ص -30- ... مقالته في الأربعة الأشهر أنه قد جامعها فهي امرأته، لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهي من أعجب المسائل أن لا يقبل إقراره بعد مضى المدة ثم يتمكن من اثباته بالبينة وكذلك إن صدقته المرأة فالحق لهما لا يعد وهما غير أنه لا يسعها أن تقيم معه إذا كانت تعلم كذبه لأن القاضي لو علم بذلك فرق بينهما فإذا علمت هي عليها أن تمنع نفسها منه بأن تهرب أو تفتدي بمالها إلا أن يتزوجها نكاحا جديدا.
قال ولو آلى منها بعد ما طلقها تطليقة رجعية فهو مول" لأن جماعها له حلال فإن انقضت العدة سقط حكم الإيلاء لخروجها من أن تكون محلا لطلاقه فإذا تزوجها يستقبل مدة الإيلاء من حين تزوجها وقد بيناه.
قال وإذا آلى الرجل ثلاث مرات في مجلس واحد فإن كان مراده تكرار يمين واحدة فعليه كفارة واحدة إذا قربها ولا يقع بمضي المدة إلا تطليقة واحدة إن لم يقربها" لأن الكلام لواحد قد يكرر ولا يراد حكمه بالتكرار وإن كان مراده التغليظ والتجديد فإن قربها فعليه ثلاث كفارات لأن معنى التغليظ تجدد عقد اليمين فكان حالفا بثلاثة أيمان، وبالقربان مرة يتم شرط الحنث في الأيمان كلها وإن لم يقربها حتى مضت المدة ففي القياس تطلق ثلاثا يتبع بعضها بعضا وهو قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى حتى إذا لم يدخل بها لا يقع إلا واحدة وفي الاستحسان وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تبين بتطليقة واحدة سواء دخل بها أو لم يدخل بها.(7/57)
وجه القياس أن ابتداء مدة الإيلاء من الوقت المتصل بعقد اليمين وفي الإيلاء المعتبر أول المدة فقد انعقدت باعتبار كل يمين مدة فيقع عند تمام كل مدة تطليقة حتى تبين بثلاث تطليقات كما لو كانت الأيمان في مجالس مختلفة، وهذا لأنه يتأخر انعقاد المدة بعد اليمين إلى حال افتراقهما بدليل أنه لو حلف بيمين واحدة ثم بقيا في المجلس يوما أو أكثر فتمت المدة من حين حلف بانت بتطليقة فعرفنا أن المجلس والمجالس في هذا الحكم سواء كما في حكم الحنث وهو الكفارة.
ووجه الاستحسان أن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها كالموجود جملة بدليل القبول مع الإيجاب إذا وجدا في المجلس يجعل كأنهما وجدا معا، وكذلك المرأة لو قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة وواحدة و واحدة في مجلس واحد جعل كأنه أوقع الثلاث جملة حتى يستحق جميع الألف فإذا ثبت هذا قلنا حالة المجلس كحالة واحدة ولا ينعقد في حالة واحدة إلا مدة واحدة في حكم الطلاق وإن تعددت الأيمان كما لو قال إذا جاء غد فوالله لا أقربك ثم قال ذلك ثانيا وثالثا ثم جاء الغد تنعقد ثلاثة أيمان في حكم الكفارة ومدة واحدة في حكم الطلاق وبهذا تبين أن أحد الحكمين غير معتبر بالآخر.
وعلى عكس هذا لو قال كلما دخلت الدار فوالله لا أقربك فدخل الدار ثلاث مرات في(7/58)
ص -31- ... ثلاثة أيام تنعقد ثلاث إيلاءات في حكم الطلاق ولو قربها لم يلزمه إلا كفارة واحدة وهذا بخلاف ما إذا كانت الأيمان في مجالس متفرقة لأنه لم يوجد هناك ما يجمع الأحوال فاعتبرنا كل حالة على حدة فانعقدت مدة جديدة لتجدد اليمين في كل حالة.
قال ولو قال لها: إن قربتك فعلى يمين أو على كفارة يمين فهو مول" لأن معنى قوله فعلى يمين كفارة يمين فإن موجب اليمين الكفارة عند الحنث فقد صارت بحيث لا يملك قربانها في المدة إلا بكفارة تلزمه.
قال وإيلاء الحرة أربعة أشهر تحت حر كانت أو تحت عبد" لقوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: من الآية226] والذين يتناول الأحرار والعبيد. وإيلاء الأمة شهران عندنا وعلى قول الشافعي أربعة أشهر لظاهر الآية وهو بناء على أصله أن المدة فسحة للزوج لا عليه فلا يتغير ذلك برقها ولا بحريتها ولكنا نقول مدة الإيلاء مذكورة في القرآن بلفظ التربص وهو مختص بالنكاح فيتنصف بالرق كمدة العدة وفي العدة معنى الفسحة للزوج خصوصا من عدة في طلاق رجعي ثم تنصف برقها.
قال والمريض الذي يهذي في الإيلاء كالنائم" لأنه بمنزلة المغمى عليه في هذه الحالة.
قال وإيلاء الأخرس جائز" لما بينا أن الكنية والإشارة منه إذا كانت تعرف بمنزلة عبارة الناطق.(7/59)
قال وإن قال: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي فهو مول" لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بظهار يلزمه، وكذلك إن قال إن قربتك فأنت علي حرام وهو ينوى الطلاق بذلك فهو مول لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بطلاق يلزمه، وإن كان ينوى اليمين فهو مول أيضا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يكون موليا في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ما لم يقر بها لأن قوله: أنت علي حرام، عند إرادة اليمين بمنزلة قوله والله لا أقربك حتى لو أرسله كان به موليا في الحال فإذا علقه بالقربان لا يصير به موليا إلا بعد القربان كما لو قال إن قربتك فوالله لا أقربك وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول صار ممنوعا عن قربانها في المدة حين علق بالقربان حرمتها عليه فيكون موليا في الحال، كما لو قال إن قربتك فأنت علي كظهر أمي لأن الظهار موجبه التحريم إلى وقت الكفارة ولو قال لها أنت علي كالميتة أو كالدم يعني التحريم فهو مول لأنه شبهها بمحرمة العين فهو بمنزلة قوله أنت علي حرام.
قال "ولو قال أنت علي كامرأة فلان وقد كان فلان آلى من امرأته ينوي الإيلاء كان موليا" لأنه شبهها بامرأة فلان وقد يكون التشبيه في وصف خاص فإذا نوى التحريم أو الإيلاء فقد نوى ما يحتمله كلامه فيكون موليا وإن لم ينو ذلك فليس بشيء.
قال وإن آلى من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى قد أشركتك في إيلاء هذه كان باطلا" لأن الإشراك يغير حكم يمينه.(7/60)
ص -32- ... فإن قبل الإشراك كان يحنث بقربان الأولى وبعد الإشراك لا يحنث بقربان الأولى ما لم يقربهما كما لو قال والله لا أقربكما وهو لا يملك تغيير حكم اليمين مع بقائه ولو صح منه هذا الإشراك لكان يشرك أجنبية مع امرأته ثم يقرب امرأته بعد ذلك فلا يلزمه شيء وبهذا فارق الظهار لأن اشراك الثانية لا يغير حكم الظهار في الأولى وكذلك لو قال: في الإيلاء للمرأة الثانية أنت علي مثل هذه ينوي الإيلاء فيها فبهذا لا يتغير حكم الإيلاء في حق الأولى ويصح منه عقد الإيلاء في حق الثانية بهذا اللفظ.
قال وإذا آلى من امرأته وهي أمة ثم أعتقت قبل انقضاء شهرين لم تطلق حتى تستكمل أربعة أشهر من حين آلى" لأن مدة الإيلاء نظير مدة العدة من طلاق رجعي من حيث أن ملك النكاح لا يرتفع مع بقائها والمعتقة بعد الطلاق هناك قبل انقضاء العدة بمنزلة الحرة عند الطلاق وكذلك هنا وهذا لأن ملك النكاح تم عليها لما تم حلها بالعتق ولا يزول الملك التام إلا بمدة تامة.
قال "ولو طلقها زوجها في الشهرين تطليقة بائنة ثم أعتقت فيهما كانت عدتها للطلاق عدة الأمة" لأنها إنما أعتقت بعد البينونة ومدة إيلائها مدة الحرة لأنها أعتقت قبل تمام مدة الإيلاء فكان في حكم الإيلاء هذا، وما لو كانت حرة حين آلى منها سواء وقد طعن بعضهم في الجواب فقالوا لم يتم ملكه عليها بهذا العتق لأنها عتقت بعد البينونة فينبغي أن تكون مدة إيلائها شهرين كما في حكم العدة.
ولكنا نقول الطلاق الواقع ليس من حكم الإيلاء في شيء فالبائن والرجعي فيه سواء ولو كان رجعيا صارت مدة إيلائها بالعتق أربعة أشهر بالنص، فكذلك إذا كانت بائنة بخلاف العدة لأنها تعقب الطلاق فيعتبر فيها صفة الطلاق ولأن في زيادة مدة العدة بالعتق إضرارا بها لأنها تمنع من الأزواج في العدة وليس في زيادة مدة الإيلاء بالعتق إضرار بها فلهذا كان المعتبر حصول العتق مع بقاء المدة.(7/61)
قال وإن حلف لا يقرب امرأته وامرأة أجنبية معها حرة أو أمة لم يكن موليا من امرأته لأنه يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء وهو ليس بمول في حق الأجنبية فلا يعتبر قربان الأجنبية في حكم الإيلاء من امرأته. وإن اعتبر حال امرأته وحدها وهو يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء لم يكن موليا منها بخلاف ما لو قال لامرأتين له لا أقربكما لأنهما مستويتان في حكم الإيلاء هناك فيجعلان كشخص واحد لا يملك قربانهما إلا بكفارة تلزمه فكان موليا منهما بقول فإن جامع الأجنبية صار موليا من امرأته من الساعة التي جامع فيها تلك لأنه صار بحال لا يملك قربانها إلا بكفارة تلزمه فيتحقق معنى الإضرار والتعنت في حقها الآن فيكون موليا منها وهو بمنزلة ما لو قال والله لا أقربك إذا أتيت مكان كذا لا يكون موليا ما لم يأت ذلك المكان أو هو بمنزلة ما لو قال لامرأته والله لا أقربك إذا جامعت هذه الأجنبية فإذا جامعها كان موليا من امرأته.(7/62)
ص -33- ... قال وإن آلى من امرأته ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت فأسلمت ثم تزوجها فهو مول منها إن مضى شهران من يوم تزوجها بانت بالإيلاء لأن اليمين لا يبطل بلحاقها فإن شرط الحنث منتظر بعد. وأصل كلامه كان إيلاء صحيحا فإذا تزوجها مع بقاء تلك اليمين كان موليا منها حين تزوجها وإنما انعقدت المدة الثانية وهي أمة ومدة إيلاء الأمة شهران.
قال "وإن آلى من امرأته وهي أمة ثم اشتراها سقط الإيلاء" لأنها صارت بحيث لا يقع طلاقه عليها، وموجب المدة المنعقدة وقوع الطلاق عند مضيها فإذا خرجت من أن تكون محلا لذلك سقط حكم تلك المدة كما لو أبانها وانقضت عدتها فإن باعها أو أعتقها ثم تزوجها فهو مول منها لأنها صارت بحال لا يقع طلاقه عليها، واليمين باقية فتنعقد المدة من حين تزوجها، وكذلك الحرة إذا اشترت زوجها فهذا والأول سواء لأن عصمة النكاح تنقطع بالملك من الجانبين على وجه لا يقع طلاقه عليها فإنها إنما تكون محلا لطلاقه باعتبار ملك اليد له عليها، وملك اليمين كما ينافي أصل ملك النكاح ينافي ملك اليد الثابت بالنكاح ولهذا لا تستوجب عليه النفقة والسكنى في عدتها.
قال وإذا حلف العبد بالعتق أو الصدقة أن لا يقرب امرأته لا يكون موليا لأنه يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء فإنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ومراده من الصدقة أن يلتزم الصدقة بمال بعينه وهو لا يملك ذلك المال فيكون التزامه التصدق به لغوا.
قال وإن حلف بحج أو صوم أو طلاق أو ما أشبه ذلك كان موليا" لأن التزام هذه الأشياء صحيح منه كما يصح من الحر. فإذا علقها بالقربان فهو لا يملك قربانها في المدة إلا بشيء يلزمه وعلى هذا لو علق بالقربان التزام الصدقة في ذمته.(7/63)
قال وإذا حلف الذمي أن لا يقرب امرأته فهو على ثلاثة أوجه في وجه يكون موليا بالاتفاق وهو ما إذا حلف بطلاق أو عتاق لأن العتق والطلاق يصح منه، كما يصح من المسلم وفي وجه لا يكون موليا بالإتفاق وهو ما إذا حلف بحج أو صوم أو صدقة لأن التزام هذه الأشياء منه لا يصح لأنها قربة وطاعة، وما فيه من الشرك يخرجه من أن يكون أهلا لذلك وقع في بعض الكتب عن الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الإيلاء منه بالحج صحيح في حكم الطلاق وإن لم يصح في حكم التزام الحج لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر عنده كما في اليمين بالله تعالى ولا يعتمد على هذه الرواية، فأما إيلاؤه في اليمين بالله تعالى ينعقد في حكم الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لو تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء ولو قربها لم تلزمه الكفارة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هذا بمنزلة القسم الثاني لأنه يملك قربانها في المدة من غير أن يلزمه شيء فلا يتحقق معنى الإيلاء وهو قصد الإضرار بمنع حقها في الجماع، وهذا لأن حرمة اليمين بالله تعالى لوجوب تعظيم المقسم به ومع الشرك لا يتحقق منه هذا التعظيم، كما لا يتحقق منه هذا الالتزام التزام الحج والصوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: إنه من أهل اليمين بالله تعالى فإن فيها ذكر(7/64)
ص -34- ... اسم الله تعالى على سبيل التعظيم وذلك صحيح معتبر من الذمي حتى تحل ذبيحة الكتابي إذا ذكر اسم الله تعالى وكذلك يستحلف في المظالم والخصومات بالله تعالى وقد جعل الله تعالى للكفار أيمانا بقوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: من الآية13] "وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: من الآية12] وإذا ثبت أنه من أهل اليمين صار هو بحيث لا يملك قربانها إلا بحنث يلزمه فيكون موليا ثم يترتب على هذا الحنث وجوب الكفارة وهو ليس من أهلها ولكن حكم الطلاق ينفصل عن حكم الكفارة في الإيلاء كما لو قال لأربع نسوة له لا أقربكن يكون موليا من كل واحدة منهن وإن كان لو قرب ثلاثا منهن لا يلزمه شيء ولأن لهذة اليمين حكمين أحدهما الطلاق وهو من أهله، والآخر الكفارة وهو ليس من أهلها وكل واحد من الحكمين مقصود بهذه اليمين فامتناع ثبوت أحد الحكمين لانعدام الأهلية لا يمنع ثبوت الحكم الثاني مع وجود الأهلية.
قال وإذا حلف الرجل بعتق عبده لا يقرب امرأته فهو مول" إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول يملك قربانها في المدة من غير أن يلزمه شيء بأن يبيع عبده.(7/65)
وفي ظاهر الرواية هو لا يملك قربانها إلا بعتق يلزمه فيكون موليا ولا يعتبر تمكنه من البيع لأن البيع لا يتم به وحده وربما لا يجد مشتريا يشتريه منه، فإن باع العبد سقط عنه الإيلاء لأنه صار بحال يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء فإن اشتراه لزمه الإيلاء من وقت الشراء لأن المدة الأولى قد بطلت فيستأنف المدة من وقت الشراء لأنه صار بحال لا يملك قربانها إلا بعتق يلزمه ولو كان جامعها بعد ما باعه ثم اشتراه لم يكن موليا لأن اليمين قد سقطت بوجود شرط الحنث بعد بيع العبد فهو يملك قربانها بعد ذلك من غير أن يلزمه شيء وإذا مات العبد قبل أن يبيعه سقط الإيلاء لأنه يتمكن من قربانها بعد موت العبد من غير أن يلزمه شيء، وكذلك لو حلف على إيلاء هذه بطلاق أخرى ثم ماتت تلك أو طلقها ثلاثا لم يكن موليا من هذه أيضا إلا على قول زفر لأن يمينه على تطليقات ذلك الملك ولم يبق شيء منها بعد إيقاع الثلاث وكذلك لو طلق هذه التي آلى منها ثلاثا سقط الإيلاء لأن إيلاءه في حكم الطلاق باعتبار التطليقات المملوكة ولم يبق منها شيء بعد إيقاع الثلاث ولو لم يطلقها ولكنه جامعها طلقت الأخرى لوجود شرط الوقوع عليها وارتفعت اليمين فإن تزوجها بعد ذلك لم يعد الإيلاء، وإن لم يجامعها ولكنه طلق الأخرى وانقضت عدتها سقط الإيلاء عن هذه لأنه صار بحيث يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وهذا وبيعه العبد سواء على ما بينا.
قال "وإذا حلف لا يقرب امرأته حتى يموت هو أو تموت هي فهو مول" لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بحنث يلزمه وبعد موت أحدهما لا يبقي النكاح فهذا بمنزلة قوله لا أقربك ما دمت في نكاحي ويتم بهذا منع حقها في القربان بخلاف ما لو قال لا أقربك حتى يموت فلان لأن موت فلان لا يمنع بقاء النكاح بينهما وهو موهوم في المدة فيتوهم أن يقربها(7/66)
ص -35- ... في المدة من غير أن يلزمه شيء بعد موت فلان فلهذا لا يكون موليا وقد بينا القياس والاستحسان في قوله حتى يخرج الدجال أو حتى تطلع الشمس من مغربها.
وإن قال حتى القيامة فهو مول قياسا واستحسانا وهذا وقوله أبدا سواء لأنه لا تصور لبقاء النكاح بينهما بعد وجود ما جعله غاية بخلاف خروج الدجال على طريقة القياس.
قال "ولو حلف لا يقربها حتى تفطم صبيا لها وبينه وبين الفطام أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا" لأنه يتحقق منه أن يقربها بعد الفطام في المدة من غير أن يلزمه شيء.
ولما كان ما جعله غاية ليمينه يوجد قبل تمام أربعة أشهر كانت هذه اليمين بمنزلة اليمين على القربان في أقل من الأربعة الأشهر لأن بعد وجود الغاية لا يبقى اليمين وإن كان بينه وبين الفطام أربعة أشهر أو أكثر وهو ينوي ذلك الفطام لا ينوي دونه فهو مول لأن يمينه انعقدت موجبة للمنع من القربان في المدة ولو مات الصبي قبل أن يمضي أربعة أشهر سقط الإيلاء لفوات ما جعله غاية ليمينه لأن اليمين لا يبقى بعد فوات الغاية إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهي مسألة كتاب الأيمان وكذلك لو حلف لا يقربها حتى يأذن له فلان فمات فلان في الأربعة الأشهر بطلت اليمين لفوات الغاية ولو بقي فلان أربعة أشهر ولم يكن قربها لم يكن موليا أيضا لأنه كان يتمكن من قربانها إذا أذن له فلان من غير أن يلزمه شيء.
وفي الكتاب قال ينبغي في القياس أن لا يكون موليا ولم يذكر شيئا سوى هذا فليس مراده أن هذا استحسان بخلاف القياس وإنما مراده قياس ما تقدم من الفصول.(7/67)
قال "ولو قال إن قربتك فكل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر فهو مول في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى" وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون موليا لأنه لا يلزمه بالقربان شيء وهو يتمكن من أن لا يتملك مملوكا بعده وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يتمكن من قربانها إلا بيمين بالعتق يلزمه فيكون موليا، كما لو قال إن قربتك فهذا المدبر حر إن دخل الدار يكون موليا منها وهذا لأن الإنسان يكون ممتنعا من اليمين بالعتق كما يكون ممتنعا من موجب اليمين فيصير بهذا اللفظ مانعا حقها يوضحه أن الملك في المستقبل قد يحصل له من غير صنعه كالميراث ولا يتمكن من رده. ولو قال إن قربتك فعلى حجة بعد ما أقربك بسنة أو قبل أن أقربك بيوم فهو مول لأنه لا يتمكن من قربانها إلا بحجة تلزمه في الوجهين جميعا.
قال وإذا قال إن قربتك فعلى صوم هذا الشهر لم يكن موليا" لأن يمينه لا يتناول جميع المدة فإن بمضي المدة، يسقط اليمين ويصير بحيث يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء لأن التزام الصوم مضافا إلى الزمان الماضي لا يصح، فيصير عند القربان كأنه قال على صوم أمس وذلك لغو. ولو قال إن قربتك فعلى طعام مسكين أو صوم يوم أو صدقة أو حج أو هدى فهو مول بالاتفاق وإن قال فعلي صلاة ركعتين فهو مول في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد.(7/68)
ص -36- ... وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة لا يكون موليا وجه قول محمد أنه علق بالقربان التزام ما هو قربة فيكون موليا كما في الحج.
قال محمد في الأمالي ولا معنى لقول من يقول لا يتوصل إلى الحج إلا بمال ويتوصل إلى الصلاة بدون المال لأنه لو قال إن قربتك فلله علي صلاة ركعتين في بيت المقدس لم يكن موليا عندهما وهو لا يتوصل إلى ما التزم إلا بالمال.
ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى: أن بهذا اللفظ لا يتحقق منع القربان المستحق لأن الإنسان لا يكون ممتنعا من التزام صلاة ركعتين إذ لا يلحقه في أدائها مشقة ولا خسران في ماله بخلاف سائر القرب. توضيحه أنه إن علق بالقربان إطعام مسكين فهو موجب اليمين وكذلك الصدقة والصوم وكذلك الهدى والحج، فإنه لا يتوصل إلى أدائهما إلا بمال والتكفير بالمال موجب اليمين عند الحنث فهو كما لو علق اليمين بالقربان فأما الصلاة ليست بموجب اليمين وكذلك لو قال في بيت المقدس لأن المكان لا يتعين لأداء المنذور من الصلاة.
وإن قال: إن قربتك فعبدي فلان حر عن ظهاري وقد ظاهر أو لم يظاهر فهو مول لأنه لا يملك قربانها إلا بعتق يتنجز في العبد وتنجز العتق ليس بموجب للظهار. بخلاف ما لو قال إن قربتك فلله علي أن أعتق فلانا عن ظهاري وهو مظاهر فليس بمول لأنه علق بالقربان وجوب العتق عليه عن الظهار وهو واجب عليه قبل القربان فلا يكون ملتزما بالقربان شيئا والله أعلم.
باب اللعان
إعلم بأن موجب قذف الزوج زوجته كان هو الحد في الابتداء كما في الأجنبية ثبت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: من الآية4].(7/69)
والدليل عليه ما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا جلوسا في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل رجل أنصاري فقال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ ثم قال اللهم افتح فنزلت آية اللعان وقال صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية رضي الله عنه حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء: "ايت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد على ظهرك" وقالت الصحابة رضوان الله عليهم الآن يجلد هلال بن أمية رضي الله عنه فتبطل شهادته في المسلمين فثبت أن موجب القذف كان هو الحد ثم انتسخ ذلك باللعان في حق الزوجين واستقر الأمر على أن موجب قذف الزوج الزوجة اللعان بشرائط نذكرها.
وعلى قول الشافعي موجبه الحد ولكنه يتمكن من اسقاط ذلك عن نفسه باللعان حتى لو امتنع الزوج من اللعان يقام عليه حد القذف وعندنا يحبس حتى يلاعن.(7/70)
ص -37- ... واستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: من الآية4] ثم في آية اللعان بيان المخرج للزوج بأن تقام كلمات اللعان مقام أربعة من الشهداء لأن في كلمات اللعان لفظة الشهادة وهي شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة باللعن مؤكدة بالظاهر وهو أن الزوج لا يلوث الفراش على نفسه كاذبا.
ولهذا قلت بلعانه يجب حد الزنى عليها ثم تتمكن هي من إسقاط الحد عن نفسها بلعانها على أن يكون لعانها معارضا لحجة الزوج لأنها شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة بالتزام الغضب مؤيدة بالظاهر وهو أن المسلمة تمتنع من ارتكاب الحرام.
وفي كتاب الله تعالى اشارة إلى هذا فإنه قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: من الآية8] أي يسقط الحد الواجب بلعان الزوج.(7/71)
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: من الآية6] فهذا يقتضي أن يكون المذكور في الآية جميع موجب قذف الزوجة وذلك ينفي أن يكون الحد موجب هذا القذف مع اللعان ولو وجب الحد عليه لم يسقط إلا بحجة وكلمات اللعان قذف أيضا، فكيف يصح أن يكون القذف مسقطا لموجب القذف فعرفنا أنه هو الموجب لما فيه من التزام اللعن وإذا امتنع منه يحبس حتى يلاعن لأن من امتنع من إيفاء حق مستحق عليه لا تجرى النيابة في إيفائه يحبس حتى يأتي به ولا يجب عليها حد بلعانه لأن شهادة المرء لنفسه لا تكون حجة في استحقاق ما يثبت مع الشبهات على الغير ابتداء فكيف تكون حجة في استحقاق ما يندرىءبالشبهات وهذا لأن الشهادات وإن تكررت من واحد ليس بخصم لا تتم الحجة بها فمن الخصم أولى. والعجب من الشافعي رحمه الله تعالى أنه يقول لو شهد الزوج مع ثلاثة نفر على زوجته بالزنى لا يجب الحد عليها فكيف يجب الحد بشهادته وحده ولكن اللعان مستحق عليها كما هو على الزوج فإذا امتنعت حبست. والمراد من قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: من الآية8] الحبس لا الحد. إذا عرفنا هذا فنقول من شرائط اللعان عندنا كون الزوجين من أهل الشهادة على الإطلاق.(7/72)
وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه هذا ليس بشرط ولكن كل من كان من أهل الطلاق عنده فهو من أهل اللعان وهذا منه تناقض لأنه يجعل كلمات اللعان شهادات في وجوب الحد بها ثم لا يشترط الأهلية للشهادة، ولكن يقول: اللعان من كلام الزوج موجب للفرقة فيكون بمنزلة الطلاق. "وحجتنا" في ذلك ما بدأ به الباب فقال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام ولا بين العبد وامرأته" وأهل الحديث يروون هذا بلفظ آخر. وقد ذكره صاحب المشافهات في تفسيره "أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم المسلم إذا كان تحته كافرة والكافر إذا كان تحته مسلمة والحر إذا كان تحته أمة والعبد إذا كان تحته حرة" فذلك تنصيص على اشتراط أهلية الشهادة فيهما وفي الآية إشارة إلى هذا فإنه قال" {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}(7/73)
ص -38- ... والمراد بالشهداء من يكون أهلا للشهادة مطلقا والمستثني من جنس المستثني منه وقال الله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: من الآية6] وهذا شأن شهادة شرعية ولا يتحقق ذلك ممن ليس بأهل للشهادة.
ثم المسلم إذا كان تحته كافرة فهي ليست بمحصنة وكما أن قذف الأجنبية إذا لم تكن محصنة لا يوجب الحد فكذلك قذف الزوج زوجته إذا لم تكن محصنة لا يوجب اللعان، وكذلك الحر إذا كان تحته أمة،
فأما الكافر إذا كان تحته مسلمة بأن أسلمت امرأته فقذفها قبل أن يعرض عليه الإسلام فهو ليس من أهل الشهادة عليها وكذلك العبد إذا كان تحته حرة فلا يكون قذفه إياها موجبا للعان ولكنه يكون موجبا حد القذف لأن القذف بالزنى لا ينفك عن موجب، فإذا خرج من أن يكون موجبا للعان لمعنى في القاذف كان موجبا للحد، وكذلك المحدود في القذف إذا قذف امراته، لأن الدلالة قامت لنا على أن إقامة حد القذف عليه مبطل للحد لشهادته ومخرج له من أن يكون أهلا لأداء الشهادة، وكذلك إن كانت المرأة محدودة في قذف، فلا لعان بينهما لانعدام أهلية أداء الشهادة في جانبها إلا أنه إذا كانت هي المحدودة في القذف فلا حد على الزوج، ولا لعان لأن قذفه باعتبار حاله موجب للعان، فلا يكون موجبا للحد. إذ لا يجمع بين موجبين، ولكن امتنع جريان اللعان لمعنى من جهتها، فهو كما لو صدقت الزوخ بخلاف ما إذا كان الزوج هو المحدود لأن قذفه باعتبار حاله لم يكن موجبا للعان، فكان موجبا للحد إذ هي محصنة، ولو كانا محدودين في قذف فعليه الحد أيضا لأن قذفه باعتبار حاله غير موجب للعان، فيكون موجبا للحد. ولا يجوز أن يقال امتناع جريان اللعان هنا لكونهما محدودة لأن أصل القذف يكون من الرجل، وإنما يظهر حكم المانع في جانبها بعد قيام الأهلية في جانب الرجل. فأما بدون الألية في جانب لا معتبر بحالها، وكذلك العبد يقذف الحرة المحدودة تحته، لأنها محصنة. وإن قذف العبد امرأته وهي مملوكة أو مكاتبة(7/74)
فلا حد عليه، ولا لعان لأنها ليست محصنة، وكذلك الحر يقذف امرأته وهي أمة، أو مدبرة أو أم ولد، أو مكاتبة، أو مستسعاة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنها بمنزلة المكاتبة فلا تكون محصنة مع قيام الرق، ولكنه يعذر لذلك أوساطا لن قذف المملوك يوجب التعزيز لمعنى هتك الستر، ,إشاعة الفاحشة. والعبد إذا قذف امرأته الحرة المسلمة فعليه الحد لأن قذفه باعتبار حاله غير موجب للعان فيلزم الحد لكونها محصنة.
قال إذا قذف الأعمى امرأته وهي عمياء والفاسق قذف امرأته فعليهما اللعان" لأن الفاسق من أهل الشهادة ولكن لا تقبل شهادته لعدم ظهور رجحان جانب الصدق.
ولهذا أمر الله تعالى بالتثبت في خبره والتثبت غير الرد بخلاف المحدود في القذف فإنه محكوم ببطلان شهادته كما قالت الصحابة رضوان الله عليهم فتبطل شهادته في المسلمين.
والدليل عليه أن الفاسق إذا شهد في حادثة فرد القاضي شهادته ثم أعادها بعد التوبة لم تقبل، ولو لم يكن المردود شهادة لكانت مقبولة بعد التوبة. وكذلك الأعمى من أهل الشهادة(7/75)
ص -39- ... إلا أنه لا تقبل شهادته لنقصان في ذاته، وهو أنه لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه إلا بالصوت، والنغمة ولأن شهادته جائزة في قول بعض الفقهاء يعني: إذا تحمل وهو بصير ثم أدى بعد العمي تقبل شهادته عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فإذا كان من أهل الشهادة كان من أهل اللعان أيضا قال "وإذا قذف امرأته وقد زنت فلا حد عليه ولا لعان" لأنها ليست بمحصنة وهو صادق فيما رماها به من الزنى وكذلك إن وطئت وطئا حراما يريد به الوطء بشبهة.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يلاعنها وهو قول ابن أبي ليلى لأن هذا الوطء مثبت للنسب موجب للعدة والمهر فلا يسقط به الإحصان كوطء المنكوحة في حالة الحيض ولكنا نقول وطء غير مملوك فيكون في معنى الزنى فيسقط به الإحصان ولكن لا يجب به الحد للشبهة والشبهة تصلح لإسقاط الحد لا لإيجابه فلو أوجبنا على قاذفها الحد واللعان كان فيه إيجاب الحد بالشبهة وبهذا فارق حكم النسب والعدة لأنه يثبت مع الشبهة.
قال "وإذا قذفها وهي صغيرة أو هو صغير فلا حد ولا لعان" أما الصبي فقوله هدر فيما يتعلق به اللزوم والصغيرة ليست بمحصنة وكذلك إن كان أحدهما مجنونا أو معتوها وكذلك إن كان أحدهما أخرس. أما إذا كان الزوج هو الأخرس فقذفه لا يوجب الحد ولا اللعان عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى، يوجب لأن إشارة الأخرس كعبارة الناطق. ولكنا نقول لا بد من التصريح بلفظ الزنى ليكون قذفا موجبا للحد أو اللعان ولا يتأتي هذا التصريح في إشارة الأخرس فإن إشارته دون عبارة الناطق بالكتابة ولأنه لا بد من لفظ الشهادة في اللعان حتى أن الناطق لو قال أحلف مكان قوله أشهد لا يكون صحيحا.(7/76)
وبعض أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى يرتكبون هذا ولكنه مخالف للنص فإذا ثبت أنه لا بد من لفظ الشهادة وذلك لا يتحقق بإشارة الأخرس وكذلك إن كانت هي خرساء لأن قذف الخرساء لا يوجب الحد على الأجنبي لجواز أن تصدقه لو كانت تنطق ولا تقدر على إظهار هذا التصديق بإشارتها وإقامة الحد مع الشبهة لا يجوز.
قال "وإذا قذف الحر المسلم امرأته الحرة المسلمة بالزنى فإن كفت عن مرافعته فهي امرأته" لأن حقيقة زناها لا ينافي بقاء النكاح بينهما فالنسب إلى الزنى أولى. واللعان هنا كالحد في قذف الأجانب وذلك لا يستوفي إلا بطلب المقذوف فهذا مثله. وإن دفعته بدأ الإمام بالرجل فأمره أن يلاعن كما قال الله تعالى في كتابه يقوم فيشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: من الآية6] فيما رماها به من الزنى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] فيما رماها به من الزنى ثم تقوم المرأة فتشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} [النور: من الآية6] فيما رماها به من الزنى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] فيما رماها به من الزنى. أما قيامهما ليس بشرط، فسره الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال لا يضره اللعان قائما أو قاعدا لأن اللعان شهادة، أو يمين فالقائم، والقاعد فيه سواء.(7/77)
ص -40- ... وذكر في النوادر عن الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا بد أن يقول إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنى وهي تقول أنت من الكاذبين فيما رميتني به من الزنى لأنه إذا ذكر بلفظة الغائبة يتمكن فيه شبهة واحتمال فلا بد من لفظ الخطاب.
وفي ظاهر الرواية لم يعتبر هذا لأن كل واحد منهما يشير إلى صاحبه والإشارة أبلغ أسباب التعريف فإذا فرغا من اللعان فرق الإمام بينهما لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين العجلاني وامرأته فقال العجلاني كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفارقها فكانت سنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما. ثم الفرقة لا تقع عندنا إلا بتفريق القاضي. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تقع بنفس لعان الزوج.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يقع الفرقة بلعانهما. فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: سبب هذه الفرقة قول من الزوج مختص بالنكاح الصحيح فيتم به كالطلاق.
وزفر رحمه الله تعالى يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيص على وقوع الفرقة بينهما.
ولكنا نستدل بالحديث الذي روينا فإن العجلاني رضي الله تعالى عنه أوقع الثلاث عليها بعد التلاعن ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة بينهما لأنكر عليه. فإن قيل قد أنكر عليه بقوله اذهب فلا سبيل لك عليها.(7/78)
قلنا: ذاك منصرف إلى طلبه رد المهر فإنه روى أنه قال: "أن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها وإن كنت كاذبا فابعد اذهب فلا سبيل لك عليها" ولأن الراوي قال: فذلك السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فدل أنه لا تقع الفرقة إلا بالتفريق وكان التفريق هنا بمنزلة فسخ البيع بسبب التحالف عند الاختلاف في الثمن ثم هناك لا ينفسخ البيع ما لم يفسخ القاضي فكذلك هنا، وهذا لأن مجرد اللعان غير موضوع للفرقة، ولا هو مناف للنكاح إلا أن الفرقة بينهما لقطع المنازعة والخصومة وفوات المقصود بالنكاح مع إصرارهما على كلامهما فلا يتم إلا بقضاء القاضي فأما قوله صلى الله عليه وسلم : "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" حقيقة هذا اللفظ حال تشاغلهما باللعان كالمتقاتلين والمتضاربين.
فزفر رحمه الله تعالى يوافقنا أن في حال تشاغلهما باللعان لا تقع الفرقة بينهما. ثم ذكر عن إبراهيم رضي الله تعالى عنه قال اللعان تطليقة بائنة وإذا أكذب الملاعن عن نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: الفرقة باللعان تكون فرقة بالطلاق وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تكون فرقة بغير طلاق بناء على أن عند أبي يوسف يثبت باللعان الحرمة المؤبدة بينهما وهو قول الشافعي رضي الله عنه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تتأبد الحرمة بسبب اللعان.(7/79)
ص -41- ... حجتهما في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" وهكذا نقل عن عمر وعلي و ابن مسعود رضي الله عنهم.
والمعنى فيه أن سبب هذه الفرقة يشترك فيه الزوجان. والطلاق يختص به الزوج فما يشترك الزوجان فيه لا يكون طلاقا ومثل هذا السبب متى كان موجبا للحرمة كانت مؤبدة كالحرمة بالرضاع توضيحه أن ثبوت الحرمة هنا باللعان نظير حرمة قبول الشهادة بعد الحد في قذف الأجنبي وذلك يتأبد فكذلك هنا. وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن الثابت بالنص اللعان بين الزوجين فلو أثبتنا به الحرمة المؤبدة كان زيادة على النص, وذلك لا يجوز خصوصا فيما كان طريقه طريق العقوبات ثم هذه فرقة تختص بمجلس الحكم ولا يتقرر سببه إلا في نكاح صحيح فيكون فرقة بطلاق كالفرقة بسبب الجب والعنة وهذا لأن باللعان يفوت الإمساك بالمعروف فيتعين التسريح بالإحسان فإذا امتنع منه ناب القاضي منابه فيكون فعل القاضي كفعل الزوج وإذا ثبت أنه طلاق والحرمة بسبب الطلاق لا تتأبد فأما الحديث فقد بينا أن حقيقة المتلاعنين حال تشاغلهما باللعان ومن حيث المجاز إنما يسميان متلاعنين ما بقي اللعان بينهما حكما.
وعندنا لايجتمعان ما بقي اللعان بينهما حكما وإنما تجوز المناكحة بينهما إذا لم يبق اللعان بينهما حكما لأنه إذا أكذب نفسه يقام عليه الحد لإقراره على نفسه بالتزام الحد ومن ضرورة إقامة الحد عليه بطلان اللعان ولا يبقى أهلا للعان بعد إقامة الحد وكذلك إن أقرت المرأة بالزنى فقد خرجت من أن تكون أهلا للعان وكذلك إن قذفت رجلا فأقيم عليها الحد فعرفنا أن حل المناكحة بينهما بعد ما بطل حكم للعان فلا يكون في هذا إثبات الاجتماع بين المتلاعنين.(7/80)
قال "وإذا أنكر الزوج القذف فأقامت المرأة به البينة عليه وجب اللعان بينهما" وعلى قول ابن أبي ليلى يلاعن ويحد أما اللعان فلأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ثم قال ابن أبي ليلى إنكاره بمنزلة إكذابه نفسه فيقام عليه الحد ولكنا نقول إنكاره نفي القذف وإكذابه نفسه تقرير القذف فكيف يستقيم إقامة إنكاره مقام إكذابه نفسه فلهذا لا يحد.
قال "وإذا نفى الرجل حبل امرأته فقال هو من زنا فلا لعان بينهما ولا حد قبل الوضع في قول علمائنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلاعنها لحديث هلال بن أمية رضي الله عنه فإنه قذف امرأته بنفي الحمل وقد لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ولأن الحبل يعرف وجوده بالظاهر ويتعلق به أحكام شرعا نحو الرد بالعيب والميراث والوصية به وله فكذلك يثبت حكم اللعان بنفيه.
"وحجتنا" ما قال في الكتاب أن نفي الحبل ليس بشيء لأنه لا يدري لعله ريح واللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبية فلا يجوز إقامته مع الشبهة بخلاف حكم الرد بالعيب فإنه يثبت مع الشبهات والإرث والوصية تتوقف على انفصال الولد ولا تتقرر في(7/81)
ص -42- ... الحال. فأما الحديث من أصحابنا من قال أنه قذفها بالزنى نصا فإنه قال وجدت شريك بن سمحاء على بطنها يزني بها ثم نفى الحبل بعد ذلك.
وعندنا إذا قذفها بالزنى نصا يلاعنها على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف من طريق الوحي أنها حبلى حتى قال: "إن جاءت به أحيمر على نعت كذا فهو لهلال بن أمية رضي الله عنه وإن جاءت به أسود جعدا حماليا فهو لشريك" فجاءت به على النعت المكروه فقال صلى الله عليه وسلم : "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ومثل هذا لا يعرف إلا بطريق الوحي ولا يتحقق مثله في زماننا.
ثم عند أبي حنيفة إذا جاءت بالولد يثبت نسبه من الزوج ولا يجرى اللعان بينهما بذلك النفي وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ نفي فكذلك وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لاعن ولزم الولد أمه لأنا تيقنا أن الحبل كان موجودا حين نفاه عن نفسه فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء والدليل عليه حكم الوصية والميراث فإنه يثبت إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر لتيقننا أنه كان موجودا وقت السبب.(7/82)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أصل هذا القذف لم يكن موجبا للعان فلا يصير موجبا بعد ذلك لأنه حينئذ يكون هذا في معنى قذف مضاف والقذف لا يحتمل الإضافة ولا التعليق بالشرط. وبه فارق الوصية والميراث لأنه يمكن إثباته على سبيل التوقف والإضافة إلى ما بعد الانفصال يقرره أنه لو لاعنها قبل الوضع كما قال الشافعي يحكم على الحبل بقطع نسبه من الزوج إذ النسب من حق الولد وإلزام الحكم على الحمل لا يجوز فإذا تعذر نفي النسب عند النفي لا يصير محتملا للنفي بعد ذلك، ولو لاعنها بعد الوضع لنفي النسب عنه وذلك لايجوز وإذا تعذر نفي النسب يتعذر اللعان كما لو ولدت ولدا ميتا. وإذا لاعنها بغير ولد فلها النفقة والسكني في العدة، لأن وقوع الفرقة بسبب من جهة الزوج ولهذا كان طلاقا فإذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد لأنها جاءت به لمدة يتوهم أن العلوق في حال قيام النكاح وإن لم يكن عليها عدة لزمه الولد ما بينه وبين ستة أشهر كما لو وقعت الفرقة بينهما بسبب آخر ولو نفي هذا الولد لم يجر اللعان بينهما عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجري اللعان بينهما لأن الأصل عنده أن اللعان يجري لنفي الولد مقصودا. ولهذا قال في النكاح الفاسد إذا دخل بها الزوج ثم جاءت بولد فنفاه يجري اللعان بينهما لنفي الولد مقصودا وهذا لأنه محتاج إلى أن ينفي عن نفسه نسبا ليس منه واللعان مشروع لحاجته فأما عندنا حكم اللعان ثبت بالنص في الزوجات قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: من الآية6] ولا زوجية في النكاح الفاسد ولا بعد البينونة ولأنه لو جرى اللعان بينهما إنما يجري لنفي الولد وقد حكم الشرع بثبوت نسب الولد منه حين أوجب المهر والعدة بالنكاح الفاسد وبعد الحكم بثبوت النسب لا يتصور نفيه توضيحه أن نفي النسب تبع لقطع الزوجية والتفريق بينهما وقيام التبع بالمتبوع فإذا تعذر الحكم عليه بقطع الزوجية يمتنع جريان(7/83)
اللعان بينهما(7/84)
ص -43- ... قال "وإذا لاعنها بولد ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر أو أكثر ما بينها وبين السنتين لزمه هذا الولد" لأن العلوق به موهوم أنه كان في حال قيام النكاح.
قال "وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد فأقر بالأول ونفى الثاني لزمه الولدان ويلاعنها فإن نفى الأول وأقر بالثاني لزماه ويحد" لأن إقراره بنسب أحدهما إقرار بنسبهما فإنهما توأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حكم النسب لعلمنا أنهما خلقا من ماء واحد فإذا أقر بالأول كان هذا كإقراره بهما ثم في نفي الثاني هو قاذف لها بالزنى فيلاعنها وإن نفى الأول فقد صار قاذفا لها بالزنى وحين أقر بالثاني فقد أكذب نفسه فيلزمه الحد ونسب الولدين ثابت منه لأن إقراره بأحدهما كإقراره بهما وإن نفاهما ثم مات أحدهما قبل اللعان فإنه يلاعن على الحي منهما وهما ولداه لأن الذي مات قد لزمه نسبه ألا ترى أنه يرثه لو كان له مال وأنه لو قتل كان له الميراث من ديته والحكم بثبوت نسب أحدهما منه حكم بثبوت نسبهما فلا يحتمل النفي بعد ذلك ولأنه لو قطع نسب هذا الحي منه قطع نسب الميت أيضا، والنسب كما لا يمكن إثباته بعد الموت بالدعوة لا يمكن قطعه بالنفي لأن فيه إلزام الحكم على الميت من غير خصم عنه فإن الأخ لا ينتصب خصما عن أخيه ولكن لا يمتنع جريان اللعان بينهما لأنه قذفها بالزنى وليس من ضرورة اللعان قطع النسب والنسب إنما لزمه حكما فلا يكون ذلك بمنزلة إكذابه نفسه في منع جريان اللعان بينهما وكذلك لو كانت ولدت أحدهما ميتا فنفاهما لأن المولود ميتا ثابت النسب منه حتى لو ضرب إنسان بطنها فلزمته الغرة كان للوالد منه الميراث وإذا لزمه نسب أحدهما لزمه نسبهما.(7/85)
قال وإن ولدت ولدا فنفاه ولاعن به ثم ولدت من الغد ولدا آخر لزمه الولدان جميعا واللعان ماض" لأن نسب الذي كان في البطن لم يثبت فيه حكم الحاكم لما فيه من إلزام الحكم على الحمل وذلك ممتنع ولا يجوز أن يتوقف على الانفصال فإذا انفصل كان ثابت النسب منه وهما توأم إذ ليس بينهما مدة حبل تام ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ولأن اعتبار جانب الذي كان منفصلا وقت اللعان يوجبه نفي النسب واعتبار جانب الآخر يثبت النسب وإنما يحتاط لإثبات النسب لا لنفيه فإن قال هما ابناي كان صادقا ولا حد عليه لأن نسبهما منه يثبت شرعا فهو بهذا اللفظ يخبر عما يلزمه شرعا فلا يكون اكذابا منه نفسه.
توضيحه أن كلامه محتمل يجوز أن يكون مراده الإكذاب بدعوى النسب ويجوز أن يكون مراده الإخبار بما لزمه شرعا والحد لا يجب مع الاحتمال وإن قال ليسا بإبني كانا ابنيه لأن نسبهما لزمه حكما فلا يملك نفيه ولا حد عليه لأنه بهذا اللفظ كرر القذف الذي لاعنها به فلا يلزمه بالتكرار حد.
ولو قال: كذبت في اللعان وفيما قذفتها به كان عليه الحد لأنه صرح بإكذابه نفسه وذلك يوجب الحد عليه.
قال ولو نفي ولد زوجة محدودة أو كتابية أو مملوكة والزوج حر أو عبد كان نفيه(7/86)
ص -44- ... باطلا ويلزم الولد إياه" لأن النسب قد ثبت منه بالفراش فلا ينقطع إلا باللعان وقد تعذر إثبات بينهما لإنعدام أهلية الشهادة فيهما أو في أحدهما فيبقي النسب ثابتا منه ولا حد على الزوج ولا لعان وقد أجمل هذا الجواب لأنه في السؤال ذكر الزوج العبد والمرأة المحدودة وقد بينا فيما سبق أن العبد إذا قذف امرأته المحدودة فعليه الحد فيحمل هذا الجواب على ما إذا كان الزوج حرا مسلما حتى يمتنع جريان اللعان من قبلها فحينئذ لا يجب الحد ولا اللعان.
قال وإذا التعن الرجل ثلاث مرات والتعنت المرأة ثلاث مرات ثم فرق القاضي بينهما فقد أخطأ السنة والفرقة جائزة عندنا.
وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى حكمه بخلاف السنة باطل فلا تقع الفرقة بينهما لأنه حكم بخلاف النص فإن اللعان بالكتاب والسنة خمس مرات والحكم بخلاف النص باطل كما لو حكم بشهادة ثلاثة نفر في حد الزنى أو بشهادة رجل وامرأة بالمال.
وحجتنا في ذلك أن هذا حكم في موضع الاجتهاد فيجوز وينفذ كالحكم بشهادة المحدود في القذف ونحوها وبيانه من وجهين:
أحدهما أن ما شرع مكررا من واحد فقد يقام الأكثر منه مقام الكل.(7/87)
والثاني أن تكرار اللعان للتغليظ ومعنى التغليظ يحصل بأكثر كلمات اللعان لأنه جمع متفق عليه وأدنى الجمع كأعلاه في بعض المواضع فإذا اجتهد القاضي وأدى اجتهاده إلى هذا الحكم نفذ حكمه ألا ترى أنه لو فرق بينهما بعد لعان الزوج قبل لعان المرأة ينفذ حكمه لكونه مجتهدا فيه فبعد ما أتى كل واحد منهما بأكثر كلمات اللعان أولى ولا نسلم أن قضاءه مخالف للنص لأن أصل الفرقة ومحلها غير مذكور في النص وهذا الاجتهاد في محل الفرقة فإن من أبطل هذا القضاء يقول لا تقع الفرقة وأن أتمت المرأة اللعان بعد ذلك ولا ينفذ حكمه وإن أتم الزوج اللعان وإنما تقع الفرقة عنده بلعان الزوج ولو فرق بينهما بعد ما التعن كل واحد منهما مرتين لم ينفذ حكمه لأن بقاء أكثر اللعان كبقاء جميعه فهذا حكم في غير موضع الاجتهاد فإن أقل الشيء لا يقوم مقام كماله.
قال "ولو فرغا من اللعان فلم يفرق بينهما حتى مات أحدهما توارثا لأن الفرقة عندنا لا تقع إلا بقضاء القاضي فإنما انتهى النكاح بينهما بالموت.
قال ولو أخطأ القاضي فأمر المرأة فبدأت باللعان ثم التعن الرجل كان عليه أن يأمر المرأة بإعادة اللعان" لأنها التعنت قبل أوانه فإن اللعان مشروع في جانبها لمعارضة لعان الزوج لأنها لا يثبت بلعانها شيء على الزوج وما حصل قبل أوانه لا يعتد به فيأمرها باستقبال اللعان فإن لم يأمرها بذلك وفرق بينهما وقعت الفرقة كما لو التعن الزوج ولم تلتعن المرأة حتى فرق بينهما لأنه حكم في موضع الاجتهاد لأن فيما طريقه على طريق المعارضة لا فرق بين أن يسبق هذا أو ذاك وفي باب التحالف له أن يبدأ بيمين أيهما شاء ولأنهما متلاعنان سواء بدأت هي أو هو وحكمه في موضع الاجتهاد نافذ.(7/88)
ص -45- ... قال وإذا قذف أجنبية ثم تزوجها فقذفها فرافعته فيهما جلد الحدود دريء اللعان" لأن موجب قذفه قبل التزوج الحد وموجب قذفه بعد التزوج اللعان ولكن متى اجتمع الحدان عند الإمام وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر بديء بما فيه إسقاط الآخر احتيالا للدرء ولو بدأ باللعان هنا لم يسقط الحد ولو بدأ بالحد يسقط اللعان لأن المحدود في القذف لا يلاعن امرأته فلهذا يبدأ بالحد ولو أخذته بالآخر وتركت الأول لاعنها لأن حد القذف لا يقام إلا بطلب المقذوف فإذا لم يطلب صار القذف الأول كالمعدوم في حق الثاني وقد وجد منها الخصومة في الثاني فيلاعنها فإن أخذته بعد ذلك بالأول ضرب الحد لأن بترك الطلب زمانا لا يسقط حقها في المطالبة بحد القذف بعد تقرر الموجب لحد القذف وإن بدأت بالأول حد لها فإن أخذته بعد ذلك بالآخر لم يلزمه حد ولا لعان لأن القذف الثاني كان موجبا للعان وقد تعذر إقامته حين صار محدودا في قذف ولو كان موجبا للحد لا يقام إلا حد واحد وقد أقيم ذلك بعد القذفين.
قال "وإذا قذف امرأته مرات فعليه لعان واحد" لأن اللعان في كونه موجب قذف الزوجات كالحد في حق الأجنبيات والحد لا يتكرر بتكرر القذف لشخص واحد.
قال "وإذا قذف أربع نسوة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة فعليه أن يلاعن كل واحدة منهن على حدة بخلاف ما لو قذف أجنبيات فإنه يقام عليه حد واحد لهن" لأن المقصود يحصل بإقامة حد واحد وهو دفع عار الزنى عنهن وهنا لا يحصل المقصود بلعان واحد لأنه يتعذر الجمع بينهن في كلمات اللعان فقد يكون صادقا في بعضهن دون البعض والمقصود التفريق بينه وبينهن ولا يحصل ذلك باللعان مع بعضهن فلهذا يلاعن كل واحدة منهن على حدة حتى لو كان محدودا في قذف كان عليه حد واحد لهن لأن موجب قذفه لهن الحد هنا والمقصود يحصل بحد واحد كما في الأجنبيات.(7/89)
قال "ولو قذف رجلا فضرب بعض الحد ثم قذف امرأة نفسه لم يكن عليه لعان وعليه تمام الحد لذلك الرجل" لأن قذفه إياها موجب للعان فإن بإقامة بعض الحد عليه لا تبطل شهادته ولكن لا بد من إكمال الحد لذلك الرجل أولا لأن في البداية به إسقاط اللعان فإنه يصير محدودا في قذف فيبدأ بإكمال الحد الأول لهذا ولو كان قذفه إياها في هذه الحالة موجبا للحد لم يجب إلا كمال الحد الأول كما لو قذف أجنبيا آخر.
قال "وإذا قذف امرأته ثم بانت منه بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان" لأن المقصود باللعان التفريق بينهما ولا يتأتي ذلك بعد البينونة فلا معنى للعان بعد فوات المقصود به ولا حد عليه لأن قذفه كان موجبا للعان والقذف الواحد لا يوجب الحدين ولو أكذب نفسه لم يضرب الحد أيضا لهذا المعنى بخلاف ما لو أكذب نفسه بعد ما لاعنها لأن وجوب اللعان هناك بأصل القذف والحد بكلمات اللعان فقد نسبها فيها إلى الزنى وانتزع معنى الشهادة بإكذابه نفسه فيكون هذا نظير الشهود بالزنى فأما هنا لم توجد كلمات اللعان فلهذا لا يحد وإن أكذب نفسه.(7/90)
ص -46- ... قال ولو قال أنت طالق ثلاثا يا زانية كان عليه الحد" لأنها بانت بالتطليقات الثلاث فإنما قذفها بالزنى بعد البينونة فعليه الحد ولو قال يا زانية أنت طالق ثلاثا لم يلزمه حد ولا لعان لأنه قذفها وهي منكوحة ثم أبانها بالتطليقات وقد بينا أنه بعد ما قذفها إذا أبانها لم يلزمه حد ولا لعان وهذا لأنه وإن ذكر كلامه على سبيل النداء فقد نسبها به إلى الزنى لأن النداء للتعريف وتعريفها بهذا الوصف نسبتها إليه بأبلغ الجهات.
قال "وإذا علق القذف بشرط لم يجب حد ولا لعان" لأن القذف مما لا يحلف به فلا يتعلق بالشرط ولأن التعلق بالشرط يمنع تحقق نسبتها إلى الزنى في الحال ولأن من لا تكون زانية قبل دخول الدار لا تكون زانية بدخول الدار وكذلك لو قال إذا تزوجتك فأنت زانية أو أنت زانية إن شاء فلان فهو باطل لما قلنا.
قال ولو قال لامرأته قد زنيت قبل أن أتزوجك أو رأيتك تزنين قبل أن أتزوجك فهو قاذف اليوم وعليه اللعان لأن القذف نسبتها إلى الزنى وقد تحقق ذلك في الحال بخلاف ما لو قال قذفتك بالزنى قبل أن أتزوجك فإنه يجب عليه الحد لأنه ظهر بإقراره قذف قبل التزوج فهو كما لو ثبت ذلك بالبينة بخلاف ما لو قال لها زنيت وأنت صغيرة فإنه لا حد عليه ولا لعان فإن فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا فقد نسبها إلى ما لا يتحقق شرعا فيكون هذا بمنزلة ما لو نسبها إلى ما لا يتحقق أصلا بأن قال زنيت قبل أن تخلقي.(7/91)
فأما ما قبل التزوج يتحقق منها فعل الزنى شرعا ولأن الصغيرة لا يلحقها العار ولا الإثم شرعا والقذف بالزنى يتعير به المقذوف وقد يكون فيه آثما شرعا وإن قال لها فرجك زان أو جسدك زان أو بدنك زان فهو قذف لأنه ذكر ما يعبر به عن جميع البدن بخلاف الرجل واليد وبأي لغة رماها بالزنى فهو قاذف لأن ما يلحقها من العار والشنار بالنسبة إلى الزنى لا يختلف بين العربية والفارسية وإذا قال وجدت رجلا معها يجامعها لم يكن قاذفا لأن الجماع قد يكون حلالا وشبهة وبدون التصريح بالزنى لا يكون القذف موجبا كما في حق الأجانب ما لم يصرح بالزنى لا يكون موجبا للحد.
قال "رجل قال لامرأته يا زانية فقالت بل أنت فإنها تحد له ويدرأ اللعان" لأن معنى كلامها لا بل أنت الزاني وقذفها إياه موجب للحد وفي البداية به إسقاط اللعان لأنها تصير محدودة في قذف وقد بينا أنه متى كان في البداية بأحد الحدين إسقاط الآخر يبدأ به.
وذكر في الأصل أنه لو قال لامرأته يا زانية فعليه اللعان لأنه قاذف لها وإن أسقط الهاء من كلامه لأن الإسقاط للترخيم عادة العرب بخلاف ما لو قال لرجل يا زانية لم يكن عليه حد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهي مسألة الحدود وقذف الأصم امرأته يوجب اللعان لأن التصريح بالنسبة إلى الزنى يتحقق من الأصم بخلاف الأخرس ولو قذف رجل امرأة رجل فقال الزوج صدقت لم يكن عليه حد ولا لعان لأنه ليس بتصريح بالنسبة لها إلى الزنى فمن الجائز أن(7/92)
ص -47- ... مراده صدقت هي امرأته وهذا اللفظ لا يكون قذفا في حق الأجانب فكذلك في حق الزوجة.
قال "وإن قال يا زانية فقالت زنيت بك في القياس يلاعنها" لأن كلامها ليس بإقرار بالزنى منها فإن فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا ولكن في الاستحسان ليس بينهما حد ولا لعان لأنها بأول كلامها صارت مصدقة له حين قالت زنيت ولأن كلامها محتمل لعلها أرادت زنيت بك قبل النكاح ولعلها أرادت بعد النكاح فلاحتمال الوجه الأول يسقط اللعان ولاحتمال الوجه الثاني لا تكون هي قاذفة له فلا يلزمها الحد وإن قال يا زانية فقالت أنت أزنى مني فعليه اللعان لأن كلامها ليس بقذف له فإن معناه أنت أقدر على الزنى مني.
ولهذا لو قذف الأجنبي بهذا اللفظ لا يلزمه الحد وكذلك لو قال الزوج أنت أزنى من فلانة أو أنت أزني الناس فلا حد ولا لعان لأن معنى كلامه أنت أقدر على الزنى أو أكثر شبقا فلا يتحقق نسبتها إلى الزنى بهذا اللفظ وإذا قذفها أو نفى نسب ولدها فصدقته لم يكن بينهما حد ولا لعان لأنها بتصديق الزوج فيما نسبها إليه من الزنى تخرج من أن تكون محصنة والولد ولده لأن النسب يثبت منه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وقد تعذر اللعان بينهما فإن قذف امرأة رجل فقال الرجل صدقت هي كما قلت كان قاذفا لها لأنه صرح بآخر كلامه أن مراده من التصديق أول الكلام.
ومعناه هي زانية كما قلت بخلاف ما لو قال مطلقا صدقت ولو قال لامرأته يا زانية بنت الزانية فقد صار قاذفا لها ولأمها وقذفه أمها موجب للحد وقذفه إياها موجب للعان فإذ رفعته هي وأمها بديء بالحد لما في البداية به من إسقاط اللعان وكذلك إن كانت الأم ميتة فللبنت أن تخاصم في إقامة الحد لأن العار يلحقها بزنا أمها فإذا خاصمت في ذلك حد لها ودرىءاللعان(7/93)
وإن قال زنيت مستكرهة أو زنى بك صبي لم يكن قاذفا لها لأن المستكرهة لا تكون زانية شرعا فإن الفعل ينعدم منها وهو التمكين في الإكراه ولهذا لا يلزمها الحد وكذلك فعل الصبي لا يكون زنا شرعا وهي بالتمكين من غير الزنى لا تكون زانية فلا يكون قاذفا لها ولو قذفها ثم وطئت وطئا حراما سقط اللعان لأنها خرجت من أن تكون محصنة والعارض في الحدود قبل الإقامة كالمقترن بأصل السبب.
قال وإذا ولدت المرأة ولدا ثم نفى الولد بعد سنة لاعنها ولم ينتف الولد إنما استحسن إذا نفاه حين يولد أو بعد ذلك بيوم أو يومين أو نحو ذلك أن ينتفي باللعان فهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يكن وقت فيه وقتا.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الوقت فيه أيام النفاس أربعون يوما.
وجه قولهما إن مدة النفاس كحالة الولادة بدليل أنها لا تصوم فيه ولا تصلي. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إذا لم يكن الولد منه لا يحل له أن يسكت عن نفيه بعد الولادة فيكون سكوته عن النفي دليل القبول وكذلك يهنى بالولد عند الولادة فقبوله بالتهنئة إقرار منه أن الولد منه وكذلك يشتري ما يحتاج إليه لإصلاح الولد عادة وبعد وجود دليل القبول ليس له(7/94)
ص -48- ... أن ينفيه وكان القياس أن لا يصح نفيه إلا على فور الولادة وبه أخذ الشافعي ولكنه استحسن أبو حنيفة رحمه الله فقال له أن ينفيه بعد ذلك بيوم أو يومين لأنه يحتاج إلى أن يروى النظر لئلا يكون مجازفا في النفي قال صلى الله عليه وسلم : "من نفى نسب ولده وهو ينظر إليه فهو ملعون" ولا يمكنه أن يروى النظر إلا بمدة فجعلنا له من المدة يوما أو يومين وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة سبعة أيام في هذه المدة يستعد للعقيقة وإنما تكون العقيقة بعد سبعة أيام ولكن هذا ضعيف فإن نصب المقدار بالرأي لا يكون.
قال ولو كان الزوج غائبا حين ولدته فحضر بعد مدة يجعل في حقه في حكم النفي كأنها ولدته الآن" إلا أنه روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن حضر قبل الفصال فله أن ينفيه إلى أربعين ليلة ولو حضر بعد الفصال فليس له أن ينفيه لأنه يقضى بنفقته عليه في ماله الذي خلفه ولو كان له أن ينفيه بعد الفصال لكان له أن ينفيه بعد ما صار شيخا وهذا قبيح هذا كله إن لم يقبل التهنئة فأما إذا هنئ فسكت فليس له أن ينفيه بعد ذلك لأن سكوته عند التهنئة بمنزلة قبوله التهنئة وذلك بمنزلة الإقرار بنسبه ألا أنه روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا هنئ بولد الأمة فسكت لم يكن قبولا بخلاف ولد المنكوحة لأن ولد الأمة غير ثابت النسب منه فالحاجة إلى الدعوة والسكوت ليس بدعوة فأما نسب ولد المنكوحة ثابت منه فسكوته يكون مسقطا حقه في النفي.(7/95)
قال "وإذا لاعن بولد ولزم أمه ثم مات الولد عن مال فادعاه الأب لم يصدق على النسب والميراث" لأن الولد بالموت قد استغنى عن النسب فكان هذا منه دعوى الميراث وهو مناقض في دعواه لكن يضرب الحد لأنه أكذب نفسه وأقر أنه كان قاذفا لها في كلمات اللعان فإن كان الولد ابنا له فمات وترك ولدا ذكرا أو أنثى ثبت نسبه من المدعي وورث الأب منه لأن الولد الباقي محتاج إلى النسب فبقاؤه كبقاء الولد الأول فأما إذا كان ولد الملاعنة بنتا فماتت عن ولد ثم أكذب الملاعن نفسه فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى"1" وعندهما لا يثبت النسب هنا لأن نسب الولد القائم من جانب أبيه لا من جانب أمه قال القائل:
وإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللأنساب آباء
ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة وهذا وما لو ماتت لاعن ولد سواء ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الولد يتعير بانتفاء نسب أمه كما يتعير بانتفاء نسب أبيه فكان هذا الولد محتاجا إلى إثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين فيكون بقاؤه كبقائها كما لو كان ولد الملاعنة ذكرا وإذا ثبت النسب فالميراث ينبني عليه حكما.(7/96)
ص -49- ... قال ولو ولدت امرأة الرجل فقال الزوج لم تلده فلا حد عليه ولا لعان لأنه أنكر ولادتها وذلك لا يتضمن نسبتها إلى الزنى ولو شهدت امرأة على الولادة ثبت نسبه منها لقيام الفراش بينهما فإذا نفاه بعد ذلك لاعنها وإن قال ليس هذا مني ولا منك لم يكن بهذا قاذفا لها لأنه ينكر ولادتها هذا الولد بهذا اللفظ.
قال وإذا قذف امرأته ثم ارتدت ثم أسلمت ثم تزوجها لم يكن لها أن تأخذه بذلك القذف" لأنها بالردة خرجت من أن تكون محصنة ولأنها بانت منه بالردة ولو بانت بسبب آخر لم يكن عليه حد ولا لعان فإذا بانت بالردة أولى.
قال وإذا لاعن الرجل امرأته بغير ولد ثم قذفها هو أو غيره فعليه الحد" لأنها بقيت محصنة بعد اللعان والتفريق فإن اللعان بينهما باعتبار كونها محصنة فلا تخرج به من أن تكون محصنة.
قال "وإن لاعنها بولد ثم قذفها هو أو غيره فلا حد عليه ولا لعان" لأنها في صورة الزانيات فإن في حجرها ولدا لا يعرف له والد فلا تكون محصنة فإن ادعى الزوج الولد فجلد الحد وألزم الولد ثم قذفها قاذف فعليه الحد لأنها خرجت من أن تكون في صورة الزانيات حين ثبت نسب ولدها من الزوج ولا حد على من كان قذفها قبل ذلك لأن حال وجود السبب في الحدود معتبر لا محالة وقد كانت عند القذف في صورة الزانيات.
قال "ولو ادعى الولد ثم مات قبل أن يحد ثبت نسب الولد منه بالدعوة وضرب من قذف المرأة بعده الحد وكذلك لو أقامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر ثبت نسبه منه وضرب الحد" لأن الثابت بالبينة على الزوج أنه ادعاه كالثابت بالإقرار ومن قذفها بعد ذلك ضرب الحد لأنها خرجت من أن تكون في صورة الزانيات.
قال "وإذا قذف الرجل امرأته فرافعته فأقامت شاهدين أنه أكذب نفسه حد" لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بالمعاينة.(7/97)
قال "وإذا رجع الملاعنان إلى حال لا يتلاعنان فيه أبدا فإن كان بعد التفريق حل له أن يتزوجها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإن كان قبل التفريق لم يفرق بينهما وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجتمعان أبدا" وقد بينا هذه المسألة وحاصل مذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن التفريق بينهما والحرمة للتحرز عن تكرار اللعان وقد زال ذلك المعنى حين صار إلى حال لا يتلاعنان فيه أبدا.
قال "وإذا أسلمت امرأة الذمي فقذفها ثم أسلم فعليه الحد" لأنها كانت محصنة حين قذفها فكان اللعان ممتنعا باعتبار حال الزوج فإنه كافر فلزمه الحد ثم لا يسقط ذلك بعد إسلامه وكذلك العبد يعتق بعد ما قذف امرأته.
قال "ولو قذف الحر امرأته الذمية أو الأمة ثم أسلمت أو أعتقت لم يكن عليه حد ولا لعان" لأن امتناع جريان اللعان بمعنى من جهتها عند القذف فلا يجرى اللعان، وإن ارتفع المعنى(7/98)
ص -50- ... بعد ذلك وإذا أعتقت المرأة الأمة ثم قذفها الزوج فعليه اللعان لبقاء النكاح بينهما عندنا بعد ما عتقت فإن اختارت نفسها بطل اللعان لوقوع الفرقة بينهما باختيارها نفسها ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وإن لم تكن اختارت حتى يلاعنها ويفرق بينهما فعليه نصف المهر لأن الفرقة محال بها على جانب الزوج هنا.
ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى اللعان تطليقة بائنة، وكذلك لو كان دخل بها ثم فرق بينهما باللعان فلها النفقة والسكنى في العدة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة في اللعان
قال رضي الله عنه "وإذا شهد الزوج وثلاثة نفر على المرأة بالزنى جازت شهادتهم وأمضى عليها الحد عندنا".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تقبل شهادة الزوج على زوجته بالزنى لأنه خصم في ذلك فإنه يصير قاذفا لها مستوجبا للعان ولا شهادة للخصم ولأنه شاهد طعن لأن الزوج يغيظه زناها فيحمله ذلك على أن يشهد عليها لا بطريق الحسبة ولأنه يدعي عليها الجناية في أمانته فالفراش أمانة الزوج عندها ولا شهادة للمدعي.(7/99)
ولكنا نقول لو شهد عليها بحق آخر قبلت الشهادة لظهور العدالة وانتفاء التهمة فكذلك بالزنى بل أولى لأن انتفاء التهمة هنا أظهر والظاهر أن الزوج يستر الزنى على امرأته لأن ذلك يشينه ومعنى الغيظ الذي قال يبطل بالأب إذا شهد على ابنته بالزنى تقبل وإن كان يغيظه زناها ولا معنى لقوله أنه خصم لأن إخراجه الكلام مخرج الشهادة في الابتداء يمنع كونه خصما مستوجبا للعان كالأجنبي فإن قذف الأجنبي موجب للحد ثم إذا أخرج الكلام مخرج الشهادة في الابتداء لم يكن مستوجبا للحد، وكان محتسبا في الشهادة بخلاف ما لو قذفها أولا لأنه صار مستوجبا للعان فإنما يقصد بالشهادة بعد ذلك إسقاط اللعان عن نفسه والحد الواجب بزناها يخلص حقا لله تعالى وإنما يكون الزوج مدعيا إذا قصد بشهادته إثبات حق لنفسه وليس في هذه الشهادة إثبات حق له. ولو ردت شهادتهم بأن لم يعدلوا لم يجب اللعان على الزوج كما لا يجب الحد على الأجانب لتكامل عدد الشهود.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال لو قذفها الزوج ثم جاء بأربعة يشهدون عليها بالزنى فلم يعدلوا لاعنها الزوج لأنه قد استوجب اللعان بقذفه فلا يسقط عنه إلا بثبوت الزنى عليها والأصح أنه لايلاعنها لأن القاذف لو كان أجنبيا فأقام أربعة من الشهداء بهذه الصفة لم يحد وكذلك لا يلاعنها الزوج ولو شهد مع الزوج ثلاثة من العميان بالزنى عليها يحد العميان ويلاعنها الزوج لأنه يتيقن بكذب العميان في الشهادة بالزنى فإن تحمل هذه الشهادة لا يكون إلا عن معاينة وليس للعميان تلك الآلة فلا تعتبر شهادتهم ويلزمهم الحد بالقذف ويلاعنها الزوج بقذفه أيضا بخلاف الفساق فإن لهم في الزنى شهادة لأنا لا نتيقن بكذبهم فيه.(7/100)
ص -51- ... قال "وإذا شهد للمرأة ابناها على زوجها أنه قذفها لم تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لأمهما وكذلك لو شهد أب المرأة و ابن لها وكذلك لو شهد لها رجل وامرأتان بالقذف لم يجز لأن هذا حد فلا تجوز شهادة النساء في الحدود هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم وكذلك لا تجوز الشهادة على الشهادة في هذا لأن في كلا النوعين ضرب شبهة والحد لا يثبت مع الشبهة ولكن في هذا التعليل كلام فإن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى اللعان شهادة فيه معنى اليمين، وعند محمد رحمه الله تعالى يمين فيه معنى الحد.
وفائدة هذا الاختلاف فيما إذا عزل القاضي أو مات بعد اللعان قبل التفريق عندهما القاضي الثاني يستقبل اللعان لأنها شهادة لم يتصل بها الحكم وعند محمد رحمه الله تعالى لا يستقبله لأنها يمين في معنى الحد واليمين والحد إذا أمضاهما القاضي لا يستقبلهما قاض آخر. واستدل محمد رحمه الله تعالى بقوله صلى الله عليه وسلم : "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ولأن في كلمات اللعان قوله بالله وهذا يمين ويستوي في اللعان الرجال والنساء ولا مساواة بينهما في الشهادة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: من الآية6] ولأنه يختص بمجلس القضاء ولفظ الشهادة فيكون شهادة فيها معنى اليمين لقوله بالله ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وفي بعض الروايات: "لولا الشهادات التي سبقت" وفي الشهادة على الولادة يستوي فيه الرجال والنساء حتى تقبل شهادة امرأة واحدة لأجل الحاجة فهنا كذلك ثم على قول محمد رحمه الله تعالى هذا التعليل واضح لأن في اللعان معنى الحد فأما على قولهما معنى هذا التعليل أن قذف زوجته قد يكون موجبا للحد إذا تعذر اللعان بسبب من جهته فلهذا لا يثبت بالحجة التي فيها شبهة.(7/101)
قال "وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالزنى وشهد الآخر أنه قال لولدها هذا من الزنى لم يجز" لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا ومعنى فإن نسبة الولد إلى أنه مخلوق بالزنى غير قذفها بالزنى والموافقة بين الشاهدين لفظا في هذا الموضع معتبرة ولهذا لو شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية والآخر أنه قذفها بالفارسية لا تقبل ولو شهد أحدهما أنه قال لها زنى بك فلان وشهد الآخر أنه قال لها زنى بك فلان لرجل آخر فعليه اللعان لأن فعلها بالزنى هو التمكين من فعل الزنى وذلك لا يختلف باختلاف الفاعل إذا كان فعل كل واحد من الفاعلين زنا فقد اتفق الشاهدان على أنه قذفها بالزنى لفظا ومعنى وإنما اختلفا فيما لا حاجة بهما إلى ذكره ولو كان قذفها برجل واحد وجاء ذلك الرجل يطلب حده جلد الحد ودرىءاللعان لأنه اجتمع عند الإمام حدان فإن قذفه في حق الرجل موجب للحد وفي حقها موجب للعان ومتى اجتمع حدان وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر يبدأ بذلك.
قال "وإذا شهد الشاهدان على الزوج بالقذف حبسه حتى يسأل عن الشاهدين ولم يكفله" لأنه لا كفالة في الحدود وهذا في معنى الحد فإن قالا: نشهد أنه قذف امرأته وأمنا في كلمة(7/102)
ص -52- ... واحدة لم تجز الشهادة لأنها بطلت في حق أمهما فإنهما يشهدان لها ومتى بطلت الشهادة في بعض الكلمة الواحدة بطل في كلها وإن شهد ابناه من غيرها على قذفه إياها وأمهما عنده لم تجز شهادتهم لما فيها من نفع أمهما فإنها لو قبلت فرق بينهما باللعان فيخلص الفراش لأمهما وهو كما لو شهدا عليه بطلاق ضرة أمهما قال إلا أن الأب إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فتجوز شهادتهما عليه ولا يضرب الحد لأنهما يشهدان على أبيهما بالحد وليس فيه منفعة لأمهما.
قال "ولو شهد عليه شاهدان بقذف امرأته فعدلا ثم غابا أو ماتا قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما فإنه يحكم باللعان" فإن الموت والغيبة لا تقدح في عدالتهما بخلاف ما لو عميا أو ارتدا أو فسقا وهكذا الجواب في كل حد ما خلا الرجم فإنه لا يقام بعد موت الشهود أو فسقهم لأن الشرط فيه أن يبدأ الشهود وذلك يفوت.
قال "ويقبل توكيل المرأة في إثبات القذف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما يقبل توكيل المقذوف إذا كان أجنبيا في إثبات القذف فإذا جاء موضع الإقامة فلا بد من أن يحضر" لأن اللعان لا تجري فيه النيابة فإن المقصود لا يحصل بالثابت.
قال "وإذا أقام الزوج القاذف شاهدين على إقرار المرأة بالزنى يسقط اللعان عن الزوج" لأن الثابت بإقرارها وبالبينة كالثابت بالمعاينة ولا يلزمها حد الزنى كما لو أقرت مرة واحدة فإن الأقارير الأربعة في مجالس متفرقة لا بد منها لإقامة حد الزنى، وتمتنع الإقامة بإنكارها بعد الأقارير الأربعة ولو شهد عليها رجل وامرأتان بذلك درأت اللعان أيضا استحسانا وفي القياس يلاعنها لأنه لا شهادة للنساء في باب الزنى فلا يكون لهن شهادة أيضا في إثبات الإقرار بالزنى ولكنه استحسن فقال المقصود هنا درء الحد لا إثباته ودرء الحد يثبت مع الشبهات فتقبل فيه شهادة الرجال مع النساء ولو عفت المرأة عن القذف كان لها أن تخاصم بعد ذلك وتطالب باللعان كما في الحدود في قذف الأجانب عندنا.(7/103)
قال "وإن شهد للزوج ابناه منها أنها أقرت بالزنى لم تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لأبيهما بإسقاط اللعان عنه وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذفها وقذف امرأته بعد ذلك أو قبله في كلام متفرق جازت شهادتهما للمرأة لأنهما في حق أنفسهما مدعيان وفي حق المرأة شاهدان فإذا كان الكلام متفرقا فبطلان شهادتهما في أحد الكلامين لا يبطل شهادتهما في الكلام الآخر بخلاف ما إذا كان الكل في كلام واحد.
قال "وإذا صدقت المرأة زوجها عند الإمام فقالت صدق ولم تقل زنيت فأعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لم يلزمها حد الزنى" لأن قولها صدق كلام محتمل وما لم تفصح بالإقرار بالزنى لا يلزمها الحد ولكن يبطل اللعان ولا يحد من قذفها بعد هذا لأن الظاهر أنها صدقته في نسبتها إلى الزنى والظاهر يكفي لإسقاط إحصانها.
