يخفي فعله وهذا يغلظ بالمجاهرة ولهذا وجب قطع عضوين منه من أعضائه ثم من هم بالسرقة الصغرى ولم يأخذ المال لا يقام عليه القطع فكذلك من هم بأخذ المال ها هنا ولم يأخذ فإن قتلوا وأخذوا المال فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الإمام فيهم بالخيار إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم ثم قتلهم وإن شاء قتلهم من غير قطع وإن شاء صلبهم.(9/346)
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الإمام يصلبهم أخذا فيه بقول ابن عباس رضي الله عنهما ولأنه اجتمع عليه العقوبة في النفس وما دونه حقا لله تعالى فيكون الحكم فيه أن يدخل ما دون النفس في النفس كما إذا اجتمع حد السرقة والشرب والرجم وهذا لأن المقصود الزجر وذلك يتم باستيفاء النفس فلا فائدة بالاشتغال بما دونه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان:
أحدهما: أن مبنى هذا الحد على التغليظ لغلظ جريمتهم والقطع ثم القتل أقرب إلى التغليظ فكان للإمام أن يختار ذلك لكونه أقرب إلى ما لا جله شرع هذا الحد.
والثاني: أن السبب الموجب للقطع هو أخذ المال وقد وجد منهم والسبب الموجب للقتل وهو قتل النفس قد وجد منهم وإنما يثبت الحكم بثبوت السبب والكل حد واحد ولا تداخل في الحد الواحد كالجلدات في الزنى إنما التداخل في الحدود.
فإن قيل: هذا فاسد لأن للإمام أن يقتلهم ويدع القطع.
قلنا لا بطريق التداخل بل لأنه ليس عليه مراعاة الترتيب في أجزاء حد واحد فكان له أن يبدأ بالقتل لذلك ثم إذا قتله فلا فائدة في اشتغاله بالقطع بعده فلا يشتغل كالزاني إذا ضرب(9/347)
ص -167- ... خمسين جلدة فمات فإنه يترك ما بقي لأنه لا فائدة في إقامته ثم في ظاهر الرواية هو مخير في الصلب إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله واكتفى بالقتل وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ليس للإمام أن يدع الصلب لأن المقصود به الإشهار ليعتبر غيره فينزجر فلا يتركه وجه ظاهر الرواية أن معنى الزجر يتم بالقتل ولم ينقل في شيء من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلب أحدا ألا ترى أنه لم يفعله بالعرنيين مع المبالغة والاستقصاء في عقوبتهم حتى سمل أعينهم.
قال وإذا أراد أن يصلب ففي ظاهر الرواية يصلبهم أحياء ثم يطعن تحت ثندؤتهم الأيسر ليموتوا فإن المقصود الزجر وذلك إنما يحصل إذا صلبهم أحياء لا بعد موتهم وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه لا يصلبهم أحياء لأنه مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكنه يقتلهم فبه يتم معنى الزجر والعقوبة في قتلهم ثم يصلبهم بعد ذلك للاشتهار حتى يعتبر بهم غيرهم وفي الصحيح من المذهب يتركهم على الخشب ثلاثة أيام ثم يخلي بينهم وبين أهاليهم لأنه لو تركهم كذلك تغيروا وتأذى بهم المارة فيخلي بينهم وبين أهاليهم بعد ثلاثة أيام لينزلوهم فيدفنوهم.(9/348)
قال وإذا وجد منهم القتل وأخذ المال فلا معتبر بالجراحات في تعلق الأرش والقصاص بها لأنهم استوجبوا أتم ما يكون من الحد فيسقط اعتبار ما دون ذلك من الجراحات وعفو الأولياء في ذلك باطل لأن هذا حد يقام لحق الله تعالى وإسقاط الأولياء إنما يعمل فيما هو حقهم ويكون استيفاؤه إليهم أو يستوفي بطلبهم فأما ما يستوفيه الإمام لله تعالى فلا عفو فيه للأولياء ولا للإمام أيضا لأنه ليس بصاحب الحق بل هو نائب في الاستيفاء فهو في العفو كغيره والأصل فيه ما روينا لا ينبغي لوالي حد ثبت عنده حق الله تعالى إلا إقامه ثم المذهب عندنا أن الواجب عليهم الحد وعند الشافعي رحمه الله تعالى القتل الواجب عليهم القصاص متحم لا يعمل فيه عفو الولي لأن هذا قتل لا يستحق إلا بالقتل والقتل المستحق بالقتل يكون قصاصا إلا أنه تأكد بانضمام حق الشرع إليه فلا يعمل فيه الإسقاط كالعدة ولكنا نقول القطع والقتل المستحق بالقتل في قطع الطريق كله حد واحد ثم القطع حق الله تعالى فكذلك القتل ألا ترى أن الله تعالى سماه جزاء والجزاء المطلق ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة الفعل فأما القصاص واجب بطريق المساواة وفيه معنى المقابلة بالمحل والدليل عليه أن الله تعالى جعل سبب هذا القتل ما قال في قوله تعالى {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وما يجب بمثل هذا السبب يكون لله تعالى وسماه خزيا بقوله تعالى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] فعرفنا أنه حد واحد لله تعالى.
قال فإن كان فيهم عبد أو امرأة فالحكم فيه كالحكم في الرجال الأحرار أما العبد فلأنه مخاطب محارب وهو في السرقة الصغرى يستوي بالحر فكذلك في الكبرى والمرأة كذلك في ظاهر الرواية وهو اختيار الطحاوي رحمه الله فإنه قال في كتابه الرجال والنساء في حق قطاع(9/349)
ص -168- ... الطريق سواء كما يستويان في سائر الحدود وهذا لأن الواجب قتل وقطع وفي القطع الواجب جزاء الرجل والمرأة سواء كالسرقة وفي القتل الواجب جزاء الرجل والمرأة سواء كالرجم وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن حد قطع الطريق لا يجب على النساء لأن السبب هو المحاربة وانقطاع الطريق بهم والمرأة بأصل الخلقة ليست بمحاربة كالصبي ألا ترى أن في استحقاق ما يستحق بالمحاربة وهو السهم من الغنيمة لا يسوي بين الرجل والمرأة فكذلك في العقوبة المستحقة بالمحاربة ولكن يدخل على هذا العبد فإنه لا يساوي الحر في استحقاق السهم ثم يساويه في حق هذا الحد وفي الصبيان والمجانين لانعدام الأهلية للعقوبة بعدم التكليف لا يثبت الحكم وذلك لا يوجد في حق النساء وذكر هشام في نوادره عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه إذا قطع قوم من الرجال الطريق وفيهم امرأة فباشرت المرأة القتل وأخذت المال دون الرجال فإنه يقام الحد عليهم ولا يقام عليها وقال محمد رحمه الله تعالى يقام عليها ولا يقام عليهم وذكر بن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه يدرأ عنهم جميعا لكون المرأة فيهم وجعل المرأة فيهم كالصبي ولو كان معهم صبي أو مجنون لا يقام على واحد منهم فكذلك المرأة ومحمد رحمه الله تعالى يقول الردء تبع للمباشر في المحاربة والرجال لا يصلحون تبعا للنساء في التناصر والمحاربة وإنما يقام عليها جزاء المباشرة ولا يقام على الرجال وأبو يوسف رحمه الله يقول إنما يتأتى هذا الفعل منها بقوتهم فإن بنيتها لا تصلح للمحاربة بدون الرجال فكأنهم فعلوا ذلك فيقام الحد عليهم لا عليها لأن المانع من الإقامة عليها معنى فيها لا في فعلها وهو أن بنيتها لا تصلح للمحاربة بخلاف الصبي فإن المانع معنى في فعله وهو أن فعله لا يصح موجبا للعقوبة وقد تحقق الاشتراك في الفعل بينهم وبينه فلا يقام الحد على واحد منهم.(9/350)
قال والمباشر وغير المباشر في حد قطاع الطريق سواء عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقام الحد إلا على من باشر القتل وأخذ المال لأنه جزاء الفعل فلا يجب إلا على من باشر الفعل كحد الزنى ألا ترى أنهم لو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا لم يقم الحد على واحد منهم ففي حق الذين لم يأخذوا يجعل كأنهم جميعا لم يأخذوا.
وحجتنا فيه أن هذا حكم متعلق بالمحاربة فيستوي فيه الردء والمباشر كاستحقاق السهم في الغنيمة وتأثيره أنهم جميعا مباشرون السبب وهو المحاربة وقطع الطريق هكذا يكون في العادة لأنهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال خفي عليهم طريق الإصابة لكثرة الزحمة ولا يستقرون إن زلت قدمهم فانهزموا فإذا كان البعض ردءا لهم التجئوا إليهم وتنكسر شوكة الخصوم برؤيتهم وكذلك في العادة إنما يتولى أخذ المال الأصاغر منهم والأكابر يترفعون عن ذلك وانقطاع الطريق يكون بهم جميعا فعرفنا أنهم مباشرون للسبب فأما أخذ المال والقتل شرط فيه وإذا صار الشرط موجودا بقوتهم وباشروا السبب بأجمعهم قلنا يقام الحد عليهم.(9/351)
ص -169- ... قال وإن أصابوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ولم يقتلوا لأنهم باشروا أخذ المال فيقام عليهم جزاؤه وقد بينا أن القتل شرط لوجوب القطع عليهم والحكم بعد وجود السبب لا يثبت قبل وجود الشرط.
قال فإن لم يوجدوا طلبوا إلى أن يوجدوا أو ينقطع إذا هم ويأمن المسافرون منهم في طرقهم وذلك نفيهم من الأرض في تأويل بعضهم فإن قتلوا ولم يصيبوا مالا قتلوا ولم تقطع أيديهم وأرجلهم لأن جزاء أخذ المال لا يتم إلا بأخذ المال.
قال فإن قتلوا وأخذوا المال ثم تابوا فردوا المال إلى أهله ثم أتى بهم الإمام لم يقطعهم ولم يقتلهم لقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وقد بينا أن تمام توبته في رد المال لينقطع به خصومة صاحب المال فإن الإمام لا يقيم الحد إلا بخصومة صاحب المال في ماله وقد انقطعت خصومته بوصول المال إليه قبل ظهور الجريمة عند الإمام فيسقط الحد ولكنه يدفعهم إلى أولياء القتلى فيقتلونهم أو يصالحونهم وهذا لأن في التوبة إنما يسقط ما كان حقا لله تعالى فأما ما كان حقا للعبد فلأوليائه وإليه أشار الله تعالى في قوله: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد كان السبب الموجب للقتل متقررا ممن باشر القتل منهم وهو تعمده قتل نفس بغير حق إلا أن استحقاق القتل عليهم حدا كان مانعا من ظهور القود فإذا سقط ذلك زال المانع فظهر حكم القود والقود إنما يجب على من باشر القتل دون الردء.(9/352)
قال وللولي الخيار إن شاء عفى وإن شاء صالح على مال وإن شاء استوفى القتل لقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" وقال صلى الله عليه وسلم لولي القتل "أتعفو" فقال لا فقال "أتأخذ الدية" فقال لا فقال "أتقتل" فقال نعم فعرفنا أنه يتخير بين هذه الأشياء ومن باشر منهم الجراحات ففيما يمكن اعتبار المساواة فيها يجب القصاص وفيما لا يمكن يجب الأرش كما لو كانت الجراحات منهم من غير قطع الطريق وهذا لأن سقوط اعتبار حكم الجراحات بوجود إقامة الحد فإذا زال ذلك ظهر حكم الجراحات كما إذا استهلك السارق المال سقط حكم التضمين لوجود إقامة القطع فإذا سقط القطع ظهر حكم التضمين.
قال وإذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا حبسوا حتى يتوبوا بعد ما يعزرون وفي الكتاب يقول عوقبوا فكأنه كره إطلاق لفظ التعزير على ما يقام عليهم قبل التوبة لما في التعزير من معنى التطهير وهو المراد من قوله تعالى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] يعني يحبسون وقد بينا ذلك وهذا أولى مما قاله الشافعي رحمه الله تعالى أن المراد الطلب ليهربوا من كل موضع لأن العقوبة بالحبس مشروع فالأخذ بما يوجد له نظير في الشرع أولى من الأخذ بما لا نظير له وفي هذا الموضع يطالبون بموجب الجراحات التي كانت منهم من قصاص أو أرش لأنه لا يقام عليهم الحد وسقوط اعتبار حكم الجراحات لوجود إقامة الحد فإذا انعدم ذلك وجب اعتبار الجراحات في حق العبد فإن تابوا وفيهم عبد قد(9/353)
ص -170- ... قطع يد حر دفعه مولاه أو فداه كما لو فعله في غير قطع الطريق وهذا لأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فيبقى حكم الدفع أو الفداء فإن كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في مالها لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء في الأطراف فعليها الدية والفعل منها عمدا لا تعقله العاقلة فكان في مالها.
قال وإذا أخذهم الإمام قبل أن يتوبوا وقد أصابوا المال فإن كان يصيب كل واحد منهم من المال المصاب عشرة دراهم فصاعدا فعليهم الحد عندنا وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى الشرط أن يكون نصيب كل واحد منهم عشرين درهما فصاعدا لأن التقدير بالعشرة في موضع يكون المستحق بأخذ المال قطع عضو واحد وها هنا المستحق قطع عضوين ولا يقطع عضوان في السرقة إلا باعتبار عشرين درهما ولكنا نقول هذا حد هو جزاء على أخذ المال فيستدعي مالا خطيرا وقد بينا أن العشرة مال خطير فيستحق به إقامة الحد كما يستحق به القطع بالسرقة ثم تغلظ الحد ها هنا باعتبار تغلظ فعلهم باعتبار المحاربة وقطع الطريق لا باعتبار كثرة المال المأخوذ ففي النصاب هذا الحد وحد السرقة سواء وإن كان لا يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم درئ الحد عنهم إلا على قول مالك رحمه الله وهكذا مذهبه في الصغرى فإنه يعتبر أن يكون المأخوذ في نفسه نصابا كاملا سواء أخذه الواحد أو الجماعة ولكنا نقول إقامة الحد على كل واحد منهم باعتبار ما يصيبه من المال فلا بد من أن يكون خطيرا في نفسه وما دون النصاب حقير تافه وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافها لا يقام عليهم الحد كما لو كان المأخوذ في نفسه تافها ثم يضمنون المال إذا درئ الحد عنهم والأمر في القصاص في النفس وغيرها إلى الأولياء إن شاؤوا استوفوا وإن شاؤوا عفوا وقد طعن عيسى رحمه الله تعالى في هذه المسألة فقال يقتلهم الإمام حدا لأنهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال قتلهم الإمام حدا لا قصاصا والردء والمباشر فيه سواء فكذلك إذا(9/354)
أخذوا مع القتل مالا يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا أما لأن ما دون النصاب لما لم يتعلق به حكم فوجوده كعدمه أو لأنه تتغلظ جنايتهم بأخذ شيء من المال وما يغلظ الجناية لا يكون مسقطا للحد ولكن ما ذكر في الكتاب أصح لأن وجوب الحد عليهم باعتبار ما هو المقصود والظاهر أنهم يقصدون بقطع الطريق أخذ المال وإنما يقدمون على القتل ليتمكنوا من أخذ المال فإذا لم يأخذوا المال عرفنا أن مقصودهم لم يكن المال وإنما كان القتل فأوجبنا عليهم الحد قتلا بالقتل الموجود منهم وإن أخذوا المال عرفنا أن مقصودهم كان أخذ المال وأن إقدامهم على القتل كان للتمكن من أخذ المال فباعتبار ما هو المقصود لا يمكن إيجاب الحد عليهم إذا كان ما يصيب كل واحد منهم ما دون النصاب فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يدرأ الحد عنهم ويبقى حكم القصاص.
قال وإذا قطعوا الطريق في المصر أو ما بين الكوفة والحيرة أو ما بين قريتين على قوم مسافرين لم يلزمهم حد قطاع الطريق وأخذوا برد المال وأديروا وحبسوا والأمر في قتل من قتل(9/355)
ص -171- ... منهم أو جرح إلى الأولياء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يقام عليهم حد قطاع الطريق وهو قول الشافعي رحمه الله لأن السبب قد تقرر وهو أخذ المال والقتل على وجه المحاربة والمجاهرة وجريمتهم بمباشرة ذلك في المصر أغلظ من جريمتهم بمباشرة ذلك في المفازة لأن تغلظ الجريمة باعتبار المجاهرة والاعتماد على مالهم من المنعة وهذا في المصر أظهر واعتبر هذا الحد بحد السرقة فإنه لا فرق هناك بين مباشرة السبب في المصر وفي المفازة فهذا مثله.(9/356)
وحجتنا فيه أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه وهو قطع الطريق وإنما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة لا في جوف المصر ولا فيما بين القرى فالناس لا يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بعد فعلهم وبدون السبب لا يثبت الحكم ولأن السبب محاربة الله ورسوله وذلك إنما يتحقق في المفازة لأن المسافر في المفازة لا يلحقه الغوث عادة وإنما يسير في حفظ الله تعالى معتمدا على ذلك فمن يتعرض له يكون محاربا لله تعالى فأما في المصر وفيما بين القرى يلحقه الغوث من السلطان والناس عادة وهو يعتمد ذلك بالتطرق في هذه المواضع فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقام عليه الحد وهو نظير المختلس من السارق في أنه لا يقام عليه حد السرقة لأنه بقدر ما جاهر يتمكن النقصان في فعل السرقة وقد قال بعض المتأخرين إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى أجاب بذلك بناء على عادة أهل زمانه فإن الناس في المصر وفيما بين القرى كانوا يحملون السلاح مع أنفسهم فثبت مع ذلك تمكن دفع القاصد من قطع الطريق وأخذ المال والحكم لا ينبني على نادر وكذلك فيما بين الحيرة والكوفة كان يندر ذلك لكثرة العمران واتصال عمران أحد الموضعين بالموضع الآخر فأما اليوم فقد ترك الناس هذه العادة وهي حمل السلاح في الأمصار فيتحقق قطع الطريق في الأمصار وفيما بين القرى موجبا للحد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن قصده في جوف المصر أو بين القرى بالسلاح يقام عليه حد قطاع الطريق وإن قصده بالحجر والخشب فإن كان ذلك بالنهار لا يقام عليه حد قطاع الطريق وإن كان بالليل يقام عليه ذلك لأن السلاح لا يلبث والظاهر أنه يأتي عليه قبل أن يلحقه الغوث فأما الخشب والحجر لا يكون مثل السلاح في ذلك والظاهر أن الغوث يلحقه بالنهار في المصر قبل أن يأتي عليه ذلك فأما في الليل الغوث يبطئ فإلى أن ينتبه الناس ويخرجوا قد أتى عليه فلهذا ثبت في حقه حكم(9/357)
قطع الطريق.
قال وإن بيتوا على مسافرين في منازلهم في غير مصر ولا في مدينة فكابروهم وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذين قطعوا الطريق لأن السبب قد تحقق منهم وهو المحاربة وقطع الطريق إذ لا فرق في ذلك بين أن يفعلوا في مشيهم أو في حال نزولهم لأنهم في حفظ الله تعالى في الحالين فإنما يتمكن هؤلاء منهم لمنعتهم وشوكتهم في الحالين فإن نزل(9/358)
ص -172- ... المسافرون منزلا في قرية ففعلوا ذلك بهم لم يلزمهم حد قطاع الطريق لأن الذين نزلوا القرية بمنزلة أهل القرية في أن بعضهم يغيث البعض فلا يتحقق قطع الطريق بما فعل بهم وكذلك إن أغار بعض النازلين في القرية على البعض فقتلوا وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذي فعل ذلك في جوف المصر قان نزل رجل في بيت أو في فسطاط فأغلق عليه بابه وضم إليه متاعه فجاء رجل وسرق من فسطاطه أو بيته شيئا فالحكم فيه ما هو الحكم في السارق في المصر.
قال وما قتل به قطاع الطريق من حديد أو حجر أو عصى أو سوط فهذا كله سواء لأن هذا حكم ينبني على المحاربة فيكون بمنزلة استحقاق السهم بالغنيمة وثبوت صفة الشهادة فلا يفترق الحال في ذلك بين القتل بالسلاح وغيره فهذا مثله بخلاف القصاص فإنه يعتمد العمدية والمماثلة وذلك يختلف بالسلاح وغيره.
قال وإذا أخذ قاطع الطريق ويده اليسرى شلاء أو مقطوعة لم يقطع منه شيء وقتل أو صلب لما بينا في السرقة الصغرى أنه لا يستوفي القطع على وجه يؤدي إلى تفويت منفعة الجنس وقد طعن عيسى في هذا الفصل وقال اعتبار ذلك المعنى في السرقة للتحرز عن الاستهلاك الحكمي أو شبهة الاستهلاك ولا معنى لذلك ها هنا فإن إتلافه حقيقة قد صار مستحقا لأنه يقتل ويصلب بعد القطع فكيف يمنع استيفاء القطع لشلل في يده اليسرى ولكنا نقول مع هذا القطع جزاء أخذ المال فلا يستوفي على وجه يكون متلفا له حكما ألا ترى أنه لم يشرع قطع عضوين منه من شق واحد للتحرز عن الإتلاف الحكمي وإنما يشرع قطع اليد والرجل من خلاف لكي لا يؤدي إلى الإتلاف حكما وهذا لأنه لا يستحق إتلافه مرتين فإذا كان تفويت منفعة الجنس إتلافا ثم قتله كان إتلافا مرتين
وإن كانت اليمنى منه مقطوعة قطعت الرجل اليسرى وقتل أو صلب وإن كان أشل اليمنى قطعها مع الرجل اليسرى وقد بينا نظيره في السرقة فكذلك في قطع الطريق.(9/359)
قال وإن كان في المقطوع عليهم الطريق ذو رحم محرم من القطاع أو شريك له مفاوض لم يلزمهم حكم القطع لأنه امتنع وجوب القطع على ذي الرحم المحرم للشبهة فيمتنع وجوبه على الباقين للشركة وقد بينا ذلك في السرقة فكذلك في قطع الطريق وكان الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول تأويل المسألة إذا كان في المال المأخوذ لذي الرحم المحرم شركة للجميع وللشريك المفاوض لأن مال ذي الرحم المحرم في حكم العقوبة كماله فشركته بمنزلة شركة أحد قطاع الطريق في المال المأخوذ فأما إذا أخذوا مع ذلك مالا كثيرا لا شركة فيه لذي الرحم المحرم منه يلزمهم القطاع باعتبار ذلك المال كما لو سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من أحدهم مالا ومن حرز أجنبي آخر مالا بخلاف ما إذا سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من أحدهم ماله ومال غيره لأن الشبهة هناك في الحرز ولا معتبر بالحرز في(9/360)
ص -173- ... قطع الطريق فكل واحد حافظ لماله محرز له والأصح أن الجواب في الكل واحد لأن مال جميع القافلة في حق قطاع الطريق كشيء واحد فإنهم قصدوا أخذ ذلك كله بفعل واحد فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك المال في حقهم فقد تمكنت الشبهة في جميعه بخلاف السرقة من حرز ثم من حرز لأن كل واحد من الفعلين هناك منفصل عن الآخر حقيقة وحكما ووزان هذا من ذلك أن لو قطعوا الطريق على قوم فيهم ذو الرحم المحرم من أحدهم ثم قطعوا الطريق على قوم أجانب وأخذوا المال وهذا في حكم القطع دون القتل حتى لو قتلوا أحدهم يقتلون لأن المحرم كالأجنبي في القتل.
قال وإذا شهد أحد الشاهدين عليهم بمعاينة قطع الطريق وشهد الآخر على إقرارهم بالقطع لم تجز الشهادة لاختلاف المشهود به لأن الفعل غير القول وإن قال الشاهدان قطع الطريق علينا وعلى أصحابنا هو وأصحابه وأخذوا المال منا لم تجز شهادتهما لأنهما يشهدان لأنفسهما وشهادة المرء لنفسه دعوى وكذلك إن شهدا أنه قطع الطريق على والدهما أو ولدهما لم تجز شهادتهما لأنهما يشهدان لأبيهما وهذا لأن الحد وإن كان استيفاؤه إلى الإمام فلا بد من خصومة صاحب المال وفيما كان الخصم أب الشاهد أو بن الشاهد لا شهادة له ولأن شهادته لأبيه كشهادته لنفسه وإن شهدوا أنه قطع الطريق على رجل من عرض الناس له ولى يعرف أو ليس له ولى يعرف لم يقم الإمام عليهم الحد إلا بمحضر من الخصم لما بينا أن السبب لا يثبت بالشهادة عنده إلا إذا ترتبت على خصومة الخصم.
قال فإن قطعوا الطريق في دار الحرب على تجار مستأمنين أو في دار الإسلام في موضع قد غلب عليه عسكر أهل البغي ثم أتى بهم إلى الإمام لم يمض عليهم الحد لأنهم باشروا السبب حين لم يكونوا تحت يد الإمام وفي موضع لا يجري فيه حكمه وقد بينا أن ذلك مانع من وجوب الحد حقا لله تعالى لانعدام المستوفي فإن استيفاء ذلك إلى الإمام ولا يتمكن من الاستيفاء إذا كانوا في موضع لا تصل إليهم يده.(9/361)
قال وإذا رفع قوم من قطاع الطريق إلى القاضي فرأى تضمينهم المال وسلمهم إلى أولياء القود فصالحوهم على الديات ثم رفعوا بعد زمان إلى قاض آخر لم يقم عليهم الحد إما لتقادم العهد أو لانعدام الخصم وقد سقطت خصومتهم بما وصل إليهم أو لقضاء الأول فيهم بما قضى فإن ذلك نافذ لحصوله في موضع الاجتهاد ومن العلماء من يقول يتقرر الضمان عليهم ووجوب القود بالقتل وإن كان متحتما وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ. قال وإذا قضى القاضي على قطاع الطريق بقطع الأيدي والأرجل والقتل وحبسوا لذلك فذهب رجل بغير إذن الإمام فقتل منهم رجلا لم يكن عليه شيء لأن الإمام أحل دمهم حين قضى عليهم بالقتل ومن قتل حلال الدم لا شيء عليه كمن قتل مرتدا أو مقضيا عليه بالرجم وكذلك لو قطع يده لأنه لما سقطت حرمة نفسه اقتضى ذلك سقوط حرمة أطرافه(9/362)
ص -174- ... ضرورة ويتم بقية الحد لأن ما فعله ذلك الرجل من إقامة الحد وإن افتات فيه على رأي الإمام ففعله في ذلك كفعل الإمام لأنه رجل من المسلمين والإمام بمنزلة جماعة من المسلمين في استيفاء هذا الحد وإن أخطأ الإمام حين قدم إليه فقطع يده اليسرى فلا شيء عليه لأن دمه حلال فإنه يقتله بعد القطع فلا عصمة في طرفه ولأنه مجتهد فيما صنع وقد بينا نظيره في الحداد.
قال وإذا أقر القاطع بقطع الطريق مرة واحدة أخذ بالحد إلا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى كما في السرقة وإن أنكره بعد ذلك درئ عنه الحد لرجوعه عن الإقرار وأخذ بالمال والقود لأن رجوعه عن الإقرار فيما هو حق العبد باطل.
قال وإذا قطع الطريق وأخذ المال ثم ترك ذلك وأقام في أهله زمانا لم يقم الإمام عليه الحد استحسانا وفي القياس يقام عليه لأن الحد لزمه بارتكاب سببه ولكن استحسن لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل أن يقدر عليه والأصل فيه ما روى أن الحارث بن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى عامله بالبصرة أن الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له إلا بخير.
قال وإذا قطعوا الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الإسلام لم يلزمهم الحد لما بينا أن السبب المبيح في مال المستأمن قائم وهو كون مالكه حربيا وإن تأخر ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب ولكنهم يضمنون المال ودية القتلى لبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من وجوب الضمان الذي يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا.(9/363)
قال وإذا قطعوا الطريق على قافلة عظيمة فيها مسلمون ومستأمنون أقيم عليهم الحد إلا أن يكون القتل وأخذ المال وقع على أهل الحرب خاصة فحينئذ لا يجب الحد كما لو لم يكن معهم غيرهم فأما إذا وقع القتل وأخذ المال على المسلمين وأهل الحرب يقام عليهم الحد كما لو لم يكن أهل الحرب معهم وهذا بخلاف ما إذا كان في القافلة ذو رحم محرم من أحدهم لما بينا أن مال ذي الرحم في حقه في حكم الحد كماله فيمكن ذلك شبهة في فعلهم فأما مال المستأمنين ليس كما له وإنما لم يكن أخذ مال المستأمنين موجبا للعقوبة عليه لبقاء شبهة الإباحة في ماله وذلك غير موجود في حق المسلمين وأهل الذمة فيقام عليهم الحد باعتبار نفوس المسلمين وما لهم ويجعل كأنهم لم يتعرضوا للمستأمنين بشيء.
قال وإذا أحرم قاطع الطريق حين يأتي به الإمام لم يدرأ عنه الحد بذلك لأن إحرامه لو اقترن بالسبب لم يمنع وجوب الحد عليه فكذلك إذا اعترض وكذلك لو كان ذميا فأسلم وهذا(9/364)
ص -175- ... الحد معتبر بسائر الحدود حكما وكما أن إحرامه وإسلامه لا يمنع إقامة سائر الحدود فكذلك هذا الحد.
قال وإذا قتله رجل في حبس الإمام قبل أن يثبت عليه شيء ثم قامت البينة بما صنع فعلى قاتله القود لأن العصمة والتقوم لا يرتفع بمجرد التهمة ما لم يقض القاضي بحل دمه فإنما قتل نفسا محقونة فعليه القود ثم القاضي لا يقضي عليه بحل دمه بعد ما قتل لفوات المحل فوجود هذه البينة كعدمها إلا أن يكون القاتل هو ولي المقتول الذي قتله هذا في قطع الطريق فحينئذ لا يلزمه شيء لأنه استوفى حق نفسه على ما بينا أن السبب الموجب للقود قد تقرر وإنما يمتنع ظهوره إذا ظهر استحقاق نفسه حدا ولم يظهر ذلك قبل إقامة البينة عليه فكان الولي مستوفيا حقه فلا يلزمه شيء. والله أعلم.(9/365)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء العاشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(10/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب السير
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم أن السير جمع سيرة وبه سمى هذا الكتاب لأنه بين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين فأما بيان المعاملة مع المشركين فنقول الواجب دعاؤهم إلى الدين وقتال الممتنعين منهم من الإجابة لأن صفة هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبها كانوا خير الأمم قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] الآية ورأس المعروف الإيمان بالله تعالى فعلى كل مؤمن أن يكون آمرا به داعيا إليه وأصل المنكر الشرك فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد لما فيه من إنكار الحق من غير تأويل فعلى كل مؤمن أن ينهى عنه بما يقدر عليه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين قال الله تعالى {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وقال تعالى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ثم أمر بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالأحسن فقال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم فقال تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [البقرة: 191] أي أذن لهم في الدفع وقال تعالى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] وقال تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ثم أمر بالبداية بالقتال فقال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا(10/2)
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 197] وقال تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين وهو فرض قائم إلى قيام الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم "الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال" وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي والذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم" وتفسيره منقول عن سفيان ابن عيينة رحمه الله تعالى قال بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان وسيف قاتل به أبو بكر رضي الله تعالى عنه أهل الردة قال الله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وسيف قاتل به عمر(10/3)
ص -4- ... رضي الله تعالى عنه المجوس وأهل الكتاب قال الله تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية وسيف قاتل به علي رضي الله تعالى عنه المارقين والناكثين والقاسطين وهكذا روى عنه قال أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين قال الله تعالى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ثم فريضة الجهاد على نوعين أحدهما عين على كل من يقوى عليه بقدر طاقته وهو ما إذا كان النفير عاما قال الله تعالى {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقالا} [التوبة: 41] وقال تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] إلى قوله {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 38] ونوع هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين وإعزاز الدين لأنه لو جعل فرضا في كل وقت على كل أحد عاد على موضوعه بالنقض والمقصود أن يأمن المسلمون ويتمكنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم فإذا اشتغل الكل بالجهاد لم يتفرغوا للقيام بمصالح دنياهم فلذلك قلنا: إذا قام به البعض سقط عن الباقين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة يخرج وتارة يبعث غيره حتى قال "وددت أن لا تخرج سرية أو جيش إلا وأنا معهم ولكن لا أجد ما أحملهم ولا تطيب أنفسهم بالتخلف عني ولوددت أن أقاتل في سبيل الله تعالى حتى أقتل ثم أحي ثم أقتل" ففي هذا دليل على أن الجهاد وصفة الشهادة في الفضيلة بأعلى النهاية حتى تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع درجة الرسالة وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المجاهد في سبيل الله كالصائم القائم الراكع الساجد الشاهد" وفي حديث الحسن رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "غدوة أو روحة في سبيل الله تعالى خير من الدنيا وما(10/4)
فيها" والآثار في فضيلة الجهاد كثيرة وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سنام الدين" وعلى إمام المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده في الخروج بنفسه أو يبعث الجيوش والسرايا من المسلمين ثم يثق بجميل وعد الله تعالى في نصرته بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] فإذا بعث جيشا ينبغي أن يؤمر عليهم أميرا هكذا كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن به يجتمع كلامهم وتتألف قلوبهم وبذلك ينصرون قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62- 63] وإنما يؤمر عليهم من يكون صالحا لذلك بأن يكون حسن التدبير في أمر الحرب ورعا مشفقا عليهم سخيا شجاعا ويحكى عن نصر بن سيار رحمه الله تعالى قال اجتمع عظماء العجم وغيرهم على أن قائد الجيش ينبغي أن يكون فيه عشر خصال من خصال البهائم شجاعة كشجاعة الديك وتحنن كتحنن الدجاجة وقلب كقلب الأسد وروغان كروغان الثعلب أي صاحب مكر وحيلة وغارة كغارة الذئب وحذر كحذر الغراب وحرص كحرص الكركي وصبر على الجراح كالكلب وحملة كالجبهة وسمن كما يكون لدابة بخراسان لا تهزل بحال وإذا أمر عليهم بهذه الصفة فينبغي له أن يوصيه بهم كما بدأ الكتاب ببيانه ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى عن علقمة بن مرثد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهم قال كان(10/5)
ص -5- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا أو سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله في خاصة نفسه ففي هذا إشارة إلى الفرق بين الجيش والسرية فالسرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار والجيش هو الجمع العظيم الذي يجيش بعضهم في بعض قال صلى الله عليه وسلم "خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة إذا كانت كلمتهم واحدة" وفيه بيان أنه ينبغي للإمام أن يخص صاحب الجيش والسرية بالوصية لأنه يجعلهم تحت أمره وولايته فيوصيه بهم وفي تخصيصه بالوصية بيان أن عليهم طاعته فلا تظهر فائدة الإمارة إلا بذلك وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان رحمه الله تعالى حين وجهه إلى الشام في حديث طويل ذكره في السير الكبير وإنما يوصيه بتقوى الله تعالى لأنه بالتقوى ينال النصرة والمدد من السماء قال الله تعالى {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 125] وبالتقوى يجتمع للمرء مصالح المعاش والمعاد قال صلى الله عليه وسلم "ملاك دينكم الورع" وقال "التقى مجلم" وقيل في معنى قوله في خاصة نفسه أنه كان يوصيه سرا حتى لا يقف على جميع ما يوصيه به غيره والأظهر أن المراد أنه كان يوصيه في حق نفسه أولا ثم يوصيه بمن معه من المسلمين خيرا قال صلى الله عليه وسلم "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" ونفسه إليه أقرب فكأنه كان يوصيه بحفظ نفسه من المهالك وحفظ من معه من المسلمين حتى لا يرضى لهم إلا بما يرضى لنفسه ولا يخص نفسه بشيء دونهم فبذلك يتحقق التألف وانقيادهم له ثم قال أغزوا باسم الله أي اخرجوا واقصدوا والغزو والقصد قال الله تعالى {أَوْ كَانُوا غُزّىً} [آل عمران: 156] وبين أنه ينبغي لهم أن يقصدوا على اسم الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أقطع" قال وفي سبيل الله أي(10/6)
ليكن خروجكم لابتغاء مرضاة الله تعالى لا لطلب المال فالمجاهد يبذل نفسه وماله فإنما يربح على عمله إذا قصد به ابتغاء مرضاة الله تعالى فأما إذا كان قصده تحصيل المال فهو كرة خاسرة ثم قال قاتلوا من كفر بالله فيه دليل فرضية القتال وإنهم يقاتلون لدفع فتنة الكفر ودفع شر الكفار وهذا عام لحقه خصوص فالمراد من كفر بالله من المقاتلين ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حين رأى امرأة مقتولة يوم فتح مكة استعظم ذلك وقال "هاه ما كانت هذه تقاتل" وإلى ذلك أشار في هذا الحديث بقوله "ولا تقتلوا وليدا" ثم قال "ولا تغلوا" والغلول السرقة من الغنيمة وهو حرام قال الله تعالى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] قيل في التفسير يجعل ذلك في قعر جهنم ويؤمر بإخراجه وكل ما انتهى إلى شفير جهنم يرجع في قعرها وقال صلى الله عليه وسلم "الغلول من جمر جهنم" والأسود الذي كان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصابه سهم غرب فمات قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم هنيأ له الشهادة فقال صلى الله عليه وسلم "كلا فإن العباءة التي غلها من المغنم لتشتعل عليه نارا يوم القيامة" وقال في خطبته "ردوا الخيط والمخيط فالغلول عار وشنار على صاحبه يوم القيامة" قال "ولا تغدروا" والغدر الخيانة ونقض العهد وهو حرام قال الله تعالى {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْْ} [الأنفال: 58] على سواء أن الله لا يحب الخائنين وقال صلى الله عليه وسلم "لكل(10/7)
ص -6- ... غادر لواء يركز عند باب أسته يعرف به غدرته يوم القيامة" وكان صلى الله عليه وسلم يكتب في العهود "وفاء لا غدر فيه" قال "ولا تمثلوا" والمثلة حرام كما روى عمران ابن حصين رضي الله تعالى عنه قال ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا بعد ما مثل بالعرنيين إلا ويحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة فتخصيصه بالذكر في كل وقت وخطبة دليل على تأكيد الحرمة فيه قال "ولا تقتلوا وليدا" والوليد المولود في اللغة
وكل آدمي مولود ولكن هذا اللفظ إنما يستعمل في الصغار عادة ففيه دليل على أنه لا يحل قتل الصغار منهم إذا كانوا لا يقاتلون وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان وقال "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شروخهم" والمراد بالشيوخ البالغين وبالشروخ الأتباع من الصغار والنساء والاستحياء الاسترقاق قال الله تعالى {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر: 25] وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان لا تقتل شيخا ضرعا ولا صبيا ضعيفا يعني شيخا فانيا وصغيرا لا يقاتل قال وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الإسلام وفي نسخ أبي حفص رضي الله عنه وإذا حاصرتم حصنا أو مدينة فادعوهم إلى الإسلام.(10/8)
وفيه دليل أنه ينبغي للغزاة أن يبدؤا بالدعاء إلى الإسلام وهو على وجهين فإن كانوا يقاتلون قوما لم تبلغهم الدعوة فلا يحل قتالهم حتى يدعوا لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الأنعام: 15] وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم إلى الإسلام وهذا لأنهم لا يدرون على ماذا يقاتلون فربما يظنون أنهم لصوص قصدوا أموالهم ولو علموا أنهم يقاتلون على الدعاء إلى الدين ربما أجابوا وانقادوا للحق فلهذا يجب تقديم الدعوة وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة فالأحسن أن يدعوهم إلى الإسلام أيضا فالجد والمبالغة في الإنذار ربما ينفع وكان صلى الله عليه وسلم إذا قاتل قوما من المشركين دعاهم إلى الإسلام ثم اشتغل بالصلاة وعاد بعد الفراغ إلى القتال جدد الدعوة وإن تركوا ذلك وبيتوهم فلا بأس بذلك لأنهم علموا على ماذا يقاتلون ولو اشتغلوا بالدعوة ربما تحصنوا فلا يتمكن المسلمون منهم فكان لهم أن يقاتلوهم بغير دعوة على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن يغير على ابني صباحا وفي رواية ابنان صباحا فإن أسلموا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وفيه دليل أنهم إذا أظهروا الإسلام وجب الكف عنهم وقبول ذلك عنهم وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله "فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" وقال تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94] قال ادعوهم إلى التحول من ديارهم إلى دار المهاجرين وهذا في وقت كانت الهجرة فريضة وذلك قبل فتح مكة كان يفترض على كل مسلم في قبيلته أن يهاجر إلى المدينة ليتعلم أحكام الدين وينضم إلى المؤمنين في القيام بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الآية ثم انتسخ ذلك الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم "لا(10/9)
هجرة بعد الفتح" وإنما هو جهاد ونية وقال صلى الله عليه وسلم "المهاجر من هجر السوء وهجر ما نهى الله تعالى عنه" قال فإن فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإلا فاخبروهم أنهم(10/10)
ص -7- ... كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب وهذا كان الحكم حين كانت الهجرة فريضة فأمرهم بأن يعلموهم بذلك وهو أن يجري عليهم حكم الله تعالى لالتزامهم وانقيادهم لدين الحق وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب لامتناعهم من الجهاد والقيام بنصرة الدين أو الاشتغال بتعلم أحكام الدين ففيه دليل أن النصيب في الغنيمة والفيء لهذين الفريقين والغنيمة اسم للمال المصاب بالقتال على وجه يكون فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه والفيء اسم للمصاب من أموالهم بغير قتال كالخراج والجزية قال الله تعالى {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] الآية فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية وهذا عام دخله الخصوص فالمراد من يقبل منهم الجزية من أهل الكتاب أو المجوس أو عبدة الأوثان من العجم فأما المرتدون وعبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم الجزية ولكنهم يقاتلون إلى أن يسلموا قال الله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أي حتى يسلموا فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية يجب عرض ذلك عليهم إذا امتنعوا من الإيمان لأنه أصل ما ينتهي به القتال قال الله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وبقبول ذلك يصيرون من أهل دارنا ويلتزمون أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات فيدعون إليه والمراد بالإعطاء القبول والالتزام فإن فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم فإنكم لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم وبه يستدل محمد رحمه الله تعالى على أنه لا يجوز إنزال المحاصرين على حكم الله تعالى وأبو يوسف رحمه الله تعالى يجوز ذلك ويقول كان هذا في ذلك الوقت فإن الوحي ينزل والحكم يتغير ساعة فساعة فالذين كانوا بالبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يدرون ما نزل(10/11)
بعدهم من حكم الله تعالى فأما الآن فقد استقر الحكم وعلم أن الحكم في المشركين الدعاء إلى الإسلام وتخلية سبيلهم إن أجابوا قال الله تعالى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فإن أبوا فالدعاء إلى التزام الجزية فإن أبوا فقتل المقاتلة وسبى الذرية ومحمد رحمه الله تعالى يقول لا يجوز الإنزال على حكم الله تعالى كما ذكر في الحديث فإن الحكم الذي ذكره أبو يوسف رحمه الله تعالى في قوم وقع الظهور عليهم فأما في قوم محصورين ممتنعين في أنفسهم نزلوا على حكم الله تعالى فلا يدري أن الحكم هذا أو غيره وفي هذا اللفظ دليل لأهل السنة والجماعة على أن المجتهد يخطئ وصيب فإنه قال "فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم ولو كان كل مجتهد مصيبا لكان يعلم حكم الله فيهم بالاجتهاد لا محالة".
فإن قيل: فقد قال "أنزلوهم على حكمكم ثم احكموا فيهم بما رأيتم" ولو لم يكن المجتهد مصيبا للحق لما أمر بإنزالهم على حكمنا فإنه لا يأمر بالإنزال على الخطأ وإنما يأمر بالإنزال على الصواب.
قلنا: نعم نحن لا نقول المجتهد يكون مخطئا لا محالة ولكنه على رجاء من الإصابة(10/12)
ص -8- ... وهو آت بما في وسعه فلهذا أمر بالإنزال على ذلك لا لأنه يكون مصيبا للحق باجتهاده لا محالة.
وفائدة ذلك أنه لا يتمكن فيه شبهة الخلاف إذا نزلوا على حكمنا وحكمنا فيهم بما رأينا ويتمكن ذلك إذا نزلوا على حكم الله تعالى باعتبار أن المجتهد يخطئ ويصيب فهذا فائدة هذا اللفظ.
قال وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم فهو أهون والمراد بالذمة العهد ومنه سمى أهل الذمة قال الله تعالى {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] أي عهدا فهو عبارة عن اللزوم ومنه سمى محل الالتزام من الآدمي ذمة والالتزام بالعهد يكون وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يعطوا المشركين عهد الله ولا عهد رسوله لأنهم ربما يحتاجون إلى النبذ إليهم ونقض عهد الله وعهد رسوله لا يحل وإليه أشار بقوله ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم يعني عهدكم وعهد آبائكم من الممالحة والصحبة التي كانوا يعتقدون الحرمة به في الجاهلية فإنكم إن تخفروا ذممكم فهو أهون أي تنقضوا يقال أخفر إذا نقض العهد وخفر أي عاهد ومنه الخفير وهو الذي يسير الناس في أمانه سمى خفيرا للمعاهدة مع الذين في أمانه أو مع الذين يتعرضون للناس في أن لا يقصدوا من كان في أمانه وهذا بيان فوائد الحديث والله أعلم وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الخمس كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم فلله ولرسوله سهم ولذي القربى سهم وللمساكين سهم ولليتامى سهم ولابن السبيل سهم ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وبن السبيل ومراده بيان قول الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وكأن ابن عباس رضي الله(10/13)
عنهما يقول سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحد وذكر اسم الله تعالى للتبرك ومفتاح الكلام وكان أبو العالية يقول الغنيمة على ستة أسهم سهم لله تعالى ويصرف ذلك إلى عمارة الكعبة إن كانت الكعبة بالقرب منها وإلى عمارة الجامع في كل بلدة هي بالقرب من موضع القسمة لأن هذه البقاع مضافة إلى الله تعالى وهذا السهم لله تعالى فيصرف إلى عمارة البقاع المضافة إليه خالصا ولسنا نأخذ بهذا فذكر الله تعالى ليس للاستحقاق لأن الدنيا بما فيها لله تعالى ولكن للتبرك أو لتشريف هذا المال لأن إضافة شيء من الدنيا إلى الله تعالى على الخصوص لمعنى التشريف كالمساجد والناقة وهذا المعنى يتحقق في الغنيمة لأنها أصيبت بطريق فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه وأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ثابتا في حياته وسقط بموته عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو باق يصرف إلى كل خليفة بعده لأنه كان يأخذ ذلك السهم في حياته ليستعين به في جوائز الوفود والرسل كما قال صلى الله عليه وسلم "والله ما يحل لي من(10/14)
ص -9- ... غنائمكم إلا الخمس" والخمس مردود فيكم والخليفة بعده محتاج إلى مثل ما كان هو محتاجا إليه فيصرف هذا السهم إليه ولكنا نقول الخلفاء الراشدون بعده لم يرفعوا هذا السهم لأنفسهم فعرفنا أنه كان له بدرجة الرسالة لا بالقيام بأمور الناس وذلك غير موجود في الخلفاء بعده ولما اجتمع الصحابة رضي الله عنهم ليفرضوا لأبي بكر رضي الله عنه قدر كفايته لم يجعلوا ذلك من هذا السهم ولأنه كان له من الغنائم ثلاث حظوظ خمس الخمس والصوفي والسهم ثم الخليفة لا يقام مقامه في استحقاق الصفي فكذلك في استحقاق خمس الخمس والصفي شيء نفيس كان يصطفيه لنفسه من سيف أو فرس أو جارية كما روى أنه صلى الله عليه وسلم اصطفى ذا الفقار من غنائم بدر وكان سيفا لمنبه بن الحجاج بخلاف ما يزعم الروافض أنه نزل من السماء لعلي رضي الله عنه واصطفى صفية من غنائم خيبر وهذا شيء كان لرأس الجيش في الجاهلية كما قال القائل:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفصول(10/15)
فأما سهم ذوي القربى فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم في حياته وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولم يبق لهم ذلك بعده عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو مستحق لهم يجمعون من أقطار الأرض فيقسم بين ذكورهم وإناثهم بالسوية وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول إنما سقط بموته هذا السهم في حق الأغنياء منهم دون الفقراء والطحاوي رحمه الله تعالى كان يقول سقط في حق الفقراء والأغنياء منهم جميعا وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول لم يكن لهم هذا السهم مستحقا بالقرابة بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم مجازاة على النصرة التي كانت منهم ولم يبق ذلك المعنى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتماد على هذا والشافعي رحمه الله تعالى استدل بظاهر قوله تعالى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 8] فقد أضاف إليهم سهما بلام التمليك فدل أنه حق مستحق لهم وأن الأغنياء والفقراء فيه سواء لأنه ليس في اسم القرابة ما ينبئ عن الفقر والحاجة بخلاف سهم اليتامى ففي اسم اليتيم ما ينبئ عن الحاجة حتى لو أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون فالوصية لفقرائهم بخلاف ما لو أوصى لأقرباء فلان وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأغنياء منهم فإنه أعطى العباس رضي الله عنه وقد كان له عشرون عبدا كل عبد يتجر في عشرين ألفا وأعطى الزبير بن العوام من غنائم خيبر خمسة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وسهما لقرابته وسهما لأمه صفية وكانت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها فإذا كان هذا الحكم ثابتا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقى بعده لأنه لا نسخ بعد وفاته ومن قال من مشايخنا رحمهم الله أن الاستحقاق للفقراء منهم دون الأغنياء احتج بقوله تعالى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وبين مصارف الخمس ثم بين المعنى فيه وهو أن لا يكون شيء منه دولة بين الأغنياء تتداوله أيديهم(10/16)
واسم ذوي القربى عام يتناول الأغنياء والفقراء فيخصه ويحمله على الفقراء بهذا الدليل ومن قال لا حق للفقراء والأغنياء منهم جميعا قال المراد(10/17)
ص -10- ... بالآية بيان جواز الصرف إليهم لا بيان وجوب الصرف إليهم وكان هذا مشكلا فإن الصدقة لا تحل لهم فكان يشكل أنه هل يجوز صرف شيء من الخمس إليهم ولم يزل هذا الإشكال ببيان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان يصرف ما يأخذ إلى حاجة نفسه فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله تعالى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] وإنما حملناه على هذا لإجماع الخلفاء الراشدين على قسمة الخمس على ثلاثة أسهم ولا يظن بهم أنه خفي عليهم هذا النص ولا أنهم منعوا حق ذوي القربى فعرفنا بإجماعهم أنه لم يبق إلا الاستحقاق لأغنيائهم وفقرائهم والشافعي رحمه الله تعالى يقول لا إجماع ويستدل بالحديث الذي ذكره عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما قال كان رأي علي رضي الله عنه في الخمس رأى أهل بيته ولكنه كره أن يخالف أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال والإجماع بدون أهل البيت لا ينعقد كيف وقد كان رأي علي رضي الله عنه ولكنه يتحرز من أن ينسب إلى مخالفة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولكنا نقول ليس في هذا الحديث بيان من كان يرى ذلك من أهل البيت وقد كان فيهم من لا يكون قوله حجة وإنما كره علي رضي الله عنه هذه المخالفة لأنه رأى الحجة معهما فإنه خالفهما في كثير من المسائل حين ظهر الدليل عنده وهذا لأنه كان مجتهدا ولا يحل للمجتهد أن يدع رأى نفسه لرأى مجتهد آخر احتشاما له والدليل عليه حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله عن علي رضي الله عنه قال اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس كبر سني ورق عظمي وركبتني المؤن فإن رأيت أن تأمر لي بكذا وسقا من طعام فافعل ففعل ذلك وقالت فاطمة رضي الله عنها أنت تعلم مكاني منك فإن رأيت أن تأمر لي بمثل ما أمرت به لعمك فافعل ففعل ذلك وقال زيد بن حارثة كنت أعطيتني أرضا فكنت أزرعها وأعيش بها ثم أخذتها مني فإن رأيت أن تردها علي فافعل ففعل ذلك فقلت أنا(10/18)
إن رأيت أن توليني القسمة فيما هو حقنا كيلا ينازعني أحد بعدك فافعل ففعل ذلك وقال للعباس رضي الله تعالى عنه هلا سألت كما سأل ابن أخيك" فقال إلى ذلك أنتهت مسألتي فكنت أقسم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما حتى أتاه مال عظيم فدعاني لآخذ ما كنت آخذه وأقسمه بين أهل البيت فقلت له أن ابنا اليوم عنه غنى وبالمسلمين خلة فأصرفه إليهم ففعل ذلك وقال لي العباس لقد حرمنا اليوم شيئا لا يعود إلينا أبدا وكان رجلا داهيا فكان كما قال فبهذا تبين أن عليا رضي الله تعالى عنه علم أن الصرف إليهم للحاجة لا للاستحقاق حين رد بقوله أن ابنا اليوم عنه غنى وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عرض علينا عمر رضي الله عنه أن يزوج من الخمس أيمنا وأن يقضي به عن مغرمنا فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فأبى ذلك علينا قال الشافعي رحمه الله تعالى وفي هذا دليل على أن ابن عباس رضي الله عنه كان يرى استحقاق ذلك السهم لهم وذلك ظاهر فيما ذكر بعد هذا من كتابه إلى نجدة وكتبت إلي أن تسألني عن سهم ذوي القربى وأنا لنزعم أنه لنا ويأبى علينا ذلك غيرنا،(10/19)
ص -11- ... ولكنا نقول بعد إجماع الخلفاء الراشدين لا يؤخذ بقول ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في هذا لا يؤخذ به في العول وغيره مع أن معنى قوله فأبينا إلا أن يسلمه إلينا لنتولى صرفه إلى المحتاجين منا لا لنصرفه إلى أنفسنا وكل أحد يحب ذلك في أهل بيته ألا ترى أنه قال فأبى ذلك علينا وعمر رضي الله عنه ما كان يعرف بمنع الحق من المستحق بل بإيصال الحق إلى المستحق على ما قال صلى الله عليه وسلم أينما دار عمر فالحق معه وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس يوم خيبر فقسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب فكلم عثمان ابن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا نحن وبنو المطلب في النسب إليك سواء فأعطيتهم دوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا لم نزل نحن وبنو المطلب في الجاهلية والإسلام معا" وفي بعض الروايات قالا "لا ينكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله تعالى فيهم ولكن نحن وإخواننا من بني المطلب إليك في النسب سواء" فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال إنهم لم يفارقوني في الجاهلية ولا في الإسلام وفي رواية "فإنما بنو هاشم وبنو المطلب كشيء واحد" وفي رواية "لم نزل معهم هكذا" وشبك بين أصابعه(10/20)
واعتمادنا على هذا الحديث فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الاستحقاق بالنصرة دون القرابة وأن المراد بالقربى قرب النصرة حين شبك بين أصابعه ومعنى الحديث أن أصل النسب وهو عبد مناف كان له أربعة بنين هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أولاد هاشم فإنه محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فكانت بنو هاشم أولاد جده وجبير بن مطعم كان من بني نوفل وعثمان رضي الله عنه كان من بني عبد شمس وولد جد الإنسان أقرب إليه من ولد أخ جده فهذا معنى قولهما لا ننكر فضل بني هاشم فأما بنو نوفل وبنو عبد شمس كانوا مع بني المطلب في القرابة إسوة وقيل بنو نوفل وبنو عبد شمس كانوا أقرب إليه من بني المطلب لأن نوفلا وعبد شمس كانا أخوي هاشم لأب وأم والمطلب كان أخا هاشم لأبيه لا لأمه والأخ لأب وأم أقرب إلى المرء من الأخ لأب ثم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب ولم يعط بني نوفل وبني عبد شمس فأشكل ذلك عليهما فلذلك سألاه ثم أزال إشكالهما ببيان علة الاستحقاق أنه النصرة دون القرابة ولم يرد به نصرة القتال فقد كان ذلك موجودا من عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم وإنما أراد نصرة الاجتماع إليه للمؤانسة في حال ما هجره الناس على ما روى أن الله تعالى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم ورأت قريش آثار الخير فيهم حسدوهم وتعاقدوا فيما بينهم أن لا يجالسوا بني هاشم ولا يكلموهم حتى يدفعوا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه وتعاقد بنو هاشم فيما بينهم على القيام بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس في عهد قريش ودخل بنو المطلب في عهد بني هاشم حتى دخلوا معهم الشعب فكانوا فيه ثلاث سنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا العلهز من الجهد القصة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا لم نزل نحن وبنو المطلب في(10/21)
الجاهلية والإسلام معا"(10/22)
ص -12- ... وإذا ثبت أن الاستحقاق بتلك النصرة ولا تبقى تلك النصرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقى الاستحقاق لا للانتساخ بعد موته بل لانعدام الحكم لعدم علته وهذا معنى ما قلنا: إن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم مجازاة على تلك النصرة المخصوصة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكافئ كل من نصره يوما حتى قال يوما لما عرض عليه الأسارى "لو كان معظم بن عدي حيا لوهبت هؤلاء السبي منه مجازاة له على ما صنع" وقد كان مات على شركه ولكنه قام بنصرته يوما وفيه قصة معروفة أو نقول ثبت بالكتاب أن الاستحقاق بالقرابة وببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الاستحقاق بالنصرة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3- 4] فصار هذا الاستحقاق ثابتا بعلة ذات وصفين القرابة والنصرة وانعدام أحد الوصفين وهو النصرة بعد وفاته فلا يبقى الاستحقاق كما أنه لما انعدم أحد الوصفين في حق بني نوفل وبني عبد شمس في حياته لم يعطهم شيئا فبنو هاشم وبنو المطلب بعد وفاته بمنزلة بني نوفل وبني عبد شمس في حياته وتعليق الاستحقاق بالنصرة أولى منه بالقرابة لأن القياس بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قربة وطاعة ومال الله يجوز أن يستحق بعمل هو قربة ولا يجوز أن يستحق بنفس القرابة لأن قرابة الرجل سبب لاستحقاق ماله فأما مال الله تعالى لا يستحق بالقرابة ولأن درجة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى من أن تجعل علة لاستحقاق شيء من الدنيا ولا معنى لما يقول الخصم أن هذا السهم لهم عوض عن حرمة الصدقة عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر بني هاشم إن الله تكره لكم غسالة الناس وعوضكم منها سهما من الخمس" وهذا لأن حرمة الصدقة عليهم لكرامتهم فلا يدخل به عليهم نقصان يحتاج إلى جبره بالتعويض ولئن كان هذا السهم عوضا من حرمة الصدقة فينبغي أن يستحقه من يستحق الصدقة لولا قرابة(10/23)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الفقراء دون الأغنياء وينبغي أن يكون استحقاقهم على نحو استحقاق الصدقة لولا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقاقهم للصدقة لولا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه جواز الصرف إليهم لا وجوب الصرف إليهم فكذلك هذا السهم ونحن نقول إنه يجوز صرف بعض الخمس إليهم وإنما ننكر وجوب الصرف إليهم بسبب القرابة وأيد جميع ما قلنا: حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي" والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بإجماع الخلفاء الراشدين على العمل به وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان يحمل من الخمس في سبيل الله تعالى ويعطي منه نائبة القوم فلما كثر المال جعل في غير ذلك وإنما أراد به ما كان يصرف من الخمس إلى ذوي القربى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكر بعد هذا عن الضحاك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استشار المسلمين في سهم ذوي القربى فرأوا أن يجعل في الخيل والسلاح وفي هذا بيان أنهم كانوا مجمعين على أنه لا استحقاق لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن استحقاقهم في حياته كان للنصرة ألا ترى أنهم جعلوا مصرفه آلة النصرة وهي الخيل والسلاح وقوله ويعطي منه نائبة القوم قيل المراد بالقوم ذوي القربى كما قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عرض(10/24)
ص -13- ... علينا عمر رضي الله عنه أن يزوج منه إيمنا ويقضي منه عن مغرمنا وقيل المراد بالقوم الغزاة أي يعطي منه ما يحتاج إليه الغزاة في سبيل الله تعالى ومعلوم أن الصرف إلى المستحق المحتاج أولى من الصرف إلى محتاج غير مستحق وقوله فلما كثر المال جعل في غير ذلك تعرض لبعض من كان لا يصرفه إلى مصرفه في وقته يعني كثرة الإجماع فيه فمع كثرة المال لا يصل إلى المصرف الذي كان يصل إليه عند قلة المال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا وجد بعيرا في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل ذلك فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن وجدته قبل القسمة فهو لك وإن وجدته بعد القسمة أخذته بالثمن إن شئت" وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة لرجل من المسلمين بدارهم فاشتراها رجل منهم وأخرجها فخاصم فيها مالكها فقال صلى الله عليه وسلم "إن شئت أخذتها بالثمن" وفي الحديثين حجة لنا أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالإحراز لأنهم لو لم يملكوا لرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المالك مجانا بكل حال فإن المسلمين إنما يملكون على الكفار مالهم لا مال المسلم وكذلك المشتري إنما يملك على البائع ماله إلا أنه جعل له حق الأخذ قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأن المستولى عليه صار مظلوما وعلى من يذب عن دار الإسلام القيام بنصرته ودفع الظلم عنه وذلك بإعادة ماله إليه وقبل القسمة لم يتعين الملك فيه لأحد بل هو باق على حق الغزاة فكان عليهم الرد ليندفع به الظلم عن صاحبه وبعد القسمة قد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم عنه ولكن ليس له أن يحول ملكه وحقه إليه إلا أن حقه في المالية فلمراعاة النظر من الجانبين قلنا: تعاد إليه العين بالقيمة ليصل المستولي عليه إلى عين ماله ويصل الآخر إلى حقه في المالية ودليل أن حقه في المالية أن للإمام بيع الغنائم وقسمتها بين الغانمين ومراده(10/25)
بالثمن القيمة فالقيمة ثمن التعديل والمسمى ثمن التراضي ولهذا مكنه من الأخذ من المشتري بالثمن لأن حق المشتري فيما أعطى من ماله وهو الثمن فينظر له في ذلك كما ينظر للمستولي عليه في إعادة ماله إليه
وعن الشعبي رحمه الله تعالى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل أهل السواد ذمة المراد سواد العراق وفيه دليل على أن الإمام إذا فتح بلدة عنوة وقهرا فله أن يجعل أهلها ذمة ويضع الجزية على جماجمهم والخراج على أراضيهم كما فعله عمر رضي الله تعالى عنه فإنه افتتح السواد عنوة وقهرا وذلك مشهور في كتب المغازي وفيه أشعار وقد كان صاحب جيش العجم رستم بن فرخ هرمزان وقتل في الحرب وأنشد الأعرابي الذي قتله فقال:
ألم تر أني حميت الذمار ... وأبقيت مكرمة في الأمم؟
غداة الهزيمة إذ رستم ... يسوق الفوارس سوق النعم
رماني بسهم وقد نلته ... فصك الركاب بطن القدم
واضرب بالسيف يافوخه ... فكانت لعمري فتح العجم(10/26)
ص -14- ... وقد كان صاحب جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان قد خرج به دماميل فلم يحضر الحرب يوم الفتح وفي ذلك يقول قائلهم:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
وإنما بينا هذا لأن بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله ينكرون فتح السواد عنوة وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه لا أدري ماذا أقول في سواد الكوفة ولكني أقول قولا بظن مقرون إلى علم وهذا جهل وتناقض من قائله فإن الظن أن يترجح أحد الجانبين من غير دليل فكيف يكون علما وفتح السواد عنوة وقهرا أشهر من أن يخفي على أحد حتى يحتاج إلى هذا التكلف وربما يقول الشافعي رحمه الله أن عمر رضي الله عنه ملك الأراضي للمسلمين واسترقهم ثم تركهم ليعملوا في أراضي المسلمين وما جعل عليهم من الخراج والجزية بمنزلة الضريبة كالمولى يساوي عبده الضريبة ويستعمله وربما يقول من عليهم برقابهم وتملك الأراضي ثم أجرها منهم والخراج الذي جعل عليهم أجرة وهذا بعيد فإن جزيتهم أشهر من أن تخفي وقد كانوا يتبايعون ذلك فيما بينهم ويتوارثونه من ذلك الوقت إلى يومنا هذا فعرفنا أن الصحيح ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى أنه من عليهم برقابهم وأرضهم وجعل عليهم الجزية في رؤسهم والخراج في أرضهم وإنما فعل ذلك بعد ما شاور الصحابة رضي الله عنهم على ما روى أنه استشارهم مرارا ثم جمعهم فقال أما أني تلوت آية من كتاب الله تعالى واستغنيت بها عنكم ثم تلى قوله تعالى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلى قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى قوله تعالى{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] هكذا في قراءة عمر رضي الله عنه إلى قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] ثم قال أرى لمن بعدكم في هذا الفيء نصيبا ولو قسمتها بينكم لم يكن لمن(10/27)
بعدكم نصيب فمن بها عليهم وجعل الجزية على رؤوسهم والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين ولم يخالفه في ذلك إلا نفر يسير منهم بلال رضي الله عنه ولم يحمدوا على خلافه حتى دعا عليهم على المنبر فقال اللهم اكفني بلالا وأصحابه فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعا وذكر عن عطاء رحمه الله تعالى قال كتب نجدة إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله هل للعبد في المغنم سهم وهل كانت النساء يحضرن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتى يجب للصبي سهم في المغنم وعن سهم ذوي القربى فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا حق للعبد في المغنم ولكن يرضخ له الحديث وفي هذا بيان أن الاستفتاء بالكتاب كان معروفا فيهم فإن نجدة كان حروريا وهم كانوا قوما يسألون سؤال التعمق فكان كثيرا ما يكتب نجدة إلى ابن عباس رضي الله عنهما حتى ربما كان يضجر بن عباس رضي الله عنهما ويقول لا يزال يأتينا باحموقة من خاطره ومع هذا كان يجيبه فيما كتب إليه وفيه بيان أنه لا يسهم للعبد كما يسهم للحر وبه نأخذ فإن العبد تبع للحر وليس من أهل أن(10/28)
ص -15- ... يجاهد بنفسه حتى كان للمولى أن يمنعه وهو ممنوع من الخروج بغير إذنه ولا يسوي بين الأصل والتبع في الاستحقاق ولكن يرضخ له إذا قاتل بحسب جرأته وغنائه وكفايته وكتب إليه أن النساء كن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوين الجرحى وكان يرضخ لهن وخروج النساء مع رسول الله عليه الصلاة والسلام مشهور في الآثار ومنهن من كانت تقاتل معه على ما روى أن أم سليم بنت ملحان قاتلت يوم حنين شادة على بطنها وكانت حاملا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لمقامها خير من مقام فلان وفلان" يعني الذين انهزموا وهي التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقاتل هؤلاء الفرارين كما قاتلنا المشركين فقال صلى الله عليه وسلم "عافية الله أوسع لنا" وأم أيمن كانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتداوي الجرحى وتقوم على المرضى وبعض العجائز كانت تخرج مع خالد بن الوليد رضي الله عنه للطبخ والخبز وسقي الماء وهذا دليل على أنه لا بأس بخروج العجائز مع الجيش لهذه الأعمال ثم يرضخ لهن لأنهن أتباع كالعبيد ولأنهن عاجزات عن القتال بنية والعبيد يعجزون عن ذلك بمنع الموالي فاستويا في المعنى فلهذا يرضخ للفريقين وكتب أنه لا حق للصبي في المغنم حتى يحلم وإنما أراد السهم الكامل أنه لا يثبت اسمه فيمن يسهم له ما لم يبلغ وبه نأخذ والأصل فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ولكن يرضخ للصبي إذا قاتل فقد كان في الصبيان من يقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى أنه عرض عليه صبي فرده فقيل إنه رام فأجازه وعرض عليه صبيان فرد أحدهما وأجاز لآخر فقال المردود أجزته ورددتني ولو صارعته لصرعته فقال صارعه فصارعه فصرعه فأجازهما والمراد الإجازة في المقاتلين ليرضخ لهما لا ليسهم فقد ثبت أنه لا(10/29)
يستحق السهم إلا بعد البلوغ وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا حق للعبد في المغنم والمراد السهم الكامل فأما الرضخ ثابت له إذا قاتل بإذن سيده أو المراد الآبق الخارج بغير إذن مولاه وهذا لا حق له بل يؤدب على فعله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بعد ما قدم المدينة وإنما أورد هذا ليبين أن الإمام لا يشتغل بالقسمة في دار الحرب لأنهم كانوا محتاجين في ذلك الوقت ثم أخر القسمة حتى قدم المدينة فدل أنها لا تقسم في دار الحرب والذي يرويه الشافعي رحمه الله تعالى أنه قسمها بالسير شعب من شعاب الصفراء والصفراء من بدر لا يكاد يصح بل المشهور أنه قسم بالمدينة حتى طلب منه عثمان رضي الله تعالى عنه أن يضرب له فيها بسهم ففعل قال وأجري يا رسول الله قال "وأجرك" وكان خلفه بالمدينة على ابنته رقية يمرضها فماتت قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قاله بعضهم قدم علينا زيد بن حارثة بشيرا بفتح بدر حين سوينا على رقية يعني التراب على قبرها وسأله طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن يضرب له بسهم وكان غائبا بالشام فوافق قدومه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب له بسهم قال وأجري يا رسول الله قال "وأجرك" وتكلموا في ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالسهم ولم يشهدا بدرا فذكر(10/30)
ص -16- ... الواقدي رحمه الله تعالى أنه ضرب لثمانية نفر ممن لم يشهدوا بدرا بالسهم فقيل إنما ضرب لعثمان رضي الله تعالى عنه لأن تخلفه كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمرض ابنته وكانت تحته وكان في ذلك فراغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحق هو بمن شهد بدرا ألا ترى أنه وعدله الأجر وطلحة كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتجسس خبر العير فكان مشغولا بعمل المسلمين فجعله كمن شهد بدرا وقيل بل كان أسهم لهما لأنهما كالمدد أما طلحة فقد كان في دار الحرب عازما على اللحوق بالمسلمين وعثمان رضي الله عنه وإن كان بالمدينة فالمدينة إنما كان لها حكم دار الإسلام في ذلك الوقت حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين فيها فأما بعد خروجهم فقد كانت الغلبة فيها لليهود والمنافقين وهو دليل لنا على أن المدد إذا لحق الجيش في دار الحرب شركهم في الغنيمة وإن لم يشهد الوقعة وقيل إنما أسهم لهما لأن الأمر في غنائم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من يشاء ويمنع من يشاء إما لأنها أصيبت بمنعة السماء أو لأنها كثرت المنازعة بينهم فيها على ما روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال ساءت أخلاقنا يوم بدر فحرمنا ثم بين ذلك فقال كنا ثلاث فرق فرقة كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرقة جمعوا الغنائم وفرقة اتبعوا المنهزمين فجعلت كل فرقة تقول الغنيمة لنا فارتفعت أصواتنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فأنزل الله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] فتبين أن الأمر كان في غنائم بدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا أعطى من أعطى ممن لم يحضر وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي رحمهما الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بعد منصرفه من الطائف بالجعرانة وفي هذا دليل أنها لا تقسم في دار الحرب فإنه أخر القسمة حتى(10/31)
انتهى إلى الجعرانة وكانت حدود دار الإسلام في ذلك الوقت لأن فتح حنين كان بعد فتح مكة والجعرانة من نواحي مكة وقد روي أن الأعراب طالبوه بالقسمة وأحاطوا به يقولون أقسم بيننا ما أفاء الله تعالى علينا حتى ألجؤه إلى سمرة وجذب بعضهم رداءه فتخرق فقال "اتركوا لي ردائي فلو كانت هذه العضاه إبلا وبقرا وغنما لقسمتها بينكم ثم لا تجدونني جبانا ولا بخيلا" فمع كثرة مطالبتهم أخر القسمة حتى انتهى إلى دار الإسلام فدل أنها لا تقسم في دار الحرب.
قال وأما خيبر فإنه افتتح الأرض وجرى فيها حكمه فكانت القسمة فيها بمنزلة القسمة في المدينة وقسم الغنائم فيها قبل أن يخرج منها ففي هذا دليل أن الإمام إذا افتتح بلدة وصيرها دار إسلام بأجراء أحكام الإسلام فيها فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها وقد طال مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد الفتح وأجرى أحكام الإسلام فيها فكانت من دار الإسلام القسمة فيها كالقسمة في غيرها من بقاع دار الإسلام.
قال وقسم غنائم بني المصطلق في ديارهم وكان قد افتتحها يعني صيرها دار الإسلام ودل على ذلك حديث مكحول قال ما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم إلا في دار الإسلام وفي هذا دليل على أنها لا تقسم في دار الحرب لأن الأفعال المتفقة في الأوقات(10/32)
ص -17- ... المختلفة لا تكون إلا على صفة واحدة إلا لداع يدعو إليها وليس ذلك إلا لكراهة القسمة في دار الحرب وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس سهمين والراجل سهما يوم بدر وإنما كان يوم بدر مع المسلمين فرسان وسبعون بعيرا ففي هذا دليل أنه يسهم للفرس دون غيره من البهائم وهذا لأن الإرهاب الذي يحصل بالخيل لا يحصل بغيره قال الله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وفيه دليل أنه يسهم للفرس سهم واحد وهو حجة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنهما يقولان للفرس سهمان وللرجل سهم واحد وقد ورد به بعض الآثار ولكن رجح أبو حنيفة رحمه الله تعالى حديث ابن عباس رضي الله عنهما في غنائم بدر قال السهم الواحد متيقن به لاتفاق الآثار وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار فلا أعطينه إلا المتيقن ولا أفضل بهيمة على آدمي وسنقرره في موضعه إن شاء الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما في جعل القاعد للشاخص ما جعل من ذلك في الكراع والسلاح فلا بأس به وما صنع ذلك في متاع البيت فلا خير فيه وفيه دليل جواز التجاعل بخلاف ما يقوله بعض الناس أن من خرج للجهاد لا يحل له أن يجتعل من غيره واعتمدوا فيه ما روى أن رجلا استؤجر بدينارين للجهاد فلما جاء يطلب الغنيمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "بكم استؤجرت" قال بدينارين قال "إنما لك ديناران في الدنيا والآخرة" ولكنا نقول بهذا الحديث فنقول الاستئجار على الجهاد لا يجوز والتجاعل ليس باستئجار ولكنه إعانة على السير وهو مندوب إليه وجهاد بالمال والنفس جميعا قال الله تعالى {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11] وقال جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] وأحوال الناس متفاوتة فمنهم من يقدر على إقامة الفرض(10/33)
بهما ومنهم من يقدر على إقامة الجهاد بالنفس لصحة بدنه ويعجز عن الخروج لفقره والآخر يعجز عن الخروج والجهاد بالنفس لمرض أو آفة ويقدر على الجهاد بالمال فيجهز بماله من يخرج فيجاهد بنفسه حتى يكون الخارج مجاهدا بالنفس والقاعد المعطى المال مجاهدا بالمال والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ولهذا كره ابن عباس رضي الله عنهما لقابض المال أن يجعل ذلك في متاع بيته لأن المعطى أمره بالجهاد به وذلك في استعداده له والإنفاق في الطريق على نفسه وهو على وجهين عندنا إن قال هذا المال لك فاغز به فله أن يصرفه إلى ما يشاء لأنه ملكه المال ثم أشار عليه بأن يصرفه إلى الجهاد فإن شاء قبل مشورته وإن شاء لم يقبل وإن قال اغز بهذا المال فليس له أن يصرفه إلى متاع بيته ولكن يشتري به الكراع والسلاح وينفق على نفسه في طريق الجهاد وقد بينا نظيره في الحج وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يغزي العزب عن ذي الحليلة ويعطي الغازي فرس القاعد وأنه كان حسن التدبير والنظر للمسلمين فمن حسن نظره هذا أن ذا الحليلة قلبه مع أهله فلا يطيل المقام في الثغر والعزب لا يكون قلبه وراءه فيتمكن من إطالة المقام فلهذا كان يأمر العزب بالخروج ومنهم من يروى الأعزب وكان يعطي الغازي فرس القاعد ليكون صاحب الفرس مع(10/34)
ص -18- ... زوجته يحفظها ويكون مجاهدا بفرسه والخارج يكون مجاهدا ببدنه ثم منهم من يقول إنما كان يفعل ذلك بالتراضي فأما عند عدم الرضى ما كان يفعل ذلك بل كان يجهز الغازي من بيت المال إن لم يكن مال فإن مال بيت المال معد لذلك والأصح أن نقول للإمام أن يفعل ذلك عند الحاجة فإن لم يكن في بيت المال مال ومست الحاجة إلى تجهيز الجيش ليذبوا عن المسلمين فله أن يحكم على الناس بقدر ما يحتاج إليه لذلك لأنه مأمور بالنظر للمسلمين وإن لم يجهز الجيش للدفع ظهر المشركون على المسلمين فيأخذون المال والذراري والنفوس فمن حسن التدبير أن يتحكم على أرباب الأموال بقدر ما يحتاج إليه لتجهيز الجيش ليأمنوا فيما سوى ذلك وهو المراد بما ذكر بعده عن جرير بن عبد الله أن معاوية رضي الله عنه ضرب بعثا على أهل الكوفة فرفع عن جرير وعن ولده وقال جرير رضي الله عنه لا نقبل ذلك ولكن نجعل أموالنا للغازي ومعنى ضرب البعث التحكم عليهم في أموالهم بقدر الحاجة لتجهيز الجيش فكأنه من على جرير وولده رضي الله عنهم بأن رفع ذلك عنهم فقد كان موقرا فيهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقره حتى قال جرير رضي الله عنه ما نظر إلي إلا تبسم ولو في صلاته لكن لم يقبل جرير هذه المنة منه لعلمه أن في الجهاد بالمال معنى الثواب واستحقاق المؤمن التوقير بكونه مستبقا إلى الخيرات والطاعات ولكن قال لا أعطي المال إليك بل أدفع بنفسي إلى من أختاره من الغزاة ليتبين به أنه غير مجبر على ما يعطي وبهذا يستدل من يقول من أصحابنا أن الأفضل للمرء أن يشارك أهل محلته في إعطاء النائبة ولكنا نقول هذا كان في ذلك الوقت لأنه إعانة على الطاعة فأما في زماننا إنما يوجد أكثر النوائب بطريق الظلم ومن تمكن من دفع الظلم عن نفسه فذلك خير له وإن أراد الإعطاء فليعطه من هو عاجز عن دفع الظلم عن نفسه وعن أداء المال لفقره حتى يستعين على دفع الظلم فينال المعطي الثواب بذلك وعن أبي مرزوق(10/35)
عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح قرية بالمغرب فخطب أصحابه فقال لا أحدثكم إلا بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول يوم خيبر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماؤه زرع غيره ولا يتبع المغنم حتى يقسم ولا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" ففيه دليل على أن صاحب الجيش عند الفتح ينبغي له أن يخطب ويعلم الناس في خطبته ما يحتاجون إليه في ذلك الوقت فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعند فتح خيبر فمما ذكر عنده في فتح خيبر هذا الحديث وفيه دليل على أنه لا يحل وطء الحبالى من الفيء وبه نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس إلا لا توطأ الحبالى من الفيء حتى يضعن ولا الحبالى حتى يستبرين بحيضة وفي وطء الحامل سقى مائه زرع غيره كما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن قوة سمع الجنين وبصره وشعره بماء الواطىء" ففيه دليل أنه ليس للغازي أن يبيع نصيبه قبل القسمة لأن الملك لا يثبت له إلا بالقسمة وبيع مجرد الحق لا يجوز ولأن نصيبه مجهول لا يدري أين يقع وأي مقدار يكون وللإمام رأي في بيع الغنائم وقسمة الثمن فإنما يبيع ما هو(10/36)
ص -19- ... مجهول جهالة متفاحشة وذلك باطل وفيه دليل على أنه لا يحل لبعضهم الانتفاع بدواب الغنيمة وثيابها قبل القسمة وقد سمى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ربا الغلول في حديث آخر ونهى عنه ولكن هذا عند عدم الحاجة فأما إذا تحققت الحاجة والضرورة فلا بأس بأن يفعل ذلك في دار الحرب بغير ضمان وفي دار الإسلام يشترط ضمان النقصان لأن عند الضرورة له أن يدفع الضرر عن نفسه بمال الغير بشرط الضمان مع أنه لا حق له فيه فلان يكون له ذلك فيما له فيه حق أولى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا من المشركين وقع في الخندق فمات فأعطي المسلمون بجيفته مالا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاهم وفيه دليل لأبي يوسف على أبي حنيفة ومحمد رحمهم الله تعالى في أنه لا يجوز للمسلم بيع الميتة من الحربي في دار الحرب بمال فإن مطلق النهى دليل فساد المنهي عنه ولكنهما يقولان إنما يجوز ذلك للمسلم المستأمن في دار الحرب وموضع الخندق كان من دار الإسلام فلهذا نهى عن ذلك وهذا ليس بقوي فإن في دار الإسلام إنما لا يحل ذلك مع الحربي المستأمن فأما مع الحربي الذي لا أمان له يجوز في دار الإسلام ودار الحرب لأن ماله مباح فللمسلم أن يأخذه بأي وجه يقدر عليه ولكن الأصح أن نقول إنما نهي عن ذلك لما عرف فيه من الكبت والغيظ للمشركين لا لأن ذلك حرام أو لئلا يظن بالمسلمين أنهم يجاهدون لطلب المال بل لابتغاء مرضاة الله تعالى وإعزاز الدين وعن الشعبي وزياد بن علاقة رحمهما الله تعالى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أني قد أمددتك بقوم من أهل الشام فمن أتاك منهم قبل أن تتفقى القتلى فأشركه في الغنيمة فيه بيان أن الإمام إذا بعث جيشا ينبغي له أن يمدهم بقوم أخر ليزدادوا بهم قوة وأن المدد إذا لحق الجيش بعد إصابة الغنيمة قبل الإحراز فإنهم يشاركونهم في المصاب كما هو مذهب علمائنا رحمهم الله(10/37)
تعالى وأن مراد عمر رضي الله عنه في قوله الغنيمة لمن شهد الوقعة إذا كانت الوقعة في دار الإسلام ودار الحرب بمنزلة موضع واحد فمن حصل من المدد في دار الحرب كان شاهدا للوقعة معنى وتكلموا في معنى قوله قبل أن تتفقى القتلى.
قيل معناه قبل أن تتشقق القتلى بطول الزمان فجعل ذلك كناية عن الانصراف إلى دار الإسلام.
وقيل معناه قبل أن يميز قتلى المسلمين من قتلى المشركين والتفقؤ عبارة عن هذا ومنه سمى الفقيه لأنه يميز الصحيح من السقيم وقال الشاعر:
تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخاز بازبه جنونا
ومنهم من يروي تتقفى القتلى القاف قبل الفاء ومعناه قبل أن تجعلوا القتلى على قفاكم بالانصراف إلى دار الإسلام وعن أبي قسيط قال بعث أبو بكر رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل في خمسمائة رجل مدد الزياد بن لبيد البياضي والمهاجر بن أمية المخزومي إلى اليمن فأتوهم حتى افتتحوا النجير فأشركهم في الغنيمة وبهذا يستدل من يجعل للمدد شركة وإن(10/38)
ص -20- ... لحقوا بالجيش في دار الإسلام لأن بالفتح قد صارت تلك البقعة دار إسلام ولكنا نقول تأويله أنهم فتحوا ولم تجر أحكام الإسلام فيها بعد وبمجرد الفتح قبل إجراء أحكام الإسلام لا تصير دار إسلام وعليه يحمل أيضا ما روى أن أبا هريرة رضي الله عنه التحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فتح خيبر وكذلك جعفر مع أصحابه رضي الله عنهم قدموا من الحبشة بعد فتح خيبر حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أدري بأي الأمرين أنا أشد فرحا بفتح خيبر أو بقدوم جعفر؟" ولم يشركهم في الغنيمة لأنهم إنما أدركوا بعد تصير البقعة دار إسلام فلهذا لم يسهم لهم مع أن غنائم خيبر كانت عدة من الله تعالى لأهل الحديبية خاصة كما قال الله تعالى {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] وهما ما كانا من أهل الحديبية فلهذا لم يسهم لهما والدليل على أن للمدد شركة إذا لحقوا بالجيش في دار الحرب ما روى أن أهل الكوفة غزوا نهاوند فأمدهم أهل البصرة بألفي فارس وعليهم عمار بن ياسر رضي الله عنه فأدركوهم بعد إصابة الغنيمة فطلب عمار رضي الله عنه الشركة وكان على الجيش رجل من عطارد فقال يا أجدع أتريد أن تشركنا في غنائمنا فقال عمار رضي الله عنه خير أذني سببت وكان قد قطعت إحدى أذنيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ثم رفع إلى عمر رضي الله عنه فجعل لهم الشركة في الغنيمة فبهذه الآثار يأخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود قينقاع على بني قريظة ولم يعطهم من الغنيمة شيئا وفي هذا دليل أنه لا بأس للمسلمين أن يستعينوا بأهل الذمة في القتال مع المشركين وقد كره ذلك بعض الناس فقالوا فعل المشركين لا يكون جهادا فلا ينبغي أن يخلط بالجهاد ما ليس بجهاد واستدلوا على ذلك بما روى أن رجلين من المشركين خرجا مع رسول الله صلى الله(10/39)
عليه وسلم يوم بدر فقال "لا يغز معنا إلا من كان على ديننا" فأسلما ولكنا نقول في الاستعانة بهم زيادة كبت وغيظ لهم والاستعانة بهم كالاستعانة بالكلاب عليهم وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لعلمه أن الرجلين يسلمان إذ أبى ذلك عليهما ألا ترى أنه قال في الحديث فأسلما وقيل كان يخاف الغدر منهما لضعف كان بالمسلمين يوم بدر كما قال الله تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] وإذا خاف الإمام ذلك فلا ينبغي أن يستعين بهم وأن يمكنهم من الاختلاط بالمسلمين وهو تأويل ما ذكر من حديث الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد فإذا كتيبة حسناء أو قال خشناء فقال "من هؤلاء" قالوا يهود كذا وكذا فقال "لا نستعين بالكفار" أو تأويله أنهم كانوا متعززين في أنفسهم لا يقاتلون تحت راية المسلمين وعندنا إنما يستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية المسلمين فأما إذا انفردوا براية أنفسهم فلا يستعان بهم وهو تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تستضيئوا بنار المشركين" وقال صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" يعني إذا كان المسلم تحت راية المشركين وعن الحكم أن أبا بكر رضي الله عنهما كتب إليه في أسيرين من الروم أن لا تفادوهما وإن أعطيتم بهما مدين من الذهب ولكن اقتلوهما أو يسلما ففيه دليل أنه لا يجوز مفاداة الأسير(10/40)
ص -21- ... بالمال كما هو المذهب عندنا بخلاف ما يقوله الشافعي رحمه الله وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى الأسرى يوم بدر وكان الفداء أربعة آلاف إلا أنه انتسخ ذلك بنزول قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلى قوله {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قد أشار عليه بالفداء وعمر رضي الله عنه كان يشير بالقتل فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه لحاجة الصحابة رضي الله عنهم إلى المال في ذلك الوقت وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "لو نزل من السماء عذاب ما نجى من ذلك إلا عمر" فلهذا بالغ أبو بكر رضي الله عنه في النهي عن المفاداة بقوله ولو أعطيتم بهما مدين من ذهب ففيه دليل على أن الأسير يقتل إن لم يسلم وممن قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر عقبة بن أبي معيط قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه "قدمه واضرب عنقه وأوف بنذر نبيك" ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي عزة يوم بدر بشرط أن لا يعين عليه وكان شاعرا فوقع أسيرا يوم أحد وأمر بقتله وكان طلب أن يمن عليه فقال صلى الله عليه وسلم "لا تحدث العرب أني خدعت محمدا مرتين" ثم ذكر عن الحسن وعطاء رحمهما الله تعالى قال لا يقتل الأسير ولكن يفادى أو يمن عليه وكأنهما اعتمدا ظاهر قوله تعالى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ولسنا نأخذ بقولهما فإن حكم المن والمفاداة بالمال قد انتسخ بقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لأن سورة براءة من آخر ما نزل وذكر في بعض النوادر عن محمد رحمه الله تعالى قال كان ذلك في عبدة الأوثان من العرب لأنه لا يجوز استرقاقهم فلم يكن في المن والمفاداة إبطال حق المسلمين عما ثبت حقهم(10/41)
فيه ولكن هذا ضعيف والصحيح ما بينا أن حكم المن والمفاداة قد انتسخ ولا يجوز للإمام أن يفعل ذلك إلا إذا عرف للمسلمين فيه منفعة عامة كما روى أن ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة أسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وربطوه بسارية المسجد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "ما وراءك يا ثمامة" فقال إن عاقبت عاقبت ذا ذنب وإن مننت مننت على شاكر وإن أردت المال فعندي من المال ما شئت فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن يقطع الميرة عن أهل مكة ففعل ذلك حتى قحطوا وعن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه قال لم يخمس طعام خيبر وكان قليلا فكان أحدنا إذا احتاج إلى شيء أخذ قدر حاجته وفي هذا دليل أنه يباح لكل واحد من الغانمين أن يتناول من الطعام والعلف بقدر حاجته وقد رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخمس الغنيمة إلا الطعام والعلف فكان يأخذ من ذلك بقدر حاجته وكتب صاحب جيش عمر رضي الله عنه بالشام إليه أنا افتتحنا أرضا كثيرة الطعام فكرهت أن أمضي في ذلك شيئا إلا بأمرك فكتب إليه دع الناس ليصيبوا من ذلك بقدر حاجتهم بشرط أن لا يبيعوا فمن باع شيئا من ذلك فقد وجب فيه خمس الله تعالى ورسوله وبهذه الآثار نأخذ لتساهل في أمر الطعام بالناس وللعلم بتجدد الحاجة إليه في كل وقت وعجزهم عن الحمل من دار الإسلام ما يحتاجون إليه للذهاب والرجوع إذا أمعنوا في دار(10/42)
ص -22- ... الحرب فقد روى عن عبد الله بن المفضل قال دلى على جراب من شحم من بعض حصون خيبر فاحتضنته وقلت في نفسي لا أعطي أحدا منه شيئا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي ويتبسم ولم ينكر عليه ذلك لعلمه بحاجته وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" والمراد باليد النصرة يعني النصرة للمسلمين على من سواهم كما قال الله تعالى {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وفي قوله "تتكافأ دماؤهم" دليل لنا على المساواة بين العبيد والأحرار في حكم القصاص ولا معنى لاستدلال الشافعي رحمه الله تعالى بهذا اللفظ أنه لا يقتل مسلم بكافر لأن فيه إثبات التساوي في دماء المسلمين لا نفي المساواة بين دمائهم ودماء غيرهم بل ذلك مفهوم والمفهوم عندنا ليس بحجة وبقوله "يسعى بذمتهم أدناهم" يستدل محمد رحمه الله تعالى على صحة أمان العبد فإن أدنى المسلمين العبيد ولكنا نقول معناه يسعى بذمتهم أقربهم إلى دار الحرب وهو من يسكن الثغور مشتق من الدنو وهو القرب لا من الدناءة قال الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وقيل معناه أقلهم في القرب ويكون ذلك من القلة كما في قوله تعالى {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ} [المجادلة: 7] فيكون ذلك دليلا على صحة أمان الواحد أو المراد به الفاسق لأنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسب العبد الورع إلى الدناءة وقيل المراد بالذمة عقد الذمة دون الأمان وذلك صحيح من العبد عندنا وعن أبي عمير مولى آبي اللحم قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين فقال لي "تقلد هذا السيف" فتقلدته فجررته على الأرض فأعطاني من حربي المتاع ومنهم من يروي مولى أبي اللحم والأشهر هو الأول لأن مولاه كان يأبى اللحم فسمي بابي اللحم وفي الحديث إشارة(10/43)
إلى صغره لأن جر السيف على الأرض لصغره وقيل لا بل فعل ذلك على طريق الخيلاء كما يفعله المبارز بين الصفين وفائدة الحديث أن من قاتل ممن لا يستحق السهم لصغر أو رق فإنه يرضخ له لأنه أعطاه من حربي المتاع يعني الشفق منه على سبيل الرضخ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم لمستهل الشهر وأقام عليها أربعين يوما وفتحها يعني الطائف في صفر وفي هذا دليل على أنه لا بأس بالقتال في الشهر الحرام فإن المحاصرة من القتال وقد روى أنه نصب المنجنيق على الطائف ففعله بيان أن ما كان من حرمة القتال في الأشهر الحرم قد انتسخ وكان الكلبي رحمه الله يقول ذلك ليس بمنسوخ ولسنا نأخذ بقوله في ذلك بل بما روى عن مجاهد رحمه الله قال النهي عن القتال في الأشهر الحرم منسوخ نسخه قوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة 5] وقد بينا أن سورة براءة من آخر ما نزل فانتسخ به ما كان من الحكم في قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الآية.
فإن قيل: كيف يستقيم دعوى النسخ بهذه الآية وقد قال الله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية؟(10/44)
ص -23- ... قلنا: المراد به مضى مدة الأمان الذي كان لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى كما قال {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ووافق مضي ذلك انسلاخ الأشهر الحرم والدليل على نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم قوله تعالى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] إلى قوله {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] قيل معناه لا تظلموا فيهن أنفسكم بالامتناع من قتال المشركين ليجترؤا عليكم بل قاتلوهم كافة لتنكسر شوكتهم وتكون النصرة لكم عليهم وفيما ذكر من الأخبار في الأصل عن الزبير رضي الله عنه عمن شهد المشاهد قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فقال "من كانت له عانة فاقتلوه ومن لم تكن له عانة فخلوا عنه" فكنت ممن لا عانة له فخلى عني قلت وما من أحد إلا وله عانة فالعانة في اللغة الموضع الذي ينبت عليه الشعر ولكن المراد من نبت الشعر على ذلك الموضع منه وجعل اسم الموضع كناية عنه وبه يستدل مالك رحمه الله تعالى فإنه يجعل نبات الشعر دليل البلوغ ولسنا نقول به لاختلاف أحوال الناس فيه فنبات الشعر في الهنود يسرع وفي الأتراك يبطىء وتأويل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف من طريق الوحي أن نبات الشعر في أولئك القوم يكون عند البلوغ أو أراد تنفيذ حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فإنه كان من حكمه بأن يقتل منهم من جرت عليه الموسى لعلمه أنه كان من المقاتلة فيهم وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي رحمهما الله أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان مع سهم عاصم بن عدي وفيه دليل على أن الإمام ينبغي له أن يقسم الغنيمة على العرفاء أولا ثم يقسم كل عريف على من تحت رايته ليكون ذلك أسهل وفيه دليل على تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يجعل باسم نفسه سهما ولكن جعل نفسه(10/45)
تحت راية غيره وروى أن أول السهام خرج يومئذ سهم عاصم بن عدي لكون سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وذكر عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والله ما يصلح إلى من فيئهم ولا مثل هذه الوبرة أخذها من سنام بعيره إلا الخمس والخمس مردود فيكم فأدوا الخيط والمخيط فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة" فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال أخذت هذه لأخيط بها بردعة بعير لي فقال صلى الله عليه وسلم "أما نصيبي فهو لك" فقال أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها وفيه دليل حرمة الغلول وإن ذلك في القليل والكثير ويستدل الشافعي رحمه الله تعالى بالحديث في جواز هبة المشاع فقد وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه من الرجل وكان مشاعا ولكنا نقول مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المبالغة في المنع من الغلول يعني أنك تطلب مني أن أجعل لك هذه الكبة ولا ولاية لي إلا على نصيبي منها فقد جعلت نصيبي منها لك إن جاز ليبين به أنه ليس للإمام ولاية إبطال حق الغانمين وتخصيص أحدهم بشيء منه مع أن الكبة من الشعر لا تحتمل القسمة بين الجند لكثرتهم فإنه لا يصيب كل واحد منهم شيئا منتفعا به إذا قسمت وعندنا هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة يجوز وعن أبي المليح بن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع "كل ربا كان في الجاهلية موضوع وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب" زاد في رواية "وكل(10/46)
ص -24- ... دم كان في الجاهلية موضوع وأول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث" وأن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم يوم بدر رجع إلى مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يربي بمكة قبل نزول التحريم وبعد نزوله لأن حكم الربا لا يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد كانت مكة يومئذ دار حرب ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضوع لا خصومة فيه بعد الفتح وقيل مراده أنه لا مطالبة له بما بقي منه بعد الفتح قال الله تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 273] وإنما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بربا العباس رضي الله عنه فيما أخبر أنه موضوع ليبين أن فعله ليس على نهج الملوك فالملوك في الأوامر يبدؤن بالأجانب وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه ليبين للناس أن القريب والبعيد عنده في حكم الشرع سواء وذكر عن حبيب بن سلمة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث وفيه دليل على جواز التنفيل للتحريض على القتال كما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وبظاهره يستدل الأوزاعي رحمه الله تعالى في جواز التنفيل بعد الإصابة فإن التنفيل في الرجعة يكون بعد الإصابة ولكنا نقول المراد أنه كان ينفل السرية الأولى الربع والسرية الثانية الثلث قبل الإصابة لا بعدها وهذا لأن التنفيل للتحريض والجيش في أول دخولهم ينشطون في القتال ما لا ينشطون بعد تطاول المدة ولهذا قلل نفل السرية الأولى وزاد في نفل السرية الثانية ولأن السرية الثانية يحتاجون إلى أن يمعنوا في الطلب فلهذا زاد في النفل لهم وذكر عن الزهري رحمه الله تعالى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تعقر الخيل في أرض العدو" وهو دليلنا على مالك رحمه الله تعالى فإنه يجوز العقر فيما يقوم عليه من(10/47)
الدواب من الغنيمة كانت أو من غيرها لحديث جعفر الطيار رضي الله عنه فإنه لما استقتل يوم موته وعلم أنه لا ينجو منهم عقر فرسه وتقدم في نحر العدو حتى قتل ولكنا نقول في العقر مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولعل فعل جعفر رضي الله عنه كان قبل النهي فانتسخ به وعن الضحاك رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال "لا تقتلوا وليدا ولا النساء ولا الشيخ الكبير" وقد بينا حرمة قتل النساء والصبيان منهم لأنهم لا يقاتلون وكذلك الشيخ الكبير الذي أمن من قتاله بنفسه ورأيه ولا يرجى له نسل أما إذا كان له رأي يقتل ألا ترى أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكأن ابن مائة وستين سنة وقد ذهب بصره ولكنهم أحضروه ليستعينوا برأيه وأشار إليهم بأن يرفعوا الثقل إلى عليا بلادهم ويلقوا المسلمين على متون الخيل بسيوفهم فخالفوه في ذلك وفيه يقول:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوي ... فلم يستبينوا الرشد الأضحى الغد
وإنما قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيه في الحرب وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تدخل المصاحف أرض العدو والمشهور فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" وإنما نهى عن ذلك مخافة أن تناله أيدي العدو ويستخفوا به فعلى هذا النهي في سرية ليست لهم منعة قوية فأما إذا كانوا جندا عظيما كالصائفة فلا بأس بأن يتبرك(10/48)
ص -25- ... الرجل منهم بحمل المصحف مع نفسه ليقرأ فيه لأنهم يأمنون من ذلك لقوتهم وشوكتهم. فإن قيل: أهل الشرك وإن كانوا يزعمون أن القرآن ليس بكلام الله تعالى فيقرون أنه كلام حكيم فصيح فكيف يستخفون به؟.
قلنا: إنما يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين وقد ظهر ذلك من فعل القرامطة في الموضع الذي أظهروا فيه اعتقادهم على ذكره ابن رزام في كتابه أنهم كانوا يستنجون بالمصاحف وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار أن هذا النهي كان في ذلك الوقت لأنه يخاف فوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين فأما في زماننا فقد كثرت المصاحف وكثر الحافظون للقرآن عن ظهر القلب فلا بأس بحمل المصحف إلى أرض العدو لأنه لا يخاف فوت شيء من القرآن وإن وقع بعض المصاحف في أيديهم وذكر عن يزيد بن هرمز قال أنا كتبت كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجدة كتبت إلي تسألني عن قتل الولدان وأن عالم موسى قتل وليدا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان فلو كنت تعلم في الولدان ما كان يعلم عالم موسى كان ذلك وقد بينا أن نجدة كان يسأل ابن عباس رضي الله عنهما سؤال التعمق حتى سأله يوما لماذا طلب سليمان عليه السلام الهدهد قال ليخبره بالماء فإنه يبصر الماء تحت الأرض وإن كان إلى مائة ذراع فقال إنه لا يبصر الفخ تحت التراب فكيف يبصر الماء تحت الأرض فقال ابن عباس رضي الله عنهما إذا جاء القضا عمي البصر ومما سأله هذا الذي رواه وجوابه ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن عالم موسى كان يعلم من ذلك الغلام ما أظهره لموسى عليه السلام حين استعظم ذلك فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن ذلك الغلام الذي قتله عالم موسى كان بالغا فقد كان عاقلا مميزا والبلوغ في ذلك الوقت كان بالعقل ثم ذكر في الحديث وكتبت تسألني عن اليتيم متى يخرج من اليتم فإذا احتلم يخرج من اليتم ويضرب له بسهم وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتم بعد(10/49)
الحلم" والذي روى أن الكفار كانوا يسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيم أبي طالب بعد المبعث قد كانوا يقصدون الاستخفاف به لا أنه في الحال يتيم.
قيل هذا لطف من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يشتمون يتيما وهو لم يكن يتيما ولا تتناوله تلك الشتمة كما روي أنهم كانوا يسمونه مذمما ويشتمون مذمما وهو كان محمدا صلى الله عليه وسلم فلا تتناوله تلك الشتمة فهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب معاملة الجيش مع الكفار
قال رضي الله عنه وإذا غزا الجيش أرضا لم تبلغهم الدعوة لا يحل لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم الإسلام ليعرفوا أنهم على ماذا يقاتلون وهو معنى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم إلى الإسلام ولو قاتلوهم بغير دعوة كانوا آثمين في ذلك ولكنهم لا يضمنون شيئا مما أتلفوا من الدماء والأموال عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى في القديم يضمنون ذلك لبقاء صفة الحقن والعصمة إلا أن يوجد الإباء(10/50)
ص -26- ... منهم ولا يتحقق ذلك إلا أن تبلغهم الدعوة ولكنا نقول العصمة المقومة تكون بالإحراز وذلك لم يوجد في حقهم ولئن كانت العصمة بالدين كما يدعيه الخصم فهو غير موجود في حقهم أيضا والقتل إما أن يكون للمحاربة كما يقوله علماؤنا رحمهم الله تعالى أو للشرك كما يقوله الخصم وذلك موجود في حقهم ولكن شرط الإباحة تقديم الدعوة فبدونه لا يثبت ومجرد حرمة القتل لا يكفي لوجوب الضمان كما في النساء والولدان منهم وكما نهي عن قتل من بلغته الدعوة منهم بطريق المثلة ثم لا يكون موجبا للضمان عليه على من فعله وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة فإن هم دعوهم فحسن لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا في سرية وقال" لا تقاتلوهم حتى تدعوهم فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدؤكم فإن بدؤكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم ذلك القتيل وقولوا لهم هل إلى خير من هذا سبيل فلأن يهدي الله تعالى على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت" وقد بينا أن المبالغة في الإنذار قد تنفع وإن تركوا ذلك فحسن أيضا لأنهم ربما لا يقوون عليهم إذا قدموا الإنذار والدعاء ولا بأس أن يغيروا عليهم ليلا أو نهارا بغير دعوة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون غافلون ويعمهم على الماء بسقي وعهد إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يغيروا على أبنا صباحا ثم يحرق وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغير على قوم صبحهم واستمع النداء فإن لم يسمع أغار عليهم حتى روى أنه صبح أهل خيبر وقد خرج العمال ومعهم المساحي والمكاتل فلما رأوهم ولوا منهزمين يقولون محمد والخميس والخميس الجيش وقد كانوا وجدوا في التوراة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم يوم الخميس ويظفر عليهم وكان ذلك اليوم يوم الخميس فلما قالوا ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" ولا(10/51)
بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها ويخربوا البنيان ويقطعوا الأشجار
وكان الأوزاعي رحمه الله تعالى يكره ذلك كله لحديث أبي بكر رضي الله عنه في وصية يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه لا تقطعوا شجرا ولا تخربوا ولا تفسدوا ضرعا ولقوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الآية وتأويل هذا ما ذكره محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير أن أبا بكر رضي الله عنه كان أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الشام تفتح له على ما روى أنه قال يوما إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر فقد أشار أبو بكر رضي الله عنه إلى ذلك في وصيته حيث قال فإن الله ناصركم عليهم وممكن لكم أن تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم الله منكم أنكم تأتونها تلهيا فلما علم أن ذلك كله ميراث للمسلمين كره القطع والتخريب لهذا.
ثم الدليل على جوازه ما ذكره الزهري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخيل بني النضير فشق ذلك عليهم حتى نادوه ما كنت ترضى بالفساد يا أبا القاسم فما بال النخيل تقطع فأنزل الله تعالى {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: 5] الآية واللينة النخلة الكريمة فيما ذكره المفسرون وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر رضي الله عنه فقال أليس أن الله تعالى وعد لك خيبر فقال "نعم" فقال إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك(10/52)
ص -27- ... فأمر بالكف عن ذلك ولما حاصر ثقيفا أمر بقطع النخيل والكروم حتى شق ذلك عليهم وجعلوا يقولون الحبلة لا تحمل إلا بعد عشرين سنة فلا عيش بعد هذا ففي هذا بيان أنهم يذلون بذلك وأن فيه كبتا وغيظا لهم وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة:120] ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر عوف بن مالك النضري فأمر بأن يحرق وفيه يقول حسأن ابن ثابت رضي الله عنه:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير(10/53)
فهذه الآثار تدل على جواز ذلك كله وكان الحسن بن زياد رحمه الله تعالى يقول هذا إذا علم أنه ليس في ذلك الحصن أسير مسلم فأما إذا لم يعلم ذلك فلا يحل التحريق والتغريق لأن التحرز عن قتل المسلم فرض وتحريق حصونهم مباح والأخذ بما هو الفرض أولى ولكنا نقول لو منعناهم من ذلك يتعذر عليهم قتال المشركين والظهور عليهم والحصون قل ما تخلو عن أسير وكما لا يحل قتل الأسير لا يحل قتل النساء والولدان ثم لا يمتنع تحريق حصونهم بكون النساء والولدان فيها فكذلك لا يمتنع ذلك بكون الأسير فيها ولكنهم يقصدون المشركين بذلك لأنهم لو قدروا على التمييز فعلا لزمهم ذلك فكذلك إذا قدروا على التمييز بالنية يلزمهم ذلك ولا تقسم الغنيمة في دار الحرب حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بقسمتها في دار الحرب بعد ما تم انهزام المشركين وهو بناء على أن الملك عنده يثبت بنفس الإصابة لأنه مال مباح فيملك بنفس الأخذ ويجوز قسمته في ذلك الموضع كالصيد وهذا لأن سبب الملك الأخذ وذلك محسوس يتم بنفسه وقيام منازعة المشركين لكون الغزاة في دارهم لا يمنع تقرر ملكهم لقيام منازعتهم في ثياب الغزاة ودوابهم فإنهم لو تمكنوا من الكر عليهم أخذوا جميع ذلك وهذا لأن توهم الكرة عليهم سبب يعارض الاستيلاء بالنقض والأمن عما ينقض سبب الملك ليس بشرط لوقوع الملك كالملك بالبيع والهبة ألا ترى أنه لو كان القتال في دار الإسلام أو صير الإمام البقعة دار إسلام يجوز له أن يقسم فيها وهذا التوهم باق ولأنهم إن كروا فالمسلمون واثقون بجميل وعد الله تعالى الله في نصرة أوليائه ينصرهم في المرة الثانية كما نصرهم في المرة الأولى فأما عندنا الحق يثبت بنفس الأخذ ويتأكد الإحراز ويتمكن بالقسمة كحق الشفيع يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ وما دام الحق ضعيفا لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض وبيان هذا(10/54)
الأصل أن السبب لا يتم قبل الإحراز لأن السبب هو القهر وقبل الإحراز هم قاهرون يدا مقهورون دارا والثابت من وجه دون وجه يكون ضعيفا وهذا لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والشوكة ولما بقيت هذه البقعة منسوبة إليهم عرفنا أن القوة فيها لهم والدليل عليه أنه يحل للإمام أن يرجع إلى دار الإسلام ويترك هذه البقعة في أيديهم وإنما حل ذلك لعجزه عن المقام في هذا الموضع فعرفنا أنا نحسن العبارة في قولنا أنه هزم المشركين وفي الحقيقة هو المنهزم منهم حين ترك هذا الموضع في(10/55)
ص -28- ... أيديهم والدليل عليه أن بالأخذ يملك الأراضي كما يملك الأموال ثم لا يتأكد الحق في الأرض التي نزلوا فيها إذا لم يصيرها دار الإسلام فكذلك في الأموال والقصد إلى التملك وجد في الكل فإنه ما دخل دار الحرب إلا قاصدا لملك الأراضي والأموال عليهم بحسب الإمكان ولسنا نسلم أن سبب الملك نفس الأخذ بل هو قهر يحصل به إعلاء كلمة الله تعالى ولهذا كان المصاب غنيمة يخمس وهذا القهر لا يتم بنفس الأخذ ولا بقهر الملاك بل بقهر جميع أهل دار الحرب وذلك بالإحراز ليكون حينئذ جميع دارهم مقابلا بجميع دارنا فأما قبل الإحراز يقابل جميع دارهم بالجيش وليس بهم قوة المقاومة مع جميع أهل الحرب وبه فارق المراغم إذا أحرز نفسه بمنعة أهل الجيش فإنه يعتق لأن حاجته إلى قهر مولاه فقط وذلك يتم بالجيش ألا ترى أنه لا يجب الخمس في رقبته وإذا كان القتال في دار الإسلام فبنفس الأخذ يصير المال محرزا بالدار فيتم القهر وإذا صير البقعة دار إسلام فقد تم الإحراز بالدار ألا ترى أنه وإن لم يؤخذ المال يتأكد حقهم فيها وإن الحق يتأكد في الأراضي أيضا وبه فارق الصيد فسبب الملك هناك الأخذ وهو القهر على الممتنع في نفسه وهنا الامتناع في المال بل فيمن يقاتل دونه وذلك جميع أهل الحرب ولا يتم قهر جميعهم إلا بالإحراز حكما نقول فإن قسمها جاز لأنه أمضى فصلا مجتهدا فيه وقضاء المجتهد في المجتهدات نافذ وبيان هذا أن الاختلاف في سبب القسمة وهو الملك أنه هل يتم بنفس الأخذ أم لا فإذا نفذ باجتهاده كان صحيحا كما إذا قضي بشهادة الأعمى أو المحدود في قذف وقيل من مذهبنا كراهة القسمة في دار الحرب لا بطلان القسمة لما في القسمة من قطع شركة المدد فتقل به رغبتهم في اللحوق بالجيش ولأنه إذا قسم تفرقوا فربما يكثر العدو على بعضهم وهذا أمر وراء ما يتم به القسمة فلا يمتنع جوازها وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال إذا لم يجد الإمام حمولة لها يحمله عليها فليقسمها(10/56)
في دار الحرب هكذا ذكر في بعض روايات هذا الكتاب.
ووجهه أن هذه حالة ضرورة لأنه لو لم يقسمها يحتاج إلى تركها فيبطل حق الغانمين فيها فكان تقرير حقهم بالقسمة أنفع وإن كان فيه قطع شركة المدد وكما لا يقسمها لا يبيعها في دار الحرب لأن البيع ينبني على تأكد الحق بالإحراز ولأن البيع تصرف كالقسمة ألا ترى أن في البيع قبل القبض يسوى بين البيع والقسمة وإذا كان في الغنيمة طعام أو علف فاحتاج إليه رجل تناول بقدر حاجته وقوله فاحتاج مذكور على وجه العادة دون الشرط فللمحتاج وغير المحتاج أن يتناول من ذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن المسلمين أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو طعاما وعسلا فلم يخمس ذلك وكان الرجل منهم يصيب من ذلك بقدر حاجته وأن المسلمين لما ظهروا على كسرى ظفروا بمطبخه وكان قد أركت القدور وظن بعض الأعراب أن ذلك طيب فهموا أن يصبغوا به لحاهم فقيل أنه مأكول فوقعوا في ذلك حتى اتخموا وأن غلاما لسلمان رضي الله عنه أتاه بسلة يوم القادسية فقال افتحها فإن كان فيها طعام أصبنا منه وإن كان فيها مال رددناه على هؤلاء فإذا فيها خبز وجبن وسكين فجعل يأكل(10/57)
ص -29- ... من ذلك ويقطع لأصحابه من الجبن ويصف لهم كيف يتخذ الجبن فدل أنه كان معروفا بينهم الرخصة في الطعام والعلف نظير الطعام لأنه محتاج إليه لظهره كما يحتاج إلى القوت لنفسه وهذا لأنهم لا يمكنهم أن يستصحبوا من الطعام والعلف مقدار حاجتهم للذهاب والرجوع ولا يجدون في دار الحرب من يشترون منه وما يأخذون يكون غنيمة فللعلم بوقوع الحاجة إليه يصير مستثنى من شركة الغنيمة ويبقى على أصل الإباحة ولهذا حل للمحتاج وغير المحتاج ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام فإذا خرجوا فقد ارتفعت الضرورة لأنهم يجدون في دار الإسلام الطعام والعلف بالشراء فيثبت حكم الغنيمة فيما كان باقيا منها وكذلك يتناول من سلاح الغنيمة إذا احتاج إليه للقتال ثم يرده إذا استغنى عنه ويكره من غير حاجة لأن المستثنى من شركة الغنيمة الطعام والعلف للعلم بتجدد الحاجة إليهما في كل وقت وذلك لا يوجد في السلاح وكل واحد منهم يتمكن من أن يستصحب السلاح من دار الإسلام فلا يصير هذا مستثنى من الشركة ونفي المبيح تحقق الحاجة فإذا لم يوجد ذلك يكره الاستعمال وإذا وجد فلا بأس به لأن عند الضرورة يجوز له أن ينتفع بملك الغير مما لا حق له فيه فماله فيه حق أولى وهذا لأن المبارز قد يبتلي بهذا بأن يسقط سيفه من يده فيعالج قرنه ليأخذ منه سيفه فإذا أخذه صار غنيمة له فلو لم يجز له أن يضربه أدى إلى الضرر والحرج وإلى نحوه أشار قال أرأيت لو رماه العدو بنشابة فرماهم بها أو انتزع سيفا من بعضهم فضربه أكان يكره ذلك هذا ونحوه لا بأس به فأما المتاع والثياب والدواب فيكره الانتفاع بها قبل القسمة لما روينا من النهي قبل هذا ولأن حقهم ثبت فيها وإن لم يتأكد قبل الإحراز فلا يكون لبعضهم أن يختص بالانتفاع بشيء منها قبل القسمة اعتبارا للمنفعة بالعين فإن احتاجوا إلى ذلك قسمها الإمام بينهم في دار الحرب لتحقق الحاجة وهذا لأن مراعاة حقهم عند حاجتهم أولى من مراعاة حق المدد ولا يدري(10/58)
أيلحق بهم المدد أم لا يلحق وإن لم يحتاجوا إلى ذلك كرهت القسمة في دار الحرب وهذا اللفظ دليل على أن الخلاف في كراهة القسمة لا في الجواز.
قال ألا ترى أن جيشا آخر لو دخلوا دار الحرب شركوهم في تلك الغنيمة وهذا عندنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى لا شركة للمدد إذا لحق الجيش بعد الإصابة بناء على أصله أن السبب هو الأخذ والملك يثبت بنفس الأخذ وما قبل الإحراز بدار الإسلام وبعده سواء وعندنا السبب هو القهر وتمام القهر بالإحراز فإذا شارك المدد للجيش في الإحراز الذي به يتم السبب يشاركونهم في تأكد الحق به كما إذا التحقوا بهم في حالة القتال بعد ما أخذوا بعض الأموال وهذا لأن اجتماع المحاربين في دار الحرب للمحاربة سبب الشركة في المصاب بدليل أن الردء يستوي بالمباشر للقتال وقد سأل علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت الرجل يكون حامية لقوم وآخر لا يقدر على حمل السلاح أيشتركان في الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" ولأن دخول دار الحرب سبب لقهر المشركين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ولهذا جعل الله تعالى الواطئ(10/59)
ص -30- ... موطئ العدو بمنزلة النيل في الثواب قال الله تعالى {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} [التوبة: 120] الآية فكذلك في الشركة في المصاب يجعل الواطئ موطئ العدو على قصد الحرب بمنزلة النيل منهم لما فيه من الكبت والغيظ لهم ولا يدخل على شيء مما ذكرنا التجار وأهل سوق العسكر والأسير المنقلب منهم والذي أسلم في دار الحرب إذا التحق بالجيش لأن قصد هؤلاء ليس هو الحرب بل قصد بعضهم التجارة وقصد بعضهم التخلص فلا يستحقون الشركة إلا أن يقاتلوا فيظهر حينئذ بفعلهم أن قصدهم هو القتال وإن احتاج رجل من المسلمين إلى شيء من المتاع حاجة يخاف على نفسه منها فلا بأس باستعمالها قبل القسمة كما يجوز تناول ملك الغير عند الحاجة إلا أن ذلك بشرط الضمان لثبوت الملك للمأخوذ منه وهذا بغير ضمان لعدم تأكد الحق قبل الإحراز ألا ترى أنه لو أتلف شيئا من المال قبل الإحراز لم يكن ضامنا لما أتلف ولا يقسم السبي بينهم وإن احتاج الناس إليه ما لم يخرجوهم إلى دار الإسلام ولا يبيعهم كما لا يفعل في شيء من سائر الأموال وهذا لعدم تأكد الحق فيهم قبل الإحراز ولكن يمشيهم حتى يحرزهم بدار الإسلام إن أطاقوا المشي فإن لم يطيقوه وكان معهم فضل حمولة من الغنيمة حملهم عليها لأن الحمولة حق الغانمين والسبي كذلك فمن النظر لهم أن يحمل حقهم فإن لم يكن معهم فضل حمولة ولكن كان مع بعض الغانمين فضل حمولة يحملهم عليها فعل ذلك برضاهم وإن لم تطب أنفسهم بذلك لم يفعل لأن الحمولة للخاص والسبي حق الجماعة فلا يكون له أن يستعمل في إحراز حق الجماعة حمولة الخاص منهم بغير رضاهم أرأيت لو أطاق بعضهم حمل بعض السبي على ظهره أو على عاتقه أكان يجبره الإمام على ذلك ثم يقتل الرجال لما بينا من جواز قتل الأسير قبل تعين الملك فيه إذا كان فيه نظر وفي هذا الموضع لو لم يقتلهم احتاج إلى تركهم فيرجعون إلى دار الحرب حربا(10/60)
على المسلمين فكان النظر في قتلهم ويترك النساء والصبيان في موضع يأمن أيدي المشركين أن تصل إليهم لأنه إذا تركهم في موضع تصل إليهم أيديهم يتقوون بهم وبتركه إياهم في هذا الموضع لا يكون متلفا بل يكون تاركا للإحسان إليهم وترك الإحسان لا يكون إساءة وإنما جاز له هذا القدر لعجزه عن الإحسان إليهم بالإخراج عن المهلكة وإن رأى أن يقسم ليتكلف كل واحد منهم حمل نصيبه فعل ذلك وهو أنفع من الترك وأما السلاح والمتاع فيحرقه بالنار إذا لم يستطع إخراجه إلى دار الإسلام لأنه مأمور بقطع قوة المشركين عنه وإثبات القوة للمسلمين به وقد عجز عن أحدهما وقدر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه وهو الإحراق بالنار كيلا تصل إليه يد المشركين ليتقووا به قال هذا فيما يحترق فأما ما لا يحترق كالحديد ينبغي أن يدفنه في موضع لا يقف عليه أهل الحرب فيستعينوا به وأما الدواب والمواشي إذا قامت عليه فإنه لا يعقرها خلافا لمالك رحمه الله تعالى وقد بينا هذا ولا يتركها كذلك خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لما في الترك من تقوى المشركين بها ولكنه يذبحها ثم يحرقها لئلا ينتفع بها العدو فالذبح عند الحاجة مباح شرعا في مأكول اللحم وغير(10/61)
ص -31- ... مأكول اللحم وبعد الذبح ربما يتقوون بلحمها فيقطع ذلك عنهم بالإحراق بالنار كما يفعل بالثياب والمتاع وفي هذا كبت وغيظ لهم وقد بينا جواز التخريب والإحراق فيما يكون فيه الكبت والغيظ للمشركين وما ظهروا عليه من أرض العدو فالإمام فيها بالخيار إن شاء خمسها وقسمها بين الغانمين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وإن شاء من بها على أهلها فتركهم أحرار الأصل ذمة للمسلمين والأراضي مملوكة لهم وجعل الجزية على رقابهم والخراج على أراضيهم عندنا كما فعله عمر رضي الله عنه بالسواد وقال الشافعي رحمه الله تعالى له ذلك في الرقاب فأما في الأراضي ليس له ذلك بل عليه أن يقسمها بين الغانمين ويصرف الخمس إلى مصارفه وينبني هذا الكلام على فصلين أحدهما في السواد أنها فتحت عنوة أو صلحا وقد بينا والثاني في فتح مكة فإنها فتحت عنوة وقهرا عندنا وزعم الشافعي رحمه الله تعالى أنها فتحت صلحا قال الكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ومن له أدنى علم بالسير والفتوح لا يقول بهذا وقد كان أهل العلم مجمعين على فتح مكة عنوة وقهرا حتى حدث قول بعد المأتين أنها فتحت صلحا وإنما قال الشافعي رحمه الله تعالى هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك لهم الأراضي والنخيل التي هي حول مكة فلم يجد بدا في إجراء مذهبه من هذا.