قال "وإذا شهد شاهدان بالقذف فقال الزوج يومئذ كانت أمة أو كافرة فالقول قوله في(7/104)
ص -53- ... ذلك" لأنه ينكر وجوب اللعان عليه وهي تدعي ولا يمين عليه لأن اللعان بمنزلة الحد ولا يمين في الحدود فإنه لو استحلف إنما يستحلف ليتوصل إلى اللعان بنكوله وذلك لا يجوز وإن كانت معروفة الأصل في الإسلام والحرية فعرف ذلك القاضي لم يلتفت إلى قول الزوج لأنه يعلم أنه كاذب فيما يدعي وإن أقاما البينة المرأة على حريتها وإسلامها والزوج على كفرها، ورقها وقت القذف فالبينة بينة المرأة لأنها هي المدعية لأنها تثبت اللعان بينتها والزوج ينفي ذلك فكانت بينتها أولى إلا أن يثبت شهود الزوج ردتها بعد الإسلام الذي شهد به شهودها فحينئذ بينته أولى لأن معنى الإثبات في بينته أظهر.
قال "وإن ادعى الزوج أنها زانية أو قد وطئت وطئا حراما فعليه اللعان" لأن إحصانها معلوم للقاضي باعتبار الأصل والزوج يدعي ما يسقط إحصانها فلا يقبل قوله إلا ببينة كما لو علم القاضي حريتها وإسلامها فإن ادعى الزوج بينة على أنها كما قال أجل إلى قيام القاضي فإن أحضر بينته وإلا لاعن لأن سبب وجوب اللعان قد ظهر ولكن يمكن الزوج من إقامة البينة على الدفع بقدر ما لا بد له منه وذلك إلى قيام القاضي ولا يؤجله أكثر من ذلك لما فيه من الإضرار بها.
قال "وإن قال الزوج قذفتها وهي صغيرة وإدعت أنه قذفها بعد ما أدركت فالقول قوله وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة" لأنها هي المدعية ولأنه لا تنافي بين البينتين فيجعل كأنه قذفها مرتين.
قال "وإذا ادعت على الزوج القذف ولم يكن لها بينة فلا يمين على الزوج" لأنه حد ولا يمين في الحدود، وكذلك إن ادعى الزوج أنها صدقته وأراد يمينها لم يكن عليها يمين لأن تصديقها إقرار منها بالزنى ولا يمين في الإقرار بالزنى.(7/105)
قال "فإن ادعت قذفا متقادما وأقامت عليه شهودا جاز" لأن موجب القذف لا يبطل بالتقادم كالحد في قذف الأجانب فإن أقام الزوج البينة أنه طلقها بعد ذلك طلاقا رجعيا فلا لعان بينهما ولا حد لأن ما يثبته الزوج بالبينة كالمعاين والفرقة بعد القذف مسقطة للعان فيتمكن الزوج من إثباته بالبينة كما لو أقام البينة على فرقة بردتها بعد القذف أو بسبب آخر وإذا أقامت المرأة البينة على إقرار الزوج بالولد وهو ينكر وقد نفاه لزمه الولد ولا يستطيع أن ينفيه بعد إقراره هكذا نقل عن عمر وعلي والشعبي رضي الله عنهم قالوا إذا أقر الرجل بولده فليس له أن ينفيه وما لم يقر به فله أن ينفيه وإذا نفاه قبل الإقرار لاعنها لأنه بعد ما أثبت ولادتها يكون هو بنفي الولد قاذفا لها بالزنى.
فإن قيل لا كذلك فقد يكون ولدها من وطء بشبهة قلنا الولد من وطء بشبهة يكون ثابت النسب من إنسان والذي لا يكون ثابت النسب من أحد لا يكون من زنا ولا نسب لهذا الولد منه فإذا نفاه فقد زعم أنه لا نسب لولدها هذا فيكون قاذفا لها بالزنى ثم كيفية اللعان بنفي الولد على ما روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن يقول الزوج أشهد إني لمن(7/106)
ص -54- ... الصادقين فيما رميتها به من نفي ولدها وهي تقول أشهد إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من نفي ولدي. وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال يقول الزوج أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى ونفي ولدها. وتقول المرأة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى ونفي ولدي وليس هذا باختلاف في الحقيقة وإنما اختلف الجواب لاختلاف الأحوال فجواب محمد رحمه الله تعالى فيما إذا قذفها بالزنى ونفي ولدها وجواب أبي يوسف رحمه الله تعالى فيما إذا نفى ولدها فقط. قال "وإذا فرق القاضي بينهما بعد اللعان يلزم الولد أمه" وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا بد أن يقول القاضي فرقت بينكما وقطعت نسب هذا الولد منه حتى لو لم يقل ذلك لا ينتفي النسب عنه وهذا صحيح لأنه ليس من ضرورة التفريق باللعان نفي النسب كما بعد موت الولد يفرق القاضي بينهما باللعان ولا ينتفي نسبه عنه فلا بد من أن يصرح القاضي بنفي النسب لهذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
قال رضي الله تعالى عنه هذا آخر شرح كتاب الطلاق بالمؤثرة من المعاني الدقاق أملاه المحصور عن الانطلاق المبتلي بوحشة الفراق مصليا على صاحب البراق وآله وصحبه أهل الخير والسباق صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق كتبه العبد البري من النفاق.(7/107)
ص -55- ... بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كتاب العتاق
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إعلم بأن الإعتاق لغة هو إحداث القوة يقال عتق الفرخ إذا قوى فطار عن وكره وفي الشريعة عبارة عن إحداث المالكية والاستبداد للآدمي ومن ضروته انتفاء صفة المملوكية والرق ولهذا يتعقبه الولاء الذي هو كالنسب لأن الأب سبب لإيجاد ولده فيكون الولد منسوبا إليه والعتق مسبب لإحداث صفة المالكية التي اختص الآدمي بها فصار المعتق منسوبا إليه بالولاء.
ولهذا ندب الشرع إليه بيانه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار" ولهذا استحبوا للرجل أن يعتق العبد وللمرأة أن تعتق الأمة ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء والتحرير لغة التخليص يقال طين حر أي خالص عما يشوبه وأرض حرة أي خالصة لا خراج عليها ولا عشر.(7/108)
وفي الشريعة عبارة عن جعل الرقبة خالصة لله تعالى قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: من الآية35] ولهذا شرع التحرير في التكفير لأجل التطهير قال الله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: من الآية92] ولهذا ندب الشرع إلى فك الرقبة بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:12-13] وفي حديث البراء بن عازب إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يدخلني الجنة فقال عليه السلام: "لئن أوجزت الخطبة فقد أعرضت المسألة فك الرقبة وعتق النسمة" قال أوليسا واحدا يا رسول الله قال: "لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" وسأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب فقال: "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" فهذه الآثار تبين أن الإعتاق من باب البر والإرفاق وأن أفضل الرقاب أعزها عند صاحبها.
ثم بدأ الكتاب بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بطلاق أو عتاق فهو جائز عليه" ونزلت هذه الآية في ذلك: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً } [البقرة: من الآية231] وقال عمر رضي الله عنه من تكلم بطلاق أو عتاق أو نكاح فهو جائز عليه أي نافذ لازم وفيه دليل على أن الهزل بهذه التصرفات جد كما قال صلى الله عليه وسلم :"ثلاث جدهن جد وهزلهن(7/109)
ص -56- ... جد النكاح والطلاق والعتاق" والهزل واللعب سواء فإنه اسم لكلام يكون على نهج كلام الصبيان لا يراد به ما وضع له ونفوذ هذه التصرفات بوجود التكلم بها ممن هو من أهلها ولا معتبر بقصده إلى حكمها لأن بانعدام القصد إلى الحكم ينعدم الرضا بالحكم وذلك لا يمنع لزوم هذه التصرفات لو قرن بها شرط الخيار.
والمراد بالآيات في قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: من الآية231] الأحكام والهزء اللعب ففيه بيان أنه لا لعب في أحكام الشرع.
وذكر في الأصل عن الحسن رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد فساوم به ولم يشتره فجاء رجل فاشتراه فأعتقه ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : "هو أخوك ومولاك فإن شكرك فهو خير له وشر لك وإن كفرك فهو شر له وخير لك وإن مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته" وفيه دليل أنه لا بأس بالمساومة لمن لا يريد الشراء بخلاف ما يقوله بعض الناس أن هذا اشتغال بما لا يفيد فإن فيه فائدة وهو ترغيب الغير في شرائه والرجل تفرس فيه خيرا حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ساوم به فلهذا اشتراه وأعتقه وقوله صلى الله عليه وسلم : "هو أخوك" أي في الدين قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب: من الآية5].(7/110)
وفيه دليل على أن الولاء يثبت بالعتق وإن لم يشترط المعتق بخلاف ما يقوله بعض الناس وقوله: "فإن شكرك" أي بالمجازاة على ما صنعت إليه فهو خير له لأنه انتدب إلى ما ندب إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم : "من أزلت إليه نعمة فليشكرها" "وشر لك" لأنه يصل إليك بعض الجزاء في الدنيا فينتقص بقدره من ثوابك في الآخرة "وإن كفرك فهو خير لك" لأنه يبقى ثواب العمل كله لك في الآخرة وشر له لأن كفران النعمة مذموم قال صلى الله عليه وسلم : "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وفيه دليل على أن المعتق يكون عصبة للمعتق لأنه قال: "كنت أنت عصبته".
ويستدل بالظاهر من يؤخر مولى العتاقة عن ذوي الأرحام لأنه قال ولم يترك وارثا وذوو الأرحام من جملة الورثة ولكن عندنا مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام.
ومعنى الحديث لم يترك وارثا هو عصبة بدليل قوله كنت أنت عصبته ثم بين أن من عتق عبدا ينبغي أن يكتب له بذلك كتابا والمقصود بالكتاب التوثيق فليكتب على أحوط الوجوه ويتحرز فيه عن طعن كل طاعن ولهذا ذكر فيه أني أعتقك لوجه الله فإن من الناس من يقول لا ينفذ العتق إذا لم يقصد المعتق وجه الله تعالى ونحن لا نقول بهذا حتى لو قال أعتقك لوجه الله تعالى أو الشيطان نفذ العتق. والحديث الذي بدأ به الكتاب يدل عليه ولكن يذكر هذا للتحرز عن جهل بعض القضاة، وكذلك يكتب ولى ولاؤك وولاء عتقك من بعدك لأن من الناس من يقول لا يثبت الولاء إلا بالشرط فيذكره في الكتاب للتحرز عن هذا.
ثم الألفاظ التي يحصل بها العتق نوعان صريح وكناية فالصريح لفظ العتق والحرية والولاء ويستوي إن ذكر هذه الألفاظ بصيغة الخبر أو الوصف أو النداء. أما(7/111)
ص -57- ... بصيغة الخبر أن يقول قد أعتقتك أو حررتك لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ووجه الصحة هنا متعين وهو الإنشاء وصيغة الإخبار والإنشاء في العتق واحد وإما على سبيل الوصف أن يقول أنت حر أنت عتيق لأنه لما وصفه بما يملك إيجابه فيه جعل ذلك بمنزلة الإيجاب منه لتحقيق وصفه فإن قال أردت الكذب والخبر بالباطل دين فيما بينه، وبين الله تعالى للاحتمال ولكنه لا يدين في القضاء لأن هذا اللفظ في الظاهر موضوع لإيجاب العتق والقاضي يتبع الظاهر لأن ما وراء ذلك غيب عنه وكذلك لو قال يا حر يا عتيق لأن النداء لاستحضار المنادى وذلك بذكر وصف له حتى يعلم أنه هو المقصود بالنداء فهذا ووصفه إياه بالعتق سواء وكذلك لو قال لعبده هذا مولاي أو لأمته هذه مولاتي، لأن المولى يذكر بمعنى الناصر قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]
ولكن المالك لا يستنصر بمملوكه عادة ويذكر بمعنى ابن العم قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: من الآية5] ولكن نسب العبد معروف فلا احتمال لهذا المعنى هنا ويذكر بمعنى الموالاة في الدين ولكنه نوع مجاز والمجاز، لا يعارض الحقيقة ويذكر بمعنى المولى إلاعلى على وذلك غير محتمل عند الإضافة إلى العبد فيتعين المولى الأسفل ولا يتحقق ذلك إلا بعد العتق فلهذا عتق به في القضاء وإن قال أردت به الولاية في الدين، أو الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولم يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر فإن قال يا مولاي فكذلك الجواب عندنا.(7/112)
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يعتق بهذا اللفظ إلا بالنية لأن هذا اللفظ في موضع النداء يقصد به الإكرام دون التحقيق يقال يا سيدي ويا مولاي ولو قال له يا سيدي ويا مالكي لا يعتق به بدون النية فكذلك إذا قال يا مولاي ولكنا نقول الكلام محمول على حقيقته ما أمكن وحقيقة قوله يا مولاي لا يكون إلا بولاء له عليه والعتق متعين لذلك فهذا وقوله يا حر يا عتيق سواء بخلاف قوله يا سيدي ويا مالكي لأنه ليس فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه ومما يلحق بالصريح هنا قوله لمملوكه وهبت نفسك منك أو بعت نفسك منك فإنه يعتق به وإن لم ينو لأن موجب هذا اللفظ إزالة ملكه إلا أنه إذا أوجبه لإنسان آخر يكون مزيلا لملكه إليه فيتوقف على قبوله وإذا أوجبه للعبد يكون مزيلا بطريق الإسقاط لا إليه فلا يحتاج إلى قبوله ولا يرتد برده فأما بيان ألفاظ الكناية قوله لا سبيل لي عليك فإنه محتمل يجوز أن يكون المراد لا سبيل لي عليك في اللوم والعقوبة لأنك وفيت بما أمرتك به ولا سبيل لي عليك لأني كاتبتك ولا سبيل لي عليك لأني أعتقتك، والمحتمل لا تتعين جهة فيه بدون النية فلا يعتق به إلا أن ينوي العتق وكذلك قوله لا ملك لي عليك يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك وكذلك قوله قد خرجت من ملكي يحتمل هذا المعنى فلا يعتق به ما لم ينو ويدين في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى لو قال له أطلقتك ينوي به العتق أيضا لأن الإطلاق يذكر بمعنى التحرير يقال أطلقته من السجن وحررته إذا خلي سبيله ولأنه يحتمل أن يكون مراده الإطلاق(7/113)
ص -58- ... من الرق الذي عليه فهو كقوله لا رق لي عليك فأما إذا قال لأمته أنت طالق أو قد طلقتك ونوى به العتق لم تعتق عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى تعتق وكذلك سائر كنايات الطلاق كقوله قد بنت مني أو حرمت علي أو أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو اخرجي أو اغربي أو استبري أو تقنعي أو اذهبي أو قومي أو اختاري فاختارت نفسها أو قال ذلك لعبده فهو كله على الخلاف.
وجه قول الشافعي أن صريح ما يسري كناية فيما يسري كلفظ التحرير في الطلاق معنى صريح ما يسري ما وضع لما يسري بطريق المطابقة كناية لما هو وصف وهو كونه حرا لمعنى آخر هو مسمى للفظ آخر وتقرير هذا الكلام أن الاستعارة للاتصال بين الشيئين معنى طريق صحيح في اللغة يقال للبليد حمار وللشجاع أسد للاتصال معنى وهو الشجاعة والبلادة، وبين الملكين اتصال من حيث المشابهة معنى لأن النكاح فيه معنى الرق قال عليه الصلاة والسلام "النكاح رق" ولأنه يستباح بكل واحد منهما الوطء في محله وبين الإزالتين الاتصال في المعني لأن كل واحد منهما إبطال للملك ويحتمل التعليق بالشرط وهو ينبئ عن السراية ويلزم على وجه لا يحتمل الفسخ فإذا ثبتت المشابهة معنى قلنا ما كان صريحا في إزالة ملك اليمين وهو لفظ التحرير كان كناية في ملك النكاح فكذلك ما هو صريح في ملك النكاح يجعل كناية صحيحة في إزالة ملك اليمين ولأن التحريم من موجبات التحرير فإن الأمة إذا أعتقت حرمت على مولاها وذكر الموجب على سبيل الكناية عن الموجب صحيح كقوله لامرأته اعتدي بنية الطلاق.(7/114)
"وحجتنا" في ذلك أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فهو كما لو قال لها كلي واشربي ونوى العتق وهذا لأن المنوي إذا لم يكن من محتملات اللفظ فقد تجردت النية عن لفظ يدل عليه وبيان ذلك أنه لا مشابهة بين العتق والطلاق صورة ولا معنى لأن الطلاق إزالة المانع من الانطلاق فإن المرأة بعد عقد النكاح حرة محبوسة عند الزوج فبالفرقة يزول المانع من الانطلاق والإعتاق إحداث قوة الانطلاق لأنه لم يبق في الرقيق صفة المالكية، وبالعتق يحدث له صفة المالكية ولا مشابهة بين احداث القوة وبين إزالة المانع كما لا مشابهة بين إحياء الميت وبين رفع القيد عن المقيد ونحن نسلم أن المشابهة في المعنى طريق الاستعارة ولكن لا في كل وصف بل في الوصف الخاص لكل واحد منهما والوصف الخاص لكل واحد منهما ما بينا دون ما ذكره الخصم، ألا ترى أنه لا يستعار الأسد للجبان والحمار للذكي وبينهما مشابهة في أوصاف وكل واحد منهما حيوان موجود ولكن لما انعدمت المشابهة في الوصف الخاص لم تجز الاستعارة فهذا مثله. فأما إذا استعمل لفظ التحرير في الطلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة معنى بل لأن موجب النكاح ملك المتعة وملك الرقبة في محل ملك المتعة يوجب ملك المتعة فما يزيل ملك الرقبة يكون سببا لإزالة ملك المتعة فيصلح أن يكون(7/115)
ص -59- ... كناية عنه. فأما ما يزيل ملك المتعة لا يكون سببا لإزالة ملك الرقبة فلا يصلح كناية عنه ولهذا قلنا في طرف الاستجلاب أن ما وضع لاستجلاب ملك المتعة وهو لفظ النكاح والتزويج لا يثبت به ملك الرقبة وما وضع لاستجلاب ملك الرقبة وهو لفظ الهبة، والبيع يصلح لإيجاب ملك المتعة وهو النكاح ولا يدخل على هذا اللفظ البيع فإنه لا تنعقد به الإجارة على ما قال في كتاب الصلح إذا باع سكنى داره من إنسان لا يجوز وإن كان بهذا اللفظ ثبت ملك الرقبة وهو سبب لملك المتعة لأن عندنا الاجارة تنعقد بلفظ البيع فإن الحر إذا قال لغيره بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا يكون إجارة صحيحة فأما بيع السكنى إنما لا يجوز لانعدام المحل لأن لفظ البيع موضوع للتمليك. والمنافع معدومة لا تقبل التمليك ولهذا لو أضاف لفظة الإجارة إلى المنفعة وقال أجرتك منفعة هذه الدار لا يجوز وإذا أضاف لفظ البيع إلى عين الدار فهو عامل بحقيقته لأن العين قابل للبيع فلا تجعل كناية عن الإجارة لهذا ولا معنى لما قاله أنه ذكر الموجب وعنى به الموجب لأن الموجب حكم والحكم لا يصلح كناية عن السبب لأنه لا حكم بدون السبب، والسبب يتحقق بدون الحكم فكان الحكم كالتبع والأصل يستعار للتبع، ولا يستعار التبع للأصل لافتقار التبع إلى الأصل واستغناء الأصل عن التبع وفي قوله اعتدى وقوع الطلاق ليس بهذا الطريق بل بطريق الإضمار حتى يقع الطلاق به على غير المدخول بها وإن لم يكن عليها عدة وكذلك إذا قال لامرأته أنت على حرام فذلك اللفظ عامل بحقيقته عندنا لا أن يكون كناية بطريق أنه ذكر الموجب وعنى به الموجب وهذا لأن التحريم ينافي النكاح ابتداء وبقاء وذلك لا يوجد هنا فإن حرمة الأمة عليه لا ينافي الملك ابتداء وبقاء كما في المجوسية، والأخت من الرضاعة ولو قال لعبده لا سلطان لي عليك ونوى العتق لم يعتق لأنه ليس من ضرورة انتفاء سلطانه عنه انتفاء الملك كالمكاتب فإنه لا سلطان(7/116)
للمولى عليه وهو مملوك بخلاف قوله لا سبيل لي عليك فإن من ضرورة انتفاء السبيل عنه من كل وجه العتق لأن له على المكاتب سبيلا من حيث المطالبة ببدل الكتابة حتى إذا انتفى ذلك بالبراءة عتق ولو قال لعبده أنت لله لم يعتق.
وإن نوى في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه صادق في مقالته فالمخلوقات كلها لله تعالى فهو كما لو قال أنت عبد الله وعند أبي يوسف يعتق به إذا نوى لأن معنى كلامه أنت خالص لله بانتفاء ملكه عنه فهو كقوله لا ملك لي عليك بخلاف قوله أنت عبد الله ولو قال لعبده يا بني أو لأمته يا بنية لم تعتق لأن هذا دعاء ولطف منه معناه أن هذا اللفظ في موضع النداء يقصد به استحضار المنادى وإكرامه مع أن قوله يا بني تصغير الابن. ولو قال يا ابن لا يعتق لأنه صادق في مقالته فإنه ابن لأبيه وإنما الإشكال في قوله يا ابني ولا يعتق بهذا اللفظ إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه الله أنه جعله كقوله يا حر ولكن لا يعتمد على تلك الرواية والصحيح أن هذا اللفظ في موضع النداء لاستحضار المنادى وتفهيمه ليحضر، وذلك بصورة اللفظ لا بمعناه ووقوع العتق بهذا(7/117)
ص -60- ... اللفظ لاعتبار معنى البنوة فلهذا لا يعتق به عند النداء حتى لو جعل اسم عبده حرا وكان ذلك معروفا عند الناس ثم ناداه به فقال يا حر لم يعتق أيضا وإذا لم يكن هذا الاسم معروفا له يعتق به في القضاء لأنه ناداه بوصف يملك إيجابه بخلاف قوله يا ابني فإنه ناداه بوصف لا يملك إيجابه فينظر إلى مقصوده فيه وهو الإكرام دون التحقيق. وإن قال هذا ابني ومثله يولد لمثله عتق ويثبت نسبه منه إن لم يكن له نسب معروف لأن كلامه دعوة النسب وهو تصرف يملكه المولى في مملوكه فإذا كان المحل محلا قابلا للنسب وهو محتاج إلى النسب ثبت نسبه منه والنسب لا يثبت مقصورا على الحال بل يثبت من وقت العلوق فتبين أنه ملك ولده فيعتق عليه ويستوي إن كان أعجميا جليبا أو مولدا لأن صحة دعوة المولى شرعا بوصلة الملك وحاجة المملوك إلى النسب وكذلك لو قال هذا أبي أو كانت أمة فقال هذه أمي ومثلهما يلد مثله عتقا وإن لم يكن له أبوان معروفان وصدقاه في ذلك ثبت نسبه منهما فقد اعتبر تصديقهما في دعوى الأبوة والأمومة عليهما ولم يعتبر في دعوى البنوة لأن النسب من حق الولد فإنه يشرف به فمدعي البنوة يقر على نفسه بالمحمولية فلا حاجة إلى تصديقه لأن الإقرار يلزم المقر بنفسه فأما مدعي الأبوة والأمومة يحتاج إلى تصديقهما لأنه يحمل نسبه على غيره فيكون مدعيا ومجرد الدعوى لا يلزم شيئا بدون الحجة فلهذا يحتاج إلى تصديقهما ولأن مدعي الأبوة والأمومة يخبر أنه علق من مائهما وهو غيب عنه فلا بد من تصديقهما ومدعي البنوة يخبر أنه علق من مائه وقد يعرف ذلك لكونه عاقلا عند علوقه وإن كان للغلام نسب معروف فقال هذا ابني يعتق عليه ولا يثبت نسبه لأنه مكذب فيما قال شرعا حين ثبت نسبه من الغير ولكن هذا التكذيب في حكم النسب دون العتق فهو في حكم العتق بمنزلة من لا نسب له ولهذا قلنا في الفصل الأول إذا قال هذا أبي أو أمي وكذباه يعتق لأن اعتبار تكذيبهما في حكم النسب دون(7/118)
العتق.
توضيحه أن المملوك مستغن عن النسب إذا كان معروف النسب من الغير ولكنه غير مستغن عن الحرية فيثبت بكلامه ما يحتاج إليه المملوك دون ما لا يحتاج إليه وهذا بخلاف ما لو قال لامرأته هذه ابنتي وهي معروفة النسب من الغير فإنه لا تقع الفرقة بينهما لأن هناك صار مكذبا في حكم النسب شرعا ولو أكذب نفسه بأن قال غلطت لا تقع الفرقة وإن لم يكن لها نسب معروف فكذلك إذا صار مكذبا شرعا وهنا لو أكذب المولى نفسه في حق من لا نسب له كان العتق ثابتا فكذلك إذا صار مكذبا في النسب شرعا وحقيقة المعنى فيه أنه في قوله لامرأته هذا ابنتي غير مقر على نفسه بشيء ولكنه مقر على المحل بصفة الحرمة لأنه لا موجب للنسب في ملكه من حيث الإزالة وإنما موجبه حرمة المحل ثم ينتفي به الملك ابتداء وبقاء ولم يعتبر إقراره في حرمة المحل هنا لما كانت معروفة النسب وأما قوله لعبده هذا ابني إقرار على نفسه لأن للبنوة موجبا في ملكه، وهو زوال الملك به فإنه يملك ابنه بالشراء ثم يعتق عليه فيعتبر إقراره فيما يقر به على نفسه وهو عتقه عليه من حين دخل في ملكه فأما إذا كان ممن لا يولد(7/119)
ص -61- ... مثله لمثل المولى فقال هذا ابني لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر.
وجه قوله الأول أن كلامه محال فيلغو كما لو قال أعتقتك قبل أن أخلق وبيان الاستحالة أن قوله هذا ابني أي مخلوق من مائي و ابن خمسين سنة يستحيل أن يكون مخلوقا من ماء ابن عشرين سنة وبه فارق معروف النسب فإن كلامه محتمل هناك لجواز أن يكون مخلوقا من مائه بالزنى أو يكون مخلوقا من مائه بالشبهة وقد اشتهر نسبه من الغير ألا ترى أن أم الغلام لو كانت في ملكه هناك تصير أم ولد له وهنا لا تصير أم ولد له ولأن الحقيقة تكذبه في هذا الخبر فبلغوا خبره كما لو قال لصبي صفر في يده هذا جدي أو قال لعبده هذه ابنتي، أو لأمته هذا غلامي وفي غير هذا الباب لو قال قطعت يد فلان وله علي الإرش فأخرج فلان يده صحيحة لم يستوجب شيئا بخلاف معروف النسب فإن الحقيقة لا تكذبه هناك.(7/120)
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر أنه أقر بنسب مملوكه طائعا فيعتق عليه كما لو قال لمعروف النسب هذا ابني وتأثيره أن صريح كلامه محال كما قال ولكن له مجاز صحيح ومعناه عتق على من حين ملكته لأن البنوة سبب لهذا فإنه إذا ملك ابنه يعتق عليه فيجعل هذا السبب كناية عن موجبه مجازا وتصحيح كلام العاقل واجب وللعرب لسانان حقيقة ومجاز فإذا تعذر تصحيحه باعتبار الحقيقة يصحح باعتبار المجاز. ألا ترى أن الوارث إذا أعتق المكاتب يجعل إبراء منه عن بدل الكتابة بهذا النوع من المجاز إلا أنهما يقولان المجاز خلف عن الحقيقة ففي كل موضع يكون الأصل متصورا يمكن أن يجعل المجاز خلفا عنه كما في مسألة المكاتب وفي كل موضع لا يكون الأصل متصورا لا يمكن جعل المجاز خلفا عنه وهنا لا تصور للأصل بخلاف معروف النسب فإن هناك الأصل متصور فيجوز إثبات المجاز خلفا عنه ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم لأنه تصرف من المتكلم في إقامة كلام مقام كلام والمقصود تصحيح الكلام فلا يعتبر في تصحيح المجاز تصور الحكم لإثبات الخلافة ألا ترى أنه لو قال لحرة اشتريتك بكذا كان نكاحا صحيحا والحرة ليست بمحل لأصل حكم البيع وهو ملك الرقبة ولهذا المعنى قلنا إن أم الغلام لو كانت في ملكه لا تعتق لأن اللفظ إذا صار مجازا لغيره سقط اعتبار حقيقته وهذا مجاز عن الإقرار بحريته فكأنه قال عتق علي من حين ملكه وليس لهذا اللفظ موجب في الأم فأما إذا قال لعبده هذه ابنتي فقد ذكره محمد على سبيل الاستشهاد في كتاب الدعوى ومن عادته الاستشهاد بالمختلف على المختلف فلا نسلمه على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبعد التسليم نقول الأصل أن المشار إليه إذا لم يكن من جنس المسمى فالعبرة للمسمى كما لو باع فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج فالبيع باطل والذكور والإناث من بني آدم جنسان فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمى تعلق الحكم(7/121)
بالمسمي وهو معدوم ولا يتصور تصحيح(7/122)
ص -62- ... الكلام إيجابا ولا إقرارا في المعدوم وكذا قوله لصبي صغير هذا جدي فإنه ذكره على سبيل الاستشهاد هنا وقد منعوه على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبعد التسليم نقول لا موجب لذلك الكلام في ملكه إلا بواسطة الأب وتلك الواسطة غير ثابتة وبدونها لا موجب لكلامه حتى يجعل كناية عن موجبه مجازا فأما للبنوة والأبوة موجب في ملكه بغير واسطة فيجعل كلامه كناية عن موجبة وبخلاف قوله أعتقتك قبل أن أخلق لأنه لا موجب فيما صرح به وكذلك قوله قطعت يدك لأنه لا موجب للجرح بعد البرء إذا لم يبق له أثر فلا يمكن تصحيح كلامه على أن يجعل كناية عن موجبه فلهذا كان لغوا وإن قال لعبده هذا أخي لم يعتق.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يعتق لأن للأخوة في ملكه موجبا وهو العتق فيجعل هذا اللفظ كناية عن موجبه.
وجه ظاهر الرواية أن الأخوة اسم مشترك قد يراد به الأخوة في الدين قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: من الآية10] وقد يراد به الاتحاد في القبيلة قال الله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [لأعراف: من الآية65] وقد يراد به الأخوة في النسب والمشترك لا يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي أو لأمي نقول يعتق على هذا الطريق.(7/123)
فإن قيل فالبنوة والأبوة قد تكون بالرضاعة ثم أثبتم العتق بهذين اللفظين عند الإطلاق قلنا لأن البنوة من الرضاع مجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة فأما الأخوة مشتركة في الاستعمال كما بينا ولأن الأخوة لا تكون إلا بواسطة الأب أو الأم لأنه عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم وهذه الواسطة غير مذكورة ولا موجب لهذه الكلمة بدون هذه الواسطة فإن قال لأمته فرجك حر أو قال لعبده رأسك حر يعتق وقد بينا هذا في الطلاق إن ذكر ما يعبر به عن جميع البدن كذكر البدن بخلاف اليد أو الرجل فهو في العتاق كذلك وإن قال نويت الكذب لم يصدق في القضاء كما في قوله أنت حر وإن قال لعبده أو لأمته ما أنت إلا حر أو ما أنت إلا حرة فإنهما يعتقان لأن كلامه اشتمل على النفي والإثبات وهذا آكد ما يكون من الإثبات دليله كلمة الشهادة فكان هذا كقوله أنت حر وهذا بخلاف ما لو قال أنت مثل الحر لأن هذا اللفظ للمشابهة والمشابهة بين الشيئين قد يكون خاصا وقد يكون عاما فلا يثبت العتق به بدون النية وكذلك لو قال بدنك حر لأن معناه بدنك بدن حر.
وفي النوادر قال: لو نوى فقال بدنك بدن حر يعتق لأن هذا اللفظ للإيجاب لا للتشبيه ولو قال لعبده أنت حر اليوم من هذا العمل فإنه يعتق في القضاء لأنه وصفه بالحرية وتخصيصه وقتا أو عملا لا يغير حكم ما وصفه به وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان لا يريد العتق فهو عبده لأنه يحتمل أن يكون مراده لا أكلفك اليوم هذا العمل والله تعالى مطلع على ضميره ولكنه خلاف الظاهر فإنه جعل الحرية صفة له في الظاهر فلهذا لا يدين في القضاء والله أعلم بالصدق والصواب.(7/124)
ص -63- ... باب عتق ذوي الأرحام
ذكر عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر" وكذلك روي عن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفي هذا دليل على أن من ملك قريبه يعتق عليه لأن قوله فهو حر جزاء لقوله من ملك مع القرابة فإنما يتناول حرية المملوك دون المالك وفي بعض الروايات قال عتق عليه وفيه دليل أن سبب العتق الملك مع القرابة فإن مثل هذا في لسان صاحب الشرع بمعنى بيان السبب كما قال من بدل دينه فاقتلوه وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: من الآية185].
ولهذا قال عامة العلماء إذا ملك أباه أو أمه أو ابنه يعتق عليه وقال أصحاب الظواهر يلزمه أن يعتقه ولكن لا يعتق قبل إعتاقه لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "لن يجزئ ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" ففيه تنصيص على أنه مستحق عليه إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن لقوله فيعتقه معنى ولأن القرابة لا تمنع ثبوت الملك ابتداء فلا تمنع البقاء بطريق الأولى ألا ترى أنها لما منعت بقاء ملك النكاح منعت ثبوته ابتداء.(7/125)
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}[مريم:92-93] فقد نفى البنوة بينه وبين الخلق بإثبات العبودية فذلك تنصيص على المنافاة بينهما والمتنافيان لا يجتمعان فإذا كانت البنوة متقررة انتفت العبودية ومراده عليه الصلاة والسلام من قوله فيعتقه بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه وضرب فأوجع وكتبه فقرمط وإنما اثبتنا له الملك ابتداء لأن انتفاء العبودية لا يتحقق إلا به فإذا لم يملكه لا يعتق بخلاف ملك النكاح لأنه لا فائدة في اثبات ملك النكاح له على ابنته ثم إزالته لأنها تعود إلى ما كانت عليه ولأن هذا العتق صلة ومجازاة فلا يتحقق إلا بعد الملك فأما انتفاء النكاح بحرمة المحل وهو موجود قبل العقد ولأن ملك النكاح ليس إلا بملك الحل فيختص بمحل الحل والأم والإبنة محرمة عليه بالنص ولا تصور للملك بدون المحل فأما هذا ملك مال وذلك ثابت في المحل فيثبت له نسبه أيضا إذ ليس من ضرورة إثباته الاستدامة. وبهذا الحديث أيضا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى إذا ملك أخاه أو أخته أو أحدا من ذوي الرحم المحرم منه أنه يعتق عليه.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق إلا الوالدين والمولودين لأنه ليس بينهما بعضية فلا يعتق أحدهما على صاحبه كبني الأعمام بخلاف الآباء والأولاد فالعتق هناك للبعضية والجزئية ولأن القرابة التي بينهما في الأحكام كقرابة بني الأعمام حتى تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ويجوز لكل واحد منهما وضع زكاة ماله في صاحبه ويجري القصاص بينهما في الطرفين ويحل لكل واحد منهما حليلة صاحبه ولا يستوجب كل واحد منهما النفقة على صاحبه مع اختلاف الدين ولا يتكاتب أحدهما على صاحبه بخلاف الوالدين والمولودين.(7/126)
ص -64- ... وهذا بخلاف المناكحة لأن ثبوتها باسم الأختية والبنتية لا بمعنى القرابة ألا ترى أنها تثبت بالرضاع ولا تثبت بالقرابة بها ولهذا لا يعتبر في الحرمة معنى قرب القرابة وبعدها.
"وحجتنا" في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إني وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته وأنا أريد أن أعتقه" فقال عليه الصلاة والسلام: "قد أعتقه الله".
والمعنى فيه أن القرابة المتأيدة بالمحرمية علة العتق مع الملك كما في الآباء والأولاد وهذا لأن لهذا العتق بطريق الصلة والقرابة المتأيدة بالمحرمية تأثيرا في استحقاق الصلة لأنه يفترض وصلها ويحرم قطعها ألا ترى أن الله تعالى جعل قطيعة الرحم من الملاعن لقوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّه}[محمد: من الآية22-23] وقال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث معلقات بالعرش منها الرحم يقول قطعت ولم أوصل".
والدليل عليه أن حرمة المناكحة تثبت بهذه القرابة بمعنى الصيانة عن ذل الاستفراش والاستخدام قهرا، فملك اليمين أبلغ في الاستذلال من الاستفراش، وكذلك يحرم الجمع بين الأختين نكاحا صيانة للقرابة عن القطيعة بسبب المنافرة التي تكون بين الضرائر ومعنى قطيعة الرحم في استدامة ملك اليمين أكثر ولا شك أن للملك تأثيرا في استحقاق الصلة فيثبت بهذا التقرير أن علة العتق هذان الوصفان وبعد هذا لا يضر انتفاء الجزئية بينهما لما ثبت أن علة العتق هذا دون الجزئية لأن التعدية بمعنى واحد قد ظهر أثره مستقيم ولأن هذه القرابة في معنى القرابة بين الجد والنافلة أيضا لأن اتصال أحد الأخوين بالآخر بواسطة الأب كما أن اتصال النافلة بالجد بواسطة الأب ولهذا ظهر الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الأخوة في الميراث.(7/127)
وشبه بعضهم الجد مع النافلة بشجرة انشعب منها غصن ومن ذلك الغصن غصن والأخوين بغصنين من شجرة واحدة. وشبه بعضهم الجد مع النافلة بواد تشعب منه نهر ومن النهر جدول والأخوين بنهرين تشعبا من واد فيكون معنى القرب بينهما أظهر لأن تفرقهما بشعب واحد والأول بشعبين فعرفنا أن القرابة التي بينهما بمنزلة قرابة الجد مع النافلة وذلك موجب للعتق مع الملك إلا أن في حكم الولاية لم يجعل الأخ كالجد لأن المعتبر فيه الشفقة مع القرابة وشفقة الأخ ليست كشفقة الجد وفي حكم الإرث كذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن ذلك نوع ولاية فإنه خلافة في الملك والتصرف. وبه فارق بني الأعمام فالواسطات هناك قد كثرت من كل جانب فكانت القرابة بعيدة بينهما ولهذا لا يثبت بها حرمة النكاح ولا حرمة الجمع بينهما في النكاح. فأما المكاتب فلا ملك له على الحقيقة وهذه القرابة مع الملك علة والحكم الثابت بعلة ذات وصفين ينعدم بانعدام أحد الوصفين إلا أن المكاتب إذا ملك أباه يمتنع عليه بيعه وإذا ملك أخاه لا يمتنع عليه بيعه عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن المكاتب له كسب وليس له ملك حقيقة وحق الآباء والأولاد يثبت في الكسب حتى يجب عليه نفقة أبيه(7/128)
ص -65- ... إذا كان مكتسبا وإن لم يكن موسرا فأما حق الأخ لا يثبت في الكسب حتى لا يجب عليه نفقة أخيه الزمن إذا كان هو معسرا وإن كان مكتسبا وكذلك إن كان المالك صغيرا فإنه يعتق عليه لتمام علة العتق وهو الملك مع القرابة فإن الصغير يملك حقيقة ألا ترى أنه يثبت له صفة الغناء بملكه حتى يحرم عليه أخذ الصدقة بخلاف المكاتب وكذلك إن كان المالك كافرا والمملوك مسلما أو على عكس ذلك لأن الملك مع القرابة يتحقق مع اختلاف الدين وبهما تمام علة العتق بخلاف استحقاق النفقة فإن الشرع أوجب ذلك بصفة الوراثة فقال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: من الآية233] معناه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم وبسبب اختلاف الدين ينعدم صفة الوراثة فلهذا لا يستحق النفقة بخلاف الآباء والأولاد فالاستحقاق هناك بالولاد قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: من الآية233] وبسبب اختلاف الدين لا ينعدم الولاد فهذا بيان معنى الفرق بين هذه الفصول فإن ملكه الرجل مع آخر عتق نصيبه منه وسعي العبد للشريك في نصيبه ولا ضمان على الذي عتق من قبله في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن لشريكه قيمة نصيبه إن كان موسرا ويسعى العبد لشريكه إن كان معسرا وكذلك لو ملكاه بهبة أو صدقة أو وصية فهو على هذا الخلاف وجه قولهما أن القريب بالشراء صار معتقا لنصيبه لأن شراء القريب إعتاق ولهذا تتأدى به الكفارة والمعتق ضامن لنصيب شريكه إذا كان موسرا كما لو كان العبد بين شريكين فاشترى قريب العبد نصيب أحد الشريكين منه يضمن لشريكه الذي لم يبع إن كان موسرا.(7/129)
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما قال في الكتاب لأن شراء الشريك معه رضا منه بالذي يكون به العتق ومعنى هذا الكلام أن ضمان العتق يجب بالإتلاف والإفساد والرضا بالسبب يمنع وجوب مثل هذا الضمان كما لو أتلف مال الغير بإذنه.
وفي إثبات الرضا هنا نوعان من الكلام:
أحدهما أنه لما ساعد شريكه على القبول مع علمه أن قبول شريكه موجب للعتق فقد صار راضيا بعتقه على شريكه فهو كما لو استأذن أحد الشريكين من صاحبه في أن يعتق نصيبه فأذن له في ذلك.
والثاني أن المشتريين صارا كشخص واحد لاتحاد الإيجاب من البائع ولهذا لو قبل أحدهما دون الآخر لم يصح قبوله ولم يملك نصيبه به ولا شك أن كل واحد منهما راض بالتمليك في نصيبه فيكون راضيا بالتمليك في نصيب صاحبه أيضا لما ساعده على القبول بل يصير مشاركا له في السبب بهذا الطريق والمشاركة في السبب فوق الرضا به إلا أن بهذا السبب تتم علة العتق في حق القريب وهو الملك ولا تتم علة العتق في حق الأجنبي فكان القريب معتقا دون الأجنبي ولكن بمعاونة الأجنبي يسقط حقه في تضمينه لما عاونه على السبب(7/130)
ص -66- ... وفي هذا يتضح الكلام لأبي حنيفة في الشراء فيما إذا كان العبد كله لرجل فباع نصفه من قريبه فإن الخلاف ثابت فيه ولا شك أن إيجاب البائع رضا منه بقبول المشتري وما ينبنى على قبول المشتري يحال به على إيجاب البائع كما لو باع الأمة المنكوحة من زوجها قبل الدخول سقط جميع المهر لأن الفرقة جاءت من قبل من له المهر وهو البائع فأما في الهبة والصدقة والوصية كلاهما أوضح لأن قبول أحدهما في نصيبه صحيح بدون قبول الآخر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هما كشخص واحد أيضا إلا أن في الهبة والصدقة والوصية قبول الشخص الواحد في النصف دون النصف صحيح وهذا بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من قريبه لأن هناك لم يوجد من الشريك الآخر ما يكون رضا منه أو معاونة على السبب وبخلاف ما لو قال أحد الشريكين لشريكه إن ضربته اليوم سوطا فهو حر فضربه سوطا فإن الحالف يضمن للضارب إن كان موسرا.
ومن أصحابنا من قال موضوع تلك المسألة أن الشريك قال أيضا إن لم أضربه اليوم سوطا فهو حر فإقدامه على الضرب بعد هذا يكون لدفع العتق عن نصيبه فلا يصير به راضيا بعتق نصيب الشريك على أن هناك إنما يعتق نصيب الشريك بقوله هو حر وذلك تم بالحالف من غير رضا كان من الضارب فأما الضرب شرط للعتق والرضا بالشرط لا يكون رضا بأصل السبب بخلاف ما نحن فيه فإنه إنما رضي بالسبب حين شاركه فيه، وهذا بخلاف حكم الفرار فإن الرضا بالشرط من المرأة كالرضا بالسبب في إسقاط حقها عن الميراث لأنه لا ملك لها قبل موت الزوج في ماله وإنما يثبت حكم الفرار دفعا لقصد الزوج الإضرار بها، وذلك ينعدم بالرضا بالشرط كما ينعدم بالرضا من السبب بخلاف ما نحن فيه
ولم يفصل في ظاهر الرواية بين أن يكون الشريك عالما بأن المشتري معه قريب العبد أو لا يكون عالما.(7/131)
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لأن سبب الرضا يتحقق وإن لم يكن عالما به فهو كمن قال لغيره كل هذا الطعام وهو لا يعلم أنه طعامه فأكله المخاطب فليس للآذن أن يضمنه شيئا وكذلك لو قال لشريكه أعتق هذا العبد وهو لا يعلم أنه مشترك بينهما.
وقد روي أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن رضاه إنما يتحقق إذا كان عالما فأما إذا كان لايعلم بذلك فله أن يرد نصيبه بالعيب لأنه لايتم رضاه وقبوله حين لم يكن عالما بأن شريكه معتق وبدون تمام القبول لا يعتق نصيب الشريك فكان هذا بمنزلة العيب في نصيبه فإن لم يكن عالما به كان له أن يرده. واستشهد في الكتاب بقول أبي حنيفة رحمه الله بما لو أعتق أحد الشريكين بإذن شريكه
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في هذا الفصل لا يسقط حق الشريك في التضمين بالإذن وهذا صحيح على أصله لأن ضمان العتق عنده ضمان التملك فإن العتق لا يتجزأ على قوله وضمان التملك لا يسقط بالإذن كما لو استولد أحد الشريكين الجارية بإذن شريكه.
وجه ظاهر الرواية أن هذا الضمان سببه الإفساد والإتلاف فسقط بالإذن كضمان الإتلاف(7/132)
ص -67- ... الحقيقي بل أولى لأن هذا الضمان يسقط بالإعسار وبخلاف ضمان الإتلاف الحقيقي فأما إذا ورث مع قريبه غيره عتق نصيبه ولا ضمان عليه لشريكه لأن الميراث يدخل في ملكه بغير قبوله والضمان لا يجب إلا باعتبار الصنع من جهته ولهذا لو ورث قريبه لم يجز عن كفارته وهذا بخلاف ما إذا استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره لأن هناك المستولد يصير متملكا نصيب شريكه وضمان التملك لا يعتمد الصنع ولهذا لا يختلف باليسار والإعسار هناك ولو ملك محرما له برضاع أو مصاهرة لم يعتق عليه لأنه لا قرابة بينهما والعتق صلة تستحق بالقرابة والرضاع إنما جعل كالنسب في الحرمة خاصة ولهذا لا يتعلق به استحقاق الميراث والنفقة وليس من ضرورة ثبوت الحرمة العتق عليه إذا ملكه كالوثنية والمجوسية وكذلك إن ملك ذا رحم ليس بمحرم لأن مثل هذه القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا يتعلق بها حرمة المناكحة وحرمة الجمع في النكاح.
ولو ملك أحد الزوجين صاحبه لم يعتق عليه لأنه ليس بينهما قرابة ولأن ما بينهما من الزوجية يرتفع بالملك وإذا اشترى أمة وهي حبلى من أبيه عتق ما في بطنها لأنه ملك أخاه وليس له أن يبيع الأمة حتى تضع لأن في بطنها ولدا حرا كما لو أعتق ما في بطن أمته وهذا لأن الولد يصير مستثنى بالعتق ولو استثناه شرطا في البيع بطل البيع فكذلك إذا صار مستثنى بالعتق وله أن يبيعها بعد الوضع لأن الأمة ما صارت أم ولد للإبن فان المستولد أبوه ولا يصير الأب متملكا لها على الابن لأنها ما كانت مملوكة للابن حين علقت من الأب فلهذا كان له أن يبيعها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب لوجوه من العتق
قال رضي الله تعالى عنه "ذكر عن أبي قلابة أن رجلا أعتق عبدا له عند موته ولا مال له غيره فأجاز رسول الله صلى اله عليه وسلم ثلثه واستسعاه في ثلثي قيمته".(7/133)
وفي هذا دليل أن العتق في المرض يكون وصية وأنه ينفذ من ثلثه وأن معتق البعض يستسعي فيما بقي من قيمته فيكون دليلا لنا على الشافعي رضي الله عنه لأنه لا يرى السعاية على العبد بحال ولكنه يقول يستدام الرق فيما بقي على ما نبينه في مسألة تجزي العتق.
وذكر عن الحسن البصري أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته فأقرع رسول الله صلى اله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق وبظاهر هذا الحديث يحتج الشافعي رحمه الله تعالى علينا. فإن المذهب عندنا أن من أعتق ستة أعبد له في مرضه ولا مال له غيرهم وقيمتهم سواء يعتق من كل واحد منهم ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجزئهم القاضي ثلاثة أجزاء ثم يقرع بينهم فيعتق اثنين بالقرعة ويرد أربعة في الرق. واستدل بهذا الحديث ورجح مذهبه بأن فيه اعتبار النظر من الجانبين لأنه لو أعتق من كل واحد منهم ثلثه تعجل تنفيذ الوصية وتأخر اتصال حق الورثة إليهم بل في هذا إبطال حق الورثة معنى لأن السعاية في معنى التأوى فإن المال في ذمة المفلس يكون تأويا فإذا تعذر تنفيذ الوصية بهذا.(7/134)
ص -68- ... الطريق وجب جميع العتق في شخصين وتعيين المستحق بالقرعة لأن ذلك أصل في الشرع وكان في شريعة من قبلنا قال الله تعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: من الآية44] وقال: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه والقاضي إذا قسم المال بين الشركاء أقرع بينهم وبهذا تبين أن هذا ليس في معنى القمار لأن في القمار تعليق أصل الاستحقاق بخروج القدح وفي هذا تعيين المستحق فأما أصل الاستحقاق ثابت بإيجاب المعتق.
"وحجتنا" في ذلك أن العبيد استووا في سبب الاستحقاق وذلك موجب للمساواة في الاستحقاق فلا يجوز اعطاء البعض وحرمان البعض كما لو أوصي برقابهم لغيرهم لكل رجل برقبة بل أولى لأن ملك الوصية يحتمل الرجوع من الموصي والرد من الموصى له وهذه الوصية لا تحتمل ذلك فإذا لم يجز حرمان البعض هناك فهنا أولى.
ثم فيما قاله الخصم ضرر الإبطال في حق بعض الموصى لهم وفيما قلنا ضرر التأخير في حق الورثة وضرر التأخير متى قوبل بضرر الإبطال كان ضرر التأخير أهون وإذا لم نجد بدا من نوع ضرر رجحنا أهون الضررين على أعظمهما مع أنه ليس في هذا تعجيل حق الموصى له لأن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المستسعى مكاتب فلا يعتق شيء منهم ما لم يصل إلى الورثة السعاية.(7/135)
وعلى قولهما وإن تعجل العتق للعبيد وذلك ليس بصنع منا بل بإعتاق الموصي ولزوم تصرفه شرعا ولو أبطلنا حق بعض العبيد كان ذلك بإيجاب منا ثم كلامه يشكل بما لو كان ماله دينا على مفلس فأوصي به له فإنه يسقط نصيبه والباقي دين عليه إلى أن يقدر على أدائه ولا وجه لتعيين المستحق بالقرعة لأن تعيين المستحق بمنزلة ابتداء الاستحقاق فإن الاستحقاق في المجهول في حكم العين كأنه غير ثابت فكما أن تعليق ابتداء الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارا فكذلك تعيين المستحق، وإنما يجوز استعمال القرعة عندنا فيما يجوز الفعل فيه بغير القرعة كما في القسمة فإن للقاضي أن يعين نصيب كل واحد منهم بغير قرعة فإنما يقرع تطييبا لقلوبهم ونفيا لتهمة الميل عن نفسه. وبهذا الطريق كان يقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه إذا أراد سفرا لأن له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة إذ لا حق للمرأة في القسم في حال سفر الزوج وكذلك يونس صلوات الله عليه عرف أنه هو المقصود وكان له أن يلقي نفسه في الماء من غير إقراع ولكنه أقرع كيلا ينسب إلى ما لا يليق بالأنبياء. وكذلك زكريا عليه السلام كان أحق بضم مريم إلى نفسه لأن خالتها كانت تحته ولكنه أقرع تطييبا لقلوب الأحبار مع أن تلك كانت معجزة له فقد روى أن أقلامهم كانت من الحديد وكان الشرط أن من طفا قلمه على وجه الماء فهو أحق بها وروي أنه كان من القصب، وكان الشرط أن من استقبل قلمه جري الماء ولم يجر مع الماء فهو أحق بها بقي اعتمادهم على الحديث. ومن أصحابنا من قال هذا الحديث غير صحيح لأن فيه أن الرجل كان له ستة أعبد قيمتهم سواء ولم يكن له معهم شيء(7/136)
ص -69- ... آخر وهذا من أندر ما يكون ولو ثبت فيحتمل أن الرجل أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتقهم. وفي الحديث دليل عليه لأنه قال فأعتق أثنين منهم وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق أي الاثنين شاء منهم فأقرع تطييبا لقلوبهم.
وذكر الجصاص أن معنى قوله فأعتق اثنين أي قدر أثنين منهم وبه نقول فإنا إذا أعتقنا من كل واحد منهم ثلثه فقد أعتقنا قدر أثنين منهم ومعنى قوله فأقرع أي دقق النظر يقال فلان قريع دهره أي دقيق النظر في الأمور ودقق الحساب بأن جعل قدر الرقبتين بينهم أسداسا هذا تأويل الحديث إن صح وعن إسماعيل ابن خالد عن الشعبي رضي الله تعالى عنهم في رجل أعتق عبدا له عند الموت ولا مال له غيره
قال عامر قال مسروق هو حر كله جعله لله لا أرده وقال شريح يعتق ثلثه ويسعى في الثلثين فقلت لعامر أي القولين أحب إليك قال فتيا مسروق وقضاء شريح رضي الله تعالى عنهما. وفي هذا إشارة أن العتق يتجزى في الحكم كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأنه يجب إتمامه ولا يجوز استدامة الرق فيما بقي منه كما هو فتوى مسروق رحمه الله تعالى.
وعن علي رضي الله عنه أن رجلا أعتق عبدا له عند الموت وعليه دين قال: "يسعى العبد في قيمته" وعن أبي يحيى الأعرج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يسعى العبد في الدين" والمراد إذا كان الدين بقدر قيمته.(7/137)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه فإنه قال تسعى الأمة في ثمنها يعني في قيمتها وهذا لأن الدين مقدم على الوصية والميراث والعتق في المرض وصية فوجب رده لقيام الدين ولكن العتق لا يحتمل الفسخ والرق بعد سقوطه لا يحتمل العود فكان الرد بإيجاب السعاية عليه وعن إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا كان وصية وعتق بدىءبالعتق وهكذا عن شريح وهو قول ابن عمر رضي الله عنه لأن العتق أقوى سببا فإنه يلزم بنفسه على وجه لا يحتمل الرد والرجوع عنه والترجيح بقوة السبب أصل. وعن عمر رضي الله عنه أنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعى بجيس وقال لو كنت على ديننا لاستعنا بك على بعض أعمالنا وفيه دليل على أن أعتاق النصراني قربة وأنهم لا يؤتمنون على شيء من أمور المسلمين فإنهم لا يؤدون الأمانة في ذلك.
وقد أنكر عمر رضي الله عنه ذلك على أبي موسى الأشعري فإنه قال له مر كاتبك ليكتب لنا كذا قال إن كاتبي لا يدخل المسجد قال أجنب هو قال لا ولكنه نصراني فقال سبحان الله أما سمعت الله يقول:{تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: من الآية118]. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أعتق عبدا له نصرانيا فمات العبد فجعل ميراثه لبيت المال. وفيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر وإن مات ولا وارث له فحصة ماله لبيت المال. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن أمة فجرت فولدت من الزنى فأعتقها ابن عمر رضي الله عنه وأعتق ولدها. وفيه دليل على جواز التقرب إلى الله تعالى بعتق ولد الزنى. وعن عمر(7/138)
ص -70- ... رضي الله عنه أنه أوصى بولد الزنى خيرا وأوصى بهم أن يعتقوا وهذا لأن له من الحرمة ما لسائر بني آدم ولا ذنب لهم وإنما الذنب لآبائهم كما ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتأول في أولاد الزنى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: من الآية 18].
وذكر عن إبراهيم وعامر رضي الله عنهما قالا لا يجزئ ولد الزنى في النسمة الواجبة وكأنهما تأولا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "ولد الزنى شر الثلاثة" ولسنا نأخذ بقولهما فإن الله تعالى أمر بتحرير الرقبة وأكثر المماليك لا تعرف آباؤهم عادة وتأويل الحديث: "شر الثلاثة نسبا" فإنه لا نسب له أو قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مريدا فكان أخبث من أبويه وإذا قال الرجل لأمته أمرك بيدك يعني في العتق فإن أعتقت نفسها في مجلسها عتقت وإن قامت منه قبل أن تعتق نفسها فهي أمة لأنه ملكها أمرها وأهم أمورها العتق فتعمل نيبته في العتق وجواب التمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه في الطلاق وذكرنا هناك أنه إذا لم ينو الطلاق.(7/139)
فالقول قوله فكذلك هنا إذا لم ينو العتق وكذلك إن جعل أمرها في يد غيرها وإن قال لها اعتقي نفسك فقالت قد اخترت نفسي كان باطلا لأن كلامها يصلح جوابا للتخيير والمولى ما خيرها إنما ملكها أمرها وقولها اخترت نفسي لا يصلح للتصرف بحكم الملك ألا ترى أن المولى يملك إعتاقها ولو قال لها اخترتك من نفسي أو اخترت نفسي منك لا تعتق فكذلك قولها اخترت نفسي، ولأن قوله: اعتقي نفسك إقامة منه إياها مقام نفسه في إيقاع العتق فإنما يملك الإيقاع باللفظ الذي كان المولى مالكا للإيقاع به ولو قال لها أنت حرة إن شئت فإن قالت في مجلسها قد شئت كانت حرة ولو قامت قبل أن تقول شيئا فهي أمة والتفويض إلى مشيئتها بمنزلة التمليك منها فتقتصر على الجواب في المجلس وكذلك إن قال إن أردت أو هويت أو أحببت أو قال أنت حرة إن كنت تحبينني أو تبغضينني. فالقول في ذلك قولها ما دامت في مجلسها كما في الطلاق لأنه لا يوقف على ما في قلبها إلا بإخبارها فكان هذا بمنزلة التعليق بالإخبار بذلك وإن قالت في ذلك لست أحبك ثم قالت أنا أحبك لم تصدق للتناقض ولأن شرط البر قد تم بقولها الأول فلم يبق لها قول مقبول بعد ذلك في حق المولى وكذلك لو قال إن كنت تحبين العتق فأنت حرة(7/140)
ولو قال أنت حرة إذا حضت كان القول في ذلك قولها استحسانا لأنه لا يوقف عليه إلا من جهتها ولكن هذا لا يقتصر على مجلسها لأنها لا تقدر على الإخبار بالحيض على وجه تكون صادقة فيه إلا بعد رؤية الدم وربما لا يتحقق في ذلك المجلس فمتى قالت حضت عتقت ولو قال أنت حرة، وفلانة إن شئت فقالت قد شئت نفسي لم تعتق لأن قوله إن شئت ليس بكلام مستقل بنفسه فلا بد من جعله بناء على ما سبق فيكون معناه إن شئت عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئتها عتق نفسها وكذلك لو قال لأمتيه أنتما حرتان إن شئتما فشاءت إحداهما فهو باطل لأن معنى كلامه إن شئتما عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئة إحداهما ولا بمشيئتهما عتق إحداهما ولو قال أيتكما شاءت العتق فهي حرة فشاءتا جميعا عتقتا لأن(7/141)
ص -71- ... كلمة أي تتناول كل واحدة منهما على الأنفراد فإن شاءت إحداهما عتقت التي شاءت لأن مشيئة كل واحدة منهما بهذا اللفظ شرط عتقهما ألا ترى أنه قال أيتكما شاءت ولم يقل شاءتا وإن شاءتا جميعا عتقتا فإن قال أردت إحداهما لم يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام فإن كان نوى إحداهما بعينها عتقت هي وإن نوى إحداهما لا بعينها كان له أن يختار إحداهما فيعتقها ويمسك الأخرى بمنزلة ما لو أعتق إحداهما لا بعينها ولو قال كل مملوك لي فهو حر وله عبيد وأمهات أولاد ومدبرون ومكاتبون عتقوا جميعا إلا المكاتبين فإنهم لا يعتقون إلا أن ينويهم لأن كلمة كل توجب التعميم وقد أوجب العتق لكل مملوك مضاف إليه بالملكية مطلقا بقوله لي وهذا يتحقق في العبيد وأمهات الأولاد والمدبرين لأنه يملكهم رقا ويدا حتى يملك استغلالهم واستكسابهم وهذا غير موجود في المكاتبين فإنه يملكهم رقا لا يدا، بل المكاتب كالحر يدا حتى كان أحق بمكاسبه ولا يملك المولى إكسابه والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا فلهذا لا يدخلون إلا أن ينويهم فإن نواهم فنقول المنوي من محتملات كلامه لأنه قد يضيف إلى نفسه ما يكون مضافا إليه من وجه دون وجه وإن قال أردت الرجال دون النساء دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وهذا بخلاف ما لو قال نويت السود منهم دون البيض فإنه لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن هناك نوى التخصيص بوصف ليس في لفظه ولا عموم لما لا لفظ له فلا تعمل فيه نية التخصيص وهنا نوى التخصيص فيما في لفظه لأن المملوك حقيقة للذكور دون الإناث فإن الأنثى يقال لها مملوكة ولكن عند الاختلاط يستعمل عليهم لفظ التذكير عادة فإذا نوى الذكر فقد نوى حقيقة كلامه ولكنه خلاف المستعمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء ولهذا قيل لو قال نويت(7/142)
النساء دون الرجال كانت نيته لغوا.
قال "وكذلك لو قال لم أنو المدبرين لم يصدق في القضاء" وفي كتاب الأيمان يقول إذا قال لم أنو المدبرين لم يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا في القضاء ففيه روايتان. وجه تلك الرواية أنه نوى التخصيص بما ليس في لفظه لأن التدبير وإن كان يوجب استحقاق العتق فلا يوجب نقصانا في إضافته إليه بالملكية واليد.
وجه هذه الرواية أن إضافته إلى المولى برقه والتدبير يمكن نقصانا في الرق لأن استحقاق العتق على وجه لا يحتمل الفسخ لا يكون إلا بعد نقصان في رقه ولهذا قيل المدبر من وجه كالحر حتى لا يحتمل البيع فكان هو كالمكاتب من هذا الوجه غير مضاف إلى المولى بمطلق الملك والرق إلا أن النقصان هنا في الإضافة بمعنى خفي فيدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء ولا يخرج من الكلام بدون النية وفي المكاتب النقصان بسبب ظاهر وهو ملك اليد له في مكاسبه فلا يدخل إلا أن ينويه ولأن قوله كل مملوك لي حر إنشاء العتق. وقد بينا أن عتق المدبر من وجه تعجيل لما استحقه مؤجلا فلا يكون انشاء من كل وجه فإذا قال: لم أنو(7/143)
ص -72- ... المدبرين فقد بين أنه نوى ما يكون إنشاء من كل وجه خاصة وذلك أمر في ضميره خاصة فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال لعبيده أنتم أحرار إلا فلانا كان كما قال لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء الإستثناء وكذلك لو قال لعبدين أنتما حران إلا سالما وهو اسم أحدهما كان سالم عبدا لأن كلامه عبارة عما وراء المستثنى وقد بقي سوى المستثنى عبد يمكن أن يجعل كلامه عبارة عنه ولو قال سالم حر ومرزوق حر إلا سالما عتقا جميعا لأنه تكلم بكلامين كل واحد منهما مستقل بنفسه بما ذكر له من الخبر فكان قوله إلا سالما استثناء لجميع ما تناوله أحد كلاميه وذلك باطل لأنه تعطيل. والاستثناء للتحصيل والبيان وإنما يتحقق ذلك إذا كان يبقى سوى المستثنى شيء يتناوله ذلك الكلام وهذا بخلاف ما لو قال سالم ومرزوق حران إلا سالما فإن الاستثناء صحيح هنا لأن كلامه واحد هنا معنى حين أخر ذكر الخبر حتى عطف إحداهما على الأخرى وذكر ما يصلح خبرا للمستثنى. فعرفنا به أن كلامه واحد معنى فكأنه قال هما حران إلا سالما فإن قال كل مملوك أملكه أبدا فهو حر فهذا اللفظ إنما يتناول ما يملكه في المستقبل لأنه قال أبدا وليس للأبد نهاية في الحقيقة.(7/144)
وفي العرف هو عبارة عن وقت في المستقبل إلى موته ومن أصلنا أن العتق يحتمل الإضافة إلى الملك كالطلاق فبأي سبب يملك المملوك من شراء أو غيره فإنه يعتق لأن المضاف إلى وقت أو المعلق بشرط عند وجوده كالمنجز وكذلك لو قال كل مملوك أملكه إلى ثلاثين سنة وكذلك إذا قال كل مملوك أشتريه فهو حر لأن الشراء سبب للملك وإقامة السبب مقام الحكم صحيح فإن أمر غيره فاشترى مملوكا لم يعتق لأنه جعل الشرط شراء بنفسه ولم يوجد فإن حقوق العقد في البيع والشراء إنما تتعلق بالعاقد والعاقد يستغني عن إضافة العقد إلى الآمر بخلاف النكاح وإن كان نوى أن لا يشتري هو ولا غيره عتق لأنه شدد لأمر على نفسه بلفظ يحتمله فإنه نوى الحكم وهو الملك بما ذكر من سببه وهو الشراء قالوا وهذا كله إذا كان الرجل ممن يباشر العقد بنفسه فأما إذا كان الحالف ممن لا يباشر الشراء بنفسه عادة فأمر غيره بأن يشتري له عتق لأنه باليمين منع نفسه عما يباشره عادة فإذا كان عادته الشراء بهذا الطريق ينصرف يمينه إليه عند الإطلاق. وإن قال: كل مملوك لي حر يوم أكلم فلانا وليس له مملوك ثم اشترى مملوكا ثم كلمه لم يعتق لأن قوله أملكه وإن كان ظاهرا في الاستقبال فالمراد به الحال في الاستعمال يقال فلان يملك كذا وأنا أملك كذا يعني في الحال فما ليس بمملوك له في الحال لا يتناوله كلامه لأن المضاف إلى وقت والمعلق بالشرط إنما يتناول ما يتناوله المنجز فإذا كان العتق المنجز بهذا اللفظ لا يتناول إلا ما يملكه في الحال، فكذا المضاف إلى وقت بخلاف ما سبق لأن الإضافة هنا في الملك لا في الحرية فلهذا يتناول ما يملكه في المستقبل وإن كان قال يوم أكلم فلانا فكل مملوك لي يومئذ حر عتقوا لأنه أوجب العتق لما يكون في ملكه وقت الكلام وما كان موجودا في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه موصوف بأنه مملوك له وقت الكلام فيعتقون جميعا.(7/145)
ص -73- ... وإن قال يوم أكلمه فكل مملوك أملكه أبدا فهو حر ثم اشترى مملوكا ثم كلمه لم يعتق لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
وقوله يوم أكلم فلانا شرط وقوله كل مملوك أملكه أبدا حر فيصير عند وجود الكلام كأنه قال كل مملوك أملكه أبدا وهذا اللفظ إنما يتناول ما يملكه بعد الكلام دون ما كان مملوكا له قبل الكلام والمشتري قبل الكلام مملوك له وقت الكلام فلا يتناوله إيجابه وإن قال كل مملوك أملكه حر يوم أكلم فلانا، وهو يريد ما يملكه فيما يستقبل فاشترى مملوكا ثم كلمه عتق لأنه نوى حقيقة كلامه، فإن حقيقة قوله أملكه للاستقبال ولكن يعتق في القضاء من كان في ملكه يوم حلف لأن ظاهر لفظه يتناول المملوك له في الحال لغلبة الاستعمال فلا يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره.(7/146)
وذكر في النوادر أنه يصدق لأن ما نوى من حقيقة كلامه مستعمل أيضا وإنما لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره إذا كان المنوي خلاف المستعمل وإن قال كل مملوك لي حر وله عبد بينه وبين آخر لم يعتق لأنه أوجب العتق لمملوك مضاف إليه بالملك مطلقا والمملوك اسم للعبد وهو المضاف إليه من وجه وإلى شريكه من وجه فلا يتناوله مطلق كلامه فإن نواه عتق استحسانا وفي القياس لا يعتق لأن نصيبه من العبد المشترك لا يسمى عبدا ولا مملوكا فقد نوى خلاف الملفوظ ولكن في الاستحسان يقول جزء من العبد موصوف بأنه مملوك كالكل ولهذا صح إضافة التصرفات المختصة بالملك إلى الجزء الشائع فإذا نواه فقد شدد على نفسه بلفظ يحتمله وبدون نيته إنما لم ندخله للعرف فإن المملوك اسم للعبد الكامل عرفا وقد سقط اعتبار هذا العرف حين نوى بخلافه توضيحه أن العبد المشترك مضاف إليه من وجه دون وجه فيكون كالمكاتب يدخل بنيته وإن كان له عبد تاجر له مماليك وعليه دين أو لا دين عليه عتق العبد التاجر لأنه مملوك رقبة ويدا فيتناوله مطلق الإضافة فأما مماليكه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان عليه دين يحيط برقبته وكسبه لم يعتق مماليكه نواهم أو لم ينوهم وإن لم يكن عليه دين لم يعتق مماليكه إلا أن ينويهم.(7/147)
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى سواء كان عليه دين أو لم يكن فإن نواهم عتقوا وإن لم ينوهم لا يعتقون وعند محمد رحمه الله تعالى سواء كان عليه دين أو لم يكن يعتقون إلا أن يستثنيهم بنيتة وهذا ينبني على أصلين أحدهما في المأذون أن المولى لا يملك كسب العبد المأذون إذا كان مستغرقا بالدين عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يملكه. والثاني في الأيمان أن كسب العبد لا يكون مضافا إلى المولى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رضي الله تعالى عنه يكون حتى لو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار عبده عند محمد رحمه الله تعالى يحنث لأن حقيقة هذه الإضافة للملك وكسب العبد مملوك لمولاه وعندهما الإضافة إلى المولى مجاز وإلى العبد حقيقة لأنه كسبه قال صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا وله مال ". والدليل عليه أنه يستقيم أن تنفي عن المولى فيقال هذه ليست بداره بل هي دار(7/148)
ص -74- ... عبده والعبرة للإضافة لا للملك ألا ترى أنه لو دخل دارا يسكنها فلان عارية أو إجارة كان جاشا
إذا عرفنا هذا فنقول:
أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فالمولى لا يملك كسب العبد إذا كان عليه دين حتى لو أعتقه بعينه لم يعتق فكذلك بمطلق كلامه وإن نواه فإن لم يكن عليه دين فهو غير مضاف إليه مطلقا فلا يعتق بمطلق كلامه إلا أن ينويه فإن نواه عتق لأن المنوي من محتملات كلامه وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى هو مالك له سواء كان عليه دين أو لم يكن إلا أنه غير مضاف إليه مطلقا فلا يدخل في كلامه إلا أن ينويه.(7/149)
وعند محمد رحمه الله تعالى الإضافة باعتبار الملك وهو مملوك له سواء كان عليه دين أو لم يكن فيعتق بإيجابه إلا أن يستثنيه بنية فيعمل استثناؤه لأنه نوى المضاف إليه من كل وجه وهذا مضاف إليه ملكا ولكنه مضاف إلى عبده كسبا أو نوى تخصيص لفظه العام فتعمل نيته فيما بينه وبين الله تعالى. ولهذا لا يصدق في القضاء وإذا دعا عبده سالما فأجابه مرزوق فقال أنت حر ولا نية له عتق الذي أجابه لأنه اتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيب. وإن قال عنيت سالما عتق سالم بنيته لكون المنوى من محتملات كلامه ولكنه لا يصدق في القضاء في صرف العتق عن مرزوق لأن الإيقاع تناوله في الظاهر فلا يدين في صرفه عنه في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى، وإن قال يا سالم أنت حر وأشار إلى شخص ظنه سالما فإذا هو عبد آخر له أو لغيره عتق عبده سالم لأنه اتبع الإيقاع النداء فتناول المنادى خاصة ولا معتبر لظنه فإن الظن لا يغني من الحق شيئا وإذا أعتق الرجل عبده أو أمته ثم جحد العتق حتى أصاب من الخدمة والغلة ما أصاب ثم أقر به أو قامت عليه البينة فليس عليه في الخدمة شيء لأنه مجرد استيفاء المنفعة ولا تتقوم المنفعة إلا بعقد ألا ترى أنه لو غصب حرا فاستخدمه لم يكن عليه شيء سوى المأثم عندنا فهذا مثله بل عينه لأنها تبين أنها كانت حرة حين استخدمها ويرد عليها ما أصاب من غلتها. ومراده إذا كانت هي التي أجرت نفسها أو اكتسبت لأنه تبين أنها كانت حرة مالكة لكسبها فعلى المولى أن يرد عليها ما أخذ منها وإن كان هو الذي أجرها فما أخذ من الغلة يكون مملوكا له لأنه وجب بعقده ولكن لا يطيب له لأنه حصل له بكسب خبيث وعليه في الوطء لها مهر المثل لأنه تبين أنه وطئها وهي حرة والوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر وقد سقط الحد بالشبهة لأنها كانت مملوكة له يومئذ في الظاهر فوجب المهر. وهذا لأن المستوفي بالوطء في حكم العين دون المنفعة ولهذا يختص إباحة(7/150)
تناوله بالملك ولا يملك بالعقد إلا مؤبدا وإن كان أجنبي جنى عليه ثم أقر المولى أنه كان أعتقه قبل ذلك لم يصدق على إلزام الجاني حكم أرش الحر لأن إقراره ليس بحجة في حق الجاني. وثبوت الحكم بحسب الحجة وإقراره حجة عليه خاصة فما وجب من أرش المماليك يكون لها لأن المولى حول ذلك بإقراره إليها وذلك صحيح منه لكونه مقرى به على نفسه وإن قامت به بينة لزم الجاني حكم الجناية على الحر لأن البينة حجة في حق(7/151)
ص -75- ... الكل. والثابت من الحرية بها قبل الجناية كالثابت معاينة على الحر ولا يجوز عتق الصبي والمجنون في حال جنونه لأن قولهما هدر شرعا خصوصا فيما يضرهما، ولأن العتق لا ينفذ إلا بقول ملزم لا أنه ملزم في نفسه وقولهما غير ملزم شرعا وإن أعتق في حال افاقته جاز لأنه مخاطب له قول ملزم وهو يملك العبد حقيقة فينفذ عتقه. وإن قال أعتقت عبدي وأنا صبي أو أنا نائم فالقول قوله لأنه أضاف إقراره إلى حالة معهودة تنافي إعتاقه فكان إنكارا للعتق معنى وإقرارا صورة والعبرة للمعنى دون الصورة، وكذلك لو قال أعتقته قبل أن يخلق أو قبل أن أخلق لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي تصور الإعتاق فيكون هذا أبلغ في النفي من الإضافة إلى حالة تنافي الإعتاق شرعا وإذا وجب تصديقه هناك فهنا أولى.
وإذا قال لعبده أنت حر متى شئت أو كلما شئت أو إذا ما شئت فقال العبد لا أشاء ثم باعه ثم اشتراه ثم شاء العتق فهو حر لأنه علق عتقه بوجود مشيئته في عمره ولم يفت ذلك بقوله لا أشاء لأنه يتحقق منه المشيئة بعده. وقوله لا أشاء كسكوته أو قيامه عن المجلس ولا يجعل قوله لا أشاء رد الأصل كلام المولى لأن تعليق العتق بالشرط يتم بالمولى فلا يرتد برد العبد وإذا بقي التعليق نزل العتق لوجود الشرط بمشيئته.(7/152)
قال "ألا ترى أنه لو قال أنت حر إن دخلت الدار ثم باعه ثم اشتراه فدخل الدار يعتق" وهذا مذهبنا فأما عند الشافعي لا يعتق لأن الملك عنده كما يشترط لانعقاد اليمين يشترط لبقائها وبالبيع زال ملكه ولكنا نقول الملك ليس بشرط لانعقاد اليمين وإنما الشرط وجود المحلوف به فلهذا صححنا إضافة العتق إلى الملك. والمحلوف به هو العتق ومحلية العبد للعتق بصفة الرق وذلك لا ينعدم بالبيع إلا أنه يشترط الملك عند وجود الشرط لنزول العتق لأن تصرفه يتصل بالمحل عند وجود الشرط فأما قبل ذلك بقاء اليمين ببقاء ذمته وبقاء المحلوف به لكونه محلا للعتق فلا معنى لاشتراط الملك فيه. وإن قال أنت حر حيث شئت فقام من مجلسه بطل ذلك لأن حيث عبارة عن المكان أي أنت حر في أي مكان شئت فليس في لفظه ما يوجب تعميما في الوقت فيتوقت بالمجلس كقوله إن شئت وإن قال أنت حر كيف شئت عتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يعتق في قولهما ما لم يشأ قبل أن يقوم من مجلسه وقد بينا هذا في الطلاق والعتق قياسه وقوله كيف شئت في العتق ليس بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بعد نزول العتق لا مشيئة لأحد في تغييره من وصف إلى وصف ولهذا لو شاء العبد عتقا على مال أو إلى أجل أو بشرط أو شاء التدبير فذلك باطل كله وهو حر وإن قال عبدي حر وليس له إلا عبد واحد عتق لأنه عرف محل العتق بإضافته إلى نفسه فكأنه عرفه بالإشارة إليه ولأنه أوجب ما لا يتم إيجابه إلا في ملكه فتعين ملكه له. فإن قال لي: عبد آخر وإياه عنيت لم يصدق إلا ببينة لأن كلامه تناول ذلك العبد الذي ظهر ملكه فيه باعتبار الظاهر فيكون هو متهما في صرفه عنه إلا من لا يعلم فلا يصدقه القاضي إلا بحجة ولو قال أبيعك عبدا بكذا ولم يسمه ولم يره المشتري فالبيع باطل لأنه(7/153)
ص -76- ... أوجبه في مجهول وإيجاب البيع في المجهول باطل وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما فإن اتفقا أنه هذا فالبيع جائز لأن الجهالة والمنازعة قد ارتفعت باتفاقهما وكان بيانهما في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء وإن قال أبيعك عبدي بكذا ولم يسم كان المشتري بالخيار إذا رآه لأنه عرفه بالإضافة إلى نفسه فكان بمنزلة التعريف بالإشارة إلى مكانه وليس في ذلك المكان مسمى بذلك الاسم إلا واحد وثبوت الخيار للمشتري لعدم الرؤية.(7/154)
قال "وليس هذا كالعتق" وظن بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن مراده الفرق بينهما في إثبات خيار الرؤية وليس كذلك بل المراد هو الفرق لأن إيجاب العتق في المجهول صحيح بخلاف إيجاب البيع حتى لو قال أعتقت عبدا وليس له إلا عبد واحد يعتق ذلك العبد بخلاف ما لو قال بعتك عبدا لأن المنازعة تتمكن بسبب الجهالة في البيع دون العتق والبيان من المولى مقبول في العتق لأنه إيجاب لا يقابله استيجاب بخلاف البيع ولو قال أحد عبدي حر أو أحد عبيدي حر وليس له إلا عبد واحد عتق ذلك العبد لأنه عرف محل العتق بإضافته إلى نفسه بالملكية وإذا كان المضاف إليه بالملكية واحدا كان متعينا لإيجابه ولو قال لعبديه أحدكما حر عتق أحدهما لا بعينه لأن العتق يحتمل التعليق بالشرط فيصح إيجابه في المجهول كالطلاق وهذا لأن المتعلق بالشرط إنما ينزل عند وجود الشرط والإيجاب في المجهول في حق العين كالمتعلق بشرط البيان فيما يحتمل التعليق بالشرط فيصح إيجابه في المجهول فإن مات أحدهما أو قتل تعين العتق في الآخر لأن الذي مات خرج من أن يكون محلا لإيقاع العتق عليه والعتق المبهم في حق المعين، كالنازل عند البيان فلا بد من بقاء لمحل ليبقى خياره في البيان وعدم التعين في الباقي منهما كان لمزاحمة الآخر إياه وقد زالت هذه المزاحمة بخروج أحدهما من أن يكون محلا للعتق فلهذا يتعين في الآخر وهذا بخلاف البيع فإنه لو اشترى أحد العبدين وسمى لكل واحد منهما ثمنا وشرط الخيار لنفسه ثم مات أحدهما تعين البيع في الهالك وهنا يتعين العتق في القائم.(7/155)
قال علي القمي وفي الحقيقة لا فرق بينهما لأن الهالك يهلك على ملكه في الفصلين والأصح أن يقول هناك حين أشرف أحدهما على الهلاك تعين البيع فيه لأنه تعذر عليه رده كما قبض فإنما يتعين للبيع وهو حي لا ميت وهنا لو تعين العتق فيه تعين بعد الموت لأنه بالإشراف على الهلاك لا يخرج من أن يكون محلا للعتق وبعد الموت هو ليس بمحل للعتق فيتعين في القائم ضرورة وكذلك لو باع أحدهما أو وهبه لأنه اكتسب فيه سبب التمليك والمعتق لا يكون محلا للتمليك فمن ضرورة اكتساب سبب التمليك. فيه نفي العتق عنه وذلك يخرجه من مزاحمة الآخر في ذلك العتق وهذا لأن تصرف العاقل محمول على الصحة ما أمكن ومن ضرورة صحة هذا التصرف انتفاء ذلك العتق عن هذا المحل وكذلك لو دبر أحدهما صح تدبيره لأنهما مملوكاه في الظاهر ومن ضرورة صحة التدبير انتفاء ذلك العتق عنه لأن المعتق لا يدبر وهذا لأن التدبير تعليق للعتق بالشرط والعتق في محل واحد غير متعدد فمن(7/156)
ص -77- ... ضرورة تنجزه بطلان التعلق بالموت ومن ضرورة صحة تعليقه بالموت انتفاء تنجز العتق فيه قبله وكذلك لو كانا أمتين فوطىءإحداهما فعلقت منه لأنها صارت أم ولد له فمن ضرورة صحة أمية الولد واستحقاق العتق بها انتفاء العتق المنجز عنها وإذ انتفى عن إحداهما تعين في الأخرى لزوال المزاحمة ولو وطىءإحداهما ولم تعلق منه فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي حنيفة لا يتعين العتق في الأخرى بل يبقى خياره في البيان.
وجه قولهما أن الوطء تصرف لا يحل إلا بالملك فاقدامه عليه في إحداهما دليل تعيين الملك فيها ومن ضرورته انتفاء ذلك العتق عنها فتعين في الأخرى وقاسا بما بينا من التصرفات وبما لو قال لامرأتين له إحداكما طالق ثلاثا ثم وطىءإحداهما تعين الطلاق في الأخرى وهذا لأن فعل المسلم محمول على الحل ما أمكن لأن عقله ودينه يمنعه من الحرام. ووطؤهما جميعا ليس بحلال له حتى لا يفتى له بذلك فكان من ضرورة حل الوطء في إحداهما انتفاء العتق عنها ألا ترى أنه لو باع جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم وطئها في مدة الخيار يصير فاسخا للبيع وهناك الجارية باقية على ملكه ووطؤها حلال له ثم كان من ضرورة الإقدام على الوطء انتفاء سبب المزيل عنها فهنا أولى وكذلك لو باع إحدى الأمتين وسمى لكل واحدة منهما ثمنا وشرط الخيار لنفسه ثم وطئ إحداهما فليس له أن يعين البيع فيها بعد ذلك وكذلك إن كان المشتري بالخيار فوطئ إحداهما تعين البيع فيها لإثبات صفة الحل لفعله فهذا قياسه.(7/157)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول وطؤهما جميعا مملوك له والوطء في الملك بمنزلة الاستخدام لأنه من حيث الحقيقة ليس في الوطء إلا استيفاء المنفعة وإنما تظهر المفارقة بينهما من طريق الحكم وذلك في غير الملك فبقي في الملك الوطء نظير الاستخدام وبيان أن وطأهما مملوك له أما من حيث الحكم فلأنهما لو وطئهما بالشبهة كان الواجب عقر المملوكتين وكان ذلك كله للمولى وإنما يملك البدل بملك الأصل ومن حيث الحقيقة فلأنهما كانتا مملوكتين له قبل إيجاب العتق وإنما أوجب العتق في نكرة وكل واحدة منهما بعينها معرفة والمنكر غير المعرف فلا يجوز إيجاب العتق في المعين قبل بيانه لأنه إيجاب في غير المحل الذي أوجبه.
ولا يقول هو في الذمة كما توهمه بعض أصحابنا رضي الله عنهم لأنه ما أوجبه في الذمة ولكن قول هو في المنكر كما أوجبه وعدم التعين لا يمنع صحة الإيجاب فيما هو أضيق من هذا معنى حتى لو باع قفيزا من صبرة جاز فلأن لا يمنع صحة الإيجاب هنا أولى، ولكن الإيجاب في المنكر كالمتعلق بشرط البيان في حكم العين والتعليق بالشرط يمنع الوصول إلى المحل وفيما لا يحتمل التعليق بالشرط كالبيع المعتبر انتفاء معنى المنازعة لصحة الإيجاب فإذا بقيت كل واحدة منهما مملوكة له عينا بقي وطء كل واحدة منهما مملوكا له ولكن لا يفتى بالحل لأن المنكر الذي وجب فيه العتق فيهما. والحل والحرمة مبني على الاحتياط فلهذا لا(7/158)
ص -78- ... يفتى بحل وطئهما له وإن كان وطؤهما مملوكا له وهذا بخلاف النكاح فإن ملك النكاح ليس إلا ملك الحل والطلاق موجبه الأصلي حرمة المحل ولا يجتمع الوصفان في محل واحد فمن ضرورة كون ملك المتعة بإقباله في الموطوءة انتفاء التطليقات عنها فيتعين في الأخرى وأما العتق يزيل ملك الرقبة وحل الوطء باعتبار ملك المتعة لا باعتبار ملك الرقبة وليس من ضرورة ملك المتعة في محل انتفاء العتق عن ذلك المحل. ولا يقال هنا لا سبب لملك المتعة إلا ملك الرقبة ومن ضرورة انتفاء ملك الرقبة انتفاء ملك المتعة الثابت بسببه لأن ما كان طريقه طريق الضرورة تعتبر فيه الجملة لا الأحوال ألا ترى أن الجارية المبيعة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فقطعت يد الولد وأخذ المشترى الإرش ثم ادعى البائع نسب الولد بطل البيع وحكم بحرمة الأصل للولد وبقي الإرش سالما للمشتري ولا سبب في هذا الموضع لملكه الإرش سوى ملك الرقبة ثم نظر إلى الجملة دون الأحوال وكذلك لو اشترى لحما فأخبره عدل أنه ذبيحة مجوسي يحرم عليه تناوله وسبب الملك هنا ملك العين ولما كان حل التناول يثبت في الطعام في الجملة من غير ملك نظر إلى الجملة دون الأحوال بخلاف حل الوطء إذا تقرر هذا.(7/159)
فنقول لا منافاة بين ملك المتعة والحرية في محل واحد ابتداء وبقاء في الجملة وأكثر ما في الباب أن يكون إقدامه على الوطء دليل بقاء ملك المتعة له في هذا المحل وذلك لا يوجب منافاة الحرية عنه ضرورة توضيحه أن وطء إحداهما دليل الحرمة في الأخرى والتصريح بالحرمة يجوز أن يقع به الطلاق بأن يقول لامرأته أنت علي حرام بنية الطلاق فكذلك ما يدل على الحرمة في الأخرى يحصل به البيان فأما التصريح بالحرمة لا ينزل به العتق فكذلك البيان لا يحصل بما يكون دليل الحرمة في إحداهما لأن البيان في حق المحل كالإيجاب ابتداء ولهذا لا يصح بعد الموت فأما في البيع بشرط الخيار لو لم يجعله فاسخا للبيع بالوطء لكان إذا جاز البيع يملكه المشتري من وقت العقد حتى لو وطئت بالشبهة كان الإرش للمشتري فتبين به أن البائع وطئها في غير ملكه.
فلهذا جعلناه بيانا وهنا لو عين العتق في الموطوءة لا يتبين انعدام ملكه فيها سابقا على الوطء بدليل أنها لو وطئت بشبهة يكون الإرش سالما للمولى وإن عين العتق فيها مع أن فسخ البيع هناك يحصل بالجناية وهنا لا يحصل بجنايته على إحداهما بالبيان فكذلك بالوطء وكذلك في بيع إحدى الأمتين. أما إذا كان الخيار للمشتري فلأنه لا يملك إحداهما إلا بعد تعيين البيع فيها وإذا كان الخيار للبائع فلأنه لو عين البيع فيها بعد الوطء يثبت الملك للمشتري من وقت البيع ويتبين أنه وطئها في غير ملكه فللتحرز عن هذا تعين البيع في الأخرى ضرورة.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لو قبل إحداهما أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها فكذلك أيضا لأن هذه الأفعال لا تحل إلا في الملك كالوطء ولو أعتق إحداهما بعينها ثم قال إياها كنت عنيت بذلك العتق الأول كان مصدقا.(7/160)
ص -79- ... أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فلأن العتق الأول في حق العين لم يكن نازلا حتى يقال له أوقع فكان هذا إيقاعا لذلك العتق في العين.
وعند محمد رحمه الله تعالى هو نازل في إحداهما حتى يقال له بين على ما ذكره في الزيادات ولكن لفظه في الإيقاع والبيان يتقارب. والبيان مستحق عليه فيحمل فعله على الوجه المستحق، وإن قال أردت به الإيقاع ابتداء صح إيقاعه لأنها بقيت على ملكه بعد العتق المبهم محلا قابلا لتصرفه وبتقرر إيقاعه تخرج عن أن تكون محلا لذلك العتق المبهم فيتعين في الأخرى كما لو دبر إحداهما ولو فقأ رجل عين إحداهما فالمولى على خياره لأن المفقوء عينها محل للعتق كالأخرى وسواء أوقع العتق عليها أو على الأخرى. فالواجب على الفاقيء أرش عين الأمة للمولى أما إذا أوقع على الأخرى فلا إشكال فيه وكذلك إذا أوقع على المفقوء عينها لأنها كانت مملوكة حين فقئت عينها فصار أرش عين المملوكة مستحقا للمولى ثم إيقاع العتق عليها يعمل فيما بقي منها دون ما فات ونظيره أرش اليد في ولد الجارية المبيعة إذا ادعى البائع نسبه أنه يبقي سالما للمشتري وإن قال كنت عنيتها حين أوقعت العتق أو قال كنت أوقعت العتق عليها قبل فقء العين لم يصدق في حق الجاني لأن الواجب عليه أرش مملوكة فهو بهذا الكلام يريد أن يلزمه أرش عين حرة ولكنه يصدق على نفسه حتى يكون ذلك الأرش لها لأنه هو المستحق للأرش ظاهرا وقد أقربه لها فإقراره صحيح في حق نفسه ولو قتلهما رجل واحد فإن قتل إحداهما قبل الأخرى فعليه قيمة الأولى للمولى وديه الأخرى لورثتها لأن بقتل إحداهما يتعين العتق في الأخرى ضرورة فتبين أنه قتلها وهي حرة وإن قتلهما معا كان عليه قيمة أمة ودية حرة إن استوت القيمتان وإن اختلفت فعليه نصف قيمة كل واحدة منهما ونصف دية حرة لأنا نتيقن أنه قتل حرة وأمة وقتل الحر يوجب الدية وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيلزمه نصف قيمة كل واحدة(7/161)
منهما ونصف ديتها لأن البيان فات حين قتلتا وعند فوت البيان يشيع العتق فيهما.
فإن قيل إذا لم يكن العتق نازلا في إحداهما كيف يجب عليه دية حرة؟
قلنا: هذا إنما يلزم من يقول أن العتق نازل في الذمة ونحن قلنا أن العتق نازل في المنكر وذلك المنكر فيهما لا يعدوهما فعند اتحاد القاتل يعلم أنه قاتل للمنكر الذي نزل فيه العتق وهو بمنزلة ما قال في الجامع لو أوصى لرجل بأحد عبديه ثم مات فأعتقهما الموصى له ثم عين الوارث وصيته في أحدهما تعين ذلك المعين من قبله ثم نصف ما وجب في بدل نفس كل واحدة منهما يكون لمولاها والنصف لورثتها لأن كل واحدة منهما إن كانت حرة فبدل نفسها لوارثها وإن كانت أمة فبدل نفسها لمولاها فيتوزع نصفين للمساواة ولو قتلهما رجلان كل واحد منهما قتل إحداهما فإن كان على التعاقب فعلى القاتل الأول قيمة الأولى لمولاها وعلى القاتل الثاني ديتها لورثتها لأن العتق تعين فيها وإن كان معا فعلى كل واحد منهما قيمة أمة لأن كل واحد من القاتلين إنما قتل إحداهما بعينها والعتق في حق العين كأنه غير نازل،(7/162)
ص -80- ... فكانت كل واحدة منهما مملوكة عينا وإنما نزول العتق في المنكر ولا يتيقن أن كل واحد منهما قاتل لذلك المنكر فإنما وجب على كل واحد منهما القدر المتيقن به وهو القيمة ولم يبين في الكتاب أن ذلك للمولى أو لورثتها.
وقيل هذا والأول سواء النصف للمولى من كل واحدة منهما والنصف للورثة لأن في حق المولى الحرية ثابتة في إحداهما فلا يستحق بدل نفسها فيتوزع ذلك نصفين لهذا ولو قطع أيديهما رجل واحد جميعا معا أو إحداهما قبل الأخرى أو فعل ذلك رجلان كان الواجب أرش يدي مملوكتين ويسلم ذلك كله للمولى لأن بعد قطع اليد يبقى خيار المولى لبقاء كل واحدة منهما محلا للعتق وما بقي خيار المولى لا يكون العتق نازلا في عين إحداهما فإنما أبينت يد كل واحدة منهما على حكم الرق بخلاف الرق فإنه لا يبقى خيار المولى في البيان بعد ما قتلت أو إحداهما وإذا لم يبق خياره لم يكن بد من الحكم بشيوع العتق فيهما وإذا كان قاتلهما واحدا نتيقن بأنه قتل حرة وأمة وإن لم يجن عليهما أحد ولكن المولى مات قبل أن يبين عتق من كل واحدة منهما نصفها وسعت في نصف قيمتها لأن البيان فات بموت المولى فإن وارثه لا يخلفه في ذلك فإنه لا يقف على مراده ولأن مجرد الخيار لا يورث ولما فات البيان شاع العتق فيهما إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى وبعد ما عتق نصف كل واحدة منهما يجب إخراج النصف الباقي إلى الحرية بالسعاية. وإن اختار المولى عند الموت إحداهما عتقت كلها ولا يعتبر من ثلث ماله لأن الإيقاع كان منه في الصحة وقد تم الاستحقاق به في حقه معتبرا من جميع ماله لأنه لا تنكير في جانبه فلا يتغير ذلك ببيانه عند الموت وهو نظير ما لو طلق إحدى نسائه الأربع قبل الدخول من غير عينها كان له أن يتزوج أخرى لأن إحداهن قد بانت في حقه فإنه لا تنكير في جانبه. ولو جنت إحداهما جناية قبل أن يختار المولى ثم اختار إيقاع العتق عليها بعد علمه بالجناية كان مختارا للجناية لأنه(7/163)
كان متمكنا من أن يوقع العتق على الأخرى فإيقاعه على هذه في حق أولياء الجناية بمنزلة إعتاق مبتدأ لأنه يمتنع به دفعها فيصير مختارا للدية ولا يصدق في حقهم أنه كان أرادها بذلك العتق السابق. وإن مات المولى قبل البيان عتق من كل واحدة منهما نصفها وسعت كل واحدة منهما في نصف قيمتها لورثة المولى وكان على المولى قيمة التي جنت في ماله لأنه تعذر دفعها حين عتق نصفها على وجه لم يصر المولى مختارا بل صار مستهلكا بترك البيان في الأخرى حتى مات فيلزمه قيمتها كما لو أعتق الجانية قبل أن يعلم بالجناية
ولو باع إحداهما على أنه بالخيار وقع العتق على الأخرى لأن تصرفه بالبيع في إحداهما نافذ ومن ضرورة نفوذه خروجها من أن تكون محلا لذلك العتق فيتعين في الأخرى، وكذلك لو باع إحداهما بيعا فاسدا وقبضها المشتري وهذا أظهر لأن المشتري بالقبض قد ملكها فمن ضرورته تعين العتق في الأخرى.
ولكن قيل لا معتبر بهذه الزيادة فسواء قبضها المشتري أو لم يقبضها تعين العتق في الأخرى لأن البيع اسم خاص لتمليك مال بمال ففي قوله بعت هذا بكذا إقرار بأنه لا حظ لها(7/164)
ص -81- ... في ذلك العتق فيتعين في الأخرى. ألا ترى أنه لو عرض إحداهما على البيع تعين الأخرى للعتق محفوظ عن أبي يوسف رحمه الله تعالى. فإذا باع إحداهما بيعا فاسدا أولى وهذا لأن دليل البيان ممن له الخيار كصريح البيان كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خير بريرة قال لها: "إن وطئك زوجك فلا خيار لك"وكذلك لو باع إحداهما بعينها على أن المشتري بالخيار عتقت الباقية وهذا أظهر لأن المشتري لو أعتقها عتقت من قبله فمن ضرورة هذا التصرف خروجها من أن تكون مزاحمة في ذلك العتق وكذلك لو كاتب إحداهما لأنه بالكتابة يوجب لها ملك اليد في نفسها ومكاسبها بعوض. وهذا لا يتحقق في العتق فكان انتفاء العتق عنها من ضرورة تصرفه، وكذلك لو رهن إحداهما لأنه أثبت للمرتهن يد الاستيفاء في ماليتها بتصرفه ومن ضرورته انتفاء العتق عنها وكذلك لو أجر إحداهما لأنه التزم تسليمها إلى المستأجر بولاية الملك ومن ضرورته إنتفاء العتق عنها وإن استخدمها لم تعتق الباقية لأنه ليس من ضرورة استخدامه إياها انتفاء العتق عنها فالإنسان قد يستخدم الحرة خصوصا إذا كانت مولاة له ويحل له ذلك شرعا برضاها فلا يكون ذلك دليل البيان.(7/165)
وقد بينا أن الإعتاق من الصبي لا يجوز وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك لو قال كل مملوك أملكه إذا احتلمت فهو حر لأن اليمين لا تنعقد إلا بقول ملزم وليس للصبي قول ملزم شرعا خصوصا فيما لا منفعة له فيه والمجنون كالصبي وإذا قال الصحيح عبدي حر يوم أفعل كذا ففعل ذلك وهو معتوه عتق عبده إلا على قول ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه فإنه يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط. كالمنجز والمعتوه ليس من أهل تنجيز العتق ولكنا نقول العته لا يعدم ملكه ولا يمنع تحقق الفعل منه إنما يهدر قوله ولا حاجة إلى قوله عند وجود الشرط والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز بذلك التعليق السابق وقد صح منه، وإذا أعتق الرجل عبده وهو من أهل الحرب في دار الحرب ثم صار ذميا أو أسلم وعبده معه في يده فهو عبده وعتقه وتدبيره في دار الحرب باطل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عتقه نافذ لأنه إزالة الملك بطريق الإبطال فيصح في دار الحرب كالطلاق ثم ملك الحربي أضعف من ملك المسلم فإذا كان ملك المسلم يزول بالعتق مع تأكده بالإحراز فملك الحربي أولى وهما يقولان: لا فائدة في هذا العتق لأنه معتق بلسانه مسترق بيده وهو محل للاسترقاق والدار دار القهر فعرفنا أنه غير مفيد شيئا ولأن الإعتاق إحداث قوة وإذا كان العبد حربيا لا يتحقق فيه معنى إحداث القوة لأنه عرضة للتملك.
ولهذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أهل الحرب بمنزلة الأرقاء حتى لو كان العبد مسلما كان العتق نافذا.
وبعض أصحابنا يقولون لا خلاف في نفوذ العتق على ما فسره محمد رحمه الله تعالى في(7/166)
ص -82- ... السير الكبير أنه إذا كان من حكم ملكهم أنه يمنع المعتق من استرقاق المعتق فإنه ينفذ العتق وإنما الكلام في إثبات الولاء على ما ذكره الطحاوي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا ولاء عليه للمعتق وله أن يوالي من شاء.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى استحسن أن يكون ولاؤه للذي أعتقه لأن الولاء كالنسب ولا خلاف أن النسب يثبت في دار الحرب حتى لو قال المستأمن لغلمان في يده هؤلاء أولادي أو لجوار في يده هن أمهات أولادي قبل ذلك منه فكذلك الولاء يثبت في دار الحرب ثم يتأكد بالخروج إلى دار الإسلام ولا يبطل.
وهما يقولان ثبوت الولاء للمعتق على المعتق حكم شرعي ودار الحرب ليس بدار الأحكام وهو أثر ملك محترم ولا حرمة لملك الكافر ثم لو أحرز المملوك نفسه بدارنا لم يكن لأحد عليه ولاء فكذلك المعتق والأصل فيه ما روي أن ستة من أهل الطائف خرجوا حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم فقال صلى الله عليه وسلم "أولئك عتقاء الله" إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول هناك لم يوجد من الموالي اكتساب سبب الولاء وإنما زال ملكهم بتباين الدارين وهنا من المولى قد وجد اكتساب سبب الولاء بالعتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة في العتق
قال رضي الله عنه "وشهادة الشهود على عتق الأمة جائزة وإن كانت هي منكرة" لأن هذا فرج معناه أن عتق الأمة يتضمن تحريم فرجها على المولى وذلك من حق الشرع وفيما هو حق الله تعالى الشهادة تقبل حسبة من غير الدعوى.
فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يكتفي بشهادة الواحد لأنه أمر ديني وخبر الواحد فيه حجة تامة.
قلنا: خبر الواحد إنما يكون حجة في الأمر الديني إذا لم تقع الحاجة إلى التزام المنكر وهنا الحاجة ماسة إلى ذلك ولأن في هذا ازالة الملك والمالية عن المولى وخبر الواحد لا يكفي لذلك فلهذا لا بد من أن يشهد به رجلان.(7/167)
فإن قيل: فإذا كانت هي أخته من الرضاعة قبلت الشهادة على عتقها مع جحودها وليس فيه تحريم الفرج هنا.
قلنا: بل فيه معنى الزنى لأن فعل المولى بها قبل العتق لا يلزمه الحد وبعد العتق يلزمه الحد وبضعها مملوك للمولى وإن كان هو ممنوعا عن وطئها للمحرمية ألا ترى أنه يزوجها وإن بدل بضعها يكون له فيزول ذلك الملك بإعتاقها ولأن الأمة في إنكار العتق متهمة لما لها من الحظ في الصحبة مع مولاها ولا معتبر لإنكار من هو متهم في إنكاره فجعلناها كالمدعية لهذا فأما الشهادة على عتق العبد لا تقبل مع جحود العبد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتقبل في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.(7/168)
ص -83- ... وجه قولهما أن المشهود به حق الشرع وعدم الدعوى لا يمنع قبول الشهادة عليه كعتق الأمة وطلاق الزوجة.
وبيان ذلك أن المشهود به العتق وهو حق الشرع ألا ترى أنه لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ولا يرتد برده وإنه مما يجوز أن يحلف به وإنما يحلف بما هو حق الشرع وأن إيجابه في المجهول صحيح ولا يصح إيجاب الحق للمجهول ويتعلق به حرمة استرقاقه وذلك حق الشرع قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" وذكر في جملتهم من استرق الحر ويتعلق به حكم تكميل الحدود ووجوب الجمعة، والأهلية للولايات ثم الاسترقاق على أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده فإزالته بعد الإسلام يكون حقا للشرع ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات بها.
والدليل عليه أن التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية الأصل وأقام البينة قبلت بينته والتناقض يعدم الدعوى.(7/169)
وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب فظاهره يقتضي أن لا يكون مقبولا منه إلا حيث خص بدليل الإجماع والمعنى فيه أن إزالة ملك اليمين بالقول ولا يتضمن معنى تحريم الفرج فلا تقبل الشهادة فيه إلا بالدعوى كالبيع وتأثيره أن المشهود به حق العبد لأن الإعتاق إحداث قوة المالكية والاستبداد فيتضمن انتفاء ذل المالكية والرق وذلك كله حق العبد فأما ما وراء ذلك من ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر المشهود به فإذا كان حقا للعبد يتوقف قبول البينة على دعواه ونحن نسلم أن في السبب معنى حق الشرع ولهذا لا يتوقف على قبوله ولا يرتد برده ولكن هذا لا يدل على قبول البينة فيه من غير الدعوى كالعفو عن القصاص ثم العبد غير متهم في هذا الإنكار لأن العاقل لا يجحد الحرية ليستكسبه غيره فينفق عليه بعض كسبه ويجعل الباقي لنفسه فصح إنكاره وصار به مكذبا لشهوده بخلاف الأمة لأنها متهمة في الأنكار على ما قلنا حتى لو كان العبد متهما بأن كان لزمه حد قذف أو قصاص في طرف فأنكر العتق تقبل الشهادة.
ومن أصحابنا من قال التناقض إنما يعدم الدعوى فيما يحتمل الفسخ بعد ثبوته لأن أول كلامه ينقض آخره وآخره ينقض أوله فأما فيما لا يحتمل النقض بعد ثبوته فلا معتبر بالتناقض كما في دعوى النسب فإن الملاعن إذا أكذب نفسه ثبت النسب منه ولا ينظر إلى تناقضه في الدعوى ولا ناقض لحرية الأصل في دارنا فالتناقض فيه لا يكون معدما للدعوى وهذا ضعيف.
فإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بعد ما أقر بنسب ولد أمته لغيره لو ادعاه لنفسه لا يصح للتناقض والنسب لا يحتمل النقض والوجه أن يسلك فيه طريقة الشبهين فنقول من حيث السبب المشهود به من حق الشرع بمنزلة طلاق الزوجة وعتاق الأمة ومن حيث(7/170)
ص -84- ... الحكم المطلوب بالسبب هو حق العبد كما بينا وما تردد بين الشبهين يوفر حظه عليهما فلشبهه بحقوق العباد قلنا الشهادة لا تقبل بدون الدعوى ولشبهه بحق الشرع قلنا التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة عليه وإذا شهدوا أنه أعتق عبده سالما ولا يعرفون سالما وله عبد واحد اسمه سالم فإنه يعتق لما بينا أن إيجاب العتق في المجهول صحيح ولأن ملكه متعين لما أوجبه فبأن لا يعرف الشهود العبد لا يمنع قبول شهادتهم كما أن القاضي يفضي بالعتق إذا سمع هذه المقالة من المولى وإن كان هو لا يعرف العبد ولو شهدوا به في البيع أبطلته لما بينا أن الجهالة التي تفضي إلى المنازعة تمنع صحة البيع وإذا لم يعرف الشهود العبد، فهذه جهالة تفضي إلى المنازعة ويتعذر على القاضي القضاء لأجله بالشهادة وإذا شهدوا عليه بعتق عبد بعينه واختلفا في الوقت أو المكان أو اللفظ أو اللغة أو شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه أقر أنه أعتقه فالشهادة جائزة لأن العتق قول يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلافهما في الزمان والمكان، ولا باختلافهما في اللغة وصيغة الإقرار والإنشاء في العتق واحد وإن اختلفا في الشرط الذي علق به العتق لم يجز لأن أحدهما يشهد بعتق يتنجز عند دخول الدار والآخر بعتق يتنجز عند كلام فلان والكلام غير الدخول فلا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من الشرطين وإن اتفقا على أنه قال له إن دخلت الدار فأنت حر، وقال المول:ى إنما قلت له إن كلمت فلانا فأنت حر فأيهما فعل فهو حر لأن التعليق بشرط الدخول ثبت بشهادة شاهدين وبكلام فلان بإقرار المولى ولا منافاة بينهما. ولو شهد أحدهما أنه أعتقه بجعل والآخر أنه كان بغير جعل لم تقبل الشهادة لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول البدل والآخر بعتق بات ولأن العتق بجعل يخالف العتق بغير جعل في الأحكام وكذلك لو اختلفا في مقدار الجعل والمولى ينكر ذلك فالشهادة لا تقبل سواء ادعى العبد أقل المالين أو(7/171)
أكثرهما، لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول ألف والآخر بقبول ألف وخمسمائة. وإن كان المولى هو المدعي والعبد منكر فإن كان يدعي أقل المالين عتق العبد لإقرار المولى بحريته ولا شيء عليه لأنه أكذب أحد شاهديه وهو الذي شهد له بألف وخمسمائة. وإن ادعى العتق بألف وخمسمائة قضى عليه بألف لأن الشهادة هنا لا تقوم على العتق فالعبد قد عتق بإقرار المولى وإنما تقوم على المال. ومن ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد بألف وآخر بألف وخمسمائة يقضي بالألف لاتفاق الشاهدين لفظا ومعنى وإذا شهد شاهدان أنه أعتقه إن دخل الدار وآخران إن كلم فلانا فأيهما وجد عتق العبد لأن كل واحد من التعليقين ثبت بحجة كاملة ولا تنافي بينهما، وإن ادعى الغلام أنه أعتقه بألف وأقام شاهدين وادعاه المولى بألفين، وأقام شاهدين فالبينة بينة المولى لأنه يثبت الزيادة في حقه ببينته، وإن أقام العبد بينة أنه قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر وأنه قد أداها، وأقام المولى بينته أنه إنما قال له إذا أديت إلي ألفين فأنت حر فالعبد حر ولا شيء عليه غير الألف الذي أداه لأن العبد يثبت ببينته تنجز الحرية فيه وهو حقه ولأنه يجعل كأن الأمرين كانا إذ لا منافاة بينهما ولو عاينا وجود الكلامين من المولى تخير العبد وعتق بأداء أي المالين اختاره ولو أقام العبد(7/172)
ص -85- ... البينة أنه باعه نفسه بألف فأقام المولى البينة أنه باعه نفسه بألفين كانت البينة بينة المولى لأن العتق يتنجز بالقبول هنا فكان إثبات الزيادة في بينة المولى بخلاف الأول.
قال في الأصل "ولو باعه نفسه بألف درهم فأداها من مال المولى كان حرا وللمولى أن يرجع عليه بمثلها والعتق هنا حصل بالقبول لا بأداء المال" وإنما يتحقق هذا الفصل فيما إذا علقه بالأداء والوجه فيه أن نزول العتق بوجود الشرط وقد وجد، وإن كان المؤدي مسروقا أو مغصوبا من المولى ثم رد هذا المال على المولى كان مستحقا عليه، فيقع من الوجه المستحق في الحكم ويكون له أن يرجع عليه بمثله وإن شهد للعبد ابناه أو أبوه وأمه أن مولاه أعتقه فشهادتهما باطلة، لأنها تقوم لمنفعة العبد وهؤلاء متهمون في حقه ولا شهادة لمتهم والعتق يثبت مع الشبهات، فيثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال وإذا رجع شهود العتق بعد القضاء لم يبطل العتق لأنهما لا يصدقان في إبطال الحكم ولا في إبطال حق العبد، ولكنهما يضمنان قيمته لأنهما أتلفا ماليته على المولى وقد أقر بالرجوع أنهما أتلفاه عليه بغير حق والمعتبر في الضمان عند الرجوع بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع وقد بينا هذا في الطلاق. وإن شهد شاهدان بعتقه فلم يحكم بشهادتهما للتهمة ثم ملكه أحدهما عتق عليه لأنه قد أقر بحريته وذلك الإقرار صحيح لازم في حقه إلا أنه لم يكن عاملا لانعدام الملك له في المحل فإذا وجد الملك عمل وكان كالمجدد للإقرار بعد ما ملكه فيكون حرا من ماله، وإذا شهدا بعتقه فحكم بشهادتهما ثم رجعا عنه فضمنا قيمته ثم قامت بينة غيرهم بأن المولى قد كان أعتقه فإن شهدوا أنه أعتقه بعد شهادة هؤلاء لم يسقط عنهم الضمان بالاتفاق لأنهم شهدوا بما هو لغو فإنه عتق بقضاء القاضي والمعتق لا يعتق،(7/173)
وإن شهدوا أنه أعتقه قبل شهادة هؤلاء لم يرجعوا بما ضمنوا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرجعون على المولى بما ضمنوا وهذا بناء على ما بينا أن عندهما الشهادة على عتق العبد تقبل من غير دعوى فثبت بشهادة الفريق الثاني حرية العبد من الوقت الذي شهدوا به. وإن لم يكن هناك مدعيا لذلك ثم تبين به أن الفريق الأول لم يتلفوا على المولى شيئا بشهادتهم وأنه أخذ ما أخذ منهم بغير حق.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير الدعوى ولا مدعي لما يشهد به الفريق الثاني فإن العبد قد حكم بحريته فلا يمكنه أن يدعي العتق والفريق الأول لما شهدوا بأنه أعتقه في وقت لا يمكنهم أن يدعوا عتقا في وقت سابق عليه للتناقض فلانعدام الدعوى لا تقبل شهادة الفريق الثاني ولا يجب على المولى رد شيء مما أخذه من الفريق الأول. ولو قيد رجل عبده ثم قال إن لم يكن في قيده عشرة أرطال حديد فهو حر وإن حل قيده فهو حر فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال حديد فقضى القاضي بعتقه ثم حل القيد فإذا فيه عشرة أرطال.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الشهود يضمنون قيمته للمولى وهو قول أبي(7/174)
ص -86- ... يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى لا يضمنون له شيئا وهذا بناء على أن قضاء القاضي بالعتق بشهادة الزور عند أبي حنيفة رحمه الله ينفذ ظاهرا وباطنا.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى ينفذ ظاهر لا باطنا فتبين أن قضاء القاضي بشهادتهما لم يكن نافذا في الباطن وأن العبد إنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما فلا يضمنان عندهما شيئا.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما عتق العبد بقضاء القاضي لنفوذ قضائه ظاهرا وباطنا وقضاء القاضي كان بشهادتهما فلهذا ضمنا قيمته لأنا علمنا أنهما شهدا بالباطل.
فإن قيل: هما إنما شهدا بشرط العتق لأنهما شهدا بوزن القيد أنه دون عشرة أرطال وذلك شرط العتق ولا ضمان على شهود الشرط.
قلنا: لا كذلك بل شهدا بتنجيز العتق لأنهما زعما أن المولى علق عتقه بشرط موجود والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا حتى يملكه الوكيل بالتنجيز وشهود تنجيز العتق يضمنون عند الرجوع.
فإن قيل: قضاء القاضي إنما ينفذ عند أبي حنيفة رحمه الله إذا لم يتيقن ببطلانه فأما بعد التيقن ببطلانه لا ينفذ كما لو ظهر أن الشهود عبيد أو كفار وهنا قد تيقنا ببطلان الحجة حين كان وزن القيد خمسة أرطال وبعد ما علم كذبهم بيقين لا ينفذ الفضاء باطنا فإنما عتق بحل القيد.
قلنا: لا كذلك بل نفوذ القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى باعتبار أنه يسقط عن القاضي تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهو حقيقة صدق الشهود ولا يسقط عنه الوقوف على ما يتوصل إليه من كفرهم ورقهم لأن التكليف يثبت بحسب الوسع وقد تعذر على القاضي هنا الوقوف على حقيقة وزن القيد لأنه لا يعرف ذلك إلا بعد أن يحله وإذا حله عتق العبد فيسقط عنه حقيقة معرفة وزن القيد ونفذ قضاؤه بالعتق بشهادتهما ظاهرا وباطنا.(7/175)
فإن قيل: لا كذلك فقد يمكنه معرفة وزن القيد قبل أن يحله بأن يضع رجلي العبد مع القيد في طست ويصب فيه الماء حتى يعلو القيد ثم يجعل على مبلغ الماء علامة ثم يرفع القيد إلى ساقه ويضع حديدا في الطست إلى أن يصل الماء إلى تلك العلامة ثم يزن ذلك الحديد فيعرف به وزن القيد.
قلنا: هذا من أعمال المهندسين ولا تنبني أحكام الشرع على مثله مع أنه إنما يعرف وزن القيد بهذا الطريق إذا استوى الحديدان في الثقل ولا يعرف ذلك ولو شهدا أنه أعتق عبده سالما وله عبدان اسم كل واحد منهما سالم والمولى يجحد ذلك لم يعتق واحد منهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا بد من الدعوى لقبول الشهادة عنده. والدعوى لا تتحقق من المشهود له لأنه غير معين منهما ولا يتمكن الشهود من تعيينه فبطلت شهادتهما لهذا. وإن(7/176)
ص -87- ... قالا: قد سماه لنا فنسينا اسمه فشهادتهما باطلة لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا شهادتهما.
وحكي عن زفر رحمه الله تعالى أن الشهادة تقبل ويقال للمولى بين لأنهما يثبتان كلام المولى فثبت بشهادتها أن المولى أعتق عبدا له والجهالة لا تمنع صحة العتق فكان المولى مجبرا على البيان. ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه بغير عينه والمولى يجحد ذلك فشهادتهما باطلة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الدعوى شرط لقبول البينة على العتق عنده والدعوى من المجهول لا تتحقق إنما تتحقق الدعوى من كل واحد منهما بعينه والمشهود به عتق في منكر لا في معين فلا تقبل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في هذه المسألة وفي مسألة الشهادة تقبل ويؤمر المولى بالبيان لأن الشهادة على العتق عندهما تقبل من غير دعوى فيثبت به أن المولى أعتق أحدهما بغير عينه فيؤمر بالبيان لهذا وكذلك لو شهدا بأنه أعتق إحدى أمتيه.
فإن قيل: في هذا الفصل ينبغي أن تقبل الشهادة عندهم جميعا لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يشترط الدعوى في الشهادة على عتق الأمة.
قلنا: نعم إنما لا يشترط الدعوى في الشهادة على عتق أمة بعينها لما فيها من تحريم الفرج فأما العتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده.
ولهذا قال لا يكون الوطء بيانا فلهذا كان الجواب في العبد والأمة سواء هنا إلا أن شهدا أن هذا كان عند الموت منه فحينئذ تقبل شهادتهما عنده استحسانا.
وفي القياس لا تقبل لانعدام شرط القبول وهو الدعوى كما لو كان ذلك في حال حياته وصحته والاستحسان وجهان:
أحدهما أن العتق المبهم يشيع فيهما بالموت حتى يعتق من كل واحد منهما نصفه فتتحقق الدعوى من كل واحد منهما.(7/177)
والثاني أن العتق في مرض الموت بمنزلة الوصية حتى يعتبر من الثلث ووجوب تنفيذ الوصية لحق الموصي فتتحقق الدعوى من وصيه أو وارثه هنا فلهذا قبلت البينة ولو شهدا أن أحد هذين الرجلين أعتق عبده لم تجز شهادتهما لأن المشهود عليه مجهول، وذلك يمنع قبول الشهادة فإن الإنكار شرط لقبول البينة والإنكار من المجهول لا يتحقق ولأن القاضي لا يتمكن من القضاء على واحد منهما بهذه الشهادة وإن إدعى العبد أو الأمة العتق ولم يكن له بينة حاضرة لم يحل بين المولى، وبين العبد لأن بمجرد الدعوى لا يثبت استحقاق العبد العتق فإنه خبر متمثل بين الصدق وبين الكذب والمخبر غير موثوق فيه لما له في ذلك من الحظ.
وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام في قوله: "لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم". واليد حق للمولى في مملوكه فكما لا يجوز إبطال الملك بمجرد الدعوى فكذلك لا يجوز إبطال اليد بالحيلولة، وكذلك إن أقام شاهدا واحدا لأن الحجة لا تتم بشهادة(7/178)
ص -88- ... الواحد وهذا الجواب في العبد فأما في الأمة الحيلولة تثبت إذا ادعت أن شاهدها الآخر حاضر احتياطا لأمر الفرج.
وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع وإن أقام شاهدين حيل بينه وبين مولاه حتى ينظر في أمر الشاهدين وهذا إذا كان مولاه فاسقا أو مخوفا عليه على ما فسرناه في الجامع.
والمعنى فيه أن الحجة هنا تمت من حيث الظاهر حتى لو قضى القاضي بشهادتهما قبل أن تظهر عدالتهما نفذ قضاؤه فتثبت به الحيلولة احتياطا بخلاف ما إذا أقام شاهدا واحدا فإذا شهد شاهد أنه أعتق عبدا له وشهد آخر أنه وهبه لنفسه فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا فإن الهبة غير العتق وضعا لأن الهبة تمليك والإعتاق إحداث القوة أو إبطال الملك. واختلافهما في المشهود به لفظا يمنع قبول الشهادة
وإن شهدا جميعا أنه وهب عبده لنفسه فالعبد حر لأنه ملكه نفسه ومن ملك نفسه يعتق كالمراغم وقد يجوز أن تكون الهبة إعتاقا كما لو شهدوا أنه وهبه من قريبه وسلمه إليه فإنه يقضي بعتقه وقد بينا فيما سبق أنه إذا قال لم أنو به العتق لا يصدق في القضاء وإذا قال له أنت حر إن فعلت كذا وذلك من الأمور الظاهرة كالصوم والصلاة ودخول الدار ونحوه فقال العبد قد فعلت لا يصدق إلا أن يقيم البينة، أو يقر المولى لأن العتق المعلق بالشرط إنما يتنجز عند وجود الشرط فالعبد بدعواه وجود الشرط يدعي تنجيز العتق فيه وهو غير مصدق في ذلك إلا بحجة بخلاف قوله إن كنت تحبني أو تبغضني لأن ذلك لا يوقف عليه إلا من جهته فوجب قبول قوله في ذلك ما دام في مجلسه فإن قيل: فالصوم كذلك لأنه بينه وبين ربه لا يقف عليه غيره .(7/179)
قلنا: لا كذلك فإن ركن الصوم هو الكف وذلك أمر ظاهر يقف عليه الناس بوقوفهم على ضده وهو الأكل ولو قال لرجل أعتق أي عبيدي شئت فأعتقهم جميعا لم يعتق منهم إلا واحد والأمر في بيانه إلى المولى بخلاف ما لو قال أيكم شاء العتق فهو حر فشاؤوا جميعا عتقوا لأن كلمة أي فيها معنى العموم والخصوص من حيث أنها تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد فإذا أضاف المشيئة بها إلى خاص ترجح جانب الخصوص فلا يتناول إلا واحدا منهم وإذا أضاف المشيئة بها إلى عام يترجح جانب العموم ولأن هذه الكلمة إنما توجب التعميم فيمن دخل تحتها دون من لم يدخل والداخل تحت هذه الكلمة العبيد دون المخاطب بالمشيئة وإذا قال شئت فلا يكون شرط العتق إلا مشيئة واحدة. وبالمشيئة الواحدة منه لا يعتق إلا عبد واحد فأما في قوله شاء إنما أضاف المشيئة إلى العبيد وكلمة أي اقتضت التعميم في العبيد فصارت مشيئة كل واحد منهم شرطا لعتقه فلهذا عتقوا ثم البيان إلى المولى دون المخاطب بالمشيئة لأن ما فوض إليه قد انتهى بوجود المشيئة منه بقي العتق واقعا على أحدهم بغير عينه بإيقاع المولى فالبيان إليه ولو قال أيكم دخل الدار فهو حر فدخلوا عتقوا لأن الشرط دخول من دخل تحت كلمة أي وكذلك لو قال أيكم بشرني بكذا فهو حر فبشروه معا عتقوا لأن الشرط وجود البشارة ممن دخل تحت كلمة أي فيتعمم بتعميمه وإن(7/180)
ص -89- ... قال عنيت واحدا منهم لم يدين في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن بشره واحد بعد واحد فالأول هو البشير ولا يعتق غيره وقد بينا هذا في كتاب الطلاق أن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن المخبر علمه وإذا قال لآخر أخبر عبدي بعتقه أو أنه حر أو بشره بعتقه فهو حر ساعة تكلم به المولى أخبر العبد به أو لم يخبر لأن الباء للإلصاق وإنما يتحقق إلصاق الأخبار بعتق موجود منه لا معدوم ولأنه لو أخبره بنفسه بأن قال أنت حر تضمن ذلك تنجيز العتق من جهته حتى يكون خبره حقا فكذلك إن أمر غيره حتى يخبره به ويصير كأنه قال أعتقته فبشره بذلك أو أخبره فيعتق سواء أخبره أو لم يخبره
وإذا قال لعبد له يا سالم أنت حر وهو يعني انسانا بين يديه غير سالم فإن سالم حر لأنه أتبع الإيقاع النداء فإنما يتناول المنادي وإذا قال أول عبد يدخل علي من عبيدي فهو حر فأدخل عليه عبد ميت ثم أدخل عليه عبد حي فإنه يعتق الحي.(7/181)
قال لأنه هو الأول ولا يحتسب بالميت ولا يكون الميت أولا وآخرا ومعنى هذا أن الإدخال عليه للإكرام أو الإهانة ولا يتحقق ذلك في الميت فيصير الحياة ثابتا بمقتضى كلامه وكأنه قال أول عبد حي من عبيدي ولأنه جازاه بالحرية وإنما يجازي به الحي دون الميت لأن الميت ليس بمحل لإيجاب العتق فيه والثابت بمقتضى الكلام كالثابت بالنص وإن أدخل عليه عبدان حيان جميعا معا لم يعتق واحد منهما لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه فيه غيره ولم يتصف واحد منهما بالفردية عند الإدخال عليه فإن أدخل بعدهما عبد آخر لم يعتق لأنه وإن اتصف بالفردية فلم يتصف بالسبق فقد تقدمه عبدان ولو قال أول عبد أملكه فهو حر فملك عبدين معا لم يعتق واحد منهما لأنه لم يتصف واحد منهما بالفردية عند دخوله في ملكه وإن ملك بعدهما آخر لم يعتق أيضا لأنه لم يتصف بالسبق ولو قال آخر عبد أملكه فهو حر فملك عبدين ثم عبدا ثم مات المولى عتق الثالث لأن الآخر اسم لفرد متأخر وقد اتصف به الثالث حين لم يملك غيره حتى مات.(7/182)
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق من جميع المال إذا كان تملكه في الصحة لأن صفة الآخرية ثابت له من حين تملكه فيتبين أنه عتق من ذلك الوقت وعندهما يعتق من الثلث لأن نزول العتق عندهما وقت الموت لتحقق الشرط فيه في هذه الحالة وقد بينا هذا في الطلاق ولو قال آخر عبد أملكه فهو حر فاشترى عبدا ثم لم يملك غيره حتى مات لم يعتق لأن هذا أول وصفة الأولية والآخرية لا يجتمع في شخص واحد من المخلوقين وإن اشترى عبدين بعده ثم مات لم يعتق واحد منهم لأن الأول ما اتصف بالآخرية ليكون آخرا. والعبدان لم يتصف واحد منهما بالفردية فلا يكون واحد منهما آخرا ولو قال لأمة لم يملكها أنت حرة من مالي فهذا باطل لأن تنجيز العتق لا يصح إلا بعد وجود الملك في المحل ولم يوجد بخلاف قوله إذا ملكتك لأن بذلك اللفظ لا يصير مضيفا للعتق إلى الملك ولا إلى سببه وهو فضل من الكلام لأن العتق من جهته لا يكون إلا من ماله فلا يخرج(7/183)
ص -90- ... به كلامه من أن يكون تنجيزا ولو قال إذا اشتريتك فأنت حرة أو إن جامعتك فأنت حرة فاشتراها وتسراها أو جامعها لم تعتق إلا على قول زفر فإنه يقول التسري والجماع لا يحل إلا في الملك فكان هذا في معنى إضافة العتق إلى الملك بمنزلة قوله إن اشتريتك.
ولكنا نقول الجماع يتحقق في غير الملك فكذلك التسري فإنه عبارة عن التحصين والمنع من الخروج وهو ليس بسبب للملك فلا يتحقق به إضافة العتق إلى الملك صورة ولا معنى فهو بمنزلة قوله إذا كلمتك فأنت حرة بخلاف الشراء فإنه سبب للملك وكذلك لو قال كل جارية أتسرى بها فهي حرة فاشترى جارية بعد يمينه وتسراها لم تعتق ولو تسرى جارية كانت مملوكة له وقت يمينه عتقت لأن الإيجاب في حقها يصح لوجود الملك في المحل وقت الإيجاب بمنزلة قوله كل جارية أملكها فهي حرة ثم تسري. فالشرط عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن يبوئها بيتا ويحصنها ويجامعها وطلب الولد ليس بشرط.(7/184)
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون تسريا إلا بطلب الولد مع هذا للعادة الظاهرة أن الناس يطلبون الأولاد من السراري وفي الأيمان يعتبر العرف وهما يقولان ليس في لفظه ما يدل على طلب الولد لأن التسري إما أن يكون مأخوذا من التسرر كالتقضي وذلك الاخفاء أو يكون مأخوذا من السرار ومعناه التحصين والمنع من الخروج أو يكون مأخوذا من السر الذي هو الجماع كما قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}[البقرة: من الآية235] فإذا لم يكن فيها ما ينبئ عن طلب الولد لا يشترط فيه ذلك من غير لفظ وكيف يشترط ذلك وبحصول الولد تخرج من أن تكون سرية لأنها تصير أم ولد له فطلبه يخرجه حقيقة من أن تكون سرية فلا يمكن أن يجعل شرطا لتحقيق التسري ولو وطىءجارية فعلقت منه لم تعتق لأن التسري بالتحصين والمنع من الخروج ولم يوجد وإن قال لعبديه أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر فأكلاه جميعا لم يعتق واحد منهما لأن الشرط أكل الواحد لجميع الرغيف ولم يوجد وإن أقام أحدهما البينة أنه أكله فأعتقه القاضي ثم أقام الآخر البينة أنه هو الذي أكله لم يعتقه القاضي لأنه جعل الأول آكلا فلا يتصور بعده كون الثاني آكلا له إذ الرغيف الواحد لا يتكرر فيه فعل الأكل وهذه البينة إنما تقوم لأبطال القضاء الأول والبينة لإبطال القضاء لا تقبل.
توضيحه إنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح معنى الصدق في شهادة الفريق الأول بالقضاء فتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن جاءت البينتان معا لم يعتق واحد منهما لأن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب وإذا كانت تهمة الكذب تمنع القضاء بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى.(7/185)
وعلى هذا لو شهد شاهدان أنه أعتق عبده سالما يوم النحر بمكة فأعتقه القاضي ثم شهد آخران أنه أعتق سريعا يوم النحر بالكوفة لم تجز شهادتهما وإن جاءت البينتان معا لم تقبل واحدة منهما وهذا والأول سواء وإن ردهما ثم ماتت إحدى البينتين فأعاد الآخر بينته تلك(7/186)
ص -91- ... لم يقبل القاضي شهادتهم لأنه قد ردها للتهمة فلا يقبلها أبدا كما لو رد شهادة الفاسق ثم تاب فأعادها وإن لم تمت واحدة من البينتين حتى جاء أحد الغلامين بشاهدين آخرين يشهدان على ما شهدت به البينة الأولى وجاء الآخر بشهوده الذين كانوا شهدوا فإن القاضي يجيز شهادة الآخرين اللذين لم يكونا شهدا عنده لأن شهادة الفريقين الأولين قد بطلت للتعارض وصارت كالمعدومة وإنما بقى شهادة الفريق الثاني لأحدهما ولا معارض له فثبت المشهود به بشهادتهما ولا يعتبر بما أعاده العبد الثاني لأن تلك شهادة حكم ببطلانها وكما لا تقوم حجة القضاء بمثل هذه الشهادة فكذلك المعارضة لا تثبت بها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب عتق العبد بين الشركاء
أكثر مسائل هذا الباب تنبني على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن العتق عنده يتجزي حتى إن من أعتق نصف عبده فهو بالخيار في النصف الباقي إن شاء أعتقه وإن شاء استسعاه في النصف الباقي في نصف قيمته وما لم يؤد السعاية فهو كالمكاتب.
وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يعتق كله ولا سعاية عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أعتق شقصا من عبده فهو حر كله ليس لله فيه شريك".(7/187)
وفي الكتاب ذكر هذا اللفظ عن عمر أيضا رضي الله عنه والمعنى فيه أن العتق اسقاط للرق والرق لا يتجزى ابتداء وبقاء فإسقاطه بالعتق لا يتجزى أيضا كما أن الحل لما كان لا يتجزى ابتداء وبقاء فإبطاله بالطلاق لا يتجزى وبيانه أن فعله إعتاق فلا يتحقق إلا بانفعال العتق في المحل وبعد انفعال العتق في بعض الشخص لو بقي الرق في شيء منه كان في ذلك تجزى الرق في محل واحد وذلك لا يجوز فإن الذي ينبني على العتق من الأحكام يضاد أحكام الرق من تكميل الحدود والأهلية للشهادات والإرث والولايات ولا يتصور اجتماع الضدين في محل واحد ولأن اتصال أحد النصفين بالآخر أقوى من اتصال الجنين بالأم لأن ذلك بعرض الفصل ثم إعتاق الأم يوجب عتق الجنين لا محالة فإعتاق أحد النصفين لأن يوجب عتق النصف الآخر أولى ولأن الاستيلاد يوجب حق العتق وهو لا يحتمل الوصف بالتجزي في محل واحد فحقيقة العتق أولى.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بحديث سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شقصا له في عبد فإن كان موسرا فعليه خلاصه وإلا فقد عتق ما عتق ورق ما رق" وقال علي رضي الله عنه يعتق الرجل من عبده ما شاء وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم "فهو حر" كله سيصير حرا كله بإخراج الباقي إلى الحرية بالسعاية فيكون فيه بيانا أنه لا يستدام الرق فيما بقي منه وهو مذهبنا ولأن هذا إزالة ملك اليمين فيتجزأ في المحل كالبيع وتأثيره أن نفوذ تصرف المالك باعتبار ملكه وهو مالك للمالية دون الرق. فالرق اسم لضعف ثابت في أهل الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم، وهو لا يحتمل التملك كالحياة إلا أن بقاء(7/188)
ص -92- ... ملكه لا يكون إلا ببقاء صفة الرق في المحل كما لا يكون حيا إلا باعتبار صفة الحياة في المحل فذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له فإذا ثبت أنه يملك المالية وملك المالية يحتمل التجزي فإنما يزول بقدر ما يزيله ولهذا لا يعتق شيء منه بإعتاق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان معتق البعض كالمكاتب إلا في حكم واحد وهو أن المكاتب إذا عجز يرد في الرق لأن السبب هناك عقد محتمل للفسخ. وهذا إذا عجز عن السعاية لا يرد في الرق لأن سببه إزالة ملك لا إلى أحد وهو لا يحتمل الفسخ وإنما يسمى فعله إعتاقا مجازا على معنى أنه إذا تم إزالة الملك بطريق الإسقاط يعقبه العتق الذي هو عبارة عن القوة لا أن يكون الفعل المزيل ملاقيا للرق كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية ثم بنقض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلا من هذا الوجه ولئن كان فعله إعتاقا فالعتق الذي ينبني على الأعتاق لا يتجزى والإعتاق في نفسه متجز حتى يتصور من جماعة في محل واحد فالعتق للبعض إنما يوجد شطر العلة فيتوقف عتق المحل إلى تكميله وهو نظير إباحة أداء الصلاة تنبني على غسل أعضاء هي متجزئة في نفسها حتى يكون غسل بعض الأعضاء مطهرا ثم يتوقف إباحة أداء الصلاة على إكمال العدد وحرمة المحل لا تتجزى وإن كان ينبني على طلقات هي متجزئة حتى كان الموقع للتطليقة والتطليقتين مطلقا ويتوقف ثبوت الحرمة على كمال العدد فهنا أيضا نزول العتق في المحل يتوقف على تمام العلة بإعتاق ما بقي وإن كان معتق البعض معتقا لأن الأعتاق يقتضي انفعال العتق كما قال ولكن لا يقتضي الاتصال بالإعتاق بل يثبت استحقاق الإعتاق ويتأخر ثبوته في المحل إلى إكمال العلة فأما الاسترقاق فقد قيل يحتمل الوصف بالتجزي حتى لو فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في أن يسترق أنصافهم صح ذلك منه والأصح أنه لا يتجزى لأن سببه وهو القهر لا يتجزى إذ لا يتصور قهر نصف الشخص دون النصف والحكم ينبني على(7/189)
السبب وكذلك الاستيلاد سببه لا يتجزى وهو نسب الولد فأما عتق الجنين عند إعتاق الأم ليس لأجل الاتصال ألا ترى أن إعتاق الجنين لا يوجب إعتاق الأم والاتصال موجود ولكن الجنين في حكم جزء من أجزائها كيدها ورجلها وثبوت الحكم في التبع ثبوته في المتبوع وأحد النصفين ليس بتبع للنصف الباقي فلهذا لم يكن إعتاق أحد النصفين موجبا للعتق في النصف الباقي فإن كان العبد بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه جاز ثم إن كان المعتق موسرا فللساكت ثلاث خيارات في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أدى السعاية إليه عتق والولاء بينهما وإن شاء ضمن المعتق نصف قيمته ثم يرجع المعتق على العبد والولاء كله له وإن كان المعتق معسرا فللساكت خياران إن شاء أعتق وإن شاء استسعى وليس له حق تضمين الشريك إلا على قول بشر المريسي.
والقياس فيه أحد الشيئين إما وجوب الضمان على المعتق موسرا كان أو معسرا لأنه بإعتاق نصيبه يفسد على الشريك نصيبه فإنه يتعذر عليه استدامة ملكه والتصرف في نصيبه(7/190)
ص -93- ... وضمان الإفساد لا يختلف باليسار والعسرة أو القياس أن لا يجب على المعتق ضمان بحال لأنه متصرف في نصيب نفسه والمتصرف في ملكه لا يكون متعديا ولا يلزمه الضمان وإن تعدى ضرر تصرفه إلى ملك غيره كمن سقى أرضه فنزت أرض جاره أو أحرق الحصائد في أرضه فاحترق شيء من ملك جاره.
ولكنا تركنا القياسين للآثار فمنه ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يعتق نصيبه في المملوك: "إن كان غنيا ضمن وإن كان فقيرا يسعى في حصة الآخر". وهكذا روى عروة عن عائشة وعمر بن شهيب عن أبيه عن ابن مسعود رضوان الله عليهم أن رجلين من جهينة كان بينهما عبد فأعتقه أحدهما فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمنه نصيب صاحبه وحبسه حتى باع غنيمة له في ذلك وذكر الحسن عن عمر رضي الله عنه في العبد بين اثنين يعتقه أحدهما أنه يضمن نصيب صاحبه إن كان غنيا وإن كان فقيرا يسعى العبد في النصف لصاحبه.(7/191)
وعن إبراهيم عن الأسود بن يزيد أنه أعتق عبدا له ولأخوة له صغار فذكر ذلك لعمر رضي الله عنه فقال يستأني بالصغار حتى يدركوا فإن شاؤوا أعتقوا وإن شاؤوا أخذوا القيمة فلهذه الآثار قلنا بوجوب الضمان في حالة اليسار دون العسرة ولكن المعتبر يسار اليسر لا يسار الغنى حتى إذا كان له من المال قدر قيمة المملوك فهو ضامن وإن كانت تحل له الصدقة هكذا ذكره في حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قوم عليه نصيب شريكه إن كان له من المال ما يبلغ ذلك" ولأنه قصد التقرب والصلة بإعتاق نصيبه وتمام ذلك بعتق ما بقي فإذا كان متمكنا من إتمامه بملكه مقدار ما يؤديه إلى شريكه كان عليه ذلك ولأن اختلاف هذا الضمان باليسار والإعسار لتحقيق معنى النظر للشريك فإنه إذا استسعى العبد يتأخر وصول حقه إليه وإذا ضمن شريكه يتوصل إلى مالية نصيبه في الحال وإنما يكون هذا إذا كان موسرا له من المال ما يبلغ قيمة نصيب شريكه.
ثم على قول أبي يوسف ومحمد لا خيار للساكت وإنما له تضمين الشريك إن كان موسرا واستسعاء العبد إن كان معسرا أخذا بظاهر الحديث وبناء على أصلهما أن العتق لا يتجزى ولهذا كان الولاء عندهما كله للمعتق في الوجهين جميعا وهو قول ابن أبي ليلى إلا في حرف واحد يقول إذا سعى العبد رجع به على المعتق إذا أيسر لأنه هو الذي ألزمه ذلك بفعله وقاس بالعبد المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر فسعى العبد في الدين رجع به على الراهن إذا أيسر.
ولكنا نقول إذا كانت عسرة المعتق تمنع وجوب الضمان عليه للساكت فكذلك يمنع وجوب الضمان عليه للعبد وإنما يسعى العبد في بدل رقبته وماليته وقد سلم له ذلك فلا يرجع به على أحد بخلاف المرهون فإنه ليس في بدل رقبته بل في الدين الذي هو ثابت في ذمة الراهن ومن كان مجبرا على قضاء دين في ذمة الغير من غير التزام من جهته يثبت له حق الرجوع به عليه.(7/192)
ص -94- ... فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى إن كان المعتق موسرا يعتق كله وهو ضامن لنصيب شريكه وإن كان معسرا فللشريك أن يستديم الرق في نصيبه ويتصرف فيه بما شاء وقال لا أعرف السعاية على العبد ووجه قوله أن عسرة العبد أظهر من عسرة المعتق لأنه ليس من أهل ملك المال فإذا لم يجب الضمان على المعتق لعسرته فكذلك لا يجب على العبد بل أولى لأن المعتق معسر جان والعبد معسر غير جان وهذا لو لزمه السعاية إنما تلزمه في بدل رقبته وليس للمولى ولاية إلزامه المال بدلا عن رقبته في ذمته كما لو كاتبه بغير رضاه فلأن لا يكون ذلك لغير المالك أولى.
"وحجتنا" في ذلك حديث بشر بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا قيمة عدل وإلا يستسعى العبد في نصيبه غير مستغرق عليه". والمعنى فيه أن نصيب الشريك مال متقوم وقد احتبس عند العبد لما قلنا أن بعد إعتاق البعض يمتنع استدامة الملك فيما بقي لوجوب تكميل العتق.
والدليل عليه حالة اليسار فإن حكم المحل لا يختلف بيسار المعتق وعسرته ومن احتبس ملك الغير عنده يكون ضامنا له موسرا كان أو معسرا وجد منه الصنع أو لم يوجد كما لو هبت الريح بثوب إنسان وألقته في صبغ إنسان فانصبغ كان لصاحب الصبغ أن يرجع عليه بقيمة صبغه إذا اختار صاحب الثوب إمساك الثوب وكذلك إذا استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة يضمن نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا لاحتباس نصيب الشريك عنده فكذلك هنا يجب على العبد السعاية في نصيب الشريك وإن كان معسرا لاحتباس نصيب الشريك عنده وهذا بخلاف بدل الكتابة لأن وجوبه بعقد التراضي ووجوب السعاية من طريق الحكم للاحتباس وذلك متقرر وإن لم يرض به العبد.(7/193)
فأما بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فنقول عنده العتق يتجزى فإنما عتق نصيب المعتق فقط وبقي نصيب الآخر على ملكه فله أن يعتقه كما كان له أن يعتقه قبل ذلك فإذا أعتقه كان الولاء بينهما كما لو أعتقاه معا وله أن يستسعي العبد في نصيبه لأن نصيبه احتبس عند العبد حين تعذر استدامة الملك فيه وإذا استسعاه فأدى السعاية عتق والولاء بينهما لأن نصيبه عتق من جهته وله أن يضمن شريكه إن كان موسرا لأنه مفسد عليه نصيبه لما تعذر عليه استدامة الملك بإعتاق نصيبه ثم بالتضمين يصير مملكا نصيبه من شريكه فيلتحق بما لو كان العبد كله له فأعتق نصفه حتى يتخير في النصف الباقي بين أن يعتقه وأن يستسعيه ولأنه بالتضمين يقيم المعتق في نصيبه مقام نفسه وقد كان له الخيار بين أن يعتقه أو يستسعيه فيثبت ذلك للمعتق بعد أداء الضمان.
فلهذا قال: يرجع على العبد بما ضمن والولاء كله له لأنه عتق من جهته وإن أعتق أحدهما نصيب شريكه منه لم يعتق لأن ملك الغير ليس بمحل للعتق في حقه والسراية عندهما(7/194)
ص -95- ... إنما تكون بعد مصادفة العتق محله وإذا لم يصادف محله كان لغوا ولو دبر أحدهما نصيبه وهو موسر.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى التدبير يتجزى لأن موجبه حق الحرية فيكون معتبرا بحقيقة الحرية فيبقى بعد تدبير المدبر نصيب الآخر على ملكه فينفذ عتقه فيه وللمدبر الخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه مدبرا وإن شاء استسعى العبد في ذلك لأنه تمكن نقصان في نصيبه بالتدبير لأنه وإن امتنع البيع ولكنه كان متمكنا من استدامة الملك إلى موته وإنما تعذر عليه ذلك بإعتاق الشريك فيضمنه إن كان موسرا وإنما يضمنه مدبرا لأنه أفسده وهو منقوص بنقصان التدبير ولم يرجع المعتق على العبد بما ضمن بإعتبار أنه يقوم مقام من ضمنه وقد كان للمدبر أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه مدبرا وأي ذلك فعل فالولاء بينهما هنا لأنه بالتدبير استحق ولاء نصيبه فلا يبطل ذلك وإن ضمن شريكه بخلاف القن.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حين دبره الأول صار الكل مدبرا له لأن التدبير عندهما لا يتجزى كالعتق ويضمن قيمة نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا لأنه صار متملكا على شريكه نصيبه وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار ثم إعتاق الثاني باطل لأنه أعتق ما لا يملكه وإن كان العبد بين ثلاثة نفر فدبره أحدهم ثم أعتقه الثاني وهما موسران.
فجواب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في هذا والأول سواء لأنه حين دبره أحدهم صار الكل مدبرا له وهو ضامن ثلثي قيمته لشريكيه موسرا كان أو معسرا وإن كان العبد بين ثلاثة دبره أحدهم وأعتقه الآخر فالإعتاق من الثاني بعد ذلك لغو.(7/195)
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تدبير المدبر يقتصر على نصيبه والإعتاق من الثاني صحيح لمصادفته المحل ثم للساكت أن يضمن المدبر ثلث قيمته إن كان موسرا وليس له أن يضمن المعتق لأن بالتدبير السابق صار نصيبه بحيث لا يحتمل النقل إلا إلى المدبر بالضمان فلو أثبت له حق تضمين المعتق انتقل نصيبه إلى المعتق بالضمان وذلك ممتنع بالتدبير السابق فلهذا يضمن المدبر دون المعتق وإن شاء استسعى العبد في ثلث قيمته، وإن شاء أعتقه وإذا ضمن المدبر فللمدبر أن يرجع بذلك على العبد فيسعى له فيه وللمدبر أيضا أن يضمن الذي أعتق ثلث قيمته مدبرا لأنه تعذر عليه استدامة الملك في نصيبه بإعتاق المعتق فكان له أن يضمنه ثلث قيمته مدبرا وليس له أن يضمن المعتق ما أدى إلى الساكت من قيمة نصيبه لأن الساكت لم يكن متمكنا من تضمين المعتق فكذلك من يقوم مقامه ولأن صنعه وهو الإعتاق وجد قبل أن يتملك المدبر نصيب الساكت فلهذا لا يضمنه قيمة هذا الثلث ويكون الولاء بين المدبر والمعتق أثلاثا ثلثاه للمدبر وثلثه للمعتق. وإذا كان العبد بين اثنين، فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتقه وصاحبه منكر ذلك فالعبد يسعى في جميع قيمته بينهما نصفين موسرين أو معسرين أو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا في قول أبي حنيفة، والولاء(7/196)
ص -96- ... بينهما نصفان فأما فساد رق العبد فلاتفاقهما على ذلك وهما يملكانه بطريق الإنشاء ثم يسار المعتق عنده لا يمنع وجوب السعاية على العبد فكل واحد منهما بشهادته على شريكه يدعي السعاية لنفسه في قيمة نصيبه على العبد ويدعي الضمان على شريكه إلا أن الضمان لم يثبت لإنكار الشريك فتبقى السعاية لكل واحد منهما على العبد وعند الأداء يعتق نصيب كل واحد منهما من جهته فكان الولاء بينهما.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله إن كانا موسرين فهو حر ولا سعاية عليه لأنهما تصادقا على حريته وكل واحد منهما يتبرأ من جهة السعاية ويدعى الضمان على شريكه لأن يسار المعتق عندهما يمنع وجوب السعاية عليه وما ادعى كل واحد منهما من الضمان على شريكه لم يثبت لإنكار شريكه(7/197)
وإن كانا معسرين يسعى العبد في قيمته بينهما لأن كل واحد منهما يدعي السعاية هنا فإنه يقول شريكي معتق وهو معسر وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى للموسر منهما في نصف قيمته ولم يسع للمعسر في شيء لأن الموسر يدعي السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو معسر وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى للموسر منهما في نصف قيمته ولم يسع للمعسر في شيء لأن الموسر يدعي السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو معسر فلى استسعاء العبد في قيمة نصيبي وأما المعسر يتبرى من السعاية ويقول شريكي معتق وهو موسر فحقي في الضمان قبله فلا يكون له أن يستسعى العبد بالتبري منه ولا يجب الضمان له على شريكه بجحوده والولاء في جميع ذلك موقوف عندهما لأن كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه فإن الولاء للمعتق وكل واحد منهما يزعم أن صاحبه هو المعتق فلهذا توقف الولاء وإذا أعتق أحد الشريكين العبد واختار الآخر تضمينه فإختلفا في قيمته يوم أعتقه فإن كان العبد قائما نظر إلى قيمته يوم ظهر العتق حتى إذا لم يتصادقا على العتق فيما مضى يقوم للحال لأن العتق حادث فيحال بحدوثه على أقرب أوقات ظهوره ووجوب الضمان بالإفساد أو الإتلاف فيكون المعتبر قيمته وقت تقرر السبب وذلك عند ظهور العتق فلهذا يقوم في الحال وكذلك إن أراد أن يستسعي العبد ألا ترى أن له أن يعتق نصيبه الساعة فكذلك له أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه الساعة ولو تصادقا أنه أعتقه قبل هذا كان عليه نصف القيمة يوم أعتقه حتى إذا انتقصت قيمته بزيادة السن فإنه لا تعتبر الزيادة والنقصان لأن السبب الموجب للضمان على الشريك هو العتق فينظر إلى قيمته عند ذلك كما في المغصوب تعتبر قيمته يوم الغصب وإن اختلفا في قيمته في ذلك الوقت فالقول قول المعتق لأن القيمة عليه فكان القول قوله في مقداره كما في المغصوب.(7/198)
وهذا لأن الشريك يدعي عليه الزيادة وهو منكر وهذا بخلاف الشفعة فإن المشتري لو أحرق البناء كان للشفيع أن يأخذ العرصة بحصتها من الثمن في قسمة الثمن وينظر إلى قيمة الأرض في الحال ويكون القول في قيمة البناء قول المشتري لأن الشفيع هناك يتملك على المشتري العرصة فهو يدعي لنفسه على المشتري حق التملك بأقل المالين والمشتري ينكر ذلك وهنا الساكت يملك المعتق نصيبه بالضمان فهو يدعي عليه حق التمليك فيه بأكثر المالين والمعتق منكر لذلك فإن مات الذي لم يعتق قبل أن يختار شيئا كان لورثته من الخيار ما كان له(7/199)
ص -97- ... لأنهم قائمون مقامه بعد موته وليس في هذا توريث الخيار بل المعنى الذي لأجله كان الخيار ثابتا للمورث موجود في حق الورثة فإن شاؤوا أعتقوا وإن شاؤوا استسعوا العبد وإن شاؤوا ضمنوا المعتق فإن ضمنوه فالولاء كله للمعتق لأنه بأداء الضمان إليهم يتملك نصيبهم كما كان يتملك بالأداء إلى المورث، وإن اختاروا الإعتاق أو الاستسعاء فالولاء في هذا النصيب للذكور من أولاد الميت دون الإناث لأن معتق البعض صار بمنزلة المكاتب والمكاتب لا تورث عينه وإن كان يورث ما عليه من المال فإنما عتق نصيب الساكت على ملكه والولاء يكون له فيخلفه في ذلك الذكور من أولاده دون الإناث إذ الولاء لا يورث وإن اختار بعضهم السعاية وبعضهم الضمان فلكل واحد منهم ما اختار من ذلك لأن كل واحد منهم فيما ناله قام مقام الميت.
وهذا لأن الملك بالإرث يثبت حكما فيكون بمنزلة الملك بالضمان فكما أن نصيب الساكت يحتمل التمليك بالضمان من المعتق فكذلك يحتمل الانتقال إلى الورثة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه ليس لهم ذلك إلا أن يجتمعوا على التضمين أو الاستسعاء وهذا هو الأصح لأنه صار بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يملك بالإرث فكذلك هم لا يملكون نصيب الساكت بعد موته.
والدليل عليه فصل الولاء الذي تقدم أنه لا يثبت لهم بالإعتاق ابتداء ولكنهم خلف المورث يقومون مقامه وليس للمورث أن يختار التضمين في البعض والسعاية في البعض فكذلك لا يكون للورثة ذلك
وفرع على تلك الرواية وقال لو أعتق أحد الورثة نصيبه لا يعتق ما لم يجتمعوا على إعتاقه بمنزلة المكاتب يعتقه أحد الورثة بعد موت المورث لا يعتق ولا يسقط به شيء من بدل الكتابة فهذا كذلك ولو لم يمت الساكت ولكن العبد مات قبل أن يختار الشريك شيئا فله أن يضمن المعتق قيمة نصيبه إن كان موسرا
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه ليس له أن يضمنه قيمة نصيبه بعد موت العبد(7/200)
ووجهه أن نصيبه باق على ملكه والضمان غير متقرر على الشريك ما لم يختر ضمانه فإذا هلك على ملكه فليس له أن يقرر الضمان على شريكه باختياره بعد ذلك وهذا لأن صحة اختيار التضمين متعلق بشرط وهو أن يملك نصيبه منه بالضمان وقد فات هذا الشرط بموته لأن الميت لا يحتمل التمليك.
وجه ظاهر الرواية أن وجوب الضمان عليه بالإعتاق لأن السبب وهو الإفساد قد تحقق به فكان ذلك بمنزلة الغصب وموت العبد بعد الغصب لا يمنع المغصوب منه من تضمين الغاصب وإن كان التمليك منه من حكم ذلك الزمان فكذلك هنا وهذا لأنه لما كان يضمنه من وقت العتق وكان محلا للتمليك عند ذلك فذلك الحكم لا يبطل بموته وإن خرج به من أن يكون محتملا للتمليك في الحال فإذا ضمن المعتق رجع بما ضمن في تركة الغلام لأن في حال حياته كان له أن يستسعيه فيما ضمن فإذا مات كان له أن يرجع به في تركته وإن كان معسرا رجع الشريك بقيمة نصيبه في تركة الغلام لأن السعاية له عليه مستحقة كبدل الكتابة فيستوفيه من تركته بعد موته وإن كان العبد ترك مالا قد اكتسب بعضه قبل العتق، وبعضه بعد(7/201)
ص -98- ... العتق فما اكتسب قبل العتق بين الموليين نصفان لأنه كان على ملكهما حين اكتسب هذا المال والكسب لمالك الأصل وما اكتسب بعد العتق فهو تركة العبد لأنه اكتسبه فيكون ذلك له يرجع فيه الساكت أو المعتق إذا ضمن وما بقي فهو ميراث للمعتق لأنه بالضمان ملك نصيب صاحبه فكان الولاء في الكل له وإن اختلفا فيه فقال أحدهما هذا مما اكتسبه قبل العتق وهو بيننا وقال الآخر اكتسب بعده فهو بمنزلة ما اكتسب بعده لأن الكسب حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات ومن ادعى فيه تاريخا سابقا لا يصدق إلا بحجة وإن اختلفا في قيمته والمعتق موسر فالقول قول المعتق لأن العبد ميت لا يمكن تقويمه في الحال ليستدل بذلك على قيمته فيما مضى فيتعين ظاهر الدعوى والإنكار والساكت يدعي لنفسه زيادة والمعتق منكر لذلك فإن كان المعتق معسرا ولا كسب للعبد فنصف القيمة دين للساكت على العبد إن ظهر له مال يستوفي منه وإن لم يظهر فليس هذا بأول مدين هلك مفلسا وإن كان العبد حيا فصالحه الساكت على أقل من نصف قيمته فهو جائز لأنه استوجب عليه نصف قيمته فهو بالصلح أسقط بعض حقه واستوفى البعض وذلك يستقيم كما في الكتابة وإن صالحه على أكثر من نصف قيمته بذهب أو ورق فالفضل باطل.