قال والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ثم دخلها بعد ذلك باثنين وعشرين شهرا فعرفنا أنه دخلها بذلك الصلح وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] والدليل عليه أنه لم يضع على أراضيهم وظيفة وفي البلاد المفتوحة عنوة وقهرا لا يجوز ترك الأراضي لهم بغير وظيفة.(10/62)
وحجتنا في ذلك أن الآثار اشتهرت بنقض قريش الصلح الذي كان بينه وبينهم على ما روى أن ابني خزاعة دخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وبني بكر في عهد قريش ثم قاتل بنو بكر بني خزاعة وأردفتهم قريش بالأسلحة والأطعمة وقاتل من قاتل من قريش معهم مستخفيا بالليل حتى جاء وافد بني خزاعة عمرو بن سالم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره ويقول:
لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الاتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وبيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلى الله عليه وسلم "نصرت يا عمرو بن سالم" فنشأت سحابة فقال إنها تستهل بنصر بني خزاعة إلى أن نزل صلى الله عليه وسلم بمر الظهران قال العباس رضي الله عنه قلت واصباحا قريش لو دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرجوا فيستأمنوا لهلكت قريش فركبت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت الأراك لعلي أجد بعض الحطابين فأخبرهم بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت أبا سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام رضوان الله عليهم أجمعين يتراجعان الحديث ويقول أحدهما لصاحبه ما هذه(10/63)
ص -32- ... النيران فيقول الآخر نيران خزاعة ويقول الآخر هم أقل من ذلك وأذل فقلت يا حنظلة ما شأنك قال يا أبا الفضل ما تفعل ها هنا فقلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بمر الظهران في عشرة آلاف قال وما الحيلة قلت لا أعرف لك حيلة ولكن أركب عجز دابتي فأردفته فما مررت بنار إلا قيل هذه بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عمه حتى مررت بنار عمر رضي الله عنه فعرفه فأخذ السيف وعدا خلفه ليقتله فسرت بالدابة حتى اقتحمت مضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر رضي الله عنه وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليك إن الله مكنك من عدوك من غير عقد ولا صلح فدعني لأقتله فقلت مهلا فإني أجرته ولو كان من بني عدي ما قتلته فبكى عمر رضي الله عنه وقال والله إن سروري بإسلامك يوم أسلمت أكثر من سروري بإسلام الخطاب أن لو أسلم فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحمله إلى رحلي فغدوت به عليه وقال ألم يأن أن تشهد أن لا إله إلا الله فقال أبو سفيان إني أقول لو كان مع الله آلهة لجاز أن ينصرونا فقال صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله" فقال إن في النفس بعد من هذا لشيئا فقلت أسلم فإن السيف في قفاك فأسلم فقلت إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له من الأمر شيئا يا رسول الله فقال "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فقال وكم تسعهم داري يا رسول الله قال "من أغلق الباب على نفسه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن إلا ابن خطل ويعيش بن صبابة" وقينتين لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمرني أن أحبسه في مضيق الوادي لتمر عليه الكتائب فكلما مرت عليه كتيبة قال من هؤلاء الحديث إلى أن مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها ألفا رجل من المهاجرين والأنصار عليهم السلاح والحلق لا يرى منهم إلا الحدق فلما حاذاه سعد بن عبادة وكان لواء رسول الله(10/64)
صلى الله عليه وسلم بيده هز اللواء وقال اليوم يوم الملحمة اليوم تهتك فيه الحرمة فقال أبو سفيان أن ابن أخيك أصبح في ملك عظيم فقلت ليس بملك إنما هو نبوة قال أو ذاك ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت باستئصال قومك من قريش فقد قال سعد كذا فقال صلى الله عليه وسلم "اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ فيه الحرمة" وبعث إلى سعد ليسلم اللواء إلى ابنه قيس الحديث فهذه القصة من أولها إلى آخرها تدل على انتقاض ذلك العهد ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه من جانب والزبير بن العوام رضي الله عنه من جانب وقال "أترون أوباش قريش احصدوهم حصدا حتى تلقوني على الصفا" وفيه يقول قائلهم يخاطب زوجته:
إنك لو شهدت يوم خندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
لم ينطق اليوم بأدنى كلمه
وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه ينشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
لا هم أني مؤمن بقيله(10/65)
ص -33- ... فقال له عمر رضي الله عنه أتنشد الشعر في حرم الله تعالى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعه يا عمر فإنه أسرع في قلوبهم من وقع النبل" حتى جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد انتدب حضرا قريش فلا قريش بعد اليوم فقال صلى الله عليه وسلم "الأبيض والأسود آمن إلا ابن خطل" ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باب الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذ بعضادتي الباب وقال "ماذا ترون أني صانع بكم" فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسجح فقال صلى الله عليه وسلم "إني أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] أنتم الطلقاء لكم أموالكم" وصح أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر فذلك دليل أنه صلى الله عليه وسلم دخلها مقاتلا وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة" وإنما مراده حل القتال فيها فدل أنه دخلها مقاتلا وفي قوله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] يشهد لما قلنا: ونزول قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} [الفتح: 24] في صلح الحديبية ألا ترى إلى قوله تعالى {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وإنما لم يضع الخراج على أراضيهم لأن الأراضي تابعة للرقاب ولم يضع الجزية على رقابهم إذ لا جزية على عربي ولا رق فكذلك لا خراج على أراضيهم فإذا ظهر أنها فتحت قهرا اتضح مذهبنا في المسألة التي قلنا: وعلى سبيل الابتداء في تلك المسألة فالشافعي رحمه الله تعالى يقول قد تأكد حق الغانمين في الأراضي أما عندي فقد ثبت الملك لهم بنفس الإصابة وعندكم تأكد الحق بالإحراز فقد صارت محرزة بفتح(10/66)
البلدة وإجراء أحكام الإسلام فيها وفي المن إبطال حق الغانمين عما تأكد حقهم فيه والإمام لا يملك ذلك كما إذا استولى على الأموال بدون الأراضي لم يكن له أن يبطل حق الغانمين عنها بالرد عليهم بخلاف الرقاب فالحق في رقابهم لم يتأكد بدليل أن له أن يقتلهم فكذلك يكون له أن يمن على رقابهم بجزية يأخذها منهم ثم حق مصارف الخمس ثابت بالنص وفي المن إبطال ذلك ولهذا قلت إما تخمس الجزية لأن الخمس من الرقاب كان حقا لأرباب الخمس فيثبت حقهم في بدل ذلك وهو الجزية وعلماؤنا رحمهم الله تعالى يقولون تصرف الإمام وقع على وجه النظر وأنه نصب لذلك.
وبيانه أنه لو قسمها بينهم اشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد فيكر عليهم العدو وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضا فإذا تركها في أيديهم وهم أعرف بذلك العمل اشتغلوا بالزراعة وأدوا الجزية والخراج فيصرف ذلك إلى المقاتلة ويكونون مشغولين بالجهاد وبهذا تبين أنه ليس في هذا إبطال حقهم بل فيه توفير المنفعة عنهم لأن منفعة القسمة وإن كانت أعجل فمنفعة الخراج أدوم ولأنه كما ثبت الحق فيها للذين أصابوا ثبت لمن يأتي بعدهم بالنص قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] وفي القسمة إبطال حق من يأتي بعدهم أصلا وفي المن عليهم مراعاة الحقين جميعا وإنما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر لحاجة لأصحابه(10/67)
ص -34- ... رضي الله عنهم كانت يومئذ ونحن نقول للإمام ذلك عند حاجة المسلمين فأما بدون الحاجة الأولى ما فعله عمر رضي الله عنه بالسواد.
والاستدلال بما استدل به ولا قول أبعد من قول من أوجب في الجزية الخمس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر والحلل من بني نجران وقال لمعاذ رضي الله عنه "خذ من كل حالم وحالمة دينارا" ولم يخمس شيئا من ذلك فدل أنه لا خمس في الجزية وإذا قسم الغنيمة ضرب للفارس بسهمين وللراجل بسهم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو قول أهل العراق وفي قولهما والشافعي رحمهم الله تعالى يضرب للفارس بثلاثة أسهم وهو قول أهل الشام وأهل الحجاز لحديث عبد الله بن العمري رضي الله تعالى عنهما عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على ثمانية عشر سهما وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل مائتي فرس وباسم كل مائة سهم فتبين أنه جعل سهم الفرس ضعف سهم الرجل وعند تعارض الأخبار المصير إلى ما روينا أولى لما فيه من إثبات الزيادة ولأنه اتفق عليه أهل الشام وأهل الحجاز فهم أعرف بذلك من أهل العراق ثم مؤنة الفرس أعظم من مؤنة الرجل والاستحقاق باعتبار التزام المؤنة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث عبيد الله العمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين سهما له وسهما لفرسه وعبيد الله أوثق من أخيه عبد الله رضي الله تعالى عنهما وفي حديث كريمة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها المقداد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم له يوم بدر سهمين سهما له وسهما لفرسه وفي حديث مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس يوم خيبر سهمين وما رووا أنه قسم خيبر على ثمانية عشر سهما صحيح لكن ذكر في هذا الحديث أن الخيل كانت(10/68)
ثلاثمائة ولو ثبت ما رووا فالمراد من قوله وكانت الخيل مائتي فرس الخيل بفرسانها والرجال ألف وأربعمائة أي الرجالة قال الله تعالى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي بفرسانك ورجالتك وقال تعالى {يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] أي رجالة فتبين بهذا أن الناس كانوا ألفا وستمائة فإذا كان باسم كل مائة سهم كان للفارس سهمان وللراجل سهم ثم المصير إلى ما روينا أولى لأنه هو المتيقن وما رجح به من إثبات الزيادة متعارض ففيما روينا إثبات الزيادة في نصيب الراجل ثم في هذا تفضيل البهيمة على الآدمي وذلك غير جائز لأن الاستحقاق بالقتال والرجل يقاتل وحده والفرس لا تقاتل ولهذا كان القياس أن لا يسوى بين الفرس والرجل وأن لا يستحق بالفرس شيئا لأنه آلة من آلات الحرب كسائر الآلات ولكن الآثار اتفقت على سهم واحد فأخذنا بما اتفق عليه الأثر وأبقينا ما اختلف فيه الأثر على أصل القياس ولا معنى لاعتبار المؤنة فصاحب الحمار والبغل يلتزم المؤنة أيضا ولا يستحق به شيئا وصاحب الفيل والبعير مؤنته أكثر ثم لا يستحق بهما شيئا مع أنا لا نسلم أن مؤنة الفرس أكثر فإن ما يحتاج إليه الفرس من العلف يوجد مباحا ومطعوم(10/69)
ص -35- ... بني آدم من الخبز واللحم لا يوجد إلا بثمن ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى مروي عن عمر رضي الله عنه وصاحب البرذون والهجين والمقرف كصاحب الفرس العربي في استحقاق السهم به عندنا سواء وقال أهل الشام لا يسهم للبراذين ورووا فيه حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه شاذ والمشهور لهم حديث عمر رضي الله عنه على ما روى أن الخيل أغارت بالشام وعلى القوم المنذر بن أبي خمصة الوداعي فأدركت العراب اليوم والبراذين ضحى الغد فلم يسهم المنذر للبراذين وقال لا أجعل من أدرك كمن لا يدرك وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال هبلت الوداعي أمه لقد أذكت به وفي رواية لقد أذكرته أمضوها على ما قال.
وحجتنا في ذلك أن استحقاق السهم بالخيل لمعنى إرهاب العدو قال الله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الآية والإرهاب يحصل بالبرذون كما يحصل بالفرس العربي ثم العرب في الطلب والهرب أقوى والبرذون أقوى على الحرب وأصبر وألين عطفا عند اللقاء ففي كل جانب نوع منفعة معتبرة ومعنى التزام المؤنة يجمعهما وتأويل حديث عمر رضي الله عنه أن المنذر فعل ذلك باجتهاده فأمضى عمر رضي الله عنه اجتهاده وهكذا نقول ومن الناس من يقول يستحق بالفرس العربي سهمان وبما سوى ذلك سهم واحد وهذا بعيد فإن البرذون فرس العجم والعربي فرس العرب وكما يسوى بين العجمي والعربي في استحقاق السهم فكذلك في الخيل والهجين ما يكون أبوه من الكوادن وأمه عربية والمقرف ما يكون أبوه عربيا وأمه من الكوادن ومعنى قوله لقد أذكت به أتت به ذكيا وقوله أذكرته أتت به ذكرا جلدا.(10/70)
قال وإذا دخل الغازي دار الحرب مع الجيش فارسا ثم نفق فرسه أو عقر قبل إحراز الغنيمة فله سهم الفرسان عندنا وهو قول عمر رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله له سهم الراجل لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وقد شهد الوقعة راجلا ولأن سبب الاستحقاق الأخذ وعند الأخذ هو راجل فيستحق سهم الراجل كما لو نفق فرسه قبل دخول دار الحرب وهذا لأن سهم الفرس لا يكون أقوى من سهم صاحبه ولو مات الغازي بعد مجاوزة الدرب لم يستحق شيئا فإذا نفق الفرس أولى ولأنه يستحق السهم بفرسه كما يستحق الرضخ بعبده ولو مات عبده بعد مجاوزة الدرب لم يستحق به شيئا فكذلك الفرس.
وحجتنا أنه دخل دار الحرب فارسا على قصد الجهاد فيستحق سهم الفرسان كما لو كان فرسه قائما وقاتل راجلا وهذا لأن الاستحقاق بالفرس لمعنى إرهاب العدو به وقد حصل به والجيش إنما يعرض عند مجاوزة الدرب فمن كان فارسا في ذلك الوقت وأثبت اسمه في ديوان الفرسان فقد حصل إرهاب العدو بفرسه لأنه ينتشر الخبر في دار الحرب أنه دخل كذا وكذا فارس وقل ما يعيش بعد ذلك ولأن الاعتبار للقهر الذي يحصل به إعزاز الدين وذلك بدخول دار الحرب على قصد الجهاد فإذا كان هو عند دخول دار الحرب ملتزما مؤنة الفرس على(10/71)
ص -36- ... قصد الجهاد انعقد له سبب الاستحقاق وبالإجماع لا معتبر ببقاء الفرس إلى حال تمام الاستحقاق لأنه لو نفق فرسه بعد القتال قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام استحق سهم الفرسان فكان المعتبر حال انعقاد السبب ابتداء بخلاف ما لو مات قبل مجاوزة الدرب لأن معنى إرهاب العدو والقهر لم يحصل به وبخلاف ما إذا مات الفارس لأنه هو المستحق ولا يبقى الاستحقاق بعد موت المستحق وإن كان السبب منعقدا ألا ترى أنه لو قتل في دار الحرب أو مات بعد الفراغ قبل الإحراز عندنا لا يستحق شيئا والعبد آدمي كالحر ثم الرضخ ليس نظير السهم ألا ترى أنه غير مقدر بشيء فلا يستقيم اعتبار السهم بما دونه ولو باع فرسه بعد ما جاوز الدرب قبل القتال ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يستحق سهم الفرسان أيضا لأنه أثبت اسمه في ديوان الفرسان وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة لأنه تبين بالبيع أنه ما كان قصده من التزام مؤنة الفرس القتال عليه إنما كان قصده التجارة وبمجاوزة الدرب على قصد التجارة لا ينعقد سبب استحقاق الغنيمة بخلاف ما إذا مات فرسه ولأنه بالبيع والهبة أزاله عن ملكه باختياره فيكون به مسقطا حقه وبالموت ما أزا له عن ملكه باختياره بل هو مصاب في ذلك ولو باعه بعد الفراغ من القتال لم يسقط سهمه لأنه لا يتبين به أنه لم يكن قصده من التزام مؤنة الفرس عدم القتال ألا ترى أنه ما لم يفرغ من القتال لم يشتغل بالبيع فيه واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا باعه في حالة القتال قال بعضهم لا يسقط سهمه لأن بيع الفرس عند القتال مخاطرة بالنفس فمن ليس له قصد القتال يطلب في ذلك الوقت فرسا ليهرب عليه وبهذا تبين أن بيعه الفرس لإظهار المبالغة في الحرب وهو أنه يرى العدو أنه غير عازم على الفرار أصلا.(10/72)
قال رحمه الله تعالى: والأصح عندي أنه لا يستحق سهم الفارس لأن تأخيره بيع الفرس إلى وقت القتال يحقق قصد التجارة فيه فإن المشتري فيه عند ذلك أرغب والتاجر يحبس مال تجارته إلى وقت عزته وكثرة الرغبة فيه فلهذا يسقط سهمه ببيع الفرس فأما إذا دخل دار الحرب راجلا ثم اشترى فرسا وقاتل فارسا فله سهم الراجل وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن له سهم الفرسان لأن معنى إرهاب العدو والقهر الذي يتم به إعزاز الدين بالقتال على الفرس أظهر منه في مجاوزة الدرب فإذا كان يستحق سهم الفرسان بمجاوزة الدرب فارسا فالقتال على الفرس أولى.
وجه ظاهر الرواية أن الإمام إنما يدون الدواوين ويثبت أسامي الفرسان والرجالة عند مجاوزة الدرب ويشق عليه تفقد أحوالهم بعد ذلك فمن أثبت اسمه في ديوان الرجالة فقد انعقد له سبب الاستحقاق راجلا فلا يتغير ذلك بشراء الفرس كما في الفصل الأول لا يتغير حاله بموت الفرس ومن دخل دار الحرب فارسا ثم قاتل راجلا بأن كان القتال على باب حصن أو في السفينة فإنه يستحق سهم الفارس أما عندنا فلأنه أثبت اسمه في ديوان الفرسان والاستحقاق بحصوله في دار الحرب فارسا وعند الشافعي رحمه الله لأنه قاتل وله فرس معد(10/73)
ص -37- ... للقتال عليه لو احتاج إليه فيستحق سهم الفرسان كما يستحق الردء السهم مع المباشر وإذا مات الغازي أو قتل بعد إصابة الغنيمة قبل إخراجها إلى دار الإسلام لم يورث سهمه عندنا وهو قول علي رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله يورث وهو قول عمر رضي الله عنه وهذا ينبني على الأصل الذي بينا فإن عنده الملك يثبت لهم بنفس الإصابة وموت أحد الشركاء لا يبطل ملكه عن نصيبه بل يخلفه وارثه فيه كالشركاء في الاصطياد إذا مات أحدهم بعد الأخذ ومن أصلنا أن الحق يثبت بنفس الإصابة ولا يتأكد إلا بالإحراز والحق الضعيف لا يورث كحق القبول فإن المشتري إذا مات بعد إيجاب البائع قبل قبوله لا يخلفه وارثه في القبول وأما بعد الإحراز الحق يتأكد والإرث يجري في الحق المتأكد كحق الرهن والرد بالعيب وهو نظير مذهبنا في الشفعة وخيار الشرط لا يورث لأنه حق ضعيف وقد استدل بعض مشايخنا على ضعف الحق قبل الإحراز باباحة تناول الطعام والعلف لكل واحد منهم من غير ضرورة وضمان وبامتناع وجوب الضمان على من أتلف شيئا من الغنيمة قبل الإحراز بخلاف ما بعد الإحراز وبقبول شهادة الغانمين في الغنيمة قبل الإحراز وامتناع قبول الشهادة بعد الإحراز وتبين بذلك أن الحق ضعيف كحق كل مسلم في مال بيت المال ولكن أصحاب الشافعي رحمهم الله ربما لا يسلمون هذين الفصلين وإذا كان العبد مع مولاه فقاتل بإذنه يرضخ له وكذلك الصبي والمرأة والذمي والمكاتب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم وعن فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم ولأن العبد غير مجاهد بنفسه ألا ترى أن للمولى أن يمنعه من الخروج فلا يسوى بينه وبين الحر الذي هو أهل للجهاد بنفسه في استحقاق السهم ولكن يرضخ له إذا قاتل لمعنى التحريض والصبي والمرأة ليس لهما قوة الجهاد بأنفسهما ولهذا لا يلحقهما فرض(10/74)
الجهاد والذمي ليس من أهل الجهاد بنفسه فإن الكفار لا يخاطبون بالشرائع ما لم يسلموا والرق في المكاتب قائم ويتوهم أن يعجز فيمنعه المولى من الخروج إلى الجهاد وإن كان العبد في خدمة مولاه وهو لا يقاتل لا يرضخ له أيضا لأن مولاه التزم مؤنته لخدمته لا للقتال به بخلاف الأول فإنه التزم مؤنته للقتال به ونظيره ما قررناه من بيع الفرس وأهل سوق العسكر إن لم يقاتلوا فلا يسهم لهم ولا يرضخ لأن قصدهم التجارة لا إرهاب العدو وإعزاز الدين فإن قاتلوا استحقوا السهم لأنه تبين بفعلهم أن قصدهم القتال ومعنى التجارة تبع لذلك فحالهم كحال التاجر في طريق الحج لا ينتقص به ثواب حجه وفيه نزل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ومن دخل دار الحرب بأفراس لا يستحق السهم إلا لفرس واحد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أهل العراق وأهل الحجاز وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يستحق السهم لفرسين وهو قول أهل الشام رحمهم الله تعالى لما روى أن الزبير بن العوام رضي الله عنه شهد خيبر بفرسين فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم سهما له وسهمين(10/75)
ص -38- ... لكل فرس ولأن الإنسان قد يحتاج في القتال إلى فرسين حتى إذا كل أحدهما قاتل على الآخر وهو عادة معروفة في المبارزين فكان ملتزما مؤنة فرسين للقتال فيستحق السهم لهما وما زاد على ذلك غير محتاج إليه للقتال فكان من الجنائب وهما استدلا بما روى إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لصاحب الأفراس إلا لفرس واحد يوم حنين وحديث ابن الزبير فإنما أعطاه سهم ذوي القربى له ولأمه صفية وما أسهم له إلا لفرس واحد ثم عند تعارض الآثار يؤخذ بالمتيقن لأن القياس يأبى استحقاق السهم بالفرس ولأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد ويحمل ما يروى من الزيادة أنه أعطى ذلك على سبيل التنفيل كما روى أنه أعطى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه سهمين وكان راجلا ولكن أعطاه أحد السهمين على سبيل التنفيل لجده في القتال فإنه قال "خير رجالتنا سلمة بن الأكوع وخير فرساننا أبو قتادة" وهذه المسألة نظير ما بينا في النكاح أن المرأة لا تستحق النفقة إلا لخادم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمهم الله تستحق النفقة لخادمين ومن مرض أو كان جريحا في خيمته حتى أصابوا الغنائم فله السهم كاملا لأن سبب الاستحقاق وجد في حقه كما قررنا وفي نظيره قال صلى الله عليه وسلم "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" وإذا بعث الإمام سرية من العسكر في دار الحرب فجاءت بغنائم وقد أصاب الجيش غنائم أيضا فإن بعضهم يشارك بعضا في المصاب لأنهم اشتركوا في سبب الاستحقاق وهو دخول دار الحرب على قصد القتال ولأن الجيش في حق أصحاب السرية كالردء لهم حتى يلجؤن إليهم إذا حزبهم أمروهم بمنزلة الردء لاجتماعهم في دار الحرب وقد بينا أن للردء أن يشارك الجيش في المصاب وإن لم يلقوا قتالا بعد ما التحقوا بهم فهذا أولى وإن أسر فأصاب المسلمون بعده غنيمة ثم انفلت منهم فالتحق بالجيش الذي أسر منه قبل أن يخرجوا فهو شريكهم في جميع ما أصابوا وإن لم يلقوا(10/76)
قتالا بعد ذلك لأنه انعقد سبب الاستحقاق له معهم فيشاركهم فيما تأكد الحق به وهو الإحراز فلا يعتبر العارض بعد ذلك كما لو مرض أو جرح وإن التحق هذا الأسير بعسكر آخر في دار الحرب وقد أصابوا غنائم فإنه لا يستحق السهم إلا أن يلقوا قتالا فيقاتل معهم لأنه ما انعقد له سبب الاستحقاق معهم وإنما كان قصده من اللحوق بهم الفوز والنجاة فلا يستحق السهم إلا أن يلقوا قتالا فحينئذ تبين بفعله أن قصده القتال معهم ويجعل قتاله للدفع عن المصاب كقتاله للإصابة في الابتداء وكذلك الذي أسلم في دار الحرب إذا التحق بالعسكر أو المرتد إذا تاب فالتحق بالعسكر أو التاجر الذي دخل بأمان إذا التحق بالعسكر فإنهم بمنزلة الأسير إن قاتلوا استحقوا السهم وإلا فلا شيء لهم وفي الأصل ذكر أن عبدا لو جنى جناية خطأ أو أفسد متاعا فلزمه دين ثم أسره العدو ثم أسلموا عليه فهو لهم لقوله صلى الله عليه وسلم "من أسلم على مال فهو له" ثم الجناية تبطل عنه والدين يلحقه لأن حق الجناية في رقبته ولا يبقى بعد زوال ملك المولى إلا تري أنه لو زال ملكه بالبيع والهبة لايبقى فيه حق ولى الجناية فأما الدين في ذمته فلا يبطل عنه بزوال ملك المولى كما لا يبطل ببيعه وهذا لأن الدين في ذمة العبد يجب شاغلا لماليته(10/77)
ص -39- ... فإنما يملك العدو ماليته مشغولة بالدين كما أسروه ولهذا يبقى الدين عليه بعد ما أسلم ولو اشتراه رجل منهم أو أصابه المسلمون في غنيمة يأخذه المولى بالقيمة أو الثمن فإن الجناية والدين يلحقانه لأنه يعيده بالأخذ إلى قديم ملكه وحق ولى الجناية كان ثابتا في قديم ملكه وسيأتي بيان هذا الفصل وإن كانت الجناية قتل عمد لم يبطل ذلك عنه بحال لأن المستحق عليه نفسه قصاصا فلا يبطل ذلك بزوال ملك المولى كما لو باعه أو أعتقه بعد ما لزمه القصاص.(10/78)
قال ولا ينبغي للإمام أن ينفل أحدا مما قد أصابه إنما النفل قبل إحراز الغنيمة أن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له وقد كان يستحب ذلك للإغراء على القتال وهذا الكلام يشتمل على فصول أحدها أن القاتل لا يستحق السلب بالقتل عندنا من غير تنفيل الإمام وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا قتله مقبلا بين الصفين على وجه المبارزة استحق سلبه واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر "من قتل قتيلا فله سلبه" فمثل هذا اللفظ في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" فظاهره لنصب الشرع فإنه صلى الله عليه وسلم بعث لذلك وفي حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال أصاب المسلمين جولة يوم حنين فلقيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فأتيته من ورائه وضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي وضمني إلى نفسه ضمة شممت منها رائحة الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول "من قتل قتيلا فله سلبه" فقلت من يشهد لي فقال رجل صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فارضه عني فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لاها الله أيعمد أسد من أسد الله فيقتل عدو الله ثم يعطيك سلبه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان القتل منه قبل مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعطاه سلبه فظهر أن الاستحقاق بالقتل لا بالتنفيل ولأن القاتل أظهر فضل عناية على غيره بمباشرة القتل فيستحق التفضيل في الاستحقاق كالفارس مع الراجل وهذا لأن القاتل على سبيل المبارزة يحتاج إلى زيادة عناء ومخاطرة بالنفس ولهذا لو قتله مدبرا لا يستحق سلبه وكذلك لو رمى سهما من صف المسلمين فقتل مشركا لا يستحق سلبه لأنه ليس فيه زيادة العناء فكل واحد يتجاسر على ذلك وأصحابنا استدلوا بقوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] والسلب من الغنيمة(10/79)
لأن الغنيمة مال يصاب بأشرف الجهات فينبغي أن يجب فيه الخمس بظاهر الآية وعندكم لا يجب وهذا مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال السلب من الغنيمة وفيه الخمس واستدل بالآية وجاء رجل من بلقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن المغنم قال "لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم" فقال هل أحد أحق بشيء من غيره قال "لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من أخيك" وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال كنت واقفا يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ ابن عمرو بن الجموح فقال لي أحدهما أي عم أتعرف أبا جهل؟ قلت وما شأنك به؟(10/80)
ص -40- ... قال بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لقيته ما فارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتا وعمر بي الآخر إلى مثل ذلك فلقيت أبا جهل في صف المشركين فقلت ذاك صاحبكما الذي تريدانه فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه واختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل واحد منهما أنا قتلته والسلب لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسحتما سيفيكما" فقالا لا فقال "أرياني سيفيكما" فأرياه فقال "كلا كما قتله" ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء ولو كان الاستحقاق بالقتل لما خص به أحدهما مع قوله صلى الله عليه وسلم "كلاكما قتله".(10/81)
فإن قيل: كيف يصح هذا والمشهور أن ابن مسعود رضي الله عنه قتله قلنا: هما انحناه وابن مسعود رضي الله عنه أجهز عليه على ما روى أنه قال وجدته صريعا في القتلى وبه رمق فجلست على صدره ففتح عينيه وقال يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى عظيما لمن الدبرة قلت لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال ما تريد أن تصنع قلت أحز رأسك قال لست بأول عبد قتل سيده ولكن خذ سيفي فهو أمضى لما تريد واقطع رأسي من كاهل ليكون أهيب في عين الناظر وإذا لقيت محمدا فأخبره أني اليوم أشد بغضا له مما كنت قبل هذا فقطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيته بين يديه وقلت هذا رأس أبي جهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر هذا كان فرعوني وفرعون أمتي شره على أمتي أكثر من شر فرعون على بني إسرائيل" ونفلني سيفه ففي هذا بيان أنه أجهز عليه وأن الاستحقاق ليس بنفس القتل إذ لو كان الاستحقاق بنفس القتل لكان المستحق للسيف من اثخنه فما كان ينفله غيره وأن البراء بن مالك رضي الله عنه قتل مرزبان الرازة وأخذ سلبه مرصعا باللؤلؤ والجوهر فقوم بعشرين ألفا فقال عمر رضي الله عنه كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ هذا المبلغ وما أراني إلا خامسه قال أنس فبعثنا بالخمس أربعة آلاف إليه فإذا تبين وجوب الخمس فيه ثبت أن الباقي منه مقسوم بين الغانمين وما نقل من قوله "من قتل قتيلا فله سلبه" كان على سبيل التنفيل منه لا على وجه نصب الشرع وإنما يكون ذلك نصب الشرع إذا قاله في المدينة في مسجده ولم ينقل أنه قال ذلك إلا يوم بدر عند القتال للحاجة إلى التحريض وقد كانوا أذلة يوم حنين حين ولوا منهزمين للحاجة إلى التحريض فعرفنا أنه قال ذلك على سبيل التنفيل لا على وجه نصب الشرع وعندنا بالتنفيل يستحق ولأن القاتل إنما تمكن من قتله وأخذ سلبه بقوة الجيش فلا يختص به كما لو أخذ أسيرا أو أصاب مالا آخر لا يختص به وكما يكون منه فضل عناء في القتل(10/82)
يكون ذلك منه بأخذ الأسير واستلاب سلب الحي ثم لا يختص به إلا بعد تنفيل الإمام وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر "من قتل قتيلا فله سلبه" قال "من أخذ أسيرا فهو له" ثم كان ذلك على وجه التنفيل فكذلك في السلب والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" ويستحب للإمام أن ينفل قبل الإصابة بحسب ما يرى الصواب فيه للتحريض على القتال قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] ولأن بالنفل يعينه على البر وهو(10/83)
ص -41- ... بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى فكان ذلك مستحبا ولكن قبل الإصابة وأما بعد الإصابة لا يجوز النفل إلا على قول أهل الشام فإنهم يجوزون ذلك وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم نفل بعد الإصابة وتأويل ذلك عندنا أنه نفل من الخمس أو من الصفي الذي كان له أو فعل ذلك يوم بدر لأن الأمر في الغنائم كان إليه كما روينا وإليه أشار سعيد بن المسيب رضي الله عنه فقال لا نفل بعد الإحراز إلا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المعنى فيه أن بعد الإصابة في التنفيل إبطال حق أرباب الخمس وإبطال حق بعض الغانمين عما ثبت حقهم فيه وهو سبب لإيقاع الفتنة والعداوة بينهم والتنفي للتحريض على القتال وتسكين الفتنة فإذا نفل بعد الإصابة عاد على موضوعه بالنقض والإبطال وذلك لا يجوز وإذا أخذ الرجل علفا من الغنيمة ففضل منه فضلة بعد ما خرج إلى دار الإسلام أعادها في الغنيمة إن كانت لم تقسم لأن اختصاصه بذلك كان للحاجة وقد زال بالخروج إلى دار الإسلام وكان ذلك لعدم تأكد الحق في الغنيمة لهم وقد زال ذلك بالإحراز وإن كانت الغنائم قد قسمت فذلك بمنزلة اللقطة في يده فإن كان فقيرا فلا بأس بأن يأكله وإن كان غنيا باعه وتصدق بثمنه كما يفعل باللقطة وكذلك لا ينبغي له أن يبيع شيئا من الطعام والعلف لأنه أبيح له التناول للحاجة والمباح له التناول لا يملك التصرف فيه بالبيع وإن فعل ذلك أعاد الثمن في الغنيمة إن لم تقسم وإن كانت قد قسمت صنع ما يصنع باللقطة كما بينا وإن أقرضه رجلا في دار الحرب من الجند لم يسع له أن يأخذ منه شيئا لأن المقرض والمستقرض في حق إباحة تناوله سواء إلا أن الآخذ كان أحق به لأنه في يده فإذا زال ما بيده إلى الآخر سقط حقه فلهذا لا يأخذ منه شيئا وإذا أعتق رجل من الجند جارية من الغنيمة نفذ عتقه في القياس لأن حقهم تأكد بالإحراز ألا ترى أن بالقسمة يتعين ملك كل واحد منهم والقسمة لتميز الملك لا لابتداء الملك(10/84)
فتبين به أن الملك كان ثابتا لهم من قبل وأنه أعتق جارية مشتركة بينه وبين غيره وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى أظهر فإنه يقول بنفس الإصابة يثبت لهم الملك وفي الاستحسان عندنا لا ينفذ عتقه لأن نفوذ العتق يستدعي ملكا قائما في المحل وذلك غير موجود لهم قبل القسمة ألا ترى أن للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن وأنه لا يدري أن نصيب كل واحد منهم في أي موضع يقع عند القسمة فكان ما هو شرط نفوذ العتق منعدما فلهذا لا ينفذ عتقه وكذلك لو استولدها لم يصح استيلاده لأن الاستيلاد يوجب حق العتق وذلك لا يكون إلا بعد قيام الملك في المحل بخلاف الأب يستولد جارية ابنه فله ولاية التملك هناك فيتملكها سابقا على الاستيلاد وليس له ولاية تملك هذه الجارية بدون رأي الإمام فلا يصح استيلاده فيها ولا يثبت النسب منه ولكن يسقط الحد عنه لثبوت حق متأكد ويلزمه العقر لأن الوطء في دار الإسلام عند ذلك لا ينفك عن حد أو عقر فكانت هي وولدها في الغنيمة لأن الولد يتبع الأم وعلى قول الشافعي رحمه الله استيلاده صحيح بناء على الأصل الذي بينا أن الملك عنده يثبت بنفس الإصابة وإن سرق بعض الغانمين شيئا من الغنيمة لم يقطع لتأكد حقه فيها ولكنه يضمن المسروق ويؤدب ولا يحرق رحله عندنا(10/85)
ص -42- ... وقال الأوزاعي رحمه الله يحرق رحله ويستدل بحديث روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحرق رحل الغال وفي السير الكبير ذكر عن محمد رحمه الله أن هذا الحديث لا يكاد يصح وقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجيش أعراب جهال يكون منهم الغلول فلو كان يستحق إحراق رحل الغال لاشتهر ذلك ونقل نقلا مستفيضا أرأيت لو كان في رحله مصاحف كانت تحرق واستكثر من الشواهد لاستبعاد هذا القول وكما لا يلزمه إذا سرق بنفسه فكذلك إذا سرق عبده أو ذو رحم محرم منه لأن فعل هذا في السرقة كفعله وقد بينا هذا في كتاب السرقة وإذا قسمت الغنيمة على الرايات فوقعت جارية بين أهل راية أو عرافة فاعتقها رجل منهم قال يجوز إذا قل الشركاء لأن الملك قد ثبت بقسمة الجملة وإن لم يتعين لعدم القسمة على الإفراد ألا ترى أنه لم يبق للإمام رأى البيع بعد ذلك ولا رأى القتل في الأسارى فكانت مشتركة بين أهل تلك العرافة شركة ملك وعتق أحد الشركاء نافذ ولكن هذا إذا قلوا حتى تكون الشركة خاصة فأما إذا كثروا فالشركة عامة وبالشركة العامة لا تثبت ولاية الإعتاق كشركة المسلمين في مال بيت المال ثم قال والقليل إذا كانوا مائة أو أقل ولست أوقت فيه وقتا وفي السير الكبير حكى فيه أقاويل فقال قد قيل أربعون لأن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الإسلام حين كثر المسلمون فكانوا أربعين وقيل خمسون اعتبارا بعدد الإيمان في القسامة وقيل مائة استدلالا بقوله تعالى {فََإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ} [الأنفال: 66] وقيل إذا كانوا يحصون من غير حاجة إلى كتاب وحساب وقيل إذا كانوا بحيث لو ولد لأحدهم ولد يظهر ذلك من يومه فهم قليل والأصح أنه موكول إلى رأي الإمام في استقلال عددهم واستكثاره لأن نصب المقادير لا يكون بالرأي وليس فيه نص فالأولى أن يجعل موكولا إلى اجتهاد الإمام وإذا سبي الجند امرأة ثم سبوا زوجها بعدها بقليل أو كثير وقد حاضت فيما بين(10/86)
ذلك حيضتين أولم تحض غير أنهم لم يخرجوها من دار الحرب حتى سبوا زوجها فهما على نكاحهما وأيهما سبي وأخرج إلى دار الإسلام ثم سبي الآخر وأخرج فلا نكاح بينهما وهذا فصل بيناه في كتاب النكاح أن الموجب للفرقة تباين الدارين لا السبي فإذا انعدم تباين الدارين كانا على نكاحهما سواء سبيا معا أو أحدهما بعد الآخر وإذا أخرج المسبي منهما إلى دار الإسلام وجد تباين الدارين بينهما حقيقة وحكما فارتفع النكاح بينهما ثم لا يعود بعد ذلك وإن سبي الآخر منهما والله أعلم بالصواب.
باب ما أصيب في الغنيمة مما كان المشركون أصابوه من مال المسلم
قال رضي الله عنه بني مسائل الباب على أصل مختلف فيه وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر إذا أحرزوه بدارهم عندنا ولا يملكونها عند الشافعي لقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] والتملك بالقهر أقوى جهات السبيل ولما أغار عتيبة بن حصن على سرح المدينة وفيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وامرأة من الأنصار قالت الأنصارية فلما جن الليل قصدت الفرار من أيديهم فما وضعت يدي على بعير الأرغي حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء فركنت إلي فركبتها وقلت لئن نجاني الله(10/87)
ص -43- ... تعالى عليها لأنحرنها ولآكلن من سنامها وكبدها فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه هذه القصة قال "بئسما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم" وفي رواية "رديها فإنها ناقة من إبلنا وارجعي إلى أهلك على اسم الله" والمعنى فيه أن هذا عدوان محض لأنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة فلا يكون سببا للملك كاستيلاء المسلم على مال المسلم وهذا لأن الملك حكم مشروع مرغوب فيه فيستدعي سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع ولأن المعصوم بالإسلام لا يملك بالقهر كالرقاب فإن الشرع أثبت العصمة بسبب واحد في المال والرقاب قال صلى الله عليه وسلم "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فذلك دليل المساواة بينهما في المنع من التملك بالقهر وهذا لأن الاستيلاء سبب الملك في محل مباح لا في محل معصوم حتى لا يملك مال المستأمن بالقهر بخلاف مال الحربي الذي لا أمان له ولا يملك صيد الحرم بالاستيلاء بخلاف صيد الحل والسبب لا يعمل إلا في محله فإذا صادف الاستيلاء محلا معصوما لم يكن موجبا للملك وبه فارق سائر أسباب الملك من البيع والهبة لأنه موجب للملك في محل معصوم وهو مملوك.(10/88)
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] الآية فإن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء والفقير حقيقة من لا ملك له ولو لم يملك الكفار أموالهم بالاستيلاء لما سماهم فقراء ولما قال علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ألا تنزل دارك قال "وهل ترك لنا عقيل من ربع" وقد كان له دار بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنها فاستولى عليها عقيل بعد هجرته والمعنى فيه أن الاستيلاء سبب يملك به المسلم مال الكافر فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع والهبة وتأثيره أن نفس الآخذ سبب لملك المال إذا تم بالإحراز وبيننا وبينهم مساواة في أسباب إصابة الدنيا بل حظهم أوفر من حظنا لأن الدنيا لهم ولأنه لا مقصود لهم في هذا الأخذ سوى اكتساب المال ونحن لا نقصد بالأخذ اكتساب المال ثم جعل هذا الأخذ سببا للملك في حق المسلم بدون القصد فلأن يكون سببا للملك في حقهم مع وجود القصد أولى وإنما يفارقوننا فيما يكون طريقه طريق الجزاء لأن الجزاء بوفاق العمل وذلك في تملك رقاب الأحرار لأن الآدمي في الأصل خلق مالكا لا مملوكا فصفة المملوكية فيه تكون بواسطة إبطال صفة المالكية وذلك مشروع في حقهم بطريق الجزاء فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم الله تعالى على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده ولا يوجد ذلك في حق المسلمين ولا إشكال أن إبطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة ألا ترى أن إثبات صفة الحرية في المملوك مشروع بطريق الجزاء والتقرب فإبطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة وقد تعذر إثبات هذه الواسطة في رقاب الأحرار المسلمين أو من ثبت له حق العتق منهم حتى أن في حق العبيد لما كان الملك يثبت بدون هذه الواسطة قلنا: بأنهم يملكون عبيدنا بالأخذ والمفارقة بيننا وبينهم في الحل والحرمة لا يمنع المساواة في حكم الملك عند تقرر سببه ألا ترى أن استكساب المسلم عبده الكافر(10/89)
سبب مباح(10/90)
ص -44- ... للملك واستكساب الكافر عبده المسلم حرام ومع ذلك كان موجبا للملك لتقرر السبب مع أن الفعل الذي هو عدوان غير موجب للملك عندنا لأن الفعل إنما يكون عدوانا في مال معصوم والعصمة بالإحراز والإحراز بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين من حيث مراعاة حق الشرع والإثم في مجاوزة ذلك ولا يتحقق ذلك في حق المنكرين فإنما يكون الإحراز في حقهم بالدار التي هي دافعة لشرهم حسا وما بقي المال معصوما بالإحراز بدار الإسلام لا يملك بالاستيلاء عندنا وإنما يملك بعد انعدام هذه العصمة بالإحراز بدار الحرب والأخذ بعد ذلك ليس بعدوان محض والمحل غير معصوم أيضا فلهذا كان الاستيلاء فيه سببا للملك والدليل على أن الإحراز بالدين لا يظهر حكمه في حقهم فصل الضمان فإنهم لا يضمنون ما أتلفوا من نفوس المسلمين وأموالهم وتأثير العصمة في إيجاب الضمان أظهر منه في دفع الملك ثم لما لم يبق للعصمة بالدين اعتبار في حقهم في إيجاب الضمان فكذلك في دفع الملك وتأويل الحديث أنهم لم يحرزوها بدارهم بعد فلم يملكوها ولا ملكت هي فلهذا استردها وجعل نذرها فيما لا تملك والمراد بالآية حكم الأخذ بدليل قوله تعالى {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] وبه نقول أنهم يفارقوننا في دار الآخرة فإنها دار الجزاء ولا سبيل لهم علينا في دار الجزاء إذا عرفنا هذا فنقول إذا وقع هذا المال في الغنيمة وقد كان المشركون أحرزوه فإن وجده مالكه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة رجل من المسلمين بدارهم ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها المالك القديم فقال صلى الله عليه وسلم "إن وجدتها قبل القسمة أخذتها بغير شيء وإن وجدتها بعد القسمة أخذتها بالقيمة إن شئت" ففي هذا دليل أنهم قد ملكوها وإنما فرق في الأخذ مجانا بين ما قبل القسمة وما بعدها لأن المستولى(10/91)
عليه صار مظلوما وقد كان يفترض على من يقوم بنصرة الدار وهم الغزاة أن يدفعوا الظلم عنه بأن يتبعوا المشركين ليستنفذوا المال من أيديهم وقبل القسمة الحق لعامة الغزاة فعليهم دفع الظلم بإعادة ماله إليه فأما بعد القسمة فقد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم ولكن لا بطريق إبطال حقه وحقه في المالية حتى كان للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بين الغانمين وحق المالك القديم في العين فيتمكن من الأخذ بالقيمة إن شاء ليتوصل كل واحد منهما إلى حقه فيعتدل النظر من الجانبين ولأن قبل القسمة ثبوت حق الغزاة فيه ليس بعوض على شيء بل صلة شرعية لهم ابتداء فلا يكون في أخذ المالك القديم إياه مجانا إبطال حقهم عن عوض كان حقا لهم فأما بعد القسمة فمن وقع في سهمه استحق هذا العين عوضا عن سهمه في الغنيمة فلا وجه لإبطال حقه في ذلك العوض فيثبت للمالك القديم حق الأخذ بعد ما يعطي من وقع في سهمه العوض الذي كان حقا له وإنما يأخذه إذا أثبت دعواه فإن مجرد قوله ليس بحجة في إبطال حق الغانمين قبل القسمة ولا في استحقاق الملك على من وقع في سهمه بعد القسمة وهذا إذا كان المأخوذ شيئا لا مثل له فأما الدراهم والدنانير والفلوس والمكيل والموزون فإن وجدها قبل(10/92)
ص -45- ... القسمة أخذها بغير شيء وإن وجدها بعد القسمة فلا سبيل له عليها لأن الأخذ شرعا إنما ثبت له إذا كان مفيدا وقبل القسمة هو مفيد فأما بعد القسمة لو أخذها أخذها بمثلها وذلك غير مفيد فإن المالية في هذه الأشياء باعتبار الكيل والوزن ولهذا جرى الربا فيها فلكون الأخذ غير مفيد قلنا: بأنه لا يكون مشروعا بخلاف مالا مثل له فإنه يأخذه بالقيمة وذلك يكون مفيدا لما في العين من الغرض الصحيح للناس وإن وجد عبدا كان له فأبق إليهم وقد وقع في سهم رجل من الجند أخذه منه بغير شيء في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأخذه بالقيمة إن شاء لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن عبدا لمسلم أبق إلى دار الحرب ثم وقع في الغنية فخاصم فيه المالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن وجدته قبل القسمة أخذته بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة أخذته بالقيمة إن شئت" وعن الأزهر بن يزيد أن أمة لقوم أبقت إلى دار الحرب ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها مولاها فكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنهما فرد جوابه إن وجدها قبل القسمة أخذها وإن وجدها بعد القسمة فقد مضت القسمة ولأن الآبق يملك بسائر أسباب الملك فيملك بالاستيلاء كما لو كان مترددا في دار الإسلام فأحرزوه بدارهم أو كالدابة إذا ندت إليهم وبيان الوصف أنه يملك بالإرث حتى لو أعتقه الوارث بعد موت المورث ينفذ عتقه ويملك بالضمان حتى إذا كان مغصوبا فضمن الغاصب قيمته يملكه بالضمان ويملك بالهبة من ابنه الصغير وبالبيع ممن في يده وإنما لا يجوز بيعه من غيره للعجز عن التسليم لا لأنه ليس بمحل للتمليك والدليل عليه آبقهم إلينا فإنما نملكه بالاستيلاء فكذا آبقنا إليهم لما بينا من تحقق المساواة بيننا وبينهم في أسباب إصابة الدنيا وعلل أبو حنيفة في الكتاب وقال لأن الكفار لم يحرزوه ويعني أنه صار في يد نفسه وهي يد محترمة فتكون دافعة لإحراز المشركين إياه كيد المكاتب(10/93)
في نفسه وإنما قلنا: ذلك لأن يد المولى زالت عنه حقيقة بالإباق وحكما بدخوله دار الحرب إذ لا يجوز أن يثبت للمسلم يد على من في دار الحرب حكما كما لا يثبت لإمام المسلمين اليد على من كان في دار الحرب فلم يخلفه الآخر إما لأنه حين انتهى إلى الموضع الذي لا يأتي فيه المسلمون وأهل الحرب فقد زالت يد المولى ولا تثبت يد أهل الحرب عليه في هذا الموضع أو لأن يد أهل الحرب إنما تثبت عليه حسا لا حكما فما لم يأخذوه لا تثبت يدهم عليه فصار في يد نفسه لأن الآدمي من أهل أن تثبت له اليد على نفسه وإن كان مملوكا ألا ترى أن العبد إذا توكل بشراء نفسه من مولاه لا يملك البائع حبسه بالثمن لثبوت اليد له على نفسه وهذا لأن المانع من ثبوت يده على نفسه يد المولى فإذا زالت تلك اليد لا إلى من يخلفه تثبت اليد له في نفسه لزوال المانع كما في المكاتب وباعتبار هذه اليد المحترمة يبقى هو محرزا بدار الإسلام لأن صاحب اليد من أهل دار الإسلام ولا طريق لهم إلى الحيلولة بينه وبين هذه اليد وما بقى المال محرزا بدار الإسلام لا يتم إحراز المشركين إياه فهذا معنى قوله أن الكفار لم يحرزوه بخلاف المتردد في دار الإسلام فإنه في يد مولاه حكما ولهذا لو وهبه لابنه الصغير صار(10/94)
ص -46- ... قابضا له فبقاء المانع حكما يمنع ثبوت اليد له في نفسه فيتم إحراز المشركين إياه فأما الآبق إلى دار الحرب لا يكون في يد مولاه حكما حتى لو وهبه من ابنه الصغير لا يجوز هكذا ذكره أبو الحسين قاضي الحرمين عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى بخلاف الدابة إذا ندت إليهم لأنها ليست من أهل أن تثبت لها اليد في نفسها وبخلاف آبقهم إلينا لأن يده في نفسه ليست بمحترمة فيتم إحراز المسلمين إياه وبخلاف التملك بالإرث والضمان فإنه تملك حكمي يثبت في المحل الذي لا يقبل الملك قصدا بسببه كالخمر والقصاص يملك بالإرث والدين يملك بالإرث والضمان وإن لم يكن محلا للتمليك بالقهر وهذا لما بينا أنه مع بقاء العصمة والإحراز قد يملك بالإرث والضمان ولا يملك بالأخذ وتأويل الحديثين أن الآبق لم يكن وصل إليهم حتى خرجوا إليه فأخذوه وأحرزوه إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما كان له أن يأخذه بعد القسمة بغير شيء فالإمام يعوض لمن وقع في سهمه قيمته من بيت المال لأن نصيبه استحق فله أن يرجع على شركائه في الغنيمة وقد تعذر ذلك لتفرقهم في القبائل فيعوضه من بيت المال لأن حقه من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لذلك ولأنه لو فضل من الغنيمة شيء يتعذر قسمه كالجوهر ونحوه يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا لحق غرم يجعل ذلك على بيت المال لأن الغرم يقابل بالغنم وهكذا يقال على أصل الكل إذا كان المأسور مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد لمسلم فإن المالك القديم يأخذه بغير شيء بعد القسمة ويعوض الإمام من وقع في سهمه قيمته من بيت المال لما قلنا: فإن وجد العبد في يد مسلم اشتراه من أهل الحرب فأخرجه فإن كان قد أبق إليهم فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى للمولى أن يأخذه بغير شيء لبقائه على ملكه ولا يغرم للمشتري شيئا مما أدى لأنه فدى ملكه بغير أمره إلا أن يكون أمره بالفداء فحينئذ يرجع عليه بما أدى وعندهما يأخذه منه بالثمن إن شاء وكذلك(10/95)
إن كان العبد مأسورا بالاتفاق لأنه لا يستحق على المشتري دفع الظلم عنه بالتزام الخسران في مال نفسه ولأنه وصل إليه هذا العبد بعوض وهو ما أدى من الثمن فيبقى حقه مرعيا في ذلك العوض ولهذا يأخذه منه بالثمن إن شاء وإن كان أهل الحرب قد وهبوه لرجل أخذه منه مولاه بالقيمة إن شاء لأنه صار ملك الموهوب له وهو ملك مرعى محترم فلا يجوز إبطاله عليه مجانا لدفع الظلم عن المأسور منه ولكن حاله في ذلك كحال من وقع في سهمه فلهذا يأخذه منه بالقيمة.
فإن قيل: هذا الملك يثبت للموهوب له بغير عوض.
قلنا: لا كذلك فالعوض والمكافأة في الهبة مقصود وإن لم يكن مشروطا ولهذا يثبت حق الرجوع للواهب إذا لم ينل العوض فجعل ذلك المعني معتبرا في إثبات حقه في القيمة وإن كان المشتري للعبد من العدو باعه من غيره أخذه المولى من المشتري الثاني بالثمن الذي اشتراه به إن كان من ذوات الأمثال فبمثله وإن لم يكن فبقيمته ولأن المشتري الثاني قائم مقام المشتري الأول وملكه مرعى كملك المشتري الأول وليس للمالك القديم أن يبطل العقد الثاني ليأخذه من يد المشتري الأول بالثمن الأول وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى:(10/96)
ص -47- ... أن له ذلك لأن حق المولى القديم في العين سابق على حق المشتري الأول ولم يبطل ذلك بتصرفه فيكون متمكنا من نقض تصرفه كما يتمكن الشفيع من نقض تصرف المشتري وهذا لأن له في نقض هذا التصرف فائدة لما بين الثمنين من التفاوت وجه ظاهر الرواية أن الشرع جعل للمالك القديم حق الأخذ من غير نقض التصرف ألا ترى أنه لم يجعل له حق نقض القسمة ليأخذه مجانا وفائدته في ذلك أظهر وهذا بخلاف الشفيع لأن تصرف المشتري قد يكون مبطلا لحق الشفيع لو لم يكن له حق النقض وربما يهبه من إنسان والشفعة تثبت في الشراء دون الهبة فلإبقاء حق الشفيع في العين مكناه من نقض التصرف فأما ها هنا ليس في تنفيذ تصرف المشتري إبطال حق المالك القديم فإن حق الآخذ يبقى سواء باعه المشتري أو وهبه أو تصدق به ولهذا تمكن من الأخذ من غير نقض التصرف توضيحه أن حق الشفيع يثبت قبل ملك المشتري ولهذا لو اشترى بشرط الخيار يثبت حتى الشفيع وتصرف المشتري بحكم ملكه فينتقض تصرفه بحق من سبق حقه في ملكه فأما حق المولى القديم لم يثبت بعد ملك المشتري ألا ترى أن الكفار لو أسلموا قبل أن يبيعوه لم يكن للمولى أن يأخذه ولهذا لا يتمكن من نقض تصرف المشتري فإن وقع الاختلاف بينهما في مقدار الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه إنما يتملك عليه ماله فلا يتمكن من أخذه إلا بما يقر هو له كالمشتري مع الشفيع إذا اختلفا في الثمن إلا أن يقيم المالك البينة أنه اشتراه بأقل من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإن اشتراه رجل من أهل الحرب ويعلم به مولاه فلم يخاصم فيه زمانا ثم أراد أن يأخذه بالثمن فله ذلك وفي رواية ابن سماعة عن محمد ليس له بمنزلة الشفيع إذا لم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع وجه ظاهر الرواية أن سكوت الشفيع جعل مبطلا حقه لدفع الضرر والغرر عن المشتري فإنه يتمكن الشفيع من نقض تصرفه فلو لم يبطل حقه بالسكوت كان يتعذر على المشتري تنفيذ التصرف فيه(10/97)
مخافة أن يبطل الشفيع تصرفه وهذا المعنى لا يوجد ها هنا فإن المالك القديم لا يتمكن من نقض تصرف المشتري على ما بينا فلهذا لا يكون سكوته مبطلا لحقه فإن لم يأخذه حتى أسروه ثانيا ثم اشتراه رجل آخر منهم ثم حضر مولاه الأول فلا سبيل له على المشتري الثاني لأن حق الآخذ إنما يثبت للمأسور منه والمأسور منه في هذه المرة المشتري الأول دون المالك القديم فلهذا كان حق الآخذ من يد المشتري الثاني للمشتري الأول فإذا أخذه حينئذ يثبت للمالك الآخذ من يده بالثمنين جميعا إن شاء وإن أبى المشتري الأول أن يأخذه فلا سبيل للمالك القديم عليه لأن حقه كان ثابتا في ملك المشتري الأول فإذا أخذه فقد ظهر محل حقه وإن لم يأخذه لم يظهر محل حقه فلا سبيل له عليه كالموهوب له إذا وهبه لغيره فلا سبيل للواهب الأول عليه بالرجوع إلا أن يرجع الموهوب له الأول فيه فحينئذ يثبت للواهب الأول حق الرجوع لهذا المعنى.
فإن قيل: إنما كان للمالك القديم حق الأخذ في الملك الذي استفاده المشتري من العدو وهذا ملك آخر استفاده من المشتري الثاني فكيف يثبت حقه فيه.(10/98)
ص -48- ... قلنا: لا كذلك لأن المأسور منه بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه ولهذا لو كان موهوبا كان للواهب أن يرجع فيه وما يغرم المشتري من العدو فداء وليس ببدل عن الملك كالمولى يفدى عبده من الجناية فيبقى على قديم ملكه لا أن يتملكه بالفداء وإنما يأخذه بالثمنين لأن ذلك هو العوض الذي أدى من ماله فيه مرتين ولو أداه مرة واحدة لم يملك المولى أخذه مالم يرد عليه جميع ذلك فكذلك إذا غرمه مرتين وإذا أسر العدو عبدا وفي عنقه جناية عمد أو خطأ أو دين إنسان فإن رجع إلى مولاه الأول بوجه من الوجهين بحق الملك الأول فذلك كله في عنقه كما كان لما بينا أنه بالأخذ أعاده إلى قديم ملكه فالتحق بما لم يزل عن ملكه أصلا وإن لم يرجع إليه أو رجع إليه بملك مستأنف بطلت جناية الخطأ لأن المستحق بالجناية الخطأ على الملك الذي كان له في وقتها وقد فات ذلك ولم يعد والحق لا يبقى بعد فوات محله كما لو زال العبد الجاني عن ملكه بالبيع أو بالعتق وأما جناية العمد والدين فهما عليه كما كان يؤخذ بهما لأن المستحق بجناية العمد ذمته وذلك باق بعد زوال ملك المولى ألا ترى أنه لو زال ملكه بالبيع أو الهبة لا يبطل القصاص عنه وكذلك الدين المستحق في ذمته وذمته باقية ألا ترى أن بالبيع والعتق لا يبطل الدين عنه والدين في ذمته يكون شاغلا لماليته إذا كان ظاهرا في حق مولاه فلهذا أخذ به وفي الموضع الذي تلحقه الجناية والدين يبدأ بالدفع بالجناية ثم بالبيع ثم بالدين لأنه لو بدأ بالبيع بطل حق ولى الجناية ولو دفع بالجناية أولا لم يبطل حق صاحب الدين فلهذا كانت البداية بالدفع بالجناية.(10/99)
فإن وقع المأسور في سهم رجل فلم يحضر مولاه حتى أعتقه هذا الرجل أو دبره جاز لأنه تصرف بحكم ملكه وملكه تام مع قيام حق المأسور منه فينفذ تصرفه ثم لا يكون للمولى عليه سبيل لأنه خرج من أن يكون قابلا للنقل من ملك إلى ملك لما ثبت فيه من الحرية أو حقها ولأن الولاء عليه قد لزم المشتري الأول على وجه لا سبيل إلى إبطاله وحق المالك القديم بعرض الإبطال وهو نظير الموهوب له إذا أعتق أو دبر يبطل حق الواهب في الرجوع لما قلنا: وإن كانت أمة فزوجها فولدت من الزوج فله أن يأخذها وولدها لأنها بالولادة من الزوج لم تخرج من أن تكون قابلة للنقل من ملك إلى ملك والولد جزء من عينها فيثبت له حق الأخذ فيه كما في سائر أجزائها بخلاف حق الواهب في الرجوع فإنه لا يثبت في الولد لأن ذلك حق ضعيف العين ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف الموهوب له والحق الضعيف لا يعد ومحله والولد وإن كان جزءا من العين ففي المال هو محل آخر فأما حق المولى ها هنا قوي يتأكد في العين حتى لا يبطل بتصرف المشتري فلهذا يسري إلى الولد الذي هو جزء من العين ولا يكون له أن يفسخ النكاح لما بينا أنه يتمكن من الأخذ من غير أن ينقض تصرف المشتري والنكاح ألزم من سائر التصرفات ولا يتمكن من نقضه وإن كان أخذ عقرها أو أرش جناية جني عليها لم يكن للمولى على ذلك سبيل لأن حقه في العين والأرش والعقر غير متولد من العين ولم يوجد فيه السبب وهو الاستيلاء عليه في ذلك المال ولأنه لو أخذ العقر والأرش(10/100)
ص -49- ... أخذهما بمثلهما فلا يكون مفيدا شيئا ثم لا ينتقص عن المولى القديم شيء من الثمن بسبب احتباس العقر والأرش عند المشتري ألا ترى أنها لو تعيبت في يد المشتري بعيب يسير أو فاحش لم ينتقص عن المولى شيء وهذا لما بينا أن ما يعطى فداء وليس ببدل في حقه والفداء لا يقابل بشيء من الأوصاف وإن لم يكن زوجها المشتري من العدو حل له وطئها وإن كان يعلم قصتها لأنها مملوكة ملكا صحيحا وقيام حق المولى في الأخذ لا ينافي ملكه كالجارية الموهوبة يحل للموهوب له وطئها وإن كان للواهب فيها حق الرجوع.(10/101)
قال فإن كان المأسور منه يتيما كان للوصى أن يأخذه من مشتريه بالثمن لأنه قام مقام الصبي في استيفاء حقوقه نظرا له فلا يكون له أخذه لنفسه لأن الأسر لم يقع على ملكه وهو السبب المثبت لحق لأخذ له فإذا كانت الجارية رهنا بألف درهم وهي قيمتها فأسرها العدو ثم اشتراها منهم رجل بألف درهم كان مولاها أحق بها بالثمن لأنها أسرت على ملكه وحق الأخذ بالثمن للمأسور منه باعتبار ملكه القديم وذلك للراهن دون المرتهن فإن أخذها لم تكن رهنا لأنها في حق المرتهن تاوية ولأنه لا فائدة للمرتهن في أخذها لأن الراهن لم يكن متبرعا فيما أعطي من الألف فإنه ما كان يتوصل إلى إحياء ملكه إلا بأداء الألف فلا يتمكن المرتهن من أخذها إلا برد الألف على الراهن وإنما يأخذها ليستوفي ألفا من ماليتها فلا يفيده إعطاء الألف ليستوفي منه ألفا وهو نظير ما لو جنت جناية يبلغ أرشها ألف درهم وأبى المرتهن أن يفديها ففداها الراهن وإن كان الثمن أقل من ألف درهم كان للمرتهن أن يؤدي ذلك الثمن الذي أداه المولى فيكون رهنا عنده على حاله إن شاء وإن شاء تركها لأن أخذه إياها مفيد له فإنه يغرم الخمسمائة ليحيي به حقه في الألف وهو نظير الجناية إذا كان أرشها أقل من الألف ففداها الراهن كان للمرتهن أن يرد عليه الفداء وتكون رهنا عنده على حالها وإن شاء تركها فكانت تاوية في حقه وقد بينا فيما سبق أن الثمن الذي يعطيه المالك القديم للمشتري فداء وليس ببدل عن الملك بمنزلة الفداء من الجناية وإن كانت في يده وديعة أو عارية أو إجارة لم يكن له إلى أخذها سبيل وكان الحق في أخذها لمولاها لأن ثبوت الأخذ باعتبار قديم الملك وذلك للمولى دون ذي اليد وهذا بخلاف الاسترداد من الغاصب فالغصب لا يزيل ملك المولى والمودع والمستعير قائم مقامه في حفظ ملكه فيمكن من الاسترداد ليتوصل إلى الحفظ فأما الإحراز يزيل ملك المولى فيخرج به المستعير والمستودع من أن يكون عاملا له ولو أثبتنا له(10/102)
حق الأخذ بالثمن كان عاملا لنفسه في التملك ابتداء فلهذا لم يكن لهما حق الأخذ بالثمن وبه فارق الفداء من الجناية فإن المودع والمستعير لو فداها من الجناية صح وكان متبرعا في ذلك لأن الجناية لا تزيل ملك المولى ونظيرها بالفداء يقرر حفظ الملك عليه وأما الإحراز يزيل ملك المولى فإن أخذ بالثمن يكون إعادة للملك لا أن يكون حفظا للملك وهو ما أقامهما في ذلك مقام نفسه فإن كان لها زوج قبل أن تؤسر فالنكاح بحاله لأنه لم تتباين بهما الدار حكما فإنها مسلمة وإن كانت مأسورة في دار الحرب فالمسلم من أهل دار الإسلام حكما(10/103)
ص -50- ... وإن كان في دار الحرب صورة وتباين الدارين حقيقة لا حكما لا يقطع عصمة النكاح وبالإحراز تصير مملوكة لأهل الحرب فيكون ذلك في حكم النكاح كبيع المولى إياها وذلك غير مفسد للنكاح فإن غلب العدو على مال المسلمين فأحرزوه وهناك مسلم تاجر مستأمن حل له أن يشتريه منهم فيأكل الطعام من ذلك ويطأ الجارية لأنهم ملكوها بالإحراز فالتحقت بسائر أملاكهم وهذا بخلاف ما لو دخل إليهم تاجر بأمان فسرق منهم جارية وأخرجها لم يحل للمسلم أن يشتريها منه لأنه أحرزها على سبيل الغدر وهو مأمور بردها عليهم فيما بينه وبين ربه وإن كان لا يجبره الإمام على ذلك لأنه غدر بأمان نفسه لا بأمان الإمام فأما ها هنا هذا الملك تام للذي أحرزها بدليل أنه لو أسلم أو صار ذميا كانت سالمة له ولا يفتى بردها فلهذا حل للمشتري منه وطئها وهذا للفقه الذي قلنا: إن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام تنعدم عند تمام إحراز المشركين إياها وهذا بخلاف ما إذا كانت مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فإنها لم تصر مملوكة بالإحراز فلا يحل للتاجر أن يشتريها منهم ولا أن يطأها ألا ترى أنهم لو أسلموا أو صاروا ذمة وجب عليهم ردها على المالك القديم فتكون على ملكه كما كانت وإن اشترى التاجر مكاتبا أو مدبرا أو حرا أسره أهل الحرب فأخرجه فالحر على حاله والمكاتب والمدبر كذلك لأنهما لا يملكان بشيء من أسباب الملك وإن كان المشتري فداهما بغير أمرهما فلا رجوع له عليهما لأنه تبرع بما فداهما به وإن كان بأمرهما فله أن يرجع عليهما بما فداهما به لأنه أدى مال نفسه في تخليصهما وتوفير المنفعة عليهما بأمرهما وهذا في الحر غير مشكل وكذلك في المكاتب فإن موجب جناية المكاتب على نفسه لأنه بمنزلة الحر في ملك اليد والمكاسب وإن كان المأسور عبدا لمسلم فباعه ملكه من رجل من أهل الحرب فأعتقه فهو حر كما لو باعه من مسلم فأعتقه وقيل على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يعتق بنفس(10/104)
البيع لا بإعتاقه لأن من أصله أن عبد الحربي إذا أسلم فباعه مولاه يعتق فهذا أيضا عبد مسلم لحربي فإذا زال ملكه ويده ببيعه يزول إلى العتق وعندهما بالبيع لا يعتق وإنما يعتق بالإعتاق أما عند أبي يوسف فالإعتاق من الحربي صحيح وكذلك عند محمد إذا كان من حكم ملكهم منع المعتق من استرقاق المعتق مع أن العبد ها هنا مسلم فلا يكون محلا للاسترقاق بعد الإعتاق فلهذا يعتق بإعتاقه وقيل بل هذا قولهم جميعا فإن أبا حنيفة إنما يقول يعتق بالبيع في عبد ليس لمسلم فيه حق وفي هذا العبد للمولى القديم حق الإعادة إلى ملكه مجانا أو بفداء فلا يعتق بالبيع ما لم يعتقه مالكه وإذا أسلم أهل الحرب على مال أخذوه من أموال المسلمين وصاروا ذمة فهو لهم ولا سبيل للمسلمين عليه لأن القياس أن لا يكون للمالك القديم حق الأخذ بعد زوال ملكه بتمام الإحراز وبه كان يقول الزهري والحسن البصري رحمهما الله وإنما تركنا القياس بالسنة في الذي وقع في الغنيمة أو اشتراه منهم مسلم والسنة ها هنا جاءت بتقرر الملك للذي أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلم على مال فهو له" والمعنى الذي لأجله ثبت للمالك القديم حق الأخذ هناك وجوب نصرته والقيام بدفع الظلم عنه(10/105)
ص -51- ... على المسلم الذي وقع في سهمه كما بينا وهذا غير موجود ها هنا فإنه ما كان على هذا الحربي القيام بنصرته حين أحرزوه لأن ذلك ثابت شرعا وهم لا يخاطبون بذلك ولأن القيام بالنصرة على من هو أهل دار الإسلام وهو ما كان يومئذ من أهل دار الإسلام فلم يثبت حقه في ملكه وإذا أسلم أو صار ذمة فقد تقرر ملكه وكذلك لو كان ذلك الحربي باعه من حربي آخر ثم أسلم المشتري أو صار ذمة فالمشتري بمنزلة البائع في المعنى الذي قررنا وكذلك لو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك المال فإنه لا يتعرض له فيه وهذا أظهر لأنه حربي وإن كان مستأمنا في دارنا ولم يكن حق المولى ثابتا في ملكه فلو مكناه من الأخذ منه كان غدرا بالأمان وذلك حرام إلا أنه يجبر المستأمن على بيعه من المسلمين لأنه عبد مسلم فلا يمكن الحربي من استذلاله باستدامة الملك وإعادته إلى دار الحرب وإذا سبي الصبي من أهل دار الحرب وأخرج إلى دار الإسلام فمات فإن كان معه أبواه كافرين أو أحدهما فإنه لا يصلي عليه والأصل فيه أن الولد تابع للأبوين في الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا" ولا تظهر تبعية الدار عند تبعية الأبوين ألا ترى أن أولاد أهل الذمة في دار الإسلام يكونون على دين آبائهم وهذا لأن الولد من الأبوين ولكنه في الدار لا من الدار فكان إتباعه للأبوين أصلا والدار في حكم الخلف فلا يظهر الخلف مع قيام الأصل وكذلك أحد الأبوين في هذا الحكم بمنزلتهما ألا ترى أن الذمية إذا ولدت من زنا فإن الولد يتبعها في الدين ولا أب هنا فعرفنا أن أحد الأبوين يكفي في الاتباع فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينه فإذا مات لا يصلي عليه(10/106)
وإن كانت جارية لم يحل للسابي وطئها إذا لم يكن أبواها أو أحدهما من أهل الكتاب فإن أسلم أبواه أو أحدهما فقد صار الصبي مسلما تبعا لمن أسلم منهما فإنه يتبع خير الأبوين دينا لأنه يقرب من التابع فإذا مات يصلي عليه وإن خرج وليس معه أبواه أو أحد من الأبوين فمات قبل أن يعقل الإسلام صلى عليه لأن التبعية بينه وبين الأبوين انقطعت بتباين الدار حقيقة وحكما فيظهر تبعية الدار ويصير محكوما بإسلامه تبعا للدار كاللقيط فإذا مات يصلي عليه وإن خرج الأب من ناحية والابن من ناحية معا فمات الصبي لم يصل عليه لأنه ما حصل في دارنا إلا وله أب كافر فيكون تبعا له دون الدار وكذلك إن خرج الأب أولا ثم الصبي بخلاف ما لو خرج الصبي أولا ثم الأب فإنه حين خرج أولا حكم بإسلامه تبعا للدار فلا يحكم بكفره بعد ذلك وإن خرج أبواه.
فإن قيل: إذا خرج معه أحد أبويه فاعتبار جانب الأب يوجب كفره واعتبار جانب الدار يوجب إسلامه فينبغي أن يرجح الموجب لإسلامه كما لو أسلمت أمه قلنا: الاشتغال بالترجيح عند المساواة وذلك في حق الأبوين فأما الدار خلف عن الأبوين في حقه كما بينا ولا يظهر الخلف في حال بقاء الأصل فلا معنى للاشتغال بالترجيح وكذلك لو مات أبوه كافرا في دارنا لأن بموته لا ينقطع حكم التبعية ألا ترى أن أولاد أهل الذمة لا يحكم بإسلامهم وإن ماتت(10/107)
ص -52- ... آباؤهم وفي هذا نوع إشكال فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ثم جعلنا الولد تبعا للدار إذا بقي أبواه في دار الحرب ولا نجمله تبعا للدار إذا مات أبواه في دار الإسلام ولكن نقول الموت لا يقطع العصمة ألا ترى أن المتوفي عنها زوجها يبقى حل النكاح بينها وبينه في حق الغسل وتباين الدارين حقيقة وحكما ينافي العصمة والتبعية فمن هذا الوجه يفترقان ولا بأس ببيع السبي من أهل الذمة ما لم يسلموا لأنهم صاروا من أهل دارنا ولكنهم كفار فلا بأس ببيعهم من أهل الذمة وإن كان الأولى أن لا يفعل الإمام ذلك ولكن يبيعهم من المسلمين ليسلموا عسي ويكره بيعهم من أهل الحرب لأنهم صاروا من أهل دارنا فلا يباعون من أهل الحرب ليعيدوهم إلى دار الحرب فيتقووا بهم على المسلمين ومن صار محكوما بإسلامه من صغارهم يكره بيعه من أهل الذمة كغيره من العبيد المسلمين وللإمام أن يقتل الرجال من الأسارى وله أن يستبقيهم ويقسمهم بين الجند ينظر أي ذلك خيرا للمسلمين فعله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل سبي بني قريظة وقسم سبايا أوطاس فعرفنا أن كل ذلك جائز والإمام نصب ناظرا فربما يكون النظر في قتلهم لمعنى الكبت والغيظ للعدو وليا من المسلمون فتنتهم وربما يكون النظر في قسمتهم لينتفع بهم المسلمون فيختار من ذلك ما هو الأنفع ولهذا لا يحل للمسلمين قتلهم بدون رأي الإمام لأن فيه افتياتا على رأيه إلا أن يخاف الآسر فتنة فحينئذ له أن يقتله قبل أن يأتي به إلى الإمام وليس لغير من أسره ذلك لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه فيقتله" وإن كان لو قتله لم يلزمه شيء لأن الأسير ما لم يقسم الإمام مباح الدم بدليل أن للإمام أن يقتله وقتل مباح الدم لا يوجب ضمانه فإن أسلموا لم يقتلهم لقوله صلى الله عليه وسلم "فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" ولأن القتل لدفع فتنة الكفر وقد(10/108)
اندفعت بالإسلام ولكنه يقسمهم لأنه كان مخيرا فيهم بين القتل والقسمة فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر وهذا لأن حق المسلمين قد ثبت فيهم بالأخذ وصاروا بمنزلة الأرقاء والإسلام لا ينافي بقاء الرق والقسمة لتعيين الملك لا أن يكون ابتداء الاسترقاق فإسلامهم لا يمنع من ذلك فإن لم يسلموا ولكنهم ادعوا أمانا فقال قوم من المسلمين قد كنا أمناهم فإنهم لا يصدقون على ذلك لأن حق المسلمين قد ثبت فيهم فلا يصدقون في إبطال حق المسلمين وقولهم هذا إقرار لا شهادة فإنهم أخبروا به عن أنفسهم ومن أخبر بما لا يملك استئنافه كان متهما في خبره فلا يصدق وإن شهد قوم من المسلمين عدول على طائفة أخرى من المسلمين أنهم أسروهم وهم ممتنعون جازت شهادتهم لأنه لا تهمة في شهادتهم فإنهم إن كانوا من الجند ففي شهادتهم ضرر عليهم وإن كانوا من غير الجند فليس في شهادتهم منفعة لهم وإذا انتفت التهمة فالثابت بالشهادة كالثابت معاينة ولا يقتل الأعمى ولا المقعد والمعتوه من الأسارى لأنه إنما يقتل من يقاتل قال الله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ} [الأنفال: 193] والمفاعلة تكون من الجانبين ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال "هاه ما كانت هذه تقاتل" فعرفنا أنه إنما يقتل من الأسارى من يقاتل والأعمى والمقعد والمعتوه لا(10/109)
ص -53- ... يقاتلون أحدا وإن كان ذلك منهم عارضا فقد اندفع بالأسر فلا يقتلون بعد ذلك كالمرأة منهم إذا قاتلت فأسرت لا تقتل بعد ذلك ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسر أو تجاري وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إذا علم أن فيهم مسلم وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك لأن الإقدام على قتل المسلم حرام وترك قتل الكافر جائز ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه ولكنا نقول أمرنا بقتالهم فلو اعتبرنا هذا المعنى أدى إلى سد باب القتال معهم فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن يزيد رضي الله عنه بأن يحرق وحرق حصن عوف بن مالك وكذلك أن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك وهو قول الشافعي لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض وترك الرمي إليهم جائز ولكنا نقول القتال معهم فرض وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترؤن بذلك على المسلمين وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده لأنه وسع مثله ولا كفارة عليه ولا دية فيما أصاب مسلما منهم لأنه إصابة(10/110)
بفعل مباح مع العلم بحقيقة الحال والمباح مطلقا لا يوجب عليه كفارة ولا دية والشافعي يوجب ذلك ويقول هذا قتل خطأ لأنه يقصد بالرمي الكافر فيصيب المسلم وهذا هو صورة الخطأ ولكنا نقول إذا كان عالما بحقيقة حال من يصيبه عند الرمي لم يكن فعله خطأ بل كان مباحا مطلقا وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وله في أيديهم جارية مأسورة كرهت له غصبها ووطئها لأنهم ملكوها عليه والتحقت بسائر أملاكهم فلو غصبها منهم أو سرقها كان ذلك منه غدرا للأمان وقد ضمن أن لا يغدر بهم ولا يأخذ شيئا من أموالهم إلا بطيب أنفسهم وإن كانت مدبرة أو أم ولد لم يكره له ذلك لأنهم لم يملكوها عليه فهو إنما يعيد ملكه إلى يده ولا يتعرض لملكهم بشيء فلم يكن ذلك منه غدرا للأمان ألا ترى أنهم لو أسلموا كان عليهم ردها بخلاف الأمة وإن كان الرجل مأسورا فيهم لم أكره له أن يغصب أمته أو يسرقها لأنه ما كان بينه وبينهم أمان ولكنه مقهور فيهم مظلوم فكان له أن يدفع الظلم عن نفسه بما يقدر عليه ألا ترى أن له أن يقتل من قدر عليه منهم وأن يسرق ما استطاع من أموالهم وأولادهم بخلاف الذي دخل إليهم بأمان وإذا أسلم الحربي في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على تلك الدار(10/111)
ص -54- ... ترك له ما في يده من ماله ورقيقه وولده الصغار لأن أولاده الصغار صاروا مسلمين بإسلامه تبعا فلا يسترقون والمنقولات في يده حقيقة وهي يد محترمة لإسلام صاحبها فلا يتملك ذلك عليه بالاستيلاء ولأنه صار محرزا ما في يده من المال بمنعة المسلمين وذلك سبب لتقرير ملك المسلم لا إبطال ملكه يوضحه أن يده إلى أمتعته أسبق من يد المسلمين فأما عقاره فإنها تصير غنيمة للمسلمين في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى استحسن فاجعل عقاره له لأنه ملك محترم له كالمنقول واستدل بحديث الكلبي ومحمد بن إسحاق رحمهما الله تعالى أن نفرا من بني قريظة أسلموا حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم فأحرزوا بذلك أنفسهم وأموالهم.(10/112)
قال وعامة أموالهم الدور والأراضي ولكنا نقول هذه بقعة من بقاع دار الحرب فتصير غنيمة للمسلمين كسائر البقاع وهذا لأن اليد على العقار إنما تثبت حكما ودار الحرب ليست بدار الأحكام فلا معتبر بيده فيها قبل ظهور المسلمين عليها وبعد الظهور يد الغانمين فيها أقوى من يده فلهذا كانت غنيمة بخلاف المنقولات وتأويل الحديث إن صح في المقول دون العقار وكذلك أولاده الكبار فيء لأنهم ما صاروا مسلمين بإسلامه ولا كانت له عليهم يد فهم كسائر أهل الحرب وكذلك زوجته الحبلى لأنها لا تصير مسلمة بإسلام زوجها فتكون فيئا ويده عليها يد حكمية بسبب النكاح ومثله لا يمنع الاغتنام كاليد على العقار وكذلك ما في بطنها فيء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون فيئا لأن ما في بطنها مسلم بإسلام أبيه والمسلم لا يسترق أبدا كالولد المنفصل ولكنا نقول الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم وهي قد صارت فيئا بجميع أجزائها ألا ترى أنه لا يجوز أن يستثنى الجنين في إعتاق الأم كما لا يستثني سائر أجزائها وكما أن في الإعتاق لا يصير الجنين مستثنى عند إعتاق الأم بحال فكذلك في الاسترقاق لا يصير الجنين مستثنى بعد ما ثبت الرق في الأم وهذا لأن الحكم في التبع لا يثبت ابتداء بل بثبوته في الأصل يظهر في التبع فيكون هذا في حق التبع بمنزلة بقاء الحكم والإسلام لا يمنع بقاء الرق وإن كان خرج إلى دار الإسلام ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على الدار فأهله وماله وأولاده أجمعون فيء لأنه لما أسلم في دارنا فولده الذي في دار الحرب لا يصير مسلما بإسلامه لما بينا أن تباين الدارين حقيقة وحكما مناف للتبعية ولأنه لا يد له على شيء مما خلفه في دار الحرب من أمواله فلهذا كان جميع ذلك فيئا للمسلمين لأنهم أحرزوه دونه ولو أسلم في دار الحرب ثم دخل دار الإسلام ثم ظهر المسلمون على الدار فجميع ماله فيء إلا أولاده الصغار لأنهم صاروا مسلمين بإسلامه لأنه حين أسلم في دار الحرب كانت(10/113)
التبعية بينه وبينهم قائمة وبعد ما صاروا مسلمين لا يسترقون فأما الأموال فلم يبق له يد فيها بعد ما خرج إلى دار الإسلام وتركها في دار الحرب وإن كان أودع شيئا من ماله مسلما أو ذميا فذلك المال لا يكون فيئا لأن يد المسلم والذمي يد صحيحة على هذا المال فتكون مانعة إحراز المسلمين إياها كما في سائر أموال المودع وإذا لم تصر غنيمة كانت يد(10/114)
ص -55- ... المودع فيها كيد المودع فيصير هو المحرز لها من هذا الوجه فترد عليه وإن كان أودع شيئا من ماله حربيا فذلك المال فيء في ظاهر الرواية وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يكون فيئا لأن يد المودع كيد المودع فجعلت يده باقية على هذا المال حكما بيد من يخلفه وجه ظاهر الرواية أن يد المودع في هذا المال ليست بيد صحيحة ألا ترى أنها لا تكون دافعة لاغتنام المسلمين عن سائر أمواله فكذلك عن هذه الوديعة وإذا لم تكن يده معتبرة كان هذا والمال الذي لم يودعه أحدا سواء وإذا دخل المسلم أو الذمي دار الحرب تاجرا بأمان فأصاب هناك مالا ودورا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله إلا الدور والأرضين فإنها فيء لأن يده يد صحيحة فإنه من أهل دار الإسلام فيكون هو المحرز بيده لأمواله وتكون يده دافعة لإحراز المسلمين تلك الأموال فأما الدور والأرضين فهي بقعة من بقاع دار الحرب فتصير مغنومة كسائر البقاع وتقرير هذا الكلام أن اليد على هذه البقعة من دار الحرب لا تقوى مقصودة بنفسها وإنما تقوى إذا ثبتت على جميع الدار فكانت هذه البقعة في حكم التبع وقد بينا أن ثبوت الحكم في التبع كثبوته في الأصل بخلاف المنقولات فاليد عليها تبقى مقصودة بنفسها وقد سبق ذلك من المسلم فكان هو المحرز لها يوضحه أن المسلم يتحقق منه الإحراز في المنقولات بأن يخرجها إلى دار الإسلام فيجعل أيضا محرزا لها بظهور المسلمين على الدار فأما العقار لا يتحول ولا يتحقق من المسلم إحرازه بالإخراج إلى دار الإسلام فإنما تصير محرزة بالغانمين ومن قاتل من كبار عبيده فهو فيء لأنه نزع نفسه من يده حين قاتل المسلمين فإن المسلم يمنع عبده من قتال المسلمين وإن لم يبق له عليه يد حقيقة كان فيئا كسائر عبيد أهل الحرب وإن كانت له امرأة حبلى فهي وما في بطنها فيء كما بينا وما كان له من وديعة عند مسلم أو ذمي أو حربي فهو له وليست بفيء أما ما كان عند مسلم أو ذمي فلا إشكال(10/115)
فيه وأما ما كان عند حربي فلأنه ما دام في دار الحرب فيده ثابتة على تلك الوديعة باعتبار يد مودعه وكونه حافظا له فتكون يده دافعة لإحراز المسلمين في ذلك المال بخلاف ما تقدم في ما إذا خرج إلى دار الإسلام.
قال وكذلك إن كان خرج إلى دار الإسلام قبل ذلك فإن كان مراده من هذا العطف ما أودعه عند مسلم أو ذمي فهو ظاهر وإن كان مراده ما أودعه عند حربي فهو يقوي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحتاج إلى الفرق بين هذا وبين ما سبق على ظاهر الرواية
ووجه الفرق أن التاجر الذي دخل إليهم ماله كان محرزا بدار الإسلام ولم يبطل ذلك الإحراز إلا بإحراز المشركين إياه وذلك لا يوجد فيما إذا أودعه من الحربي إذا كان الحربي جاريا على وفاق ما أمر به فإذا بقى المال محرزا بدار الإسلام لا يملكه المسلمون بالاستغنام فأما الذي أسلم في دار الحرب فماله لم يصر محرزا بدار الإسلام فكان محلا للاستغنام إلا ما ثبتت عليه يد صحيحة دافعة للاستغنام وذلك غير موجود فيما إذا أودعه من أهل الحرب فإن أخذ المسلمون تلك الوديعة فاقتسموها في الغنيمة ثم جاء صاحبها أخذها بغير قيمة لأنه مال مسلم(10/116)
ص -56- ... لم يحرزه المشركون وإن كان المشركون قتلوا هذا المسلم في دارهم وأخذوا ماله ثم ظهر عليهم المسلمون ردوه على ورثة المقتول قبل القسمة بغير شيء لأنهم لما قتلوه وأخذوا ماله فقد صاروا محرزين له فيملكونه ثم المسلمون يملكونه عليهم بالاغتنام فهو بمنزلة مال المسلم استولى عليه أهل الحرب وأحرزوه ثم وقع في الغنيمة وقد مات صاحبه فكان لوارثه أن يأخذه قبل القسمة بغير شيء لأنه قائم مقام مورثه في ملكه وحقوق ملكه وتمكنه من الأخذ كان لحق ملكه القديم فيقوم فيه وارثه مقامه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يثبت لوارثه حق الأخذ واعتبر هذا بحق الشفعة وحق الخيار فإن ذلك لا يصير ميراثا عنه بعد موته فكذلك في حق المأسور ألا ترى أن هذا الحق دون ذلك الحق فإن للشفيع أن ينقض تصرف المشتري وليس للمالك القديم ذلك وإن كانوا اقتسموه ثم حضر ورثة المقتول أخذوا الأمتعة بالقيمة إن شاءوا ولم يأخذوا الذهب والفضة كما لو كان المورث حيا وإن كان هؤلاء المشركون أسلموا على دراهم وصالحوا لم يؤخذوا بشيء من مال المقتول لأن إسلامهم يقرر ملكهم ولا ضمان عليهم في دمه لأنهم قتلوه حين كانوا حربا للمسلمين فلم يكن عليهم ضمان دمه يومئذ ثم لا يجب بعد ذلك بإسلامهم ولو كان مسلم دخل دار الحرب بأمان واشترى صبيا وصبية فأعتقهما ثم خرج وتركهما هناك فكبرا هناك كافرين ثم ظهر المسلمون على الدار فهما فيء لأن إعتاقه إياهما في دار الحرب ليس بشيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فلا يصير محرزا لهما وعند أبي يوسف رضي الله تعالى عنه إن كان ذلك إعتاقا صحيحا فهم كسائر أحرار أهل الحرب من الكفار فيكونون فيئا ومقصوده أن الولاء ليس نظير الولاد فإن الولد يصير مسلما بإسلام أبيه والمعتق لا يصير مسلما بإسلام معتقه إن كان صغيرا لأن الولاء أثر الملك وهو باعتبار أصل الملك لا يتبع مولاه في الدين فباعتبار أثر الملك أولى وإذا كان المسلم في دار(10/117)
الحرب تاجرا أو أسيرا أو أسلم هناك فأمنهم فأمانه باطل لأنه مقهور في أيديهم والظاهر أنه مكره على الأمان من جهتهم ولأنه لا يقصد بالأمان منفعة للمسلمين وإنما قصده أن يؤمن نفسه ولأن الأمان يكون عن خوف ولا خوف لهم من جهته فيكون عقده على الغير ابتداء لا على نفسه وليس له ولاية العقد على الغير ابتداء فإن من أمن رجلا من أهل الجيش جاز أمانه لقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" أي أقلهم وهو الواحد وقال "يعقد عليهم أولاهم ويرد عليهم أقصاهم" قيل معناه أن السرية الأولى تعقد الأمان فينفذ على المسلمين ثم السرية الأخرى تنبذ إليهم فينفذ ذلك أيضا ولأن من في الجيش إنما يؤمنهم من نفسه لأنهم يخافونه فينفذ عقده على نفسه ثم يتعدى إلى غيره وهذا لأن الأمان لا يحتمل الوصف بالتجزي وسببه وهو الإيمان لا يتجزى أيضا فينفرد به كل مسلم لتكامل السبب في حقه كالتزويج بولاية القرابة وكذلك لو أمنت المرأة من أهل دار الإسلام أهل الحرب جاز أمانها لما روي أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أمنت زوجها أبا العاص بن الربيع فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت أجرت حموين لي يوم فتح مكة(10/118)
ص -57- ... فدخل علي رضي الله عنه يريد قتلهما وقال أتجيرين المشركين فقلت لا إلا أن تبدأ بي قبلهما وأخرجته من البيت وأغلقت الباب عليهما ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال مرحبا بأم هانئ فاختة قلت ماذا لقيت من ابن أمي علي أجرت حموين لي وأراد قتلهما فقال صلى الله عليه وسلم "ليس له ذلك وقد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت" ولأنها من أهل الجهاد فإنها تجاهد بمالها وكذلك بنفسها فإنها تخرج لمداواة المرضى والخبز وذلك جهاد منها فأما العبد إذا أمن أهل الحرب فإن كان مأذونا له في القتال فأمانه صحيح لما روى أن عبدا كتب على سهم بالفارسية مترسيت ورمى بذلك إلى قوم محصورين فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجاز أمانه وقال إنه رجل من المسلمين وهذا العبد كان مقاتلا لأن الرمي فعل المقاتل ولأنه إذا كان متمكنا من القتال لوجود الأذن من مولاه فهم يخافونه فعقده يكون على نفسه ثم يتعدى حكمه إلى الغير وقول العبد في مثله صحيح كما في شهادته على رؤية هلال رمضان وإقراره على نفسه بالقود ولا يقال قرابته فيهم فهو متهم بإيصال المنفعة إليهم دون المسلمين فينبغي أن لا يصح أمانه كالذمي وهذا لأنه لا يظن بالمسلم إيثار القرابة على الدين ولو اعتبرنا هذا لم يصح أمانه بعد العتق أيضا ولا وجه للقول به فأما الذمي لم يوجد في حقه سبب ولاية الأمان وهو موافق لهم في الاعتقاد فالظاهر أنه يميل إليهم وأنهم لا يخافونه فأما أمان العبد المحجور عليه عن القتال فهو باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله صحيح في قول محمد والشافعي رحمهما الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وذكر الكرخي قوله مع محمد رحمهما الله تعالى حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" وأدنى المسلمين العبد وفي حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمان العبد والصبي والمرأة سواء" في حديث أبي موسى رضي الله(10/119)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمان العبد أمان" ولأنه من أهل الجهاد ولا تهمة في أمره فيصح أمانه كالحر وبيان الأهلية أن المطلوب بالجهاد إعزاز الدين ودفع فتنة الكفر فكل مسلم يكون أهلا له ثم الجهاد يكون بالنفس تارة وبالمال أخرى فالعبد لا مال له وهو ممنوع من الجهاد بالنفس لما فيه من إبطال حق المولى عن منافعه وتعريض ماليته للهلاك فأما الأمان جهاد بالقول وليس فيه إبطال حق المولى عن شيء فكان العبد فيه كالحر والدليل عليه صحة أمانه إذا كان مأذونا في القتال وتأثير الإذن في رفع المانع لا في إثبات الأهلية لمن ليس بأهل ألا ترى أن بالإذن لا يصير أهلا للشهادة ونزول المانع من التصرفات لوجود الأهلية ثم الأمان ترك القتال ولا يستفاد بالإذن في القتال لأنه ضده وبعد الإذن هو في الأمان ليس بنائب عن المولى بدليل أن المعتبر دينه لا دين المولى فعرفنا أنه كان أهلا لكونه مسلما ولأن الأمان من فروع الدين وقوله في أصل الدين معتبر ملزم فكذلك في فروعه ولهذا صح إحرامه وصح منه عقد الذمة مع قوم من المشركين والذمة أقوى من الأمان فيستدل بصحة ما هو أقوى منه على صحة الأدنى بطريق الأولى.
وحجتنا قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75](10/120)
ص -58- ... والأمان شيء وهذا عام لا يجوز دعوى التخصيص فيه لأن الله تعالى ذكر هذا المثل للأصنام واحدها لا يقدر على شيء ولأنه ليس بأهل للجهاد فلا يصح أمانه بنفسه كالذمي والصبي والمجنون وبيان الوصف أن الجهاد يكون بالنفس أو بالمال ونفسه مملوكة لغيره وهو ليس من أهل ملك المال فعرفنا أنه ليس من أهل الجهاد وتأثيره أن صحة الأمان من الواحد باعتبار منفعة المسلمين فربما يكون الأمان خيرا لهم لحفظ قوة أنفسهم لأن القتال حفظ قوة النفس أولا ثم العلو والغلبة ولكن الخيرة في الأمان مستورة لا يعرفه إلا من يكون مجاهدا فإذا كان العبد المحجور لا يملك القتال لا يعرف الخيرة في الأمان فلا يكون أمانه جهادا بالقول بخلاف المأذون في القتال فإنه لما تمكن من مباشرة القتال عرف الخيرة في الأمان فحكمنا بصحة أمانه ولهذا لا يحكم بصحة أمان الأسير لأن الخيرة في الأمان مستورة لا يعرفه إلا من يكون آمنا على نفسه والأسير خائف فإذا تقرر هذا في المقيد بالأسر ففي المقيد بالرق أولى لأن الأسير مالك للقتال وإنما لا يتمكن منه حسا والعبد غير مالك للقتال أصلا ولأن عقد العبد على الغير ابتداء لأنهم لا يخافونه حين لم يكن مالكا للقتال بخلاف المأذون له في القتال فإنهم يخافونه فإنما يعقد على نفسه ولا معنى لقول من يقول العبد يؤمن نفسه وهو يخافهم وإن كان محجورا عليه لأنه يقول أمنتكم ولا يقول أمنت نفسي ولو قال ذلك لا يكون أمانا ولأنه نوع ولاية حيث أنه يتقيد القول على الغير بشرط التكليف فيكون نظير ولاية النكاح والعبد لا يملك النكاح بنفسه إلا أن يأذن له مولاه فيه فكذلك لا يملك الأمان إلا أن يكون مأذونا في القتال لأن الأمان ترك القتال ضرورة ولكنه من القتال معنى فيملكه من يكون مالكا للقتال والآثار محمولة على المأذون في القتال وقد تقدم بيان تأويل قوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" فأما عقد الذمة فنقول إنه يتمحض منفعة للمسلمين لأن(10/121)
الكفار إذا طلبوا ذلك افترض على الإمام إجابتهم إليه فلو اعتبر ما سبق من العبد احتسب عليهم تلك المدة لأخذ الجزية ولو لم يعتبر كان ابتداء تلك المدة من الحال فلكونه محض منفعة حكمنا بصحته من العبد كقبول الهبة والصدقة فأما الأمان يتردد بين المضرة والمنفعة ولهذا لا يفترض إجابة الكفار إليه وفيه إبطال حق المسلمين في الاستغنام والاسترقاق والتصرف الذي فيه توهم الضرر في حق المولى خاصة كالبيع والشراء لا يملكه العبد بنفسه لما فيه من إلحاق الضرر بالمولى فالتصرف الذي فيه إلحاق الضرر بالمسلمين أولى فأما الصبي إذا كان لا يعقل فلا إشكال أن أمانه باطل وإن كان يعقل فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أمانه باطل أيضا وهو قول الشافعي رحمه الله كما أنه لا يصح إيمانه ومحمد يقول بصحة أمانه كما يقول بصحة إيمانه فإن كان هذا الصبي مأذونا في القتال فقد قال بعض مشايخنا لا يصح أمانه أيضا لأن قوله غير معتبر فيما يضربه وإن كان مأذونا كالطلاق والعتاق ففيما يضر بالمسلمين أولى والأصح أنه يجوز أمانه إذا كان مأذونا له في القتال لأن هذا التصرف يتردد بين المضرة والمنفعة فهو نظير البيع والشراء يملكه الصبي بعد الإذن وإذا قال الإمام من أصاب شيئا فهو له فأصاب رجل جارية فاستبرأها فإنه(10/122)
ص -59- ... لا يطأها ولا يبيعها حتى يخرجها إلى دار الإسلام في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يحل له ذلك لأنه اختص بملكها فيحل له وطئها بعد الاستبراء كالمسلم يشتري جارية في دار الحرب يحل له وطئها بعد الاستبراء وهذا لأن ملك المنفعة سببه ملك الرقبة وقد تحقق هذا السبب في حقه حين اختص بملكها بتنفيل الإمام وهذا بخلاف اللص في دار الحرب إذا أخذ جارية واستبرأها فإنه لا يحل له وطئها لأنه ما اختص بملكها ألا ترى أنه لو التحق بجيش المسلمين في دار الحرب شاركوه فيها وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا سبب الملك في المنفل القهر فلا يتم إلا بالإحراز بدار الإسلام كما في الغنيمة في حق الجيش وهذا لما بينا أنه قبل الإحراز قاهر يدا مقهور دارا فيكون السبب ثابتا من وجه دون وجه ولا أثر للتنفيل في إتمام القهر إنما تأثير التنفيل في قطع شركة الجيش مع المنفل له فأما سبب الملك للمنفل له ما هو السبب لولا التنفيل وهو القهر فأشبه من هذا الوجه ما أخذه اللص في دار الحرب وهذا لأن لحوق الجيش به موهوم والموهوم لا يعارض الحقيقة فعرفنا أن امتناع ثبوت الحل لعدم تمام القهر بخلاف المشتراة فسبب الملك فيها تم بالعقد والقبض وعلى هذا الخلاف لو قسم الإمام الغنائم في دار الحرب فأصاب رجل جارية فاستبرأها لأن بقسمة الإمام لا ينعدم المانع من تمام القهر وهو كونهم مقهورين دارا ومن أصحابنا من يقول لما نفذت القسمة من الإمام تصير هي بمنزلة المشتراة لأن من وقعت في سهمه يملك عينها بالقسمة وقد تم فينبغي أن يحل الوطء عندهم جميعا والأول أظهر وإذا خرج القوم من مسلحة أو عسكر فأصابوا غنائم فإنها تخمس وما بقي فهو بينهم وبين أهل العسكر سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام وسواء كانت لهم منعة أو لم تكن لأن أهل العسكر بمنزلة المدد للخارجين فإن المصاب صار محرزا بالدار بقوتهم جميعا إذ هم الردء لهم(10/123)
يستنصرونهم إذا حزبهم أمر لأنهم دخلوا دار الحرب لينصر بعضهم بعضا والإمام أذن لهم في أن يأخذوا ما يقدرون عليه من أموال المشركين لأنه أدخلهم في دار الحرب لهذا فلا حاجة إلى إذن جديد بعد ذلك وكذلك إن بعث الإمام رجلا طليعة فأصاب ذلك لأن أهل العسكر ردء له وإن كانوا خرجوا من مدينة عظيمة مثل المصيصة وملطية بعثهم الإمام سرية منها فأصابوا غنائم لم يشركهم فيها أهل المدينة لأنهم ساكنون في دار الإسلام فلا يكونون ردءا للمقاتلين في دار الحرب وهذا لأن توطنهم على قصد المقام في أهاليهم بخلاف أهل العسكر فإن توطنهم في العسكر للقتال فكانوا بمنزلة الردء للسرية ألا ترى أن من نوى منهم الإقامة في العسكر في دار الحرب لا تصح نيته بخلاف ساكن المدينة ولأن الإحراز ها هنا حصل بالسرية خاصة وهناك الإحراز بدار الإسلام حصل بالسرية والجيش فمن هذا الوجه يقع الفرق ثم الذين خرجوا من مصر من أمصار المسلمين إما أن يكونوا قوما لهم منعة أو لا منعة لهم خرجوا بإذن الإمام أو بغير إذنه فإن كانت لهم منعة فسواء خرجوا بإذن الإمام أو بغير إذنه فإن ما أصابوه غنيمة حتى يخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام(10/124)
ص -60- ... الفرسان والرجالة المصيب وغير المصيب فيه سواء لأن دخولهم لا يخفى على الإمام عادة وعليه أن ينصرهم ويمدهم فإنهم لو أصيبوا مع منعتهم كان فيه وهنا بالمسلمين ويجترئ عليهم المشركون فإذا كان على الإمام نصرتهم كانوا بمنزلة الداخلين بإذنه ولأن الغنيمة اسم لما أصيب بطريق فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه وذلك موجود ها هنا لأن المصيبين أهل منعة يفعلون ما يفعلون جهارا فأما إذا كانوا قوما لا منعة لهم كالواحد والاثنين فإن كان دخولهما بإذن الإمام فكذلك الجواب لأن على الإمام أن ينصره ويمده إذا حزبه أمر ولأن الإمام لا يأذن للواحد في الدخول إلا أن يعلم قوته على ما بعثه لأجله وعند ذلك يكون الواحد سرية على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سرية وحده وبعث دحية الكلبي رضي الله عنه يوم الخندق طليعة وقد ذكر في النوادر أنه لا يخمس ما أصاب هذا الواحد لأن أخذه ليس على طريق إعزاز الدين فإنه لا يجاهر بما يأخذ وإنما يفعله سرا إذ هو غير ممتنع من أهل الحرب فهو كالداخل بغير إذن الإمام فإن كان دخول القوم الذين لا منعة لهم بغير إذن الإمام على سبيل التلصص فلا خمس فيما أصابوا عندنا ولكن من أصاب منهم شيئا فهو له خاصة وإن أصابوا جميعا قسم بينهم بالسوية ولا يفضل الفارس على الراجل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يخمس ما أصابوا ويقسم ما بقي بينهم قسمة الغنيمة لقوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] والغنيمة اسم مال يأخذه المسلمون من الكفرة بطريق القهر وذلك موجود ها هنا فإنهم دخلوا للمحاربة والقهر لأن القهر تارة يكون بالقوة جهارا وتارة يكون بالمكر والحيلة سرا قال صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة" ألا ترى أنهم لو دخلوا بإذن الإمام كان ما يأخذون غنيمة وصفة أحدهم لا تختلف بوجود إذن الإمام وعدمه.(10/125)
وحجتنا ما روى أن المشركين أسروا ابنا لرجل من المسلمين فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ما يلقى من الوحشة فأمره أن يستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ففعل ذلك فخرج الابن عن قليل بقطيع من الغنم فسلم ذلك له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ منه شيئا والمعنى ما بينا أن الغنيمة اسم لمال مصاب بأشرف الجهات وهو أن يكون فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز الدين ولهذا جعل الخمس منه لله تعالى وهذا المعنى لا يحصل فيما يأخذه الواحد على سبيل التلصص فيتمحض فعله اكتسابا للمال بمنزلة الاصطياد والاحتطاب بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة وشوكة والدليل على الفرق أن الواحد من الذين لهم منعة لو أمنهم صح أمانه واللص في دار الحرب لو أمنهم لم يصح أمانه وقد بينا اختلاف الرواية فيما إذا كان دخول الواحد بإذن الإمام ووجه الفرق على ظاهر الرواية وإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فاشترى جارية كتابية واستبرأها كان له أن يطأها هناك لأن ملكه فيها تم بتمام سببه فإن الشراء في كونه سبب الملك تام لا يختلف بدار الحرب ودار الإسلام بخلاف المتلصص إذا أصاب جارية فإن سبب ملكه هناك لم يتم قبل الإحراز لكونه مقهورا في دارهم ولأنه ربما يتصل بجيش في دار الحرب فيشاركونه فيها إذا شاركوه في الإحراز.(10/126)
ص -61- ... قال وأكره للرجل أن يطأ أمته أو امرأته في دار الحرب مخافة أن يكون له فيها نسل لأنه ممنوع من التوطن في دار الحرب قال صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" وإذا خرج ربما يبقى له نسل في دار الحرب فيتخلق ولده بأخلاق المشركين ولأن موطوءته إذا كانت حربية فإذا علقت منه ثم ظهر المسلمون على الدار ملكوها مع ما في بطنها ففي هذا تعريض ولده للرق وذلك مكروه ولا بأس بأن يعطى الإمام أبا الغازي شيئا من الخمس إذا كان محتاجا لأنه لو عرف حاجة الغازي إلى ذلك جاز له أن يضعه فيه ففي أبيه أولى وهذا لأن المقصود سد خلة المحتاج بخلاف الزكاة فإنها تجب على صاحب المال والواجب فعل الإيتاء فإنما يتم ذلك إذا جعله لله خالصا بقطع منفعته منه من كل وجه وها هنا الخمس ليس بواجب على الغزاة بل خمس ما أصابوه لله تعالى يصرف إلى المحتاجين بأمر الله تعالى والغازي وأبوه في ذلك كغيره وإذا غزا أمير الشام في جيش عظيم فإنه يقيم الحدود في العسكر وقد بينا هذا في كتاب الحدود وفرقنا بينه وبين أمير الجيش الذي فوض إليه الحرب خاصة فإن حاصر أمير الشام مدينة مدة طويلة لم يتم الصلاة ولم يجمع لأنه مسافر ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة وكان يقصر الصلاة وابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة أن نية المحارب في دار الحرب الإقامة لا تصح لأنه لا يتمكن من التوطن فإنه بين أن يهزم عدوه فيقر أو ينهزم فيفر وإذا أراد قوم من المسلمين أن يغزوا أرض الحرب ولم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس بأن يجهز بعضهم بعضا ويجعل القاعد للشاخص وقد بينا ذلك في حديث عمر رضي الله عنه والمعنى فيه أن الجهاد بالنفس تارة وبالمال أخرى والقادر على الخروج بنفسه يحتاج إلى مال كثير ليتمكن به من الخروج وصاحب المال يحتاج إلى مجاهد يقوم بدفع أذى المشركين عنه وعن ماله فلا بأس(10/127)
بالتعاون بينهما والتناصر ليكون القاعد مجاهدا بماله والخارج بنفسه والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ثم دافع المال إلى الخارج ليغزو بماله يعينه على إقامة الفرض وذلك مندوب إليه في الشرع وإن كانت عندهم قوة أو عند الإمام كرهت ذلك أما إذا كان في بيت المال فذلك المال في يد الإمام معد لمثل هذه الحاجة فعليه أن يصرفه إليها ولا يحل له أن يأخذ من المسلمين شيئا لاستغنائه عن ذلك بما في يده وكذلك إن كان الغازي صاحب مال فلا حاجة به إلى الأخذ من غيره وتمام الجهاد بالمال والنفس ولأنه لو أخذ من غيره مالا فعمله في الصورة كعمل من يعمل بالأجرة فلا يكون ذلك لله تعالى خالصا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لذلك الأجير "بكم استؤجرت" قال بدينارين قال "إنما لك ديناراك في الدنيا والآخرة" ولأن الاشتراك ينفي معنى العبادة قال صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن ربه "من عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كله لذلك الشريك وأنا منه بريء" فلهذا يكره له الإشراك بأخذ المال من غيره إذا كان مستغنيا عنه وإذا وجد من يكفيه الحرس فالصلاة بالليل أفضل له من الحرس وكل واحد منهما طاعة أما الصلاة بالليل فظاهر وأما الحرس فلقوله صلى الله عليه وسلم:(10/128)
ص -62- ... "ثلاث أعين لا تمسها نار جهنم عين غضت من محارم الله تعالى وعين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله" إلا أنه إذا كان له من يكفيه الحرس فالصلاة أولى لأنها عبادة بجميع البدن فهي تنهى عن الفحشاء وتدفع الخواطر الردية وتمنع اللغو فالاشتغال بها أولى وإن لم يجد من يكفيه الحرس فإن أمكنه أن يجمع بين الصلاة والحرس فالجمع بينهما أفضل وقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير عن بعض الصحابة أنه كان يجمع بينهما وإذا تعذر عليه الجمع بينهما فالحرس أفضل لأنه أعم نفعا وقال صلى الله عليه وسلم "خير الناس من ينفع الناس" ولأن الصلاة بالليل ممكن إذا رجع إلى أهله ولا يتمكن من الحرس إلا في هذا الموضع فالاشتغال في هذا الموضع بما هو متعين أولى وهو كالطواف بالبيت للغرباء أفضل من الصلاة بخلاف أهل مكة وإذا طعن المسلم بالرمح في جوفه لم يكن له أن يمشي إلى صاحبه والرمح في جوفه حتى يضربه بالسيف ولا يكون به معينا على نفسه لأن المسلم مندوب إلى بذل نفسه في قهر المشركين وإعزاز الدين وليس في هذا أكبر من بذل النفس لهذا المقصود ولكن هذا إذا كان يعلم أنه يصيب من قرنه إذا فعل ذلك وهو نظير ما لو حمل الواحد على جمع عظيم من المشركين فإن كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو ينكى فيهم نكاية فلا بأس بذلك وإن كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك لقوله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى يوم أحد كتيبة من اليهود فقال "من لهذه الكتيبة" فقال وهب بن قابوس أنا لها يا رسول الله فحمل عليهم حتى فرقهم ثم رأى كتيبة أخرى فقال "من لهذه الكتيبة" فقال وهب أنا لها فقال صلى الله عليه وسلم "أنت لها وأبشر بالشهادة" فحمل عليهم حتى فرقهم وقتل هو فذلك دليل على أنه إذا كان ينكى فعله فيهم فلا(10/129)
بأس بأن يحمل عليهم وإذا كان المسلمون في سفينة فألقيت إليهم النار لم يضيق على أحد منهم أن يصبر على النار أو يلقي نفسه في البحر أما إذا كان يرجو النجاة في أحد الجانبين تعين عليه ذلك لأنه مأمور بدفع الهلاك عن نفسه بما يقدر عليه وذلك في الميل إلى الطريق الذي يرجو النجاة فيه وإن كان يرجو النجاة في الجانبين يخير لاختلاف أحوال الناس فمنهم من يصبر على الماء فوق ما يصبر على النار ومنهم من يكون صبره على الدخان والنار أكثر على غم الماء وإن كان لا يرجو النجاة في واحد من الجانبين فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يتخير وعلى قول محمد رحمه الله تعالى ليس له أن يلقي نفسه في الماء لأنه لو صبر على النار كان هلاكه بفعل العدو ولو ألقى نفسه كان هلاكه بفعل نفسه فيتعين عليه الصبر لذلك ولأنه إنما يجوز له أن يلقي في نفسه الماء لدفع الهلاك وذلك عند رجاء النجاة فيه فإذا كان لا يرجو النجاة لم يكن فعله دفعا للهلاك عن نفسه وهما يقولان إن طبائع الناس تختلف فمنهم من يختار غم الماء على ألم النار فهو بالإلقاء يدفع ألم النار عن نفسه لعلمه أنه لا يجد الصبر عليه فكان في سعة من ذلك لأنه مضطر ومن ابتلى ببليتين يختار أهونهما عليه(10/130)
ص -63- ... ثم هو وإن ألقى نفسه مدفوع بفعل المشركين فقد ألجؤوه إلى ذلك وأفسدوا عليه اختياره فلا يبقى فعله معتبرا بعد ذلك في إضافة الفعل إليه فلهذا يخير والله أعلم بالصواب.
باب في توظيف الخراج
قال رضي الله عنه وإذا جعل الإمام قوما من الكفار أهل ذمة وضع الخراج على رؤس الرجال وعلى الأرضين بقدر الاحتمال أما خراج الرؤس ثابت بالكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأما السنة ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وأخذ الحلل من نصارى نجران وكانت جزية وقال "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" يعني في أخذ الجزية منهم وقد طعن بعض الملحدين قال كيف يجوز تقرير الكافر على الشرك الذي هو أعظم الجرائم بمال يؤخذ منه ولو جاز ذلك جاز تقرير الزاني على الزنى بمال يؤخذ منه(10/131)
والكلام في هذا يرجع إلى الكلام في إثبات الصانع وأنه حكيم وإثبات النبوة ثم نقول المقصود ليس هو المال بل الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه لأنه بعقد الذمة يترك القتال أصلا ولا يقاتل من لا يقاتل ثم يسكن بين المسلمين فيرى محاسن الدين ويعظه واعظ فربما يسلم إلا أنه إذا سكن دار الإسلام فما دام مصرا على كفره لا يخلا عن صغار وعقوبة وذلك بالجزية التي تؤخذ منه ليكون ذلك دليلا على ذل الكافر وعز المؤمن ثم يأخذ المسلمون الجزية منه خلفا عن النصرة التي فاتت بإصراره على الكفر لأن من هو من أهل دار الإسلام فعليه القيام بنصرة الدار وأبدانهم لا تصلح لهذه النصرة لأنهم يميلون إلى أهل الدار المعادية فيشوشون علينا أهل الحرب فيؤخذ منهم المال ليصرف إلى الغزاة الذين يقومون بنصرة الدار ولهذا يختلف باختلاف حاله في الغنى والفقر فإنه معتبر بأصل النصرة والفقير لو كان مسلما كان ينصر الدار راجلا ووسط الحال كان ينصر الدار راكبا والفائق في الغنى يركب ويركب غلاما فما كان خلفا عن النصرة يتفاوت بتفاوت الحال أيضا والأصل في معرفة المقدار حديث عمر رضي الله عنه فإنه وضع الجزية على رؤس الرجال اثني عشر درهما وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ونصب المقادير بالرأي لا يكون فعرفنا أنه اعتمد السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا به وقلنا: المعتمل الذي يكتسب أكثر من حاجته ولا مال له يؤخذ منه كل سنة اثني عشر درهما والمعتمل الذي له مال ولكنه لا يستغني بماله عن العمل يؤخذ منه أربعة وعشرون درهما في كل سنة والفائق في الغنى وهو صاحب المال الكثير الذي لا يحتاج إلى العمل يؤخذ منه ثمانية وأربعون درهما ولا يمكن أن يقدر في المال بتقدير فإن ذلك يختلف باختلاف البلدان فبالعراق من يملك خمسين ألفا يعد وسط الحال وفي ديارنا من يملك عشرة آلاف درهم يعد غنيا فيجعل ذلك موكولا إلى رأي الإمام والحسن البصري كان يقول إنما يؤخذ ثمانية وأربعون ممن(10/132)
يركب البغلة الشهباء ويتختم بخاتم الذهب وقد قيل إنه بدل عن السكنى لأنه مع الإصرار على الكفر لا يكون من أهل دار الإسلام أصلا ولا يمكن من السكنى في دار الغير إلا بكراء فالفقير يكفيه لمؤنة السكنى في كل شهر درهم ووسط(10/133)
ص -64- ... الحال يحتاج إلى أكثر من ذلك فيضعف عليه وكذلك الفائق في الغني والأصح هو الأول أنه خلف عن النصرة كما بينا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى تتقدر الجزية بدينار ولا يختلف باختلاف حاله في الفقر والغنى بناء على أصله أن وجوب هذا المال بحقن الدم وذلك لا يختلف بفقره وغناه واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه "خذ من كل حالم وحالمة دينارا" ولكنا نقول ثبوت الحقن ليس بالمال بل بانعدام علة الإباحة وهو القتال ولصحة إحرازه نفسه وماله في دارنا لأنه بقبول عقد الذمة يصير من أهل دارنا حتى لا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب بحال وحديث معاذ رضي الله عنه في مال كان وقع الصلح عليه دون الجزية ألا ترى أنه أمر بالأخذ من النساء والجزية لا تجب على النساء وأما خراج الأرض فالأصل فيه حديث عمر رضي الله عنه فإنه وضع على كل أرض تصلح للزرع على الجريب درهما وقفيزا وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم واعتمد في ما صنع السنة أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "منعت العراق قفيزها ودرهمها" فيما ذكر من أشراط الساعة بعده ثم تفاوت الواجب بتفاوت ريع الأراضي ولأن أصل الوجوب باعتبار الريع فإن الخراج مؤنة الأرض النامية فيتفاوت بتفاوت الريع وقد روى أنه بعث لذلك عثمان ابن حنيف وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فلما رجعا إليه قال لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقالا لا بل حملناها ما تطيق ولو زدنا لا طاقت وبظاهر هذا الحديث يستدل أبو يوسف رضي الله عنه ويقول لا تجوز الزيادة على وظيفة عمر رضي الله عنه وإن كانت الأرض تطيق الزيادة لأنهما قالا لو زدنا لا طاقت فلم يأمرهما بالزيادة ومحمد رحمه الله تعالى يقول إنه فيما وظف اعتبر الطاقة حيث قال لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فإذا كانت تطيق الزيادة يزاد بقدر الطاقة ألا ترى أنها إذا كانت لا تطيق تلك الوظيفة لقلة ريعها تنقص فكذلك إذا كانت تطيق(10/134)
الزيادة لكثرة ريعها يزاد وقد قررنا هذا في شرح الزيادات ثم في خراج الأراضي الرجال والنساء والصبيان سواء لأنها مؤنة الأراضي النامية وهم في حصول النماء لهم سواء فأما خراج الرءوس لا يؤخذ من النساء والصبيان لما بينا أنه خلف عن النصرة التي فاتت بإصرارهم على الكفر ونصرة القتال لو كانوا مسلمين على الرجال دون النساء والصبيان ولأن في حقهم الوجوب بطريق العقوبة كالقتل وإنما يقتل الرجال منهم دون النساء والصبيان حين كانوا حربيين فكذلك حكم الجزية بعد عقد الذمة ولئن كان مؤنة السكنى فالنساء والصبيان في السكنى تبع وأجرة السكنى على من هو الأصل دون التبع ولكن الأول أصح فإنه لا تؤخذ الجزية من الأعمى والشيخ الفاني والمعتوه والمقعد مع أنهم في السكنى أصل ولكن لا يلزمه أصل النصرة ببدنه لو كان مسلما فكذلك لا يؤخذ منه ما هو خلف عن النصرة وعن أبي يوسف أن الأعمى والمقعد إذا كان صاحب مال ورأي يؤخذ منه لأنه يقاتل برأيه وإن كان لا يقاتل ببدنه لو كان مسلما وعجزه لنقصان في بدنه ولا نقصان في ماله فيؤخذ منه ما هو خلف عن النصرة والفقير الذي لا يستطيع أن يعمل لا تؤخذ منه الجزية لأن الجزية(10/135)
ص -65- ... مال يؤخذ منه ولا مال له والعاجز عن الأداء معذور شرعا فيما هو حق العباد قال الله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ففي الجزية أولى وهذا لأن الجزية صلة مالية وليست بدين واجب ألا ترى أنها سميت خراجا في الشرع والخراج اسم لما هو صلة قال الله تعالى {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} [الكهف: 94] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] والصلة المالية لا تكون إلا ممن يجد للمال فأما من لا يجد يعان بالمال فكيف يؤخذ منه ولا خراج على رؤس المماليك لأنه خلف عن النصرة والمملوك لا يملك نصرة القتال في نفسه إن لو كان مسلما فلا يلزمه ما هو خلف عن النصرة ثم هو أعسر من الحر الذي لا يجد شيئا لأنه ليس من أهل الملك أصلا ثم المملوك في السكنى تبع لمولاه ولا خراج في الأتباع كالنساء والصبيان ولا صدقة في أموال أهل الذمة من السوائم ومال التجارة في أوطانهم لأن الإمام في الباب عمر رضي الله عنه وهو لم يتعرض لأموالهم في ذلك بشيء لا أن يمروا على العاشر فقد بينا ذلك في الزكاة وكان المعنى فيه أن الأخذ من أموال المسلمين بطريق العبادة المحضة دون المؤنة فإن الشرع جعل الزكاة أحد أركان الدين والكافر ليس بأهل لذلك بخلاف الخراج والعشر فالأخذ من المسلم بطريق مؤنة الأرض ولهذا جاز أخذه من الكافر ولكن يؤخذ من الكافر ما هو أبعد عن معنى العبادة وأقرب إلى معنى الصغار وهو الخراج ومن أسلم من أهل الذمة قبل استكمال السنة أو بعدها قبل أن يؤخذ منه خراج رأسه سقط عنه ذلك عندنا وقال الشافعي إن أسلم بعد كمال السنة لم يسقط عنه وإن أسلم قبل كمال السنة فله فيه وجهان وحجته في ذلك أنه دين استقر وجوبه في ذمته فلا يسقط عنه بإسلامه كسائر الديون وبيان الوصف وهو أنه مطالب بأدائه مجبر على ذلك محبوس فيه كسائر الديون أو أقوى حتى إذا بعث بالجزية على يد نائبه لا تقبل بخلاف(10/136)
سائر الديون وبأن كان لا تجب ابتداء على المسلم فهذا لا يمنع بقاءه عليه بعد الإسلام كخراج الأراضي فالمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج على الأرض ثم يبقى وكذلك الرق لا يبتدأ به المسلم ثم يبقى رقيقا بعد الإسلام وكذلك الفقير لا تجب عليه الزكاة ابتداء ثم تبقى إذا استهلك النصاب بعد الوجوب عليه وهذا لأنه مؤنة السكنى فالإسلام لا ينافي استيفاءه كالأجرة وإنما لا يجب عليه بعد الإسلام ابتداء لأنه صار من أهل دار الإسلام أصلا وهذا بدل حقن الدم بمنزلة المال الواجب بالصلح عن القصاص فالإسلام لا يمنع استيفاءه إذا حصل له الحقن به فيما مضى ولكن لا يجب بعد الإسلام ابتداء لأنه حقن دمه بالإسلام.
وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس على مسلم جزية" وفي حديث عمر رضي الله عنه أن ذميا طولب بالجزية فأسلم فقيل له إنك أسلمت تعوذا فقال إن أسلمت تعوذا ففي الإسلام لمتعوذ فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال صدق فأمر بتخلية سبيله والمعنى فيه ما قررنا أن الوجوب عليهم بطريق العقوبة لا بطريق الديون وعقوبات الكفر تسقط بالإسلام كالقتل والدليل على أنه نظير القتل أنه يختص(10/137)
ص -66- ... بالوجوب عليه من يقتل على كفره حتى لا يوجب على النساء والصبيان وبه فارق خراج الأراضي والاسترقاق مع أن الاسترقاق عقوبة من حيث تبديل صفة المالكية بالمملوكية وقد تم ذلك حين استرق فهو عقوبة مستوفاة ووزانها جزية استوفيت قبل الإسلام ثم في حق المسلمين هذا المال خلف عن النصرة كما بينا وإذا أسلم فقد صار من أهل النصرة فيسقط ما هو الخلف لأنه لا بقاء للخلف بعد وجود الأصل ولأن أخذ الجزية منهم بطريق الصغار كما قال تعالى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ولهذا لا تقبل منه لو بعثها على يد نائبه بل يكلف بأن يأتى به بنفسه فيعطي قائما والقابض منه قاعد وفي رواية يأخذ بتلبيبه فيهزه هزا ويقول أعط الجزية يا ذمي وبعد الإسلام لا يمكن استيفاؤه بطريق الصغار لأن المسلم يوقر لإيمانه وإذا تعذر استيفاؤه من الوجه الذي وجب امتنع الاستيفاء لأنه لا يجوز أن يستوفي غير الواجب وإنما يتحقق استيفاء الواجب إذا استوفي بالصفة التي وجب وهذا بخلاف ما إذا استهلك النصاب في مال الزكاة بعد وجوبها لأن وجوب الزكاة على المسلم بطريق العبادة وبعد ما افتقر يستوفي بطريق العبادة أيضا حتى لو خرج من أن يكون أهلا للعبادة بأن ارتد نقول بأنه لا يبقى وقد بينا أن الجزية ليست بدين ولا بدل عن السكنى ولا بدل عن حقن الدم ولئن سلمنا له ذلك فإنما هو بدل عن الحقن في المستقبل لا فيما مضى وقد استفاد الحقن بالإسلام فلا معنى لأخذ الجزية منه بعد ذلك وعلى هذا الخلاف لو مات بعد مضي السنة عندنا لا يستوفي الجزية من تركته وعنده يستوفي اعتبارا بسائر الديون وطريقنا ما قررنا في المسألة الأولى ولأن هذه صلة والصلات لا تتم إلا بالقبض وتبطل بالموت قبل التسليم كالنفقات ودليل أنها صلة ما بينا أنها ليست ببدل عن السكنى لأنه بعقد الذمة صار من أهل دارنا فإنما يسكن دار نفسه ولا يسكن ملك نفسه حقيقة وقولنا دار الإسلام نسبة للولاية فلا يستحق باعتباره الأجرة(10/138)
ولا هو بدل عن حقن الدم لأن الآدمي في الأصل محقون الدم والإباحة بعارض القتال فإذا زال ذلك بعقد الذمة عاد الحقن الأصلي ولأن قتل الكافر جزاء مستحق لحق الله تعالى فلا يجوز إسقاطه بمال أصلا فإذا ثبت أنه ليس بعوض عن شيء عرفنا أنه صلة وفي الصلات المعتبر الفعل دون المال والأفعال لا يمكن استيفاؤها من التركة فإنما يبقى بعد الموت ما يمكن استيفاؤه ألا ترى أنه لو استأجر خياطا ليخيط ثوبه بيده فمات الخياط بطل العقد لأن المستحق الفعل ولا يمكن استيفاؤه من التركة وإن لم يمت ومرت عليه سنون قبل أن يؤخذ خراج رأسه لم يؤخذ بذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا باعتبار السنة التي هو فيها ويؤخذ في قولهما بجميع ما مضى إذا لم يكن ترك ذلك لعذر وتلقب هذه المسألة بالموانيذ وهما يقولان الموانيذ في خراج الرأس كالموانيذ في خراج الأرض ثم يستوفى جميع ذلك وإن طالت المدة فكذلك هنا وهذا لأنه ما بقى حيا مصرا على كفره فاستيفاؤه من الوجه الذي وجب ممكن بخلاف ما بعد إسلامه وموته ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان أحدهما أن الواجب عليهم بطريق العقوبة والعقوبات التي تجب لحق الله تعالى إذا اجتمعت تداخلت كالحدود وفي حقنا خلف عن(10/139)
ص -67- ... النصرة وهذا المعنى يتم باستيفاء جزية واحدة منه فلا حاجة إلى استيفاء ما مضى ولأن المقصود ليس هو المال بل المقصود استذلال الكافر واستصغاره لأن إصراره على الشرك في دار التوحيد جناية فلا ينفك عن صغار يجري عليه وهذا المقصود يحصل باستيفاء جزية واحدة فلو أخذناه بالموانيذ لم يكن ذلك إلا لمقصود المال وقد بينا أن المال غير مقصود ولهذا لا يبقى بعد موته وإسلامه ثم أوان أخذ خراج الرأس منه آخر السنة قبل أن يتحول وقد روى عن أبي يوسف أنه يؤخذ منه في كل شهرين بقسط ذلك وعن محمد أنه يؤخذ شهرا فشهرا ليكون أشد عليه وأقرب إلى تحصيل المنفعة للمسلمين والأصح هو الأول من أن المعتبر الحول كما في زكاة المال في حق المسلم وخراج الأراضي ولا يؤخذ بخراج الأرض في السنة إلا مرة واحدة وإن استغلها صاحبها مرات لحديث عمر رضي الله عنه فإنه ما أخذ الخراج من أهل الذمة في السنة إلا مرة واحدة ولأن ريع عامة الأراضي في السنة يكون مرة واحدة وإنما يبني الحكم على العام الغالب والأراضي يكون فيها الشجر الكبير يوضع عليها من الخراج بقدر الطاقة لأن عمر رضي الله عنه فيما وظفه اعتبر الطاقة فعرفنا أن ذلك هو الأصل فإذا عطل أرضه لم يسقط عنه خراجها لأنه هو الذي اختار ترك الاستغلال والانتفاع بها وقصد بذلك إسقاط حق مصارف الخراج فرد عليه قصده(10/140)
بخلاف العشر فالواجب هناك جزء من الخراج والإيجاب بدون المحل لا يتحقق وها هنا الواجب مال في ذمته باعتبار تمكنه من الانتفاع بالأرض فلم ينعدم ذلك بتعطيله الأرض وإن زرعها فأصاب الزرع آفة فذهب لم يؤخذ الخراج لأنه مصاب فيستحق المعونة ولو أخذناه بالخراج كان فيه استئصاله ومما حمد من سير الأكاسرة أنهم كانوا إذا اصطلم الأرض آفة يردون على الدهاقين من خزائنهم ما أنفقوا في الأرض ويقولون التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإن لم يرد عليه شيئا فلا أقل من أن لا يؤخذ منه الخراج وهذا بخلاف الأجر فإنه يجب بقدر ما كان الأرض مشغولا بالزرع لأن الأجر عوض المنفعة فبقدر ما استوفى من المنفعة يصير الأجر دينا في ذمته فأما الخراج صلة واجبة باعتبار الأراضي فلا يمكن إيجابها بعد ما اصطلم الزرع آفة لأنه ظهر أنه لم يتمكن من استغلال الأرض بخلاف ما إذا عطلها وإذا أسلم الذمي على أرضه كان عليه خراجها كما كان عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى يسقط ذلك وكذلك إذا باعها من مسلم واعتبر خراج الأرض بخراج الرأس فكما لا يجب على المسلم بعد إسلامه خراج الرأس فكذلك خراج الأرض ولكنا نقول الخراج مؤنة الأرض النامية كالعشر والمسلم من أهل التزام المؤنة وهذا لأنه بعد الإسلام لا يخلى أرضه عن مؤنة فإبقاء ما تقرر واجبا أولى لأنا إن أسقطنا ذلك احتجنا إلى إيجاب العشر بخلاف خراج الرأس فإنا لو أسقطنا ذلك عنه بعد إسلامه لا نحتاج إلى إيجاب مؤنة أخرى عليه ولا يكره للمسلم أداء خراج الأرض لما روى عن ابن مسعود والحسن بن علي وشريح رضي الله عنهم أنه كانت لهم أرضون بالسواد يؤدون خراجها فبهذا تبين أن خراج الأرض لا يعد من الصغار وإنما الصغار خراج الأعناق بخلاف(10/141)
ص -68- ... ما يقوله المتقشفة ويستدلون بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيئا من آلات الحراثة فقال "ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا" ظنوا أن المراد الذل بالتزام الخراج وليس كذلك بل المراد أن المسلمين إذا اشتغلوا بالزراعة واتبعوا أذناب البقر وقعدوا عن الجهاد كر عليهم عدوهم فجعلوهم أذلة تغلبي اشترى أرضا من أرض الخراج فعليه الخراج كما كان لأنه إنما يضعف عليه ما يبتدأ المسلم بالإيجاب عليه هكذا جرى الصلح بيننا وبينهم ولا يبتدأ المسلم بتوظيف الخراج على أرضه ألا ترى أن أهل بلدة لو أسلموا طوعا يجعل على أراضيهم العشر دون الخراج فلهذا لا يضعف الخراج على التغلبي وإن اشترى أرضا من أرض العشر ضوعف عليه العشر لأن العشر يبتدأ به المسلم فيضعف على التغلبي كالزكاة والرجل والمرأة والصبي منهم في ذلك سواء وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الزكاة وذكرنا قول محمد أن التضعيف عليهم في الأراضي التي وقع الصلح عليها فأما فيما اشتراها من مسلم لا تتغير الوظيفة بتغير المالك كما لا تتغير وظيفة الخراج إذا اشترى مسلم أرضا خراجية وكما لا تتغير وظيفة العشر إذا اشتراها مكاتب أو صبي.(10/142)
قال أرأيت لو أن أرضا بمكة في الحرم اشتراها ذمي أو تغلبي كانت تصير خراجية أو تتحول عن العشر الذي كان عليها قبل ذلك وإذا دخل الحربي دار الإسلام مستأمنا فتزوج امرأة ذمية لم يصر ذميا لأن الرجل ليس بتابع لامرأته في السكنى فهو بالنكاح لم يصر راضيا بالمقام في دارنا على التأبيد وإنما استأمن إلينا للتجارة والتاجر قد يتزوج في موضع لا يقصد التوطن فيه فلهذا لا يصير ذميا فإن أطال المقام وأوطن فحينئذ توضع عليه الجزية وينبغي للإمام أن يتقدم إليه ويأمره بالخروج إلى دار الحرب على سبيل الإنذار والإعذار وفي التقدم إليه إن بين مدة فقال إن خرجت إلى وقت كذا وإلا جعلتك ذميا فإن خرج إلى ذلك الوقت تركه ليذهب وإن لم يخرج لم يمكنه من الخروج بعد ذلك وجعله ذميا لأن مقامه بعد التقدم إليه حتى مضت المدة رضا منه بالمقام في دارنا على التأبيد وإن لم يقدر له مدة فالمعتبر هو الحول فإذا أقام في دارنا بعد ذلك حولا لا يمكنه من الخروج لأن هذا لإبلاء العذر والحول لذلك حسن كما في أجل العنين ونحوه وإن اشترى أرض خراج فزرعها يوضع عليه خراج الأرض والرأس أما خراج الأرض فلأنه مؤنة الأرض النامية وقد تقرر ذلك في حقه حين استغل الأرض ثم بالتزام خراج الأرض صار راضيا بالتزام أحكام دار الإسلام فيكون بمنزلة لذمي لأن الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والالتزام تارة يكون نصا وتارة يكون دلالة والحربية المستأمنة إذا تزوجت مسلما أو ذميا فقد توطنت وصارت ذمية لأن المرأة في السكنى تابعة للزوج ألا ترى أنها لا تملك الخروج إلا بإذنه فجعلها نفسها تابعة لمن هو من دارنا رضى بالتوطن في دارنا على التأبيد فرضاها بذلك دلالة كالرضا بطريق الإفصاح فلهذا صارت ذمية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(10/143)
ص -69- ... باب صلح الملوك والموادعة
قال رضي الله عنه ملك من ملوك أهل الحرب له أرض واسعة فيها قوم من أهل مملكته هم عبيد له يبيع منهم ما شاء صالح المسلمين وصار ذمة لهم فإن أهل مملكته عبيد له كما كانوا يبيعهم إن شاء لأن عقد الذمة خلف عن الإسلام في حكم الإحراز ولو أسلم كانوا عبيدا له لقوله صلى الله عليه وسلم "من أسلم على مال فهو له" فكذلك إذا صار ذميا وهذا لأنه كان مالكا لهم بيده القاهرة وقد استقرت يده وازدادت وكادة بعقد الذمة فإن ظهر عليهم عدو غيرهم ثم استنقذهم المسلمون من أيدي أولئك فإنهم يردون على هذا الملك بغير شيء قبل القسمة وبالقيمة بعد القسمة بمنزلة سائر أموال أهل الذمة وهذا لأن على المسلمين القيام بدفع الظلم عن أهل الذمة كما عليهم ذلك في حق المسلمين.(10/144)
وعلى هذا لو أسلم الملك وأهل أرضه أو أسلم أهل أرضه دونه فهم عبيد له كما كانوا لأنه كان محرزا لهم بعقد الذمة فيزداد ذلك قوة بإسلامه وإسلام مملوكه الذمي لا يبطل ملكه عنه وإن كان طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء من قتل أو صلب أو غيره مما لا يصلح في دار الإسلام لم يجب إلى ذلك لأن التقرير على الظلم مع إمكان المنع منه حرام ولأن الذمي من يلتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فشرطه بخلاف موجب العقد باطل كما لو أسلم بشرط أن يرتكب شيئا من الفواحش كان الشرط باطلا والأصل فيه ما روى أن وفد تقيف جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نؤمن بشرط أن لا ننحني للركوع والسجود فإنا نكره أن تعلونا استاهنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا خير في دين لا صلاة فيه ولا خير في صلاة لا ركوع فيها ولا سجود" فإن أعطى الصلح والذمة على هذا بطل من شروطه ما لا يصلح في الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فإن رضي بما يوافق حكم الإسلام وإلا أبلغ مأمنه هو وأصحابه لأن عقد الذمة يعتمد الرضى وما تم رضاه بدون هذا الشرط وقد تعذر الوفاء بهذا الشرط فإذا أبى أن يرضى بدون هذا الشرط يبلغ مأمنه كغيره من المستأمنين فإن التحرز عن الغدر واجب قال صلى الله عليه وسلم: "في العهود وفاء لا غدر فيه" بخلاف ما لو أسلم بشرط أن لا يصلي فإن الإسلام صحيح بدون تمام الرضى كما لو أسلم مكرها ولا يترك بعد صحة إسلامه ليرتد فيرجع إلى الكفر فإن صار ذمة ثم وقفت منه على أنه يخبر المشركين بعورة المسلمين ويقري عيونهم لم يكن هذا منه نقضا للعهد ولكن يعاقب على هذا ويحبس.(10/145)
وقال مالك رحمه الله تعالى هو ناقض للعهد بما صنع فيقتل وكذلك إن كان لا يزال يغتال رجلا من المسلمين فيقتله أو يفعل ذلك أهل أرضه لم يكن هذا نقضا للعهد عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى هو نقض لأنه خلاف موجب العقد فإن الذمي من ينقاد لحكم الإسلام في المعاملات ويكون مقهورا في دار الإسلام تحت يد المسلمين ومباشرة ما كان يخالف موجب العقد يكون نقضا للعهد ولكنا نقول لو فعل هذا مسلم لم يكن به ناقضا لإيمانه فكذلك إذا فعله ذمي لا يكون ناقضا لأمانه والأصل فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة(10/146)
ص -70- ... وفيه نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وقصته فيما صنع معروفة في المغازي وقد سماه الله تعالى مؤمنا مع ذلك وحديث أبي لبابة بن المنذر وفيه نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] وقصته فيما أخبر به بني قريظة معروفة وقد سماه الله مؤمنا فعرفنا أن مثل هذا لا يكون نقضا للإيمان ولا للذمة ولكن من ثبت عليه القتل بالبينة يقتص منه فإن لم يعرف القاتل ووجد القتيل في قرية من قراهم ففيه القسامة والدية كما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتيل الموجود بخيبر فيحلف الملك خمسين يمينا بالله ما قتلت ولا عرفت قاتله ثم يغرم الدية ولا يحلف بقية أهل مملكته لأنهم عبيده والعبيد لا يزاحمون الأحرار في القسامة والدية فإن كانوا أحرارا فعليهم القسامة والدية لأنهم يساوونه في الحرية والسكنى في القرية فيشاركونه في القسامة والدية وإذا طلب قوم من أهل الحرب الموادعة سنين بغير شيء نظر الإمام في ذلك فإن رآه خيرا للمسلمين لشدة شوكتهم أو لغير ذلك فعله لقوله تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين فكان ذلك نظرا للمسلمين لمواطئة كانت بين أهل مكة وأهل خيبر وهي معروفة ولأن الإمام نصب ناظرا ومن النظر حفظ قوة المسلمين أولا فربما يكون ذلك في الموادعة إذا كانت للمشركين شوكة أو احتاج إلى أن يمعن في دار الحرب ليتوصل إلى قوم لهم بأس شديد فلا يجد بدا من أن يوادع من على طريقه وإن لم تكن الموادعة خيرا للمسلمين فلا ينبغي أن يوادعهم لقوله تعالى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ولأن قتال المشركين فرض وترك ما هو(10/147)
الفرض من غير عذر لا يجوز فإن رأى الموادعة خيرا فوادعهم ثم نظر فوجد موادعتهم شرا للمسلمين نبذ إليهم الموادعة وقاتلهم لأنه ظهر في الانتهاء ما لو كان موجودا في الابتداء منعه ذلك من الموادعة فإذا ظهر ذلك في الانتهاء منع ذلك من استدامة الموادعة وهذا لأن نقض الموادعة بالنبذ جائز قال صلى الله عليه وسلم "يعقد عليهم أولاهم ويرد عليهم أقصاهم" ولكن ينبغي أن ينبذ إليهم على سواء قال تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك فعرفنا أنه لا يحل قتالهم قبل النبذ وقبل أن يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصن وكان ذلك للتحرز عن الغدر فإن حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على أن يؤدي إليهم المسلمون شيئا معلوما كل سنة فلا ينبغي للإمام أن يجيبهم إلى ذلك لما فيه من الدينة والذلة بالمسلمين إلا عند الضرورة وهو أن يخاف المسلمون الهلاك على أنفسهم ويرى الإمام أن هذا الصلح خير لهم فحينئذ لا بأس بأن يفعله لما روى أن المشركين أحاطوا بالخندق وصار المسلمون كما قال الله تعالى {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11] بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبيدة بن حصن وطلب منه أن يرجع بمن معه على أن يعطيه كل سنة ثلث ثمار المدينة فأبى إلا النصف فلما حضر رسله ليكتبوا الصلح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام سيد الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما وقالا:(10/148)
ص -71- ... يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض لما أمرت به وإن كان رأيا رأيته فقد كنا نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لهم دين فكانوا لا يطمعون في ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى فإذا أعزنا الله بالدين وبعث فينا رسوله نعطيهم الدنية لا نعطيهم إلا السيف فقال صلى الله عليه وسلم "إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فأحببت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم ذلك فأنتم وأولئك اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف" فقد مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلح في الابتداء لما أحس الضعف بالمسلمين فحين رأى القوة فيهم بما قاله السعدان رضي الله عنهما امتنع من ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الصدقة لدفع ضررهم عن المسلمين فدل على أنه لا بأس بذلك عند خوف الضرر وهذا لأنهم إن ظهروا على المسلمين أخذوا جميع الأموال وسبوا الذراري فدفع بعض المال ليسلم المسلمون في ذراريهم وسائر أموالهم أهون وأنفع وإن أراد قوم من أهل الحرب من المسلمين الموادعة سنين معلومة على أن يؤدي أهل الحرب الخراج إليهم كل سنة شيئا معلوما على أن لا تجري أحكام الإسلام عليهم في بلادهم لم يفعل ذلك إلا أن يكون في ذلك خير للمسلمين لأنهم بهذه الموادعة لا يلتزمون أحكام الإسلام ولا يخرجون من أن يكونوا أهل حرب وقد بينا أن ترك القتال مع أهل الحرب لا يجوز إلا أن يكون خيرا للمسلمين فإذا رأى الإمام منفعة في ذلك فصالحهم فإن كان قد أحاط مع الجيش ببلادهم فما يأخذ منهم يكون غنيمة يخمسها ويقسم ما بقى بينهم لأنه توصل إليها بقوة الجيش فهو كما لو ظهر عليهم بالفتح فإن لم ينزل مع الجيش بساحتهم ولكنهم أرسلوا إليه وادعوه على هذا فما يأخذ منهم بمنزلة الجزية لا خمس فيها بل يصرف مصارف الجزية وإن وقع الصلح على أن يؤدوا إليهم كل سنة مائة رأس فإن كانت هذه المائة الرأس يؤدونها من أنفسهم وأولادهم لم يصح هذا لأن الصلح وقع على جماعتهم فكانوا جميعا(10/149)
مستأمنين واسترقاق المستأمن لا يجوز ألا ترى أن واحدا منهم لو باع ابنه بعد هذا الصلح لم يجز وكذلك لا يجوز تمليك شيء من نفوسهم وأولادهم بحكم تلك الموادعة لأن حريتهم تأكدت بها وإن صالحوهم على مائة رأس بأعيانهم أول السنة وقالوا أمنونا على أن هؤلاء لكم ونصالحكم ثلاث سنين مستقبلة على أن نعطيكم كل سنة مائة رأس من رقيقنا فهذا جائز لأن المعينين في السنة الأولى لا تتناولهم الموادعة وباعتباره يثبت الأمان فإذا جعلوهم مستثنين من الموادعة بجعلهم إياهم عوضا للمسلمين صاروا مماليك للمسلمين بالموادعة ثم شرطوا في السنين المستقبلة مائة رأس من رقيقهم في كل سنة ورقيقهم قابل للملك والتملك بالبيع فكذا بالموادعة وهذا لأن الموادعة ليست بمال في نفسها واشتراط الحيوان دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال صحيح إذا كان معلوم الجنس كما في النكاح والخلع وإذا وقع الصلح على هذا ثم سرق منه مسلم شيئا لم يصح شراء ذلك منه لأنهم استفادوا الأمان في أنفسهم وأموالهم ومال المستأمن لا يملك بالسرقة وإذا لم يملكه السارق لم يحل شراؤه منه ولأن ما صنعه غدر يؤدبه الإمام علي ذلك إذا علمه منه وفي الشراء منه إغراء له هذا الغدر وتقرير ذلك لا يحل.(10/150)
ص -72- ... فإن أغار عليهم قوم من أهل الحرب جاز أن يشتري منهم ما أخذوا من أموالهم ورقيقهم لأنهم تملكوها عليهم بالإحراز ولو تملكوا ذلك من أموال المسلمين جاز شراؤها منهم فمن أموال أهل الحرب أولى ثم لا يرد عليهم شيء من ذلك مجانا ولا بالثمن لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب حين لم ينقادوا لحكم الإسلام فلا يجب على المسلمين القيام بنصرتهم وبه فارق مال المسلمين وأهل الذمة ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد لأنهم أهل حرب وإن كانوا موادعين ألا ترى أنهم بعد مضي المدة يعودون حربا للمسلمين ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات ما خلا الكراع والسلاح فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين فيمنعون من حمله إليهم وكذلك الحديد فإنه أصل السلاح قال الله تعالى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ومن دخل منهم دار الإسلام بغير أمان جديد سوى الموادعة لم يتعرض له لأنه آمن بتلك الموادعة ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يتعرضوا له في داره فكذلك إذا دخل دار الإسلام وقد دخل أبو سفيان رضي الله عنه المدينة في زمن الهدنة ولم يتعرض له أحد بشيء وكذلك لو دخل رجل منهم دار حرب أخرى فظهر المسلمون عليهم لم يتعرضوا له لأنه في أمان المسلمين حيث كان بمنزلة ذمي يدخل دار الحرب ثم يظهر المسلمون على تلك الدار وإذا اشترى الحربي المستأمن في دار الإسلام عبدا مسلما أو ذميا أو أسلم بعض عبيده الذين أدخلهم لم يترك ليرده إلى دار الحرب لأنه مسلم ولا يترك في ملك الكافر ليستذله ولكن يجبر على بيعه من المسلمين بمنزلة الذمي يسلم عبده.
فإن قيل: الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والمستأمن غير ملتزم لذلك.(10/151)
قلنا: المستأمن ملتزم ترك الاستخفاف بالمسلمين فإنا ما أعطيناه الأمان ليستذل المسلم إذ لا يجوز إعطاء الأمان على هذا فلهذا يجبر على بيعه وإن رجع المستأمن إلى دار الحرب وقد أدان في دار الإسلام وأودع ودبر ثم أسر وظهر على تلك الدار وقتل فنقول أما مدبروه وأمهات أولاده فهم أحرار إن قتل فغير مشكل وكذلك إذا استرق لأنه صار مملوكا والرق إتلاف له حكما ولأنهم خرجوا من ملكه لوجود المنافي ولا يصيرون في ملك غيره لأن المدبر وأم الولد لا يحتمل ذلك فلهذا كان حرا وأما الدين فهو يسقط عمن عليه لخروجه من أن يكون أهلا للملك ولأن الدين لا يرد عليه القهر ليصير مملوكا للسابي إذ هو في ذمة من عليه ويده إلى ما في ذمته أسبق من يد غيره فصار محرزا له والودائع فيء لأنها تدخل تحت القهر ويد المودع كيد المودع ولو كانت في يده حين سبي كان ذلك فيئا فكذلك إن كان في يد مودعه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها مملوكة للمودعين لأن أيديهم إليها أسبق حين سقط عنها يد الحربي بالأسر فصاروا محرزين لها دون الغانمين وهذا كله لأن بقاء حكم الأمان له في هذه الأموال ما لم يتقرر المنافي وقد تقرر ذلك حين أسر وظهر المسلمون على الدار.(10/152)
ص -73- ... وإن دخل بعبده المسلم الذي اشتراه أو أسلم في يده في دار الحرب عتق في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يعتق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله حتى يظهر المسلمون على الدار أو يخرج مراغما لمولاه لأنه كان قاهرا له في دارنا حكما بعقد الأمان وفي دار الحرب حسا بقوته فيبقى مملوكا له حتى يصير العبد قاهرا له وذلك بخروجه مراغما أو ظهور المسلمين عليه ألا ترى أنه لو كان في دار الحرب حين أسلم عبده لم يعتق إلا بأحد هذين الوجهين فكذلك إذا أدخله دار الحرب وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله لهذه المسألة في كتاب العتاق وفيه طريق آخر نذكره ها هنا وهو أنه حين انتهى به إلى آخر جزء من أجزاء دار الإسلام فقد ارتفع حكم الأمان الذي بيننا وبينه وبقاء ملكه بعد إسلام العبد كان بحكم الأمان فإذا ارتفع زال ذلك الملك وحصل العبد في يد نفسه فيعتق وهي يد محترمة فتكون دافعة لقهره وإن أدخله دار الحرب فلا يثبت له باعتبار هذا القهر الملك في دار الحرب.
فإن قيل: بارتفاع الأمان زال صفة الحظر لا أصل الملك كمن أباح لغيره شيئا لا يزول أصل ملكه به فملكه المباح في دار الحرب إبقاء ما كان من الملك لا إثبات ملك له فيه ابتداء.
قلنا: ما كان ملكه بعد إسلام العبد في دار الإسلام إلا باعتبار صفة الحظر فإنه لو لم يكن مستأمنا لكان العبد المسلم قاهرا له في دار الإسلام وكان حرا فإذا زال الحظر بزوال الأمان زال أصل الملك.(10/153)
قال ألا ترى أنه في دار الحرب لو قتل مولاه وأخذ ماله وخرج إلينا كان حرا وكان ما خرج به من المال له وهذا إشارة إلى ما بينا أنه ظهرت يده في نفسه وهي يد محترمة وكذلك لو كان هذا العبد الذي اشتراه وأدخله ذميا لأن للذمي يدا محترمة في نفسه كما للمسلم ولو أسلم عبد الحربي في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار فالعبد حر لإحرازه نفسه بمنعة المسلمين وإن أسلم مولاه قبل أن يظهر المسلمون عليه فهو عبد له على حاله لأن بإسلام العبد لم يزل ملكه عنه "ومن أسلم على مال فهو له" ولو كان حين أسلم عبده باعه من مسلم أو ذمي أو حربي فهو حر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن العبد المسلم متى زال ملك الحربي عنه يزول إلى العتق كما لو خرج مراغما وكان أبو بكر الرازي يقول بمجرد البيع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتق ما لم يخرجه من يده بالتسليم فإذا أخرجه ثم زال قهره عنه فحينئذ يعتق ولا يثبت عليه قهر المشتري لأنه مسلم في يد نفسه ويده دافعة للقهر عنه سواء كان من مسلم أو ذمي أو حربي وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يعتق لأن ملك المشتري ويده كملك البائع ويده وقبل البيع كان مملوكا للبائع باعتبار يده فكذلك بعد البيع وقد بينا هذه المسألة مع أخواتها في كتاب العتاق وإذا مات المستأمن في دار الإسلام عن مال وورثته في دار الحرب وقف ماله حتى يقدم ورثته لأنه وإن كان في دارنا صورة فهو في الحكم كأنه في دار الحرب فيخلفه ورثته في دار الحرب في إملاكه وبموته في دارنا لا يبطل حكم الأمان الذي كان ثبت له بل ذلك باق في ماله فيوقف لحقه حتى يقدم ورثته(10/154)
ص -74- ... وإذا قدموا فلا بد من أن يقيموا البينة ليأخذوا المال لأنهم بمجرد الدعوى لا يستحقون شيئا فإن أقاموا بينة من أهل الذمة ففي القياس لا نقبل هذه البينة لأن المال في يد إمام المسلمين وحاجتهم إلى استحقاق اليد على المسلمين وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في الاستحقاق على المسلمين وفي الاستحسان تقبل شهادتهم ويدفع المال إليهم إذا شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا غيرهم لأنهم يستحقون المال على المستأمن فإن المال موقوف لحقه وشهادة أهل الذمة حجة على المستأمن ولأنهم لا يجدون شهودا مسلمين على وراثتهم عادة فإن أنسابهم في دار الحرب لا يعرفها المسلمون فهو بمنزلة شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ويؤخذ منهم كفيل بما أدرك في المال من درك قيل هو قولهما دون قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى كما فيما بين المسلمين وقيل بل هذا قولهم جميعا لأن المال مدفوع إليهم بحجة ضعيفة فلا يدفع إلا بعد الاحتياط بكفيل ولا يقبل كتاب ملكهم في ذلك لأن ملكهم كافر لا أمان له ولو شهد لم تقبل شهادته فكيف يقبل كتابه وإن شهد على كتابه وختمه قوم من المسلمين فكذلك الجواب لأنه في حق المسلمين كواحد من العوام أو دونه وكتابه وختمه لا يكون حجة وإذا أراد الحربي المستأمن أن يرجع إلى دار الحرب لم يترك أن يخرج معه كراعا وسلاحا أو حديدا أو رقيقا اشتراهم في دار الإسلام مسلمين أو كفارا كما لا يترك تجار المسلمين ليحملوا إليهم هذه الأشياء وهذا لأنهم يتقوون بها على المسلمين ولا يجوز إعطاء الأمان له ليكتسب به ما يكون قوة لأهل الحرب على قتال المسلمين وفي العبيد لا إشكال لأنهم مسلمون وأهل الذمة فلا يترك أن يدخل بهم ليعودوا حربا للمسلمين ولا يمنع أن يرجع بما جاء به من هذه الأشياء لأنه كان معه في دار الحرب فبإعادته لا يزدادون قوة لم تكن لهم بخلاف ما اشتراه في دار الإسلام ولأنا أمناه على ما في يده من المال وكما لا يمنع هو من الرجوع للوفاء(10/155)
بذلك الأمان فكذلك لا يمنع من أن يرجع بما جاء به فإن كان جاء بسيف فباعه واشترى مكانه قوسا أو رمحا أو ترسا لم يترك أن يخرج به مكان سيفه لأن معنى القوة يختلف باختلاف الأسلحة فإنما قصد بما صنع أن يزداد قوة علينا ولأنه قد يكثر فيهم نوع من أنواع الأسلحة ويعز نوع آخر خير فيقصدون تحصيل ذلك لهم بهذا الطريق وكذلك إذا استبدل بسيفه سيفا آخر خيرا منه لأن بتلك الزيادة يزدادون قوة ولم يكن استحق ذلك حين أمناه فيمنع من تحصيل تلك الزيادة ولا يمكن منعه من ذلك إلا بأن يمنع من إدخاله هذا السيف بأصله دارهم وإن كان هذا السيف مثل الأول أو شرا منه لم يمنع أن يدخل به لأنه بمنزلة الأول إذ ليس فيه زيادة قوة لهم وجنس المنفعة واحد فكما لو أعاد الأول إلى دار الحرب لم يمنع منه فكذلك إذا أعاد مثله وله أن يخرج بما شاء من الأمتعة سوى ما ذكرنا كما للتاجر المسلم أن يحمل إليهم ما شاء من سائر الأمتعة للتجارة وللشافعي رحمه الله تعالى قول أنه يمنع من ذلك أيضا لأنهم يزدادون قوة بما يحمل طعاما كان أو ثيابا أو سلاحا ولكنا نستدل بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أبي سفيان رضي الله عنه تمر عجوة حين كان بمكة حربيا واستهداه أدما وبعث بخمسمائة دينار(10/156)
ص -75- ... إلى أهل مكة حين قحطوا لتفرق بين المحتاجين منهم ولأن بعض ما يحتاج إليه المسلمون من الأدوية وغيرها يحمل من دار الحرب فإذا منعنا تجار المسلمين من أن يحملوا إليهم ما سوى السلاح فهم يمنعون ذلك أيضا وفيه من الضرر ما لا يخفى.
وإذا بعث الحربي عبدا له تاجرا إلى دار الإسلام بأمان فأسلم العبد فيها بيع وكان ثمنه للحربي لأن الأمان يثبت له في مالية العبد حين خرج العبد بأمان منقادا له ولو كان المولى معه فأسلم أجبر على بيعه وكان ثمنه له فكذلك إذا لم يكن المولى معه قلنا: يباع لإزالة ذل الكفر عن المسلم ويكون ثمنه للحربي للأمان له في هذه المالية وإذا وجد الحربي في دار الإسلام فقال أنا رسول فإن أخرج كتابا عرف أنه كتاب ملكهم كان آمنا حتى يبلغ رسالته ويرجع لأن الرسل لم تزل آمنة في الجاهلية والإسلام وهذا لأن أمر القتال أو الصلح لا يتم إلا بالرسل فلا بد من أمان الرسل ليتوصل إلى ما هو المقصود ولما تكلم رسول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بما كرهه قال "لولا أنك رسول لقتلتك" وفي هذا دليل أن الرسول آمن ثم لا يتمكن من إقامة البينة على أنه رسول فلو كلفناه ذلك أدى إلى الضيق والحرج وهذا مدفوع فلهذا يكتفي بالعلامة والعلامة أن يكون معه كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم فإذا أخرج ذلك فالظاهر أنه صادق والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته وإن لم يخرج كتابا أو أخرج ولم يعلم أنه كتاب ملكهم فهو وما معه فيء لأن الكتاب قد يفتعل وإذا لم يعلم أنه كتاب ملكهم بختم وتوقيع معروف فالظاهر أنه افتعل ذلك وأنه لص مغير في دار الإسلام فحين أخذناه احتال بذلك ليتخلص من أيدينا ولهذا كان فيئا مع ما معه.(10/157)
وإن ادعى أنه دخل بأمان لم يصدق وهو فيء لأن حق المسلمين قد ثبت فيه حين تمكنوا منه من غير أمان ظاهر له فلا يصدق هو في إبطال حقهم وإذا خرج قوم من أهل الحرب مستأمنين لم يعرض لهم فيما كان جرى بينهم في دار الحرب من المداينات لأنهم بالدخول بأمان ما صاروا من أهل دارنا وقد كانت هذه المعاملة بينهم حين لم يكونوا تحت يد الإمام فلا يسمع الإمام الخصومة في شيء من ذلك إلا أن يلتزموا حكم الإسلام وذلك يكون بعقد الذمة فإن كان ذلك جرى بينهم في دار الإسلام أخذوا به لأنهم كانوا تحت يد الإمام حين جرت هذه المعاملة بينهم وما أمناهم ليظلم بعضهم بعضا بل التزمنا لهم أن نمنع الظلم عنهم فلهذا تسمع الخصومة التي جرت بينهم في دارنا كما لو جرت بينهم وبين المسلمين ولو أن حربيا دخل دار الإسلام بغير أمان فأخذه واحد من المسلمين فهو فيء لجماعة المسلمين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهي رواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وظاهر المذهب عند أبي يوسف وهو قول محمد رحمهما الله تعالى أنه لمن أخذه خاصة وحجتهما في ذلك أن يد الآخذ سبقت إليه وهو مباح في دارنا فمن سبقت يده إليه صار محرزا له فاختص بملكه كالصيد والحطب والركاز الذي يجده في دار الإسلام وهذا لأنه(10/158)
ص -76- ... وإن دخل دارنا فلم يصر به مأخوذا مقهورا لعدم علم المسلمين به ألا ترى أنه لو عاد إلى دار الحرب قبل أن يعلم به كان حرا فإنما صار مقهورا بالأخذ فكان للآخذ خاصة كما لو أخذه في دار الحرب وأخرجه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه طريقان أحدهما أن نواحي دار الإسلام تحت يد إمام المسلمين ويده يد جماعة المسلمين فهو كما دخل دار الإسلام صار في يد المسلمين حكما فصار مأخوذا وثبت فيه حق جماعة المسلمين فمن أخذه بعد ذلك فإنما استولى على ما ثبت فيه حق المسلمين فلا يختص به كما إذا استولى على مال بيت المال ولكن هذا اليد حكمية فتظهر في حق المسلمين ولا تظهر في حق أهل الحرب فلهذا إذا عاد إلى دار الحرب قبل أن يعلم به كان حرا حربيا على حاله ولأن الحق الثابت فيه ضعيف فهو بمنزلة حق الغانمين في دار الحرب وهناك من عاد من الأسرى إلى منعة أهل الحرب قبل الإحراز يكون حرا فهنا من عاد قبل أن يعلم به يكون حرا ولكنه لا يختص به الآخذ لثبوت الحق للجماعة فيه والثاني أن الآخذ إنما تمكن منه بقوة المسلمين لأنه رقباني مثله يدفعه عن نفسه فإنما صار قاهرا له بقوة المسلمين فلهذا لا يختص به وهو نظير السرية مع الجيش في دار الحرب فإن السرية لا تختص بما أخذت لأن تمكنهم بقوة الجيش فهذا مثله والمسلمون بمنزلة المدد للآخذ وتأكد الحق بالأخذ والإحراز وقد شاركوه في الإحراز وإن اختص هو بالأخذ وقد بينا أن المدد يشاركون الجيش إلا أن الإحراز هناك بعد الأخذ وها هنا الإحراز سبق الأخذ فإذا شاركوه بالمشاركة في الإحراز بعد الأخذ فلان يشاركوه بالإحراز منهم قبل أخذه أولى وبه فارق الصيد والحطب لأن تمكنه من هذه الأشياء لم يكن بقوة المسلمين إذ لا دفع في المال ولكن الطريق الأول أصح فإن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا أسلم قبل أن يؤخذ فهو رقيق للمسلمين ومن أسلم قبل الأخذ فحريته تتأكد بإسلامه كما لو أسلم في دار الحرب فلولا أنه صار(10/159)
مأخوذا بالدار لكان حرا إذا أسلم قبل أن يؤخذ وعندهما إذا أسلم قبل أن يؤخذ فهو حر لا سبيل عليه لأن سبب الرق فيه الأخذ والمسلم لا يسترق فكان حرا ولو أسلم ثم رجع إلى دار الحرب قبل أن يؤخذ فهو حر بالاتفاق كما لو رجع قبل أن يسلم ثم في وجوب الخمس فيه إذا أخذ روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين قال المأخوذ بمنعة الدار كالمأخوذ بمنعة الجيش يكون غنيمة يخمس وفي الرواية الأخرى قال الخمس فيما أوجف عليه المسلمون ولم يوجد ذلك ها هنا فهو بمنزلة الجزية والخراج لا خمس فيها ولأن الحق فيه لجماعة المسلمين يصرف إلى بيت المال فلا فائدة في إيجاب الخمس فيه وكذلك عن محمد رحمه الله تعالى روايتان في إيجاب الخمس فيه في إحدى الروايتين جعله كالحطب والصيد فلا خمس فيه لأنه ما أصيب بطريق فيه إعزاز الدين وفي الرواية الأخرى قال فيه الخمس بمنزلة الركاز وهذا لأن الواجد إنما أخذه بقوة المسلمين وأذن الإمام له في ذلك فإن الإمام أذن في مثله لكل مسلم ولو أخذه في دار الحرب(10/160)
ص -77- ... بهذا الطريق اختص به وكان فيه الخمس فكذلك إذا أخذه في دار الإسلام وإن دخل الحرم قبل أن يؤخذ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يؤخذ ويكون فيئا للمسلمين لأن حقهم ثبت فيه قبل أن يدخل الحرم فهو كعبد من عبيد بيت المال دخل الحرم وهذا لأنه قبل أن يدخل الحرم كان يجوز قتله واسترقاقه فبدخوله الحرم استفاد الأمن من القتل فيبقى حكم الرق فيه للمسلمين كما لو أسلم فأما عندهما لا يتعرض له في الحرم لأنه لم يصر مأخوذا عندهما فهو حر مباح الدم التجأ إلى الحرم فلا يتعرض له في الحرم ولكن لا يطعم ولا يسقي ولا يؤوى حتى يخرج وقد بينا هذا في المناسك فإن أسلم الحربي في الحرم قبل أن يخرج فهو حر عندهما لأنه لم يصر مأخوذا بالدار فتتأكد حريته بالإسلام وليس لأحد أن يتعرض له بعد ذلك بشيء وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فداينهم أو داينوه أو غصبهم شيئا أو غصبوه لم يحكم فيما بينهم بذلك فإنهم فعلوا ذلك حيث لا تجري عليهم أحكام المسلمين أما إذا غصبهم فلأن أموالهم في حقنا على أصل الإباحة وإنما ضمن المستأمن لهم أن لا يخونهم وإنما غدر بأمان نفسه دون أمان الإمام فيفتي بالرد ولا يجبر عليه في الحكم وإن غصبوه فقد غدروا بأمانهم حين لم يكونوا ملتزمين لحكم الإسلام ولو قتلوه لم يضمنوا فإذا أتلفوا ماله أو غصبوه شيئا أولى وهذا لأنه عرض نفسه لذلك حين فارق منعة المسلمين ودخل إليهم فأما في المداينة فهم وإن خرجوا بأمان لم يلتزموا أحكام المسلمين فلا تسمع الخصومة عليهم في مداينة كانت في دارهم ولا تسمع الخصومة على المسلم منهم أيضا لتحقيق معنى التسوية بين الخصمين إلا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول تسمع الخصومة على المسلم لأنه ملتزم أحكام الإسلام حيث ما يكون وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقدا أو نسيئة أو بايعهم في الخمر والخنزير والميتة فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجوز(10/161)
شيء من ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون ومن حكم الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة ألا ترى أنه لو فعله مع المستأمنين منهم في دارنا لم يجز فكذلك في دار الحرب وهما يقولان هذا أخذ مال الكافر بطيبة نفسه ومعنى هذا أن أموالهم على أصل الإباحة إلا أنه ضمن أن لا يخونهم فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز عن الغدر ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد وبه فارق المستأمنين في دارنا لأن أموالهم صارت معصومة بعقد الأمان فلا يمكنه أخذها بحكم الإباحة والأخذ بهذه العقود الباطلة حرام وتمام هذه الفصول في كتاب الصرف وإن قتل المسلم في دارنا حربيا مستأمنا عمدا أو خطأ أو قطع يده فلا قود عليه لبقاء شبهة الإباحة في دم المستأمن فإنه حربي حكما فلا يمكن المساواة بينه وبين من هو من أهل دارنا في العصمة والقصاص يعتمد المساواة ولكن عليه دية الحر المسلم لأن أصل العصمة تثبت موجبة للتقوم في نفسه حين استأمن إلينا ألا ترى أن العصمة(10/162)
ص -78- ... المتقومة تثبت في ماله بهذا القدر من الإحراز حتى يضمن بالإتلاف ففي نفسه أولى وصار حاله في قيمة نفسه كحال الذمي فكما يسوي بين دية الذمي والمسلم عندنا فكذلك يسوي بين دية المسلم والمستأمن والله أعلم بالصواب.
باب نكاح أهل الحرب ودخول التجار إليهم بأمان
قال رضي الله عنه حربي تزوج امرأة حربية لها زوج ثم أسلما وخرجا إلى دارنا لم تحل له إلا بنكاح جديد لأن العقد الذي كان بينهما في دار الحرب لغو فإنها كانت منكوحة الغير يومئذ ونكاح المنكوحة لا يحله أحد من أهل الأديان فكانا أجنبين حين أسلما فلا يحل له أن يطأها إلا بنكاح جديد كما لو لم يسبق بينهما ذلك العقد في دار الحرب وإذا تزوج الحر الحربي أربع نسوة ثم سبى وسبين معه فلا نكاح بينه وبينهن سواء تزوجهن في عقدة أو في عقد لأن الرق المعترض في الزوج ينافي نكاح الأربع بقاء وابتداء وليس بعضهن بأولى من البعض في التفريق بينه وبينها فتقع الفرقة بينه وبينهن كما لو تزوج رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما ولا فرق فالمنافي هناك عارض في المحل بعد صحة نكاحهما وهو الأختية وها هنا عارض في الزوج بعد صحة نكاحهن فإن كانت قد ماتت امرأتان منهن فنكاح الباقيتين جائز لأنه حين استرق فليس في نكاحه إلا اثنتين ورقه لا ينافي نكاح اثنتين ابتداء ولا بقاء وقد تقدم بيان هذه الفصول في النكاح وذكرنا أنه يكره للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب ولا بأس له أن يتناول من ذبائح أهل الكتاب منهم وذلك منقول عن علي رضي الله عنه ثم كراهة النكاح لمعنى كراهة التوطن فيهم أو مخافة أن يبقى له نسل في دار الحرب أو ما فيه من تعريض ولده للرق إذا سبيت والولد في بطنها وذلك لا يوجد في الذبائح.(10/163)
وإذا قتل المسلم المستأمن في دار الحرب إنسانا منهم أو استهلك ماله لم يلزمه غرم ذلك إذا خرجوا لأنهم لو فعلوا ذلك به لم يلزمهم غرم فكذلك إذا فعل بهم وهذا لأنهم غير ملتزمين أحكام الإسلام في دار الحرب حيث جرى ذلك بينهم وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم لأن الغدر حرام قال صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء يركز عند باب أسته يوم القيامة يعرف به غدرته" فإن غدر بهم وأخذ ما لهم وأخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بكسب خبيث وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين قتل أصحابه وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس ماله فقال "أما إسلامك فمقبول وأما مالك فمال غدر فلا حاجة لنا فيه" فإن اشتراه أجزته لأنه صار مالكا للمال بالإحراز والنهي عن الشراء منه ليس لمعنى في عين الشراء فلا يمنع جوازه وإن كانت جارية كرهت للمشتري أن يطأها لأنه قائم فيها مقام البائع وكان يكره للبائع وطئها فكذلك للمشتري وهذا بخلاف المشتراة شراء فاسدا إذا باعها المشتري جاز للثاني وطئها بعد(10/164)
ص -79- ... الاستبراء لأن الكراهة في حق الأول لبقاء حق البائع في الاسترداد وقد زال ذلك بالبيع الثاني وها هنا الكراهة لمعنى الغدر وكونه مأمورا بردها عليهم دينا وهذا المعنى في حق الثاني كهو في حق الأول فإن أصاب أهل هذه الدار سبايا من غيرهم من أهل الحرب وسع هذا المسلم أن يشتريها منهم لأنهم ملكوا ذلك بالإحراز بمنعتهم فإنهم نهبة يملك بعضهم على بعض نفسه وماله بالإحراز فحل للمستأمن إليهم شراء ذلك منهم كسائر أموالهم وكذلك إن سبي أهل الدار التي هو فيها جاز له أن يشتريهم من السابين لأنهم ملكوهم بالإحراز وقد كانوا على أصل الإباحة في حقه إنما كان الواجب عليه أن لا يغدر بهم وليس ذلك من الغدر في شيء وكذلك لو أن المسلمين وادعوا قوما من أهل الحرب ثم أغار عليهم قوم آخرون أهل حرب لهم فلهذا المسلم أن يشتري السبي منهم لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب ولكن علينا أن لا نغدر بهم وقد صاروا مملوكين للسابي بالإحراز فيجوز شراؤه منهم كسائر الأموال وإن كان الذين سبوهم قوم من المسلمين غدروا بأهل الموادعة لم يسع المسلمون أن يشتروا من ذلك السبي وإن اشتروا رددت البيع لأنهم كانوا في أمان من المسلمين فإن أمان بعض المسلمين كأمان الجماعة ولا يملك المسلمون رقاب المستأمنين وأموالهم بالإحراز وهذا بخلاف ما لو كان دخل إليهم رجل بأمان ثم استولى عليهم المسلمون لأن هناك المسلم ما أمنهم ولكنهم أمنوه وكيف يقال قد أمنهم وهو مقهور غير ممتنع منهم فلهذا حل للمسلمين سبيهم وها هنا هم في أمان من المسلمين لأنه أمنهم من له منعة من المسلمين وإذا كان قوم من المسلمين مستأمنين في دار الحرب فأغار على تلك الدار قوم من أهل الحرب لم يحل لهؤلاء المسلمين أن يقاتلوهم لأن في القتال تعريض النفس فلا يحل ذلك إلا على وجه إعلاء كلمة الله عز وجل وإعزاز الدين وذلك لا يوجد ها هنا لأن أحكام أهل الشرك غالبة فيهم فلا يستطيع المسلمون أن(10/165)
يحكموا بأحكام أهل الإسلام فكان قتالهم في الصورة لإعلاء كلمة الشرك وذلك لا يحل إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئك فحينئذ لا بأس بأن يقاتلوهم للدفع عن أنفسهم لا لإعلاء كلمة الشرك والأصل فيه حديث جعفر رضي الله عنه فإنه قاتل بالحبشة مع العدو الذي كان قصد النجاشى وإنما فعل ذلك لأنه لما كان مع المسلمين يومئذ آمنا عند النجاشى فكان يخاف على نفسه وعلى المسلمين من غيره فعرفنا أنه لا بأس بذلك عند الخوف وإن أغار أهل الحرب الذي فيهم المسلمون المستأمنون على دار من المسلمين فأسروا ذراري المسلمين إذا كانوا يطيقون القتال لأنهم ما ملكوا ذراري المسلمين بالإحراز فهم ظالمون في استرقاقهم والمستأمنون ما ضمنوا لهم التقرير على الظلم فلا يسعهم إلا قتالهم لاستنقاذ ذراري المسلمين من أيديهم بخلاف الأموال لأنهم ملكوها بالإحراز وقد ضمن المستأمنون أن لا يتعرضوا لهم في أموالهم وكذلك إن كانوا أغاروا على الخوارج وسبوا ذراريهم لأنهم مسلمون فلا تملك ذراريهم بالإحراز بدار الحرب وكذلك إن كان في بلاد الخوارج الذين(10/166)
ص -80- ... أغار عليهم أهل الحرب قوم من أهل العدل لم يسعهم إلا أن يقاتلوا عن بيضة المسلمين وحريمهم لأن الخوارج مسلمون ففي القتال معهم إعزاز الدين ولأنهم بهذا القتال يدفعون أهل الحرب عن المسلمين ودفع أهل الحرب عن المسلمين واجب على كل من يقدر عليه فلهذا لا يسعهم إلا أن يقاتلوهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب المرتدين
قال رضي الله عنه وإذا ارتد المسلم عرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإذا طلب ذلك أجل ثلاثة أيام والأصل في وجوب قتل المرتدين قوله تعالى {أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قيل الآية في المرتدين وقال صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وقتل المرتد على ردته مروى عن علي وابن مسعود ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وهذا لأن المرتد بمنزلة مشركي العرب أو أغلظ منهم جناية فإنهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن نزل بلغتهم ولم يراعوا حق ذلك حين أشركوا وهذا المرتد كان من أهل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف محاسن شريعته ثم لم يراع ذلك حين ارتد فكما لا يقبل من مشركي العرب إلا السيف أو الإسلام فكذلك من المرتدين إلا أنه إذا طلب التأجيل أجل ثلاثة أيام لأن الظاهر أنه دخل عليه شبهة ارتد لأجلها فعلينا إزالة تلك الشبهة أو هو يحتاج إلى التفكر ليتبين له الحق فلا يكون ذلك إلا بمهلة فإن استمهل كان على الإمام أن يمهله ومدة النظر مقدرة بثلاثة أيام في الشرع كما في الخيار فلهذا يمهله ثلاثة أيام لا يزيده على ذلك وإن لم يطلب التأجيل يقتل من ساعته في ظاهر الرواية وفي النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه يستحب للإمام أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب.(10/167)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجب على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك لما روى أن رجلا قدم على عمر رضي الله عنه فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد إيمانه فقال ماذا صنعتم به قال قدمناه فضربنا عنقه فقال هلا طينتم عليه الباب ثلاثة أيام ورميتم إليه كل يوم برغيف فلعله أن يتوب ويراجع الحق ثم رفع يديه وقال اللهم إني لم أشهد ولم أرض إذ بلغني وقد روى هذا الحديث بطريق آخر أن عمر رضي الله عنه قال لو وليت منه مثل الذي وليتم لاستتبته ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتلته فهذا دليل أنه يستحب الإمهال وتأويل اللفظ الأول أنه لعله كان طلب التأجيل إذا كان في ذلك الوقت فقد كان فيهم من هو حديث عهد بالإسلام فربما يظهر له شبهة ويتوب إذا رفعت شبهته فلهذا كره ترك الإمهال والاستتابة فأما في زماننا فقد استقر حكم الدين وتبين الحق فالإشراك بعد ذلك قد يكون تعنتا وقد يكون لشبهة دخلت عليه وعلامة ذلك طلب التأجيل وإذا لم يطلب ذلك فالظاهر أنه متعنت في ذلك فلا بأس بقتله إلا أنه يستحب أن يستتاب لأنه بمنزلة كافر قد بلغته الدعوة وتجديد الدعوة في حق مثله مستحب وليس بواجب فهذا كذلك(10/168)
ص -81- ... فإن استتيب فتاب خلى سبيله ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة ويتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام أو يتبرى عما كان انتقل إليه فإن تمام الإسلام من اليهودي التبرى عن اليهودية ومن النصراني التبرى عن النصرانية ومن المرتد التبرى عن كل ملة سوى الإسلام لأنه ليس للمرتد ملة منفعة وإن تبرأ عما انتقل إليه فقد حصل ما هو المقصود فإن ارتد ثانيا وثالثا فكذلك يفعل به في كل مرة فإذا أسلم خلى سبيله لقوله تعالى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وكان علي وابن عمر رضي الله عنهما يقولان إذا ارتد رابعا لم تقبل توبته بعد ذلك ولكن يقتل على كل حال لأنه ظهر أنه مستخف مستهزئ وليس بتائب واستدلا بقوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] ولكنا نقول الآية في حق من ازداد كفرا لا في حق من آمن وأظهر التوبة والخشوع فحاله في المرة الرابعة كحاله قبل ذلك وإذا أسلم يجب قبول ذلك منه لقوله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94] وروي أن أسامة بن زيد رضي الله عنه حمل على رجل من المشركين فقال لا إله إلا الله فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة" فقال إنما قالها تعوذا فقال "هلا شققت عن قلبه" فقال لو فعلت ذلك ما كان يتبين لي فقال صلى الله عليه وسلم "فإنما يعبر عن قلبه لسانه" إلا أنه ذكر في النوادر أنه إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربا مبرحا لجنايته ثم يحبس إلى أن يظهر توبته وخشوعه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا فعل ذلك مرارا يقتل غيلة وهو أن ينتظر فإذا أظهر كلمة الشرك قتل قبل أن يستتاب لأنه قد ظهر منه الاستخفاف(10/169)
وقتل الكافر الذي بلغته الدعوة قبل الاستتابة جائز فإن أبى المرتد أن يسلم فقتل كان ميراثه بين ورثته المسلمين على فرائض الله تعالى في قول علمائنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ماله فيء يوضع في بيت مال المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث المسلم الكافر" والمرتد كافر فلا يرثه المسلم ولأن المرتد لا يرث أحدا فلا يرثه أحد كالرقيق يوضحه أنه لا يرثه من يوافقه في الملة والموافقة في الملة سبب التوريث والمخالفة في الملة سبب الحرمان فلما لم يرثه من يوافقه في الملة مع وجود سبب التوريث فلأن لا يرثه من يخالفه في الملة أولى وإذا انتفى التوريث عن ماله فهو في أحد الوجهين لأنه مال حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين وفي الوجه الآخر هو مال ضائع فمصيبه بيت المال كالذمي إذا مات ولا وارث له من الكفار يوضع ماله في بيت المال.
وحجتنا في ذلك ظاهر قوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] والمرتد هالك لأنه ارتكب جريمة استحق بها نفسه فيكون هالكا ولما مات عبد الله بن أبي سلول جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله لورثته المسلمين وهو كان مرتدا وإن كان منافقا فقد شهد الله بكفره بعد الإيمان وفيه نزل قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}(10/170)
ص -82- ... [النساء: 137] وإن عليا رضي الله عنه قتل المستورد العجلى على الردة وقسم ماله بين ورثته المسلمين وذلك مروي عن ابن مسعود ومعاذ رضي الله تعالى عنهما والمعنى فيه أنه كان مسلما مالكا لماله فإذا تم هلاكه يخلفه وارثه في ماله كما لو مات المسلم وتحقيق هذا الكلام أن الردة هلاك فإنه يصير به حربا وأهل الحرب في حق المسلمين كالموتى إلا أن تمام هلاكه حقيقة بالقتل أو الموت فإذا تم ذلك استند التوريث إلى أول الردة وقد كان مسلما عند ذلك فيخلفه وارثه المسلم في ماله ويكون هذا توريث المسلم من المسلم وهذا لأن الحكم عند تمام سببه يثبت من أول السبب كالبيع بشرط الخيار إذا أجيز يثبت الملك من وقت العقد حتى يستحق المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعا فعلى هذا الطريق يكون فيه توريث المسلم من المسلم.
فإن قيل: زوال ملكه إما أن يكون قبل الردة أو معها أو بعدها والحكم لا يسبق السبب ولا يقترن به بل يعقبه وبعد الردة هو كافر.(10/171)
قلنا: نعم المزيل للملك ردته كما أن المزيل للملك موت المسلم ثم الموت يزيل الملك عن الحي لا عن الميت فكذلك الردة تزيل الملك عن المسلم وكما أن الردة تزيل ملكه فكذلك تزيل عصمة نفسه وإنما تزيل العصمة عن معصوم لا عن غير معصوم فعرفنا أنه يتحقق بهذا الطريق توريث المسلم من المسلم ولهذا لا يرثه ورثته الكفار لأن التوريث من المسلم والكافر لا يرث المسلم وهو دليلنا فإنه كان تعلق بإسلامه حكمان حرمان ورثته الكفار وتوريث ورثته المسلمين ثم بقي أحد الحكمين بعد ردته باعتبار أنه مبقي على حكم الإسلام فكذلك الحكم الآخر وإنما لا يرث المرتد أحدا لجنايته فهو كالقاتل لا يرث المقتول لجنايته ويرثه المقتول لو مات القاتل قبله ولأنه لا وجه لجعل ماله فيئا فإن هذا المال كان محرزا بدار الإسلام ولم يبطل ذلك الإحراز بردته حتى لا يغنم في حياته والمال المحرز بدار الإسلام لا يكون فيئا وبهذا تبين ثبوت حق الورثة فيه لأنه إنما لا يغنم في حياته لا لحقه فإنه لا حرمة له بل لحق الورثة فكذلك بعد موته وإن قال يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع.
قلنا: المسلمون يستحقون ذلك بالإسلام وورثته ساووا المسلمين في الإسلام وترجحوا عليهم بالقرابة وذو السببين مقدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد فكان الصرف إليهم أولى فأما ما اكتسب في حال ردته فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو فيء يوضع في بيت المال وعندهما هو ميراث لورثته المسلمين لأن كسبه يوقف على أن يسلم له بالإسلام فيخلفه وارثه فيه بعد موته ككسب الإسلام وما ذكرنا من المعاني يجمع الكسبين وليس في الردة أكثر من أنه صار به مشرفا على الهلاك فيكون كالمريض والمكتسب في مرض الموت كالمكتسب في الصحة في حكم الإرث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الوراثة(10/172)
ص -83- ... خلافة في الملك والردة تنافي بقاء الملك فتنافي ابتداء الملك بطريق الأولى فما اكتسب في إسلامه كان مملوكا له فيخلفه وارثه فيه إذا تم انقطاع حقه عنه وكسب الردة لم يكن مملوكا له لقيام المنافي عند الاكتساب وإنما كان له حق أن يتملك أن لو أسلم والوارث لا يخلفه في مثل هذا الحق فبقي هذا مالا ضائعا بعد موته يوضع في بيت المال والأصح أن نقول إسناد التوريث إلى أول الردة في كسب الإسلام ممكن لأن السبب يعمل في المحل والمحل كان موجودا عند أول الردة فأما إسناد التوريث في كسب الردة غير ممكن لانعدام المحل عند السبب في هذا الكسب فلو ثبت فيه حكم التوريث ثبت مقصورا على الحال وهو كافر بعد الاكتساب والمسلم لا يرث الكافر فيبقى موقوفا على أن يسلم له بالإسلام فإذا زال ذلك بأن مات أو قتل فهذا كسب حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين يوضع في بيت مالهم ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيمن يرث المرتد فروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه من كان وارثا له وقت ردته وبقي إلى موت المرتد فإنه يرثه ومن حدث له صفة الوراثة بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته أو ولد له من علوق حادث بعد ردته فإنه لا يرثه على هذه الرواية لأن سبب التوريث الردة فمن لم يكن موجودا عند ذلك السبب لم ينعقد له سبب الاستحقاق ثم تمام الاستحقاق بالموت فإنما يتم في حق من انعقد له السبب لا في حق من لم ينعقد له السبب ثم في حق من انعقد له السبب يشترط بقاؤه إلى وقت تمام الاستحقاق فإذا مات قبل ذلك يبطل السبب في حقه كما في بيع الموقوف يتم الملك عند الإجازة من وقت السبب ولكن بشرط قيام المعقود عليه عند الإجازة حتى إذا هلك قبل ذلك بطل السبب وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يعتبر وجود الوارث وقت الردة ثم لا يبطل استحقاقه بموته قبل موت المرتد لأن الردة في حكم التوريث كالموت ومن مات من الورثة(10/173)
بعد موت المورث قبل قسمة ميراثه لا يبطل استحقاقه ولكن يخلفه وارثه فيه فهذا مثله وأما رواية محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو الأصح أنه يعتبر من يكون وارثا له حين مات أو قتل سواء كان موجودا عند الردة أو حدث بعده لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ألا ترى أن الزيادة التي تحدث من المبيع قبل القبض تجعل كالموجود عند ابتداء العقد في أنه يصير معقودا عليه بالقبض ويكون له حصة من الثمن فها هنا أيضا من يحدث قبل انعقاد السبب يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ولو تصور بعد الموت الحقيقي ولد له من علوق حادث لكنا نجعله كذلك أيضا إلا أن ذلك لا يتصور فأما بعد الهلاك بالحكم بالردة يتصور فيجعل الحادث كالموجود عند ابتداء السبب وكذلك إن لحق بدار الحرب قسم الإمام ماله بين ورثته وكان لحاقه بدار الحرب بمنزلة موته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يبقى ماله بعد لحاقه موقوفا كما كان قبل لحاقه لأن ذهابه إلى دار الحرب نوع غيبة فلا يتغير به حكم ماله(10/174)
ص -84- ... كما لو كان مترددا في دار الإسلام ولكنا نقول أنه صار حربيا حقيقة وحكما لأنه قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين عاد إلى دار الحرب حربا للمسلمين والحربي في دار الحرب كالميت في حق المسلمين قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] وقد قررنا هذا في النكاح في مسألة تباين الدارين ولأنه قد خرج من يد الإمام حقيقة وحكما ولو كان في يده لموته حقيقة بأن يقتله ويقسم ماله فإذا عجز عن ذلك بخروجه عن يده موته حكما فيقسم ماله بين ورثته وحكم بعتق أمهات أولاده ومدبريه وبحلول آجاله ثم قال أبو يوسف يعتبر من يكون وارثا له وقت قضاء القاضي بلحاقه وعند محمد وقت لحاقه وهذا لأن عندهما ملكه لا يزول بالردة ولهذا ينفذ تصرف المرتد عندهما على ما نبينه فإنما زوال ملكه بسبب الردة عند لحاقه فيعتبر وارثه عند ذلك ولحاقه موت حكمي فهو كالموت الحقيقي بالقتل ولكن أبو يوسف يقول اللحاق في الحقيقة غيبة وإنما يصير موتا حكما بقضاء القاضي فيعتبر من يكون وارثا له عند القضاء باللحاق في استحقاق ماله وكذلك ترث منه امرأته إن كانت في العدة لأن النكاح بينهما وإن ارتفع بنفس الردة لكنه فارعن ميراثها وامرأة الفار ترث إذا كانت في العدة عند موته وعلى رواية أبي يوسف ترث وإن كانت منقضية العدة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن سبب التوريث كان موجودا في حقها عند ردته وعلى تلك الرواية إنما يعتبر قيام السبب عند أول الردة وتبطل وصاياه لأن تنفيذ الوصايا لحق الموصى ولم يبق له حق بعد ما قتل على الردة أو لحق بدار الحرب وهذا بخلاف التدبير فإن حق العبد في العتق بالتدبير قد ثبت للمدبر فيكون عتقه كعتق أم الولد أو حقه كحق أصحاب الديون وفي الكتاب يقول ردته كرجوعه عن الوصية لأنه بالردة يبطل حقه وتنفيذ الوصية كان لحقه فرجوعه يعمل في إبطال وصاياه ولا يعمل في إبطال تدبيره فكذلك ردته وهو لا يفعل شيئا من ذلك ما دام(10/175)
المرتد مقيما في دار الإسلام لأنه في يده حقيقة وحكما فيموته بالقتل حقيقة إن لم يسلم أو لا ثم يقسم ماله وإن فعل ذلك بعد لحاقه بدار الحرب ثم رجع تائبا قد مضى جميع ما فعله الإمام غير أنه إذا وجد شيئا من ملكه بعينه في يد وارثه أخذه منه لأن الوراثة خلافة والخلف يسقط اعتباره إذا ظهر الأصل ولما جاء تائبا فقد صار حيا حكما وإنما كانت خلافة الوارث إياه في هذا الملك كموته حكما فإذا انعدم ذلك ظهر حكم الأصل ولهذا قلنا: لو كان الوارث كاتب عبدا يعاد إليه ذلك العبد مكاتبا لأن الحكم لا يكون منتقلا من الخلف إلى الأصل وتأثير الكتابة في منع النقل ولكن ينعدم الخلف بظهور الأصل فيكون الملك لصاحب الأصل بطريق البقاء ولا يعاد إليه شيء مما باعه وارثه لأن الأصل والخلف في الحكم فلا بد من قيامه عند ظهور الأصل ليكون عاملا وما تصرف الوارث من بيع أو غيره فهو نافذ منه لمصادفته ملكه ولا ضمان عليه في شيء مما أتلفه لأن الملك كان خالصا له وفعله فيما خلص حقا له لا يكون سبب الضمان فلو لم يفعل الإمام شيئا من ذلك حتى رجع تائبا فجميع(10/176)
ص -85- ... ذلك له كما كان قبل ردته لأن اللحاق قبل أن يتصل به القضاء بمنزلة الغيبة فهو والمتردد في دار الإسلام في الحكم سواء.
قال وجميع ما فعل المرتد في حال ردته من بيع أو شراء أو عتق أو تدبير أو كتابة باطل إن لحق بدار الحرب وقسم الإمام ماله والحاصل أن تصرفات المرتد أربعة أنواع نوع منها نافذ بالاتفاق وهو الاستيلاد حتى إذا جاءت جاريته بولد فادعى نسبه ثبت النسب منه وورث هذا الولد مع ورثته وكانت الجارية أم ولد له لأن حقه في ملكه أقوى من حق الأب في جارية ولده واستيلاد الأب صحيح فاستيلاد المرتد أولى لأنها موقوفة على حكم ملكه حتى إذا أسلم كانت مملوكة له وحقه فيها أقوى من حق المولى في كسب المكاتب وهناك يصح منه دعوة النسب فها هنا أولى إلا أن هناك يحتاج إلى تصديق المكاتب لاختصاصه بملك اليد والتصرف وها هنا لا يحتاج إلى تصديق الورثة لأنه لم يثبت لهم ملك اليد والتصرف في الحال ومنها ما هو بالاتفاق باطل في الحال كالنكاح والذبيحة لأن الحل بهما يعتمد الملة ولا ملة للمرتد فقد ترك ما كان عليه وهو غير مقر على ما اعتمده ومنها ما هو موقوف بالاتفاق وهو المفاوضة فإنه إذا شارك غيره شركة مفاوضة توقف صفة المفاوضة بالاتفاق وإن اختلفوا في توقف أصل الشركة ومنها ما هو مختلف فيه وهو سائر تصرفاته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف بين أن ينفذ بالإسلام أو يبطل إذا مات أو قتل على الردة أو لحق بدار الحرب وعندهما نافذ إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول ينفذ كما ينفذ من الصحيح حتى يعتبر تبرعاته من جميع المال وعند محمد رحمه الله تعالى ينفذ كما ينفذ من المريض وحجتهما في ذلك أنه من أهل التصرف لاقى تصرفه ملكه فينفذ وبيان ذلك أن التصرف قول والأهلية له باعتبار قوله شرعا ولا ينعدم ذلك بالردة والمالكية باعتبار صفة الحرية ولا ينعدم ذلك بالردة إنما تأثير ردته في إباحة دمه وذلك لا يحصل بالمالكية كالمقضى عليه بالرجم(10/177)
والقصاص والدليل عليه أن تصرف المكاتب بعد الردة نافذ بالاتفاق وحال الحر في التصرف فوق حال المكاتب فإذا كانت الردة لا تنافي ملك اليد الذي ينبني عليه تصرف المكاتب حتى ينفذ تصرفه فلأن لا ينافي ملك الحر وتصرفه أولى إلا أن محمدا رحمه الله تعالى قال هو مشرف على الهلاك فيكون بمنزلة المريض في التصرف ألا ترى أن زوجته ترثه بحكم الفرار وذلك لا يتحقق إلا في المريض وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هو متمكن من دفع الهلاك عن نفسه بسبب يستحق عليه مرغوب فيه فلا يصير في حكم المريض كمن قصد أن يلقي نفسه من شاهق جبل لا يصير به في حكم المريض يوضحه أن المقضي عليه بالرجم والقصاص لا يصير كالمريض ما دام في السجن لتمكنه من دفع الهلاك عن نفسه بادعاء شبهة فالمرتد أولى وأبو حنيفة يقول بالردة يزول ملكه عن المال وكان موقوفا على العود إليه بالإسلام وتصرفه بحكم الملك فيتوقف بتوقف الملك،(10/178)
ص -86- ... ودليل الوصف أن المالكية عبارة عن القدرة والاستيلاء وإنما يكون ذلك حكما باعتبار العصمة ألا ترى أن الشرع جعل عصمة النفس والمال بسبب واحد ثم عصمة نفسه تزول بالردة حتى يقتل فكذلك عصمة ماله والدليل عليه أنه هالك حكما وإذا كان الهلاك حقيقة ينافي مالكية المال ولا ينافي توقف المال على حقه كالتركة المستغرقة بالدين فكذلك الهلاك الحكمي ولأن تأثير الردة في نفي المالكية فوق تأثير الرق فإن الرق ينافي مالكية المال ولا ينافي مالكية النكاح والردة تنافيهما وهذا بخلاف المقضي عليه بالقصاص والرجم فهناك لم يزل ما به عصمة المال والنفس وإنما استحق عليه نفسه بما هو من حقوق تلك العصمة فيبقى مالكا حقيقة لبقاء عصمة ماله وقد انعدم ها هنا ما به كانت العصمة في حق النفس فكذلك في حق المال لأنها تابعة للنفس في العصمة وبخلاف المكاتب فإن تصرفه باعتبار عقد الكتابة والردة لا تؤثر فيه ألا ترى أن الهلاك الحقيقي لا يمنع بقاء الكتابة فالهلاك الحكمي أولى ولهذا نفذ تصرف المكاتب بعد لحاقه بدار الحرب وها هنا بالاتفاق لا ينفذ تصرفه في ماله بعد لحاقه بل يتوقف فكذلك قبل لحاقه لأن الهلاك بردته لا بلحاقه وكذلك التوريث باعتبار ردته على ما قررنا أنه يستند التوريث إلى أول الردة ليكون فيه توريث المسلم من المسلم والدليل عليه أنه بالردة صار حربيا ولهذا يقتل والحربي المقهور في أيدينا يتوقف تصرفه كالمأسورين إلا أن هناك توقف حالهم بين الاسترقاق والقتل والمن وها هنا بين القتل والإسلام ثم توقف تصرفهم هناك لتوقف حالهم فكذلك ها هنا وإذا أعتق المرتد عبده ثم أعتقه ابنه أيضا ولا وارث له غيره لم يجز عتق واحد منهما أما عتق المرتد فكان موقوفا فبموته يبطل وأما عتق الوارث فقد سبق ملكه لأن قبل موت المرتد لا ملك للوارث في ماله بل الملك موقوف على حق المرتد فلا ينفذ تصرف الوارث وهذا بخلاف التركة المستغرقة بالدين إذا أعتق الوارث عبدا(10/179)
منها ثم سقط الدين لأن سبب التوريث هناك قد تم والتوقف لحق الغرماء والعتق بعد تمام سبب الملك لا يتوقف وها هنا أصل السبب انعقد بالردة ولكن لا يتم لقيام الأصل حقيقة وحكما والخلافة تكون بعد فوات الأصل فلهذا لا تنفذ تصرفات لوارث وإن ملك بعد ذلك وإذا مات الابن وله معتق والأب مرتد ثم مات الأب وله معتق كان ميراث الأب لمعتقه دون معتق الابن لما بينا أن أصل السبب وإن انعقد بالردة فإذا مات الابن قبل وقت تمام السبب بطل ذلك لأن بقاءه إلى وقت تمام السبب شرط وقد بينا اختلاف الرواية في هذا الفصل وما اكتسبه في ردته فهو فيء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهما يستدلان على أبي حنيفة رحمه الله تعالى بكسب الردة أنه ينفذ تصرفه فيه حتى لو قضى دينه بكسب ردته أو رهنه بدين عليه كان صحيحا فكذلك كسب الإسلام ومن أصحابنا من سلم واشتغل بالفرق فقال تصرفه في كسب الردة باعتبار أنه كسبه لا باعتبار أنه ملكه لأن الردة تنافي الملك فأما في كسب الإسلام تصرفه باعتبار ملكه وقد بينا توقف ملكه والأصح أن عند أبي حنيفة رحمه الله(10/180)
ص -87- ... تعالى يتوقف تصرفه في الكسبين جميعا ويبطل ذلك بموته واختلفت الروايات عنه في قضاء ديونه فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يقضي ديونه من كسب الردة فإن لم يف بذلك فحينئذ من كسب الإسلام لأن كسب الإسلام حق ورثته ولا حق لورثته في كسب ردته بل هو خالص حقه فلهذا كان فيئا إذا قتل فكان وفاء الدين من خالص حقه أولى فعلى هذا نقول عقد الرهن لقضاء الدين وإذا قضى دينه من كسب الردة أو رهنه بالدين فقد فعل عين ما كان يحق فعله فلهذا كان نافذا وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يبدأ بكسب الإسلام في قضاء ديونه فإن لم تف بذلك فحينئذ من كسب الردة لأن قضاء الدين من ملك المديون وكسب الإسلام كان مملوكا له ولهذا يخلفه الوارث فيه وخلافة الوارث بعد الفراغ من حقه فأما كسب الردة لم يكن مملوكا له فلا يقضي دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فعلى هذا لا ينفذ تصرفه في الرهن وقضاء الدين من كسب الردة إذا كان في كسب الإسلام وفاء بذلك وروي زفر عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن ديون إسلامه تقضي من كسب الإسلام وما استدان في الردة يقضي من كسب الردة لأن المستحق للكسبين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضي كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بمقابلة الغنم وبه أخذ زفر رحمه الله تعالى وإن جنى المرتد جناية لم يعقله العاقلة لأن تحمل العقل باعتبار معنى النصرة وهو أن تمكنه من الجناية بقوة العاقلة وأحد لا ينصر المرتد أو ذلك للتخفيف على الجاني لعذر الخطأ والمرتد غير مستحق للتخفيف فيكون الأرش في ماله وكذلك ما غصب وأتلف من أموال الناس فذلك كله دين عليه وإن لم يكن له مال إلا ما اكتسبه في ردته كان ذلك كله فيه لأنه كسبه فيكون مصروفا إلى دينه ككسب المكاتب والجناية على المرتد هدر لأن اعتبار الجناية عليه لعصمة نفسه وقد انعدمت العصمة بردته فكانت(10/181)
الجناية عليه هدرا مسلم قطع يد مسلم عمدا أو خطأ ثم ارتد المقطوعة يده عن الإسلام فمات أو قتل أو لحق بدار الحرب فعلى القاطع دية اليد في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ لأن قطع اليد كانت جناية موجبة للضمان وقد انقطعت السراية بزوال عصمة نفسه بالردة فصار كما لو انقطع بالبرء فيلزمه دية اليد فقط وإن أسلم قبل اللحوق بدار الحرب ثم مات من تلك الجناية فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله عليه دية النفس استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله ليس عليه إلا دية اليد قياسا لأن السراية قد انقطعت بزوال عصمة نفسه بالردة ثم بالإسلام بعد ذلك لا يتبين أن العصمة لم تكن زائلة فحكم السراية بعد ما انقطع لا يعود وكان موته من تلك الجناية وموته بسبب آخر سواء ألا ترى أنه لو لحق بدار الحرب ثم عاد ثانيا فمات من تلك الجناية لم يجب على القاطع إلا دية اليد فكذلك قبل اللحوق ولأن اعتبار الجناية والسراية لحقه بعد سقوط حقه بالردة فيصير هو كالمبرىء عن سراية تلك الجناية كما لو قطع(10/182)
ص -88- ... يد عبد ثم أعتقه مولاه أو باعه صار مبرئا عن السراية بإزالة ملكه وبعد ما صح الإبراء ليس له ولاية إعادة حقه في السراية فكان وجود إسلامه في حكم السراية كعدمه وهما يقولان حقه توقف بالردة على ما قررنا فإذا أسلم زال التوقف فصار ما اعترض كأن لم يكن بخلاف العبد إذا باعه أو أعتقه فقد تم زوال ملكه هناك واعتبار الجناية كان لملكه يوضح الفرق أن ضمان الجناية في المماليك باعتبار صفة المملوكية ولهذا يجب الضمان لتمكن النقصان في المالية شيئا فشيئا وقد انعدم ذلك بالعتق أصلا وبالبيع في حق من كان مستحقا له فأما وجوب ضمان الجزء باعتبار النفسية ولا ينعدم بالردة ولكن العصمة شرط فإنما يراعى وجوده عند ابتداء السبب لينعقد موجبا وعند تقرره بالموت لتقرر الحكم فلا يعتبر فيه بقاء العصمة وهو نظير ما لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار يعتق لهذا المعنى فأما إذا لحق بدار الحرب فإن كان القاضي قضى بلحاقه فقد صار ميتا حكما وبقاء حكم الجناية باعتبار بقاء النفسية وذلك لا يتحقق بعد موته حكما إذ لا تصور لبقاء الحكم بدون المحل وإذا لم يقض القاضي بلحاقه فالأصح أنه على الخلاف فمن أصحابنا من سلم وقال ابنفس اللحاق صار حربيا والحربي في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولهذا لو كانت امرأة تسترق كسائر الحربيات فيتم به انقطاع حكم السراية بخلاف ما قبل لحاقه بدار الحرب يوضحه أن الردة عارض فإذا زال قبل تقرره صار كأن لم يكن كالعصير المشترى إذا تخمر قبل القبض ثم تخلل بقى العقد صحيحا ولا يعتبر زواله بعد تقرره كما في العصير إذا تخمر فقضى القاضي بفسخ العقد ثم تخلل وباللحاق قد تقرر خصوصا إذا قضى به القاضي فلا يعتبر زواله بعد ذلك بخلاف ما قبل اللحاق وإن كان القاطع هو الذي ارتد فقتل ومات المقطوعة يده من ذلك مسلما فإن كان عمدا فلا شيء له لأن الواجب في العمد القود وقد فات محله حين قتل على ردته أو(10/183)
مات وإن كان خطأ فعلى عاقلة القاطع دية النفس لأنه عند الجناية كان مسلما وجناية المسلم إذا كانت خطأ على عاقلته وتبين بالسراية أن جنايته كانت قتلا فلهذا كان على عاقلته دية النفس وإن كانت الجناية منه في حال ردته كانت الدية في الخطأ في ماله لما بينا أن المرتد لا يعقل جنايته أحد ولا تقتل المرتدة ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقتل إن لم تسلم وهكذا كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى في الابتداء ثم رجع.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها تخرج في كل قليل وتعذر تسعة وثلاثين سوطا ثم تعاد إلى الحبس إلى أن تتوب أو تموت واستدل الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وهذه الكلمة تعم الرجال والنساء كقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وتبين أن الموجب للقتل تبديل الدين لأن مثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان العلة وقد تحقق تبديل الدين منها وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مرتدة يقال(10/184)
ص -89- ... لها أم مروان وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قتل مرتدة يقال لها أم فرقة ولأنها اعتقدت دينا باطلا بعد ما اعترفت ببطلانه فتقتل كالرجل وهذا لأن القتل جزاء على الردة لأن الرجوع عن الإقرار بالحق من أعظم الجرائم ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء وفي أجزية الجرائم الرجال والنساء سواء كحد الزنى والسرقة وشرب الخمر وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الأصلي فإن الإنكار بعد الإقرار أغلظ من الإصرار في الابتداء على الإنكار كما في سائر الحقوق وبأن كانت لا تقتل إذا لم تتغلظ جنايتها فذلك لا يدل على أنها لا تقتل إذا تغلظت جنايتها ثم في الكفر الأصلي إذا تغلظت جنايتها بأن كانت مقاتلة أو ساحرة أو ملكة تحرض على القتال تقتل فكذلك بعد الردة والدليل عليه أنها تحبس وتعزر وتجبر على الإسلام بعد الردة ولا يفعل ذلك بها في الكفر الأصلي وكذلك الشيوخ وأصحاب الصوامع والرهبان يقتلون بعد الردة ولا يقتلون في الكفر الأصلي وذوو الأعذار كالأعمى والزمن كذلك وكذلك الرق في الكفر الأصلي يمنع القتل وهو ما إذا استرق الأسير وفي الردة لا يمنع ثم في الكفر الأصلي لا تسلم لها نفسها حتى تسترق لينتفع المسلمون بها فكذلك بعد الردة وبالاتفاق لا تسترق في دار الإسلام فقلنا: إنها تقتل.
وحجتنا في ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء وفيه حديثان: أحدهما: ما رواه رباح بن ربيعة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بعض الغزوات قوما مجتمعين على شيء فسأل عن ذلك فقالوا ينظرون إلى امرأة مقتولة فقال لواحد "أدرك خالدا وقل له لا يقتلن عسيفا ولا ذرية".(10/185)
والثاني: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فقال "من قتل هذه" قال رجل أنا يا رسول الله أردفتها خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني فقتلتها فقال "ما شأن قتل النساء وارها ولا تعد" ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة امرأة مقتولة فقال "ها ما كانت هذه تقاتل" ففي هذا بيان أن استحقاق القتل بعلة القتال وأن النساء لا يقتلن لأنهن لا يقاتلن وفي هذا لا فرق بين الكفر الأصلي وبين الكفر الطارئ وما روى من الحديث غير مجرى على ظاهره فالتبديل يتحقق من الكافر إذا أسلم فعرفنا أنه عام لحقه خصوص فنخصه ونحمله على الرجال بدليل ما ذكرنا والمرتدة التي قتلت كانت مقاتلة فإن أم مروان كانت تقاتل وتحرض على القتال وكانت مطاعة فيهم وأم قرفة كان لها ثلاثون ابنا وكانت تحرضهم على قتال المسلمين ففي قتلها كسر شوكتهم ويحتمل أنه كان ذلك من الصديق رضي الله عنه بطريق المصلحة والسياسة كما أمر بقطع يد النساء اللاتي ضربن الدف لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار الشماتة والمعنى فيه أنها كافرة فلا تقتل كالأصلية وهذا لأن القتل ليس بجزاء على الردة بل هو مستحق باعتبار الإصرار على الكفر ألا ترى أنه لو أسلم يسقط لانعدام الإصرار وما يكون مستحقا جزاء لا يسقط بالتوبة كالحدود(10/186)
ص -90- ... فإنه بعد ما ظهر سببها عند الإمام لا تسقط بالتوبة وحد قطاع الطريق لا يسقط بالتوبة بل توبته برد المال قبل أن يقدر عليه فلا يظهر السبب عند الإمام بعد ذلك يقرره أن تبديل الدين وأصل الكفر من أعظم الجنايات ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس وحد الزنى لصيانة الأنساب والفرش وحد السرقة لصيانة الأموال وحد القذف لصيانة الأعراض وحد الخمر لصيانة العقول وبالإصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين فيقتل لدفع المحاربة إلا أن الله تعالى نص على العلة في بعض المواضع بقوله تعالى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وعلى السبب الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك فإذا ثبت أن القتل باعتبار المحاربة وليس للمرأة بنية صالحة للمحاربة فلا تقتل في الكفر الأصلي ولا في الكفر الطارئ ولكنها تحبس فالحبس مشروع في حقها في الكفر الأصلي فإنها تسترق والاسترقاق حبس نفسها عنها ثم الحبس مشروع في حق كل من رجع عما أقربه كما في سائر الحقوق وليس ذلك باعتبار الكفر ولا باعتبار المحاربة وما يدعى من تغلظ الجناية لا يقوى فالرجوع عن الإقرار والإصرار على الإنكار بعد قيام الحجة في الجناية سواء مع أن الجناية في الإصرار أغلظ من وجه لأنه بعد الردة لا يقر على ما اعتقده والشيء قبل تقرره يكون أضعف منه بعد تقرره ولو سلمنا تغلظ الجناية فإنما يعتبر بمن يغلظ جنايتها في الكفر الأصلي المشركة العربية فكما لا تقتل تلك فكذلك لا تقتل هذه وإذا كانت مقاتلة أو ملكة أو ساحرة فقتلها للدفع وبدون القتل ها هنا يحصل المقصود إذا حبست وأجبرت كما بينا على الإسلام وأما الرق لا يمنع القتل في الكفر الأصلي فإنه تقتل عبيدهم كأحرارهم وإنما الاسترقاق بمنزلة إعطاء الأمان وبعقد الذمة ينتهي القتال في حق من يجوز أخذ الجزية منه لا في حق(10/187)
من لا يجوز أخذ الجزية منه كما في مشركي العرب والمرتدون لا تؤخذ منهم الجزية فلهذا لا ينتهي القتال في حقهم بعقد الذمة والشيخ إذا كان له رأي يقتل في الكفر الأصلي والردة لا تتصور إلا ممن له رأي والترهب لا يتحقق بعد الإسلام لأن القيام بنصرة دين الحق واجب على كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم "لا رهبانية في الإسلام" وبدون تحقق السبب لا يثبت الحكم.
واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في ذوي الأعذار من مشركي العرب فمنهم من يقول يقتلون في الكفر الأصلي لأن حلول الآفة كعقد الذمة فإنه ينعدم به القتال فمن لا يسقط القتال عنه بعقد الذمة في الكفر الأصلي فكذلك بحلول الآفة فعلى هذا القول ذوو الأعذار من المرتدين يقتلون وقيل حلول الآفة بمنزلة الأنوثة لأنه تخرج به بنيته من أن تكون صالحة للقتال فعلى هذا القول لا يقتلون بعد الردة كما لا يقتلون في الكفر الأصلي وإذا ثبت أن المرتدة لا تقتل قلنا: تسترق إذا لحقت بدار الحرب لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم(10/188)
ص -91- ... فإن بني حنيفة لما ارتدوا استرق أبو بكر رضي الله عنه نساءهم وأصاب علي رضي الله عنه جارية من ذلك السبي فولدت له محمد بن الحنيفة رحمهما الله تعالى.
وذكر عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما في النساء إذا ارتددن يسبين ولا يقتلن وهذا لأنها كالحربية والاسترقاق مشروع في الحربيات وما دامت في دار الإسلام في ظاهر الرواية لا تسترق لأن حريتها المتأكدة بالإحراز لم تبطل بنفس الردة وهي دافعة للاسترقاق ولأن دار الإسلام ليست بدار الاسترقاق وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله إنها تسترق لأنا لما جعلنا المرتد بمنزلة حربي مقهور لا أمان له فكذلك المرتدة بمنزلة حربية مقهورة لا أمان لها فتسترق وإن كانت في دارنا فإن تصرفت في مالها بعد الردة نفذ تصرفها ما دامت في دار الإسلام لأنها تصرفت في خالص ملكها بخلاف الرجل على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأشار إلى الفرق قال المرأة لا تقتل والرجل يقتل ومعنى هذا أن عصمة المال تبع لعصمة النفس فبالردة لا تزول عصمة نفسها حتى لا تقتل فكذلك عصمة ما لها بخلاف الرجل ولهذا استوت بالرجل في التصرف بعد اللحوق لأن عصمة نفسها تزول بلحاقها حتى تسترق والاسترقاق إتلاف حكما فكذلك عصمة مالها فإن ماتت في الحبس أو لحقت بدار الحرب قسم مالها بين ورثتها ويستوي في ذلك كسب إسلامها وكسب ردتها لما بينا أن العصمة باقية بعد ردتها فكان كل واحد من الكسبين ملكها فيكون ميراثا لورثتها ولا ميراث لزوجها منها لأنها بنفس الردة قد بانت منه ولم تصر مشرفة على الهلاك فلا تكون في حكم الفارة المريضة ولزوجها أن يتزوج بأختها بعد لحاقها قبل انقضاء عدتها لأنها صارت حربية فكانت كالميتة في حقه وبعد موتها له أن يتزوج أختها ولأنه لا عدة على الحربية من المسلم لأن العدة فيها حق الزوج وتباين الدارين مناف له فإن سبيت أو عادت مسلمة لم يضر ذلك نكاح الأخت لأنه بعد ما سقطت العدة عنها لا تعود معتدة ثم(10/189)
إن جاءت مسلمة فلها أن تتزوج من ساعتها لأنها فارغة عن النكاح والعدة وإن سبيت أجبرت على الإسلام كما كانت تجبر عليه قبل لحاقها وإن ولدت بأرض الحرب ثم سبيت ومعها ولدها كان ولدها فيئا معها لأن ولدها بمنزلتها وهي حربية تسترق فكذلك ولدها وإذا رفعت المرتدة إلى الإمام فقالت ما ارتددت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهذا توبة منها لما بينا أن توبة المرتد بالإقرار بكلمة الشهادتين والتبري عما كان انتقل إليه وقد حصل ذلك فإنه بالإنكار يحصل نهاية التبري فلهذا كان ذلك توبة من الرجل والمرأة جميعا ويقتل المملوك على الردة لأنه محارب كالحر وكسبه إذا قتل لمولاه لأنه بملك الرقبة يخلفه في ملك الكسب ولا تقتل المملوكة وتحبس لأنها ليس لها بنية صالحة للقتال كالحرة وإذا كان أهلها يحتاجون إلى خدمتها دفعتها إليهم وأمرتهم بإجبارها على الإسلام لأن حق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى لحاجة العبد ولأن الجمع بين الحقين ممكن فإن حق الله تعالى في إجبارها(10/190)
ص -92- ... على الإسلام ومولاها ينوب في ذلك عن الإمام فتدفع إليه ليستخدمها ويجبرها على الإسلام وجناية الأمة والمكاتب في الردة كجنايتهم في غيرة الردة لأن الملك فيهم باق بعد الردة والمكاتب أحق بكسبه بعد الردة يدا وتصرفا كما كان قبله فيكون موجب جنايته في كسبه والجناية على المماليك في الردة هدر أما في الذكور منهم فلاستحقاق قتلهم بالردة ومن استوفى قتلا مستحقا يكون محسنا لا جانيا وفي الإناث قتل المملوكة بعد الردة كقتل الحرة ومن قتل حرة مرتدة لم يضمن شيئا وإن ارتكب ما لا يحل ويؤدب على ذلك فكذلك الأمة قال لأن بعض الفقهاء يرى عليها القتل ولأنها كالحربية والحربية لا تقتل ولو قتلها قاتل لا يلزمه شيء فكذلك المرتدة.
فإن قيل: فلماذا لا تسترق في دارنا قلنا: لبقاء الإحراز ومن ضرورة تأكد الحرمة بالإحراز منع الاسترقاق وليس من ضرورته تقوم الدم كما في المقضي عليها بالرجم وإذا كان هدر الدم مما يثبت مع الإحراز يثبت ذلك في حق المرتدة فكانت فيه كالحربية وإذا باع الرجل عبده المرتد أو أمته المرتدة فالبيع جائز لبقاء صفة المملوكية والرق فيه بعد الردة.
فإن قيل: جواز البيع باعتبار المالية والتقوم ولا مالية فيهما حتى لا يضمن قاتلهما.(10/191)
قلنا: لا كذلك بل المالية في الآدمي بسبب المملوكية وهو ثابت على الإطلاق والتقوم بالإحراز وهو باق فيهما وإن كان لا يجب على المتلف الضمان لعارض وهو الردة ألا ترى أن غاصبهما يكون ضامنا وأن الردة عيب فيهما والعيب لا يعدم المالية والتقوم ولهذا لو كان البائع أعلم المشتري فالبيع لازم لانتفاء التدليس حين أعلمه العيب مدبرة أو أم ولد ارتدت ولحقت بدار الحرب فمات مولاها في دار الإسلام ثم أخذت أسيرة فهي فيء بخلاف ما لو أسرت قبل موت المولى فإنها ترد عليه لقيام ملكه فأما بعد موت المولى فقد عتقت لأن عتقها كان تعلق بموت المولى وتباين الدارين لا يمنع نزول العتق عند وجود شرطه وإذا عتقت فهي حرة مرتدة أسرت من دار الحرب فتكون فيئا عبد ارتد مع مولاه ولحقا بدار الحرب فمات المولى هناك وأسر العبد فهو فيء لأنه مال حربي فقد أحرزه مع نفسه بدار الحرب وذلك مانع من ثبوت حق ورثته المسلمين فيه فيكون فيئا ويقتل إن لم يسلم لردته وكذلك كل ما ذهب به المرتد من ماله مع نفسه فهو فيء فإن كان خرج من دار الحرب مغيرا فأخذ مالا من ماله قد قسم بين ورثته وذهب به ثم قتل مرتدا وأصيب ذلك المال فهو لورثته بغير قيمة قبل القسمة وبالقيمة بعد القسمة لأنهم ملكوا ذلك المال حين قسمه القاضي بينهم فهذا حربي أحرز مال المسلم بدار الحرب ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا الحكم فيه ولو ارتد العبد وأخذ مال مولاه فذهب به إلى دار الحرب ثم أخذ مع ذلك المال لم يكن فيئا ويرد على مولاه لأن العبد باق على ملكه فلا يكون محرزا نفسه بدار الحرب ألا ترى أنه لو أبق منه غير مرتد فدخل دار الحرب لم يكن محرزا نفسه عليه فكذلك إذا أبق مرتدا وكذلك لا يكون(10/192)
ص -93- ... محرزا لما معه من المال فيرد ذلك كله على المولى ثم هذا لا يشكل على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما هو مذهبه في الآبق وكذلك عندهما لأن أهل الحرب لم يأخذوه وإنما يزول ملك المولى عندهما بإحراز المشركين إياه بالأخذ فإذا لم يوجد ذلك بقي على ملك مولاه قوم ارتدوا عن الإسلام وحاربوا المسلمين وغلبوا على مدينة من مدائنهم في أرض الحرب ومعهم نساؤهم وذراريهم ثم ظهر المسلمون عليهم فإنه تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم.
والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما تصير دارهم دار الحرب بثلاث شرائط أحدها أن تكون متاخمة أرض الترك ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين والثاني أن لا يبقى فيها مسلم آمن بإيمانه ولا ذمي آمن بأمانه والثالث أن يظهروا أحكام الشرك فيها وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا أظهروا أحكام الشرك فيها فقد صارت دارهم دار حرب لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار حرب وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام فالقوة فيه للمسلمين ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعتبر تمام القهر والقوة لأن هذه البلدة كانت من دار الإسلام محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الإحراز إلا بتمام القهر من المشركين وذلك باستجماع الشرائط الثلاث لأنها إذا لم تكن متصلة بالشرك فأهلها مقهورون بإحاطة المسلمين بهم من كل جانب فكذلك إن بقى فيها مسلم أو ذمي آمن فذلك دليل عدم تمام القهر منهم وهو نظير ما لو أخذوا مال المسلم في دار الإسلام لا يملكونه قبل الإحراز بدارهم لعدم تمام القهر ثم ما بقي شيء من آثار الأصل فالحكم له دون العارض كالمحلة إذا بقى فيها واحد من أصحاب الخطة فالحكم له دون السكان والمشترين وهذه الدار كانت دار إسلام في الأصل فإذا بقي فيها مسلم أو ذمي فقد بقي أثر من آثار الأصل فيبقى ذلك الحكم.(10/193)
وهذا أصل لأبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى قال إذا اشتد العصير ولم يقذف بالزبد لا يصير خمر البقاء صفة السكون وكذلك حكم كل موضع معتبر بما حوله فإذا كان ما حول هذه البلدة كله دار إسلام لا يعطى لها حكم دار الحرب كما لو لم يظهر حكم الشرك فيها وإنما استولى المرتدون عليها ساعة من نهار ثم في كل موضع لم تصر الدار دار حرب فإذا ظهر المسلمون عليها قتلوا الرجال وأجبروا النساء والذراري على الإسلام ولم يسب واحد منهم وفي كل موضع صار دار حرب فالنساء والذراري والأموال فيء فيه الخمس ويجبرون على الإسلام لردتهم فلا يحل لمن وقعت امرأة منهم في سهمه أن يطأها ما دامت مرتدة وإن كانت متهودة أو متنصرة لأن الردة تنافي الحل وإنما يحل بملك اليمين من يحل بالنكاح فإن كان عليها دين فقد بطل بالسبي لأنها صارت أمة وما كان من الدين على حرة لا يبقى بعد أن(10/194)
ص -94- ... تصير أمة لأن بالرق تتبدل نفسها ولأن الدين لا يجب على المملوك إلا شاغلا مالية رقبته
وهذه مالية حادثة بالسبي فتخلص للسابي فلهذا لا يبقى الدين عليها وإذا ارتد الزوجان وذهبا إلى دار الحرب بولدهما الصغير ثم ظهر عليهما المسلمون فالولد فيء لأنه خرج من أن يكون مسلما حين لحقا به إلى دار الحرب فإن ثبوت حكم الإسلام للصغير باعتبار تبعية الأبوين والدار فقد انعدم كل ذلك حين ارتدا ولحقا به بدار الحرب فلهذا كان الولد فيئا يجبر على الإسلام إذا بلغ كما تجبر الأم عليه وإن كان الأب ذهب به وحده والأم مسلمة في دار الإسلام لم يكن الولد فيئا لأنه بقي مسلما تبعا لأمه.
فإن قيل: كيف يتبعها بعد تباين الدارين.(10/195)
قلنا: تباين الدارين يمنع الاتباع في الإسلام ابتداء لا في إبقاء ما كان ثابتا ألا ترى أن الحربي لو أسلم في دار الحرب وله ولد صغير ثم خرج إلى دارنا بقي الولد مسلما بإسلامه حتى إذا وقع الظهور عليه لا يكون فيئا بخلاف ما لو أسلم في دارنا وله ولد في دار الحرب فها هنا قد كان الولد مسلما فيبقى كذلك ببقاء الأم مسلمة وإن كانت في دار الإسلام وكذلك إن كانت الأم ماتت مسلمة لأن إسلامها يتأكد بموتها ولا يبطل وكذلك إن كانت الأم نصرانية ذمية لأنها من أهل دارنا وكما يتبعها الولد إذا كانت من أهل ديننا يتبعها إذا كانت من أهل دارنا توفيرا للمنفعة على الولد ولأنه لا يتم إحراز الولد بدار الحرب لأن اعتبار جانب الأب يوجب أن يكون الولد حربيا واعتبار جانب الأم يوجب أن يكون الولد من أهل دار الإسلام فيترجح هذا الجانب عند المعارضة توفيرا للمنفعة على الولد وإذا بقي من أهل دار الإسلام فكأنه من أهل دارنا حقيقة فلا يسترق وكذلك إن كان الأب ذميا نقض العهد فهو كالمسلم يرتد في أنه يصير من أهل دار الحرب إذا التحق بهم وإذا ولد للمرتدين في دار الحرب ولد ثم ولد لولدهما ولد ثم وقع الظهور عليهم أجبر ولدهما على الإسلام ولم يجبر ولد ولدهما على الإسلام لأن حكم الإسلام قد ثبت لولدهما باعتبار أن الأبوين كانا مسلمين في الأصل والولد تابع لهما فكذلك يجبر على الإسلام فأما ولد الولد لم يثبت له حكم الإسلام لأنه تابع لأبيه في الدين لا لجده وأبوه ما كان مسلما قط ألا ترى أنه لو أسلم الجد لا يصير ولد الولد مسلما بإسلامه فكذلك لا يجبر على الإسلام بإسلام جده وهذا لأنه لو اعتبر إسلام جده في حق النافلة كان الجد الأعلى والأدنى في ذلك سواء فيؤدي إلى أن يكون الكفار كلهم مرتدين يجبرون على الإسلام بإسلام جدهم آدم أو نوح عليهما السلام وذكر في النوادر أنهما إذا ارتدا أو لحقا بولد صغير لهما بدار الحرب فولد لذلك الولد بعد ما كبر ثم ظهر المسلمون(10/196)
على ولد الولد فهو يجبر على الإسلام في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجبر عليه في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن هذا الولد ما كان مسلما بنفسه وإنما ثبت حكم الإسلام في حقه تبعا فهو والمولود في دار الحرب بعد ردتهما سواء وهما(10/197)
ص -95- ... يقولان قد كان هذا الولد محكوما بإسلامه تبعا لأبويه أو لدار الإسلام والولد يتبع أباه في الدين فإذا كان الأب مسلما في وقت يثبت لولده حكم الإسلام فيجبر على الإسلام بخلاف ما إذا ولد في دار الحرب بعد ردتهما لأن هذا الولد لم يكن مسلما قط وإذا نقض قوم من أهل الذمة العهد وغلبوا على مدينة فالحكم فيها كالحكم في المرتدين إلا أن للإمام أن يسترق رجالهم بخلاف المرتدين لأنهم كفار في الأصل وإنما كانوا لا يسترقون لكونهم من أهل دارنا وقد بطل ذلك حين نقضوا العهد وصارت دارهم دار الحرب فأما المرتدون كانوا مسلمين في الأصل فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام وكذلك إن رجع الذين كان نقضوا العهد إلى الصلح والذمة قبل ذلك منهم بخلاف المرتدين لأنهم لما نقضوا العهد التحقوا بالحربيين وأهل الحرب إذا انقادوا للذمة قبل ذلك منهم بخلاف المرتدين والأصل أن من جاز استرقاقه جاز إبقاؤه على الكفر بالجزية لأن القتال ينتهي بكل واحد من الطريقين وفيه منفعة للمسلمين ثم إذا عادوا إلى الذمة أخذوا بالحقوق التي كانت قبل نقض الذمة عليهم من القصاص والمال لبقاء نفوسهم وذممهم على ما كانت قبل نقض العهد ونقض العهد كان عارضا فإذا انعدم صار كأن لم يكن ولم يؤخذوا بما أصابوا في المحاربة لأنهم أهل حرب حين باشروا السبب وقد بينا أن أهل الحرب لا يضمنون ما أتلفوا من النفوس والأموال في حال حربهم إذا تركوا المحاربة بالإسلام أو الذمة وكذلك المرتدون في هذا هم بمنزلة أهل الذمة لأن القصاص المستحق عليهم عقوبة ثابتة لحق المسلم والردة ونقض العهد لا ينافيهما وإن تعذر استيفاؤها لقصور يد صاحب الحق عمن عليه والمال كذلك فإذا تمكن من الاستيفاء كان له أن يستوفي حقه وإذا نقض الذمي العهد مع امرأته ولحقا بأرض الحرب ثم عادا على الذمة فهما على نكاحهما لأنه لم يتباين بهما دين ولا دار ولو ارتد المسلمان ثم أسلما كانا على نكاحهما فالذميان أولى بذلك وإن(10/198)
كان خلف في دار الإسلام امرأة ذمية بانت منه بتباين الدار حقيقة وحكما والتي بقيت في دارنا من أهل دارنا وكذلك المرتد إذا لحق بدار الحرب وخلف امرأته المرتدة معه في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما لأن المرأة من أهل دارنا وإن كانت مرتدة فقد تباينت بينهما الدار حقيقة وذلك قاطع للعصمة بينهما وإذا منع المرتدون دارهم وصارت دار كفر ثم لحقوا بدار الحرب فأصابوا سبايا منهم وأصابوا مالا من أموال المسلمين وأهل الذمة ثم أسلموا كان ذلك كله لهم لأنهم ملكوا ذلك كله بالإحراز بدارهم ومن أسلم على مال فهو له إلا أن يكونوا أخذوا من المسلمين أو أهل الذمة حرا أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد فعليهم تخلية سبيلهم لأن هؤلاء لا يملكون بالإحراز لتأكد حقيقة الحرية أو حقها فيهم بالإسلام فإن كان أهل الإسلام أصابوا من هؤلاء في حربهم مالا أو ذرية فاقتسموها على الغنيمة لم يردوا عليهم شيئا من ذلك لأنهم أصابوا أموال أهل الحرب وذراريهم وملكوها بالإحراز والقسمة فلا ترد عليهم وإن أسلموا بعد ذلك كما لو أصابوا(10/199)
ص -96- ... ذلك من غيرهم من أهل الحرب وإن طلب المرتدون أن يجعلوا ذمة للمسلمين لم يفعلوا ذلك بهم لأنه إنما تقبل الذمة ممن يجوز استرقاقه ولأن المرتدين كمشركي العرب فإن أولئك جناة على قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء على دينه وكما لا تقبل الذمة من مشركي العرب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" فكذلك لا يقبل ذلك من المرتدين وإن طلبوا الموادعة مدة لينظروا في أمورهم فلا بأس بذلك إن كان ذلك خيرا للمسلمين ولم يكن للمسلمين بهم طاقة لأنهم لما ارتدوا دخلت عليهم الشبهة ويزول ذلك إذا نظروا في أمرهم وقد بينا أن المرتد إذا طلب التأجيل يؤجل إلا أن هناك لا يزاد على ثلاثة أيام لتمكن المسلمين من قتله وها هنا لا طاقة بهم للمسلمين فلا بأس بأن يمهلوهم مقدار ما طلبوا من المدة لحفظ قوة أنفسهم ولعجزهم عن مقاومتهم وإن كانوا يطيقونهم وكان الحرب خيرا لهم من الموادعة حاربوهم لأن القتال معهم فرض إلى أن يسلموا قال الله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] ولا يجوز تأخير إقامة الفرض مع التمكن من إقامته فإذا وادعوهم لم يأخذ الإمام منهم في الموادعة خراجا لأن ذلك حينئذ يشبه عقد الذمة وقد بينا أنه لا تقبل منهم الذمة فكذلك لا يؤخذ منهم على الموادعة خراج بخلاف أهل الحرب فإن أخذ منهم مالا جاز لأن العصمة زالت عن مالهم ألا ترى أنه لو ظهر المسلمون عليهم كانت أموالهم غنيمة وكذلك إن أخذوا شيئا من مالهم ملكوا ذلك بأي طريق أخذوا منهم.(10/200)
قال ولا يقبل من مشركي العرب الصلح والذمة ولكن يدعون إلى الإسلام فإن أسلموا وإلا قوتلوا وتسترق نساؤهم وذراريهم ولا يجبرون على الإسلام وهم في ذلك بمنزلة المرتدين إلا في حكم الإجبار على الإسلام فإن نساء المرتدين وذراريهم كانوا مسلمين في الأصل فيجبرون على العود وأما النساء والذراري من مشركي العرب ما كانوا مسلمين في الأصل فلا يجبرون على الإسلام ولكنهم يسترقون لأن النبي صلى الله عليه وسلم سبى النساء والذراري بأوطاس وقسمهم وقد بينا أن أبا بكر رضي الله عنه سبى النساء والذراري من بني حنيفة فإذا جاز ذلك في المرتدين ففي مشركي العرب أولى وأما الرجال منهم لا يسترقون عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يسترقون لأن المعنى الذي لأجله جاز الاسترقاق في حق سائر الكفار موجود في حق مشركي العرب وهو منفعة للمسلمين في عملهم وخدمتهم ولأن الاسترقاق إتلاف حكمي ومن جاز في حقه الإتلاف الحقيقي من الكفار الأصليين يجوز الإتلاف الحكمي بطريق الأولى لأن فيه تحقيق معنى العقوبة بتبديل صفة المالكية بالمملوكية وهو الأليق بحال كل كافر فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى عاقبهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده وهكذا كان ينبغي في المرتدين إلا أن قتل المرتد على ردته حد فقلنا: لا يترك إقامة الحد لمنفعة المسلمين ولأن حريته كانت متأكدة بالإسلام فلا يحتمل النقض بالاسترقاق وذلك لا يوجد في حق مشركي العرب.(10/201)
ص -97- ... وحجتنا في ذلك قوله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قيل معناه إلى أن يسلموا والآية فيمن كان يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عبدة الأوثان من العرب فدل أنهم يقتلون إن لم يسلموا وقال صلى الله عليه وسلم "لا رق على عربي" وقال يوم أوطاس "لو جرى رق على عربي لكان اليوم" وإنما هو القتل أو الإسلام وظاهر قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] يدل على تحريم الاسترقاق كما يدل على المنع من المفاداة لأن المقصود بكل واحد منهما ابتغاء عرض الدنيا ولأنه لا يقبل منهم عقد الذمة بالاتفاق والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى لأن في كل واحد من الأمرين إبقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل وفي الجزية معنى الصغار والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر والاسترقاق ثابت في حق النساء والصغار والجزية لا تجب إلا على الرجال البالغين فإذا لم يجز إبقاء عبدة الأوثان من العرب على الشرك بالجزية فكذلك بالاسترقاق وقد بينا أنهم في تغلظ جنايتهم كالمرتدين فكما لا يسترق المرتدون فكذلك عبدة الأوثان من العرب بخلاف سائر المشركين وأهل الكتاب من العرب حكمهم حكم غيرهم من أهل الكتاب حتى يجوز استرقاقهم وأخذ الجزية منهم لأنهم ليسوا من العرب في الأصل وإن توطنوا في أرض العرب بل هم في الأصل من بني إسرائيل ولئن كانوا في الأصل من العرب فجنايتهم في الغلظ ليست كجناية عبدة الأوثان فإن أهل الكتاب يدعون التوحيد ولهذا تؤكل ذبائحهم وتجوز مناكحة نسائهم بخلاف عبدة الأوثان. والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من يهود تيماء ووادي القرى وكذلك من بهزا وتنوخ وطى وعمر رضي الله عنه أراد أن يوظف الجزية على نصارى بني تغلب ثم صالحهم على الصدقة المضعفة وقال هذه جزية فسموها(10/202)
ما شئتم وكانوا من العرب فأما عبدة الأوثان من العجم فلا خلاف في جواز استرقاقهم وإنما الخلاف في جواز أخذ الجزية منهم فعندنا يجوز ذلك وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز بمنزلة عبدة الأوثان من العرب فإن الله تعالى خص أهل الكتاب بحكم الجزية بقوله تعالى {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وزعم الشافعي أن المجوس أهل كتاب وروى فيه أثرا عن علي رضي الله عنه أنه قال كان لهم كتاب يقرؤون إلى أن واقع ملكهم ابنته فأصبحوا وقد أسرى بكتابهم حديث فيه طول.
وحجتنا في ذلك أن الجزية تؤخذ من المجوس بالاتفاق ولا كتاب لهم فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" ففي هذا تنصيص على أنه لا كتاب لهم وقال الله تعالى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ولو كان للمجوس كتاب لكانوا ثلاث طوائف والأثر بخلاف نص القرآن لا يكاد يصح عن علي رضي الله عنه فثبت أن لا كتاب للمجوس ومع ذلك تؤخذ منهم الجزية وهم مشركون فإنهم يدعون(10/203)
ص -98- ... الاثنين وإن اختلفت عبارتهم في ذلك من النور والظلمة أو يزدان واهرمن وليس الشرك إلا هذا فإذا جاز أخذ الجزية منهم فكذلك من غيرهم من المشركين وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وبهذا تبين أن ذكر أهل الكتاب في الآية ليس لتقييد الحكم بل لبيان جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ومن أصلنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه قوم غزوا أرض الحرب فارتد منهم طائفة واعتزلوا عسكرهم وحاربوا ونابذوهم فأصاب المسلمون غنيمة وأصاب أولئك المرتدون غنيمة من أهل الشرك ثم تابوا قبل أن يخرجوا من دار الحرب لم يشارك أحد الفريقين الآخر فيما أصابوا لأن بعضهم لم يكن ردءا للبعض فالمسلمون لا ينصرون المرتدين ولا يستنصرون بالمرتدين إذا حزبهم أمر ولأن مصاب المرتدين ليس بغنيمة إذ لم يكن قصدهم عند الإصابة إعزاز الدين والمرتدون في حق المسلمين كأهل الحرب فإنهم في دار الحرب وأهل الحرب إذا أسلموا والتحقوا بالجيش لم يشاركوهم فيما أصابوا قبل ذلك وكذلك المرتدون إلا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام فحينئذ يشارك بعضهم بعضا لأنهم قاتلوا دفعا عن ذلك المال فكأنهم أصابوه بهذا القتال واشتركوا في إحرازه بالدار فيشارك بعضهم بعضا في ذلك ثم هذا فيما أصابه المسلمون غير مشكل بمنزلة من أسلم من أهل الحرب والتحق بالجيش إذا لقوا قتالا فقاتل بعضهم وما أصاب المرتدون وإن لم يكن له حكم الغنيمة فإنه يأخذ حكم الغنيمة بهذا القتال كالمتلصص إذا أصاب مالا ثم لحقه جيش المسلمين فإن مصابه يأخذ حكم الغنيمة حتى يخمس ولا شيء على من قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الإسلام لأنهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة فإن جددوها فحسن وإن قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن.(10/204)
قال: وإذا ارتد الغلام المراهق عن الإسلام لم يقتل وهنا فصلان إذا أسلم الغلام العاقل الذي لم يحتلم فإسلامه صحيح عندنا استحسانا وقي القياس لا يصح إسلامه في أحكام الدنيا وهو قول زفر، والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم" ومن كان مرفوع القلم فلا يبنى الحكم في الدنيا على قوله ولأنه غير مخاطب بالإسلام ما لم يبلغ فلا يحكم بصحة إسلامه كالذي لا يعقل إذا لقن فتكلم به وتقريره من أوجه أحدها: أنه لا عبرة لعقله قبل البلوغ حتى يكون تبعا لغيره في الدين والدار بمنزلة الذي لا يعقل وتقرير هذا أنه يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه فإذا لم يعتبر اعتقاده ومعرفته في أبقاء ما كان ثابتا فكيف يعتبر ذلك في إثبات ما لم يكن ثابتا وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه بعينه مغايرة على سبيل المنافاة. والثاني أنه لو صح إسلامه بنفسه كان ذلك منه فرضا لاستحالة القول بكونه مستقلا في الإسلام ومن ضرورة كونه فرضا أن يكون مخاطبا به وهو غير مخاطب باتفاق فإذا لم يمكن تصحيحه فرضا لم يصح أصلا(10/205)
ص -99- ... بخلاف سائر العبادات فإنه يتردد بين الفرض، والنفل وبخلاف ما إذا جعل مسلما تبعا لغيره لأن صفة الفرضية في الأصل تغني عن اعتباره في التبع كالإقرار باللسان، والاعتقاد بالقلب ولأن اعتبار عقله قبل البلوغ لضرورة الحاجة إليه وذلك يختص بما لا يمكن تحصيله له من قبل غيره ففيما يمكن تحصيله له من جهة غيره لا حاجة إلى اعتبار عقله فلا يعتبر. والدليل عليه أنه لو لم يصف الإسلام بعد ما عقل لا تقع الفرقة بينه، وبين امرأته ولو صار عقله معتبرا في الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن أن يصف كما بعد البلوغ ولأن أحكام الإسلام في الدنيا تنبني على قوله وقوله إما أن يكون إقرارا أو شهادة ولا يتعلق به حكم الشرع كسائر الأقارير والشهادات وأما فيما بينه وبين ربه إذا كان معتقدا لما يقول فنحن نسلم أن له في أحكام الآخرة ما للمسلمين.
وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا" وقد أعرب هنا لسانه شاكرا شكورا فلا نجعله كافرا كفورا وإن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي وحسن إسلامه حتى افتخر به في شعره قال:
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... غلاما ما بلغت أوان حلمي(10/206)
واختلفت الروايات في سنه حين أسلم وحين مات فقال محمد بن جعفر رضي الله عنهما أسلم وهو ابن خمس سنين ومات وهو ابن ثمانية وخمسين سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام في أول مبعثه ومدة البعث ثلاث وعشرون سنة والخلافة بعده ثلاثون انتهى بموت علي رضي الله عنه فإذا ضممت خمسا إلى ثلاث وخمسين فيكون ثمانية وخمسين وقال العتيبي أسلم وهو ابن سبع سنين ومات وهو ابن ستين سنة بهذا الطريق أيضا وقال الجاحظ أسلم وهو ابن عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا ذكره محمد في السير الكبير والمعنى فيه أنه أتى بحقيقة الإسلام وهو من أهله فيحكم بإسلامه كالبالغ وبيان الوصف أن الإسلام اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وهو من أهل الاعتقاد ومن رجع إلى نفسه علم أنه كان معتقد للتوحيد قبل بلوغه ولأنه من أهل اعتقاد سائر الأشياء والمعرفة به ومن أهل معرفة أبويه والرجوع إليهما إذا حزبه أمر فعرفنا ضرورة أنه من أهل معرفة خالقه وقد سمعنا إقراره بعبارة مفهومة ونحن نرى صبيا يناظر في الدين ويقيم الحجج الظاهرة حتى إذا ناظر الموحدين أفهم وإذا ناظر الملحدين أفحم فلا يظن بعاقل أن يقول أنه ليس من أهل المعرفة.