أما عندهما فلأن الواجب له نصف القيمة شرعا فالصلح على أكثر من جنسه يكون ربا وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن بقي له الملك في نصيبه ولكن العبد استحق العتق عند أداء نصف القيمة شرعا فلا يملك إبطال ذلك الاستحقاق بالصلح على أكثر منه وكذلك إن صالح المعتق على أكثر من نصف القيمة فالفضل مردود لأن حقه قبل العتق يتقدر بنصف القيمة فالصلح على أكثر منه يكون ربا
ثم هذا على أصلهما ظاهر فإن الصلح على المغصوب الهالك على أكثر من قيمته لا يجوز عندهما فكذلك هنا.(7/202)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق ويقول هناك المغصوب باق على ملك المغصوب منه ولم يستحق عليه تمليكه من الغاصب حتى أن له أن يبرئه من الضمان ليبقى هالكا على ملكه فإذا صالحه على أكثر من قيمته كان بدل الصلح بمقابلة ملكه وليس فيه إبطال حق مستحق شرعا فلا يتمكن فيه الربا وهنا الساكت غير متمكن من استبقاء نصيبه على ملكه ولكن يستحق عليه إزالته عن ملكه بنصف القيمة إما سعاية على العبد أو ضمانا يستوفيه من الشريك فإذا صالح على أكثر منه كان في هذا الصلح إبطال حق مستحق شرعا.
توضيحه أن المعتق يرجع على العبد بما يضمن فلو صححنا هذا الصلح رجع على العبد بالزيادة وكما ليس للساكت أن يلزم العبد أكثر من نصف القيمة بالصلح فكذلك لا يكون له أن يلزم من يرجع على العبد وإن صالحه على عروض أكثر من نصف قيمته فهو جائز لأنه لا يتمكن فيه الربا لاختلاف الجنس بخلاف ما إذا صالح على الذهب أو الورق وإنما لا يجوز هناك أيضا إذا كانت الزيادة بقدر ما لا يتغابن الناس فيه فأما مقدار ما يتغابن الناس فيه عفو لأن ذلك يدخل تحت تقويم المقومين فلا يتيقن بالزيادة.(7/203)
ص -99- ... قال "وإن صالح العبد على شيء من الحيوان إلى أجل فهو جائز بمنزلة الكتابة".
قال عيسى هذا غلط فإنه استحق السعاية على العبد وهو نصف القيمة فإذا صالح على حيوان كان ذلك بدلا عن نصف القيمة المستحق له ولا يثبت الحيوان دينا في الذمة بدلا عن ما هو مال ألا ترى أنه لو صالح المعتق على حيوان في الذمة لا يجوز فكذلك إذا صالح العبد.
وما ذكره في الكتاب أصح لأن نصيب الساكت باق على ملكه فإذا صالح على حيوان إلى أجل فكأنه كاتبه عليه وهذا لأنه ليس في هذا الصلح إبطال حق مستحق للعبد بخلاف ما إذا صالحه على أكثر من نصف قيمته وبخلاف ما إذا صالح المعتق على الحيوان لأن هناك يملك نصيبه بما يصح العتق عليه والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عن العتق وإذا أعتقه أحدهما وهو معسر ثم أيسر فلا ضمان عليه لأن صفة اليسار في العتق تعتبر لإيجاب الضمان فإذا انعدم وقت الإعتاق تقرر العتق غير موجب للضمان فلا يصير موجبا بعد ذلك كمن قطع يد مرتد ثم أسلم ثم مات وإن قال المعتق أعتقت وأنا معسر وقال الشريك بل أعتقت وأنت موسر نظر إلى حاله يوم ظهر العتق إما لأنه كالمنشىءللعتق في الحال أو لأنه لما وقع الاختلاف فيما مضى يحكم الحال فإذا كان في الحال موسرا فالظاهر شاهد لمن يدعي اليسار فيما مضى وإن كان معسرا في الحال فالظاهر شاهد لمن يدعي العسرة فيما مضى وهو كشرب الرحا مع المستأجر إذا اختلفا في جريان الماء في المدة يحكم الحال فإن تصادقا على أن العتق كان سابقا منه في مدة قد يختلف حاله فيه فالقول قول المعتق في إنكار يساره ولأنه ينكر المعنى الموجب للضمان فهو كإنكاره أصل الإعتاق.(7/204)
قال "وإن كان موسرا يوم أعتقه فاختار الشريك ضمانه ثم بدا له أن يبرئه ويستسعى الغلام لم يكن له ذلك" وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لو قضى القاضي له بالضمان أو رضى به المعتق فليس له أن يستسعي الغلام بعد ذلك وإلا فله ذلك قيل ما ذكره في الكتاب مطلقا محمولا على ذلك التفصيل وقيل بل المسألة على روايتين وجه ظاهر الرواية أن المخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما وهذا لأنه باختياره التضمين يصير مملكا نصيبه من المعتق حتى يكون ولاؤه له والولاء لا يحتمل الفسخ فلا يمكنه الرجوع عنه بعد ذلك ومن ضرورة تمليكه منه إسقاط حقه في السعاية قبل العبد ووجه رواية محمد رحمهما الله تعالى أن التمليك منه لا يتم إلا بالقضاء أو الرضا وإن كان ذلك مستحقا شرعا كالتمليك بالأخذ بالشفعة وحقه في الضمان.
لا يتقرر ما لم يتم التمليك وسقوط حقه في الاستسعاء بناء على تقرر حقه في الضمان وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هكذا ينبغي في الغاصب وغاصب الغاصب أنه إذا اختار تضمين أحدهما فقبل القضاء أو الرضا ممن اختار ضمانه يكون له أن يرجع فيضمنه الآخر فأما إذا اختار استسعاء العبد فليس له أن يضمن الشريك بعد ذلك لأنه(7/205)
ص -100- ... ليس فيه تمليك من أحد بل فيه تقرير لملكه وإبراء للمعتق عن الضمان وذلك يتم به كما لو أذن له في أن يعتق نصيبه ولو أن المعتق رجع على العبد بما لزمه من الضمان ثم أحال الساكت عليه ووكله بقبض السعاية منه اقتضاء من حقه كان جائزا والولاية للمعتق لأنه بمنزلة المكاتب للمعتق والمولى إذا أحال غريما له بدينه على مكاتبه ليقبضه من بدل الكتابة كان صحيحا وكان صاحب الدين بمنزلة الوكيل يقبض له أولا ثم لنفسه وإن لم يختر شيئا حتى جرحه إنسان كان الإرش عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب لما عليه من السعاية أما للساكت أو للمعتق ومن جنى على مكاتبه أو على مكاتب غيره فعليه الأرش يقبضه فيستعين به في سعايته ولا تكون جنايته اختيارا منه للسعاية لأن موجب جنايته لا يختلف بالاستسعاء أو تضمين الشريك فليس فيه ما يدل على اختيار السعاية وكذلك لو اغتصب منه مالا فيه وفاء بنصف قيمته أو أقرض العبد أو بايعه كان ذلك عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب له أو لغيره وهو على خياره لأن موجب هذه المعاملة لا يختلف بالاستسعاء والتضمين ولو أعتق جزءا من عبده أو شقصا منه أو بعضه فعندهما يعتق كله.(7/206)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى البيان إليه لأن ما سمي يطلق على القليل والكثير منه فأي مقدار عنى منه يعتق ذلك القدر ويستسعيه فيما بقي وإن أعتق سهما منه فالسهم في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى السدس كما قال في الوصية بسهم من ماله وقد بينا هذا في الإقرار فيستسعيه في خمسة أسداس وإذا أعتق أمة بينه وبين آخر ثم ولدت فللشريك أن يضمن المعتق قيمة نصيبه يوم أعتق ولا يضمنه شيئا من قيمة الولد لأنه ما صنع في الولد شيئا ولأنه لم يثبت حق الشريك في الولد لأنها كانت مكاتبة حين ولدت والمكاتبة أحق بولدها كما أنها أحق بكسبها وإذا كان العبد بين ثلاثة رهط فأعتق أحدهم نصيبه ودبر الآخر وكاتب الآخر ولا يعلم أيهم أول فنقول أما على قول أبي حنيفة عتق المعتق في نصيبه نافذ ولا ضمان له على أحد تقدم تصرفه أو تأخر وتدبير المدبر في نصيبه أيضا نافذ وهو مخير إن شاء استسعى العبد في ثلث قيمته مدبرا وإن شاء ضمن المعتق فإذا اختار التضمين ضمنه سدس قيمته مدبرا ورجع على العبد بسدس قيمته استحسانا وفي القياس ليس له حق التضمين لأن التدبير منه إن سبق فله حق تضمين المعتق وإن تأخر فليس له حق تضمينه والضمان لا يجب بالشك ولأن تدبيره مانع من تمليك نصيبه من المعتق بالضمان وهو شرط التضمين إذا سبق العتق وفي الاستحسان اعتبر الأحوال فقال من وجه هو قياس له ثلث قيمته وهو أن يكون التدبير سابقا ومن وجه لا يكون ضامنا شيئا فيضمنه سدس القيمة باعتبار الأحوال ومن وجه يستسعى العبد فيما بقي وهو سدس القيمة لأنه يستوجب السعاية عليه على كل حال فأما المكاتب فإن مضى العبد على كتابته يؤدي إليه مال الكتابة والولاء بينهم أثلاثا وإن عجز كان للمكاتب أن يضمن المعتق والمدبر قيمة نصيبه نصفين إذا كانا موسرين لأنه ليس أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من الآخر ويرجعان على العبد بما ضمنا ويكون(7/207)
ص -101- ... ولاؤه بينهما نصفين ولم يذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في الكتاب.
وذكر في الزيادات إذا كان العبد بين اثنين أعتقه أحدهما ودبره الآخر ولا يعلم أيهما أول فعلى قول أبي يوسف يترجح العتق على التدبير فيكون ولاؤه للذي أعتقه وللمدبر أن يضمن شريكه نصف قيمته فيما إذا كان موسرا.
وعند محمد رحمه الله تعالى يجعل كأنهما وقعا معا ثم يغلب العتق فيعتق كله والولاء بينهما وللمدبر أن يعتق نصف قيمته مدبرا إذا عرفنا هذا فنقول الكتابة من الثالث أول عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يسبق العتق فيكون للمكاتب والمدبر ضمان قيمة الثلثين على المعتق والولاء كله للمعتق.
وعند محمد رحمه الله تعالى المكاتب يضمن المدبر والمعتق قيمة نصيبه بينهما نصفين كأنهما وقعا معا وقيل بل ذلك في نصيبه خاصة فأما في نصيب المكاتب العتق أقوى من التدبير فإنما يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا كان موسرا وإن كان العبد بين خمسة رهط فأعتق أحدهم ودبر الآخر وكاتب الثالث نصيبه وباع الرابع نصيبه وقبض الثمن وتزوج الخامس على نصيبه ولم يعلم أيهم أول فنقول:(7/208)
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحكم العتق والتدبير على ما بينا في الفصل الأول إلا أن التضمين والاستسعاء هناك في الثلث وهنا في الخمس لأن نصيب المدبر الخمس هنا. فأما في البيع فإن تصادقا أنه كان بعد العتق والتدبير أو قال البائع كان قبل العتق والعبد في يده وقال المشتري كان بعده فالبيع باطل لأن معتق البعض لا يباع فالمبطل للبيع ظاهر في الحال أو يجعل كأنهما وقعا معا فكان البيع باطلا وإن تصادقا أنه كان قبل العتق والتدبير فالمشتري بالخيار إن شاء نقض البيع لتغير المبيع في ضمان البائع وإن شاء أمضاه وأعتق نصيبه واستسعاه فيكون ولاؤه له وإن شاء ضمن المعتق والمدبر قيمة نصيبه إن كانا موسرين إذ ليس أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من الآخر ويرجعان به على العبد. وأما المرأة فإن تصادقا أن التزويج كان بعد العتق أو التدبير فالنكاح صحيح ولها خمس قيمته على الزوج لأنه تبين أنه تزوجها على من هو كالمكاتب وإن تصادقا على أن التزويج كان قبل العتق والتدبير فلها الخيار للتغير إن شاءت تركت المسمى وضمنت الزوج خمس قيمته وإن شاءت أجازت وأعتقت واستسعت العبد في خمس قيمته وولاء خمسه لها وإن شاءت ضمنت المعتق والمدبر خمس قيمته نصفين ثم لا تتصدق هي بالزيادة إن كانت بخلاف المشتري لأن المشتري إنما حصل له ذلك بمال فيتصدق بربح حصل لا على ضمانه والمرأة تملكت ذلك لا بأداء مال فلا يظهر الربح في حقها. فأما نصيب المكاتب فهو على ما ذكرنا إن أدى البدل إليه عتق من قبله وإن عجز كان له أن يضمن المدبر والمعتق قيمة نصيبه نصفين إن كانا موسرين.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فالجواب في العتق، والتدبير على ما(7/209)
ص -102- ... قلنا. فأما البيع فإن تصادقا أنه كان البيع أولا ثم العتق ثم التدبير فللمشتري الخيار وإذا اختار إمضاء البيع ضمن المعتق خمس قيمته إذا كان موسرا ليس له إلا ذلك وإن تصادقا أنه كان البيع ثم التدبير ثم العتق واختار المشتري الامضاء للتدبير ضمن المدبر خمس قيمته موسرا كان أو معسرا ليس له إلا ذلك .وأما التزويج فإن تصادقا أنه كان التزويج ثم العتق ثم التدبير فاختارت الإجازة ضمنت المعتق خمس القيمة ليس لها إلا ذلك إذا كان موسرا وإن كان معسرا استسعت الغلام في خمس القيمة وإن كان التزويج ثم التدبير ثم العتق ضمنت المدبر خمس قيمته موسرا كان أو معسرا ليس لها إلا ذلك وإن تصادقا أن التزويج كان بعد العتق فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ترجع على الزوج بخمس القيمة وعند محمد رحمه الله تعالى لها مهر مثلها لأنه ظهر أنه تزوجها على حر.(7/210)
وقد بينا في كتاب النكاح اختلافهما فيما إذا تزوجها على عبد فإذا هو حر فأما الكتابة فهو باطل عندهما كما بينا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى للمكاتب أن يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا كان معسرا وعند محمد رحمه الله تعالى يضمنه الأقل من قيمة نصيبه ومن بدل الكتابة على قياس ما يأتي بعد هذا من اختلافهم في المكاتب بين اثنين يعتقه أحدهما، ولو كان في العبد شريك سادس وهب نصيبه لابن له صغير لا يعلم قبل العتق كان أو بعده فالقول فيه قول الأب لأنه هو المملك فإن قال الهبة بعد العتق فهو باطل. وإن قال الهبة قبل العتق فالهبة جائزة ثم يقوم الأب في نصيب الابن مقام الابن أن لو كان بالغا في التضمين أو الاستسعاء وليس له حق الإعتاق فإن كان المعتق والمدبر موسرين ضمنهما سدس قيمته للابن لأن الاستسعاء بمنزلة الكتابة وللأب ولاية الكتابة في مال ولده. وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد لم يكن للآخر أن يبيع نصيبه ولا يهبه ولا يمهره لأنه صار بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يحتمل التمليك بشيء من الأسباب فإن كاتبه على أكثر من نصف قيمته طرح الفضل عنه لأن هذا بمنزلة الاستسعاء منه وقد بينا أنه لو استسعاه وصالحه على أكثر من نصف قيمته دراهم أو دنانير فالفضل مردود. وإن كاتبه على عروض أكثر من نصف قيمته جاز كما لو صالحه من السعاية على عروض لأن الفضل لا يتحقق هنا فإن عجز عن الكتابة سقط عنه ما التزم من العروض ويجبر على السعاية في نصف القيمة كما كان قبل الكتابة ولا يكون له أن يضمن الشريك شيئا لأن مكاتبته بمنزلة الاستسعاء منه واختياره السعاية يسقط حقه في تضمين الشريك فليس له أن يرجع فيه فيضمنه شيئا، وكذلك لو كان قال قد اخترت السعاية فليس له أن يضمن الشريك بعد ذلك والخيار في هذا عند السلطان وعند غيره سواء لأن الخيار ثابت للساكت شرعا فمن يختار بنفسه يكون ملتزما إياه ولو لم يختر واحدا منهما حتى يموت المعتق كان للساكت أن يرجع(7/211)
بالضمان في ماله لأن حق التضمين قد ثبت له بالعتق في الصحة فلا يسقط ذلك بموته كسائر ديونه. وإذا باع الذي لم يعتق نصيبه من المعتق أو وهبه على عوض أخذه منه فإن هذا واختيار الضمان سواء في القياس لأنه تمليك لنصيبه منه بعوض يستوفيه(7/212)
ص -103- ... منه. والتضمين ليس إلا هذا غير أن هذا افحشهما لأن في التضمين تمليكا حكما بسبب ذلك العتق وفي البيع والهبة بعوض تمليك مبتدأ بسبب ينشآنه في الحال. ومعتق البعض لا يحتمل ذلك فباعتبار السبب كان هذا افحش وباعتبار حكم السبب كان هذا والتضمين سواء والمقصود الحكم دون السبب إلا أنه إن كان العوض أكثر من نصف القيمة من الدراهم أو الدنانير فالفضل باطل كما بيناه في الصلح، وإن دبر الساكت نصيبه فتدبيره اختيار للسعاية لأن موجب التضمين تمليك نصيبه من صاحبه بالضمان وقد فوت ذلك بالتدبير لأنه استحق ولاء نصيبه فكان ذلك إبراء للمعتق عن الضمان واختيارا للسعاية، وإن كان العتق بعد التدبير ضمن المعتق نصف قيمته مدبرا إن كان موسرا لأنه إنما تعذر عليه استدامة الملك في نصيبه بإعتاق المعتق وكان نصيبه عند الإعتاق مدبرا فلهذا ضمنه نصف قيمته مدبرا وإن لم يعلم أيهما أول فهو على القياس والاستحسان الذي بينا في القياس لا ضمان على المعتق.
وفي الاستحسان يضمن ربع قيمته مدبرا ويرجع به المعتق على العبد وعلى العبد مثل ذلك للمدبر والولاء بينهما، ولو كان العبد بين صغير وكبير فأعتقه الكبير وهو غني وللصغير أب أو وصي فهو قائم مقامه في اختيار التضمين أو الاستسعاء وليس له أن يعتق لأنه تبرع وذلك لا يثبت للأب والوصي في مال الولد فإن لم يكن له أب ولا وصي استؤني به بلوغه ليختار إما الضمان أو الإعتاق أو الإستسعاء.
وقيل هذا إذا كان في موضع لا قاضي فيه فإن كان في موضع فيه قاض نصب القاضي له قيما يختار التضمين أو الاستسعاء فإن ذلك أنفع للصبي لأنه يتعذر التصرف في نصيب الصبي من العبد بعد العتق(7/213)
وكذلك إن كان مكان الصبي مكاتب أو عبد مأذون عليه دين فهو مخير بين الضمان والسعاية وليس له أن يعتق لأنه تبرع لا يحتمله كسب المكاتب والمأذون فأما التضمين والاستسعاء فله ذلك في المكاتب لأن المكاتب يملك أن يكاتب والاستسعاء بمنزلة الكتابة. فأما في العبد المديون فينبغي أن يكون له حق التضمين فقط لأن الاستسعاء بمنزلة الكتابة وليس للمأذون أن يكاتب.
ولكن قال سبب الاستسعاء قد تقرر وهو عتق الشريك على وجه لا يمكن إبطاله وربما يكون الاستسعاء أنفع من التضمين فلهذا ملك المأذون ذلك وإن كان لا يملك الكتابة ابتداء. وإذا اختار المكاتب أو المأذون التضمين أو الاستسعاء فولاء نصيبهما للمولى لأنه ليس من أهل الولاء فثبت الولاء لأقرب الناس إليهما وهو المولى وإن لم يكن على العبد دين فالخيار للمولى كما يكون بين حرين لأن كسب العبد مملوك للمولى في هذه الحالة وإذا قال أحد الشريكين للعبد إن دخلت المسجد اليوم فأنت حر وقال له الآخر إن لم تدخل المسجد اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال كل واحد منهما حنث صاحبي فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يسقط نصف السعاية عن العبد. وعند محمد رحمه الله تعالى لا يسقط عنه شيء من السعاية إذا كانا معسرين لأن كل واحد من الشريكين شاهد على صاحبه(7/214)
ص -104- ... بالعتق فلا يسقط شيء من السعاية عن العبد إذا كانا معسرين وهذا لأن المقضي عليه بسقوط حقه في السعاية مجهول والقضاء بالمجهول لا يجوز ألا ترى أنه لو كان بينهما عبدان سالم وبزيع فقال أحدهما إن دخلت المسجد اليوم فسالم حر وقال الآخر إن لم تدخل اليوم فبزيع حر فمضى اليوم ولا يدري أدخل أو لم يدخل لا يسقط شيء من السعاية عن العبد لجهالة المقضي عليه منهما فهذا مثله.
وهما يقولان تيقن القاضي بحنث أحدهما وسقوط نصف السعاية عن العبد ولا يجوز له أن يقضي بوجوب ما تيقن سقوطه كمن طلق إحدى نسائه الأربع قبل الدخول ثم مات قبل أن يبين سقط نصف الصداق للتيقن به. وإن كان المقضي عليها منهن مجهولا ولكن لما كان المقضي له معلوما جاز القضاء به فهنا أيضا المقضي له بسقوط نصف السعاية عنه معلوم وهو العبد فيجوز القضاء به وإن كان المقضي عليه مجهولا بخلاف العبدين فإن الجهالة هناك في المقضي له والمقضي عليه جميعا فيمتنع القضاء لتفاحش الجهالة وبخلاف ما لو شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعتق لأن هناك لم يتيقن بسقوط شيء من السعاية عن العبد لجواز أن يكونا كاذبين في شهادتهما وهنا تيقنا بسقوط نصف السعاية لأن أحد الموليين حانث لا محالة.
ثم تخريج المسألة على قول أبي حنيفة أن العبد يسعى في نصف قيمته بينهما نصفين موسرين كانا أو معسرين أو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا لأنه ليس أحدهما بإسقاط حقه في السعاية بأولى من الآخر ويسار المعتق عنده لا يمنع وجوب السعاية على العبد فيتوزع الساقط عليهما نصفين ويكون الباقي وهو نصف القيمة بينهما نصفان.(7/215)
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كانا معسرين فكذلك الجواب وإن كانا موسرين لم يسع لواحد منهما في شيء لأن كل واحد منهما يدعى الضمان على شريكه ويتبرى من السعاية فإن يسار المعتق عنده يمنع وجوب السعاية وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى في ربع قيمته للموسر منهما لأن المعسر يتبرأ من السعاية والموسر يقول شريكي معتق وهو معسر فلي حق استسعاء العبد فلهذا يسعى له في ربع قيمته.
وعند محمد رحمه الله تعالى إن كانا معسرين يسعى في جميع قيمته بينهما نصفان وإن كانا موسرين لا يسعى لواحد منهما لأن كل واحد منهما تبرأ من السعاية فإن يسار المعتق عنده يمنع وجوب السعاية
وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى في نصف قيمته للموسر منهما لأنه يدعي السعاية عليه ولا يسعى للمعسر في شيء لأنه يتبرأ من السعاية ويدعي الضمان على شريكه فعليه إثباته بالحجة "رجل أعتق عبده عند الموت ولا مال له غيره فأمر العبد موقوف في جنايته وشهادته ونكاحه بغير إذن المولى" وهذا بخلاف ما لو وهبه من إنسان في مرضه فإن الهبة تكون صحيحة حتى لو كانت جارية حل للموهوب له وطؤها بعد الاستبراء والأصل أن كل تصرف يحتمل النقض بعد نفوذه فهو نافذ من المريض لقيام ملكه(7/216)
ص -105- ... في الحال والهبة من هذا النوع وكل تصرف لا يحتمل النقض بعد نفوذه يتوقف من المريض لأن حاله متردد بين أن يبرأ فيكون متصرفا في حق نفسه أو يموت فيكون متصرفا في حق ورثته ولا يمكن دفع الضرر عن الورثة بالإبطال بعد النفوذ لأن هذا النوع من التصرف لا يحتمل ذلك فيدفع الضرر عنهم يتوقف حكم التصرف على ما يتبين في الثاني والعتق من هذا النوع فيوقف منه حتى إذا بريء من مرضه تبين أنه كان نافذا وأن حاله في الجناية والشهادة كحال الحر وإن مات من مرضه وهو يخرج من ثلثه
وكذلك إن لم يكن له مال سواه فعليه السعاية في ثلثي قيمته لأن العتق في المرض وصية لا تنفذ إلا من الثلث وما دام يسعى فهو كالمكاتب لأن سعايته في بدل رقبته فهو بمنزلة معتق البعض يكون كالمكاتب ما دام يسعى بخلاف المرهون يعتقه الراهن وهو معسر فهو وإن كان يسعى في الدين إلا أن السعاية هناك ليس في بدل الرقبة بل في الدين الذي هو على الراهن ولهذا يرجع عليه إذا أيسر فلا يمنع سلامة الرقبة له وهنا السعاية في بدل الرقبة فلا تسلم له رقبته ما لم يؤدها وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد في مرضه ثم مات وهو موسر لم يضمن حصة شريكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقالا هو ضامن لشريكه قيمة نصيبه تستوفي من تركته لأن هذا ضمان الإتلاف والإفساد فإذا تقرر سببه من المريض كان هو والصحيح سواء كضمان المغصوب والمتلفات وهذا ضمان التملك فيستوي فيه الصحيح والمريض كالضمان بالإستيلاد والحجر بسبب المرض لا يكون أعلى من الحجر بسبب الرق ثم المكاتب لو كاتب نصيبه كان ضامنا لنصيب شريكه فالمريض أولى.(7/217)
وحجة أبي حنيفة رحمه الله ما قال في الكتاب من قبل أن الضمان لو وجب لوجب أن يكون من مال الورثة يعني إن تركته تنتقل إلى ورثته بالموت فلو استوفى ضمان العتق إنما يستوفي من مال الوارث ولا سبب لوجوب هذا الضمان على الوارث فإن قيل: لا كذلك بل هذا دين لزمه فيمنع انتقال المال إلى وارثه.
قلنا: ما لزمه شيء قبل أن يختار الشريك ضمانه ولو لزمه فهذا ليس بدين صحيح يتقرر ألا ترى أن العسرة تمنع وجوبه ومثل هذا الدين لا يمنع ملك الوارث ثم تقريره من وجهين أحدهما أن هذا في الصورة دين وفي المعنى صلة لأن وجوبها لإكمال الصلة وهو العتق والصلة وأن تقرر سببها في حياته يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يتعين من الثلث.
ولهذا الحرف قال ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه إن كان الضمان يخرج من ثلث ماله يجب وإلا فلا
ولكنا نقول لكونه في حكم الصلات لا يمنع نقل الملك إلى الوارث ولا يجوز استيفاؤه من مال الوارث لما قلنا ولأن المرض أنفى للضمان من الفقر حتى أن الفقر لا يمنع ضمان الكفالة والمرض يمنع منه فيما زاد على الثلث فإذا كان الفقر ينفي وجوب الضمان للعتق أصلا فلأن ينفيه من مرض الموت أصلا أولى وهذا بخلاف المكاتب لأن(7/218)
ص -106- ... الضمان هناك يجب في كسبه وهو أحق بكسبه يدا وتصرفا إنما ينعدم بسبب الرق حقيقة الملك والغنا. وقد بينا أنه لا معتبر بالغنا في وجوب ضمان العتق إنما المعتبر هو اليسر والأداء على المكاتب متيسر هناك من كسبه والمكاتب فيما يتقرر منه من أسباب الصلة كالحر ألا ترى أن المحاباة اليسيرة تصح منه بالإتفاق ومن المريض تعتبر من ثلثه وهذا بخلاف ما لو كان العتق في الصحة فإن الضمان يستوفي من تركته بعد موته لأن السبب هناك تقرر في حال كونه مطلق التصرف في الصلات فيتقرر وجوبه عليه ألا ترى أنه لو كفل بمال في صحته فهو معتبر من جميع ماله بخلاف ما إذا كفل في مرضه فهذا مثله وإذا أعتق أحد الشريكين العبد ثم اختلفا فقال المعتق أعتقته وأنا معسر عام أول ثم أصبت مالا بعد ذلك وقال الآخر بل أعتقته عام أول وأنت موسر فالقول قول المعتق لأن حاله يتبدل في مثل هذه المدة وإن أقاما البينة فالبينة بينة الساكت لأنه يثبت اليسار والضمان لنفسه بسببه. وإذا كان العبد بين رجلين فقال أحدهما إن لم أضربه اليوم فهو حر وقال الآخر إن ضربته سوطا فهو حر فضربه سوطين ثم مات منهما ففي المسألة حكمان حكم العتق وحكم الجناية أما حكم العتق أنه يعتق نصيب الذي لم يضربه لوجود شرط حنثه حين ضربه سوطا وإن كان موسرا فللضارب الخيار بين أن يضمنه نصف قيمته مضروبا سوطا وبين أن يستسعي العبد في ذلك لأنه إنما صار معتقا له وهو منقوص بضرب السوط الأول وقد بينا أن إيجاد الشرط من الضارب لا يسقط حقه في الضمان فلهذا كان له أن يضمنه نصف قيمته مضروبا سوطا وأما حكم الجناية فإن الضارب يضمن نصف ما نقصه السوط الأول لشريكه في ماله لأن جنايته بضرب السوط الأول لاقى ملكا مشتركا بينهما ثم قد انقطعت سراية هذه الجناية بالعتق بعدها والجناية على المماليك فيما دون النفس لا تعقله العاقلة فلهذا يضمن له نصف النقصان بالسوط الأول في ماله ثم يضمن ما نقصه السوط الآخر كله لأنه(7/219)
صار بمنزلة المكاتب حين أعتق نصيبه وجنايته على مكاتبه وعلى مكاتب غيره موجبة للضمان عليه ويضمن نصف قيمته بعد السوطين لأنه مات من السوطين جميعا وأحدهما صار هدرا والآخر معتبر فيضمن نصف قيمته مضروبا سوطين ويجمع ذلك مع نقصان السوط الثاني فيكون على العاقلة لأن الجناية الثانية صارت نفسا فما يجب باعتبارها يكون على العاقلة وهذا تركة العبد يستوفي منه الشريك ما ضمن لأنه كان له حق الرجوع على العبد بما ضمن لشريكه فيرجع في تركته بعد موته وما بقي بعده فهو ميراث للمعتق لأن الولاء قد صار له في الكل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يغرم نقصان السوط الثاني لأنه بعتق البعض عتق كله والنقصان غير معتبر في الجناية على الأحرار ولكن يجب نصف ديته على عاقلته فإن كان له وارث فهو لوارثه وإلا فهو للمعتق ولا يرجع فيه بشيء مما ضمن لشريكه وإن كان المعتق معسرا فإن الشريك الذي لم يعتق لم يرجع بما غرمه من نقصان السوط الآخر(7/220)
ص -107- ... ومن نصف قيمته مضروبا سوطين بل بنصف قيمة العبد لأنه كان له حق استسعاء العبد في ذلك فيستوفيه من تركته وما بقي فهو بين الشريك والمعتق وبين أقرب الناس إلى الضارب من العصبة لأن الولاء بينهما ولكن الضارب قاتل فيكون محروما عن الميراث ويجعل كالميت فيقوم أقرب عصبة مقامه في ذلك وعندهما الواجب نصف الدية يستوفي منه الضارب نصف القيمة وهو السعاية وما بقي فهو كله للمعتق لأن الولاء في الكل له عندهما.
وإذا قال كل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر فملك مملوكا مع غيره لا يعتق لأن شرط عتقه أن يملك مملوكا مطلقا ونصف المملوك لا يتناوله هذا الاسم فإن اشترى نصيب شريكه عتق لأن الشرط قد تم حين صار الملك في الكل له ولا فرق بين أن يملك المملوك جملة أو متفرقا وإن باع نصيبه أولا ثم اشترى نصيب شريكه لم يعتق لأنه لم يحصل في ملكه مملوك تام في شيء من أحواله والعرف الظاهر بين الناس أنهم يريدون بهذا اللفظ الملك التام ولو قال لمملوك بعينه إذا ملكتك فأنت حر فاشترى نصفه ثم باع ثم اشترى النصف الباقي عتق لأن الشرط قد تم حين اشترى النصف الباقي والموجود في ملكه هذا النصف يعتق والقياس في المعين وغير المعين سواء غير أنه استحسن وفرق بينهما بحرفين:
"أحدهما" أن الوصف في المعين غير معتبر والاجتماع في الملك وصف فيعتبر ذلك في غير المعين ولا يعتبر في المعين.(7/221)
"والثاني" العادة فإن الإنسان يقول ما ملكت قط مائة درهم ولا يريد بذلك مجتمعا لا متفرقا وفي المعين لا يقول ما ملكت هذه المائة درهم إذا كان ملكها متفرقا وإن قال إن اشتريته فهو حر فاشتراه شراء فاسدا لم يعتق لأن شرط حنثه تم قبل أن يقبضه ولا ملك له في القبض ألا ترى أنه لو أعتقه لا ينفذ عتقه فإن كان في يده حين اشتراه عتق ومراده إذا كان مضمونا بنفسه في يده حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيصير متملكا بنفس الشراء فيعتق لوجود الشرط وإذا جنى المستسعى فهو بمنزلة المكاتب يحكم عليه بالأقل من أرش الجناية ومن قيمته لأن الرق فيه باق وهو أحق بمكاسبه فيكون كالمكاتب في جنايته ألا ترى أنه كالمكاتب في الجناية عليه فإن جنى جناية أخرى بعد الحكم بالأولى حكم في الثانية بمثل ذلك لأن الأولى بالقضاء تحولت إلى كسبه فتتعلق الثانية برقبته وإن لم يكن حكم بالأولى تحاصا في القيمة لأنهما تعلقا برقبته فلا يلزمه باعتبارهما إلا قيمة واحدة وبيان هذه الفصول في كتاب الديات وإن حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيه إنسان فعليه أن يسعى في قيمته لأنه متعد فيه فهو في حكم الضمان كجنايته بيده وإن وقع فيه آخر اشتركوا في تلك القيمة لاستناد الجنايتين إلى سبب واحد وهو الحفر ولا يجب بالسبب الواحد إلا قيمة واحدة وإن وجد في داره قتيل سعى في قيمته لأن التدبير في حفظ داره إليه فكان حكم القتيل الموجود فيها كحكم الذي جنى عليه بيده وما أفسد من الأموال فهو عليه بالغا ما بلغ لأنه بمنزلة المكاتب في ذلك كله عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو حر في جميع أحكامه وإذا أعتق أحد الشريكين الجارية وهي(7/222)
ص -108- ... حامل ثم أعتق الآخر ما في بطنها ثم أراد أن يضمن شريكه نصف قيمة الأم لم يكن له ذلك وهذا اختيار منه للسعاية لأنه بإعتاق الجنين استحق ولاءه وهو في حكم جزء من أجزاء الأم ولو اكتسب سبب الولاء في جزء منها سقط حقه في تضمين الشريك ولأنه منع تمليك ما في بطنها من الشريك بالضمان فلهذا صار به مختارا للسعاية ولو أعتقا جميعا ما في بطنها ثم أعتق أحدهما الأم وهو موسر كان لصاحبه أن يضمنه نصف قيمتها إن شاء لأن بعد إعتاق الجنين كانا يتمكنان من استدامة الملك فيها والتصرف بعد الوضع وقد امتنع على الساكت ذلك بإعتاق الشريك وهو موسر فكان له أن يضمنه نصف قيمتها إن شاء والحبل نقصان في بنات آدم لا زيادة فإنما يضمنه نصف قيمتها حاملا لأنه أعتقها وهي على هذه الصفة والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في عتق الشركاء
قال "وإذا شهد الشاهدان أن أحد الشريكين أعتق العبد ولا يدرون أيهما هو وجحد الموليان لم تجز شهادتهما" لأنهما لم يبينا المعتق منهما.
والحجة هي البينة فما لا تكون مبينة لا تكون حجة ولأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء ولا يتمكن القاضي من الإيجاب على المجهول فإن شهد أحد الشريكين على صاحبه بالعتق لم تجز شهادته لأنه في الحقيقة يدعي إما الضمان على شريكه أو السعاية على العبد في نصيبه ولكن الرق يفسد بإقراره لأنه متمكن من إفساد الرق بإعتاقه فإذا أقر بفساد الرق بإعتاق الشريك يعتبر إقراره في ذلك ثم يسعى العبد في قيمته بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى موسرين كانا أو معسرين أو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا لأن يسار المعتق عنده لا يمنع وجوب السعاية فالشاهد منهما يقول شريك معتق ولي حق استسعاء العبد مع يساره والمشهود عليه يقول الشاهد كاذب ولا ضمان لي عليه ولكن لي حق استسعاء العبد لاحتباس نصيبي عنده.(7/223)
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن كان المشهود عليه معسرا فكذلك الجواب وإن كان موسرا يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته ولا يسعى للشاهد في شيء لأن المشهود عليه يدعى السعاية مع يسار الشاهد فإنه يزعم أنه كاذب وليس بمعتق فلا يضمن شيئا مع يساره فإن الشاهد تبرأ من السعاية عند يسار المشهود عليه لأنه يقول هو معتق ضامن لنصيبي ويدعي السعاية عند عسرة المشهود عليه فيسعى له في هذه الحالة ولو شهد أحد الشريكين مع آخر على شريكه باستيفاء السعاية لم تجز شهادته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه شهد لعبده فإنه بمنزلة المكاتب لهما ما دام يسعى والمكاتب عبد لمولاه ولأنه متهم فلعله قصد استخلاص كسبه لنفسه بشهادته على صاحبه بالاستيفاء وكذلك لو شهد عليه بغصب أو جراحة أو شيء يجب به عليه مال فشهادته مردودة لأنه شاهد لعبده. عبد بين ثلاثة شهد اثنان منهم على صاحبهما أنه أعتقه فحكم على العبد أن يسعى لهم في قيمته فأدى إلى واحد منهم(7/224)
ص -109- ... شيئا كان ذلك بينهم أثلاثا لأن السعاية وجبت لهم عليه بسبب واحد فيكون المستوفى مشتركا بينهم ولأنه بمنزلة العبد لهم فلا يكون لأحدهم حق الاختصاص بشيء من كسبه فإن شهد اثنان منهم على الآخر أنه استوفى منه حصته لم تجز شهادتهما من قبل أنهما يجران إلى أنفسهما منفعة حتى يأخذا منه ثلثي ما استوفاه وكذلك إن شهدا أنه استوفى المال كله بوكالة منهما لم تجز شهادتهما عليه لما قلنا ويبرأ العبد من حصتهما لإقرارهما فيه بقبض مبرىءفإن قبض وكيلهما في براءة المديون كقبضهما ويستوفي المشهود عليه حصته من العبد ولا يشاركه في ذلك الشاهدان لأنهما أسقطا حقهما بالشهادة السابقة ولأنهما يزعمان أنه ظالم في هذا الاستيفاء لا حق له فيه ولا لهما وإن شهدا بدين لهذا العبد على أجنبي لم تقبل لأنه بمنزلة عبدهما ما دام يسعى وإذا شهد شاهدان على أحد الشريكين أن شريكه الغائب أعتق حصته من هذا العبد فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقبل هذه الشهادة ويقضي بعتقه لأن العتق عندهما لا يتجزأ فينتصب الحاضر خصما عن الغائب وهما في الحقيقة يشهدان على الحاضر بعتق نصيبه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل هذه الشهادة لأن العتق عنده يتجزأ فإنما يشهدان بعتق نصيب الغائب خاصة وليس عنه خصم حاضر والقضاء على الغائب بالشهادة لا يجوز ولكن يحال بينه وبين هذا الحاضر أن يسترقه ويوقف حتى يقدم الغائب استحسانا. وفي القياس لا يحال لأن هذه الحيلولة تنبني على ثبوت العتق في نصيب الغائب ولا يثبت ذلك بالشهادة بدون القضاء.(7/225)
ولكن في الاستحسان قال هما يشهدان على الغائب بالعتق وعلى الحاضر بقصر يده عنه لأن معتق البعض بمنزلة المكاتب لا يد عليه لمولاه والحاضر خصم في إثبات قصر يده عنده فتقبل هذه الشهادة في هذا الحكم إذ ليس من ضرورة القضاء بها القضاء على الغائب بالعتق فهو نظير من وكل بعتق عبده فأقام العبد البينة على الوكيل أن مولاه أعتقه لا يحكم بعتقه ولكن يحكم بقصر يد الوكيل عنه حتى يحضر المولى فتعاد عليه البينة فكذلك هنا إذا حضر الغائب فلا بد من إعادة البينة عليه للحكم بعتقه لأن الأولى قامت على غير خصم فإن كانا غائبين فقامت البينة على أحدهما بعينه أنه أعتق العبد لم تقبل هذه الشهادة إلا بخصومة تقع من قبل قذف أو جناية أو وجه من الوجوه فحينئذ تقبل البينة إذا قامت على أن الموليين أعتقاه أو أن أحدهما أعتقه واستوفى الآخر السعاية منه لأن الخصم الحاضر لا يتمكن من إثبات ما يدعيه على العبد إلا بإثبات حريته والعبد لا يتمكن من دفعه إلا بإنكار حريته فينتصب خصما على الغائبين في ذلك وإذا شهد شاهد على أحد الشريكين أنه أعتقه وشهد آخر على الشريك الآخر أنه أعتقه لم يحكم بشهادتهما أما على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يشكل لأن المشهود به مختلف والمشهود عليه كذلك. وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فلأن أحدهما شهد بعتق يبرأ فيه من نصيب زيد إلى نصيب عمرو والآخر شهد بعتق يبرأ فيه من نصيب عمرو إلى نصيب زيد ولم يتفق الشاهدان على واحد من الأمرين فلا يحكم(7/226)
ص -110- ... بشهادتهما. وإن كان العبد لمسلم ونصراني شهد نصرانيان عليهما بالعتق جازت شهادتهما على النصراني لأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة وشهادتهم على المسلمين مردودة فأنما يثبت العتق في نصيب النصراني خاصة فهذا وما لو شهدا عليه أنه أعتق نصيبه سواء حتى يخير المسلم بين الإعتاق والتضمين والاستسعاء فإن شهدا على المسلم منهما بأنه أعتق نصيبه فالشهادة باطلة والعبد مملوك لهما على حاله بخلاف ما إذا شهد النصراني على شريكه بالعتق فإن ذلك إقرار منه في نصيبه بفساد الرق والإقرار يلزم بنفسه قبل القضاء وهذه شهادة لا توجب شيئا إلا بالقضاء وليس للقاضي أن يقضي على المسلم بشهادة النصراني، ولو شهد نصرانيان على شهادة مسلمين أن النصراني أعتقه فهذا باطل لأنهما يثبتان شهادة المسلمين عند القاضي وكما لا يثبت قضاء القاضي على المسلمين بشهادة النصراني وإن كان الخصم نصرانيا فكذلك لا تثبت شهادة المسلمين بشهادة النصراني، وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر ادعى أحدهم أنه أعتق نصيبه على ألف وشهد له شريكاه على العبد فالشهادة جائزة لأن نصيبه من العبد قد عتق بإقراره وإنما بقي دعواه المال عليه فالآخران يشهدان بالمال على أحدهما ولا تهمة في هذه الشهادة ولو شهد ابنا أحد الشركاء أن أباهما قد أعتق العبد بغير جعل جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما وشهادة ابن العبد بالعتق تقبل إن كان العبد ينكر ذلك والمولى يدعيه وإن كان العبد يدعي ذلك لا تقبل لأنهما يشهدان لأبيهما وكذلك إن شهدا بوجود شرط العتق بعد ظهور التعليق فإنما يشهدان لأبيهما فلا تقبل شهادتهما. ولو ادعى المولى أنه أعتقه بألف درهم وقال العبد أعتقني بغير شيء فشهد ابنا المولى للعبد بما ادعى وأقام الأب شاهدين على أنه أعتقه بألف درهم فإنه يؤخذ له بالألف لأنه يثبت المال ببينة والعبد ينفي المال بما يقيم من البينة.(7/227)
وعند التعارض يرجح بين البينتين وإذا كانت بين رجلين فشهد ابنا أحدهما على الشريك أنه أعتقها فشهادتهما باطلة لأنهما شهدا لأمة أبيهما ولأنهما يشهدان لأبيهما بثبوت حق التضمين له قبل الشريك إن كان موسرا ولو شهدا على أبيهما أنه أعتقها جاز ذلك لأنه لا تهمة في شهادتهما على أبيهما فإن كان الأب موسرا ثم ماتت الخادم وتركت مالا وقد ولدت بعد العتق ولدا فأراد الشريك أن يستسعي الولد فليس له ذلك كما في حياة الأم لم يكن له سبيل على استسعاء الولد فكذلك بعد موتها إذا خلفت مالا ولكنه يضمن الشريك كما كان يضمنه في حياتها ثم يرجع الشريك بما يضمن في تركتها كما كان يرجع عليها لو كانت حية وما بقي فهو ميراث للابن لأن بأداء ما عليها من السعاية يحكم بعتقها وعتق ولدها مستندا إلى حال حياتها على ما نبينه في المكاتبة وإن لم تدع مالا رجع بذلك على الابن لأن الابن مولود في الكتابة والمولود في الكتابة يسعى فيما على أمه بعد موتها لأنه جزء من أجزائها فبقاؤه كبقائها ولأنه محتاج إلى تحصيل العتق لنفسه ولا يتوصل إلى ذلك إلا بأداء ما على أمه وإن لم تمت فاختار الشريك أن يستسعيها فهي بمنزلة المكاتبة في تلك السعاية.(7/228)
ص -111- ... والحاصل أن بعد موتها ليس للشريك أن يستسعيها باعتبار بقاء الولد وفي حال حياتها له أن يستسعيها لأن حق الاستسعاء باعتبار احتباس نصيب الشريك عندها وذلك لا يتحقق بعد موتها ولا حق للشريك في ولدها فلهذا لا يستسعيها باعتبار بقاء الولد ولا باعتبار بقاء المال ولكنه يضمن الشريك. وأما في حال حياتها فقد تقرر احتباس نصيب الشريك عندها فكان له أن يستسعيها وهي بمنزلة المكاتبة ما دامت تسعى حتى ليس لها أن تتزوج بدون إذن مولاها وإن ولدت فولدها بمنزلتها وإن اشترت أباها أو أمها أو ولدها فليس لها أن تبيعهم ولو اشترت أخاها أو ذا رحم محرم منها فلها أن تبيعهم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وليس لها ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو القياس أصل المسألة في المكاتب.
وجه قولهما أن الحر لو اشترى أخاه يصير في مثل حاله فكذلك المكاتب إذا اشترى أخاه يصير في مثل حاله ألا ترى أن في الآباء والأولاد لا يفصل بين المكاتب وبين الحر حتى يصير في مثل حاله في الوجهين فكذلك في كل ذي رحم محرم لأن القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في استحقاق الحرية كما في استحقاق العتق بها وهذا لأن ما للمكاتب من الحق في كسبه يحتمل الكتابة حتى لو كاتب عبده صح كما أن ما للحر من الملك يحتمل العتق فإذا سوى هناك بين الأخوة والآباء في إثبات ما يحتمله ملك الحر, فكذلك يسوى بينهما هنا في إثبات ما يحتمله كسب المكاتب.(7/229)
وجه الاستحسان لأبي حنيفة أن من تكاتب عليه يكون تبعا له أن الكتابة لا تكون إلا ببدل وليس عليه شيء من البدل فعرفنا أنه تبع ومعنى الأصالة والتبعية يتحقق فيما بين الآباء والأولاد لأجل الجزئية فيستقيم أن يتكاتب عليه بسبب الجزئية فأما معنى الأصالة والتبعية لا يتحقق بين الأخوة وسائر القرابات فلا يتكاتب أحدهما على الآخر والثاني أن المكاتب كسائر الأباء والأولاد يثبت باعتبار الكسب على أن يوفى بعد ظهور الملك فإن الابن إذا كان مكتسبا يقضى عليه بنفقة أبيه على أن يملك بالاكتساب فيؤدي فكذلك هنا ثبت حق الآباء والأولاد في الكسب على أنه متى ثبت الملك بالعتق عتق عليه فيمتنع بيعهم لهذا ولا يثبت حق الأخوة في الكسب على أن يوفي من الملك إذا ظهر فكذلك لا يثبت حق الأخوة في كسب المكاتب ولا يمتنع عليه بيعهم ولا يدخل على هذا الكلام أنه لا يقضي على المكاتب بالنفقة لآبائه وأولاده الأحرار لأن الاستحقاق بالكسب على أن يقضي من الملك وهنا لو قضى عليه بالنفقة لزمه ذلك قبل تمام الملك له بالعتق وذلك لا يجوز لأن ماله من الحق قبل العتق لا يحتمل الصلة التامة.
توضيحه أن الأقارب يكثرون فلو تعذر عليه بيعهم إذا دخلوا في ملكه أدى إلى تفويت المقصود بالكتابة وهو تحصيل المال ليؤدي فيعتق ولا يوجد مثل ذلك في الآباء.
فلهذا استحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى وإن اشترت زوجها لم يفسد النكاح. ولها أن(7/230)
ص -112- ... تبيعه، كالمكاتب لأنه إنما يثبت لها حق الملك في رقبة الزوج وحق الملك لا يرفع النكاح لأنه أضعف منه، والضعيف لا يرفع القوي إذا طرأ عليه وإن كان عبد على هذه الصفة فاشترى امرأته كان له أن يبيعها إن لم تكن ولدت منه وإن كانت ولدت منه فاشترى ولدها معها فهي بمنزلته لأن حق الأم تبع لحق الولد. وثبوت التبع بثبوت المتبوع وقد امتنع عليه بيع الولد فيمتنع عليه بيع الأم أيضا، وإن كفل عن المستسعي رجل بسعايته لمولاه فهو باطل لأن السعاية كبدل الكتابة والكفالة ببدل الكتابة باطلة لأنه عبده فلا يتقرر عليه دينه فهذا مثله وإن مات ولم يترك مالا حاضرا وترك دينا على الناس فلم يختصموا في أمره حتى خرج الدين فهو بمنزلة المال الحاضر يؤدي منه سعايته ويكون ما بقي ميراثا والولد الحر والمولود في السعاية والمشتري في ذلك سواء لأن الكل يعتقون بعتقه ثم يجر ولاء ولده الحر لأن الأب في الولاء أصل كما في النسب وإنما كان ولاؤه لموالي الأم لعدم الولاء في جانب الأب فإذا ظهر الولاء في جانبه انجر إليه ولاء أولاده وسنقرر هذا في موضعه وإن لم يخرج الدين حتى جني ولده الحر كانت الجناية على عاقلة أمه لأنه مولى لموالي الأم ما لم يظهر له ولاء في جانب الأب فإن اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولايته قبل خروج الدين فقضي به لموالي الأم ثم خرج الدين بعد ذلك كان الدين لموالي الأب كله لا يكون للابن فيه شيء في القياس ولكنا ندع العتاقين ونجعل السعاية للمولى وما بقي ميراثا للابن.
وجه القياس أن القاضي لما حكم بولائه لموالي الأم فقد حكم برق الأب إلى هذا الوقت وهو ميت والرقيق لا يرثه الحر.(7/231)
توضيحه أنه قطعه عن جانب الأب حين قضى بولائه لموالي الأم وقضى بجنايته عليهم ووجه الاستحسان أن حكم الكتابة فيه لكونه معتق البعض وذلك لا يحتمل الفسخ فيبقى بعد قضاء القاضي حكم الكتابة فيه على حاله. فإذا خرج ماله يؤدي كتابته ويحكم بحريته مستندا إلى حال حياته لأنه لا يمكن الحكم بحريته مقصورا على الحال فتبين أنه مات حرا والحر يرثه ابنه الحر والقاضي ما قضى بقطع نسبه عن أبيه ولو كان العبد في سعاية وله ولد من أمة له ثم مات العبد كان للابن أن يسعى فيما على أبيه بمنزلة المولود في الكتابة ولو كان عبد وأمة زوجين لرجل وأعتق نصف كل واحد منهما وقضى عليهما بالسعاية في نصف قيمتهما ثم ولدت ولدا فقتل الولد وترك مالا فديته وماله لأمه لأن الولد جزء من أمه يتبعها في الملك والرق ولم يعتق فكان تابعا لأمه داخلا في سعايتها فلهذا كان بدل نفسه وماله لها ولو جنى الولد جناية سعي في الأقل من قيمته ومن الجناية لأنه بمنزلة المكاتب وهذا هو الحكم في جناية المكاتب ولو مات أبواه سعى فيما بقي على أمه دون أبيه لأنه يتبعها في حكم الكتابة دون الأب فيقوم مقامها في السعاية فيما عليها ولو ماتت أمه عن مال أدى منه سعايتها وما بقي فهو ميراث للابن لأنه يعتق بعتقها ولا ميراث للزوج منها لأن الزوج مكاتب ما لم يؤد السعاية وإن مات الزوج عن مال يؤدي ما عليه من سعايته وما بقي ميراث لمعتقه لا(7/232)
ص -113- ... يرث ابنه ولا امرأته من ذلك شيئا لأنهما بمنزلة المكاتبين ما لم تؤد الأم سعايتها وهذا وما لو كوتب الزوجان كل واحد منهما بعقد على حدة سواء في جميع ما ذكرنا.
وذكر في الأصل عن ابراهيم أن معتق النصف إذا جنى فنصف جنايته على العاقلة والنصف عليه وإذا جنى عليه فارش نصف الجناية عليه إرش العبيد وإرش النصف الآخر إرش الأحرار وكأنه اعتبر البعض بالكل ولسنا نأخذ بهذا بل هو بمنزلة العبد في الجناية والجناية عليه لأن بين الحرية والرق في محل واحد منافاة وقد قررناه فيما سبق وإذا شهد الشاهدان على أحد الشريكين أنه أقر بعتق المملوك وهو موسر جاز ذلك وثبوت إقراره بالبينة كثبوته بسماع القاضي منه ويضمن لشريكه إن كان موسرا نصف قيمته ويرجع به على الغلام والولاء له وإن كان جاحدا للعتق لأن القاضي حكم عليه بخلاف زعمه وبقضاء القاضي سقط اعتبار زعمه بخلافه، ألا ترى أن العبد لو كان كله له فشهدا عليه بعتقه كان الولاء له وإن كان منكرا وإن شهدا أنه أقر أنه حر الأصل عتق ولا ولاء له لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وإنما يقضي القاضي على المقر بما يقر به ويجعله في حقه كأنه حق وحرية الأصل لا تعقب الولاء وإن شهدوا على إقراره أن الذي باعه كان أعتقه عتق كما لو سمع القاضي إقراره بذلك وهذا لأنه أقر بنفوذ العتق فيه ممن كان مالكا له وولاؤه موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه فإن البائع يقول أنا ما أعتقته وإنما عتق بإقرار المشتري فله ولاؤه والمشتري يقول بل أعتقه البائع فالولاء له فلهذا توقف ولاؤه على أن يرجع أحدهما إلى تصديق صاحبه فيكون الولاء له لأن الولاء لا يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بالتكذيب أصلا ولكن يبقى موقوفا فإذا صدقه ثبت منه وإن شهدا على إقراره أن البائع كان دبره أو كاتب أمه أو أن البائع كان استولدها قبل البيع فإنه يخرج كل واحد منهما من ملكه لإقراره أنه لم يملكهما بالشراء وأنهما(7/233)
باقيان على ملك البائع ولا يرجع على البائع بالثمن لأن إقراره ليس بحجة على البائع في إبطال البيع وقد استحق البائع الثمن به ولا يعتقان حتى يموت البائع فإذا مات عتقا لأن المشتري أقر بتعلق عتقهما بموت البائع والبائع كان مقرى بأن إقرار المشتري فيهما نافذ لأن يملكهما فعند موت البائع يحصل التصادق منهما على الحرية إذا كان المدبر يخرج من ثلث مال البائع فلهذا يحكم بعتقهما والجناية عليهما كالجناية على مملوكين قبل موت البائع لأنهما لا يعتقان إلا بموته، وتوقف جنايتهما في قول أبي حنيفة.
وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليهم السعاية في الأقل من قيمتهما وأرش جنايتهما
والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى لأن المشتري إن كان صادقا فموجب جنايتهما على البائع ابتداء لأن موجب جناية المدبر وأم الولد القيمة على المولى ابتداء وإن كان كاذبا فجنايتهما تتعلق برقبتهما ويخاطب المشتري بذلك ومع جهالة المستحق عليه لا يتمكن القاضي من القضاء بشيء فلهذا تتوقف جنايتهما ولكنهما استحسنا فقالا هما بمنزلة المكاتبين في الحال حتى يكتسبان وينفقان على أنفسهما من كسبهما ولا سبيل لأحد على(7/234)
ص -114- ... أخذ الكسب منهما وإنما كان موجب جناية المكاتب على نفسه لكونه أحق بكسبه فإذا وجد ذلك المعنى هنا.
قلنا عليهما السعاية في الأقل من قيمتهما ومن أرش الجناية, وكذلك أمة بين رجلين أقر أحدهما أنها ولدت من الآخر وأنكر الآخر ذلك فهي موقوفة تخدم المنكر يوما ويرفع عنها يوم ولا سبيل للمقر عليها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الآخر.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى تسعى في نصف قيمتها للمنكر لأن اقرار أحدهما على شريكه بأمية الولد كشهادته عليه بعتق نصيبه وقد بينا أن هناك يسعى للمنكر في نصيبه فكذلك هنا، ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هناك تعذر استدامة الملك لأن ما أقر به لو كان حقا كان استدامة الملك فيها ممتنعا فلهذا تخرج إلى الحرية بالسعاية وهنا ما أقر به من أمية الولد لو كان حقا لم يكن استدامة الملك فيها ممتنعا فلا معنى لإيجاب السعاية عليها للمنكر ولكن في زعم المنكر أنها مشتركة بينهما كما كانت وأن شريكه كاذب فكان له أن يستخدمها يوما من كل يومين كما قبل هذا الأوان وليس للمقر أن يستخدمها في اليوم الآخر لأنه يزعم أنها صارت أم ولد لشريكه وإن حقه في الضمان قبل شريكه ولا حق له في الاستخدام فلهذا لم يكن للمقر عليها سبيل وجنايتها والجناية عليها تكون موقوفة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى.
وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى هي بمنزلة المكاتبة تسعى في الجناية عليها بأخذ الإرش فتستعين بها هكذا ذكر في الكتاب وهو ظاهر لأن عندهما لما قضى عليها بالسعاية في نصيب الجاحد كانت كالمكاتب وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما كانت موقوفة الحال لا يقضى فيها بشيء فكذلك حكم جنايتها والجناية عليها.(7/235)
وقيل الصحيح أن عند أبي حنيفة نصف جنايتها على الجاحد لأن نصفها مملوك له مطلقا حتى يستخدمها بقدره والنصف الآخر يتوقف وعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد جنايتها عليها تسعى في الأقل من قيمتها ومن إرش الجناية لأنها أحق بكسبها، ألا ترى أنها تنفق على نفسها من كسبها ولو جعلناها موقوفة فمن ينفق عليها وإذا لم يكن بد من أن تجعل أحق بكسبها كان موجب جنايتها في كسبها كالمكاتبة والله تعالى أعلم بالصواب.
باب عتق ما في البطن
قال: "رجل قال لجاريته كل ولد تلدينه فهو حر فما ولدته في ملكه فهو حر" لأن ملك الأم سبب لملك الولد فإن الجنين يتبع الأم في الملك وقيام سبب الملك عند التعليق كقيام الملك في صحة التعليق
ألا ترى أن في اليمين المضاف جعل التعليق بسبب الملك وهو الشراء كالتعليق بالملك ولو كان الملك موجودا في المحل الذي يلاقيه وقت التعليق كان التعليق صحيحا فكذلك إذا كان سبب الملك موجودا ولا يعتق ما لم تلد لأنه جعل شرط العتق الولادة وإن مات المولى وهي حبلى ثم ولدته لم تعتق لأنها صارت ملكا للوارث(7/236)
ص -115- ... بالموت فإنما وجد الشرط بعد زوال ملك المعتق وكذلك لو باعها المولى وهي حبلى جاز بيعه لقيام ملكه وقدرته على تسليمها وإذا ولدت بعد ذلك لم تعتق لأن الشرط وجد في غير ملك الحالف وإن ضرب ضارب بطنها فالقته ميتا كان فيه ما في جنين الأمة لأنه ما دام في البطن فهو رقيق ولو كان قال كل ولد تحبلين به فهو حر كان فيه ما في جنين الحر لأن شرط العتق هنا وجود الحبل وقد علم أنه كان موجودا قبل الضرب فإنما وجدت جناية الضارب على جنين هو حر وإن ولدته بعد البيع لأقل من ستة أشهر فهو حر والبيع باطل لأنا تيقنا بوجود الولد قبل البيع وحريته فإنما باعها وفي بطنها ولد حر فيكون البيع باطلا.(7/237)
وقال لها: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فهو حر وإن كانت جارية فأنت حرة فولدت غلامين وجاريتين فإن علم أن الغلام أول ما ولدت فهو حر والباقون أرقاء وإن علم أن الجارية أول ما ولدت فهي مملوكة والباقون مع الأم أحرار لأن بولادة الجارية الأولى عتقت الأمة وإنما عتقت بعد انفصال هذه الجارية عنها فكانت هي مملوكة, والباقون أحرار لأنهم انفصلوا منها بعد حريتها والولد لا ينفصل من الحرة إلا حرا وإن لم يعلم أيهم أول يعتق من الأم نصفها لأنها تعتق في حال وترق في حال ويعتق ثلاثة أرباع كل واحد من الغلامين لأن أحدهما حر بيقين فإنها إن ولدت الغلام أولا فهذا الغلام حر وإن ولدت الجارية أولا فالغلامان يعتقان بعتق الأم فأحدهما حر بيقين والآخر يعتق في حال دون حال فيعتق نصفه ثم حرية ونصف بينهما نصفان إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فيعتق من كل واحد منهما ثلاثة أرباعه ويسعى في ربع قيمته ويعتق من كل واحدة من الجاريتين ربعها لأن إحداهما أمة بيقين والأخرى تعتق في حال دون حال فإنها إن ولدت الغلام أولا فالجاريتان مملوكتان وإن ولدت إحدى الجاريتين أولا فهذه مملوكة والأخرى حرة فإذا كانت إحداهما تعتق في حال دون حال يعتق نصفها وليست إحداهما بأولى من الأخرى فكان نصف الحرية بينهما لكل واحدة منهما ربع حرية وتسعى كل واحدة في ثلاثة أرباع القيمة وإن تصادق الأم والمولى على أن هذا الغلام أول عتق ما تصادقا عليه والباقون أرقاء لأن اليد لهما والقول قول ذي اليد فيمن لا يعبر عن نفسه في رقه وحريته فإن تصادقا على شيء وجب الأخذ بما تصادقا عليه وإن اختلفا فيه فالقول قول المولى مع يمينه لأن المعتق هو المولى فكان قوله في بيان من عتق مقبولا مع يمينه إن ادعت الأم خلاف ذلك لأنها تدعي عليه ما لو أقر به لزمه وإنما يستحلف على العلم بالله ما يعلم أنها ولدت الجارية أولا لأنه يستحلف على فعلها والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم.(7/238)
وإذا قال لها إن كان حملك غلاما فأنت حرة وإن كانت جارية فهي حرة فكان حملها غلاما وجارية لم يعتق أحد منهم لأن الحمل اسم لجميع ما في البطن قال تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق: من الآية4] والعدة لا تنقضي إلا بوضع جميع ما في البطن فإنما جعل شرط عتقها كون جميع ما في البطن غلاما وشرط عتق الجارية كونها جميع ما في البطن ولم يوجد ذلك,(7/239)
ص -116- ... وكذلك قوله إن كان ما في بطنك لأن ما هو من ألفاظ العموم فهو يقتضي أن يكون جميع ما في بطنها بتلك الصفة ولو كان قال في الكلامين إن كان في بطنك عتقت الجارية والغلام لأنه جعل شرط عتقها وجود الغلام في بطنها وقد تبين أنه كان موجودا والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا فعلمنا أنها عتقت قبل انفصال الولدين عنها فيعتق الولدان جميعا.
وإذا قال إذا كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة وإن كانت جارية فهي حرة فولدتهما جميعا فإن علم أن الغلام أول عتقت هي مع ابنتها والغلام رقيق وإن علم أنها ولدت الجارية أولا عتقت الجارية والأم مع الغلام رقيقان وإن لم يعلم واتفق الأم والمولى على شيء فكذلك لأن اليد لهما.
وإن قالا لا ندري فالغلام رقيق والابنة حرة ويعتق نصف الأم لأنها إن ولدت الغلام أولا فهي حرة والغلام رقيق وإن ولدت الجارية أولا فالجارية حرة والغلام والأم رقيقان فالأم تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها والغلام عبد بيقين والجارية حرة بيقين إما أن تعتق بنفسها أو بعتق الأم ولو كأن قال إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية فإن ولدت الغلام أولا فالغلام رقيق والأم والجارية حرتان وإن ولدت الجارية أولا فهم أرقاء فالأم تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها وكذلك الجارية والغلام رقيق بيقين.
وذكر في الكيسانيات عن محمد رحمه الله تعالى في هذا الفصل أنه لا يحكم بعتق واحد منهم ولكن يحلف المولى بالله ما يعلم أنها ولدت الغلام أولا فإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره وإن حلف فهم أرقاء بخلاف الفصل الأول لأنا تيقنا بحرية بعضهم واعتبار الأحوال بعد التيقن بالحرية صحيح وهنا لم يتيقن بشيء من الحرية لجواز أنها ولدت الجارية أولا فلا معنى لاعتبار الأحوال ولكنها تدعي عليه شرط العتق وهو منكر فالقول قوله مع يمينه.(7/240)
ولو قال ما في بطنك حر فولدت بعد ذلك لستة أشهر لا يعتق وإن ولدت لأقل من ستة أشهر عتق لأنه أوجب العتق لما هو موجود في بطنها وإذا ولدت لأقل من ستة أشهر فقد تيقنا أنه كان موجودا فأما إذا ولدت لستة أشهر فصاعدا لم نتيقن أنه كان موجودا والعلوق يضاف إلى أدنى مدة الحمل إلا في حالة الضرورة وإن ولدت واحدا لأقل منها بيوم والآخر لأكثر منها بيوم عتقا لأنا تيقنا بوجود الأول في بطنها وقت اليمين حين ولدته لأقل من ستة أشهر وهما توأم واحد خلقا من ماء واحد فالحكم بوجود أحدهما في البطن في وقت حكم بوجودهما. وإذا أعتق أمته ولها زوج حر فولدت ولدا لستة أشهر فصاعدا بعد العتق فنفاه الزوج لاعن ولزم الولد أمه لأن الحل قائم بين الزوجين فإنما يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهو ستة أشهر وتبين أنها علقت به في حال هما أهل اللعان فيقطع النسب عنه باللعان ويكون ولاؤه لموالي الأم لأنه لا نسب له من جهة الأب وإن وضعته لأقل من ستة أشهر لزم أباه ولاعن أما اللعان فلأنه قذفها في الحال وهي محصنة وأما لزوم الولد أباه فلانا تيقنا أن العلوق كان قبل(7/241)
ص -117- ... العتق وهي لم تكن من أهل اللعان فلزمه نسب الولد على وجه لا يملك نفيه فلا يتغير ذلك بالعتق بعده وولاء الولد لموالي الأم لأنه كان موجودا في البطن حين أعتق الأم فصار الولد مقصودا بالعتق وله ولاء نفسه, ولو قال لأمته إن كنت حبلى فأنت حرة فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فهي حرة وولدها لأنه تبين أنه كان منجزا عتقها بالتعليق بشرط موجود وإن ولدت لستة أشهر أو أكثر لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط لجواز أن يكون هذا الولد من علوق حادث وما لم نتيقن بوجود الشرط لا ينزل الجزاء ولو قال لها ما في بطنك حر فضرب رجل بطنها بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر فألقت جنينا ميتا ففيه ما في جنين الحرة لأنا علمنا أنه كان موجودا في بطنها حين قال ذلك وأنه حكم بعتقه.
فإن قيل: فلعله كان ميتا وإعتاق الميت باطل.(7/242)
قلنا: قد ظهر لموته سبب وهو الضرب فيحال بالحكم عليه. ولما حكمنا بوجوب الضمان على الضارب فقد حكمنا بحياته إلى هذا الوقت فعلى الجاني ما في جنين الحرة ولو قال لها إن كان أول ما تلدينه غلاما ثم جارية فأنت حرة وإن كانت جارية ثم غلاما فالغلام حر فولدت غلامين وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم وربع الأولاد لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية فالأم حرة وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام فالأم رقيقة فهي تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها وأحد الغلامين رقيق بيقين والآخر يعتق في حال دون حال فيعتق ربع كل واحد منهم ولا يقال من الجائز أنها ولدت الغلامين أولا ثم الجاريتين لأن هذا بمنزلة ولادة الغلام أولا ثم الجارية وإذا ولدت الجاريتين أولا, ثم الغلامين فهذا بمنزلة ولادة الجارية أولا ثم الغلام لأن الشرط ولادة الغلام بعد ولادة الجارية, وقد وجد سواء تخلل بينهما ولادة جارية أخرى أو لم يتخلل وإن ولدت غلاما وجارية في بطن لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم ونصف الغلام لأن الأم تعتق في حال دون حال, وكذلك الغلام فيعتق نصف كل واحد منهما والابنة أمة لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية فإنما عتقت الأم بعد انفصال الجارية فهي أمة. وإن ولدت الجارية أولا فهي أمة.
فعرفنا أن رقها متعين, وإن قال أول ولد تلدينه فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت لأن الميت ولد كالحي ألا ترى أن الجارية تصير به أم ولد والمرأة تصير به نفساء فيتم شرط عتقها بولادته, ولو كان قال هو حر لا ينحل يمينه بولادة الميت حتى إذا ولدت ولدا حيا بعد ذلك عتق الولد الحي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يعتق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.(7/243)
وجه قولهما: أن انحلال شرط اليمين تحقق بولادة الولد الميت وليس من ضرورة انحلال اليمين نزول الجزاء, ألا ترى أنه لو قال أول عبد اشتريه فهو حر فاشترى عبدا لغيره انحلت اليمين حتى لو اشترى بعد ذلك عبدا لنفسه لم يعتق(7/244)
ص -118- ... والدليل عليه أنه لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر وامرأته طالق فولدت ولدا ميتا وقع الطلاق ثم عندكم لو ولدت ولدا حيا بعد ذلك يعتق الحي وهذا لا وجه له لأن الشرط إن صار موجودا بولادة الميت انحلت اليمين وإن لم يصر موجودا فينبغي أن لا يقع الطلاق والدليل عليه أن هذا الحي ثاني ولد حتى لو قال ثاني ولد تلدينه فهو حر يعتق هذا ولا يكون الشخص الواحد أولا وثانيا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما حكي عن أبي سعيد البردعي رحمه الله تعالى أنه كان يقول الولد الميت ولد في حق الغير حتى أن العدة تنقضي به والجارية تصير أم ولد وليس بولد في حق نفسه حتى لا يسمى ولا يصلى عليه فإذا كان الجزاء عتق الأم أو طلاق المرأة كان الميت ولدا فيه وإذا كان الجزاء عتق الولد لم يكن الميت ولدا فيه ولكن هذا تشه ومع أنه تشه لا معنى له فإنه يقال ينبغي أن يجعل ولدا في حق المولى حتى ينحل يمينه به وينبغي أن يجعل ولدا في حق الولد الثاني حتى لا يعتق.(7/245)
فالوجه الصحيح أن يقول جازى بكلامه ما لا يجازى به إلا الحي فتصير الحياة مدرجة في كلامه ويكون المضمر كالمصرح به فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر وإنما قلنا ذلك لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ولا يصح هذا الكلام إلا بإضمار الحياة في الولد لأن الإعتاق إحداث القوة وذلك يتحقق في الحي دون الميت فتبين بقوله فهو حر أن حياة الولد مضمر في كلامه, ألا ترى أنه لو قال إذا ولدت ولدا ميتا فهو حر كان كلامه لغوا وبه فارق الطلاق وعتق الأم لأنه لا حاجة في تصحيح ذلك الكلام إلى إضمار الحياة في الولد, ألا ترى أنه لو صرح بموت الولد كان التعليق صحيحا ثم ما ثبت بطريق الاقتضاء يجعل ثابتا للحاجة والضرورة ففيما تتحقق فيه الحاجة يجعل مدرجا في كلامه وفيما لا تتحقق فيه الحاجة لا يجعل مدرجا ولا يبعد أن يكون الشرط واحدا ثم يحكم بوجوده في بعض الجزاء دون البعض كما لو قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت حضت تصدق في وقوع الطلاق عليها دون ضرتها ولما ثبت أن الحياة مدرجة في كلامه فالذي ولدته بعد الميت أول ولد حي وإن كان في الصورة ثاني ولد وليس هذا كقوله أول عبد اشتريه فهو حر لأن المشتري لغيره محل للعتق
ألا ترى أن العتق ينفذ فيه من مالكه ومن المشتري موقوفا على إجازة مالكه فلا حاجة إلى إضمار الشراء لنفسه لتصحيح الكلام وها هنا الميت ليس بمحل للعتق أصلا فلهذا جعلنا الحياة مدرجة في كلامه.
وإن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدا وشهدت امرأة على الولادة وكذبها المولى وقال هذا عبدي من غيرها لم يعتق بشهادة امرأة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق وقد تقدم نظيره في الطلاق وقد بينا أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بشهادة القابلة إنما يثبت ما هو من أحكام الولادة على الخصوص والعتق ليس من أحكام الولادة على الخصوص(7/246)
ص -119- ... وعندهما لما قبلت شهادة القابلة في حق نسب الولد فكذلك تقبل فيما جعل بناء على الولادة, ألا ترى أنه لو قال إن كان بها حبل فهو مني ثم جاءت امرأة تشهد على الولادة بعد هذا القول بيوم صارت أم ولد له وبالاستيلاد يثبت حق الحرية ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق فيقول الاستيلاد من أحكام نسب الولد فأما هذا العتق ليس من حكم الولادة وشهادة القابلة حجة ضرورية فلا تكون حجة إلا فيما هو في حكم الولادة.
وإن قال لها أنت حبلى فإذا ولدت فأنت حرة فشهدت امرأة على الولادة عتقت لا بشهادة القابلة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بل بمجرد قول الأمة لأنه لما أقر بأنها حبلى فقد جعل شرط وقوع العتق عليها ظهور ما هو موجود في بطنها وقد ظهر بقولها كما إذا قال لها إذا حضت فأنت حرة وقد تقدم نظير هذا في الطلاق.
وإذا قال لها إذا حبلت فأنت حرة ثم وطئها فينبغي له في الورع والتنزه أن يعتزلها حتى يعلم أحامل هي أم لا لأن سبب الحبل هو الوطء فبعدما وطئها يحتمل أنها قد حبلت وقد عتقت فلو وطئها كان حراما عليه والتحرز عن الحرام واجب فلهذا نأمره على طريق التنزه أن يعتزلها فإذا حاضت علمنا أنها ليست بحامل فيطأها مرة أخرى بعد ما تطهر وهكذا دأبه ودأبها وإن ولدت بعد هذه المقالة لأكثر من سنتين وقد وطئها قبل الولادة لأقل من ستة أشهر فعليه العقر لأنا تيقنا بوجود شرط العتق بعد اليمين وتيقنا بأنه وطئها بعد ما علقت فإنما وطئها وهي حرة بالشبهة فعليه العقر وإن ولدته لأقل من سنتين لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط وهو الحبل بعد اليمين لجواز أن يكون هذا الولد من علوق كان قبل اليمين فإن قيل: فأين ذهب قولكم أن يستند العلوق إلى أقرب الأوقات.
قلنا: نعم يستند العلوق إلى أقرب الأوقات إذا لم يكن فيه إثبات العتق بالشك لأن العتق بالشك لا ينزل وقد تقدم نظيره في الرجعة في الطلاق.(7/247)
وإذا قال لأمتيه ما في بطن أحداكما حر فله أن يوقع على أيهما شاء لأن ما في البطن في حكم العتق كالمنفصل وقد بينا في المنفصل أنه لو أوجب العتق في غير المعين كان البيان إليه فكذلك فيما في البطن فإن ضرب إنسان بطن إحداهما فالقت جنينا ميتا وقع العتق على ما في بطن الأخرى لأن الذي انفصل ميتا خرج من أن يكون محلا للعتق ومزاحما للآخر فيما أوجب فيتعين العتق في الآخر ضرورة ولو ضرب بطن كل واحدة منهما رجل معا فالقتا جنينين ميتين لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق كان على كل واحد منهما ما في جنين الأمة لأن كل واحد من الجنينين كان مملوكا يقينا وبعد إيجاب العتق في المجهول بقيا كذلك.
وقد بينا في المنفصلين أنه لو قتل كل واحد منهما رجل كان على كل واحد من القاتلين قيمة مملوك فهذا مثله.
وإن قال: ما في بطن هذه حر وما في بطن هذه حر أو سالم عتق ما في البطن الأولى والخيار بين سالم وما في بطن الثانية إليه لأنه أوجب العتق لما في بطن الأولى بعينها وخير(7/248)
ص -120- ... نفسه بين عتق ما في بطن الثانية وسالم لأنه أدخل بينهما حرف أو ذلك للتخيير فكأنه قال ما في بطن هذه حر واحد الآخرين فيعتق الأول بعينه والخيار إليه في الآخرين يوقع العتق على أيهما شاء, وإذا قال لأمتيه ما في بطن إحداكما حر ثم خرجت إحداهما وجاءت أخرى فقال ما في بطن إحداكما حر ثم ولدن كلهن لأقل من ستة أشهر فالقول فيه قول المولى.
وأصل هذه المسألة في العبيد ذكرها في مواضع من الكتب, والتخريج في الكل واحد فنقول رجل له ثلاثة أعبد دخل عليه اثنان فقال أحدكما حر ثم خرج أحدهما ودخل الثالث فقال أحدكما حر فالبيان إلى المولى لأن الإيهام كان منه ولأن حكم الكلامين يختلف بيانه.
فإن قال عنيت بالكلام الأول الثابت أو أعنيه الآن واختاره عتق الثابت بالكلام الأول وتبين أنه في الكلام الثاني جمع بين حر وعبد وقال أحدكما حر فلا يجب به شيء إذا لم ينو العبد.
وإن قال عنيت بالكلام الأول الخارج عتق الخارج بالكلام الأول وصح الكلام الثاني لأنه جمع فيه بين عبدين فقال أحدكما حر فالبيان إليه فإن بين أولا أنه عنى بالكلام الثاني الثابت تعين الخارج بالكلام الأول لأن الثابت خرج من مزاحمة الخارج في موجب الكلام الأول حين أنشأ عتقه بعده.(7/249)
وإن قال عنيت بالكلام الثاني الداخل عتق الداخل ولا بد من أن يبين مراده بالكلام الأول, وإن مات قبل أن يبين عتق من الخارج نصفه ومن الثابت ثلاثة أرباعه ومن الداخل نصفه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وربعه في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه وجب بالكلام الأول حرية تتردد بين الخارج والثابت وقد فات البيان بموت المولى فيشيع فيهما فلهذا يعتق من الخارج نصفه ومن الثابت نصفه بالكلام الأول والكلام الثاني لا يجب به شيء إن كان المراد بالكلام الأول الثابت ويجب به حرية إن كان المراد بالكلام الأول الخارج فأوجبنا به نصف حرية باعتبار التردد ثم هذا النصف يتردد بين الثابت والداخل فيكون نصفه وهو الربع للثابت فاجتمع له ثلاثة أرباع حرية وحصل للداخل ربع حرية بالكلام الثاني.
فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يعتق منه ربعه ولأنه شريك الثابت في الكلام الثاني, فلا يصيب إلا قدر ما يصيب الثابت بهذا الكلام وشبه هذا بمن له ثلاث نسوة لم يدخل بشيء منهن قال لاثنتين منهن أحداكما طالق فخرجت إحداهما ودخلت الثالثة فقال إحداكما طالق ثم مات قبل أن يبين يسقط من مهر الخارجة ربعه ومن مهر الثانية ثلاثة أثمانه ومن مهر الداخلة ثمنه للطريق الذي قلنا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا الكلام الثاني صحيح على كل حال فإن كان مراده الثابت عتق به ما بقي وهو النصف وإن كان مراده الداخل عتق به كله فالداخل(7/250)
ص -121- ... يعتق في حال ولا يعتق في حال فيعتق نصفه, وبيان هذا الكلام أما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فظاهر لأن الحرية الأولى لما شاعت فيهما كان الثابت معتق البعض ومعتق البعض عنده بمنزلة المكاتب أهل لإنشاء العتق فيه فيصح الكلام الثاني على كل حال.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله العتق لا يتجزأ بعد وقوعه على محل بعينه بعد وقوعه ولم يكن واقعا على الثابت حين تكلم بالكلام الثاني فصح الكلام الثاني.
وأما مسألة الطلاق فقد قيل هو مذكور في الزيادات وهو قول محمد رحمه الله.
فأما عندهما يسقط من مهر الداخلة ربعه وبعد التسليم الفرق واضح على أصل أبي حنيفة رحمه الله لأن الطلاق عنده لا يتجزأ بخلاف العتق فالكلام الثاني ليس بصحيح على كل حال وإنما الإشكال على قول أبي يوسف رحمه الله والفرق أنه يوجد شخص متردد الحال بين الرق والحرية ويكون محلا لإنشاء العتق وهو المكاتب والثابت بهذه الصفة حين تكلم بالكلام الثاني فأمكن تصحيح الكلام الثاني من هذا الوجه على كل حال فأما الطلاق لا يوجد شخص متردد الحال بين أن تكون مطلقة ومنكوحة ثم يصح وقوع الطلاق عليها فلا وجه لتصحيح الكلام الثاني من كل وجه.
قلنا: إن كان صحيحا يسقط به نصف مهر وإن لم يصح لم يسقط به شيء فسقط به ربع مهر ثم يتردد هذا الربع بين الثابتة والداخلة فيصيب الداخلة نصف الربع وهو الثمن فلهذا سقط ثمن مهرها وإن كان المولى قال ذلك في مرضه ومات قبل البيان ولا مال له سواهم فإنهم يقتسمون الثلث على قدر حقهم فيضرب الخارج في الثلث بسهمين والثابت بثلاثة أسهم والداخل بسهمين في قولهما فيكون الثلث بينهم على سبعة والقسمة من أحد وعشرين كل رقبة سبعة فيستسعي الخارج في خمسة أسباعه وكذلك الداخل والمقيم في أربعة أسباعه.(7/251)
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى الداخل إنما يضرب بسهم واحد فيكون الثلث بينهم على ستة والقسمة من ثمانية عشر يسعى الخارج في ثلثي قيمته والثابت في نصف قيمته والداخل في خمسة أسداس قيمته إذا عرفت هذا التخريج في العبيد فكذلك فيما في بطن الجواري لأن الجنين في حكم العتق كالمنفصل
وإن قال لأمته قد أعتقت ما في بطنك على ألف درهم عليك فقبلت ثم وضعت غلاما لأقل من ستة أشهر فهو حر لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن حين علق العتق بقبولها المال وقد وجد منها القبول والمال باطل لأنه لا يمكن إيجابه على الجنين لأن المولى شرطه على الأم دون الجنين ولأنه لا ولاية للأم على الجنين في الزام المال إياه ولا يمكن إيجابه على الأم لأن الجنين في حكم العتق كشخص واحد على حدة واعتاق شخص ببدل على شخص آخر لا يجوز وهذا بخلاف الطلاق فإنه لو طلق امرأته بمال على أجنبي وقبل الأجنبي ذلك وجب المال عليه ولو أعتق عبده بمال على أجنبي وقبل الأجنبي ذلك لا يلزمه المال لأن المولى منتفع بالعتق من حيث تحصيل الثواب(7/252)
ص -122- ... لنفسه في العقبى, والولاء في الدنيا ومن انتفع بملك نفسه لا يستوجب بدله على غيره بالشرط كمن أكل طعام نفسه ببدل على غيره فأما الزوج غير منتفع بالطلاق ولكنه مبطل لملكه فإذا شرط بدلا على غيره والتزمه ذلك الغير كان صحيحا كالعفو عن القصاص والإبراء عن الدين ولو ولدت الأمة غلاما ثم كاتبت على نفسها وعليه ألف درهم أجزت ذلك والتزمه إن كبر أو عقل فرضي, وفرض الجواب على هذا الموضع إنما يستقيم على طريقة القياس, فأما على طريقة الاستحسان على ما ذكره في الجامع وغيره من المواضع غير مستقيم بل الصحيح من الجواب ما ذكره.
في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أن المكاتبة تجوز وتلزم الأم ولا يلزم الغلام من المال شيء ولكن يعتق بأدائها وهذا لأنه لا ولاية للأم على الولد في الزام بدل الكتابة إياه فيكون هذا بمنزلة ما لو كاتب له عبدا حاضرا وعبدا له غائبا على ألف درهم في القياس يتوقف العقد في حق الغائب على إجازته لأنه ليس للحاضر عليه ولاية.
وفي الاستحسان ينفذ العقد وتكون الألف كلها على الحاضر بقبوله فكان المولى شرط البدل كله عليه وجعل عتق الآخر معلقا بأدائه وذلك صحيح بدون القبول من الآخر فكذلك في هذه المسألة.
قال فكاتبها على نفسها أو عليه على ألف درهم.
وهكذا عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي في وضع هذه المسألة أنها كاتبت عليه فعلى هذا الجواب مستقيم" لأن المقصود بالكتابة الولد دون الأم فإن لم تكن الأم داخلة في العقد يعتبر وجود القبول من الابن إذا كبر أو عقل ومقصوده الفرق بين حالة الاجتنان في البطن وما بعد الانفصال فإن في حالة الاجتنان في البطن لا يتوقف لأنه لا ولاية لأحد عليه في حالة الاجتنان وإنما يتوقف ماله مجيز حال وقوعه فأما بعد الانفصال قد تولى عليه في هذا العقد لما له فيه من المنفعة له فيتوقف على إجازته وإذا كبر أو عقل فرضي لزمه المال.(7/253)
ولو قال لأمته ما في بطنك حرمتي ما أدى إلى ألفا فوضعته لأقل من ستة أشهر فمتى ما أدى فهو حر لأن ما في البطن في تنجيز العتق كالمنفصل فكذلك في تعليق عتقه بأدائه المال بخلاف الكتابة لأن فيها الزام المال إياه ولا ولاية لأحد عليه في ذلك وليس في التعليق الزام المال إياه بل التعليق يتم بالمعلق وحده وكلامه قبل الانفصال وبعده سواء.
ولو قال بعد الانفصال متى أدى إلى هذا المولود ألفا فهو حر صح وعتق إذا أدى فكذلك إذا قال قبل الانفصال ولو قال لثلاث إماء له ما في بطن هذه حر وما في بطن هذه أو في بطن هذه عتق ما في بطن الأولى وهو مخير في الباقيتين لإدخاله حرف التخيير بين الثانية والثالثة. ولو قال إن كان ما في بطن جاريتي غلام فاعتقوه وإن كانت جارية فاعتقوها ثم مات فكان في بطنها غلام وجارية فعلى الوصي أن يعتقهما من ثلثه وكان ينبغي على قياس ما سبق(7/254)
ص -123- ... أن لا يعتق واحدا منهما لأنه شرط أن يكون جميع ما في بطنها غلاما أو جميع ما في بطنها جارية وقد تقدم نظيره في التخيير ولكنه في هذا الموضع اعتبر مقصود المولى وهو الوصية بإعتاق الغلام عنه وبإعتاق الجارية وكلامه هذا ليس بتعليق فكأنه قال اعتقوا ما في بطنها غلاما كان أو جارية أو كلاهما فيجب على الوصي أو الورثة تنفيذ الوصية فيهما من ثلثه.
وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة وإن كانت جارية ثم غلاما فهما حران فولدت غلاما وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم لأنها تعتق في حال وهو أن تكون ولادة الغلام أولا ولا تعتق في حال وهو أن تكون ولادة الجارية أولا فيعتق نصفها ونصف الغلام أيضا لأنها إن ولدت الجارية ثم الغلام فالغلام حر وإن ولدت الغلام أولا فالغلام رقيق فيعتق نصفه.
قال ويعتق من كل واحدة من الجاريتين ربعها وتسعى في ثلاثة أرباع قيمتها.
قال: "أبو عصمة رحمه الله وهذا غلط بل الصحيح أنه يعتق من كل واحدة منهما ثلاثة أرباعها وتسعى في الربع" لأن إحداهما حرة بيقين فإنها إن ولدت الغلام أولا عتقت الأم والجاريتان تعتقان بعتقها, وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام عتقت إحدى الجاريتين فإحداهما حرة بيقين والأخرى تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها فيكون السالم لهما حرية ونصف بينهما لكل واحدة ثلاثة أرباع الحرية.
ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من تكلف لتصحيح جواب الكتاب فقال إحدى الجاريتين مقصودة بالعتق في حال فلا يعتبر مع هذا جانب التبعية بينهما وإذا سقط اعتبار جانب التبعية فاحداهما تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها ثم هذا النصف بينهما لاستواء حالهما فإنما يعتق من كل واحدة ربعها ولكن هذا يكون مخالفا في التخريج للمسائل المتقدمة.(7/255)
إذا فالأصح ما قاله أبو عصمة رضي الله عنه وإذا كانت الأمة بين رجلين فأعتق أحدهما ما في بطنها وهو غني ثم ولدت بعد ذلك بيوم غلاما ميتا فلا ضمان على المعتق لأن نفوذ عتقه لا يكون إلا باعتبار حياة الجنين ولم يعلم ذلك حقيقة ولا حكما حين انفصل ميتا والضمان بالشك لا يجب, وإن كان رجل ضرب بطنها فألقت جنينا ميتا فعلى الضارب ما في جنين الأمة نصف عشر قيمته إن كان غلاما وعشر قيمتها إن كانت جارية.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العتق عنده يقتصر على نصيب المعتق من الجنين ويبقى الرق فيه باعتبار نصيب الشريك فلهذا يجب على الضارب ما في جنين الأمة ثم يكون على المعتق نصف ذلك لشريكه لأن جنايته إنما تثبت بما وجب من الضمان على الضارب فيتقدر حكم الضمان بقدر ذلك فلهذا كان على المعتق نصف ذلك لشريكه ثم يرجع به فيما أدى الضارب لأنه بدل نفسه فيكون تركة له, وقد بينا أن المعتق إذا ضمن يرجع بما ضمن فيما تركه معتق البعض بعد موته ثم الباقي ميراث عنه للذي أعتقه إن لم يكن له وارث أقرب منه من أخ أو نحوه لأن الولاء في جميعه للمعتق حين ضمن نصيب شريكه(7/256)
ص -124- ... وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله تعالى يجب على الضارب ما يجب في جنين الحرة لأن العتق عندهما لا يتجزأ ويكون ذلك كله للمعتق ميراث بولائه ويكون على المعتق نصف قيمته لشريكه معتبرا بوقت الانفصال لأن ضمان العتق إنما يعتبر بوقت الإعتاق ولكن يتعذر الوقوف على ذلك لكونه مجتنا في البطن فيعتبر قيمته بأقرب أوقات الإمكان وذلك بعد الانفصال. وإن لم يضرب بطنها أحد ولكن ولدت بعد العتق بيوم ولدا حيا ثم مات فعلى المعتق نصف قيمته معتبرا بوقت الانفصال لما بينا, فإن لم تلد حتى أعتق الآخر الأم وهو موسر ثم ولدت فاختار شريكه أن يضمنه نصف قيمة الأم فله ذلك لأنه بعد اعتاق الجنين كان متمكنا من استدامة الملك في الأم وقد أفسد شريكه ذلك حين أعتقها فله أن يضمنه نصف قيمتها ويرجع بذلك الضمان على الأمة وولاء الأمة للذي أعتقها وولاء الولد بينهما, في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنهما أعتقاه. وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء الولد كله لمعتق الولد, وإن دبر أحدهما ما في البطن ثم أعتق الآخر الأم البتة وهو غني ثم ولدت بعده بيوم فإن الذي أعتق الأم يضمن نصف قيمة الأم ويرجع بذلك عليها ويكون ولاء الأم للذي أعتقها لما بينا وولاء الولد لهما جميعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن تدبير المدبر اقتصر على نصيبه فاستحق نصف ولاء الولد والنصف الآخر من الولد إنما عتق باعتاق الشريك الذي أعتق الأم فلهذا كان ولاء الولد بينهما.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى التدبير لا يتجزأ فصار كله مدبرا للذي دبره واستحق ولاء جميعه ويكون هو ضامنا نصف قيمة الولد لشريكه موسرا كان أو معسرا ثم الشريك باعتاق الأم يصير ضامنا له نصف قيمتها وولاء الأم لمن أعتقها وولاء الولد للمدبر لأنه استحق ولاءه وإن عتق بعد ذلك تبعا للأم فلهذا كان له ولاء الولد والله أعلم بالصواب.
باب العتق على المال(7/257)
قال: "رجل أعتق عبده على مال من عروض أو حيوان أو غير ذلك أو باعه نفسه أو وهب له نفسه على أن يعوضه كذا فهو جائز وإذا قبله العبد فهو حر في جميع أحكامه" لأنه علق عتقه بقبول المال ولأنه جعل التزام المال من العبد بمقابلة العتق وقد وجد ذلك بقبوله والولاء للمولى لأنه عتق على ملكه فإن العبد ليس من أهل أن يملك مالية نفسه فيبطل ملك المالية بإعتاق المولى وتحدث القوة للعبد بإيجاب المولى وهو موجب للولاء بعوض كان أو بغير عوض والمال دين على العبد لأنه التزمه بقبوله وقد كانت له ذمة صالحة للإلتزام فيها وتأيدت بالعتق ويجوز وجوب المال عليه وإن لم يملك ما يقابله من ملك المولى كما يجب المال على المرأة بقبول الطلاق وعلى القاتل بقبول الصلح وإن كان لا يملك شيئا بمقابلته ولهذا كل ما يصلح التزامه عوضا في الطلاق يصلح التزامه عوضا هنا وإن اختلفا في المال في جنسه أو مقداره فالقول قول العبد لأنه عتق باتفاقهما والمال عليه للمولى فالقول في بيانه قوله والبينة بينة المولى إما لإثباته الزيادة أو لأنه يثبت حق نفسه ببينة.(7/258)
ص -125- ... ولو قال المولى: أعتقتك أمس على ألف درهم فلم تقبل وقال العبد قبلت فالقول قول المولى مع يمينه لأنه أقر بتعليق العتق بقبوله المال وهو يتم بالمولى ولهذا يتوقف بعد المجلس إذا كان العبد غائبا ثم العبد يدعي وجود الشرط بقبوله والمولى منكر لذلك فالقول قوله كما لو قال له قلت لك أمس أنت حر إن شئت فلم تشأ وقال العبد بل قد شئت فالقول قول المولى بخلاف ما لو قال لغيره بعتك هذا الثوب أمس بألف درهم فلم تقبل وقال المشتري قبلت فالقول قول المشتري لأن البائع أقر بالبيع ولا يكون البيع إلا بقبول المشتري فهو في قوله لم يقبل راجع عما أقر به وإذا أعتقه على مال حال أو مؤجل فله أن يشتري بذلك المال منه ما بدا له يدا بيد لأنه دين يجوز الإبراء عنه ولا يستحق قبضه في المجلس فيجوز الاستبدال به كالإثمان ولا خير فيه نسيئة لأن الدين بالدين حرام في الشرع ولو أعتق أمته على مال فولدت ثم ماتت ولم تدع شيئا فليس على الولد من ذلك المال شيء لأنه انفصل عنها بعد حريتها فكان حرا وليس على الحر شيء من دين مورثه إذا مات ولو أعطته في حياتها كفيلا بالمال الذي أعتقها عليه جاز لأنها حرة فثبت المال دينا عليها بصفة القوة والكفالة بمثله من الديون صحيحة بخلاف بدل الكتابة.
وإن قال لعبده إذا أديت إلي فأنت حر لم يكن مكاتبا ولم يعتق حتى يؤدي لأن الكتابة توجب المال على المكاتب بالقبول فيثبت له بمقابلته ملك اليد والمكاسب وهنا المال لا يجب على العبد فلا يثبت له ملك اليد والمكاسب ولكن هذا اللفظ من المولى تعليق لعتقه بأداء المال فيكون كالتعليق بسائر الشروط ولهذا لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ولا يبطل بالرد ولا يمتنع على المولى بيعه ولكن متى جاء بالمال عتق وليس للمولى أن يمتنع من قبوله عندنا استحسانا.(7/259)
وفي القياس له ذلك وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يجبر المولى على إيجاد الشرط كما لو علقه بسائر الشروط وإذا لم يكن مجبرا على إيجاد الشرط لا يتم الشرط بفعل العبد لأن الشرط أن يتصل بالمولى نص على ذلك بقوله ولا يتصل به إلا بقبوله ودليل الوصف أنه لا يسري إلى الولد ولا يمتنع عليه بيعه ولا يصير العبد أحق بمكاسبه ولا يحتمل الفسخ والدليل عليه أنه لو باعه ثم اشتراه ثم جاء بالمال لم يجبر على قبوله فكذلك قبل البيع لأن حكم التعليق بالشرط لا يختلف بما قبل البيع وبعده.
وجه الاستحسان أنه مملوك تعلق عتقه بأداء مال معلوم إلى المولى فإذا خلى بين المال والمولى يعتق كالمكاتب وتأثيره أن هذا اللفظ باعتبار الصورة تعليق وباعتبار المعنى والمقصود كتابة لأنه حثه على اكتساب المال ورغبة في الأداء بما جعل له من العتق وليست الكتابة إلا هذا وهذا المال عوض من
وجه ألا ترى أن في زوجته الطلاق بهذه الصفة يكون بائنا وأن المولى لو وجد المال زيوفا فرده كان له أن يستبدله بالجياد وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فوفرنا عليه التعليق في الابتداء لمراعاة لفظ المولى ودفع الضرر عنه ووفرنا عليه معنى الكتابة في الانتهاء دفعا للضرر والغرور عن العبد فقلنا كما وضع المال بين يدي(7/260)
ص -126- ... المولى يعتق يدل عليه أنه علق العتق بفعل يباشره العبد وهو الأداء وفي مثله لا يكون للمولى أن يمتنع منه ولا أن يمنع عبده من ذلك الفعل كما لو قال له أنت حر إن شئت فشاء العبد في المجلس يعتق وليس للمولى أن يمتنع من ذلك الفعل. فأما إذا باعه ثم اشتراه قد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا جاء بالمال يعتق وهذا وما قبل البيع سواء لأن التعليق لا يبطل بالبيع وعلى ما ذكره في الزيادات أنه لا يجبر المولى على القبول والعذر واضح فإن معنى التعليق لا يبطل بالبيع ولكن معنى الكتابة يبطل بنفوذ البيع فيه وإجبار المولى على القبول كان من حكم الكتابة وقد بطل ذلك بنفوذ البيع فيه فلهذا لا يجبر على القبول بعده فأما قبل البيع معنى الكتابة باق كما بينا.
ولسنا نعني بقولنا يجبر المولى على القبول الإجبار حسا وإنما نعني أن بمجرد التخلية بينه وبين المال يعتق وليس للمولى أن يمتنع عنه وإذا أحضر العبد المال لا يمكن المولى من أن يهرب منه ثم لا يعتق العبد إلا بأداء جميع المال لأن الشرط لا يتم إلا به حتى لو بقي من المال درهم فهو عبد على حاله ولمولاه أن يبيعه وكذلك لو كان قال له إن أديت إلي ألفا إلا أن هذا على المجلس في ظاهر الرواية.(7/261)
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يتوقت بالمجلس كالتعليق بسائر الشروط وجه ظاهر الرواية. أنه بمنزلة التعليق بمشيئة العبد لأنه يتخير بين الأداء والامتناع منه فكما يتوقت بالمجلس إذا قال له أنت حر إن شئت فكذلك هذا توضيحه أنه في الكتابة يحتاج إلى القبول في المجلس, والأداء هنا بمنزلة القبول هناك من حيث أن حكم الكتابة يثبت به فيعتبر وجود الأداء في المجلس هنا إذا لم يكن في لفظه ما يدل على الوقت كما يعتبر القبول في المجلس في الكتابة وإن اختلفا في مقدار المال فالقول قول المولى مع يمينه لأن التعليق بالشرط تم به فالقول قوله في بيانه بخلاف مسألة أول الباب فإن العبد هناك عتق بالقبول فيكون الاختلاف بينهما في الدين الواجب عليه وهنا لا يعتق إلا بالأداء فإنما وقع الاختلاف بينهما فيما يقع به العتق فلهذا كان القول قول المولى فيه. وإن أقاما البينة فالبينة بينة العبد لأنه لا منافاة بين البينتين فيجعل كان الأمرين كانا فأي الشرطين أتى به العبد يعتق ولأن البينات للإلزام وفي بينة العبد معنى الإلزام فإنها إذا قبلت عتق العبد بأداء الخمسمائة وليس في بينة المولى إلزام فإنها وإن قبلت لا يجبر العبد على أداء المال.
وإذا قال لأمته إذا أديت إلي ألفا فأنت حرة فولدت ولدا ثم أدت لم يعتق ولدها معها لأنها إنما عتقت عند الأداء وقد انفصل الولد عنها قبل هذا فلا يسري إليه ذلك العتق. وقد بينا أن حكم الكتابة لا يثبت بهذا اللفظ قبل الأداء فبقي ولدها مملوكا للمولى مطلقا وإن أدت الألف من مال مولاها عتقت لوجود الشرط وللمولى أن يرجع عليها بمثله لأن مقصود المولى لم يحصل بها فإن مقصوده أن يحثها على الاكتساب لتؤدي من كسبها فيملك المولى ما لم يكن له ملكا قبل هذا وبأداء مال المولى إليه لا يحصل هذا المقصود فيرجع عليها بمثله دفعا(7/262)
ص -127- ... للضرر عنه وكذلك إن أدت من كسب اكتسبه قبل هذا القول لأن ذلك الكسب من ملك المولى قبل التعليق ولو أدته من كسب اكتسبته بعد هذا القول لم يرجع المولى عليها بشيء آخر لأن مقصوده قد تم فإن استحق المقبوض من يد المولى لم يبطل العتق لأن الشرط تم بأداء المستحق والعتق بعد وقوعه لا يحتمل الفسخ وللمولى أن يرجع عليها بمثله لأن مقصوده لم يحصل بهذا الأداء, ولو كان المولى مريضا حين قال لها إن أديت إلي ألفا فأنت حرة فاكتسبت وأدت ثم مات المولى من مرضه فإنها تعتق من ثلثه في القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن كسبها ملك المولى فلا يكون ملكه عوضا عن ملكه والعتق في المرض بغير عوض يكون معتبرا من الثلث.
وفي الاستحسان تعتق من جميع ماله لأن المؤدى في حكم العوض حتى إذا وجده زيوفا استبدله بالجياد ولأن الضرر مندفع عن الورثة حين استوفى المولى منها مقدار ماليتها وهذا بناء على اعتبار معنى الكتابة فيه عند الأداء استحسانا.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حرة وقبلت فهذه مكاتبة وليس له أن يبيعها وإن أدت عتقت وإن كسرت شهرا واحدا ثم أدت إليه ذلك الشهر كان جائزا هكذا في نسخ أبي سليمان.
وفي نسخ أبي حفص رضي الله عنه قال لا تكون مكاتبة وله أن يبيعها قبل الأداء, ولو كسرت شهرا ثم أدت في الشهر الثاني لم تعتق.
وجه رواية أبي حفص رضي الله عنه أن تعليق العتق بشرط واحد وبشروط كثيرة سواء كما في سائر الشروط وليس في هذا أكثر من أنه علق عتقه بوجود أداء المائة عشر مرات في عشرة أشهر ولو علقه بأداء الألف جملة واحدة لم تكن مكاتبة ولا تعتق إلا بوجود صورة الشرط فكذلك إذا علقه بالأداء عشر مرات.(7/263)
ووجه رواية أبي سليمان رضي الله عنه أنه أتى بمعنى الكتابة حين جعل المال مؤجلا منجما عليه والتأجيل والتنجيم من حكم الكتابة والعبرة في العقود للمعاني دون الألفاظ, ألا ترى أنه لو قال ملكتك هذا العبد بكذا كان بيعا وإن لم يصرح بلفظ البيع ولأن التأجيل والتنجيم للتيسير وذلك في المال الواجب فعرفنا أنه قصد إيجاب المال عليه ولا يجب عليه المال إلا بالكتابة.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا في هذا الشهر فأنت حرة فلم تؤدها في ذلك الشهر وأدتها في غيره لم تعتق على الروايتين جميعا وبهذا استشهد في نسخ أبي حفص ووجه الفرق على رواية أبي سليمان أنه ليس في هذا اللفظ ما يدل على معنى الكتابة من التنجيم والتيسير على العبد بل فيه اشتراط تعجيل أداء المال فلم يكن كتابه وقد فات الشرط بمضي الشهر قبل أدائه فلهذا لا يعتق بخلاف ما إذا صرح بالتنجيم.
وإذا قال متى أديت إلي ألفا فأنت حرة فمات المولى قبل الأداء بطل هذا القول كما(7/264)
ص -128- ... يبطل التعليق بسائر الشروط إذ لا فائدة في بقائه بعد موت المولى لأنها صارت مملوكة للوارث فلا يتوهم وجود الشرط بعد هذا على ملك المولى لتعتق به بخلاف الكتابة فإن المكاتب ثبت له حكم المالكية يدا بعقد الكتابة فلا يصير ملكا للوارث ولكن يبقى على حكم ملك المولى حتى يعتق بأدائه وإن كان قال إن أديت ألفا بعد موتي فأنت حرة فهذه وصية لأن العتق بمال والعتق بغير مال في صحة إيجابه من المولى سواء.
ولو قال أنت حرة بعد موتي كان صحيحا فكذلك إذا قال إذا أديت ألفا بعد موتي فأنت حرة إذا جاءت بالمال فعلى الوصي أن يقبله منها ويعتقها ثم إن كانت قيمتها ألف درهم أو أقل فليس عليها شيء آخر استحسانا, وإن كانت قيمتها أكثر من ذلك فالفضل يعتبر من الثلث وهذا ومسئلة المريض سواء.(7/265)
ولو قال لعبدين له إذا أديتما إلي ألفا فأنتما حران فأدى أحدهما حصته لم يعتق لأن شرط العتق أداؤهما جميعا المال والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزءا فجزءا وإنما ذلك من أحكام المعاوضات وكذلك لو أدى أحدهما جميع الألف من عنده لم يعتق لأن الشرط أداؤهما فلا يتم بأداء أحدهما فإن قال المؤدي خمسمائة من عندي وخمسمائة بعث بها صاحبي لاؤأديها إليك عتقا لأن أداء الرسول كأداء المرسل فيتم الشرط بهذا وهو أداؤهما جميعا المال فإن أداها عنهما رجل آخر لم يعتقا لأن الشرط أداؤهما بخلاف الكتابة فإن شرط العتق هناك براءته عن المال وذلك يحصل بأداء الأجنبي إذا قبله المولى ثم للمؤدي أن يرجع فيها لأنه أداها ليعتقا به ولم يحصل مقصوده فإن قال أؤديها إليك على أنهما حران أو على أن تعتقهما فقبل على ذلك عتقا ويرجع المال إلى المؤدي أما العتق فلأن قبول المولى على هذا الشرط بمنزلة الإعتاق من المولى إياهما وأما ثبوت حق الرجوع فلأن عوض العتق لا يجب على الأجنبي وقد بينا هذا في الباب المتقدم, وإذا أداها وقال هما أمراني أن أؤديها إليك عنهما فقبلها عتقا لأنه رسول عنهما في الأداء وأداء الرسول كأداء المرسل وقوله لعبده متى أديت إلي ألفا فأنت حر أو إن أديت أو إذا أديت إذن منه له في التجارة استحسانا لوجود دليل الإذن فإنه حثه على أداء المال ولا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب فيكون هذا ترغيبا له في الاكتساب ليؤدي المال ولم يرد الاكتساب بالتكدي لأنه يدني المرء ويخسسه وإنما مراده الاكتساب بالتجارة ودلالة الإذن كصريح الإذن ألا ترى أنه لو قال أد إلي ألفا كل شهر كذا كان ذلك منه إذنا له في التجارة فإن اكتسب ألفي درهم فأدى إليه ألفا عتق لوجود الشرط وللمولى أن يأخذ منه الألف الباقية لأنه كسب عبده بخلاف المكاتب فقد ثبت له المالكية يدا في مكاسبه بعقد الكتابة فلهذا سلم الفضل له وهنا ما ثبت للعبد حكم المالكية في مكاسبه وإنما اعتبرنا(7/266)
معنى الكتابة عند الأداء ليندفع الضرر والغرور عن العبد وذلك في قدر ما شرط عليه أداؤه فأثبتنا حقه بذلك القدر وما زاد عليه فهو للمولى لأن الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة.(7/267)
ص -129- ... وإن قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر فقال العبد للمولى حط عني منها شيئا أو اقبل مني مكانها مائة دينار فحط عنه المولى مائة درهم وأدى تسعمائة لم يعتق, ألا ترى أنه لو أبرأه عن جميع المال لم يعتق وهذا لأن الشرط وجود أداء الألف فلا يتم بأداء تسعمائة بخلاف الكتابة فإن المال هناك واجب على المكاتب فيتحقق إبراؤه عنه سواء أبرأه عن الكل أو حط بعضه وهنا لا مال على العبد فالحط والإبراء باطل ولا يعتق ما لم يتم الشرط وليس للعبد أن يسترد من المولى ما أخذ منه لأن كسبه مملوك لمولاه وهو نظير ما لو قال له إذا خدمتني سنة فأنت حر فخدمه أقل من سنة وتجاوز المولى عما بقي لم يعتق لأن الشرط لم يتم وكذلك لو صالحه من الخدمة على مال كان باطلا ولا يعتق بها لأن العتق المتعلق بالشرط لا ينزل ما لم يوجد الشرط بعينه ولا تتحقق الخدمة بهذا الصلح فلا يعتق به إلا أن يقول المولى له عند الصلح أنت حر إن أديت هذا.
ولو قال لعبده إن أديت إلي كذا من العروض فأنت حر فأداها إليه عتق لوجود الشرط إلا أنه إن كان ذلك شيئا يصلح أن يكون عوضا في الكتابة يجبر المولى على قبوله بمنزلة الألف وإن كان لا يصلح عوضا في الكتابة لا يجبر على قبوله ولكن إن قبله يعتق لأن الإجبار على القبول باعتبار معنى الكتابة.
ولو قال أخذ مني وولدي سنة ثم أنت حر أو إذا خدمتني وإياه سنة فأنت حر فمات المولى قبل مضي السنة لم يعتق به لأن الشرط لم يتم وقد بينا أن التعليق يبطل بموت المولى وكذلك إن مات الولد فقد فات شرط العتق بموته فلا يعتق بعد ذلك.(7/268)
ولو قال أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل فهو حر والخدمة عليه يؤخذ بها لأنه أوجب له العتق هنا بقبول الخدمة وفي الأول أوجب له العتق بوجود الخدمة ثم الخدمة في مدة معلومة تصلح أن تكون عوضا فيصح التزامه دينا بمقابلة العتق فإن مات المولى فللورثة أن يأخذوه بما بقي من خدمة السنة من قيمته في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى إنما يأخذونه بما بقي من الخدمة.
قال عيسى وهذا غلط بل على قولهم جميعا هنا يأخذونه بما بقي من خدمة السنة لأن الخدمة دين عليه فيخلفه وارثه بعد موته كما لو كان أعتقه على ألف درهم واستوفى بعضها ثم مات كان للورثة أن يأخذوه بما بقي من الألف ولكن في ظاهر الرواية يقول الناس يتفاوتون في الخدمة وإنما كان الشرط أن يخدم المولى فيفوت ذلك بموت المولى كما يفوت بموت العبد ولو مات العبد قبل تمام السنة فللمولى أن يأخذ من تركته بقدر ما بقي عليه من خدمة السنة من قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى من قيمة الخدمة.
وأصل المسألة في كتاب البيوع إذا باع نفس العبد منه بجارية فاستحقت أو هلكت قبل(7/269)
ص -130- ... القبض في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يرجع على العبد بقيمة نفسه وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى يرجع بقيمة الجارية إلا أن هذا القدر ليس بقوي فإن الخدمة عبارة عن خدمة البيت وهو معروف بين الناس لا يتفاوتون فيه فلا يفوت بموت المولى ولكن الأصح أن يقول الخدمة عبارة عن المنفعة والمنفعة لا تورث فلا يمكن إبقاء عين الخدمة بعد موت المولى فلهذا كان المعتبر قيمته أو قيمة الخدمة على حسب ما اختلفوا فيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب بيع أمهات الأولاد
قال: "رضي الله عنه بيع أم الولد باطل في قول جمهور الفقهاء وكان بشر المريسي وداود ومن تبعه من أصحاب الظواهر رضوان الله عليهم أجمعين يجوزون بيعها" لأن المالية والمحلية للبيع قبل الولادة معلوم فيها بيقين فلا يرتفع إلا بيقين مثله وخبر الواحد لا يوجب علم اليقين, ولكنا نقول في معارضة هذا الكلام لما حبلت من المولى امتنع بيعها بيقين فلا يرتفع ذلك إلا بيقين مثله ولا يقين بعد انفصال الولد, "فإن قال" إنما امتنع بيعها لأن في بطنها ولدا حرا وقد علمنا انفصاله عنها.
قلنا: لا كذلك بل إنما امتنع بيعها لثبوت الحرية في جزء منها فإن الولد يعلق من الماءين حر الأصل وماؤها جزء منها وثبوت الحرية لجزء منها مانع من بيعها وهذا المعنى لا ترتفع بالانفصال وإليه أشار عمر رضي الله عنه فقال أبعد ما اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن أو إنما امتنع بيعها لأنها صارت منسوبة إليه بواسطة الولد يقال أم ولده وهذه النسبة توجب العتق فيمتنع البيع ضرورة وبالانفصال يتقرر هذا المعنى ولا يرتفع.(7/270)
ثم الآثار المشهورة تدل على ذلك فمنه حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى اله عليه وسلم قال: "أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه" ولما ولدت مارية إبراهيم من رسول الله صلى اله عليه وسلم ورضي عنها وقيل لرسول الله صلى اله عليه وسلم ألا تعتقها؟ قال: "قد أعتقها ولدها" ففي هذين الحديثين دليل استحقاق العتق لها وذلك يمنع البيع.
وفي حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال أمر رسول الله صلى اله عليه وسلم يعتق أمهات الأولاد من غير الثلث, وأن لا يبعن في دين ففيه دليل استحقاق العتق وانعدام المالية والتقوم فيها حين لم يجعل عتقها من الثلث ولم يثبت حق الغرماء فيها.
وفيه دليل أنه لا يجوز بيعها لحاجة المولى في حياته ولا بعد موته وحديث سلامة بنت معقل قالت اشتراني الحباب ابن عمرو فولدت منه ثم مات فجئت إلى النبي صلى اله عليه وسلم فأخبرته أني ولدت من الحباب فقال: "من وارث الحباب؟" فقال أبو بشر بن عمرو فقال: "أعتقوا هذه فإذا أتانا سبي فأتونا حتى نعوضكم" وتأويله أن وارث الحباب كان ينكر ولادتها منه ومع ذلك(7/271)
ص -131- ... أمره رسول الله صلى اله عليه وسلم أن يعتقها احتياطا ووعده العوض من عنده فهو دليل على أن الاستيلاد إذا كان ظاهرا ثبت به استحقاق العتق ولا يجوز بيعها.
وحديث عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال استشارني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عتق أمهات الأولاد فاجتمعت أنا وهو على عتقهن ثم رأيت بعد ذلك أن أرقهن فقال أبو عبيدة رأي ذوي عدل أحب إلي من رأي ذي عدل وحده فدل أنهم كانوا مجمعين على استحقاق العتق لها في الابتداء.
فإن قيل: فكيف جوز علي رضي الله تعالى عنه مخالفة الإجماع بعد ذلك؟
قلنا: يحتمل أنه كان من مذهبه أن الإجماع لا يتم إلا بانقراض ذلك العصر ويحتمل أن معنى قوله ثم رأيت أن أرقهن إلى أداء السعاية فلا يكون هذا منه خلافا في أصل استحقاق العتق بل في صفته أنه من الثلث أو من جميع المال.
وعن إبراهيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينادي على منبر رسول الله صلى اله عليه وسلم ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق عليها بعد موت مولاها وعن إبراهيم في أم الولد إذا أسقطت سقطا قد استبان خلقه كانت به أم ولد هكذا, روى عنه حماد وروى عنه الحكم إذا أسقطت مضغة أو علقة كانت به أم ولد وكأنه على هذه الرواية اعتبر نفس اختلاط الماءين كما في حديث عمر رضي الله عنه
ولسنا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بحديث حماد عنه لأن السقط الذي لم يستبن شيء من خلقه ليس بولد فلا تصير به أم ولد بخلاف السقط الذي استبان بعض خلقه فإنه ولد في الأحكام فيتحقق نسبتها إليه بواسطة(7/272)
وإذا أقر الرجل أن حمل أمته منه صارت أم ولد له وله خدمتها ووطؤها ولا يجوز له أن ينقل ملكها إلى غيره أما إذا ظهر ولادتها بعد هذا الإقرار فلا إشكال فيه لأن نسب الولد ثبت منه بإقراره فإن ثبوت النسب من وقت العلوق بإقراره وإقراره مصادف محله وأما إذا لم تظهر ولادتها وزعم المولى أنه كان ريحا في بطنها وصدقته في ذلك فهي بمنزلة أم الولد أيضا لأن الحمل اسم للولد وقد ثبت لها حق العتق بإقراره المتقدم فلا يصدقان على إبطاله كما لا يصدقان على إبطال حقيقة العتق وكذلك لو كان قال ما في بطنك من ولد فهو مني ولو كان قال ما في بطنك مني ثم تصادقا أنه كان ريحا في بطنها فله أن يبيعها لأنه ليس في لفظه تصريح بوجود الولد في بطنها فلا يكون مقرى لها بحق العتق بهذا اللفظ بخلاف ما سبق.
وإن قال إن كانت حبلى فهو مني فولدت ولدا أو أسقطت سقطا قد استبان خلقه فإن أقر المولى به فهي أم ولده إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر لأن ولادتها هذا الولد ثبت بإقراره ووجوده في البطن عند دعواه معلوم وإن أنكر المولى الولادة فشهدت عليه امرأة جاز ذلك وثبت النسب لأن الولادة تثبت بشهادة المرأة الواحدة كما تثبت بإقراره, ثم النسب وأمية الولد إنما تثبت بإقرار المولى لا بشهادة القابلة وإذا ولدت المدبرة من السيد صارت أم ولد له وبطل التدبير.(7/273)
ص -132- ... معناه أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ثبوت أمية الولد لأن كل واحد منهما يوجب استحقاق العتق لها في الحال وتعلق التنجز بموت المولى والاستحقاق بالاستيلاد أقوى حتى يكون من جميع المال والتدبير من الثلث والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فلهذا قال وقد بطل التدبير, وإذا أقر في صحته أن أمته هذه قد ولدت منه صارت أم ولده لأنه أقر باستحقاق العتق لها في حال يملك إنشاء عتقها مطلقا والمقر يعامل في حق نفسه كأنما أقر به حق إذا لم يكن في المحل حق لأحد سواه كان الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة وإن أقر بذلك في مرضه فإن كان معها ولد فكذلك الجواب لأن نسب الولد ثبت منه فإن المريض غير محجور على الإقرار بالنسب وثبوت نسب الولد شاهد لها بمنزلة ما لو أقامت البينة على أنها أم ولده وإن لم يكن معها ولد عتقت من الثلث لأن إقراره لها باستحقاق العتق بمنزلة تنجيز العتق ولو نجز عتقها كان من الثلث لأن حق الورثة قد تعلق بها بمرضه.(7/274)
توضيحه أنه إذا كان معها ولد فهو محتاج إلى إثبات نسب ولده منه كيلا يضيع نسله وحاجته مقدم على حق الورثة فإنما صرفها مع ولدها إلى حاجته فكانت من جميع ماله وإذا لم يكن معها ولد فهو بكلامه ما صرفها إلى حاجته بل أقر بعتقها بعد موته فيكون معتبرا من ثلثه, وإذا زوج أم ولده من رجل جاز النكاح لأن الفراش الثابت له عليها سببه ملك اليمين وذلك غير ملزم للمولى فلا يمنع صحة تزويجه إياها فإذا ولدت من الزوج فولدها بمنزلتها أما ثبوت النسب من الزوج فلأنها ولدته على فراشه وأما ثبوت حق أمية الولد لهذا الولد فلأنه جزء منها فإنما ينفصل عنها بصفتها وكما أنها تعتق بالموت ولا تسعى لأحد فكذلك ولدها من غير المولى, ألا ترى أن الولد لا ينفصل من الحر إلا حرا وعلى المولى في جناية أم الولد قيمتها لا يلزمه أكثر من ذلك وإن كثرت الجناية منها لأنه بالاستيلاد السابق منع دفعها بالجناية على وجه لم يصر مختارا لأنه ما كان يعلم أنها تجنى ولو كانت محل الدفع لم يكن عليه إلا دفعها بالجناية وإن كثرت الجناية منها فكذلك لا يلزمه إلا قيمة واحدة لأنه ما منع إلا رقبة واحدة وأما الدين الذي يلحقها بغصب أو استهلاك فإنها تسعى فيه بالغا ما بلغ لأن الدين ثابت في ذمتها, ولو كانت محل البيع لكانت تباع فيه ويصرف كسبها ورقبتها إلى ديونها فإذا تعذر بيعها بالاستيلاد وجب قضاء ديونها من كسبها بخلاف الجناية فإنها تتباعد عن الجاني وتتعلق بأقرب الناس إليه, ألا ترى أن دين المملوك يبقى في ذمته بعد بيعه ولا تبقى الجناية في رقبته بعد بيعه أو عتقه, وولد أم الولد ثابت النسب من المولى ما لم ينفه لأنها فراش له وقال عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" ولكن ينتفي عنه بمجرد النفي عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إن لم يكن استبرأها بحيضة يلزمه نسب ولدها وليس له أن ينفيه وإن كان قد استبرأها بحيضة بعد ما وطئها لا يلزمه نسب ولدها إلا بالدعوة.(7/275)
وحكمها وحكم الأمة التي ليست بأم ولد سواء عنده بناء على أصلين له أحدهما أنه لا عدة على أم الولد بعد العتق كالأمة القنة وإنما يلزمها الاستبراء بحيضة وقد بينا هذا في كتاب(7/276)
ص -133- ... النكاح. والثاني أن عنده الأمة تصير فراشا بنفس الوطء وقد بينا هذا أيضا فيما أمليناه من شرح الدعوى فإذا صارت عنده فراشا بالوطء لا يرتفع حكم هذا الفراش إلا بالاستبراء, فإن جاءت بالولد قبل أن يستبرئها يلزمه النسب لوجود دليله شرعا فلا يملك نفيه كما لو قامت البينة به وإن استبرأها بحيضة فقد انعدم حكم ذلك الفراش لأن بسببها كان اشتغال رحمها بمائه بالوطء وقد انعدم ذلك بالاستبراء فلا يلزمه النسب إلا بالدعوة وعندنا له على أم الولد فراش معتبر ولهذا لزمها أن تعتد بثلاث حيض بعد العتق فثبت النسب باعتبار الفراش ولكن هذا الفراش غير ملزم في حقه ولهذا يملك تزويجها من غيره فكما ينفرد بنقل الفراش إلى غيره ينفرد بنفي نسب الولد وإنما يملك نفيه ما لم يقض به القاضي أو يتطاول ذلك فأما بعد قضاء القاضي فقد لزمه بالقضاء على وجه لا يملك إبطاله وكذلك بعد التطاول لأنه يوجد منه دليل الإقرار في هذه المدة من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بالإقرار. واختلافهم في مدة التطاول قد سبق بيانه في باب اللعان من كتاب الطلاق, فأما الأمة والمدبرة فلا يلزمه ولدهما وإن حصنهما وطلب ولدهما ما لم يقربه لأن الفراش على المملوكة لا يثبت بالوطء عندنا والنسب لا يثبت بدون الفراش إلا أنه روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها ولم يعزل عنها وحصنها فله أن يدعي نسب ولدها وليس له أن ينفيه فيما بينه وبين ربه لأن الظاهر أنه منه والبناء على الظاهر واجب فيما لا تعلم حقيقته, فأما إذا عزل عنها أو لم يحصنها فله أن ينفيه لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر.(7/277)
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بالولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصن تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه ولأن ما يظهر عقيب سببه يكون محالا به عليه حتى يتبين خلافه وعند محمد رحمه الله تعالى لا ينبغي له أن يدعي النسب إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي له أن يعتق الولد ويستمتع بها ويعتقها بعد موته لأن استلحاق نسب ليس منه لا يحل شرعا فيحتاط من الجانبين وذلك في أن لا يدعي النسب ولكن يعتق الولد ويعتق الأم بعد موته لاحتمال أن يكون منه ولا ينبغي له أن يزوج أم ولده حتى يستبرئها بحيضة لجواز أن تكون حاملا من المولى فلا يكون تزويجها صحيحا ولكن هذا التوهم يوجب الاحتياط ولا يبطل النكاح فإذا اشتراها فقد علم أنها ليست بحامل فيتزوجها بعد ذلك, وإن زوجها قبل الاستبراء فولدت لأقل من ستة أشهر فهو من المولى والنكاح فاسد لأنا تيقنا أن العلوق سبق النكاح على فراش المولى وإن زوجها وهي حامل ومن كان في بطنها ولد ثابت النسب من أحد لا يجوز تزويجها وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر فالنسب ثابت من الزوج لأنها علقت على فراشه فإن ادعاه المولى عتق بإقراره ونسبه ثابت من الزوج وقد تقدم بيان هذا الفصل, وإذا حرمت أم الولد على مولاها بوطء ابنه إياها فإن جاءت بولد بعد ذلك لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه إلا أن يدعيه.(7/278)
ص -134- ... وعند زفر رحمه الله تعالى ثبت النسب منه وله أن ينفيه لأنه ما اعترض على فراش آخر فيكون النسب ثابتا منه بالفراش وثبوت الحرمة بهذا السبب كثبوتها بالحيض وذلك لا يقطع الفراش, ولكنا نقول تحسين الظن بالمسلم واجب فلو أثبتنا النسب منه من غير دعوة لكان فيه حمل أمره على الفساد والحكم عليه بمباشرة الوطء الحرام وذلك لا يجوز إلا أن توجد الدعوى منه فحينئذ يحكم بذلك بإقراره وإن جاءت به لأكثر من سنتين وإن جاءت به لأقل من سنتين وزعم أنه كان من علوق قبل الحرمة وجب قبول قوله في ذلك للإحتمال وإذا مات عن أم ولده أو أعتقها فعليها أن تعتد بثلاث حيض هكذا نقل عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما وقد بينا هذا في كتاب النكاح وكذلك إن كانت حرمت عليه قبل ذلك لأنها بالحرمة ما صارت فراشا لغيره إلا أن يثبت نسب الولد منه لتحسين الظن به لا لانعدام الفراش حتى إذا ادعى يثبت النسب منه فإذا أعتقها فقد زال الفراش إليها بالعتق في هذه الحالة فتلزمها العدة لهذا وإذا أعتق أم ولده فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين من يوم أعتقها فنفاه فنفيه باطل لأن فراشها قد تأكد بحريتها, ألا ترى أنه لا يملك تزويجها من غيره ما لم تنقض عدتها فكانت كالمنكوحة في هذه الحالة والمعتدة من نكاح متى جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الفرقة ثبت النسب من الزوج على وجه لا يملك النفي فكذلك هنا وإن أقرت بانقضاء عدتها بثلاث حيض ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت النسب منه وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يثبت نسبه منه كما في المعتدة من نكاح, وإذا تزوج أمة رجل فولدت ثم اشتراها أو ملكها بسبب آخر صارت أم ولد له عندنا, وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تصير أم ولد له.(7/279)
وفي المغرور إذا ملك الجارية له وجهان احتج بقوله صلى اله عليه وسلم: "أيما أمة ولدت من سيدها فشرط لثبوت حق العتق لها أن تلد من سيدها" وهذه ولدت من زوجها لا من سيدها والمعنى فيه أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد بذلك كما لو استولدها بالزنى ثم ملكها وتأثيره أن ثبوت حق أمية الولد إذا علقت من سيدها باعتبار أن الولد يعلق حر الأصل من الماءين وماؤها جزء منها فثبوت الحرية لذلك الجزء يوجب ثبوت الحرية لجميعها إلا أن اتصال الولد بها بعرض الانفصال وجعل الولد كشخص على حدة في بعض الأحكام فلوجود حقيقة الاتصال أثبتنا حق العتق لما بقي منها ولكونه بعرض الانفصال وبمنزلة شخص على حدة في بعض الأحكام لا تثبت حقيقة الحرية لما بقي منها في الحال وهذا المعنى لا يوجد إذا علقت برقيق وحقها في أمية الولد ليس في معنى حق الولد في الحرية لأن الولد إنما يعتق عليه باعتبار الجزئية ولهذا لو كان الاستيلاد بالزنى فملكه يعتق عليه ولا يوجد ذلك المعنى في حق الأم وعلى هذا الطريق يقولون في المغرور أن الجارية تصير أم ولد له إذا ملكها لأنها علقت بحر والطريق الآخر أن موجب الاستيلاد ثبوت حق العتق لها فإذا حصل قبل الملك لا يكون موجبا في الملك الذي يحدث بعده كالتدبير وحقيقة العتق وعلى هذا الطريق في المغرور يقولون لا تصير أم ولد له.(7/280)
ص -135- ... "وحجتنا" في ذلك أنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب فتكون أم ولده كما لو استولدها في ملكه وتأثيره أن حق العتق ثبت لها بالاستيلاد كما قال صلى اله عليه وسلم "أعتقها ولدها" والملك في المحل شرط فإذا تقرر السبب قبل الملك توقف على وجود شرطه وهو الملك, ألا ترى أن في حرية الولد لما تقرر السبب قبل الملك وهو النسب توقف على وجود شرطه وهو الملك حتى إذا ملكه يعتق فكذلك في الأم لأن حقها تابع لحق الولد بخلاف التدبير والعتق قبل الملك فإن ذلك, لغو شرعا فلا يظهر حكمه بعد الملك وهذا السبب متقرر شرعا.
توضيحه أن حق العتق لأم الولد باعتبار أنها منسوبة إليه بواسطة الولد فإن للجزئية تأثيرا في النسبة والولد جزء منها فتصير هي منسوبة له باعتبار هذه الواسطة حتى يقال أم ولده وهذا متقرر حتى يثبت نسب الولد بنكاح كان أو بملك ولا معتبر بما قاله الخصم من حرية الماء الذي هو في حكم الجزء ولأنه لو أعتق ما في بطن جاريته لم يثبت لها حق العتق ولا حقيقة العتق فلو كان ثبوت حق العتق لها باعتبار الاتصال والجزئية لثبت هنا لأن الثابت لها باعتبار الجزئية من جنس ما هو ثابت للجزء والثابت للولد حرية الأصل على وجه لا يعقب الولاء والثابت لها حق العتق على وجه يثبت به الولاء ولا مشابهة بينهما فعرفنا أن الطريق فيه ما قلنا وهو ثبوت نسب الولد ويستوي إن كان النكاح بينهما ظاهرا أو أقر بذلك وأنكر مولاها ثم ملك لأن المقر يعامل في حق نفسه كان ما أقر به حق, فأما إذا استولدها بالزنى وأقر بذلك ثم ملكها في القياس تصير أم ولد له وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه أقر لها بحق العتق وللولد بحقيقة العتق ثم في حقيقة العتق للولد لا فرق بين ما إذا أقر به بالنكاح أو الزنى فكذلك في حق العتق لها.(7/281)
ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا إنها لا تصير أم ولد له لأن الموجب لحق العتق لها صيرورتها منسوبة إليه بواسطة الولد وهذا المعنى لا يوجد هنا لأن نسب الولد بالزنى لا يثبت وهي لا تصير منسوبة إليه بدون هذه الواسطة فلهذا لا تكون أم ولد له فأما الولد يعتق عليه إذا ملكه لأنه وإن انعدم هذا المعنى في حق الولد فقد وجد معنى آخر وهو الجزئية لأن الجزئية لا تنعدم حقيقة بسبب أن الولد بالزنى والإنسان كما لا يستديم الملك على نفسه لا يستديم الملك على جزئه فلهذا يعتق الولد إذا ملكه يقرره أن حال الأم في حق أمية الولد كحال الأخ فإنه ينسبه إلى أخيه بواسطة الأب ثم من ملك أخاه من الزنى لا يعتق الأخ لأن الواسطة قد انعدمت حين لم يثبت النسب بالزنى فكذلك الواسطة هنا قد انعدمت حين لم يثبت نسب ولدها بالزنى فلهذا لا تصير أم ولد له ولو زوج أمته عبده فولدت فادعاه المولى بعتق الولد وتكون أمه بمنزلة أم الولد له وهنا نسب الولد غير ثابت من المولى ومع ذلك الجارية تكون أم ولد له وإنما كان كذلك لاحتمال أن يكون الولد ثابت النسب من المولى بعلوق سبق النكاح والشبهة بعد النكاح إلا أن هذا الاحتمال غير معتبر في حق النسب لثبوت نسبه من الزوج واستغنائه به عن النسب فبقي معتبرا في حق الأم لأنها محتاجة إلى حق أمية(7/282)
ص -136- ... الولد بخلاف ما إذا أقر بالاستيلاد بالزنى لأنه لا احتمال النسب هناك مع تصريحه بالزنى, وإذا اشترى أمة لها ثلاثة أولاد فادعى أحدهم فإن كانوا ولدوا في بطن واحد ثبت نسبهم جميعا منه لأنهم في حكم النسب كشخص واحد فإنهم خلقوا من ماء واحد وإن كانوا في بطون مختلفة لم يثبت إلا نسب الذي ادعاه والباقيان رقيقان ويبيعهما إن شاء لأنهم ولدوا في غير ملكه فتكون دعوته فيهم دعوة تحرير ودعوة التحرير بمنزلة الإعتاق ولو أعتق أحدهم لم يعتق إلا ذاك فكذلك إذا ادعى نسب أحدهم ولو ولدوا في ملكه بأن ولدت أمة رجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فإن ادعى الأصغر فإنه يثبت نسب الأصغر منه وله أن يبيع الآخرين بالاتفاق وإن ادعى الأكبر ثبت نسب الأكبر منه والأوسط والأصغر بمنزلة الأم ليس له أن يبيعهما ولا يثبت نسبهما منه إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول ثبت نسبهما منه لأنه ثبت لها حق أمية الولد من حين علقت بالأكبر ونسب ولد أم الولد ثابت من المولى ما لم ينفه ولا يجوز أن يقال تخصيص الأكبر بالدعوة دليل النفي في حق الآخرين لأن هذا مفهوم والمفهوم ليس بحجة عندنا.
ولكنا نقول يحق عليه شرعا الإقرار بنسب ولد هو منه ولما خص الأكبر بالدعوة بعد ما لزمه هذا شرعا كان هذا نفيا للآخرين وهذا نظير ما قيل السكوت لا يكون حجة ولكن السكوت بعد لزوم البيان يجعل دليل النفي فهذا مثله وكما أن دليل الدعوة كالتصريح فدليل النفي كالتصريح به ولو نفى الآخرين لم يثبت نسبهما وكانا عنده بمنزلة أمهما, وكذلك لو اشترى ابن أم ولد له من غيره بأن استولد جارية بالنكاح ثم فارقها فزوجها المولى من غيره فولدت ثم اشترى الجارية مع الولدين فالجارية تكون أم ولد له وولده حر, فأما ولدها من غيره فله أن يبيعه في قول علمائنا رحمهم الله تعالى ولا تصير بمنزلة الأم.(7/283)
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تصير بمنزلة الأم ليس له أن يبيعه ويعتق بموته لأنها ولدته بعد تمام سبب أمية الولد وهو نسب الولد فيكون حاله كحال أمه, ألا ترى أنها لو ولدته بعد ما ملكها من غيره كان الولد بمنزلة أمه فكذلك هنا.
وحجتنا: أن السبب لا يوجب الحكم إلا في محله والمحل ملكه فما لم يثبت الملك فيها لا يثبت لها حق أمية الولد بذلك النسب وكل ولد انفصل قبل ثبوت حق أمية الولد فيها لا يسري حق أمية الولد لأن السراية باعتبار الاتصال, ألا ترى أنه لو أعتق أمته وقد ولدت قبل ذلك لم يعتق الولد فكذلك لا يسري حق أمية الولد إلى الولد المنفصل قبل ثبوت الحق فيها بخلاف ما تلد بعد ثبوت الحق فيها وإذا ولدت أمة بين رجلين فادعاه أحدهما في صحته أو في مرضه فهو ابنه لأنه يملك جزءا منها وقيام ملكه في جزء منها كقيام الملك في جميعها في صحة الدعوة فإن اعتبار جانب ملكه يثبت النسب منه بالدعوة واعتبار جانب ملك شريكه يمنع من ذلك فيغلب المثبت للنسب احتياطا, ألا ترى أنه يسقط الحد عنه بهذا الطريق ويجب العقر فكذلك يثبت النسب منه بالدعوة لأن الولد محتاج إلى النسب(7/284)
ص -137- ... وبعضه ملكه فلا بد من إثبات نسب ذلك البعض منه بدعوته والنسب لا يتجزى في محل واحد والجارية أم ولد له لأن نصيبه منها صار أم ولد والاستيلاد لا يحتمل التجزي في محل واحد لأنه فرع النسب فيصير متملكا نصيب شريكه لضرورة عدم احتمال الاستيلاد للتجزي ويضمن نصف قيمتها لشريكه يوم وطئها فعلقت لأن أمية الولد ثبت لها من وقت العلوق فيصير متملكا نصيب شريكه عليه من ذلك الوقت ولا يتملكها إلا بعوض فلهذا يضمن قيمتها من ذلك الوقت وعليه نصف عقرها لأن أصل الوطء حصل منه ونصفها ملك لشريكه وقد سقط الحد بشبهة فيجب العقر وإنما قلنا ذلك لأن تملك نصيب الشريك هنا حكم الاستيلاد لا شرطه فإن قيام ملكه في نصفها يكفي لصحة الاستيلاد, وحكم الشيء يعقبه وليس عليه من قيمة الولد شيء لأن الولد علق حر الأصل باعتبار قيام الملك له في نصفها وقت العلوق ولأنه حين علق كان ماء مهينا لا قيمة له فلهذا لا يغرم من قيمة الولد للشريك شيئا وضمان نصف قيمتها عليه في حالتي اليسار والعسرة لأنه ضمان التملك إلا أنه روى المعلي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا كان المستولد معسرا تؤمر هي بالسعاية في نصف قيمتها للشريك لأن حق العتق قد ثبت لها فنصيب الشريك من وجه كأنه احتبس عندها وكذلك إن ادعى أحدهما نسب الولد وأعتق الآخر الولد وخرج القول منهما معا فعتق الآخر باطل وكذلك إن ادعى أحدهما نسب الولد وأعتقها الآخر لأن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق فيكون سابقا معني وإن اقترن بالعتق صورة ولما ثبت به للولد حرية الأصل فاعتاق الآخر إياه باطل وكذلك الأم لما صارت أم ولد لمدعي النسب من حين علقت فقد أعتقها الآخر وهو لا يملكها فلهذا كان العتق باطلا ودعوة الآخر أولى كافرا كان أو مسلما لأن صحة دعوة النسب باعتبار ملكه وقت العلوق والمسلم والكافر في ذلك سواء, فإن كانت الجارية بين مسلم وذمي ومكاتب وعبد فولدت فادعوا جميعا فدعوة المسلم أولى عندنا.(7/285)
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي يوسف دعوة المسلم والذمي سواء, أما المكاتب والعبد فليس لهما حقيقة الملك ولا تعارض دعوتهما دعوة من له حقيقة الملك وأما المسلم والذمي فزفر يقول لكل واحد منهما ملك في نصيبه على الحقيقة وصحة الدعوى باعتبار الملك فلا يترجح المسلم بإسلامه بعد ما تساويا في السبب كما في سائر الدعاوى
ولكنا نقول دعوة المسلم توجب الإسلام للولد ودعوة الكافر توجب الكفر له فيترجح الموجب للإسلام لأنه أنفع للولد توضيحه أنه لا بد من اعتبار دعوة المسلم والحكم بإسلام الولد به وبعد ما حكم بذلك فقول الكافر على المسلم ليس بحجة فلهذا كانت دعوة المسلم أولى وإن كان نصيبه أقل الإنصباء لأن صحة دعوته باعتبار أصل ملكه في جزء منها إذ لا معتبر بقدر الملك في تصحيح الدعوى وعليه ضمان حصة شركائه من قيمة الأمة والعقر لما بينا وعلى كل واحد من الآخرين حصة شركائه من العقر لإقراره بالوطء حين ادعى النسب, إلا(7/286)
ص -138- ... أن العبد يؤخذ به بعد العتق لأن وجوب هذا الدين لا بسبب التجارة فإقراره به صحيح في حقه فيؤاخذ به بعد العتق ولو كان مكان الحر المسلم مدبرا مسلما كان الولد ولد الذمي الحر لأن الملك على الحقيقة له وليس لأحد من شركائه حقيقة الملك, وقد بينا أن الدعوة بحقيقة الملك لا تعارضه الدعوة بحق الملك ثم في تصحيح دعوة الكافر هنا إثبات الحرية للولد وفيه منفعة ظاهرة له ولا يقال في تصحيح دعوة المملوك إثبات الإسلام للولد لأن في الحال منفعته في الحرية فيما يرجع إلى أمور الدنيا أظهر وباعتبار المال إذا بلغ لا يمكنه أن يحصل الحرية لنفسه ويمكنه أن يكتسب سبب الإسلام لنفسه بأن يهديه الله تعالى فيسلم فلهذا رجحنا جانب الحرية وجعلنا الولد ولد الذمي الحر ولو لم يكن فيهم ذمي كان ابن المكاتب لأن للمكاتب حق الملك في كسبه وليس للعبد والمدبر ذلك فلا تعارض دعوتهما دعوة المكاتب يقرره أن المكاتب له نوع مالكية فإنه مالك يدا ولو رجحنا دعوته ثبت للولد مثل ذلك أيضا لأنه يتكاتب عليه.(7/287)
فلهذا رجحنا دعوته على دعوة المدبر والعبد ولو لم يكن فيهم مكاتب لم تجز دعوى المدبر والعبد لأن كسبهما ملك المولى ودعوى النسب في ملك الغير لا يصح من الحر فكيف يصح من العبد وبنحوه علل فقال من قبل أن المولى لم يزوجهم, ولو صدقهما المولى بالولد وقالا كنا وطئناها بغير نكاح لم يثبت النسب أيضا لما قلنا. وذكر في كتاب الدعوى أن دعوة العبد المأذون نسب ولد جارية من كسبه تكون صحيحة كدعوة المكاتب لما للمأذون من اليد في كسبه فقالوا تأويل ما ذكر هنا أن العبد إذا كان محجورا عليه فوهب له جارية وهو فارغ عن الدين حتى يكون كسبه خالص حق المولى وليس له فيه يد ولا ملك فحينئذ لا يثبت النسب منه إذا لم يدع شبهة, وإذا ولدت الأمة من الرجل ثم اشتراها هو وآخر فهي أم ولد له لأن نصيبه منها صار أم ولد له والاستيلاد لا يحتمل التجزي فيثبت في نصيب شريكه أيضا ويضمن لصاحبه نصف قيمتها موسرا كان أو معسرا لأن هذا ضمان التملك فالرضا لا يمنع وجوبه وكذلك إن ورثاها لأن ضمان التملك لا يعتمد الصنع وبالإرث إنما ينعدم الصنع وهذا لأن وجوب هذا الضمان باحتباس نصيب الشريك عند المستولد ملكا وهذا المعنى يتقرر في الميراث فإن ورثا معها الولد وكان الشريك ذا رحم محرم من الولد عتق عليهما جميعا لأن علة العتق وهو الملك والقرابة تم لكل واحد منهما في نصيبه وإن كان الشريك أجنبيا عتق نصيب الأب وسعى للشريك في نصيبه لأن وجوب ضمان العتق يعتمد الصنع والميراث يدخل في ملكه من غير صنع وكذلك إن اشتريا أو وهب لهما.
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن عرف الأجنبي أن شريكه أبوه أو لم يعرف وعندهما يضمن الأب نصيب الشريك إن كان موسرا وقد بينا هذا فيما سبق أمة بين رجلين قد ولدت من زوج حر فاشترى الزوج حصة أحدهما من الأم والولد وهو موسر فهو ضامن لنصيب شريكه من الأم لأنه يملك نصيبه حين صارت أم ولد له وشريكه في الولد بالخيار إن(7/288)
ص -139- ... شاء ضمنه وإن شاء استسعاه وإن شاء أعتقه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بالشراء صار معتقا لنصيبه من الولد ولم يساعده الشريك على ذلك ولا رضي به ولو أن أمة غرت رجلا من نفسها فادعت أنها حرة فتزوجها وولدت له ولدا ثم استحقها رجل فإنه يقضي له بها وبقيمة الولد والعقر على الواطىءهكذا روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
وقد بينا أحكام ولد المغرور في كتاب النكاح والدعوى ثم إذا عتقت رجع عليها الأب بقيمة الولد لأن ضمان الغرور كضمان الكفالة والمملوك إنما يؤاخذ بضمان الكفالة بعد العتق فإن اشترى أب الولد نصفها من مولاها صارت أم ولد له لأن نسب ولدها ثبت منه ويضمن نصف قيمتها لمولاها لأنه يملك النصف الباقي عليه بالاستيلاد وإذا ادعى رجلان ولد جارية بينهما فهو ابنهما ويرثهما ويرثاه وحكم ثبوت النسب من رجلين قد بيناه بتمامه فيما أمليناه من شرح الدعوى.
ومقصوده هنا بيان حكم أمية الولد فنقول الجارية أم ولد لهما لثبوت سبب ولدها منهما والاستيلاد لا يحتمل الوصف بالتجزي في المحل ولكن إذا ثبت لاثنين لا يظهر به حكم التجزي في المحل كملك القصاص لا يحتمل الوصف بالتجزي في المحل ثم يجوز أن يجب القصاص لاثنين على شخص واحد والعتق على قولهما لا يتجزي في المحل ثم إذا باشره رجلان كان كل واحد منهما معتقا للنصف فإذا ثبت أنها أم ولد لهما قلنا تخدم كل واحد منهما يوما كما كانت تفعله قبل هذا لأنه لا تأثير للاستيلاد في إبطال ملك الخدمة وإذا مات أحدهما عتقت ولا ضمان للشريك في تركة الميت بالإتفاق لوجود الرضا منهما بعتقها عند الموت ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.(7/289)
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رضي الله تعالى عنهما تسعى في نصف قيمتها للشريك الحي فلو أعتقها أحدهما في حياته عتقت ولا ضمان على المعتق للشريك ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وعندهما يضمن المعتق نصف قيمتها أم ولد لشريكه إن كان موسرا وتسعى في نصف قيمتها إن كان معسرا, وأصل هذه المسألة أن رق أم الولد ليس بمال متقوم.
في قول أبي حنيفة رحمه الله, وعلى قولهما هو مال متقوم وجه قولهما أنها مملوكة لمالك محترم فتكون مالا متقوما كالأمة القنة ودليل الوصف أنه يملك استخدامها واستكسابها ووطأها بملك اليمين.
ولو قال كل مملوك لي حر تدخل أم الولد في ذلك وإذا ثبت بقاء ملك اليمين فصفة المالية والتقوم لا تنفصل عنه لأن المملوكية في الآدمي ليس إلا عبارة عن المالية والتقوم بكون المالك محترما ولأن الاستيلاد تعلق عتقها بموته فتكون مالا متقوما كالمدبرة إلا أن المدبرة تسعى للغرماء والورثة وأم الولد لا تسعى لأنها مصروفة إلى حاجته فإن الاستيلاد من حوائجه كيلا يضيع ماؤه وحاجته مقدمة على حق الغرماء والورثة كحاجته إلى الجهاز والكفن بخلاف المدبرة فإن التدبير ليس من أصول حوائجه.(7/290)
ص -140- ... وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المالية والتقوم إنما يثبت بالإحراز, ألا ترى أن الصيد قبل الإحراز لا يكون مالا متقوما وبعد الإحراز يصير مالا متقوما والآدمي باعتبار الأصل ليس بمال لأنه مخلوق ليكون مالكا للمال لا ليصير مالا ولكن متى صح إحرازه على قصد التمول صار مالا متقوما ويثبت به ملك المتعة تبعا فإذا حصنها واستولدها فقد ظهر أن إحرازه لها كان لملك المتعة لا لقصد التمول فصار في صفة المالية كأن الإحراز لم يوجد أصلا فلا يكون مالا متقوما وهذا لأن ملك المتعة ينفصل عن ملك المالية ألا ترى أن للزوج على المنكوحة ملك المتعة دون ملك المالية.
والدليل عليه من جهة الحكم أنها لا تسعى للغرماء والورثة وما كان مالا متقوما في حياته يتعلق به حق غرمائه وورثته وحاجته إلى النسب فنقول ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد ثبوت حق أمية الولد لها حتى تجعل حاجته مسقطا حق الغرماء والورثة عنها فعرفنا أنها إنما لا تسعى للغرماء والورثة لأنه لم يبق فيها صفة المالية والتقوم بخلاف المدبرة فإن إحرازها للمالية حين لم يظهر منه قصد إلى إحرازها لملك المتعة ولهذا تقومت في حق الغرماء والورثة, إذا عرفنا هذا الأصل فنخرج المسائل عليه منها أنه لو مات أحدهما فلا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن نصيب الشريك منها ليس بمال متقوم فلا يلزمها بدله وإذا أبرئت عن السعاية عتقت لبراءتها عن السعاية.
وعندهما لما كان نصيب الشريك منها مالا متقوما وقد سلم لها بالعتق فعليها السعاية كما في الأمة إذا أعتقها أحد الشريكين وهو معسر وكذلك لو أعتقها أحدهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها ليست بمال متقوم فلا يكون مضمونا على الشريك بالإفساد ولا بالإتلاف.(7/291)
وعندهما يضمن للشريك إن كان موسرا بمنزلة القنة, ومنها أم الولد بين الشريكين جاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت النسب منه بالدعوة وعتق ولم يضمن لشريكه شيئا من قيمته ولا سعاية عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن ولد أم الولد بمنزلة أمه فلا يكون مالا متقوما عنده وعندهما يضمن نصيب شريكه إن كان موسرا ويسعى له الولد إن كان معسرا, ومنها أن أم الولد لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لو غصبها غاصب فماتت عنده لم يضمن شيئا لأن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم بخلاف ضمان القتل فإن الحر يضمن بالقتل دون الغصب وعندهما أم الولد تضمن بالغصب لأنها مال متقوم.
وذكر محمد في الرقبات أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أم الولد تضمن بالغصب على نحو ما يضمن به الصبي الحر حتى لو ماتت حتف أنفسها لم يضمن الغاصب شيئا ولو قربها إلى مسبعة فافترسها السبع يضمن لأن هذا ضمان الجناية لا ضمان الغصب, ألا ترى أنه يضمن الصبي الحر بمثله والذي يوضح كلام أبي حنيفة أن الباقي للمولى على أم ولده ملك الخدمة والمنفعة والمتعة وملك المتعة لا يضمن بالإتلاف ولا بالغصب بخلاف المدبرة فالباقي عليها ملك المالية حتى يقضي دينه من ماليتها بعد موته والمال يضمن بالإتلاف.(7/292)
ص -141- ... ويدخل على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فصل أم ولد النصراني إذا أسلمت وفصل المغرور بأم الولد وسنبين عذر كل فصل في موضعه فإن كانت أم ولد لرجل خالصة فأعتق نصفها عتق جميعها ولا سعاية عليها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا سعاية عليها بحال وبراءتها عن السعاية توجب عتقها وعندهما هي كالأمة القنة في هذا الحكم.
قال: "أمة بين رجلين ولدت ولدين في بطن واحد أو بطنين مختلفين فادعى أحدهما الولد الأكبر والآخر الأصغر معا فأنا كانا في بطن واحد فهما ابناهما جميعا" لأنهما خلقا من ماء واحد فدعوة كل واحد منهما لأحدهما تكون دعوة لهما وإن كانا في بطنين فالأكبر ولد الذي ادعاه لأنه ادعى نسب ولد جارية مشتركة بينهما وقد حصل العلوق في ملكهما فتستند دعوته إلى حالة العلوق وتصير الجارية أم ولد له ويضمن نصف عقرها ونصف قيمتها لمدعي الأصغر فأما الأصغر في القياس عبد لمدعي الأكبر بمنزلة أمه لا يثبت نسبه لمدعيه لأن الجارية صارت أم ولد المدعي الأكبر من حين علقت به فمدعي الأصغر ادعى نسب ولد أم ولد الغير فلا تصح دعوته ويضمن جميع العقر لإقراره بوطء أم ولد الغير وقد سقط الحد عنه للشبهة.(7/293)
وفي الاستحسان يثبت نسب الأصغر من مدعي الأصغر لأنها حين علقت بالأصغر كانت مشتركة بينهما في الظاهر فيصير ذلك شبهة معتبرة في إثبات نسب الأصغر من مدعيه بالدعوة وقيام الملك له في نصفها ظاهرا عند ذلك بمنزلة المغرور ونسب ولد المغرور يكون ثابتا باعتبار الظاهر وإن تبين الأمر بخلافه ويضمن قيمته كاملة لشريكه أما على أصلهما فلا يشكل لأن ولد أم الولد عندهما مال متقوم وقد تبين أن مدعي الأصغر أتلفه بالدعوة على مدعى الأكبر وإنما الإشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعذر أن يقول سقوط المالية والتقوم باعتبار ثبوت حق أمية الولد ولم يثبت في هذا الولد لأنه انفصل من أمه قبل ثبوت حق أمية الولد فيها بدعوة مدعي الأكبر وما لم يثبت الحق في الأم لا يسري إلى الولد فلهذا ضمن قيمتها لشريكه أو عذره هنا نظير عذره في المغرور بأم ولد الغير أن الولد يكون حرا بالقيمة لأنه تعلق حر الأصل وثبوت أمية الولد فيه مبني على ثبوت الرق فإذا لم يثبت الرق فيه أصلا لا يثبت حكم أمية الولد فيه وإنما يضمن قيمته لأنه منع حدوث الرق فيه بسبب الغرور فهذا مثله.
قال: ويضمن العقر لشريكه.
وقال في موضع من كتاب الدعوى يضمن نصف العقر لشريكه وليس هذا باختلاف الرواية لكن مراده هنا بيان جميع ما يجب عليه ومراده ثم بيان حاصل ما يبقى عليه لأنه قد وجب له على مدعي الأكبر نصف العقر فنصف العقر بنصف العقر, قصاص يبقى لمدعي الأكبر على مدعي الأصغر نصف العقر.
قال وكذلك لو كان مدعى الأكبر ذميا ومدعي الأصغر مسلما لأن كل واحد منهما(7/294)
ص -142- ... منفرد فيما ادعى والترجيح بالإسلام عند المزاحمة فأما عند عدم المزاحمة تصح دعوة الذمي كما تصح دعوة المسلم.
قال: "أمة بين رجلين فجاءت بولدين في بطن واحد أحدهما حي والآخر ميت فادعى أحدهما الميت ونفى الحي لزمه الحي" لأنهما خلقا من ماء واحد ودعوته أحدهما بمنزلة دعوتهما فيثبت نسب الحي منه ولا يملك نفيه بعد ذلك.