والدليل على الأهلية أنه يجعل مسلما تبعا لغيره وبدون الأهلية لا يتصور ذلك ولأنه مع الصبا أهل للرسالة قال الله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] فعلم ضرورة أنه أهل للإسلام ثم بعد وجود الشيء حقيقة إما أن يسقط اعتباره بحجر شرعي فلا يظن ذلك ها هنا والناس عن آخرهم دعوا إلى الإسلام والحجر عن الإسلام كفر أو لا يحكم بصحته لضرر يلحقه ولا تصور لذلك في الإسلام فإنه سبب للفوز والسعادة الأبدية فيكون محض منفعة في(10/207)
ص -100- ... الدنيا والآخرة وإن حرم ميراث مورثه الكافر أو بانت منه زوجته الكافرة فإنما يحال بذلك على خبثها لا على إسلامه ألا ترى أن هذا الحكم يثبت إذا جعل تبعا لغيره والتبعية فيما يتمحض منفعة لا فيما يشوبه ضرر وإنما جعل تبعا لتوفير المنفعة عليه وفي اعتبار منفعته مع إبقاء التبعية معنى توفير المنفعة لأنه ينفتح عليه باب تحصيل هذه المنفعة بطريقين فكان ذلك أنفع وإنما يمتنع الجمع بين معنى التبعية والأصالة إذا كان بينهما مضادة فأما إذا تأيد أحدهما بالآخر فذلك مستقيم كالمرأة إذا سافرت مع زوجها ونوت السفر فهي مسافرة بنيتها مقصودا وتبعا لزوجها أيضا وإنما لم يعتبر اعتقاده عند إسلام أحد الأبوين لتوفير المنفعة عليه فهذا يدل على اعتبار اعتقاده إذا أسلم مع كفرهما لتوفير المنفعة عليه وإنما لم يكن مخاطبا بالأداء لدفع الحرج عنه إذا امتنع من الأداء وهذا يدل على أنه يحكم بصحته إذا أدى باعتبار أن عند الأداء يجعل الخطاب كالسابق لتحصيل المقصود كالمسافر لا يخاطب بأداء الجمعة فإذا أدى يجعل ذلك فرضا منه بهذا الطريق وهذا لأن عدم توجه الخطاب إليه بالإسلام لدفع الضرر ولا ضرر عليه إذا أدرج الخطاب بهذا الطريق بل تتوفر المنفعة عليه مع أنه يحكم بإسلامه لوجود حقيقته من غير أن يتعرض لصفته وإنما لا تبين زوجته منه إذا لم يحسن أن يصف بعد ما عقل لبقاء معنى التبعية ولتوفير المنفعة عليه ولا وجه لاعتبار هذا القول بسائر الأقاويل فإنا نجعله فيها كاذبا أو لاغيا وإذا أقر بوحدانية الله تعالى فلا يظن بأحد أن يقول أنه كاذب في ذلك أو لاغ بل يتيقن بأنه صادق في ذلك فجرينا الحكم عليه فأما إذا ارتد هذا الصبي العاقل فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول لا تصح ردته وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو القياس لأن الردة تضره وإنما يعتبر معرفته وعقله فيما ينفعه لا فيما يضره ألا ترى أن قبول الهبة منه صحيح والرد باطل وأبو حنيفة ومحمد(10/208)
رحمهما الله تعالى قالا يحكم بصحة ردته استحسانا لعلته لا لحكمه فإن من ضرورة اعتبار معرفته والحكم بإسلامه بناء على علته اعتبار ردته أيضا لأنه جهل منه بخالقه وجهله في سائر الأشياء معتبر حتى لا يجعل عارفا إذا علم جهله به فكذلك جهله بربه ولأن من ضرورة كونه أهلا للعقد أن يكون أهلا لرفعه كما أنه لما كان أهلا لعقد الإحرام والصلاة كان أهلا للخروج منهما وإنما لم يصح منه رد الهبة لما فيه من نقل الملك إلى غيره ألا ترى أن ضرر الردة يلحقه بطريق التبعية إذا ارتد أبواه ولحقا به بدار الحرب وضرر رد الهبة لا يلحقه من جهة أبيه فبهذا يتضح الفرق بينهما وإذا حكم بصحة ردته بانت منه امرأته ولكنه لا يقتل استحسانا لأن القتل عقوبة وهو ليس من أهل أن يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببها كسائر العقوبات ولكن لو قتله إنسان لم يغرم شيئا لأن من ضرورة صحة ردته إهدار دمه وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ولو قتلها قاتل لم يلزمه شيء وهذه فصول أحدها في الذي أسلم تبعا لأبويه إذا بلغ مرتدا في القياس يقتل لارتداده بعد إسلامه وفي الاستحسان لا يقتل ولكن يجبر على الإسلام لأنه(10/209)
ص -101- ... ما كان مسلما مقصودا بنفسه وإنما يثبت له حكم الإسلام تبعا لغيره فيصير ذلك شبهة في إسقاط القتل عنه وإن بلغ مرتدا والثاني إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا فهو على هذا القياس والاستحسان لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر والثالث إذا ارتد في صغره والرابع المكره على الإسلام إذا ارتد فإنه لا يقتل استحسانا لأنا حكمنا بإسلامه باعتبار الظاهر وهو أن الإسلام مما يجب اعتقاده ولكن قيام السيف على رأسه دليل على أنه غير معتقد فيصير ذلك شبهة في إسقاط القتل عنه وفي جميع ذلك يجبر على الإسلام ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شيء وإذا ارتد السكران في القياس تبين منه امرأته لأن السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله حتى لو طلق امرأته بانت منه ولو باع أو أقر بشيء كان صحيحا منه ولكنه استحسن وقال لا تبين منه امرأته لأن الردة تنبني على الاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول ولأنه لا ينجو سكران من التكلم بكلمة الكفر في حال سكره عادة والأصل فيه ما روى أن واحدا من كبار الصحابة رضي الله عنهم سكر حين كان الشرب حلالا وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم إلا عبيدي وعبيد آبائي ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة قل يا أيها الكافرون في صلاة المغرب فترك اللاآت فيه فنزل فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فهو دليل على أنه لا يحكم بردته في حال سكره كما لا يحكم به في حال جنونه فلا تبين منه امرأته والمكره على الردة في القياس تبين منه امرأته وبه أخذ الحسن لأنا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته وإنما ينبني الحكم على ما نسمع منه ولهذا يحكم بإسلامه إن أسلم مكرها ولا أثر لعذر الإكراه في المنع من وقوع الفرقة كما لو أكره على الطلاق وفي الاستحسان لا تقع الفرقة بينه وبين(10/210)
امرأته لأن قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد لما يقول وإنما قصد به دفع الشر عن نفسه والردة تنبني على الاعتقاد وبخلاف الإسلام فهناك بمقابلة هذا الظاهر ظاهر آخر وهو أن الإسلام مما يجب اعتقاده بخلاف الطلاق لأن ذلك إنشاء سببه التكلم والإكراه لا ينافي الإنشاء وهذا إخبار عن اعتقاده والإكراه دليل على أنه كاذب فيه فوز أنه الإكراه على الإقرار بالطلاق وإذا طلب ورثة المرتد كسبه الذي اكتسبه في ردته وقالوا أسلم قبل أن يموت فعليهم البينة في ذلك وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يفرق بين الكسبين والمعنى فيه أن سبب حرمانهم ظاهر وهو ردته عند اكتسابه فهم يدعون عارضا مزيلا لذلك وهو إسلامه قبل موته فعليهم أن يثبتوا ذلك بالبينة وإن نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب عمل في تركته ورثته ما يعمل في تركة المرتد لأنه صار حربيا حقيقة وحكما فيكون كالميت في حق من هو من أهل دارنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(10/211)
ص -102- ... باب الخوارج
قال رضي الله عنه اعلم أن الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب على كل مسلم أن يعتزل الفتنة ويقعد في بيته هكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم "من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النار" وقال لواحد من أصحابه في الفتنة كن حلسا من أحلاس بيتك فإن دخل عليك فكن عبد الله المقتول أو قال عند الله معناه كن ساكنا في بيتك لا قاصدا فإن كان المسلمون مجتمعين على واحد وكانوا آمنين به والسبيل آمنة فخرج عليه طائفة من المسلمين فحينئذ يجب على من يقوى على القتال أن يقاتل مع إمام المسلمين الخارجين لقوله تعالى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] والأمر حقيقة للوجوب ولأن الخارجين قصدوا أذى المسلمين وإماطة الأذى من أبواب الدين وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهي عن المنكر وهو فرض ولأنهم يهيجون الفتنة قال صلى الله عليه وسلم "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" فمن كان ملعونا على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه يقاتل معه والذي روى أن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره لزم بيته تأويله أنه لم يكن له طاقة على القتال وهو فرض على من يطيقه والإمام فيه علي رضي الله عنه فقد قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله رضي الله عنه أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين ولهذا بدأ الباب بحديث كثير الحضرمي حيث قال دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضي الله عنه وفيهم رجل عليه برنس يقول أعاهد الله لأقتلنه فتعلقت به وتفرق أصحابه فأتيت به عليا رضي الله عنه فقلت إني سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك قال ادن ويحك من أنت قال أنا سوار المنقري فقال علي رضي الله عنه خل عنه فقلت أخلي عنه وقد عاهد الله ليقتلنك فقال أفأقتله ولم يقتلني قلت وأنه قد شتمك قال فاشتمه إن شئت أو دعه وفي هذا دليل على أن من لم يظهر منه(10/212)
خروج فليس للإمام أن يقتله وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال ما لم يعزموا على الخروج فالإمام لا يتعرض لهم فإذا بلغه عزمهم على الخروج فحينئذ ينبغي له أن يأخذهم فيحبسهم قبل أن يتفاقم الأمر لعزمهم على المعصية وتهييج الفتنة وكان هؤلاء لم يكونوا مغلبين الخروج عليه ولم يعزموا على ذلك أو لم يصدقه علي رضي الله تعالى عنه فيما أخبره به من عزمه على قتله فلهذا أمره بأن يخلي عنه وليس مراده من قوله فاشتمه إن شئت أن ينسبه إلى ما ليس فيه فذلك كذب وبهتان لا رخصة فيه وإنما مراده أن ينسبه إلى ما علمه منه فيقول يا فتان يا شرير لقصده إلى الشر والفتنة وما أشبه ذلك من الكلام وهو معنى قوله تعالى {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
قال وبلغنا عن علي رضي الله تعالى عنه أنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ حكمت الخوارج من ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل لن نمنعكم مساجد الله(10/213)
ص -103- ... أن تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا ثم أخذ في خطبته ومعنى قوله إذ حكمت الخوارج أي نادوا الحكم لله وكانوا يتكلمون بذلك إذا أخذ علي رضي الله عنه في خطبته ليشوشوا خاطره فإنهم كانوا يقصدون بذلك نسبته إلى الكفر لرضاه بالحكمين وتفويضه الحكم إلى أبي موسى رضي الله عنه ولهذا قال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل يعني أن ظاهر قول المرء الحكم لله حق ولكنهم يقصدون به الباطل وهو نسبته إلى الكفر ثم فيه دليل على أنهم ما لم يعزموا على الخروج فالإمام لا يتعرض لهم بالحبس والقتل فإن المتكلمين بذلك ما كانوا عازمين على الخروج عند ذلك فلهذا قال لن نمنعكم مساجد الله ولن نمنعكم الفيء وفيه دليل على أن التعريض بالشتم لا يوجب التعزير فإنه لم يعزرهم وقد عرضوا بنسبته إلى الكفر والشتم بالكفر موجب للتعزير وفيه دليل على أن الخوارج إذا كانوا يقاتلون الكفار تحت راية أهل العدل فإنهم يستحقون من الغنيمة ما يستحقه غيرهم لأنهم مسلمون وفيه دليل على أنهم يقاتلون دفعا لقتالهم فإنه قال ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا معناه حتى تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل.(10/214)
قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ولا تدففوا على جريح ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وبهذا كله نأخذ فنقول إذا قاتل أهل العدل أهل البغي فهزموهم فلا ينبغي لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا لأنا قاتلناهم لقطع بغيهم وقد اندفع حين ولوا مدبرين ولكن هذا إذا لم يبق لهم فئة يرجعون إليها فإن بقى لهم فئة فإنه يتبع مدبرهم لأنهم ما تركوا قصدهم لهذا حين ولوا منهم منهزمين بل تحيزوا إلى فئتهم ليعودوا فيتبعون لذلك ولهذا يتبع المدبر من المشركين لبقاء الفئة لأهل الحرب وكذلك لا يقتلون الأسير إذا لم يبق لهم فئة وقد كان علي رضي الله عنه يحلف من يؤسر منهم أن لا يخرج عليه قط ثم يخلي سبيله وإن كانت له فئة فلا بأس بأن يقتل أسيرهم لأنه ما اندفع شره ولكنه مقهور ولو تخلص إنحاز إلى فئته فإذا رأى الإمام المصلحة في قتله فلا بأس بأن يقتله وكذلك لا يجهزوا على جريحهم إذا لم يبق لهم فئة فإن كانت باقية فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لأنه إذا بريء عاد إلى تلك الفتنة والشر بقوة تلك الفئة ولأن في قتل الأسير والتجهيز على الجريح كسر شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة فهذا المقصود يحصل بذلك بخلاف ما إذا لم يبق لهم فئة وقوله لا يكشف ستر قيل معناه لا يسبي الذراري ولا يؤخذ مال على سبيل التملك بطريق الاغتنام وبه نقول لا تسبي نساؤهم وذراريهم لأنه مسلمون ولا يتملك أموالهم لبقاء العصمة فيها بكونها محرزة بدار الإسلام فإن التملك بالقهر يخص بمحل ليس فيه عصمة الإحراز بدار الإسلام.
قال وما أصاب أهل العدل من كراع أهل البغي وسلاحهم فلا بأس باستعمال ذلك(10/215)
ص -104- ... عليهم عند الحاجة لأنهم لو احتاجوا إلى سلاح أهل العدل كان لهم أن يأخذوه للحاجة والضرورة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان دروعا في حرب هوازن وكان ذلك بغير رضاه حيث قال أغصبا يا محمد فإذا كان يجوز ذلك في سلاح من لا يقاتل ففي سلاح من يقاتل من أهل البغي أولى فإذا وضعت الحرب أوزارها رد جميع ذلك عليهم لزوال الحاجة وكذلك ما أصيب من أموالهم يرد إليهم لأنه لم يتملك ذلك المال عليهم لبقاء العصمة والإحراز فيه ولأن الملك بطريق القهر لا يثبت ما لم يتم وتمامه بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه وذلك لا يوجد بين أهل البغي وأهل العدل لأن دار الفئتين واحدة.(10/216)
قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه أنه ألقى ما أصاب من عسكر أهل النهر وإن في الرحبة فمن عرف شيئا أخذه حتى كان آخر من عرف شيئا لإنسان قدر حديد فأخذها ولما قيل لعلي رضي الله عنه يوم الجمل ألا تقسم بيننا ما أفاء الله علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة وإنما قال ذلك استبعادا لكلامهم وإظهارا لخطأهم فيما طلبوا وإذا أخذت المرأة من أهل البغي فإن كانت تقاتل حبست حتى لا يبقى منهم أحد ولا تقتل لأن المرأة لا تقتل على ردتها فكيف تقتل إذا كانت باغية وفي حال اشتغالها بالقتال إنما جاز قتلها دفعا وقد اندفع ذلك حين أسرت كالولد يقتل والده دفعا إذا قصده وليس له ذلك بعد ما اندفع قصده ولكنها تحبس لارتكابها المعصية ويمنعها من الشر والفتنة وإذا أخذ رجل حر أو عبد كان يقاتل وكان عسكر أهل البغي على حاله قتل لأنه ممن يقاتل عبدا كان أو حرا وقد بينا جواز قتل الأسير إذا بقيت له فئة وإن كان عبدا يخدم مولاه ولم يقاتل حبس حتى لا يبقى من أهل البغي أحد ولم يقتل لأنه ما كان مقاتلا والقتل في حق أهل البغي للدفع فمن لم يقاتل ولم يعزم على ذلك لا يقتل ولكنه مال الباغي وقد بينا أنه يوقف حتى لا يبقى أحد منهم وإنما يوقف العبد بحبسه لكيلا يهرب فيعود إلى مولاه وما أصاب المسلمون منهم من كراع أو سلاح وليس لهم إليه حاجة قال أما الكراع فيباع ويحبس الثمن لأنه يحتاج إلى النفقة فلا ينفق عليه الإمام من بيت المال لما فيه من الإحسان إلى صاحبه الباغي ولأن حبس الثمن أهون عليه من حبس الكراع فلهذا يبيعه ويحبس ثمنه حتى يتفرق جمعهم فيرد ذلك على صاحبه وأما السلاح فيمسكه ليرده على صاحبه إذا وضعت الحرب أوزارها وهذا لأن في الرد في الحال إعانة لهم على أهل العدل وذلك لا يجوز فلهذا يوقف لتفرق الجمع فإن طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إليها إن كان خيرا للمسلمين لما بينا أنهم قد يحتاجون إلى الموادعة لحفظ قوة أنفسهم إذا لم يقووا على قتالهم وكما يجوز ذلك(10/217)
في حق المرتدين يجوز في حق أهل البغي ولم يؤخذ منهم عليها شيء لأنهم مسلمون ولا يجوز أخذ الجزية من المسلمين وقد بينا مثله في حق المرتدين إلا أن هناك إذا أخذوا ملكوا لأنهم بعد ما صاروا أهل حرب تغنم أموالهم وها هنا إن أخذوا لا يملكون لأن أموال الخوارج لا تغنم بحال وإذا(10/218)
ص -105- ... تاب أهل البغي ودخلوا إلى أهل العدل لم يؤخذوا بشيء مما أصابوا يعني بضمان ما أتلفوا من النفوس والأموال.
ومراده إذا أصابوا ذلك بعد ما تجمعوا وصاروا أهل منعة فأما ما أصابوا قبل ذلك فهم ضامنون لذلك لأنا أمرنا في حقهم بالمحاجة والإلزام بالدليل فلا يعتبر تأويلهم الباطل في إسقاط الضمان قبل أن يصيروا أهل منعة فأما بعد ما صارت لهم منعة فقد انقطع ولاية الإلزام بالدليل حسا فيعتبر تأويلهم وإن كان باطلا في إسقاط الضمان عنهم كتأويل أهل الحرب بعد ما أسلموا والأصل فيه حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين فأنفقوا على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وما كان قائما بعينه في أيديهم فهو مردود على صاحبه لأنهم لم يملكوا ذلك بالأخذ كما أنا لا نملك عليهم مالهم والتسوية بين الفئتين المتقاتلتين بتأويل الدين في الأحكام أصل وقد روى عن محمد قال أفتيهم إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم ذلك في الحكم وهذا صحيح فإنهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطأهم في التأويل إلا أن ولاية الإلزام كان منقطعا للمنعة فلا يجبر على أداء الضمان في الحكم ولكن يفتي به فيما بينه وبين ربه ولا يفتي أهل العدل بمثله لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر وإن كان أهل البغي قد استعانوا بقوم من أهل الذمة على حربهم فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد ألا ترى أن هذا الفعل من أهل البغي ليس ينقض للإيمان فكذلك لا يكون من أهل الذمة نقضا للعهد وهذا لأن أهل البغي مسلمون فإن الله تعالى سمى الطائفتين باسم الإيمان بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وقال علي رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا(10/219)
ملتزمين حكم الإسلام في المعاملات وأن يكونوا من أهل دار الإسلام فلهذا لا ينتقض عهدهم بذلك ولكنهم بمنزلة أهل البغي فيما أصابوا في الحرب لأنهم قاتلوا تحت راية البغاة فحكمهم فيما فعلوا كحكم البغاة وينبغي لأهل العدل إذا لقوا أهل البغي أن يدعوهم إلى العدل هكذا روى عن علي رضي الله عنه أنه بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى أهل حرورا حتى ناظرهم ودعاهم إلى التوبة ولأن المقصود ربما يحصل من غير قتال بالوعظ والإنذار فالأحسن أن يقدم ذلك على القتال لأن الكي آخر الدواء وإن لم يفعلوا فلا شيء عليهم لأنهم قد علموا ما يقاتلون عليه فحالهم في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز القتال به من أهل الحرب كالرمي بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار عليهم والبيات بالليل لأن قتالهم فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين وإذا وقعت الموادعة بينهم فأعطى كل واحد من الفريقين رهنا على أنه أيهما غدر فقتل الرهن فدماء الآخرين لهم حلال فغدر أهل البغي(10/220)
ص -106- ... وقتلوا الرهن الذين في أيديهم لم ينبغ لأهل العدل أن يقتلوا الرهن الذين في أيديهم ولكنهم يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي أو يتوبوا لأنهم صاروا آمنين فينا إما بالموادعة أو بأن أعطيناهم الأمان حين أخذناهم رهنا وإنما كان الغدر من غيرهم فلا يؤاخذون بذنب الغير قال الله تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولكنه لا يخلي سبيلهم لأنه يخاف فتنتهم وأن يعودوا إلى فئتهم فيحاربون أهل العدل فلهذا حبسوا إلى أن يتفرق جمعهم وكذلك إن كان هذا الصلح بين المسلمين والمشركين فغدر المشركون حبس رهنهم في أيدي المسلمين حتى يسلموا وإن أبوا فهم ذمة المسلمين يوضع عليهم الجزية لأنهم حصلوا في أيدينا آمنين فلا يحل قتلهم بغدر كان من غيرهم ولكنهم احتبسوا في دارنا على التأبيد لأنهم كانوا راضين بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد فات ذلك حين قتلوا رهننا فقلنا: إنهم يحتبسون في دارنا على التأبيد.(10/221)
والكافر لا يترك في دارنا مقيما إلا بجزية فتوضع عليهم الجزية إن لم يسلموا ويحكي أن الدوانيقي كان ابتلى بهذا الصلح مع أهل الموصل ثم إنهم غدروا فقتلوا رهنه فجمع العلماء ليستشيرهم في رهنهم فقالوا يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى ساكت فقال له ما تقول قال ليس لك ذلك فإنك شرطت لهم ما لا يحل وشرطوا لك ما لا يحل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فأغلظ عليه القول وأمر بإخراجه من عنده وقال ما دعوتك لشيء إلا أتيتني بما أكره ثم جمعهم من الغد وقال قد تبين لي أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال سل العلماء فسألهم فقالوا لا علم لنا بذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى توضع عليهم الجزية فقال لم وهم لا يرضون بذلك قال لأنهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تحقق فوات ذلك فكانوا راضين بالمقام في دارنا على التأبيد والكافر إذا رضي بذلك توضع عليه الجزية فاستحسن قوله واعتذر إليه ورده إلى بيته بمحمل وإذا أمن الرجل من أهل العدل رجلا من أهل البغي جاز أمانه لأن وجوب قتل الباغي لا يكون أقوى من وجوب قتل المشرك ثم هناك يصح أمان واحد من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" فكذلك ها هنا ولأنه ربما يحتاج إلى أن يناظره فعسى أن يتوب من غير قتال ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل واحد منهما من صاحبه وكذا إن قال لا سبيل عليك أو أمنه بالفارسية أو النبطية هكذا روى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أيما مسلم قال لكافر مبرس أولا يذهل أولاده فهو أمان وكل من يصح أمانه للحربي يصح أمانه للباغي كالمرأة والعبد الذي يقاتل مع مولاه فإن كان العبد لا يقاتل مع مولاه فأمانه لأهل البغي على الخلاف ولا يجوز أمان الذمي وإن كان يقاتل مع أهل العدل كما لا يجوز أمانه للكفار وإذا قاتل النساء من أهل البغي أهل العدل وسعهم(10/222)
قتلهن دفعا لقتالهن فإذا لم يقاتلن لم(10/223)
ص -107- ... يسعهم قتالهن كما في حق أهل الحرب بل أولى فهذا القتال دفع محض فإذا قاتلن قتلن للدفع وإذا لم يقاتلن فلا حاجة إلى دفعهن وإذا كان قوم من أهل العدل في يدي أهل البغي تجار أو أسرى فجني بعضهم على بعض ثم ظهر عليهم أهل العدل لم يقتص لبعضهم من بعض لأنهم فعلوا ذلك حيث لا تصل إليهم يد إمام أهل العدل ولا يجري عليهم حكمه فكأنهم فعلوا ذلك في دار الحرب ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضي أهل البغي لأن أهل البغي فسقة وما لم يخرجوا ففسقهم فسق اعتقاد فأما بعد ما خرجوا ففسقهم فسق التعاطي فكما لا تقبل شهادة الفاسق فكذلك كتاب الفاسق ولأنهم يستحلون دماءنا وأموالنا فربما حكم قاضي أهل البغي بناء على هذا الاستحلال من غير حجة وإن ظهر أهل البغي على مصر فاستعملوا عليه قاضيا من أهله وليس من أهل البغي فإنه يقيم الحدود والقصاص والأحكام بين الناس بالحق لا يسعه إلا ذلك لأن شريحا رحمه الله تعالى تقلد القضاء من جهة بعض بني أمية والحسن رحمه الله تعالى كذلك وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ما استخلف لم يتعرض لقضاء القضاة الذين تقلدوا من جهة بني أمية والمعنى فيه أن الحكم بالعدل ودفع الظلم عن المظلوم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك فرض على كل مسلم إلا أن كل من كان من الرعية فهو غير متمكن من إلزام ذلك فإذا تمكن من ذلك بقوة من قلده كان عليه أن يحكم بما هو فرض عليه سواء كان من قلده باغيا أو عادلا فإن شرط التقليد التمكن وقد حصل فإن كتب هذا القاضي كتابا إلى قاضي أهل العدل بحق لرجل من أهل المصر بشهادة من شهد عنده بذلك أجازه إذا كان هذا القاضي الذي أتاه الكتاب يعرف الشهود الذين شهدوا عند ذلك القاضي وليسوا من أهل البغي لأنهم لو شهدوا عنده بذلك كان عليه أن يقضي بشهادتهم فكذلك إذا نقل القاضي بكتابه شهادتهم إلى مجلسه وإن كانوا من أهل البغي لا يجيز كتابه كما لو شهدوا عنده بذلك لم يقض بشهادتهم على ما(10/224)
بينا وكذلك إن كان لا يعرفهم لأن الظاهر في منعة أهل البغي أن من يسكن فيهم فهو منهم فما لم يعلم خلافه وجب عليه الأخذ بالظاهر.
قال وما أصاب أهل البغي من القتل والأموال قبل أن يخرجوا ويحاربوا ثم صالحوا بعد الخروج على إبطال ذلك لم يجز وأخذوا بجميع ذلك من القصاص والأموال لأن ذلك حق لزمهم للعباد وليس للإمام ولاية إسقاط حقوق العباد فكان شرطهم إسقاط ذلك عنهم شرطا باطلا فلا يوفي به ويصنع بقتلى أهل العدل ما يصنع بالشهيد فلا يغسلون ويصلى عليهم هكذا فعل علي رضي الله عنه بمن قتل من أصحابه وبه أوصى عمار بن ياسر وحجر بن عدي وزيد بن صوحان رضي الله عنهم حين استشهدوا وقد رويناه في كتاب الصلاة ولا يصلى على قتلى أهل البغي ولا يغسلون أيضا ولكنهم يدفنون لإماطة الأذى هكذا روى عن علي رضي الله عنه أنه لم يصل على قتلى النهروان ولأن الصلاة عليهم للدعاء(10/225)
ص -108- ... لهم والاستغفار قال الله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وقد منعنا من ذلك في حق أهل البغي ولأن القيام بغسلهم والصلاة عليهم نوع موالاة معهم والعادل ممنوع من الموالاة مع أهل البغي في حياة الباغي فكذلك بعد وفاته وكان الحسن بن زياد رحمهما الله تعالى يقول هذا إذا بقيت لهم فئة فإن لم يبق لهم فلا بأس للعادل بأن يغسل قريبه من أهل البغي ويصلى عليه وجعل ذلك بمنزلة قتل الأسير والتجهيز على الجريح لأن في القيام بذلك مراعاة حق القرابة ولا بأس بذلك إذا لم يبق لهم فئة.(10/226)
قال وأكره أن تؤخذ رؤسهم فيطاف بها في الآفاق لأنه مثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولأنه لم يبلغنا أن عليا رضي الله عنه صنع ذلك في شيء من حروبه وهو المتبع في الباب ولما حمل رأس يباب البطريق إلى أبي بكر رضي الله عنه كرهه فقيل إن الفرس والروم يفعلون ذلك فقال لسنا من الفرس ولا الروم يكفينا الكتاب والخبر وقد جوز ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا إن كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل استدلالا بحديث ابن مسعود رضي الله عنهم حين حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه وإذا قتل العادل في الحرب أباه الباغي ورثه لأنه قتل بحق فلا يحرمه الميراث كالقتل رجما أو في قصاص وهذا لأن حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح أن يكون سببا له وكذلك الباغي إذا قتل مورثه العادل يرثه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يرثه في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه قتل بغير حق فيحرمه الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا لأن اعتقاده تأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته وإنما يعتبر ذلك في حقه خاصة يوضحه أن تأويل أهل البغي عند انضمام المنعة يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في إسقاط ضمان النفس والمال لا في حكم التوريث إذ لا توارث بين المسلم والكافر فكذلك تأويل أهل البغي وهما يقولان المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فيستويان في الأحكام وإن اختلفا في الآثام كما في سقوط الضمان وكما في حق أهل الحرب مع المسلمين وكما أن قتل الباغي مورثه بغير حق فقتل الحربي كذلك بغير حق ثم لا يتعلق به حرمان الميراث حتى إذا جرح الكافر مورثه ثم أسلم ثم مات من تلك الجراحة ورثه وكما أن إعتقاده لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث فكذلك في حكم سقوط حقه في الضمان لا يكون حجة ولكن قيل لما(10/227)
انقطعت ولاية الإلزام بانضمام المنعة إلى التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذلك في حكم التوريث ويكره للعادل أن يلي قتل أخيه وأبيه من أهل البغي أما في حق الأب لا يشكل فإنه يكره له قتل أبيه المشرك كما قال تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] فالمراد في الأبوين المشركين كذلك تأول الآية وهو قوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}(10/228)
ص -109- ... [لقمان: 15] ولما استأذن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه المشرك كره له ذلك وقال "يكفيك ذلك غيرك" وكذلك لما استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه المشرك نهاه عن ذلك ولا بأس بقتل أخيه إذا كان مشركا ويكره إذا كان باغيا لأن في حق الباغي اجتمع حرمتان حرمة القرابة وحرمة الإسلام فيمنعه ذلك من القصد إلى قتله وفي حق الكافر إنما وجد حرمة واحدة وهو حرمة القرابة فذلك لا يمنعه من القتل كالحرمة في حق الدين في حق الأجانب من أهل البغي فإن قصده أبوه المشرك أو الباغي ليقتله كان للابن أن يمتنع منه ويقتله لأنه يقصد بفعله الدفع عن نفسه لا قتل أبيه وكل واحد مأمور بأن يدفع قصد الغير عن نفسه وإن كان الرجل من أهل العدل في صف أهل البغي فقتله رجل لم يكن عليه فيه الدية كما لو كان في صف أهل الحرب لأنا أمرنا بقتال الفريقين فكل من كان واقفا في صفهم فقتاله حلال والقتال الحلال لا يوجب شيئا ولأنه أهدر دمه حين وقف في صف أهل البغي وإذا دخل الباغي عسكر أهل العدل بأمان فقتله رجل من أهل العدل فعليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا وهذا لبقاء شبهة الإباحة في دمه حين كان دخوله بأمان ألا ترى أنه يجب تبليغه مأمنه ليعود حربا فالقصاص يندرىء بالشبهات ووجوب الدية للعصمة والتقوم في دمه للحال.(10/229)
قال وإذا حمل العادل على الباغي في المحاربة فقال قد تبت وألقى السلاح كف عنه لأنه إنما يقاتله ليتوب وقد حصل المقصود فهو كالحربي إذا أسلم ولأنه يقاتله دفعا لبغيه وقتاله وقد اندفع ذلك حين ألقى السلاح وكذلك لو قال كف عني حتى أنظر في أمري فلعلي أتابعك وألقي السلاح لأنه استأمن لينظر في أمره فعليه أن يجيبه إلى ذلك رجاء أن يحصل المقصود بدون القتال وفي حق أهل الحرب لا يلزمه إعطاء الأمان لأن الداعي إلى المحاربة هناك شركة ولا ينعدم ذلك بإلقاء السلاح وها هنا أهل البغي مسلمون وإنما يقاتلون لدفع قتالهم فإذا ألقي السلاح واستمهله كان عليه أن يمهله ولو قال أنا على دينك ومعه السلاح لم يكف عنه بذلك لأنه صادق فيما قال وقد بينا أن البغاة مسلمون وقد كان العادل مأمورا بقتالهم مع علمه بذلك فلا يتغير ذلك بإخباره إياه بذلك وهذا لأنه مادام حاملا للسلاح فهو قاصد للقتال إن تمكن منه فيقتله دفعا لقتاله وإذا غلب قوم من أهل البغي على مدينة فقاتلهم قوم آخرون من أهل البغي فهزموهم فأرادوا أن يسبوا ذراري أهل المدينة لم يسع أهل المدينة إلا أن يقاتلوا دون الذراري لأن ذرارى المسلمين لا يسبون فإن البغاة ظالمون في سبيهم وعلى كل من يقوى على دفع الظلم عن المظلوم أن يقوم به كما قال صلى الله عليه وسلم "لا حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا" وإذا وادع أهل البغي قوما من أهل الحرب لم يسع لأهل العدل أن يغزوهم لأنهم من المسلمين وأمان المسلم إذا كان في فئة ممتنعة نافذ على جميع المسلمين فإن غدر بهم أهل البغي فسبوهم لم يشتر منهم أهل العدل شيئا من تلك السبايا(10/230)
ص -110- ... لأنهم كانوا في موادعة وأمان من المسلمين فالذين غدروا بهم لا يملكونهم ولكنهم يؤمرون بإعادتهم إلى ما كانوا عليه حتى إذا تاب أهل البغي أمروا بردهم وكذلك إن كان أهل العدل هم الذين وادعوهم وإن ظهر أهل البغي على أهل العدل حتى ألجؤهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغي لأن حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي من المسلمين إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بقوم من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرا لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب وإذا لم يكن لأهل البغي منعة وإنما خرج رجل أو رجلان من أهل مصر على تأويل يقاتلان ثم يستأمنان أخذا بجميع الأحكام لأنهما بمنزلة اللصوص وقد بينا أن التأويل إذا تجرد عن المنعة لا يكون معتبرا لبقاء ولاية الإلزام بالمحاجة والدليل أنهما معتقدان الإسلام فيكونان كاللصين في جميع ما أصابا وإذا اشتد رجل على رجل في المصر بعصا أو حجر فقتله المشدود عليه بحديدة قتل به في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا اشتد عليه بشيء لو قتله به قتله فقتله المشدود عليه فدمه هدر وينبغي له أن يقتله وهذه المسألة تنبني على مسألة كتاب الديات أن القتل بالحجر والعصا لا يوجب القصاص عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ما لا يثبت من الحجر الكبير والعصا بمنزلة السلاح في أنه يجب القصاص به بخلاف العصا الصغير ثم المشدود عليه يتمكن من دفع شر القتل عن نفسه إذا صار مقصودا بالقتل وإقدامه على ما هو مباح له أو مستحق عليه شرعا لا يوجب عليه شيئا فإذا كان عندهما الحجر الكبير كالسلاح فنقول الشاد لو حقق مقصوده لزمه القصاص فبمجرد قصده يهدر دمه بل أولى لأن هدر الدم وإباحة القتل بمجرد القصد أسرع(10/231)
ثبوتا حتى كان للابن أن يقتل أباه إذا قصده دفعا للضرر وإن كان لو حقق مقصوده لا يلزمه القود وكذلك الصبي والمجنون إذا قصد قتل إنسان بالسلاح يباح قتله دفعا وإن كان لو حقق مقصوده لا يلزمه القصاص ثم ما لا يثبت عندهما آلة القتل كالسلاح فالمقصود بالقتل دفع شر القتل عن نفسه فلا يلزمه شيء وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى العصا والحجر ليس بآلة القتل فهو لا يدفع القتل عن نفسه وإنما يدفع الأذى عن نفسه وبالحاجة إلى دفع الأذى لا يباح له الإقدام على القتل ولأن الشاد لو حقق مقصوده لا يلزمه القصاص فبمجرد القصد أيضا لا يهدر دمه.
فإن قيل: إن كان لا يخاف على نفسه من جهة القتل بخلاف الجرح وحرمة أطرافه لا تكون دون حرمة ماله ولو قصد ماله كان له أن يقتله دفعا فهنا أولى.
قلنا: بناء هذا الحكم على قصده وقصده ها هنا النفس لا الطرف والمشدود عليه لا يخاف القتل من جهة لأنه في المصر بالنهار فيلحقه الغوث قبل أن يأتي على نفسه فلهذا لا(10/232)
ص -111- ... يباح الإقدام على قتله بخلاف ما إذا كان بالليل أو كان بالمفازة لأن الغوث بالبعد منه عادة فإلى أن ينتبه الناس ويخرجوا ربما يأتي على نفسه فكان هو دافعا شر القتل عن نفسه وبخلاف السلاح فإنه آلة القتل من حيث أنه جارح فالظاهر أنه يأتي على نفسه قبل أن يلحقه الغوث فيباح له أن يقتله دفعا فلا يلزمه به شيء ولا يفصل بين قصده إلى المال أو إلى النفس بل هو على التقسيم الذي قلنا: سواء أراد نفسه أو ماله ومقصوده من ايراد هذه المسألة ها هنا الفرق بين اللصوص وبين أهل البغي فإن في حق اللصوص المنعة تجردت عن تأويل وقد بينا أن في حق أهل البغي أن المغير للحكم اجتماع المنعة والتأويل وأنه إذا تجرد أحدهما عن الآخر لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب والعبد في جميع ما ذكرنا كالحر وعلى هذا لو أن لصوصا غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الأنفس واستهلكوا الأموال ثم ظهر عليهم أهل العدل أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل وإذا غلب أهل البغي على مدينة فاستعملوا عليها قاضيا فقضى بأشياء ثم ظهر أهل العدل على تلك المدينة فرفعت قضاياه إلى قاضي أهل العدل فإنه ينفذ منها ما كان عدلا لأنه لو نقضها احتاج إلى إعادة مثلها والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد ولا ينقض شيئا ليعيده وكذلك إن قضى بما رآه بعض الفقهاء لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ فلا ينقض ذلك قاضي أهل العدل من قضايا من تقلد من أهل البغي وإن كان مخالفا لرأيه وإذا اجتمع عسكر أهل العدل والبغي على قتال أهل الحرب فغنموا غنيمة اشتركوا فيها لأنهم مسلمون اشتركوا في القتال لإعزاز الدين وفي إحراز الفيء بدار الإسلام وهو معنى قول علي رضي الله عنه لن نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ويأخذ خمسها أهل العدل ليصرفوا ذلك إلى المصارف فإن أهل البغي لا يفعلون ذلك لأنهم يستحلون أموالنا فالظاهر أنهم لا يصرفون الخمس إلى مصارفه ولأن أهل العدل يؤمرون بأن يتكلفوا لتكون(10/233)
الراية لهم وإنما يظهر ذلك إذا كانوا هم الذين أخذوا الخمس وكذلك إن غنم أحد الفريقين دون الآخر اشتركوا فيها لأن بعضهم ردء البعض وقد اشتركوا في الإحراز وكذلك إذا غزا الإمام بجند المسلمين فمات في أرض الحرب واختلف الجند فيمن يستخلفونه ثم غنموا أو غنمت طائفة منهم اشتركوا فيها لأنهم مع هذا الاختلاف يجتمعون على قتال أهل الحرب لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز الدين فيشتركون في المصاب وقد بينا أن جيشا لهم منعة لو دخلوا دار الحرب من غير إذن الإمام خمس ما أصابوا وقسم ما بقي بينهم على سهام الغنيمة فكذلك حال الذين قاتلوا بعد ما مات الإمام قبل أن يستخلفوا غيره وإذا استعان قوم من أهل البغي بقوم من أهل الحرب على قتال أهل العدل وقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل قال يسبي أهل الحرب وليست استعانة أهل البغي بهم بأمان لهم لأن المستأمن يدخل دار الإسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا دار الإسلام إلا ليقاتلوا المسلمين من أهل العدل فعرفنا أنهم غير مستأمنين ولأن المستأمنين لو تجمعوا وقصدوا قتال المسلمين وناجزوهم(10/234)
ص -112- ... كان ذلك منهم نقضا للأمان فلأن يكون هذا المعنى مانعا ثبوت الأمان في الابتداء أولى وكذلك أهل البغي إذا دعوا قوما من أهل الحرب فأعان أولئك القوم من أهل الحرب على أهل العدل فقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل فإنهم يسبونهم لما بينا أن موادعة أهل البغي وإن كانت عاملة في حق أهل العدل فهم بالقصد إلى مال أهل العدل صاروا ناقضين لتلك الموادعة والتحقوا بمن لا موادعة لهم من أهل الحرب في حكم السبي من لحق بعسكر أهل البغي وحارب معهم لم يكن فيه حكم المرتد حتى لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين امرأته فإن عليا رضي الله تعالى عنه لم يفعل ذلك في حق أحد ممن التحق من أهل عسكره بمن خالف ولما قال للذي أتاه بعد ذلك يخاصم في زوجته أنت الممالئ علينا عدونا قال أو يمنعني ذلك عدلك فقال لا وقضى له بزوجته ولأن الموت الحكمي إنما يثبت بتباين الدارين حقيقة وحكما وذلك لا يوجد ها هنا فمنعة أهل البغي وأهل العدل كلها في دار الإسلام فلهذا لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين زوجته والله أعلم.
باب آخر في الغنيمة(10/235)
قال قال أبو حنيفة رحمه الله المقطوع في الحرب وصاحب الديون في الغنيمة سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغنيمة قال "لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم" فقال السائل فهل أحدا أحق بشيء من غيره قال "لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من صاحبك" ولأن السبب هو القهر على وجه يكون فيه إعزاز الدين والمتطوع في ذلك كصاحب الديون ومن دخل دار الحرب للتجارة وهو في عسكر المسلمين فلا حق له في الغنيمة إلا أن يلقى المسلمون العدو فيقاتل معهم فيشاركهم حينئذ لأن التاجر ما كان قصده عند الانفصال إلى دار الحرب القتال لاعزاز الدين وإنما كان قصده التجارة فلا يكون هو من الغزاة وإن كان فيهم إلا أن يقاتل فحينئذ يتبين بفعله أن مقصوده القتال ومعنى التجارة تبع فلا يحرمه ذلك سهمه وقيل نزل قوله عز وجل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني التجارة في طريق الحج فكذلك في طريق الغزو وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير الذي لا يطيق القتال والذين بهم زمانة لا يطيقون القتال فنهى عن ذلك وكرهه والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى امرأة مقتولة "ها ما كانت هذه تقاتل" فهذا تنصيص على أنها لا تقتل والشيخ الكبير ومن به زمانة بهذه الصفة قالوا وهذا إذا كان لا يقاتل برأيه وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك فإن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين سنة وقد عمى وكان ذا رأي في الحرب.
قال وسألته عن أصحاب الصوامع والرهبان فرأى قتلهم حسنا وفي السير الكبير مروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم لا يقتلون وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم(10/236)
ص -113- ... الله وقيل لا خلاف في الحقيقة فإنهم إن كانوا يخالطون الناس يقتلون عندهم جميعا لأن المقاتلة يصدرون عن رأيهم وهم الذين يحثونهم على قتال المسلمين وإن كانوا طينوا على أنفسهم الباب ولا يخالطون الناس أصلا فإنهم لا يقتلون لأنهم لا يقاتلون بالفعل ولا بالحث عليه وقيل بل في المسألة خلاف فهما استدلا بوصية أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حيث قال وستلقى أقواما من أصحاب الصوامع والرهبان زعموا أنهم فرغوا أنفسهم للعبادة فدعهم وما فرغوا أنفسهم له والمعنى فيه أنهم لا يقاتلون والقتل لدفع القتال فكانوا هم في ذلك كالنساء والصبيان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هؤلاء من أئمة الكفر قال تعالى {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التبة: 12] فمعنى هذا الكلام أنهم فرغوا أنفسهم للإصرار على الكفر والاشتغال بما يمنع عنه في الإسلام والظاهر أن الناس يقتدون بهم فهم يحثون الناس على القتال فعلا وإن كانوا لا يحثونهم على ذلك قولا ولأنهم بما صنعوا لا تخرج بنيتهم من أن تكون صالحة للمحاربة وإن كانوا لا يشتغلون بالمحاربة كالمشغولين بالتجارة والحراثة منهم بخلاف النساء والصبيان.
قال وسألته عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الإمام قال أي ذلك فعل فحسن لأن بالأسر ما تسقط الإباحة من دمه حتى يباح للإمام أن يقتله فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه ولما قتل أمية بن خلف بعد ما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على من قتله وإن أتى به الإمام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الإمام والأول أقرب إلى إظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي أن يختار من ذلك ما يعلمه أنفع وأفضل للمسلمين.(10/237)
قال وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أكره ذلك وأنهي عنه وأصل الخلاف في عقود الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه وأشار إلى المعنى ها هنا فقال أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى معناه أن في غير عسكر المسلمين لا أمان لهم في المال الذي جاؤا به فإن للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة وسألته عن المسلمين يستعينون بأهل الشرك على أهل الحرب قال لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الظاهر الغالب لأن قتالهم بهذه الصفة لإعزاز الدين والاستعانة عليهم بأهل الشرك كالاستعانة بالكلاب ولكن يرضخ لأولئك ولا يسهم لأن السهم للغزاة والمشرك ليس بغاز فإن الغزو عبادة والمشرك ليس من أهلها وأما الرضخ لتحريضهم على الإعانة إذا احتاج المسلمون إليهم بمنزلة الرضخ للعبيد والنساء .(10/238)
ص -114- ... قال وسألته عن الأسير يقتل أو يفادى قال لا يفادى ولكنه يقتل أو يجعل فيئا أي ذلك كان خيرا للمسلمين فعله الإمام والكلام ها هنا في فصول:
أحدها: مفاداة الأسير بمال يؤخذ من أهل الحرب فإن ذلك لا يجوز عنده وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال العظيم وذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير أن ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله تعالى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] والمراد به الأسارى بدليل أول الآية {َفَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] ولما شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم في الأسارى يوم بدر أشار أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لما رأى من حاجة أصحابه إلى المال في ذلك الوقت والمعنى فيه أن استرقاق الأسير جائز وفيه منفعة للمسلمين من حيث المال فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز ذلك ولا يجوز قتله وفيه إبطال حق الغانمين عنه بغير عوض فلأن يجوز بعوض وهو المال الذي يفادى به كان أولى.(10/239)
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم وفي المفاداة ترك إقامة هذا الفرض وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفاداة الأسارى يوم بدر كيف وقد قال تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 68] وقال صلى الله عليه وسلم "لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر" فإنه كان أشار بقتلهم واستقصى في ذلك وقال تعالى {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [الأنفال: 85] فما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة على وجه الإنكار عليهم ففائدتنا أن لا نفعل مثل ما فعلوا وحديث أبي بكر رضي الله عنه في الأسير حيث قال لا تفادوه وإن أعطيتم به مدين من ذهب ولأنه صار من أهل دارنا فلا يجوز إعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة وبه فارق الاسترقاق لأن في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ولأن تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز وقتل المشرك فرض ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة يوضحه أن في هذا تقوية المشركين بمعنى يختص بالقتال وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى لأن قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال وعن محمد رحمه الله تعالى قال لا يجوز المفاداة للشيخ الكبير الذي لا يرجي له نسل ولا رأي له في الحرب بالمال لأن مثله لا يقتل وليس في المفاداة ترك القتل المستحق ولا تقوية المشركين بإعادة(10/240)
المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره من الأموال منهم فأما مفاداة الأسير بالأسير لا يجوز(10/241)
ص -115- ... في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي رواية عنه أنه جوز ذلك وهو قولهما لأن في هذا تخليص المسلم من عذاب المشركين والفتنة في الدين وذلك جائز كما تجوز المفاداة في أسارى المسلمين بمال من كراع أو سلاح أو غير ذلك وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن قتل المشركين فرض محكم فلا يجوز تركه بالمفاداة وهذا لأنه إذا ابتلى الأسير المسلم بعذاب أو فتنة من جهتهم فذلك لا يكون مضافا إلى فعل المسلم وإذا خلينا سبيل المشرك ليعود حربا لنا فذلك بفعل مضاف إلينا فمراعاة هذا الجانب أولى وهذا لأنا أمرنا ببذل النفوس والأموال لنتوصل إلى قتلهم فبعد التمكن من ذلك لا يجوز تركه للخوف على الأسير المسلم ولأن أسيرهم صار من أهل دارنا بمنزلة الذمي فكما لا يجوز إعادة الذمي إليهم بطريق المفاداة بأسير المسلمين فكذلك بأسيرهم ويستوي إن طلب مفاداة أسير بأسير أو أسيرين بأسير منهم لأن الظاهر أنهم إنما يطلبون ذلك لقوة قتال ذلك الأسير وفي المفاداة تقويتهم على قتال المسلمين وقد بينا أن ذلك ممتنع شرعا ثم قال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز المفاداة بالأسير قبل القسمة ولا يجوز بعد القسمة لأن قبل القسمة لم يتقرر كونه من أهل دارنا حتى كان للإمام أن يقتله وقد تقرر ذلك بعد القسمة حتى ليس للإمام أن يقتله فكان بمنزلة الذي بعد القسمة وجعل قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] كناية عن القسمة لأن تحققه يكون عند ذلك ومحمد رحمه الله تعالى يجوز المفاداة بالأسير بعد القسمة لأن المعنى الذي لأجله جوزنا ذلك قبل القسمة الحاجة إلى تخليص المسلم من عذابهم وهذا موجود بعد القسمة وحقهم في الاسترقاق ثابت قبل القسمة وقد صار بذلك من أهل دارنا ثم تجوز المفاداة به لهذه الحاجة فكذلك بعد القسمة وقال لو انفلتت إليهم دابة مسلم فأخذوها في دارهم ثم ظهر المسلمون عليها أخذها صاحبها قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة(10/242)
لأنه لا يد للدابة في نفسها فتحقق إحراز المشركين إياها بالأخذ في دارهم بخلاف الآبق على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه وإن خرج رجل من المشركين بمال أصابه من المسلمين ليبيعه في دار الإسلام فلا سبيل للمالك القديم عليه كما لو أسلم أو صار ذميا لأنا أعطيناه الأمان فيما معه من المال وفي أخذ ذلك منه ترك الوفاء بالأمان إلا في العبد الآبق فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال يأخذه مولاه حيث ما وجده بغير شيء لأنهم لم يملكوه وإنما أعطيناه الأمان فيما هو مملوك له وإذا أسر المشركون جارية لمسلم فأحرزوها ثم اشتراها منهم مسلم فعميت عندهم لم يكن لمولاها أن يأخذها إلا بجميع الثمن في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم لأن الثمن الذي يعطيه المالك القديم فداء وليس ببدل والفداء بمقابلة الأصل دون الوصف ألا ترى أن العبد الجاني إذا عمى عند مولاه واختار الفداء لزمه الفداء بجميع الدية ولأن المولى إذا اختار الأخذ بالثمن يصير المشتري كالمأمور من جهته بالشراء له ولو كان أمره بذلك فعميت عنده لم(10/243)
ص -116- ... يسقط عنه شيء من الثمن فهذا مثله وكذلك لو قطعت يدها فأخذ المشتري أرشها فإن مولاها يأخذها دون الأرش بجميع الثمن لأن الأرش دراهم ودنانير وهي لا تفدى فإذا كان حق المولى في الأرش لا يثبت كان هذا في حقه وما لو سقطت اليد بآفة سواء فلا يسقط شيء من الفداء عن المولى بسلامة الأرش للمشتري ألا ترى أن المشتري لو كان هو الذي قطع يدها أو فقأ عينها لم ينتقص شيء من الفداء باعتباره فكذلك إذا فعل ذلك غيره لأن سلامة البدل كسلامة الأصل وبه يظهر الفرق بين هذا وبين الشفعة فإن هناك لو هدم المشتري شيئا من البناء سقط عن الشفيع حصته من الثمن فكذا إذا فعله غيره يسلم للمشتري بدله وهذا لأن ما يعطيه الشفيع بدل وما صار مقصودا من الأوصاف يكون له حصة من البدل كما لو فقأ البائع عين المبيعة قبل القبض وكذلك إن ولدت عند المشتري فأعتق المشتري الأم أو الولد أخذ الباقي منهما بجميع الثمن وكذلك لو قتل الولد فاختار الأخذ فله أن يأخذ الأم بجميع الثمن لأن الولد جزء من الأصل فإتلاف الولد كإتلاف جزء منها وإذا بقى الولد فبقاء الجزء في حكم الفداء كبقاء الأصل ولم يذكر الخلاف ها هنا فيما إذا أتلف الأم وبقى الولد وفي ذلك اختلاف بين أبي يوسف ومحمد وقد قررنا ذلك فيما أمليناه من شرح الجامع ولو أن رجلا باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري ولم ينقد الثمن حتى أسرها أهل الحرب فاشتراها منهم رجل لم يكن للمشتري عليها سبيل حتى يأخذها البائع لأن قبل الأسر كان البائع أحق بها ليحبسها بالثمن فكذلك بعد الأسر هو أحق بأن يأخذها بالثمن ليعيد حقه في الحبس وإذا أخذها بالثمن كان للمشتري أن يأخذها بالثمنين جميعا الثمن الأول الذي اشتراها به والثاني الذي أفتكها به لأن قصده بما أدى من الفداء إحياء حقه وكان لا يتوصل إلى إحياء حقه إلا بذلك فلم يكن متبرعا فيما أدى وكل حر أسره أهل الحرب ثم أسلموا عليه فهو حر لأنهم لم يملكوه بالأسر فكانوا ظالمين(10/244)
في حبسه فيؤمرون بعد الإسلام بتخلية سبيله وكذلك أم الولد والمدبر والمكاتب لأن أهل الحرب لم يملكوهم لما ثبت فيهم من حق الحرية أو اليد المحترمة للمكاتب في نفسه ولهذا لا يملكون بالبيع فكذلك بالأسر ولو أن الحر أمر تاجرا في دارهم فاشتراه منهم كان للمشتري أن يرجع عليه بالثمن لأنه أمره بأن يعطي مال نفسه في عمل يباشره له فيرجع عليه بذلك كما لو أمره بأن ينفق عليه أو على عياله والمكاتب كذلك لأن أحق بكسبه وأمره بالفداء صحيح في كسبه كأمر الحر وأما المدبر وأم الولد فإنه يرجع عليهما بالثمن إذا أعتقا لأن كسبهما ملك مولاهما وأمرهما غير معتبر في حق المولى ولكنه معتبر في حقهما فيكون هذا بمنزلة كفالة أو إقرار منهما بمال فيؤخذان به بعد العتق وإن اشتراهم بغير أمرهم لم يملكهم لأن البائع لم يكن مالكا لهم فكذلك المشتري لا يملكهم وبطل ماله لأنه متبرع فيما فدى به غير مجبر على ذلك شرعا ولا مأمور به من جهة من حصلت له المنفعة فلا يرجع عليه بشيء كما لو انفق على عيال رجل بغير أمره ولو أن رجلا(10/245)
ص -117- ... حرا أمر رجلا أن يشتري حرا من دار الحرب بعينه بمال سماه فاشتراه لم يكن له على الحر الذي اشتراه من ذلك شيء لأنه لم يأمره بما فعل وكان للمأمور أن يرجع على الذي أمره إن كان ضمن له الثمن أو قال اشتره لي لأنه استعمله وضمن له ما يؤدي من مال نفسه وإن كان قال له اشتره لنفسه واحتسب فيه لم يرجع عليه بشيء لأنه أشار عليه بما هو تبرع وإحسان ولم يستعمله ولا ضمن له شيئا والرجوع عليه بهذا الطريق يكون وإذا اشترى من المشركين عبدا كانوا أسروه من المسلمين فرهنه المشتري ثم جاء مولاه الأول لم يكن له عليه سبيل حتى يفتكه الراهن لأن الراهن بعقد الرهن أوجب الحق للمرتهن في ماليته وصح ذلك منه بمصادفة تصرفه ملكه ولا يتمكن المولى من أخذه من المرتهن لأنه ليس بمالك له ولا من الراهن قبل الفكاك لقصور يده عنه بحق المرتهن فإن أراد أن يتطوع بأداء الدين ثم يعطى الراهن الثمن فذلك له لأنه أوصل إلى المرتهن حقه وهو متطوع في الدين الذي أدى لأنه متبرع بقضاء الدين عن الغير ولأنه فادى ملك الغير وهذا بخلاف البائع فإنه قبل التسليم هو بمنزلة المالك يدا وإنما فادى حقا له يوضحه أن هناك لا طريق له في التوصل إلى إحياء حقه إلا بما أدى من الفداء فلا يجعل متبرعا فيه وها هنا للمولى القديم طريق إلى ذلك بدون قضاء الدين وهو أن يصبر حتى يفتك الراهن فيأخذه حينئذ.(10/246)
قال ولا يجبر الراهن على إفتكاكه لأن الأحياء لحق ثابت في العين في الحال ولا حق للمولى القديم في الأخذ ما لم يسقط حق المرتهن فلهذا لا يجبر على إفتكاكه ولو كان أجره المشتري إجارة كان لمولاه أن يأخذه بالثمن ويبطل الإجارة فيما بقي لأن الإجارة عقد ضعيف ينقض بالعذر ألا ترى أنها تنقض بالرد بسبب فساد البيع والرد بالعيب بخلاف الرهن فكذلك تنقض بالرد على المالك القديم بالثمن بخلاف الرهن وإذا غلب قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيدا للملك ثم إن الملك وأهل أرضه أسلموا أو صاروا ذمة فأولئك المغلوبون عبيد له يصنع بهم ما شاء لما بينا أنهم نهبة فالمقهورون منهم صاروا مملوكين للقاهر بإحرازه إياهم بمنعته لأن قهره بالذين هم جنده
يطيعونه كقهره بنفسه وأما جنده الذين غلب بهم فهم أحرار لأنه كان قاهرا بهم لا لهم فكانوا قبل الإسلام أحرارا وبالإسلام تتأكد حريتهم ولا تبطل وإن حضر الملك الموت فورث ماله بعض بنيه دون بعض أو جعل لكل واحد من بنيه موضعا معلوما فإن كان صنع ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ولده بعده فهو جائز على ما صنع لأن الولد الذي ملكه أبوه صار قاهرا مالكا لما أعطاه ولو فعل ذلك بعد موت أبيه بقوته بنفسه أو أتباعه كان يتم ملكه فكذلك إذا فعله بقوة أبيه ومنعته وما كان هو مالكا له قبل الإسلام فبالإسلام يتأكد ملكه فيه وكذلك إن كان فعله وهو موادع للمسلمين جاز أيضا لأن بالموادعة لا تخرج أمواله من أن تكون نهبة تملك بالقهر وإنما يحرم علينا أخذه لمعنى الغدر وهذا لأن بالموادعة لا يصير محرزا له فإن داره لا تصير(10/247)
ص -118- ... دار الإسلام فكان ما فعله بعد الموادعة من تخصيص بعض الأولاد بتمليك المال منه كالمفعول قبل الموادعة ولأنه ما التزم أحكام الإسلام والمنع من إيثار بعض الأولاد على البعض من حكم الإسلام وإن كان جعله لابنه فظهر عليه ابن آخر له بعده فقتله أو نفاه وغلب على ما في يده ثم أسلم كان للابن القاهر ما غلب عليه من ذلك لما بينا أنه بالقهر يصير متملكا عليه ذلك المال لبقائه على الإباحة بعد الموادعة في حق ما بينهم فإن فعل ذلك هذا الابن بعد ما أسلم الابن المقهور أو صار ذمة غلبه على جميع ذلك وأخرج منه أخاه فإن صنعه وهو محارب فجميع ما غلبه عليه له إن أسلم أو صار ذمة لأنه تم إحرازه لمال المسلم أو الذمي فيملكه ويتأكد ملكه بإسلامه وإن صنعه وهو مسلم أو ذمي أمر برد ذلك عليه لأنهم جميعا من أهل دار الإسلام فلا يملك بعضهم مال بعض بالقهر وإن صنع وهو محارب ثم ظهر المسلمون على ذلك فإن وجده الابن الأول قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة وإن اشتراه مسلم منهم وسعه ذلك وكان للأول أن يأخذه منه بالثمن إن شاء كما هو الحكم في أهل الحرب إذا أحرزوا مال المسلمين وإن كان الابن القاهر صنع ذلك وهما مسلمان أو ذميان فلا ينبغي للمسلمين أن يشتروا منه شيئا من ذلك لأنه غاصب غير مالك وهو مأمور بالرد ولا يسع أحد أن يشتري منه شيئا من ذلك وإن اشتراه أخذه منه الأول بغير ثمن لأن البائع لم يكن مالكا فكذلك المشتري منه لا يكون مالكا بل يؤمر برده على المالك مجانا وإن ارتد هذا الابن القاهر بعد ذلك ومنع الدار وأجرى حكم الشرك في داره فقد تم إحرازه وصارت داره(10/248)
دار حرب عندهما بإجراء أحكام الشرك فيها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه بالشرائط الثلاثة كما بينا فإن ظهر المسلمون على تلك الدار بعد ذلك أخذ الابن المقهور ما وجد من ماله قبل القسمة بغير شيء وما وجده بعد القسمة بالقيمة لأنه مال مسلم أحرزه أهل الحرب بدارهم ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا الحكم فيه فيما سبق والله أعلم.
انتهى شرح السير الصغير المشتمل على معنى أثير بإملاء المتكلم بالحق المنير المحصور لأجله شبه الأسير المنتظر للفرج من العالم القدير السميع البصير المصلى على البشير الشفيع لأمته النذير وعلى كل صاحب له ووزير والله هو اللطيف الخبير.(10/249)
ص -119- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الاستحسان
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي كان شيخنا الإمام يقول الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم "خير دينكم اليسر" وقال لعلي ومعاذ رضي الله تعالى عنهما حين وجههما إلي اليمن "يسرا ولا تعسرا قربا ولا تنفرا" وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا عباد الله عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" والقياس والاستحسان في الحقيقة قياسان أحدهما جلي ضعيف أثره فسمي قياسا والآخر خفي قوي أثره فسمي استحسانا أي قياسا مستحسنا فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والظهور كالدنيا مع العقبي فإن الدنيا ظاهرة والعقبي باطنة وترجحت بالصفاء والخلود وقد يقوى أثر القياس في بعض الفصول فيؤخذ به وهو نظير الاستدلال مع الطرد فإنه صحيح والاستدلال بالمؤثر أقوى منه والأصل فيه قوله تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [ الزمر: 17، 18] والقرآن كله حسن ثم أمر باتباع الأحسن وبيان هذا أن المرأة من قرنها إلى قدمها عورة هو القياس الظاهر وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "المرأة عورة مستورة" ثم أبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة فكان ذلك استحسانا لكونه أرفق بالناس كما قلنا: والكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ذكر مسائل هذا الكتاب وسماه كتاب الحظر والإباحة لما فيه من بيان ما يحل ويحرم من(10/250)
المس والنظر ولو سماه كتاب الزهد والورع كان مستقيما لأنه بين فيه غض البصر وما يحل ويحرم من المس والنظر وهذا هو الزهد والورع ثم بدأ الكتاب بمسائل النظر وهو ينقسم أربعة أقسام نظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل والرجل إلى المرأة أما بيان القسم الأول فإنه يجوز للرجل أن ينظر إلى الرجل إلا إلى عورته وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبتيه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" وفي رواية ما دون سرته حتى يجاوز ركبته وبهذا تبين أن السرة ليست من العورة بخلاف ما(10/251)
ص -120- ... يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدي العورة فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لأنه في معنى الاشتهاء فوق الركبة.
وحجتنا في ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا اتزر أبدى عن سرته وقال أبو هريرة للحسن رضي الله عنهما أرنى الموضع الذي كان يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فأبدي عن سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه والتعامل الظاهر فيما بين الناس أنهم إذا اتزروا في الحمامات أبدوا عن السرة من غير نكير منكر دليل على أنه ليس بعورة فأما ما دون السرة عورة في ظاهر الرواية للحديث الذي روينا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضا لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا بعيد لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر وإنما يعتبر فيما لا نص فيه فأما الفخذ عورة عندنا وأصحاب الظواهر يقولون العورة من الرجل موضع السرة وأما الفخذ ليس بعورة لقوله تعالى {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22] والمراد منه العورة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حائط رجل من الأنصار وقد دلى ركبته في ركية وهو مكشوف الفخذ إذ دخل أبو بكر رضي الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عمر رضي الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عثمان رضي الله عنه فتزحزح وغطى فخذه فقيل له في ذلك فقال "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" فلو كان الفخذ من العورة لما كشفه بين يدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.(10/252)
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقال له جرهد وهو يصلى مكشوف الفخذ فقال له عليه الصلاة والسلام "وار فخذك أما علمت أن الفخذ عورة" وحديث عمرو بن شعيب رضي الله عنه نص فيه فأما الحديث الذي رواه فقد ذكر في بعض الروايات أنه كان مكشوف الركبة ثم تأويله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حين دخلا جلسا في موضع لم يقع بصرهما على الموضع الذي كان مكشوفا منه فلما دخل عثمان رضي الله عنه لم يبق إلا موضع لو جلس فيه وقع بصره على ركبته فلهذا غطاه فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول أن العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليست من العورة لحديث انس رضي الله عنه ما أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبته بين يدي جليس قط وإنما قصد بهذا ذكر الشمائل فلو كانت الركبة من العورة لم يكن هذا من جملة الشمائل لأن ستر العورة فرض ولأنه حد العورة فلا يكون من العورة كالسرة وهذا لأن الحد لا يدخل في المحدود.
وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الركبة من العورة وما ذكر في حديث عمرو بن شعيب حتى تجاوز الركبة دليل على أن الركبة من العورة ولأن(10/253)
ص -121- ... الركبة ملتقى عظم الساق والفخذ وعظم الفخذ عورة وعظم الساق ليس بعورة فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجب لكونها عورة وكونها غير عورة فترجح الموجب لكونها عورة احتياطا قال صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" فأما حديث أنس رضي الله عنه فالمروي ما مد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجليه بين يدي جليس قط وهذا من الشمائل وإبداء الركبة على ما ذكر في بعض الروايات كناية عن هذا المعنى أيضا ثم حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ لتعارض المعنيين فيه ولهذا قلنا: من رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازع عليه إن لج وإن رآه مكشوف الفخذ أنكر عليه بعنف ولا يضربه إن لج وإن رآه مكشوف العورة أمره بسترها وأدبه على ذلك إن لج وما يباح إليه النظر من الرجل فكذلك المس لأن ما ليس بعورة يجوز مسه كما يجوز النظر إليه فأما نظر المرأة إلى المرأة فهو كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها كما يغسل الرجل الرجل وقد قال بعض الناس نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها النظر إلى ظهرها وبطنها لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء من دخول الحمامات بمئزر وبغير مئزر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول امنعوا النساء من دخول الحمامات إلا مريضة أو نفساء ولتدخل مستترة ولكنا نقول المراد منع النساء من الخروج وبالقرار في البيوت وبه نقول والعرف الظاهر في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات دليل على صحة ما قلنا: وحاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال لأن المقصود تحصيل الزينة والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل ويتمكن الرجل من الاغتسال في الأنهار والحياض والمرأة لا تتمكن من ذلك فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة(10/254)
وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح للرجال والنساء كالثياب وغيرها وأشار في كتاب الخنثي إلى أن نظر المرأة إلى الرجل كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها أن تنظر إلى ظهره وبطنه لأنه قال الخنثي ألا ينكشف بين الرجال ولا بين النساء ووجه ذلك أن حكم النظر عند اختلاف الجنس غلظ ألا ترى أنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته ولو كانت هي في النظر كالرجل لجاز لها أن تغسله بعد موته وإنما يباح النظر إلى هذه المواضع إذا علم أنه لا يشتهي إن نظر ولا يشك في ذلك فأما إذا كان يعلم أنه يشتهي أو كان على ذلك أكبر رأيه فلا يحل له النظر لأن النظر عن شهوة نوع زنا قال صلى الله عليه وسلم "العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشى والفرج يصدق ذلك كله أو يكذب" والزنا حرام بجميع أنواعه وقال صلى الله عليه وسلم "النظر عن شهوة سهم من سهام الشيطان" فأما نظر الرجل إلى المرأة فهو ينقسم إلى أربعة أقسام نظره إلى زوجته ومملوكته ونظره إلى ذوات محارمه ونظره إلى إماء الغير ونظره إلى الحرة(10/255)
ص -122- ... الأجنبية فأما نظره إلى زوجته ومملوكته فهو حلال من قرنها إلى قدمها عن شهوة أو عن غير شهوة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال غض بصرك إلا عن زوجتك وأمتك وقالت عائشة رضي الله عنها كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكنت أقول بق لي وهو يقول بقي لي ولو لم يكن النظر مباحا ما تجرد كل واحد منهما بين يدي صاحبه ولأن ما فوق النظر وهو المس والغشيان حلال بينهما قال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6] الآية إلا أن مع هذا الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رأي مني مع طول صحبتي إياه وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير" ولأن النظر إلى العورة يورث النسيان وفي شمائل الصديق رضي الله عنه ما نظر إلى عورته قط ولا مسها بيمينه فإذا كان هذا في عورة نفسه فما ظنك في عورة الغير وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة فأما نظره إلى ذوات محارمه فنقول يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة لقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية ولم يرد به عين الزينة فإنها تباع في الأسواق ويراها الأجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهي الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والإكليل والشعر موضع القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر والأذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث أن الحسن والحسين رضي(10/256)
الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوي محارمها أدي إلى الحرج وكما يباح النظر إلى هذه المواضع يباح المس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة رضي الله عنها ويقول "أجد منها ريح الجنة" وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها وقبل أبو بكر رأس عائشة رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم "من قبل رجل أمه فكأنما قبل عتبة الجنة" وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخي أبو بكر يصلى وما أحب أن تكون ليلتي بليلته ولكن إنما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا أن النظر عن شهوة والمس عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنى بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له أن يعرض نفسه للحرام لا يحل له أن يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا أن يمس ذلك منها.(10/257)
ص -123- ... وقال الشافعي رحمه الله في القديم لا بأس بذلك وجعل حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فإن حكم الظهار ثابت بالنص وصورته أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الأم حلالا له لكان هذا تشبيه محللة بمحللة وإذا ثبت هذا في الظهر يثبت في البطن لأنه أقرب إلى المأتي وإلى أن يكون مشتهي منها والجنبان كذلك وذوات المحارم بالنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع لقوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال "ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" وإن عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول أقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولأن الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة بالمصاهرة لأن الله تعالى سوى بينهما بقوله {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنى فقال بعضهم لا يثبت به حل المس والنظر لأن ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزاني لا بطريق النعمة ولأنه قد جرب مرة فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والأصح أنه لا بأس بذلك لأنها محرمة عليه على التأبيد فلا بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولا يجوز أن يقال ثبوت الحرمة بطريق العقوبة هناك لأنا إنما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة وإثبات الحرمة ابتداء بالرأي لا يجوز ثم يحل له أن يخلو بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلى الله عليه(10/258)
وسلم "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه خرج من بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك المسافرة لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وإن احتاج إلى أن يعالجها في الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي أن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هودج عائشة رضي الله عنها ليأخذها من الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت من الذي وضع يده على موضع لم يضعه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا أخوك وروى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال "أكانت سيئة الخلق حين حملتك أكانت سيئة الخلق حين أرضعتك حولين" الحديث إلى أن قال الرجل أرأيت لو(10/259)
ص -124- ... حملتها على عاتقي وحججت بها أكنت قاضيا حقها فقال لا ولا طلقة ورأى ابن عمر رضي الله عنه في موضع الطواف رجلا قد حمل أمه على عاتقه يطوف بها فلما رأى ابن عمر رضي الله عنهما ارتجز فقال:
أنا لها بعيرها المذلل ... إذا الركاب ذعرت لم أذعر
حملتها ما حملتني أكثر ... فهل ترى جازيتها يا بن عمر؟
فقال لا ولا طلقة يالكع ولأن بسبب الستر ينعدم معنى العورة وبالمحرمية ينعدم معنى الشهوة فلا بأس بحملها ومسها في الإركاب والإنزال كما في حق الجنس وأما النظر إلى إماء الغير والمدبرات وأمهات الأولاد والمكاتبات فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] الآية وقد كانت الممازحة مع إماء الغير عادة في العرب فأمر الله تعالى الحرائر باتخاذ الجلباب ليعرفن به من الإماء فدل أن الإماء لا تتخذ الجلباب وكان عمر رضي الله عنه إذا رأي أمة متقنعة علاها بالدرة وقال ألقي عنك الخمار يا دفار وقال عمر رضي الله عنه إن الأمة ألقت قرونها من وراء الجدار أي لا تتقنع قال أنس رضي الله عنه كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرءوس مضطربات البدن ولأن الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها وإنما تخرج في ثياب مهنتها وحالها مع جميع الرجال في معنى البلوى بالنظر والمس كحال الرجل في ذوات محارمه ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها كما في حق ذوات المحارم وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول لا ينظر إلى ما بين سرتها إلى ركبتها ولا بأس بالنظر إلى ما وراء ذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل قال ومن أراد أن يشتري جارية فلينظر إليها إلا إلى موضع المئزر ولكن تأويل هذا الحديث عندنا أن المرأة قد تتزر على الصدر فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه منها إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر(10/260)
بجارية تباع فضرب في صدرها ومس ذراعها ثم قال اشتروا فإنها رخيصة فهذا ونحوه لا بأس به لمن يريد الشراء أو لا يريد وهذا لأنه بمنزلة ذوات المحارم في حكم المس ولأنه كما يحتاج إلى النظر يحتاج إلى المس ليعرف لين بشرتها فيرغب في شرائها وتحل الخلوة والمسافرة بينهما كما في ذوات المحارم إلا أن عند بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى ليس له أن يعالجها في الإركاب والإنزال لأن معنى العورة وإن انعدم بالستر فمعنى الشهوة باق فيها فإنها ممن يحل له والأصح أنه لا بأس بذلك إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لأن المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها وهي تحتاج إلى من يركبها وينزلها فلا بأس بذلك وكذلك لا بأس بأن يخلو بها كالمحارم ألا ترى أن جارية المرأة قد تغمز رجل زوجها وتخلو به ولا يمتنع أحد من ذلك والمدبرة وأم الولد والمكاتبة في هذا كالأمة القنة لقيام الرق فيهن والمستسعاة(10/261)
ص -125- ... في بعض القيمة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها بمنزلة المكاتب وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا بلغت الأمة لم ينبغ أن تعرض في إزار واحد قال محمد وكذلك إذا بلغت أن تجامع وتشتهي لأن الظهر والبطن منها عورة لمعنى الاشتهاء فإذا صارت مشتهاة كانت كالبالغة لا تعرض في إزار واحد فأما النظر إلى الأجنبيات فنقول يباح النظر إلى موضع الزينة الظاهرة منهن دون الباطنة لقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم وقالت عائشة رضي الله عنها إحدى عينيها وقال ابن مسعود رضي الله عنه خفها وملاءتها واستدل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "النساء حبائل الشيطان بهن يصيد الرجال" وقال صلى الله عليه وسلم "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" وجرى في مجلسه صلى الله عليه وسلم يوم ما خير ما للرجال من النساء وما خير ما للنساء من الرجال فلما رجع علي رضي الله عنه إلى بيته أخبر فاطمة رضي الله عنها بذلك فقالت خير ما للرجال من النساء أن لا يراهن وخير ما للنساء من الرجال أن لا يرينهن فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال "هي بضعة مني" فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة وعامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء وبنحو هذا تستدل عائشة رضي الله تعالى عنها ولكنها تقول هي لا تجد بدا من أن تمشى في الطريق فلا بد من أن تفتح عينها لتبصر الطريق فيجوز لها أن تكشف إحدى عينيها لهذه الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولكنا نأخذ بقول علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفها من ذلك ما روي أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى وجهها فلم ير فيها رغبة ولما(10/262)
قال عمر رضي الله عنه في خطبته ألا لا تغالوا في أصدقة النساء فقالت امرأة سفعاء الخدين أنت تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا نجد في كتاب الله تعالى بخلاف ما تقول قال الله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فبقي عمر رضي الله عنه باهتا وقال كل الناس أفقه من عمر حتى النساء في البيوت فذكر الراوي أنها كانت سفعاء الخدين وفي هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة غير مخضوب فقال أكف رجل هذا ولما ناولت فاطمة رضي الله عنها أحد ولديها بلالا أو أنسا رضي الله عنهم قال أنس رأيت كفها كأنه فلقة قمر فدل أنه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا قال القائل:
وما غرني إلا خضاب بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
ثم لا شك أنه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها،(10/263)
ص -126- ... وكفها وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي لأنها كما تبتلى بإبداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبإبداء كفها في الأخذ والإعطاء تبتلى بإبداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لا تجد الخف في كل وقت وذكر في جامع البرامكة عن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لأنها في الخبز وغسل الثياب تبتلى بإبداء ذراعيها أيضا قيل وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لأن ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها لقوله صلى الله عليه وسلم "من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة" وقال لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة بعد النظرة فإن الأولى لك والأخرى عليك" يعنى بالأخرى أن يقصدها عن شهوة وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فاتبعتها بصري فأصاب رأسي جدار فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا" وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه إن نظر اشتهي لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو مبني على الاحتياط وكذلك لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهي أو كان على ذلك أكبر رأيها لما روى أن ابن أم مكتوم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما "احتجبا" فقالتا إنه أعمى يا رسول الله فقال "أو أعميان أنتما" ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقوله صلى الله عليه وسلم "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق" ولأن حكم المس أغلظ حتى أن المس عن شهوة يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت والصوم يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الإنزال ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر(10/264)
لا يكون دليل الرخصة في المس والبلوى التي تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول للمرأة الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لأن حكم المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهي فإذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافح الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها إلا أن عائشة رضي الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما مرض الزبير رضي الله عنه بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلى رأسه ولأن الحرمة لخوف الفتنة فإذا كانت ممن لا تشتهي فخوف الفتنة معدوم وكذلك إن كان هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وإن كان لا يأمن عليها أن تشتهى لم يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما النظر إليها عن شهوة(10/265)
ص -127- ... لا يحل بحال إلا عند الضرورة وهو ما إذا دعي إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر ليوجه الحكم عليها بإقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لأنه لا يجد بدا من النظر في هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغي أن يقصد أداء الشهادة أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لأنه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا دعي إلى تحمل الشهادة وهو يعلم أنه إن نظر إليها اشتهى فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة ألا ترى أن شهود الزنى لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد تحمل الشهادة والأصح أنه لا يحل له ذلك لأنه لا ضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل الشهادة ولا يشتهي بخلاف حالة الأداء فقد التزم هذه الأمانة بالتحمل وهو متعين لأدائها وكذلك إن كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وإن كان يعلم أنه يشتهيها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج امرأة "أبصرها فإنه أحري أن يؤدم بينكما" وكان محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت إجار لها فقيل له أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها" ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة وإنما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وإن كان عليها ثياب فلا بأس بتأمل جسدها لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر إلى جدرانه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي امرأة عليها شارة حسنة فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال "إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل الله(10/266)
له" وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فإن كان كذلك فينبغي له أن يغض بصره عنها لما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لا تلبسوا نساءكم الكتان ولا القباطي فإنها تصف ولا تشف وكذلك إن كانت ثيابها رقيقة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لعن الله الكاسيات العاريات" يعني الكاسيات الثياب الرقاق اللاتي كأنهن عاريات وقال صلى الله عليه وسلم "صنفان من أمتي في النار رجال بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات كأسنمة البخت" ولأن مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فإن كانت صغيرة لا يشتهي مثلها فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها لأنه ليس لبدنها حكم العورة ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل زب الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وهما صغيران وروى أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولأن العادة الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل أن تبلغ حد الشهوة وأما(10/267)
ص -128- ... النظر إلى العورة حرام لما روى عن سلمان رضي الله عنه قال لأن أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلي من أن أنظر إلى عورة أحد أو ينظر أحد إلى عورتي ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعيد في كشف العورة قيل يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا فقال "إن الله أحق أن يستحيى منه" وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فرأى راعيها تجرد في الشمس فعزله وقال "لا يعمل لنا من لا حياء له" ولكن مع هذا إذا جاء العذر فلا بأس بالنظر إلى العورة لأجل الضرورة فمن ذلك أن الخاتن ينظر ذلك الموضع والخافضة كذلك تنظر لأن الختان سنة وهو من جملة الفطرة في حق الرجال لا يمكن تركه وهو مكرمة في حق النساء أيضا ومن ذلك عند الولادة المرأة تنظر إلى موضع الفرج وغيره من المرأة لأنه لا بد من قابلة تقبل الولد وبدونها يخاف على الولد وقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة القابلة على الولادة فذاك دليل على أنه يباح لها النظر وكذلك ينظر الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة أما عند المرض فلأن الضرورة قد تحققت والاحتقان من المداواة وقال صلى الله عليه وسلم "تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء إلا الهرم" وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا كان به هزال فاحش وقيل له أن الحقنة تزيل ما بك من الهزال فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن وهذا صحيح فإن الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره الدق والسل وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إذا قيل له أن الحقنة تقويك على المجامعة فلا بأس بذلك أيضا ولكن هذا ضعيف لأن الضرورة لا تتحقق بهذا وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز وإذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه لا ينظر إليه ولكن يعلم امرأة دواءها لتداويها لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها دون الرجل وكذلك في امرأة العنين ينظر إليها(10/268)
النساء فإن قلن هي بكر فرق القاضي بينهما وإن قلن هي ثيب فالقول قول الزوج مع يمينه والمقصود في هذا الموضع بيان إباحة النظر عند الضرورة فأما ما وراء ذلك من الفرق بين الإخبار ببكارتها وثيابتها ليس من مسائل هذا الكتاب وحاصله أن شهادتهن متى تأيدت بمؤيد كانت حجة والبكارة في النساء أصل فإذا قلن أنها بكر تأيدت شهادتهن بما هو الأصل وإن قلن هي ثيب تجردت شهادتهن عن مؤيد فلا بد من أن يستحلف الزوج حتى ينضم نكوله إلى شهادتهن وكذلك لو اشتري جارية على أنها بكر فقبضها وقال وجدتها ثيبا فإن النساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما فإن قلن هي بكر فلا يمين على البائع لأن شهادتهن قد تأيدت بأصل البكارة وبمقتضي البيع وهو اللزوم وإن قلن هي ثيب يستحلف البائع لتجرد شهادتهن عن مؤيد فإذا انضم نكول البائع إلى شهادتهن ردت عليه وإن لم يجدوا امرأة تداوي تلك القرحة ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك إذا علمت وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاء أو وجع لا تحتمله فلا بأس أن يستروا منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة ثم يداويها رجل ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك(10/269)
ص -129- ... الموضع لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ فيعتبر فيه تحقق الضرورة وذلك لخوف الهلاك عليها وعند ذلك لا يباح إلا بقدر ما ترتفع الضرورة به وذوات المحارم وغيرهم في هذا سواء لأن النظر إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرمية فكان المحرم وغير المحرم فيه سواء.
قال والعبد فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي معناه أنه لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفيها عندنا وقال مالك نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولا يجوز أن يحمل ذلك على الإماء لأن ذلك دخل في قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النساء: 31] ولأن هذا مما لا يشكل لأن للأمة أن تنظر إلى مولاتها كما للأجنبيات فإنما يحمل البيان على موضع الإشكال وعن أم سلمة أنه كان لها مكاتب فلما انتهي إلى آخر النجوم قالت له أتقدر على الأداء فقال نعم فاحتجبت وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا كان لإحداكن مكاتب فأدى آخر النجوم فلتحتجب منه" والمعني فيه أن بينهما سبب محرم للنكاح ابتداء وبقاء فكان بمنزلة المحرمية بينهما وإباحة النظر عند المحرمية لأجل الحاجة وهو دخول البعض على البعض من غير استئذان ولا حشمة وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولاته.(10/270)
وحجتنا في ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضي الله عنهما قالا لا يغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور ومرادهما قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 31] والموضع موضع الإشكال لأن حال الأمة يقرب من حال الرجل حتى تسافر بغير محرم فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها ولم يزل هذا الإشكال بقوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النساء: 31] لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء والمعنى فيه أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة ينبني على هذا السبب وحرمة المناكحة التي بينهما بعارض على شرف الزوال فكانت في حقه بمنزلة منكوحة الغير أو معتدته ولأن وجوب الستر عليها وحرمة الخلوة بالرجل لمعنى خوف الفتنة وذلك موجود ها هنا وإنما ينعدم بالمحرمية لأن الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة فأما الملك لا يقلل الشهوة بل يحملها على رفع الحشمة ومعنى البلوى لا يتحقق لأن اتخاذ العبيد للاستخدام خارج البيت لا داخل البيت على ما قيل من اتخذ عبدا للخدمة داخل بيته فهو كشحان وحديث أم سلمة رضي الله عنها محمول على الاحتجاب لمعنى زوال الحاجة فإن قبل ذلك تحتاج إلى المعاملة معه بالأخذ والإعطاء فتبدى وجهها وكفها له وقد زال ذلك بالأداء فلتحتجب منه ثم قال خصيا أو فحلا هكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها قالت الخصا مثلة فلا يبيح ما كان محرما قبله ولأن الخصى في الأحكام من الشهادات والمواريث كالفحل وقطع تلك الآلة منه كقطع عضو آخر ومعنى الفتنة لا ينعدم فالخصي قد يجامع وقد قيل هو أشد الناس جماعا فإنه لا تفتر آلته بالإنزال وكذلك المجبوب لأنه قد يستحق فينزل(10/271)
ص -130- ... وإن كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء لوقوع الأمن من الفتنة والأصح أنه لا يحل له ذلك ومن رخص فيه تأول قوله تعالى {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] وبين أهل التفسير كلام في معنى هذا فقيل هو المجبوب الذي جف ماؤه وقيل هو المخنث الذي لا يشتهي النساء والكلام في المخنث عندنا أنه إذا كان مخنثا في الردي من الأفعال فهو كغيره من الرجال بل من الفساق ينحى عن النساء وأما من كان في أعضائه لين وفي لسانه تكسر بأصل الخلقة ولا يشتهي النساء ولا يكون مخنثا في الردي من الأفعال فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روى أن مخنثا كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة فاحشة قال لعمر بن أبي سلمة لئن فتح الله الطائف على رسوله لأدلنك على ماوية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال صلى الله عليه وسلم "ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا" أخرجوه وقيل المراد بقوله تعالى {أَوِ التَّابِعِينَ} [النور: 31] الأبله الذي لا يدري ما يصنع بالنساء إنما همه بطنه وفي هذا كلام عندنا فقيل إذا كان شابا ينحى عن النساء وإنما كان ذلك إذا كان شيخا كبيرا قد ماتت شهوته فحينئذ يرخص في ذلك والأصح أن نقول قوله تعالى أو التابعين من المتشابه وقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30] محكم فنأخذ بالمحكم فنقول كل من كان من الرجال فلا يحل لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيرا فحينئذ لا بأس بذلك لقوله تعالى {أََوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فأما جماع الحائض في الفرج حرام بالنص يكفر مستحله ويفسق مباشره لقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وفي قوله(10/272)
تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222] دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر وقال صلى الله عليه وسلم "من أتى امرأة في غير ما أتاها أو أتاها في حالة الحيض أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم" ولكن لا يلزمه بالوطء سوى التوبة والاستغفار ومن العلماء من يقول إن وطئها في أول الحيض فعليه أن يتصدق بدينار وإن وطئها في آخر الحيض فعليه أن يتصدق بنصف دينار وروى فيه حديثا شاذا ولكن الكفارة لا تثبت بمثله.
وحجتنا في ذلك ما روي أن رجلا جاء إلى الصديق رضي الله عنه وقال إني رأيت في المنام كأني أبول دما فقال أتصدقني قال نعم قال إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض فاعترف بذلك فقال أبو بكر رضي الله عنه استغفر الله ولا تعد ولم يلزمه الكفارة واختلفوا فيما سوى الجماع فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى له أن يستمتع بما فوق المئزر وليس له ما تحته وقال محمد رحمه الله تعالى يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وذكره الكرخي مع محمد رحمهما الله تعالى وجه الاستدلال بقوله تعالى {قُلْ هُوَ أَذىً}(10/273)
ص -131- ... [ البقرة: 222] ففيه بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى وذلك في محل مخصوص وروى في الكتاب عن الصلت بن دينار عن معاوية بن قرة رضي الله عنهم قال سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض قالت يتجنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح يعني الجماع والمعنى فيه أن ملك الحل باق في زمان الحيض وحرمة الفعل لمعني استعمال الأذي فكل فعل لا يكون فيه استعمال الأذى فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض وقاسه بالاستمتاع فوق المئزر وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فظاهره يقتضي تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فما اتفق عليه الآثار صار مخصوصا من هذا الظاهر وبقي ما سواه على الظاهر وروى أن وفدا سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض وعن قراءة القرآن في البيوت وعن الاغتسال من الجنابة فقال أسحرة أنتم لقد سألتموني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل من امرأته ما فوق المئزر وليس له ما تحته وقراءة القرآن نور فنور بيتك ما استطعت وذكر الاغتسال من الجنابة وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت كنت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضت فانسللت من الفراش فقال "ما لك أنفست" قلت نعم قال "ائتزرى وعودي إلى مضجعك" ففعلت فعانقني طول الليل والمعنى فيه أن الاستمتاع في موضع الفرج محرم عليه وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمن على نفسه أن يواقع الحرام فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر وكان هذا نوع احتياط ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم "ألا إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" ومحمد أخذ بالقياس وقال ليس المراد بالإتزار حقيقة الإتزار بل المراد موضع الكرسف في ذلك الموضع وبين(10/274)
التابعين اختلاف في معنى قوله عليه الصلاة والسلام ما فوق المئزر فكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول المراد به الاستمتاع بالسرة وما فوقها وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول المراد أن يتدفأ بالإزار ويقضي حاجته منها فيما دون الفرج فوق الإزار ولا ينبغي له أن يعتزل فراشها لأن ذلك تشبه باليهود وقد نهينا عن التشبه بهم وروى أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك فبلغ ميمونة رضي الله عنها فأنكرت عليه وقالت أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض وإذا أراد أن يشتري جارية فلا بأس بأن ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وإن اشتهى لأن المالية مطلوبة بالشراء فلا يصير مقداره معلوما إلا بالنظر إلى هذه المواضع فللحاجة جاز النظر ولا يحل له أن يمس إن اشتهى أو كان ذلك أكبر رأيه لأنه لا حاجة به إلى المس فمقدار المالية يصير معلوما بدونه ولأن حكم المس أغلظ من النظر كما قررنا وقد بينا في كتاب الصلاة حكم غسل كل واحد من الزوجين لصاحبه بعد موته وما فيه من الاختلاف وحكم غسل أم الولد لمولاها وإذا(10/275)
ص -132- ... ماتت المرأة مع الرجال ولا امرأة معهم لم يغسلوها وإن كانوا محارمها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لابنها أو أبيها أن يغسلها بناء على مذهبه أن الظهر والبطن في حق المحرم ليس بعورة فهو بمنزلة نظر الجنس عنده وعندنا الظهر والبطن عورة في حق المحارم وبالموت تتأكد الحرمة ولا ترتفع ولأن هذه الحرمة لحق الشرع والآدمي محترم شرعا حيا وميتا ولهذا لا يغسلها المحرم ولا غير المحرم ولكنها تيمم بالصعيد هكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن امرأة ماتت مع الرجال ليس معهم امرأة قال "تيمم بالصعيد" ولأنه تعذر غسلها لانعدام من يغسلها فصار كما لو تعذر غسلها لانعدام ما تغسل به وإن كان من يتممها محرما لها يممها بغير خرقة وإن كان غير محرم لها يممها بخرقة يلفها على كفه لأنه لم يكن له أن يمسها في حال حياتها فكذلك بعد وفاتها بخلاف المحرم ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها ويعرض بوجهه عن ذراعيها كما في حال الحياة كان له أن ينظر إلى وجهها دون ذراعيها وكذلك يفعل زوجها لأنه التحق بالأجنبي كما قال عمر رضي الله عنه في امرأة له هلكت نحن أحق بها حين كانت حية فأما إذ ماتت فأولياؤها أحق بها وإن مات رجل مع نساء ليس فيهن امرأته يممنه على ما بينا إلا أن من تيممه إذا كانت حرة تيممه بخرقة تلفها على كفها لأنه ما كان لها أن تمسه في حياته فذلك بعد موته وإن كانت مملوكة تيممه بغير خرقة لأنه كان لها أن تمسه في حياته فكذلك بعد موته فإن الأمة بمنزلة المحرم في حق الرجال وأمته وأمة غيره في هذا سواء لأن ملكه قد انتقل إلى وارثه بموته فإن كان معهن رجل كافر علمنه الغسل وكذلك إن كان مع الرجال امرأة كافرة علموها الغسل لتغسلها لأن نظر الجنس إلى الجنس لا يختلف بالموافقة في الدين والمخالفة إلا أن الكافر لا يعرف سنة غسل الموتي فيعلم ذلك وكذلك إن كان معهن صبية صغار لم يبلغوا حد الشهوة علموهم غسل الموتى(10/276)
ليغسلنها وهذا عجيب فالرجال قد يعجزون عن غسل الميت فكيف يقوى عليه الصغار الذين لم يبلغوا حد الشهوة ولكن مراد محمد بيان الحكم إن تصور فإن ارتدت امرأته عن الإسلام بعد موته ثم رجعت إلى الإسلام أو فجربها ابنه لم يكن لها أن تغسله عندنا وقال زفر رحمه الله لها ذلك لأن حل المس والغسل ها هنا باعتبار العدة حتى لو انقضت عدتها بوضع الحمل لم يكن لها أن تغسله وبما اعترض لم يتغير حكم العدة بخلاف ما إذا كان العارض قبل موته لأن الحل هناك باعتبار النكاح وقد ارتفع بهذا العارض.
وحجتنا في ذلك أن ردتها وفعل ابن الزوج بها لو صادف حلا مطلقا كان رافعا له فكذلك إذا صادف ما بقى من الحل بعد موته وهو حل الغسل والمس فيكون رافعا له بطريق الأولى ولا نقول إن هذا الحل لأجل العدة فإن العدة من نكاح فاسد والوطء بالشبهة لا يفيد حل الغسل والمس وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن المجوسي لو أسلم ومات ثم أسلمت امرأته فليس لها أن تغسله عند زفر ولها ذلك في قول أبي يوسف فزفر يعتبر وقت(10/277)
ص -133- ... الموت فإذا لم يكن بينهما حل الغسل والمس عند الموت لا يثبت بعد ذلك بخلاف ما لو أسلمت قبل موته أو انقضت عدة الأخت وقاس بحكم الفرار في الميراث فإنها لو أعتقت بعد موته أو أسلمت لم ترث منه بخلاف ما لو أسلمت في حال الحياة أو أعتقت ثم طلقها ثلاثا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الحل قائم بينهما بعد وطء الأخت ولكن عدتها مانعة ولو زال هذا المانع في حال حياته ثبت حل الاستمتاع مطلقا فكذلك إذا زال بعد موته ثبت من الحل بقدر ما يقبله المحل وهو حل الغسل والمس وأما الصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة إذا مات مع النساء فلا بأس بأن يغسلنه وكذلك الصغيرة مع الرجال لما بينا أنه ليس لعورته حكم العورة في الحياة حتى لا يجب ستره ويباح النظر إليه فكذلك بعد الموت والمعتوهة كالعاقلة لأنها تشتهي وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر وهو عنده مسلم مرضى لا يتوضأ به وهذا لأن خبر الواحد حجة في أمر الدين في حق وجوب العمل به عندنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أن ما لا يوجب علم اليقين لا يوجب العمل أيضا فإن العمل بغير علم لا يجوز قال الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].(10/278)
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] ومن ضرورة وجوب البيان على كل واحد وجوب القبول منه وفائدة القبول منه العمل به قال تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] واسم الطائفة يتناول الواحد فصاعدا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر ليدعوه إلى الإسلام وعبد الله بن أنيس إلى كسرى ومع كل واحد منهما كتاب فلو لم يكن خبر الواحد ملزما لما اكتفي ببعث الواحد وبعث عليا ومعاذا رضي الله تعالى عنهما إلى اليمن والآثار في خبر الواحد كثيرة ذكر محمد بعد هذا بعضها وليس من شرط وجوب العمل أن يكون الخبر موجبا للعلم كما أنه ليس من شرط جواز العمل بما يخبر في المعاملات أن يكون موجبا للعلم حتى يكتفي فيها بخبر الواحد بالاتفاق والدليل عليه وجوب العمل بالقياس وغالب الرأي وإن لم يكن ذلك موجبا علم اليقين إذا عرفنا هذا فنقول هذا المخبر بنجاسة الماء إما أن يكون عدلا مرضيا أو فاسقا أو مستورا فإن كان عدلا فليس له أن يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره لظهور عدالته وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره فإن اعتبار دينه يدل على صدقه في خبره واعتبار تعاطيه الكذب وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فتتحقق المعارضة بينهما ولهذا أمر الله تعالى بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 9] وعند المعارضة الأصل في الماء الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات فإنه يجوز الأخذ فيها بخبر الفاسق لأن الضرورة هناك تتحقق فالعدل لا يوجد في كل موضع ولا دليل هناك يعمل به سوى الخبر(10/279)
ص -134- ... وهنا لا ضرورة ومعنا دليل آخر يعمل به سوى الخبر وهو أن الأصل في الماء الطهارة.
فإن قيل: أليس أن خبر الفاسق لا يقبل في رواية الأخبار وليس هناك دليل سوى الخبر.
قلنا: الضرورة هناك لا تتحقق لأن في العدول الذين يروون ذلك الخبر كثرة يوضح الفرق أن الخبر في المعاملات غير ملزم فيسقط فيه اعتبار شرط العدالة وفي الديانات الخبر ملزم فلا بد من اعتبار شرط العدالة فيه وكذلك إن كان مستورا فالحق المستور في ظاهر الرواية بالفاسق وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال المستور في هذا الخبر كالعدل وهو ظاهر على مذهبه فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم ولكن الأصح ما ذكره لأنه لا بد من اعتبار أحد شرطي الشهادة ليكون الخبر ملزما وقد سقط اعتبار العدد فلم يبق إلا اعتبار العدالة فإذا ثبت أن العدالة شرط قلنا: ما كان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم مضي اليوم فقال العبد لم أدخل وقال المولى دخلت فالقول قول المولى لأن عدم الدخول شرط فلا يكتفي بثبوته ظاهرا لنزول العتق وكذلك إن كان المخبر عبدا لأن في أمور الدين خبر العبد كخبر الحر كما في رواية الأخبار وهذا لأنه يلزم نفسه ثم يتعدي منه إلى غيره فلا يكون هذا من باب الولاية على الغير وبالرق يخرج من أن يكون أهلا للولاية فأما فيما هو إلزام يسوى بين العبد والحر لكونه مخاطبا وكذلك إن كان المخبر امرأة حرة أو أمة كما في رواية الأخبار وهذا لأنها تلتزم كالرجل ثم يتعدى إلى غيرها ورواية النساء من الصحابة رضي الله عنهم كانت مقبولة كرواية الرجال قال صلى الله عليه وسلم "تأخذون شطر دينكم من عائشة رضي الله عنها" ثم بين في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به لأن أكبر الرأي فيما بني على الاحتياط كاليقين وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ(10/280)
به ولم يتيمم.
فإن قيل: كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعنى التعارض في خبر الفاسق كما قلنا: في سؤر الحمار أنه يجمع بين التوضؤ وبين التيمم لتعارض الأدلة في سؤر الحمار.
قلنا: حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفي الأمر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص ولما ثبت التوقف في خبره بقى أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه واستدل بحديث عمر رضي الله تعالى عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضي الله عنه لا تخبرنا عن شيء فلولا أن خبره عد خبرا لما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الأخذ بالاحتياط وقد كره عمر رضي الله تعالى عنه لوجود دليل الطهارة باعتبار الأصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل فلا حاجة إلى احتياط آخر وإن كان الذي أخبره(10/281)
ص -135- ... بنجاسة الماء رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله لا لأن الكفر ينافي معنى الصدق في خبره ولكن لأنه ظهر منهم السعي في إفساد دين الحق قال الله تعالى {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في إفساد أمركم فكان متهما في هذا الخبر فلا يقبل منه كما لا تقبل شهادة الولد لوالده لمعنى التهمة يقول فإن وقع في قلبه أنه صادق فأحب إلى أن يريق الماء ثم يتيمم وإن توضأ به وصلى أجزأه وفي خبر الفاسق قال وإذا وقع في قلبه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به وهذا لأن الفاسق أهل للشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته فيتأيد ذلك بأكبر رأيه وليس الكافر من أهل الشهادة في حق المسلم يوضحه أن الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم ولا ولاية له على المسلم فأما الفاسق المسلم يلتزم وهو من أهل الولاية على المسلم.(10/282)
قال وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيا ولأنه كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم من سمع في صغره ولو روى كان مقبولا منه وكما سقط اعتبار الحرية والذكورة يسقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات والأصح أن مراده العطف على الذمي وإن خبر الصبي والمعتوه في هذا كخبر الذمي لأنهما لا يلتزمان شيئا ولكن يلزمان الغير ابتداء فإنهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الإلزام فكان خبرهما في معنى خبر الكافر رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعوه إلى ذلك ليس الأمر كما قال وهو حلال فإنه ينظر إلى حالهم فإن كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول ذلك الواحد لأن خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فإن خبر الجماعة حجة في الديانات والأحكام وخبر الواحد لبس بحجة في الأحكام ولأن الظاهر من حال المسلمين أنهم لا يأكلون ذبيحة المجوسي ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر مستنكر فلا يقبل وإن كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئا من ذلك لأن خبره باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولأن خبر العدل بالحرمة يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ويستوي إن كان المخبر بالحرمة حرا أو مملوكا ذكرا أو أنثي لأنه أخبر بأمر ديني فإن الحل والحرمة من باب الدين ولو كان في القوم رجلان مرضيان أخذ بقولهما لأن الحجة في الأحكام تتم بخبر المثني فلا يعارض خبرهما خبر الواحد وإن كان فيهم ثقة واحد عمل فيه على أكبر رأيه لاستواء الخبرين عنده وإن لم يكن له فيه رأى واستوى الحالان عنده فلا بأس بأكل ذلك وشربه وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك أما المصير إلى غالب(10/283)
الرأي فللمعارضة بين الخبرين لأن عند المعارضة لا بد من ترجيح أحد الجانبين وغالب الرأي يصلح أن يكون دليلا(10/284)
ص -136- ... للعمل في بعض المواضع فلأن يصلح للترجيح أولى فإن لم يكن له رأي تمسك بأصل الطهارة.
فإن قيل: لا معارضة بين الخبرين لأن أحدهما ينفي الحرمة والآخر يثبت ولا تعارض بين النفي والإثبات قلنا: هذا في الشهادات فأما في الأخبار المعارضة تحقق بين النفي والإثبات لأن كل واحد منهما بانفراده مقبول فإن قيل: لا كذلك في الشاهد إذا زكاه أحد المزكين وجرحه الآخر كان الجرح أولى لأن الجرح مثبت والآخر ناف.
قلنا: نعم ولكن في كل موضع يكون النافي معتمدا لدليل في خبره تتحقق المعارضة في ذلك بين النفي والإثبات وفي كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل يترجح المثبت فهنا النافي معتمد لدليل لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة وكذلك حل الطعام وحرمته فلهذا تحققت المعارضة والذي زكى الشاهد لا يعتمد دليلا في خبره لأن نفي أسباب الجرح لا يعلم حقيقة فلهذا يرجح المثبت هناك على النافي فإن كان الذي أخبره بأنه حلال مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حرام واحد حر فلا بأس بأكله لأن في الخبر الديني المملوك والحر سواء ولا تتحقق المعارضة بين الواحد والمثني في الخبر لأنه يحصل من طمأنينة القلب بخبر الاثنين ما لا يحصل بخبر الواحد وإن كان الذي زعم أنه حرام مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حلال حر واحد ثقة ينبغي له أن لا يأكله لما بينا أن خبر الواحد لا يكون معارضا لخبر الاثنين وكذلك لو أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة وبالآخر حر ثقة يعمل بأكبر رأيه فيه لأن الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين خبر الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة بين الخبرين يصير إلى الترجيح بأكبر الرأي وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين لأن الحجة تتم بقول الحرين ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين لأن في قولهما زيادة إلزام فإن الإلزام بقول المملوكين ينبني على الإلزام اعتقادا والإلزام في قول(10/285)
الحرين لا ينبني على الإلزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة إلزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الجدة أم الأم السدس فقال ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته فأعطاها أبو بكر رضي الله عنه السدس وهذا من أمر الدين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد عنده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أستأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" فقال ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على مثل شهادته قال محمد فهذا إنما فعلاه للاحتياط والواحد يجزى وكان عيسى بن أبان يقول بل إنما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لأن طمانينة القلب تحصل بقول المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة فأما في(10/286)
ص -137- ... زماننا فقد تحقق معني الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والأصح ما أشار إليه محمد رحمه الله تعالى أنهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وإن لم يشهد شاهد آخر ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولم يطلب شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين أراد أن يدخل الشام وبها الطاعون فاستشارهم فأشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها" فأخذ عمر رضي الله عنه بقوله ورجع وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال تأويله أنه إذا كان بحال لو دخل فابتلى وقع عنده أنه ابتلى بدخوله ولو خرج فنجى وقع عنده أنه نجى بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شيء بقدر وأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله تعالى فلا بأس بأن يدخل ويخرج واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث عمر رضي الله عنه فإنه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الإسلام فكان حجة عليه فهذا كله دليل أن خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت كما هو اليوم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنت إذا لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضي الله تعالى(10/287)
عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به علي رضي الله عنه فإنه كان يحلف الشاهد ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول إن خبره يصير مزكى بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه إلا أبو بكر رضي الله عنه فإن تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا نأخذ بهذا القول لأن الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولا حلف المدعى مع البينة ولا يجوز أن يقال إنهم قد تركوا نقله لأن هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم البلوى فقد نقلوا كل ما دق وجل من أقواله وأفعاله.
قال وبلغنا أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو طلحة كانوا يشربون شرابا لهم من الفضيخ فأتاهم آت فأخبرهم أن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه(10/288)
ص -138- ... الجرار فاكسرها فقمت إليها فكسرتها حتى إهراق ما فيها ولو لم يكن خبر الواحد حجة ما وسعهم ذلك لما فيه من إضاعة المال وتأويل كسر الجرار أن الخمر كانت تشرب فيها فلا تصلح للانتفاع بها بوجه آخر وكان ذلك لإظهار الانقياد وتحقيق الانزجار عن العادة المألوفة وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان وشق الروايا وذكر حديث عكرمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة أعرابي وحده على رؤية هلال رمضان حين قدم المدينة فأخبرهم بأنه رآه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصوموا بشهادته فهذا يدل على أن شهادة الواحد في الدين مقبولة ولا يقبل في هلال الفطر أقل من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين والكلام في هذا الفصل قد بيناه في كتاب الصوم وذكر ابن سماعة في نوادره قال قلت لمحمد فإذا قبلت شهادة الواحد في هلال رمضان وأمرت بالصوم ثلاثين يوما ولم يروا الهلال أليس أنهم يفطرون وهذا فطر بشهادة الواحد فقال لا أتهم المسلم بتبديل يوم مكان يوم ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال الفطر غير ثابت بشهادته وإن كانت تفضي إليه شهادته كما لو شهدت القابلة بالنسب يثبت استحقاق الميراث ولا يستحق المال بشهادة القابلة وهذا على قول محمد فأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يفطرون وإن صاموا ثلاثين يوما إذا لم يروا الهلال قال الحاكم وهلال الأضحى كهلال الفطر ذكره في كتاب الشهادات وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الشهادة على هلال الأضحى كالشهادة على هلال رمضان لما يتعلق به من أمر ديني وهو ظهور وقت الحاج وذلك حق الله تعالى فأما في ظاهر الرواية قال هذا في معنى هلال الفطر لأن فيه منفعة للناس هنا من حيث التوسع بلحوم الأضاحي في اليوم العاشر كما في هلال الفطر ولا يقبل في هلال رمضان قول مسلم ولا مسلمين ممن لا تجوز شهادتهم للتهمة لما بينا أن خبر الفاسق في أمر الدين(10/289)
غير ملزم وذكر الطحاوي أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبول عدلا كان أو غير عدل قيل المراد بقوله غير عدل أن يكون مستورا فيكون موافقا لرواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في المستور وقيل بل مراداه الفاسق.
ووجه هذه الرواية أن التهمة متنفية عن خبره هذا لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره فأما عبد مسلم ثقة أو أمة مسلمة أو امرأة مسلمة حرة فشهادتهم في ذلك جائزة لأن في الخبر الديني الذكور والإناث والأحرار والمماليك سواء وكذلك إن شهد واحد على شهادة واحد وبهذا تبين أنه خبر لا شهادة حتى لا يشترط فيه لفظ الشهادة وذكر أنه إذا كان محدودا في قذف قد حسنت توبته فشهادته جائزة أيضا وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن شهادته لا تقبل لأنه محكوم بكذبه وإذا كانت شهادة المتهم بالكذب لا تقبل هنا فالمحكوم بالكذب أولى ووجه هذه الرواية أن خبر المحدود في أمر الدين مقبول ألا ترى أن أبا بكرة بعد ما أقيم عليه حد القذف كانت تعتمد روايته وهذا لأن رد شهادته لحق المقذوف وهو دفع(10/290)
ص -139- ... العار عنه بإهدار قوله وذلك في الأحكام التي يتعلق بها حقوق العباد وينعدم هذا المعنى في أمور الدين فكان المحدود فيه كغيره يقول فإذا كان الذي شهد بذلك في المصر ولا علة في السماء من ذلك لا تقبل شهادته لأن الذي يقع في القلب من ذلك أنه باطل وقد بينا في كتاب الصوم أقاويل العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الفصل وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه اعتبر فيه عدد الخمسين على قياس الأيمان في القسامة وفيما ذكر هناك إشارة إلى أنه إذا جاء من خارج المصر فإنه تقبل شهادته فقد ذكر بعد هذا أيضا أو جاء من مكان آخر وأخبر بذلك وهكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه لأنه يتفق من الرؤية في الصحاري ما لا يتفق في الأمصار لما فيها من كثرة الغبار وكذلك إن كان في المصر على موضع مرتفع فقد يتفق له من الرؤية ما لا يتفق لمن هو دونه في الموقف رجل تزوج امرأة فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر أنهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلى التنزه عنها فيطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما في الحكم والآخر في التنزه أما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم أن الرضاع لا يحل مطالعته للأجانب من الرجال ولكن نقول الإرضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذي الرحم المحرم ثم قد يكون بالإيجار وذلك مما يطلع عليه الأجانب ومالك كان يقول يكتفي بشهادة الواحد لإثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضي الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبي مليكة بن عقبة أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت إهاب فجاءت امرأة سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له صلى الله عليه وسلم "كيف وقد قيل هذا القدر؟" ذكره(10/291)
محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث يروون ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فهو حجة مالك رحمه الله تعالى.
وحجتنا في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضي الله عنه لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ولأن هذه شهادة تقوم لأبطال الملك ولا تتم الحجة فيه إلا بشاهدين كالعتق والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التي يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على ضعفه ما روى عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع ومثل هذه الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لا تريبه ولو أمسكها ربما يطعن فيه أحد ويتهمه وقال صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا(10/292)
ص -140- ... يقفن مواقف التهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره" فليس كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا ولأن يدع وطئا حلالا خير له من أن يقدم على وطء حرام ولكن ينبغي له أن يطلقها لأنها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق وإن لم يكن دخل بها لأنها استوجبت في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا إن كان لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وإن كان دخل بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغي أن لا تأخذ الزيادة على ذلك إلى تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لأنه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط إلا بإسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا: كما أن الله تعالى أثبت نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشترى الجارية فيخبره عدل أنها حرة الأبوين أو أنها أخته من الرضاع فإن تنزه عن وطئها فهو أفضل وإن لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب فاثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لأن حل الطعام والشراب يثبت بالإذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو أشربه وسعه أن يفعل ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطء لا يثبت بدون الملك حتى لو قال طأ جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين أحدهما أن الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فأما في الوطء الحل والحرمة يثبت(10/293)
حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي ينبني عليه والثاني أن في الوطء معنى الإلزام على الغير لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وإنما ذلك أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة مسلم اشتري لحما فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي لم ينبغ له أن يأكله لأنه أخبر بحرمة العين وهو أمر ديني فتتم الحجة بخبر الواحد فيه وكما لا يأكله لا يطعمه غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في نظيره "أتطعمين ما لا تأكلين" ولا يرده على صاحبه لأن فسخ البيع معتبر بنفس البيع وكما لا تتم الحجة بخبر الواحد في البيع فكذلك فيما يفسخه ولا يستحل منع البائع ثمنه لأنه قد استوجبه بالعقد قبله وقول الواحد ليس بحجة في إسقاط حق مستحق(10/294)
ص -141- ... للعباد ولأن العين قد بقي مملوكا له متقوما لأن نقض الملك فيه بقول الواحد لا يجوز فعليه أداء ثمنه.
فإن قيل: الحل هنا إنما يثبت حكما للمالك فينبغي أن لا تثبت الحرمة إلا بما يبطل به الملك كما في مسألة الوطء.
قلنا: لا كذلك بل ثبوت حل التناول بالإذن لأن الموجب للبيع إذن المشترى في التناول مسلطا له على ذلك وهو كاف لثبوت الحل في هذا العين فما زاد عليه غير معتبر في حكم الحل وبنحوه علل في البيوع في تنفيذ تصرف المشترى بشراء فاسد فقال لأن البائع سلطه على ذلك والدليل على هذا تمام البيع بهذا اللفظ حتى لو قال كل هذا الطعام بدرهم لي عليك فأكله كان هذا بيعا وكان قد أكله حلالا بخلاف الوطء فإن الحرة لو قالت طأني بكذا لا يحل له أن يفعل ولا ينعقد النكاح بينهما لو فعله يوضحه أن المعتبر هو الجملة دون الأحوال وإذا كان حل الطعام في الجملة يثبت بغير ملك فكذلك الحرمة تثبت مع قيام الملك ولو لم يبعه هذا الرجل ولكن أذن له في التناول فأخبره مسلم ثقة أنه محرم العين لم يحل له تناوله فكذلك إذا باعه يوضحه أن قبل البيع إنما لا يحل له تناوله لأن حرمة العين تثبت في حقه بخبر الواحد والبيع ليس له تأثير في إزالة حرمة ثابتة للعين فإذا ثبت أنه لو اشتراه بعد الإذن أو ملكه بسبب آخر لم يحل له تناوله فكذلك إذا اشتراه قبل الإذن فأخبره عدل بأنه محرم العين ولو اشترى طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو صدقة أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد أن هذا لفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأحب إلى أن يتنزه عن أكله وشربه والوضوء منه ووطء الجارية لأن خبر الواحد يمكن ريبة في قلبه والتنزه عن مواضع الريبة أولى وإن لم يتنزه كان في سعة من ذلك لأن المخبر هنا لم يخبر بحرمة العين وإنما أخبر أن من تملك من جهته لم يكن مالكا وهو مكذب في هذا الخبر شرعا فإن الشرع جعل صاحب اليد مالكا باعتبار يده ولهذا لو نازعه فيه غيره(10/295)
كان القول قوله وعلى هذا أيضا لو أذن له ذو اليد في تناول طعامه وشرابه فأخبره ثقة أن هذا الطعام والشراب في يده غصب من فلان وذو اليد يكذبه وهو متهم غير ثقة فإن تنزه عن تناوله كان أولى وإن لم يتنزه كان في سعة وفي الماء إذا لم يجد وضوء غيره توضأ به ولم يتمم لأن الشرع جعل القول قول ذي اليد فيما في يده وهذا بخلاف ما سبق لأن هناك المخبر إنما أخبر بملك الغير في المحل وخبره في هذا ليس بحجة وهناك أخبر بحرمة ثابتة في المحل لحق الشرع وخبر الواحد فيه حجة.
فإن قيل: الحل والحرمة ليس بصفة للمحل حقيقة وإنما هو صفة للفعل الصادر من المخاطب وهو التناول وقد أخبره بحرمة التناول في الفصلين جميعا.
قلنا: هذا شيء توهمه بعض أصحابنا وهو غلط عظيم فإنا لو جعلنا الحرمة صفة للفعل حقيقة ثم توصف العين به مجازا كان مشروعا في المحل من وجه وذلك ممتنع بعد ثبوت(10/296)
ص -142- ... حرمة الأمهات وحرمة الميتة بالنص ولكن نقول الحرمة صفة العين حقيقة باعتبار أنه خرج شرعا من أن يكون محلا للفعل الحلال وكذلك حقيقة موجبه النفي والنسخ ثم ينتفي الفعل باعتبار انعدام المحل لأن الفعل لا يتصور إلا في المحل كالقتل لا يتصور في الميت وكان هذا إقامة العين مقام الفعل في أن صفة الحرمة تثبت له حقيقة ويتضح ذلك بالتأمل في مورد الشرع فإن الله تعالى في مال الغير نهى عن الأكل فإنه قال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] إلى قوله {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم} [البقرة: 188] فعرفنا أن المحرم هو الأكل وفي الميتة قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فقد جعل الحرمة صفة للعين وكذلك قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقه وكذلك من حيث الأحكام من قال لامرأته أنت علي كالميتة كان بمنزلة قوله أنت علي حرام بخلاف ما لو قال أنت علي كمتاع فلان فإذا تقرر هذا قلنا: الحرمة الثابتة صفة للعين محض حق الشرع فتثبت بخبر الواحد ولهذا لا يسقط إلا بإذن الشرع وحرمة التناول في طعام الغير ثابتة لحق الغير ولهذا يسقط بإذنه وحق الغير لا يثبت بخبر الواحد فلا تثبت الحرمة أيضا ولو أن رجلا مسلما شهد عنده رجل أن هذه الجارية التي هي في يد فلان وهي مقرة له بالرق أمة لفلان غصبها والذي هي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون على ما ذكر فأحب إلي أن لا يشتريها وإن اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك لأن المخبر مكذب فيما أخبر به شرعا والقول قول ذي اليد أنها مملوكة له فله أن يعتمد الدليل الشرعي فيشتريها وإن احتاط فلم يشترها كان أولى له لأنه متمكن من تحصيل مقصوده بغيرها وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في مثله كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام ولو أخبره أنها حرة الأصل أو أنها(10/297)
كانت أمة لهذا الذي في يده فأعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والأول سواء لما بينا أن المخبر مكذب شرعا وأن تصادقهما على أنها مملوكة لذي اليد حجة شرعا في إثبات الملك له فللمشتري أن يعتمد الحجة الشرعية والتنزه أفضل له.
فإن قيل: في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم أنها معتقة أو حرة فلو جعلت هذا نظير ما سبق.