فإن قيل: الميت ليس بمحل للدعوة بدليل أنه لو لم يكن معه ولد حي لا يثبت نسبه منه فإذا لم تصادف دعوته محله كان لغوا.
قلنا: إنما لا تصح دعوته نسب الميت لأنه غير مفيد وهذا المعنى ينعدم إذا كان معه في ذلك البطن ولد حي ولأن معنى قوله هو ابني أي مخلوق من مائي حتى تصير الجارية أم ولد له فإذا كان هناك ولد حي فإقراره بأن الميت مخلوق من مائه إقرار بأن الحي مخلوق من مائه لأنهما خلقا من ماء واحد فلهذا أثبتنا نسب الحي منه وكذلك لو ادعى كل واحد منهما الميت أو ادعى كل واحد منهما أحد الولدين ثبت نسب الحي منهما جميعا لما بيناه.
قال: "وإذا قال أحد الموليين إذا كان في بطنها غلام فهو مني وإن كانت جارية فليست مني وقال الآخر إن كانت جارية فهي مني وإن كان غلاما فليس مني والقول منهما معا فما ولدت من ولد في ذلك البطن فهو لهما جميعا" لأن أصل الدعوة من كل واحد منهما صحيح لما في بطنها والتقسيم الذي ذكراه باطل فإنه رجم بالغيب وتقسيم فيما هو في الرحم ولا يعلم ما في الرحم إلا الله تعالى فإذا لغى هذا التقسيم ثبت النسب منهما بالدعوة إذا كان القول منهما معا وإن كان أحدهما سابقا فالولد ولده غلاما كان أو جارية لأن أصل الدعوة منه قد صح والتقسيم بطل وقد صارت الجارية أم ولد له فالدعوة من الآخر حصل في غير الملك وفي ولد ثابت النسب من غيره فكان باطلا.(7/295)
قال: "وإن قال أحدهما إن كان في بطنها غلام فهو مني إلى سنتين وقال الآخر بعد ذلك بيوم إن كان في بطنها جارية فهي مني إلى سنتين فولدت غلامين بعد قولهما لتمام ستة أشهر منذ قالا ذلك لا يثبت النسب بتلك الدعوة فهما رقيقان لهما" لأنا لم نتيقن بوجودهما في البطن وقت الدعوة وقول المدعيين إلى سنتين لغو لأنه رجم بالغيب منهما فلا طريق لهما إلى معرفة مدة بقاء الولد في البطن وإن جاءت بآخرهما لأقل من ستة أشهر من القول الأول وجاءت بالأول قبل ذلك بثلاثة أيام فهما ولدا الأول لأنا تيقنا بوجودهما في البطن حين ادعى الأول فيثبت نسبهما منه وهذا لأنهما خلقا من ماء واحد فمن ضرورة وجود أحدهما وقت دعوته وجود الآخر كذلك وإن جاءت بالولد الأول لأقل من ستة أشهر من إقرار الثاني ولأكثر من ستة أشهر من إقرار الأول فهما ولدا الآخر لأنا لم نتيقن بوجودهما في البطن وقت دعوة الأول منهما فبطلت دعوته وتيقنا بوجودهما في البطن وقت دعوة الآخر فلهذا ثبت نسبهما من الآخر وصارت الجارية أم ولد له وما ولدت بعد هذا من ولد فهو يلزم الآخر إلا أن ينفيه.(7/296)
ص -143- ... قال: "أمة بين رجلين ولدت من رجل قال زوجتمانيها فصدقه أحدهما فيه وقال الآخر بل بعناكها فإن نصفها بمنزلة أم الولد" لأن مدعي البيع قد أقر بأن المستولد استولد ملك نفسه وأنها صارت أم ولد له وإقراره في نصيبه منها صحيح لأنه مملوك له في الظاهر قال ونصفها رقيق للذي قال زوجناك لأنه ينكر أمية الولد في نصيبه وقد بينا أن أحد الشريكين في الجارية إذا أقر أنها أم ولد لشريكه لا يثبت حكم الاستيلاد بهذا الإقرار في نصيب شريكه إذا كذبه فكذلك إذا أقر أنها أم ولد لغيره.
قال: "ويعتق نصف الولد حصة الذي أقر بالبيع" لأنه أقر بحرية الولد وإقراره في نصيب نفسه صحيح ويسعى الولد في نصف قيمته للذي أنكر البيع بمنزلة ما لو شهد أحد الشريكين على صاحبه بالعتق إلا أن هناك يسعى للشاهد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يدعي السعاية وهنا لا يسعى الولد للمقر بالبيع لأنه يتبرأ من السعاية ويزعم أن الولد حر الأصل ثم يكون على الواطئ العقر لهما نصفه للمقر بالنكاح يأخذه بحساب المهر لتصادقهما عليه ونصفه لمدعي البيع يأخذه من الوجه الذي ادعى لأنهما يتصادقان على وجوب هذا المقدار له وإن اختلفا في جهته فإن الزوج يقول هو مهر ومدعى البيع يقول هو ثمن والاختلاف في السبب بعد الاتفاق على وجوب أصل المال لا يمنع من الاستيفاء فلهذا يستوفيه من الوجه الذي يدعيه فأما إذا مات أب الولد سعت الجارية في نصف قيمتها للمقر بالنكاح لأن مدعي البيع يزعم أنها أم ولد لأب الولد وإنها عتقت بموته ولا سعاية عليها فيعتبر زعمه في نصيبه ولا يعتبر في نصيب شريكه فتسعى في نصف قيمتها لمدعي النكاح.
وهذا عندهم جميعا لأن أمية الولد لم تثبت في هذا النصف على ما بينا.(7/297)
قال: "ولو كان الأب ادعى الشراء كانت أم ولد له ويضمن نصف الثمن للذي صدقه بالبيع" لأن نصيبه منها صار ملكا لأب الولد لتصادقهما على البيع والشراء فيصير الكل أم ولد له ويضمن نصف قيمتها. ونصف عقرها للذي كذبه لأن البيع في نصيبه لم يثبت فهي كأمة مشتركة بين اثنين يستولدها أحدهما.
" قال " " ولو كانت الجارية مجهولة لا تعرف لمن كانت فقال أب الولد زوجتماني وقالا بعناكها فهي أم ولد له وابنها حر " لأنها في الظاهر مملوكته فصارت أم ولد وكان ولدها حرا باعتبار الظاهر ولا يصدق هو في الإقرار أنها لغيره فيما يرجع إلى إبطال حقها ويكون على الواطئ القيمة لهما لأن إقراره صحيح في حق نفسه وقد زعم أنها مملوكة لهما في يده وقد تعذر عليه ردها عليهما فيغرم قيمتها لهذا ولا يسقط حقهما عن هذه القيمة إقرارهما بالبيع لأن البيع لم يثبت حين كذبهما ولأن تعذر الاسترداد لم يكن بإقرارهما بالبيع. ألا ترى أنهما وإن جحدا البيع والنكاح جميعا لم يكن لهما حق الاسترداد.
ثم قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله وكذلك لو كانت معروفة بأنها لهما وهذا غلط والصواب ما ذكر في نسخ أبي حفص رضي الله عنه ونوادر هشام(7/298)
ص -144- ... قال ولو كانت معروفة بأنها لهما كان عليه العقر وهذا لأن تعذر الاسترداد هنا بإقرارهما بالبيع, ألا ترى أنهما لو أنكرا البيع والتزويج كانت أمة قنة لهما فيكون إقرارهما بالبيع مانعا لهما من الاسترداد فلهذا لم يكن لهما أن يضمناه قيمتها وإنما وجب عليه العقر لإقراره بالوطء في ملك الغير وقد سقط الحد عنه بدعوى النكاح فيلزمه العقر.
قال: "وإذا ادعى الواطئ الهبة وادعيا هما بالبيع والجارية مجهولة لا يدري لمن كانت فهي أم ولد له باعتبار الظاهر لما بينا وعليه قيمتها لهما" لأن الهبة لم تثبت لإنكارهما والبيع لم يثبت بإنكاره إلا أن تعذر الاسترداد ما كان بإقرارهما بالبيع على ما بينا بل باستهلاكه جارية زعم أنها لهما فيضمن قيمتها لهما.
قال: "وإن قالا غصبتها وقال صدقتما وهي مجهولة لم يصدق عليها بعد الذي دخلها من العتق باعتبار الظاهر وعليه قيمتها" لأنه أقر بغصبها منهما وقد تعذر ردها عليهما بما ثبت فيها من أمية الولد.
قال: "وإن صدقتهم بذلك صدقت وكانت أمة لهما" لأن الحق لها فإن تصادقوا على شيء ثبت ذلك بتصادقهم.
وفي رواية أبي حفص وهشام رضي الله عنهما قال لا تصدق بعد العتق لأنها صارت أم ولد لمن هي في يديه باعتبار الظاهر وكما لا يقبل قولها في إبطال حقيقة العتق بعد ما حكم بثبوته فكذلك لا يقبل قولها في إبطال حق العتق لما في ذلك من حق الشرع.
قال: "ولو كانت لهما بينة عليها أخذاها وولدها رقيق لهما" لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فظهر أنه غاصب زنى بجارية مغصوبة فعليه الحد إن لم يدع الشبهة وإن ادعى بيعا أو هبة أو نكاحا سقط الحد عنه لتمكن الشبهة فقد آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف والحد بمثله يسقط ولكن لا يثبت النسب لأن بمجرد دعواه لم يثبت له في هذا المحل ملك ولا حق ملك وثبوت النسب ينبني على ذلك.(7/299)
قال: "وإن ملكها يوما مع ولدها كانت أم ولد له وكان الولد ولده" لأن إقراره صحيح في حق نفسه وإنما لم يصح لقيام حق الغير في المحل فإذا زال بملكه إياها كان كالمجدد للإقرار في هذه الحالة فيثبت نسب الولد منه لأنه ادعاه بسبب صحيح محتمل فيكون الولد حرا والجارية أم ولده والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة أم الولد
قال: "رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل أم ولده على خدمتها أو على رقبتها فذلك جائز" لأنها مملوكة له وعقد الكتابة يرد على المملوك ليتوصل به إلى ملك اليد والمكاسب في الحال والحرية في ثاني الحال وحاجة أم الولد إلى هذا كحاجة غيرها.
توضيحه أن موجب الكتابة مالكية اليد في المنافع والمكاسب للمكاتب وأم الولد مملوكة للمولى يدا وكسبا فيصح منه إثبات هذه المالكية لها بالبدل ثم كل ما يصلح عوضا في(7/300)
ص -145- ... كتابة القن يصلح عوضا في كتابة أم الولد فإذا أدت المكاتبة عتقت لفراغ ذمتها عن بدل الكتابة وإن مات المولى قبل أن تؤدي عتقت لأن حكم الاستيلاد باق بعد الكتابة ومن حكم الاستيلاد عتقها بعد موته.
قال: "ولا شيء عليها من البدل" لأنها كانت تؤدي لتعتق وقد عتقت فصارت مستغنية عن أداء البدل كما لو أعتقها في حال حياته ويسلم الكسب لها لأنها عتقت وهي مكاتبة وبالعتق تتأكد المالكية الثابتة لها بالكتابة.
قال: "وإن باعها نفسها أو أعتقها على مال فقبلت فهي حرة والمال دين عليها" لأن أقل درجاتها أن يكون للمولى عليها ملك المتعة وإسقاطه الملك ببدل عليها صحيح كالطلاق بجعل والمال دين عليها لأنها التزمته بقبولها فإن مات المولى لم يسقط ذلك الدين عنها لأن حكم الاستيلاد بطل بعتقها في حياته وإنما المال دين عليها وليس للاستيلاد تأثير في الابراء عن الدين.
قال: "وإن كاتب أم ولده فجاءت بولد بعد الكتابة لأكثر من ستة أشهر ثم مات المولى قبل أن يقربه لا يلزمه النسب" لأنها بالكتابة حرمت عليه حتى يمنع من وطئها ولو وطئها يغرم عقرا خارجا من ملكه والفراش ينعدم بمثل هذه الحرمة فإذا جاءت بالولد لمدة يتوهم أن تكون من علوق حادث بعد الكتابة لم يثبت النسب وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر فهو ثابت النسب من المولى لتيقننا أنها علقت به قبل الكتابة وهو حر وقد عتقت هي أيضا بموت المولى.(7/301)
قال: "وإن كان حيا فادعاه فهو ابنه وإن جاءت به لأكثر من سنتين" لأنها ما صارت فراشا لغيره وحرمتها على المولى إذا كانت بسبب لا تزيل ملكه عنها ولا تجعلها فراشا لغيره يمنع ثبوت النسب منه قبل الدعوة ولا يمنع ثبوت النسب منه بعد الدعوة كما لو حرمت بجماع ابن المولى إياها ولأنا قبل الدعوة إنما لا نثبت النسب منه تحرزا عن الحكم عليه بارتكاب الحرام ووجوب العقر ويسقط اعتبار هذا التحرز إذا أقر هو بالولد فإن جنت في كتابتها جناية سعت فيها لأن موجب جنايتها كان على المولى قبل الكتابة لأن كسبها للمولى وقد زال ذلك بالكتابة فإنها صارت أحق بكسبها أو كان موجب جنايتها على المولى لأنه بالاستيلاد كان مانعا دفعها بالجناية وقد انعدم هذا المعنى بالكتابة لأن المكاتبة ليست بمحل للدفع فهي والقنة إذا كوتبت سواء.
قال: "وإن جنى عليها كان الإرش لها" لأن إرش الجناية بمنزلة الكسب وهي أحق بمكاسبها.
قال: "وإن ماتت وتركت ولدا ولدته في المكاتبة من غير المولى سعى فيما على أمه" لأنه انفصل عنها وهي مكاتبة فيكون حكمه حكمها باعتبار أنه جزء من أجزائها وقد كانت في حياتها(7/302)
ص -146- ... تسعى على النجوم لحاجتها إلى تحصيل العتق لنفسها بالأداء وحاجة هذا الجزء إلى ذلك كحاجتها فتبقى الكتابة ببقاء هذا الجزء.
قال: ولو اشترت ابنا لها عبدا لم يكن لها أن تبيعه لأنه صار داخلا في كتابتها فإن الكتابة ثبت لها نوع مالكية فإذا كان لها نوع مالكية ثبت مثل ذلك لولدها وقد بينا أن من يكاتب عليها يكون مملوكا للمولى حتى إذا أعتقه نفذ عتقه فيه وابنها وأبواها في ذلك سواء إلا أنها إذا ماتت عن هذا الابن المشترى فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يسعى على هذه النجوم كالابن المولود في الكتابة.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في القياس يباع هذا الولد في الكتابة لأنه انفصل عنها قبل ثبوت أمية الولد فيها فلم يثبت حق أمية الولد لهذا الولد وإن ملكته فيباع بعد موتها في المكاتبة كسائر أكسابها بخلاف المولود في الكتابة فإنه بمنزلتها لأنه انفصل منها وهي أم ولد مكاتبة.
وفي الاستحسان إن جاء بالمكاتبة حالا قبل منه ولم يبع فيها لأنه في الحقيقة جزء منها فيقوم مقامها في أداء الكتابة إلا أنه ليس بجزء من مكاتبة فلا يبقى الأجل ببقائه ولكن يأتي بالمال حالا فيكون مقبولا منه لما فيه من حصول مقصود المولى بخلاف المولود في الكتابة لأنه جزء من المكاتبة يقرره أن السراية من الأصل إلى الجزء المتصل دون المنفصل فيثبت حقيقة سراية العقد إلى الولد المولود في الكتابة فيسعى على النجوم ولا يثبت حقيقة سراية العقد إلى الولد المشترى فلا يثبت النجوم في حقه ولكن فيما هو المقصود وهو تحصيل العتق بالأداء حكم هذا الجزء وحكم الأصل سواء فإذا جاء بالمال حالا يقبل منه.(7/303)
قال: "ولو كانت اشترت أباها أو أمها فإنه يؤخذ فيهما بالقياس بعد موتها فيباعان في المكاتبة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن الأب والأم ليسا بجزء من الولد وامتناع بيعهما عليها في حياتها كان لمالهما من الحق في كسبها وقد انعدم هذا المعنى بموتها لأن حاجتها مقدمة على حاجة أبويها فلهذا يباعان في مكاتبتها بخلاف الولد فإنه جزء منها فيجعل بقاء هذا الجزء كبقائها فيما هو المقصود وقد بينا اختلافهم في غير الوالدين والمولودين من القرابات أنه هل يمتنع عليها بيعهم إلا أن الحاكم الجليل رضي الله عنه ذكر فيما سبق أن القياس والاستحسان عند أبي حنيفة رحمه الله في الأخوة وغيرهم.
وقد نص هنا في الأصل أن القياس والاستحسان في الأب والأم في القياس لها أن تبيعهما لأنهما لا يتبعانها فلا يمكن إثبات حكم الكتابة فيهما بطريق التبعية ولهذا لا يمتنع بيعهما بعد موتها.
وفي الاستحسان يمتنع عليها بيعهما لأن حق الوالدين يثبت في الكسب ولها كسب على ما قررنا وهذا هو الأصح.
قال: "وإذا أسلمت أم ولد النصراني قومت قيمة عدل فبيعت بقيمتها" لأنه تعذر إبقاؤها في(7/304)
ص -147- ... ملك المولى ويده بعد إسلامها وإصراره على الكفر فتخرج إلى الحرية بالسعاية كما بينا في معتق البعض وهذا لأن ملك الذمي محترم فلا يمكن إزالته مجانا وهو إشكال لهما على أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أن رق أم الولد مال متقوم وإن وراء ملك المتعة عليها شيء آخر فإن ملكه المتعة في هذه الحالة يزال من غير بدل كما لو أسلمت امرأته وأبى أن يسلم.
والعذر لأبي حنيفة رحمه الله تعالى من وجهين:
أحدهما: أن الذمي يعتقد فيها المالية والتقوم ويحرزها لذلك لأنه معتقد جواز بيعها وإنما نبني في حقهم الحكم على اعتقادهم كما في مالية الخمر.
والثاني: أن ملكه فيها محترم وإن لم يكن مالا متقوما وقد احتبس عندها لمعنى من جهتها فيكون مضمونا عليها عند الاحتباس وإن لم يكن مالا متلوما كالقصاص فإنه ليس بمال متقوم ثم إذا احتبس نصيب أحد الشريكين عند القاتل بعفو الآخر يلزمه بدله ولم يبين مقدار قيمتها وهي أم ولد وهذا مشكل فإنها لو كانت بحيث تباع فلا نقصان في قيمتها ولكن قيل قيمة المدبرة قدر ثلثي قيمتها قنة وقيمة أم الولد قدر ثلث قيمتها قنة لأن للمالك في مملوكه ثلاث منافع الاستخدام والاسترباح بالبيع وقضاء ديونه من ماليته بعده فبالتدبير ينعدم أحد هذه المعاني وهو الاسترباح ويبقى منفعتان وبالاستيلاد ينعدم اثنان ويبقى واحد فتتوزع القيمة على ذلك ثم لا تعتق ما لم تؤد السعاية عندنا, وقال زفر رحمه الله تعالى تعتق في الحال والسعاية دين عليها لأن إزالة ذل الكافر عن المسلم واجب وفي استدامه الملك عليها ذل.
ولكنا نقول الذل في الاستخدام قهرا بملك اليمين وذلك يزول بالاستسعاء لأنها تصير بمنزلة المكاتبة أحق بنفسها ومكاسبها فالمقصود يحصل بهذا ودفع الضرر عن الذمي واجب.(7/305)
ولو قلنا يزول ملكه عنها في الحال ببدل في ذمة مفلسة والمال في ذمة المفلس تاو لأدى إلى الإضرار به وكان هذا في الحكم بمنزلة إزالتها عن ملكه بغير بدل ولهذا لا تعتق ما لم تؤد السعاية وليس لها أن تعجز نفسها إلا أن يسلم المولى وإن مات المولى أعتقت وسقط عنها السعاية.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى تخارج معنى هذا أنها تخرج من يد المولى وتؤمر بأن تكتسب وتنفق على نفسها إلى أن يموت المولى فحينئذ تعتق فإنه لا يرى السعاية على المملوك بحال فجعل طريق إزالة الذل إخراجها من يد المولى كما قلنا ولو ولدت لأكثر من ستة أشهر منذ صارت مستسعاة لم يثبت نسبه من المولى لأنها في حكم المكاتبة ولو ماتت كان على هذا الولد ان يسعى فيما على أمه بمنزلة المولود في الكتابة.
قال: "وإذا اختلف المولى وأم الولد في المكاتبة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتحالفان وتنفسخ المكاتبة بعد التحالف وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى" لأن الكتابة في معنى البيع من حيث أنه لا يصح إلا بتسمية البدل وأنه يحتمل الفسخ بعد تمامه ثم رجع فقال يكون القول قولها ولا يتحالفان لأن حكم التحالف في البيع ثابت أيضا(7/306)
ص -148- ... بخلاف القياس فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه والكتابة ليس في معنى البيع أما من حيث الصورة فالبيع مشروع للاسترباح مبني على الضيق والمماكسة والكتابة للأرقاء مبني على التوسع ومن حيث المعنى الكتابة بعد تمامها بأداء البدل لا تحتمل الفسخ بخلاف البيع وفي الحال موجب العقد إثبات صفة المالكية يدا في المنافع والمكاسب فما مضى منه فائت لا يتحقق رده فعرفنا أنه ليس في معنى المنصوص من كل وجه فلو ألحق به بالمشاركة في بعض الأوصاف كان قياسا والثابت بخلاف القياس لا يمكن إثباته بطريق المقايسة.
توضيحه أن البيع لازم من الجانبين فكان المصير إلى التحالف فيه مفيدا حتى إذا نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه وفي الكتابة هذا لا يتحقق فإنها لو نكلت لا يلزمها شيء وكان لها أن تعجز نفسها فإذا انعدم التحالف وجب اعتبار الدعوى والإنكار فيكون القول قولها مع يمينها لإنكارها الزيادة وإن أقاما البينة فالبينة بينة المولى لأنه يثبت الزيادة ببينته إلا أنها إن ادعت مقدار ما أقامت البينة عليه تعتق لأنها أثبتت الحرية لنفسها عند أداء هذا المقدار فوجب قبول بينتها على ذلك بمنزلة ما لو كاتبها على ألف درهم على أنها متى أدت خمسمائة عتقت وهذا لأنه لا يبعد أن يكون عليها بدل الكتابة بعد عتقها كما لو أدت الكتابة بمال مستحق تعتق وبدل الكتابة عليها بحاله.
" قال " " وإذا كاتب أم ولده على ألف درهم أو أمته على ألف درهم على أن يرد عليها وصيفا وسطا فالكتابة باطلة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى".
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تجوز الكتابة وتقسم الألف على قيمتها وعلى قيمة وصيف وسط فتكون مكاتبة بما يخصها ولا خلاف أن العقد في الوصيف باطل لأنها تكون مشترية للوصيف من مولاها وشراء الحيوان بغير عينه باطل.(7/307)
ثم وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الألف مذكور بمقابلة شيئين فيقسم عليهما بالقيمة وامتناع ثبوت حكم العقد في أحدهما لا يمنع ثبوته في الآخر كما لو كان الوصيف بعينه فاستحقه إنسان يكون العقد صحيحا في حقها بما يخصها من البدل ولا يجوز إبطال هذا العقد لمعنى الجهالة في بدل الكتابة لأن هذه الجهالة باعتبار ذكر الوصيف وهو لا يمنع صحة الكتابة كما لو كاتبها على وصيف وسط لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأن قيمة الوصيف الوسط معلوم فإذا قسم الألف على قيمتها وقيمة وصيف وسط تتبين حصتها على وجه لا يبقى بينهما منازعة.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان الحيوان بغير عينه ليس بمحل للبيع أصلا وانقسام البدل من حكم الدخول في العقد فإذا لم يدخل الوصيف في العقد كان هذا كتابة بالحصة ابتداء والكتابة بالحصة لا تصح كما لو كاتبها على ما يخصها من الألف إذا قسم على قيمتها وقيمة عبد آخر.
والدليل عليه أنه لو خاطب عبدين بالكتابة بألف فقبل أحدهما دون الآخر لم يكن(7/308)
ص -149- ... صحيحا لأنه لو صح كان بحصته من الألف حتى لو كان سمي بمقابلة كل واحد منهما شيئا معلوما صح القبول من أحدهما وهذا لأن الكتابة في الحاجة إلى تسمية البدل وفسادها بالشروط التي نتمكن في صلب العقد بمنزلة البيع والبيع بمنزلة هذه الجهالة يبطل فكذا الكتابة وليس هذا بمنزلة الكتابة على وصيف فإن بالإجماع لو تزوج امرأة على وصيف صحت التسمية ولو تزوجها على ما يخصها من الألف إذا قسم على مهر فلانة لا تصح التسمية وكان لها مهر مثلها ثم المعنى أن تعين صفة النبطية في الوصيف باعتبار استحقاقه بعقد المعاوضة وذلك يتحقق إذا سمى الوصيف بدلا في الكتابة ولا يتحقق هنا لما لم يصر الوصيف مستحقا بالعقد.
قال: "ولو ضمن رجل لرجل عن أم ولده المكاتبة فهو باطل" كما في القنة فإنه ليس لها ذمة صحيحة في حق المولى ما لم تعتق فلا يكون مال الكتابة دينا متقررا عليه.
قال: "وإذا أسلمت أم ولد النصراني فكاتبها بأكثر من قيمتها جازت الكتابة" لأن المقصود يحصل بهذا العقد وهو إخراجها من يد الكافر.
فإن قيل: البدل المستحق عليها يقدر بالقيمة شرعا فينبغي أن لا تجوز الزيادة على ذلك كما بينا في معتق البعض.
قلنا: هنا ما تعذر على المولى استدامة الملك فيها فإنه لو أسلم كان له أن يستديم ملكه فيها فعرفنا أن استحقاق الإزالة ببدل مقدر لم يتقرر هنا بخلاف معتق البعض فإن عجزت هنا ردت في الرق وتسعى في قيمتها لأن اظهار العجز هنا مفيد بخلاف ما إذا كانت مستسعاة في قيمتها.
قال: "مسلم تزوج أم ولد ذمي فولدت له سعى الولد في قيمة نفسه" لأنه مسلم بإسلام أبيه وهو بمنزلة الأم مملوك للمولى الذمي فيجب إزالته عن ملكه بالاستسعاء وكذلك لو كان الزوج كافرا فأسلم لأن الولد ما دام صغيرا فإنه يصير مسلما بإسلام أبيه.(7/309)
قال: "مكاتب ذمي اشترى أمة مسلمة فأولدها كانت على حالها" لأنه يتعذر عليه بيعها وثبت لها نوع حق تبعا لما ثبت من حق الولد فإن عتق المكاتب بالأداء تم ملكه فيها وصارت أم ولد للذمي فتسعى في قيمتها فإن عجز فرد رقيقا أجبر المولى على بيعها لأن الملك تقرر فيها للمولى فلم تصر أم ولد ولكن المولى كافر وهي مسلمة فيجبر على بيعها.
قال: "حربي خرج إلى دارنا مستأمنا ومعه أم ولده لم يكن له أن يبيعها" لأن حق أمية الولد تبع لحق الولد في النسب والنسب يثبت في دار الحرب كما يثبت في دارنا فكذلك ما ينبني عليه من أمية الولد لها وكما لا يمكن من بيع ابنه في دار الإسلام فكذلك لا يمكن من بيع أم ولده ولو أسلمت سعت في قيمتها لأن ملك المستأمن محترم كملك الذمي فيتعذر إزالة ملكه عنها مجانا فلهذا سعت في قيمتها والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب دعوى الرجل رق الغلام في يده
قال: "رضي الله عنه غلام صغير لا ينطق في يد رجل فقال هذا عبدي فهو كما قال: إذا(7/310)
ص -150- ... لم يعرف خلافه" لأنه لا يد له في نفسه ولا قول فيتقرر قول ذي اليد عليه وما في يده مملوك له باعتبار الظاهر فإذا ادعى ما يشهد له الظاهر به كان القول فيه قوله كما لو كان في يده دابة أو ثوب فقال هذا لي.
قال: "وإن أدرك الصغير فقال أنا حر الأصل فعليه البينة" لأنه يدعي إبطال ملك ثبت عليه لذي اليد بدليل شرعي فلا يقبل ذلك منه إلا بحجة.
قال: "وإن كان حين ادعاه الذي في يده يعبر عن نفسه فقال أنا حر فالقول قوله" لأنه في يد نفسه وله قول معتبر شرعا فلا تتقرر عليه يد ذي اليد مع ذلك بل يد نفسه تكون دافعة ليد ذي اليد لأنها أقرب إليه فكان القول قوله في حريته لتمسكه بما هو الأصل وكذلك لو قال الغلام أنا لقيط لأن اللقيط حر باعتبار الأصل والدار فهو كقوله أنا حر فإن أقام الذي في يده البينة أنه عبده وأقام الغلام البينة أنه حر أخذت بينة الغلام لأنه يثبت حرية الأصل ببينته وبينة الملك لا تعارض بينة الحرية من وجهين:
أحدهما: أن الحرية لا تحتمل النقض والفسخ والملك يحتمل الإبطال.
والثاني: أن الإثبات في بينة الحرية أكثر لأنه يتعلق بالحرية أحكام متعدية إلى الناس كافة ولأن في بينته ما يدفع بينة ذي اليد وليس في بينة ذي اليد ما يدفع بينته فإن الحرية تتحقق بعد الملك.(7/311)
وإن قال الذي في يده هذا عبدي وقال الغلام أنا عبد فلان فهو عبد الذي في يديه لأنه لما أقر بالرق على نفسه لم يبق له يد ولا قول معتبر في نفسه بل تتقرر يد ذي اليد عليه فالقول قوله أنه ملكه بخلاف الأول فإن هناك هو ينكر رقه أصلا وقوله في دفع الرق عن نفسه مقبول وفي تعيين مالكه غير مقبول لأنه يحول به ملكا ثابتا لذي اليد إلى غيره وكذلك لو كان في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أنه له فقال هو أنا عبد أحدهما لأنه لما أقر بالرق على نفسه تقررت يدهما عليه وإن كان لا ينطق فأقام أحدهما البينة أنه عبده وأقام الآخر البينة أنه ابنه من أم ولده قضى به للذي ادعاه لأن في بينته زيادة اثبات النسب والحرية للولد فتترجح بذلك فإن أقام كل واحد منهما البينة أنه عبده ولد عبده ووقتت إحدى البينتين وقتا قبل وقت الأخرى قضى به للأول إذا كان بذلك الميلاد معناه إذا كان سن الغلام موافقا للوقت الأول فقد ظهر علامة الصدق في شهادة شهوده وعلامة الكذب في شهادة شهود الآخر وإن علم أنه على غير ذلك الميلاد قضى به للآخر لأن علامة الكذب ظهرت في شهادة أسبق التاريخين وذلك مانع من العمل بها فإن كان يشك فيه قضى به بينهما لاستواء الحجتين فإن كان كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه من حين ولد لأن الملك لا يسبق الولادة ولا يعتبر سبق التاريخ مع ذلك ولكن لما كان كل واحد من الأمرين محتملا قضى به بينهما.
وقيل هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يقضي به لصاحب(7/312)
ص -151- ... الوقت الأول لأنهما استويا في معنى الاحتمال وصاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه فيه أحد فيجب القضاء بالملك له.
ثم لا يستحق عليه بعد ذلك إلا بسبب من جهته وإن لم توقت واحدة منهما وقتا غير أن إحدى البينتين شهدت أن هذا المولى أعتق أمه قبل أن تلده أو دبرها أو أعتق الغلام وأمه حامل به أو دبره قضى به لصاحب العتق لأنه في بينته زيادة إثبات الحرية للغلام إما مقصودا أو تبعا لأمه ولأن العتق قبض من المعتق فبإثباته العتق أو التدبير يثبت أن اليد له وبينة ذي اليد تترجح في إثبات الملك من وقت الولادة ألا ترى أنه لو كان في يد غيرهما فأقام كل واحد منهما البينة أنه عبده غير أن إحدى البينتين شهدوا أنه دبره أو أعتقه البتة يقضي به له لأنه بالتدبير والعتق يستحق الولاء والولاء كالنسب ولو كان في إحدى البينتين زيادة إثبات النسب ترجحت بذلك فكذلك الولاء.
قال: "صبي في يدي رجلين ادعى أحدهما أنه ابنه والآخر أنه عبده فهو حر و ابن الذي ادعاه" لأنه يقر له بالنسب والحرية وإقراره فيما في يده صحيح وثبوت النسب والحرية في البعض ينفي الرق فيما بقي منه وإن كان في أيديهما يتجاذبانه فمات من عملهما بعد هذه المقالة فالدية على عاقلتهما لأنهما قتلاه خطأ بعد ما حكم بحريته ونسبه لمدعي البنوة ويكون ذلك لأقرب الناس منه بعد الذي ادعى أنه ابنه لأنه قاتل فيكون محروما عن الميراث وإذا صار محروما كان كالميت وإذا ادعى كل واحد منهما أنه عبده ولد عنده من هذه الأمة لأمة واحدة والأمة في يد أحدهما وهي مقرة بالملك له فالأمة لمن هي في يده والولد بينهما لأن الاستحقاق باعتبار اليد وقد اختص أحدهما باليد في الأمة واستويا في اليد في الولد.
فإن قيل: لما ثبت الملك في الأمة لأحدهما والولد يتبع الأم في الملك فينبغي أن يقضي بالولد له.(7/313)
قلنا: ثبوت الملك له في الأمة باعتبار يده واليد حجة دافعة للاستحقاق لا موجبة له فلا يستحق به ما في يد الآخر من الولد.
وعلى هذا لو كان الصبي في يد أحدهما والأم في يد الآخر فلكل واحد منهما ما في يده على ما بينا قال أرأيت لو كانت جدته في يد الآخر أكان يدفع إلى الصبي من كانت جدته في يده هذا بعيد.
قال: "وإذا كان الصبي في يد رجل فأعتقه ثم جاء آخر يدعي أنه عبده ويقيم البينة على ذلك فإنه يقضي به" لأن اليد لا تعارض البينة بل تبين بهذه البينة أن ذا اليد أعتق ملك غيره إلا أن يقيم المعتق البينة أنه كان له ولد عنده أو أعتقه فحينئذ تترجح بينته لما قلنا.
قال: "وإذا كان العبد في يد رجل فدبره أو أعتقه ثم أقام الآخر البينة أنه له وأقام ذو اليد البينة أنه له أعتقه أو دبره فهو أولى" لأنه يثبت زيادة العتق واستحقاق الولاء ولأن حجة(7/314)
ص -152- ... ذي اليد في الحقيقة للعبد فإنه يثبت به حريته وولاءه والولاء كالنسب فكأنه هو الذي يقيم البينة على ذلك, قال: "وإذا كان الصبي في يد رجل فباعه من رجل ثم ادعى أنه كان دبره أو أعتقه قبل البيع لم يصدق على ذلك" لأنه متناقض في دعواه ولأنه يسعى في نقض ما قد تم به وهو البيع كذلك لو ادعى أنه ابنه ولم يكن العلوق به في ملكه لأن هذا دعوة التحرير ودعوة التحرير لا تصح كالإعتاق من غير المالك إلا أن يكون العلوق به في ملكه فيصدق على النسب حينئذ فيفسخ البيع فيه لأن حق استحقاق النسب يثبت له بالعلوق في ملكه ولم يبطل ذلك بالبيع لأن البيع دونه في احتمال النقض.(7/315)
وهذه زفرية موضعها كتاب البيوع والدعوى وإن لم يكن شيء من ذلك ولكن الصبي أدرك فأقام البينة أنه حر عتق ولا شيء عليه لأنه أثبت حريته بالحجة وإنما يرجع المشتري بالثمن على البائع فإن كان كبيرا مقرى بالملك وأمر المشتري أن يشتريه وأخبره أنه عبد للبائع فاشتراه ثم أقام البينة أنه حر عتق لأنا قد بينا أن التناقض لا يمنعه من إثبات حرية الأصل بالبينة كما لا يمنعه من إثبات النسب لأن حرية الأصل لا ناقض لها فإن لم يقدر المشتري على الذي باعه كان له أن يرجع على العبد بالثمن الذي أداه إلى البائع لأنه مغرور من جهته حين أقر بالملك وأمره أن يشتريه وصحة البيع كان بقوله فإنه لو قال أنا حر ما كان يشتريه أحد ولا يصح البيع فيه والغرور متى تمكن في عقد المعاوضة فهو مثبت حق الرجوع للمغرور على الغار وصار كأنه التزم للمشتري سلامة نفسه أو رد الثمن عليه إلا أن البائع إذا كان حاضرا فرجوعه على البائع لأنه هو الذي قبض الثمن حقيقة والمشتري سلمه إليه مختارا فإذا تعذر الرجوع عليه بعينه كان له أن يرجع على العبد ليندفع الضرر عنه ثم يرجع العبد بذلك على البائع لأنه يقوم مقام المشتري في الرجوع عليه حين ضمن له بالثمن وإن كان المشتري أقر بحريته عتق باقراره وولاؤه موقوف ولا يرجع بالثمن على البائع ولا على العبد لأن إقراره ليس بحجة عليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ما لا يثبت النسب فيه من أم الولد(7/316)
قال: "رضي الله عنه وإذا زوج الرجل أمته من عبده فولدت ولدا فادعاه المولى لم يثبت نسبه منه" لأن نسبه ثابت من العبد بالفراش فلا يثبت من غيره ولكنه يعتق عليه وتصير الجارية أم ولد له لما ذكرنا قبل هذا وإذا استولد الرجل جارية غيره وادعى شبهة بشراء أو غيره وكذبه مولاها لم يثبت نسبه لأن بمجرد دعواه لم يثبت له شبهة في المحل في حق مولاها حين عارضه بالتكذيب وثبوت النسب ينبني على وجود الشبهة في المحل فإن ملكه يوما ثبت نسبه منه لأن الشبهة في المحل في حقه تثبت بقوله فإن خبره محمول على الصدق في حقه إلا أنه امتنع العمل به للمعارضة من مولاها وحق المعارضة كان له باعتبار ملكه فإذا زال ذلك سقطت معارضته وخلص الحق للمدعي حين ملكه فيثبت النسب منه كما لو وجد الإقرار في الحال وإن أعتقه مالكه فهو مولاه ولا يثبت نسبه من المدعي إلا أن يصدقه الغلام فحينئذ يثبت النسب منه(7/317)
ص -153- ... لأن الحق في نسبه خلص له وقد تقرر بالتصديق منه وليس في ثبوت نسبه تعرض للولاء الثابت للمولى إذ لا منافاة بينهما.
فإن قيل: قبل العتق ليس في إثبات النسب أيضا تعرض للملك الثابت للمولى قلنا: نعم ولكن النسب لا يثبت إلا بحجة ومجرد الدعوى مع قيام المعارضة لا يكون حجة فأما دعواه عند تصديق الغلام بنفوذ العتق يكون حجة.
قال: "وإذا استولد الأب جارية ولده غصبا والولد صغير أو كبير مسلم أو ذمي أو مستأمن أو مرتد وقد علم الأب أنها عليه حرام وادعاه بعد الولادة ثبت نسبه منه كذبه الولد في ذلك أو صدقه وهو ضامن لقيمتها وهي أم ولد له ولا عقر عليه" أما سقوط الحد عنه مع العلم بالحرمة فللتأويل الثابت له في مال الولد بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : "أنت ومالك لأبيك". وأما ثبوت النسب منه فلان حق التملك له في مال ولده عند حاجته ثابت إلا أن ما كان من أصول الحوائج كالنفقة يتملك بغير عوض وفيما دون ذلك يتملك بعوض وهو محتاج هنا إلى صيانة مائه عن الضياع فيتملكها بضمان القيمة سابقا على الاستيلاد وقد بينا فروع هذه المسألة فيما أمليناه من شرح الدعوى والفرق بينهما إذا كان الولد كافرا والوالد مسلما أو على عكس ذلك.
وما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن حكمه كحكم المغرور وبينا في كتاب النكاح أيضا أن الأب لو كان تزوجها بإذنه أو بغير إذنه بنكاح صحيح أو فاسد والأب حر أو عبد لم تصر أم ولد له لأنه مستغن عن تملكها في ثبوت نسب ولده فإن شبهة النكاح تكفي لذلك.
وفي الكتاب قال هذا والأول سواء في القياس يعني لا يتملكها ولكن يثبت النسب باعتبار الغرور كما استقر عليه قول أبي يوسف غير أني أخذت في الأول بالاستحسان يعني أن تملكها عليه بضمان القيمة بهذا السبب نوع استحسان لتحقق صيانة مائه ولإثبات حرية الأصل للولد وحق أمية الولد لها.(7/318)
قال: "ولو ولدت أمة الرجل ولدا وأدعاه المولى وأبوه معا فالمولى أحق به" لأن صحة دعوته باعتبار حقيقة الملك وصحة دعوة الأب باعتبار تأويل الملك وتأويل الملك لا يعارض حقيقة الملك ثم دعوة الولد تمنع الأب من أن يتملك الجارية بدعوته وبدون هذا الشرط لا يصح استيلاده ولا يثبت النسب منه.
قال: "وإذا وطىءالرجل أمة لمكاتبه فولدت ولدا فادعاه وصدقه المكاتب فهو ولده بالقيمة وعليه العقر" لأن له حق التملك في كسب العبد المكاتب وذلك بمنزلة المغرور أو أقوى منه فكما يثبت النسب هناك ويكون الولد حرا بالقيمة وعليه العقر فكذلك هنا إلا أنه اعتبر تصديق المكاتب لأن المولى حجر على نفسه التصرف في كسب المكاتب والدعوة تصرف فلا ينفذ إلا بتصديق المكاتب بخلاف الأب فإنه ما حجر على نفسه التصرف في مال(7/319)
ص -154- ... الولد عند الحاجة فلا يحتاج إلى تصديق الولد ثم عند التصديق في المكاتب لا تصير الجارية أم ولد له لأن حق الملك ثابت له في كسبه وذلك كاف لإثبات نسب الولد, ألا ترى أن بعجزه ينقلب حقيقة ملك فلا حاجة به إلى التملك وليس للأب في مال الولد ملك ولا حق ملك ولا يمكن إثبات النسب منه إلا باعتبار تملك الجارية.
يوضحه أنه ليس للمولى حق التملك في كسب المكاتب عند الحاجة وللأب ذلك في ملك الولد فإذا ملك المولى الجارية يوما من الدهر صارت أم ولد له لأنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب وإن كذبه المكاتب ثم ملكه يوما ثبت نسبه منه لأن حق الملك له في المحل كان مثبتا للنسب منه عند صحة دعوته إلا أن بمعارضة المكاتب إياه بالتكذيب امتنع صحة دعوته وقد زالت هذه المعارضة حين ملكه.(7/320)
قال: "وإن وطىءمكاتبة مكاتبة فولدت ولدا فادعاه وصدقته المكاتبة الأخيرة فهو ابنه" لأنها بعقد الكتابة صارت أحق بنفسها وولدها فتصديقها في هذه الحالة كتصديق المكاتب حين كانت أمة له فيثبت النسب وعليه العقر لها لأنه وطئها بعد ما صارت أحق بنفسها والغلام بمنزلة أمه داخل في كتابتها بخلاف الأول فالغلام هناك حر بالقيمة لأن سبب بعدها من المولى هناك واحد وقد تعدد هنا سبب بعدها من المولى فإن الكتابة الثانية توجب بعدها من المولى كالأولى فيمنع تعدد أسباب البعد ثبوت الحرية للولد. توضيحه أنه لو جعل الولد هنا حرا كان حرا بغير قيمة لأنه لا يمكن ايجاب القيمة للأم فإنها تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها ولا يمكن إيجاب القيمة هنا للمكاتب لأنه لا حق له في نفسها ولا في ولدها بعد ما كاتبها ولا يمكن إثبات الحرية بغير قيمة لأنها ربما تعجز فتخلص للمكاتب وحقه فيها وفي ولدها مرعي فلهذا لا يحكم بحرية الولد هنا وفي الأول إثبات الحرية بالقيمة ممكن فلهذا أثبتناه فإن عجزت هي أخذ المولى الولد بالقيمة لأن الكتابة الثانية انفسخت فكأنها لم تكن وإن كانت كذبته لم يثبت النسب منه وإن عجزت لانعدام الدليل الموجب لصحة الدعوى وهو التصديق ممن الحق له إلا أن يملكه فحينئذ يثبت النسب منه لأن الحق خلص له فكأنه جدد الدعوة الآن.(7/321)
قال: وإن ادعى ولد جارية امرأته أو أحد أبويه لم يثبت النسب منه بحال" لأن ثبوت النسب باعتبار الشبهة في المحل وقد انعدم إلا أنه إذا قال ظننت أنها تحل لي يدرأ عنه الحد وإن قال علمت بالحرمة يلزمه الحد لأن الشبهة من حيث الاشتباه وهو أنه ظن بعض ما يظن مثله فإنه قال لما كانت المرأة حلالا لي فكذلك جاريتها ولما كانت جارية الأب حلالا له فكذلك لي لأني جزء منه وشبهة الاشتباه معتبرة في إسقاط العقوبة في حق من تشتبه عليه ولكن لا يعتبر في إثبات النسب فإذا ملكه يوما عتق ولم يثبت نسبه منه وإن ملك أمه لم تصر أم ولد له بمنزلة ما لو استولد جارية الغير بالزنى إلا أن يدعي شبهة نكاح فحينئذ إذا ملكها مع الولد يثبت النسب منه وتصير أم ولد له.(7/322)
ص -155- ... قال: "وإذا وطىءالرجل جارية رجل فقال أحلها لي والولد ولدي وصدقه المولى في الإحلال وكذبه في الولد لا يثبت النسب منه" لأن الإحلال ليس بنكاح ولا ملك يمين فلا يثبت به شبهة في حق المحل في حق مولاها ويكون تكذيبه إياه في الدعوة معارضا مانعا من صحة دعوته فلا يثبت نسبه منه وإن ملكه يوما ثبت نسبه منه بسقوط المعارضة بالدعوة وهو بناء على الاستحسان الذي بيناه في كتاب الدعوى أن المولى إذا صدقه في الإحلال والدعوة جميعا يثبت النسب منه استحسانا لأن التزويج ليس بموجب للزوج إلا ملك الحل والتمكن من الوطء شرعا والإحلال تمكين من ذلك حسا وفي غير هذا المحل من الطعام وغيره الإحلال يكون مثبتا حل التناول فيصير ذلك شبهة في إثبات النسب ولكنها شبهة ضعيفة جدا فلا بد من أن ينضم إليه التصديق من المولى بأن الولد ولده أو خلوص الملك في الولد للمدعي فإن ذلك أقوى من تصديق المولى فلهذا ثبت نسبه منه وإن ملك أمه كانت أم ولد له وكذلك عند تصديق المولى يثبت النسب منه وهو عبد لمولاه وكذلك الجواب في جارية الزوجة والأبوين إذا ادعى أن مولاها أحلها لي إلا أن هناك متى ثبت النسب بالتصديق عتق لقرابته من المولى أبا كان أو أما.
قال: "وإذا كانت الأمة وولدها في يد رجل فادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها منه ونقد الثمن وقبضها فولدت له هذا الولد فإن علم الأول منهما فالجارية وولدها له" لأنه أثبت الحق لنفسه في وقت لا ينازعه أحد فيه وإن لم يعلم فالجارية أم ولد لهما والولد ولدهما لتحقق المساواة بينهما في سبب الملك وفي نسب الولد وفي حق أمية الولد للأم وإن كانت في يدي أحدهما فهو أحق بها لأن شراءه متأيد بالقبض وشراء الآخر متجرد عن القبض.
وعند تعارض البينتين يترجح القابض منهما إلا أن يقيم الآخر البينة أنه الأول فحينئذ يكون أسبق التاريخين أولى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المدبر(7/323)
قال: "رضي الله عنه اعلم بأن التدبير عبارة عن العتق الموقع في المملوك بعد موت المالك" عن دبر منه مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أم الولد: "فهي معتقة عن دبر منه" وصورة المدبر أن يتعلق عتقه بمطلق موت المولى كما يتعلق عتق أم الولد به ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه إن المدبر يعتق من جميع المال كأم الولد وهو قول حماد رضي الله تعالى عنه وإحدى الروايتين عن إبراهيم رحمه الله تعالى, ولكنا لا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بقول علي وسعيد ابن المسيب والحسن وشريح و ابن سيرين رضوان الله عليهم أجمعين أنه يعتق من الثلث لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المدبر من الثلث ولأن التدبير خلافة بعد الموت فيتقدر بقدر حقه بعد الموت وحق المولى بعد الموت في ثلث ماله فيعتبر خلافته في هذا المقدار فيكون من ثلثه كسائر الوصايا. وفي أم الولد إنما يعتق من(7/324)
ص -156- ... جميع المال لسقوط قيمة ماليتها على ما قررنا أن الإحراز بعد الاستيلاد لقصد ملك المتعة لا لقصد المالية وبدون الإحراز لا تثبت المالية والتقوم وهذا المعنى لا يتقرر بالتدبير فإن التدبير ليس بقصد إلى الإحراز لملك المتعة فيبقى الإحراز بعده للتمول وإذا بقي مالا متقوما كان معتبرا من ثلثه, وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز بيع المدبر.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بيعه لحديث عطاء أن رجلا دبر عبدا له ثم احتاج إلى ثمنه فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يقال له نعيم ابن النحام بثلثمائة درهم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها دبرت أمة لها فسحرتها وعلمت بذلك فقالت ما حملك على ما صنعت فقالت حبي العتاق فباعتها من أسوأ الناس ملكة.
والمعنى فيه أن التدبير تعليق العتق بالشرط وذلك لا يمنع جواز البيع كما لو علقه بشرط آخر من دخول الدار أو مجيء رأس الشهر والتدبير وصية حتى يعتبر من ثلث المال بعد الموت والوصية لا تمنع الموصي من التصرف بالبيع وغيره كما لو أوصى برقبته لإنسان وهذا لأن الوصية إيجاب بعد الموت فتمنع الإضافة بثبوت حكم الوجوب في الحال.
"وحجتنا" حديث نافع عن ابن عمر رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث". وتأويل حديث عطاء ما نقل عن أبي جعفر محمد بن علي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما باع خدمة المدبر لا رقبته" يعني به أنه أجره والإجارة تسمى بيعا بلغة أهل المدينة أو يحتمل أنه كان مدبرا مقيدا أو كان في وقت كان بيع الحر جائزا على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه باع رجلا يقال له سرق في دينه ثم انتسخ ذلك الحكم, وعن زيد بن ثابت و ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قالا لا يباع المدبر وما نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها محمول على المدبر المقيد ليكون جمعا بينهما.(7/325)
والمعنى فيه أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت سيده فلا يجوز بيعه كأم الولد. ودليل الوصف أن التعلق حكم التعليق وإنما يتعلق بما به علق السيد وهو إنما علقه بمطلق الموت وتأثيره أن الموت كائن لا محالة وهو سبب للخلافة, ألا ترى أن الوارث يخلف المورث في تركته بعد موته فهو بهذا التعليق يكون مثبتا للمملوك في الحال الخلافة في رقبته بعد موته فيكون إيجابا في ثاني الحال باعتبار وجود سببه على وجه يصير محجورا عن إبطاله كما أن الموت لما كان موجبا الخلافة للوارث في تركته وسببه المرض ثبت نوع حق لهم بهذا السبب على وجه يصير المريض محجورا عن التبرع وهذه الخلافة في العتق الذي لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته فيتقوى هذا السبب من وجهين أحدهما أن المتعلق به مما لا يحتمل الإبطال. والثاني أن التعليق بما هو كائن لا محالة وهو موجب للخلافة ولهذه القوة قلنا لا يحتمل الإبطال والفسخ بالرجوع عنه بخلاف ما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى في بعض أقاويله وهو ضعيف جدا بأن تعليق العتق بسائر الشروط يحتمل الفسخ فهذا الشرط أولى ولهذه القوة يجب حق الحرية له في الحال على وجه يمنع بيعه ويثبت استحقاق الولاء للمولى على وجه لا(7/326)
ص -157- ... يجوز إبطاله بخلاف التعليق بسائر الشروط فإن دخول الدار ونحو ذلك ليس بكائن لا محالة والتدبير المقيد وهو قوله إن مت من مرضي هذا ليس بكائن لا محالة أيضا والتعليق بمجيء رأس الشهر فإن ذلك ليس بسبب موجب للخلافة وكذلك الوصية برقبته لغيره فإن ذلك تمليك يحتمل الإبطال بعد ثبوته فلا يجب به الحق بنفسه وتقرر بهذا التحقيق أن المدبر في معنى أم الولد إلا أن هناك معنيين تعلق بأحدهما وجوب حق الحرية في الحال وبالآخر سقوط المالية والتقوم ثم وجد أحد المعنيين ها هنا دون الآخر فيتعدى بذلك المعنى حكم ثبوت حق الحرية إلى المدبر ولا يتعدى حكم سقوط المالية والتقوم.
لانعدام معناه هنا فلهذا كان معتبرا من الثلث, على هذا نقول ولد المدبرة يكون مدبرا لأنه وجب حق الحرية لها في الحال فيسري إلى الولد كالاستيلاد وهو دليلنا على الشافعي وبعض أصحابه يمنعون سرايته إلى الولد وهو ضعيف جدا لأنه مخالف لقول الصحابة والتابعين.
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه ولد المدبرة مثل أمه وخوصم إلى عثمان رضي الله عنه في أولاد مدبرة فقضى بأن ما ولدته قبل التدبير عبد يباع وما ولدته بعد التدبير فهو مثلها لا يباع.
وعن شريح وسعيد بن المسيب وقتادة وجماعة منهم رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا ولد المدبرة مدبر
إذا عرفنا هذا فنقول رجل قال لمملوكه أنت حر بعد موتي أو إذا مت أو إن مت أو متى مت أو إذا حدث بي حدث فهذا كله واحد وهو مدبر لأنه علق عتقه بمطلق موته فإنه وإن أطلق الحدث فالمراد به الموت عادة وكذلك لو قال أنت حر يوم أموت لأنه قرن باليوم ما لا يمتد ولا يختص بأحد الوقتين فيكون عبارة عن الوقت فكأنه قال أنت حر وقت موتي فإن نوى باليوم النهار دون الليل صحت نيته لأنه نوى حقيقة كلامه.
ثم لا يكون مدبرا لأنه علق عتقه بما ليس بكائن لا محالة وهو موته بالنهار وربما يموت بالليل فلهذا لا يكون مدبرا.(7/327)
ولو قال إن حدث بي حدث في مرضي هذا أو سفري هذا فأنت حر لم يكن مدبرا وله أن يبيعه لأنه علق عتقه بما ليس بكائن لا محالة فربما يرجع من ذلك السفر ويبرأ من ذلك المرض وفقه هذا الكلام أتا إنما نوجب حق الحرية بالتدبير في الحال بناء على قصده القربة بطريق الخلافة وهذا القصد منه ينعدم إذا علقه بموت بصفة لأن القصد إلى القربة لا يختلف بالموت من ذلك المرض أو من غيره فلانعدام هذا القصد لم يكن مدبرا بخلاف ما إذا علقه بمطلق الموت فإن القصد إلى إيجاب القربة هناك متحقق حين علقه بما هو كائن لا محالة ولكن إن مات كما قال عتق من ثلثه لأن التعليق بالشرط صحيح مع انعدام القصد إلى إيجاب القربة وإذا وجد الشرط عتق من ثلثه وإن بريء من مرضه أو رجع من سفره ثم مات لم يعتق لأن الشرط الذي علق عتقه به قد انعدم.(7/328)
ص -158- ... وإذا قال أنت حر بعد موت فلان لم يكن مدبرا لأن موت فلان ليس بسبب للخلافة في حق هذا المولى ووجوب حق العتق باعتبار معنى الخلافة فإذا لم يوجد ذلك لم يكن مدبرا وإلى هذا أشار فقال ألا ترى أن فلانا لو مات والمولى حي عتق العبد ولا خلافة قبل موته ولو مات المولى وذلك الرجل حي صار العبد ميراثا للورثة فكيف يكون مدبرا وتجري فيه سهام الورثة وكذلك إن قال أنت حر بعد موتي موت فلان أو بعد موت فلان وموتي فهذا لا يكون مدبرا لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت المولى فحسب وإنما تعلق بموتين فإن مات المولى قبل فلان لم يعتق لأن الشرط لم يتم وصار ميراثا للورثة فكأن لهم أن يبيعوه
وإن مات فلان قبل المولى فحينئذ يصير مدبرا عندنا وليس له أن يبيعه, وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يكون مدبرا لأنه ما تعلق عتقه بموت المولى فحسب إنما نعلق بموتين كما علقه المولى فكان موت المولى بعد موت فلان متمما للشرط لا إنه كمال الشرط, وهذا على أصل زفر رحمه الله تعالى مستقيم فإنه يجعل كل جزء من الشرط معتبرا حتى اعتبر وجود الملك عند وجود بعض الشرط على ما بينا في الطلاق.
ولكنا نقول بعد موت فلان تعلق عتقه بمطلق موت المولى حتى أنه متى مات عتق وصورة المدبر هذا فكان مدبرا كما لو قال له إذا كلمت فلانا فأنت حر بعد موتي فكلمه أو قال أنت حر بعد كلامك فلانا وبعد موتي فإذا كلم فلانا كان مدبرا فكذلك هنا.
قال وإن قال أنت حر بعد موتي إن شئت لم يصر مدبرا لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت المولى بل به ومشيئته.(7/329)
ثم قول المولى إن شئت محتمل يجوز أن يكون مراده المشيئة في الحال ويجوز أن يكون مراده المشيئة بعد الموت فينوي في ذلك فإن نوى بالمشيئة الساعة فشاء العبد فهو حر بعد موته من الثلث لأن شرط المشيئة لما وجد من العبد في المجلس يصير عتقه متعلقا بمطلق موت المولى بعده فيكون مدبرا, وإن كان نوى بالمشيئة بعد الموت فإذا مات المولى فشاء العبد عند موته فهو حر من ثلثه لوجود الشرط لا باعتبار التدبير.
وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول الصحيح أن لا يعتق هنا ما لم يعتقه الوارث أو الوصي لأنه لما لم يعتق بنفس الموت صار ميراثا فلا يعتق بعد ذلك إلا بإعتاق منهم ويكون هذا وصية يحتاج إلى تنفيذها كما لو قال أعتقوه بعد موتي إن شاء.
وجعل هذا نظير ما لو قال له أنت حر بعد موتي بشهر فإنه لا يعتق إلا باعتاق من الوارث أو الوصي بعد شهر هكذا ذكره ابن سماعة في نوادره.
ثم في ظاهر الجواب يعتبر وجود المشيئة من العبد في المجلس بعد موت المولى كما يتقيد بهذا اللفظ مشيئته بالمجلس في حال حياته.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتوقت بالمجلس لأن هذا في معنى الوصية ولا يشترط في لزوم الوصية القبول في المجلس بعد الموت.(7/330)
ص -159- ... ولو قال أنت حر بعد موتي بيوم لم يكن مدبرا وله أن يبيعه لأن عتقه ما تعلق بمطلق الموت بل يمضي يوم بعده فإن مات لم يعتق في الوقت الذي سمى حتى يعتقه الورثة.
وهذا يؤيد ما ذكره أبو بكر الرازي وقد بينا المعنى فيه, ومن أصحابنا من فرق بين هذا وبين الأول فقال لما أخر العتق عن موته بزمان ممتد في يوم أو شهر وملك الوارث يتقرر في ذلك الزمان عرفنا أن مراده الأمر بإعتاقه فلا يعتق ما لم يعتقه.
وأما في مسألة المشيئة تتصل مشيئة العبد بموت المولى قبل تقرر الملك للوارث فيعتق بإعتاق المولى ولا تقع الحاجة إلى إعتاق الوارث إياه وكذلك لو قال كل مملوك لي فهو حر بعد موتي بيوم فهذا وما أوجب للمملوك بعينه سواء لما بينا.
ولو قال كل مملوك لي فهو حر بعد موتي فما كان في ملكه حين قال هذه المقالة فهو مدبر لأنه تعلق عتقه بموت المولى وما دخل في ملكه بعد ذلك لم يصر مدبرا ولكن إن مات وهو في ملكه عتق من ثلثه مع المدبرين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله لا يتناول هذا اللفظ ما يستحدث الملك فيه وكذلك لو قال كل مملوك أملكه فهو حر بعد موتي أو كل مملوك أملكه إذا مت فهو حر.
فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول التعليق معتبر بالتنجيز ولو نجز العتق بهذا اللفظ لم يتناول العتق إلا ما هو مملوك له في الحال فكذلك إذا علق بالموت وهذا في قوله كل مملوك لي ظاهر لأنه سمى ما هو مضاف إليه في الحال وكذلك في قوله كل مملوك أملكه.
فإن أهل اللغة يقولون المراد بهذا اللفظ الحال وإذا أريد به الاستقبال يقيد بالسين أو سوف فيقال سأملكه أو سوف أملكه.(7/331)
والدليل عليه أن ما يستحدث الملك فيه لا يصير مدبرا بالإتفاق ولو تناوله هذا اللفظ لصار مدبرا كالموجود في ملكه وهما يقولان علق عتق ما يملكه فيتناول ما مملوك له عند الموت والذي استحدث الملك فيه مملوك له عند الموت كالموجود في ملكه وهذا لأن الإضافة إلى ما بعد الموت وصية وفي الوصية إذا لم يوجد التعيين من الموصي عند الإيصاء يعتبر وجوده عند الموت كما لو أوصى بثلث ماله لإنسان يتناول هذا ما يكون ماله عند الموت فهذا مثله إلا أن التدبير إيجاب العتق كما قررنا فلا يصح إلا بالملك أو مضافا إلى الملك ففي حق الموجودين في ملكه وجد الملك فيصح إيجاب حق العتق لهم وفي حق الذين يستحدث الملك فيهم لم يوجد الإيجاب في الملك ولا الإضافة إلى الملك إنما وجدت الإضافة إلى الموت فلم يوجد لهم حق العتق بنفس الملك لأنه لا يدري بقاؤهم في ملكه إلى وقت الموت وباعتبار ذلك يتناولهم كلامه فلهذا كان له أن يبيعهم وإذا لم يبعهم حتى مات فقد تناولهم وصيته فيعتقون من الثلث لهذا.
قال: "وللمولى أن يؤاجر المدبرة ويستغلها ويطأها ويزوجها ومهرها له كأم الولد" لأنهما باقيتان على ملكه بعد ما ثبت لهما حق العتق وإنما يمنع من التصرف المبطل لحقهما(7/332)
ص -160- ... دون التصرف الذي لا يبطل حقهما كمن زوج أمته من رجل له أن يبيعها لأنه غير مبطل لحق الزوج وليس له أن يطأها ولا يزوجها من غيره فهنا الهبة والبيع مبطل لحقهما فيمنع المولى من ذلك وسائر التصرفات ليس بمبطل لحقهما فلا يمنع منه وليس له أن يرهنهما لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء من المالية ولا مالية في أم الولد واستيفاء الدين من مالية المدبر غير ممكن لأن استيفاء الدين من المالية يكون بطريق البيع وهي ليست بمحل للبيع.
قال: "وجناية المدبر على مولاه فيما بينه وبين قيمته" لأن بالتدبير السابق منع الدفع على وجه لم يصر مختارا للفداء وليس عليه في جنايته إلا قيمة واحدة وإن كان بعضها بمباشرة وبعضها يتسبب لأنه ما منع إلا رقبة واحدة وأما غرم المستهلكات فدين في رقبته ويسعى فيه وقد بينا نظيره في أم الولد وفي الجناية على المدبر ما في الجناية على المماليك لأنه مملوك بعد التدبير.
قال: "وإذا قال لعبده أنت مدبر أو قال قد دبرتك فهو كما قال" لأن هذا اللفظ صريح فلا فرق بين أن يذكره بصيغة الانشاء أو بصيغة الوصف.
قال: "أرأيت لو كان أعجميا لا يفصح بالتدبير فقال هذه المقالة أما يكون مدبرا" فهذه إشارة إلى أن هذا اللفظ لكثرة الاستعمال في حكم المعلوم لكل واحد.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا قال أنت مدبر بعد موتي فهو مدبر في الحال وجعل هذا وقوله أنت حر بعد موتي سواء لكثرة استعمال هذا اللفظ لهذا المقصود.
قال: "وتدبير الصبي والمجنون باطل أطلقا أو أضافا إلى ما بعد البلوغ والإفاقة" لأن حقيقة الإعتاق منهما باطلة فإيجاب حق الحرية بالقول كذلك.
وللشافعي رضي الله عنه قول أن تدبير الصبي صحيح لأن التدبير عنده وصية وهو يجوز وصية الصبي بما هو قربة لأن نفوذه يكون بعد وقوع الاستغناء له فيه وفي حديث شريح رضي الله عنه "أنه جوز وصية غلام يفع" وهذا ضعيف لأن الوصية تبرع وقول الصبي في التبرعات هدر.(7/333)
وقد تناقض مذهب الشافعي رضي الله عنه في هذا فإنه لا يصحح إسلامه وقبوله الهبة والصدقة مع أن ذلك محض منفعة له فأما السكران والمكره فتدبيرهما جائز عندنا كإعتاقهما وأما المكاتب فاعتاقه وتدبيره باطل لأن نفوذهما يستدعي حقيقة الملك في المحل وليس للمكاتب حقيقة الملك في كسبه.
قال: "وإذا قال العبد أو المكاتب إذا عتقت فكل مملوك أملكه بعد ما أعتق فهو حر ثم عتق فملك مملوكا فهو حر" لأنه مخاطب له قول ملزم في حق نفسه وقد صرح بإضافة العتق إلى ما بعد حقيقة الملك له فتصح إضافته ويكون عند وجود الملك كالمنجز له.
قال: "ولو قال كل مملوك أملكه فيما أستقبل أو إلى خمسين سنة فهو حر فعتق ثم ملك مملوكا لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى(7/334)
ص -161- ... وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق" لأن له في المستقبل نوعي ملك ملك لا يقبل العتق وهو حال قيام الكتابة وملك يقبل العتق وهو ما بعد عتقه فينصرف مطلق لفظه إليهما ويصير كالمنجز عند وجود حقيقة الملك كما في المسألة الأولى وقاسا هذا بالحر إذا قال كل مملوك اشتريه فهو حر فإنه يتناول ما يشتريه لنفسه لا ما يشتريه لغيره حتى يعتق ما يشتريه لنفسه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول ملكه في حال قيام الكتابة ملك مجاز وبعد العتق حقيقة ولا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز جميعا لأن المجاز مستعار والحقيقة غير مستعارة وكما لا يتصور أن يكون الثوب الواحد على إنسان ملكا وعارية في حالة واحدة فكذلك لا يتصور الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد والمجاز هنا مراد بالإتفاق حتى لو قال إذا ملكت مملوكا فيما استقبل فملك في حال قيام الكتابة ينحل يمينه به, فإذا صار المجاز في مراد تنحى الحقيقة وهذا المجاز مستعمل ورد الشرع به في قوله من باع عبدا وله مال وهذا بخلاف الشراء فإن الشراء للغير ليس بمجاز بل هو حقيقة كالشراء لنفسه فيما يرجع إلى أحكام العقد ولأن الإعتاق يستدعي أهلية المعتق والمحلية في المعتق ثم لو انعدمت المحلية لم يصح الإيجاب إلا مضافا إلى الملك أو سببه فكذلك إذا انعدمت الأهلية في الحال لا يصح الإيجاب إلا مضافا إلى حالة الأهلية صريحا وهو ما بعد العتق فإذا لم يوجد ذلك في الفصل الثاني لم يكن كلامه إيجابا للعتق.
قال: "وإذا قال لأمة الغير إذا ملكتك فأنت مدبرة فولدت له ولدا ثم اشتراها فالأم مدبرة دون الولد وكذلك العتق المنجز" لأن العتق والتدبير إنما يصل إليهما بعد الملك وقد انفصل الولد قبل ذلك ولا سراية إلى المنفصل.
قال: "ولو قال لرجل دبر عبدي فأعتقه فهو باطل" لأنه خالف ما أمره به فكان مبتدئا لا ممتثلا.(7/335)
قال: "ولو قال لصبي أو مجنون دبر عبدي إن شئت فدبره جاز" وهذا على المجلس لتصريحه بالمشيئة وقد تقدم نظيره في العتق والطلاق.
قال: "وإن جعل أمر عبده في التدبير إلى رجلين فدبره أحدهما لا يجوز" لأنه ملكهما هذا التصرف فلا ينفرد به أحدهما بخلاف ما لو قال دبرا عبدي هذا فدبره أحدهما جاز لأنه جعلهما معبرين عنه وعبارة الواحد وعبارة المثنى سواء, ألا ترى أن له أن ينهاهما قبل أن يدبراه في هذا الفصل وليس له ذلك في الفصل الأول.
قال: "وإذا اختلف المولى والمدبرة في ولدها فقال المولى ولدتيه قبل التدبير وقالت هي ولدته بعد التدبير فالقول قول المولى" لأنها تدعي حق العتق لولدها ولو ادعت ذلك لنفسها كان القول قول المولى إذا أنكر فكذلك إذا ادعت لولدها فالقول قول المولى مع يمينه والبينة بينة المدبرة لما فيها من زيادة إثبات حق العتق لها.(7/336)
ص -162- ... قال: "وعتق المدبر محسوب من ثلث المال بعد الدين حتى إذا كان عليه دين يحيط بماله فعلى المدبر السعاية في قيمته" لأنه وجب عليه رد رقبته والعتق لا يمكن رده فكان الرد بإيجاب السعاية وإن لم يكن عليه دين فهو حر من ثلث ماله يوم يموت المولى ويستوي إن كان دبره في صحته أو في مرضه لأن زوال المالية بالعتق بعد الموت بالتدبير السابق فلهذا اعتبر من ثلث ماله يوم يموت.
قال: "ولو دبر عبده ثم جن ثم مات فهو حر من ثلثه" لأن التدبير قد صح في حال قيام عقله فلا يبطل بجنونه وكذلك لو قال يوم أدخل الدار فعبدي هذا مدبر ثم جن فدخل الدار فهو مدبر بالكلام السابق لأن ذلك قد صح منه في حال إفاقته. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى إذا قال لعبده إذا مت أو قتلت فأنت حر على قول زفر رحمه الله تعالى يكون مدبرا لأن عتقه تعلق بمطلق موت المولى حتى يعتق إذا مات على أي وجه مات.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون مدبرا لأنه علق بأحد الشيئين الموت أو القتل فإن كان موتا فالموت ليس بقتل وتعليقه بأحد شيئين يمنع أن يكون عزيمة في أحدهما خاصة فلا يصير مدبرا حتى يجوز بيعه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا قال لعبده إذا مت وغسلت فأنت حر لا يكون مدبرا لأنه علقه بالموت وبشيء آخر بعده ثم إذا مات ففي القياس لا يعتق وإن غسل لأنه لما لم يعتق بنفس الموت انتقل إلى الوارث فهو كقوله إن مت ودخلت الدار فأنت حر وفي الاستحسان يعتق لأنه يغسل عقيب موته قبل أن يتقرر ملك الوارث فيه فهو نظير تعليقه بموت بصفة فإذا وجد ذلك يعتق من ثلثه بخلاف دخول الدار فذلك لا يتصل بالموت فيتقرر ملك الوارث فيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب تدبير العبد بين اثنين(7/337)
قال: "رضي الله عنه عبد بين اثنين دبره أحدهما فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتدبر نصيبه خاصة" لأن التدبير يحتمل التجزي عنده ثم إن كان المدبر موسرا فللآخر خمس خيارات إن شاء دبر نصيبه لقيام ملكه في نصيبه وإذا فعل صار مدبرا بينهما وإن شاء أعتق نصيبه لقيام ملكه في نصيبه أيضا وإن شاء استسعى لأن نصيبه صار كالمحتبس عند المدبر حيث تعذر عليه التصرف في نصيبه بالبيع وغيره وإن شاء ضمن صاحبه لأنه أفسد عليه نصيبه وهو موسر كما لو أعتقه وإن شاء تركه على حاله لأن الملك للمدبر باق في نصيبه فيتمكن الشريك من استدامة الملك في نصيبه أيضا بخلاف ما بعد عتق أحد الشريكين وإن كان المدبر معسرا فليس للساكت حق التضمين وله الخيار بين الأشياء الأربعة كما قلنا فإن أعتق الساكت نصيبه وهو موسر فللمدبر الخيار إن شاء ضمنه نصف قيمته مدبرا. إن شاء(7/338)
ص -163- ... استسعى الغلام في ذلك وإن شاء أعتق لأنه بعد التدبير كان متمكنا من استدامة الملك في نصيبه وقد أفسد عليه صاحبه ذلك بإعتاق نصيبه فله أن يضمنه إن كان موسرا ويرجع هو بما ضمن على الغلام وأي ذلك اختار فالولاء بينهما لأنه بالتدبير لسابق استحق ولاء نصيبه على وجه لا يحتمل الإبطال فهو وإن ضمن شريكه بعد ذلك لم يتحول الملك في نصيبه إلى الشريك لأن المدبر لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك ورجوع الضامن على الغلام باعتبار أنه يقوم مقام من ضمنه لا باعتبار أنه يصير مالكا ولهذا كان الولاء بينهما وإن لم يعتقه الثاني ولكن ضمن المدبر قيمة نصيبه صار الغلام كله للمدبر لأن نصيب الشريك غير مدبر فيملكه بالضمان ويكون حاله كحال من دبر نصف عبده فهو مملوك له نصفه مدبر ونصفه غير مدبر وإن لم يضمنه ولكن استسعاه فأدى إليه السعاية عتق نصيبه حكما بأداء السعاية فيكون المدبر بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعى في قيمة نصيبه وليس له أن يضمن شريكه بخلاف ما لو أعتقه لأن الاستسعاء كان بسبب التدبير الموجود منه فهذا عتق حصل بسبب رضى المدبر به فلهذا لا يضمنه بهذا السبب وإذا أعتقه ابتداء فلم يكن ذلك العتق بسبب التدبير الموجود في المدبر فله أن يضمنه إن شاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا دبره أحدهما كان مدبرا كله ويضمن نصف قيمته لشريكه موسرا كان أو معسرا لأن التدبير عندهما لا يتجزي فيصير المدبر متملكا نصيب شريكه.
وروى المعلي عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن المدبر إذا كان معسرا فالمدبر يسعى في نصف قيمته سعاية ملك لا سعاية ضمان وفي هذا أشار إلى الفرق بين التدبير والاستيلاد كما روينا في نظير هذا(7/339)
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن السعاية على أم الولد سعاية ضمان لأنه لا يلزمها السعاية في ديون مولاها, وأما السعاية على المدبر سعاية ملك على معنى أن كسبه مملوك للمولى فيكون مصروفا إلى دينه
ألا ترى أن عليه السعاية في دين مولاه بعد الموت وليس ذلك على أم الولد.
قال ابن أبي ليلى إذا دبر أحدهما كان للآخر بيع حصته منه لأنه لما ملك الآخر استدامة الملك في نصيبه غير مدبر عرفنا أن التدبير لم يؤثر في نصيبه فكان له أن يبيعه ولكنا نقول بالتدبير يجب حق العتق في بعضه في الحال وذلك مانع من بيعه كحقيقة العتق.
وقال ابن أبي ليلى أيضا إذا دبر أحدهما ثم أعتق الآخر فالتدبير باطل والعتق جائز وهو بناء على أصله أن العتق لا يتجزأ فيبطل به تدبير المدبر فيضمن المعتق للمدبر إن كان موسرا ولكنا نقول المدبر استحق ولاء نصيبه على وجه لا يحتمل الإبطال فلا يبطل ذلك بإعتاق الآخر.
قال: "أمة بين رجلين قالا جميعا لها أنت حرة بعد موتنا لم تصر مدبرة" لأن عتق نصيب كل واحد منهما ما تعلق بمطلق موته, بل تعلق بموتهما فكان هذا بمنزلة ما لو قال كل واحد(7/340)
ص -164- ... منهما أنت حر بعد موتي وموت فلان فلا يكون مدبرا ولكن إذا مات أحدهما صار نصيب الآخر مدبرا لأنه يتعلق عتق نصيبه بمطلق موته الآن ونصيب الذي مات صار ميراثا لورثته لأن شرط عتقه لم يتم بموته.
ثم الورثة بالخيار إن كان الشريك موسرا بين الأشياء الخمسة على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو أنشأ تدبير نصيبه في الحال.
فإن قيل: كيف يكون ضامنا وإنما تدبر نصيبه بسبب كان ساعده عليه الميت وورثته في ذلك خلفاؤه؟
قلنا: نعم الورثة خلفاؤه فيما كان ثابتا في حقه والتدبير لم يكن ثابتا في نصيب واحد منهما قبل الموت وإنما يثبت في نصيب الحي بعد ما انتقل الملك في نصيب الميت إلى ورثته فلهذا كان لهم أن يضمنوه.
قال: "مدبرة بين رجلين مات أحدهما عتق نصيبه منها وسعت للآخر في قيمة نصيبه ولا ضمان له في تركة الميت" لأن العتق حصل بسبب التدبير الذي رضيا به إلا أن نصيبه بعد التدبير بقي مالا متقوما وقد احتبس عندها فتسعى له.
قال: "فإن مات الآخر قبل أن تسعى له عتق نصيبه أيضا إن خرج من ثلثه وسقط عنه السعاية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن نصيبه كان ثابتا على ملكه ما لم تؤد السعاية فتعتق بموته من ثلثه وعندهما لا يسقط عنها السعاية لأن عندهما العتق لا يتجزىءفقد عتق كلها بموت الأول والسعاية دين عليها فلا يسقط ذلك بموت المولى.(7/341)
قال: "مدبرة بين رجلين ولدت ولدا فادعى أحدهما الولد ففي القياس لا يثبت نسبه منه" لأن نصيب الشريك من الولد مدبر وبالتدبير يجب حق العتق فلا يملك الآخر إبطاله بالدعوة ولأنه تعذر إثبات الاستيلاد في نصيب الشريك لأن نصيبه مدبر لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك, ولكنه استحسن فقال يثبت نسبه منه لأن قيام ملكه في النصف كاف لصحة دعوته والولد محتاج إلى النسب ويكون عليه نصف العقر ونصف قيمته مدبرا بخلاف الأمة القنة فإن هناك المستولد يصير متملكا نصيب شريكه منها من وقت العلوق فيعلق الولد حر الأصل فلهذا لا يضمن قيمة الولد وهنا لا يصير متملكا نصيب شريكه منها لأنها مدبرة فيصير الولد مقصودا بالإتلاف فيضمن قيمة نصيب شريكه منه مدبرا وكذلك لو ادعاه وهي حبلى فولدت كان القول فيه كذلك لأن الجنين في البطن محل للعتق واستحقاق النسب بالدعوة فهو كالمنفصل فإن ولدته بعد ذلك ميتا فلا ضمان عليه فيه لأنه لم تعرف حياته وإتلاف صاحب الدعوة نصيب شريكه فلا يكون ضامنا وإن ضرب
إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا بعد الدعوة لأقل من ستة أشهر فعلى الجاني نصف عشر قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان غلاما وعشر قيمتها إن كانت جارية لأبي الولد لأن النسب يثبت منه بالدعوة فلم يعتق نصيب الشريك منه وأرش الجنين المملوك هذا المقدار وعلى أب الولد نصف عشر قيمتها إن كانت جارية لشريكه وإن كان غلاما فربع عشر قيمته لأن حصة نصيبه من الأرش(7/342)
ص -165- ... هذا وباعتبار سلامة الأرش لأب الولد يجب عليه الضمان إذ لا دليل على حياته إلا ذلك فيتقدر الضمان بقدره لهذا وعليه نصف العقر لإقراره بوطئها والمدبرة على حالها في خدمتها لهما فإن ولدت ولدا آخر فادعاه أب الولد أيضا فهو ابنه لما قلنا وعليه نصف قيمته مدبرا لاتلافه نصيب الشريك فيه مقصودا بالدعوة وعليه نصف العقر أيضا من قبل الوطء الثاني لأن نصيب الشريك منها باق على ملكه فوطؤه في ذلك القدر حصل في غير ملكه وولاء الولد بينهما لأن الولد انفصل مدبرا بينهما فاستحق كل واحد منهما ولاء نصيبه حتى أنه إن جنى جناية كانت على عاقلتهما باعتبار الولاء الثابت لهما إذ لا منافاة بين النسب والولاء ولو ولدت آخر بعد ذلك فادعاه الشريك الآخر كان ابنه لقيام الملك له في نصفه وحاجته إلى النسب فإن نسب الولد الثاني لا يثبت من المدعي الأول قبل الدعوة لأنها ما صارت فراشا له ووطؤها حرام عليه لأجل الشركة فلهذا يثبت نسبه من الآخر وكان ضامنا لنصف العقر ونصف قيمته مدبرا.
وجوابه في ضمان نصف العقر قولهم جميعا فأما في ضمان نصف القيمة فهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن نصيب المدعي الأول من الولد بمنزلة نصيبه من الأم أم الولد ولا قيمة لرق أم الولد عند أبي حنيفة رحمه الله فلهذا لا يضمن الشريك بالدعوة له شيئا من قيمة الولد عنده ثم الجارية صارت أم ولد بينهما لأن كل واحد منهما استولدها فصح استيلادها في نصيبه منها فإذا مات أحدهما عتقت ولا سعاية عليها للحي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وفي قولهما تسعى له في نصف قيمتها وقد تقدم بيان هذا.(7/343)
قال: "مدبرة بين اثنين ولدت ولدا فادعاه أحدهما ثم مات الآخر عتق نصيبه منها من ثلثه بالتدبير وعتق نصيب أب الولد من غير سعاية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن نصيبه صار أم ولد ولا سعاية على أم الولد عنده وإن مات أب الولد عتق نصيبه من جميع المال بالاستيلاد وسعت للآخر في نصف قيمتها مدبرة لأن نصيب الآخر مدبر وليس بأم الولد والمدبر يلزمه السعاية, وبهذه المسألة يتبين أن الاستيلاد يحتمل التجزي عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال: "مدبرة بين رجلين جاءت بولد فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه ادعاه وأنكراه فالغلام حر" لأنهما تصادقا على أنه حر والحق لهما لا يعدوهما ولا سعاية عليه لأن كل واحد منهما يتبرأ من سعايته ويزعم أنه حر الأصل والجارية بينهما تخدمهما على حالها لأنها كانت مدبرة بينهما وبقيت كذلك بعد إقرارهما فإن مات أحدهما عتق نصيبه من ثلث ماله بالتدبير وسعت في نصيب الآخر لأن الاستيلاد لم يثبت بشهادة الذي مات في نصيب الحي فإنه كان منكرا لذلك وهذا بخلاف ما إذا كانت أمه غير مدبرة فإن بعد موت أحدهما لا تسعى للآخر لأن الآخر يتبرأ من سعايتها ويزعم أنها أم ولد للشريك الميت قد عتقت بموته وحقه في الضمان قبله فلهذا لا يستعيها هناك.(7/344)
ص -166- ... قال: "جارية بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه دبرها وأنكر الآخر ذلك فقد دخلها بشهادته شيء حتى لا تباع ولا توهب ولا تمهر" لأن شهادة الشاهد في حقه يجعل كأنه حق ولو كان التدبير من أحدهما معلوما لم يمكن بيعها بعد ذلك فكذلك إذا شهد به أحدهما وهو وشهادته عليه بالعتق سواء في هذا الحكم فإن مات الشاهد فهي بين ورثته وبين المشهود عليه كما كانت لأن نصيب الشاهد ليس بمدبر على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى باتفاقهما فيخلفه ورثته فيه بعد موته فإن مات المشهود عليه عتقت وسعت في جميع قيمتها لأن الشاهد مقر بعتق نصيب المشهود عليه عند موته فيفسد رقها بزعمه.
ثم ورثة المشهود عليه يقولون الشاهد كاذب وقد تعذر استدامة الملك فيها عليه.
قلنا: له أن يستسعيها في قيمة نصيبها والشاهد يقول عتق نصيب شريكي بموته ولي حق استسعائها في نصيبي فلهذا سعت في جميع قيمتها بينهما وإن شهد كل واحد منهما على صاحبه بالتدبير فهي بينهما كالمدبرة لاعتبار زعم كل واحد منهما في حقه وأيهما مات سعت في جميع قيمتها لورثته وللحي لما بينا أن كل واحد منهما يدعي السعاية ويزعم أن نصيب شريكه عتق بموته أو بإقرار شريكه.
قال: "وإذا عتق أحد الشريكين العبد ثم دبره الآخر فتدبيره صحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن نصيبه باق على ملكه وتدبيره يكون إبراء للمعتق عن الضمان واختيارا للسعاية فيسعى له الغلام في نصف قيمته مدبرا لأن قدر نقصان التدبير حصل بمباشرته واكتسابه سبب استحقاق الولاء فلهذا يسعى له في نصف قيمته مدبرا.
قال: "عبد بين ثلاثة نفر دبر أحدهم نصيبه ثم أعتق الآخر نصف نصيبه وهو غني فقد أبرأ المدبر عن الضمان" لأنه و أعتق جميع نصيبه كان مبريا له عن الضمان فكذلك إذا أعتق البعض إذ ليس له حق التضمين في بعض نصيبه دون البعض.(7/345)
ثم يسعى له العبد فيما بقي من نصيبه لأن نصيبه بمنزلة عبد كامل ومن أعتق بعض عبده فله أن يستسعيه فيما بقي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال فيضمنه المدبر إن شاء ثلث قيمته مدبرا وإن شاء استسعى الغلام فيه لأنه تعذر عليه استدامة الملك في نصيبه بإعتاق المعتق بعض نصيبه فهو كما لو تعذر عليه استدامة الملك فيه بإعتاق المعتق جميع نصيبه.
وأما الثالث فله أن يضمن المدبر إن كان موسرا وليس له أن يضمن الثاني لأن المدبر بالتدبير السابق قد اكتسب سبب الضمان للثالث على نفسه وصار نصيبه بحيث لا يحتمل الانتقال إلا إليه بالضمان والسبب الموجود منه لا يحتمل الإبطال لأنه يثبت به استحقاق العتق والولاء فلا يبطل ذلك الحكم بإعتاق الثاني فلهذا لا يكون له أن يضمن الثاني ولكن يضمن المدبر ويرجع به المدبر على العبد فيستسعيه في ذلك كما يستسعيه في نصيب نفسه لأنه تملك على الثالث نصيبه بالضمان.
قال: "ولو لم يعتق الثاني حتى ضمن الثالث المدبر نصيبه ثم أعتقه الثاني وهو موسر(7/346)
ص -167- ... كان للمدبر أن يضمنه ثلثي قيمته ثلث مدبر وثلث غير مدبر" لأنه بالضمان يملك نصيب الثالث غير مدبر ثم صنع المعتق في الإعتاق وجد بعد ذلك فله أن يضمنه باعتبار هذا الصنع قيمة جميع نصيبه كل ثلث بصفته بخلاف ما سبق فإن صنع المعتق هناك وجد قبل أن يتملك المدبر نصيب شريكه بالضمان فلهذا لا يكون له أن يضمنه قيمة نصيب الثالث باعتبار ذلك الصنع ثم يرجع المعتق على العبد بما ضمنه للمدبر وذلك ثلثا قيمته وثلث الولاء للمعتق بقدر نصيبه الذي أعتق وثلثا الولاء للمدبر أما مقدار نصيبه وهو الثلث فلا إشكال فيه لأنه استحق ولاءه بالتدبير وأما نصيب الثالث فلأنه كان لا يحتمل الانتقال إلا إليه وبعد النقل إليه لم ينتقل إلى المعتق وإن ضمنه, ألا ترى أنه لم يكن للثالث حق تضمين المعتق ولو كان يجوز نقل هذا النصيب إليه بحال لكان له أن يضمنه وإذا ظهر أنه غير محتمل للانتقال إليه فإنما عتق على ملك المدبر فلهذا كان له ولاء الثلثين, ألا ترى أنه لو كان بين اثنين فدبر أحدهما ثلث نصيبه وأعتق الآخر نصيبه كله وهو موسر كان للمدبر أن يضمن المعتق قيمته نصيبه وهونصف قيمة العبد ثلثه مدبر وثلثاه غير مدبر ويرجع به المعتق على العبد والولاء بينهما نصفان لأن حصة المدبر قد دخلها عتق حين دبر بعضه فلا ينتقل شيء من نصيبه إلى المعتق بالضمان فكذلك ما سبق.
وإذا قال إن ملكت شيئا من هذا العبد فهو حر بعد موتي ثم ملكه مع آخر صار نصيبه منه مدبرا لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولم يكن لشريكه أن يضمنه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والتدبير في هذا وتنجيز العتق سواء وهذا فرع ما تقدم من اختلافهم في رجلين اشتريا عبدا وهو قريب أحدهما.(7/347)
كان أبو بكر الرازي يقول هذا غلط فإن الملك هنا شرط العتق لا علته ومباشرة أحد الشريكين للشرط لا يسقط حقه في الضمان كما في مسألة ضرب السوط فمعاونته على تحصيل الشرط أو رضاه به كيف يكون مسقطا ولكنا نقول ما ذكره في الكتاب صحيح وهذا شرط في معنى السبب لأنه مصحح للتعليق فإن التعليق في غير الملك لا يصح إلا مضافا إلى الملك, ألا ترى أنه لو علق عتق هذا المملوك أو تدبيره بشرط آخر كان باطلا وإذا كان مصححا لما هو السبب كان في معنى المتمم للسبب فمعاونته إياه عليه يكون مسقطا حقه في الضمان بخلاف ضرب السوط.
فإن قيل: كان ينبغي أن يقال إذا قال لعبد الغير إذا ملكتك فأنت حر ثم اشتراه بنية الكفارة أن يجوز عن الكفارة كما لو اشترى قريبه وبالإتفاق لا يجوز.
قلنا: هذا الشرط مصحح لليمين ولكنه غير موجب للعتق بل الموجب للعتق هو اليمين ولا بد من أن تقترن نية الكفارة بالسبب الموجب للعتق فأما الرضا بما يصحح ليمين كالرضا باليمين في إسقاط حقه في التضمين وأشار في الكتاب إلى علة أخرى فقال لأنهما لم يملكاه جميعا معناه أن وجوب الضمان يعتمد الصنع وصنعه اتصل بالمملوك قبل ملك الشريك, لأن(7/348)
ص -168- ... صنعه الشراء والملك حكم الشراء والحكم يعقب السبب فلا يكون له أن يضمنه بصنع سبق ملكه كمن قطع يد عبد إنسان ثم باعه مولاه فسرى إلى النفس عند المشتري ليس للمشتري أن يضمن القاطع شيئا لهذا المعنى وهذا الطريق يستقيم هنا وفي مسألة شراء القريب أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
"
باب تدبير ما في البطن
قال: رضي الله عنه "أمة بين رجلين دبر أحدهما ما في بطنها جاز كما لو أعتق ما في بطنها فإن ولدت لأقل من ستة أشهر بعد هذا القول فهو مدبر والشريك فيه بالخيار بين التدبير والتضمين والاستسعاء" لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن وقت التدبير فهو كالمنفصل وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر لم يعمل فيه التدبير لأنا لم نتيقن بوجوده حين دبر لعلها حبلت به بعد ذلك ومع الشك لا يثبت التدبير.
ولو قال أحدهما ما في بطنك حر بعد موتي وقال الآخر أنت حرة بعد موتي فولدت لأقل من ستة أشهر بعد النطق الأول فالولد مدبر بينهما لأنا علمنا أنه كان موجودا حين دبره الأول فتدبر نصيبه بتدبيره ونصيب الشريك بتدبيره حصته من الأم فلهذا كان الولد مدبرا بينهما وحصة الذي دبر الأم مدبر مع الأم وشريكه فيها بالخيار وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر فالولد مدبر للذي دبر الأم لأنا لم نتيقن بوجوده عند تدبير الأول فإنما يثبت فيه حكم التدبير بطريق التبعية للأم من جهة الذي دبر الأم وثبوت حكم التبعية باعتبار أنه كالجزء من وجه وفي هذا لا ينفصل بعضه عن بعض فلهذا كان الولد كله مدبرا للذي دبر الأم بخلاف الأول فإن نصيب الشريك من الولد هناك صار مقصودا ينفرد التدبير من جهته فيه ثم نصف الأم مدبر للذي دبرها والآخر بالخيار إن شاء ضمن شريكه نصف قيمة الأم إن كان موسرا والولد للمدبر بغير ضمان لأن الضمان إنما لزمه من حين دبر وعلوق الولد بعد ذلك فلا يثبت فيه حق الشريك(7/349)
ألا ترى أنها لو ازدادت في بدنها لم يكن للشريك الآخر تضمين نصف القيمة إلا وقت التدبير فكذلك إذا كانت الزيادة منفصلة لأنها صارت في حكم المستسعاة حتى ثبت له حق أن يستسعيها في نصف قيمتها بذلك التدبير والمستسعاة كالمكاتبة تكون أحق بولدها فلهذا لم يجب على المدبر شيء من ضمان قيمة الولد وإن شاء الشريك استسعاها في نصف قيمتها ولا يسعى الابن في شيء لما بينا أن المستسعاة كالمكاتبة فلا يثبت لمولاها فيما يحدث لها من الولاء بعد ذلك حق يمكنه من استسعائه الولد فإن دبر أحدهما ما في بطنها ثم أعتق الآخر نصيبه البتة ثم ولدت بعد ذلك بشهر فالمدبر بالخيار إن شاء أعتق حصته من الولد وإن شاء استسعى وإن شاء ضمن المعتق إن كان موسرا ويرجع الذي ضمن به على الولد لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن عند تصرفهما فيكون حكم هذا وحكم ما لو كان تصرفهما في الولد بعد الانفصال سواء, قال: "ذا دبر الرجل ما في بطن جاريته لم يكن له أن يبيعها ولا يهبها ولا يمهرها(7/350)
ص -169- ... وقد ذكر في كتاب الهبة إذا أعتق ما في بطن أمته ثم وهبها جازت الهبة بخلاف ما لو باعها وقيل في المسألة روايتان.
وجه هذه الرواية أن ما في البطن صار بحيث لا يحتمل التمليك فتمليكها دون ما في بطنها بالهبة لا يتحقق فلهذا لا يجوز هبتها.
ووجه تلك الرواية أن ما في البطن يصير مستثنى ويجعل كأنه استثناه نصا والهبة لا تبطل في الجارية باستثناء ما في البطن نصا بخلاف البيع والأصح هو الفرق بين التدبير والعتق فنقول بعد ما أعتق ما في بطنها لو وهب الأم جاز كما ذكر هناك وبعد ما دبر ما في البطن لو وهب الأم لا يجوز كما ذكر هنا والفرق أن بالتدبير لا يزول ملكه عما في البطن فإذا وهب الأم بعد التدبير فالموهوب متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب فيكون في معنى هبة المشاع فيما يحتمل القسمة وأما بعد العتق ما في البطن غير مملوك فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب فهو كما لو وهب دارا فيها ابن الواهب وسلمها إلى الموهوب له تتم الهبة فإن ولدته لأقل من ستة أشهر فالولد مدبر وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر كان رقيقا لأنا لم نتيقن بوجوده في البطن وقت التدبير وإن ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر بيوم والآخر لأكثر من ستة أشهر بيوم فهما مدبران لأنا تيقنا بوجود الأول منهما وقت التدبير وهما توأم خلقا من ماء واحد فمن ضرورة وجود أحدهما من ذلك الوقت وجود الآخر.(7/351)
" قال " " ولو دبر ما في بطن أمته ثم كاتبها جازت الكتابة " لأن الكتابة تعقد للعتق وثبوت حق العتق في الولد لا يمنع عقد العتق في الأم وإن وضعت بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر كان التدبير في الولد صحيحا ولكن يثبت أيضا في الولد حكم الكتابة تبعا للأم فإذا أدت عتقا جميعا وإن مات المولى قبل أن تؤدي عتق الولد بالتدبير من الثلث, وعلى الأم السعاية في المكاتبة على حالها وإن لم يمت المولى حتى ماتت الأم فعلى الولد أن يسعى فيما على أمه لأنه ولد مولود في الكتابة فإن مات المولى فالولد بالخيار لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما بالتدبير والآخر بأداء كتابة الأم فيختار أنفع الوجهين له وإن كان يخرج من ثلث مال الميت عتق ولا شيء عليه لأن مقصوده قد حصل.
قال: "ولو قال لأمته ولدك الذي في بطنك ولد مدبرة أو ولد حرة وهو لا يريد بهذا عتقا لم تعتق" لأن هذا تشبيه وليس بتحقيق فكأنه قال لها أنت مثل الحرة أو المدبرة وقد بينا هذا فيما سبق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المدبر
قال: "رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل مدبره ثم مات وهو يخرج من ثلثه عتق بالتدبير وسقطت عنه المكاتبة" لوقوع الاستغناء له عن أداء المال وهو بمنزلة ما لو أعتق المولى مكاتبه(7/352)
ص -170- ... وإن لم يكن له مال غيره فإنما يعتق ثلثه بالتدبير ثم لا يسقط عنه شيء من بدل الكتابة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى.
وقال محمد رحمه الله يسقط عنه ثلث الكتابة لأنه عتق ثلثه بالتدبير ولو عتق كله سقط عنه جميع بدل الكتابة فكذلك إذا عتق ثلثه يسقط عنه ثلث بدل الكتابة اعتبارا للجزء بالكل قياسا على ما إذا كاتبه أولا ثم دبره ثم مات ولا مال له سواه فإنه يسقط عنه ثلث بدل الكتابة لما عتق عليه ثلثه بالتدبير فكذلك إذا سبق التدبير الكتابة ولا معنى لقول من يقول إن المستحق بالتدبير لا يرد عليه عقد الكتابة لأنه لو أدى جميع بدل الكتابة في حياته يعتق كله ولو كان المستحق بالتدبير لم يرد عليه الكتابة لما عتق بالأداء ولأن استحقاق المدبر ثلثه بالتدبير كاستحقاق أم الولد جميعها بالاستيلاد ثم لو كاتب أم ولده صحت الكتابة ووجب المال فعرفنا أن هذا الاستحقاق لا يمنع ورود عقد الكتابة عليه ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى طريقان:(7/353)
أحدهما أن بدل الكتابة بمقابلة ماوراء المستحق بالتدبير لأن موجب الكتابة ثبوت ما لم يكن ثابتا في المكاتب والبدل بمقابلة ذلك لا بمقابلة ما هو ثابت وقد بينا أن التدبير يوجب استحقاق شيء له فلا يتصور استحقاق ذلك بالكتابة ليكون البدل بمقابلته بل بمقابلة ماوراء ذلك بمنزلة ما لو طلق امرأته اثنتين ثم طلقها ثلاثا بألف كان الألف كلها بإزاء التطليقة الثالثة, ألا ترى أنه لو استحق جميع نفسه بالتدبير بأن خرج من الثلث بطلت الكتابة وكذلك في أم الولد إذا مات المولى حتى تقرر استحقاقها في جميع نفسها بطلت الكتابة فأما قبل الموت الكتابة صحيحة لأن الاستحقاق غير متقرر لجواز أن يموتا قبل المولى وإذا ثبت أن بدل الكتابة بمقابلة ما وراء المستحق بالتدبير وشيء من ذلك لم يسلم للعبد بموت المولى فلا يسقط شيء عنه من بدل الكتابة وهذا بخلاف ما لو كاتبه أولا ثم دبره لأن بدل الكتابة هناك بمقابلة جميع الرقبة فإنه لم يكن مستحقا لشيء من رقبته عند الكتابة فإذا عتق بعض الرقبة بعد ذلك بالتدبير سقط حصته من بدل الكتابة.(7/354)
والطريق الآخر أن التدبير الآخر وصية بالرقبة له والوصية بالعين لا تنفذ من مال آخر بحال كما لو أوصى بعبده لإنسان ثم باعه أو قتل لا تنفذ الوصية من قيمته ولا من ثمنه فلو أسقطنا شيئا من بدل الكتابة كان فيه تنفيذ وصيته من غير ما أوصى له به وذلك لا يجوز بخلاف ما لو كاتبه أولا ثم دبره لأن عند التدبير هناك حقه أحد الشيئين أما بدل الكتابة إن أدى أو مالية الرقبة إن عجز فيكون موصيا له بما هو حقه فلهذا ينفذ من بدل الكتابة إذا عرفنا هذا فتخريج المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا دبره أولا ثم كاتبه أنه يتخير بعد موت المولى إن شاء سعى في جميع بدل الكتابة وإن شاء سعى في ثلثي قيمته بالتدبير أو بالكتابة لأن عنده العتق يتجزي وقد تلقاه جهتا حرية إما السعاية في ثلثي قيمته بالتدبير أو في بدل الكتابة بجهة العقد فيختار أي الوجهين شاء.(7/355)
ص -171- ... وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يسعى في الأقل منهما بغير خيار لأن العتق عنده لا يتجزأ فقد عتق كله والمال عليه فلا يلزمه إلا أقل المالين وعند محمد رحمه الله تعالى يسعى في الأقل من ثلثي قيمته ومن ثلثي بدل الكتابة لأن ثلث بدل الكتابة قد سقط ولا يتجدد لأن العتق عنده لا يتجزأ ولو كان كاتبه أولا ثم دبره ثم مات المولى فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتخير بين أن يسعى في ثلثي قيمته أو ثلثي بدل الكتابة لما بينا أنه تلقاه جهتا حرية وربما يكون التخيير مفيدا لمنفعة له في أحدهما دون الآخر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يسعى في أقل المالين بلا خيار لأن العتق عندهما لا يتجزأ.
قال: "وإذا كاتب مدبرته فولدت ولدا ثم ماتت يسعى الولد فيما عليها" لأنه مولود في كتابتها فيبقى عقد الكتابة ببقائه لأنه جزء منها فإن كانا ولدين فأدى أحدهما المال كله من سعايته لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه ما أدى عن صاحبه شيئا وإنما أدى عن الأم فإن بدل الكتابة عليها ولأن كسب كل واحد منهما للأم, ألا ترى أنها في حياتها كانت أحق بكسب كل واحد منهما لتستعين به في أداء الكتابة فكان أداء أحدهما من كسبه بمنزلة الأداء من مال الأم وكذلك إن كاتب مدبرين له جميعا وكل واحد منهما كفيل عن الآخر ثم مات وترك أحدهما ولدا ولد له في مكاتبته من أمته فعليه أن يسعى في جميع الكتابة لأنه قائم مقام أبيه وإنما يسعى لتحصيل العتق لأبيه ولنفسه ولا يحصل العتق لأبيه إلا بأداء جميع بدل الكتابة فلهذا كان عليه السعاية في جميع بدل الكتابة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة على التدبير(7/356)
قال: رضي الله عنه "وإذا شهد شاهد أنه دبر عبده وشهد آخر أنه أعتق فالشهادة باطلة" لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا ولا يتمكن القاضي من القضاء بشيء إذ ليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين وكذلك إن شهدا بالتدبير واختلفا في شرطه قال أحدهما أعتقه بعد موته وموت فلان وقال الآخر بعد موته خاصة لأن اختلافهما في الشرط اختلاف في المشهود به على وجه يتعذر على القاضي القضاء بشيء وكذلك لو شهد أحدهما أنه دبر أحد عبديه والآخر أنه دبر هذا بعينه وإن شهدا أنه دبر أحد عبديه بغير عينه فالشهادة باطلة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما بيناه في العتق البات فإن مات المولى قبل أن يترافعوا إلى القاضي ثم شهدا بعد موته استحب أن أجيز شهادتهما لأن العتق يتنجز فيهما بالموت ولأن في الوصية معنى حق الموصي,
وذكر بعد هذا الموضع في نظير هذه المسألة أن الشهود قالوا كان ذلك في المرض وفي حكم قبول الشهادة سواء قالوا ذلك أو لم يقولوا فالشهادة مقبولة وإنما ذكر هذا القيد لمقصود آخر وإن كانا شهدا بذلك في حياته فأبطلها القاضي لم يقبلها بعد ذلك لأنه اتصل الحكم برد هذه الشهادة وكل شهادة حكم القاضي بردها لا يقبلها بعد ذلك.(7/357)
ص -172- ... قال: "وإن شهدا أنه قال هذا حر بعد موتي لا بل هذا عتقا جميعا من ثلثه" لأن كلمة لا بل لاستدراك الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه ولا يصح رجوعه عن تدبير الأول ويصح تدبيره في الثاني فكانا شاهدين لكل واحد منهما بالتدبير بعينه وكذلك إن شهدا أنه قال هذا حر البتة لا بل هذا مدبر لأنهما شهدا للأول بعينه بالحرية وللثاني بعينه بالتدبير ولو شهدا أنه قال هذا حر أو هذا مدبر لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنهما ما شهدا للمعين بشيء فإن حرف أو بين الكلامين يخرج كلامه من أن يكون عزيمة في واحد منهما والشهادة لغير المعين بالعتق أو التدبير غير مقبولة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو شهدا أنه قال هذا مدبر أو هذا جازت الشهادة للأول وحده عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن هذا اللفظ لو سمعناه من المولى ثبت به التدبير للأول ويخير المولى في الباقين فكانا شاهدين للأول بعينه وهو مدع لذلك فيجوز شهادتهما له ولا يجوز لأحد الآخرين بغير عينه وهما كلامان ينفصل أحدهما عن الآخر فبطلان أحدهما لا يبطل العمل بالآخر ولو شهدا أنه قال أحد هذين العبدين مدبر لا بل هذا لأحدهما بعينه صار الذي عينه مدبرا لأنهما شهدا له بعينه بالتدبير ويحلف للآخر بالله ما عناه بأول كلامه فإذا حلف كان عبدا له على حاله ولو اختلف المولى والمدبرة في ولدها أنها ولدته قبل التدبير أو بعده قد بينا أن القول في ذلك قول المولى مع يمينه ويحلف على العلم لأنه استحلاف على فعلها وهو ما ادعت من ولادتها بعد التدبير وإذا شهدا أنه دبر أحد عبديه ثم شهدا أنه أعتق أحدهما في صحته ولا مال له غيرهما فشهادتهما باطلة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في العتق والتدبير جميعا في القياس لأنهما لم يعينا المشهود له.(7/358)
ولكني أستحسن أن أجيزها في التدبير لأنها وصية فيعتق من كل واحد منهما ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته وفي هذا بيان أن طريق الاستحسان لأبي حنيفة رحمه الله تعالى ما بينا أن في الوصية حق الموصي دون تنجيز العتق فيهما بالموت فإن العتق في الصحة والتدبير في ذلك سواء وإن شهدا أنه دبر هذا بعينه وأعتق أحدهما البتة في صحته كانت شهادتهما في العتق البات باطلة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنهما شهدا به لغير المدعي المعين إذ المدبر والقن في المحلية للعتق البات سواء حتى لو أقر الورثة بذلك ولا مال للميت غيرهما عتق من كل واحد منهما نصفه من جميع المال لأن الحرية في الصحة تثبت لأحدهما فيشيع العتق فيهما بموت المولى قبل البيان فيعتق من كل واحد منهما نصفه ويعتق من المدبر ثلث ما بقي منه وهو ثلث رقبته فكان السالم له خمسة أسداس رقبته ويسعى في سدس قيمته والآخر يسعى في نصف قيمته وإن أقروا أن العتق البات كان في المرض يعتبر من الثلث وإنما سلم للآخر نصف رقبته فيضرب هو في الثلث بنصف رقبته والمدبر بجميع رقبته فيصير الثلث بينهما أثلاثا والمال على تسعة إلا أن المال رقبتهما ولو جعلنا كل رقبة أربعة ونصفا لانكسر بالإنصاف فيضعف ونجعله من ثمانية عشر كل رقبة على تسعة وقد كان للمدبر سهمان.(7/359)
ص -173- ... فبالتضعيف صار أربعة فلهذا سلم له أربعة اتساعه ويسعى في خمسة اتساعه وللقن نصف ذلك سهمان ويسعى في سبعة اتساعه فيستقيم الثلث والثلثان إن كانت قيمتهما سواء
فإن قيل: لماذا لم يجعل العتق في المرض للقن كله ليكون كلامه محمولا على الصحة فإن المدبر موصى له بجميع رقبته والعتق في المرض وصية فما يصرف إليه من ذلك يكون لغوا؟
قلنا: إنما لم يجعل هكذا لأن المدبر محل للعتق في المرض والصحة جميعا وبقاء المحلية فيه يمنع تعين الآخر للعتق البات فلا بد من اعتبار الأحوال فيه فيعتق في حال دون حال فيعتق نصفه فلهذا ضرب في الثلث بنصف رقبته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المكاتب إذا دبره مولاه
قال: "رضي الله تعالى عنه رجل دبر مكاتبا له فهو بالخيار إن شاء نقض الكتابة وكان مدبرا له وإن شاء مضى على المكاتبة" لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما عاجل ببدل والآخر آجل بغير بدل فله أن يميل إلى أي الجانبين شاء وعقد الكتابة غير لازم في حق العبد لتمكنه من أن يعجز نفسه فلهذا كان له الخيار وإن مات المولى ولا مال له غيره يسعى في الأقل من ثلثي قيمته ومن ثلثي المكاتبة, وقد بينا أن قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى تخييره في ذلك ولو لم يعلم المكاتب بالتدبير حتى أدى المكاتبة كلها فقد عتق بالأداء والمال سالم للمولى ولا خيار له بعد ذلك لأن التدبير قد بطل بعتقه ولو أدى البعض ثم علم كان له الخيار لبقاء الرق فيه وإذا اختار التدبير فما أخذه المولى حلال له لأنه كسب عبده.(7/360)
قال: "ولو كاتب عبدين مكاتبة واحدة على ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثم دبر أحدهما ثم مات المولى وله مال كثير عتق المدبر من ثلثه وسقطت حصته من المكاتبة " لوقوع الاستغناء له عن أدائها كما لو أعتقه المولى في حياته وأخذ الورثة بحصة الآخر أيهما شاؤوا لأن المكاتب الثاني أصيل في حصته والمدبر كان كفيلا مطالبا فلا تسقط عنه تلك المطالبة بعتقه فإن أداها المدبر رجع بها عليه كما لو أداها قبل عتقه بل أولى لأن هناك هو منتفع بالأداء لأنه يعتق بذلك والآن لا منفعة له في الأداء بل إنما أداها بحكم الكفالة المحضة وإن لم يكن له مال غيرهما عتق المدبر بالتدبير من الثلث وسعى فيما يجب عليه فإن كانت قيمة كل واحد منهما ثلاثمائة ومكاتبتهما ألف بطل حصة المدبر من المكاتبة واعتبر قيمته ثلاثمائة لأنه أقل والمتيقن من حق المولى هو الأقل فعرفنا أن المال ثلاثمائة قيمة المدبر وخمسمائة حصة الآخر من المكاتبة وذلك ثمانمائة ثلثه وذلك مائتان وستة وستون وثلثا درهم يسلم للمدبر من قيمته ويسعى فيما بقى وهو أربعمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ثم يؤخذ المدبر بما بقي على المكاتب لأنه كفيل به ولا يؤخذ المكاتب بما على المدبر لأنه قد خرج من المكاتبة ولزمته السعاية من قبل التدبير والمكاتب لم يكن كفيلا عنه بذلك. فإن كانت(7/361)
ص -174- ... قيمة كل واحد منهما ألف درهم ومكاتبتهما على ألف درهم فاختار المدبر أن يسعى في الكتابة فله ذلك لأن ذلك ربما ينفعه عسى يكون بدل الكتابة منجما مؤجلا وإذا اختار ذلك يسقط ثلث المكاتبة
لأنه عتق ثلثا رقبته بالتدبير والوصية كانت له بما هو حق المولى فلهذا يسقط ثلث المكاتبة ويبقى للورثة ثلثا المكاتبة عليهما يأخذون بذلك أيهما شاؤوا فإن أدى المدبر رجع على الآخر بثلاثة أرباع ذلك مقدار حصته وهو خمسمائة وإن أدى المكاتب رجع على المدبر بربع ذلك وهو مقدار ما بقي من حصته وإذا كان المكاتب بين اثنين فدبره أحدهما فاختار المكاتب أن يسعى فهو على حاله وسعايته لأن التدبير لا ينافي الكتابة ابتداء وبقاء والمدبر غير مفسد على شريكه شيئا ما بقيت الكتابة فإن عجز فالذي لم يدبر بالخيار لأن عمل تدبيره في الإفساد قد ظهر بعد العجز فكان حكم هذا كحكم عبد بين اثنين دبره أحدهما وقد بيناه رجل قال لأمتين إذا ملكتكما فأنتما حرتان بعد موتي فاشترى إحداهما فولدت عنده ثم اشترى الآخرى فقد صارتا مدبرتين لأن الشرط ملكهما فإنما تم عند شراء الثانية وولد الأولى رقيق يباع لأنه انفصل عنها قبل ثبوت حكم التدبير فيها فإن المتعلق بالشرط لا يصل إلى المحل إلا بعد وجود كمال الشرط.
قال: "وإذا أسلم مدبر ذمي قضى عليه بالسعاية في قيمته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجبر على بيعه" لأن المدبر عنده محل للبيع وعندنا هو كأم الولد وقد بينا هذا الحكم في أم الولد فإن أدى السعاية عتق وإن مات المولى قبل أن يؤدي وهو يخرج من ثلثه عتق بالتدبير وسقطت عنه السعاية لحصول المقصود بدونه وكذلك إن صالحه المولى على قيمته من غير محاكمة فهذا واستسعاء القاضي سواء لأن السبب الموجب للاستسعاء قائم بعد عجزه إلا أنه إن كان في مال الصلح فضل على قيمته يبطل القاضي ذلك الفضل عنه إذا عجز ويجبره على أن يسعى في قيمته.(7/362)
قال: "وإذا دبر الحربي عبده في دار الحرب فهو باطل كما لو أعتقه في دار الحرب" لأن ثبوت حق العتق بالتدبير من أحكام الإسلام وأحكام الإسلام لا تجري عليهم في دار الحرب فإن خرجا بأمان فأسلم العبد أجبر على بيعه لأن تدبيره في دار الحرب كان لغوا وإن دبره بعد ما خرجا بأمان فتدبيره جائز لأن حكم الإسلام يجري عليهما في دارنا فيما يرجع إلى المعاملات فإن أسلم هذا المدبر قضى عليه بالسعاية في قيمته لأن ملك المستأمن محترم بالأمان وبيعه بسبب التدبير متعذر فإن لحق المولى بدار الحرب وهو يسعى ثم قتل المولى أو ظهر على الدار أو أسر عتق العبد وبطلت عنه السعاية أما إذا قتل المولى فلوجود شرط العتق بالتدبير وإن أسر فلان ملكه عنه قد بطل لأن الرقيق ليس من أهل ملك المال والمدبر ليس يحتمل النقل من ملك إلى ملك والمملوك تى زال عن ملك المولى لا إلى أحد كان حرا وإن ظهر على الدار لم يبق لملكه حرمة والسعاية كانت لحرمة ملكه فإذا لم يبق ذلك عتق وبطلت عنه السعاية.(7/363)
ص -175- ... قال: "ولو كان خرج بأم ولد له ثم أسلمت قضى عليها بالسعاية" لأن الاستيلاد في دار الحرب صحيح تبعا للنسب فإن قضى عليها بالسعاية ثم أسلم المولى فإن أدت السعاية عتقت وإن عجزت ردت أم ولد له لأن المانع من استدامة ملكه فيها قد ارتفع بإسلامه فلو أسلمت وباعها من نفسها بمال قليل أو كثير جاز وكانت حرة بالقبول والمال دين عليها وإن مات المولى قبل أن يسلم أو بعد ما أسلم فالمال دين عليها على حاله لأنها عتقت بالقبول فموت المولى وحياته بعد ذلك سواء.
قال: "وإذا دبر المرتد عبده فهو موقوف في قول أبي حنيفة رحمه الله كسائر تصرفاته" فإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب فتدبيره باطل والعبد رقيق للورثة وإن أسلم ورجع إلى دارنا ووجد العبد في يد الورثة فأخذ فهو مدبر على حاله لأنه يعود إلى قديم ملكه بالأخذ فينفذ ذلك التدبير منه بمنزلة ما لو أسلم قبل اللحاق بالدار لأن التدبير في حقه كان صحيحا لأنه بالردة لم يخرج من أن يكون مخاطبا وأصل ملكه باق بعد الردة وإنما كان التوقف لحق الورثة وقد سقط حقهم حين عاد مسلما وكذلك إن كان القاضي قضى به للورثة وباعوه فبيعهم جائز لأن التدبير كان صحيحا في حقه فإنه كان مالكا له يومئذ فمتى حصل الملك له بأي وجه حصل كان مدبرا وإن استولد في ردته فهي أم ولد له وإن أسلم أو قتل أو لحق بدار الحرب لأن ثبوت أمية الولد لها باعتبار نسب الولد ولا حجر على المرتد عن ذلك لأنه لا حق للورثة فيه ولأن ملكه في كسبه أظهر من ملك الأب في مال ولده فإذا كان يصح الاستيلاد من الأب فمن المرتد لأن يصح أولى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى التدبير منه صحيح كالاستيلاد فإذا لحق بدار الحرب أعتقه القاضي من ثلثه كما يعتق المدبر الذي دبره في حال إسلامه بناء على مذهبهما في نفوذ تصرفات المرتد وتمام بيانه في السير.(7/364)
قال: "وإذا دبر المسلم عبده ثم ارتد العبد ولحق بدار الحرب أو اشتراه أهل الحرب فأصابه المسلمون فأسلم رد إلى مولاه مدبرا على حاله" لأنه ثبت فيه حق الحرية بالتدبير فلا يبطل بردته ولحاقه كما لا تبطل حقيقة العتق والمدبر ليس بمحل للتملك بالاستيلاد فلم يملكه أهل الحرب ولا المسلمون للولاء المستحق عليه لمولاه ولهذا رد إلى مولاه مدبرا على حاله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الأمة الحامل إذا بيعت
قال: "رضي الله عنه رجل باع أمة وسلمها أو لم يسلمها حتى ولدت ولدا فادعياه جميعا فنقول إذا كان البائع سبق بالدعوة فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع ثبت النسب منه استحسانا" وفي القياس لا يثبت وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه مناقض في كلامه ساع في نقض ما قد تم به ولكنا نقول تيقنا أن العلوق كان في ملكه وبحصول العلوق في ملكه ثبت له حق استلحاق النسب فلا يبطل ذلك ببيعه لأن حق استلحاق النسب لا يحتمل الإبطال كالنسب ولأن البيع دونه في احتمال النقض والإبطال والضعيف لا يبطل القوي.وإن جاءت(7/365)
ص -176- ... به لأكثر من ستة أشهر لم يصدق البائع لأنا لم نتيقن بحصول العلوق في ملكه وإن كان المشتري سبق بالدعوة ثبت النسب منه سواء جاءت به لأقل من ستة أشهر أو لأكثر من ستة أشهر لأن دعوته حصلت في ملكه ثم لا تصح دعوة البائع بعد ذلك لاستغناء الولد عنه لثبوت نسبه من المشتري ولأن ثبوت النسب أقوى من حق الاستلحاق والضعيف لا يبقى بطريان القوي, وإذا ادعياه معا فإن كانت ولدت لأقل من ستة أشهر فهو ابن البائع عندنا.
وعند إبراهيم النخعي هو ابن المشتري لأن له حقيقة الملك وقت الدعوة فيترجح بذلك.(7/366)
ولكنا نقول دعوة البائع أسبق معنى لأنه يستند إلى حالة العلوق فإن أصل العلوق كان في ملكه فكانت الجارية أم ولد له والبيع باطل فإن جاءت به لستة أشهر فدعوة المشتري أولى لأنا لم نتيقن بحصول العلوق في ملكه وقد بينا هذه الفصول فيما أمليناه من شرح الدعوى وإن ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر والآخر لستة أشهر فالدعوة دعوة البائع لأنهما توأم وقد تيقنا بحصول الأول منهما في ملكه فيتبع الشك اليقين ويجعل كأنها ولدتهما لأقل من ستة أشهر وإن كان المشتري أعتق الأم قبل الدعوة لم ترد رقيقة لأن العتق نفذ فيها لقيام ملك المشتري فيها وقت الإعتاق فخرجت من أن تكون محلا لنقض البيع فيها ولأنا لو نقضنا البيع والعتق كانت أم ولد للبائع فيطأها بالملك بعد ما حكمنا بحريتها وذلك لا يجوز إلا أن الولد محتاج إلى النسب بعد عتقها وحق الاستلحاق الذي كان للبائع في الولد باق فلهذا يثبت النسب منه وينقض البيع فيه بحصته من الثمن لأن الولد صار مقصودا بالاسترداد فيكون له حصة من الثمن يرده البائع على لمشتري وليس من ضرورة ثبوت نسب الولد ثبوت أمية الولد في الأم كما في ولد المغرور وإن كان أعتق المشتري الولد قبل الدعوة فدعوة البائع باطل لأن الولاء قد ثبت للمشتري وهو أقوى من حق الاستلحاق الذي كان للبائع فلا يبقى الضعيف بعد طريان القوي ولا تصير الأم أم ولد للبائع لأن حقها تبع لحق الولد في النسب ولم يصدق البائع فيما هو الأصل فكذلك في التبع وكذلك إن لم يعتقه ولكنه مات ثم ادعاه البائع لأنه بالموت قد استغنى عن النسب وخرج من أن يكون محلا لثبوت نسبه ابتداء وإذا كان للولد ولد حي لم تجز دعوة البائع أيضا بخلاف ولد الملاعنة فإن هناك النسب كان ثابتا استتر باللعان فيبقى بعد موته ببقاء ولد يخلفه حتى يظهر بدعوته وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا ولا يمكن إثباته بعد موته ابتداء فلهذا لا يعتبر بقاء ولد الولد في تصحيح دعوته وقد قررنا هذا الفرق في(7/367)
الدعوى.
قال: "وإذا باع أمته فولدت بعد البيع لأكثر من ستة أشهر فادعاه البائع وصدقه المشتري ثبت النسب منه وفسخ البيع" لأن المانع من صحة دعوته حق المشتري ولأنهما تصادقا على أن العلوق كان قبل البيع والحق لا يعدوهما فإذا تصادقا على شيء ثبت ما تصادقا عليه وإن لم تلد حتى باعها المشتري وتناسخها رجال ثم ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت البيع الأول فادعوه جميعا فهو ابن البائع الأول لأن أصل العلوق كان في ملكه فتكون دعوته في المعنى(7/368)
ص -177- ... أسبق وتفسخ البيوع كلها لأن البيوع في احتمال الفسخ كبيع واحد فلا يبطل بذلك حق الاستلحاق الذي كان للبائع الأول وكذلك لو باع ولدا ولد عنده ثم ادعاه لأن أصل العلوق والولادة كان في ملكه فحق استلحاق النسب له في هذا الفصل أظهر والتناقض لا يمنعه من الدعوى لخفاء أمر العلوق فقد يشتبه عليه في الابتداء فيظن أن الولد ليس منه ثم يعلم أنه منه فيتدارك ذلك بالدعوة.
قال: "وإذا كان في يدي رجل صبي لا ينطق ولد عنده أو لم يولد عنده فزعم أنه عبده وأعتقه ثم زعم أنه ابنه لم يصدق في القياس للتناقض وصدق في الاستحسان" لخفاء أمر العلوق على ما بينا ولأنه يقر له بالنسب في حال حاجته إلى النسب وهو في يده بعد العتق ولو كان لقيطا في يده فادعى نسبه ثبت نسبه منه فهنا أولى ولو كان عبدا كبيرا فأعتقه ثم ادعاه ومثله يولد لمثله ثم صدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كذبه لم يثبت لأنه في يد نفسه وهو معبر عن نفسه فتتوقف صحة دعوة نسبه على تصديقه بخلاف ما قبل العتق فإنه في يد مولاه باعتبار ملكه ولا قول له في نفسه فكان صدقا في دعوة نسبه من غير تصديقه.(7/369)
قال: "وإنما استحسن في الصغير كما استحسن في المدبرة بين اثنين جاءت بولد فادعاه أحدهما أن نسبه يثبت منه وهو ضامن لنصف قيمته مدبرا ونصف عقر أمه" فكأنه أشار إلى أن بالعتق يثبت الولاء له والولاء لا يحتمل النقض فيبطل حق استلحاق النسب في القياس كما في ولد المدبرة بينهما لما ثبت نصف الولاء لشريكه لم يصدق في الدعوة في القياس ولكنه استحسن فقال لا منافاة بين ثبوت النسب منه وبين الولاء للشريك. وفي إثبات النسب منفعة للصغير فلهذا ثبت النسب منه في الفصلين جميعا ثم قال هنا وولاء الولد بينه وبين شريكه وبنحوه أجاب في كتاب الدعوى وقال في كتاب الولاء نصف ولاء الولد للشريك والنصف الآخر بمنزلة الأب ومعنى هذا أيضا أن الولاء في النصف الآخر للأب ولكن لا يظهر في حقه بعد ثبوت النسب إلا عند جناية الولد وقد بينا هذا فيما سبق وأما الأم فنصيب الأب منها أم ولد ونصيب الشريك منها مدبر لأنه غير محتمل للانتقال إليه بعد التدبير وإنما يصير الكل أم ولد له إذا لم يملك نصيب شريكه بالضمان فأما إذا تعذر تملكه عليه اقتصر الاستيلاد على نصيبه ولو كان عبدا كبيرا بينهما ثم دبراه ثم ادعاه أحدهما ثبت النسب منه لأن بالتدبير لم يزل ملكهما ولم يظهر للعبد يد في نفسه ولا حاجة إلى تصديقه ولكن يثبت النسب من أحدهما بالدعوة استحسانا كما قبل التدبير والولاء بينهما كأنهما بالتدبير استحقا ولاءه ولا منافاة بين الولاء والنسب.
قال: "وإذا ولدت ولدين في بطن واحد فباع المولى أحدهما مع الأم فادعاه المشتري ثبت نسبهما منه" لأنهما توأم والذي في يد البائع عبد له لأن دعوة المشتري دعوة التحرير فإن أصل العلوق لم يكن في ملكه فهو بمنزلة الإعتاق والتوأم ينفصل أحدهما عن الآخر في الإعتاق فإن لم يدع المشتري ولكنه أعتقه مع الأم ثم ادعى البائع الذي عنده ثبت نسبهما جميعا منه لما(7/370)
ص -178- ... قلنا وثبت حرية الأصل للولد الذي عند البائع لأن أصل العلوق كان في ملكه والتوأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حرية الأصل فمن ضرورة ثبوته لأحدهما ثبوته للآخر ومن ضرورة الحكم بحرية الأصل للولد الذي عند المشتري الحكم ببطلان عتقه لأن حر الأصل لا يعتق ولكن ليس من ضرورة ذلك بطلان عتق الأم إذ الاستيلاد ليس من ضرورة نسب الولد فلهذا رد البائع حصة الابن على المشتري من الثمن ولا يرد حصة الأم, ولأنا لو نقضنا عتقه في الولد إنما ننقضه لإثبات ما هو أقوى منه وهو حرية
الأصل ولو نقضنا عتقه في الأم ننقضه لما هو أضعف وهو حق أمية الولد ويؤدي إلى أن توطأ بملك اليمين بعد الحكم بحريتها وذلك لا يجوز.
قال: وإذا باع أمة حاملا فخاف المشتري أن يدعي البائع ولدها فأراد أن يتحرز منه فإنه يشهد عليه أن هذا الحبل من عبد كان له قد زوجها منه فإذا أقر البائع بهذا لم يستطع أن يدعيه أبدا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يستطيع أن يدعيه إن أنكر العبد الولد لأن إقراره بنسب الولد للعبد يبطل بتكذيب العبد وإذا بطل الإقرار صار كالمعدوم من الأصل وشبها هذا بالولاء فإن الولاء بمنزلة النسب ثم لو ادعى المشتري للعبد أن البائع أعتقه فكذبه البائع كان له أن يدعي ولاءه لنفسه بعد ذلك لبطلان إقراره بتكذيب البائع.(7/371)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إقراره تضمن حكمين انتفاء النسب عنه وثبوته من العبد فبانكار العبد يبطل إقراره بالحكم الذي يتصل به وهو ثبوت نسبه منه ولا يبطل في الحكم الآخر وهو انتفاؤه من المقر لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر, ألا ترى أن ولد الملاعنة يقطع نسبه عن الملاعن ولا يكون لأحد فيه حق دعوة النسب لأن في إثبات النسب منه بالفراش حكم بنفيه عن غيره فبعد ذلك وإن أبطلنا باللعان حكم إثبات النسب من الملاعن يبقى معتبرا في الحكم الآخر وليس النسب كالولاء لأنه أثر من آثار الملك فيتصور فيه الانتقال من شخص إلى شخص بخلاف النسب وتمام بيان هذا الفرق في البيوع".
قال: "أمة بين رجلين باعها أحدهما من صاحبه فولدت لأقل من ستة أشهر فادعياه معا فهو ولدهما ويبطل البيع" لأن العلوق أصله كان في ملكهما فاستويا في استلحاق النسب وإذا جاز إبطال البيع في جميعها بدعوة الولد ففي نصفها أولى وإن ادعاه البائع وأعتقه المشتري معا كانت الدعوة أحق لأنه يستند إلى حالة العلوق فقيام ملكه في نصفها وقت العلوق كقيام ملكه في جميعها في ثبوت حرية الأصل وإذا كانت الدعوة أسبق وثبت بها حرية الأصل للولد كان إعتاق المشتري فيه باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المكاتب
قال: رضي الله عنه اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في وقت عتق المكاتب, فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول كما أخذ الصحيفة من مولاه يعتق يعني بنفس العقد لأن الصحيفة عند ذلك تكتب وكأنه جعل الكتابة واردا على الرقبة كالعتق بجعل يعتق بالقبول وهو(7/372)
ص -179- ... غريم للمولى فيما عليه من بدل الكتابة. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول إذا أدى قيمة نفسه عتق وهو غريم للمولى في الفضل فكأنه اعتبر وصول قدر مالية الرقبة إلى المولى ليندفع به الضرر عنه
وكان علي رضي الله عنه يقول يعتق بقدر ما أدى فكأنه يعتبر البعض بالكل وهو بناء على قوله يعتق الرجل من عبده ما شاء.
وكان زيد ابن ثابت رضي الله عنه يقول هو عبد ما بقي عليه درهم وبه أخذ جمهور الفقهاء وقالوا لا يعتق ما لم يؤد جميع البدل, والدليل عليه الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواقي فهو رقيق والأوقية أربعون درهما" وفي هذا دليل على أنه لم يعتق شيء منه إلا بأداء جميع البدل وهذا لأن موجب العقد مالكية اليد في حق المكاسب والمنافع للمكاتب فإنه كان مملوكا يدا ورقبة فهو بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد لأن مالكية اليد من كرامات بني آدم وهو مع الرق أهل لبعض كرامات. ألا ترى أنه أهل لمالكية النكاح ومالكية اليد تنفصل عن مالكية الرقبة, ألا ترى أن الراهن يثبت للمرتهن ملك اليد وأن الغاصب يضمن بتفويت اليد فكذلك بالكتابة يثبت له مالكية اليد فأما العتق متعلق بشرط الأداء والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزءا فجزءا لأن ثبوت الحكم عند وجود الشرط نظير ثبوت الحكم بالعلة فلهذا لا يعتق شيء منه ما لم يؤد جميع البدل.
وفي هذا الحديث دليل أيضا على أنه لا يستحق على المولى حط شيء من بدل الكتابة عنه وإن كان يستحب له ذلك على ما رواه عن علي رضي الله عنه في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: من الآية33] قال ربع المكاتبة.(7/373)
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه حط عن مكاتب له أول نجم حل عليه وقرأ هذه الآية ولكن الأمر قد يكون بمعنى الندب فبالحديث المرفوع تبين أن المراد الندب دون الحتم وهو مذهبنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يستحق عليه حط ربع البدل وهو قول عثمان رضي الله عنه لظاهر الآية فإن مطلق الأمر للوجوب لأن هذا عقد إرفاق يجري بين المولى وعبده ولا يقصد المولى به التجارة وإنما يقصد إيصاله به إلى العتق فيكون إرفاقا ويستحق بكل عقد ما كان العقد مشروعا لأجله فإذا كان هذا العقد مشروعا للإرفاق ينبغي أن يستحق ما هو محض الإرفاق وهو حط بعض البدل.
"وحجتنا" فيه أن العقد يوجب البدل فلا يجوز أن يكون موجبا لإسقاط البدل إذ الشيء لا يتضمن ضده والقياس لنا فإنه عقد معاوضة فلا يستحق به حط شيء من البدل كسائر المعاوضات إذ يعتبر أحد العوضين بالآخر, فالمراد بالآية الندب دون الحتم فإنه معطوف على الأمر المذكور في قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: من الآية33]
فذلك ندب وليس بحتم إذ لا يجب عليه أن يكاتب عبده وإن علم أن فيه خيرا فكذلك قوله:
{وَآتُوهُمْ} [النور: من الآية33] لأن(7/374)
ص -180- ... حكم المعطوف حكم المعطوف عليه, وذكر الكلبي أن المراد به دفع الصدقة إلى المكاتبين فيكون هذا خطابا للناس بصرف الصدقة إلى المكاتبين ليستعينوا بذلك على أداء المكاتبة كما قال في بيان مصارف الصدقات {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: من الآية177] والمراد المكاتبون والدليل عليه أنه قال: {مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: من الآية33] والمال المضاف إلى الله تعالى مطلقا هو الصدقة, ثم ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن مكاتبا له عجز فكسر مكاتبته فرده في الرق, ففي هذا دليل على أن الكتابة تحتمل الفسخ وفيه دليل على أن المكاتب إذا كسر نجما فللمولى أن يفسخ الكتابة ويرده في الرق وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأنه قد تغير عليه شرط عقده وذلك يثبت للعاقد حق الفسخ في العقود المحتملة للفسخ, وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرد في الرق ما لم يكسر نجمين وهو قول علي رضي الله عنه قال إذا اجتمع على المكاتب نجمان فدخلا رد في الرق وكان هذا استحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن العقد مبني على الإرفاق وفي رده في الرق عند كسره نجما واحدا تضييق عليه فلمعنى التوسع والإرفاق شرط أن يتوالى عليه نجمان, وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله قال هذا إذا كانت النجوم مستوية فإن كانت متفاوتة فكسر نجما واحدا يرد في الرق لأنه لما عجز عن أداء الأقل فالظاهر أنه عن أداء عن الأكثر أعجز.
وفي حديث علي و ابن عمر رضي الله عنهم دليل على أن للمولى أن يفسخ الكتابة عند عجز المكاتب من غير أن يحتاج فيه إلى المرافعة إلى القاضي فيكون حجة على ابن أبي ليلى لأنه يقول لا يرد في الرق إلا بقضاء القاضي فإن العجز لا يتحقق بدون القضاء فإن المال غاد ورائح وجعل هذا العجز نظير عجز العنين عن الوصول إلى امرأته ثم الفرقة هناك لا تكون إلا بقضاء القاضي.(7/375)
ولكنا نقول العقد تم بتراضيهما والمولى ما رضي بلزوم هذا العقد إلا بشرط فإذا فات عليه ذلك الشرط يتمكن من فسخه لانعدام رضاه به بخلاف النكاح فإنه لا يعتمد تمام الرضا وبخلاف الرد بالعيب قبل القبض لأن المشتري ينفرد بالرد بالعيب قبل القبض لفوات شرطه وهو أصل لنا, فأما بعد القبض فقد قامت الدلالة لنا على تمام الصفقة بالقبض وبعد تمام الصفقة لا ينفرد بالفسخ لحاجته إلى نقض القبض التام ونقل الضمان إلى البائع, ثم اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في المكاتب إذا مات وترك وفاء بمكاتبته قال علي و ابن مسعود رضي الله عنهما يؤدي كتابته ويحكم بحريته حتى يكون ما بقي ميراثا لورثته وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى.
وقال زيد ابن ثابت رضي الله عنه تنفسخ الكتابة بموته والمال كله للمولى وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى واحتج فيه وقال المعقود عليه فات بموته قبل سلامته وذلك موجب انفساخ العقد كهلاك البيع قبل القبض وهذا لأن المعقود عليه هو الرقبة فإن العقد يضاف إليه والدليل عليه أن عند فساد العقد يرجع إلى قيمة الرقبة والرجوع عند فساد العقد(7/376)
ص -181- ... إلى قيمة المعقود عليه ولأنه لو بقي لبقي ليعتق بوصول بدل الكتابة إلى المولى والميت ليس بمحل للعتق ابتداء لما في العتق من أحداث قوة المالكية وذلك لا يتصور في الميت ولا يجوز أن يستند العتق إلى حال حياته لأن المتعلق بالشرط لا يسبق الشرط وفي إسناده إلى حال حياته إثبات العتق قبل وجود الشرط وهو الأداء وهذا بخلاف ما إذا مات المولى لأن المولى ليس بمعقود عليه بل هو عاقد والعقد يبطل بهلاك المعقود عليه لا بموت العاقد ولأنه لو بقي العقد بعد موت المولى يعتق بالأداء إلى الورثة وصار المولى معتقا له ويجوز أن يكون الميت معتقا ولا يجوز أن يكون معتقا, ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر بعد موتي كان صحيحا ولو قال بعد موتك كان لغوا وكذلك لو أوصى بأن يعتق عبده بعد موته كان صحيحا فإذا أعتق كان المولى هو المعتق حتى يكون الولاء له والفقه في الكل أنه يبقى ملكه بعد موته حكما لحاجته كما في القدر المشغول بالدين فإذا بقي ملكه صار معتقا ولكن لا يجوز أن يبقى مملوكا بعد موته حكما لأن إبقاء المالكية لمعنى الكرامة وليس في إبقاء المملوكية بعد الموت معنى الكرامة له وإذا لم تبق المملوكية لا يتصور أن يكون معتقا بعد موته. "وحجتنا" فيه أنه عقد معاوضة لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا ينفسخ بموت الآخر كعقد البيع وهذا لأن قضية مطلق المعاوضة التسوية بين المتعاقدين والخصم لا ينازع في هذا ولكنه يدعي أن في موت المكاتب فوات المعقود عليه وليس كذلك فإن المعقود عليه ما يسلم للعاقد بمطلق العقد والرقبة لا تسلم له بمطلق العقد إنما السالم له مالكية اليد وهو المعقود عليه وقد سلم بنفس العقد وإضافة العقد إلى الرقبة لا يدل على أن المعقود عليه هو الرقبة كما تضاف الإجارة إلى الدار والمعقود عليه المنفعة والرجوع عند الفساد بقيمة الرقبة ليس لأن المعقود عليه هو الرقبة ولكن لأن ما هو المعقود عليه لا يتقوم بنفسه وهو مالكية اليد(7/377)
فيصار إلى قيمة أقرب الأشياء إليه كما في الخلع يصار إلى رد المقبوض عند فساد التسمية لأن ما هو المعقود عليه غير متقوم.
ثم إذا جاز أن يجعل المولى بعد الموت كالحي حكما حتى يصير معتقا فكذلك يجوز أن يبقى المكاتب حيا حكما يؤدي كتابته فيصير حرا وهذا لأن المملوكية أليق بحال الميت من المالكية لأن المملوكية عبارة عن الضعف والمالكية ضرب قوة والضعف بحال الميت أليق من القوة.
والدليل على جواز إبقاء المملوكية بعد موته لحاجته إن كفن العبد بعد موته على مولاه ولا سبب لاستحقاقه عليه سوى المملوكية والأصح أن نقول نحن إنما تبقى المالكية بعد موت المكاتب لما بينا أن بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد في مكاسبه وبه يتمكن من أداء الكتابة فتبقى تلك المالكية بعد موته لأن حاجته إلى تحصيل الحرية لنفسه فوق حاجة مولاه إلى الولاء فإذا جاز بقاء المالكية بعد موت المولى لحاجته إلى الولاء يبقى بعد موت العبد صفة المملوكية لحاجته إلى الحرية ثم بقاء صفة المملوكية يكون تبعا لا مقصودا ومن أصحابنا(7/378)
ص -182- ... من يقول لا نجعله حرا بعد الموت ولكنا نسند حريته إلى حال حياته لأن بدل الكتابة كان في ذمته والدين بالموت يتحول من الذمة إلى التركة لأن الذمة لا تبقى محلا صالحا للدين بعد الموت ولهذا حل الأجل بالموت فإذا تحول بدل الكتابة إلى التركة فرغت الذمة منه وفراغ ذمة المكاتب موجب حريته إلا أنه لا يجوز الحكم بحريته ما لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل المال إليه حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته.
فإن قيل: لو قذفه قاذف بعد أداء بدل الكتابة فإنه لا يحد قاذفه عندكم ولو حكم بحريته في حال حياته لحد قاذفه.
قلنا: هذا شيء نثبته حكما للاستحقاق الثابت بالكتابة ولتحقق الضرورة فيه والثابت بالضرورة لا يعدو موضعها فلا يظهر به حريته مطلقا في حالة الحياة ولا يصير محصنا باعتبار حرية ثبتت بطريق الضرورة
والحد لا يجب بقذف غير المحصن مع أن الحدود تندرىءبالشبهات والحرية تثبت مع الشبهة وكذلك الميراث فإنه يثبت مع الشبهات ومن ضرورة الحكم بموته حرا أن يكون ما بقى من كسبه ميراثا لورثته.
قال: "وإذا اشترط الرجل على مكاتبه أن لا يخرج من الكوفة إلا بإذنه كان هذا الشرط باطلا" لأنه خلاف موجب العقد فإن مالكية اليد تثبت له حق الاستبداد بالخروج إلى حيث شاء والمقصود بالعقد تمكنه من ابتغاء المال وذلك بالضرب في الأرض قال الله تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}[المزمل: من الآية20] فكل شرط يمنعه من ذلك فهو خلاف موجب العقد والمقصود به فكان باطلا.(7/379)
وعند سفيان الثوري رضي الله عنه يصح هذا الشرط لأنه مفيد كالمودع إذا قال للمودع أحفظها في بيتك دون بيت غيرك صح كذا هذا وإن لم يصح هذا الشرط عندنا لا يبطل العقد بهذا الشرط لأن هذا الشرط وراء ما يتم به العقد والشرط الفاسد في الكتابة لا يفسد العقد إذا لم يكن متمكنا في صلبه وإنما يفسد إذا تمكن في صلبه لمعنى وهو أن الكتابة تشبه البيع من وجه وهو أنها تحتمل الفسخ في الابتداء وتشبه النكاح من وجه وهو أنها لا تحتمل الفسخ بعد تمام المقصود بالأداء فيوفر حظها عليهما فلشبهها بالبيع تبطل بالشرط الفاسد إذا تمكن في صلبها ولشبهها بالنكاح لا تبطل بالشرط الفاسد إذا لم يتمكن في صلبها ولأن هذا العقد مع احتماله الفسخ مبني على التوسع فلتحقق معنى التوسع قلنا الشرط إذا لم يتمكن في صلبه يكون لغوا بخلاف البيع فإنه مبني على الضيق ولمعنى التوسع قلنا يثبت الحيوان دينا في الذمة في هذا العقد وكل ما يصلح مسمى في النكاح يصلح مسمى في الكتابة وقد قررنا هذا في النكاح.
قال: "وإن أخذ كفيلا بالمكاتبة عن المكاتب لم يجز عندنا وقال ابن أبي ليلى يجوز" لأنه دين مطلوب في نفسه وهو كالدين الثابت في ذمة حر من صداق أو غيره.
ولكنا نقول المكاتب عبد له وليس للعبد ذمة قوية في وجوب الدين عليها للمولى,(7/380)
ص -183- ... ولأنه يملك أن يعجز نفسه فتبرأ ذمته بذلك ولا يمكن إثباته بهذه الصفة في ذمة الكفيل ولا يجوز أن يثبت في ذمة الكفيل أقوى مما هو ثابت في ذمة الأصيل.
قال: "وإن كاتب عبدين له وجعل نجومهما واحدة وكل واحد منهما كفيلا عن صاحبه فهذا في القياس لا يجوز" لأنه كفالة ببدل الكتابة من كل واحد منهما ولأنه كفالة من المكاتب والمكاتب ليس بأهل للكفالة ولكنا نجوز هذا العقد استحسانا لكونه متعارفا فيما بين الناس محتاجا إليه في تحصيل هذا الإرفاق وقد يكون اعتماد المولى على أحدهما دون الآخر ولأنه بهذا العقد يجعلهما كشخص واحد ولهذا إذا قبل أحدهما دون الآخر لم يجز فكأنه شرط جميع المال على كل واحد وعلق به عتق صاحبه ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى لا يعتق واحد منهما إلا بأداء جميع المال.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى إذا أدى أحدهما حصته من المال يعتق لأن العقد لما صح ثبت موجبه وهو انقسام البدل عليهما باعتبار قيمتهما فإذا أدى أحدهما حصته من المال فقد برئت ذمته عما عليه وإنما يبقى مطلوبا بما على صاحبه بطريق الكفالة وهذا لا يمنع ثبوت الحرية فيه,.
ولكنا نقول شرط المولى ومقصوده معتبر وقد شرط أن لا يعتق واحد منهما ما لم يصل إليه جميع المال فلمراعاة شرطه قلنا له أن يطالب أيهما شاء بجميع المال ولا يعتق واحد منهما ما لم يصل إليه جميع المال.
ثم ذكر في الكتاب الذي يكتبه المولى لهما وليس لهما أن يتزوجا إلا بإذن فلان مولاهما وإنما يكتب هذا للتوثق فإن من العلماء من يقول للمكاتب أن يتزوج بغير إذن مولاه لتحقيق ثبوت مالكية اليد له.
وعندنا لا يملك لأنه عبد ما بقي عليه شيء من البدل فللتحرز عن قول هذا القائل يشترط ذلك في الكتاب.
قال: "وإذا كاتب عبده على ألف درهم وعلى وصيف فهو جائز" لأن جهالة الصفة بعد إعلام الجنس لا يمنع صحة التسمية في عقد الكتابة كما لا يمنع ذلك في النكاح.(7/381)
قال: "وإن كاتبه على ألف درهم واشترط خدمته مدة معلومة فهو جائز" لأن المسمى من الخدمة يصير معلوما ببيان المدة حتى يصح استحقاقه بعقد الإجارة فكذلك يصح تسميته في الكتابة وهذا لأن المكاتب يكون أحق بكسبه ومنافعه فكما يجوز أن يشترط عليه مالا معلوما يوفيه من كسبه فكذلك يجوز أن يشترط عليه خدمة معلومة يوفيها من منافعه وإن اشترط عليه خدمة مجهولة بغير ذكر الوقت أو شرط على المكاتبة أن تخدمه أبدا أو يجامعها أبدا فالكتابة فاسدة لأن ما شرط مع الألف مجهول جهالة متفاحشة والمجهول إذا ضم إلى المعلوم يصير الكل مجهولا وهذا المفسد يتمكن فيما هو من صلب العقد وهو البدل فيفسد به العقد ولأنه في معنى استثناء موجب العقد لأن موجب العقد إثبات مالكية اليد له حتى يصير(7/382)
ص -184- ... أحق بمنافعه ومكاسبه واشترط الخدمة عليه أبدا يمنع من ذلك وكذلك اشتراط الوطء عليها بنفسه واستثناء موجب العقد يكون مفسدا للعقد يقول فإن أدى الألف عتق.
"قال بشر المريسي هذا غلط لأن العتق لا ينزل إلا بعد أداء جميع المشروط عليه وقد شرط المولى عليه مع الألف شيئا آخر فكيف يعتق بأداء الألف" ولكنا نقول ما ذكر في الكتاب صحيح واشتراط الخدمة والوطء عليها ليس بطريق البدل لما أوجبه له بل باعتبار إبقاء ملك نفسه في الخدمة والوطء كما كان من قبل فلا يكون استثناء لموجب العقد فأما البدل المشروط عليه هو الألف فإذا أداه يعتق ويستوي في ظاهر الرواية إن كان قال له إذا أديتها إلي فأنت حر أو لم يقل, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يعتق إلا أن يكون قال له إن أديتها إلي فأنت حر لأن العتق عند فساد العقد باعتبار الشرط فما لم ينص على الشرط لا يعتق.(7/383)
ووجه ظاهر الرواية أن العقد منعقد مع الفساد لأن تأثير الفساد في تغيير وصف العقد فلا يعدم أصله وإذا بقي العقد كان العتق عند الأداء بحكم العقد فلا يعتبر فيه التصريح بالتعليق بالشرط كما في البيع الفاسد يثبت الملك عند القبض بحكم العقد ثم كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا عليه أن يؤدي الفضل على الألف إلى مكاتبة مثله لأنه شرط مع الألف لنفسه منفعة فإذا لم ينل ذلك كان عليه مكاتبة مثله كما لو تزوج على ألف وكرامتها ودخل بها كان لها تمام مهر مثلها ثم رجع فقال عليه فضل قيمة نفسه وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لما بينا أن الرقبة هنا أقرب الأشياء إلى المعقود عليه في الاعتبار عند فساد العقد فيلزمه تمام قيمة نفسه كما في البيع إذا تعذر على المشتري الرد بسبب الفساد يلزمه قيمة المبيع ولهذا "قال زفر رحمه الله تعالى إذا كانت قيمته دون الألف له أن يسترد من المولى ما زاد على قيمته من الألف كما في البيع" ولكنا نقول ليس له أن يسترد شيئا من الألف لأن المولى ما رضي بعتقه بحكم العقد إلا بعد سلامة جميع الألف له واعتبار القيمة لدفع الضرر عن المولى فإذا كان يؤول إلى الإضرار به سقط اعتباره.
قال: "وشراء المكاتب من مولاه وبيعه جائز وما استهلك كل واحد منهما لصاحبه فهو دين عليه" لأنه صار بمنزلة الحر يدا فيما يرجع إلى المكاسب فاختص بملك التصرف في مكاسبه فكان حال المولى في كسبه كحال أجنبي آخر.
ثم قد بينا أن الولد المولود في الكتابة يسعى على النجوم بعد الموت عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بخلاف المشتري وعندهما كل من تكاتب عليه يقوم مقامه بعد الموت في السعاية على النجوم ثم كل من دخل في كتابته إذا أعتقه مولاه ينفذ عتقه فيه عندنا كما في رقبة المكاتب لأن من تكاتب عليه كان تبعا له في العقد ولهذا لا يكون عليه شيء من البدل والأصل مملوك له فكذا ما يتبعه.(7/384)
"وزفر يقول لا ينفذ عتقه فيهم لأن المكاتب أحق بكسبهم ليستعين به على أداء المكاتبة(7/385)
ص -185- ... وفي تنفيذ عتق المولى فيهم إبطال حقه عن كسبهم وليس للمولى على المكاتب هذه الولاية" ولكنا نقول ينفذ عتقه لمصادفته ملكه ثم يبطل حق المكاتب من كسبه حكما لثبوت حريته لا أن يكون بتصرف المولى وقصده.
قال: "وإذا اشترى المكاتب امرأته فهما على النكاح" لأن حقيقة الملك في رقبتها لا يثبت للمكاتب لقيام الرق المنافي فيه إنما يثبت له حكم اليد وبملك اليد لا يبطل النكاح وله أن يبيعها ما لم تلد منه لأن النكاح ليس بسبب لاستحقاق الصلة فلا يمتنع عليه البيع بسببه فإن ولدت منه فقد امتنع بيعها تبعا لثبوت حق الولد وكذلك المكاتبة تشتري زوجها فله أن يطأها بالنكاح لأنها لم تملك رقبته حقيقة.
قال: "ولا تجوز شهادته ولا هبته ولا صدقته له ولا عتقه" لبقاء الرق فيه وهو مناف لولاية الشهادة والتمليك حقيقة وباعتباره يصح التبرعات وكذلك لو باع عبدا له من نفسه أو أعتقه على مال فهو والعتق بغير جعل سواء في أنه لا ينفذ إلا من المالك حقيقة وليس للمكاتب ملك على الحقيقة.(7/386)
قال: "وإن كاتب عبدا له ففي القياس لا يجوز أيضا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله" لأن مآل هذا العقد عتق والمكاتب ليس من أهله ولأنه منفك الحجر عنه في التجارات ليكتسب المال بها فيؤدي الكتابة والكتابة ليست من عقود التجارة ولأنه يثبت بهذا العقد استحقاق الولاء عند تمامه بالأداء والمكاتب ليس من أهله ولكنا نقول الكتابة من عقود اكتساب المال وقد ثبت له مالكية اليد فيما يرجع إلى اكتساب المال, ألا ترى أنه يزوج أمته وإن لم يكن ذلك تجارة فكذلك يكاتب وربما تكون الكتابة أنفع له من البيع لأن البيع يزيل ملكه بنفسه والكتابة لا تزيل ملكه عن المملوك إلا بعد وصول المال إليه فكان هذا أنفع له ولأنه يسوي غيره بنفسه في حق نفسه فإنه يوجب لمملوكه مثل ما هو ثابت له وذلك صحيح منه كما يصح من الحر إعتاق مملوكه بخلاف العتق بمال فإن هناك يوجب لغيره فوق ماله وهو حقيقة العتق بنفس القبول فلهذا لا يصح منه.
قال: "ولا يجوز كفالة المكاتب" لأنه تبرع وليس من عقود اكتساب المال في شيء وليس له أن يشارك مفاوضة لأن المفاوضة تتضمن الكفالة العامة ولا يجوز نكاحه ولا وصيته لأن الوصية تبرع بعد الموت فيعتبر تبرعه في حياته والاستبداد بالنكاح في حق نفسه يعتمد الولاية والرق ينفي الولاية ولأن التزوج ليس من عقود اكتساب المال في حقه.
قال: "وإذا سرق المكاتب أو سرق منه يجب القطع" لأنه مخاطب تتم منه جناية السرقة وحقه في كسبه كملك الحر في ماله فيقطع السارق منه وكذلك هو في حق الشفعة فيما يستحقه أو يستحق عليه كالحر.
قال: "وليس له أن يبيع ما اشتراه من مولاه مرابحة إلا أن يبين وكذلك مولاه فيما اشترى منه" لأن كل واحد منهما يسامح صاحبه في المعاملة لعلمه أن ذلك لا يبعد منه ولأن للمولى(7/387)
ص -186- ... حق الملك في كسب المكاتب فما يغرمه للمكاتب بالشراء لا يتم خروجه ولا يبيعه مرابحة إلا على أقل الشيئين لأن ذلك القدر يتيقن بخروجه عن ملكه وبعد البيان تنتفي التهمة والغرور ولو اشترى من مكاتبه درهما بدرهمين لم يجز لأن هذا صريح الربا والمكاتب في كسبه بمنزلة الحر يدا كما قررنا, فصريح الربا يجري بينه وبين المولى باعتبار هذا المعنى احتياطا.
قال: "وإذا أخذ بالمكاتبة رهنا فيه وفاء بها فهلك الرهن عتق العبد" لأن عقد الرهن يثبت يد الاستيفاء على أن يتم ذلك الاستيفاء بهلاك الرهن ودين الكتابة في حكم الاستيفاء كسائر الديون وإذا صار مستوفى بهلاك الرهن عتق المكاتب كما لو استوفاه حقيقة.
قال: "ولو كاتبه على وصيف فأتاه المكاتب بأربعين دينارا ثمن الوصيف أجبر المولى على قبولها" لما بينا في كتاب النكاح أن الحيوان في العقود المبنية على التوسع يثبت دينا في الذمة على أن يكون الحق مترددا بينه وبين قيمة الوصيف وأن قيمة الوصيف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أربعون دينارا.(7/388)
قال: "وإذا كاتب على خمر أو خنزير أو ما أشبه ذلك مما لا يحل فالكتابة فاسدة" لأن المسمى ليس بمال متقوم في حق المسلمين فلا يصير مستحقا للمولى بالتسمية فإن أداه قبل أن يترافعا إلى القاضي وقد قال له أنت حر إذا أديته أو لم يقل فإنه يعتق, وقد بينا هذا فيما سبق أن مع فساد العقد العقد منعقد فيعتق بالأداء وعليه قيمة نفسه لأن العقد فاسد فيلزمه رد رقبته لأجل الفساد وقد تعذر رده بنفوذ العتق فيه فيلزمه قيمته كالمشتري شراء فاسدا إذا أعتق المبيع بعد القبض وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر رحمه الله تعالى لا يعتق إلا بأداء قيمة نفسه لأن البدل في الكتابة الفاسدة هو القيمة وإنما يعتق بأداء البدل وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أيهما أدى المشروط أو قيمة نفسه فإنه يعتق لأن البدل صورة هو المشروط والعتق معلق بأدائه ومن حيث المعنى البدل القيمة فأيهما أدى يعتق وبدل الكتابة في جواز الاستبدال به بمنزلة المهر والثمن.