قلنا: لا كذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل شرعي ومع ثبوت الملك لا حرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذي يشهد فيه بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا: أن حل الوطء لا يكون إلا بملك والملك المحكوم به شرعا لا يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبني عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه وانتقلت إلى ملك ذي اليد بسبب صحيح أو يعلم أنه وكله ببيعها لأن دليل الملك الأول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه إلا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا(10/298)
ص -143- ... لا يحل إلا بإذن المالك ولو علم القاضي ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الأول حتى يثبت الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذي يريد شراءه فإن سأل ذا اليد فقال إني قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض إنكار الأول ولم يوجد ولو كلفناه الرجوع إلى الأول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز أن يكون غائبا أو مختفيا وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا أن في المعاملات لا يمكن اعتبار العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لأن الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأي إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الأخبار الدينية فها هنا أولى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشيء من ذلك لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في ذلك والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه "ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وإن أفتاك الناس به" وقال صلى الله عليه وسلم "الإثم حراز القلوب" أي على المرء أن يترك ما حرز في قلبه تحرزا عن الإثم وكذلك لو لم يعلم أن ذلك الشيء لغير الذي هو في يديه حتى أخبره الذي في يديه أنه لغيره وأنه وكله ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه لأن إقراره بالملك للغير حجة في حق المقر شرعا فهذا في حق السامع بمنزلة ما لو علم ملك الغير بأن عاينه في يده فإن كان المخبر ثقة صدقه فيما أخبر به من سبب الولاية له في بيعه وكذلك إن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق فيه صدقه أيضا وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يقبل ذلك منه ولم يشتره وإن كان لم(10/299)
يخبره أن ذلك الشيء لغيره فلا بأس بشرائه منه وقبوله هبته وإن كان غير ثقة لأن دليل الملك شرعا ثابت له وهو اليد والفاسق والعدل في هذا الدليل سواء حتى إذا نازعه غيره فالقول قوله ويحل لمن رآه في يده أن يشهد له بالملك والمصير إلى أكبر الرأي عند انعدام دليل ظاهر كما لا يصار إلى القياس عند وجود النص.
قال إلا أن يكون مثله لا يتملك مثل ذلك العين فأحب أن يتنزه عنه ولا يتعرض له بالشراء أو غيره وذلك كدرة يراها في يد فقير لا يملك شيئا أو رأى كتابا في يد جاهل ولم يكن في آبائه من هو أهل لذلك فالذي سبق إلى قلب كل أحد أنه سارق لذلك العين فكان التنزه عن شرائه منه أفضل وإن اشترى أو قبل وهو لا يعلم أنه لغيره رجوت أن يكون في سعة من ذلك لأنه يزعم أنه مالك والقول قوله شرعا فالمشتري منه يعتمد دليلا شرعيا وذلك واسع له إلا أنه مع هذا لم يبت الجواب وعلقه بالرجاء لما ظهر من عمل الناس ولما سبق إلى وهم كل أحد أن مثله لا يكون مالكا لهذه العين فإن كان الذي أتاه به عبد أو أمة لم ينبغ له أن يشتري ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك لأن المنافي للملك وهو الرق معلوم فيه فما لم(10/300)
ص -144- ... يعلم دليلا مطلقا للتصرف في حق من رآه في يده لا يحل له الشراء منه لأنه عالم أنه لغيره واليد في حق المملوك ليس بمطلق للتصرف وإن الرق مانع له من التصرف ما لم يوجد الإذن فإن سأله فأخبره أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأمون فلا بأس بشرائه منه وقبوله لأنه أخبر بخبره مستقيم صالح وهو محتمل في نفسه فيعتمد خبره إذا كان ثقة وإن كان غير ثقة فهو على ما يقع في قلبه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قال صدقه بقوله وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يعرض لشيء من ذلك وكذلك إن كان لا رأي له فيما قال لأن الحاجز له عن التصرف ظاهر فلا يكون له أن يتصرف معه بمجرد خبره ما لم يترجح جانب الصدق فيه بنوع دليل ولم يوجد ذلك وكذلك الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو عبدا فيما يخبر أنه أذن له في بيعه أو أن فلانا بعث معه إليه هدية أو صدقة فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه أن يصدقه وهذا للعادة الظاهرة في بعث الهدايا على أيدي المماليك والصبيان وفي التورع عنه من الحرج ما لا يخفى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يقبل منه شيئا لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين.(10/301)
قال وكان شيخنا الإمام رحمه الله تعالى يقول الصبي إذا أتى بقالا بفلوس يشتري منه شيئا وأخبره أن أمه أمرته بذلك فإن طلب الصابون ونحوه فلا بأس ببيعه منه وإن طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة فينبغي له أن لا يبيعه لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول وقد عثر على فلوس أمه فيريد أن يشتري بها حاجة نفسه وإن قال الصبي هذا لي وقد أذن لي أبي في أن أهبه لك أو أتصدق به عليك لم ينبغ له أن يقبله منه لأنه ليس للأب ولاية الإذن بهذا التصرف لولده بخلاف ما إذا قال أبي بعثه إليك على يدي صدقة أو هبة لأن للأب هذه الولاية في مال نفسه فكان ما أخبره مستقيما وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه ولو أن رجلا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يد رجل آخر يبيعها ويزعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعى أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعي أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك الأمر خفية وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه لأنه أخبر بخبر مستقيم محتمل ولو كان ما أخبر به معلوما للسامع كان له أن يشتريها منه فكذلك إذا أخبره بذلك ولا منازع له فيه وإن كان في رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يشتريها ولا يقبلها لأنه ثبت عنده أنها مملوكة للأول فإن إقرار ذي اليد بأن الأول كان يدعى أنها مملوكته حين كانت في يده يثبت الملك له وكذلك سماع هذا الرجل منه أنها له دليل في حق إثبات الملك له والذي أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه أنه كاذب في ذلك ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمني وغصبني وأخذتها منه لم ينبغ له أن يتعرض لشراء ولا قبول إن كان المخبر ثقة أو غير ثقة والفرق من وجهين أحدهما أنه أخبر هناك بخبر مستنكر فإن الظلم والغصب مما يمنع كل أحد عنه عقله ودينه فلم يثبت له بخبره(10/302)
ص -145- ... غصب ذلك الرجل بقى قوله أخذتها منه وهذا أخذ بطريق العدوان ألا ترى أن القاضي لو عاين ذلك منه أمره برده عليه حتى يثبت ما يدعيه وإذا سقط اعتبار يده بقى دعواه الملك فيما ليس في يده وذلك لا يطلق الشراء منه وفي الأول أخبر بخبر مستقيم كما قررنا فإن دينه وعقله لا يمنعه من التلجئة عند الخوف والثاني أن خبر الواحد عند المسالمة حجة وعند المنازعة لا يكون حجة لأنه يحتاج فيه إلى الإلزام وذلك لا يثبت بخبر الواحد وفي الفصل الثاني أخبر عن حال منازعة بينهما في غصب الأول منه واسترداد هذا فلا يكون خبره حجة وفي الأول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كان بينهما فيعتمد خبره إن كان ثقة وإن قال إنه كان ظلمني وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلى فإن كان عنده ثقة فلا بأس بشرائها وقبولها منه لأنه أخبر عن مسالمة وهو إقراره له بها ودفعها إليه ولأن القاضي لو عاين ما أخبره به قضى بالملك له فيجوز للسامع أن يعتمد خبره إن كان ثقة وفي الأول لو عاين القاضي أخذها منه قهرا أو أمره بالرد ولم يلتفت إلى قوله كان غصبني وكذلك إن قال خاصمته إلى القاضي فقضي لي بها ببينة أقمتها عليه أو بنكوله عن اليمين لأنه أخبر بخبر مستقيم وهو إثباته ملك نفسه بالحجة ثم الأخذ بقضاء القاضي وذلك أقوى من الأخذ بتسليم من كان في يده إليه بعد إقراره له بها وإن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه كاذب لم يشترها منه في جميع هذه الوجوه لأن أكبر الرأي في هذا كاليقين وإن قال قضي لي بها القاضي وأخذها منه فدفعها إلي أو قال قضي لي بها وأخذتها من منزله بإذنه أو بغير إذنه فهذا وما سبق سواء لأنه أخبر أن أخذه كان بقضاء القاضي أو أن القاضي دفعها إليه وهذا خبر مستقيم صالح وهو بمنزلة حالة المسالمة معنى لأن كل ذي دين يكون مستسلما لقضاء القاضي وإن قال قضي لي بها فجحدني قضاه فأخذتها منه لم ينبغ له أن يشتريها منه لأنه لما جحد القضاء فقد جاءت المنازعة فإنما(10/303)
أخبر بالأخذ في حالة المنازعة وخبر الواحد في هذا لا يكون حجة لما فيه من الإلزام ولأن القضاء سبب مطلق للأخذ له كالشراء ولو قال اشتريتها ونقدته الثمن ثم جحدني الشراء فأخذتها منه لم يجز له أن يعتمد خبره وكذلك إذا قال جحدني القضاء وهذا لأن الشرع جعل القول قول الجاحد فيكون سبب استحقاقه عند جحود الآخر كالمعدوم ما لم يثبته بالبينة يبقى قوله أخذتها منه ولو قال اشتريتها من فلان وقبضتها بأمره ونقدته الثمن وكان ثقة عنده مأمونا فقال له رجل آخر إن فلانا جحد هذا الشراء وزعم أنه لم يبع منه شيئا والذي قال هذا أيضا ثقة مأمون لم ينبغ له أن يتعرض لشيء من ذلك بشراء ولا غيره لأن الأول لو خبر أنه جحد الشراء لم يكن له أن يشتريها فكذلك إذا أخبره غيره وهذا لأن المعارضة تحققت بين الخبرين في الأمر بالقبض وعدم الأمر والجحود والإقرار فالأصل فيه الجحود وإن كان الذي أخبره الثاني غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه صادق فكذلك الجواب لأن خبر الفاسق يتأيد بأكبر رأى السامع وإن كان رأيه أنه كاذب وهو غير ثقة فلا بأس بشرائها منه(10/304)
ص -146- ... لأن خبره غير معتبر إذا كان أكبر رأى السامع بخلافه فكان المعني فيه أن خبر العدل كان مقبولا لترجح جانب الصدق فيه بأكبر الرأي لا بطريق اليقين فإن العدل غير معصوم من الكذب فإذا وجد مثله في خبر الفاسق كان خبره كخبر العدل وإن كانا جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشيء من ذلك بمنزلة ما لو كان الثاني ثقة وفي الكتاب قال لأن هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس وهو إشارة إلى أن كل ذي دين معتقد لما هو من أمور الدين فتتم الحجة بخبر الثقة لوجود الالتزام من السامع اعتقادا أو التعامل الظاهر بين الناس اعتماد هذه الأخبار ولو لم يعمل في مثل هذه إلا بشاهدين لضاق الأمر على الناس فلدفع الحرج يعتمد فيه خبر الواحد كما جعل الشرع شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة لدفع الضيق والحرج.
قال ألا ترى لو أن تاجرا قدم بلدا بجواري وطعام وثياب فقال أنا مضارب فلان أو أنا مفاوضه وسع الناس أن يشتروا منه ذلك وكذلك العبد يقدم بلدا بتجارة ويدعى أن مولاه قد أذن له في التجارة فإن الناس يعتمدون خبره ويعاملونه ولو لم يطلق لهم ذلك كان فيه من الحرج ما لا يخفي واستدل عليه بحديث رواه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى عن أبي الهيثم أن عاملا لعلي رضي الله عنه أهدى إليه جارية فسألها أفارغة أنت فأخبرته أن لها زوجا فكتب إلى عامله إنك بعثت بها إلى مشغولة قال أفترى أنه كان مع الرسول شاهدان أن عاملك أهدى هذه إليك وقد سألها علي رضي الله عنه أيضا فلما أخبرته أن لها زوجا صدقها وكف عنها ولم يسألها عن ذلك إلا أنها لو أخبرته أنها فارغة لم ير بأسا بوطئها.(10/305)
قال وأكبر الرأي والظن مجوز للعمل فيما هو أكبر من هذا كالفروج وسفك الدماء فإن من تزوج امرأة ولم يرها فأدخلها عليه إنسان وأخبره أنها امرأته وسعه أن يعتمد خبره إذا كان ثقة أو كان في أكبر رأيه أنه صادق فيغشاها وكذلك لو دخل على غيره ليلا وهو شاهر سيفه أو ماد رمحه يشتد نحوه ولا يدري صاحب المنزل أنه لص أو هارب من اللصوص فإنه يحكم رأيه فإن كان في أكبر رأيه أنه لص قصده ليأخذ ماله ويقتله إن منعه وخافه إن زجره أو صاح به أن يبادره بالضرب فلا بأس بأن يشد عليه صاحب البيت بالسيف فيقتله وإن كان في أكبر رأيه أنه هارب من اللصوص لم ينبغ له أن يعجل عليه ولا يقتله وإنما أورد هذا لإيضاح ما تقدم أن أهم الأمور الدماء والفرج فإن الغلط إذا وقع فيهما لا يمكن التدارك ثم جاز العمل فيهما بأكبر الرأي عند الحاجة ففيما دون ذلك أولى وإنما يتوصل إلى أكبر الرأي في حق الداخل عليه بأن يحكم رأيه وهيئته فإن كان قد عرفه قبل ذلك بالجلوس مع أهل الخير فيستدل به على أنه هارب من اللصوص وإن عرفه بالجلوس مع السراق استدل عليه أنه سارق وإذا قال الرجل إن فلانا أمرني ببيع جاريته التي هي في منزله ودفعها إلى مشتريها فلا بأس بشرائها منه وقبضها من منزل مولاها بأمر البائع أو بغير أمره أو إذا فاه ثمنها وكان البائع(10/306)
ص -147- ... ثقة أو كان غير ثقة ووقع في قلبه أنه صادق لأن الجارية لو كانت في يده جاز شراؤها منه لا باعتبار يده بل بإخباره أنه وكيل بالبيع فإن هذا خبر مستقيم صالح وهذا موجود وإن لم تكن في يده وبعد صحة الشراء له أن يقبضها إذا أوفى الثمن من غير أن يحتاج إلى إذن أحد في ذلك وإن كان وقع في قلبه أنه كاذب قبل الشراء أو بعده قبل أن يقبض لم ينبغ له أن يتعرض لشيء حتى يستأمر مولاها في أمرها لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين في حقه فإن ظهر كذبه قبل الشراء فهو مانع له من الشراء وإن ظهر بعد الشراء فهو مانع له من القبض بحكم الشراء لأن ما يمنع العقد إذا اقترن به يمنع القبض بحكمه أيضا كالتخمر في العصير وكذلك لو قبضها ووطئها ثم وقع في قلبه أن البائع كذب فيما قال وكان عليه أكبر ظنه فإنه يعتزل وطأها حتى يتعرف خبرها لأن كل وطأة فعل مستأنف من الواطيء ولو ظهر له هذا قبل الوطأة الأولى لم يكن له أن يطأها فكذلك بعدها وهكذا أمر الناس ما لم يجيء التجاحد من الذي كان يملك الجارية فإذا جاز ذلك لم يقربها وردها عليه لأن الملك له فيها ثابت بتصادقهم وتوكيله لم يثبت بقول البائع فعليه أن يردها ويتبع البائع بالثمن لبطلان البيع بينهما عند جحود التوكيل وينبغي للمشتري أن يدفع العقر إلى مولى الجارية لأنه وطئها وهي غير مملوكة له وقد سقط الحد بشبهة فيلزمه العقر وإن كان المشترى حين اشتراها شهد عنده شاهدا عدل أن مولاها قد أمره ببيعها ثم حضر مولاها فجحد أن يكون أمره ببيعها فالمشتري في سعة من إمساكها والتصرف فيها حتى يخاصمه إلى القاضي لأن شهادة الشاهدين حجة حكمية ولو شهدا عند القاضي لم يلتفت القاضي إلى جحود المالك وقضى بالوكالة وبصحة البيع فكذلك إذا شهدا عنده فإذا خاصم إلى القاضي فقضى له بها لم يسعه إمساكها بشهادة الشاهدين لأن قضاء القاضي أنفذ من الشهادة التي لم يقض بها ومعنى هذا أن الشهادة لم تكن ملزمة بدون القضاء وقضاء(10/307)
القاضي يلزمه بنفسه والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام والمخبر ثقة عنده وهو حر أو مملوك أو محدود في قذف وسعه أن يصدقه ويتزوج أربعا سواها لأنه أخبره بأمر ديني وهو حل نكاح الأربع له وهذا أمر بينه وبين ربه وكذلك إن كان غير ثقة وكان أكبر رأيه أنه صادق لأن خبر الفاسق يتأكد بأكبر الرأي ولأن هذا الخبر غير ملزم إياه شيئا والمعتبر في مثله التمييز دون العدالة وإنما اعتبار العدالة في خبر ملزم وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتزوج أكثر من ثلاث لأن خبر الفاسق يسقط اعتباره بمعارضة أكبر الرأي بخلافه ولو كان المخبر أخبر المرأة أن زوجها قد ارتد فلها أن تتزوج بزوج آخر في رواية هذا الكتاب أيضا.
وفي السير الكبير يقول ليس لها ذلك حتى يشهد عندها بذلك رجلان أو رجل وامرأتان قال لأن ردة الزوج أغلظ حتى يتعلق بها استحقاق القتل بخلاف ردة المرأة وما ذكر هنا أصح لأن المقصود الإخبار بوقوع الفرقة لا إثبات موجب الردة ألا ترى أنها تثبت بشهادة(10/308)
ص -148- ... رجل وامرأتين والقتل بمثله لا يثبت وكذلك إن كانت صغيرة فأخبر أنها قد رضعت من أمه أو أخته ولو أخبر أنه تزوجها يوم تزوجها وهي مريدة أو أخته من الرضاعة والمخبر ثقة لم ينبغ له أن يتزوج أربعا سواها ما لم يشهد بذلك عنده شاهدا عدل لأنه أخبر بفساد عقد حكمنا بصحته ولا يبطل ذلك الحكم بخبر الواحد وفي الأول ما أخبر بفساد أصل النكاح بل أخبر بوقوع الفرقة بأمر محتمل يوضحه أن إخباره بأن أصل النكاح كان فاسدا مستنكر لأن المسلم لا يباشر العقد الفاسد عادة فأما إخباره بوقوع الفرقة بسبب عارض غير مستنكر وإن شهد عنده شاهدا عدل بذلك وسعه أن يتزوج أربعا لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان النكاح فكذلك إذا شهدا به عند الزوج وعلى هذا لو أن امرأة غاب عنها زوجها فأخبرها مسلم ثقة أن زوجها طلقها ثلاثا أو مات عنها أو كان غير ثقة فأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا إلا أن أكبر رأيها أنه حق فلا بأس بأن تعتد وتتزوج ولو أتاها فأخبرها أن أصل نكاحها كان فاسدا وأن زوجها كان أخاها من الرضاعة أو مرتدا لم يسعها أن تتزوج بقوله وإن كان ثقة لأنه في هذا الفصل أخبرها بخبر مستنكر وقد ألزمها الحكم بخلافه وفي الأول أخبرها بخبر محتمل وهو أمر بينها وبين ربها فلها أن تعتمد ذلك الخبر وتتزوج وهي نظير امرأة قالت لرجل قد طلقني زوجي ثلاثا وانقضت عدتي ووقع في قلبه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها بقولها وكذلك المطلقة ثلاثا إذا قالت لزوجها الأول انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس على زوجها الأول أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لأنها أخبرت بحلها له بأمر محتمل وفي هذا بيان أنها لو قالت لزوجها الأول حللت لك لا يحل له أن يتزوجها ما لم يستفسرها لاختلاف بين الناس في حلها له بمجرد العقد قبل الدخول فلا يكون له أن يعتمد مطلق خبرها بالحل حتى تفسره ولو أن(10/309)
جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعى أنها له فلما كبرت لقيها رجل من بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها لأنه علم أنها كانت مملوكة لذي اليد فإن اليد فيمن لا يعبر عن نفسه دليل الملك والقول قول ذي اليد أنها مملوكته فإخبارها بخلاف المعلوم لا يكون حجة له وهو خبر مستنكر وإن قالت كنت أمة له فأعتقني وكانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لم أر بأسا بأن يتزوجها لأنها أخبرت بحلها له بسبب محتمل لم يعلم هو خلافه فيجوز له أن يعتمد خبرها وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها الأول كان فاسدا وأن زوجها كان على غير الإسلام لم ينبغ لهذا أن يصدقها ولا يتزوجها لأنها أخبرته بخبر مستنكر يعلم هو خلاف ذلك وإن قالت إنه طلقني بعد النكاح أو ارتد عن الإسلام وسعه أن يعتمد خبرها ويتزوجها لأنها أخبرت بحلها لها بسبب محتمل فمتى أقرت بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني أو أني كنت أخته من الرضاعة لا يعتمد خبرها لأنه خلاف المعلوم وإذا أخبرت بالحرمة بسبب(10/310)
ص -149- ... عارض بعد النكاح من رضاع أو غير ذلك وثبتت على ذلك فإن كانت ثقة مأمونة أو غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها وفيه شبهة فإن الملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبرها وقيام الملك للغير يمنعه من أن يتزوج بها ولكن قيام الملك للغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال فما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال فأما صحة النكاح في الابتداء بدليل موجب له وهو العقد الذي عاينه فلا يبطل ذلك بخبر الواحد واستدل بحديث بريرة أنها أتت عائشة رضي الله عنها بهدية إليها فأخبرتها أنها صدقة تصدق بها عليها فكرهت عائشة رضي الله عنها أن تأكله حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم "هي لها صدقة ولنا هدية" فقد صدق بريرة بقولها وقد علم أن العين كان مملوكا لغيرها وصدق عائشة رضي الله عنها بقولها أيضا حين تناول منها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الرجل يرى الرجل يقتل أباه(10/311)
أو يره قال وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه فيما بينه وبينه أني قتلته لأنه قتل ولي فلانا عمدا أو لأنه ارتد عن الإسلام ولا يعلم الابن مما قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لأنه تيقن بالسبب الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وعلى قوله صلى الله عليه وسلم "العمد قود" وحاصل المسألة على أربعة أوجه أحدها إذا عاين قتله والثاني إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لأن الإقرار موجب بنفسه حتى لا يملك المقر الرجوع عن إقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث أن يقيم البينة بأنه قتل أباه فيقضى له القاضي بالقود فهو في سعة من قتله لأن قضاء القاضي ملزم فيثبت به السبب المطلق لاستيفاء القود له والرابع أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن يقتله بشهادة لأن الشهادة لا توجب الحق ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتقرر عنده السبب المطلق لاستيفاء القود بمجرد الشهادة ما لم ينضم إليه القضاء والذي بينا في الابن كذلك في غيره إذا عاين القتل أو سمع إقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الابن على قتله لأنه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم يسعه أن يعينه على قتله بشهادتهما حتى يقضي القاضي له بذلك وإن أقام القاتل عند الابن شاهدين عدلين أن أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن أن يعجل بقتله حتى ينظر فيما شهدا به لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده وكذلك لا ينبغي لغيره أن يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا: أو بأنه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لأن القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه(10/312)
عليه عن بصيرة وإن شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول لا رجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله(10/313)
ص -150- ... لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي لم يمنعه من قتله بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وإن تثبت فيه فهو خير له لأنه أقرب إلى الاحتياط فإن القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القذف فقال القاذف إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لا يقام عليه حد القذف والقاتل إذا أقام فاسقين على العفو أو على أن قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق أن هناك السبب الموجب للحد لم يتقرر فإن نفس القذف ليس بموجب للحد لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب وإنما يصير موجبا بعجزه عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لأن للفساق شهادة وإن لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده مسقط وهذا المسقط لا يظهر إلا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا أن الله تعالى قال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] والمعطوف على الشرط شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثم قال {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فعرفنا أن العفو مسقط بعد الوجوب لا أن يكون عدم العفو مقررا سبب الوجوب وإن شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لأن المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفي الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر أيأتيه بآخر أم لأنه لو أقام شاهد عدل عند القاضي وادعى أن له شاهدا آخر حاضرا أمهله إلي آخر مجلسه فكذلك الولي يمهله حتى يأتي بشاهد آخر وإن قتله كان في سعة لأن السبب المثبت لحقه مقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في يدي رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كان لأبيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث للأب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم(10/314)
تقم البينة عند القاضي ويقضي له بذلك لأن الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفي الأخذ قصر يد الغير وليس في الدعوى إلزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما ولا يتمكن من الأخذ حتى يقضي له القاضي بذلك لأن ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته إلا بقضاء القاضي وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه بهذه الشهادة ما لم يتصل به القضاء وإن كان الوارث عاين أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك إن أقر الآخذ عنده بالأخذ لأن إقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضي له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك يسع من عاين ذلك إعانته عليه وإن أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر فيه على سلطان يأخذ له بحقه لأنه يعلم أنه ملكه وكما أن له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد" وإذا شهد عدلان عند امرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي بذلك لم يسع امرأته أن تقيم عنده وكان ذلك بمنزلة سماعها لو سمعته يطلقها ثلاثا لأنهما لو شهدا بهذا عند القاضي حكم بحرمتها عليه فكذلك إذا شهدا بذلك عندها وهذا بخلاف ما تقدم لأن القتل وأخذ(10/315)
ص -151- ... المال قد يكون بحق وقد يكون بغير حق فأما التطليقات الثلاث لا تكون إلا موجبة للحرمة فإن قال قائل فقد يطلق الرجل غير امرأته ولا يكون ذلك طلاقا.
قلنا: هذا على أحد وجهين إما أن تكون امرأته فيكون الطلاق واقعا عليها أو تكون غير امرأته فليس لها أن تمكنه من نفسها وحاصل الفرق أن هناك الشبهة من وجهين:
أحدهما احتمال الكذب في شهادتهما والآخر كون القتل بحق فيصير ذلك مانعا من الإقدام على ما لا يمكنه تداركه وهنا الشبهة من وجه واحد وهو احتمال الكذب في شهادتهما فأما إذا كانا صادقين فلا مدفع للطلاق وبظهور عدالتهما عندها ينعدم هذا الاحتمال حكما كما ينعدم عند القاضي فإن قيل: كما أن في شهادة شاهدين احتمال الكذب ففي إقرار المقر ذلك وقد قلتم يسعه أن يقتله إذا سمع إقراره.(10/316)
قلنا: هذا الاحتمال يدفعه عقل المقر فالإنسان لا يقر على نفسه بالسبب الموجب لسفك دمه كاذبا إذا كان عاقلا وإن لم يكن عاقلا فلا معتبر بإقراره وكذلك لو شهدا على رضاع بينهما لم يسعها المقام على ذلك النكاح لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما فكذلك إذا شهدا عندها فإن مات الشاهدان وجحد الزوج وحلف ينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه ولا تمكنه من نفسها بوجه من الوجوه لأنه تمكين من الزنى وكان إسماعيل الزاهد رحمه الله تعالى يقول تسقيه ما تنكسر به شهوته فإن لم تقدر على ذلك قتلته إذا قصدها لأنه لو قصد أخذ مالها كان لها أن تقتله دفعا عن مالها فإذا قصد الزنى بها أولى أن يكون لها أن تقتله دفعا عن نفسها ولو هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج لأنها في الحكم زوجة الأول فلو تزوجت غيره كانت ممكنة من الحرام فعليها أن تكف عن ذلك قالوا وهذا في القضاء فأما فيما بينها وبين الله تعالى فلها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولا يشتبه ما وصفت لك قضاء القاضي فيما يختلف فيه الفقهاء مما يرى الزوج فيه خلاف ما يرى القاضي وبيان هذا الفصل أنه لو قال لامرأته اختارى فاختارت نفسها وهو يري أن ذلك تطليقة بائنة والمرأة لا ترى ذلك فاختصما في النفقة والقاضي يراه تطليقة رجعية فقضى القاضي بأنه يملك رجعتها جاز قضاؤه ووسع الرجل أن يراجعها فيمسكها وكذلك إن كانت المرأة هي التي تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم القاضي له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها أن تفارقه لأن قضاء القاضي هنا اعتمد دليلا شرعيا وفي الأول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان إبقاء لما كان لا قضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات أن المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا رأي له فعليه أن يتبع قضاء القاضي سواء قضي القاضي له بالحل أو بالحرمة وإن كان عالما مجتهدا فقضى القاضي بخلاف اجتهاده فإن كان هو يعتقد الحل وقضى القاضي عليه(10/317)
بالحرمة فعليه أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع رأي نفسه لأن القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه وإن قضى له بالحل وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه أن يتبع رأى نفسه وفي قول محمد رحمه الله تعالى يأخذ بقضاء القاضي(10/318)
ص -152- ... لأن الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى أن للقاضي ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات والقضاء بخلاف الأول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في حقه وقضاء القاضي يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضي أقوى ومن حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما فيغلب الموجب للحرمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا غلب الحرام الحلال" يوضحه أن عنده أن قضاء القاضي ليس بصواب ولو كان ما عنده غير القاضي لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فإن الله تعالى قال {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية ففي هذا بيان أن قضاء القاضي لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الأموال فإن القاضي لو قضى بالميراث للجد دون الأخ والأخ فقيه يعتقد فيه قول زيد رضي الله عنه فعليه أن يتبع رأى القاضي وإن قضى القاضي بالمقاسمة على قول زيد رحمه الله تعالى والأخ يعتقد مذهب الصديق رضي الله عنه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد رحمه الله تعالى له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضي بخلافه فهو على الخلاف وإن كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن يتبع رأى القاضي أو قضي بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده فأفتى له بشيء فذلك بمنزلة اجتهاده لأنه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضي بعد ذلك بخلافه حكمه كحكم المجتهد في جميع ما بينا وكذلك لو حكمنا فقيها فحكمه كفتواه لأن سببه تراضيهما لا ولاية ثابتة له حكما فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما إياه والفتوي لا تعارض قضاء(10/319)
القاضي فإذا قضي القاضي عليه بخلاف ذلك كان عليه أن يتبع رأى القاضي ألا ترى أن للقاضي أن يقضي بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له أن يقضي بخلاف ما قضي به غيره في المجتهدات ولو قضي به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية أن مولاها أعتقها أو أقر أنه أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضي القاضي به أو لم يقض لأن حجة حرمتها عليه تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد أن يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي بالعتق لأنهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير إذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب(10/320)
ص -153- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التحري
قال رضي الله عنه اعلم بأن التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره اتحرى مسرتك أي أطلب مرضاتك قال تعالى {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} [الجن: 14] وهو والتوخي سواء إلا أن لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في العبادات قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه "أذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه" وقال صلى الله عليه وسلم في العبادات "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب" وفي الشريعة عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته وقد منع بعض الناس العمل بالتحري لأنه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول التحري غير الشك والظن فالشك أن يستوى طرف العلم بالشيء والجهل به والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل والتحري أن يترجح أحدهما بغالب الرأي وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ولأجله سمى تحريا فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا: الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وذلك بالتحري وغالب الرأي فقد أطلق عليه العلم والسنة قوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن ينظر بنور الله" وقال صلى الله عليه وسلم "فراسة المؤمن لا تخطئ" وقال صلى الله عليه وسلم لوابصة "ضع يدك على صدرك فالإثم ما حاك في قلبك" وإن أفتاك الناس وشيء من المعقول يدل عليه فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأي ثم جعل مدركا من مدارك أحكام الشرع وإن كان لا يثبت به ابتداء فكذلك التحري مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء والدليل عليه أمر الحروب فإنه يجوز العمل(10/321)
فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك.
فإن قيل: ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن إنما أنكرنا هذا في العبادات التي هي حق الله تعالى.
قلنا: في هذا أيضا معنى حق العبد وهو التوصل إلى إسقاط ما لزمه أداؤه وكذلك في أمر القبلة فإن التحري لمعرفة حدود الأقاليم وذلك من حق العبد وفي الزكاة التحري لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا(10/322)
ص -154- ... فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان الأولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لأنها مبتدأة في القرآن وكأنه إنما فعل ذلك لأن معنى حق العبد في الصدقة أكثر فإنه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لأنه وجد في باب الصدقة نصا وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ما كان مجتهدا فيه ومسألة الزكاة على أربعة أوجه أحدها أن يعطي زكاة ماله رجلا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجزيه ما لم يتبين أنه غنى لأن مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا وعلى ما يصح فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه فإن الفقر في القابض أصل فإن الإنسان يولد ولا شيء له والتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الإعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدي موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الإعادة لأن الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه فإن شك في أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غنى ومع ذلك دفع إليه فإنه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير لأن بعد الشك لزمه التحري فإذا ترك التحري بعد ما لزمه لم يقع المؤدي موقع الجواز إلا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لأن التحري كان لمقصود وقد حصل ذلك المقصود بدونه فسقط وجوب التحري كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرها سقط عنه فرض السعي والثالث أن يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره فإذا علم فهو جائز وهو الصحيح.(10/323)
وقد زعم بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصلاة والأصح هو الفرق فإن الصلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن إسقاط الواجب عنه فأما التصدق على الغني صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن إسقاط الواجب بفعله هذا إذا تبين وصول الحق إلى مستحقيه بظهور فقر القابض والفصل الرابع أن يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتفاق وإن ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وكذلك لو كان جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التحري وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلى ثم تبين له أنه كان نجسا أو صلى في ثوب ثم علم أنه كان نجسا أو القاضي قضى في حادثة بالاجتهاد ثم ظهر نص بخلافه وبيانه أن صفة الفقر والغني يوقف عليهما حقيقة فإن الشرع علق بهما أحكاما من النفقة وضمان العتق وغير ذلك وإنما تتعلق(10/324)
ص -155- ... الأحكام الشرعية بما يوقف عليه وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود اتصال الحق إلى المستحق فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجودا وعدما بمنزلة لأن غالب الرأي معتبر شرعا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه وبه فارق الصلاة على أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشرع وهو معذور عند الاشتباه فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشرع وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شيء من حال المصروف إليه وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالإنسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغني فكيف يعرفه من غيره والتكليف يثبت بحسب الوسع والذي في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الأداء لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا: يجعل المؤدي مجزيا عنه ولأنه لا يعلم حقيقة غناه وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الأحكام الشرعية بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لأن الأحكام تنبني على ما يظهر لنا كما ينبني الحكم على صدق الشهود وإن كان لا يعلم حقيقة وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف حقيقة(10/325)
فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتى بما في وسعه ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضا وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أما طريق أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه من لا يكون مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الأمر بخلافه.
وجه رواية بن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لست لأبيك لا يلزم الحد والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد وجه ظاهر الرواية ما احتج به في الكتاب فإنه روى عن إسرائيل عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد(10/326)
ص -156- ... السلمي قال خاصمت أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضي لي عليه وذلك أن أبي أعطى صدقته لرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبي فعلم بها فقال والله يا بني ما أياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت" ولا معنى لحمله على التطوع لأن ترك الاستفسار من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الحكم في الكل واحد مع أن مطلق الصدقة ينصرف إلى الواجب وفي بعض الروايات قال "صدقة ماله" وهو تنصيص على الواجب وكان المعنى فيه أن الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثم عند الاشتباه والحاجة أقام الشرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألة الأولى أيضا فإن الصدقة على الغني فيها معني القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثم طريق معرفة البنوة الاجتهاد ألا ترى أنه لما نزل قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه والله إني بنبوته أعرف مني بولدي فإني أعرفه نبيا حقا ولا أدري ماذا أحدث النساء بعدي وإذا كان طريق المعرفة الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث أنه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فإن تبين أنه هاشمي فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لأن المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب سواء وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يلزمه الإعادة لأن كونه من بني هاشم مما يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ودليله أنه لو قال لهاشمي لست بهاشمي(10/327)
فإنه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه ولو تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هذا الخلاف أيضا وفي الأمالي روي أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجزئه لأن الكفر مما يوقف عليه ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضي وفي ظاهر الرواية قال ما يكون في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد والتصدق على أهل الذمة قربة فهو وما سبق سواء وفي الكتاب قال أعطى ذميا أخبره أنه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين وفي هذا دليل أنه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41] وقال تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وفيه دليل أن الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلما لأنه قال أخبره أنه مسلم ثم علم أنه ذمي وهذا لأن قوله أنا مسلم أي منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدعي ذلك فيما يعتقده وقد قال بعض المتأخرين المجوسي إذا قال أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم يتشاءمون بهذا اللفظ ويتبرؤن منه بخلاف أهل الكتاب وإن تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي فهو جائز على ما ذكر في كتاب الزكاة وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى:(10/328)
ص -157- ... الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه ولو تبين أن المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله فإن الواجب عليه بالنص الإيتاء وذلك لا يكون إلا بإخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا وهذا بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له فإنه يجزئه وفي حق المكاتب مع العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لأن إخراجه من ملكه على وجه التقرب هناك فصار لله تعالى خالصا فأما في عبد نفسه ومكاتبه لم يتم إخراجه عن ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب والأصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يصلى إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة اضطر إلى استدبار الكعبة والتوجه إلى بيت المقدس وكان يحب أن تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم صلوات الله عليه فسأل جبريل عليه السلام أن يسأل الله له في ذلك وكان يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فأنزل الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] الآية ثم لا خلاف في حق من هو بمكة أن عليه التوجه إلى عين الكعبة فأما من كان خارجا من مكة فقد كان أبو عبد الله الجرجاني يقول الواجب عليه التوجه إلى عين الكعبة أيضا(10/329)
لظاهر الآية ولأن وجوب ذلك لإظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد وغيره من مشايخنا رحمهم الله يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكة التوجه إلى الجهة لأن ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة إما بدليل يدل عليه أو بالتحري عند انقطاع الأدلة فمن الدليل المحاريب المنصوبة في كل موضع لأن ذلك كان باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم فإن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا العراق وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها ما بين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضا من غير نكير منكر من أحد منهم وكفي بإجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا إتباعهم في ذلك ومن الدليل السؤال في كل موضع ممن هو من أهل ذلك الموضع لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة وقال تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ومن الدليل النجوم أيضا على ما حكى عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة ونحن نجعل الجدي خلف الأذن(10/330)
ص -158- ... اليمنى وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى يقول السبيل في معرفة الجهة أن ينظر إلى مغرب الصيف في أطول أيام السنة فيعينه ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام الشتاء فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره فيكون مستقبلا للجهة إذا واجه ذلك الموضع ولا معنى للانحراف إلى جانب الشمال بعد هذا لأنه إذا مال بوجهه يكون إلى حد غروب الشمس في أقصر أيام السنة أو يجاوز ذلك فلا يكون مستقبلا للقبلة ولا للحرم أيضا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوني رحمه الله تعالى أن الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثني عشر ميلا ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلا وقيل قبلة أهل الشام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت وقبلة أهل اليمن الركن اليماني وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها وقبلة أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإذا انحرف بعد هذا وإن قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة وعند انقطاع الأدلة فرضه التحري وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن الجهة التي يؤديه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في حقه لأنه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كل مجتهد مصيب ولكنه مؤد لما كلف وإنما كلف طلب الجهة على رجاء الإصابة والمقصود ليس عين الجهة إنما المقصود وجه الله تعالى كما قال {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ولا جهة لوجه الله تعالى إلا أنا لو قلنا: يتوجه إلى أي جانب شاء انعدم الابتلاء وإنما يتحقق معنى العبادة إذا كان فيه معنى الابتلاء فإنما نوجب عليه التحري لرجاء الإصابة لتحقيق الابتلاء وإذا فعل ذلك كان مؤديا لما عليه وإن لم يكن مصيبا للجهة حقيقة.(10/331)
والدليل على أن الصحيح هذا ما بينا في كتاب الصلاة أن المصلين بالتحري إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للإمام في الجهة فاسدة ولو انتصب ما ظن الإمام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرجل به وإن خالفه في الجهة كما إذا صلوا في جوف الكعبة إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه عليه القبلة في السفر في ليلة مظلمة واحتاج إلى أداء الصلاة فعليه التحري ثم المسألة على أربع أوجه فإما أن يصلي إلى جهة من غير شك ولا تحر أو يشك ثم يصلى إلى جهة من غير تحر أو يتحرى فيصلى إلى جهة التحري أو يعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده فيصلى إلى جهة أخرى فأما بيان الفصل الأول أنه إذا صلى من غير شك ولا تحر فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته جائزة لأن فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن فكل من قام لأداء الصلاة يجعل مستقبلا للقبلة في أدائها باعتبار الظاهر وحمل أمره على الصحة حتى يتبين خلافه وإن تبين أنه أخطأ القبلة فعليه إعادة الصلاة لأن الظاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال(10/332)
ص -159- ... بخلافه لأن الحكم بجواز الصلاة هنا لانعدام الدليل المفسد لا للعلم بالدليل المجوز فإذا ظهر الدليل المفسد وجب الإعادة وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الإعادة لأن أكبر الرأي كاليقين خصوصا فيما يبني على الاحتياط وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلى إلى جهة فإن تبين أنه أخطأ القبلة أو أكبر رأيه أنه أخطأ أو لم يتبين من حاله شيء فعليه الإعادة لأنه لما شك فقد لزمه التحري لأجل هذه الصلاة وصار التحري فرضا من فرائض صلاته فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف الأول لأن التحري إنما يفترض عليه إذا شك ولم يشك في الفصل الأول فأما إذا تبين أنه أصاب القبلة جازت صلاته لأن فريضة التحري لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقط فريضة التحري عنه وإن كان أكبر رأيه أنه أصاب فكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد رحمهم الله تعالى يفتي بالجواز هنا أيضا لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والأصح أنه لا يجزيه لأن فرض التحري لزمه يقين فلا يسقط اعتباره إلا بمثله ولأن غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطا والاحتياط هنا في الإعادة فأما إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء فصلاته جائزة بالاتفاق وكذلك إن تبين أنه أخطأ فصلاته جائزة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن تبين أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب وإن تبين أنه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الإعادة في أحد القولين لأنه تبين الخطأ في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه والمتوضىء بماء إذا علم بنجاسته بخلاف ما إذا تيامن أو تياسر لأن هناك لا يتيقن بالخطأ فإن وجه المرء مقوس فإن عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شيء من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به.(10/333)
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية وفي سبب نزولها حديثان أحدهما ما روي عن عبد الله بن عامر رحمه الله تعالى قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كل واحد منا وخط بين يديه خطا فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم "أجزأتكم صلاتكم" وفي حديث جابر رضي الله عنه قال كنا في سفر في يوم ذي ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلى كل واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة.
وقال علي رضي الله عنه قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه أنه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقا كما لو تيامن أو تياسر وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق أن المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة إنما(10/334)
ص -160- ... المقصود وجه الله تعالى إلا أنه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض ألا تري أن في التيامن والتياسر على وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التحري للمعنى الذي قلنا: فكذلك في الاستدبار وإيضاح ما قلنا: فيما نقل عن بعض العارفين قال قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة الكرويين الكرسي وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف ما إذا ظهرت النجاسة في الثوب أو في الماء لما قلنا: أن ذلك مما يمكن الوقوف على حقيقته ولأن التوضؤ بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال فأما الصلاة إلى غير القبلة قربة ألا ترى أن الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارا ويؤدي الفرض كذلك عند العذر أيضا وبنحو هذا فرق في الزكاة أيضا أن التصدق على الأب وعلى الغني قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا فأما إذا أعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده وصلى إلى جهة أخرى ثم تبين أنه أصاب القبلة فعليه إعادة الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال أخشي عليه الكفر لإعراضه عن القبلة عنده وروى عنه أيضا أنه قال أما يكفيه أن لا يحكم بكفره وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز صلاته لأن لزوم التحري كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا وما لو أصابه بالتحري سواء وهذا على أصله مستقيم لأنه يسقط اعتبار التحري إذا تبين الأمر بخلافه كما قال في الزكاة وإذا سقط اعتبار التحري فكأنه صلى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه اعتقد فساد صلاته لأن عنده أنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالإمام وهو يصلي إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا(10/335)
علم لاعتقاده أن إمامه على الخطأ يوضحه أن الجهة التي أدي إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملا حتى لو صلى إليها جازت صلاته وإن تبين الأمر بخلافه فصار هو في الإعراض عنها بمنزلة ما لو كان معاينا الكعبة فأعرض عنها وصلى إلى جهة أخرى فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لأن تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العلم وإن انتصبت قبلة في حق العمل فإن كان تبين الحال له في خلال الصلاة فنقول أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصلاة لأنه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الإعادة فإذا تبين في خلال الصلاة أولى ولم يرو عن أبي يوسف رضي الله عنه خلاف هذا وينبغي أن يكون هذا مذهبه أيضا لأنه قد يقول قوي حاله بالتيقن بالإصابة في خلال الصلاة ولا ينبني القوى على الضعيف كالمومى إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة فأما إذا كان مصليا إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة ويبنى على صلاته لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة فكذلك إذا تبين له في(10/336)
ص -161- ... خلال الصلاة وهذا لأن افتتاحه إلى جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملا فيكون حاله كحال أهل قباحين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم أن القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثم جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم وعلى هذا قالوا لو صلى بعض الصلاة إلى جهة بالتحري ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكن في المستقبل يبنى على ما أدى إليه اجتهاده حتى روى عن محمد أنه قال لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بهذه الصفة يجوز واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى فمنهم من يقول يستقبل تلك الجهة أيضا فتتم صلاته جريا على طريقة القياس ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا آل الأمر إلى هذا فعليه استقبال الصلاة لأنه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصلاة فليس له أن يستقبلها في هذه الصلاة أيضا فأما إذا افتتح الصلاة مع الشك من غير تحر ثم تبين له في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو أكبر رأيه أنه أصاب فعليه الاستقبال لأن افتتاحه كان ضعيفا حتى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالإصابة فإذا علم في خلال الصلاة فقد تقوى حاله وبناء القوى على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف ما إذا علم بعد الفراغ فإنه لا يحتاج إلى البناء ونظيره في المومي والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر إذا كان بعد الفراغ لا يلزمهم الإعادة وإن كان في خلال الصلاة يلزمهم الاستقبال فأما إذا كان افتتحها من غير شك وتحر فإن تبين في خلال الصلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وإن تبين أنه أصاب فهذا الفصل غير مذكور في الكتاب وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل رحمهم الله تعالى يقول يلزمه الاستقبال أيضا لأن افتتاحه كان ضعيفا ألا ترى أنه إذا تبين الخطأ تلزمه الإعادة فإذا تبين الصواب في خلال الصلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد(10/337)
بن حامد رحمه الله تعالى يقول لا يلزمه الاستقبال وهو الأصح لأن صلاته هنا في الابتداء كانت صحيحة لانعدام الدليل المفسد فبالتبين لا تزداد القوة حكما فلا يلزمه الانتقال بخلاف ما بعد الشك لأن هناك صلاته ليست بصحيحة إلا بالتيقن بالإصابة فإذا تبين أنه أصاب فقد تقوى حاله حكما فلهذا لزمه الاستقبال.
رجل دخل مسجدا لا محراب فيه وقبلته مشكلة وفيه قوم من أهله فتحرى القبلة وصلى ثم علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصلاة لأن التحري حصل في غير أوانه فإن أوان التحري ما بعد انقطاع الأدلة وقد بقي هنا دليل له وهو السؤال فكان وجود التحري كعدمه فيصير كأنه صلى بعد الشك من غير التحري فلا تجزيه صلاته إلا إذا تبين أنه أصاب فكذا هذا عليه الإعادة لما تبين أنه أخطأ فإن تبين أنه أصاب فصلاته جائزة واستشهد لهذا بمن أتي ماء من المياه أو حيا من الأحياء وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم حتى تيمم وصلى ثم سألهم فأخبروه لم تجز صلاته وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته(10/338)
ص -162- ... من يسأله أجزأته صلاته وكذلك لو افتتح الصلاة بالتيمم ثم رأى إنسانا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته ثم يسأله فإن أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصلاة فإن لم يعلم من خبر الماء شيئا فليس عليه إعادة الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة هذه الفصول والفرق بينهما وبين ما إذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتى صلى بالتيمم ثم أخبره فليس عليه إعادة الصلاة فأمر القبلة كذلك ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم تبين أنه أخطأ هل يلزمه الإعادة فقد ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لا إعادة عليه وهذا هو الأقيس لأنه لما كان محبوسا في بيت وقد انقطعت عنه الأدلة ففرضه التحري ويحكم بجواز صلاته بالتحري فلا تلزمه الإعادة كما لو كان خارج مكة وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هنا تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة.(10/339)
قال وكذلك إذا كان بالمدينة لأن القبلة بالمدينة مقطوع بها فإنه إنما نصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بخلاف سائر البقاع ولأن الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا بخلاف سائر البقاع فإن الاشتباه يكثر فيها والأصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب لأن المغلوب يصير مستهلكا في مقابلة الغالب والمستهلك في حكم المعدوم ألا ترى أن الاسم للغالب فإن الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير ثم يطلق على الكل اسم الحنطة وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس لا يحل لأحد أن يشتري لحما ما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم وفي القرية التي عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب ويباح لكل أحد الرمي في دار الحرب إلى كل من يراه من بعد ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي ولا يحل له ذلك في دار الإسلام ما لم يعلم أنه حربي ولو أن أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة لم يجز استرقاق واحد منهم إلا من يعلم بعينه أنه حربي لأن الغالب في هذه المواضع أهل الذمة ولو دخل قوم من أهل الذمة قرية من قرى أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية إلا من يعلم أنه ذمي ثم المسائل نوعان مختلط منفصل الأجزاء ومختلط متصل الأجزاء فمن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة المساليخ وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام إما أن تكون الغلبة للحلال أو للحرام أو كانا متساويين وفيه حالتان حالة الضرورة بأن كان لا يجد غيرها وحالة الاختيار ففي حالة الضرورة يجوز له التحري في الفصول كلها لأن تناول الميتة عند الضرورة جائز له شرعا فلأن يجوز له التحري عند الضرورة وإصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى وأما في حالة الاختيار فإن كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة أحدها ميتة جاز له التحري أيضا لأن الحلال هو الغالب والحكم للغالب فبهذا الطريق جاز له التناول منها إلا ما يعلم أنه ميتة فالسبيل أن يوقع تحريه على أحدها أنها(10/340)
ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحري بل بغلبة الحلال وكون الحكم له وإن كان الحرام غالبا فليس له أن يتحرى عندنا وله ذلك عند(10/341)
ص -163- ... الشافعي لأنه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحري فله أن يتحرى كما في الفصل الأول وهذا لأن الحرمة في الميتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأي جائز في مثله كما في استقبال القبلة فإن جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحري فهذا مثله.
وحجتنا في ذلك أن الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار وهذا لأنه لو تناول شيئا منها إنما يتناول بغالب الرأي وجواز العمل بغالب الرأي للضرورة ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف ما إذا كان الغالب الحلال فإن حل التناول هناك ليس بغالب الرأي كما قررنا وهذا بخلاف أمر القبلة لأن الضرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الأدلة عنه فوزانه أن لو تحققت الضرورة هنا بأن لم يجد غيرها مع أن الصلاة إلى غير جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة وتناول الميتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأي هنا في حالة الاختيار وكذلك إن كانا متساويين لأن عند المساواة يغلب الحرام شرعا قال صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا غلب الحرام الحلال" ولأن التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال إن شاء أصاب من هذا وإن شاء أصاب من غيره ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه ومن العلامة أن الميتة إذا ألقيت في الماء تطفو لما بقى من الدم فيها والذكية ترسب وقد يعرف الناس ذلك بكثرة النشيش وبسرعة الفساد إليها ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمدا ومن المختلط الذي هو متصل الأجزاء مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام فإن كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشيء منه(10/342)
لا بأكل ولا بغيره من وجوه الانتفاع لأن الحكم للغالب وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميتة واستدل عليه بحديث جابر رضي الله عنه قال جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إن لنا سفينة في البحر وقد احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال صلى الله عليه وسلم "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" وكذلك إن كانا متساويين لأن عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالأول فأما إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئا منه في حالة الاختيار لأن ودك الميتة وإن كان مغلوبا مستهلكا حكما فهو موجود في هذا المحل حقيقة وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءا من الحلال إلا بتناول جزء من الحرام وهو ممنوع شرعا من تناول الحرام ويجوز له أن ينتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها فإن الغالب هو الحلال فالانتفاع إنما يلاقي الحلال مقصودا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن علي رضي الله تعالى عنه(10/343)
ص -164- ... جواز الانتفاع بالدهن النجس لأنه قال وإن كان مائعا فانتفعوا به دون الأكل وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النجاسة للجار لا لعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وإن كان لا تجوز الصلاة فيه وهذا لأن إلى العباد أحداث المجاورة بين الأشياء لا تقليب الأعيان وإن كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطاهر لا يصير نجسا وقد قررنا هذا الفصل في كتاب الصلاة فإن باعه ولم يبين عيبه فالمشتري بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الأكل وإن دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النجاسة وما يشرب فيه فهو عفو ومن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهي تنقسم ثلاثة أقسام أيضا فإن كانت الغلبة لموتى المسلمين فإنه يصلي عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين لأن الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين إلا أنه ينبغي لمن يصلي عليهم أن ينوى بصلاته المسلمين خاصة لأنه لو قدر على التمييز فعلا كان عليه أن يخص المسلمين بالصلاة عليهم فإذا عجز عن ذلك كان له أن يخص المسلمين بالنية لأن ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ونظيره ما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم وإن كان الغالب موتى الكفار لا يصلي على أحد منهم إلا من يعلم أنه مسلم بالعلامة لأن الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا وإن كانا متساويين فكذلك الجواب لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق فعند المساواة يغلب ما هو الأوجب وهو الامتناع عن الصلاة على الكفار ولا يجوز المصير إلى التحري هنا عندنا لما بينا أن العمل(10/344)
بغالب الرأي في موضع الضرورة ولا تتحقق الضرورة هنا وذكر في ظاهر الرواية أنهم يدفنون في مقابر المشركين لأن في حكم ترك الصلاة عليه جعل كأنهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن هذا قول محمد رحمه الله تعالى فأما على قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم فإن الإسلام يعلو ولا يعلى ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال وقيل بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لا من مقابر المسلمين ولا من مقابر المشركين فيدفنون فيها وأصل هذا الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في نظير هذه المسألة وهو أن النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهي حبلى فإنه لا يصلي عليها لكفرها ثم تدفن في مقابر المشركين عند علي وابن مسعود رضي الله عنهما ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لأن الولد الذي في بطنها مسلم ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلامة فإن أمكن ذلك وجب التمييز ومن العلامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد(10/345)
ص -165- ... فأما الختان فلأنه من الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة" وذكر من جملتها "الختان" إلا أن من أهل الكتاب من يختتن فإنما يمكن التمييز بهذه العلامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم أنهم لا يختتنون وأما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال صلى الله عليه وسلم "غيرو الشيب ولا تتشبهوا باليهود" وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يختضب بالحناء والكتم حتى قال الراوي رأيت ابن أبي قحافة رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته كأنها ضرام عرفج واختلفت الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل فعل ذلك في عمره والأصح أنه لم يفعل ولا خلاف أنه لا بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه وأما من اختضب لأجل التزين للنساء والجواري فقد منع من ذلك بعض العلماء رحمهم الله تعالى والأصح أنه لا بأس به وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها وأما السواد من علامات المسلمين جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء وقال صلى الله عليه وسلم "إذا لبست أمتي السواد فابغوا الإسلام" ومنهم من روى "فانعوا" والأول أوجه فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر العباس رضي الله عنه بانتقال الخلافة إلى أولاده بعده وقال من علاماتهم لبس السواد والكفار لا يلبسون السواد فإن أمكن التمييز بشيء من هذه العلامة وجب المصير إليها كما إذا أمكن معرفة جهة القبلة بشيء من العلامات وجب المصير إليها عند الاشتباه ومن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة الثياب إذا كان في بعضها نجاسة كثيرة وليس معه ثوب غير هذه الثياب ولا ما يغسلها به ولا يعرف الطاهر من النجس فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه أنه طاهر سواء كانت الغلبة للثياب النجسة أو للثياب الطاهرة أو كانا متساويين بخلاف مسألة المساليخ.(10/346)
وعند التأمل لا فرق لأن هناك يجوز له التحري عند الضرورة أيضا والضرورة هنا قد تحققت لأنه لا يجد بدا من ستر العورة في الصلاة ولا ثوب معه سوى هذه الثياب فجوزنا له التحري للضرورة ثم الفرق أن عين الثوب ليس بنجس ولا يلزمه الاجتناب عنه بل له أن يلبسه لغير الصلاة وإن كان نجسا فإذا لم تكن النجاسة صفة العين كان له أن يلبس أي هذه الثياب شاء في غير الصلاة فإنما يتحري لما هو من شرائط الصلاة على الخصوص وهو طهارة الثوب فكان هذا والتحري لاستقبال القبلة سواء بخلاف المساليخ فإن الميتة محرمة العين فإذا كانت الغلبة للحرام كان بمنزلة ما لو كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنه وإلى نحو هذا أشار في الكتاب وقال لأن الثياب لو كانت كلها نجسة لكان عليه أن يصلي في بعضها ثم لا يعيد الصلاة معناه ليس عليه الاجتناب عن لبس الثوب النجس في هذه الحالة فلأن يكون له أن يتحري وإصابة الطاهر بتحريه مأمول أولى وفي المساليخ في حالة الاختيار عليه الاجتناب عن الحرام فإذا كانت الغلبة للحرام كان عليه الاجتناب أيضا وإذا وقع تحريه في ثوبين على(10/347)
ص -166- ... أحدهما أنه هو الطاهر فصلى فيه الظهر ثم وقع في أكبر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر فصلى فيه العصر لا يجوز لأنا حين حكمنا بجواز الظهر فيه حكمنا بأن الطاهر ذلك الثوب ومن ضرورته الحكم بنجاسة الثوب الآخر فلا يعتبر أكبر رأيه بعد ما جري الحكم بخلافه وهذا بخلاف أمر القبلة فإنه إذا صلى الظهر إلى جهة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى فصلى العصر أجزأه لأن هناك ليس من ضرورة الحكم بجواز الظهر الحكم بأن تلك الجهة هي جهة الكعبة ألا ترى أنه وإن تبين الخطأ جازت صلاته فكان تحريه عند العصر إلى جهة أخرى مصادفا محله وهنا من ضرورة الحكم بجواز الظهر الحكم بأن الطاهر ذلك الثوب ألا ترى أنه لو تبينت النجاسة فيه تلزمه الإعادة يوضحه أن الصلاة إلى غير جهة الكعبة يجوز في حالة الاختيار مع العلم وهو التطوع على الدابة والصلاة في الثوب الذي فيه نجاسة كثيرة لا يجوز في حالة الاختيار مع العلم فمن ضرورة جواز الظهر تعين صفة الطهارة في ذلك الثوب والنجاسة في الثوب الآخر والأخذ بالدليل الحكمي واجب ما لم يعلم خلافه فإن استيقن أن الذي صلى فيه الظهر هو النجس أعاد صلاة الظهر لأنه تبين له الخطأ بيقين فيما يمكن الوقوف عليه في الجملة وكذلك لو لم يحضره التحري ولكنه أخذ أحد الثوبين فصلي فيه الظهر فهذا وما لو فعله بالتحري سواء لأن فعل المسلم محمول على الصحة ما لم يتبين الفساد فيه فيجعل كأن الطاهر هذا الثوب ويحكم بجواز صلاته إلا أن يتبين خلافه وكذلك لو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى وهو ساه في أحدهما الظهر وفي الأخر العصر وفي الأول المغرب وفي الآخر العشاء ثم نظر فإذا في أحدهما قذر ولا يدري أنه هو الأول أو الآخر فصلاة الظهر والمغرب جائزة وصلاة العصر والعشاء فاسدة لأنه لما صلى الظهر في أحدهما جازت صلاته باعتبار الظاهر فذلك بمنزلة الحكم بطهارة ذلك الثوب وبنجاسة الثوب الآخر فكل صلاة أداها في الثوب الأول فهي جائزة وكل صلاة(10/348)
أداها في الثوب الثاني فعليه إعادتها ولا يلزمه إعادة ما صلى في الثوب الأول من المغرب لمكان الترتيب لأنه حين صلى المغرب ما كان يعلم أن عليه إعادة العصر والترتيب بمثل هذا العذر يسقط ومن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة الأواني إذا كان في بعضها ماء نجس وفي بعضها ماء طاهر وليس معه ماء طاهر سوى ذلك ولا يعرف الطاهر من النجس فإن كانت الغلبة للأواني الطاهرة فعليه التحري لأن الحكم للغالب فباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر وإصابته بتحريه مأمول وإن كانت الغلبة للأواني النجسة أو كانا سواء فليس له أن يتحري عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يتحرى ويتوضأ بما يقع في تحريه أنها طاهرة وهذا ومسألة المساليخ سواء والفرق بين مسألة الثياب وبين مسألة الأواني لنا أن الضرورة لا تتحقق في الأواني لأن التراب طهور له عند العجز عن الماء الطاهر فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل وفي مسألة الثياب(10/349)
ص -167- ... الضرورة مست لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض حتى أن في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وعدم الماء الطاهر يجوز له أن يتحري للشرب لأنه لما جاز له شرب الماء النجس عند الضرورة فلأن يجوز التحري وإصابة الطاهر مأمول بتحريه أولى يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت كلها نجسة لا يؤمر بالتوضؤ بها ولو فعل لا تجوز صلاته فإذا كانت الغلبة له فكذلك أيضا وفي مسألة الثياب وإن كان الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها ويجزيه ذلك فكذلك إذا كانت الغلبة للنجاسة وفي الكتاب يقول إذا كانت الغلبة للماء النجس يريق الكل ثم يتيمم وهذا احتياط وليس بواجب ولكنه إن أراق فهو أحوط ليكون تيممه في حال عدم الماء بيقين وإن لم يرق أجزأه أيضا لأنه عدم آلة الوصول إلى الماء الطاهر وهو العلم والطحاوي رحمه الله تعالى يقول في كتابه يخلط الفاءين ثم يتيمم وهذا أحوط لأن بالإراقة ينقطع عنه منفعة الماء وبالخلط لا فإنه بعد الخلط يسقى دوابه ويشرب عند تحقق العجز فهو أولى وبعض المتأخرين من أئمة بلخ كان يقول يتوضأ بالإناءين جميعا احتياطا لأنه يتيقن بزوال الحدث عند ذلك لأنه قد توضأ مرة بالماء الطاهر وحكم نجاسة الأعضاء أخف من حكم الحدث فإذا كان قادرا على إزالة أغلظ الحدثين لزمه ذلك وقاسوا بمن كان معه سؤر الحمار يؤمر بالتوضي به مع التيمم احتياطا ولسنا نأخذ بهذا لأنه إذا فعل ذلك كان متوضأ بما يتيقن بنجاسته وتتنجس أعضاؤه أيضا خصوصا رأسه فإنه بعد المسح بالماء ينجس وإن مسحه بالماء الطاهر لا يطهر فلا معني للأمر به بخلاف سؤر الحمار فإنه ليس بنجس ولهذا لو غمس الثوب فيه جازت صلاته فيه فيستقيم الأمر بالجمع بينه وبين التيمم احتياطا ثم الأصل بعد هذا أن التحري في الفروج لا يجوز بحال لأن التحري إنما يجوز فيما يحل تناوله عند الضرورة على ما قررنا أن استعمال التحري نوع ضرورة والفرج لا يحل بالضرورة ألا ترى أن(10/350)
المكره على الزنى لا يحل له الإقدام عليه ومن خاف الهلاك من فرط الشبق لا يحل له الإقدام على الوطء في غير الملك فلهذا لا يحل الفرج بالتحري بحال بخلاف جميع ما تقدم من الفصول إذا عرفنا هذا فنقول رجل له أربع جوار أعتق واحدة منهن بعينها ثم نسيها لم يسعه أن يتحري للوطء لأن المعتقة بعينها محرمة عليه فلا يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المحرمة بعينها وهذا لأن قيام الملك في المحل شرط منصوص للحل وبتحريه لا يصير هذا الشرط معلوما بيقين بخلاف ما إذا أعتق إحداهن بغير عينها فإن العتق في المنكر لا يزيل الملك عن المعين إلا بالبيان فكان له أن يطأ من شاء منهن باعتبار الملك المتيقن به في المحل وكما لا يتحري للوطء هنا لا يتحري للبيع لأن جواز البيع وإباحته شرعا لا يكون إلا باعتبار قيام الملك في المحل فإن الحرة ليست بمحل للبيع شرعا ولا يخلى الحاكم بينه وبينهن حتى يبين المعتقة من غيرها فإنه لا يسعه إلا ذلك لأنه علم أن إحداهن محرمة عليه فليس له أن يخلى بينه وبين المحرمة(10/351)
ص -168- ... ليرتكب الحرام بوطئها فيحول بينه وبينهن حتى يبين المعتقة وكذلك إذا طلق إحدى نسائه بعينها ثلاثا ثم نسيها وهذا أبلغ من الأول لأن المطلقة ثلاثا محرمة العين لا تحل له بنكاح ولا غيره ما لم تتزوج بزوج آخر وكذلك إن متن كلهن إلا واحدة لم يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة بخلاف ما إذا أوقع الطلاق على إحداهن بغير عينها لأن بموت الثلاث هناك يتعين الطلاق في الرابعة وهنا الطلاق وقع على عين فلا يتحول بالموت من محل إلى محل فحال هذه التي بقيت بعد موت ضرائرها كحالها قبل موتهن لا يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة فإذا أخبر بذلك فقد أخبر بحلها وهذا أمر بينه وبين ربه فيصدق في ذلك مع اليمين ويستحلفه ما طلق هذه بعينها ثلاثا ثم يخلى بينهما أما إذا كانت تدعى هي الثلاث فغير مشكل وكذلك إن كانت لا تدعى ففي الحرمة معني حق الشرع ألا ترى أن البينة تقبل فيه من غير دعوى فلهذا يستحلفه القاضي إذا اتهمه فإن حلف وهو جاهل بذلك فلا ينبغي له أن يقربها لأنه مجازف في يمينه واليمين الكاذبة لا تحل الحرام وإن ادعت كل واحدة منهن أنها المطلقة حلفه القاضي لكل واحدة منهن فإن نكل عن اليمين لهن فرق بينه وبينهن لأن النكول في حق كل واحدة منهن بمنزلة الإقرار وإن حلف لهن بقي حكم الحيلولة كما كان لأنا نتيقن أنه كاذب في بعض هذه الأيمان.(10/352)
وروي ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال إذا حلف لثلاث منهن يتعين الطلاق في الرابعة ضرورة فيفرق بينه وبينها كما لو أخبر أنها هي المطلقة ولكن هذا لا يستقيم فيما إذا وقع على المعينة في الابتداء لأنه ليس إليه البيان إنما عليه أن يتذكر وذلك لا يحصل بيمينه لبعضهن بخلاف ما إذا كان الإيقاع على غير المعينة في الابتداء فإن باع في المسألة الأولى ثلاثا من الجواري فحكم الحاكم بجواز بيعهن وكان ذلك من رأيه وجعل الباقية هي المعتقة ثم رجع إليه مما باع شيء بشراء أو بهبة أو ميراث لم ينبغ له أن يطأها لأن القاضي في ذلك قضي بغير علم ولا معتبر للقضاء عن جهل ولأنا نعلم أنه مخطئ في قضائه لأنه حكم بجواز البيع في محل لا يعرف فيه الملك بيقين فيكون باطلا وأدنى الدرجات فيه أن يكون حكمه بجواز البيع في شخص متردد الحال بين الرق والحرية فلا ينفذ حكمه كما لو حكم بجواز بيع المكاتب بغير رضاه ولا ينبغي للمولى أن يطأ شيئا منهن بالملك إلا أن يتزوجها فإن تزوجها فلا بأس بوطئها لأنها إن كانت حرة فالنكاح بينه وبينها صحيح وإن كانت أمة فهي حلال له بالملك فهي إما زوجته أو أمته فله أن يقربها ولو أن قوما كان لكل واحد منهم جارية فأعتق أحدهم جاريته ثم لم يعرفوا المعتقة فلكل واحد منهم أن يطأ جاريته حتى يعلم المعتقة بعينها لأنا علمنا قيام الملك لكل واحد منهم في جاريته وحل وطئها له ولم نتيقن باكتساب سبب الحرمة من كل واحد منهم فله أن يتمسك بما يتيقن به لأن اليقين لا يزال بالشك بخلاف ما تقدم لأنا تيقنا هناك باكتساب سبب الحرمة من المولى في بعضهن(10/353)
ص -169- ... فليس له الإقدام على الوطء ما لم يعلم أن الموطوءة خارجة عن تلك الحرمة وهذا لأن القضاء بالحرمة يصح على المعلوم دون المجهول ففي المسألة الأولى المقضي عليه المولى وهو معلوم فالجهالة في جانب الجواري لا يمنع القضاء بحرمة هي حق الشرع وهنا المقضي عليه بالحرمة من الموالى مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فلكل واحد منهم أن يتمسك في جاريته بالحل الذي تيقن به حتى يعلم خلافه فإن كان أكبر رأى أحدهم أنه هو الذي أعتق فأحب إلى أن لا يقربها وإن قرب لم يكن ذلك عليه حراما حتى يستيقن لأن أكبر الرأي يوجب الاحتياط ولا يزيل الملك والحرمة في هذا المحل باعتبار زوال الملك وذلك لا يثبت بأكبر الرأي ولو اشتراهن جميعا رجل واحد قد علم ذلك لم يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المعتقة أما إذا اشتراهن بعقد واحد فهذا البيع باطل لأن فيه الجمع بين الحرة والإماء وبيع الكل بثمن واحد وإن اشتراهن بعقود متفرقة فنقول لما اجتمعن عنده وهو متيقن بأن إحداهن محرمة عليه كان هذا وما لو كان المولى في الابتداء واحدا سواء لأن المقضي عليه معلوم هنا ولو اشتراهن إلا واحدة حل له وطؤهن لأنه لا يتيقن بالحرمة فيما اشتري فلعل المعتقة تلك الواحدة التي لم يشترها فلا يصير المقضي عليه بالحرمة معلوما بهذا فإن وطئهن ثم اشتري الباقية لم يحل له وطء شيء منهن ولا بيعه حتى يعلم المعتقة منهن لأنه يعلم أن إحداهن محرمة عليه وليس لما سبق من الوطء تأثير في تمييز المعتقة من غير المعتقة لأنه لا طريق لذلك إلا التذكر والوطء ليس من التذكر في شيء وكذلك لو كان المشترى أحد أصحاب الجواري لأنهن قد اجتمعن عنده فصار المقضي عليه بالحرمة معلوما ثم أعاد المسألة الأولى لإيضاح ما بينا أن التحري لا يجوز في الفروج فقال لو مات المولى بعد ما أعتق واحدة منهن بعينها ونسيها فليس للقاضي أن يتحرى ولا يأمر الورثة بذلك أيضا في تعيين المعتقة حتى لا يقول لهم اعتقوا(10/354)
التي أكبر رأيكم أنها حرة واعتقوا أيتهن شئتم وكيف يقول لهم ذلك والعتق الواقع على شخص بعينه لا يتصور انتقاله إلى شخص آخر بحال ولكنه يسألهم عن ذلك فإن زعموا أن الميت أعتق فلانة بعينها أعتقها واستحلفهم على علمهم في الباقيات لأنهم خلفاء المورث وخبرهم كخبر المورث أن المعتقة هذه إلا أن اليمين في حقهم على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير فإن لم يعرفوا شيئا من ذلك أعتقهن جميعا وأبطل من قيمتهن قيمة واحدة بينهن بالحصص ويسعين فيما بقي لأنه تعذر استدامة الملك فيهن لحق الشرع فيخرجن إلى الحرية بالسعاية كأم ولد النصرانية أسلمت تخرج إلى الحرية بالسعاية إلا أنه يسقط عنهن ما يتيقن بسقوطه وهو قيمة واحدة ثم ختم الكتاب بهذا في بعض النسخ ذكر بابا من كتاب الإجارات وكأنه تذكر تلك المسائل حين صنف هذا الكتاب فأثبتها لكيلا يفوت فقال رجل أجر عبده من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتقه المولى فالعتق نافذ لقيام الملك في رقبته وحق المستأجر إنما يثبت في المنفعة دون الرقبة ولا تأثير(10/355)
ص -170- ... لما استحقه من اليد إلا في عجز المولى عن تسليمه والقدرة على التسليم ليس بشرط لنفوذ العتق حتى ينفذ العتق في الآبق والجنين في البطن ثم يتخير العبد في فسخ الإجارة لأن على إحدى الطريقين الإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة.
ولو أجره ابتداء بعد العتق لا يلزم العقد إلا برضاه فكذلك لا يتجدد انعقاد العقد لازما بعد العقد إلا برضاه وعلى الطريق الآخر العقد وإن انعقد جملة فهو يحتمل الفسخ بعذر والعذر قد تحقق هنا لأن لزوم تسليم النفس للخدمة بعد العتق بعقد باشره المولى يلحق الشين به ويكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة أرأيت لو تفقه وقلد القضاء أكان يجبر على الخدمة بسبب ذلك العقد يقرره أن في إجارة النفس للخدمة كدا وتعبا فلا يلزم من المولى على العبد إلا في منافع مملوكة للمولي والمنافع بعد العتق تحدث على ملك العبد فيثبت له الخيار بظهور هذا النوع من الملك له كالمنكوحة إذا أعتقت يثبت لها الخيار لملكها أمر نفسها أو زيادة ملك الزوج عليها فإن فسخ العقد فأجر ما مضى للمولى لأن ما يقابله استوفى على ملكه بعقده وإن مضى على الإجارة فللعبد أجر ما بقى من المدة لأنه بدل ما هو مملوك للعبد فإن المنافع بعد العتق تحدث على ملكه والبدل إنما يملك بملك الأصل وهذا بخلاف المنكوحة فإنها إذا لم تختر نفسها بعد العتق فالصداق للمولى وإن لم يدخل بها الزوج قبل العتق لأن الصداق وجب بالعقد جملة واستحقه المولى عوضا عن ملكه وهنا الأجر يجب شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة أو يتجدد انعقاد العقد على أحد الطريقين هنا فهو بمنزلة ما لو أجره بعد العتق برضاه فيكون الأجر للعبد إلا أن المولى هو الذي يتولى قبضه لأن الوجوب بعقده وحقوق العقد تتعلق بالعاقد وليس للعبد ولاية أن يقبضها إلا بوكالة المولى وليس له أن ينقض العقد بعد اختياره المضي عليها لأنه أسقط خياره كالمعتقة إذا اختارت زوجها فإن كان(10/356)
المستأجر عجل الأجرة كلها للمولى قبل أن يعمل العبد شيئا في أول الإجارة فهذا والأول سواء إلا خصلة واحدة إذا اختار العبد المضي على الإجارة فالأجر كله للمولى لأنه ملك الأجر بالقبض وما ملكه المولى من كسب العبد يبقى على ملكه بعد عتقه بخلاف الأول لأنه ما ملك الأجر بنفس العقد هناك وإنما يملكه شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة وإن فسخ العبد الإجارة في بقية المدة فعلى المولى رد حصة ذلك من الأجر على المستأجر كما لو تفاسخا العقد وهذا لأن المولى أكسب سبب ثبوت الخيار للعبد وفسخ العقد من العبد بناء عليه فيصير مضافا إلى المولى فلهذا يلزمه الرد بحساب ما بقي من المدة وإذا اختار المضي فقد بقي العقد على ما باشر المولى والملك في جميع الأجر قد ثبت للمولى بذلك العقد فيبقى ولا يتحول شيء منه إلى العبد وإن كان الأجر شيئا بعينه في جميع هذه الوجوه فالجواب فيه والجواب في الدراهم والدنانير سواء وهذا أظهر لأن الأجرة لما كانت بعينها لا تملك قبل التعجيل ولا تجب وجوبا مؤجلا ولا حالا وفي الأجر إذا كان بغير عينه كلام أنه(10/357)
ص -171- ... هل يجب بنفس العقد وجوبا مؤجلا أم لا فإذا كان هناك حصة ما بقي من المدة للعبد فهنا أولى.
قال وكذلك الجواب في العبد إذا ولى إجارة نفسه بإذن المولى إلا أن العبد هو الذي يلي القبض هنا إذا اختار المضي على الإجارة لأنه المباشر للعقد وحقوق العقد تتعلق بالعاقد وهو الذي يطالب برد ما يجب رده من المقبوض عند الفسخ لأنه هو الذي قبضه بحكم العقد ثم يرجع هو على المولى به عينا كان ذلك في يد المولى أو مستهلكا لأنه إنما وجب بعد العتق والفسخ وهو من أهل أن يستوجب على مولاه دينا في هذه الحالة وقد لزمه هذا الدين بسبب كان هو في مباشرته عاملا لمولاه بإذنه فيثبت له به حق الرجوع عليه ثم ذكر في الكتاب سؤالا فقال كيف يكون للعبد أن يفسخ الإجارة وهو الذي يليها ثم أجاب فقال لأنها تمت في حال رقه بإذن المولى فكأن المولى هو الذي باشر العقد ألا ترى لو أن أمة زوجت نفسها بإذن مولاها ثم عتقت كان لها الخيار كما لو كان المولى هو الذي زوجها وكذلك الصبي إذا أجره الوصي في عمل من الأعمال فلم يعمل حتى بلغ الصبي مبلغ الرجال فهو بالخيار بين المضي على الإجارة وفسخها وكذلك الأب إذا أجر ابنه ثم أدرك الابن لما بينا أن في إجارة النفس كدا وتعبا فلا يلزم من الأب والوصي في حق الصبي بعد بلوغه وما يلحقه من المشقة يصير عذرا له في الفسخ بخلاف ما لو أجر داره أو عبده سنين معلومة فأدرك الغلام لم يكن له أن يبطل الإجارة.(10/358)
والشافعي رحمه الله تعالى يسوي بينهما فيقول العقد نفذ بولاية تامة فلا يثبت له حق الفسخ بعد ذلك في الفصلين والفرق لنا بين الفصلين من وجهين أحدهما أنه ليس في إجارة الدار والعبد معنى الكد والعار في حق الصبي إذا أدرك فلا يثبت له حق الفسخ بخلاف إجارة النفس والثاني أن إجارة الدار والعبد يملك بالولاية ألا ترى أن من لا ولاية له من القرابات ممن يعول الصبي ليس له ولاية إجارة داره وعبده فإذا نفذ باعتبار قيام ولايتهما يجعل كأنهما باشراه بعد البلوغ بالولاية فأما صحة إجارة النفس ليس باعتبار الولاية بل باعتبار المنفعة والمصلحة للولد في ذلك ليتأدب ويتعلم ما يحتاج إليه ألا ترى أن من يعول اليتيم بملك ذلك منه وببلوغه زال هذا المعنى لأنه صار من أهل النظر لنفسه فيما يحتاج إليه فلهذا يثبت له الخيار وإذا أجر العبد المحجور عليه نفسه من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتق فالقياس أن لا يجب الأجر لأن المستأجر كان ضامنا له حين استعمله بغير إذن مولاه والأجر والضمان لا يجتمعان ولكنا نستحسن إذا سلم العبد أن يجعل له الأجر فيما مضى لأن في ذلك محض منفعة لا يشوبه ضرر والعبد غير محجور عن اكتساب المال وما يكون فيه محض منفعة كالاحتطاب والاحتشاش بخلاف ما إذا هلك فإن الضمان قد تقرر عليه من حين استعمله وهو يملكه بالضمان من ذلك الوقت فتبين أنه استعمل(10/359)
ص -172- ... عبد نفسه فلا يجب الأجر وبه فارق الصبي المحجور إذا أجر نفسه ومات في خلال العمل فإنه يجب الأجر بحساب ما عمل لأن الصبي الحر لا يملك بالضمان فلا ينعدم السبب الموجب للأجر فيما مضي وإن هلك الصبي من استعماله غرم ديته وإذا سلم العبد من العمل حتى وجب الأجر بحساب ما مضي يقبضه العبد فيدفعه إلى مولاه لأنه وجب بعقده ولكن بمقابلة منافع هي مملوكة للمولى فيلزمه دفعه إلى المولى وتجوز الإجارة فيما بقي من السنة للعبد ولا خيار له في نقض الإجارة لأنها نفذت بعد عتقه بغير إجارة المولى فكأنه باشره بعد العتق ألا ترى أن أمة لو زوجت نفسها بغير إذن المولى ثم أعتقها المولى نفذ العتق ولا خيار لها بخلاف ما إذا كان عقدها بإذن المولى أو أجازه المولى قبل العتق فكذلك في الإجارة وكذلك الجواب هنا إن كان قبض الأجر في حال رقه لأن للعبد منه حصة ما بقي وللمولى حصة ما مضي بخلاف ما تقدم لأن العقد هناك كان نافذا فالأجر كله بالقبض صار ملكا للمولى وهنا العقد لم يكن نافذا لأن مباشره محجور عليه فإنما ينفذ بحسب ما يستوفى من المنفعة لأنه حينئذ يتمحض منفعة فحصة ما استوفى من المنفعة صار مملوكا من الآجر فيكون للمولى وحصة ما لم يستوف من المنفعة لم يصر مملوكا وأن كان مقبوضا وإنما يملك بعد العتق باعتبار إبقاء المنفعة وإنما أو في فيما بقي من المدة المنافع التي هي مملوكة له فلهذا كان الأجر بحساب ما بقي من المدة للعبد والله أعلم بالصواب.(10/360)
ص -173- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب اللقيط
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رضي الله عنه اللقيط لغة اسم لشيء موجود فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح بمعنى المقتول والمجروح وفي الشريعة اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة مضيعه آثم ومحرزه غانم لما في إحرازه من إحياء النفس فإنه على شرف الهلاك وإحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه قال تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال صلى الله عليه وسلم "من لم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا فليس منا" وفي رفعه إظهار الشفقة وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان على ما قيل أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وقد دل على ما قلنا: الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن الحسن البصري أن رجلا التقط لقيطا فأتى به عليا رضي الله تعالى عنه فقال هو حر ولأن أكون وليت من أمره مثل الذي وليت منه أحب إلى من كذا وكذا فقد استحب علي رضي الله تعالى عنه مع جلالة قدره أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه.
فإن قيل: ما معنى هذا الكلام وكان متمكنا من أخذه بولاية الإمامة؟.(10/361)
قلنا: نعم ولكن إحياؤه كان في التقاطه حين كان على شرف الهلاك ولا يحصل ذلك بالأخذ منه بعد ما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب ذلك مع أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذه من الملتقط إلا بسبب يوجب ذلك لأن يده سبقت إليه فهو أحق به باعتبار يده وفي هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر وهو المذهب أنه حر مسلم أما باعتبار الدار لأن الدار حرية وإسلام فمن كان فيها فهو حر مسلم باعتبار الظاهر أو باعتبار الغلبة لأن الغالب فيمن يسكن دار الإسلام الأحرار المسلمون والحكم للغالب أو باعتبار الأصل فالناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وكانا حرين فلهذا كان اللقيط حرا وفي حديث آخر أن عليا رضي الله عنه فرض له وهذا يدل على أن نفقة اللقيط في بيت المال لأنه عاجز عن الكسب محتاج إلى النفقة ومال بيت المال معد للصرف إلى المحتاجين وفي حديث آخر أن عليا رضي الله عنه قال ولاؤه وعقله للمسلمين وهو المذهب أن عقل جنايته على بيت المال لأنه لو مات وترك(10/362)
ص -174- ... مالا كان ماله مصروفا إلى بيت المال ميراثا للمسلمين فكذلك عقل جنايته ونفقته على بيت المال لأن الغنم مقابل بالغرم وهو مروي عن عمر رضي الله عنه أيضا قال اللقيط حر وولاؤه وعقله للمسلمين وذكر في حديث الزهري رضي الله عنه عن سنين أبي جميلة قال وجدت منبوذا على بابي فأتيت به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤسا هو حر ونفقته علينا ومعنى المنبوذ المطروح قال تعالى {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] وهو الاسم الحقيقي للموجود لأنه مطروح وإنما سمى لقيطا باعتبار مآله وتفاؤلا لاستصلاح حاله فأما معنى قول عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤسا مثل معروف لما يكون باطنه بخلاف ظاهره وأول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الصناديق فيها الرجال وقد أخبرت أن فيها الأموال فلما أحست بذلك أنشأت تقول:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا تحمل أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثما قعودا(10/363)
ثم قالت عسى الغوير أبؤسا فطار كلامها مثلا وكان عمر رضي الله عنه ظن أن هذا الرجل جاء إليه بولده يزعم أنه لقيط ليستوفي منه نفقته فلهذا ذكر هذا المثل وفي الحديث دليل أن الملتقط ينبغي له أن يأتي باللقيط إلى الإمام وينبغي للإمام أن يعطي نفقته من بيت المال وأنه يكون حرا كما قال عمر رضي الله عنه نفقته علينا وهو حر وإن أنفق عليه الملتقط فهو في نفقته متطوع لا يرجع بها على اللقيط إذا كبر لأنه غير مجبور على ما صنع شرعا والمتطوع من يكون مخيرا غير مجبر على إيجاد شيء شرعا ولو أنفق على ولد له أب معروف بغير إذن أبيه كان متطوعا في ذلك فكذلك إذا أنفق على اللقيط وهذا لأن بالالتقاط يثبت له من الحق بقدر ما ينتفع به اللقيط وهو الحفظ والتربية ولم يثبت له عليه ولاية إلزام شيء في ذمته لأن ذلك لا ينفعه ولأنه ليس بينهما سبب مثبت للولاية ولهذا لا يرجع بالنفقة عليه ولأن الغالب من أحوال الناس أنهم بمثل هذا يتبرعون وفي الرجوع لا يطمعون ومطلق الفعل محمول على ما هو المعتاد فإن أمره القاضي أن ينفق عليه على أن يكون ذلك دينا عليه فهو جائز وهو دين عليه لأن القاضي نصب ناظرا ومعنى النظر فيما أمر به فإنه إذا لم يكن في بيت المال مال وأبى الملتقط أن يتبرع بالإنفاق فتمام النظر بالأمر بالأنفاق عليه لأنه لا يبقي بدون النفقة عادة وللقاضي عليه ولاية الإلزام لأنه ولى كل من عجز عن التصرف بنفسه يثبت ولايته بحق الدين ومن وجه هذه الولاية فوق الولاية الثابتة بالأبوة فلهذا اعتبر أمره في إلزام الدين عليه وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى مجرد أمر القاضي بالإنفاق عليه يكفي ولا يشترط أن يكون دينا عليه ولأن أمر القاضي نافذ عليه كأمره بنفسه أن لو كان من أهله ولو أمر غيره بالإنفاق عليه كان ما ينفق دينا عليه فكذلك إذا أمر القاضي به والأصح ما ذكره في الكتاب أن يأمره على أن يكون دينا عليه لأن مطلقه محتمل قد يكون للحث والترغيب في(10/364)
إتمام ما شرع فيه من التبرع فإنما(10/365)
ص -175- ... يزول هذا الاحتمال إذا اشترط أن يكون دينا له عليه فلهذا قيد الأمر به فإذا ادعى بعد بلوغه أنه أنفق عليه كذا وصدقة اللقيط في ذلك رجع عليه به وإن كذبه فالقول قول اللقيط وعلى المدعي البينة لأنه يدعى لنفسه دينا في ذمته وهو ليس بأمين في ذلك وإنما يكون أمينا فيما ينفي به الضمان عن نفسه فلهذا كان عليه إثبات ما يدعيه بالبينة وشهادة اللقيط بعد ما أدرك جائزة إذا كان عدلا لأنه حر مسلم فيكون مقبول الشهادة في الأمور كلها إذا ظهرت عدالته وكان مالك يقول لا تقبل شهادته في الزنى لأنه في الناس متهم بأنه ولد الزنى فيعير بذلك فربما يقصد بشهادته إلحاق عار الزنى بغيره ليسويه بنفسه ولكن هذا ضعيف فإن الزاني بعد ظهور توبته مقبول الشهادة في الزنى والسارق كذلك ثم تهمة الكذب كما تنفي عنه في سائر الشهادات بترجح جانب الصدق عند ظهور عدالته فكذلك في الشهادة بالزنى وجنايته والجناية عليه وحدوده كغيره من الأحرار المسلمين لأنه محكوم بحريته باعتبار الظاهر كما قررنا رجل التقط لقيطا فادعى رجل أنه ابنه صدقته استحسانا وثبت نسبه منه ألا ترى أن الذي التقط لو ادعاه يثبت نسبه منه والقياس والاستحسان في الفصلين أما الملتقط إذا ادعاه في القياس لا يصدق لأنه مناقض في كلامه فقد زعم أنه لقيط في يده وابنه لا يكون لقيطا في يده ولأنه يلزمه النسبة إليه إذا بلغ وليس له عليه ولاية الإلزام وفي الاستحسان هو يقر له بما يحتاج إليه اللقيط فإنه محتاج إلى النسب ليتشوف به ويندفع العار عنه فهو في هذا الإقرار يكتسب له ما ينفعه وبالالتقاط ثبت له عليه هذا المقدار.(10/366)
يوضحه أنه يلتزم حفظه ونفقته بهذا الإقرار وهذا الالتزام تصرف منه على نفسه وله هذه الولاية ثم التناقض لا يمنع ثبوت النسب بالدعوة كالملاعن إذا أكذب نفسه وهذا لأن سببه خفي فربما اشتبه عليه الأمر في الابتداء فظن أنه لقيط ثم تبين له أنه ولده وإن ادعاه غير الملتقط في القياس لا يثبت نسبه منه وهذا قياس آخر سوى الأول لأنه يقصد بهذه الدعوة أن يأخذه من الملتقط وحق الحفظ قد ثبت للملتقط على وجه ليس لغيره أن يأخذه منه فلا يقبل مجرد دعواه في إبطال الحق الثابت له وجه الاستحسان أن اللقيط محتاج إلى النسب فهو في دعوة النسب يقر له بما ينفعه ويلتزم حقا له فكان دعواه كدعوى الملتقط لنسبه ثم يترجح هو على الملتقط في الحفظ حكما لثبوت نسبه ومثل هذا يجوز أن يثبت حكما وإن لم يتمكن من إثباته قصدا كما أن النسب والميراث يثبت بشهادة القابلة على الولادة حكما وإن كان لا يثبت المال بشهادتها قصدا يوضحه أنه إذا قصد أخذ اللقيط من يده فإنما منازعته في عين ما باشره الأول فيترجح الأول بالسبق وأما إذا ادعى نسبه فمنازعته ليست في شيء باشره الملتقط فصحت دعوته لمصادفتها محلها ولا منازع له في ذلك ثم من ضرورة ثبوت النسب أن يكون هو أحق بحفظ ولده من أجنبي وإذا أبي الملتقط أن ينفق على اللقيط وسأل القاضي أن يقبله منه فللقاضي أن لا يصدقه في ذلك ما لم يقم البينة على أنه لقيط لأنه متهم فيما يقول فلعله ولده أو بعض من تلزمه نفقته واحتال بهذه الحيلة ليسقط نفقته عن نفسه فلهذا لا يصدقه ما لم(10/367)
ص -176- ... يقم البينة فإذا أقام البينة أنه لقيط قبل منه البينة من غير خصم حاضر إما لأنها تقوم لكشف الحال والبينة لكشف الحال مسموعة من غير خصم أو لأنها غير ملزمة واشتراط حضور الخصم لمعني الإلزام ثم القاضي مخير إن شاء قبضه منه وإن شاء لم يقبض ولكن يوليه ما تولى فيقول له قد التزمت حفظه فأنت وما التزمت وليس لك أن تلزمني ما التزمته والأولى أن يقبضه إذا علم بعجزه عن حفظه والإنفاق عليه لأن في تركه في يده تعريضه للهلاك ولأن الأخذ الآن من باب النظر والقاضي منصوب لذلك فإن أخذه ووضعه في يد رجل وأمره بأن ينفق عليه على أن يكون ذلك دينا على اللقيط ثم إن الذي التقطه سأل القاضي أن يرده عليه فهو بالخيار إن شاء رده عليه وإن شاء لم يرد لأنه أسقط ما كان له من حق الاختصاص فحاله بعد ذلك كحال غيره من الناس في طلب الرد رجل التقط لقيطا فجاء رجل آخر فانتزعه منه فاختصما فيه فإنه يدفع إلى الأول لأن يده سبقت إليه فكان هو أحق بحفظه ثم الثاني بالأخذ فوت عليه يدا محقة فيؤمر بإعادتها بالرد عليه وهذا لأن الأول أخذ ما هو مندوب إلى أخذه والثاني أخذ ما هو ممنوع من أخذه لحق الأول فلا تكون يده معارضة ليد الأول ولا ناسخة لها وإذا كبر اللقيط فادعاه رجل فذلك إلى اللقيط لأنه في يد نفسه وله قول معتبر إذا كان يعبر عن نفسه فيعتبر تصديقه لإثبات النسب منه وهذا لأن المدعى يقر له بالنسب من وجه ويدعى عليه وجوب النسبة إليه من وجه فلا يثبت حكم كلامه في حقه إلا بتصديقه دعوى كان أو إقرارا وإذا صدقه يثبت النسب منه إذا كان مثله يولد لمثله فأما إذا كان مثله لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه لأن الحقيقة تكذبهما وجناية اللقيط على بيت المال لأن ولاءه لبيت المال فإن الولاء مطلوب لمعنى التناصر والتقوى به ومن ليس له مولى معين فتناصره بالمسلمين وإنما يتقوى بهم فإذا كان ولاؤه لهم كان موجب جنايته عليهم يؤدي من بيت المال لأنه ما لهم وميراثه(10/368)
لبيت المال دون الذي التقطه ورباه لأن استحقاق الميراث لشخص بعينه بالقرابة أو ما في معناه من زوجية أو ولاء وليس للمتلقط شيء من ذلك.
فإن قيل: هو بالالتقاط والتربية قد أحياه فينبغي أن يثبت له عليه الولاء كما يثبت للمعتق بالإعتاق الذي هو إحياء حكما.
قلنا: هذا ليس في معنى ذلك لأن الرقيق في صفة مالكية المال هالك والمعتق محدث فيه لهذا الوصف واللقيط كان حيا حقيقة ومن أهل الملك حكما فالملتقط لا يكون محييا له حقيقة ولا حكما فلا يثبت له عليه ولاء ما لم يعاقده عقد الولاء بالبلوغ وإذا ثبت أنه لا ميراث للملتقط منه كان ميراثه لبيت المال لأنه مسلم ليس له وارث معين فيرثه جماعة المسلمين يوضع ماله في بيت المال وإن والي رجلا بعد ما أدرك جاز كما لو والى الملتقط لأن ولاءه لبيت المال لم يتأكد بعد فله أن يوالى من شاء بخلاف ما إذا جنى جناية وعقله بيت المال فإن هناك قد تأكد ولاؤه للمسلمين حين عقلوا جنايته فلا يملك إبطال ذلك بعقد(10/369)
ص -177- ... الموالاة مع أحد كالذي أسلم من أهل الحرب له أن يوالي من شاء إلا أن يجني جناية ويعقله بيت المال ولا يجوز للملتقط على اللقيط ذكرا كان أو أنثى عقد النكاح ولا بيع ولا شراء لأن نفوذ هذه التصرفات على الغير يعتمد الولاية كما قال صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي" ولا ولاية للملتقط على اللقيط وإنما له حق الحفظ والتربية لكونه منفعة محضة في حقه وبهذا السبب لا تثبت الولاية وإن ادعى أن اللقيط عبده لم يصدق بعد أن يعرف أنه لقيط لأنه محكوم بحريته باعتبار الظاهر فلا يبطل ذلك بمجرد قوله ولأن يده يد حفظ فلا يمكنه أن يحول يده يد ملك بمجرد قوله من غير حجة وهذا بخلاف ما إذا ادعى أنه ابنه لأن ذلك إقرار للقيط بما ينفعه وهذا دعوى عليه بما يضره وهو تبديل صفة المالكية بالمملوكية ولو أن رجلا وجد لقيطا معه مال فوضعه القاضي على يده وقال أنفق عليه منه فهو جائز لأن ذلك المال للقيط فإنه موجود معه فكانت يده أسبق إليه من يد غيره وإنما ينفق عليه من ماله ولأن الظاهر أن واضعه وضع ذلك المال لينفق عليه منه والبناء على الظاهر جائز ما لم يظهر خلافه وهو مصدق في نفقة مثله لأنه أمين يخبر بما هو محتمل وينكر وجوب الضمان عليه فيقبل قوله في ذلك كمن دفع إلى إنسان ما لا وأمره بأن ينفق على عياله يقبل قوله في نفقة مثلهم وما اشتري من طعام أو كسوة فهو جائز عليه لأن القاضي لما أمره بإنفاق المال عليه فقد أمره بأن يشتري به ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة وللقاضي عليه هذه الولاية فكذلك ما يملكه الملتقط بأمر القاضي وإذا مات اللقيط وترك ميراثا أو لم يترك فادعى رجل أنه ابنه لم يصدق لأن نسبه لا يثبت بعد الموت فإن حكم النسب وجوب الانتساب والمقصود به الشرف وذلك لا يتحقق بعد الموت ولأن صحة الدعوة باعتبار أنه أقر له بما يحتاج إليه وهو بالموت قد استغنى عن النسب فبقى كلامه دعوى الميراث فلا يصدق إلا بحجة وإذا أدرك اللقيط كافرا(10/370)
وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين حبس وأجبر على الإسلام استحسانا لأنه لما وجد في مصر من أمصار المسلمين فقد حكم له بالإسلام باعتبار المكان فإنه مكان المسلمين ومن حكم له بالإسلام تبعا لغيره إذا أدرك كافرا يجبر على الإسلام ولا يقتل استحسانا كالمولود من المسلمين إذا بلغ مرتدا وفي القياس يقتل إن أبى أن يسلم لأنه كان محكوما بإسلامه فيقتل على الردة كما لو وصف الإسلام بنفسه قبل البلوغ ثم ارتد ولكن في الاستحسان لا يقتل لأن حقيقة الإسلام تكون بالاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد انعدم ذلك منه فيصير هذا شبهة في إسقاط القتل الذي هو نهاية في العقوبة في الدنيا وهذا لأن ثبوت حكم الإسلام له بطريق التبعية كان لتوفير المنفعة عليه وليس في القتل معنى توفير المنفعة وهو نظير ما نقول في الصبي العاقل إذا أسلم يحسن إسلامه ثم إذا بلغ مرتدا يحبس ويجبر على الإسلام ولا يقتل فإن مات هذا اللقيط قبل أن يعقل صليت عليه سواء كان وجده مسلم أو ذمي لأنه حكم بإسلامه تبعا للمكان فيصلى(10/371)
ص -178- ... عليه إذا مات كالصبي إذا سبي وأخرج إلى دار الإسلام وليس معه أحد من أبويه يصلى عليه إذا مات.
قال ولو كان وجد في بيعة أو كنيسة أو قرية ليس فيها إلا مشرك لم يجبر على الإسلام إذا بلغ كافرا وإن مات قبل أن يعقل لم يصل عليه لأن الظاهر أنه من أولاد أهل تلك القرية وهم كفار كلهم وهذه المسألة على أربعة أوجه في الحاصل أحدها أن يجده مسلم في مكان المسلمين كالمسجد ونحوه فيكون محكوما له بالإسلام والثاني أن يجده كافر في مكان أهل الكفر كالبيعة والكنيسة فيكون محكوما بالكفر لا يصلى عليه إذا مات والثالث أن يجده كافر في مكان المسلمين والرابع أن يجده مسلم في مكان الكفار ففي هذين الفصلين اختلفت الرواية ففي كتاب اللقيط يقول العبرة للمكان في الفصلين جميعا وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال العبرة للواجد في الفصلين جميعا وهكذا ذكر في بعض النسخ من كتاب الدعوى وفي بعض النسخ قال أيهما كان موجبا للإسلام يعتبر ذلك وفي بعض النسخ قال يحكم زيه وعلامته.(10/372)
وجه رواية هذا الكتاب أن المكان إليه أسبق من يد الواجد وعند التعارض يترجح السابق والظاهر يدل عليه فإن المسلمين لا يضعون أولادهم في البيعة عادة وكذلك أهل الذمة لا يضعون أولادهم في مساجد المسلمين عادة فيبني على الظاهر ما لم يعلم خلافه وجه رواية ابن سماعة رضي الله تعالى عنه أن يد الواجد أقوي لأنه إحراز له والمباح بالإحراز يظهر حكمه وإنما يعتبر تبعية المكان عند عدم يد معتبرة ألا ترى أن من سبي ومعه أحد أبويه لا يحكم له بالإسلام باعتبار الدار فكذلك مع يد الواجد لا معتبر بالمكان فكان المعتبر فيه حال الواجد ووجه الرواية الأخرى أن اعتبار أحدهما يوجب الإسلام واعتبار الآخر يوجب الكفر فيترجح الموجب للإسلام كما في المولود بين مسلم وكافر ووجه الرواية التي يعتبر فيها الزي قال عند الاشتباه اعتبار الزي والعلامة أصل كما إذا اختلط موتي المسلمين بموتى الكفار يعتبر الزي والعلامة للفصل وكذلك المسلمون إذا فتحوا القسطنطينية فوجدوا شيخا عليه سيما المسلمين يعلم صبيانا حوله القرآن ويزعم أنه مسلم فإنه يجب الأخذ بقوله ولا يجوز استرقاقه لاعتبار الزي والعلامة والأصل فيه قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] فهذا اللقيط إذا كان عليه زي المسلمين يحكم بإسلامه أيضا وإذا كان عليه زي الكفار بأن كان في عنقه صليب أو عليه ثوب ديباج أو هو محروز وسط الرأس فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أنه من أولاد الكفار فيحكم بكفره وإن وجده مسلم في قرية فيها مسلمون وكفار صليت عليه إذا مات استحسانا وعلى رواية هذا الكتاب يعتبر المكان وجه القياس أنه لما تعارض الدليلان وتساويا لا يصلى عليه كموتى الكفار والمسلمين إذا اختلطوا واستووا لم يصل عليهم على ما بيناه في التحري ووجه الاستحسان أن الأدلة لما تعارضت في حق المكان يترجح الإسلام باعتبار الواجد لأنه مسلم أو باعتبار علو حالة الإسلام فلهذا يصلى(10/373)
ص -179- ... عليه إذا مات وإذا وجد اللقيط على دابة فالدابة له لسبق يده إليها فإن المركوب تبع لراكبه وهو كمال آخر يوجد معه وقد بينا أن ذلك له باعتبار الظاهر أن من وضع معه المال فإنما وضع لينفق عليه منه فكذلك من حمله على الدابة فإنما حمله عليها لينفق عليه مالية تلك الدابة وإذا وجد اللقيط بالكوفة فادعاه رجل من أهل الذمة أنه ابنه فلا يصدق في القياس لأنه حكم له بالحرية والإسلام فلو جعل ابن الكافر بدعواه لكان تبعا له في الدين وذلك ممتنع بعد ما حكم بإسلامه ولأن تنفيذ قوله عليه في دعوة النسب نوع ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم ولكنا نستحسن أن يكون ابنه ويكون مسلما لأنه محتاج إلى النسب بعد ما حكم بإسلامه فمن ادعى نسبه وإن كان ذميا فهو مقر له بما ينفعه فيكون إقراره صحيحا وموجب كلامه شيئان أحدهما ثبوت نسبه منه وذلك ينفعه والآخر كفره وذلك يضره وليس من ضرورة امتناع قبول قوله في أحد الحكمين امتناعه في الآخر لأن النسب ينفصل عن الدين ألا ترى أن ولد الكافر من امرأة مسلمة يكون ثابت النسب من الكافر ويكون مسلما فهذا مثله فإذا ادعى مسلم أن اللقيط عبده وأقام البينة قضى له به لأنه أثبت دعواه بالحجة وثبوت حريته باعتبار الظاهر والظاهر لا يعارض البينة.(10/374)
فإن قيل: كيف تقبل هذه البينة ولا خصم عن اللقيط لأن الملتقط ليس بولي فلا يكون خصما عنه فيما يضره قلنا: الملتقط خصم له باعتبار يده لأنه يمنعه منه ويزعم أنه أحق بحفظه لأنه لقيط فلا يتوصل المدعى إلى استحقاق يده عليه إلا بإقامة البينة على رقه فلهذا كان خصما عنه فإن أقام الذمي البينة من أهل الذمة أنه ابنه لم تجز شهادتهم على المسلمين قيل مراده أنه أقام البينة من أهل الذمة في معارضة بينة المسلم الذي أقامها على رقه ولا تحصل المعارضة بهذه لأن شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على الخصم المسلم والأصح أن مراده إذا ادعى الذمي ابتداء أنه ابنه وأقام البينة من أهل الذمة فإن النسب قد ثبت منه بالدعوة ولكنه محكوم له بالإسلام فلا يبطل ذلك بهذه البينة ولا يحكم بكفره لأن هذه الشهادة في حكم الدين إنما تقوم على المسلم وشهادة أهل الذمة بالكفر على المسلم لا تقبل وإن كان شهوده مسلمين قضيت له به لأنه أثبت نسبه منه بما هو حجة على المسلم فيصير تبعا له في الدين ولا يأخذه الملتقط بما أنفق عليه لأنه كان متطوعا فيما فعل وإذا وجد اللقيط مسلم وكافر فتنازعا في كونه عبد أحدهما قضى به للمسلم لأنه محكوم له بالإسلام فكان المسلم أحق بحفظه ولأن المسلم يعلمه أحكام الإسلام والكافر يعلمه أحكام الكفر إذا كان عنده وكونه عند المسلم أنفع له حتى يتخلق بأخلاق المسلمين واللقيط يعرف ما هو أنفع له وإن ادعت امرأة اللقيط أنه ابنها لم تصدق إلا بشهود بخلاف ما إذا ادعاه رجل لأن النسب يثبت باعتبار الفراش فإنما يثبت من صاحب الفراش أولا وهو الرجل فالمرأة بالدعوة تحمل النسب على غيرها وهو صاحب الفراش حتى إذا ثبت منه يثبت منها وقولها ليس بحجة على الغير(10/375)
ص -180- ... والرجل يدعي النسب لنفسه ابتداء ويقربه على نفسه يوضح الفرق أن سبب ثبوت النسب من الرجل خفي لا يقف عليه غيره وهو الوطء فيقبل فيه مجرد قوله وسبب ثبوت النسب من المرأة الولادة وذلك يقف عليه غيرها وهو القابلة فلم يكن مجرد قولها فيه حجة فإن أقامت رجلا وامرأتين على الولادة يثبت النسب منها لأن النسب مما يثبت مع الشبهات فيثبت بشهادة الرجال مع النساء وإن ادعته امرأتان وأقامت كل واحدة امرأة أنه ابنها فهو ابنهما جميعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى وأما في رواية أبي سليمان رضي الله عنه لا يكون ابن واحدة منهما وجه رواية أبي حفص أن شهادة المرأة الواحدة حجة تامة في إثبات الولادة لأنه لا يطلع عليها الرجال فكان إقامة كل واحدة منهما امرأة واحدة بمنزلة إقامتها رجلين أو رجل وامرأتين وجه رواية أبي سليمان رضي الله عنه أن شهادة المرأة الواحدة حجة ضعيفة لأنها شهادة ضرورية فلا تكون حجة عند المعارضة والمزاحمة ألا ترى أنه لو أقامت إحداهما رجلين والأخرى امرأة واحدة لم تكن شهادة المرأة الواحدة حجة في معارضة شهادة رجلين فلا يثبت النسب من واحدة منهما إلا أن يقيم كل واحدة منهما البينة رجلين أو رجلا وامرأتين فحينئذ يثبت النسب منهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما لا يثبت من واحدة منهما وقد بينا هذه المسألة فيما أمليناه من شرح كتاب الدعوى مع أختها وهو أن يدعى رجلان أو أكثر من ذلك وما في ذلك من اختلاف الروايات فإن أقامت إحداهما رجلين والأخرى امرأتين جعلته ابن التي شهد لها الرجلان لأن شهادة الرجلين حجة قوية وشهادة المرأتين حجة ضعيفة والضعيف ساقط الاعتبار في مقابلة القوى وإذا وجد العبد أو المكاتب أو الذمي أو الحربي لقيطا في مصر من أمصار المسلمين فهو حر لأنه لما علم أنه لقيط فقد حكم بحريته باعتبار الدار أو الأصل فلا يتغير ذلك الحكم بصفة الملتقط بعد(10/376)
ذلك وإذا وجد اللقيط قتيلا في مكان غير ملك الملتقط فالقسامة والدية على أهل ذلك المكان وتلك المحلة لبيت المال لأنه حر محترم فإنه لما حكم بإسلامه وحريته كانت لنفسه من الحرمة والتقوم ما لسائر نفوس الأحرار ووجوب الدية والقسامة لصيانة النفوس المحترمة عن الإهدار كما قال صلى الله عليه وسلم "لا يترك في الإسلام دم مفرج" أي مهدر ثم بدل النفس ميراث عنه وقد بينا أن ميراثه لبيت المال وإذا وجد العبد لقيطا فلم يعرف ذلك إلا بقوله وقال المولى كذبت بل هو عبدي فالقول قول المولى إذا كان العبد محجورا لأنه ليست له يد معتبرة فيما هو قابض له بل يده يد مولاه فكأنه في يد مولاه وإن كان مأذونا له في التجارة فالقول قول العبد لأن له يدا معتبرة في كسبه فإن الإذن في التجارة فك الحجر وإطلاق اليد في الكسب ومن له يد معتبرة في شيء فقوله فيه مسموع يوضح الفرق أن العبد بقوله هذا لقيط في يدي يخبر بسقوط حق مولاه عنه لأنه حر والمحجور لا قول له فيما في يده في إسقاط حق المولى عنه ألا ترى أنه لو أقر على نفسه بالدين لا يسقط(10/377)
ص -181- ... به حق مولاه عما في يده بخلاف المأذون فقوله فيما يده مقبول في إسقاط حق المولى عن أخذه كما لو أقر بدين على نفسه وإذا وجد الرجل لقيطا فأقر بذلك ثم قتله هو أو غيره خطأ فالدية على عاقلة القاتل لبيت المال لقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] واللقيط حر مؤمن فيجب على قاتله الدية على عاقلته إذا كان خطأ والملتقط وغيره في ذلك سواء وإن قتله عمدا فإن شاء الإمام قتله به وإن شاء صالحه على الدية في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رضوان الله عليهم أجمعين عليه الدية في ماله ولا أقتله به والحربي إذا أسلم وخرج إلى دارنا ثم قتله إنسان عمدا فعلى قاتله القصاص في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفيه روايتان عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنا نعلم أن للقيط وليا في دار الإسلام من عصبة أو غير ذلك وإن بعد إلا أنا لا نعرفه بعينه وحق استيفاء القصاص يكون إلى الولي كما قال الله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فيصير ذلك شبهة مانعة للإمام من استيفاء القصاص وإذا تعذر استيفاء القصاص بشبهة وجبت الدية في مال القاتل لأنها وجبت بعمد محض وعلى هذا الطريق نقول في الذي أسلم من أهل الحرب يجب القصاص لأنا نعلم أنه لا ولي له في دار الإسلام والطريق الآخر أن القصاص عقوبة مشروعة ليشفي الغيظ ودرك الثأر وهذا المقصود يحصل للأولياء ولا يحصل للمسلمين والإمام نائب عن المسلمين في استيفاء ما هو حق لهم وحقهم فيما ينفعهم وهو الدية لأنه مال مصروف إلى مصالحهم فلهذا أوجبنا الدية دون القصاص وعلى هذا الطريق الذي أسلم من أهل دار الحرب واللقيط سواء وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى العمومات الموجبة للقود كقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] وقال(10/378)
صلى الله عليه وسلم "العمد قود" ولأن من لا يعرف له ولي فالإمام وليه كما قال صلى الله عليه وسلم "السلطان ولي من لا ولي له" وإذا ثبت أن السلطان هو الولي تمكن من استيفاء القصاص لقوله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والمراد سلطان استيفاء القود ألا ترى أنه عقبة بالنهي عن الإسراف في القتل بقوله تعالى {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] وهذا يتضح في الذي أسلم وكذلك في اللقيط لأن ما لا يوقف عليه في حكم المعدوم ولأن وليه لما كان عاجزا عن الاستيفاء ناب الإمام منابه في ذلك وليس هنا شبهة عفو لأن ذلك الولي غير معلوم حتى يتوهم العفو منه وحديث الهرمزان حجة لهما أيضا فإن عبيد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما لما قتله بتهمة دم أبيه واستقر الأمر على عثمان رضي الله تعالى عنه طلب منه علي رضي الله تعالى عنه أن يقتص منه فقال عثمان رضي الله تعالى عنه هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم وأن الهرمزان رجل من أهل الأرض وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فقد اتفقا على وجوب القصاص ثم القصاص مشروع لحكمة الحياة كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:(10/379)
ص -182- ... 179] الآية وذلك بطريق الزجر حتى ضر إذا تفكر في نفسه أنه متى قتل غيره قتل به انزجر عن قتله فيكون حياة لهما جميعا ولهذا قيل القتل أنفى للقتل وهذا المعنى متحقق في اللقيط والذي أسلم كتحققه في غيرهما فكان للإمام أن يستوفي القصاص إن شاء وإن شاء صالح على الدية لأنه مجتهد وله أن يميل باجتهاده إلى المطالبة بالدية ولأنه ناظر للمسلمين فربما يكون استيفاء الدية أنفع للمسلمين وليس له أن يعفو بغير مال لأنه نصب لاستيفاء حق المسلمين لا لإبطاله ويحد قاذف اللقيط في نفسه ولا يحد قاذفه في أمه لأنه محصن فإنه عفيف عن الزنى أو لا معتبر بالنسب في إحصان القذف فيحد قاذفه في نفسه فأما أمه ليست بمحصنة بل هي في صورة الزانيات لأن لها ولد لا يعرف له والد فلهذا لا يحد قاذفه في أمه وفي حد القذف والقصاص اللقيط كغيره من الأحرار لأنه محكوم بحريته فعليه الحد الكامل إذا ارتكب السبب الموجب له فإن أقر بعد ما أدرك أنه عبد لفلان وادعاه فلان كان عبدا له لأنه غير متهم فيما يقر به على نفسه وليس في قبول إقراره إبطال حق ثابت لا حد فيه وليس له نسب معروف فكان ما أقر به من الرق محتملا ولكن هذا إذا لم تتأكد حريته بقضاء القاضي عليه بما لا يقضي به إلا على الحر كالحد الكامل والقصاص في الطرف فأما إذا اتصلت حريته بقضاء القاضي بذلك لم يقبل إقراره بالرق بعد ذلك لأنه يبطل حكم الحاكم بإقراره وقوله ليس بحجة في إبطال الحكم ولأنه مكذب في هذا الإقرار شرعا ولو كذبه المقر له كان حرا فإذا كذبه الشرع أولى ومتى ثبت الرق بإقراره فأحكامه بعد ذلك في الجنايات والحدود كأحكام العبد لأنه صار محكوما عليه بالرق وإن كان اللقيط امرأة فأقرت بالرق لرجل وادعى ذلك الرجل كانت أمة له لتصادقهما على ما هو محتمل ولا حق لغيرهما في ذلك إلا أنها إن كانت تحت زوج لا تصدق في إبطال النكاح لأن ذلك حق الزوج وليس من ضرورة الحكم برقها انتفاء النكاح لأن الرق لا(10/380)
ينافي النكاح ابتداء وبقاء بخلاف ما إذا أقرت أنها ابنة أبي زوجها وصدقها الأب في ذلك فإنه يثبت النسب ويبطل النكاح لتحقق المنافي فإن الأختية تنافي النكاح ابتداء وبقاء ولو أعتقها المقر له لم يكن لها خيار أيضا لأن إقرارها بالرق في حق الزوج لم يكن صحيحا ولأنه نتمكن تهمة المواضعة بينها وبين المقر له في أن تقر له بالرق ثم يعتقها فتختار نفسها لتخلص من الزوج فلهذا لا تصدق في حقه والأصل في كل حكم لحق الزوج فيه ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه فإنها لا تصدق في ذلك الحكم وفي كل ما يمكنه دفع الضرر عن نفسه تكون مصدقة في حقه حتى إذا طلقها واحدة فأقرت بالرق صار طلاقها اثنتين لأنه يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بمراجعتها وإمساكها بحكم التطليقة الثانية ولو كان طلقها اثنتين ثم أقرت بالرق فإنه يملك رجعتها لأنا لو جعلنا طلاقها اثنتين بإقرارهما لحق الزوج ضرر لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه فلا نصدقها في ذلك وكذا حكم العدة إن أقرت بالرق بعد مضي حيضتين فله أن يراجعها في الحيضة الثالثة وإن أقرت بالرق بعد مضي حيضة(10/381)
ص -183- ... فعدتها حيضتان لما قلنا: ولو قذفها زوجها لم يكن عليه حد ولا لعان لأن الرق ثبت في حقها بإقرارها والمملوكة لا تكون محصنة فلا يجب بقذفها حد ولا لعان ولو كانت دبرت عبدا أو أمة ثم أقرت بالرق لم تصدق على إبطاله لأن المدبر استحق حق العتق بالتدبير ولو استحق حقيقة العتق بأن أعتقته لم تصدق على إبطاله لكونها متهمة في حقه فكذلك في التدبير فإذا ماتت عتق من ثلثها وسعى في ثلثي قيمته لمولاها لأن السعاية حقها وقد زعمت أن كسبها لمولاها وإقرارها في حق نفسها صحيح ولو أن مولاها أعتقها كان المدبر على حاله غير أن خدمته للمولى وسعايته بعد موتها له لأنها أقرت له بذلك وإقرارها بذلك صحيح لأنه خالص حقها ثم بإعتاق المولى إياها لا يسقط حقه عن كسبها الذي كان قبل العتق فلهذا كانت خدمة مدبرها وسعايته بعد موتها لمولاها وإذا أدرك اللقيط فتزوج امرأة ثم أقر أنه عبد لفلان ولامرأته عليه صداق فصداقها لازم له ولا يصدق على إبطاله لأن ذلك دين ظهر وجوبه عليه لصحة سببه فكان هو متهما في قراره فيما يرجع إلى إبطاله وكذلك إن استدان دينا أو باع إنسانا أو كفل بكفالة أو وهب هبة أو تصدق بصدقة وسلمها أو كاتب عبدا أو أعتقه أو دبره ثم أقر بأنه عبد لفلان لا يصدق على إبطال شيء من ذلك لأنه متهم في ذلك ولأن ثبوت الحكم بحسب الحجة وقوله ليس بحجة على أحد من هؤلاء فيما يرجع إلى إبطال حقهم فوجود إقراره في ذلك وعدمه سواء والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء العاشر من كتاب المبسوط ويليه الجزء الحادي عشر
وأوله كتاب اللّقيطة(10/382)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الحادي عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(11/1)
ص -3- ... كتاب اللقيطة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي الفضل السرخسي: اختلف الناس فيمن وجد لقطة فالمتفلسفة يقولون لا يحل له أن يرفعها لأنه أخذ المال بغير إذن صاحبه وذلك حرام شرعا فكما لا يحل له أن يتناول مال الغير بغير إذن صاحبه لا يحل له إثبات اليد عليه وبعض المتقدمين من أئمة التابعين كان يقول يحل له أن يرفعها والترك أفضل لأن صاحبها إنما يطلبها في الموضع الذي سقطت منه فإذا تركها وجدها صاحبها في ذلك الموضع ولأنه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد ما يرفعها فكان في رفعها معرضا نفسه للفتنة والمذهب عند علمائنا رحمهم الله وعامة الفقهاء أن رفعها أفضل من تركها لأنه لو تركها لم يأمن أن تصل إليها يد خائنة فيكتمها عن مالكها فإذا أخذها هو عرفها حتى يوصلها إلى مالكها ولأنه يلتزم الأمانة في رفعها لأنه يحفظها ويعرفها والتزام أداء الأمانة يفرض بمنزلة الثواب لأنه يثاب على أداء ما يلتزمه من الأمانة فإنه يمتثل فيه الأمر قال تعالى{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وامتثال الأمر سبب لنيل الثواب ثم ما يجده نوعان:
أحدهما: ما يعلم أن مالكه لا يطلبه كقشور الرمان والنوى.(11/2)
والثاني: ما يعلم أن مالكه يطلبه فالنوع الأول له أن يأخذه وينتفع به إلا أن صاحبه إذا وجده في يده بعد ما جمعه كان له أن يأخذه منه لأن إلقاء ذلك من صاحبه كان إباحة الانتفاع به للواحد ولم يكن تمليكا من غيره فإن التمليك من المجهول لا يصح وملك المبيح لا يزول بالإباحة ولكن للمباح له أن ينتفع به مع بقاء ملك المبيح فإذا وجده في يده فقد وجد عين ملكه قال صلى الله عليه وسلم "من وجد عين ماله فهو أحق به" وإن وجد ذلك مجتمعا لم يحل له أن ينتفع به لأن الظاهر أن المالك ما ألقاه بعد ما جمعه ولكنه سقط منه فكان هذا من النوع الثاني وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله أن من ألقى شاة ميتة له فجاء آخر وجز صوفها كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ولو سلخها ودبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعد ما يعطيه ما زاد الدباغ فيه لأن ملكه لم يزل بالإلقاء والصوف مال متقوم من غير اتصال شيء آخر به فله أن يأخذه مجانا فأما الجلد لا يصير مالا متقوما إلا بالدباغ فإذا أراد أن يأخذه كان عليه أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه فأما النوع الثاني وهو ما يعلم أن صاحبه يطلبه فمن يرفعه فعليه أن يحفظه ويعرفه ليوصله إلى صاحبه وبدأ الكتاب به ورواه عن إبراهيم(11/3)
ص -4- ... قال في اللقطة يعرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أنفذ الصدقة وإن شاء ضمنه وما ذكر هذا على سبيل الاحتجاج بقول إبراهيم لأن أبا حنيفة رحمه الله كان لا يرى تقليد التابعين وكان يقول هم رجال ونحن رجال ولكن ظهر عنده أن إبراهيم فيما كان يفتي به يعتمد قول علي وبن مسعود رضي الله عنهما فإن فقه أهل الكوفة دار عليهما وكان إبراهيم أعرف الناس بقولهما فما صح عنه فهو كالمنقول عنهما فلهذا حشا الكتاب من أقاويل إبراهيم وفي هذا الحديث بيان أن الملتقط ينبغي له أن يعرف اللقطة والتقدير بالحول ليس بعام لازم في كل شيء وإنما يعرفها مدة يتوهم أن صاحبها يطلبها وذلك يختلف بقلة المال وكثرته حتى قالوا في عشرة دراهم فصاعدا يعرفها حولا لأن هذا مال خطير يتعلق القطع بسرقته ويتملك به ماله خطر والتعريف لإيلاء العذر والحول الكامل لذلك حسن قال القائل:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر(11/4)
وفيما دون العشرة إلى ثلاثة يعرفها شهرا وفيما دون ذلك إلى الدرهم يعرفها جمعة وفي دون الدرهم يعرف يوما وفي فلس أو نحوه ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير وشيء من هذا ليس بتقدير لازم لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولكنا نعلم أن التعريف بناء على طلب صاحب اللقطة ولا طريق له إلى معرفة مدة طلبه حقيقة فيبني على غالب رأيه ويعرف القليل إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك فإذا لم يجيء صاحبها بعد التعريف تصدق بها لأنه التزم حفظها على مالكها وذلك باتصال عينها إليه إن وجده وإلا فباتصال ثوابها إليه وطريق ذلك التصدق بها فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء ضمنه لأنه تصدق بماله بغير إذنه وذلك سبب موجب للضمان عليه وإن شاء أنفذ الصدقة فيكون ثوابها له وإجازته في الانتهاء بمنزلة إذنه في الابتداء فإن قيل كيف يضمنها له وقد تصدق بها بإذن الشرع قلنا الشرع أباح له التصدق بها وما ألزمه ذلك ومثل هذا الإذن مسقط للإثم عنه غير مسقط لحق محترم للغير كالإذن في الرمي إلى الصيد والإذن في المشي في الطريق فإنه يتقيد بشرط السلامة وحق صاحب هذا المال مرعي محترم فلا يسقط حقه عن هذا العين بهذا الإذن فله أن يضمنه أن شاء والإذن هنا دون الإذن لمن أصابته مخمصة في تناول ملك الغير وذلك غير مسقط للضمان الواجب لحق صاحب المال وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه اشترى جارية بسبعمائة درهم أو بثمانمائة درهم فذهب صاحبها فلم يقدر عليه فخرج ابن مسعود رضي الله عنه بالثمن في صرة فجعل يتصدق بها ويقول لصاحبها فإن أبى فلنا وعلينا الثمن فلما فرغ قال هكذا يصنع باللقطة وفي هذا اللفظ بيان أن الملتقط له أن يتصدق بها بعد التعريف على أن يكون ثوابها لصاحبها إن أجاز وإن أبى فله الضمان على المتصدق وليس مراد ابن مسعود رضي الله عنه من هذا أن حكم الثمن الواجب عليه حكم اللقطة من كل وجه وكيف يكون ذلك والثمن دين في ذمته وما تصدق به من الدراهم(11/5)
خالص ملكه فأما عين اللقطة فمملوكة لصاحبها(11/6)
ص -5- ... والملتقط أمين فيها فعرفنا أن هذا ليس في معنى اللقطة ولا يقال لعله كان اشتراها بمال معين لأنه صح من مذهبه أن النقود لا تتعين في العقد ولو تعينت فهي مضمونة على المشتري فعرفنا أنه ليس كاللقطة من كل وجه وأنه بالتصدق ما قصد إسقاط الثمن عن نفسه بل قصد إظهار المجاملة في المعاملة واتصال ثوابها إلى صاحبها إن رضي بصنيعه وإلا فالثمن دين عليه كما كان وعن أبي سعيد مولى أسيد قال وجدت خمسمائة درهم بالحرة وأنا مكاتب فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اعمل بها وعرفها فعملت بها حتى أديت مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته بذلك فقال ادفعها إلى خزان بيت المال وفي هذا دليل أن للإمام ولاية الإقراض في اللقطة والدفع مضاربة لأن قول عمر رضي الله عنه اعمل بها وعرفها إما أن يكون بطريق المضاربة أو الإقراض مضاربة وقد علمنا أنه لم يرد المضاربة حتى لم يتبين نصيبه من الربح فكان مراده الإقراض منه وفي هذا معنى النظر لصاحب المال لأنه يعرض للهلاك فيهلك من صاحبه قبل الإقراض وبعد الإقراض يصير دينا في ذمة المستقرض يؤمن فيه التوي بالهلاك وكذلك بالجحود لأنه متأكد بعلم القاضي ولهذا كان للقاضي ولاية الإقراض في أموال اليتامى وربما يكون معنى النظر في الدفع إليه مضاربة أو إلى غيره فذلك كله إلى القاضي لأنه نصب ناظرا وفيه دليل على أن الملتقط إذا كان محتاجا فله أن ينتفع باللقطة بعد التعريف لأن هذا المكاتب كان محتاجا إلى العمل فيها فيؤدي مكاتبته من ربحها فأذن له عمر رضي الله عنه في ذلك وفيه دليل أن للإمام أن يقبض اللقطة من الملتقط إن رأى المصلحة في ذلك لأنه أمره بدفعها إلى خزان بيت المال وكأنه إنما أمره بذلك لأنه كان سبيلها التصدق بها بعد التعريف فأمره بدفعها إلى من هو في يده بيت مال الصدقة ليضعها موضع الصدقة وذكر في الأصل عن سويد بن عقلة قال حججت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله(11/7)
عليه وسلم ورضي عنهم فوجدنا سوطا فاحتماه القوم وكرهوا أن يأخذوه وكنت أحوجهم إليه فأخذته فسألت عن ذلك أبي بن كعب فحدثني بالمائة دينار التي وجدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجدت مائة دينار فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال "عرفها سنة" فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال "عرفها سنة أخرى" فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال "عرفها سنة أخرى" فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته ثم قال بعد ثلاث سنين "اعرف عددها ووكاءها واخلطها بمالك فإن جاء طالبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها فإنها رزق ساقه الله إليك".
وأما قوله "وجدنا سوطا" يحتمل أن يكون ذلك مما يكسر من السياط ويعلم أن صاحبه ألقاه فتركه القوم لأنهم ما كانوا محتاجين إليه وأخذه سويد لينتفع به فإنه كان محتاجا إليه فذلك يدل على أن ما ألقاه صاحبه يباح أخذه للانتفاع به لمن شاء ويحتمل أن هذا كان سوطا هو مال متقوم يعلم أن صاحبه يطلبه فيكون بمنزلة اللقطة وفي قوله فاحتماه القوم حجة لمن يقول ترك اللقطة أولى من رفعها ولكنا نقول هذا كان في ذلك الوقت لأن الغلبة كانت لأهل الخير والصلاح فإذا تركه واحد يتركه الآخر أيضا أو يأخذه ليؤدي الأمانة فأما في زماننا فقد غلب أهل الشر(11/8)
ص -6- ... إذا ترك الأمين يأخذ الخائن فيكتم من صاحبه والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس ألا ترى أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه ثم منعن من ذلك في زمن عمر رضي الله عنه وكان صوابا وفي الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه دليل لما قلنا أن التقدير بالحول في التعريف ليس بلازم ولكنه يعرفها بحسب ما يطلبها صاحبها ألا ترى أن المائة دينار لما كانت مالا عظيما كيف أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرفها ثلاث سنين ثم بظاهر الحديث يستدل الشافعي رضي الله عنه في أن للملتقط أن ينتفع باللقطة بعد التعريف وإن كان غنيا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز ذلك لأبي رضي الله عنه وهو كان غنيا وقد دل على غناه قوله عليه الصلاة والسلام "اخلطها بمالك" ولكنا نقول يحتمل أنه لفقره وحاجته لديون عليه فأذن له في الانتفاع وخلطها بماله ويحتمل أنه علم أن ذلك المال لحربي لا أمان له وقد سبقت يده إليه فجعله أحق به لهذا وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال "رزق ساقه الله إليك" ولكن مع هذا أمره بأن يعرف عددها ووكاءها احتياطا حتى إذاجاء طالب لها محترم تمكن من الخروج مما عليه يدفع مثلها إليه وذكر عن الحسن بن صباح قال وجد رجل لقطة أيام الحاج فسأل عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال عرفها في الموسم فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره بين الأجر وبين الثمن يعنى القيمة فإن اختار الثمن فادفع إليه وإن اختار الأجر فله الأجر وفي هذا دليل على أنه ينبغي للملتقط أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه وأن يعرفها في مجمع الناس ولهذا أمره بالتعريف في الموسم وهذا لأن المقصود إيصالها إلى صاحبها وذلك بالتعريف في مجمع الناس في الموضع الذي أصابها حتى يتحدث الناس بذلك بينهم فيصل الخبر إلى صاحبها وذكر عن أبي إسحاق عن رجل قال وجدت لقطة حين أنفر علي(11/9)
بن أبي طالب رضي الله عنه الناس إلى صفين فعرفتها تعريفا ضعيفا حتى قدمت على علي رضي الله عنه فأخبرته بذلك فضرب يده على صدري وفي رواية قال لي إنك لعريض القفا خذ مثلها فاذهب حيث وجدتها فإن وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره إن شاء اختار الأجر وإن شاء ضمنك ومعنى قوله فعرفتها تعريفا ضعيفا أي عرفتها سرا وما أظهرت تعريفها في مجمع الناس فكأنه طمع في أن تبقي له وعرف ذلك منه علي رضي الله عنه حين ضرب يده على صدره وقال ما قال إنك سليم القلب تطمع في مال الغير وهذا من دعابة علي رضي الله عنه وقد كان به دعابة كما قال عمر رضي الله عنه حين ذكر عليا رضي الله عنه للخلافة أما أنه إن ولي هذا الأمر حمل الناس على محجة بيضاء لولا دعابة به وفيه دليل أن التعريف سرا لا يكفي بل ينبغي للملتقط أن يظهر التعريف كما أمر علي رضي الله عنه الرجل به وأنه ينبغي أن يعرفها في الموضع الذي وجدها لأن صاحبها يطلبها في ذلك الموضع وحكي أن بعض العلماء وجد لقطة وكان محتاجا إليها فقال في نفسه لا بد من تعرفها ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول(11/10)
ص -7- ... وجدت كذا فمن سمعتموه ينشد ذلك فدلوه علي وبجنب البئر رجل يرقع شملة وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى أخذها منه ليعلم أن المقدور كائن لا محالة فلا ينبغي أن يترك ما التزمه شرعا وهو إظهار التعريف وبعد إظهار التعريف إن جاء صاحبها دفعها إليه لحصول المقصود بالتعريف وإن لم يجيء فهو بالخيار إن شاء أمسكها حتى يجيء صاحبها وإن شاء تصدق بها لأن الحفظ هو العزيمة والتصدق بها بعد التعريف حولا رخصة فيخير بين التمسك بالعزيمة أو الترخص بالرخصة فإن تصدق بها ثم جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أجاز الصدقة ويكون له ثوابها وإن شاء اختار الضمان وإذا اختار الضمان يخير بين تضمين الملتقط وبين تضمين المسكين لأن كل واحد منهما في حقه مكتسب سبب الضمان الملتقط بتمليك ماله من غيره بغير إذنه والمسكين يقبضه لنفسه على طريق التمليك وأيهما ضمنه لم يرجع على الآخر بشيء أما المسكين فلأنه في القبض عامل لنفسه فلا يرجع بما يلحقه من الضمان على غيره وأما الملتقط فلأنه بالضمان قد ملك وظهر أنه تصدق بملك نفسه فله ثوابها ولا رجوع له على المسكين بشيء وإن كان الملتقط محتاجا فله أن يصرفها إلى حاجة نفسه بعد التعريف لأنه إنما يتمكن من التصدق بها على غيره لما فيه من سد خلة المحتاج واتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا فكان له صرفها إلى نفسه لهذا المعنى. فأما إذا كان غنيا فليس له أن يصرف اللقطة إلى نفسه عندنا وقال الشافعي له ذلك على أن يكون ذلك دينا عليه إذا جاء صاحبها لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه كما روينا ولما روي عن علي رضي الله عنه أنه وجد دينارا فاشترى به طعاما بعد التعريف فأكل من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ولو كان سبيله التصدق ولم يكن للملتقط صرفها إلى منفعة نفسه لما أكلوا من ذلك فإن الصدقة ما كانت تحل لهم والمعنى فيه أن للملتقط(11/11)
أن يصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا بسبب الالتقاط وما يثبت له بسبب الالتقاط يستوي فيه أن يكون غنيا أو فقيرا كالحفظ والتعريف والتصدق به على غيره وهذا لأن في الصرف إلى نفسه معنى النظر له ولصاحبها أظهر لأنه يتوصل إلى منفعته ببدل يكون دينا عليه لصاحبها إذا حضر فكان منفعة كل واحد في هذا أظهر وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار الموجبة للتصدق باللقطة بعد التعريف ولأن المقصود اتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود لا يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان غنيا بل يتبين به أنه في الأخذ كان عاملا لنفسه ولا يحل له شرعا أخذ اللقطة لنفسه فكما يلزمه أن يتحرز عن هذه النية في الابتداء فكذلك في الانتهاء يلزمه التحرز عن إظهار هذا وقد بينا تأويل حديث أبي فأما حديث علي رضي الله عنه فقد قيل ما وجده لم يكن لقطة وإنما ألقاها ملك ليأخذه علي رضي الله عنه فقد كانوا لم يصيبوا طعاما أياما وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بطريق الوحي فلهذا تناولوا منه على أن الصدقة الواجبة كانت لا تحل لهم وهذا لم يكن من تلك الجملة فلهذا استجاز علي رضي الله عنه الشراء بها لحاجته وإذا وجد الرجل اللقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء صاحبها وسمى وزنها وعددها(11/12)
ص -8- ... ووكاءها فأصاب ذلك كله فإن شاء الذي في يده دفعها إليه وإن شاء أبي حتى يقيم البينة عندنا.
وقال مالك: يجبر على دفعها إليه لأنه لما أصاب العلامات فالوهم الذي سبق إلى وهم كل واحد أنه صاحبه والاستحقاق بالظاهر يثبت خصوصا عند عدم المنازع كما يثبت الاستحقاق لذي اليد باعتبار الظاهر يثبت والملتقط غير منازع له لأنه لا يدعيها لنفسه ولأنه يتعذر على صاحبها إقامة البينة فإنه ما أشهد أحدا عند سقوطها منه ولو تمكن من ذلك لما سقطت منه فسقط اشتراط إقامة البينة للتعذر وتقام العلامة مقام ذلك كما يقام شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال مقام شهادة الرجال ولكنا نقول إصابة العلامة محتمل في نفسه فقد يكون ذلك جزافا وقد يعرف الإنسان ذلك من ملك غيره وقد يسمع من مالكه ينشد ذلك ويذكر علاماته والمحتمل لا يكون حجة للإلزام ثم الملتقط أمين ويصير بالدفع إلى غير المالك ضامنا فيكون له أن يتحرز عن اكتساب سبب الضمان بأن لا يدفع إليه حتى يقيم البينة فيثبت استحقاقه بحجة حكمية وله أن يتوسع فيدفع إليه باعتبار الظاهر فإن دفعها إليه أخذ منه بها كفيلا نظرا منه لنفسه فلعله يأتي مستحقها فيضمنها إياه ولا يتمكن من الرجوع على الأخذ منه لأنه يخفي شخصه فيحتاط فيها بأخذ الكفيل منه وإن صدقه ودفعها إليه ثم أقام آخر البينة أنها له فله أن يضمن الملتقط أما بعد التصديق يؤمر بالدفع إليه لأن الإقرار حجة في حق المقر لكن الإقرار لا يعارض بينة الآخر لأن البينة حجة متعدية إلى الناس كافة فيثبت الاستحقاق بها للذي أقام البينة ويتبين أن الملتقط دفع ملكه إلى غيره بغير أمره فله الخيار إن شاء ضمن القابض بقبضه وإن شاء ضمن الملتقط بدفعه فإن ضمن الملتقط رجع على المدفوع إليه وإن صدقه بإصابته العلامة فقد كان ذلك منه اعتمادا على الظاهر ولا بقاء له بعد الحكم بخلافه والمقر إذا صار مكذبا في إقراره يسقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا أقر بالملك(11/13)
للبائع ثم استحقه إنسان من يده رجع على البائع بالثمن.
والرواية محفوظة في وكيل المودع إذا جاء إلى المودع وقال أنا وكيله في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله بخلاف وكيل صاحب الدين لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه وإقراره في ملك نفسه ملزم فأما المودع يقر له بحق القبض في ملك الغير وإقراره في ملك الغير ليس بملزم فعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله في اللقطة كذلك لا يجبر على دفعها إليه وإن صدقه ومنهم من فرق فقال هناك الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة وهنا ليس في اللقطة ملك ظاهر لغير الذي حضر فينبغي أن يكون إقرار الملتقط ملزما إياه الدفع إليه ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعد ما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمن المودع فليس له أن يرجع على الوكيل بشيء وهنا للملتقط أن يرجع على القابض لأن هناك في زعم المودع أن الوكيل عامل للمودع في قبضه له بأمره وأنه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه ومن ظلم(11/14)
ص -9- ... فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وأنه ضامن بعد ما يثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بعد ما ضمن لهذا يوضحه أن هناك المودع منكر الوكالة والقول فيه قوله مع يمينه فلا حاجة به إلى البينة وإنما يقضي القاضي على المودع بالضمان باعتبار الأصل وهو عدم الوكالة فلا يصير المودع مكذبا في زعمه حكما وهنا إنما يقضي بالضمان على الملتقط بحجة البينة فيصير هو مكذبا في زعمه حكما فإن كانت اللقطة مما لا يبقى إذا أتى عليه يوم أو يومان عرفها حتى إذا خاف أن تفسد تصدق بها لأن المقصود من التعريف إيصالها إلى صاحبها فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا يفسد فيه لأن بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في إيصالها إليه وقد بينا أن التصدق بها طريق لحفظها على صاحبها من حيث الثواب فيصير إلى ذلك إذا خاف أن تفسد العين وإذا وجد شاة أو بعيرا أو بقرة أو حمارا فحبسه وعرفه وأنفق عليه ثم جاء صاحبها وأقام البينة أنه له لم يرجع عليه بما أنفق لأنه متبرع في الإنفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون أنفق بغير أمر القاضي.(11/15)
فأما أمر القاضي بمنزلة أمر صاحبها لما للقاضي على صاحبها من ولاية النظر عند عجزه عن النظر بنفسه والأمر بالإنفاق من النظر لأنه لا بقاء للحيوان بدون النفقة عادة فإن رفعها إلى القاضي وأقام البينة أنه التقطها أمره بأن ينفق عليها على قدر ما يرى وقد بينا طريق قبول هذه البينة والأمر بالإنفاق بعدها في اللقيط ثم إنما يأمر بالأنفاق نظرا منه لصاحبها فلا يأمر إلا في مدة يتحقق فيها معنى النظر له من يومين أو ثلاثة لأنه لو أمر بالإنفاق في مدة طويلة ربما يأتي ذلك على قيمتها فلا يكون فيها نظر لصاحبها فأما في المدة اليسيرة تقل النفقة ومعنى النظر لحفظ عين ملكه عليه يحصل فإن لم يجيء صاحبها باع الشاة ونحوها لأن في البيع حفظ المالية عليه بالثمن وله ولاية الحفظ عليه بحسب الإمكان فإذا تعذر حفظ العين لعوز النفقة صار إلى حفظ المال عليه بالبيع وأما الغلام والدابة فنؤاجره وننفق عليه من أجره لأن بهذا الطريق يتوصل إلى حفظ عين ملكه والمنفعة لا تبقى له بعد مضي المدة فإجارته والإنفاق عليه بمحض نظر له فإذا باعها أعطاه القاضي من ذلك الثمن ما أنفق عليه بأمره في اليومين أو الثلاثة لأن الثمن مال صاحبها والنفقة دين واجب للملتقط على صاحبها وهو معلوم للقاضي فيقضي دينه بماله لأن صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فكذلك القاضي يعينه على ذلك فإن لم يبعها حتى جاء صاحبها وأقام البينة أنها له قضى له بها القاضي وقضى عليه بنفقة الملتقط فإن قال الملتقط لا أدفعها إليك حتى تعطيني النفقة كان له ذلك لأن ملكه في الدابة حي وبقي تملك النفقة فكانت تلك النفقة متعلقة بمالية الدابة من هذا الوجه فيحبسها كما يحبس البائع المبيع بالثمن ولم يذكر في الكتاب أن الملتقط إذا لم يقم البينة هل يأمر القاضي بالإنفاق أم لا والصحيح أنه ينبغي للقاضي أن يقول إن كنت صادقا فقد أمرتك بالإنفاق عليه لأن في هذا معنى النظر لهما ولا ضرر فيه على أحد(11/16)
فإنه إن كان غاصبا للدابة لم يخرج من ضمانه ولا يستوجب الرجوع بالنفقة على مالكها بالأمر لما قيده بكونه صادقا فيه(11/17)
ص -10- ... وإذا التقط الرجل لقطة أو وجد دابة ضالة أو أمة أو عبدا أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن في شيء من ذلك جعل لأنه متبرع بمنافعه في الرد ووجوب الجمل لرد الأبق حكم ثبت نصا بخلاف القياس بقول الصحابة رضي الله عنهم فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه والضال ليس في معنى الآبق فالآبق لا يزال يتباعد من المولى حتى يفوته والضال لا يزال يقرب من صاحبه حتى يجده فلهذا أخذنا فيه بالقياس وإن عوضه صاحبه شيئا فهو حسن لأنه يحسن إليه في إحياء ملكه ورده عليه {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} ولأنه منعم عليه وقال صلى الله عليه وسلم "من أزالت إليه نعمة فليشكرها" وذلك بالتعويض وأدنى درجات الأمر الندب وإذا وجد الرجل بعيرا ضالا أخذه يعرفه ولم يتركه يضيع عندنا.(11/18)
وقال مالك رحمه الله: تركه أولى للحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الغنم فقال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" فلما سئل عن ضالة الإبل غضب حتى احمرت وجنتاه وقال "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها" وتأويله عندنا أنه كان في الابتداء فإن الغلبة في ذلك الوقت كان لأهل الصلاح والخير لا تصل إليها يد خائنة إذا تركها واجدها فأما في زماننا لا يأمن واجدها وصول يد خائنة إليها بعده ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى من تضييعها كما قررنا في سائر اللقطات إلا إذا باع اللقطة بأمر القاضي لم يكن لصاحبها إذا حضر إلا الثمن كما لو باعها القاضي بنفسه وهذا لأن البيع نفذ بولاية شرعية فهو كبيع ينفذ بإذن المالك وإن كان باعها بغير أمر القاضي فالبيع باطل لحصوله ممن لا ولاية له على المالك بغير أمر معتبر شرعا ثم إن حضر صاحبها واللقطة قائمة في يد المشتري يخير بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يبطل البيع ويأخذ عين ماله لأن البيع كان موقوفا على إجازته كما لو كان حاضرا حين باعه غيره بغير أمره فإن كان قد هلكت اللقطة في يد المشتري فصاحبها بالخيار إن شاء ضمن البائع القيمة لوجود البيع والتسليم منه بغير إذنه وإن شاء ضمن المشتري بقبضه ملكه بنفسه بغير رضاه فإن ضمن البائع كان الثمن للبائع لأنه ملكه بالضمان فينفذ البيع من جهته ولكن يتصدق بما زاد على القيمة من الثمن لأنه حصل له بكسب خبيث فإن قيل الضمان إنما يلزمه بالتسليم والبيع كان سابقا عليه كيف ينفذ البيع من جهته بأداء الضمان قلنا لا كذلك بل كما رفعه ليبيعه بغير أمر القاضي صار ضامنا بمنزلة المودع يبيع الوديعة ثم يضمن قيمتها فإن البيع ينفذ من جهته بهذا الطريق وهو أنه كما رفعها إلى البيع صار ضامنا فيستند ملكه إلى تلك الحالة فإن ضمن المشتري قيمتها رجع بالثمن على البائع لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين(11/19)
فيبطل البيع به وليس له أن يجيز البيع بعد هلاك السلعة لأن الإجازة في حقه بمنزلة ابتداء التمليك فلا يصح إلا في حالة بقاء المعقود عليه ولو كان المعقود عليه قائما في يده وقد قبض الملتقط الثمن وقد هلك في يده ثم أجاز البيع نفذ لقيام المعقود عليه وكان الملتقط أمينا في الثمن لأن إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء وإذا أخذ عبدا فجاء به إلى مولاه فقال هذا عبد آبق فقد وجب لي الجعل عليك(11/20)
ص -11- ... وقال مولى العبد: بل هو الضال أو قال أنا أرسلته في حاجة لي فالقول قول المولى لأن الراد يدعي لنفسه عليه الجعل والمولى ينكر ذلك ولأنه يدعي أن ملكه تغيب بالأباق والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإذا هلكت اللقطة عند الملتقط فهو على ثلاثة أوجه إن كان حين أخذها قال أخذتها لأردها على مالكها وأشهد على ذلك شاهدين فلا ضمان عليه لأنه مأذون في أخذها للرد على المالك مندوب إلى ذلك شرعا فكان هذا الأخذ نظير الأخذ بإذن المالك فلا يكون سببا للضمان وإن كان أخذها لنفسه وأقر بذلك فهو ضامن لها لأنه ممنوع من أخذها فكان متعديا في هذا الأخذ فيكون ضامنا كالغاصب والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" أي ضمان ما أخذ والآخذ مطلقا من يكون عاملا لنفسه وإن لم يكن أشهد عند الالتقاط ولكنه ادعى أنه أخذها للرد ويدعي صاحبها أنه أخذها لنفسه فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القول قول صاحبها والملتقط ضامن وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الملتقط مع يمينه لوجهين:
أحدهما: أن مطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا" والذي يحل له شرعا الأخذ للرد لا لنفسه فيحمل مطلق فعله عليه وهذا الدليل الشرعي قائم مقام الإشهاد منه.(11/21)
والثاني: أن صاحبها يدعي عليه سبب الضمان ووجوب القيمة في ذمته وهو منكر لذلك فالقول قوله كما لو ادعى عليه الغصب وهما يقولان كل حر عامل لنفسه ما لم يظهر منه ما يدل على أنه عامل لغيره ودليل كونه عاملا لغيره الإشهاد هنا فإذا تركه كان آخذا لنفسه باعتبار الظاهر هذا إذا وجدها في موضع يتمكن من الإشهاد فإن لم يكن متمكنا من الإشهاد لعدم من يشهد أو لخوفه على أن يأخذ منه ذلك ظالم فالقول قوله ولا ضمان عليه والثاني أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب موجب للضمان عليه إلا عند وجود الإذن شرعا والإذن شرعا مقيد بشرط الإشهاد عليه والإظهار فإذا ترك ذلك كان أخذه سببا للضمان عليه شرعا فلا يصدق في دعوى المسقط بعد ظهور سبب الضمان كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ثم ادعى أن صاحبه أودعه لم يصدق في ذلك إلا بحجة وإن قال قد التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شيء فمن سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي فلما جاء صاحبها قال قد هلكت فهو مصدق على ذلك ولا ضمان عليه لأنه أظهرها بما قال وتبين أن أخذها للرد فكان أمينا فيها ولا يضره أن يسمي جنسها ولا صفتها في التعريف لأنه إنما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كيلا يسمع إنسان ذلك منه فيدعيها لنفسه ويخاصمه إلى قاض يرى الاستحقاق لمصيب العلامة فقد بينا أن في هذا اختلافا ظاهرا وما يرجع إلى تحقيق الحفظ على المالك لا يكون سببا للضمان عليه وكذلك لو وجد لقطتين فقال من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي وإن لم يقل عندي لقطتان ثم هلكتا عنده ثم جاء صاحبهما فلا ضمان عليه فيهما لأنه أظهرهما بما ذكر من التعريف فاللقطة اسم جنس يتناول الواحد وما زاد عليه حتى لو قال عندي لقطة بريء من(11/22)
ص -12- ... الضمان وإن كانت عنده عشرة لأن الإشهاد بهذا اللفظ يتم منه في حق كل واحد منهما وإذا أخذ الرجل لقطة ليعرفها ثم أعادها إلى المكان الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها رجل آخر لأن أخذها للتعريف لم يكن سببا لوجوب الضمان عليه وكذلك ردها إلى مكانها لأنه نسخ لفعله فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه كرد الوديعة إلى مالكها ورد المغصوب إلى صاحبه ولأنه بمجرد الأخذ لا يصير ملتزما للحفظ فقد يأخذها على ظن أنها له بأن كان سقط منه مثلها فإذا تأملها وعلم أنها ليست له ردها إلى مكانها وقد يأخذها ليعرف صفتها حتى إذا سمع إنسانا يطلبها دله عليها وقد يأخذها ليحفظها على المالك وهو يطمع في أن يتمكن من أداء الأمانة فيها فإذا أحس بنفسه عجزا أو طمعا في ذلك ردها إلى مكانها فلهذا لا يضمن شيئا وإنما الضمان على المستهلك لها وإن كان الأول أخذها لنفسه ثم أعادها إلى مكانها فهو ضامن لها إن هلكت وإن استهلكها غيره فلصاحبها الخيار يضمن أيهما شاء لأن أخذها لنفسه سبب موجب للضمان عليه وبعد ما وجب الضمان لا يبرأ إلا بالرد على المالك كالغاصب وإعادتها إلى مكانها ليس برد على المالك فلا يكون مسقطا للضمان عليه.(11/23)
وقيل: على قول زفر يبرأ عن الضمان لأنه نسخ فعله بما صنع فيسقط عنه حكم ذلك الفعل ونظائر هذه المسألة ذكرها في اختلاف زفر ويعقوب قال إذا كانت دابة فركبها ثم نزل عنها وتركها في مكانها فعلى قول زفر رحمه الله لا ضمان عليه وعلى قول أبي يوسف رحمه الله هو ضامن لها وكذلك لو نزع الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه بعد ما انتبه ثم نام فعند أبي يوسف رحمه الله لا يبرأ عن الضمان وعند زفر يبرأ عن ضمانه ولو أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه من تلك النومة برأ بالاتفاق فزفر رحمه الله سوى بينهما باعتبار أنه نسخ فعله حين أعاده على الحال الذي أخذه وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انتبه صاحبه وجب عليه رده في حالة الانتباه فلا يكون نومه بعد ذلك مسقطا للضمان عليه بخلاف ما إذا رده قبل أن ينتبه وكذلك لو كان ثوبا فلبسه ثم نزعه وأعاده إلى مكانه فهو على هذا الخلاف هذا إذا لبسه كما يلبس ذلك الثوب عادة فأما إذا كان قميصا فوضعه على عاتقه ثم أعاده إلى مكانه فلا ضمان عليه لأن هذا حفظ وليس باستعمال فلا يصير به ضامنا وكذلك الخاتم إن لبسه في الخنصر فهو استعمال يصير به ضامنا اليد اليمنى واليسرى في ذلك سواء لأن بعض الناس يلبسون الخاتم في الخنصر من اليد اليمنى للتزين والاستعمال وإن لبسه في أصبع آخر لم يكن ضامنا لأن المقصود هنا الحفظ دون التزين به وذكر هشام عن محمد رحمهما الله ان لبسه على خاتم في خنصره لم يكن ضامنا لأن المقصود هو الحفظ دون التزين به قال هشام رحمه الله فقلت له من السلاطين من يتختم بخاتمين للتزين فقال يكون أحدهما للختم لا لتزين ثم قال حتى أتأمل في هذا.
والحاصل أن الرجل إذا كان معروفا بأنه يلبس خاتمين للتزين فهذا يكون استعمالا منه(11/24)
ص -13- ... وإلا فهو حفظ وكذلك إن كان سيفا فتقلد به فهذا استعمال وإن كان متقلدا سيفا فكذلك لأن المبارز قد يتقلد بسيفين إلا أن يكون متقلدا بسيفين فحينئذ تقلده بهذه اللقطة يكون حفظا ولا يكون استعمالا فلا يصير ضامنا لها قال وكذلك الغاصب إذا رد الدابة إلى دار صاحبها لم يبرأ من الضمان حتى يدفعها إلى صاحبها بخلاف المستعير فإنه ليس بضامن لها فإذا ردها إلى دار صاحبها فقد أتى بما هو المعتاد في الرد فلا يكون ضامنا شيئا فأما الغاصب ضامن لها فحاجته إلى رد مسقط للضمان عليه ولا يحصل ذلك ما لم يدفعها إلى صاحبها رجل جاء إلى دابة مربوطة لرجل فحلها ولم يذهب بها ثم ذهبت الدابة فلا ضمان على الذي حلها وروي عن محمد رحمه الله أنه ضامن لها وعلى هذا لو فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاصطبل ففرت الدابة وجه قول محمد أن الذي حل الرباط أو فتح الباب في الحقيقة مزيل للمانع موجد شرط الذهاب إلا أن ما هو علة للتلف هنا وهو فعل الطير والدابة ساقط الاعتبار شرعا وفي مثله يحال الإتلاف على صاحب الشرط فيصير ضامنا كحافر البئر في الطريق فإنه أوجد شرط السقوط بإزالة المسكة عن الأرض فأما العلة ثقل الماشي في نفسه ومشيه في ذلك الموضع ولكن لما تعذر إضافة الإتلاف إليه إذا لم يكن عالما به كان مضافا إلى الحافر حتى يكون ضامنا وكذلك من شق زق إنسان فسال منه مائع كان فيه فهو ضامن وعمله إزالة المائع فقط فأما علة السيلان كونه مائعا ولكن لما تعذر إضافة الحكم إلى ما هو العلة كان مضافا إلى الشرط وعلى هذا لو قطع حبل قنديل فسقط فعمل القاطع في إزالة المانع فكان ضامنا لهذا المعنى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان عمله في اتحاد الشرط كما قال محمد رحمه الله وقد طرأ على ذلك الفعل فعل فاعل معتبر حصل به التلف فيسقط اعتبار ذلك الشرط ويحال بالتلف على هذا الفعل المعتبر قوله بأن فعل الدابة هدر قلنا نعم هو غير معتبر في إيجاب الضمان(11/25)
ولكنه معتبر في نسخ حكم الفعل به ألا ترى أن من أرسل دابته في الطريق فأصابت في سير إرساله مالا أو نفسا كان المرسل ضامنا ولو تيامنت أو تياسرت ثم أصابت شيئا لم يضمن المرسل واعتبر فعلها في نسخ حكم فعل المرسل به فكذلك هنا يعتبر فعلها في نسخ حكم فعل الذي حلها أو فتح باب الإصطبل به وهو نظير من حفر بئرا في الطريق فجاء حربي لا أمان له وألقى فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا وفعل الحربي غير معتبر في إيجاب الضمان عليه ثم كان معتبرا في نسخ حكم فعل الحافر به وهذا بخلاف مسألة الزق والحبل فإنه ما طرأ على فعله ما ينسخه حتى إذا كان ما في الزق جامدا ثم ذاب بالشمس فسال لم يضمن الشاق فإن قيل كيف يستقيم القول في هذه الفصول بأن عمله في اتحاد الشرط والشرط يتأخر عن العلة ولا يسبقها قلنا هذا شرط في معنى السبب فإن الحكم يوجد عند وجود الشرط وعند وجود السبب إلا أن السبب يتقدم والشرط يتأخر فهذا التقدم في معنى السبب ولكونه مزيلا للمانع هو شرط كما بينا وعلى هذا لو حل قيد عبد آبق فذهب العبد لم يضمن شيئا لما قلنا قال محمد رحمه الله إلا أن يكون العبد مجنونا فحينئذ يضمن لأن فعله في(11/26)
ص -14- ... الذهاب غير معتبر شرعا فيبقى الإتلاف مضافا إلى إزالة المانع بحل القيد وقال أيضا لو كان هذا المجنون مقيدا في بيت مغلق فحل إنسان قيده وفتح آخر الباب فذهب فالضمان على الفاتح لأن حل القيد لم يكن إزالة للمانع قبل فتح الباب وإتمام ذلك بالفاتح للباب فهو الضامن.
وعلى قول الشافعي رضي الله عنه في هذه الفصول إن ذهب في فور فتح الباب أو حل الرباط فهو ضامن وإن لم يذهب في فوره ذلك فلا ضمان عليه لأنه لما لم يذهب في فوره فقد علمنا أن الباب لم يكن مانعا له وإنما ذهب بقصد حدث له وقصد الدابة عنده معتبر وإذا ذهب في فوره فقد علمنا أن الباب كان مانعا ومن أزال هذا المانع فهو متعدي فيما صنع فيكون ضامنا وإذا كانت اللقطة في يد مسلم فادعاها رجل ووصفها فأبى الذي في يده أن يدفعها إليه إلا ببينة فأقام شاهدين كافرين لم تجز شهادتهما لأنها تقوم على المسلم في استحقاق يده عليه وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم وإن كانت في يد كافر فكذلك في القياس لأني لا أدري لعلها ملك المسلم وشهادة الكافر في استحقاق ملك المسلم ليست بحجة ولكن في هذا الاستحسان يقضى له بشهادتهما لأنها تقوم لاستحقاق اليد على الملتقط والملتقط كافر وشهادة الكافر حجة على الكافر ثم كما يتوهم أنها لمسلم يتوهم أنها لكافر فتقابل الموهومات مع أن الموهوم لا يعارض المعلوم وإن كانت في يدي مسلم وكافر لم تجز شهادتهما في القياس على واحد منهما وفي الاستحسان يجوز على الكافر منهما فيقضي له بما في يد الكافر لما قلنا وإذا أقر الملتقط بلقطة لرجل وأقام آخر البينة أنها له قضيت بها للذي أقام البينة لما قلنا أن البينة حجة في حق الكل والإقرار ليس بحجة في حق الغير والضعيف لا يعارض القوي فإن أقر بها لأحدهما أولا ودفعها إليه بغير حكم فاستهلكها ثم أقام آخر البينة فله أن يضمن إن شاء الدافع وإن شاء القابض لأنه أثبت ملكه بالحجة وكل واحد منهما متعدي في حقه فإن ضمن(11/27)
الدافع لم يرجع على القابض لأنه مقر أن القابض أخذ ملك نفسه وأنه ليس بضامن شيئا وإقراره حجة عليه في إسقاط حقه وإن ضمن القابض لم يرجع على الدافع أيضا لأنه في القبض كان عاملا لنفسه وإن دفع بقضاء القاضي فله أن يضمن القابض إن شاء لما قلنا وإن أراد أن يضمن الدافع فقد قال مرة في آخر هذا الكتاب ليس له أن يضمن الدافع وقال مرة أخرى له أن يضمن الدافع وحيث قال له أن يضمن الدافع فهو قول محمد رحمه الله وما قال ليس له أن يضمن الدافع فهو قول أبي يوسف رحمه الله وأصله مسألة الوديعة إذا قال هذا العين في يدي لفلان أودعنيه فلان لرجل آخر فإن دفعه إلى المقر له الأول بغير قضاء القاضي ضمن للمقر له بالوديعة بالاتفاق وإن دفعه بقضاء القاضي فكذلك عند محمد لأنه بإقراره سلط القاضي على القضاء فهو كما لو دل إنسانا على سرقة الوديعة وعند أبي يوسف رحمه الله لا ضمان عليه لأن بإقراره لم يتلف شيئا على صاحب الوديعة والدفع كان بقضاء القاضي فلا يكون موجبا للضمان عليه فكذلك هنا الملتقط أمين كالمودع فإذا دفع إلى المقر له بقضاء القاضي لم يضمن في قول أبي يوسف شيئا لمن يقيم البينة وهو ضامن له في قول محمد والله أعلم.(11/28)
ص -15- ... كتاب الإباق
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد رحمه الله اعلم بأن الإباق تمرد في الانطلاق وهو من سوء الأخلاق ورداءة في الأعراق يظهر العبد عن سيده فرار البصير ماله ضمار إفراده إلى مولاه وإعادته إلى مثواه إحسان وامتنان وإنما جزاء الإحسان إلا الأحسان فالكتاب لبيان الجزاء المستحق لفرار في الدنيا مع ماله من الأجر في العقبى بإغاثة اللهفان ومنع المعتدي عن العدوان ولهذا بدأ بحديث سعيد بن المرزبان عن أبي عمرو الشيباني قال كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاء رجل فقال إن فلانا قدم بإباق من القوم فقال القوم لقد أصاب أجرا فقال عبد الله رضي الله عنه وجعلا إن شاء من كل رأس أربعين درهما وفي هذا الحديث بيان أن الراد مثاب لأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم ينكر عليهم إطلاق القول بأنه أصاب أجرا وفيه دليل على أنه يستحق الجعل على مولاه وهو استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله وفي القياس لا جعل له وهو قول الشافعي رضي الله عنه لأنه تبرع بمنافعه في رده على مولاه ولو تبرع عليه بعين من أعيان ماله لم يستوجب عليه عوضا بمقابلته فكذلك إذا تبرع بمنافعه ولأن رد الآبق نهي عن المنكر لأن الإباق منكر والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم فلا يستوجب بإقامة الفرض جعلا ولكنا تركنا هذا القياس لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم فقد اتفقوا على وجوب الجعل لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال في مجلسه ما قال وقد اشتهر عنه ذلك لا محالة ولم ينكر عليه أحد من أقرانه وقد عرض قوله عليهم لا محالة والسكوت بعد ذلك عن إظهار الخلاف لا يحل لمن يعتقد خلافه فمن هذا الوجه يثبت الإجماع منهم ثم هم اتفقوا على أصل وجوب الجعل وإن اختلفوا في مقداره فقال عمر رضي الله عنه دينار أو اثنا عشر درهما، وقال علي رضي الله عنه دينار أو عشرة دراهم وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه إذا أخذه في المصر فله عشرة دراهم أو دينار وإن أخذه في غير المصر فله(11/29)
أربعون درهما فقد اتفقوا على وجود أصل الجعل وكفى بإجماعهم حجة والأصل أن الصحابة رضي الله عنهم متى اختلفوا في شيء فالحق لا يعدوهم وليس لأحد أن يترك جميع أقاويلهم برأيه ولكن يرجح قول البعض على البعض فنحن أخذنا بقولهم في إيجاب أصل الجعل ورجحنا قول ابن مسعود رضي الله عنه في مقداره.
فإن قيل: كان ينبغي أن يؤخذ بالأقل في المقدار لأنه متيقن به.
قلنا: إنما لم يؤخذ بالأقل لأن التوفيق بين أقاويلهم ممكن بأن يحمل قول من أفتى(11/30)
ص -16- ... بالأقل على ما إذا رده مما دون مسيرة سفر وقول من أفتى بالأكثر على ما إذا رده من مسيرة سفر كما فسره عمار بن ياسر رضي الله عنه فإن قوله إن أخذه في المصر كناية عما دون مسيرة سفر "وإن أخذه خارج المصر" كناية عن مسيرة سفر ومتى أمكن التوفيق بين أقاويلهم وجب المصير إليه ثم الأخذ بالأقل إنما يكون فيما يقولونه بأرائهم ونحن نعلم أنهم ما قالوا هذا بالرأي لأنه خلاف القياس ولأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا طريق لما ثبت عنهم من الفتوى إلا الرأى أو السماع ممن ينزل عليه الوحي فإذا انتفى أحدهما هنا تعين الآخر وصار كأن كل واحد منهم روى ما قاله عن رسول الله صلى الله عليه ونسلم والمثبت للزيادة من الأخبار عند التعارض أولى فلهذا أخذنا بالأكثر هذا هو النهاية في التمسك بالسنة والأخذ بأقاويل الصحابة رضي الله عنهم فقد قامت الشريعة بفتواهم إلى آخر الدهر وليس لأحد أن يظن بهم إلا أحسن الوجوه ولكنه بحر عميق لا يقطعه كل سابح ولا يصيبه كل طالب وليس في هذا الباب شيء من المعنى سوى ما ذكره عن إبراهيم قال كي يرد الناس بعضهم على بعض معناه أن الراد يحتاج إلى معالجة ومؤنة في رده وقلما يرغب الناس في التزام ذلك خشية ففي إيجاب الجعل للراد ترغيب له في رده وإظهار الشكر في المردود عليه لإحسانه إليه إلا أن إبراهيم كان يستحب ذلك ولا يوجبه على ما روي عنه أنه كان يستحب أن يرضخ للذي يجيء بالآبق ولم نأخذ بقوله في هذا وإنما نأخذ بقول شريح والشعبي رحمهما الله فقد قال الشعبي رحمه الله للراد دينار إذا أخذه خارجا من المصر وقال شريح رحمه الله له أربعون درهما فنأخذ بذلك ويحمل ما نقل عن الشعبي على ما إذا رده مما دون مسيرة السفر ويستقيم الاحتجاج بقول شريح رحمه الله في هذا ونحوه لأن الصحابة رضي الله عنهم قلدوه القضاء وسوغوا له المزاحمة معهم في الفتوى ألا ترى أنه خالف عليا رضي الله عنه في رد شهادة الحسن رضي الله عنه وأن(11/31)
مسروقا رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في موجب النذر بذبح الولد ورجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى قوله فعرفنا أن من كان بهذه الصفة فقوله كقول الصحابي.
ثم الشافعي استحسن برأيه في هذه المسألة من وجه فقال لو كان المولى خاطب قوما فقال من رد منكم عبدي فله كذا فرده أحدهم استوجب ذلك المسمى وهذا شيء يأباه القياس لأن العقد مع المجهول لا ينعقد وبدون القبول كذلك ولا شك أن الاستحسان الثابت باتفاق الصحابة رضي الله عنهم خير من الاستحسان الثابت برأي الشافعي رضي الله عنه ولا حجة له في قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: من الآية72] لأن ذلك كان خطابا لغير معين وهو لا يقول به فإنه لو قال من رده فله كذا ولم يخاطب به قوما بأعيانهم فرده أحدهم لا يستحق شيئا ثم هذا تعليق استحقاق المال بالخطر وهو قمار والقمار حرام في شريعتنا ولم يكن حراما في شريعة من قبلنا.
وإن قال: أعتبر قول المالك لإثبات أمره بالرد للذين خاطبهم ثم المأمور من جهة الغير يرجع عليه بما لحقه من المؤنة في ذلك.(11/32)
ص -17- ... قلنا: لو كان هذا معتبرا لرجع عليه بما لحق فيه من المؤنة دون المسمى.
ثم الأمر هنا ثابت أيضا بدون قوله ألا ترى أن العبد الهارب من مولاه ما دام بمرأى العين منه ينادي مولاه على أثره خذوه فعرفنا بهذا أنه أمر لكل من يقدر على أخذه ورده على أن يرده عليه والأمر الثابت دلالة بمنزلة الأمر الثابت إفصاحا ثم ذكر عن الشعبي في رجل أخذ غلاما آبقا فأبق منه قال لا ضمان عليه وذكر بعده عن جرير بن بشير عن أشياخ من قومه قال أخذ مولى للحي آبقا فأبق منه نحو حي فكتب إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم ففعل ذلك ثم كتب إليه فأقبل بالعبد فأبق منه فاختصموا إلى شريح فضمنه إياه ثم اختصموا إلى علي رضي الله عنه فقال يحلف العبد الأحمر للعبد الأسود بالله ما أبق منه ولا ضمان عليه وإنما نأخذ بحديث علي رضي الله عنه والشعبي فنقول لا ضمان عليه إذا أخذه للرد على مولاه لأنه أخذه بإذن مولاه كما بينا.
وفي هذا دليل على أن الراد يستوجب الجعل وكان ذلك أمرا ظاهرا حتى لم يخف على مواليهم حين كتب الآخذ إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم إلا أنه كان من مذهب شريح تضمين الأجير المشترك فيما يمكن التحرز عنه والمستوجب للجعل بمنزلة الأجير المشترك فلهذا ضمنه وكان من مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يضمن الأجير المشترك كما ذكر عنه في كتاب الإجارات في إحدى الروايتين ولكن القول قوله مع يمينه وقوله يحلف العبد الأحمر يريد به الراد سماه أحمر لقوته وقدرته على أخذ الأبق وسمى الأبق أسود لخبث فعله وهو من دعابة علي رضي الله عنه.(11/33)
قال وإذا أتى الرجل بعبد آبق فأخذه السلطان فحبسه فجاء رجل وأقام البينة أنه عبده فإنه يستحلف بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه أولا نقول ينبغي للراد أن يأتي به السلطان بخلاف ما سبق في اللقطة لأنه يقدر على حفظها بنفسه ولا يقدر على حفظ الآبق بنفسه عادة فرفعه إلى السلطان لهذا ولأنه يستوجب التعزير على إباقه فيرفعه إلى السلطان ليعزره ويأخذه السلطان منه ليحبسه وذلك نوع تعزير ثم من يدعيه لا يستحقه بدون البينة فإذا أقام البينة فقد أثبت ملكه فيه بالحجة إلا أنه يحتمل أن يكون باعه أو وهبه ولا يعرف الشهود ذلك فيستحلفه على ذلك.
فإن قيل: كيف يستحلفه وليس هنا خصم يدعي ذلك؟
قلنا: يستحلفه صيانة لقضاء القاضي والقاضي مأمور بأن يصون قضاءه عن أسباب الخطأ بحسب الإمكان أو يستحلفه نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له فإذا حلف دفعه إليه ولا أحب أن يأخذ منه كفيلا وإن أخذ منه كفيلا لم يكن مسيئا ولكن إن لم ياخذ أحب إلي هذه رواية أبي حفص وفي رواية أبي سليمان قال أحب إلي أن يأخذ منه كفيلا وإن لم يأخذ منه كفيلا وسعه ذلك من أصحابنا من قال: ما ذكر في رواية أبي حفص قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يرى أخذ الكفيل للمجهول كما قال في الجامع الصغير في(11/34)
ص -18- ... أخذ الكفيل من الوارث هذا شيء احتاطه بعض القضاة وهو ظلم وما قاله في رواية أبي سليمان رحمه الله قولهما لأنهما يجوزان للقاضي أن يحتاط بأخذ الكفيل صيانه لقضاء نفسه أو نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه والأصح أن فيه روايتين وما ذكر في رواية أبي سليمان أقرب إلى الاحتياط فربما يظهر مستحق يقيم البينة على الولادة في ملكه فيكون مقدما على من أقام البينة على الملك المطلق أو يقيم البينة على الملك المطلق فيكون مزاحما له أو يقيم البينة على أنه اشتراه منه فالمستحب أن يأخذ منه كفيلا لهذا ولكنه موهوم لم يقم عليه دليل فكان في سعة من أن لا يأخذ منه كفيلا وما ذكر في رواية أبي حفص أقرب إلى القياس لأن استحقاقه ثابت بما أقام من البينة واستحقاق غيره موهوم والموهوم لا يقابل المعلوم فلا يستحب للقاضي ترك العمل إلا بحجة معلومة لأمر موهوم أرأيت لو لم يعطه كفيلا أو لم يجد كفيلا أكان يمتنع القاضي من القضاء به له وقد أقام البينة ولكنه لو أخذ منه كفيلا فهو فيما صنع محتاط مجتهد فلا يكون مسيئا وإن لم يكن للمدعي بينة وأقر العبد أنه عبده فإنه يدفعه إليه ويأخذ منه كفيلا أما الدفع إليه فلأن العبد في يد نفسه وقد أقر بأنه مملوك له ولو ادعى أنه حر كان قوله مقبولا فكذلك إذا أقر أنه مملوك له يصح إقراره في حق نفسه لأنه لا منازع لهما فيما قالا وخبر المخبر محمول على الصدق ما لم يعارضه مثله ولكن يأخذ منه كفيلا لأن الدفع إليه بما ليس بحجة على القاضي فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل بخلاف الأول فالدفع هناك ليس بحجة ثابتة في حق القاضي.(11/35)
يوضحه أن قول العبد بعد إقراره بالرق في تعيين مالكه غير مقبول ألا ترى أنه لو كان في يد رجلين وأقر بالملك لأحدهما لم يصح إقراره وكان بينهما فكذلك لا يصح إقراره في استحقاق اليد الثابتة للقاضي بعد ما أقر برقه فلا بد من أن يأخذ منه كفيلا بحق نفسه حتى إذا حضر مالكه وأراد أن يضمنه يمكن من أخذ الكفيل ليحضره فيخلصه من ذلك فأما إذا أقام البينة فقد أثبت استحقاق اليد على القاضي ولا يلحق القاضي ضمان في الدفع إليه بحجة البينة فلهذا لا يحتاط بأخذ الكفيل وإن لم يكن للعبد طالب فإذا طال ذلك باعه الإمام وأمسك ثمنه حتى يجيء له طالب ويقيم البينة أنه عبده فيدفع إليه الثمن لأنه مأمور بالنظر وليس من النظر إمساكه بعد طول المدة لأنه محتاج إلى النفقة وربما يأتي ثمنه على نفقته ولأنه لا يأمن أن يأبق منه فكان حفظ ثمنه أيسر عليه من حفظ عينه وأنفع لصاحبه وليس لصاحبه إذا حضر أن ينقض بيع الإمام لأنه نفذ بولاية شرعية وينفق عليه الإمام في مدة حبسه من بيت المال لأنه محتاج إلى النفقة عاجز عن الكسب إذا كان محبوسا.
ولو أمره الإمام بأن يخرج فيكتسب فأبق ثانيا فكان النظر في الإنفاق عليه من بيت المال لأنه معد للنوائب وهذا من جملة النوائب ثم يأخذ ذلك من صاحبه إن حضر فرده عليه أو من ثمنه إن باعه وقد بينا هذا في نفقة الملتقط بأمر القاضي فكذلك في نفقة الإمام من بيت المال على الآبق لأن قضاءه في ذلك للمسلمين لا لنفسه فإن أقام مدعيه شهودا(11/36)
ص -19- ... نصارى لم تجز شهادتهم لأن العبد في يد إمام المسلمين واستحقاق يد المسلم لا يكون بشهادة النصارى وإن أقام بينة من المسلمين وقد باعه الإمام فزعم أنه كان قد دبره أو كانت جارية فزعم أنها كانت أم ولده لم يصدق على فسخ البيع لأن البيع نفذ من القاضي بولاية شرعية فكأن المالك باشر بيعه بنفسه ثم ادعى شيئا من ذلك ولا يصدق على فسخ البيع إلا أن يكون لها ولد وقد ولدته في ملكه فيدعي أنه ولده منها فحينئذ يصدق ويثبت النسب ويفسخ البيع كما لو كان باشر البيع بنفسه وهذا لأن ثبوت نسب ولد حصل العلوق به في ملكه بمنزلة البينة فيما يرجع إلى إبطال حق الغير ألا ترى أن المريض إذا أقر لجاريته أنها أم ولده ومعها ولد يدعي نسبه كان مصدقا في إبطال حق الغرماء والورثة عنها بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فهذا مثله وإذا وجد الرجل غلاما أو جارية آبقا بالغا أو غير بالغ فرده إلى مولاه فإن كان أخذه من مسيرة ثلاثة أيام أو أكثر فله الجعل أربعون درهما ولا يزاد على ذلك وإن بعدت المسافة لأن تقدير الجعل بأربعين إذا رده من مسيرة سفر ثابت بفتوى ابن مسعود رضي الله عنه والزيادة على القدر الثابت شرعا بالرأي لا تجوز ولأن أدنى مدة السفر معلوم ولا نهاية لما وراء ذلك والحكم لا يتغير به شرعا كسائر الأحكام المتعلقة بالسفر وإن أخذه في المصر أو خارجا منه ولكن فيما دون مسيرة سفر في القياس لا شيء له لأن التقدير الثابت بالشرع يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر ولأن الجعل إنما يستحقه راد الآبق وتمام الإباق بمسيرة السفر ففيما دونه هو كالضال ولهذا لا يتعلق شيء من أحكام السفر فيما دون مسيرة السفر . وفي الاستحسان له الجعل على قدر المكان والعناء لأن في مدة السفر وجوب الجعل ليس لعين المدة بل لما يلحق من العناء والتعب في رده وقد وجد بعض ذلك فيستوجب من الجعل بقدره ألا ترى أن المالك لو استأجره بمال معلوم ليرده من مسيرة يوم استحق من(11/37)
المسمى بقدره فكذلك فيما هو ثابت شرعا وإن كان أنفق عليه أضعاف مقدار الجعل بغير أمر القاضي فليس له سوى الجعل لأنه متبرع فيما أنفق وإن مات عنده قبل أن يرده أو أبق منه فإن كان أشهد على ذلك حين وجده أنه إنما أخذه ليرده على صاحبه فلا ضمان عليه وإن أقر أنه أخذه لنفسه فهو ضامن وإن ادعى أنه أخذه للرد ولكن ترك الإشهاد مع الإمكان فهو على الخلاف وقد بينا هذا في اللقطة فكذلك في الآبق لأن المعنى يجمعهما وهذا إذا علم أنه كان آبقا فإن أنكر المولى أن يكون عبده آبقا فالقول قوله لأن السبب الموجب للضمان قد ظهر من الأخذ وهو أخذه مال الغير بغير إذنه فهو يدعي ما يسقطه وهو الإذن شرعا لكون العبد آبقا ولو ادعى الإذن من المالك له في أخذه وأنكر المالك كان القول قوله فكذلك هنا وعلى هذا لو رده فأنكر المولى أن يكون عبده آبقا فلا جعل له إلا أن يشهد الشهود بأنه أبق من مولاه أو أن مولاه أقر بإباقه فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيجب له الجعل وإذا أعتقه المولى في إباقه جاز ذلك لأن نفوذ هذا التصرف يعتمد الملك دون القدرة على التسليم حتى ينفذ في المرهون والمؤاجر(11/38)
ص -20- ... والجنين في البطن والمبيع قبل القبض فكذلك ينفذ في الآبق لأن الإباق لا يزيل ملكه وإنما يعجزه عن التسليم ولهذا لو باعه لم يجز لأن البيع لا يصح إلا فيما هو مقدور التسليم للعاقد وقدرته على التسليم تنعدم بالإباق ولأن في بيعه معنى الغرر لأنه لا يعلم بقاؤه في الحال حقيقة ولا عوده ليقدر على التسليم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر فالغرر لا يمنع نفوذ العتق والتدبير فلهذا صح منه إذا ظهر أنه كان قائما وقت العتق ولو وهبه لرجل لم يجز لأن الهبة لا تتم إلا بالتسليم وهو غير قادر على تسليمه فإن وهبه لابن له صغير في عياله فالهبة جائزة وإعلامه بمنزلة القبض لأنه باق في يد مولاه حكما فيصير قابضا للصغير باليد الحكمي الذي بقي له وحق القبض فيما يوهب للصغير إليه وسواء كان الصغير في عياله أو لم يكن لأن الولاية ثابتة له بالأبوة فلا تنعدم بكونه في عيال غيره وإنما ذكر قوله في عياله على سبيل العادة لا للشرط وإنما قلنا أنه في يده حكما لأن اليد الحكمي كان له باعتبار ملكه فلا ينعدم إلا باعتراض يد أخرى على يده وبالإباق لا يوجد ذلك
وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن يكون مترددا في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ووجه آخر فيه وهو أن اليد الحكمي باعتبار تمكنه من الأخذ لأنه لو قدر عليه وذلك باق ما دام في دار الإسلام بقوة الإمام والمسلمين وعلى هذا الطريق لو أبق إلى دار الحرب ثم وهبه لابنه الصغير لا يجوز كما رواه قاضي الحرمين عن أبي حنيفة رحمه الله لأن اليد الحكمي ليس بثابت له في دار الحرب.
وإذا أبق العبد المأذون ثم اشترى وباع لم يجز وقد صار محجورا عليه استحسانا وفي القياس لا يصير محجورا عليه وهو قول زفر رحمه الله لأن ما به صح إذن المولى وهو قيام ملكه في رقبته لا ينعدم بالإباق لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن فلا ينافي البقاء بطريق الأولى.(11/39)
وجه الاستحسان أن المولى إنما يرضى بتصرفه ما دام تحت طاعته ولا يرضى به بعد تمرده وإباقه فإما أن يتقيد الإذن المطلق بما قبل الإباق لدلالة العرف أو يصير محجورا بعد الإباق لدلالة الحجر فإن المولى لو ظفر به أدبه وحجر عليه ودلالة الحجر كالتصريح بالحجر كما أن دلالة الإذن كالتصريح بالإذن ولهذا صح إذن الآبق ابتداء لأن الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها ألا ترى أن تقديم المائدة بين يدي إنسان يكون إذنا له في التناول دلالة فإن قال لا يأكل بطل حكم ذلك الإذن للتصريح بخلافه ثم المولى لو ظفر به أدبه وحبسه وحجر عليه فهو وإن عجز عن تأديبه فالشرع ينوب عنه في الحجر عليه كالمرتد اللاحق بدار الحرب يموته الإمام حكما فيقسم ماله بين ورثته لأنه لو قدر عليه قتله فإذا عجز عن ذلك جعله الشرع ميتا حكما فهذا مثله والحكم في جناية الآبق والجناية عليه وفي حدوده كالحكم فيها في المصر لأن الرق فيه باق بعد الإباق وملك المولى قائم فيه وباعتباره يخاطب بالدفع أو الفداء عند قدرته عليه فإذا قامت البينة عليه بالسرقة لم يقطعه الإمام حتى يحضر مولاه فإذا حضر قطعه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يقطعه ولا ينتظر(11/40)
ص -21- ... حضور مولاه وكذلك إذا قامت البينة عليه بسائر الأسباب الموجبة للعقوبة من حد أو قصاص فهو على هذا الخلاف.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن العبد في الأسباب الموجبة للعقوبة كالحر بدليل أنه يصح إقراره بها على نفسه ولا يصح إقرار المولى عليه بذلك وفيما كان هو بمنزلة الحر لا يشترط حضور المولى للقضاء عليه بالبينة كالطلاق وهذا لأن التزام العقوبة باعتبار معنى النفسية دون المالية وحق المولى في ملك المالية فبقي هو في النفسية على أصل الحرية لأن العقوبة تثبت عليه بالبينة تارة وبالإقرار تارة ثم فيما يثبت بإقراره لا يشترط حضور المولى للاستيفاء فكذلك فيما يثبت بالبينة بل أولى لأن البينة حجة متعدية إلى الناس كافة والإقرار حجة قاصرة في حق المقر خاصة وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن في إقامة الحد عليه تفويت حق المولي فلا يجوز إلا بمحضر منه لأن العبد ليس بخصم عنه والقضاء على غير خصم حاضر بتفويت حقه لا يجوز وبيان هذا أن للمولى حق الطعن في الشهود حتى لو كان حاضرا كان طعنه مسموعا ففي إقامة العقوبة تفويت حق المطعون عليه والدليل عليه أن العبد لو كان كافرا ومولاه مسلما لم تقبل شهادة الكفار عليه بالأسباب الموجبة للعقوبة ولو لم يكن للمولى حق في هذه البينة لكان لا يعتبر دينه في ذلك والعبد ليس بخصم عن المولى لأنه خصم باعتبار معنى النفسية ولا حق للمولى في ذلك فلا ينتصب خصما عنه وبه فارق الإقرار فإنه ليس للمولى حق الطعن في إقراره فلا يكون في إقامة العقوبة عليه بالإقرار تفويت حق المولى ولأن وجوب العقوبة عليه باعتبار معنى النفسية ولكن في الاستيفاء إتلاف مالية المولى والبينة لا توجب شيئا بدون القضاء والاستيفاء في العقوبات من تتمة القضاء ألا ترى أن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء يجعل كالمقترن بأصل القضاء حتى يمتنع الاستيفاء به فإذا كان تمام قضائه متناولا حق المولى يشترط حضور المولى في ذلك بخلاف(11/41)
الإقرار فإنه موجب بنفسه قبل قضاء القاضي وولاية الاستيفاء تثبت بتقرر الوجوب فلا يشترط فيه حضور المولى وإذا أخذ العبد الآبق وحبس في بلد فتقدم مولاه إلى قاضي بلدته وأقام عليه شاهدين وطلب أن يكتب به إلى قاضي البلد الذي هو فيه لم يجبه إلى ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولو فعل لم يقض القاضي المكتوب إليه بذلك الكتاب وعلى قول أبي يوسف يجيبه إلى ذلك بطريق يذكره وهو قول ابن أبي ليلى.
والحاصل أن كتاب القاضي إلى القاضي في الديون صحيح بالاتفاق وكذلك في العقار لأن إعلامها في الدعوى والشهادة تذكر الحدود دون الإشارة إلى العين وفي العروض من الدواب والثياب لا يجوز كتاب القاضي إلى القاضي بالاتفاق لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين للقضاء بشهادتهم وذلك ينعدم في كتاب القاضي إلى القاضي فأما في العبيد والجواري فلا يجوز كتاب القاضي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أيضا وهو القياس لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين ليثبت الاستحقاق بشهادتهم ولهذا لو كان حاضرا في البلدة لا يسمع(11/42)
ص -22- ... الدعوى والشهادة إلا بعد إحضاره فلا يجوز فيه كتاب القاضي إلى القاضي كما في سائر العروض ولكن استحسن أبو يوسف في العبيد قال العبد قد يأبق من مولاه وقد يرسله مولاه في حاجة من بلد إلى بلد فيمتنع من الرجوع إليه ويتعذر على المولى الجمع بين شهوده وبينه في مجلس القاضي فلو لم يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي أدى إلى إتلاف أموال الناس فكان قبول البينة بهذه الصفة أرفق بالناس وما كان أرفق بالناس فالأخذ به أولى لأن الحرج مدفوع وكان يقول مرة في الجارية أيضا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي ثم رجع فقال لا يقبل في الجارية لأن باب الفروج مبني على الاحتياط ولأن هذه البلوى تقل في الجواري فالمولى لا يرسلها من بلد إلى بلد عادة والإباق في الجواري يندر أيضا ثم بيان مذهبه أن المدعي يقيم عند القاضي شاهدين على حليته وصفته وأنه مملوك له فيكتب له بذلك إلى قاضي البلد الذي هو فيه محبوس فإذا ثبت الكتاب عند ذلك القاضي بشهادة الشهود عليه وعلى الختم ووافق حلية العبد وصفته ما في الكتاب دفع إليه من غير أن يقضي له بالملك ويختم في عنقه بالرصاص للإعلام ويأخذ من المدعي كفيلا ثم يأتي به المدعي إلى البلد الذي فيه شهوده ويكتب معه كتابا إلى ذلك القاضي فإذا أتى به إلى هذا القاضي أعاد شهوده ليشهدوا بالإشارة إلى العبد أنه ملكه وحقه فإذا شهدوا بذلك قضى له بالعبد وكتب إلى ذلك القاضي بما ثبت عنده ليبرئ كفيله وفي الجواري على قوله الأول لا يدفعها إليه القاضي المكتوب إليه أولا ولكنه يبعث بها معه على يد أمين لأنه لو دفعها إليه لا يمتنع من وطئها وإن كان أمينا في نفسه لأنه يزعم أنها مملوكته ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا هذا استحسان فيه بعض القبح فإنه إذا دفع إليه العبد يستخدمه قهرا أو يستغله فيأكل من غلته قبل أن يثبت ملكه فيه بقضاء القاضي وربما يظهر العبد لغيره إذا جاء به إلى القاضي الكاتب فالحلية والصفة تشتبه ألا(11/43)
ترى أن الرجلين المختلفين قد يتفقان في الحلية والصفة أرأيت لو كانت جارية حسناء أكان يبعث بها مع رجل لم يثبت له فيها حق هذا قبح فلهذا أخذنا بالقياس فإن كان القاضي باع العبد الآبق حين طال حبسه وأخذ ثمنه وهلك العبد عند المشتري ثم ادعاه الرجل وأقام البينة أن عبدا اسمه كذا وكذا عبده فوافق ذلك صفة العبد الذي باعه القاضي لم يقبل ذلك ولا يدفع إليه الثمن لأن شهوده لم يشهدوا على استحقاق ما في يد القاضي من الثمن إنما شهدوا على الاسم والحلية والاسم يوافق الاسم والحلية توافق الحلية إلا أن يشهدوا أن العبد الآبق الذي باعه القاضي من هذا الرجل هو عبد هذا فحينئذ يقضى له القاضي بالثمن لأنه أثبت الملك في ذلك العبد بعينه والبدل إنما يملك بملك الأصل وكذلك إن لم يبعه حتى قتل فأقام المدعي البينة أن المقتول عبده فإنه يقضي له بالقيمة لأن القيمة والثمن كل واحد منهما بدل عن العبد واستحقاق البدل باستحقاق الأصل قال "رجل أخذ عبدا آبقا فباعه بغير إذن القاضي ثم أقام المولى بينة أنه عبده فإنه يسترده من المشتري والبيع باطل" لأن الآخذ باعه بغير ولاية له فإن ولاية تنفيذ البيع له في ملك الغير إنما تثبت بإذن المولى أو بإذن القاضي بعد ما تثبت الولاية له(11/44)
ص -23- ... فإذا باعه بدون إذن القاضي كان البيع باطلا وإن كان العبد هلك عند المشتري فللمستحق أن يضمن قيمته أيهما شاء لأن البائع متعد في حقه بالبيع والتسليم والمشتري بالقبض لنفسه فإذا ضمن المشتري قيمته رجع على البائع بالثمن لأن المبيع لم يسلم من جهته واسترداد القيمة منه كاسترداد العين وإن ضمن البائع قيمته نفذ البيع من جهته لأنه ملكه بالضمان فيكون الثمن له ولكنه يتصدق بما فضل من القيمة على الثمن لأنه ربح حصل لأعلى ملكه بكسب خبيث رجل أقام البينة عند قاض من القضاة بأن العبد الذي باعه قاضي بلد كذا من فلان فهو عبده وأخذ كتابه إلى ذلك القاضي الذي باع الآبق فهذا جائز ويدفع ذلك القاضي إليه الثمن إذا ثبت كتاب القاضي عنده بالبينة" لأن المدعي بهذه البينة لا يريد أخذ عين العبد فإن بيع القاضي قد نفذ فيه ألا ترى أنه لو أقام البينة عنده دفع إليه الثمن ولم يمكنه من أخذ العبد فعرفنا أن مقصوده إثبات حق أخذ الثمن لنفسه فهذا والبينة التي يقيمها على الدين سواء فلهذا يكتب القاضي له بذلك ويقضي المكتوب إليه بخلاف ما سبق.
فإن قيل: الثمن عين في يد ذلك القاضي كالعبد.(11/45)
قلنا: نعم ولكنه معلوم بذكر مقداره فلا تقع الحاجة إلى الإشارة من الشهود إلى عينه للاستحقاق بخلاف العبد وإذا وجد الرجل عبدا أو أمة آبقا وهو يقدر على أخذه فإنه يسعه تركه وأحب إلي أن يأخذه ليرده على صاحبه ومن العلماء من يقول لا يسعه تركه لأن النهي عن المنكر فرض علي كل من يقدر عليه ولأن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه ولو رأى إنسانا يغرق لم يسعه إلا أن يخلصه إذا قدر عليه فكذلك إذا رأى ماله يتوي ولكنا نقول هو يحتاج في رده إلى معالجة ومؤنة فكان في سعة من أن لا يلتزم ذلك وإن كان الأولى أن يلتزمه ولأنه في الترك يعتمد ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤوي الضالة إلا ضال" وقال "ضالة المؤمن حرق النار" وبظاهر الحديث يقول جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصرف لا يسعه أن يأخذه فلا أقل من أن يسعه الترك لظاهر الحديث.
وإذا أخذ عبدا آبقا فادعاه رجل وأقر له العبد فدفعه إليه بغير أمر القاضي فهلك عنده ثم استحقه آخر ببينة أقامها فله أن يضمن أيهما شاء لكون كل واحد منهما خائنا في حقه فإن ضمن الدافع رجع به على القابض لأنه أخذ العبد منه لنفسه وقد تبين أنه كان غاصبا لا مالكا وللغاصب الأول حق الرجوع على الثاني بما يضمن ولأنه لم يسبق إقرار من الدافع للقابض بالملك ولو كان أقر له بذلك فسقط اعتبار إقراره لما صار مكذبا شرعا فإذا لم يسبق إقراره أولى وإن كان لم يدفع إلى الأول حتى شهد شاهدان عنده فدفعه إليه بغير حكم ثم أقام آخر البينة عند القاضي فإنه يقضي به لهذا لأن البينة الأولى أقامها صاحبها في غير مجلس الحكم فلا تكون معارضة للبينة التي قامت في مجلس الحكم لأن وجوب الحكم يختص ببينة تقوم في مجلس القضاء وإن أعاد الأول بينته لم ينفعه أيضا لأن اليد في العبد له وبينة ذي اليد في الملك المطلق لا تعارض بينة الخارج وما يكتسبه العبد الآبق بالبيع والشراء والإجارة وغير ذلك لمولاه لأنه(11/46)
ص -24- ... مالك لرقبته بعد إباقه وإذا لم يكن المكتسب أهلا للملك فمولاه يخفه في ملك الكسب لملكه رقبته وإن أجره الذي أخذه وأخذ أجرته فهو للذي أجره قال لأنه في ضمانه وكأنه أشار بهذا إلى قوله صلى الله عليه ونسلم "الخراج بالضمان" ولأنه بعقده صير ما ليس بمال مالا فإن المنافع لا تأخذ حكم المالية إلا بالعقد عندنا كما بينه في الغصب ومن صير ما ليس بمال من ملك الغير مالا بفعله كان ذلك المال له كمن اتخذ كوزا من تراب غيره وباعه ولكن ينبغي له أن يتصدق به لأنه حصل بكسب خبيث وإن دفعه إلى المولى مع العبد وقال هذا المال غلة عبدك وقد سلمته لك فهو للمولى لأنه أخذ بالاحتياط فيما صنع وتحرز عن اختلاف العلماء فإن عند الشافعي رضي الله عنه هذا المال للمولى وعندنا هو للأجير ولا يمنعه من تمليك مال نفسه منه طوعا ثم يحل للمولى أكله استحسانا وفي القياس لا يحل لأن حق الفقير أثبت فيه حين وجب التصدق به فلا يملك الآخذ إسقاط حق الفقراء ولكنه استحسن وقال وجوب التصدق به كان لخبث دخل فيه لعدم رضى المولى به فإنما يظهر ذلك في حق الآخذ لا في حق المولى بل بالتسليم إلى المولى يزول ذلك الخبث فكان له أن يأكله استحسانا لأنه كسب عبده وفي القياس لا يجب الأجر لأن المستأجر ضامن للعبد باستعماله والأجر مع الضمان لا يجتمعان ولكنه استحسن فقال العبد غير محجور عن الاكتساب وتحصيل المنافع ألا ترى أنه يصح منه قبول الهبة والصدقة فإذا سلم من العمل نمحض ذلك العقد منفعة لأنه لو لم يسبق العقد لم يجب على المستعمل له شيء فلهذا أنفذنا ذلك العقد بخلاف ما إذا تلف لأنه لو نفذ العقد لم يكن للمولى حق تضمين المستأجر فيتضرر به فإذا ثبت نفوذ العقد عند سلامة العبد كان حق قبض الأجر إليه لأنه وجب بعقده بأخذها فيدفعها إلى المولى وإباق المكاتب لا يبطل مكاتبته وإذنه بخلاف إباق المأذون لأن المولى يقدر على أن يحجر على المأذون ولا يستطيع أن يحجر على(11/47)
المكاتب ولأن حق المكاتب في نفسه لازم ولهذا لا يملك المولى بيعه بخلاف المأذون وحقيقة المعنى أن الإباق لا يتحقق من المكاتب فإن له أن يخرج في الاكتساب إلى حيث يشاء وليس للمولى أن يمنعه من ذلك بخلاف المأذون فإن للمولى أن يمنعه من الخروج فإذا خرج بغير إذنه كان فعله إباقا وبهذا الطريق لا جعل لراد المكاتب لأنه ليس بآبق بخلاف المأذون ولأن الراد إنما يستوجب الجعل بإحيائه مالية الرقبة برده وذلك لا يوجد في المكاتب فإن حق المولى في بدل الكتابة في ذمته خاصة ولم يصر مشرفا على الهلاك بإباقه حتى يكون في الرد إحياؤه بخلاف العبد لأن مالية رقبته حق المولى وقد أشرف على التوي بإباقه فيكون الراد محييا له ويجوز عتق الآبق عن الظهار إذا كان حيا لأنه باق على ملك المولى حقيقة فينفذ عنقه فيه على الوجه الذي ينفذ حال كونه في يده.
فإن قيل: الآبق في حكم المستهلك وإعتاق المستهلك حكما عن الظهار لا يجوز كالأعمى.
قلنا: المستهلك منه حكما ماليته لا ذاته والكفارة إنما تتأدى بتحرير مبتدإ وذلك يرجع(11/48)
ص -25- ... إلى الذات دون المالية فإن الله تعالى قال:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92] والرقبة اسم للذات حقيقة والذات المرقوق عرفا وليس في النص تعريض لصفة المالية ولهذا كان قليل القيمة وكثير القيمة في جواز التكفير به سواء بخلاف الأعمى فالمستهلك هناك الذوات حكما لفوات منفعة الجنس منه وبخلاف المدبر وأم الولد فعتقهما ليس بتحرير مبتدإ بل هذا من وجه تعجيل لما استحقاه مؤجلا ويجوز بيع الآبق ممن أخذه لأن امتناع جواز بيعه من غيره لعجزه عن التسليم إليه ولا يوجد ذلك هنا لأنه بنفس العقد يصير مسلما إلى المشتري لقيام يده فيه فلهذا جاز بيعه منه وإذا أبق عبد الرهن فرده رجل في حياة الراهن أو بعد موته فهو رهن على حاله لأن ماليته قد أشرفت على التوي بالإباق ثم قد حي بالرد فهو كما لو أشرف على الهلاك ثم بريء فيكون رهنا على حاله والمرتهن أحق به من سائر غرماء الراهن بعد موته والجعل على المرتهن إن كان قيمته مثل الدين لأن وجوب الجعل للراد بإحيائه مالية العبد ومالية حق المرتهن لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن من المالية ألا ترى أنه لو لم يرده حتى يتحقق التوى سقط دين المرتهن فعرفنا أنه في الرد عمل له فكان الجعل عليه وهو نظير تخليصه من الجناية بالفداء وذلك على المرتهن بقدر المضمون منه فكذلك الجعل وهذا بخلاف النفقة فإنه لإبقاء الملك لا لإحياء المالية ألا ترى أن المرتهن إذا امتنع من الإنفاق تمكن من رده ويبقى جميع دينه فعرفنا أن النفقة لإبقاء الملك والملك للراهن والجعل لإحياء المالية فيكون على المرتهن ألا ترى أن المالية لو انتقصت بقرحة خرجت به كان دواء ذلك ومعالجته على المرتهن بخلاف النفقة فكذلك جعل الآبق وللذي جاء به أن يمسكه حتى يأخذ الجعل لأنه إنما يستوجب الجعل بإحياء ماليته فكان لما يستوجب تعلقا بماليته فيحتبس به كما يحبس البائع المبيع بثمنه وإن مات العبد في يده بعد ما قضى القاضي بإمساكه(11/49)
فلا ضمان عليه لأنه محق في حبسه ولا جعل له لأن وجوب الجعل باعتبار إحيائه ماليته ولم يتم ذلك حين لم تصل إليه يد مولاه وهو نظير المبيع يتلف في يد البائع فإن حقه في الثمن يسقط سواء حبسه أو لم يحبسه فهنا يسقط حقه في الجعل بموته في يده سواء حبسه أو لم يحبسه.
عبد أبق وذهب معه بمال فجاء به رجل فقال لم أجد معه شيئا فالقول قوله ولا شيء عليه لأن وصول يده إلى العبد لا يكون دليل وصول المال إليه ما لم يعلم كونه في يد العبد حين أخذه والمولى يدعي عليه ذلك وهو منكر كما لو ادعى عليه أنه غصبه مالا وأنكره وإن اتهمه رب المال فله أن يستحلفه على ذلك وهو منكر كما لو ادعى لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله حتى يقام ذلك مقام إقراره ولو أن أمة أبقت من مولاها فالتحقت بأرض الحرب ثم أصابها المسلمون فاشتراها رجل منهم فوطئها فولدت له ثم جاء مولاها فإنه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها في قول أبي حنيفة وكذلك لو كان الواطئ اشتراها من المشركين وعندهما أم ولد لمن استولدها ولا سبيل لمولاها عليها وهذا بناء على أن الآبق إلى دار الحرب لا يملكه المشركون بالأخذ في قول أبي حنيفة لأنهم لم يحرزوه لكونه في يد نفسه(11/50)
ص -26- ... وهي يد محترمة فإذا لم يملكها المشتري منهم ولا المسلمون بالاستيلاء أيضا فمن اشتراها فوطئها فهو بمنزلة المغرور لأنه في الاستيلاء اعتمد ظاهر الشراء وولد المغرور حر بالقيمة وللمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة ولدها وبه قضى عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وعندهما هم يملكون الآبق إليهم بالأخذ فإذا ملكوها ملكها المشتري أيضا وقد استولدها فكانت أم ولد له ولا حق للمولى في استردادها والجعل واجب في رد المدبر وأم الولد لأنهما مملوكان للمولى يستكسبهما بمنزلة القن.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم أنه يستوجب الجعل بإحياء المالية في أم الولد خصوصا عند أبي حنيفة؟(11/51)
قلنا: نعم ليس له فيها مالية باعتبار الرقبة ولكن له مالية باعتبار كسبها بخلاف المكاتب فإنه أحق بمكاسبه فلا يكون راده محييا للمولى مالية باعتبار الرقبة ولا باعتبار الكسب فإن مات المولى قبل أن يوصلهما الراد إليه فلا جعل له لأنهما عتقا بموته وراد الحر لا يستوجب الجعل وكذلك إن كان على المدبر سعاية بأن لم يكن للمولى مال سواه فرده على الورثة لم يستوجب الجعل لأن المستسعي بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو حر عليه دين ولا جعل لراد المكاتب أو الحر فأما إذا وصلهما إلى المولى فقد تقرر حقه في الجعل فلا يسقط بموت المولى وعتقهما بعد ذلك وإن كان الآبق بين رجلين أثلاثا فالجعل بينهما على قدر أنصبائهما وجوبه باعتبار إحياء ماليتهما والمالية لصاحب الكثير أكثر منها لصاحب القليل وراد الصغير إذا كان آبقا يستوجب الجعل كراد الكبير غير أنه إن جاء به من مسيرة سفر فله أربعون درهما وإن جاء به مما دون ذلك يرضخ له على قدر عنائه وعناؤه في رد الكبير أكثر منه في رد الصغير فالرضخ يكون بحسب ذلك وإذا انتهى الرجل بالعبد الآبق إلى مولاه فلما نظر إليه أعتقه فالجعل واجب عليه لأنه صار قابضا له بإعتاقه ألا ترى أن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير به قابضا وكذلك إن باعه مولاه من الذي أتاه به لأنه صار قابضا له لما نفذ تصرفه فيه بالتمليك من غيره ولأن سلامة الثمن له باعتبار رد هذا الراد فيكون بمنزلة سلامة العين له وإن سلمه الراد إلى مولاه فأبق منه ثم جاء به رجل آخر من مسيرة ثلاثة أيام فعلى الولي جعل تام لكل واحد منهما لأن السبب وهو إحياء المالية بالرد على المولى قد تقرر من كل واحد منهما بكماله وإن كان الأول أدخله المصر ثم أبق منه قبل أن ينتهى به إلى مولاه فالجعل للأخر إن جاء به من مسيرة ثلاثة أيام ويرضخ له إن كان دون ذلك ولا شيء للأول لأن تمام السبب بإيصاله إلى المولى والأول ما أوصله إلى المولى فانتقص السبب في(11/52)
حقه بإباق العبد منه قبل تمامه بالإيصال إلى المولى فلا جعل له وأما الثاني فقد أتم السبب بإيصاله إلى المولى فيستوجب الجعل بحسب عمله وإن أخذه الأول مع الثاني ورداه من مسيرة يوم فللأول نصف الجعل تاما ويرضخ للثاني على قدر عنائه لأنهما تمما السبب بإيصاله إلى المولى إلا أن الأول قد ضم فعله الثاني إلى الفعل الأول وباعتبار هذا الضم يكون رادا له من مسيرة سفر فله نصف(11/53)
ص -27- ... الجعل تاما والثاني إنما رده من مسيرة يوم فيجعل في حقه كأنهما رداه من مسيرة يوم فلهذا استحق الرضخ على قدر عنائه وإن رداه من مسيرة ثلاث فالجعل بينهما سواء لأنهما استويا في سبب الاستحقاق للجعل وهو الإيصال إلى المولى بعد الرد من مسيرة ثلاث فيستويان في استحقاق الجعل وإن كان أحد الرادين عبدا محجورا أو مأذونا فهو مثل الحر في استحقاق الجعل لأن هذا اكتساب للمال والعبد غير محجور عن اكتساب المال بطريق هو محض منفعة في حق المولى وإن كان العبد الآبق لمكاتب أو عبد تاجر فعليهما الجعل للراد لأن حقهما في كسبهما بمنزلة حق الحر فيما يرجع إلى ملك التصرف والراد أحيا مالية العبد بالرد لهما فيستوجب الجعل عليهما وكذلك إن كان الآبق لصبي فالجعل في ماله يؤدي عنه أبوه أو وصيه لأن منفعة إحياء المالية حصلت له.
عبد جنى جناية ثم أبق فجاء به رجل فالمولى مخير بين الدفع والفداء إذا كان قبل إباقه فإن اختار الفداء فالجعل على مولاه" لأنه طهره عن الجناية باختياره وتبين أن الراد عمل له في إحياء ماليته وإن اختار دفعه إلى أصحاب الجناية فالجعل على أصحاب الجناية لأنه تبين أن الراد أحيا حقهم فإن نفس العبد مستحق لهم بالجناية إلا أن يختار المولى الفداء ولهذا لو هلك العبد قبل أن يختار المولى شيئا بطل حقهم فتبين باختيار الدفع أن الراد أحيا حقهم فيستوجب الجعل عليهم وله أن يحبسه عنهم حتى يستوفي الجعل كما كان له أن يحبسه عن المولى.(11/54)
عبد أبق إلى بعض البلدان فأخذه رجل فاشتراه منه رجل وجاء به فلا جعل له" لأنه إنما دره لنفسه فإن المشتري قد يكون قاصدا إلى تملك المشتري فيكون هو غاصبا في حق المولى لا عاملا له وكذلك إن وهبه أو أوصى له أو ورثه فإن أشهد حين اشتراه أنه إنما يشتريه ليرده على صاحبه لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء فله الجعل له لأنه بهذا الإشهاد أظهر أنه يعمل للمولى في الرد ولكنه الطريق الذي يمكنه فيستوجب ولا يرجع على المولى بما أدى من الثمن قل ذلك أو كثر لأنه متبرع في ذلك كما كان متبرعا فيما ينفق عليه بغير أمر القاضي وكذلك إن كان أبق إلى دار الحرب ففي حق الراد هو والمأخوذ في دار الإسلام سواء وإن أخذ الأبق رجل فجاء به ليرده على مولاه فوجده قد مات قال له الجعل في تركته لأن وارثه أو وصيه يخلفه بعد موته فالرد عليه كالرد على المولى في حياته وإذا استوجب الجعل عليه كان ذلك دينا في تركته كسائر الديون فإن كان عليه دين يحيط بماله فالراد أحق بإمساك العبد حتى يعطي الجعل فإن لم يكن له مآل غيره بيع العبد ويبدأ بالجعل له من ثمنه ثم يقسم الباقي بين الغرماء لأن حق الغرماء في ماليته إنما ثبت من جهة الميت وقد كان الراد أحق به من الميت ما لم يستوف الجعل فكذا يكون هو أحق به من غرماء الميت أيضا فإن كان الذي جاء به وارث الميت وقد أخذه وسار به ثلاثة أيام في حياته وأوصله إلى المصر فمات المولى قبل أن يرده عليه وليس الوارث الراد في عياله فله الجعل في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لاجعل له لأن استحقاق الجعل إنما يكون(11/55)
ص -28- ... بالإيصال إلى المالك وكذا لو أبق قبل أن يوصله إلى المالك فلا جعل له والإيصال هنا لم يوجد قبل الموت وبعد الموت لم يصلح سببا لوجوب الجعل له لأنه شريك فيه ومن عمل في شيء هو فيه شريك لا يستوجب الأجر بالعقد وإن شرط ذلك في العقد فهنا أولى أن لا يستوجب.
وجه قولهما أن الراد إنما يستحق الجعل بعمله في الرد وقد تم ذلك في حياة المورث قبل أن تثبت له الشركة فيه إلا أن إيصاله إلى المولى شرط وعند وجوده يستحق الأجر بعمله لا بما هو شرط والشرط يتحقق مع الشركة في المحل وإنما الذي لا يتحقق تسليم العمل إلى غيره فيما هو شريك فيه وقد صار العمل هنا مسلما إلى المولى باتصاله بملكه وقد وجد الشرط بالرد على ورثته فيستوجب الجعل.
يوضحه أنه بإحياء المالية يستوجب الجعل وقد تحقق هذا حتى لو كان على الميت دين أو أوصى بوصية ينفذ من ذلك فيكون هذا بمنزلة ما لو رده عليه في حياته ولم يأخذ الجعل منه حتى مات وإذا جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام وهو لا يساوي أربعين درهما ففي قول أبي يوسف الأول له الجعل أقل من قيمته بدرهم وهو قول محمد وفي قول أبي يوسف الآخر رحمهما الله له الجعل تاما.
وجه قوله الأول أن وجوب الجعل باعتبار إحياء المالية للمولى فلا بد من اعتبار مقدار المالية التي حييت له ثم الراد مأذون من جهة المولى في إيصال المنفعة إليه لا في إلحاق الضرر به وإيجاب المال لنفسه عليه فإذا كان قيمة العبد درهما كان في إيجاب الأربعين على المولى ضرر بين فينبغي أن يوجب له من الجعل بقدر ما يظهر فيه منفعة عمله للمولي وذلك أن ينقص من قيمته درهم لأن ما دون الدرهم من الكسور لا يجوز اعتباره شرعا.(11/56)
وجه قوله الآخر أن وجوب الجعل للراد عرف شرعا باتفاق الصحابة وقد قدروه بأربعين درهما من غير أن يعرضوا لقيمة العبد وما ثبت من التقدير شرعا يجب اعتباره وكان عمل الراد هنا في إيجاب جعل مقدر له بمنزلة عقد باشره مع المولى فكما يستحق هناك جميع المسمى ولا ينظر إلى قيمة العبد فكذلك هنا يوضحه أن مالية رقبته وإن كانت دون الأربعين فمالية كسبه الذي يحصل للمولى قد تزيد عليه وقد بينا أن ذلك يعتبر لإيجاب الجعل ابتداء فلأن يعتبر لتكميل الجعل كان أولى وإذا كان على العبد دين فجعله على مولاه إذا أراد ذلك بأن يقضي ما على العبد من الدين وإن أبى بيع العبد واستوفى صاحب الجعل جعله وكان ما بقي من الثمن لأصحاب الديون وهذا وما تقدم مما إذا كان على العبد دين جناية سواء لأن المستحق هناك الدفع بالجناية وهنا البيع في الدين وإذا أخذ الرجل عبد أخيه أو أخته أو عبد أبيه أو ابنه أو عبد امرأته أو امرأة أخذت عبد زوجها فالقياس في جميع ذلك واحد أن يكون له الجعل إذا لم يكن في عياله لأن ملك أحدهما منفصل عن ملك الآخر فيتحقق منه إحياء المالية على المالك بالرد فيستوجب الجعل كسائر الأجانب ولكنه استحسن فقال إذا وجد عبد أبيه وهو في(11/57)
ص -29- ... عياله فلا جعل له لأن رد الآبق على أبيه من جملة خدمته وخدمة الأب مستحق على الابن دينا وإن لم تكن مستحقا عليه دينا ولهذا لو استأجر ابنه لخدمته لم يستوجب الأجر سواء كان في عياله أو لم يكن فكذلك لا يستوجب الجعل برد آبقه وكذلك المرأة مع الزوج لأن كل واحد منهما له بسوطة اليد في مال صاحبه ويعد خيره خير نفسه ولأن خدمة الزوج مستحق على المرأة دينا حتى لا يستأجرها على ذلك والزوج هو الذي يطلب آبق امرأته عادة فأما إذا وجد عبد ابنه فإن كان في عيال ابنه فلا جعل له لأن آبق الرجل إنما يطلبه من في عياله عادة ولهذا ينفق عليهم فلا يستوجب مع ذلك جعلا آخر وإن لم يكن الأب في عيال الابن فله الجعل لأن خدمة الابن غير مستحق على الأب دينا ولا هو سائغ له شرعا ولهذا لو استأجر أباه ليخدمه فخدمه استوجب الأجر عليه فكذلك يستوجب الجعل وكذلك الأخ له الجعل إذا لم يكن في عيال أخيه وإن كان في عياله فلا جعل له لأنه إنما يعوله وينفق عليه لهذا ونحوه وإذا أبق عبد اليتيم فجاء به الوصي فلا جعل له لأنه هو الذي يطلب آبق اليتيم عادة وهو الذي يمسك عبده فلا يكون له الرد على نفسه وكذلك إن كان اليتيم في حجر رجل يعوله فجاء به ذلك الرجل فلا جعل له لأنه هو الذي يطلبه عادة وإذا صالح الذي جاء بالآبق مولاه من الجعل على عشرين درهما جاز لأنه يجوز بدون حقه وأحسن إليه بحط بعض ما استوجبه عليه وإن صالحه على خمسين درهما وهو لا يعلم أن الجعل أربعون درهما جاز منه أربعون ويطرح الفضل لأن حقه مقدر بالأربعين شرعا فالزيادة على ذلك تكون ربا وهو نظير ما لو صالح الشريك المعتق شريكه على أكثر من قيمة نصيبه كان الفضل باطلا لما بيناه وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردهما رجل فله جعل واحد لأن الإباق من الرضيع لا يتحقق فإنما رد آبقا واحدا وهي الأمة وإن كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله جعلان ثمانون درهما لأن الإباق تحقق منهما فإنما أحيا مالية(11/58)
مملوكين بالرد فيستوجب جعلا كاملا باعتبار كل واحد منهما وإذا رجع الواهب في الهبة بعد ما رد العبد من إباقه وسلمه إلى الموهوب له فله الجعل على الموهوب له لأنه أحيا المالية له بالرد والإيصال إليه فزوال ملكه بعد ذلك برجوع الواهب كزوال ملكه بموت العبد ولو مات لم يبطل حق الراد في الجعل فكذلك إذا رجع فيه الواهب والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/59)
ص -30- ... كتاب المفقود
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء المفقود اسم لموجود هو حي باعتبار أول حاله ولكنه خفي الأثر كالميت باعتبار مآله وأهله في طلبه يجدون ولخفاء أثر مستقره لا يجدون قد انقطع عليهم خبره واستتر عليهم أثره وبالجد ربما يصلون إلى المراد وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد والاسم في اللغة من الأضداد يقول الرجل فقدت الشيء أي أضللته وفقدته أي طلبته وكلا المعنيين يتحقق في المفقود فقد ضل عن أهله وهم في طلبه.
وحكمه في الشرع أنه حي في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته ميت في حق غيره حتى لا يرث هو إذا مات أحد من أقربائه لأن ثبوت حياته باستصحاب الحال فإنه علم حياته فيستصحب ذلك ما لم يظهر خلافه واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان على ما كان غير معتبر في إثبات ما لم يكن ثابتا وفي الامتناع من قسمة ماله بين ورثته إبقاء ما كان على ما كان وفي توريثه من الغير اثبات أمر لم يكن ثابتا له ولأن حياته باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق وليس بحجة للاستحقاق فلا يستحق به ميراث غيره ويندفع به استحقاق ورثته لماله بهذا الظاهر ولهذا لا تتزوج امرأته عندنا وهو مذهب علي رضي الله تعالى عنه كما بدأ به الكتاب من قوله في امرأة المفقود أنها امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق وبه كان يأخذ إبراهيم كما قال.(11/60)
قد سمعنا أن امرأته تتربص أربع سنين وليس ذلك بشيء هي امرأة ابتليت فلتصبر وتربص أربع سنين كان يقول به عمر رضي الله تعالى عنه في الابتداء ثم رجع إلى قول علي رضي الله عنه. ومالك كان يأخذ بقول عمر رضي الله عنه فيقول الظاهر أنه يوقف على خبره بعد هذه المدة أن لو كان حيا والبناء على الظاهر واجب فيما لا يوقف على حقيقته خصوصا إذا وقعت الحاجة إلى دفع الضرر عنها وقد مست الحاجة إلى دفع الضرر عنها لكيلا تبقى معلقة ألا ترى أنه يفرق بين العنين وامرأته بعد مضي سنة لدفع الضرر عنها وبين المولى وامرأته بعد أربعة أشهر لدفع الضرر عنها ولكن عذر المفقود أظهر من عذر المولى والعنين فيعتبر في حقه المدتان في التربص وذلك بأن تجعل الشهور سنين فلهذا تتربص ولا نأخذ بهذا لأن نكاحه حقه وهي حي في إبقاء ملكه وحقه عليه ولو مكنا زوجته من أن تتزوج كان فيه حكم بالموت ضرورة إذ المرأة لا تحل لزوجين في حالة واحدة فيجب قسمة ماله أيضا وذلك ممتنع(11/61)
ص -31- ... ما لم يقم على موته دليل موجب له والتقدير بالمدة في حق المولى والعنين لدفع ظلم التعليق ولا يتحقق معنى الظلم من المفقود فقلنا إنها امرأة ابتليت فلتصبر ولو شاء الله تعالى لابتلاها بأشد من هذا. فإذا لم يظهر خبره فظاهر المذهب أنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا فإنه يحكم بموته لأن ما تقع الحاجة إلى معرفته فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر مثل النساء وبقاؤه بعد موت جميع أقرانه نادر وبناء الأحكام الشرعية على الظاهر دون النادر وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول إذا تم مائة وعشرون سنة من مولده يحكم بموته وهذا يرجع إلى قول أهل الطبائع والنجوم فإنهم يقولون لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من هذه المدة لأن اجتماع التحسين يحصل للطباع الأربع في هذه المدة ولا بد من أن يضاد واحد من ذلك طبعه في هذه المدة فيموت ولكن خطأهم في هذا قد تبين للمسلمين بالنصوص الواردة في طول عمر بعض من كان قبلنا كنوح صلوات الله وسلامه عليه وغيره فلا يعتمد على هذا القول وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا مضى مائة سنة من مولده يحكم بموته لأن الظاهر أن أحدا في زماننا لا يعيش أكثر من مائة سنة وحكي أنه لما سئل عن معنى هذا قال أبينه لكم بطريق محسوس فإن المولود إذا كان ابن عشر سنين يدور حول أبويه هكذا وعقد عشرا فإن كان ابن عشرين سنة فهو بين الصبا والشباب هكذا وعقد عشرين فإن كان ابن ثلاثين سنة يستوي هكذا وعقد ثلاثين فإذا كان ابن أربعين تحمل عليه الأثقال هكذا وعقد أربعين فإذا كان ابن خمسين ينحني من كثر الأثقال والأشغال هكذا وعقد خمسين فإذا كان ابن ستين ينقبض للشيخوخة هكذا وعقد ستين فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا وعقد سبعين فإذا كان ابن ثمانين يستلقي هكذا وعقد ثمانين فإذا كان ابن تسعين تنضم امعاؤه هكذا وعقد تسعين فإذا كان ابن مائة سنة يتحول من الدنيا إلى العقبى كما يتحول الحساب من اليمنى إلى اليسرى وهذا(11/62)
يحمل من أبي يوسف على طريق المطايبة إلا أن يكون يعرف الحكم بمثل هذا وهو كما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه سئل عن بنات العشر من النساء فقال لهو اللاهين فسئل عن بنات العشرين فقال لذة المعانقين فسئل عن بنات الثلاثين فقال تنموا وتلين وسئل عن بنات الأربعين فقال ذات مال وبنين فسئل عن بنات الخمسين فقال عجوز في الغابرين وسئل عن بنات الستين فقال لعنة اللاعنين وكان محمد بن سلمة يفتى في المفقود بقول أبي يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فإنه عاش مائة سنة وسبع سنين فالأليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشيء لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا نص فيه ولكن نقول إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره.
وذكر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمهما الله قال لقيت المفقود نفسه فحدثني حديثه قال أكلت حريرا في أهلي ثم خرجت فأخذني نفر من الجن فمكثت فيهم ثم بدا لهم في عتقي فأعتقوني ثم أتوا بي قريبا من المدينة فقالوا أتعرف النخل فقلت نعم فخلوا عني فجئت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أبان امرأتي بعد أربع سنين وحاضت وانقضت(11/63)
ص -32- ... عدتها وتزوجت فخيرني عمر رضي الله عنه بين أن يردها علي وبين المهر وأهل الحديث رحمهم الله يرون في هذا الحديث أنه هم بتأديبه حين رآه وجعل يقول يغيب أحدكم عن زوجته هذه المدة الطويلة ولا يبعث بخبره فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين وذكر له قصته وفي هذا الحديث دليل لمذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله في أن الجن قد يتسلطون على بني آدم وأهل الزيغ ينكرون ذلك على اختلاف بينهم فمنهم من يقول المستنكر دخولهم في الآدمي لأن اجتماع الروحين في شخص لا يتحقق وقد يتصور تسلطهم على الآدمي من غير أن يدخلوا فيه ومنهم من قال هم أجسام لطيفة فلا يتصور أن يحملوا جسما كثيفا من موضع إلى موضع ولكنا نقول نأخذ بما وردت به الآثار قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وقال صلى الله عليه وسلم "إنه يدخل في رأس الإنسان فيكون على قافية رأسه" حديث فيه طول وهذا الحديث دليل لنا أيضا فنتبع الآثار ولا نشتغل بكيفية ذلك وكأن عمر رضي الله عنه إنما رجع عن قوله في امرأة المفقود لما تبين من حال هذا الرجل وأما تخييره إياه بين أن يردها عليه وبين المهر فهو بناء على مذهب عمر رضي الله عنه في المرأة إذا نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ثم أتى الزوج الأول حيا أنه يخير بين أن ترد عليه وبين المهر وقد صح رجوعه عنه إلى قول علي رضي الله عنه فإنه كان يقول ترد إلى زوجها الأول ويفرق بينها وبين الآخر ولها المهر بما استحل من فرجها ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها من الآخر وبهذا كان يأخذ إبراهيم رحمه الله فيقول قول علي رضي الله عنه أحب إلي من قول عمر رضي الله عنه وبه نأخذ أيضا لأنه تبين أنها تزوجت وهي منكوحة ومنكوحة الغير ليست من المحللات بل هي من المحرمات في حق سائر الناس كما قال الله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء 24] فكيف يستقيم تركها مع الثاني؟ وإذا اختار الأول المهر ولكن يكون النكاح(11/64)
منعقدا بينهما فكيف يستقيم دفع المهر إلى الأول وهو بدل بضعها فيكون مملوكا لها دون زوجها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فعرفنا أن الصحيح أنها زوجة الأول ولكن لا يقربها لكونها معتدة لغيره كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة وذكر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله أن عمر رضي الله عنه رجع عن ثلاث قضيات إلى قول علي رضي الله عنه عن امرأة أبي كنف والمفقود زوجها والمرأة التي تزوجت في عدتها أما حكم المفقود والمعتدة فقد بينا وأما حديث أبي كنف فهو ما رواه إبراهيم أن أبا كنف طلق امرأته فأعلمها وراجعها قبل انقضاء العدة ولم يعلمها فجاء وقد تزوجت فأتى عمر رضي الله عنه فقص عليه القصة فقال له إن وجدتها لم يدخل بها فأنت أحق بها وإن كان قد دخل بها فليس لك عليها سبيل فقدم وقد وضعت القصة على رأسها فقال لهم إن لي إليها حاجة فخلوا بيني وبينها فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الأمير بكتاب عمر رضي الله عنه فعرفوا أنه جاء بأمر بين وهذا كان مذهب عمر رضي الله عنه في الابتداء أنه إذا راجعها ولم يعلمها لا يثبت حكم الرجعة في حقها ما لم تعلم حتى إذا اعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للأول عليها سبيل لدفع الضرر عنها(11/65)
ص -33- ... ثم رجع إلى قول علي رضي الله عنه أن مراجعته إياها صحيح بغير علمها وهي منكوحة سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل لأن الزوج يستبد بالرجعة كما يستبد بالطلاق فكما يصح إيقاع الطلاق عليها وإن لم تعلم به فكذلك رجعتها لقوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] وإنما يكون أحق إذا كان يستبد به والرجعة إمساك بالنص كما قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] والمالك ينفرد بإمساك ملكه من غير أن يحتاج إلى علم غيره.
قال: وإذا فقد الرجل فارتفع ورثته إلى القاضي وأقروا أنه فقد وسألوا قسمة ماله فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على موته لما بينا أنه حي في حق نفسه ومال الحي لا يقسم بين ورثته فما لم يثبت موته بالبينة عند القاضي لا يشتغل بقسمة ماله.
فإن قيل: كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب؟
قلنا: بأن يجعل من في يده المال خصما عنه أو ينصب عنه قيما في هذه الولاية وإذا قامت البينة على من ينصبه القاضي فيما قضى بموته فإن قيل: كان ينبغي أن يجعله ميتا حكما لانقطاع خبره فيقسم ماله وإن لم تقم البينة على موته كالمرتد اللاحق بدار الحرب.
قلنا: هناك ظهر دليل الحكم بموته وهو أنه صار حربيا وأهل الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولم يظهر هنا دليل موجب لموته حقيقة ولا حكما ولأن هناك لو ظفر به الإمام موته حقيقة بأن يقتله فإذا عجز عن ذلك بدخوله دار الحرب موته حكما فقسم ماله ولا يتحقق ذلك المعنى هنا.(11/66)
قال: وتفسير المفقود الرجل يخرج في سفر ولا يعرف موته ولا حياته ولا موضعه ولا يأسره العدو ولا يستبين موته ولا قتله فهذا مفقود لا يقضي القاضي في شيء من أمره حتى تقوم البينة أنه مات أو قتل ومن كان من ورثة المفقود غنيا فلا نفقة له في ماله ما خلا الزوجة لأن حياته معلوم ولا يستحق أحد من الأغنياء النفقة في مال الحي سوى الزوجة لأن استحقاق الزوجة بالعقد فلا يختلف باليسار والعسرة أو بكونها محبوسة بحقه وذلك موجود في حق المفقود فأما استحقاق من سواها فباعتبار الحاجة وذلك ينعدم بغنى المستحق فإن كانت له غلة جعل القاضي فيها من يحفظها لأنه ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه والمفقود عاجز عن النظر لنفسه فينصب القاضي في غلاته من يجمعها ويحفظها عليه وما كان يخاف عليه الفساد من متاعه فإن القاضي يبيعه لأن حفظ عينه عليه متعذر فيصير إلى حفظ ماليته عليه وذلك يكون بالبيع وينفق على زوجته وأولاده الصغار أو الكبار من الإناث أو الزمنى من الذكور من ماله بالمعروف وهذا إذا كان السبب معلوما عنده لأنه لو كان حاضرا قضى بالنفقة لهم عليه بعلمه فإن كان غائبا يقضي بذلك لهم في ماله أيضا وقيل هذا لا يكون منه قضاء على الغائب على الحقيقة بل يكون تمكينا للمستحق من أخذ حقه ولو تمكنوا من ذلك كان لهم أن يأخذوه فيعينهم القاضي على ذلك والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان رضي الله عنه "خذي(11/67)
ص -34- ... من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف" وقيل: بل هو قضاء منه وللقاضي ولاية القضاء على الغائب بعلمه كما إذا أقر بين يديه ثم غاب.
ثم هذا نظر منه للغائب لأن ملك النكاح حقه في زوجته ولا يبقى بدون النفقة فكان له أن ينفق عليها من ماله حفظا لملكه عليه وكذلك ولده جزء منه فينفق عليه من ماله حفظا لنسله وللقاضي ولاية في ماله فيما يرجع إلى الحفظ والنظر وإن استوثق منهم بكفيل فحسن وإن لم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا إلا أن الأحوط أن يأخذ الكفيل لجواز أن يكون فارقها قبل أن يفقد أو كان عجل لها النفقة لمدة فكان تمام النظر في الاستيثاق بالكفيل وهذا قولهم جميعا لأن هذه كفالة للمفقود وهو معلوم ولكن لا يجب على القاضي أخذ الكفيل من غير خصم يطلب ذلك وليس هنا خصم طالب فلهذا يسعه أن لا يأخذ كفيلا ولم ينفق من ماله على غير من سمينا من ذي الرحم المحرم لأن وجوب النفقة عليه لهم لا يكون إلا بعد قضاء القاضي والقاضي لا يقضي على الغائب ولأن ولايته فيما يرجع إلى النظر للمفقود وذلك لا يوجد في حق ذي الرحم المحرم ولا يبيع شيئا مما لا يخاف عليه الفساد من ماله في نفقة ولا غيرها لأن ولاية البيع للنظر له وحفظ العين فيما يتأتى حفظه نظر له فلا يبيع شيئا من ذلك وهو في الإنفاق على من سميناهم معين لهم على أخذ حقهم وإنما يثبت لهم حق الأخذ إذا ظفروا بجنس حقهم ولا يكون لهم أن يبيعوا عروضا ولا غيرها فكذلك القاضي لا يبيع شيئا من ذلك فإن لم يكن له مال إلا دار واحتاج زوجته وولده إلى النفقة لم يبع لهم الدار وكذلك لو كان له خادم لأن هذا مما لا يخاف عليه الفساد من ملكه فلا يكون بيعه محض الحفظ عليه فلهذا لا يبيعه بخلاف ما يخاف فساده وهذا بخلاف الوصي في حق الوارث الكبير الغائب فإن له أن يبيع العروض لأن ولايته ثابتة فيما يرجع إلى حق الموصي وبيع العروض فيه معنى حقه وربما يكون حفظ الثمن للاتصال إلى ورثته أيسر من حفظ(11/68)
العين وهنا لا ولاية للقاضي على المفقود إلا في الحفظ فقط وحفظ عين ملكه عند الإمكان أنفع له فلهذا لا يبيع شيئا من العروض وقال أبو حنيفة رحمه الله إن كان له أب محتاج فلابنه أن يبيع شيئا من ماله من العروض وينفق على نفسه وليس له أن يبيع العقار وهو استحسان وفي القياس له أن يبيع العروض وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله وذكر الكرخي أن محمدا ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله في الأمالي وقال هو حسن.
وجه القياس أنه لا ولاية للأب في مال ولده الكبير ونفوذ البيع يعتمد الولاية ألا ترى أنه لا يبيع عقاره لهذا ولا يبيع عروضه إذا كان حاضرا والحاضر والغائب في حكم الولاية للأب عليه سواء ألا ترى أنه لما ثبت له ولاية التملك بالاستيلاد لم يفترق الحال بين حضور الولد وغيبته ووجه الاستحسان أن ولاية الأب وإن زالت بالبلوغ فقد بقي أثرها حتى يصح منه استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك وحاجته إلى النفقة لبقاء نفسه حاجته إلى الاستيلاد لبقاء نسله ولهذا يتملك هناك بضمان القيمة وينفق على نفسه من ماله بغير ضمان وإذا ثبت بقاء أثر(11/69)
ص -35- ... ولايته كان حاله كحال الوصي في حق الوارث الكبير الغائب وهناك ثبت له حق بيع العروض دون بيع العقار لأن بيع العروض من الحفظ وبيع العقار ليس من الحفظ فإن العقارات محصنة بنفسها ولهذا لا يبيع حال حضوره لأن بيعه في هذه الحالة ليس من الحفظ فإن الابن حافظ لماله كما لا يبيع الوصي عروض الولد الكبير الحاضر ولا يبعد زوال ولاية الأب بالبلوغ مع بقاء أثره كما لو مات وأوصى إلى رجل زالت ولايته بالموت وبقي أثره ببقاء الوصي فإن كان للمفقود دنانير أو دراهم أو ذهب أو فضة تبرا أنفق عليهم من ذلك وكذلك كل ما كان يخاف عليه الفساد من غلته ومتاعه فإن القاضي يبيع ذلك وينفق عليهم منه وإن باعته زوجته أو الولد فبيعهما باطل لأن البيع من الحفظ وليس من استيفاء النفقة في شيء وإليهما حق استيفاء النفقة دون الحفظ وأما القاضي فله حق الحفظ في مال المفقود وبيع ما يخاف عليه الفساد من الحفظ وبعد البيع الثمن من جنس حقهم فينفق عليهم منه وكذلك الوديعة تكون له عند الرجل فإنه ينفق منها عليهم إذا كان الرجل مقرى بالوديعة والزوجية أو يكون ذلك معلوما للقاضي عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا ينفق منها عليهم لأن إقرار المودع ليس بحجة على الغيب وهو ليس بخصم عن الغائب ولا يقضي على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر ولكنا نقول المودع مقر بأن في يده ملك الغائب وأن للزوجة والولد حق الإنفاق منه وإقرار الإنسان فيما في يده معتبر فينتصب هو خصما باعتبار يده فيتعدى القضاء منه إلى المفقود. وكذلك الدين يكون للمفقود على رجل وهو مقر به فهو الوديعة سواء والكلام في الدين أظهر لأن إقرار المديون يلاقي ملك نفسه فإن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها والجواب في الفصلين جميعا استحسان إذا كان مقرى بالنسب والمال فإن كان جاحدا لأحدهما لم تسمع البينة عليه من طالب النفقة لأنه إذا كان جاحدا للمال فطالب النفقة لا يثبت الملك في المال لنفسه إنما يثبته(11/70)
للمفقود حتى إذا ثبت ذلك ترتب عليه وهو ليس بخصم عن المفقود وإن كان منكرا للزوجية فإنما يثبت النكاح على المفقود المودع والمديون ليس بخصم عنه في إثبات النكاح عليه وإن كانت الزوجية والمالية معلومين للقاضي فعلم القاضي بذلك أقوى من إقرار المودع والمديون وإن أعطاهما المديون بغير أمر القاضي لم يبرأ عن الضمان وكذلك إن أعطاهما المودع من الوديعة فهو ضامن لأنه دفع مال الغير إلى الغير بغير إذنه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي فإن أمر القاضي في حق المفقود معتبر فيما يرجع إلى حفظ ملكه وقد بينا أن الإنفاق على الزوجة والولد من حفظ ملكه وحقه عليه فيكون أمر القاضي فيه كأمر المفقود وإن طلبت زوجته وولده من القاضي أن ينصب وكيلا يتقاضى دينه ويجمع غلاته ويؤاجر رقيقه فعلى القاضي ذلك نظرا منه للحاضر والغائب جميعا للغائب بحفظ ماله وجمعه وللحاضر بوصوله إلى حقه وهي النفقة وكان للوكيل أن يتقاضى ويقبض ويخاصم من يجحد حقا من عقد يجري بينه وبين الوكيل لأن ما وجب بعقده فهو أحق بقبضه ألا ترى أنه لو ظهر المفقود كان حق القبض في هذا المال للوكيل الذي باشر سببه فأما كل دين كان المفقود تولاه أو نصيب من(11/71)
ص -36- ... عقار أو عرض في يدي رجل أو حق من الحقوق فإن الوكيل لا يخاصم فيه من جحده لأنه ليس بخصم عن المفقود إنما هو حافظ لماله فقط وحفظه يتحقق فيما وصلت يده إليه فأما الخصومة وإقامة البينة فيما لم يكن في يده قط ليس من الحفظ فيكون الوكيل كأجنبي آخر إلا أن يكون القاضي قد ولاه ذلك ورآه وأنفذ الخصومة بينهم فيه فيجوز حينئذ لأنه مما اختلف فيه القضاة يعني بهذا القضاء على الغائب بالبينة فإنه مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فينفذ قضاء القاضي فيه وكذلك إن مات غريم من غرمائه وقد أقر له بدينه في وصيته عزلت حق المفقود من ذلك وجعلته على يدي وكيله لأن ذلك من الحفظ وإن لم يكن أوصى به وعليه ديون لغيره لم يكن لورثة المفقود ووكيله في ذلك خصومة إلا أن يراه القاضي فيقضي به فحينئذ ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه.
فإن قيل: المجتهد فيه نفس القضاء فينبغي أن يتوقف على إمضاء قاض آخر كما لو كان القاضي محدودا في قذف.(11/72)
قلنا: لا كذلك بل المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر أم لا فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود في قذف وإن ادعى إنسان على المفقود حقا من دين أو وديعة أو شركة في عقار أو رقيق أو طلاق أو عتاق أو نكاح أو رد بعيب أو مطالب باستحقاق لم يلتفت إلى دعواه ولم تقبل منه البينة ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من ورثته خصما له أما الوكيل فلأنه نصب للحفظ فقط وأما الورثة فلأنهم يخلفونه بعد موته ولم يظهر موته فإن رأى القاضي سماع البينة وحكم بذلك نفذ حكمه لما بينا أنه أمضى فصلا مختلفا فيه باجتهاده وإذا رجع المفقود حيا لم يرجع في شيء مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله وغلته ودينه لأن القاضي لما ثبت له ولاية الإنفاق كان فعله كفعل المفقود بنفسه وكذلك ما أنفقوا هم على أنفسهم من دنانير أو دراهم في وقت حاجتهم إلى النفقة لما بينا أنهم إذا ظفروا بجنس حقهم وسعهم أخذه بالمعروف فلا يضمنون شيئا من ذلك وكذلك إن كان في ماله طعام فأكلوه لأن ذلك من جنس حقهم وكذلك إن كان في ماله ثياب فلبسوها للكسوة لأن ذلك من جنس حقهم فأما ما سوى ذلك من العروض إن باعوا شيئا منه كانوا ضامنين له ألا ترى أن القاضي لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق عليهم؟ فكذلك لا يملكون بيعه وإنما لا يبيع القاضي مالا يخاف عليه الفساد في النفقة لأن في بيع ذلك في النفقة حجرا على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وإن كانا يريان الحجر على من لزمه حق فذلك عند ظهور تعنته وامتناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لأن ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه نوع حجر عليه ولم يذكر في الكتاب أنه إذا لم يكن للمفقود مال وطلبت زوجته من القاضي أن يقضي لها بالنفقة على زوجها هل يجيبها إلى ذلك وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول(11/73)
أولا يجيبها إلى ذلك وهو قول إبراهيم النخعي رحمه الله ثم(11/74)
ص -37- ... رجع إلي قول شريح وقال لا يجيبها إلى ذلك فالحجة لقوله الأول حديث هند كما روينا ووجه قوله الآخر أن نفقة الزوجة لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجه القضاء على الغائب فيلزمه بقضائه شيئا من غير خصم عنه وهذا إذا كان النكاح معلوما له وإن أرادت إثبات النكاح بالبينة لم يسمع القاضي بينتها عندنا لأن البينة لا تكون حجة إلا على خصم جاحد فما لم يحضر هو أو خصم عنه لا يسمع القاضي بينتها عليه بالنكاح وعلى قول زفر تسمع البينة ويأمرها بأن تستدين وتنفق على نفسها فإذا حضر الزوج كلفها إعادة البينة عليه فإن أعادت قضى على الزوج بما أنفقت في المدة الماضية وإن لم تعد البينة على الزوج لم يقض عليه بشيء وهذا منه نوع احتياط في حق الحاضر والغائب جميعاً.(11/75)
وإذا أجر المفقود شيئا قبل أن يفقد لم تنتقض الإجارة بعد ما يصير مفقودا لأنه حي في ابقاء ما كان علي ما كان ولا يبرأ المستأجر بدفع الأجرة إلى زوجته وولده إلا أن يأمره القاضي بذلك كما في سائر الديون وإذا فقد الرجل بصفين أو بالجمل ثم اختصم ورثته في ماله اليوم فإن هذا قد مات ألا ترى أنه لم يبق أحد أدرك ذلك الزمان فإذا بلغ المفقود هذه المدة فهو ميت يقسم ماله بين ورثته والجمل حرب كان بين علي وعائشة وطلحة والزبير بالبصرة رضوان الله عليهم أجمعين وصفين كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وبين أهل الشام ومن ذلك الوقت إلى وقت تصنيف هذا الكتاب كان أكثر من مائة وعشرين سنة والرجل الذي فقد في ذلك الوقت كان ابن عشرين سنة أو أكثر لأنه خرج محاربا ولا شك أنه لا يبقى في مثل هذه المدة الطويلة ظاهرا فإن كان له ابن مات زمان خالد بن عبد الله وترك أخا لأمه وللمفقود عصبة فإني أنظر إلى سن المفقود يوم مات الابن فإن كان مثله يعيش إلى ذلك الوقت لم أورث الابن منه شيئا لبقائه حيا بطريق الظاهر واستصحاب الحال ولم أورثه من أبيه أيضا لأن بقاء الوارث بعد موت المورث شرط لوراثته عنه فإن الوراثة خلافة والحي يخلف الميت فأما الميت فلا يخلف الميت وما كان شرطا فما لم يثبت بدليل موجب له لا يثبت الحكم واستصحاب الحال دليل يبقى لا موجب فلهذا لا يرث المفقود من أبيه ثم يكون ميراث المفقود لعصبته الحي بعد ما يمضي من المدة ما لا يعيش مثله إليه وإن كان مثله لا يعيش إلى مثل تلك المدة حين مات ابنه جعلت الميراث لابنه لأن حياته بعد موت أبيه معلوم هنا بدليل شرعي فإذا صار مال المفقود ميراثا له كان ذلك موروثا عن ابنه بعد موته كسائر أمواله لأخيه لأمه منه السدس والباقي لعصبته وإن كان مات بعض من يرثه المفقود قبل هذا فنصيبه من الميراث يوقف إلي أن يتبين حاله لأنه غير محكوم بموته ولكنه يشتبه الحال بمنزلة الجنين في البطن فيوقف نصيبه فإن ظهر(11/76)
حيا كان ذلك مستحقا له وإن لم يظهر حاله فذلك مردود إلى ورثة صاحب المال على سهامهم بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين ميتا وهذا لأنه لم يظهر شرط الاستحقاق له فيكون موروثا عن الميت كسائر ورثته يوم مات وإذا فقد المكاتب وله مال وولد ولدوا في المكاتبة وقف ماله حتى يظهر حاله لأن ولاية أداء الكتابة من ماله إنما تكون بعد موته ليحكم بحريته مستندا إلى حال حياته ولم يظهر موته وكذلك(11/77)
ص -38- ... استسعاء أولاده في بدل الكتابة بطريق الخلافة عنه بعد موته ولم يظهر لأنه لا يستسعى الولد إذا كان له مال بعد موته حقيقة فكيف يستسعى ولده بعد ما يصير مفقودا وله مال وينفق على ولده الصغار وبناته الذين ولدوا في المكاتبة وعلى امرأته من ماله لأن هؤلاء كانوا يستحقون عليه النفقة في كسبه أن لو كان حاضرا فكذلك ينفق عليهم من ماله بعد ما يصير مفقودا كولد الحر وزوجته وهذا لأن استحقاق النفقة للزوجة بعقد النكاح والحر والمكاتب فيه سواء وأولاده الذين ولدوا في المكاتبة هو أحق بكسبهم فتلزمه نفقتهم لأن الغرم مقابل بالغنم فإن مات ابن له ولد في مكاتبته وترك مالا كان ماله موقوفا لأنه إن كان المفقود حيا حين اكتسب هذا الولد فكسبه للمفقود وإن كان ميتا فكسبه لورثته لأنه يحكم بحريته إذا أديت كتابة أبيه من ماله مستندا إلى حياة أبيه فلجهالة المستحق بقي موقوفا وإن كان ماله في يد أخيه لم أخرجه من يده ولم أتعرض له لأنه لا يدري لمن هذا المال وما لم يظهر مستحق للمال فليس للقاضي أن يتعرض لذي اليد بإزالة يده ولو أقر ولد المكاتب الذين ولدوا في المكاتبة وهم كبار أن أباهم قد مات وماله في أيديهم وأقر المولى بذلك فأدوا الكتابة وقسموا المال ثم اختلفوا وجحد بعضهم بعضا وارتفعوا إلى القاضي نفذ القاضي ذلك عليهم لتقدم الإقرار منهم بذلك وقسمتهم عن تراض منهم ولأن الذي يجحد بعد ذلك مناقض لكلامه والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض وكذلك لو لم يقتسموا حتى ارتفعوا إليه وأقروا به عنده جاز إقرارهم عليه وقسم المال بينهم بعد أداء الكتابة لأن الحق لا يعدوهم فالثابت بإقرارهم في حقهم كالثابت بالبينة وكذلك لو أقروا بدين عليه بدأت به قبل المكاتبة كما لو ثبت موته بالبينة وهذا لأن الدين أقوى من المكاتبة حتى إذا عجز نفسه سقطت المكاتبة عنه دون الدين وعند اجتماع الحقوق في المال يبدأ بالأقوى فالأقوى عرف ذلك بقضية العقول وشواهد الأصول(11/78)
وكذلك الحر إذا أقر ورثته أنه قد مات فإنه يقضي دينه ويقسم الميراث بينهم إذا كان في أيديهم لأن إقرار الإنسان فيما في يده معتبر ما لم يظهر له خصم ينازعه فيه وكذلك إذا كان المال في يد غيرهم فصدقهم بذلك وإن جحد موته لم أنزعه من يده إلا ببينة تقوم على موته لأنهم يدعون استحقاق اليد في هذا المال على ذي اليد وقولهم ليس بحجة عليه في استحقاق يده فما لم تقم البينة على موته لا يخرج القاضي المال من يد ذي اليد. ولو أن المولى أعتق المكاتب المفقود ثم مات ابن المكاتب وهو حر وله أخوة أحرار لم يقض لهم بشيء من ذلك حتى يعلم موت المكاتب قبله لأن المفقود إن كان حيا فقد عتق بإعتاق المولى إياه والميراث له دون الأخوة فشرط توريث الأخوة عدم أب هو وارث وبالظاهر لا يثبت هذا الشرط فلهذا لا يقضي لهم بشيء حتى يعلم موت الأب قبله وكذلك إن كان مكاتب المكاتب عبدا لأن إعتاق المولى عبده المفقود كإعتاقه المكاتب المفقود ولا ينفق على ولده الصغار من هذا المال شيئا لأنه لا يدري لمن هذا المال فإنه كما لم يثبت الاستحقاق فيه للأخوة لم يثبت للأب المفقود لأنه لا يرث من غيره ما لم يعلم حياته حقيقة وقت موت مورثه ولو ادعى مملوك المفقود العتق وأقام بينته على ذلك لم يقبل منه لانعدام خصم حاضر.(11/79)
ص -39- ... قال: ولم أدع أولاده يبيعونه لأنه قبل هذه البينة ما كان لهم أن يبيعوه فبعدها أولى ومراده بعد ما كانوا يقرون بموته لأن إقرارهم ليس بحجة على هذا العبد ولأنه إن كان ميتا فالولد خصم في البينة التي أقامها المملوك على العتق وكذلك لو ادعت امرأته الطلاق أو ادعت امرأة أنه تزوجها لم أقبل بينتها على ذلك لانعدام الخصم ولو أوصى رجل للمفقود بوصية لم أقض بها له ولم أبطلها ولم أنفق على ولده منها لأن الوصية أخت الميراث وشرط لاستحقاق الموصى له بقاؤه حيا بعد موت الموصي كالميراث وقد بينا أنه يوقف نصيبه من الميراث حتى يتبين حاله ولا ينفق على ولده منه شيء فكذلك الوصية.(11/80)
رجل: مات وترك ابنتين وابن ابن وبنت ابن وترك ابنا مفقودا وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغي له أن يحول المال من موضعه ولا يوقف شيئا منه للمفقود" ومراده بهذا اللفظ أنه لا يخرج شيئا من أيديهما لأن القاضي لا يتعرض لإخراج المال من يد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم ولا خصم هنا فإن أولاد المفقود لا يدعون لأنفسهم شيئا ولا يكونون خصما عن المفقود لأنه لا يدري أن المفقود حي فيرث أو ميت فلا يرث فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه فإنهم يستحقون النفقة في ملكه واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان علي ما كان وكذلك إن قالت الابنتان قد مات أخونا وقال ولد الابن هو مفقود لأن من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال وهم قد ردوا إقرارهم بقولهم أبونا مفقود فيسقط اعتبار ذلك الإقرار ولو كان مال الميت في يدي ولد الابن المفقود وطلبت الابنتان ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود فإنه يعطي للابنتين النصف لأنا تيقنا باستحقاق النصف لهما فإن المفقود إن كان حيا فالميراث بينهما وبين أخيهما للذكر مثل حظ الانثيين فلهما النصف وإن كان ميتا فلهما الثلثان والباقي لولد الابن فيدفع إليهما الأقل وهو النصف ويترك الباقي في يد ولد الابن من غير أن يقضي به لهما ولا لأبيهما لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي ولو كان المال في يد أجنبي فقالت الابنتان مات أخونا قبل أبينا وقال ولد الابن هو مفقود فإن أقر الذي في يده المال بالمال للميت وبأن الابن مفقود فإنه يعطي للابنتين النصف أقل النصيبين لهما والباقي موقوف على يده حتى يظهر خصمه ومستحقه بظهور حال المفقود وإن قال الذي في يده المال قد مات المفقود قبل أبيه فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين لأن إقرار ذي اليد فيما في يده معتبر وقد أقر بأن ثلثي ما في يده(11/81)
للابنتين فيجبر علي تسليم ذلك إليهما ولا يمتنع صحة إقراره يقول أولاد الابن أبونا مفقود لأنهم لأنفسهم بهذا القول لا يدعون شيئا ثم يوقف الثلث الباقي على يد ذي اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه ولو جحد الذي في يديه المال أن يكون المال للميت فأقامت الابنتان البينة أن أباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولأخيهما المفقود فإن كان حيا فهو الوارث معهما وإن كان ميتا فولده الوارث معهما ولا يعلم له غير هؤلاء فإنه يدفع إلى الابنتين النصف وهذا لأنهما بهذه(11/82)
ص -40- ... البينة يثبتان الملك لأبيهما في المال والأب ميت وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في إثبات الملك له بالبينة ثم يدفع إليهما القدر المتيقن بأنه مستحق لهما وهو النصف والباقي يخرج من يد ذي اليد فيوضع في يد عدل حتى يظهر مستحقه لأن ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده فلا يؤتمن بعد ذلك وإن كان معروفا بالعدالة لأن العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم أنه ملك بخلاف ما سبق فذو اليد كان هناك مقرى بأن المال للميت وقد انتفت الجناية منه بهذا الإقرار فكان ترك الباقي في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة فإن ادعى ولد المفقود أنه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل أبيه لأنهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد ومجرد قولهم لا يكفي لذلك ولأن سبب الاستحقاق لهم غير معلوم فإن أباهم إن مات قبل موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد وإن مات بعد موت الجد فهم يستحقون النصف ميراثا من أبيهم ولا يجوز القضاء لهم بشيء قبل ظهور سبب الاستحقاق فلا بد أن يقيموا البينة على موته قبل أبيه أو بعده ولا ينفق عليهم من ذلك المال شيء وإن كانوا محتاجين لأنه لا يدرى لمن هذا المال ونفقتهم عند الحاجة في مال أبيهم والملك لأبيهم في هذا المال لا يثبت ما لم تعلم حياته بعد موت الجد فإن كان المال أرضا في أيدي الابنتين وولد الابن فأقروا جميعا أن الابن قد مات قبل أبيه واقتسموا الأرض بينهم على ذلك ثم ادعوا أنه مفقود فإن القاضي يمضي القسمة عليهم لأنها تمت بتراضيهم وقولهم فيما في أيديهم مقبول فكانت القسمة ماضية ولا يقبل قولهم أنه مفقود لأنهم مناقضون في ذلك والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض وكذلك لو كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ولم يكن في يده شيء من هذه الأرض ثم قدم فقال والدي مفقود وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك لأنه لا يدعي لنفسه بمقابلته وإنما يدعي الملك للمفقود وهو مقر أنه ليس بوكيل(11/83)
له ولا وارث لأنه حي ونقض القسمة بقول من لا يدعي لنفسه شيئا لا يجوز بخلاف ما لو كان بعض الأرض في يده لأنه مدع لنفسه حقا وهو إبقاء يده فيما في يده وقسمتهم قبل حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه وكذلك لو كان مكان الغائب صغير فأدرك وإن ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضي بينهم قسمة مستقبلة بإقرارهم على أنفسهم لأنه يدعي لنفسه بعض الملك هنا ويدعي بطلان قسمتهم لأن تراضيهم على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير وهم مصدقون له فيما يدعي فلهذا ينقض القسمة بخلاف ما لو كان القاضي هو الذي قسمه بين الحضور وعزل نصيب الغائب والصغيرة فإنه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال شيء لأن للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير وليس للورثة تلك الولاية في حق الغائب والصغير ولو ماتت ابنة هذا الابن المفقود فإن كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض له ولم أقف منه شيئا للمفقود لأنه لا يدرى أحي هو فيكون وارثا أو ميت فلا يكون وارثا وقد بينا أنه لا يتعرض ليد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم وإن كان ميراثها في يد أجنبي لم أدفع إلى(11/84)
ص -41- ... أخيها منه شيئا لأن شرط توريث الأخ أن يكون الأب ميتا فما لم يصر هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الأخ من الميراث شيء وإن كان ميراثها في يد أخيها وأختها وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الأب مفقود لم أقسم بينهم لأن القسمة تبنى على ثبوت استحقاقهم بالميراث ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الأب المفقود قبل موت الابنة ولو كان للمفقود امرأة فماتت وميراثها في يد ولدها لم أقسم للمفقود من ذلك نصيبا لأن حياته بعد موتها غير معلوم ولم أقف له شيئا لأن التعرض ليد ذي اليد لا يجوز إلا بمحضر من الخصم وإن أراد ولدها قسمة ميراثها وهو في أيديهم لم أقسمه بينهم حتى تقوم البينة على موت المفقود ثم يعزل من ذلك مثل نصيب المفقود فيوقف حتى يعلم أنه مات قبلها أو بعدها ويقسم ما بقي بينهم أما قبل أن تقوم البينة على موته فالقاضي لا يشتغل بالقسمة لأن فيها قضاء على المفقود وهو حي في حق نفسه فلا يوجه القاضي القضاء عليه بغير محضر من الخصم وأما بعد موته فقد ثبت للقاضي ولاية توجه القضاء عليه لما ظهر موته فيعزل نصيبه من القسمة ويجعله موقوفا حتى يتبين مستحقه بظهور موته قبلها أو بعدها ولو كان في يد غيرهم قضيت لهم بثلاثة أرباعه لأنا تيقنا باستحقاقهم لهذا المقدار فيسلم إليهم ويوقف الربع على يد ذي اليد حتى يظهر حال المفقود بخلاف ما سبق فإن المال هناك في أيديهم ففي القسمة تمييز نصيب المفقود عن نصيبهم وذلك قضاء على المفقود وهنا المال ليس في أيديهم فقضاؤه لهم بثلاثة أرباعه لا يمس المفقود وهو متيقن استحقاقه لهم وإذا فقد المرتد ولم يعلم ألحق بدار الحرب أم لا فإنه يوقف ميراثه كما يوقف ميراث المسلم لأن اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت في حق المسلم فكما يوقف ميراث المفقود المسلم حتى يتبين موته فكذلك يوقف ميراث المفقود المرتد حتى يتبين لحوقه بدار الحرب وإن مات أحد من ولده قسم ميراثه بين ورثته ولم يحبس للمفقود شيء(11/85)
لأنه محروم عن الميراث بكونه مرتدا فإن المرتد لا يرث أحدا وإسلامه بعد الردة موهوم والموهوم لا يقاتل المعلوم ألا ترى أن الأب المفقود لو كان عبدا لم يحبس له شيء من ميراث ولده لأن الرق الذي يحرمه معلوم والعتق بعد ذلك موهوم وكذلك إن كان ميراثه في يد أجنبي وكذلك المرأة المرتدة فإنها لا ترث أحدا وكذلك الذمي يفقد وله بنون مسلمون فمات أحدهم لم يوقف للأب شيء لأن سبب حرمانه معلوم فإن الكافر لا يرث المسلم وكذلك رجل مسلم فقد وله بنون كفار فمات أحدهم قسمت ميراثه بين أخوته ولم أوقف على أبيه شيئا لأن المسلم لا يرث الكافر فسبب حرمانه متيقن والله أعلم.(11/86)
ص -42- ... كتاب الغصب
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة السرخسي إملاء اعلم بأن الاغتصاب أخذ مال الغير بما هو عدوان من الأسباب واللفظ مستعمل لغة في كل باب مالا كان المأخوذ أو غير مال. يقال غصبت زوجة فلان وولده ولكن في الشرع تمام حكم الغصب يختص بكون المأخوذ مالا متقوما ثم هو فعل محرم لأنه عدوان وظلم وقد تأكدت حرمته في الشرع بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء:10] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه" وقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه" وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا".(11/87)
فثبت أن الفعل عدوان محرم في المال كهو في النفس ولهذا يتعلق به المأثم في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: "من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين" إلا أن المأثم عند قصد الفاعل مع العلم به فأما إذا كان مخطئا بأن ظن المأخوذ ماله أو كان جاهلا بأن اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه لم يكن آثما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" والمراد المأثم فأما حكمه في الدنيا فثابت سواء كان آثما فيه أو غير آثم لأن ثبوت ذلك لحق صاحبه وحقه مرعي وأن الآخذ معذور شرعا لجهله وعدم قصده والحكم الأصلي الثابت بالغصب وجوب رد العين على المالك بقوله صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا فإن أخذه فليرده عليه" وقال صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله فهو أحق به" ومن ضرورة كونه أحق بالعين وجوب الرد على الآخذ والمعنى فيه أنه مفوت عليه يده بالأخذ واليد لصاحب المال في ماله مقصود به يتوصل إلى التصرف والانتفاع ويحصل ثمرات الملك فعلى المفوت بطريق العدوان نسخ فعله ليندفع به الضرر والخسران عن صاحبه وأتم وجوهه رد العين إليه ففيه إعادة العين إلى يده كما كان فهو الواجب الأصلي لا يصار إلى غيره إلا عند العجز عنه فإن عجز عن ذلك بهلاكه في يده بفعله أو بغير فعله فعليه ضمان المثل جبرانا لما فوت على صاحبه لأن تفويت اليد المقصودة كتفويت الملك عليه بالاستهلاك(11/88)
ص -43- ... ثم الملك نوعان كامل وقاصر فالكامل هو المثل صورة ومعنى والقاصر هو المثل معنى أي في صفة المالية فيكون الواجب عليه هو المثل التام إلا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل القاصر خلفا عن المثل التام في كونه واجبا عليه وبيان هذا أن المغصوب إذا كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون فعليه المثل عندنا وقال نفاة القياس عليه رد القيمة لأن حق المغصوب منه في العين والمالية وقد تعذر إيصال العين إليه فيجب إيصال المال إليه ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ومالية الشيء عبارة عن قيمته ولكنا نقول الواجب هو المثل قال الله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وتسمية الفعل الثاني اعتداء بطريق المقابلة مجازا كما قال الله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] والمجازاة لا تكون سيئة وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال أمثال متساوية قال صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" ولأن المقصود هو الجبران وذلك في المثل أتم لأن فيه مراعاة الجنس والمالية وفي القيمة مراعاة المالية فقط فكان إيجاد المثل أعدل إلا إذا تعذر ذلك بالانقطاع من أيدي الناس فحينئذ يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله تعتبر القيمة وقت القضاء لأن التحول إليه الآن يكون فإن المثل واجب في الذمة وهو مطلوب له حتى لو صبر إلى مجيء أوانه كان له أن يطالبه بالمثل فإنما يتحول إلى القيمة عند تحقق العجز عن المثل وذلك وقت الخصومة والقضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما لا مثل له لأن الواجب هناك وإن كان هو المثل عند أبي حنيفة ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فيعتبر قيمته عند ذلك وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انقطع المثل فقد التحق بمالا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف إنما(11/89)
يجب بالسبب الذي يجب به الأصل وذلك الغصب فيعتبر قيمته يوم الغصب ومحمد يقول أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة أيضا لأن السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس فيعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع وإن كان المغصوب من العدديات المتقاربة كالجواز والبيض والفلوس فعليه ضمان المثل عندنا وعلى قول زفر عليه ضمان القيمة وهو بناء على الاختلاف بيننا وبينه في جواز السلم فيها عددا ثم زفر رحمه الله يقول المثل فيما يؤدى به الضمان منصوص على اعتباره والمماثلة في العدديات المتقاربة غير ثابتة بالنص بل بالاجتهاد ولهذا لا يجري فيها الربا لأنها ليست بأمثال متساوية قطعا وما كان ثابتا بالنص فهو مقطوع به فلا يؤدى بما هو مجتهد فيه ولكن لا يصار إلى القيمة لتعذر أداء المثل كما في العدديات المتقاربة ولكنا نقول المماثلة في آحاد هذه الأشياء ثابتة بالعرف فهو كالثابت بالنص فيما هو المقصود وهو جبران حق المغصوب منه في مراعاة الجنس والمالية عليه وهذا لأن آحاد هذه الأشياء لا تتفاوت في المالية إنما تتفاوت أنواعها كالمكيل والموزون وإن كان المغصوب من العدديات المتفاوتة كالثياب(11/90)
ص -44- ... والدواب والواجب على الغاصب ضمان القيمة عند تعذر رد العين عندنا وقال أهل المدينة رحمهم الله الواجب هو المثل لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال كنت في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب الحجاب فأتى بقصعة من ثريد من عند بعض أزواجه فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فانكسرت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من الأرض ويقول "غارت أمكم غارت أمكم" ثم جاءت عائشة رضي الله تعالى عنها بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيرة وقال علي رضي الله عنه في المغرور يفك الغلام بالغلام الجارية بالجارية ولكنا نحتج بحديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في عبد بين شريكين يعتقه أحدهما فإن كان موسرا ضمن قيمة نصيب شريكه وإن كان معسرا سعى العبد في قيمة نصيب شريكه غير مشقوق عليه فهذا تنصيص على اعتبار القيمة فيما لا مثل له وتأويل حديث أنس رضي الله عنه أن الرد كان على طريق المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق الضمان وقد كانت القصعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قول علي رضي الله عنه يفك الغلام بالغلام يعني بقيمة الغلام فقد صح عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا في ولد المغرور أنه حر بالقيمة ثم بدأ محمد الكتاب بحديث ابن سيرين عن شريح رحمهما الله قال من كسر عصى فهي له وعليه مثله وذكر بعده عن الحكم عن شريح قال من كسر عصى فهي له وعليه قيمتها فأما أن يقول مراده بالمثل المذكور في الحديث الأول المماثلة في المالية خاصة وذلك في القيمة أو يحمل الحديث الأول على العصى الصغيرة فإنها من العدديات المتقاربة لا تتفاوت آحادها في المالية كالسهام وما ذكر في الحديث الثاني محمول على العصى الكبيرة فإنها كالعدديات المتفاوتة لأن آحادها تتفاوت في المالية ثم المراد بالكسر ما يكون فاحشا حتى لا يمكن التقضي به بعد ذلك فأما(11/91)
إذا كان الكسر يسيرا فليس على الكاسر إلا ضمان النقصان لأنه غير مفوت للمنفعة المطلوبة من العين وإنما يمكن نقصانا في ماليته فعلية ضمان النقصان وفي الكسر الفاحش هو مستهلك من وجه لفوات المنفعة المطلوبة من العين فكان لصاحبها حق تضمين القيمة إن شاء وهذا الحكم في كل عين إلا في الأموال الربوية فإن التعييب هناك فاحشا كان أو يسيرا يثبت لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين ولا يرجع على الغاصب بشيء وبين أن يسلم العين إليه ويضمنه مثله عندنا لأن تضمين النقصان متعذر فإنه يتعدى إلى الربا لأنه يسلم له قدر ملكه وزيادة وعلى قول الشافعي رحمه الله له أن يضمنه النقصان وهو بناء على أن من مذهبه أن للجودة في هذه الأموال قيمة كما في سائر الأموال ألا ترى أن لها قيمة إذا قوبلت بخلاف جنسها ولها قيمة في إثبات الخيار لصاحبها عند تفويت الغاصب الجودة وما لا يتقوم شرعا فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالخمر والصنعة من الملاهي والمعازف ثم وجوب ضمان النقصان لا يؤدي إلى الربا فإن حكم الربا يجري بالمقابلة على طريق المعادلة وذلك لا يوجد هنا خصوصا على أصله فإن ضمان الغصب عنده لا يوجب الملك في المضمون ولكنا نقول لا قيمة للجودة في هذه الأموال منفردة عن الأصل(11/92)
ص -45- ... قال صلى الله عليه وسلم "جيدها ورديئها سواء" يعني في المالية التي ينبني عليها العقد لأنه لا يجوز الاعتياض عن هذه الجودة حتى لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة ودرهم لا يجوز وما يكون متقوما شرعا فالاعتياض عنه جائز وبهذا فارق حال اختلاف الجنس وثبوت الخيار عندنا ليس لفوات الجودة بل للتغير المتمكن بفعله في العين وإذا ثبت أنه لا قيمة للجودة منفردة عن الأصل قلنا لو ضمنه النقصان كان فيه إقرار بجودته عن الأصل فأما إذا سلم العين إليه فلا يكون فيه إقرار بجودته عن الأصل وهي متقومة مع الأصل تبعا فلهذا كان له أن يضمنه المثل وقول شريح هو دليل له على أن المغصوب يصير ملكا للغاصب عند أداء الضمان كما هو مذهبنا.
وذكر عن أبي البحتري أن أعرابيا أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال إن بني عمك عدوا على إبلي فقطعوا ألبانها وأكلوا فصلانها فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه إذا نعطيك إبلا مثل إبلك وفصلانا مثل فصلانك قال إذا تنقطع ألبانها ويموت فصلانها حتى تبلغ الوادي فغمزه بعض القوم بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال بيني وبينك عبد الله فقال عثمان رضي الله عنه نعم فقال عبد الله رضي الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي ثمة إبلا مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه فرضي عثمان رضي الله عنه بذلك وأعطاه.(11/93)
وبظاهر الحديث يستدل أهل المدينة في أن الحيوان مضمون بالمثل عند الغصب والإتلاف فقد اتفق عليه عثمان وبن مسعود رضي الله عنهما إلا أنا نقول لم يكن هذا على طريق القضاء بالضمان وإنما كان ذلك على سبيل الصلح بالتراضي لأن المتلف لم يكن عثمان رضي الله عنه ووجوب الضمان على المتلف والإنسان غير مؤاخذ بجناية بني عمه إلا أن عثمان رضي الله عنه كان يتبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمه ويقول إن قوتهم ونصرتهم بي وهذا لأنه كان به فرط الميل إلى أقاربه وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين ذكر عثمان رضي الله عنه في الشورى فقال إنه كلف بأقاربه وكان ذلك ظاهرا منه ولهذا جاء الأعرابي يطالبه وإنما غمزه بعض القوم بعبد الله رضي الله عنه لما كان بين عثمان رضي الله عنه وبينه من النفرة وسبب ذلك معلوم ثم فيه دليل جواز التحكيم وأن الإمام إذا كان يخاصمه غيره فله أن يحكم برضى الخصم من ينظر بينهما كما فعله عثمان رضي الله عنه وفيه دليل على أن رد مثل المغصوب أو المستهلك يجب في موضع الغصب والاستهلاك لأن ابن مسعود رضي الله عنه حكم بذلك وانقاد له عثمان رضي الله عنه وهذا لأن المقصود هو الجبران ورفع الخسران عن صاحب المال وذلك برد العين عليه في ذلك الموضع وأداء الضمان في ذلك الموضع ولهذا قلنا إن مؤنة الرد تكون على الغاصب.
وذكر عن شريح رحمه الله أن مسلما كسر دنا من خمر لرجل من أهل الذمة فضمنه شريح قيمة الخمر وبه نأخذ فإن الخمر مال متقوم عندنا في حقهم لتمام إحرازها منهم بحماية الإمام فإنهم يعتقدون فيها المالية وإنما يكون المال متقوما بالإحراز والإمام مأمور بأن يكف(11/94)
ص -46- ... عنهم الأيدي المتعرضة لهم في ذلك لمكان عقد الذمة فيتم إحرازها منهم بذلك وسنقرر ذلك في موضعه.
ثم فيه دليل أن المسلم يضمن قيمة الخمر للذمي عند الإتلاف دون المثل لأن المسلم عاجز عن تمليك الخمر من غيره وعند العجز عن رد المثل يكون الواجب هو القيمة ولم يذكر تضمين قيمة الدن لأن ذلك غير مشكل وإنما ذكر الراوي ما هو المشكل وهو تضمينه قيمة الخمر.
وإذا غصب الرجل جارية تساوي ألف درهم فازدادت عنده فالزيادة نوعان منفصلة متولدة منها كالولد والعقر ومتصلة كالسمن وانجلاء البياض عن العين وفي الكتاب بدأ ببيان الزيادة المتصلة ولكن الأولى أن يبدأ ببيان الزيادة المنفصلة فيقول هذه الزيادة تحدث أمانة في يده عندنا حتى لو هلكت من غير صنعه لم يضمن قيمتها عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى تحدث مضمونة لأنها لما تولدت من أصل مضمون بيد متعدية فتحدث مضمونة كزوائد الصيد المخرج من الحرم وهذا لأن المتولد من الأصل يكون بصفة الأصل والأصل مضمون عليه فكذلك ما تولد منه ألا ترى أن الزيادة مملوكة للمغصوب منه كالأصل؟
ثم له في بيان المذهب طريقان:
أحدهما: أن الزيادة مغصوبة بمباشرة من الغاصب لأن حد الغصب الاستيلاء على مال الغير بإثبات اليد لنفسه بغير حق وقد كانوا في الجاهلية يتملكون بهذه اليد ويسمونه غصبا فالشرع أبطل حكم الملك بها في كل محترم وأثبت الضمان وبقي حكم الملك بها في كل مباح كالصيد ثم إنما يملك الصيد بإثبات اليد عليه فكذلك يجب الضمان بإثبات اليد عليه وهو مثبت يده على الولد حتى لو نازعه فيه إنسان كان القول قوله.(11/95)
والثاني: هو أنه غاصب للولد تسبيبا فإن غصب الأم وإمساكها إلى وقت الولادة سبب لحصول الولد في يده وهو معتاد لأن أصحاب السوائم يمسكون الأمهات لتحصيل الأولاد وهذا تسبيب هو فيه متعد فينزل منزلة المباشرة لأن المال يضمن بالإتلاف تارة وبالغصب أخرى وفي الإتلاف المسبب إذا كان متعديا يجعل كالمباشر في حكم الضمان كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق فكذلك في الغصب وحجتنا في ذلك أن وجوب ضمان الغصب لا يكون إلا باعتبار تحقق الغصب لأنه سببه ولهذا يضاف إليه الحكم ولا يثبت بدون السبب ولم يوجد الغصب في الزيادة تسبيبا ولا مباشرة لأن حد الغصب الموجب للضمان الاستيلاء على مال الغير بإثبات اليد لنفسه على وجه تكون يده مفوتا ليد المالك لأن الضمان واجب بطريق الجبران فلا يجب إلا بتفويت شيء عليه وليس في الغصب تفويت العين فعرفنا أن وجوب الضمان باعتبار تفويت اليد عليه وذلك غير موجود في الولد لأن التفويت بإزالة يده عما كان في يده أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده وما كان الولد في يد المالك قط ولا زال تمكنه من أخذه لحصوله في(11/96)
ص -47- ... دار الغاصب ما لم يمنعه الغاصب منه فلا يكون مضمونا عليه لانعدام سبب الضمان حتى يطالبه بالرد فإذا منعه يتحقق التفويت بقصر يده عنه بالمنع فيكون مضمونا عليه كالثوب إذا هبت به الريح وألقته في حجره وهذا بخلاف الاستيلاء الموجب للملك لأن الملك حكم مقصود على المحل فيتم سببه بإثبات اليد على المحل والضمان جبران لحق المالك فلا يتم سببه إلا بتفويت شيء عليه وبخلاف ضمان صيد الحرم لأن ذلك ضمان إتلاف معنى الصيدية فيه فإنه بالحرم أمن الصيد ومعنى الصيدية في تنفيره واستيحاشه وبعده عن الأيدي فإثبات اليد عليه يكون إتلافا لمعنى الصيدية فيه حكما وقد تحقق ذلك في الولد بإثبات اليد عليه فأما الأموال فمحفوظة بالأيدي فلا يكون إثبات اليد على المال إتلافا لشيء على المالك يوضح الفرق أن الحق في صيد الحرم للشرع والشرع يطالبه برد الأصل مع ولده إلى مأمنه فإنما وجد المنع منه بعد الطلب وذلك سبب للضمان وعلى هذا الطريق يقول إذا هلك الولد قبل تمكنه من الرد إلى الحرم لا يضمن وعلى الطريق الأول هو ضامن ولا وجه لإثبات حكم الضمان في الزيادة بتولدها من الأصل المضمون لأن الضمان ليس في العين بل هو في ذمة الغاصب وإنما توصف العين به مجازا كما يقال فلان مغصوب عليه والغصب صفة للغاصب بخلاف الملك لأنه وصف للمحل فإنه يوصف بأنه مملوكه حقيقة فيتعدى ذلك إلى الولد وإن باع الغاصب الولد وسلمه أو أتلفه فهو ضامن لقيمته لوجود التعدي منه على الأمانة كما لو باع المودع الوديعة.
فإن قيل: فليس في البيع والتسليم تفويت يد المالك في الولد.(11/97)
قلنا: بل فيه تفويت يده لأنه كان متمكنا من أخذه من الغاصب وقد زال ذلك ببيعه وتسليمه فلوجود التفويت من هذا الوجه يكون ضامنا فأما الزيادة المتصلة فهي أمانة في يد الغاصب عندنا حتى لو هلكت الجارية بعد الزيادة ضمن قيمتها وقت الغصب ولا يضمن الزيادة وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه مضمونة كالزيادة المنفصلة عنده ويزعم أن كلامه هنا أظهر فإن الزيادة تصير مغصوبة بالوقوع في يد الغاصب ولأن الزيادة لا تنفصل عن الأصل فمن ضرورة كون يده على الأصل يد غصب أن تكون على الزيادة يد غصب أيضا ولكنا نقول سبب وجوب الضمان في الأصل ليس هو يد الغصب بل اليد الغاصبة لأن ليد الغصب حكم الغصب وإنما يحال بالضمان على أصل السبب لا على حكمه فأصل السبب اليد الغاصبة المفوتة ليد المالك ولم يوجد ذلك في الزيادة وإن منعها بعد الطلب ففي إحدى الروايتين الزيادة تصير مضمونة بالمنع لأن قصر يد المالك عنها يثبت بالمنع وفي الرواية الأخرى لا تصير مضمونة لأن المطالبة بالرد في حق الزيادة لا تتحقق منفردة عن الأصل إذ لا يتصور ردها بدون الأصل ولا معتبر بهذا المنع في حق الأصل لأن الأصل مضمون بدون هذا المنع فلهذا لا يضمن الزيادة المتصلة بالمنع بعد الطلب بخلاف الزيادة المنفصلة وعلى هذا الاختلاف لو ازدادت قيمتها من غير زيادة في بدنها ثم هلكت لم يضمن الغاصب إلا قيمتها وقت الغصب عندنا وعند الشافعي يضمن قيمتها وقت الهلاك لأن من أصله أن سبب الضمان إثبات اليد(11/98)
ص -48- ... واليد مستدام والأصل أن ما يستدام فإنه يعطي لاستدامته حكم إنشائه فبهذا الطريق يصير كالمجدد للغصب عند الهلاك وعندنا سبب وجوب الضمان تفويت يد المالك وذلك بابتداء الغصب فتعتبر قيمتها عند ذلك فإن باعها وسلمها بعد ما صارت قيمتها ألفين بالزيادة المتصلة فهلكت عند المشتري ثم جاء صاحبها فله الخيار إن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم قبض العين وإن شاء ضمن الغاصب لأن المشتري متعد بقبضها لنفسه على طريق التملك وفي هذا القبض تفويت يد المالك حكما على ما بينا أنه كان متمكنا من استردادها من الغاصب وقد زال ذلك بقبض المشتري على طريق التملك لنفسه فيضمن قيمتها حال قبضه وذلك ألفا درهم بمنزلة ما لو غصبها غاصب من الأول بعد الزيادة فإن للمالك أن يضمن الغاصب الثاني قيمتها وقت غصبه وفيه طريقان أحدهما ما بينا والثاني أن المولى باختياره تضمين الغاصب الثاني يكون مبرئا للغاصب الأول ولهذا لا يكون له أن يضمنه بعد ذلك وبهذا الإبراء تصير يده يد المالك والغاصب الثاني مفوت لهذه اليد فإذا صارت كيد المالك كان هو ضامنا بتفويته يد المالك حكما فإن اختار تضمين البائع فإن شاء ضمنه قيمتها وقت الغصب ألف درهم وإن شاء ضمنه قيمتها وقت البيع والتسليم ألفي درهم ولم يذكر فيه خلافا في الكتاب.(11/99)
وروى الحسن عن أبي حنيفة وبن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه ليس له أن يضمن الغاصب وقت البيع والتسليم قيمتها وجه ظاهر الرواية وهو قولهما أن الزيادة حصلت في يد الغاصب أمانة وقد تعدى عليها بالبيع والتسليم فيكون ضامنا لها بزيادتها كما لو كانت الزيادة منفصلة وكما لو قتلها بعد حدوث الزيادة ولأنه وجد من الغاصب سببان موجبان للضمان الغصب والتسليم بحكم البيع فللمالك أن يضمنه بأي الشيئين شاء كما لو قتلها بعد الغصب وتحقيق هذا أن البيع والتسليم استهلاك ألا ترى أن من ادعى عينا في يد إنسان فأقام البينة أن فلانا باعه وسلمه منه إليه فإن القاضي يقضي بالملك له كما لو شهدوا بالملك له فهو بالبيع والتسليم باشر سببا لو أثبته المشتري بالبينة قضى القاضي بالملك له فيكون ذلك استهلاكا للملك على المغصوب منه حكما والاستهلاك بعد الغصب يتحقق ويكون سببا للضمان كالاستهلاك بالقتل وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب والغصب لا يتحقق في المغصوب لوجهين:
أحدهما: أن الغصب الموجب للضمان لا يكون إلا بتفويت يد المالك والتفويت بعد التفويت من واحد لا يتحقق.
والثاني: أن الأسباب مطلوبة لأحكامها وتكرار الغصب من واحد في محل واحد غير مفيد شيئا فلا يعتبر كتكرار البيع بثمن واحد وإنما قلنا إن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب لأن ملك المغصوب منه باق بعد بيع الغاصب كما بعد غصبه والاستهلاك إما أن يكون بتفويت العين حقيقة أو بتفويت الملك فيه حكما وذلك غير موجود والدليل عليه أن الحر لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب والحر يضمن بالإتلاف وكذلك العقار عند(11/100)
ص -49- ... أبي حنيفة وأبي يوسف آخرا رحمهما الله لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب وهو مضمون بالإتلاف.
فإذا ثبتت هذه القاعدة فنقول السبب الثاني لا يمكن اعتباره في الأصل لما قلنا إن الغصب بعد الغصب لا يتحقق مع بقاء حكم الأول ولا وجه لإبطال حكم الضمان الثابت بالغصب الأول بفعل الغاصب لأن المسقط للضمان عنه نسخ فعله بإعادته إلى يد المالك لا اكتساب غصب آخر ولا وجه لاعتبار السبب الثاني في الزيادة لأن الزيادة تابعة للأصل فلا يثبت الحكم فيها إلا بثبوته في الأصل ولأن الزيادة المتصلة لا تفرد بالغصب فلا تفرد بضمان الغصب ولأنه لما ضمن الأصل بالغصب ملك الأصل بزيادته من ذلك الوقت فتبين أنه باع ملك نفسه ولهذا نفذ بيعه هنا وبيع ملك نفسه لا يكون موجبا للضمان عنه وهذا بخلاف ما إذا قتلها لأن ذاك ضمان إتلاف والزيادة تفرد بالإتلاف ولأن اعتبار السبب الثاني هناك مفيد في حق الأصل لأن الضمان بالقتل يجب مؤجلا على العاقلة وبالغصب يجب على الغاصب فيجب اعتبار السبب الثاني في حق الأصل لكونه مفيدا ثم يعتبر في حق الزيادة تبعا للأصل إلا أنه إذا ضمن الأصل بالقتل لا يملكها لأن ضمان القتل لا يوجب الملك فلا يتبين به أن الزيادة كانت مملوكة له ولم يذكر هنا أن المغصوبة لو كانت دابة فاستهلكها الغاصب بعد الزيادة المتصلة هل يضمن قيمتها زائدة ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات أنه يضمن قيمتها زائدة فظن بعض المحققين من أصحابنا رحمهم الله أن ذلك الجواب قولهم جميعا وجعل يفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الاستهلاك بعد الغصب يتحقق في الأصل فيكون موجبا للضمان وأما الغصب بعد الغصب فلا يتحقق قال رضي الله عنه والأصح عندي أنه لا فرق في الفصلين عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه كما لم يذكر الخلاف ثمة لم يذكر هنا قال وقد رأيت في بعض النوادر بيان الخلاف في الشاة إذا ذبحها الغاصب وأكلها بعد الزيادة أنه لا يضمن قيمتها زائدة وهذا لما(11/101)
بينا أن السبب إنما يعتبر إذا كان مفيدا وحكم الاستهلاك في الدواب وحكم الغاصب سواء لأنه يوجب الضمان على المستهلك حالا ويملك المضمون به فالاستهلاك وإن تحقق فلا فائدة في اعتباره في حق الأصل بخلاف القتل في الآدمي فإن حكم ضمان القتل مخالف لحكم ضمان الغصب فكان اعتبار السبب الثاني مفيدا وهذا بخلاف صيد الحرم إذا باعها وسلمها بعد الزيادة لأنا نثبت بهذا الكلام أن البيع والتسليم لا يكون سببا للضمان بعد الغصب وهناك الزيادة كانت مضمونة عليه قبل هذا إلا أن تصير مضمونة بالبيع والتسليم وإن اختار المغصوب منه تضمين المشتري بطل البيع ورجع بالثمن على الغاصب لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين ولأن ملك العين لم يسلم للمشتري بالبيع وإنما سلم له بضمان القيمة فلا يسلم الثمن للبائع أيضا فلهذا استرد الثمن من البائع.
رجل غصب جارية فولدت عنده ثم مات الولد فعلى الغاصب رد الجارية مع نقصان الولادة" لأنها دخلت في ضمانه بجميع أجزائها وقد فات جزء مضمون منها ولو فاتت كلها(11/102)
ص -50- ... ضمن الغاصب قيمتها والجزء معتبر بالكل وإن كان الولد حيا فعليه ردهما لأن الولد جزء من الأصل فيكون مملوكا لمالك الأصل ومؤنة الرد في الولد على الغاصب وإن لم يكن مضمونا عليه كمؤنة الرد في المستعار على المستعير وإن لم يكن مضمونا عليه فإذا ردهما وفى قيمة الولد وفاء بنقصان الولادة لم يضمن الغاصب من نقصان الولادة شيئا عندنا وقال زفر رحمه الله هو ضامن لذلك وإن لم يكن في قيمة الولد وفاء بالنقصان فهو ضامن لما زاد على قيمة الولد من النقصان عندنا وعند زفر هو ضامن لجميع النقصان لأن ضمان النقصان واجب عليه بفوات جزء مضمون منها فلا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ممن له الحق وقد انعدم الإسقاط ممن له الحق وهو برد الولد لا يكون مؤديا للضمان لأن الولد ملك المضمون له وأداء الضمان يملك غير المضمون له لأن الضمان لجبران ما فات عليه وملكه لا يكون جابرا لملكه ولا يجوز أن يكون الولد قائما مقام الجزء الفائت بالولادة لأن الولد أمانة في يده والفائت مضمون عليه فكيف تكون الأمانة خلفا عن المضمون؟(11/103)
ألا ترى أنه لو دخلها عيب آخر في يده وفي قيمة الولد وفاء بنقصان ذلك العيب لم يكن الولد جابرا لذلك النقصان وشبه هذا بمن قطع قوائم شجرة إنسان فنبت مكانها أخرى لم يسقط الضمان عن القاطع بما نبت لأن النابت ملك المضمون له بخلاف ما لو قطعت يدها فأخذ الغاصب الأرش فردها مع الأرش لأن الأرش ما تولد من ملك المضمون له فيمكن أن يجعل مؤديا للضمان به وبخلاف ما لو قلع سنها فنبت مكانها أخرى أو صارت مهزولة ثم سمنت لأن هناك انعدم سبب الضمان لأن السبب إفساد المنبت لا مجرد القلع وقد تبين أنه ما أفسد المنبت ولهذا لو كان نبات السن بعد الرد لم يجب على الغاصب شيء أيضا وهنا السبب وهو النقصان قائم مشاهد والولد لا يصلح أن يكون قائما مقام ذلك النقصان ألا ترى أن الوفاء بقيمته لو حصل بعد الرد لم يتخير به فكذلك قبله وحجتنا في ذلك أن سبب الضمان منعدم هنا حكما والنابت حكما كالثابت حسا أو أقوى منه وبيان ذلك أن الولد خلف عن الجزء الفائت بالولادة بطريق اتحاد السبب وهو أن الولادة أوجبت فوات جزء من مالية الأصل وحدوث مالية الولد لأن الولد وإن كان موجودا قبل الانفصال فلم يكن مالا بل كان عيبا في الأم أو كان وصفا لها وإنما صار مالا مقصودا بعد الانفصال والسبب الواحد متى أثر في النقصان والزيادة كانت الزيادة خلفا عن النقصان كالبيع لما زال المبيع عن ملك البائع وأدخل الثمن في ملكه كان الثمن خلفا عن مالية المبيع له باتحاد السبب حتى لو شهد الشاهدان عليه ببيع شيء بمثل قيمته ثم رجعا لم يضمنا شيئا وكذلك الأرش خلف عن مالية اليد المقطوعة باتحاد السبب فكما ينعدم النقصان إذا رد ذلك الجزء بعينه بأن غصب بقرة فقطع جزأ منها ثم رد ذلك الجزء مع الأصل فكذلك ينعدم النقصان برد الخلف لأن الخلف عن الشيء يقوم مقامه عند فواته والدليل عليه فصل السمن والسن فإن الحادث هناك يجعل خلفا عن الفائت باتحاد المحل لأنه حادث في محل النقصان وتأثير السبب في(11/104)
الخلافة أكثر من تأثير المحل فإذا جعل(11/105)
ص -51- ... باتحاد المحل هناك الحادث خلفا عن الفائت حتى ينعدم به سبب الضمان فهذا أولى وبهذا ظهر الجواب عن كلامه فإنا لا نجعل الغاصب مؤديا للضمان برد الولد ولكن نبرئه بانعدام سبب الضمان فإنما ينعدم سبب الضمان برد ملك المغصوب منه فيكون المردود ملكه يقرر هذا المعنى.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا والولد يبقى ملكا للمغصوب منه بعد انعدام النقصان.
قلنا: لأنه في الملك لم يكن خلفا إنما كان مملوكا له بكونه متولدا من ملكه وذلك باق وإنما كان خلفا في حكم الانجبار فلا جرم بعد ارتفاع النقصان لا يكون الولد جابرا للنقصان وهو كالتراب خلف عن الماء في حكم الطهارة لا في الملك فبعد وجود الماء يبقى التراب مملوكا له ولا يكون خلفا في حكم الطهارة.(11/106)
وإذا ثبت هذا فيما إذا كان في قيمة الولد وفاء بالنقصان عند الولادة فكذلك إذا صار فيه وفاء بعد الولادة قبل الرد لأن حكم الخلافة باتحاد السبب لما انعقد فيه فالحادث فيه بعد انعقاد السبب يلتحق بالموجود وقت السبب كالزوائد في المبيع بعد البيع قبل القبض تلتحق بالموجود وقت العقد ولكن هذه الخلافة في حكم الانجبار ليكون رد الخلف كرد الأصل وهذا ينتهي بالرد فالزيادة فيه بعد الرد لا تجعل كالموجود عند السبب لهذا كالزيادة في المبيع بعد القبض لا تعتبر في انقسام الثمن فأما في السن يتبين انعدام سبب الضمان من حيث إن الحادث خلف عن الفائت باتحاد المحل من حيث الظاهر ومن حيث المعنى عدم إفساد المنبت وذلك يتحقق بعد الرد كما يتحقق قبله ويوضحه أن هناك لا يشترط لإيجاب الضمان بالقلع كون الأصل في ضمانه عند القلع فكذلك لا يشترط لانعدام السبب بالنبات بقاء الأصل في ضمانه بخلاف ما نحن فيه وفي قطع قوائم الشجرة الواجب ضمان عين ما ذهب به القاطع وهو الجزء المقطوع وذلك لا ينعدم بنبات مثله ثم النبات هناك ليس يسبب القطع بل ببقاء الشجرة الخضرة النامية والانجبار بحكم اتحاد السبب على ما قررنا فإن ماتت الأم وبالولد وفاء بقيمتها ففي هذه المسألة ثلاث روايات روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يبرأ برد الولد لأن وجوب الضمان على الغاصب لجبران حق المغصوب منه وذلك حاصل بالوفاء في قيمة الولد وروي عنه أنه يجبر بالولد قدر نقصان الولادة ويضمن ما زاد على ذلك من قيمة الأم لأن الولادة لا توجب الموت فالنقصان يكون بسبب الولادة فأما موت الأم لا يكون بسبب الولادة ورد القيمة كرد العين ولو رد عين الجارية كان النقصان منجبرا بالولد فكذلك إذا رد قيمتها.(11/107)
وفي ظاهر الرواية عليه قيمتها يوم الغصب كاملة لوجهين أحدهما: أنها لما ماتت تبين أن الولادة كانت موتا من أصله كالجرح إذا اتصل به زهوق الروح يكون قتلا من أصله لا أن يكون جرحا ثم قتلا بناء عليه ومن حيث إن الولادة موت لا يكون موجبا للزيادة وهذا بخلافه بحكم اتحاد السبب فإذا انعدم هناك لم يكن الولد جابرا للنقصان بالولادة ولا قائما مقام الأم لأنا نجعل اتحاد السبب كاتحاد المحل وهناك يتصور أن يكون الحادث خلفا عن الفائت إذا كان(11/108)
ص -52- ... الفائت بعض الأصل كالسمن والسن لا ما إذا كان الفائت جميع الأصل فكذلك بسبب اتحاد السبب يجعل الحادث خلفا عن الفائت إذا كان الفائت بعض الأصل لا ما إذا كان الفائت كله لأن الحادث تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل إنما يقوم مقام تبع مثله يوضحه أنه لما ضمن الأصل من وقت الغصب ملك الأصل بالضمان من ذلك الوقت وتبين أن النقصان حادث على ملكه فلا حاجة إلى ما يجبره بخلاف ما إذا رد الأصل فالحاجة إلى رد جابر النقصان هنا متقرر وباعتبار هذه الحاجة يجعل الولد خلفا في حكم الانجبار به.(11/109)
قال: وإذا جاء المغصوب منه يدعي جاريته في يد الغاصب وهو منكر فأقام شاهدا أنها جاريته غصبها هذا إياه وأقام شاهدا آخر على إقرار الغاصب بذلك لم يجز لأنهما اختلفا حين شهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل إذ الفعل غير القول وبشهادة الواحد لا يثبت واحد من الأمرين وكذلك لو شهد أحدهما بالملك له وشهد الآخر على إقرار الغاصب له بالملك لأن المشهود به مختلف وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين وإن شهدا له بالملك وزاد أحدهما ذكر الغصب فالشهادة جائزة لأنهما اتفقا في الشهادة على الملك للمدعي وتفرد إحداهما بالشهادة بالغصب على المدعى عليه فيقضي القاضي بما اتفقا عليه وإن شهد أحدهما أنها جاريته وشهد الآخر أنها كانت جاريته قضيت بها له لأنهما اتفقا في المشهود به وهو المالك للمدعي لأن ما كان له فهو باق على ملكه أبدا حتى يخرجه من ملكه بحق ولم يظهر سبب ذلك فعرفنا أن كل واحد منهما شهد له بالملك في الحال وإن شهد أحدهما أنها جاريته اشتراها من فلان وشهد الآخر أنها جاريته ورثها عن أبيه لم يجز لأن أحدهما شهد له بملك هو أصل فيه مستفاد بسبب أحدثه وهو الشراء والآخر شهد له بملك هو خلف عن مورثه فيه وأحد الملكين متباين عن الآخر ألا ترى أن الوارث يرد بالعيب على بائع مورثه ويصير مغرورا بشراء مورثه والمشتري لا يرد على بائع بائعه ولا يصير مغرورا بسبب شراء بائعه.(11/110)
وإذا اختلف المشهود به حكما لم يتمكن القاضي من القضاء بشيء وإن شهد أحدهما بالشراء من رجل والآخر بالشراء من رجل آخر أو بهبة أو صدقة لم تجز الشهادة لاختلافهما في المشهود به وهو السبب إما لأن الصدقة والهبة غير الشراء أو لأن الشراء من زيد غير الشراء من عمرو وإن شهدا أنها جاريته غصبها إياه هذا وقد باعها الغاصب من رجل فسلم رب الجارية البيع بعد ذلك قال يجوز لأن البيع انعقد من الغاصب موقوفا على إجازة المالك فإن من أصلنا أن ماله مجيز حال وقوعه يتوقف على الإجازة وأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ولكن الشرط لتمام العقد بالإجازة بقاء المتعاقدين والمعقود عليه والمجيز وذلك كله باق هنا.
وقد ذكر في النوادر أن المدعي إذا طلب من القاضي أن يقضي له بالملك ففعل لم يكن له أن يجيز البيع بعد ذلك لأنه طلب من القاضي أن يقرر ملكه وذلك يتضمن دفع السبب المزيل فيجعل ناسخا للبيع بهذا وجه ظاهر الرواية أن الملك الذي ظهر له بقضاء القاضي لا(11/111)
ص -53- ... يكون أقوى من ملك ظاهر له وذلك لا يمنع انعقاد البيع موقوفا فلا يمنع بقاء البيع إذا ظهر بالقضاء بطريق الأولى فإن كان الغاصب قد قبض الثمن فهلك عنده هلك من مال رب الجارية لأن بنفوذ البيع صار الغاصب كالوكيل من جهته بالبيع بطريق أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وحق قبض الثمن إلى الوكيل وهو أمين فيما يقبض ألا ترى أنه لو هلك عنده بعد الإجازة لم يضمن فكذلك إذا هلك قبل الإجازة ولا يشترط لنفوذ العقد بالإجازة بقاء الثمن لأن الثمن معقود به ولا يشترط وجوده في ملك المشتري لصحة البيع بعد ابتداء فكذلك لا يشترط بقاؤه لنفوذ البيع بالإجازة وكل ما حدث للجارية عند المشتري من ولد أو كسب أو أرش جناية وما شابهها فهو للمشتري لأن عند إجازته ينفذ البيع ويثبت الملك للمشتري من وقت البيع فإن سبب ملكه هو العقد وكان تاما في نفسه ولكن امتنع ثبوت الملك به لمانع وهو حق المغصوب منه فإذا ارتفع ذلك بالإجازة ثبت الملك له من وقت السبب لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فتبين أن الزوائد حدثت على ملكه وإن لم يسلم المبيع وأخذها أخذ جميع ذلك معها لأنه بقي ملكه مقررا فيها وإنما يملك الكسب والأرش والولد بملك الأصل فإن أعتقها المشتري لم ينفذ عتقه قبل أن يجيز المالك البيع عندنا وقال ابن أبي ليلى عتقه نافذ والغاصب ضامن قيمتها للمغصوب منه لأن الإعتاق قبض بطريق الإتلاف فإنه ينعدم به محلية البيع كما بالإتلاف حقيقة فهناك الغاصب يضمن قيمتها وينفذ البيع بينه وبين المشتري إذا ضمن قيمتها فهنا كذلك اعتبارا للحكمي بالحقيقي ولكنا نقول حصول القبض والإتلاف بنفوذ العتق لا بالتكلم به وشرط نفوذ العتق ملك المحل قال صلى الله عليه وسلم "لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم" والبيع الموقوف ضعيف في نفسه فلا يثبت الملك به قبل الإجازة كالهبة قبل القبض فإن الموهوب له لو أعتق الموهوب قبل أن يقبض لم يعتق ولا يصير قابضا به فهذا(11/112)
مثله بخلاف الإتلاف فإنه حسي يتحقق في الملك وغير الملك ولا نقول المشتري بالإتلاف يصير مالكا متى كان للمغصوب منه أن يضمن المشتري إن شاء فإن أجاز المغصوب منه البيع بعد ما أعتق المشتري الجارية جاز البيع ولم ينفذ عتق المشتري في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وفي الاستحسان ينفذ عتقه وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هكذا يرويه محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة.
قال أبو سليمان وكنا سمعنا من أبي يوسف روايته عن أبي حنيفة أنه لا ينفذ عتقه وجه القياس أن هذا عتق ترتب على عقد توقف نفوذه لحق المالك فلا ينفذ بنفوذ العقد كالمشتري بشرط الخيار أقوى من البيع الموقوف فإنه متفق على جوازه ويتم بموت البائع وبسكوته حتى تمضى المدة والبيع الموقوف مختلف في جوازه وهو يبطل بموت العاقد وبموت المالك ولا يتم بدون الإجازة لأن هذا العتق توقف على إجازة مالك ظاهر الملك فإن المالك لو أجاز العتق عن نفسه عتق من جهته فلا ينفذ من جهة من يحدث له بالملك كالمشتري من المكره إذا أعتق قبل القبض ثم رضي المكره بالبيع لم ينفذ عتق المشتري يوضحه أن البيع والعتق توقفا(11/113)
ص -54- ... على إجازة المالك ثم لو أجاز العتق بطل البيع فكذلك لو أجاز البيع يبطل العتق لما بينهما من المنافاة في حقه والدليل عليه أن الغاصب لو أعتق ثم ضمن القيمة لم ينفذ عنقه والملك الثابت له بالضمان أقوى من الملك الثابت للمشتري هنا حتى ينفذ بيعه لو كان باعه هناك ولا ينفذ بيع المشتري هنا لو كان باعه ثم هناك لم ينفذ عتقه فهنا أولى وكذلك لو كان المشتري من الغاصب أعتق ثم إن المالك ضمن الغاصب حتى نفذ بيعه لم ينفذ عتق المشتري فكذلك إذا نفذ البيع بإجازة المالك وجه الاستحسان أن هذا عتق ترتب على سبب ملك تام فينفذ بدون السبب بالإجازة كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة وهي مستغرقة بالدين ثم يسقط الدين أو المشتري من الوارث إذا فعل ذلك وتقرير هذا الكلام أن العقد الموقوف سبب تام في نفسه وانعقاده بكلام المتعاقدين ولهما ولاية على أنفسهما فإذا أطلقا العقد انعقد بصفة التمام لأن الممتنع ما يتضرر به المالك وكما لا ضرر على المالك بانعقاد السبب لا ضرر عليه في تمام السبب لأنه ليس من ضرورة إتمام السبب اتصال الحكم به فقد يتراخى عنه لأن الأسباب الشرعية لا تنعقد خالية عن الحكم ولكن يجوز أن يتأخر الحكم عن السبب والضرر على المالك في إثبات الملك للمشتري لأن من ضرورته زوال ملكه فيتأخر ذلك إلى وقت الإجازة ويبقى السبب تاما والدليل عليه أن الإشهاد على النكاح يعتبر وقت العقد لا عند الإجازة والنكاح ينعقد مع التوقف وما يمنع تمام السبب فالنكاح لا يحتمله كخيار الشرط والدليل عليه أن الغاصبين إذا تصارفا وتقابضا وافترقا ثم أجاز المالكان فمحمد يوافقنا أنه يجوز وما يمنع تمام السبب لا يكون عفوا في الصرف بعد الافتراق كخيار الشرط والدليل على تمام السبب أنه يملك المبيع عند الإجازة بزوائده المنفصلة والمتصلة.(11/114)
وإذا ثبت أن السبب تام فنقول العتق قبض حتى أن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا والقبض بعد تمام السبب يتوقف بتوقف السبب وينفذ بنفوذه كالقبض الحقيقي في المبيع أو الثمن والدليل عليه أن رجلا لو قال للغاصب أعتق هذا العبد عني بألف درهم فأعتقه ثم أجاز المالك نفذ بالإجازة العتق والبيع جميعا فهذا مثله بل أولى لأن سبب الملك هناك مضمر وهنا مفصح به ولا وجه لمنع هذا فإنه لو التمس هذا من المالك فأجابه إليه كان نافذا فكذلك إذا التمس من غير المالك فأجابه إليه وأجازه المالك وهذا بخلاف البيع بشرط الخيار لأن السبب هناك غير تام فإن قوله على أني بالخيار مقرون بالعقد نصا وتعليق العقد بالشرط يمنع كونه سببا قبل وجود الشرط ولهذا لم يجز البيع قياسا لأنه أدخل الشرط على السبب وفي الاستحسان يجعل الشرط داخلا على حكم السبب فينعقد أصل العقد ويكون في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله ألا ترى أنه لو قال إذا جاء عبدي فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به اليوم لا يجوز بخلاف ما لو قال لله علي أن أتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم يجوز فعرفنا أن التوقف لا يمنع تمام السبب والتعليق بالشرط يمنع منه يوضح الفرق أن في العقد الموقوف يثبت ملكا يليق بالسبب وهو الملك الموقوف لأن هذا(11/115)
ص -55- ... القدر لا يزيل ملك المالك ولا يتضرر به فإنما ترتب على ملك موقوف فيتوقف بتوقفه وينفذ بنفوذه فأما الشرط في مسألة الخيار كما يمنع الملك التام يمنع الملك الموقوف فلم يترتب عتق المشتري على ملك في المحل أصلا ومسألة المكره قد منعها بعض أصحابنا رحمهم الله.
والأصح أن نقول: بيع المكره فاسد ولهذا لو أعتقه المشتري بعد القبض ينفذ عتقه والبيع الفاسد قبل القبض ضعيف غير تام في حكم الملك كالهبة قبل القبض فلا يثبت به ملك تام ولا موقوف في المحل فلهذا لا ينفذ عتقه وعتق المشتري مخالف لبيعه لأن البيع ليس بقبض ألا ترى أنه لو باع المبيع قبل القبض لا يصير به قابضا وإنما يتوقف بعد تمام السبب ما هو من حقوقه والعتق من حقوقه من حيث أنه قبض ومن حيث أن الشراء موجب وهو شراء القريب فإنه اعتلق بخلاف البيع يوضحه أن البيع قاطع للملك والعتق منه له ألا ترى أن المشتري لو باع المبيع ثم اطلع على عيب به لا يرجع على بائعه بحصة العيب من الثمن بخلاف ما لو أعتقه فلكون العتق منهيا للملك يتوقف بتوقف الملك حتى إذا تم انتهى به والبيع لكونه قاطعا للملك لا يجوز أن يتوقف بتوقف الملك وهذا بخلاف ما لو أجاز المالك العتق لأنه بإجازة العتق عن نفسه يبطل محل البيع فلا يمكن تنفيذ البيع به وبإجازة البيع يمتد محل العتق للمشتري وهو المالك فينفذ العتق من جهته وهذا بخلاف الغاصب إذا أعتق ثم ضمن القيمة لأن المستند له حكم الملك لا حقيقة الملك ولهذا لا يستحق الزوائد المنفصلة وحكم الملك يكفي لنفوذ البيع دون العتق كحكم ملك المكاتب في كسبه وهذا الثابت للمشتري من وقت العقد حقيقة الملك ولهذا استحق الزوائد المنفصلة والمتصلة فأما إذا أعتقه المشتري ثم نفذ البيع بتضمين الغاصب فالأصح أنه ينفذ العتق أيضا هكذا ذكر هلال رحمه الله في كتاب الوقف فقال ينفذ وقفه على طريقة الاستحسان فالعتق أولى وبعد التسليم يقول هناك المشتري يملكه من جهة الغاصب وقد(11/116)
بينا أنه لا يستند للغاصب حقيقة الملك فكيف يستند لمن يملك من جهته فلهذا لا ينفذ عتقه وهنا إنما يستند الملك له إلى وقت العقد من جهة المجيز والمجيز كان مالكا له حقيقة فيمكن إثبات حقيقة الملك للمشتري من وقت العقد بالطريق الذي قلنا فلهذا نفذ عتقه وإن ماتت الجارية في يد المشتري ثم أجاز المالك البيع لم يتم لأن إجازته إنما تصح في حال يصح إذنه بالبيع وبعد الموت لا يصح إذنه بالبيع ولأن الملك للمشتري يثبت عند الإجازة مقصودا بسببه وإن كان يستند إلى وقت العقد والميت لا يحتمل التمليك مقصودا بسببه وإن لم يمت ولم يسلم رب الجارية المبيع ولكن الغاصب اشتراها منه لم يجز البيع الأول لأن إقدام المالك على بيعها من الغاصب إبطال منه للبيع الأول ولأنه لا يمكن تنفيذ البيع الأول من الغاصب بهذا الشراء لأن الملك له حادث والبيع الموقوف إذا تم أوجب الملك للمشتري من وقت العقد ولأنه ما توقف على حقه ولم يوجد منه الرضا بتمليك المشتري عليه فلهذا لا يصح البيع الأول بعد شراء الغاصب وكذلك إن أجازه لأنه قد طرأ ملك نافذ على ملك موقوف فكان مبطلا للموقوف إذ لا يتصور اجتماعهما في محل واحد والبيع بعد ما بطل(11/117)
ص -56- ... لا يلحقه الإجازة وكذلك لو وهبها مولاها للغاصب أو تصدق بها عليه أو ماتت فورثها منه فهذا كله مبطل للملك الموقوف بطريان الملك النافذ في المحل.
رجل: غصب من رجل جارية فعيبها فأقام المغصوب منه البينة أنه قد غصب جارية له فإنه يحبس حتى يجيء بها ويردها على صاحبها.
وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة فأما الشهادة علي فعل الغصب لا تقبل مع جهالة المغصوب لأن المقصود إثبات الملك للمدعي في المغصوب ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول ولا بد من الإشارة إلى ما هو المقصود بالدعوى في الشهادة ولكن الأصح أن هذه الدعوى والشهادة صحيحة لأجل الضرورة فإن الغاصب يكون ممتنعا من إحضار المغصوب عادة وحين يغصب فإنما يتأتي من الشهود معاينة فعل الغاصب دون العلم بأوصاف المغصوب فسقط اعتبار علمهم بالأوصاف لأجل التعذر ويثبت بشهادتهم فعل الغصب في محل هو مال متقوم فصار ثبوت ذلك بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس حتى يجيء به ولأن وجوب الرد على الغاصب ثابت بنفس الفعل وهذا معلوم من شهادتهم فيتمكن القاضي من القضاء به فلهذا يحبسه حتى يجيء بها ويردها على صاحبها فإن قال الغاصب قد ماتت أو قد بعتها ولا أقدر عليها تلوم القاضي في ذلك زمانا ولم يعجل بالقضاء بالقيمة لأن بقضائه يتحول الحق من العين إلى القيمة وفيه نوع ضرر على صاحبها فعين الملك مقصود لصاحبها كماليتها وربما يتعلل الغاصب بذلك لتسلم العين عند أداء القيمة فلهذا لا يعجل بالقضاء بها وليس لمدة التلوم مقدار بل يكون ذلك موكولا إلى رأي القاضي لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون وهذا التلوم إذا لم يرض المغصوب منه بالقضاء بالقيمة له فأما إذا رضي بذلك أو تلوم له القاضي فلم يقدر على الجارية فإن اتفقا في قيمتها على شيء أو أقام المغصوب منه البينة على ما يدعي من قيمتها قضى له(11/118)
القاضي بذلك وإن لم يكن له بينة فالقول قول الغاصب مع يمينه لأن المالك يدعي الزيادة وهو منكر لها فإن استحلف فنكل كان نكوله بمنزلة إقراره بما يدعيه المالك وإن حلف قضى له بما أقر به الغاصب لأن ما زاد على ذلك انتفى عنه بيمينه ما لم يقم المالك حجة عليه فإن ظهرت الجارية بعد ذلك فإن كان القضاء بالقيمة بالبينة أو بالنكون أو بالإقرار من الغاصب بما ادعى المالك فالجارية له لا سبيل للمغصوب منه عليها وإن كان القضاء بالقيمة بزعم الغاصب بعد ما يحلف يخير المغصوب منه فإن شاء استردها ورد ما قبض على الغاصب وإن شاء أمسك تلك القيمة ولا سبيل له عليها قال الكرخي رحمه الله هذا إذا كانت قيمتها بعد ما ظهرت أكثر مما قال الغاصب فأما إذا كانت قيمتها مثل ما قال الغاصب فلا خيار له في استردادها لأنه يوفر عليه بدل ملكه بكماله وفي ظاهر الرواية الجواب مطلق وهو الصحيح لأنه لم يتم رضاه بزوال ملكه عن العين إذا لم يعط ما يدعيه من القيمة وثبوت الخيار له لانعدام تمام الرضا من جهته وذلك لا يختلف باختلاف قيمتها فقد لا يرضى(11/119)
ص -57- ... الإنسان بزوال العين عن ملكه بقيمته وهذا كله مذهبنا أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فالجارية باقية على ملك مولاها فيستردها إذا ظهرت ويرد ما قبض من القيمة.
وبعض المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله يقول سبب الملك عندنا يقرر الضمان على الغاصب لكيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وهو معنى قولهم المضمونات تملك بالضمان ولكن هذا غلط لأن الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له.(11/120)
وبعض المتأخرين رحمهم الله يقول الغصب هو السبب الموجب للملك عند أداء الضمان وهذا أيضا وهم فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب للغاصب حقيقة ولهذا لا يسلم له الولد. ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالإجازة يملك المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة فالغصب هو عدوان محض والملك حكم مشروع مرغوب فيه فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه ولا يصح أن يجعل العدوان المحض سببا له فإنه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به ولا يجوز إضافة مثله إلى الشرع فالأسلم أن يقول الغصب موجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين بطريق الجبران مقصودا بهذا السبب ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما ثابتا بالغصب مقصودا ولهذا لا يملك الولد لأن الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة والولد غير مضمون بالقيمة وهو بعد الانفصال ليس يتبع فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة فإنه تبع محض والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا وثبوت الحكم في التبع كثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره وجه قول الشافعي رحمه الله الاستدلال بقوله تعالى:{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فالله تعالى جعل أكل مال الغير قسمين قسم بالباطل وقسم بالتجارة عن تراض وهذا ليس بتجارة عن تراض فيكون أكلا بالباطل والمعنى فيه أن الغصب عدوان محض لأنه ليس فيه شبهة الإباحة بوجه ما فلا يكون موجبا للملك كالقتل وتأثيره ما قلنا إن الملك حكم مشروع فيستدعي سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع فأدنى درجات المشروع أن يكون مرضيا به وأن يكون مباحا والعدوان المحض ضده ولا يجوز أن يثبت الملك بضمان القيمة لأن هذا ضمان(11/121)
جبران فيكون بمقابلة الفائت بالغصب والفائت بالغصب يد المالك لا ملكه فعرفنا أن هذا الضمان بمقابلة النقصان الذي حل بيد الغاصب لا أن يكون بدلا عن العين ولهذا قلتم لو هشم قلب فضة لإنسان وقضى القاضي عليه بالقيمة ثم افترقا من غير قبض لا يبطل القضاء ولو كان بدلا عن العين كان صرفا فيبطل بالافتراق من غير قبض ولما ثبت أن هذا الضمان بطريق الجبران فلا يكون الجبران بتفويت ما هو قائم بل هو بإحياء ما هو فائت وملكه في العين كان قائما فلو جعلناه(11/122)
ص -58- ... زائلا بالقضاء بالقيمة له كان هذا تفويتا لا جبرانا ولو كانت القيمة بدلا عن العين فهو حلف يصار إليه عند وقوع اليأس عن رد العين ومثل هذا الحلف يسقط اعتباره عند ظهور العين كما لو قلع سن إنسان فاستؤنى به حولا كاملا ثم قضي له بالأرش فقبض ثم نبت سنه يلزمه رد المقبوض من الأرش بهذا المعنى واعتمادهم على فصل المدبر وبهذا يتضح جميع ما قلنا فإن الغصب يتحقق في المدبر وسبب الملك عندكم لا يتحقق في المدبر وبقضاء القاضي بالقيمة لا يزول عن ملكه ولو كان شرط القضاء بالقيمة انعدام ملكه في العين أو كانت العين بدلا عن العين لما قضى القاضي بها في محل لا يتحقق فيه هذا الشرط وإن تم بقضاء القاضي ينبغي أن يزول ملكه عن المدبر كما لو قضى بجواز بيع المدبر. وحجتنا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشاة المغصوبة المصلية "أطعموها الأسارى" فقد أمرهم بالتصدق بها ولو لم يملكوها لما أمرهم بالتصدق بها لأن التصدق بملك الغير إذا كان مالكه معلوما لا يجوز ولكن يحفظ عليه عين ملكه فإن تعذر ذلك يباع ويحفظ عليه ثمنه والمعنى فيه أن الغصب الموجب للضمان مختص بمحل هو مال متقوم فيثبت الملك به إذا أمكن كالبيع والصلح وبيان الوصف أن غصب الحر لا يتحقق موجبا للضمان لأنه ليس بمال وكذلك غصب الخمر من المسلم لأنه غير متقوم وتأثيره أن اختصاص السبب بمحل لا يكون إلا لاختصاصه بحكم يختص بذلك المحل فالمحل الذي هو مال متقوم يختص بصحة التمليك فيه فلما اختص الغصب الموجب للضمان به عرفنا أنه إنما اختص بهذا الحكم فإن الفعل الذي هو عدوان محض وإزالة اليد المحترمة لا تختص بمحل هو مال متقوم ثم حقيقة المعنى أن الضمان الواجب على الغاصب بدل العين ألا ترى أنه يقوم العين به وأنه يسمي الواجب قيمة العين ويتقدر بمالية العين ولأن الضمان بمقابلة ما هو المقصود ومقصود صاحب الدراهم عين الدراهم لا امتلاء كيسه بها فعرفنا أن الضمان بدل العين(11/123)
وإنما يقضي بها جبرانا والجبران يستدعي الفوات لا محالة لأنه إنما يجيز الفائت دون القائم فكان من ضرورة القضاء بقيمة العين انعدام ملكه في العين فيكون جبرانا لما هو فائت وما لا يمكن إثباته إلا بشرط فإذا وقعت الحاجة إلى إثباته يقدم شرطه عليه لا محالة كما إذا قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه يقدم التمليك منه على نفوذ العتق منه ضرورة كونه شرطا في المحل إلا أن يكون قوله أعتقه عني سببا للتمليك مقصودا إذا تقرر هذا تبين أنه إنما يثبت بالعدوان المحض ما هو حسن مشروع به وهو القضاء بالقيمة جبرانا لحقه في الفائت ثم انعدام الملك في العين لما كان من شرطه هذا المشروع يثبت به ويكون حسنا بجنسه ولهذا لا يشترط التقابض لأن شرط التقابض فيما هو سبب للملك مقصودا إلا فيما يثبت شرطا لغيره كما لا يشترط القبول في قوله أعتق عبدك عني على ألف درهم لأن شرط القبول في سبب ملك مقصود لا فيما هو شرط لغيره ولهذا قلنا إن المغصوب وإن كان هالكا عند القضاء بالقيمة يصير مملوكا للغاصب لأن الهالك مما لا يقبل التمليك مقصوداً(11/124)
ص -59- ... بسببه لا شرطا لغيره وكذلك يقول إذا أخذ القيمة بزعم الغاصب فالعين لا تبقى على ملكه ولكن يتخير عند ظهوره لعدم تمام الرضى به كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا.
فأما المدبر ففي تخريجه طريقان أحدهما: أن هناك لا يقول ببقاء العين على ملكه بعد تقرر حقه في القيمة بل يجعل زائلا عن ملكه لتحقيق هذا الشرط ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب فذلك الكسب يكون للغاصب دون المغصوب منه إلا أنه إذا ظهر المدبر يعاد إليه صيانة لحق المدبر فإن حق العتق ثبت له بالتدبير عندنا الثاني أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين لأن ما هو شرطه وهو انعدام الملك في العين متعذر في المدبر فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذي حل بيده ولكن هذا عند الضرورة ففي كل محل يمكن اتحاد الشرط لا تتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين وإذا تعذر اتحاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذي حل بيده ونظيره فصلان أحدهما ضمان العتق فإنه بمقابلة العين في كل محل يمكن اتحاد الشرط وهو تمليك العين وفيما لا يحتمل اتحاد هذا الشرط كالمدبر وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين وكذلك ضمان الصلح فإنه إذا أخذ القيمة بالتراضي كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين يجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التي حلت بيده وكذلك إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي وفيما تلي من الآية بيان أن الأكل بالتجارة عن تراض جائز لا أن يكون الجواز مقصودا عليه ثم معنى التجارة عن تراض يندرج هنا من وجه فإن المالك هنا متمكن من أن يصبر حتى تظهر العين فيأخذها فحين طالب بالقيمة مع علمه أن من شرطه انعدام ملكه في العين فقد صار راضيا بذلك لأن من طلب شيئا لا يتوصل إليه إلا بشرط كان راضيا بالشرط كما يكون راضيا بمطلوبه.(11/125)
رجل غصب من رجل جارية فوطئها فولدت منه ثم حضر صاحبها فادعاها ولم يكن له بينة فأقر له بها ذو اليد لم يصدق عليها ولا على ولدها" لأن حق أمية الولد لها وحقيقة الحرية للولد تثبت من حيث الظاهر فإن من في يده شيء فالظاهر أنه ملكه ولهذا لو نازعه غيره فيه كان القول قوله فلا يصدقه في إبطال حقهما ولكنه مصدق فيما يقر به على نفسه وقد أقر أنها كانت مغصوبة في يده وأنه ضامن لقيمتها عند تعذر رد عينها وقد تعذر رد العين بفعله فلهذا يلزمه قيمتها للمقر له.
قال: ولا يضمن قيمة الولد ولم يتعرض للعقر" وذكر المسألة في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله على أن قول زفر يضمن قيمة الولد والعقر وعلى قول أبي يوسف لا يضمن ذلك وجه قول زفر أنه أقر بوجوب العقر عليه لأنه يزعم أنه وطئها وهي مغصوبة في يده والوطء في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة فيجب العقر وكذلك إن أقر أن الولد ملك المقر له وقد احتبس عنده بفعله كالأم فيضمن قيمته لأن الغاصب يضمن قيمة الولد بالمبيع أو يجعل هذا بمنزلة المغرور وولد المغرور حر بالقيمة وعلى المغرور عقرها للمستحق فهذا مثله وجه قول أبي يوسف أن ما يلزمه من الضمان إنما يلزمه بإقراره وهو ما أقر(11/126)
ص -60- ... بوجوب العقر عليه إنما أقر بوجوب الحد عليه لأن وطء الجارية المغصوبة يوجب الحد على الغاصب دون العقر وكذلك ولد المغصوبة لا يكون مضمونا على الغاصب إلا بمنع منه ولم يوجد ذلك منه في الولد وإنما امتنع رده لحريته شرعا فهو كما لو امتنع رده بموته فعرفنا أنه ما أقر على نفسه بوجوب العقر ولا بوجوب قيمة الولد فلا يلزمه ذلك فإن كان المدعي أقام البينة أنها جاريته غصبها هذا منه قضي له بها وبولدها لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولم يذكر العقر وينبغي أن يقضى له بالعقر لأن ذا اليد لما أنكر فقد صار إنكاره شبهة في إسقاط الحد عنه وقد أثبت بالبينة أنه وطىء ملك الغير فيلزمه العقر فإن لم يقل الشهود غصبها ولم يقر الذي هي في يديه ولكنه قال اشتريتها من فلان فأردت أن يقضي بالجارية للذي أقام البينة هل يستحلفه بالله ما بعته ولا أذنت له فيه ولم يدع ذو اليد شيئا من ذلك؟
قال: لا أستحلفه علي شيء من ذلك إلا أن يدعي الذي هي في يديه لأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهيجها ولأن الاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة فإن لم يدع ذو اليد ذلك فلا معنى للاستحلاف وإذا ادعاه فحينئذ يستحلف لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه.(11/127)
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن القاضي يستحلفه وإن لم يطلب ذو اليد ذلك صيانة لقضاء نفسه وإن أقام الذي هي في يديه البينة على تسليمه المبيع أخذ رب الجارية الثمن من البائع لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولأن إجازة البيع في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء فإن تصادق الأول والجارية على أنه كان أعتقها قبل هذا البيع لم يصدقا على ذلك لأنها صارت مملوكة للمشتري بما أثبت من البيع وإجازة المالك بالبينة فلا يصدقان على إبطال ملكه ولكن إن أقامت الجارية البينة أن الأول كان أعتقها قبل أن يشتريها هذا فإنها تعتق لأنها أثبتت حريتها بإعتاق من كان يملكها بالحجة ثم يتبين بطلان البيع فيرجع المشتري على البائع بالثمن وعلى المشتري العقر للجارية لأنه وطئها بشبهة الملك وهي حرة والولد ولده بغير قيمة لأن الولد يتبع الأم في الحرية وقد ثبتت حريتها بالبينة فينفصل الولد عنها حرا بذلك السبب لا بالغرور فلهذا لا يغرم قيمة الولد ولو اشترى جارية فولدت له ثم جاء أخوه فأقام البينة أن الجارية له قضيت بها له وبقيمة الولد والعقر لأن حرية الولد هنا بسبب الغرور لا بسبب ملك الأخ لأنه إنما يعتق ابن الأخ على عمه بعد تملكه وهنا الولد كان حر الأصل فلم يدخل في ملك المدعي حتى يجعل عتقه بسبب القرابة وإذا ثبت أن حرية الولد بسبب الغرور فولد المغرور حر بالقيمة به قضى عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما ويرجع المشتري على البائع بالثمن وقيمة الولد لأجل الغرور ولا يرجع بالعقر لأنه إنما لزمه بما نال من لذة الوطء فلا يرجع به على غيره.
رجل غصب جارية أو شاة أو بقرة فولدت ولدا ثم ذبح الولد أو باعه أو استخدمه حتى إذا مات من ذلك فعليه ضمان قيمته يوم مات لأن الولد كان أمانة عنده وقد أتلفه بالذبح أو الاستخدام حتى مات منه وصار متعديا عليه بالبيع والتسليم فيضمن قيمته كالمودع إذا فعل(11/128)
ص -61- ... ذلك بالوديعة وإن لم يصنع شيئا من ذلك ولكن الأم ماتت فله أن يضمنه قيمة الأم يوم غصبها ويأخذ الأولاد لأن الملك في الأم يثبت للغاصب شرعا لتقرر الضمان عليه وذلك غير متعد إلى الولد فإن الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة لأن أصل السبب للضمان هو الغصب ووجوبه حقيقة بعد موت الأم فأما قبل موتها الواجب رد العين فالملك يثبت به كذلك وتبين أن وقت الغصب إنما يثبت له حكم الملك لا حقيقة الملك وذلك يكفي لسلامة الكسب دون الولد كحكم الملك الثابت للمكاتب بالكتابة حتى ان كسبه لا يكون مملوكا للمولى وولده يكون مملوكا له ينفذ عتقه فيه.(11/129)
رجل غصب جارية قيمتها ألف درهم فصارت قيمتها ألفين ثم قتلها رجل خطأ فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب ألف درهم في ماله حالا وإن شاء اتبع عاقلة القاتل بألفي درهم في ثلاث سنين لأن كل واحد منهما جان في حقه فله الخيار في التضمين فإن ضمن الغاصب فإنما يضمنه باعتبار الغصب فينظر إلى قيمتها عند ذلك وضمان الغصب يجب حالا على الغاصب لأن وجوبه باعتبار المالية ثم الغاصب يرجع على عاقلة القاتل بألفي درهم مؤجلا في ثلاث سنين لأن الغاصب يملك بالضمان فيظهر أن القاتل جان على ملكه فلهذا يرجع على عاقلة القاتل بألفي درهم في ثلاث سنين أو لأن المالك لما ضمنه فقد أقامه مقام نفسه في الرجوع على عاقلة القاتل وهو لو اختار الرجوع عليهم أخذ منهم ألفي درهم قيمتها وقت القتل في ثلاث سنين لأن الواجب باعتبار القتل بدل النفس فيكون على العاقلة مؤجلا فكذلك الغاصب يرجع عليهم بهذه الصفة ثم يسلم له مما يقبض ألفا قدر ما ضمن ويتصدق بالألف الأخرى لأنه حصل له بكسب خبيث وهو الغصب المتقدم ولأنه ربح حصل لا على ملكه فيلزمه التصدق به كالربح الحاصل لا على ضمانه فإن كانت قيمة الجارية يوم غصبها عشرة آلاف درهم ويوم قتلها القاتل كذلك فمولاها بالخيار إن شاء ضمن الغاصب عشرة آلاف درهم في ماله حالة بسبب الغصب وإن شاء ضمن عاقلة القاتل خمسة آلاف درهم إلا عشرة دراهم في ثلاث سنين بسبب القتل لأن الواجب بهذا السبب بدل النفس وبدل نفس الأمة لا يزيد على خمسة آلاف كبدل نفس الحرة وينقص للرق من ذلك عشرة دراهم وفي رواية خمسة فإن ضمن الغاصب يرجع الغاصب على عاقلة القاتل بخمسة آلاف درهم إلا عشرة دراهم إما لأنه قائم مقام المغصوب منه أو لأنه ظهر أن جناية القاتل كانت على ملكه فإن كانت الجارية هي التي قتلت رجلا خطأ أخذها مولاها ودفعها أو فداها لأنها بعد الغصب باقية على ملك مولاها وموجب جناية المملوك أن يخير مولاها بين الدفع والفداء وأي ذلك فعل رجع(11/130)
على الغاصب بالأقل من قيمتها ومن الفداء لأن ذلك إنما لزمه بسبب كان منها في يد الغاصب وجنايتها في ضمان الغاصب كجناية الغاصب عليها ولأن الرد لم يسلم حين استحقت من يد المولى بسبب كان عند الغاصب فكأنه لم يردها فيرجع عليه بقيمتها إلا أن يكون الفداء أقل من القيمة فحينئذ يرجع بالأقل لأنه في التزام الزيادة على الأقل مختار فإنه كان يتخلص باختيار(11/131)
ص -62- ... الأقل فإن كانت ماتت عند الغاصب بعد الجناية أخذ المولى قيمتها من الغاصب بسبب الغصب فيدفعها إلى أولياء الجناية لأنها كانت مستحقة لهم بالجناية وقد فاتت واختلفت بدلا فيستحقون بدلها باستحقاقها وإذا دفع القيمة إليهم رجع بها على الغاصب مرة أخرى لأن المقبوض استحق من يده بسبب كان عند الغاصب ولأن استرداد القيمة كاسترداد العين ولو استردها ودفعها بالجناية رجع على الغاصب بقيمتها فكذلك إذا استرد قيمتها ودفعها بالجناية.(11/132)
رجل غصب دار رجل وسكنها فإن انهدمت من سكناه أو من عمله فهو ضامن لذلك لأنه متلف لما انهدم بفعله والإتلاف يتحقق في العقار كما في المنقول وإن انهدمت من غير عمله فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله لأن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق عندهما في العقار والحكم ينبني على السبب وأصل المسألة لأن العقار لا يضمن بالغصب في القياس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهم الله وفي الاستحسان يضمن وهو قول أبي يوسف الأول ومحمد والشافعي رحمهم الله حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه ونسلم "من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين" فقد أطلق النبي صلى الله عليه ونسلم لفظ الغصب على العقار وكذلك من حيث العرف يقال غصب دار فلان ومن حيث الحكم دعوى الغصب في العقار تسمع حتى لا يندفع بإقامة ذي اليد البينة على أن يده يد أمانة وإذا ثبت أن الغصب يتحقق فيها يترتب عليه حكمه والمعنى فيه أما الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول العقار يملك بالاستيلاء يدا فيضمن بالغصب يدا كالمنقول وبيان الوصف أن الغزاة إذا فتحوا بلدة يملكون عقارهم وتأثيره ما بينا على أصله أن حد الغصب التعدي بإثبات اليد لنفسه على مال الغير بغير حق وذلك يتحقق في العقار والمنقول جميعا ومحمد يقول العقار يضمن بالعقد الجائز والفاسد فيضمن بالغصب كالمنقول وتحقيقه هو أن وجوب ضمان الغصب يعتمد تفويت يد المالك بالنقل ولكن فيما يتأتى ذلك فيه فأما فيما لا يتأتى يقام غيره مقامه لإثبات الحكم وهو الاستيلاء بأقصى ما يمكنه بالسكنى وإخراج المالك عنه كما أن شرط صحة الدعوى والشهادة الإشارة إلى العين في المنقول الذي يمكن إحضاره ثم في العقار لما تعذر ذلك يقام ذكر الحدود مقامه وشرط تمام الهبة القبض بعد القسمة فيما يتأتى فيه القسمة ثم فيما لا يحتمل القسمة تقام التخلية مقامه ولهذا سماه استحسانا ولا معنى لقولكم أن فعله في المالك هنا يمنعه من(11/133)
أن يدخل ملكه فيسكن لأن ما هو المقصود بتفويت اليد وهو فوت منفعة الملك وثمراته عليه يحصل بهذا ويجوز إقامة فعله في غير المضمون مقام فعله في المضمون في إيجاب الضمان كحافر البئر في الطريق فعله في الأرض دون المار ثم يجعل ذلك قائما مقام فعله في المار الواقع في البئر في إيجاب الضمان عليه فهذا مثله أو أقوى منه.
وحجتنا في ذلك الحديث فإن النبي صلى الله عليه ونسلم بين جزاء غاصب العقار الوعيد في الآخرة ولم يذكر الضمان في الدنيا فذلك دليل على أن المذكور جميع جزائه ولو كان الضمان واجبا لكان الأولى أن يبين الضمان لأن الحاجة إليه أمس وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل على تحقق(11/134)
ص -63- ... الغصب فيه موجبا للضمان لأن في لسان الشرع حقيقة ومجازا ألا ترى أنه أطلق لفظ البيع على الحر بقوله من باع حرا وهذا لا يدل على أن البيع الموجب لحكمه حقيقة يتصور في الحر وكذلك في عرف اللسان حقيقة ومجازا ألا ترى أنهم يطلقون لفظ السرقة على العقار كما يطلقون لفظ الغصب وقد ورد الشرع بذلك أيضا ثم لا يتحقق في العقار السرقة الموجبة لحكمها على أنا نقول يتحقق أصل الغصب في العقار ولكن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق لأنه مما لا ينقل ولا يحول وبيان هذا أن الضمان إنما يجب جبرانا للفائت من يد المالك ولا يتحقق تفويت اليد عليه بفعل في المال بدون النقل والتحويل لأن يد المالك متى كانت ثابتة على ماله في مكان تبقى ما يبقى المال في ذلك المكان حكما إلا أن ينقله إلى غيره بمباشرة سببه ومن حيث الحقيقة الغاصب وإن سكن الدار فالمالك متمكن من أن يدخل فيسكن فإن منعه فذلك فعل في المالك لا في الملك وفعله في المالك لا يفوت يده عن المال فلا يكون سببا للضمان كما لو حبس المالك حتى تلفت مواشيه ولهذا لا يضمن المنقول بالتخلي به قبل النقل فكذلك العقار وإقامة الشيء الآخر مقام السبب الموجب للحكم طريق فيما يأذن الشرع فيه أن يوجبه الحكم فأما الغصب لا يأذن الشرع فيه والحكم يمنع منه فكيف يثبت بإقامة غيره مقامه حكما ولكن إن صادف الفعل محلا يتحقق فيه يثبت حكمه وإن صادف محلا لا يتحقق فيه لا يثبت الحكم كمن زنى برتقاء وأتى بما في وسعه من المعالجة لا يلزمه الحد وإن قضى شهوته لأن ما هو حد فعل الزنى لا يتحقق في هذا المحل فلا يشتغل بإقامة غيره مقامه ولا ينظر إلى تحصيل المقصود وبه فارق ضمان العقد لأن ذلك يوجبه الحكم فيجوز إثباته بطريق حكمي والعقد الفاسد معتبر بالجائز لأن الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا في معرفة حكمه فإن الشرع لا يرد بالعقد الفاسد وكذلك ذكر الحدود في الدعوى والشهادة يجوز أن تقوم مقام الإشارة في التعريف لأن ذلك(11/135)
مما يوجبه الحكم ويأذن فيه الشرع وكذلك القبض في باب الهبة فإن الشرع يأذن فيه فيصار إلى إيجاده بطريق التمكن ولو كان ما قال محمد رحمه الله تعالى من إقامة الفعل في المالك مقام الفعل في المال صحيحا لكان الأولى أن يصار إليه في المنقول لأن الحاجة إلى حفظ المنقول باليد أظهر منه إلى حفظ العقار ولا يوجب الضمان على الحافر بالطريق الذي قال بل بإقامة الشرط مقام السبب لما تعذر تعليق الحكم بالسبب وهو نقله في نفسه ومسببه إذا كان لا يعلم والحافر أوجد شرط الوقوع بإزالة السكة وإقامة الشرط مقام السبب عند تعذر تعليق الحكم بالسبب أصل في الشرع والإتلاف بهذا الطريق يتحقق فأما هنا الفعل في المالك ليس بشرط ولا سبب ولا يتحقق به تفويت اليد الثابتة حكما ألا ترى أن هناك مع أن الإتلاف يتحقق من الحافر بالمباشرة بأن يلقيه في البئر يقام الحفر مقامه وهنا فيما يتأتى الفعل حقيقة لا يقام الفعل في المالك مقام الفعل في المال ولا يدخل على هذا ما قاله في الزيادات إذا وهب لرجل دارا بما فيها من الأمتعة فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له ثم استحقت فللمستحق أن يضمن الموهوب له لأن في جواب تلك المسألة نظرا فقيل: هو مذهب(11/136)
ص -64- ... محمد وقيل لا يستقيم على أصل محمد أيضا لأنه يوافقنا في المنقول أنه لا يضمن قبل النقل وقد نص عليه في السير الكبير .
ثم العذر أن الواهب نقل يده إلى الموهوب له ويد الواهب في الأمتعة كانت مفوتة ليد المالك فانتقلت بصفتها إلى الموهوب له فإن قيل أليس أنه لو اشترى منقولا وحلي بينه فهلك قبل النقل ثم جاء مستحق فليس له أن يضمن المشتري وهذا المعنى موجود فيه؟
قلنا: لا كذلك فالبيع يوجب الملك واليد للمشتري فلا يجعل يده كيد البائع فأما الهبة لا توجب التسليم إلى الموهوب له فيستقيم أن يجعل الواهب بالتسليم محولا يده إلى الموهوب له وبهذا الطريق للمالك أن يضمن غاصب الغاصب أيضا لأنه حول إلى نفسه يد الغاصب الأول وهي يد مفوتة ليد المالك فتحول إليه بصفته وأشار في الكتاب إلى حرف آخر فقال:
لو دخل دار رجل بغير إذنه فسقط منها حائط لم يضمن ولو ركب دابة فعطبت أو لبس ثوبا فاحترق كان ضامنا ومعنى هذا أن العقار لو كان يضمن بالاستيلاء لكان يضمن بأول أسبابه وهو الدخول كالمنقول ولكن عذر محمد عن هذا واضح لأن الضمان إنما يجب بإثبات اليد بطريق الاستيلاء وذلك بالدخول لا يحصل إنما يحصل بالسكنى ألا ترى أن من ادعى دارا بالميراث فشهد الشهود أن أباه دخل هذه الدار فمات فيها لم يستحق بها شيئاً.(11/137)
ولو شهدوا أنه مات وهو ساكن هذه الدار استحق القضاء له بها لأنهم يشهدون باليد للأب عند الموت بخلاف الثوب والدابة فبمجرد الركوب واللبس تثبت يده حتى لو شهدوا أن أباه مات وهو لابس هذا الثوب أو راكب هذه الدابة استحق القضاء له بها وهذا لأن الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب فظهر أن الاعتماد على الفصل الأول فإن كان الغاصب للدار باعها وسلمها ثم أقر بذلك وليس لرب الدار بينة فإقراره في حق المشتري باطل لأن المشتري صار مالكا بالشراء من حيث الظاهر فلا يقبل قول البائع بعد ذلك في إبطال ملكه ثم لا ضمان على الغاصب للمالك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله لأنه مقر على نفسه بالغصب فإن البيع والتسليم غصب والغصب الموجب للضمان عندهما لا يتحقق في العقار وقد ذكر في كتاب الرجوع من الشهادات أنهم إذا شهدوا بدار لإنسان وقضى القاضي ثم رجعوا ضمنوا قيمتها للمشهود عليه فقيل ذلك قول محمد رحمه الله لأن تسليطهما الغير على الدار بالشهادة كتسليط الغاصب على الدار بالبيع والتسليم إليه وقيل بل هو قولهم جميعا والفرق بين الفصلين لهما أن هناك إتلاف الملك على المشهود عليه قد حصل بشهادتهما حتى لو أقام البينة على الملك لنفسه لا تقبل بينته والعقار يضمن بالإتلاف وهنا إتلاف الملك لم يحصل بالبيع والتسليم بل يعجز المالك عن إثبات ملكه بالبينة ألا ترى أنه لو أقام البينة على أنها ملكه قضي له بها فلهذا لا يكون الغاصب ضامنا ولكن يدخل على هذا جحود الوديعة فإن العقار يضمن بالجحود في الوديعة وليس فيه إتلاف الملك حتى لو أقام(11/138)
ص -65- ... المالك البينة قضي له بها والأصح أن يقول جحود الوديعة بمنزلة الغصب فلا يكون موجبا للضمان في العقار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله.
رجل غصب عبدا أو دابة فأجره وأصاب من غلته فالغلة للغاصب لأن وجوبها بعقده وقد بيناه في كتاب اللقطة ولأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد والعاقد هو الغاصب فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده مالا فكان بدله له وفي الأصل قال قلت ولم لا يكون لصاحب العبد قال لأنه كان في ضمان غيره وكأنه أشار بهذا التعليل إلى قوله صلى الله عليه ونسلم "الخراج بالضمان" فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الأجر له دون المالك ويؤمر أن يتصدق بها لأنها حصلت له بكسب خبيث فإن مات العبد فالغاصب ضامن بقيمته وله أن يستعين بتلك الغلة في ضمان القيمة لأنها ملكه وما فضل بعد ذلك تصدق به اعتبارا للجزء بالكل.
فإن قيل القيمة دين في ذمته ومن قضى بمال الصدقة دينه فعليه أن يتصدق بمثله.
قلنا: نعم ولكن التصدق بهذا لم يكن حتما عليه ألا ترى أنه لو سلم الغلة إلى المالك مع العبد كان للمالك أن يتناول ذلك وليس على الغاصب شيء آخر فهو بما صنع يصير مسلما إلى المالك ثم يصير المالك مبرئا له عن ذلك القدر من القيمة بما يقبضه فيزول الخبث بهذا الطريق فلا يلزمه التصدق بعوضه وإن كان الغاصب باع الدابة وأخذ ثمنها فاستهلكه وماتت الدابة عند المشتري فضمن رب الدابة المشتري قيمتها رجع المشتري على الغاصب بالثمن لبطلان البيع باسترداد القيمة منه ثم لا يستعين الغاصب بالغلة في أداء الثمن لأن الخبث في الغلة ما كان بحق المشتري فلا يزول بالوصول إلى يده بخلاف الأول فإن الخبث لحق المالك فيزول بوصول الغلة إلى يده.(11/139)
قال إلا أن يكون عند الغاصب ما يؤدي به الثمن فلا بأس حينئذ أن يؤدي من الغلة لأنه محتاج إلى تفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس وحاجته تقدم على حق الفقراء فإذا أصاب بعد ذلك مالا تصدق بمثله إن كان استهلك الثمن يوم استهلكه وهو غني عنه وإن كان محتاجا يوم استهلك الثمن لم يكن عليه أن يتصدق بشيء من ذلك لأن وجوب الضمان عليه باعتبار استهلاكه الثمن ولو استهلك الغلة مكان الثمن فإن كان محتاجا فليس عليه أن يتصدق بشيء منه وإن كان غنيا فعليه أن يتصدق بمثله فكذلك في استهلاك الثمن وإنما قلنا ذلك لأن حق الفقراء في هذا المال بمنزلة حقهم في اللقطة على معنى أن له أن يتصدق وله أن يردها على المالك إن شاء ثم الملتقط إذا كان محتاجا فله أن يصرف اللقطة إلى حاجة نفسه بخلاف ما إذا كان غنيا فكذلك حكم هذه الغلة وليس على الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر وعلل فقال لأنه كان ضامنا ومعنى هذا أن ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته فإذا اعتبرت المنفعة لإيجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لإيجاب ضمانها مقصودا والمنفعة كالكسب وقد بينا في الكسب(11/140)
ص -66- ... أن الخراج بالضمان فكذلك في المنفعة ولكن هذا التعليل يتقاعد في الدار فإن الساكن غير ضامن للدار عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم فإن المنافع زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا وقد بينا أن زوائد المغصوب لا يكون مضمونا على الغاصب عندنا ويكون مضمونا له عند الشافعي رضي الله عنه فكذلك المنفعة ولأن الغصب الموجب للضمان عنده يحصل بإثبات اليد واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين وعندنا لا تتحقق إلا بيد مفوتة ليد المالك وذلك لا يتحقق في المنافع لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور كونها في يد المالك ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يده مفوتة ليد المالك فلهذا لا يضمن المنافع بالغصب عندنا فأما الإتلاف فيقول عندنا المنافع لا تضمن بالإتلاف بغير عقد ولا شبهة عقد وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تضمن ومنفعة الحر في ذلك سواء حتى لو استسخر حرا واستعمله عنده يضمن أجر مثله وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع ولكنه لا يضمن شيئا وجه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المنفعة مال متقوم فيضمن بالإتلاف كالعين وبيان الوصف أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها فإن أعظم الناس تجارة الباعة ورأس مالهم المنفعة وقد يستأجر المرء جملة ويؤجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا وولي الصبي يستأجر له بماله فيصح منه وبهذا تبين أن المنافع في المالية مثل الأعيان والمنفعة تصلح أن تكون صداقا وشرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا وهكذا يقوله في منافع الحر أنه مال يضمن بالإتلاف إلا أنه إذا حبس حرا لا يضمن منافعه لأنه لم يوجد من الحابس إتلاف منافعه ولا إثبات يده عليه بل منافع المحبوس في يده كثياب بدنه وكما لا يضمن ثياب بدنه بالحبس فكذلك(11/141)
منافعه ولئن لم تكن المنفعة مالا فهي متقومة لأنها تقوم الأعيان فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها ولأنها تملك بالعقد ويضمن به صحيحا كان العقد أو فاسدا وإنما يملك بالعقد ما هو متقوم فيضمن بالإتلاف وإن لم يكن مالا كالنفوس والأبضاع وبفضل العقد الفاسد يتبين المماثلة بين العين والمنفعة في المالية لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعا كما بالإتلاف وهذا بخلاف رائحة المسك فإن من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئا لأن الرائحة ليست بمنفعة ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب ولهذا لا يملك بعقد الإجارة حتى لو استأجر مسكا ليشمه لا يجوز ولا يضمن بالعقد أيضا صحيحا كان أو فاسداً.
وحجتنا في ذلك حديث عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما حكما في ولد المغرور أنه حر بالقيمة وأوجبا على المغرور رد الجارية مع عقرها ولم يوجبا قيمة الخدمة مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها ومع طلب المدعي بجميع حقه فلو كان ذلك واجبا له لما حل لهما السكوت عن بيانه وبيان العقر منهما لا يكون بيانا لقيمة الخدمة لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء من العين ولهذا يتقوم عند الشبهة بخلاف المنفعة والمعنى فيه أن المنفعة ليست بمال(11/142)
ص -67- ... متقوم فلا تضمن بالإتلاف كالخمر والميتة وبيانه أن صفة المالية للشيء إنما تثبت بالتمول والتمول صيانة الشيء وإدخاره لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى قويين ولكنها إعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى فلا يتصور فيها التمول ولهذا لا يتقوم في حق الغرماء والورثة حتى أن المريض إذا أعان إنسانا بيديه أو أعاره شيئا فانتفع به لا يعتبر خروج تلك المنفعة من الثلث وهذا لأن المتقوم لا يسبق الوجود فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز والإحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقى وقتين فكيف يكون متقوما وعلى هذا نقول الإتلاف لا يتصور في المنفعة أيضا لأن فعل الإتلاف لا يحل المعدوم وبعد الوجود لا يبقى لحله فعل الإتلاف وإثبات الحكم بدون تحقق السبب لا يجوز فأما بالعقد يثبت للمنفعة حكم الإحراز والتقوم شرعا بخلاف القياس وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة وباعتبارها ينعدم التقوم والإتلاف وفي الصداق واستئجار الولي إنما يظهر حكم الإحراز والتقوم بالعقد للحاجة والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز وكما تتفاوت قيمة العين بتفاوت المنفعة تتفاوت قيمة الطيب بتفاوت الرائحة ولم يدل ذلك على كونه مالا متقوما ولئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم فهو دون الأعيان في المالية وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة والدين لا يضمن بالعين لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين وبيان هذا الكلام أن المنفعة عرض يقوم بالعين والعين جوهر يقوم به العرض ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقي أوقاتا وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم والعين لا تضمن بالمنفعة قط ومن ضرورة كون الشيء مثلا(11/143)
لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له أيضا والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان واحد على تقطيع واحد لا تكون منفعة إحداهما مثلا للمنفعة الأخرى عند الإتلاف والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة وبهذا فارق ضمان العقد فإنه غير مبني على المماثلة باعتبار الأصل بل على المراضاة وكيف ينبني على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح؟
ثم ضمان العقد مشروع وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط اعتبار التفاوت الذي ليس في وسعنا الاحتراز عنه في ضمان العقد فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع وضمانه مقدر بالمثل بالنص فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف.
فإن قيل: يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن إتلاف منافع أموال الناس ولأن المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم من أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن(11/144)
ص -68- ... الصفة ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية وإذا لم يكن بد من اهدار أحدهما فاهدار الصفة أولى من اهدار الأصل.
قلنا: قد أوجبنا للزجر التعزير والحبس فأما وجوب الضمان للجبران فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة ماله ولو اوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلما مضافا إلى الشرع لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلا فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه.
قال: أقام رب الدابة البينة أنها نفقت عند الغاصب من ركوبه وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها إليه وماتت في يده فعلى الغاصب القيمة لأن رب الدابة يثبت على الغاصب سبب وجوب القيمة والغاصب ينفي ذلك لأن موت الدابة في يد مالكها لا يوجب الضمان على أحد والبينات للإثبات دون النفي.
فإن قيل: سبب وجوب الضمان على الغاصب ظاهر فهو يثبت ببينته ما يبرئه عن الضمان وهو لرد فكانت بينته أولى بالقبول.(11/145)
قلنا: نعم ولكن ثبوت الرد لا يمنع قبول بينة المالك على هلاكها من ركوب الغاصب لجواز أن يكون ركبها بعد الرد فماتت من ركوبه فلهذا جعلنا بينته أولى بالقبول وكذلك لو شهد شهود صاحبها أن الغاصب قتلها أو أنه هدم الدار وشهود الغاصب أنه ردها إليه على حالها لأن القتل بعد الرد يتحقق من الغاصب وكذلك لو هدم الدار بعد الرد يتحقق منه فيجب قبول بينة صاحبها في إثبات سبب متجدد للضمان على الغاصب لأن الغاصب بينته تنفي ذلك السبب فأما إذا أقام صاحبها البينة أنها ماتت في يد الغاصب وأقام الغاصب البينة أنه ردها فماتت في يد صاحبها فعلى قول أبي حنيفة تقبل بينة صاحبها كما في الفصول المتقدمة لأن الغصب بعد الرد يتحقق فصاحبها ببينته يثبت سبب ضمان متجدد وهو غصبه إياها عند الموت فيقضى له بالضمان لهذا وعند محمد رحمه الله البينة بينة الغاصب هنا لما فيها من إثبات الرد وسقوط الضمان عنه به ثم ليس في بينة صاحبها هنا إثبات سبب متجدد والظاهر أنهم إنما شهدوا بذلك لأنه خفي عليهم الرد وقد علموا الغصب فاستصحبوا ذلك وشهدوا أنها ماتت في يد الغاصب وشهود الغاصب علموا الرد وقد علموا الغصب فشهدوا به بخلاف ما سبق فإن القتل والهدم والإتلاف من الركوب سبب متجدد لا يشهدون عليه ما لم يعاينوه باعتبار علمهم بالغصب السابق.
وإذا وهب الغاصب الثوب المغصوب لرجل فلبسه حتى تخرق أو كان طعاما فأكله ثم جاء المغصوب منه وضمن الموهوب له فليس له أن يرجع بالضمان على الواهب عندنا. وقال(11/146)
ص -69- ... الشافعي رحمه الله له ذلك لأنه صار مغرورا من جهته حين أوجب الملك له بالعقد وأخبره أنه يهب ملك نفسه وأنه لا يلحقه فيه ضمان من جهة أحد والمغرور يرجع على الغار بما يلحقه من الضمان دفعا للضرر عنه ولكنا نقول الموهوب له في القبض والأكل عامل لنفسه ومن عمل لنفسه فلحقه ضمان بسببه لا يرجع به على أحد فأما المغرور قلنا مجرد الغرور بالخبر لا يثبت له حق الرجوع كمن أخبر إنسانا أن هذا الطريق أمن فسلكه فأخذ اللصوص ماله أو أخبره أن هذا الطعام طيب وكان مسموما فتناوله فتلف وإنما الغرور في عقد الضمان هو المثبت للرجوع لمعنيين.
أحدهما: أن بعقد الضمان يستحق صفة السلامة عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق فبفوات ما هو مستحق له ثبت له حق الرجوع فأما بعقد التبرع لا يستحق الموهوب له صفة السلامة ولهذا لو وجد الموهوب معيبا لا يرده بالعيب فلا يرجع بسبب الغرور أيضاً.(11/147)
والثاني: وهو أن القابض بحكم عقد الضمان عامل للمالك من وجه فإنه يتقرر به حقه في العوض وهو الثمن فإذا لحقه ضمان بسببه رجع به عليه فأما الموهوب له في القبض عامل لنفسه من كل وجه لأن الواهب لم يشترط لنفسه شيئا ليتأكد ذلك بقبضه وعلى هذا لو وهب له جارية فاستولدها ثم جاء مستحق واستحقها وأخذها وعقرها وقيمة ولدها لم يرجع الموهوب له على الواهب بشيء بخلاف ما لو كان اشتراها فإن هناك يرجع بقيمة الولد لأنه ضمن له سلامة الولد بعقد الضمان فإذا لم يسلم له رجع عليه بما لحقه ولا يرجع بالعقر عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله يرجع بالعقر أيضا لأن البائع قد ضمن له سلامة الوطء أيضا ولكنا نقول وجب العقر بما استوفى منها وهو الذي نال تلك اللذة فلا يرجع بما لحقه بسببه على أحد وعلى هذا لو أن غاصب الدابة أجرها فعطبت عند المستأجر ثم ضمنه المغصوب منه قيمتها رجع بها على الآخر ليتحقق الغرور بمباشرة عقد الضمان ولأن المستأجر في قبضها عامل للآخر من وجه فإنه يتقرر به حقه في الأجر فأما المستعير إذا ضمن قيمة الدابة لصاحبها لم يرجع على أحد بالاتفاق عندنا لانعدام عقد الضمان كما بينا في الهبة وعند الشافعي رحمه الله لأن المستعير ضامن للعين في حق المعير فلهذا لا يرجع عليه بما يلحقه من الضمان وإذا اختلف رب الثوب والغاصب في قيمته وقد استهلكه الغاصب فالبينة بينة رب الثوب لما فيها من إثبات الزيادة والقول قول الغاصب مع يمينه إذا لم يكن لرب الثوب بينة لأنكاره الزيادة وإن أقام الغاصب بينة أن قيمة ثوبه كان كذا لم يلتفت إلى بينته ولا يسقط اليمين بها عنه لأن هذا القدر من القيمة ثابت باتفاقهما وإنما يدعي رب الثوب الزيادة على ذلك والشهود لم يتعرضوا لتلك الشهادة أو نفوا تلك الزيادة والشهادة على النفي لا تكون مقبولة فلهذا كان لرب الثوب أن يحلف الغاصب على دعواه وفي الأصل يقول رب الثوب هو المدعى والغاصب هو المدعي عليه والشرع جعل(11/148)
البينة في جانب المدعي فقال البينة على المدعي وبالألف واللام يظهر أن جنس البينة في جانب المدعي وجعل اليمين في جانب(11/149)
ص -70- ... المدعى عليه والبينة لا تصلح بدلا عن اليمين فلا يسقط عنه اليمين بما أقام من البينة فإن شهد لرب الثوب شاهد أن قيمة ثوبه كذا وشهد آخر على إقرار الغاصب بذلك لم تجز شهادتهما بذلك لأنهما اختلفا فشهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل ولا يثبت واحد منهما إلا بشهادة شاهدين وإن لم يكن لواحد منهما البينة فأردت أن تحلف الغاصب على ذلك فقال أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف عليه فليس له ذلك لأن الشرع جعل اليمين على المدعى عليه وما كان مستحقا على المرء شرعا فليس له أن يحوله إلى غيره.(11/150)
قال: ولا أدر اليمين ولا أحولها عن موضعها الذي وضعها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى هذا أن اليمين شرعا في جانب المدعى عليه إما للنفي أو لإبقاء ما كان على ما كان وهو براءة ذمته فإذا حولت إلى جانب المدعي لم يعمل إلا بهذا المقدار لأن عمل الشيء في محله أقوى منه في غير محله وبهذا القدر لا يستحق المدعي شيئا بل حاجته إلى إثبات ما ليس بثابت له واليمين لا تصلح لهذا وكذلك إن رضي رب الثوب بذلك وقال أنا أحلف فتراضيهما على ما يخالف حكم الشرع يكون لغوا فإذا جاء الغاصب بثوب زطي فقال هذا الذي غصبتكه وقال رب الثوب كذبت بل هو ثوب هروي أو مروي كان القول قول الغاصب مع يمينه لأن الاختلاف منهما في تعيين المقبوض والقول فيه قول القابض أمينا كان أو ضامنا لأنه لو أنكر القبض أصلا كان القول قوله ثم ذكر صفة يمينه وقال يحلف بالله أن هذا ثوبه الذي غصبه إياه وما غصبه هرويا ولا مرويا لأن في تعيين المقبوض القول قوله ومن جعل القول قوله شرعا فإنه يحلف على ما يقول كالمودع في رد الوديعة أو هلاكها والمدعي يدعي عليه أنه غصبه هرويا أو مرويا وهو منكر لذلك فالقول قوله مع اليمين فلهذا جمع في اليمين بين الأمرين فإذا حلف قضيت لصاحب الثوب بالثوب وأبرأت الغاصب من دعوى رب الثوب وإن نكل عن اليمين يقضى عليه بما ادعاه المدعي لأن نكوله كإقراره وعند النكول لا يقضى له بهذا الثوب لأنه لا يدعي ثوبين إنما يدعى ثوبا هرويا وقد استحقه فأما إذا حلف فهو ما استحق ثوبا سوى هذا وقد كان يدعي أصل الثوب بصفته ولم يثبت له تلك الصفة بنفي دعواه أصل الثوب فيقضى له بهذا الثوب باعتبار دعواه فإن شاء أخذه وإن شاء تركه فإن جاء بثوب هروي خلق وقال هذا الذي غصبتكه وهو على حاله وقال رب الثوب بل كان ثوبي جديدا حين غصبته فالقول قول الغاصب مع يمينه لإنكاره قبض الثوب حين كان جديدا ولأن الظاهر شاهد له فإن صفة الثوب في الحال معلوم وعند الغصب مختلف فيه(11/151)
فيرد المختلف فيه إلى ما هو المعلوم في نفسه ولأن الغصب حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات فإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الثوب أنه غصبه جديدا لإثباته سبق التاريخ في غصبه وضمان النقصان عليه باعتبار فوات الصفة عنده وإن لم يقم لواحد منهما بينة وحلف الغاصب وأخذ رب الثوب ثم أقام البينة أنه غصبه إياه جديدا ضمن الغاصب فضل ما بينهما لأن الثابت ببينة كالثابت بإقرار الخصم ويمين الغاصب لا يمنع قبول بينة رب الثوب بعد ذلك هكذا نقل عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: اليمين الفاجرة(11/152)
ص -71- ... أحق أن ترد من البينة العادلة ولأن القاضي ما قضى بأن المغصوب كان خلقا وقت الغصب ولكنه امتنع عن القضاء بأنه كان جديدا عند ذلك لعدم الحجة فإذا قامت الحجة فعليه أن يقضي بها فإن كان غصبه ثوبا فصبغه أحمر أو أصفر فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة الثوب أبيض وكان الثوب للغاصب وإن شاء أخذ الثوب وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه لأن الصبغ مال متقوم وهو قائم في الثوب وقد بينا أن بغصبه لا يسقط حرمة ماله فأصل الثوب لصاحب الثوب والصبغ للغاصب وقد تعذر تمييز أحدهما عن الآخر وتعذر اتصال منفعة ملك كل واحد منهما على الانفراد إليه إلا أن صاحب الثوب صاحب الأصل والغاصب صاحب الوصف فإثبات الخيار لصاحب الأصل أولى لأن الأصل قائم بنفسه وقيام الوصف بالأصل فإن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض لأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ملكه بدون غرم يلزمه وله أن لا يلتزم الغرم فيضمنه قيمة الثوب أبيض كما غصبه ويصير الثوب للغاصب بالضمان وإن شاء ضمن له ما زاد الصبغ فيه فيتوصل الغاصب إلى مالية حقه ويتملك صاحب الثوب عليه هذا الصبغ بما يؤدي من الضمان والغاصب راض بذلك حين جعل ملكه وصفا لملك الغير وإن شاء رب الثوب باع الثوب فيضرب في ثمنه بقيمته أبيض ويضرب الغاصب بما زاد الصبغ فيه لأن لصاحب الثوب أن لا يملك ثوبه منه بقيمته وأن لا يغرم له قيمة الصبغ وعند امتناعه منهما لا طريق لتمييز حق أحدهما عن الآخر إلا بالبيع وهو نظير ما لو هبت الريح بثوب إنسان فألقته في صبغ غيره فانصبغ إلا أن هناك لا ضمان على صاحب الصبغ لانعدام الصبغ منه وفيما وراء ذلك هما سواء ولم يذكر في الكتاب أنه إذا كان هذا الصبغ نقصانا في هذا الثوب وقد يكون لون الحمرة والصفرة نقصانا في بعض الثياب وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال لو غصب ثوبا يساوي ثلاثين درهما فصبغه بعصفر وتراجع قيمته إلى عشرين درهما فإنه ينظر إلى قيمة الصبغ في ثوب يزيد به فإن كان خمسة دراهم(11/153)
فلصاحب الثوب أن يأخذ ثوبه ويأخذ خمسة دراهم من الغاصب أيضا لأنه استوجب عليه عشرة دراهم نقصان قيمة ثوبه واستوجب الصباغ عليه قيمة الصبغ خمسة والخمسة دراهم بالخمسة قصاص ويرجع عليه بما بقي من النقصان وهو خمسة فإن كان الغصب جارية صغيرة فرباها حتى أدركت وكبرت ثم أخذها رب الجارية لم يضمن للغاصب ما زاد في الجارية لأن الزيادة من عينها وهي مملوكة للمغصوب منه بخلاف ما بينا من الصبغ في الثوب فهو زيادة من مال الغاصب لا من العين المغصوبة ولا يرجع بما أنفق على المغصوب منه لأنه متبرع في الإنفاق بغير أمره ولأنه استخدمها بما أنفق ولأنه انتفع بهذا الإنفاق لأنه تمكن بها من الرد وإسقاط الضمان عن نفسه وإذا غصب سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة سويقه وإن شاء أخذ سويقه وضمن للغاصب ما زاد السمن فيه لأن السمن في السويق زيادة وصف من مال الغاصب كالصبغ في الثوب وكذلك الدهن إذا خلط به مسكه وهذا إذا كان دهنا يطيب بالمسك فإن كان دهنا منتنا كدهن البرز ونحوه أخذه صاحبه ولم يضمن للغاصب شيئا لأن المسك صار مستهلكا فيه وإذا غصب ثوبا فصبغه اسود فلصاحب(11/154)
ص -72- ... الثوب أن يأخذه ولا يعطيه شيئا في قول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله السواد كالحمرة والصفرة ولا اختلاف في الحقيقة ولكن أبو حنيفة أجاب على ما شاهد في عصره من عادة بني أمية وقد كانوا ممتنعين من لبس السواد وهما أجابا على ما شاهدا في عصرهما من عادة بني العباس رضي الله عنه بلبس السواد وقد كان أبو يوسف يقول أولا بقول أبي حنيفة فلما قلد القضاء وأمر بلبس السواد واحتاج إلى التزام مؤنة في ذلك رجع وقال السواد زيادة وقيل السواد يزيد في قيمة بعض الثياب وينقص من قيمة بعض الثياب كالغصب ونحوه فإن كان المغصوب ثوبا ينقص بالسواد من قيمته فالجواب ما قاله أبو حنيفة وإن كان ثوبا يزيد السواد في قيمته فالجواب ما قالا أنه بمنزلة الحمرة والصفرة وإن غصبه ثوبا فقطعه قميصا ولم يخطه فهو بالخيار إن شاء ضمن قيمته وإن شاء أخذ الثوب وضمنه ما نقصه القطع لأن القطع نقصان فاحش في الثوب فإنه قبل القطع كان يصلح لاتخاذ القباء والقميص وبعد ما قطع قميصا لا يصلح لاتخاذ القباء منه على الوجه الذي كان يصلح قبل القطع فكان مستهلكا من وجه قائما من وجه فإن شاء مال صاحبه إلى جانب الاستهلاك وضمنه قيمته وإن شاء مال إلى جانب البقاء وأخذ عين الثوب وضمنه نقصان القطع لأن الثوب ليس بمال الربا وتضمين النقصان في مثله مع أخذ العين جائز شرعا وكذلك إذا نقصه الصبغ الأسود فله أن يأخذه ويضمنه ما نقصه لأن الصبغ الأسود في مثله نقصان فاحش وهو كالاستهلاك من وجه لأن قبله كان متمكنا من إحداث أي لون شاء فيه وقد خرج من أن يكون صالحا لذلك والصبغ الأسود من الثوب لا يمكن قلعه عادة وبه يفرق أبو حنيفة بينه وبين سائر الألوان ولو اغتصب ثوبا فخرقه فإن كان خرقا صغيرا ضمن الغاصب النقصان فقط وأخذ صاحب الثوب ثوبه لأن العين قائم من كل وجه فبهذا القدر من الخرق لا يخرج من أن يكون صالحا لما كان صالحا قبله وإنما يتمكن في قيمته نقصان(11/155)
فيضمن ذلك النقصان وإن كان الخرق كبيرا وقد أفسد الثوب فصاحبه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه لأنه مستهلك من كل وجه فإنه لا يصلح بعد هذا الخرق لجميع ما كان صالحا قبله له وإن شاء أخذ الثوب لكونه قائما حقيقة وضمنه ما نقصه فعل الغاصب.
وأما الدابة: إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلصاحبها أن يضمن الغاصب قيمتها بخلاف ما لو كان المغصوب عبدا أو جارية فيقطع منه يدا أو رجلا فهناك يأخذه مع أرش المقطوع لأن الآدمي بقطع طرف منه لا يصير مستهلكا لبقائه صالحا لعامة ما كان صالحا له من قبل والدابة تصير مستهلكة بقطع طرف منها فإنه لا ينتفع بها بما هو المقصود من الحمل والركوب بعد هذا القطع فلهذا كان لصاحبها أن يتركها للغاصب ويضمنه قيمتها وكذلك لو كانت بقرة أو جزورا فقطع يدها أو رجلها أو كانت شاة فذبحها لأن الذبح استهلاك من وجه فإنه يفوت به بعض ما كان مقصودا من النسل واللبن فلصاحبها أن يضمنه قيمتها إن شاء وإن شاء أخذ المذبوح مسلوخا كان أو غير مسلوخ وضمن الغاصب النقصان في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن(11/156)
ص -73- ... أبي حنيفة رحمهما الله لا يضمنه شيئا لأن الذبح والسلخ في الشاة زيادة ولهذا يلتزم بمقابلته العوض ولكن ما ذكره في ظاهر الرواية أصح لأنه زيادة من حيث التقرب إلى الانتفاع باللحم ولكنه نقصان بتفويت سائر الأغراض من الحيوان ولأجله يثبت الخيار فكان هذا والقطع في الثوب سواء يضمنه النقصان إن شاء.
وإذا طحن الغاصب الحنطة فعليه مثلها والدقيق له عندنا" وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان:
إحداهما: أن حق المغصوب منه لا ينقطع عن الدقيق لا على معنى أنه يتمكن من أخذه ولكن يباع فيشتري له به حنطة مثل حنطته وإن مات الغاصب فالمغصوب منه أحق به من سائر الغرماء لأنه زال ملكه ويده بسبب لم يرض به ولو زال ملكه بسبب هو راض به كالبيع لا ينقطع حقه وإذا أزيلت يده بغير رضاه بأن قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع فهنا أولى أن لا ينقطع حقه.(11/157)
والرواية الأخرى: أن ملكه لا يزول بل له الخيار وإن شاء ترك الدقيق وضمنه حنطة مثل حنطته وإن شاء أخذ الدقيق ولم يضمنه شيئا قال أستحسن ذلك وأخالف فيه أبا حنيفة لأنه استقبح أن يأتي مفلس إلى كر حنطة إنسان فيطحنه ثم يهب الدقيق لابنه الصغير فلا يتوصل صاحب الحنطة إلى شيء فهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا إلا أن عند الشافعي رحمه الله يأخذ الدقيق ويضمنه النقصان إن كان لما بينا أن على أصله تضمين النقصان مع أخذه العين فى أموال الربا جائز وعند أبي يوسف لا يجوز ذلك كما هو مذهبنا ووجه هذا أن الدقيق عين شبه فيكون له أن يأخذه كما قبل الطحن وهذا لأن عمل الطحن في تفريق الأجزاء لا لإحداث ما لم يكن موجودا وتفريق الأجزاء لا يبدل العين كالقطع في الثوب والذبح والسلخ والتأريب في الشاة والدليل عليه أن الدقيق جنس الحنطة ولهذا جرى الربا بينهما ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة واستدل محمد رحمه الله في إملاء الكيسانيات لأبي حنيفة رحمه الله بالحديث الذي رواه أبو حنيفة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبي مرة عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فقدم إليه شاة مصلية فأخذ منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ذبحت بغير حق" فقال الأنصاري: كانت شاة أخي ولو كانت أعز منها لم ينفس علي بها وسأرضيه بما هو خير منها إذا رجع قال صلى الله عليه وسلم: "أطعموها الأسارى" قال محمد يعني المحبسين فأمره بالتصدق بها بيان منه أن الغاصب قد ملكها لأن مال الغير يحفظ عليه عينه إذا أمكن وثمنه بعد البيع إذا تعذر عليه حفظ عينه ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها دل أنه ملكها والخلاف في الفصلين سواء قال محمد وهذا الحديث جعله أبو حنيفة رحمه الله أصلا في أكثر مسائل الغصب.
والمعنى فيه أن هذا الدقيق غير الحنطة وهو إنما غصب الحنطة فلا يلزمه رد الدقيق،(11/158)
ص -74- ... كمن أتلف حنطة لا يلزمه رد الدقيق وبيان المغايرة أنهما غيران اسما وهيئة وحكما ومقصوداً. وكذلك يتعذر إعادة الدقيق إلى صفة الحنطة وتحقيقه أن الموجودات من المخلوقات تعرف بصورتها ومعناها فتبدل الهيئة والاسم دليل على أن المغايرة صورة وتبدل الحكم والمقصود دليل على المغايرة معنى وإذا ثبتت المغايرة فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام الأول لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين وإذا انعدم الأول بفعله صار ضامنا مثله وقد ملكه بالضمان فيجعل هذا الدقيق حادثا من ملكه فيكون مملوكا له أو يجعل حادثا بفعله وفعله سبب صالح لحكم الملك فيصير مضافا إليه ولكن بين الدقيق والحنطة شبهة المجانسة من حيث الصورة وهو أن عمل الطحن صورة تفريق الأجزاء وباب الربا مبني على الاحتياط لبقاء شبهة المجانسة من هذا الوجه جرى حكم الربا بخلاف القطع في الثوب والذبح في الشاة فإن بالذبح لا يفوت اسم العين يقال شاة مذبوحة وشاة حية فبقيت مملوكة لصاحبها ثم بالسلخ والتأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل تحقق ذلك المقصود فلا يكون ذلك دليل تبديل العين فلهذا كان لصاحبها أن يأخذها ثم على قول زفر للغاصب أن يأكل هذا الدقيق وينتفع به قبل أن يؤدي الضمان وهو القياس لأن ملكه حادث بكسبه وفي الاستحسان وهو قولنا ليس له أن ينتفع بما ما لم يؤد الضمان بالتراضي أو بقضاء القاضي أو يقضى عليه بالضمان لما بينا أن من حيث الصورة هذه أجزاء ملك المغصوب منه وهذه الصورة معتبرة فيما بني على الاحتياط والأكل مبني على ذلك فإنما يتم تحول حق المغصوب منه إلى الضمان بالاستيفاء أو بالقضاء فلهذا لا ينتفع به إلا بعده.(11/159)
وإذا استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يضمن قيمته من جنسه بناء على أصله أن للجودة والصفة في الأموال الربوية قيمة وعندنا لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها فلو أوجبنا مثل قيمتها من جنسها أدى إلى الربا ولو أوجبنا مثل وزنها كان فيه إبطال حق المغصوب منه عن الجودة والصفة فلمراعاة حقه والتحرز عن الربا قلنا يضمن القيمة من الذهب مصوغا وإن وجده صاحبه مكسورا فرضي به لم يكن له فضل ما بين المكسور والصحيح لأنه عاد إليه عين ماله فبقيت الصفة منفردة عن الأصل ولا قيمة لها في الأموال الربوية ولأنه لو أخذ للصفة عوضا كان هذا في معنى مبادلة العشرة بأحد عشر وذلك لا يجوز في الأموال الربوية وله أن يضمن الغاصب قيمته مصوغا من الذهب ويسلمه إليه سواء كان النقصان بالكسر يسيرا أو فاحشا لأنه لا يتوصل إلى دفع الضرر عن نفسه وإبقاء حقه في الصفة إلا بذلك وكذلك كل إناء مصوغ كسره رجل فإن كان من فضة فعليه قيمته مصوغا من الذهب وإن كان من ذهب فعليه قيمته مصوغا من الفضة للتحرز عن الربا مع مراعاة حق المغصوب منه في الصفة فإن كسر درهما أو دينارا فعليه مثله لأنه غيره بصنعه ولا يتم دفع الضرر عن صاحبه إلا بإيجاب المثل والمكسور للكاسر إذا ضمن مثله وإن شاء صاحبه أخذه ولم يرجع عليه بشيء ويستوي إن كانت مالية انتقصت بالكسر أو لم تنتقص(11/160)
ص -75- ... لأن صفة العين بغير فعله وذلك كاف لإثبات الخيار له إلا فيما يكون زيادة فيه على ما تبين.
وإذا ادعى دارا أو ثوبا أو عبدا في يد رجل وأقام البينة أنه له وقال الذي هو في يديه هو عندي وديعة فهو خصم لظهور العين في يده ولم يثبت بقوله أن يده يد غيره.
وإن أقام البينة أن فلانا استودعها إياه أو أعارها أو أجرها أو رهنها منه لم يكن بينهما خصومة لأنه أثبت ببينته أن يده يد حفظ وهذه مسألة مخمسة وقد بيناها في كتاب الدعوى وإن أقام المدعي البينة أن ذا اليد غصبه منه لم تندفع الخصومة عنه لأنه صار خصما بدعوى الفعل عليه ألا ترى أن دعواه الخصم صحيح على غير ذي اليد بخلاف دعوى الملك المطلق وإن أقام المدعي البينة على أنه ثوبه غصب منه فقد اندفعت الخصومة عن ذي اليد بما أقام من البينة لأن الفعل غير مدعى عليه فإن هذا فعل ما لم يسم فاعله فإنما كان ذو اليد خصما باعتبار يده وقد أثبت أن يده يد حفظ وإن قال المدعي هذا ثوبي سرق مني فالجواب كذلك في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله.
قوله: سرق مني ذكر فعل ما لم يسم فاعله فلا يصير الفعل به مدعي على ذي اليد إنما كان هو خصما باعتبار يده كما في الغصب ولكن استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله وقالا لا تندفع الخصومة عن ذي اليد وللاستحسان وجهان:
أحدهما: أن قوله سرق مني معناه سرقه مني إلا أنه اختار هذا اللفظ انتدابا إلى ما ندب إليه في الشرع من التحرز عن إظهاره الفاحشة والاحتيال لدرء الحد فإذا آل الأمر إلى أن يبطل حقه يعود فيدعي عليه فعل السرقة وهذا المعنى لا يوجد في الغصب لأن الغاصب تجاهر بما صنع ولا يندب إلى الستر على من تجاهر بفعله.(11/161)
والثاني: أن السارق في العادة يكون بالبعد من المسروق منه فيشتبه عليه في ظلمة الليل أنه فلان أو غيره فهو بقوله سرق مني يتحرز عن توهم الكذب وله ذلك شرعا فكان هذا في معنى قوله سرقته مني بخلاف الغصب ولأن السراق قلما يوقف على أثرهم لخوفهم من إقامة الحد عليهم فلو اندفعت الخصومة عن ذي اليد بهذا كان إبطالا لحق المدعي لا تحويلا فهو بمنزلة ما لو أقام البينة على أنه أودعه رجل لا يعرفه بخلاف الغاصب فإنه يكون ظاهرا فيكون هذا من ذي اليد تحويلا للخصومة إليه لا إبطالا لحق المدعي.
رجل غصب ثوب رجل فاستهلكه فضمن إنسان عن الغاصب قيمته وليس لرب الثوب بينة على قيمته فقال الكفيل قيمته عشرة وقال الغاصب عشرون وقال صاحب الثوب ثلاثون لم يلزم الكفيل إلا عشرة دراهم مع يمينه بالله ما قيمته إلا ذلك" لأنه التزام بالكفالة قيمة المغصوب فالقول في بيان مقداره قوله كالغاصب وهذا لأنه منكر للزيادة على العشرة والقول قول المنكر مع يمينه وقد أقر الغاصب بعشرة أخرى فهو مصدق على نفسه غير مصدق على الكفيل وليس من ضرورة وجوب العشرة الأخرى عليه وجوبها على الكفيل فلهذا يرجع على(11/162)
ص -76- ... الغاصب بعشرة أخرى مع يمينه بالله ما قيمته إلا عشرون لأن صاحب الثوب يدعي عليه عشرة أخرى وهو منكر لذلك.
رجل غصب جارية شابة فكانت عنده حتى صارت عجوزا فإن صاحبها يأخذها وما نقصها" لأنها صارت مضمونة على الغاصب بجميع أجزائها وقد فات وصف مقصود منها وهو الشباب فعلى الغاصب ضمان ذلك اعتبارا للجزء بالكل وكذلك لو غصبه غلاما شابا فكان عنده حتى هرم لأنه فات بعض ما هو مقصود منه وهو قوة الشباب والهرم نقصان في العين وهذا بخلاف ما لو غصبه صبيا فشب عنده لأنه ازداد عند الغاصب بما حدث له من قوة الشباب وكذلك لو نبت شعره عند الغاصب لأنه ازداد جمالا عنده فإن اللحية جمال ولهذا يجب بحلقها من الحر عند اقتبال المنبت كمال الدية والغاصب بالزيادة عنده لا يصير ضامنا شيئا ولو كان محترفا بحرفة فنسي ذلك عند الغاصب كان ضامنا للنقصان لأنه فات ما كان مقصودا منه عند الغاصب وما يزيد في ماليته.
فإن قيل: عدم العلم بالحرفة ليس بنقصان في العين ولهذا لا يثبت به حق الرد بالعيب.
قلنا: نعم ولكن إذا وجد فهو زيادة في العين ولهذا يستحق في البيع بالشرط ويثبت حق الرد عند فواته فيضمن الغاصب باعتباره النقصان أيضا وكذلك إن غصب ثوبا من رجل فعفن عنده واصفر فقد انتقصت ماليته بما حدث في العين عند الغاصب فكان ضامنا للنقصان ولو غصب طعاما حدثا فأمسكه حتى عفن عنده فعليه طعام مثله وهذا الفاسد للغاصب لأن دفع الضرر عن المالك يتضمن النقصان والنقصان هنا متعذر فيصار إلى دفع الضرر عنه بتضمين المثل إلا أن يرضى المالك بأخذ الطعام العفن فيأخذه ولا شيء له سواه.(11/163)
رجل: غصب من رجل ثوبا ومن آخر عصفرا فصبغه به ثم حضرا جميعا فقال أما صاحب العصفر فيأخذه حتى يعطيه عصفرا مثله أو قيمته" لأن ما غصبه منه صار مستهلكا بفعله فإنه كان عين مال قائم بنفسه وقد صار وصفا قائما بملك غيره فعرفنا أنه صار مستهلكا فعلى الغاصب ضمان مثله أو قيمته إن كان لا يوجد مثله والسواد في هذا كغيره عندهم جميعا لأن السواد في نفسه مال متقوم وإنما هو نقصان في الثوب عند أبي حنيفة وإذا ضمن لصاحب العصفر عصفره ملك المضمون وصار في الحكم كأنه صبغه بعصفر نفسه وقد بينا حكم الخيار فيه ولو كان غصب الثوب والصبغ من رجل واحد فصبغه به ففي القياس كذلك لأنه مستهلك للصبغ بما صنع فيتقرر عليه ضمانه ويصير ذلك مملوكا له ولكن في الاستحسان لصاحب الثوب هنا أن يأخذ ثوبه ولا يعطي الصباغ شيئا ولا يضمنه قيمة صبغه لأن ملكه صار وصفا لملكه فلا يكون مستهلكا به من هذا الوجه ولأنه إذا اختار أصل الثوب كان مجيزا لفعله في الانتهاء فيجعل ذلك كالإذن منه في الابتداء فلهذا كان له أن يأخذ الثوب إن شاء وإن شاء ضمنه الصبغ لأنه مستهلك من الوجه الذي قلنا وإذا ضمنه كان بمنزلة ما لو صبغ الثوب بصبغ نفسه على ما بينا ولو كان الثوب مغصوبا من إنسان والصبغ من آخر وصبغه للغاصب ثم لم يقدر(11/164)
ص -77- ... عليه ففي القياس أن يأخذ صاحب الثوب ثوبه ولا يبقي لصاحب الصبغ عليه شيء لأن صبغه مستهلك بفعل الغاصب وضمانه دين عليه وللغاصب على صاحب الثوب قيمة الصبغ إذا أخذ الثوب فهذا الرجل وجد مديون مديونه فلا سبيل له عليه حتى يحضر خصمه.
وفي الاستحسان إذا أخذ الثوب ضمن له ما زاد الصبغ فيه لأن عين ماله قد احتبس عنده وإن لم يوجد من جهته صبغ فيه فهو كما لو انصبغ ثوب إنسان بصبغ إنسان ولهذا نوجب السعاية في العبد المشترك يعتقه أحدهما لأن نصيب الشريك قد احتبس عند العبد وإن لم يوجد منه صبغ في ذلك وإن شاء صاحب الثوب باعه فضرب هو في الثمن بقيمة ثوبه أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ كما لو صبغه الغاصب بصبغ نفسه على ما بينا فإن غصب من واحد حنطة ومن آخر شعيرا فخلطهما ضمن لكل واحد منهما ما غصب منه لأنه تعذر على كل واحد منهما الوصول إلى عين ملكه فإن تمييز الحنطة من الشعير متعسر والمتعسر كالمتعذر والمتعذر كالممتنع ولم يبين في الكتاب حكم المخلوط فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى المخلوط يصير ملكا للخالط سواء خلط الحنطة بالحنطة أو بالشعير وعلى قول أبي يوسف ومحمد لهما الخيار إن شاءا أخذا المخلوط فكان مشتركا بينهما بقدر ملكهما وإن شاءا تركا المخلوط وضمن كل واحد منهما الخالط مثل ماله لأن عين مال كل واحد منهما باق أما في الخلط بالجنس فلأن الشيء يتكثر بجنسه وكذلك في الخلط بغير الجنس إذا كان بحيث يتأتى التمييز في الجملة إلا أنه تعيب ملك كل واحد منهما بعيب الشركة فلهذا يثبت لكل واحد منهما حق التضمين إن شاء وإن شاء اعتبر بقاء عين الملك حقيقة فيختار الشركة في المخلوط وهو نظير غاصب الثوب إذا صبغه على ما بينا وأبو حنيفة يقول بالخلط صار ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما لأن المخلوط في الحكم كأنه شيء آخر سوى ما كان قبل الخلط ألا ترى أنه يبدل اسم العين فقبل ذلك كان يسمى قفيزا والآن يسمى كرا والمكيل والموزون في حكم(11/165)
شيء واحد ولهذا لو وجد ببعضه عيبا لم يرد بالعيب خاصة والبعض من الشيء الواحد غير كله فعرفنا أن هذا المخلوط حادث بفعل الغاصب حكما فيكون مملوكا له ومن ضرورته صيرورة ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما ولهذا ثبت لكل واحد منهما حق التضمين مع إمكان التمييز في الجملة بخلاف الثوب مع الصبغ وإذا صار ملك كل واحد منها مستهلكا تقرر الضمان على الغاصب وذلك يوجب الملك له في المضمون وهذا بخلاف ما إذا حصل الاختلاط من غير صنع أحد فإن المخلوط هناك أيضا هالك إلا أنه لا ضامن له فيكون لأقرب الناس إليه وهما المالكان قبل الخلط ولأن الحكم يضاف إلى المحل عند تعذر إضافته إلى السبب ولأن المحل بمعنى الشرط والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فإذا كان الخلط بفعل آدمي وهو سبب صالح لإضافة الملك إليه في المخلوط يصير مضافا إليه وعند انعدام الفعل يكون مضافا إلى المحل فلهذا كان المخلوط لهما ولو غصب من آخر كتانا فغزله ونسجه فعليه مثله أو قيمته إن كان لا يوجد مثله ولا سبيل له على الثوب وكذلك إن غصب(11/166)
ص -78- ... قطنا فغزله ونسجه أو غصب غزلا فنسجه وهذا عندنا فأما على قول أبي يوسف الآخر وهو قول الشافعي رضي الله عنه فلصاحب الكتان والقطن الخيار على نحو ما بينا في الحنطة إذا طحنها لأنه لا فرق بين الفصلين في المعنى فإن هناك الغاصب فرق الأجزاء المجتمعة بالطحن وهنا جمع الأجزاء المتفرقة بالنسج فكما لا تبدل العين بتفريق المجتمع فكذلك لا تتبدل بجمع المتفرق وهو كما لو غزل القطن ولم ينسجه فإنه لا ينقطع حق صاحب القطن ولكن يثبت له الخيار ولكنا نقول الثوب غير الغزل والقطن صورة ومعنى أما الصورة فالغزل خيط ممدود والثوب مؤلف مركب له طول وعرض. والدليل على المغايرة تبدل الاسم ومن حيث المعنى والحكم الغزل والقطن موزون وهو مال الربا والثوب مذروع ليس بمال الربا وبعد النسج لا يتصور إعادته إلى الحالة الأولى فإذا ثبتت المغايرة بينهما فمن ضرورة حدوث الثاني انعدام الأول لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين ثم هذا حادث بعمل الغاصب فكان مملوكا له والأول صار مستهلكا بعمله فصار ضامنا له فأما القطن إذا غزله فالصحيح من الجواب أنه ينقطع حق المالك أيضا وإليه أشار في كتاب الدعوى حيث سوى بين القطن إذا غزله وبين الغزل إذا نسجه ومن أصحابنا رحمهم الله من فرق بينهما فقال القطن غزل لأنه خيوط رقيقة يبدو ذلك لمن أمعن النظر فيه ويتحقق ذلك في الإبرسيم فالغزل إحداث المجاورة بينهما وليس بتركيب وتأليف وبإحداث المجاورة لا تتبدل العين ولهذا بقي موزونا يجري فيه الربا كما كان قبله بخلاف الغزل إذا نسجه ولو غصب ساجة فجعلها بابا أو حديدا فجعله سيفا ضمن قيمة الحديد والساجة وجميع ذلك للغاصب عندنا وكذلك لو غصب ساجة أو خشبة وأدخلها في بنائه أو آجرا فأدخله في بنائه أو جصا فبنى به فعليه في كل ذلك قيمته عندنا وليس للمغصوب منه نقض بنائه وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى في هذه الفصول لا ينقطع حق صاحبها فزفر مع الشافعي رحمهما الله(11/167)
في هذا النوع لأن الحادث زيادة وصف من غير أن يكون الأول مستهلكا بخلاف ما تقدم. وبيان هذا ما ذكر في الجامع إذا اشترى حنطة فطحنها أو غزلا فنسجه ثم زاد البائع في الثمن لم يجز ولو اشترى ثوبا فقطعه وخاطه ثم زاد في الثمن يجوز فوجه قولهم في ذلك أن الغاصب قادر على رد عين المغصوب من غير إيلام حيوان فيجب رده كالساجة إذا بنى عليها وتأثير هذا الكلام أن العين باق والرد جائز شرعا فإن بالاتفاق لو رده الغاصب جاز ولو صبر المغصوب منه حتى نقض الغاصب البناء والخياطة كان له أن يأخذه فدل أن العين باق ورده عين المغصوب مستحق شرعا فما دام الرد جائزا يبقى ذلك الاستحقاق بحاله بخلاف ما إذا غصب خيطا وخاط به بطن نفسه أو بطن عبده أو لوحا وأصلح به سفينة والسفينة في لجة البحر فإن ذلك لا يجوز رده لما فيه من إيلام الحيوان ونقض البنية وذلك محرم شرعا ومن ضرورة عدم جواز الرد انعدام استحقاق الرد شرعا وحجتنا في ذلك أن العين ملك المغصوب منه وما اتصل به من الوصف متقوم حقا للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة ما كان متقوما من حقه كما في الثوب(11/168)
ص -79- ... إذا صبغه بصبغ نفسه إلا أن هناك الصبغ متقوم بنفسه فيمكن إبقاء حق صاحب الثوب في الثوب مع دفع الضرر عن الغاصب بإيجاب قيمة الصبغ له وهذا الوصف غير متقوم بنفسه مقصودا ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر هنا بإيجاب قيمة المغصوب حقا للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق صاحب الوصف في الوصف مرعيا وهذا لأنه لا بد من إلحاق الضرر بأحدهما إلا أن في الإضرار بالغاصب إهدار حقه وفي قطع حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه لا إهدار حقه ودفع الضرر واجب بحسب الإمكان وضرر النقل دون ضرر الإبطال وهو نظير مسألة الخيط واللوح ولهذا جوزنا الرد ها هنا لأن الامتناع لدفع الضرر عن الغاصب فإذا رضي فقد التزم الضرر.
فإن قيل: صاحب الثوب صاحب أصل والغاصب صاحب وصف ولا شك أن مراعاة حق صاحب الأصل أولى ولم يجز لحق صاحب الوصف وهو جان.(11/169)
قلنا: لأن هذا الوصف قائم من كل وجه والأصل قائم من وجه لأن الأصل كان ملكا للمغصوب منه مقصودا والآن صار تبعا لملك غيره والتبع غير الأصل ولهذا صار بحيث يستحق بالشفعة بعد أن كان منقولا لا يستحق بالشفعة وانعدم منه سائر وجوه الانتفاع سوى هذا فعرفنا أنه قائم من وجه دون وجه والقائم من كل وجه يترجح على ما هو قائم من وجه مستهلك من وجه وإنما يترجح الأصل إذا كان قائما من كل وجه كما في مسألة الساجة فإنها قائمة من كل وجه صالحة لما كانت صالحة له قبل البناء تستحق بالشفعة كما كان من قبل فلهذا رجحنا هناك اعتبار حق صاحب الساجة ولا يدخل على شيء مما ذكرنا إذا غصب ثوبا فقصره لأنه ليس للغاصب في الثوب وصف قائم متقوم والقصارة تزيل الدرن والوسخ عن الثوب ثم لون البياض وصف أصلي للقطن ولا يقال أليس أن القصار يحبس بالأجر قلنا نعم ولكن باعتبار أثر عمله في المعمول لا باعتبار قيام الوصف في العمل للمعول بعمله وذكر الكرخي في مسألة الساجة أن موضع المسألة فيما إذا أدخل الساجة في بنائه بأن بنى حولها لا عليها لأنه لا يكون متعديا بالبناء في ملكه فأما إذا بنى على الساجة فهو متعد في هذا البناء والساجة من وجه كالأصل لهذا البناء فيهدم للرد كما في مسألة الساجة ولكن هذا ضعيف فقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في كتاب الصرف أنه لو غصب بقرة واتخذ منها عروة مزادة انقطع حق المالك عنها وهو في العمل هنا متعد لأن عمله في ملك الغير فدل أنه لا فرق بين أن يكون عمله في ملك الغير أو في ملك نفسه وأن الصحيح ما قلنا وإن غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل فعليه حنطة مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الزرع له لأنه متولد من ملكه والمتولد يملك بملك الأصل كولد الجارية وثمرة الشجرة وهذا لأن فعل الزارع حركاته والأجسام لا تتولد من الحركات والدليل على أن التولد من الأصل أن بصفة الأصل يختلف(11/170)
الزرع مع اتحاد عمل الزارع والدليل عليه أنه لو حصل بغير فعل أحد بأن هبت الريح بحنطة إنسان وألقته في أرض الغير فينبت كان الزرع لصاحب الحنطة(11/171)
ص -80- ... وحجتنا: في ذلك أن الزرع غير الحنطة لأن الحنطة مطعوم بني آدم والزرع بقل هو علف الدواب وهذا الزرع حادث لأنه ما لم يفسد الحب في الأرض لا ينبت الزرع فإما أن يكون حادثا بأصل الحنطة أو بقوة الأرض والهواء أو بعمل الزارع والأول باطل لأن كونه حنطة ليس بعلة لبقائها كذلك حنطة فكيف تكون علة لحدوث شيء آخر وقوة الأرض والهواء كذلك لأنهما مسخران بتقدير الله تعالى لا اختيار لهما فلا يصلح إضافة الحكم إليهما بنفي عمل الزارع وهو في معنى الشرط لأنه يجمع بين البذر وقوة الأرض والهواء بعمله؟ وقد بينا أنه يضاف الحكم إلى الشرط عند تعذر الإضافة إلى العلة كما أن الواقع في البئر يضاف هلاكه إلى الحافر وعمله في الشرط ولكن ما كان علة وهو تعلة ومشبه بغير علة لا يصلح عمله لإضافة الحكم إليه فيكون مضافا إلى الشرط وإذا ثبت أنه مضاف إلى عمل الزارع كان هو مكتسبا للزارع والكسب ملك للمكتسب وعليه ضمان ما صار مستهلكا بعمله إلا أنه لا يطيب له الفضل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يطيب له الفضل لأنه كسبه ولكنا نقول دخل في كسبه من حيث أنه استعمل في الاكتساب ملك الغير ولأنه من حيث الصورة هذا متولد من ذلك الأصل كما قاله الخصم ومن حيث المعنى والحكم غيره فلاعتبار الصورة قلنا لا يطيب له الفضل احتياطا وعلى هذا لو غصب نواة فأنبتها أوتالة فغرسها إلا أنه روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في التالة لا يحل له أن ينتفع بها حتى يؤدي الضمان وفي الزرع والنواة له ذلك لأن البذر والنواة تفسد في الأرض فكان الزرع والشجرة كسب الغاصب من كل وجه فيجوز له الانتفاع به قبل أداء الضمان المستهلك وأما التالة فلا تفسد ولكنها تنمو وإنما جعلنا الشجرة غير التالة من حيث الحكم فلا يحل له الانتفاع بها قبل أداء الضمان كما في الحنطة إذا طحنها وفي ظاهر الرواية الجواب في الفصلين سواء وعلى هذا لو غصب بيضة وحضنها تحت دجاجة(11/172)
له حتى أفرخت فهذا ومسألة الزرع سواء والمغايرة بين الفرخ والبيضة لا تشكل على أحد لأن هذا حيوان وذلك موات ولا يدخل على شيء من هذا إذا غصب شجرة وقلعها وكسرها لأن القلع نقصان محض لا يتبدل به اسم العين ثم الكسر تحقيق ما هو المقصود بالشجرة بعد القلع وهو الحطب فهو كمسألة الشاة إذا ذبحها وسلخها مسلم غصب خمرا من مسلم فاستهلكها فلا ضمان عليه لأن الخمر ليس بمال متقوم فإن الشرع أفسد تقومه حين حرم تموله وإن جعلها خلا فلرب الخمر أن يأخذها لأن بفساد معنى التمول والتقوم لا تخرج من أن تكون مملوكة للمسلم إذا الملك صفة للعين والعين باقية ولهذا جاز له إمساك الخمر للتخلل وكان أحق بها من غيرها فإن خللها الغاصب من غير إلقاء شيء فيها فالعين باقية على حالها لبقاء الهيئة كما كانت وإن ألقى فيها ملحا فالملح صار مستهلكا أيضا وإن صب فيها خلا فهذا خلط إلا أن الخلط إنما يزيد ملك المغصوب منه بشرط الضمان وإيجاب الضمان هنا متعذر لأن الخمر لا يضمن للمسلم بالاستهلاك فلهذا كان شريكا في المخلوط بقدر ملكه وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبغه قالوا هذا على وجهين. أما إذا(11/173)
ص -81- ... ألقى الجلد صاحبه فأخذه إنسان ودبغه فهو مملوك له لأن صاحبها ألقاه تاركا له بمنزلة من يلقي النوى وقشور الرمان فيجمع ذلك إنسان وينتفع به فإنه يكون مباحا له وأما إذا غصب الجلد من صاحبه ودبغه بشيء لا قيمة له كالتراب والشمس فصاحبه أحق به يأخذه ولا يعطي الغاصب شيئا لأن ملكه باق بعد الموت ولم يحدث الغاصب فيه زيادة مال متقوم وقد بينا أن صنعته إنما تعتبر إذا أمكن تحويل حق صاحب الأصل إلى الضمان وهذا غير ممكن هنا لأن جلد الميتة لا يضمن بالاستهلاك وأما إذا دبغه بشيء له قيمة كالشب والقرظ والعفص وما أشبه ذلك فلصاحب الجلد أن يأخذ جلده ويضمن ما زاد الدباغ فيه لأنه عين مال قائم للغاصب بمنزلة الصبغ في الثوب ولكن ليس له أن يدع الجلد ويضمنه قيمته هنا بخلاف الثوب لأن الثوب بدون الصبغ كان مالا متقوما والجلد قبل الدباغ لم يكن مالا متقوما حتى ذكر في كتاب الإجارات لو غصبه جلدا ذكيا فدبغه بشيء له قيمة فإن شاء صاحب الجلد ضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ وإن شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه لأن الجلد الذكي مال متقوم قبل الدباغ فهو ومسألة الثوب سواء وإن غصبه عصيرا فصار عنده خمرا فله أن يضمنه قيمة العصير لأن المغصوب كان مالا متقوما وبالتخمير يصير هذا الوصف منه مستهلكا ومراده من قوله يضمنه قيمة العصير أن الخصومة بعد انقطاع أو إن العصير فأما في أوانه يضمنه مثله لأن العصير من ذوات الأمثال وإن لم يحضر حتى صارت خلا فإن شاء أخذ الخل وإن شاء ضمنه قيمة العصير لأن العين باق ببقاء الهيئة ولكنه تغير من صفة الحلاوة إلى صفة الحموضة فإن شاء رضي به متغيرا ولا يضمنه شيئا آخر لأن العصير مال الربا وقد بينا أنه لا يثبت فيه حق تضمين النقصان مع أخذ العين ولم يذكر هذا الخيار قبل التخلل فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول لا خيار له لأنه لو ثبت له الخيار هناك لكان أخذ الخمر عوضا عما استوجب من قيمة العصير وذلك لا يجوز والأصح(11/174)
أن هناك يثبت الخيار أيضا بطريق أنه يكون مبرئا عن الضمان ثم يأخذ خمره ليخلله كما لو كان العصير وديعة له في يده فتخمر.
رجل له حنطة عند رجل وشعير لآخر عند ذلك الرجل أيضا وديعة فخلطهما من لا يقدر عليه ولا يعرف قال يباعان ثم يقسم الثمن على قيمة الحنطة والشعير" وهذا عندهما وهو الاستحسان عند أبي حنيفة أيضا فأما في القياس على قوله المخلوط صار مملوكا للخالط وحق كل واحد منهما في ذمته ولا ولاية لهما عليه في بيع ملكه لحقهما ووجه الاستحسان أن المخلوط وإن صار مملوكا للخالط ولكن لم ينقطع حقهما عنه بل يتوقف تمام انقطاع حقهما على وصول البدل إليهما ألا ترى أنه لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط ما لم يؤد البدل إليهما وإذا بقي حقهما فيه قلنا يباع لإيفاء حقهما عند تعذر استيفاء الضمان من الخالط كالمبيع في يد البائع يباع في الثمن إذا تعذر استيفاؤه من المشتري لغيبته ثم يضرب صاحب الحنطة في الثمن بقيمة حنطته مخلوطا بالشعير وصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير مخلوط بالحنطة لأن الحنطة تنقص بالاختلاط بالشعير وإنما دخل في البيع بهذه الصفة فلا يضرب بقيمتها إلا بالصفة(11/175)
ص -82- ... التي دخلت في البيع والشعير تزداد قيمته بالاختلاط بالحنطة ولكن هذه الزيادة من مال صاحب الحنطة فلا يستحق الضرب بها معه فلهذا يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط.
قال: وكذلك كل ما يكال أو يوزن" يعنى إذا تحقق الخلط على وجه يتعسر معه التمييز أو يتعذر فإن اختلفا في مبلغ كيل الحنطة والشعير وقد باعهما مجازفة واستهلكهما المشتري فالقول في الحنطة قول صاحب الشعير وفي الشعير قول صاحب الحنطة لأن كل واحد منهما يدعي زيادة في مقدار ملكه وكل واحد منهما غير مصدق فيما يدعي لنفسه على صاحبه وكل واحد منهما منكر للزيادة التي يدعيها صاحبه فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لإنكاره وبعد ما حلف يقسم الثمن بينهما على مقدار ما يزعم صاحبه المنكر من ملك كل واحد منهما ثوب في يدي رجل أقام رجل البينة أنه ثوبه غصبه إياه هذا وأقام الذي في يديه البينة أنه وهبه له.
فقال: أقضي للذي هو في يديه لأنه يثبت سبب الملك الحادث لنفسه وصاحبه ينفي ذلك ولأنا نجعل كان الأمرين كانا والهبة بعد الغصب تتحقق موجبا للملك وكذلك لو أقام البينة على البيع منه بثمن مسمى أو على إقراره أنه ثوبه لأن البيع والإقرار بالملك بعد الغصب يتحقق فتقبل البينتان جميعاً.
وإن كان في أيديهما جميعا فأقام كل واحد منهما البينة أنه ثوبه غصبه الآخر إياه قضيت به بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يثبت على صاحبه أنه غصب ما في يده منه وفي يد كل واحد منهما نصفه فكان بينة كل واحد منهما فيما في يد صاحبه أولى بالقبول فلهذا قضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه.(11/176)
فإن أقام رجل البينة أنه ثوبه استودعه الميت الذي هذا وارثه وأقام آخر البينة أنه ثوبه غصبه إياه الميت قضيت به بينهما لأن كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه في جميع الثوب أن وصوله إلى يد الميت كان من جهته فاستويا ولا ترجح لمدعي الغصب في معنى الضمان لأن الضمان للآخر ثابت أيضا فإن المودع إذا مات مجهلا للوديعة يكون ضامنا ولأن المقصود إثبات الملك في العين ولا معتبر بضمان القيمة مع بقاء العين وإن جاء بالبينة على دراهم بعينها أنها ماله غصبها إياه الميت فهو أحق بها من غرماء الميت لأنه أثبت بالبينة ملك العين لنفسه فإن الدراهم تتعين في الغصب ولهذا لا يملك الغاصب إمساك العين ورد المثل وحق الغريم إنما كان في ذمة الميت فيتعلق بعد موته بماله دون مال المغصوب منه وإن أقام رجل البينة أن هذا ثوبه غصبه ذو اليد وأقام آخر البينة أن ذا اليد أقر به له أقضي به للذي أقام البينة أنه ثوبه غصبه إياه لأنه أثبت الملك لنفسه بالبينة وأثبت أن ذا اليد كان غاصبا والآخر إنما أثبت ببينته إقرار الغاصب له بالملك وإقرار الغاصب ليس بحجة في الاستحقاق على المالك.(11/177)
ص -83- ... رجل غصب ثوب رجل فأودعه عند آخر فهلك عنده فلصاحبه أن يضمنه أيهما شاء" لأن كل واحد منهما متعد في حقه فإن المالك غير راض بقبض المودع فهو كالغاصب في حقه فإن ضمن المستودع رجع على الغاصب بما ضمن لأنه في حفظ العين كان عاملا له وكان مغرورا من جهته حين أخبره أنه ملكه وأنه لا يغرم شيئا إن هلك في يده ولم يذكر أن المودع إذا رد الثوب على الغاصب أو كان غصب منه فرده عليه هل يبقى للمالك عليه سبيل.
والجواب أنه لا سبيل للمالك عليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول صار ضامنا للمالك بقبضه فلا يبرأ إلا بالرد على المالك أو على من قامت يده مقام يد المالك ويد الغاصب لا تقوم مقام يد المالك فلا يبرأ بالرد عليه ولكنا نقول وجوب الضمان عليه باعتبار يده وقد انفسخ ذلك حين أعاده إلى يد من وصلت إليه من جهته فانعدم به حكم يده وكان هذا في حقه بمنزلة رد الغاصب العين على مالكه.(11/178)
وإذا قال الرجل لآخر غصبتني هذه الجبة المحشوة وقال الغاصب ما غصبتكها ولكن غصبتك الظهارة فالقول قول الغاصب مع يمينه لإنكاره ما ادعاه" فإنه ادعى غصب الجبة والظهارة ليست بجبة ولأنه منكر الغصب في البطانة والحشو ولو أنكر الغصب في الكل كان القول قوله مع يمينه ثم إذا حلف يضمن قيمة الظهارة لإقراره بغصب الظهارة وإقراره حجة في حقه فكان غايتاه غصب الظهارة وجعلها جبة وإن قال غصبتك الجبة ثم قال بعد ذلك البطانة والحشو لي لم يصدق لأنه رجع عما أقر به فاسم الجبة يتناول الكل وكذلك لو قال غصبتك هذا الخاتم ثم قال فصه لي أو هذه الدار ثم قال بناؤها لي أو هذه الأرض ثم قال شجرها لي أو أنا غرستها لم يصدق على شيء من ذلك لكونه راجعا فإن البناء والشجر تبع للأصل فيصير مذكورا بذكر الأصل ويثبت حكم الغصب فيه بثبوته في الأصل والفص في الخاتم كذلك فيكون راجعا بدعواه الملك لنفسه فما أقر به لغيره وإن قال غصبتك هذه البقرة ثم قال عجولها لي أو قال هذه الجارية ثم قال ولدها لي فالقول قوله لأن الولد منفصل فلا يكون تبعا للأم فإقراره بالأصل لا يتعدى إليه بخلاف الاستحقاق باليد عندنا وقد بينا هذا الفرق في الدعوى فلا يكون هو في دعوى الولد لنفسه مناقضا بل يكون متمسكا بما هو الأصل وهو أن ما في يده فالظاهر أنه ملكه إلا ما يقربه لغيره.(11/179)
رجل غصب من رجل ثوبا ثم أن الغاصب كسا الثوب رب الثوب فلبسه حتى تخرق ولم يعرفه فلا شيء له على الغاصب وكذلك المكيل والموزون إذا غصب منه ثم أطعمه إياه بعينه أو وهبه فأكله ولم يعرفه فالغاصب بريء عن الضمان عندنا" وفي أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبرأ لأنه ما أتى بالرد المأمور به فإنه غرور منه والشرع لا يأمر بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة إلا بالرد فإذا لم يكن يوجد صار ضامنا ولأنه ما أعاد إلى ملكه كما كان لأن المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف فيما أبيح له فكان فعله قاصرا في حكم الرد فلو جعلنا هذا ردا تضرر به المغصوب منه لأنه إقدام على الأكل بناء على خبره أنه أكرم ضيفه(11/180)
ص -84- ... ولم علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم فلدفع الضرر عنه بقي الضمان على الغاصب وحجتنا في ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله وقد تحقق ذلك أما من حيث الصورة فلأنه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ما كان فائتا ومن حيث الحكم فلأنه صار به متمكنا من التصرف حتى لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير أنه جهل بحاله وجهله لا يكون مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما أن جهل المتلف لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه مع تحقق الإتلاف إذا كان يظن أنه ملكه وقد بينا أن الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما إنما المعتبر ما يكون في ضمن عقد ضمان ولم يوجد ذلك فإن الغاصب المضيف ما شرط لنفسه عوضا ولأن أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف في إسقاط الضمان عن الغاصب ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب بريء الغاصب من الضمان فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه وإن كان الغاصب قد نبذ التمر ثم سقاه فهو ضامن للتمر لأنه بدل العين بما صنع وتقرر ضمان التمر في ذمته فسقي النبيذ إياه لا يكون ردا للعين المغصوب منه ولا أداء الضمان وكذلك كل ما يشبهه كالدقيق إذا خبزه ثم أطعمه أو اللحم إذا شواه ثم أطعمه.(11/181)
قال: وكذلك إذا غصب حديدا فجعله درعا فهو ضامن لحديد مثله وإن لم يقدر على ذلك ضمن قيمته وكذلك إذا غصب صفرا فجعله كوزا لأنه غيره عن حاله وصار الغاصب مستهلكا وهذا الحادث حادث بفعل الغاصب لتبدل العين صورة ومعنى واسما وحكما ومقصودا فلهذا لا سبيل له على المصنوع وكان الكرخي يقول هذا إذا كان بعد الصنعة لا يباع وزنا أما إذا كان يباع وزنا ينبغي أن يكون للمغصوب منه حق أخذ المصنوع إن شاء عند أبي حنيفة رحمه الله كما في البقرة لبقاء حكم الربا والأصح أن الجواب مطلق لأن اسم العين قد تبدل بصنع الغاصب بخلاف القلب على ما نبينه فإن كسر صاحب الصفر الكوز بعد ما ضمن له الغاصب قيمة صفره فعليه قيمة الكوز صحيحة لأن الكوز مملوك للغاصب وهو ملك محترم فيكون المغصوب منه الصفر في كسره كغيره وكذلك إن كسره قبل أن يقضي له بالقيمة لأن الكوز مملوك لأنه كان حادثا بعمله فيكون الحال قبل القضاء بالقيمة وبعده سواء في حقه إلا أنه يحاسبه بما عليه لأن المغصوب منه استوجب عليه قيمة الصفر والغاصب استوجب عليه قيمة الكوز فيتقاصان ويترادان الفضل فإن غصب فضة فضربها دراهم أو صاغها إناء فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا والحديد والصفر سواء لأن الاسم تبدل بصنعة الغاصب وكذلك الحكم فإن البقرة لا تصلح رأس مال الشركة والمضاربة والدراهم تصلح لذلك ولا معتبر بالتمكن من الإعادة فإن هذا موجود في الحديد والصفر ثم جعل هناك الثاني غير الأول وجعل الإناء حادثا بعمل الغاصب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هنا للمغصوب منه أن يأخذها ولا أجر للغاصب وعلل فقال لأنه فضة بعينها لا تخرج من الوزن بخلاف الحديد،(11/182)
ص -85- ... والصفر. وبهذا الحرف يستدل الكرخي في تقسيم الجواب هناك ثم معنى هذا التعليل أن اسم العين لا يتبدل لأن اسم العين هو الذهب والفضة وهو يبقى بعد الصنعة إنما يتبدل اسم الصنعة فإن الدراهم والدنانير اسم الصنعة وكذلك حكم العين باق فإن حكم العين أنه موزون ويجرى فيه الربا بعلة الوزن وتجب الزكاة فيه باعتبار العين فأما صلاحية رأس مال الشركة والمضاربة فهو حكم الصنعة لا حكم العين ولهذا يقول ما لا يتفاوت من الفلوس الرائجة في هذا الحكم كالذهب والفضة فإذا بقي اسم العين وحكم العين كان ذلك دليل بقاء العين المغصوب وإن تعذر على المغصوب منه أخذه إنما يتعذر للصنعة ولا قيمة للصنعة في هذه الأموال منفردة من الأصل وبه فارق الحديد والصفر فإن الصنعة هناك تخرجها من الوزن ومن أن تكون مال الربا وللصنعة في غير مال الربا قيمة مع أن اسم العين وحكمه قد تبدل هناك كما قررنا وإن غصب حنطة فاستهلكها ثم باعه بها شعيرا أو غيره مما يكال أو يوزن أو من العروض قبل القبض فلا بأس به يدا بيد لأن الواجب مثل الحنطة في ذمته وبيع الحنطة بالشعير جائز كيفما كان ولو كانت الحنطة عينا فكذلك إذا كان ذلك دينا إلا أن الدين بالدين حرام فيشترط قبض ما يقابلها في المجلس فلا تنعدم الدينية من الجانبين وكذلك إن أقرضه طعاما فله أن يأخذ ما بدا له بخلاف البيع والسلم يريد به أن الاستبدال بالمبيع قبل القبض لا يجوز والمسلم فيه في حكم المبيع فأما بدل القرض والغصب ليس في حكم المبيع حتى يجوز إسقاط القبض فيه أصلا في الإبراء فكذلك في الاستبدال به كالثمن في البيع وإذا غصب رجل دابة من رجل فأقام صاحبها البينة أنها نفقت عند الغاصب وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها إليه وأنها نفقت عنده فلا ضمان عليه وقد بينا خلاف أبي يوسف في هذه المسألة وأن بينة المغصوب منه بطريق استصحاب الحال وبينة الغاصب وافقت على أمر هو حادث وهو الرد فكانت أولى بالقبول.(11/183)
مسلم غصب من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه ضمان قيمتها عندنا وقال الشافعي لا ضمان عليه وكذلك الخنزير وجه قوله أن الخمر والخنزير محرم العين ولا يضمن بالإتلاف حقا للمسلم فكذلك للذمي لأن حقوقهم دون حقوقنا وهذا لأنا بعقد الذمة إنما ضمنا ترك التعرض لهم في الخمر والخنزير وإيجاب ضمان القيمة على المتلف أمر وراء ذلك تحقق هذا أن ترك التعرض لاعتقادهم أن الخمر والخنزير مال متقوم ولكن اعتقادهم لا يكون حجة على المسلم المتلف في إيجاب الضمان وإنما يكون معتبرا في حقهم ولهذا لا نحدهم على شربها ولا ندع أحدا يتعرض لهم في ذلك ولا يتعرض لهم في الأنكحة أيضا والدليل على أن اعتقادهم لا يكون حجة على الغير أن المجوسي إذا مات عن ابنتين إحداهما امرأته فإنها لا تستحق بالزوجية شيئا ولم يجعل اعتقادهم معتبرا في استحقاق التفضيل بشيء من الميراث على الأخرى وكذلك العبد المرتد لا يضمن للذمي بالإتلاف وإن كان هو يعتقد أنه مال متقوم وأنه محق في اعتقاده ثم لم يصر اعتقاده حجة في إيجاب الضمان على المتلف إلا أن هناك يتعرض(11/184)
ص -86- ... له في ذلك لأنا بعقد الذمة ما ضمنا ترك التعرض لهم في ذلك وحجتنا في ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين سأل عماله ماذا تصنعون بما يمر به أهل الذمة من الخمر فقالوا: نعشرها فقال: لا تفعلوا ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فقد جعلها مالا متقوما في حقهم حيث جوز بيعها وأمر بأخذ العشر من الثمن.
وذكر أبو عبيدة في كتاب الأموال أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى عماله أن اقتلوا خنازير أهل الذمة واحتسبوا لأصحابها بقيمتها من الجزية فهذا تنصيص منه على أنه مال متقوم في حقهم يضمن بالإتلاف عليهم والمعنى فيه أن الخمر كان مالا متقوما في شريعة من كان قبلنا وكذلك في شريعتنا في الابتداء ثم أن الشرع أفسد تقومه بخطاب خاص في حق المسلمين حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: من الآية90] إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: من الآية91] فبقى في حق من لم يدخل تحت هذا الخطاب على ما كان من قبل هذا من حيث الصورة ومن حيث المعنى أن حرمة العين وفساد التقوم ثبت بخطاب الشرع وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون لمكان عقد الذمة فقصر الخطاب عنهم حين لم يعتقدوا الرسالة في المبلغ وانقطعت ولاية الإلزام بالسيف والمحاجة لمكان عقد الذمة ويصير في حقهم كأن الخطاب غير نازل فيبقى الحكم على ما كان ألا ترى أن من شرب الخمر من المسلمين بعد ما نزل خطاب التحريم قبل علمه به لم يكن معاتبا بذلك كما قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: من الآية93] وكذلك أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد ما نزلت فريضة التوجه إلى الكعبة وجاز ذلك منهم كأن الخطاب غير نازل حين لم يبلغهم فهذا مثله أيضاً. وأمر الأنكحة على هذا وليس في هذا(11/185)
توسعة الأمر عليهم بل فيه استدراج وترك لهم على الجهل وتمهيد بعقوبة الآخرة والخلود في النار وتحقيق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وبهذا تبين فسادا ما قال أن اعتقاده لا يكون حجة على المتلف لأنا لا نوجب الضمان باعتبار اعتقاده ولكن يبقى ما كان على ما كان وهو المالية والتقوم ثم وجوب الضمان بالإتلاف لا يكون به المحل مالا متقوما ولكن شرط سقوط الضمان بالإتلاف انعدام المالية والتقوم في المحل وهذا الشرط لم يثبت في حقهم مع أنا لما ضمنا بعقد الذمة ترك التعرض لهم فقد التزمنا حفظها وحمايتها لهم والعصمة والإحراز تتم بهذا الحفظ ووجوب الضمان بالإتلاف ينبني على ذلك فكان هذا من ضرورة ما ضمناه بعقد الذمة بخلاف قتل المرتد فإنا ما ضمنا لهم ترك التعرض في ذلك لما فيه من الاستخفاف بالدين وكان نظير ذلك من العقود الربا فإنه يتعرض لهم في إبطال عقود الربا بينهم لأنا لم نضمن لهم ترك التعرض لهم في ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد" وهذا لأن ذلك فسق منهم في(11/186)
ص -87- ... الاعتقاد ولا ديانة فقد ثبت بالنص حرمة الربا في اعتقادهم قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: من الآية161] وكذلك الجواب في موقوذة المجوسي الصحيح أن المسلم يضمنها له بالغصب والإتلاف وهو قول أبي يوسف رحمه الله وقد روي عن محمد رحمه الله أنه لا يضمنها كالميتة والدم لأنها ليست بمال في اعتقاد أهل الذمة وقد أمرنا أن نبني أحكام المجوس على أحكام أهل الكتاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" الحديث إلا أن هذا ضعيف فإنا في حكم الأنكحة اعتبرنا اعتقاد المجوس من غير أن نبني ذلك على اعتقاد أهل الكتاب والعذر عن فضل الميراث بالزوجية بيناه في النكاح أنه ليس من ضرورة الحكم بصحة النكاح استحقاق الميراث وهذا كله بخلاف ما لو أتلف متروك التسمية عامدا على شفعوي المذهب لأن ولاية الإلزم بالمحاجة والدليل هنا ثابت وقد ثبت لنا بالنص أن متروك التسمية حرام ليس بمال فلهذا لا يعتبر اعتقادهم في إيجاب الضمان ولو غصب نصراني من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه مثلها لأن الخمر من ذوات الأمثال والمصير إلى القيمة في ذوات الأمثال عند العجز عن أداء المثل وذلك في حق المسلم دون النصراني لأنه قادر على تمليك الخمر من غيره بعوض ولهذا جازت المبايعة بالخمر فيما بينهم. وإن أسلم الطالب بعد ما قضى له بمثلها فلا شيء له على المستهلك لأن الخمر في حق المسلم ليس بمال متقوم ولو احتبس عينها عند النصراني له بالغصب والاستهلاك لم يضمنه شيئا فكذلك إذا احتبس ما صار دينا منها ولكنه بإسلامه يكون مبرئا له عما كان له في ذمته من الخمر لأنه يخرج بفعله من أن يكون مالا متقوما في حقه ومن أن يكون متمكنا من قبضه وكذلك لو أسلما معا لأن في إسلامهما إسلام الطالب ولو أسلم المطلوب وحده أو أسلم المطلوب ثم الطالب فعلى قول أبي يوسف وهو روايته عن أبي حنيفة رحمهما الله الجواب كذلك وفي قول(11/187)
محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عافية وزفر عن أبي حنيفة رحمهما الله على المطلوب قيمة الخمر وجه قول محمد رحمه الله أن الإسلام الطارئ بعد تقرر سبب الضمان يجعل كالمقترن بالسبب كما أن الإسلام الطارئ بعد العقد قبل القبض يجعل كالمقترن بالعقد ثم اقتران إسلام المطلوب بغصب الخمر واستهلاكها لا يمنع وجوب ضمان القيمة بخلاف إسلام الطالب فكذلك الطارئ وهذا لأن خمر الذمي يجوز أن يكون مضمونا في يد المسلم فكذلك يجوز أن يكون مضمونا في ذمة المسلم وبهذا تبين أنه ليس في إسلام المطلوب معنى البراءة وأما خمر المسلم يجوز أن يكون مضمونا في يد الذمي فكذلك في ذمته فكان إسلامه مبرئا بهذا الطريق وهو أنه يمنع بقاءها في ذمته بعده ولا يمكن جعل أصل السبب موجبا للقيمة في الإسلام المقارن لأنه وجب به ضمان المثل فلا تجب به القيمة أيضا بخلاف النكاح فإن على قول محمد يجب قيمة الخمر بعد إسلام أحدهما كانت بعينها أو بغير(11/188)
ص -88- ... عينها لأن إسلام الطالب مبرئ من حيث تعذر إبقائها في الذمة أو مضمونا في يد الزوج بعد إسلامهما ولكن هذا لا يمنع وجوب ضمان القيمة بأصل السبب لأن هذه القيمة عوض عن البضع وشرط وجوبها صحة التسمية لإبقاء استحقاق المسمى وقد كانت التسمية صحيحة حين كان المسمى مالا متقوما يومئذ وأبو يوسف رحمه الله يقول تعذر قبض الخمر المستحق في الذمة بسبب الإسلام فلا تجب القيمة كما لو أسلم الطالب وتحقيقه أنه لما وجب الخمر بالسبب دينا في ذمته فلا يمكن إيجاب القيمة باعتبار أصل السبب ولا يمكن إيجاب القيمة عوضا عما كان في الذمة لأن شرطها تمليك ما في الذمة بها والذمي لا يقدر على تمليك الخمر من المسلم بعوض كما أن المسلم لا يتملك الخمر بعوض فلانعدام الشرط يتعذر استيفاء القيمة كما لو هشم قلب فضة إنسان ثم تلف المكسور في يد صاحب القلب ليس له أن يضمن الكاسر شيئا لأن شرط تضمين القيمة تمليك المكسور منه وذلك فائت وبه فارق الإسلام المقارن لأن وجوب القيمة هناك باعتبار أصل السبب وهو الغصب والاستهلاك فإنه موجب للضمان باعتبار الجناية من غير أن يكون موجبا الملك في المحل عند التعذر كما في غصب المدبر وإن غصب خنزيرا فاستهلكه ثم أسلم أحدهما أو أسلما فعليه قيمته لأن بنفس الاستهلاك وجبت القيمة هنا فإن الحيوان ليس من ذوات الأمثال والقيمة دراهم أو دنانير فلا يمتنع بقاؤها في الذمة واستيفاؤها بعد إسلامهما أو إسلام أحدهما ولو غصب مسلم من مسلم خمرا فجعلها خلا ثم استهلكها فعليه خل مثلها لأنه بعد ما جعلها خلا بقيت على ملك صاحبها حتى كان له أن يأخذها منه فإذا استهلكها فقد استهلك مالا متقوما لغيره وذلك موجب للضمان عليه أمانة كانت عنده أو مضمونة وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبغه بشيء لا قيمة له ثم استهلكه فعليه ضمان قيمته لأنه باق على ملك صاحبه ولهذا يتمكن من أخذه من غير أن يعطيه عوضا ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول يضمنه قيمته طاهرا(11/189)
غير مدبوغ لأن صفة الدباغ حصل بفعله فلا يوجب الضمان عليه ولكن من ضروته زوال صفة النجاسة وذلك غير حاصل بفعله بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة وأكثرهم على أنه يضمنه قيمته مدبوغا لأن صفة الدباغ هنا تبع للجلد وهو غير معتبر منفردا عن الجلد ولهذا لا يغرم باعتباره شيئا وإذا صار أصل الجلد مضمونا عليه بالاستهلاك فكذلك ما يتبعه كالخمر إذا خلله فأما إذا دبغه بشيء له قيمة ثم استهلكه فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة. وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن قيمة الجلد مدبوغا ويعطيه ما زاد الدباغ فيه وجه قولهما أن الجلد باق على ملك صاحبه بعد الدباغ وهو مضمون الرد على الغاصب ولكن يشترط أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه فإذا استهلكه كان ضامنا كالثوب المغصوب إذا صبغه ثم استهلكه وهذا لمعنيين.(11/190)
ص -89- ... أحدهما: أن الاستهلاك جناية موجبة للضمان في محل هو مال متقوم وقد وجد ذلك لما بقي الجلد على ملك صاحبه بعد ما صار مالا متقوما كما في الثوب إلا أن هناك السبب الأول وهو الغصب غير موجب للضمان أيضا فله أن يضمنه بأي السببين شاء وهنا الأول وهو الغصب موجب للضمان فيتعين التضمين بالسبب الثاني وكان هو في هذا السبب كغيره ولو استهلكه غيره كان للمغصوب منه أن يضمن المستهلك ويعطي الغاصب ما زاد الدباغ فيه.
والثاني: وهو أنه لما بقي الجلد مضمون الرد عليه وإذا تعذر رد عينها باستهلاكه يجب عليه رد قيمته لأنه بالاستهلاك فوت ما كان مستحقا عليه والتفويت موجب للضمان وبه فارق ما لو هلك في يده فإن التفويت منه لم يوجد وهو نظير المستعار إذا فوت المستعير رده بالاستهلاك ضمن قيمته بخلاف ما إذا فات بغير صنعه. وكذلك لو دبغه بشيء لا قيمة له أو جعل الخمر خلا فلا يضمن إذا فوت الرد بالاستهلاك ولا يضمن إذا هلك في يده وحجة أبي حنيفة رحمه الله في ذلك أن المغصوب منه استفاد المالية والتقوم في هذا الجلد من الغاصب ببدل استوجبه الغاصب عليه فلا يكون له أن يضمنه شيئا بعد استهلاكه كما لو استهلك البائع المبيع قبل التسليم وتقريره من وجهين:
أحدهما: أن الاستهلاك غير موجب للضمان عليه باعتبار ما زاد الدباغ فيه لأن ذلك كان مملوكا له قبل الاتصال بالجلد وبعد الاتصال بقي حقا له حتى كان له أن يحبسه ليستوفي بدله والجلد بدون هذا الوصف لا يكون مضمونا عليه بالاستهلاك كما لو استهلكه قبل الدباغ وبه فارق الثوب فإن الاستهلاك فيه بدون صفة الصبغ موجب للضمان وبه فارق ما إذا دبغه بشيء لا قيمة له لأن الصنعة ما بقيت حقا للغاصب بعد الاتصال بالجلد ولهذا لا يحبسه ولا يرجع ببدله وكذلك الخمر إذا خلله.(11/191)
والثاني: أن ما اتصل بالجلد من الصفة هنا مال متقوم للغاصب حقيقة وحكما وهو قائم من كل وجه وقد كان مالا قبل الاتصال بالجلد وبقي بعده كذلك وأما أصل الجلد لم يكن مالا متقوما قبل الدباغ وما كان مالا بنفسه ومتصلا بغيره يترجح على ما لم يكن مالا قبل الاتصال وإنما صار مالا بالاتصال فتكون العبرة للراجح واستهلاكه فيه غير موجب للضمان بخلاف الثوب لأن الأصل هناك كان مالا قبل الاتصال وإنما صار مالا بالاتصال ولما استويا في صفة المالية رجحنا ما هو الأصل وإذا دبغه بشيء لا قيمة له فالوصف هنا ليس بمال قبل الاتصال ولا بعده والأصل مال بعد الاتصال فرجحنا جانب الأصل لهذا ولا يقال في حال بقاء الجلد رجحنا حق صاحب الأصل حتى مكناه من أخذه ويملك الوصف على الغاصب بعوض وهذا لأن أخذ العين كان باعتبار الملك دون المالية والتقوم ولهذا كان متمكنا من استرداده قبل الدباغ وفي حكم الملك الأصل مرجح لأنه كان مملوكا قائما بنفسه قبل الاتصال وبعده فأما وجوب الضمان عند الاستهلاك باعتبار صفة المالية والتقوم وصفة الدباغ في معنى المالية(11/192)
ص -90- ... والتقوم يترجح على أصل الجلد فيعتبر ذلك في إيجاب الضمان يحقق ما قلنا أن فائدة وجوب الضمان الاستيفاء ولا يستوفي منه قدر مالية الدباغة بالاتفاق وكيف يستوفي منه ما هو واجب له على غيره ولو ظفر صاحب الحق بجنس حقه فاستهلكه لم يغرم شيئا فإذا ظفر بعين حقه فاستهلكه أولى أن لا يضمن شيئا فإذا تعذر إيجاب هذا القدر عليه انفصل أصل الجلد عن صفة الدباغة حكما فيعتبر بما لو كان منفصلا حقيقة فلا يجب عليه ضمان قيمة الجلد وهما قد اعتبرا هذا حتى قالا لا يكون له أن يضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ.
ولو غصب من رجل عينا فقال المغصوب منه للغاصب أبرأتك عن الغصب ثم هلك في يد الغاصب لم يضمن شيئا في قول علمائنا رحمهم الله وقال زفر هو ضامن للقيمة لأن الإبراء عن العين لغو فإن الإبراء إسقاط والعين ليست بمحل له إذ لا تسقط حقيقة ولا يسقط ملك المالك عنها أيضا وإضافة التصرف إلى غير محله لغو ولكنا نقول قوله أبرأتك عن الغصب أي عما وجب لي عليك بسبب الغصب بمنزلة إبراء المجني عليه الجاني عن الجناية وإبراء المشتري البائع عن العيب والواجب له بسبب الغصب رد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاكه وذلك قابل للإسقاط فيسقط عنه وإذا سقط عنه ذلك بقي العين أمانة في يده كالوديعة ولأنه لو أبرأه بعد تقرر الضمان عليه بالهلاك صح الإبراء فكذلك إذا أبرأه بعد تقرر السبب.(11/193)
ولو غصب جارية فحبلت عند الغاصب ثم ردها فولدت ثم هلكت بالولادة يجب عند أبي حنيفة رحمه الله على الغاصب ضمان قيمتها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقوم حاملا وغير حامل فيكون على الغاصب ضمان النقصان لأن الرد قد صح مع الحبل ولكنها معيبة بعيب الحبل وذلك موجب ضمان النقصان عليه فأما هلاكها بسبب الآلام الحادثة بعد الرد وهو الطلق فلا يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند الغاصب ثم ردها فهلكت أو زنت عند الغاصب ثم ردها فجلدت وماتت من ذلك لم يضمن الغاصب إلا نقصان عيب الزنى وكذلك المبيعة إذا سلمها إلى المشتري وهي حبلى فماتت في الولادة لم يرجع المشتري على البائع بجميع الثمن بالاتفاق وأبو حنيفة رحمه الله يقول الواجب على الغاصب نسخ فعله بالرد ولم يوجد ذلك حين ردها لا على الوجه الذي قبضها ولما هلكت بالسبب الذي كان عند الغاصب يجعل في الحكم كأنها هلكت عند الغاصب كما لو جنت عند الغاصب ثم ردها فدفعت في الجناية فإنه يضمن قيمتها ويجعل كأنه لم يردها أصلا بخلاف الحمى لأن الهلاك لم يكن بالسبب الذي كان عند الغاصب إنما كان لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية وذلك لا يحصل بأوله الحمى عند الغاصب وإن ذلك غير موجب لما كان بعده وهنا أصل السبب ما كان عند الغاصب لأن الحبل يوجب انفصال الولد وانفصال الولد يوجب آلام الولادة فما يحدث به يكون محالا على السبب الأول بخلاف الجلد لأن الزنى يوجب جلدا مؤلما غير جارح ولا متلف ولهذا يختار سوطا لا ثمرة له فلم يكن الهلاك محالا به على السبب الذي(11/194)
ص -91- ... كان عند الغاصب وهذا بخلاف الشراء لأن الشراء يوجب تسليم المبيع إلى المشتري على الوجه الذي يتناوله العقد وهو أنه مال متقوم وقد وجد ذلك باعتبار ظاهر الحال وهو أن الغالب في الولادة السلامة فإنما على الغاصب نسخ فعله وذلك في أن يرده كما قبضه ولم يوجد ذلك ألا ترى أن البائع لو قطع يده ثم باعه وسلمه إلى المشترى فمات من ذلك في يده لم يرجع بجميع الثمن بخلاف الغاصب إذا قطع يدها ثم ردها فماتت من ذلك ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هي قد تعببت في يد الغاصب بعيب الزنى والحبل جميعا ففي القياس يضمن الغاصب نقصان العيب وهو قول محمد رحمه الله وفي الاستحسان وهو قول أبي يوسف يضمن أكثرهما ويدخل الأقل في الأكثر وكذلك عند أبي حنيفة إذا سلمت من الولادة ينظر إلى نقصان الزنى ونقصان الحبل فعليه ضمان أكثرهما ولكن إن كان عيب الحبل أكثر فقد زال ذلك بالولادة فلا يلزمه إلا قدر نقصان عيب الزنى وإن كان عيب الزنى أكثر فعليه ضمان ذلك لأن عيب الزنى لا ينعدم بالولادة فمحمد رحمه الله اعتبر الحقيقة وهو أن الحبل عيب آخر سوى عيب الزنى لتحقق انفصال كل واحد منهما عن الآخر وأبو يوسف رحمه الله اعتبر اتحاد السبب وقال الحبل هنا حصل بذلك السبب فبحكم اتحاد السبب يدخل الأقل في الأكثر كما في نقصان البكارة مع العقر الواجب بالوطء فإنه يدخل الأقل في الأكثر لاتحاد السبب فكذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/195)
ص -92- ... كتاب الوديعة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الإيداع عقد جائز لأنه تصرف من المالك في ملكه وقد يحتاج إليه عند إرادة السفر والحاج يحتاج إلى إيداع بعض ماله في كل موضع لينتفع به إذا رجع والمودع مندوب إلى القبول شرعا لما فيه من الإعانة على البر قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: من الآية2] وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وبعد القبول عليه أداء ما التزم وهو الحفظ حتى يؤديها إلى صاحبها لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: من الآية58] وقد قيل في سبب النزول أن المراد رد مفتاح الكعبة على عثمان بن أبي طلحة لأنه حين أتاه به قال خذه بأمانة الله تعالى ولكن ظاهر الآية يتناول كل أمانة قال صلى الله عليه وسلم: "من اؤتمن أمانة فليؤدها" وقال صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقال صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" على الموحد أن يحترز عما هو من علامة المنافق وذلك بأن يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ به مال نفسه فيضعها في بيته أو صندوقه لأنه وعد لصاحبها ذلك وخلف الوعد مذموم وإذا ترك الحفظ بعد غيبة صاحبها ففيه ترك الوفاء بما التزم والغرور في حق صاحبها وذلك حرام فإن وضعها في بيته أو صندوقه فهلكت لم يضمنه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة فهلكت فلا ضمان عليه" ولحديث ابن الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المودع غير المغل ضمان" فالمراد بالمغل الخائن قال صلى الله عليه وسلم: "لا أغلال ولا أسلال في(11/196)
الإسلام" والاغلال الخيانة والأسلال السرقة وقد قيل المغل المنتفع من قولهم أرض مغل أي كثير الريع والغلة فعلى هذا المراد المنتفع بغير إذن صاحبه وقال عمر رضي الله عنه العارية كالوديعة لا يضمنها صاحبها إلا بالتعدي وقال علي رضي الله تعالى عنه لا ضمان على راع ولا على مؤتمن والمعنى فيه أن المودع متبرع في حفظها لصاحبها والتبرع لا يوجب ضمانا على المتبرع للمتبرع عليه فكان هلاكها في يده كهلاكها في يد صاحبها وهو معنى قول الفقهاء رحمهم الله تعالى يد المودع كيد المودع ويستوي إن هلك بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن لأن الهلاك بما يمكن التحرز عنه بمعنى العيب في الحفظ ولكن صفة السلامة عن العيب إنما تصير مستحقا في المعاوضة دون التبرع والمودع متبرع فإن دفعها إلى بعض من في(11/197)
ص -93- ... عياله من زوجته أو ولده أو والديه أو أجيره فلا ضمان عليه إذا هلكت استحسانا وفي القياس هو ضامن لأنه استحفظ من استحفظ منه ويؤيد وجه القياس قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: من الآية5] والمراد النساء فإن كان هو منهيا عن دفع مال نفسه إلى امرأته فما ظنك في مال غيره وجه الاستحسان أن المطلوب منه حفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ مال نفسه والإنسان يحفظ مال نفسه بيد من في عياله على ما قيل قوام العالم بشيئين كاسب يجمع وساكنة تحفظ ولأنه لا يجد بدا من هذا فإنه إذا خرج من داره في حاجته لا يمكنه أن يجعل الوديعة مع نفسه وإذا خلفها في داره صارت في يد امرأته حكما وما لا يمكن الامتناع عنه عفو وذكر في جملة من في عياله الأجير والمراد التمليذ الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة فأما الأجير بعمل من الأعمال كسائر الأجانب يضمن الوديعة بالدفع إليه فإذا انشق الكيس في صندوقه فاختلط بدراهمه فلا ضمان عليه لانعدام الصنع الموجب للضمان عليه ولو يمكن تقصير فذلك من المودع بأن جعل دراهم الوديعة في كيس بال ولكن المختلط مشترك بينهما بقدر ملكهما فإن هلك بعضها هلك من مالهما جميعا ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما لأنه ليس أحدهما بأن يجعل الهالك من نصيبه بأولى من الآخر والأصل في المال المشترك إذا هلك شيء منه أن ما هلك هلك على الشركة وما بقي على الشركة باعتبار أن الهالك يجعل كأن لم يكن وإن فعل ذلك إنسان ممن هو في عيال المودع من صغير أو كبير أو مملوك أو أجنبي فلا ضمان فيه على المستودع" لانعدام الخلط منه حقيقة وحكما فإن فعل من في عياله كفعله فيما هو مأمور به من جهته صريحا أو دلالة وذلك لا يوجد في الخلط ولكن الضمان على الذي خلطها بمباشرة الفعل الموجب للضمان والصغير والكبير في ذلك سواء لأن الصغير مؤاخذ بضمان الفعل فإن تحقق الفعل بوجوده لا ينعدم بالحجر بسبب الصغر(11/198)
ثم الخلط أنواع ثلاثة.
خلط يتعذر التمييز بعده كخلط الشيء بجنسه فهذا موجب للضمان لأنه يتعذر به على المالك الوصول إلى عين ملكه وخلط يتيسر معه التمييز كخلط السود بالبيض والدراهم بالدنانير فهذا لا يكون موجبا للضمان لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه فهذه مجاورة ليس بخلط وخلط يتعسر معه التمييز كخلط الحنطة بالشعير فهو موجب للضمان لأنه يتعذر على المالك الوصول إلى عين ملكه إلا بحرج والمتعسر كالمتعذر كما بيناه في الغصب.
فإن قيل: تمييز الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب من ماء فترسب الحنطة ويطفو الشعير
قلنا: في هذا إفساد للمخلوط في الحال ثم الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير كما لا يخلو الشعير عن حبات الحنطة فما كان من حبات الحنطة لصاحب الشعير يرسب وما كان من حبات الشعير لصاحب الحنطة يطفو فعرفنا أن التمييز متعذر بهذا الطريق أيضا وكذلك خلط الجياد بالزيوف إن كان بحيث يتعذر التمييز أو يتعسر فهو موجب للضمان على الخالط وإن كان بحيث يتيسر التمييز لا يكون موجبا للضمان عليه يقول فإن لم يظهر بالخلط فقال: أحدهما أنا(11/199)
ص -94- ... آخذ المخلوط وأغرم لصاحبي مثل ما كان له فرضي به صاحبه جاز لأن الحق لهما فإذا تراضيا على شيء صح ذلك في حقهما وإن إبى ذلك أحدهما فإنه يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير على التفسير الذي بيناه في الغصب قبل هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في أن ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط فأما على ما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة المخلوط ملك للخالط وحقهما في ذمته فلا يباع ماله في دينهما لما فيه من الحجر عليه وأبو حنيفة لا يرى ذلك والأصح أنه قولهم جميعا لأن ملكهما وإن انقطع عن المخلوط فالحق فيه باق ما لم يصل إلى كل واحد منهما بدل ملكه ولهذا لا يباح للخالط أن ينتفع بالمخلوط قبل أداء الضمان فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط إما صلحا بالتراضي أو بيعا وقسمة الثمن إذا لم يتراضيا على شيء وإذا كان عند الرجل وديعة دراهم أو دنانير أو شيء من المكيل أو الموزون فأنفق طائفة منهما في حاجته كان ضامنا لما أنفق منها اعتبارا للبعض بالكل ولو لم يصر ضامنا لما بقي منها لأنه في الباقي حافظ للمالك وبما أنفق لم يتعيب الباقي فإن هذا مما لا يضره التبعيض فهو كما لو أودعه وديعتين فأنفق إحداهما لا يكون ضامنا للأخرى فإن جاء بمثل ما أنفق فخلطه بالباقي صار ضامنا لجميعها لأن ما أنفق صار دينا في ذمته وهو لا ينفرد بقضاء الدين بغير محضر من صاحبه فيكون فعله هذا خلطا لما بقي بملك نفسه وذلك موجب للضمان عليه فإن كان حين أنفق بعضها وجاء بمثله فخلط بالباقي أفتى بأنه صار ضامنا لها كلها فباعها ثم جاء رب الوديعة فضمنها إياه وفي الثمن فضل قال يطيب له حصة ما خلطه بها من ماله من الفضل لأنه ربح حصل على ملكه وضمانه ويتصدق بحصة الثاني من الوديعة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله(11/200)
وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يتصدق به لأنه بالضمان قد ملكه مستندا إلى وقت وجوب الضمان ولهذا نفذ بيعه فكان هذا ربحا حاصلا على ملكه وضمانه فيطب له كما في حصة ملكه وهما يقولان هذا ربح حصل له بكسب خبيث فإنه ممنوع من بيع الوديعة إما لبقاء ملك المودع كما في الباقي بعد الخلط في إحدى الروايتين أو لبقاء حقه على ما قلنا والربح الحاصل بكسب خبيث سبيله التصدق به ولأن المودع عند البيع يخبر المشتري أنه يبيع ملكه وحقه وهو كاذب في ذلك والكذب في التجارة يوجب الصدقة بدليل حديث قيس بن عروة الكناني قال كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق ونسمي أنفسنا السماسرة فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمانا بأحسن الأسماء وقال: "يا معشر التجار إن تجارتكم هذه يحضرها اللغو والكذب فشوبوها بالصدقة". فعملنا بالحديث في إيجاب التصدق بالفضل وهذا إذا كانت الوديعة شيئا يباع فإن كانت دراهم فالدراهم يشتري بها ثم ينظر إن اشترى بها بعينها ونقدها لا يطيب له الفصل أيضا وإن اشترى بها ونقد غيرها أو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقدها يطيب له الربح هنا لأن الدراهم لا تتعين بنفس العقد ما لم ينضم إليه التسليم(11/201)
ص -95- ... ولهذا لو أراد أن يسلم غيرها كان له ذلك فأما بالقبض يتعين نوع تعين ولهذا لا يملك استرداد المقبوض من البائع ليعطيه مثلها فلهذا قلنا إذا استعان في العقد والنقد جميعا بالدراهم الوديعة أو المغصوبة لا يطيب له الفضل وكذلك إن اشترى بها مأكولا ونقدها لم يحل له أن يأكل ذلك قبل أداء الضمان ولو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم حل له أن ينتفع بها وفي النوادر لو اشترى دينارا بعشرة دراهم ونقد الدراهم المغصوبة لم يحل له أن ينتفع بالدينار ما لم يؤد الضمان لأن صاحب الدراهم إذا استحق دراهمه فسد العقد ووجب عليه رد الدينار فكانت كالمقبوض بحكم عقد فاسد بخلاف ما لو نقدها في ثمن الطعام لأنه بالاستحقاق هناك لا يبطل الشراء بل يبقى الثمن دينا في ذمته كما كان وعلى هذا قالوا لو غصب ثوبا واشترى به جارية لم يحل له أن يطأها لأنه لو استحق الثوب لزمه رد الجارية ولو تزوج بالثوب المغصوب امرأة حل له أن يطأها لأن المغصوب منه إذا استحق الثوب لا يبطل النكاح ولا التسمية.(11/202)
فإن كان أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته ثم بداله فرده إلى موضعه ثم ضاعت الوديعة فلا ضمان عليه لأن رفعه حفظ فلا يكون موجبا للضمان عليه بقي مجرد نية الإنفاق في حاجته وبمجرد النية لا يصير ضامنا كما لو نوى أن يغصب مال إنسان وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا" والعراقيون يقولون كاد ولما أي كاد يعصي فعصم والمعصوم لا يعاقب بعقوبة من عصى ولئن صار ضامنا بالرفع فقد عاد إلى الوفاق برد العين إلى مكانه وذلك يبرئه عن الضمان عندنا على ما نبينه بخلاف ما سبق لأن هناك إنما جاء بملك نفسه فوضعه مكان ما أنفق ولهذا لا يكون عودا إلى الوفاق فيما خالف فيه وهنا إنما جاء بالوديعة بعينها فتحقق عوده إلى الوفاق وهذا أولى الوجهين عندي فإنه لو باعها ثم ضمن قيمتها نفذ البيع من جهته وإنما يستند ملكه بالضمان إلى وقت وجوب الضمان فلو لم يكن الرفع للبيع موجبا للضمان عليه قبل البيع والتسليم لم يستند ملكه إلى تلك الحالة فينبغي أن لا ينفذ بيعه والرواية محفوظة في هذا الكتاب وفي المضاربة أن البيع نافذ فعرفنا أن الأوجه هو الطريق الثاني.
وإذا طلب المودع الوديعة فقال المستودع قد رددتها عليك فالقول قوله مع يمينه" لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين لإنكاره السبب الموجب للضمان وإخباره بما هو مسلط عليه وهو رد الوديعة على صاحبها والمودع هو الذي سلطه على ذلك فيجعل قوله كقول المسلط إلا أنه يستحلف لنفي التهمة عنه وكذلك لو سرقت أو ضاعت أو ذهبت وقال لا أدري كيف ذهبت لأنه أمين أخبر بما هو محتمل ولأنه ينكر وجوب الضمان عليه والمالك يدعي عليه سبب الضمان وهو المنع بعد الطلب فلا يصدق إلا بحجة.
واختلف المتأخرون رحمهم الله فيما إذا قال ابتداء لا أدري كيف ذهبت فمنهم من يقول هو ضامن لها لأنه جهلها بما قال والمودع بالتجهيل يصير ضامنا بخلاف ما إذا قال:(11/203)
ص -96- ... ذهبت ولا أدري كيف ذهبت لأنه بقوله ذهبت يخبر بهلاكها ويكفيه هذا المقدار فلا معتبر بعد ذلك بقوله لا أدري كيف ذهبت والأصح أنه لا يصير ضامنا لأنه مخبر بهلاكها محترز عن الكذب والمجازفة في القول بقوله لا أدري كيف ذهبت وهذا لأن أصل الذهاب معلوم من هذا اللفظ لا محالة وإنما التجهيل في كيفية الذهاب والإخبار بأصل الذهاب يكفي في براءته عن الضمان وإن قال بعثت بها إليك مع رسولي وسمى بعض من في عياله فهو كقوله رددتها عليك لأن يد من في عياله لما جعل كيده في الحفظ فكذلك في الرد يد من في عياله كيده فلا يصير بهذا مقرى بالسبب الموجب للضمان عليه. وإذا قال: بعثت بها إليك مع أجنبي فهو ضامن حتى يقر المودع بوصولها إليه عندنا.(11/204)
قال ابن أبي ليلى رحمه الله لا ضمان عليه وهذا بناء على أن عنده للمودع أن يودع غيره لأنه يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ ماله وقد يودع الإنسان مال نفسه من أجنبي فكذلك له أن يودع الوديعة من غيره فلا يصير ضامنا بالدفع إلى غيره ليحفظ أو يرد كما في حق من في عياله وعندنا ليس للمودع أن يودع غيره لأن الحفظ يتفاوت فيه الناس والمودع إنما رضي بحفظه وأمانته دون غيره فإذا دفع إلى أجنبي فقد صار تاركا للحفظ الذي التزمه مستحفظا عليه من استحفظ منه فيكون ضامنا بخلاف من في عياله فإن المودع هو الحافظ له بيد من في عياله لأن من في عياله في يده فما في يد من في عياله كذلك فأما إذا دفع إلى أجنبي لا يكون هو حافظا له بل الأجنبي هو الحافظ له والمودع لم يرض بهذا فيكون ضامنا حتى يقر المودع بوصولها إليه فإذا أقر بذلك بريء عن الضمان بوصول المال إلى يد صاحبه كما يبرأ الغاصب بوصول المغصوب إلى يد صاحبه وكذلك العارية في جميع ذلك لأنها أمانة كالوديعة وفي هذا بيان أن المستعير ليس له أن يودع أجنبيا كالمودع وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله له ذلك لأن للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به وفي الإعارة إيداع وزيادة ولكن الأول أصح لأن المستعير عندنا مالك للمنفعة فإعاراته من الغير تصرف فيما هو مملوك له وهو المنفعة ثم يتعدى تسليمه إلى العين حكما لتصرفه في ملك نفسه فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما إيداعه من الغير فهو تصرف في العين ولا حق له في العين فيكون موجبا للضمان عليه كالإيداع من المودع فإن قال بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي أو استودعتها إياه ثم ردها علي فضاعت عندي لم يصدق وهو ضامن لها لأنه أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط عنه فلا يصدق كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب فإن أقام البينة على ذلك بريء من الضمان لأنه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وهو مذهبنا فإن المودع(11/205)
إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق يبرأ عن الضمان وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبرأ وبيانه في هذه المسألة وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه فهلك وحجة الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة عليه حتى لو هلكت في تلك الحالة ضمنها فلا يبرأ إلا بالرد على المالك ولم يوجد ولأن(11/206)
ص -97- ... الوديعة تضمن بالخلاف من طريق القول وهو الجحود تارة وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ثم إذا ضمنها بالجحود لم يبرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك فكذلك بالاستعمال بل أولى لأن الاستعمال يتصل بالعين والجحود لا يتصل به وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ وكذلك المستعير يعلم أنه أمين ضمن الأمانة بالخيانة ولأن المودع معير يده من المودع في الحفظ فإذا خالف فقد استرد يد عاريته وهو ينفرد به ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد أراد إعادة يده ثانيا منه وهو لا ينفرد به ولأن موجب العقد هو الحفظ للمالك وبالخلاف يفوت موجب العقد إما لتركه الحفظ أصلا أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه فلا يبقى العقد بعد فوات موجبه ولأن الإنسان إنما يأتمن الأمين على ماله دون الخائن ومطلق العقد يتقيد بدلالة العرف كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد وإذا تقيد العقد بما قبل الخلاف لا يبقى بعده.(11/207)
وحجتنا في ذلك أن الإيداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف وبيان الوصف أنه قال احفظ مالي أو قال احفظه أبدا ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول الحفظ قبل الخلاف وبعده ثم لم يبطل بالخلاف لأن بطلان الشيء بما هو موضع لإبطاله أو بما ينافيه والاستعمال ليس بموضع لإبطال الإيداع وهو لا ينافيه ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أودعتك وهو مستعمل له والخلاف ليس برد لأن الأمر قول ورد القول بقول مثله ولأن الخلاف يكون في حال غيبة المودع ولو قال رددت الأمر في هذه الحالة لم يرتد ولأنه تصرف في حفظ الواجب بالأمر على خلاف ما يوجبه وليس بتصرف في الأمر وصحة الأمر كأن يكون الآمر أهلا له وكون الحفظ مقصودا من المأمور ولم ينعدم شيء من ذلك بخلاف الجحود فإنه رد للأمر بعينه لأن الجاحد يكون متملكا للعين والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره والدليل عليه أوامر الشرع فالجحود فيها رد والخلاف لا يكون ردا حتى لو ترك صوما أو صلاة لم يكفر.(11/208)
وكذلك في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف فباعه بخمسمائة وسلم لم تبطل الوكالة مع تحقق الخلاف ومع أن الوكالة جائزة غير لازمة كالإيداع وعذره أن البيع لا يستغرق المدة فالأمر به لا يبطل بالخلاف والحفظ يستغرق المدة فيبطل الأمر به إذا خالف في بعض المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا ويشكل بالاستئجار للحفظ فإنه يستغرق المدة ثم لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل وعذره عن الإجارة أنها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف لأن بطلان العقد عنده بفوات المعقود عليه واللازم وغير اللازم فيه سواء إنما يفترق اللازم وغير اللازم فيما هو رد ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة والمنفعة تحدث شيئا فشيئا فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء المعقود عليه فكذلك في الحفظ بغير بدل فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله إن استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان فيصير(11/209)
ص -98- ... ضامنا بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ثم بالعود إلى ذلك المكان لا يعود العقد بينهما ولو سلمنا فنقول العقد هناك يرد على منافع الدابة في ذلك المكان فبإخراج الدابة من ذلك المكان يفوت المعقود عليه أصلا وهنا العقد يرد على منفعة الحافظ وبالخلاف من طريق الفعل لم يفت جميع المعقود عليه إنما وقع التغير في التسليم في بعضه لأنه كان مأمورا بتسليم العين في المصر فإذا أخرجه يتغير التسليم من غير أن يفوت المعقود عليه حتى أن في الإجارة لو حمل عليها حملا آخر في ذلك المكان ثم نزع بريء عن الضمان لبقاء المعقود عليه وتمكن التغير كان في الاستيفاء ولأن المستأجر ضامن بالإمساك لا في المكان المأمور به وهو في الإمساك عامل لنفسه ألا ترى أنه لو أمسكها أياما في بيته كان ضامنا فلا يتحقق الرد منه بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه فأما المودع لا يضمن بالإمساك بل بالاستعمال وقد زال ذلك كله حتى أن في الإجارة إذا لم يضمن بالإمساك بريء بترك الخلاف على ما قال في الإجارات إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما فلبست بالليل كانت ضامنة فإذا جاء النهار برئت لأن الضمان عليها بالاستعمال ليلا دون الإمساك.(11/210)
إذا ثبت بقاء عقد الوديعة فنقول يد المودع كيد المودع" فإما أن يجعل في حالة الخلاف كأن العين في يد المالك والمستعمل متشبث به فإن هلك من عمله ضمن وإلا فلا كما لو تشبث بثوب في يد صاحبه وهذا اختيار الهندواني رحمه الله والأصح أنه ضامن إذا هلك في حالة الخلاف سواء كان من استعماله أو من غير استعماله وفي الكتاب ما يدل عليه فإنه قال بريء عن الضمان وذلك لا يكون إلا بعد صيرورة العين مضمونا عليه ولو تنازعا في الهلاك أنه كان في حالة الخلاف أو بعد ترك الخلاف كان القول قول المالك فعرفنا أنه صار ضامنا وطريق صيرورته ضامنا تفويت المعقود عليه ونزع يده ضمنا للخلاف ولكن ما ثبت ضمنا للشيء يتقدر بقدره ففيما وراء زمان الخلاف يد المودع كيد المودع لبقاء العقد والاستدامة فيما يستدام له حكم الإنشاء ولو أودعه ابتداء بريء عن الضمان باعتبار إن يد المودع كيد المودع فكذلك هنا وتبين بهذا أن استرداده يد عاريته كان مقصودا على حالة الخلاف لأنه ثبت ضمنا له ودعوى تقييد الأمر بما قبل الخلاف كلام باطل فإن أحدا لا يظن بصاحب المال أن يقول احفظ مالي ما لم تخن فإذا خنت فلا تحفظ ولكنه يقول احفظ ولا تخن فإذا خنت فاترك الخيانة واحفظه لي لأن مقصوده من الأمر بالحفظ أن يكون ماله مصونا عنده والحاجة إلى ذلك في حالة الخلاف أظهر وإذا طلب المودع الوديعة فجحدها المستودع كان ضامنا لها لوجهين:
أحدهما: أنه بالجحود صار متملكا فإن الشرع جعل القول قوله فيما في يده ولا يتملك أحد مال الغير بغير رضاه إلا بالضمان ولأن المالك عزله عن الحفظ حين طالبه بالرد فهو بالجحود صار مانعا المالك عن ملكه مفوتا عليه يده الثابتة حكما فيكون كالغاصب ضامنا بهذا الطريق ولم يذكر في الكتاب إذا جحدها لا في وجه المودع فإن قال له إنسان: ما حال(11/211)
ص -99- ... وديعة فلان عندك فجحدها أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال له ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها وذكر الفصلين في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أنه على قول زفر يكون ضامنا لما ذكرنا أنه بالجحود متملك لها ومفوت يد المالك حكماً.
وقال أبو يوسف: لا يكون ضامنا لأن المالك ما عزله عن الحفظ فيكون العقد باقيا وباعتبار بقائه يده كيد المالك في العين ولأن الجحود في حال غيبة المالك من الحفظ لأنه طريق لدفع طمع الطامعين عنها فلا يكون موجبا للضمان عليه فإن أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع أنه استودعه كذا ثم أقام المستودع البينة أنها ضاعت فهو ضامن لها لأنه بالجحود صار ضامنا وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر عليه الضمان وكذلك إن أقام البينة أنها كانت ضاعت قبل جحوده لأن البينة لا تقبل إلا بعد تقدم الدعوى وهو مناقض في كلامه فجحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله فلهذا لا تقبل بينته إلا أن يقر المودع بذلك فحينئذ لا ضمان على المودع لأن الإقرار موجب بنفسه في حق المقر ولأن المناقض إذا صدقه خصمه كان مقبول القول وإن قال لم تودعني شيئا ثم قال قد أودعتني ولكنها هلكت فهو ضامن لها لما بينا أن جحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله والهلاك بعد الجحود يؤكد الضمان عليه وإن قال قد أعطيتكها ثم قال بعد أيام لم أعطكها ولكنها ضاعت لم يصدق وهو ضامن لها" وطعن عيسى في هذا وقال لا ضمان عليه لأنه تكلم بكلامين لو تكلم بكل واحد منهما على الانفراد لم يكن ضامنا فبمجموعهما كيف يصير ضامنا وتقرير هذا من وجهين:
أحدهما: أن الضمان يستدعي سببا لا محالة ولم يوجد لأن قبضه بإذن المالك ولم يوجد منه جحود ليكون ضامناً.(11/212)
والثاني: أن قول المودع رددتها أو هلكت معتبر في نفي الضمان عنه لا في ثبوت الرد به ولهذا لو ادعى الرد على الوصي لم يضمن الوصي شيئا وإذا كان المقصود نفي الضمان عنه ولا تناقض بين كلاميه فيما هو المقصود لا يكون ضامنا شيئا ووجه ظاهر الرواية أنه مناقض في كلامه لأن إخباره بالرد يمنعه من دعوى الهلاك في يده وإخباره بالهلاك في يده يمنعه من دعوى الرد فسقط اعتبار كلامه للتناقض فيبقى ساكتا ممتنعا من رد الوديعة بعد ما طولب بها وذلك سبب موجب للضمان عليه فكان ضامنا لهذا فإن قال استودعتني ألف درهم فضاعت وقال الطالب كذبت بل غصبتها مني فالقول قول المستودع لأن المقر له يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب والمستودع منكر لذلك ولم يسبق منه إقرار بسبب موجب للضمان إنما ذكر أن صاحب المال وضع ماله في موضع فضاع وفعل الإنسان في مال نفسه لا يكون موجبا للضمان على غيره وإن قال المستودع أخذتها منك وديعة وقال الآخر بل غصبتني فهو ضامن لها لإقراره بوجود الفعل الموجب للضمان منه في ملك الغير وهو(11/213)
ص -100- ... الآخذ قال صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو إذن المالك إياه في الأخذ فلا يصدق على ذلك ويكون ضامنا إلا أن يقيم البينة أو يأتي المالك اليمين فيقوم نكوله مقام إقراره وإن قال رب المال بل أقرضتكها قرضا وقال المستودع بل وضعتها عندي وديعة أو أخذتها منك وديعة وقد ضاعت فلا ضمان عليه لأنهما تصادقا على أن الأخذ حصل بإذن المالك فلا يكون موجبا للضمان إلا باعتبار عقد الضمان والمالك يدعي ذلك بقوله أقرضتكها والمودع منكر فكان القول قوله لانكاره ثم بين في خلط الحنطة بالشعير أنه إن كان بحيث يستطاع أن يخلص فلا ضمان على المودع وقد يكون ذلك بأن يدق حبات الحنطة فتغربل فتتميز من الشعير فإذا كان بهذه الصفة كان هذا كخلط البيض بالسود فلا يكون موجبا للضمان.
رجل: استودع رجلا ألف درهم وله على المستودع ألف قرض فأعطاه ألف درهم ثم اختلفا بعد أيام فقال الطالب أخذت الوديعة وقال المستودع أعطيت القرض وقد ضاعت الوديعة فالقول قول المستودع لأنه هو الدافع للألف فالقول قوله أنه من أي جهة دفعه وقد زعم أنه دفعه عن جهة قضاء الدين فبرىء من الدين به وبقيت الوديعة في يده وقد أخبر بهلاكها فالقول قوله في ذلك يوضحه أنه لو لم يدفع إليه شيئا حتى أخبر بهلاك الوديعة كان القول قوله ولا يجب عليه إلا أداء الألف بدل القرض فكذلك إذا أخبر بهلاك الوديعة بعد أداء الألف.(11/214)
رجل: استودع صبيا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن في قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله وجه قولهما أن ضمان الاستهلاك ضمان فعل والصبي والبالغ فيه سواء لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا أو أمة فقتلهما الصبي كان ضامنا بهذا الطريق فكذلك في سائر الأموال ولأن الإيداع من الصبي باطل لأنه استحفاظ من لا يحفظ فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله واستحفاظ من لا يحفظ تضييع للمال فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ولو فعل ذلك فأتلفه صبي كان ضامنا فكذا هذا وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ما قال في الكتاب لأنه صبي وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه إليه وفي تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام:
أحدهما: أنه تسليط باعتبار العادة لأن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالإذن له في الإتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون إذنا لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقال لا تأكل بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من عادة الصبيان القتل لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم وهذا بخلاف الدابة فإن من عادتهم إتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة. والأصح أن تقول: معنى(11/215)
ص -101- ... التسليط تحويل يده في المال إليه فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ دون غيره وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي لأنه لما التزم بالعقد والصبي ليس من أهله فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والأمة فإن المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قتل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ولأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدم مبقي على أصل الحرية فلا يتناوله الإيداع والتسليط يثبت باعتباره بخلاف ما لو قال اقتل عبدي لأن ذاك استعمال والاستعمال وراء التسليط فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع أن الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له اتلفه فذلك استعمال للصبي وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع على الذي قال له ذلك فهذا مثله إلا أن أبا يوسف يقول قوله احفظه بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم والاستثناء تصرف من المستثنى على نفسه في حقه فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط فإذا استهلكه الصبي كان مستهلكا بغير إذنه ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان التسليط بالفعل وهو نقل اليد إليه مطلقا وقوله احفظ كلام فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق بل يكون معارضا لذلك الفعل الذي هو تسليط ولا يكون معارضا إلا بعد صحته حكما لكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط(11/216)
مطلقا في حق الصبي والدليل عليه أن الصبي لوضيع الوديعة لم يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله على أخذها والبائع يضمن بمثله فعرفنا أن العارض صحيح في حق البالغ دون الصبي وعلى هذا لو أودع عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق لأن العارض صحيح في حقه دون المولى فإنه التزام بالعقد وعلى قول أبي يوسف يباع فيه في الحال لأن المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء فيبقى الاستهلاك بغير إذنه فإن كان العبد صبيا لم يضمن عندهما في الحال ولا بعد البلوغ والعتق لأن العارض لم يصح في حقه ولا في حق المولى وإن كان الصبي أو العبد مأذونا كان ضامنا في الحال لأن العارض قد صح في حقهما وفي حق المولى فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ولهذا يؤاخذان بضمان التضييع وعلى هذا الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه أو عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لأن التسليم إليه تسليط وقوله أقرضتك معارض لقوله احفظ في الوديعة على ما بينا وكذلك لو باع من صبي محجور عليه أو عبد محجور عليه "شيئا فاستهلكه فهو على هذا الخلاف لأن التسليم إليهما تسليط وقوله بعت معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي(11/217)
ص -102- ... أصلا ولا في حق العبد حتى يعتق فهذا هو الحرف الذي يخرج عليه هذه المسائل.
وإن هلكت الوديعة عند الصبي والعبد فلا ضمان عليهما" لانعدام صنيع موجب للضمان منهما. وفي قتل العبد والأمة يجب عليهما ما يجب قبل الإيداع فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث سنين عمدا قتله أو خطأ لأن عمد الصبي وخطأه سواء وعلى المملوك القصاص إن قتله عمدا وإن قتله خطأ يخاطب المولى بالدفع أو الفداء في العبد وعليه القيمة في المدبر وأم الولد يعني الأقل من قيمة المقتول وقيمة القاتل وعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته ومن قيمة المقتول ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير أو عبد فعلى المستهلك ضمانه في الحال لأن قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بأن يحفظها والصبي والعبد إذا كان مأذونا في حفظ الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك.
رجل: استودع رجلا ألف درهم فدفعها المستودع إلى آخر وادعى أن رب الوديعة أمره بذلك لم يصدق عليه إلا ببينة.(11/218)
وقال ابن أبي ليلى: هو مصدق في ذلك مع يمينه لأن عنده للمودع أن يودع وهو منكر لوجوب الضمان عليه فأما عندنا ليس للمودع أن يودع فدفعه إلى الثاني سبب لوجوب الضمان عليه ثم يدعي ما يسقط الضمان عنه وهو الإذن فلا يصدق إلا ببينة كما لو أخذ مال إنسان فادعى أنه أخذه بإذنه وله أن يستحلف صاحبها أنه لم يأمره بالدفع لأنه لو أقر بالأمر بريء المودع فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله فإن كان رب الوديعة أمره أن يدفعها إلى رجل فقال قد دفعتها وقال الرجل لم أقبضها منك وقال رب الوديعة لم تدفعها فالقول قول المودع مع يمينه لأن دعواه الدفع إلى من أمر المالك بالدفع إليه بمنزلة دعواه الدفع إلى مالكها فيكون مصدقا في براءته عن الضمان دون وصول المال إلى ذلك الرجل حتى لا يضمن ذلك الرجل ما لم تقم البينة على قبضه وإذا قال صاحب الوديعة للمودع اخبأها في بيتك هذا فخبأها في بيت آخر في داره تلك فضاعت فلا ضمان عليه استحسانا وفي القياس هو ضامن لأنه خالف أمره نصا فهو كما لو قال اخبأها في دارك هذه فخبأها في دار أخرى فهلكت وفي الاستحسان يقول إنما يعتبر من كلامه ما يكون مفيدا دون ما لا يكون مفيداً. ألا ترى أنه لو قال احفظها بيمينك دون يسارك أو انظر إليها بعينك اليمنى دون اليسرى لم يعتبر لأنه غير مفيد إذا ثبت هذا فنقول البيتان في دار واحدة لا يتفاوتان في معنى الحرزية لأن الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق إذا أخرج المتاع من أحد البيتين إلى البيت الآخر لم يقطع إذا أخذ قبل أن يخرجه من الحرز فأما الداران يتفاوتان في الحرز فكان تقييده في الدار مفيدا لأن كل دار حرز على حدة ألاترى أنه لو قال له لا تخرج بها من الكوفة فخرج بها إلى البصرة كان ضامنا لها لأن التقييد في المصرين مفيد فإن انتقل من الكوفة إلى البصرة أو إلى غيرها لشيء لم يكن له منه بد فهلكت فلا ضمان عليه لأن المودع إنما يلتزم شرط المودع بحسب إمكانه؟ ألا ترى أنه لو قال أمسكها(11/219)
بيدك ولا تضعها ليلا ولا نهارا فوضعها في بيته فهلكت لم يضمنها(11/220)
ص -103- ... لأن ما شرط عليه ليس في وسعه باعتبار العادة فكذلك يسقط اعتبار شرطه إذا لم يجد بدا من الانتقال من بلد إلى بلد فلا ضمان عليه إذا هلكت وهذا بناء على أصلنا فإن للمودع أن يسافر بالوديعة عند إطلاق العقد وعند الشافعي ليس له ذلك لأن فيه تعريض المال للهلاك قال صلى الله عليه وسلم: "المسافر ومتاعه وماله على قلت إلا ما وقى الله تعالى" وليس للمودع تعريض الوديعة للتلف وهذا بخلاف الأب والوصي والمضارب فإنهم يسافرون للتجارة وطلب الربح ألا ترى أن لهم أن يسافروا بالمال من طريق البحر وليس للمودع حق التصرف والاسترباح في الوديعة؟ ولهذا لا يسافر من طريق ا لبحر يوضحه أن مقصود المودع أن يكون ماله في المصر محفوظا يتمكن منه متى شاء ويفوت عليه هذا المقصود إذا سافر المودع به وحجتنا في ذلك أن الأمر مطلق فلا يتقيد بمكان دون مكان كما لا يتقيد بزمان وهذا لأن من يراعي أمره في شيء يراعي إطلاق أمره كأوامر الشرع والأمكنة كلها في صفة الأمر سواء إنما الخوف من الناس دون المكان فإذا كان الطريق أمنا كان الحفظ فيه كالحفظ في جوف المصر ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الحالة في ذلك الوقت فإن المسلمين كانوا لا يأمنون خارج المدينة لغلبة الكفار ألا ترى أنه فيما أخبر من الأمر بعده قال: "يوشك أن تخرج الظعينة من القادسية إلى مكة لا تخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمها" ولا يجوز أن يتقيد مطلق أمره بالعرف والمقصود لأن النص مقدم على ذلك والمقصود مشترك فقد يكون قصده أن يحمل المال إليه خصوصا إذا سافر إلى البلد الذي فيه صاحب المال ولأن المودع لا يتعذر عليه الخروج للسفر في حاجته بسبب قبول الوديعة وإذا خرج فإما أن يدفع الوديعة إلى غيره فيكون تاركا للنص لأنه أمره أن يحفظ بنفسه وإما أن يحمل مع نفسه فيكون مخالفا لمقصوده ولا شك أن مراعاة النص أولى من مراعاة المقصود ولهذا قال أبو حنيفة ما له حمل ومؤنة وما لا حمل له(11/221)
ولا مؤنة في ذلك سواء بعدت المسافة أو قربت لمراعاة النص وهو القياس واستحسن أبو يوسف رحمه الله فقال إذا كان له حمل ومؤنة فليس له أن يسافر به لأنه يلزم صاحبها مؤنة الرد ولا ولاية له عليه في إلزام المؤنة إياه واستحسن محمد رحمه الله فقال إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها وإذا بعدت المسافة فليس له ذلك لأنه يعظم الضرر والمؤنة على صاحبها عند بعد المسافة إذا أراد ردها ولو أودعه وديعة فقال لا تدفعها إلى امرأتك أو عبدك أو ولدك أو أجيرك فإني أتهمهم عليها فدفعها إلى الذي نهاه عنه فهلكت فإن كان يجد بدا من الدفع إليه بأن كان له سواه أهل وخدم فهو ضامن وإن كان لا يجد بدا من ذلك لم يضمن لأن شرطه هذا مفيد وقد يأتمن الإنسان الرجل على ماله ولا يأتمن زوجته إلا أنه إنما يلزمه مراعاة شرطه بحسب الإمكان فإذا كان يجد بدا من الدفع إلى من نهاه عنه فهو متمكن من حفظها على الوجه المأمور به فيصير ضامنا بحفظها على الوجه المنهي عنه وإذا كان لا يجد بدا من ذلك فهو حافظ لها بحسب الإمكان وليس عليه أكثر من ذلك فلا يضمنها وإذا استعمل المودع الوديعة وأقر بذلك ثم قال رددتها إلى مكانها فهلكت لم يصدق إلا ببينة لأن السبب الموجب للضمان(11/222)
ص -104- ... عليه وهو الاستعمال معلوم ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو ترك الخلاف قبل الهلاك فلا يصدق إلا بحجة فإن أقام البينة أنه رده إلى وضعه صحيحا ثم هلك كان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فلا يضمن شيئا عندنا وإن كانت الوديعة أمة فوطئهاالمودع فولدت فالولد مملوك لصاحب الأصل وعلى المودع الحد ولا يثبت نسب الولد منه لأن فعله زنا محض وكونها وديعة عنده لا يمكن في شبهة المحل إلا أن يدعي شبهة نكاح أو شراء فحينئذ يسقط الحد عنه ويغرم العقر للشبهة.(11/223)
وإذا استودع رجلان رجلا وديعة من دراهم أو دنانير أو ثياب أو دواب أو عبيد ثم حضر أحدهما وطلب حقه منه لم يكن له ذلك حتى يجتمعا ولو خاصمه إلى القاضي لم يأمره بدفع نصيبه إليه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأمره بأن يقسم ذلك ويدفع نصيبه إليه ولا تكون قسمته جائزة على الغائب وعن محمد في الأمالي قال قول أبي حنيفة أقيس وقول أبي يوسف رحمه الله أوسع وجه قولهما أن كل واحد من المودعين مالك لنصيبه حقيقة فلا يتعذر عليه قبض نصيبه في غيبة الآخر كالشريكين في الدين إذا حضر أحدهما كان له أن يطالب المديون بنصيبه وهذا لأنه يجب دفع الضرر عن الحاضر كما يجب دفع الضرر عن الغائب وإنما يندفع الضرر عنهما فيما قلنا بأن يقسم فيدفع إلى الحاضر نصيبه ليندفع الضرر عنه ثم لا تنفذ قسمته على الغائب حتى إذا هلك الباقي في يده ثم حضر الغائب كان له أن يشارك الحاضر فيما قبض دفعا للضرر عنه هذا في المكيل والموزون واضح فإن الحاضر له أن ينفرد بأخذ نصيبه منهما مع غيبة الآخر فكذلك للمودع أن يدفع نصيبه إليه وقد بينا نظيره في مال المفقود ومذهب أبي حنيفة مروي عن علي رضي الله تعالى عنه والمعنى فيه أنه لو دفع شيئا إلى الحاضر فإما أن يكون المدفوع من نصيبهماجميعا أو نصيب الحاضر خاصة ولا يمكن أن يجعل ذلك من نصيب الحاضر خاصة لأن ذلك لا يكون إلا بعد قسمة معتبرة وليس للمودع ولاية على الغائب في القسمة فلم يبق إلا أن يكون المدفوع من النصيبين ودفع مال الغير إلى الغير يكون جناية فلا يكون للمودع أن يباشر ذلك ولا يأمره القاضي به والحاضر وإن كان يتضرر بهذا فقد رضي بالتزام هذا الضرر حين ساعد شريكه على الإيداع قبل القسمة وإن كان يتمكن هو من أخذه فكذلك لا يدل على أنه يكون للمودع أن يدفع إليه ألا ترى أن صاحب الدين إذا طالب المودع بقضاء دينه من الوديعة لم يؤمر المودع بذلك ولو ظفر به وهو من جنس حقه كان له أن يأخذه وهذا(11/224)
بخلاف الدين لأن المديون إنما يقضي بالدين من ملك نفسه فدفعه نصيب الآخر إليه تصرف في ملكه وليس فيه قسمة على الغائب فلهذا يؤمر بخلاف ما نحن فيه.
رجل: أودع رجلا دراهم فجاء رجل فقال أرسلني إليك صاحب الوديعة لتدفعها إلي فصدقه ودفعها إليه فهلكت عنده ثم حضر صاحبها وأنكر الرسالة فإنه يضمنها له لأنه دفع ماله إلى غيره وبتصادقهما لا يثبت الأمر في حق المالك إذا أنكر فكان ضامنا ولا يرجع بها على(11/225)
ص -105- ... الرسول إذا كانت الوديعة هلكت في يده أو زعم أنه أوصلها إلى صاحبها لأنه قد صدقه فإنه رسول أمين وإن المالك ظالم في تضمينه إياه ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره إلا أن يكون المقبوض قائما بعينه في يده فيأخذه لأنه قد تملكه بأداء بدله وإن كان كذبه في دعوى الرسالة أو لم يصدقه ولم يكذبه ودفع المال إليه ثم جاء المالك فضمنه فله أن يرجع على الرسول لأنه لم يقر بأنه كان أمينا ولكن دفع المال إليه بناء على قوله إنه رسول المالك وأنه لا يلحقه غرم بسبب الدفع إليه فإذا لحقه غرم كان له أن يرجع عليه به ولو صدقه في دعوى الرسالة ودفعه إليه وضمنه يعني أن الرسول قال له إن لحقك فيه غرم فأنا ضامن لك ثم حضر المالك وضمنه فله أن يرجع على الرسول لأنه قد ضمن له ذلك وهذه كفالة مضافة إلى سبب وجوب المال فإنهما يتصادقان أن المالك ظالم وأن ما يقبضه دين عليه للمودع والرسول ضمن له ذلك مضافا إلى سبب الوجوب فلهذا طالبه به.(11/226)
وإذا كان عند رجل وديعة أو عارية أو بضاعة فغصبها منه رجل فهو خصمه فيها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا خصومة بينهما حتى يحضر المالك ولأن المال ملك صاحبه فإنما يخاصم في الاسترداد هو أو وكيله والمودع ليس بوكيل عنه في الخصومة فلا يخاصم في الاسترداد كأجنبي آخر ولكنا نقول للمودع يد معتبرة في الوديعة وقد أزالها الغاصب فكان له أن يخاصم عن نفسه لإعادة اليد التي أزالها بالغصب ولأنه مأمور بالحفظ من جهة المودع ولا يتأتى له الحفظ إلا باسترداد عينه من الغاصب أو استرداد قيمته بعد هلاك العين ليحفظ ماليته عليه فكان كالمأمور به دلالة وفي إثبات حق الخصومة له تحقيق معنى الحفظ لأن الغاصب إذا علم أن المودع لا يخاصمه في حال غيبة المودع تجاسر على أخذه فلهذا كان المودع فيه خصما وإن كانت الوديعة عند رجلين من ثياب أو غيرها فاقتسماها وجعل كل واحد منهما نصفها في بيته فهلك أحد النصفين أو كلاهما فلا ضمان عليهما وهكذا أمر الناس" لأنهما لا يستطيعان أن يجتمعا على حفظها في مكان واحد لما بينا أن المودع إنما يلتزم الحفظ بحسب إمكانه ومعلوم أنهما لا يقدران على أن يتركا جميع أشغالهما ويجتمعا في مكان واحد لحفظ الوديعة والمالك لما أودعهما مع علمه بذلك فقد صار راضيا بقسمتها وحفظ كل واحد منهما للنصف دلالة والثابت بالدلالة كالثابت بالنص وإن أبيا القسمة وأودعاه عند رجل فهلك ضمناه لتركهما ماالتزماه من الحفظ والمستبضعان والوصيان والعدلان في الرهن قياس المودعين في ذلك فإن تركها أحدهما عند صاحبه وإن كان ذلك شيئا لا يحتمل القسمة فلا ضمان على واحد منهما إذا هلك لأن المالك لما أودعهما مع علمه أنهما لا يجتمعان على حفظه آناء الليل والنهار فقد صار راضيا بحفظ كل واحد منهما لجميعه إلا ترى أنهما يتهايآن في الحفظ وفي مدة المهايأة يتركه كل واحد منهما عند صاحبه في نوبته فإن كان شيئا يحتمل القسمة فتركه أحدهما عند صاحبه فلا ضمان(11/227)
على الذي هلك في يده لأنه مقبل على حفظه وهو في نصيب صاحبه مودع المودع ومودع المودع عند أبي حنيفة لا يضمن فأما الدافع عند أبي حنيفة(11/228)
ص -106- ... رحمه الله فإنه ضامن للنصف لأنه ترك الحفظ الذي التزمه مع الإمكان فإنهما يتمكنان من القسمة ليحفظ كل واحد منهما نصفه وعندهما لا يضمن شيئا لأنه لما ائتمنهما فقد صار راضيا بحفظ كل واحد منهما له كما لا يحتمل القسمة وقول أبي حنيفة أقيس لأن رضاه بأمانة اثنين لا يكون رضا بأمانة واحد فإذا كان الحفظ منهما يتأتى عادة لا يصير راضيا بحفظ أحدهما للكل وحده.
وإذا احترق بيت المودع وأخرج الوديعة مع متاعه ووضعه في بيت جاره فهلك فهو ضامن في القياس لأنه ترك الحفظ الذي التزمه بالتسليم إلى غيره وعذره يسقط المأثم عنه ولكن لا يبطل حق المالك في الضمان وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأنه لا يجد بدا من هذا في مثل هذه الحالة ولأن وضعه في بيت جاره في مثل هذه الحالة من الحفظ لأنه يقصد به دفع الحرق عن الوديعة ألا ترى أنه إنما يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ مال نفسه وإنما يحفظ مال نفسه في هذه الحالة بهذا الطريق؟ أرأيت لو كان في سفينة فغرقت فناول الوديعة إنسانا على الجلد يمسكها أكان ضامناً.(11/229)
وإذا كانت الوديعة إبلا أو بقرا أو غنما وصاحبها غائب فإن أنفق عليها المستودع من ماله بغير أمر القاضي فهو متطوع لأنه متبرع بالإنفاق على ملك الغير بغير أمره وإن دفعها إلى القاضي يسأله البينة لأنه يدعي ثبوت ولاية الأمر بالإنفاق للقاضي فيه فلا يصدقه إلا ببينة فإن أقام البينة أنها وديعة عنده لفلان أمره أن ينفق عليها من ماله على قدر ما يرى القاضي لأنه مأمور بالنظر والحيوان لا يبقى بدون النفقة والمودع لا ينفق بغير أمره لأنه لا يرضى بالتبرع به فيأمره بذلك نظرا منه للغائب ويكون ذلك دينا على رب الوديعة لأن أمر القاضي في حال قيام ولايته كأمره بنفسه ولو أمره بأن ينفق كان ما ينفقه دينا له على المالك فكذا إذا أمره القاضي به فإذا جاء أجبره على رد نفقته عليه. وإن رأى القاضي أن يأمره ببيعها فعل ذلك وإذا باعها جاز بيعه لأن في الأمر بالإنفاق تلف بعض المالية على المالك وفي البيع يتوفر عليه حفظ جميع المالية فلهذا نفذ بيعه بأمر القاضي وإن لم يكن رفعها إلى القاضي واجتمع عنده من ألبانها شيء كثير يخاف فساده أو كان ذلك ثمرة أرض فباع بغير أمر القاضي فهو ضامن لها إن كان في مصر يتمكن من استطلاع رأي القاضي وإن باعها بأمر القاضي لم يضمن لأن القاضي نائب الغائب فيما يرجع إلى النظر له ولو تمكن من استطلاع رأي المالك فباعه بغير أمره لم ينفذ بيعه وكان ضامنا فكذلك إذا تمكن من استطلاع رأي القاضي فلم يفعل فأما إذا كان في موضع لا يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشيء لم يضمن استحسانا لأن بيعه الآن من الحفظ وليس في وسعه إلا ما أتى به.
وحكي أن أصحاب محمد رحمهم الله مات رفيق لهم في طريق الحج فباعوا متاعه وجهزوه به ثم رجعوا إلى محمد رحمه الله فسألوا عن ذلك فقال لو لم تفعلوا لم تكونوا فقهاء والله يعلم المفسد من المصلح وإن حمل عليها المستودع فنتجت ولم يكن صاحبها أمر بذلك(11/230)
ص -107- ... فأولادها لصاحبها لأن الولد خير متولد من الأصل يملك بملك الأصل وإن هلكت الأمهات بذلك فالمستودع ضامن لها لأنه مخالف حين أتى بغير ما أمر به فيضمن ما هلك بسببه ولو أكرى الإبل إلى مكة وأخذ الكراء كان الكراء له لأنه وجب بعقده وليست الغلة كالولد ولا كالصوف واللبن فإن ذاك يتولد من الأصل فيملك بملك الأصل وهذا غير متولد من الأصل بل هو واجب بالعقد فيكون للعاقد وقد بينا نظيره في الغصب.
وإن ادعى المستودع أنه أنفق الوديعة على عيال المودع بأمره وصدقه عياله في ذلك وقال رب الوديعة لم آمرك بذلك فالقول قول رب الوديعة مع يمينه لأن المودع باشر سبب الضمان في الوديعة وهو الإنفاق وادعى ما يسقط الضمان عنه وهو إذن المالك فلا يصدق على ذلك إلا ببينة وإذا لم تكن له بينة فالقول قول رب الوديعة مع يمينه لإنكاره وكذلك لو ادعى أنه أمره بأن يتصدق بها على المساكين أو يهبها لفلان فإن كانت الوديعة جارية فزوجها المستودع من رجل وأخذ عقرها فولدت ونقصتها الولادة ثم جاء سيدها له أن يأخذها وولدها وله أن يفسد النكاح لأن المودع باشره بغير رضاه فكان موقوفا على إجازته وإذا فسد النكاح أخذ عقرها لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين والعقر كالأرش فيكون بمنزلة المتولد من العين بخلاف الأجر ويضمن المستودع نقصان الولادة إن كانت الولادة نقصتها ولم يكن في الولد وفاء بها وإن كان في الولد وفاء بها انجبر النقصان بالولد لأن المودع صار كالغاصب فيما صنع وقد بينا هذا الحكم في حق الغاصب وإن كان نقصانها من غير الولادة من شيء أحدثه الزوج من جماعها فالمستودع ضامن لذلك لأنه سلط الزوج على ذلك وصار غاصبا بما صنع وإنما ينجبر بالولد نقصان الولادة لاتحاد سبب النقصان والزيادة وذلك لا يوجد في نقصان حدث بسبب آخر وإن كان المستودع استهلك الولد ضمن قيمة الولد لأن الولد كان أمانة عنده كولد الغصب عند الغاصب فيضمن قيمته بالاستهلاك ثم رد(11/231)