قال: "وإن جاء المكاتب بالمال قبل محل الأجل فأبى المولى أن يقبله أجبر على أخذه" لأن الأجل حق المكاتب فإذا أسقطه يسقط وإن صالحه المولى على أن يعجل بعض المكاتبة قبل محلها ليحط ما بقي فهذا جائز بينهما وإن كان لا يجوز مثله بين الحرين لأن الصحابة رضوان الله عليهم مختلفون في جواز هذا التصرف بين الحرين على ما نبينه في كتاب الصلح فعرفنا أنه ليس بصريح الربا فلا يجري بين المكاتب ومولاه لأنه عبده بخلاف بيع الدرهم بالدرهمين على ما بينا وإذا كاتبه على ألف درهم وعلى عبد مثله يعمل عمله وهو خياط أو شبه ذلك فهو جائز لأن المسمى معلوم الجنس وإن كان مجهول الوصف ألا ترى أنه لو كاتبه على عبد خياط أجزت ذلك استحسانا.
ومراده القياس والاستحسان عند ترك بيان الوصف في بدل الكتابة بعد إعلام الجنس(7/389)
ص -187- ... فإن في القياس الكتابة كالبيع حتى لا تصح إلا بتسمية البدل وفي الاستحسان هي كالنكاح من حيث أنه مبني على التوسع بالبدل فإن المقصود به الإرفاق دون المال.
وعلى هذا يثبت فيه الآجال المجهولة المستدركة كالحصاد والدياس والعطاء كما يثبت في الصداق ويحل عليه المال في ذلك الوقت حتى إذا تأخر العطاء حل عليه إذا دخل أجل العطاء في مثل الوقت الذي كان يخرج فيه لأن المقصود بيان الوصف لا حقيقة فعل العطاء وإن كاتب عبده على قيمته فهو فاسد لأن المسمى مجهول الجنس والوصف ولأن هذا تفسير الكتابة الفاسدة ولو كاتبه على عبد فلان هذا أو دابة فلان هذه لا يجوز لأن القدرة على تسليم المسمى معتبر لصحة الكتابة فإنه لا يصح منه التزام التسليم فيما لا يقدر على تسليمه وهذا بخلاف النكاح فإن تسمية ملك الغير صحيح هناك لأن الشرط كون المسمى مالا متقوما والقدرة على تسليمه ليس بشرط لصحة التسمية كما أنه ليس بشرط فيما يقابله ثم في الكتابة على الإعيان روايتان على ما نذكره في كتاب المكاتب.
قال: "وإن كاتبه على وصيف أبيض فصالحه من ذلك على وصيفين أبيضين أو حبشيين يدا بيد فهو جائز" لأن الحيوان ليس بمال الربا فمبادلة الواحد منه بالمثنى يدا بيد صحيح ولا يجوز نسيئة لأن الحيوان لا يثبت في الذمة بدلا عما هو مال.
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : "لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالافراس بعد أن يكون يدا بيد ولا خير فيه نسيئة" والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب موت المكاتب
قال: "رضي الله عنه وإذا مات المكاتب عن مال وعليه دين وجناية وله أولاد أحرار من امرأة حرة وأولاد ولدوا في المكاتبة من أمته وأولاد اشتراهم بدىءبالدين ثم بالجناية ثم بالكتابة" لأن الحقوق متى اجتمعت في المعين وتفاوتت في القوة يبدأ بالأقوى فالأقوى كما يبدأ في التركة بالجهاز ثم بالدين ثم بالوصية.(7/390)
وأصله قوله تعالى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: من الآية3] والدين أقوى من الجناية لأنه كان مالا متقررا في ذمته في حياته والجناية لا تتعلق بذمته إلا بقضاء القاضي أو بفوت الدفع بموته والمال خلف عن ذمته في ثبوت الحق فيه فما كان أسبق تعلقا بذمته وكان متقررا في نفسه فهو أقوى.
ثم الجناية أقوى من الكتابة لأن الكتابة ليست بدين متقرر فإنه يتمكن من إسقاطها عن نفسه بأن يعجز نفسه والضعيف لا يزاحم القوي فلهذا قدمت الجناية ثم بعدها الكتابة وإذا أديت الكتابة حكم بحريته في حال حياته وحرية كل من كان تبعا له في الكتابة فلهذا كان الباقي ميراثا لجميع أولاده وكذلك إن كان له ابن مكاتب لأنه إذا ضم إليه في عقد الكتابة فهما كشخص واحد لا يعتق أحدهما بحكم الكتابة قبل صاحبه فتسند حرية هذا الابن إلى الوقت الذي استند حرية أبيه وإن كان مكاتبا على حدة لم يرث منه شيئا إذا أدى مكاتبته بعد موت أبيه وإن كان قبل أداء مكاتبة أبيه لأن إسناد الحرية في حق الأب لأجل الضرورة ولا(7/391)
ص -188- ... يوجد ذلك في حق الابن إذا كان مكاتبا على حدة بل تقتصر حريته على وقت الأداء فيكون هو رقيقا عند موت أبيه فلا يرث منه شيئا وإن كان عليه مهر لامرأة حرة تزوجها بغير إذن مولاه كان دينها بعد قضاء بدل الكتابة لأن مهرها متأخر إلى ما بعد العتق فإن سببه لم يظهر في حق المولى لأنه ممنوع من النكاح بغير إذن المولى والمرأة راضية بتأخير حقها حين زوجته نفسها بغير إذن المولى فما لم يسقط حق المولى عن كسبه لا يظهر المهر فلهذا كان بعد دين الكتابة بخلاف الجناية فهي ظاهرة في حق المولى ولم يوجد من المجني عليه الرضا بتأخير حقه, وإن لم يترك شيئا يسعى ولده الذين ولدوا في المكاتبة فيها حتى يؤدوها لأنه مات عمن يؤدي بدل الكتابة فيجعل كموته عما يؤدي به بدل الكتابة وهو المال فإذا أدوا عتق كل من كان تبعا له في المكاتبة, وقد بينا أن النجوم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يبقى إلا باعتبار الأولاد الذين ولدوا في المكاتبة, وعندهما يبقى ببقاء كل من كان داخلا في كتابته حتى إذا لم يكن له إلا الأولاد الذين اشتراهم فإنهم يباعون عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا لم يؤدوا المال حالا ويكون ثمنهم تركة له تؤدي منه كتابته وإن كان معهم ولد مولود في الكتابة لم يبع هؤلاء لبقاء النجوم باعتباره يسعون به, فإن حل على الولد المولود في الكتابة أول نجم ولم يكن له مال حاضر ولا غائب ينتظر ردوا جميعا في الرق لأنه قائم مقام أبيه ولو كسر أبوه نجما رد في الرق, فكذلك هو إن كانوا جماعة بعضهم غائب وعجز الشاهد لم يرد في الرق حتى يحضر الغائب لأن الذي عجز جعل كالمعدوم فيبقي النجوم ببقاء الغائب ولا يظهر عجزه عن الأداء ما لم يحضر ولأن كل ولد مولود في الكتابة قائم مقام أبيه, ألا ترى أنهم يعتقون بأداء أحدهم سواء أدى الغائب أو الشاهد فما لم يتحقق عجزهم لا تنفسخ الكتابة وإذا مات المكاتب وله ديون على الناس وترك ولدا حرا فهو مولى لموالي(7/392)
الأم ما لم يخرج الدين فيؤدي الكتابة.
أما بقاء الكتابة فلماله المنتظر لأن الدين مال باعتبار ماله ولكن لا يحكم بعتقه ما لم يؤد الكتابة وما لم يحكم بعتقه لا يظهر لولده ولاء في جانب أبيه فيكون مولى لموالي الأم فإذا أديت ظهر له ولاء في جانب أبيه فينجر ولاؤه إلى موالي الأب لأن الولاء كالنسب ولا يرجع موالي الأم بما عقلوا من جنايته في حياة المكاتب على موالي الأب, لأنه إنما يحكم بعتق الأب في آخر جزء من أجزاء حياته ولا يستند عتقه إلى أول عقد الكتابة فكان موالي الأم عند جنايته مواليه على الحقيقة, فلهذا لا يرجعون بما عقلوا على موالي الأب ويرجعون بما عقلوا من جنايته بعد موت الأب قبل أداء كتابته, لما بينا أن عتق الأب يستند إلى حال حياته, فتبين أن ولاءه كان لموالي الأب من ذلك الوقت وموالي الأم كانوا مجبرين على الأداء فيرجعون بما أدوا كالملاعن إذا كذب نفسه بعد ما جنى الولد وعقل جنايته قوم أمه رجعوا به على قوم الأب لأنه تبين ثبوت نسبه من ذلك الوقت, وإذا مات الولد بعد موت المكاتب قبل خروج الدين فاختصم موالي الأب وموالي الأم في ميراثه قضي به لموالي الأم لأنه لم يظهر ولاء في جانب(7/393)
ص -189- ... جانب الأب بعد وإذا قضى بذلك بطلت المكاتبة لأن ولاءه لموالي الأم وقد تقرر عند موته بحكم الحاكم ومن ضرورة بطلان الكتابة إذ لو لم تبطل لكان يؤدي كتابته وتبين به أن ولاءه لقوم الأب فيبطل به حكم الحاكم وذلك ممتنع ولأنه لما لم يكن بد من إبطال أحدهما بالآخر فإبطال الكتابة التي اختلفت الصحابة رضوان الله عليهم في بقائها أولى من إبطال حكم الحاكم ولأن السبب المبطل للكتابة هو عجزه عن الأداء بعد حل المال عليه ظاهر والمنفى وهو قدرته بخروج الدين موهوم والظاهر إذا تأيد بحكم الحاكم لا يعتبر الموهوم في مقابلته فإن خرج الدين بعد ذلك كان للمولى لأنه كسب عبده وإن كان للمكاتب ولد ولدوا في الكتابة فقد بقي النجوم ببقائهم فمتى ما خرج دين المكاتب أديت المكاتبة وجر ولاء الولد وولد الولد لأنه حكم بحريته مستندا إلى حال حياته وكان ما بقي ميراثا وإذا مات المكاتب عن ولد حر فجاء رجل بوديعة فقال هذه للمكاتب فإنه يؤدي منه المكاتبة وتبين بهذه المسألة أن بموته عاجزا لا تنفسخ الكتابة ما لم يقض القاضي بفسخه لجواز أن يظهر له مال أو يتبرع إنسان بأداء بدل الكتابة عنه وهكذا فسره ابن سماعة رضي الله تعالى عنه في نوادره ثم إقرار الرجل بالوديعة للمكاتب صحيح في حقه فيؤدي منه الكتابة ولكن لا يصدق على جر الولاء لأن إقراره ليس بحجة في حق موالي الأم ولأنه متهم بالقصد إلى إبطال حقهم في جر ولاء الولد.(7/394)
قال: "أرأيت لو قال المولى نفسه هذه وديعة عندي للمكاتب أو أقر له بدين مثل الكتابة أو قال قد كنت استوفيت الكتابة قبل موته أكان يصدق في جر ولاء الولد إليه فكذلك غيره" وبهذا تبين أنه إن تبرع إنسان عنه بقضاء الدين بعد موته لا يحكم بحريته بخلاف ما ذكره ابن سماعة في نوادره وهذا لأن ذمته بالموت تخرج من أن تكون محلا صالحا لبدل الكتابة فلا بد من خلف يبقى باعتباره والخلف ماله دون أموال الناس عادة فإذا ظهر له مال فقد علمنا بوجود الخلف, وإذا تبرع إنسان بالأداء فلا يتبين به وجود الخلف وقت موته فلهذا لا يحكم بعتقه في حق موالي الأم ويجعل المقر بالوديعة كالمتبرع بالأداء في حقهم وإذا ترك المكاتب أم ولد ليس معها ولد بيعت في المكاتبة وإن كان معها ولد سعت فيها على الأجل الذي كان للمكاتب صغيرا كان ولدها أو كبيرا, وإن كان ترك مالا لم يؤخر إلى أجله وصار حالا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حال أم الولد بغير الولد كحالها مع الولد في جميع ذلك حتى يسعى فيها على الأجل وهذا بناء على أن عندهما يمتنع على المكاتب بيع أم ولده إذا ملكها سواء كان معها ولد أو لم يكن لأن ثبوت حقها باعتبار نسب الولد ونسب الولد ثابت منه سواء ملك الولد معها أو لم يملك, ألا ترى أن الحر إذا ملك جارية قد ولدت منه تصير أم ولد له سواء ملك الولد معها أو لم يملك فكذلك المكاتب ولما كان في حال حياته لا يختلف حالها بين أن يكون معها ولد أو لا يكون فكذلك بعد موته.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا ملكها في حال حياته مع الولد يمتنع بيعها. وإذا(7/395)
ص -190- ... ملكها بدون الولد لا يمتنع عليه بيعها لأن حقها نابع لحق الولد وثبوت التبع بثبوت الأصل فإذا لم يثبت الأصل لا يثبت التبع وهذا لأن حقيقة أمية الولد لا يثبت لها في حال الكتابة, ألا ترى أنه لو عجز المكاتب كانت هي أمة قنة للمولى بخلاف الحر فإن حقيقة أمية الولد يثبت لها وبدخولها في ملك المكاتب لا تصير داخلة في كتابته تبعا بدليل أنها لا تعتق بعتقه, فعرفنا أن امتناع البيع إنما يثبت فيها تبعا لثبوته في الولد فإذا لم يثبت في الولد بأن لم يملك الولد معها لا يثبت فيها وإذا ثبت هذا في حياته فكذلك بعد الموت, والولد المولود في الكتابة هو الأصل في بقاء الأجل بوجوده فإذا كان معها الولد يثبت الأجل في حقها تبعا ويسعى على النجوم وإذا لم يكن معها الولد لا يثبت الأجل في حقها فتباع في المكاتبة.(7/396)
ثم الولد خلف عن المال لأن المال كسب المكاتب حقيقة فأما كسب الولد فهو قائم مقام كسب المكاتب في أداء البدل منه فلهذا كان المعتبر هو المال إذا خلف مالا وباعتبار المال لا يبقى الأجل فيصير حالا وجد الولد أو لم يوجد وهذا لأنه لا منفعة للميت ولا لولده في إبقاء الأجل إذا ترك وفاء وينتفعون ببقاء الأجل إذا لم يترك وفاء ليكتسب ولده فيؤدي وإذا ترك المكاتب ولدين ولدا له في المكاتبة وعليه دين ومكاتبة سعيا في جميع ذلك لقيامهما مقام الأب وأيهما أداه لم يرجع على صاحبه بشيء لأن كسبه لأبيه ما لم يحكم بعتقه فيجعل أداؤه من كسبه كأدائه من مال أبيه وأيهما أعتقه المولى عتق كما لو أعتقه في حياة أبيه وعلى الآخر أن يسعى في جميع المكاتبة التي بقيت على الأب لأن الولد الذي عتق قد استغنى عن أداء بدل الكتابة فيجعل كالمعدوم والآخر محتاج إلى بدل الكتابة فكان المكاتب لم يخلف إلا إياه فيسعى في جميع المكاتبة وللغرماء أن يأخذوا أيهما شاؤوا بجميع الدين لأنهما جميعا مال الميت وقد تعلق حق الغرماء بكل واحد منهما, ألا ترى أنهما لو عجزا جميعا بدىءبقضاء الدين منهما وإعتاق المولى أحدهما معتبر في إسقاط حقه عنه غير معتبر في إسقاط حق الغرماء عن كسبه فلهذا كان لهم أن يأخذوا أيهما شاؤوا بجميع الدين ولا يرجع الذي يؤدي منهما على صاحبه لأن أداءه من مال الميت حكما فكأنه أدى من مال الميت حقيقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب جناية رقيق المكاتب وولده(7/397)
قال: "رضي الله عنه وإذا قتل عبد المكاتب رجلا خطأ قيل للمكاتب أدفعه أو أفده بالدية" لأنه أحق بكسبه مستبد بالتصرف فيه كالحر, ألا ترى أنه ملك بيعه فكذلك يخاطب بدفعه بالجناية بخلاف نفسه وولده الذين لا يستطيع بيعهم فإنهم داخلون في كتابته فلا يمكنه دفعهم بالجناية كما لا يمكنه بيعهم ولأن من دخل في كتابته فهو ملك لمولاه كنفسه وإذا قتل عبده رجلا عمدا فله أن يصالح عنه لأنه مستبد بالتصرف فيه فله أن يصالح عن جنايته على مال يؤديه لتسلم له نفسه كما للحر ذلك في ملكه ثم يؤخذ به وإن عجز لأنه مال التزمه بتصرف مملوك به بسبب عقد الكتابة فيؤخذ له بعد العجز بمنزلة ما يلتزمه بالشراء وإن جنت أمته جناية خطأ(7/398)
ص -191- ... فباعها أو وطئها فولدت منه وهو يعلم بالجناية فهذا منه اختيار وعليه الأرش لأنه منع الدفع بالبيع والاستيلاد ومن خوطب بالدفع أو الفداء إذا امتنع من الدفع بعد العلم كان مختارا للفداء بعد العلم كالحر وإن قتله عبد له عمدا فالعبد في قتل مولاه عمدا كأجنبي آخر في وجوب القصاص عليه كالحر إذا قتله عبده فالمكاتب مثله.
ثم المكاتب إذا قتل عمدا فهو على ثلاثة أوجه إن لم يترك وفاء فالقصاص واجب للمولى لأنه عبده حين مات عاجزا فله أن يستوفي القصاص من قاتله وإن ترك وفاء وله وارث سوى المولى فلا قصاص على القاتل لاشتباه من يستوفيه فإن على قول علي وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما يموت حرا فيكون استيفاء القصاص لوارثه, وعلى قول زيد رضي الله عنه يموت عبدا فيكون حق استيفاء القصاص للمولى
واختلاف الصحابة رضي الله عنهم يمكن شبهة معتبرة ومع انعدام المستوفى لا يجب القصاص لأن الوجوب في القصاص غير مقصود بنفسه بل المقصود الاستيفاء لأن الزجر يحصل به وكذلك لو اجتمعا لم يكن لهما استيفاء القصاص لأن بأصل الفعل لم يجب القصاص, لاشتباء المستوفي فلا يجب بعد ذلك بتراضيهما وإن قتل ولا وارث له سوى المولى فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يجب القصاص لمولاه وعند محمد رحمه الله تعالى لا يجب, لأن سبب ثبوت حق الاستيفاء له مشتبه فإن الكتابة إن انفسخت كما قال زيد رضي الله عنه فإنما يستوفيه بالملك وإن بقيت كما قاله علي وعبد الله رضي الله عنهما فإنما يستوفيه بالإرث بالولاء واشتباه السبب معتبر فيما يندرىءبالشبهات كاشتباه المستوفى(7/399)
ألا ترى أن أمة إنسان إذا كانت في يد غيره فقال ذو اليد زوجتنيها بكذا وقال المولى بل بعتها منك بكذا لم يحل له أن يطأها لاختلافهما في سبب ثبوت حل الوطء له وإن اتفقا على أن الوطء له حلال ولكن من قبل أن حل الوطء لا يثبت مع الشبهات فاشتباه السبب يكون مانعا من ثبوته وهما يقولان تيقنا بثبوت حق استيفاء القصاص للمولى فيجب القصاص ويتمكن من استيفائه كما لو قتل عاجزا وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها, ألا ترى أن من قال لغيره لي عليك ألف درهم غصبا وقال الآخر بل قرضا وجب المال ولا ينظر لاختلافهما في السبب لما اتفقا على وجوب المال فكذا هنا لا يعتبر الاشتباه في السبب بعد ما تعين المولى مستوفيا بأي السببين كان بخلاف ما إذا ترك وارثا لأن المولى هناك لم يتعين مستوفيا مع اشتباه المستوفى لتعذر الاستيفاء وبخلاف مسألة الوطء لأنا لم نتيقن هناك بثبوت الحل له لجواز أن يكون كل واحد منهما كاذبا فيما يدعي من السبب ولأن السبب هناك حكمي ولا يثبت واحد من السببين بقول أحد الخصمين مع تكذيب صاحبه وبدون ثبوت سبب الحل لايثبت الحل وهنا السبب الموجب للقود وهو العمد المحض متيقن به وثبوت حق استيفاء المولى متيقن به أيضا إما باعتبار الملك أو الولاء فلهذا يمكن من الاستيفاء وإذا استهلك عبد المكاتب مالا فهو دين في عنقه يباع فيه لظهور سببه في حق المكاتب وإن جنى عبده ثم عتق المكاتب فهو على خياره(7/400)
ص -192- ... لأنه إنما كان مخيرا بين الدفع والفداء باعتبار ملكه وقد تقرر ملكه بالعتق وإن عجز فالخيار إلى المولى لأن الملك بعجزه تقرر للمولى فيتخير بين الدفع والفداء كما يخير الوارث بعد موت المورث في جناية عبد الحر.
وإن كان العبد وامرأته مكاتبين مكاتبة واحدة فولدت ولدا فقتله المولى وقيمته أكثر من الكتابة فقيمته على مولاه في ثلاث سنين لأن ولدهما مملوك للمولى فلا يجب عليه القصاص بقتله ولكنه داخل في الكتابة فعلى المولى قيمته بقتله كما يلزمه الدية لو قتل المكاتب فالمال بنفس القتل يجب مؤجلا في ثلاث سنين وإن كانت الكتابة قد حلت قاصهم بها لأن القيمة واجبة للأم فإن الولد داخل في كتابتها حتى يكون كسبه لها, فكذلك بدل نفسه, وقد بينا أن الولد جزء من أجزاء الأم يتبعها في الرق والحرية فكذلك في الكتابة وقد كان للمولى أن يطالب الأم بجميع الكتابة ومتى التقى الدينان تقاصا إذا استويا لأنه لا فائدة في الاستيفاء.(7/401)
ثم على المولى أداء فضل القيمة إلى الأم لأن المقاصة إنما وقعت بقدر بدل الكتابة ورجعت الأم على الأب بما أدت عنه من ذلك لأنها صارت قاضية بدل الكتابة بالمقاصة فكأنها أدت بنفسها فترجع على الأب بحصته, وإن كانت المكاتبة لم تحل أدى المولى القيمة إلى الأم لأن المقاصة لا تقع بين الحال والمؤجل فيستوفي منه ما حل وهو القيمة لتستعين به في مكاتبتها إذا حلت, وإن كان الابن مكاتبا معها فقتله المولى ثم حلت القيمة أقتص منها بقدر الكتابة إن كانت المكاتبة حلت أو لم تحل لأن الولد المقتول هنا مقصود بالكتابة وقد كان مطالبا بجميع البدل عند حله والأجل لا يبقى في حقه بعد موته إذا ترك وفاء فإذا حلت القيمة قد تحقق الوفاء فصار قصاصا ببدل الكتابة حلت أو لم تحل ويؤدي المولى إلى الورثة فضل القيمة والأب والأم حصتهما من المكاتبة لأن الابن لو أدى جميع البدل في حياته رجع عليها بحصتها منها فكذلك إذا صار مؤديا ببدل نفسه بعد موته ثم يقسم ذلك كله بين ورثة الابن على فرائض الله تعالى ويرث أبواه معهم لأن عتقه استند إلى حال حياته وكذلك عتقهما لاتحاد العقد في حقهم, فإن قيل: فلماذا لا يجب على المولى الدية.
قلنا: لما بينا أن استناد الحرية إلى حال الحياة لأجل الضرورة وليس من ضرورته وجوب الدية فكم من قتيل حر لا تجب ديته ولأن الاستناد فيما هو من حكم عقد الكتابة ووجوب الدية ليس من حكم عقد الكتابة في شيء ولأن المولى إنما يضمن جنايته ولا يستند العتق إلى وقت جنايته إنما يستند إلى آخر جزء من أجزاء حياته بعد الجناية ولو أعتق المولى أم ولد لمكاتبه لم يجز عتقه بخلاف ما إذا أعتق ولدها لأن الولد داخل في كتابته حتى يعتق بعتقه فيكون مملوكا للمولى فأما أم الولد غير داخلة في كتابته حتى لا تعتق بعتقه فلا تكون مملوكة للمولى.(7/402)
توضيحه أن في إعتاق الولد تحصيل مقصود المكاتب فأما في إعتاق أم الولد تفويت مقصود المكاتب لأن المكاتب لو عتق كانت أم ولد له يطأها ويستمتع بها وفي العتق تفويت(7/403)
ص -193- ... هذا المقصود عليه فلا يملكه المولى ولو ملك المكاتب أب مولاه أو ابنه لم يعتق لأن المولى لو أعتق رقيق المكاتب لا ينفذ عتقه فعرفنا أنه لا يملكهم فلا يعتقون عليه ولا يمتنع بيعهم أيضا بخلاف ما إذا ملك أب نفسه أو ابن نفسه وكان ينبغي أن يمتنع بيعهم لأن للمولى في كسب المكاتب حق الملك كما للمكاتب ولكن قال البيع من التصرف وفي حكم التصرف المولى من كسب المكاتب أجنبي والمكاتب بمنزلة الحر. توضيحه أن عتق أب المكاتب وابنه من مقصود المكاتب وكسبه محل لما هو من مقاصده فكان في إدخالهم في كتابته ليعتقوا بعتقه معنى تحصيل مقصوده وعتق أب المولى و ابن المولى ليس بمقصود للمكاتب فلم يكن في إدخالهم في كتابته تحصيل مقصوده فلهذا لا يتكاتبون عليه وإذا جنى المكاتب جناية خطأ فإنه يسعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن دفعه متعذر بسبب الكتابة وهو أحق بكسبه وموجب الجناية عند تعذر الدفع على من يكون الكسب له فالواجب هو الأقل من القيمة ومن أرش الجناية
ألا ترى أن في جناية المدبر وأم الولد يجب على المولى الأقل من قيمتها ومن أرش الجناية لأنه أحق بكسبهما فإن جنى جناية أخرى بعد ما حكم عليه بالأقل في الجناية الأولى يلزمه بالجناية الثانية أيضا الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن موجب الجناية الأولى صار دينا في ذمته فتتعلق الجناية الثانية برقبته ويلزمه الأقل كالجناية الأولى, وإن كانت الجناية الثانية قبل أن يحكم عليه بموجب الجناية الأولى فليس عليه إلا قيمة واحدة عندنا.(7/404)
وقال زفر رحمه الله تعالى عليه لولي كل جناية قيمة على حدة لأن من أصله أن جنايته لا تتعلق برقبته بل موجبة القيمة ابتداء لأن الدفع متعذر فكان القضاء وغير القضاء فيه سواء يجب عليه قيمة باعتبار كل جناية لكونه أحق بكسبه عند كل جناية, وعندنا تتعلق جناية المكاتب برقبته لأن الدفع موهوم فإنه إن عجز انفسخت الكتابة ودفع بالجناية فإنما يتحول إلى القيمة بقضاء القاضي فإذا اجتمعت الجنايات في رقبته قبل قضاء القاضي لم يلزمه إلا قيمة واحدة لأنه لو أمكن دفعه لم يكن حقهم إلا في رقبة واحدة بخلاف ما إذا قضى القاضي بالأولى لأنه تحول إلى القيمة دينا في ذمته بقضاء القاضي ثم تعلقت الجناية الثانية برقبته حتى يدفع بها إذا عجز فلهذا يقضي له بقيمة أخرى, ولو قتل رجلا عمدا هو أو ابن له في ملكه ثم صالح في ذمته على مال جاز الصلح لأن من دخل في كتابته تبع له وله أن يصالح عن جناية نفسه فكذلك عن جناية من دخل في كتابته لأنه أحق بكسبه, فإن عجز فرد في الرق فإن كان أعطى المال لم يكن له حق الاسترداد وإن لم يكن أدى المال لم يؤخذ بالمال حتى يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يؤخذ بالمال في الحال فيباع فيه.
وأصل المسألة في المكاتب إذا أقر بجناية الخطأ فقضى عليه بالقيمة ثم عجز لم يؤخذ به إلا بعد العتق في قول أبي حنيفة لأن وجوب هذا المال بقوله وإقراره فيما ليس من(7/405)
ص -194- ... التجارة يكون ملزما إياه بعد العتق لا بعد العجز قبل العتق لأن بعد العجز الحق في ماليته لمولاه وإقراره ليس بصحيح في حق المولى كما لو أقر بالجناية بعد العجز فكذلك في الصلح لأن دم العمد ليس بمال فهو بهذا الصلح يلتزم مالا لا بإزاء مال فهو وما يقربه سواء.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كل واحد من المالين ثابت في ذمته وهو مطالب بهما في حال قيام الكتابة فيبقى في ذمته بعد العجز فيباع فيه كسائر الديون وتمام بيان هذه المسائل في الديات وإذا حفر المكاتب بئرا في الطريق فوقع فيها إنسان فعليه أن يسعى في قيمته يوم حفر لأنه جان بطريق التسبب بالحفر في الطريق فيجعل كجنايته مباشرة وإذا وقع فيها آخر بعد ما قضى للأول شركه في تلك القيمة لأن الموجود من المكاتب جناية واحدة وهو الحفر فلا يلزمه به أكثر من قيمة واحدة ولكن الثاني يشارك الأول في تلك القيمة بخلاف جنايته بالمباشرة فإن الثانية غير الأولى ,ولو سقط حائط له مائل قد شهد فيه على إنسان فقتله فعليه أن يسعى في قيمته لأنه متمكن من هدم الحائط المائل فإذا تركه بعد ما أشهد عليه جعل كالدافع له على من سقط الحائط عليه فلزمه قيمته, وإن وجد في داره قتيل أخذ بقيمته يوم وجد القتيل فيها لأن التدبير في داره إليه فيكون كالحر في ذلك, ولو وجد القتيل في دار الحر جعل كالقاتل له في وجوب البدل فكذلك المكاتب إلا أن تكون قيمة المكاتب أكثر من الدية فينقص حينئذ عشرة دراهم من الدية لأن وجوب القيمة عليه إذا كانت الجناية منه معتبر بوجوب القيمة إذا كانت الجناية عليه والجناية على المكاتب لا توجب من قيمته إلا عن ألف إلا عشرة دراهم لأنه عبد ما بقي عليه درهم فكذلك القيمة الواجبة بالجناية منه فإن جنى جناية ثم عجز فإن كان قد قضى عليه بالسعاية فهو دين عليه يباع بها لأن سببه ظاهر في حق المولى وقد صار دينا في ذمته بالقضاء, وإن لم يقض بها عليه خير المولى بين(7/406)
الدفع والفداء إلا على قول زفر رحمه الله فإنه يقول الواجب قيمته يباع فيه بناء على أصله الذي قلنا أن موجب جنايته القيمة ابتداء.
وقد ذكر في كتاب الجنايات أن أبا يوسف رحمه الله كان يقول بهذا مرة ثم رجع عنه فقال يخير المولى كما هو مذهبهما لأن موجب جنايته في رقبته لتوهم إمكان الدفع بعد العجز وإنما يتحول إلى الذمة بقضاء القاضي, فإذا عجز قبل القضاء بقيت الجناية في رقبته فكأنه جنى ابتداء بعد العجز فيخاطب المولى بالدفع أو الفداء وإن جنى عليه فالواجب أرش المماليك لأنه عبد وذلك للمكاتب بمنزلة كسبه لأنه صار أحق بنفسه وإن قتل رجلا عمدا فعليه القود لقوله صلى الله عليه وسلم : "العمد قود" والرقيق في حكم القود والحر سواء وإن قتل ابن المكاتب أو عبده فلا قود على القاتل أما الابن فلأنه من وجه مملوك للمولى حتى لو أعتقه ينفذ عتقه ومن وجه هو مملوك للمكاتب حتى يكون أحق بكسبه فاشتبه من يجب القصاص له وذلك مانع من وجوب القصاص وأما عبده فلأن للمولى فيه حق الملك, ألا ترى أن بعجزه يتم فيه ملك المولى ومن وجه هو ملك المكاتب حتى يتم ملكه فيه إذا أعتق فيشتبه من له القصاص ولأن(7/407)
ص -195- ... المكاتب إنما صار أحق بكسبه ليؤدي بدل الكتابة والقصاص ليس من ذلك في شيء والمولى ممنوع من كسبه فلا يمكن إيجاب القصاص له أيضا ومع الاشتباه لم يجب القصاص وإن اجتمعا على ذلك لم يقتص أيضا لأنه لم يجب بأصل الفعل فلا يجب باتفاقهما بعد ذلك ولكن على القاتل القيمة لما تعذر إيجاب القصاص وهو المكاتب بمنزلة سائر اكسابه وإن عفوا فعفوهما باطل أما المولى فلأنه لم يجب له شيء وأما المكاتب فلأن العفو تبرع منه فلا يصح كالإبراء عن الديون وإن قتل المولى مكاتبه خطأ أو عمدا وقد ترك وفاء فعليه قيمته تقضي به كتابته وكذلك لو قتل ابنه لأن المكاتب كان أحق بكسبه وبنفسه فلما جعل المولى كالأجنبي فيما يجب بإتلاف كسبه فكذلك فيما يجب باتلاف نفسه وإن أقر المكاتب بجناية خطأ أو عمدا لا قصاص فيه فإقراره جائز ما دام مكاتبا لأن موجب جنايته في كسبه وإقراره في كسبه صحيح, وإن عجز ورد في الرق بطلت عنه قضى به عليه أو لم يقض.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وذكر في كتاب الجنايات أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله تعالى قالا يؤخذ بما قضى عليه منها خاصة وما أداه قبل العجز لم يسترده عندهم جميعا وقد بينا هذا ولا يلزم المكاتب مهر من نكاح بغير إذن مولاه حتى يعتق ويلزمه ذلك في الشراء عند الاستحقاق يعني إذا اشترى جارية فوطئها ثم استحقت يغرم عقرها في الحال لأن سقوط الحد هناك كان بسبب الشراء وهو عقد تجارة فما يجب باعتباره من الضمان يكون ضمان التجارة فيؤاخذ به في الحال وفي النكاح سقوط الحد عنه ووجوب المهر كان بسبب النكاح وهو ليس بتجارة فما يجب بسببه لا يكون من جنس ضمان التجارة فلا يؤاخذ به حتى يعتق.(7/408)
توضيح الفرق أنه صار منفك الحجر عنه في الشراء ففي الضمان الواجب بسببه يلتحق بالحر ولم يصر منفك الحجر عنه من نكاح نفسه ففيما يجب بسببه هو كالعبد المحجور ولا يتزوج المكاتب بغير إذن مولاه لأن انفكاك الحجر عنه في عقود الاكتساب وليس في التزوج اكتساب المال بل فيه التزام المهر والنفقة ولأن حكم المالكية إنما يثبت له يدا ليتمكن من أداء بدل الكتابة فكل عقد لا يوصله إلى ذلك لا يثبت له حكم المالكية في ذلك بل يكون هو كالعبد لا يتزوج إلا بإذن مولاه وكذلك لا يزوج عبده لأنه تعييب للعبد وليس باكتساب للمال وكذلك لا يزوج ابنه لأن الرق الباقي فيه مخرج له من أهلية الولاية بالقرابة وسبب الملك في ابنه أبعد عنه من عبده لما بينا أن من دخل في كتابته فهو مملوك لمولاه ولهذا لا يزوج ابنته أيضا لأنها لما دخلت في كتابته صارت مملوكة لمولاه بمنزلة نفسه ولا يزوجها بدون إذن مولاها وله أن يزوج أمته لأن تزويج الأمة اكتساب في حقه فإنه يكتسب به المهر ويسقط عن نفسه نفقتها وهو منفك الحجر عنه في عقود الاكتساب.
فإن قيل: هذا موجود في حق ابنته قلنا نعم ولكن ابنته مملوكة للمولى وأمته ليست بمملوكة للمولى حتى ينفذ عتق المولى في ابنته دون أمته ولو عجز وقد حاضت ابنته حيضة لا(7/409)
ص -196- ... يجب على المولى فيها استبراء جديد ويلزمه ذلك في أمته ومكاتبته كأنه تزوجها برضاها بدون إذن المولى لأن بكتابتها ثبت لها الحق في نفسها دون إذن المولى وإنما يعتبر رضاها في تزويجها ولا يعتبر رضا المولى ولا تتزوج المكاتبة بغير إذن مولاها وكان ينبغي أن يملك ذلك لأنه اكتساب للمهر في حقها ولكن رقبتها باقية على ملك المولى, فيمنع ذلك ثبوت ولاية الاستبداد لها بالتزوج لأن فيه تعييب رقبتها فإن النكاح عيب فيها وربما تعجز فيبقى هذا العيب في ملك المولى.
توضيحه أن النكاح غير مشروع في الأصل لاكتساب المال بل للتحصين والنفقة وانفكاك الحجر بسبب الكتابة في عقود اكتساب المال فإذا كان مقصودها من تزويج نفسها شيئا آخر سوى المال لم يكن هذا العقد مما يتناوله الفك الثابت بالكتابة فإن تزوجت بغير إذن مولاها فلم يفرق بينهما حتى عتقت جاز النكاح ولا خيار لها لأن المانع حق المولى وقد سقط بالعتق ونفوذ العقد كان بعد العتق وفي مثله لا يثبت الخيار لها وإذا وقع المكاتب على بكر فافتضها كان عليه الحد لوجود الزنى المحض منه وهو مخاطب فإن دخل في ذلك وجه شبهة ولم تطاوعه المرأة كان عليه المهر لأن هذا الفعل لا ينفك عن عقوبة أو غرامة إذا حصل في غير الملك وقد سقطت العقوبة فوجب المهر إلا أنها إذا طاوعته فقد رضيت بتأخير حقها فيتأخر إلى ما بعد العتق وإذا لم تطاوعه فلم ترض بتأخير حقها فيلزمه ذلك في الحال كما لو جنى عليها كان مؤاخذا بالأرض في الحال.(7/410)
فإن قال تزوجتها فصدقته فإنما عليه المهر إذا عتق لوجود الرضا منها بتأخير حقها وإن قال اشتريتها أو وهبت لي أخذ بالمهر في المكاتبة لما بينا أن في الشراء الواجب من جنس ضمان التجارة وكذلك في الهبة لأنه إنما سقط الحد عنه بسبب موجب للمال فهو نظير الشراء وهذا لأن بعد الملك لا حق لأحد سواه فلا يعتبر فعل الغير في الرضا بالتأخير بخلاف التزويج فإنه لا يسقط به حقها من نفسها فيعتبر رضاها وتمكينها من تأخير حقها ولا يجوز هبة المكاتب ولا صدقته.
وقال ابن أبي ليلى يتوقف عتقه وهبته وصدقته على سقوط حق المولى بعتق المكاتب فإذا عتق نفذ ذلك كله لأنه أحق بكسبه في الحال ولكن فيه حق المولى على أن يصير مملوكا إذا عجز فيمتنع نفوذ هذه التصرفات منه في الحال لمراعاة حق المولى فإذا سقط حق المولى بالعتق فقد زال المانع فينفذ تصرفه كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة المستغرقة بالدين ثم سقط الدين.
ولكنا نقول هو ليس بأهل للتبرعات لكونه عبدا ولأن صحة التبرعات باعتبار حقيقة الملك وهو ليس من أهله ولا يتوقف التصرف إذا صدر من غير أهل فهو كالصبي إذا أعتق أو وهب ثم بلغ لم ينفذ ذلك منه ولأن بالعتق يتم ملكه في الكسب مقصورا على الحال فلا ينفذ التبرع السابق عليه منه
ألا ترى أن المولى لو كان هو الذي أعتق عبده أو وهب كسبه,(7/411)
ص -197- ... ثم عجز المكاتب حتى ملك المولى لم ينفذ ذلك التصرف منه فهذا مثله ولا يجوز وصية المكاتب وإن ترك وفاء لأنه تبرع بعد الموت فيكون كتبرعه في حياته.
فإن قيل: أليس أنه إذا أديت كتابته يحكم بموته حرا ولو عتق في حال حياته وجب تنفيذ وصيته بمال مرسل بعد موته من ثلثه فكذلك إذا أديت كتابته.
قلنا: قد بينا أن استناد حريته في حكم الكتابة للضرورة, وصيته ليست من ذلك في شيء ولأن حريته إنما تستند إلى آخر جزء من أجزاء حياته وتلك الحالة للطافتها لا تتسع للوصية ولا يجوز إقراضه ولا كفالته لأنه تبرع إلا أن كفالته ككفالة العبد المحجور عليه تظهر في حقه بعد العتق واستقراضه جائز لأنه تبرع عليه وهو من أهله بمنزلة قبول الهبة والصدقة ويجوز بيعه وشراؤه بالمحاباة لأنه من التجارة وقد يفعله التاجر لإظهار المسامحة حتى يميل الناس إليه أو يحابي في تصرف ليتوصل به إلى تصرف آخر هو أنفع له وكذلك إن حط شيئا بعد البيع بعيب ادعى عليه أو زاد في ثمنه شيئا اشتراه فهذا من صنع التجارة والمكاتب فيما هو من التجارة بمنزلة الحر, وإن أعار دابة أو أهدى هدية أو دعا إلى طعام فلا بأس بذلك وهذا استحسان.
فأما في القياس هذا كله تبرع والمكاتب ليس من أهل التبرع ولكنه استحسن فقال هذا من صنع التجارة فإنه لا يجد بدا من إيجاد الدعوة للمجاهرين أو الإهداء إليهم أو إعارة مسكن أو غير ذلك منهم إذا أتوه من بلدة أخرى وإذا لم يفعل ذلك تفرقوا عنه فلكونه من توابع التجارة قلنا يملكه استحسانا وليس له أن يكسو الثوب لأن ذلك تمليك لعين الثوب بطريق التبرع والتاجر لا يحتاج إلى ذلك عادة وكذلك لا يعطي درهما فصاعدا لأنه تبرع بتمليك العين بخلاف المنفعة فالتجار يتوسعون في المنافع ما لا يتوسعون في الإعيان.(7/412)
ففي هذا إشارة إلى أن له أن يعطي دون الدرهم لأنه قد يحتاج إلى ذلك عادة فإن مجاهره إذا شرب الماء من سقاء على باب حانوته لا يجد بدا من إعطاء فلس لأجله وما دون الدرهم قليل يتوسع فيه الناس فلهذا يملكه استحسانا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المكاتب
قال: "رضي الله عنه وقد بينا أن للمكاتب أن يكاتب استحسانا فإن أدى الثاني قبل الأول كان ولاؤه لمولى الأول" لأن الأول صار معتقا فيخلفه مولاه لأن الاعتاق يعقب الولاء وهو ليس بأهل للولاء لأنه رقيق بعد فيخلفه فيه أقرب الناس إليه وهو مولاه كالعبد المأذون إذا اشترى شيئا يملكه مولاه بهذا الطريق وهو أن الشراء موجب للملك فإذا لم يكن المشتري من أهل الملك خلفه في الملك أقرب الناس إليه وهو المولى فإن عتق الأول بعد ذلك لم يرجع إليه كما لا يرجع الملك في كسب العبد إليه بعد ما يعتقه مولاه وإن سبق الأول بالأداء ثم أدى الثاني فولاؤه للأول لأن الولاء يعقب العتق وإنما عتق الثاني بعد ما تم الملك للأول في رقبته وهو(7/413)
ص -198- ... من أهل الولاء لحريته, فإن قتل المولى مكاتب مكاتبه وقيمته ألف ومكاتبه خمسمائة وقد بقي على الأول من مكاتبته مائة فعلى المولى قيمته ألف درهم في ثلاث سنين يقتص من ذلك المائة التي بقيت من مكاتبة الأول إذا كانت قد حلت وحل ما على المولى من القيمة فيعتق المكاتب الأول وقد صار مستوفيا من الثاني لأنه من مكاتبته ثم يعطيه المولى أربعمائة تمام مكاتبة الثاني والخمسمائة الباقية ميراث للمولى فإن لم يكن للثاني وارث فهو لأقرب الناس من المولى من العصبة لأن عتقه يستند إلى حال حياته(7/414)
والأول في ذلك الوقت كان مكاتبا فيكون ولاء الثاني للمولى إلا أن المولى قاتل ولا ميراث للقاتل فكان ذلك لا قرب عصبة له, وإن كانت مكاتبته ألفا ولم يحل على المكاتب الأول شيء من نجومه فإن المولى يؤدي جميع القيمة إلى المكاتب الأول في ثلاث سنين لأن الثاني مات عن وفاء فإن في قيمته وفاء بمكاتبته فيستوفي الأول مكاتبته من قيمته ويحكم بحريته, ولو لم يقتله المولى ولكن قتله المكاتب الأول وقيمة القاتل أكثر فعليه قيمة المقتول يستوفي من ذلك كتابته وإن فضل من قيمته شيء أداه إلى المولى لأن ولاءه للمولى حين عتق قبل الأول فيكون ما فضل ميراثا مكاتب كاتب عبدا ثم مات الأول عن ابن حر ولم يترك إلا ما على الآخر ثم مات الآخر عن ابن ولد له في المكاتبة فعليه أن يسعى فيما على ابنه فيؤدي ذلك إلى المولى من مكاتبة الأول لأن عقد كتابة الأول باق ببقاء دينه على المكاتب الثاني فيؤدي منه مكاتبته وما فضل عنها فهو ميراث لابن الأول عن أبيه لأنه حكم بحريته قبل موته وولاء الابن الآخر لابن الأول لأن عتق كل واحد من المكاتبين يستند إلى آخر جزء من أجزاء حياته فإنما حكم بحرية الثاني بعد الحكم بحرية الأول فيكون ولاؤه وولاء ولده للمكاتب الأول يخلفه فيه ابنه مكاتب اشترى امرأته ولم تكن ولدت منه ثم كاتبها فذلك جائز وما ولدت بعد الكتابة فهو معها في الكتابة لأنه جزء منها وقد صارت هي أحق بنفسها وولدها بعقد الكتابة, فإن مات المكاتب عن وفاء عتقت هي وأولادها لأن كتابة الأول لما أديت فقد حكم بعتقه وصارت المكاتبة أم ولد له فتعتق بالاستيلاد هي وأولادها وأخذ أولادها ما بقي من ميراثه بعد أداء كتابته لأنهم عتقوا في حال حياته حين تم ملكه فيهم وهم أولاده فإن لم يترك وفاء فالمرأة وولدها بالخيار إن شاؤوا سعوا فيما بقي على الأول ليعتقوا بعتق الأول وإن شاؤوا سعوا فيما بقي على الأم لأنهم يستفيدون العتق بأداء ذلك كما لو أدوا إلى المكاتب في حياته(7/415)
ويسعون في الأقل من ذلك لأن العبد إنما يتخير بين شيئين لرفق له في أحدهما والرفق في اختيار الأقل دون الأكثر
وليس للمكاتب أن يكاتب ولده ولا والديه لأنهم دخلوا في كتابته تبعا والمكاتب لا يكاتب ولأنهم بمنزلة مملوكين للمولى حتى لا يبيعهم وكما لا يكاتب نفسه فكذلك لا يكاتبهم ولا يجوز له أن يكاتب من لا يجوز له بيعه إلا أم ولده لأن أم الولد وإن امتنع بيعها تبعا لولدها فلم تدخل في مكاتبته حتى لا تعتق بعتقه قبل موته ولأنها لم تصر مملوكة للمولى حتى لا ينفذ عتقه فيها والمكاتبة أحق بكسبها فإذا كاتبها يحصل له ما هو المقصود بعقد الكتابة لأنها تصير أحق بمكاسبها وإذا كاتب المكاتب(7/416)
ص -199- ... امرأته ولم تلد منه ثم ولدت بعد الكتابة ثم ماتت المرأة ولم تترك وفاء فالابن بالخيار إن شاء سعى فيما بقي على أمه ليعتق بأدائه وإن شاء عجز نفسه فيكون بمنزلة أبيه لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما ببدل يؤديه والآخر بغير بدل عليه وهو التبعية لأبيه فيميل إلى أيهما شاء وإذا كاتب المكاتب عبدا له ولد عنده في مكاتبته ثم ادعاه يثبت النسب منه لأن أصل العلوق كان في حكم ملكه ثم الابن بالخيار بين المضي على الكتابة وبين العجز لما بينا.
"فإن قيل لما كان لا يكاتبه ابتداء بعد ثبوت نسبه منه فينبغي أن لا تبقى مكاتبته أيضا
قلنا: مثله لا يمتنع, ألا ترى أنه لا يتزوج المكاتب أمته ثم يشتري امرأته فيبقى النكاح وهذا لأنه يصدق في دعوى النسب لما فيه من المنفعة للولد ولا يصدق في إبطال ما ثبت له من الحق في كسبه بعقد الكتابة ولهذا يخير الولد, وإذا كاتب المكاتب عبدا له على نفسه وماله أو على نفسه وابنه فهو جائز لأن المكاتب مالك لعقد الكتابة في مكاسبه بمنزلة الحر والكتابة من الحر صحيحة بهذه الصفة فكذلك من المكاتب وإذا مات المولى عن ابن وابنة وله مكاتب فاعتقه أحدهما فعتقه باطل لأن المكاتب لا يورث كما لا يملك بسائر أسباب الملك مع قيام الكتابة ولأن المولى استحق ولاءه بعقد الكتابة ففي جعل رقبته ميراثا إبطال هذا الاستحقاق على المولى فالمعتق منهما أضاف العتق إلى ما لا يملكه فلا ينفذ منه ولا يسقط به حصته من البدل أيضا لأنه أضاف التصرف إلى ما لا يملكه فلا يظهر حكمه فيما يملكه كأحد الشريكين في العبد إذا أعتق نصيب شريكه يكون لغوا منه ولا يفسد الرق في نصيبه, وإذا أعتق المكاتب جميع الورثة في القياس لا ينفذ أيضا ولا يسقط حقهم في بدل الكتابة لإضافتهم التصرف إلى ما ليس بملك لهم وفي الاستحسان يعتق ويجعل هذا بمنزلة الإقرار منهم باستيفاء بدل الكتابة.(7/417)
ومعنى هذا أن المكاتب إنما يعتق بعد موت المولى بإيفاء جميع بدل الكتابة فقولهم هو حر يكون إقرارا منهم بما تحصل به الحرية له وهو إيفاء بدل الكتابة بخلاف ما إذا قال ذلك بعضهم لأنه لا يعتق شيء منه بإيفاء نصيب أحدهم من بدل الكتابة فلا يتضمن كلامه الإقرار باستيفاء نصيبه توضيحه إن عتق جميع المكاتب مسقط لبدل الكتابة عنه فيمكن أعمال كلامهم بطريق المجاز وهو أن يكون إسقاطا منهم لبدل الكتابة ومتى تعذر العمل بحقيقة الكلام يعمل بمجازه إذا أمكن بخلاف ما إذا أعتق أحدهم لأن عتق البعض ليس بمسقط عنه شيئا من بدل الكتابة على ما بينا.
إذا أعتق نصفه بالتدبير بموت المولى لا يسقط عنه شيء من بدل الكتابة بخلاف ما إذا أعتقه كله فقد تعذر العمل بحقيقة كلامه ومجازه في ملكه فلهذا كان لغوا.
ثم ولاؤه للابن دون الابنة لما بينا أن المولى استحق ولاءه وإنما عتق على ملكه فيخلفه ابنه في ولائه لأنه عصبته وإن وهب له أحدهما نصيبه من المال فذلك جائز لأن المال صار ميراثا لهما فإنما أضاف الواهب تصرفه إلى ملكه ولا يعتق شيء منه لأنه سقط عنه بعض البدل(7/418)
ص -200- ... ولا موجب لذلك في العتق كما لو أوفى بعض البدل, فإن عجز فرد في الرق فنصيب الواهب من الرقبة ملك له لأن الكتابة انفسخت بالعجز وصارت الرقبة ميراثا لهما وليس لهبة بدل الكتابة تأثير في انتقال ملكه عن الرقبة ولأنه تبين أن ميراثهم كان هو الرقبة دون المال فكان هبته لنصيبه من المال لغوا وهذا بخلاف ما إذا كاتب رجلان عبدا لهما ثم وهب أحدهما نصيبه من البدل فإن هناك يعتق نصيبه لأنه مالك لنصيبه حتى يملك إعتاقه فيجعل هبته لنصيبه من البدل كإعتاقه وهنا أحد الوارثين لا يملك إعتاقه فلهذا لا يعتق شيء منه بهبة نصيبه من المال منه, وإن وهب منه جميع الورثة المال عتق استحسانا كما لو أعتقه جميع الورثة وهذا أظهر لأن ذمته برئت عن جميع المال حين وهبوه له وبراءة ذمة المكاتب توجب حريته وإذا أدى المكاتب مكاتبته إلى الورثة دون الوصي وعلى الميت دين يحيط بذلك أو لا يحيط لم يعتق لأنه لا حق للورثة في قبض بدل الكتابة منه ما دام على الميت دين فأداؤه إليهم في هذه الحالة كأدائه إليهم قبل موت المولى وإن أداها إلى الوصي عتق كان عليه دين أو لم يكن وصل ذلك إلى الغريم والوارث أو لم يصل لأن الوصي قائم مقام الموصي والأداء إليه كأداء إلى الموصي وكذلك إن كانت الورثة حين قبضوا منه دفعوه إلى الوصي فهو كدفع المكاتب بنفسه إلى الوصي وإذا أداها إلى بعض الورثة ولا دين على الميت لم يعتق إلا أن يوصل الوارث إلى الآخرين انصباءهم إن كانوا كبارا أو إلى الوصي نصيب الصغير فحينئذ يعتق لأن حق القبض لكل واحد منهم في نصيبه ولا ولاية للقابض على الآخرين فلا يعتق بقبضه ما لم يوصل إليهم أنصباءهم ولهم الخيار إن شاؤوا اتبعوا المكاتب بحصصهم, وإن شاؤوا اتبعوا الوارث القابض بمنزلة سائر الديون إذا قضاها الغريم بعض الورثة ولا يعتق المكاتب حتى يقع في يد كل إنسان نصيبه لأنه لا يستفيد البراءة إلا بذلك, ولو أدى المكاتبة إلى الورثة وهم صغار فذلك(7/419)
باطل لأنه لا يستفيد البراءة بقبضهم فإن قبض الصبي دينه من غريمه باطل فما لم يصل إلى وصية لا يعتق, وإن كان على الميت دين يحيط بالمكاتبة فأعطاها المكاتب إلى الغرماء فذلك جائز إذا أخذ كل ذي حق حقه منها لأنه أوصل الحق إلى مستحقه, ألا ترى أنه لو لم يكن عليه دين فأعطاها الورثة وهم كبار فاقتسموها بينهم بالحصص كان ذلك جائزا فكذلك الغرماء وإذا أوصى بما على مكاتبه لرجل وهو يخرج من الثلث فأداها إلى الموصى له جاز لأنه تعين مستحقا لما عليه بإيجاب الموصى له وكذلك إذا أداها إلى الوصي لأنه قائم مقام الموصي فيما هو من حقه وتنفيذ الوصية من حقه فكان للوصي أن يقبض لينفذ الوصية فيه فلهذا عتق المكاتب بالدفع إليه وصل إلى الموصى له أو لم يصل وإن أداها إلى الوارث لم يعتق حتى يصل إلى الموصى له لأنه لا حق للوارث في هذا المال وكذلك لو كان أوصى بثلث ماله لم يعتق المكاتب الأداء إلى الوارث حتى يصل الثلث إلى الموصى له والله أعلم بالصواب.
باب المكاتبة من المريض والمرتد
قال: "وإذا كاتب الرجل عبده في مرضه على مكاتبة مثله ولا مال له غيره ثم مات(7/420)
ص -201- ... المولى فإنه يقال للمكاتب عجل الثلثين من المكاتبة والثلث عليك إلى الأجل فإن لم يعجل رد رقيقا" لأن التأجيل تبرع منه والتبرع في مرضه بالتأخير كتبرعه بالإسقاط فلا يصح إلا في ثلثه بخلاف ما إذا كاتبه في صحته لأن تأجيله هناك صحيح مطلقا لكونه مالكا للتبرع بالإسقاط في صحته ولا يبطل الأجل بموت المولى لأنه حق المكاتب, وإن كان كاتبه على أكثر من قيمته أضعافا فكذلك الجواب في قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة.
وفي قول محمد رضوان الله عليهم أجمعين تأجيله فيما زاد على مقدار قيمته صحيح وكذلك في قدر ثلث قيمته وإنما يلزمه أن يعجل قدر ثلثي قيمته لأن ما زاد على قدر قيمته فقد كان للمريض أن لا يتملكه أصلا ولا يثبت حق ورثته فيه بأن يكاتبه على قيمته فإذا تملكه مؤجلا صح تأجيله مطلقا كالمريضة إذا زوجت نفسها بمهر مؤجل صح تأجيلها في ذلك لأن لها أن لا تتملك ذلك أصلا بأن لا تزوج نفسها أصلا.(7/421)
وهما يقولان جميع البدل مسمى في الكتابة بمقابلة ما هو حق للمولى في رقبته فلا يصح التأخير إلا في ثلثه كما لو كاتبه على قيمته وهذا لأن حق المولى في مالية الرقبة وقد تعلق به حق الورثة في ذلك فكان جميع البدل بمقابلة ما تعلق به حق الورثة فلهذا لا يصح التأجيل إلا في ثلثه بخلاف المهر فإنه بدل عما لا حق للوارث فيه وإنما يثبت حق الوارث فيه ابتداء فإذا كان مؤجلا لم يثبت حقهم إلا بتلك الصفة ولو كاتبه في مرضه على مكاتبة مثله ثم أقر باستيفائها لم يصدق إلا من الثلث لأن ما باشره في المرض من المكاتبة والإقرار بالاستيفاء بمنزلة الإعتاق ولأنه يتمكن تهمة المواضعة من حيث أنه لما علم أنه لو أعتقه كان من ثلثه واضعه على هذا ليحصل مقصوده بهذا الطريق فلا يصدق في حق الورثة ولكن إن كان عليه دين يحيط بماله لا يصدق في شيء إلا أن العبد يعتق ويؤخذ بالكتابة كما لو أعتقه وإن لم يكن عليه دين وهو يخرج من ثلث ماله فهو حر ولا شيء عليه وإن لم يكن له مال سواه فعليه السعاية في الثلثين في المكاتبة للورثة إلا أن تكون قيمته أقل فحينئذ يسعى في ثلثي قيمته لأن تهمة المواضعة إنما تمكنت في مقدار القيمة ولا تتمكن في الزيادة على ذلك فيصح إقراره باستيفائه ويجعل هذا وإعتاقه في مرضه ابتداء سواء وكذلك لو أقر أنه كان كاتبه في صحته واستوفى لأن إقراره لا يصح في المرض إلا بما يملك إنشاءه وتتمكن فيه تهمة المواضعة كما بينا وإن كاتبه في صحته ثم أقر في مرضه بالاستيفاء صدق في ذلك لأن تهمة المواضعة هنا منتفية حين باشر العقد في صحته لتمكنه من إعتاقه يومئذ ثم المكاتب يستحق براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء فلا يبطل ذلك الاستحقاق بمرضه بخلاف ما إذا كاتبه في مرضه, ألا ترى أنه لو باعه في صحته من إنسان ثم أقر في مرضه باستيفاء الثمن كان مصدقا في حق غرماء الصحة بخلاف ما لو كان باعه في مرضه ولو أن مكاتبا أقر عند موته أنه كاتب عبده فلانا واستوفى(7/422)
مكاتبته لم يجز قوله لأن هذا بمنزلة الإعتاق والمكاتب لا يملك ذلك أصلا ولأن هذا من الحر صحيح من ثلثه وليس للمكاتب ثلث فلهذا كان على الآخر أن يسعى في جميع(7/423)
ص -202- ... المكاتبة, وكذلك لو كاتبه في مرضه بأقل من قيمته لم يجز لأن محاباته وصية والوصية من المكاتب باطلة ولو كاتبه على مكاتبة مثله أمر الآخر أن يعجل مكاتبته كلها وإلا رد في الرق لأن تأجيله تبرع منه والمكاتب المريض ليس من أهله فإن برأ من مرضه صح ذلك منه لأن المرض إذا تعقبه برء فهو كحالة الصحة ولو أوصى رجل فقال كاتبوا عبدي على كذا إلى أجل كذا إن حدث بي الموت وذلك كتابة مثله أجزت ذلك إن كان يخرج من الثلث كما لو باشره بنفسه لأنه أوصى بما هو من حاجته وقصد به استحقاق ولاية فهو كما لو أوصى بعتقه وإن لم يكن له مال غيره عرضت عليه أن يعجل الثلثين ويؤخر الثلث إن قبل الكتابة كما لو باشره في حياته فإن أبى لم يكاتب لأن عقد الكتابة لم يتم بدون رضاه وكذلك إن حط عنه منها شيئا يكون أكثر من الثلث ولو كان مكاتب أوصى بهذا في عبده لم يجز لأنه وصية ولا يجوز للمكاتب أن يوصي بشيء وإن ترك وفاء ولو كاتب رجل عبده في مرضه ولا مال له غيره فأجاز الورثة في حياته فلهم أن يمتنعوا من الإجازة بعد موته كما في سائر الوصايا وهذا لأنهم أجازوا قبل تقرر حقهم لأن حقهم إنما يثبت في الحقيقة بعد موت المولى ولأن إجازتهم في الحياة للاستحياء منه فلا يكون ذلك دليل الرضا منهم وإنما دليل الرضا الإجازة بعد الموت.(7/424)
قال: "وإن كاتب المرتد عبده فكتابته موقوفة إن أسلم جاز وإن قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب بطلت في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى" وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كتابته جائزة إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تجوز جوازها من الإصحاء وعند محمد رحمه الله تعالى من المريض حتى تعتبر من ثلثه وهو بمنزلة اختلافهم في سائر تصرفات المرتد, وإذا قسم القاضي مال المرتد بين ورثته ثم كاتب الوارث عبدا من تركته ثم تاب المرتد ورجع فوجد المكاتب فهو مكاتب له يؤدي إليه ويعتق وولاؤه له كأنه هو الذي كاتبه "وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا سبيل له عليه لأن الوارث بتصرفه استحق ولاءه فكأنه أعتقه ولأن المكاتب غير محتمل للنقل من ملك إلى ملك فلا يعود إليه من ملك الوارث كالمدبر وأم الولد".
ولكنا نقول استحقاق العتق لا يثبت بنفس الكتابة ولهذا كان محتملا للفسخ والمرتد إذا تاب لا يتملك ماله على الوارث ولكنه يعود إلى قديم ملكه كما كان وعقد الكتابة لا يمنع من ذلك
ألا ترى أن المكاتب إذا كاتب عبدا له ثم عجز الأول كان الثاني مكاتبا للمولى ويجعل كان الأول كان نائبا عن المولى في مكاتبته فكذلك هنا يجعل الوارث كالنائب عنه في مكاتبته وكتابة المرتدة وعتقها وبيعها جائز كما يكون في الإسلام لأن نفسها تتوقف بالردة حتى لا تقتل فكذلك ملكها بخلاف المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كاتبت على خمر أو خنزير فإني أبطل ذلك ولا أجيز عليها إلا ما يجوز منها قبل الردة لأنها مجبرة على الإسلام فكان حكم الإسلام باقيا في حقها وإذا ارتد العبد والمولى مسلم فكاتبه جاز لأن المانع من نفوذ تصرف المرتد توقف ملكه على حق ورثته وذلك لا يوجد في العبد ولأنه محض منفعة في حقه(7/425)
ص -203- ... بمنزلة قبول الهبة فإن قتل وترك مالا أخذت الكتابة من ماله والباقي ميراث لورثته لأنه حكم بحريته مستندا إلى حال حياته, والمرتد الحر يرثه الورثة المسلمون, وكذلك لو ترك ولدا ولد له في المكاتبة يسعى فيما عليه لأن موته عمن يؤدي بدل الكتابة كموته عما يؤدي به بدل الكتابة وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ أسيرا فأبى أن يسلم فإنه يقتل ويستوفي مولاه من كسبه مكاتبته والباقي ميراث استحسانا وكان القياس أن يكون كله لمولاه إن كان عبدا, وإن كان حرا فهو فيء لأنه كسب ردته.
وأبو حنيفة رحمه الله لا يقول بتوريث كسب الردة عن المرتد إذا كان حرا ولكن يجعل ذلك فيئا للمسلمين فكذلك في المكاتب, ولكنه استحسن هنا فقال في كسب المكاتب حق لمولاه على معنى أنه متى عجز كان كسبه لمولاه والمولي مسلم فقيام حقه يمنع من أن يكون كسبه فيئا فلهذا يجعل هذا وما اكتسبه في حالة الإسلام سواء يؤدي منه بدل كتابته ويكون الباقي ميراثا لورثته وإذا لحق المكاتب بدار الحرب مرتدا وخلف في دار الإسلام ابنا له ولد في كتابته فلا سبيل على ابنه حتى ينظر ما يصنع المكاتب فإن مات أو قتل عن وفاء أديت كتابته والباقي ميراث لابنه وإن لم يترك وفاء سعى الابن فيما على أبيه
وكذلك لو لم يترك في دار الإسلام ولدا ولكنه خلف مالا لم أقسم ماله حتى أنظر ما يصنع.
"وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يؤدي مكاتبته من ماله ويجعل الباقي ميراثا لورثته لأن لحوقه بدار الحرب كموته
ألا ترى أن في حق الحر يجعل هذا كالموت في قسمة ماله بين ورثته فكذلك في حق المكاتب".(7/426)
ولكنا نقول لحوقه بدار الحرب ليس بموت بعينه ولكن باعتبار أنه يصير حربيا وأهل الحرب في حق المسلمين كالموتى يجعل ميتا حكما وهذا لا يوجد في حق المكاتب لأن ملك المولى في رقبته باق وقيام ملك المسلم في رقبة العبد يمنعه من أن يصير حربيا فإذا لم يصر حربيا كان هو بمنزلة المتردد في دار الإسلام والحكم فيه إذا كان مترددا في دار الإسلام ما بينا فكذلك بعد لحاقه ولو لم يلتحق بدار الحرب ولكن أهل الحرب أسروه فباعوه من رجل فأعتقه فذلك باطل لأنهم بالأسر ما ملكوه فإن المكاتب لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك وإنما يملك بالاستيلاء ما يحتمل النقل من ملك إلى ملك وإذا لم يملكوه بالأسر لا يملكه المشتري منهم فكان إعتاقه إياه باطلا, وإن كان المشتري اشتراه بأمره رجع عليه بالثمن لأنه مكاتب على حاله فيصح أمره المشتري بشرائه في كسبه كما يصح أمر الحر الأسير بذلك فيرجع عليه بما أدى لأنه أدى مال نفسه في تخليصه بأمره وإن كان أصابه المسلمون في غنيمة أخذه مولاه بغير شيء قبل القسمة وبعدها وهو مكاتب على حاله لأن الكفار لم يملكوه بالأسر فلا يملكه المسلمون أيضا وكذلك الجواب في أم الولد والمدبر, وإن كاتب الحربي المستأمن عبدا في دار الإسلام فهو جائز كما لو أعتقه بمال أو بغير مال فإن مات عن مال أديت كتابته والباقي ميراث للحربي إن جاء بالعبد من دار الحرب لأنه مولاه وهو حربي مثله, ألا ترى أنه كان(7/427)
ص -204- ... متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب والحربي يرث الحربي وإن كان اشتراه في دار الإسلام وهو مسلم أو كافر كان الباقي لبيت المال لأن الحربي لا يرث المسلم ولا المعاهد والعبد الكافر الذي اشتراه في دار الإسلام بمنزلة المعاهد حتى لو عتق كان معاهدا لا يترك ليرجع إلى دار الحرب ولا يرثه الحربي بخلاف العبد الحربي فإنه لو عتق فهو حربي على حاله فيرثه الحربي فإن لحق الحربي بدار الحرب فالمكاتب مكاتب على حاله لأن حكم الأمان باق فيما خلفه في دار الإسلام فإن بعث بما عليه إليه عتق لبراءة ذمته وإن ظهر المسلمون على الدار فقتل الحربي أو أسر عتق المكاتب لبراءة ذمته عن بدل الكتابة فإنه لم يبق للمولى ولا لورثته حق مرعي بعد ما قتل أو أسر ولم يخلفه السابي في ملك بدل الكتابة لأن الدين في الذمة لا يتصور ورود القهر عليه والملك للسابي بطريق القهر ولأن يد المكاتب فيما في ذمته أسبق فيملك ما في ذمته وتسقط عنه المكاتبة فلهذا عتق وكذلك إن أسر من غير أن يظهروا على الدار لأن نفسه بالأسر قد تبدل وخرج من أن يكون أهلا لملك المال ولم يخلفه وارثه في ذلك لبقائه حيا في حق ورثته, فأما إذا قتل ولم يظهر المسلمون على الدار فالكتابة دين عليه يؤديه إلى ورثة مولاه لأنهم يخلفونه فيما كان لمولاه حين لم يقع الظهور عليهم وكما وجب عليه مراعاة الأمان فيما خلفه في دار الإسلام لحقه فكذلك يجب مراعاته لحق ورثته حربي كاتب عبده في دار الحرب ثم أسلما جميعا أو صارا ذمة أجزت ذلك لأن الكتابة تعتمد التراضي كالبيع والشراء فكما يبقى بيعهم وشراؤهم بعد إسلامهم فكذلك الكتابة فإن خرجا مستأمنين والعبد في يديه على حاله فخاصمه في المكاتبة أبطلتها كما أبطل العتق والتدبير في دار الحرب منهم إذا خرجوا بأمان, ألا ترى أن رجلا منهم لو قهر رجلا فأسراه ثم خرج إلينا وهو في يديه كان له أن يبيعه فكذلك المكاتب لأنه في حكم القاهر لمولاه فيما في ذمته فلهذا(7/428)
بطلت المكاتبة وإن كان المولى قاهرا حين أخرجه إلى دار الإسلام فهو عبده كما لو كان أعتقه ثم قهره هو أو غيره وأخرجه إلى دار الإسلام كان عبدا له, ولو كاتبه ثم خرج العبد مسلما عتق وبطلت عنه الكتابة لأنه قهر لمولاه حين أحرز نفسه بدار الإسلام مسلما أو ذميا ولو فعل ذلك وهو عبد ملك نفسه حتى يعتق فكذلك إذا فعله وهو مكاتب يملك ما في ذمته فيسقط عنه ويكون حرا مسلم تاجر في دار الحرب كاتب عبده أو أعتقه أو دبره كان جائزا استحسانا وفي القياس لا يجوز شيء من ذلك منه لأنه فعله حيث لا يجري حكم المسلمين وتنفيذ هذه التصرفات من أحكام المسلمين.
ووجه الاستحسان أنه مسلم ملتزم لأحكام الإسلام وإن كان في دار الحرب وكذلك العبد مسلم ليس بمحل الاسترقاق بعد حق العتق أو حقيقته فوجود هذا التصرف منهما في دار الحرب كوجوده في دار الإسلام وكذلك لو كان العبد كافرا قد اشتراه في دار الإسلام لأن الذمي في أنه ليس بمحل الاسترقاق كالمسلم فإن كان العبد كافرا قد اشتراه في دار الحرب وكاتبه فأدى وعتق ثم أسلم أجزته على المسلم استحسانا(7/429)
ص -205- ... وفي القياس هو عبد له لأنه معتق له بالكتابة واستيفاء البدل فكأنه أعتقه قصدا وقد بينا أن إعتاق المسلم العبد الحربي في دار الحرب لا يجوز لأن غرضه الاسترقاق فلا ينفذ العتق فيه من المسلم كما لا ينفذ من الحربي وللاستحسان فيه وجهان:
أحدهما أن المسلم ضمن له ترك التعرض له بعد ما يؤدي بدل الكتابة إليه فعليه الوفاء بما ضمن لأن التحرز عن الغدر واجب على المسلم في دار الحرب, ألا ترى أنه لا يحل له أن يأخذ شيئا من أموالهم سرا فللوفاء بما ضمن جعلناه حرا.
والثاني أن المسلم إنما يتملك بالقهر إذا أحرزه بدار الإسلام وذلك لا يوجد منه هنا لأن دار الحرب ليس بدار له فلا يتملكه قبل الإسلام وبعد الإسلام يستحيل أن يتملك الحر المسلم بالقهر وعلى هذا الطريق الاستحسان في الكتابة والعتق جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المكاتبة تلد من مولاها
قال: "رضي الله تعالى عنه وإذا ولدت المكاتبة من مولاها خيرت فإن شاءت أبطلت الكتابة وكانت أم ولد له وإن شاءت مضت وأخذت العقر" لأنه تلقاها جهتا حرية أحدهما عاجل ببدل والآخر آجل بغير بدل فتختار أيهما شاءت ونسب ولدها ثابت من المولى بالدعوة وهو حر لأن المولى مالك للإعتاق في ولدها, وإن اختارت المضي على الكتابة أخذت العقر من مولاها لإقراره بوطئها.(7/430)
ثم إن مات المولى عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة وإن ماتت هي وتركت ما لا يؤدي مكاتبتها منه وما بقي ميراث لابنها وإن لم تترك مالا فلا سعاية على هذا الولد لأنه حر وإنما السعاية على ولد هو تبع لها في الكتابة حتى إذا كانت ولدت ولدا آخر فنفاه المولى أو لم يدعه فإن نسبه لا يثبت منه لأنها مكاتبة لا يحل للمولى وطؤها فلا يثبت النسب منه إلا بالدعوة, وإذا ماتت سعى هذا الولد فيما بقي عليها فإن مات المولى بعد ذلك عتق الولد وبطلت عنه السعاية لأنه بمنزلة أم الولد كأمه فيعتق بموت المولى فإن ادعى المولى حبل مكاتبته فضرب إنسان بطنها بعد ذلك بيوم فألقت جنينا ميتا فإن في الولد غرة لأبيه لأنه عتق بدعوته كما لو ادعاه بعد الانفصال وبدل الجنين الحر الغرة وكان ميراثا لأبيه لأن الأم مكاتبة بعد فلا ترث شيئا ولكنها تأخذ العقر من المولى إذا اختارت المضي على المكاتبة وإذا ولدت المكاتبة من المولى ومضت على الكتابة ثم ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى إلا أن يدعي لأنها محرمة عليه باعتبار بقاء الكتابة فلا يلزمه نسب ولدها إلا بالدعوة فإن كان الولد بنتا فولدت هذه الابنة بنتا ثم أعتق المولى الابنة السفلى عتقت هي وحدها لأنها داخلة في كتابة الجدة ومملوكة للمولى فتعتق بإعتاقه إياها, وإن أعتق الابنة الأولى عتقت هي والابنة السفلى في قول أبي حنيفة.(7/431)
ص -206- ... وعلى قول أبي يوسف ومحمد رضوان الله عليهم أجمعين لا تعتق السفلى ولكنها تكون مع الجدة على حالها لأن السفلى تبع للجدة في الكتابة بمنزلة ولد آخر لها ولو كان لها ولدان فأعتق المولى أحدهما لم يعتق الآخر, والدليل على هذا أن الجدة لو ماتت كان على العليا والسفلى السعاية فيما عليها من بدل الكتابة, وإذا أدت السعاية إحداهما لم ترجع على الأخرى بشيء وإن الجدة في حال حياتها أحق بكسبها لتستعين به على مكاتبتها وهذا لأن العليا تبع ولا تبع للتبع فعرفنا أنهما في الحكم بمنزلة الولدين من الجدة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول مع هذا السفلي جزء من العليا كما أن العليا جزء من الجدة ثم لو أعتق المولى الجدة عتقت العليا فكذلك إذا أعتق العليا عتقت السفلى والسفلى تبع للجدة كما قالا ولكن بواسطة العليا ولا تتحقق هذه الواسطة إلا بعد جعل السفلى تبعا للعليا ولو أعتق العليا قبل انفصال السفلى منها عتقت السفلى بلا شك فكذلك بعد الانفصال لأن معنى التبعية بالانفصال لا ينقطع لبقاء عقد الكتابة وإذا ولدت المكاتبة من مولاها ثم أقر المولى أنها أمة لفلان لم يصدق وإن صدقته في ذلك لأن حق أمية الولد قد ثبت لها واستحق المولى ولاءها فلا يصدقان على إبطاله.(7/432)
فإن قال المدعي بعتك بألف درهم ولم تنقد الثمن وقال المولى زوجتني والأمة معروفة للمدعي فعلى المولى المهر يستوفيه المدعي قصاصا من الثمن لأنهما يتصادقان على وجوبه عليه وإن اختلفا في سببه وليس عليه قيمة في الأم ولا في الولد لأن تعذر استردادها كان بإقرار المدعي ببيعها منه ألا ترى أنه لو أنكر ذلك تمكن من استردادها لكونها معروفة أنها له وإن لم تكن معروفة أنها للمدعى ضمن له القيمة لأن تعذر استردادها لم يكن بإقراره بالبيع ولكن كان بالاستيلاد الموجود من المستولد, ألا ترى أنه وإن أنكر البيع لم يتمكن من استردادها وقد أقر المستولد أنها ملك المقر له احتبست عنده فيضمن قيمتها له بعد أن يحلف بالله ما اشتريتها منه بما يدعي من الثمن لأنه لو أقر بالشراء لزمه الثمن فإذا أنكر يحلف على ذلك والله أعلم.
باب الأيمان في العتق
قال: "وإذا قال الرجل لعبده إن بعتك فأنت حر فباعه لم يعتق" لأن أوان نزول العتق المتعلق بالشرط بعد وجود الشرط وبعد البيع هو ليس بمملوك له فلا يعتق إلا أن يكون البيع فاسدا فيعتق لأن بعد وجود الشرط هو باق على ملكه فإن البيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه إلا أن يكون سلمه إلى المشتري قبل البيع فحينئذ يزول ملكه بنفس البيع فلا يعتق ولو قال إذا دخلت الدار فأنت حر فباعه فدخل الدار لم يعتق إلا على "قول ابن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول يعتق ويبطل البيع وكذلك مذهبه في الفصل الأول لأن التعليق قد صح في الملك فينزل العتق من جهته عند وجود الشرط ولا يعتبر قيام ملكه في المحل عند ذلك كما لا يعتبر قيام الأهلية في المولى حتى لو جن ثم دخل الدار عتق".(7/433)
ص -207- ... ولكنا نقول المتعلق بالشرط إنما يصل إلى المحل عند وجود الشرط فلا بد من قيام ملكه في ذلك الوقت ليعتق من جهته والأهلية إنما يحتاج إليها لصحة التكلم وتكلمه عند التعليق لا عند وجود الشرط فيستقيم أن يجعل عند وجود الشرط كالمنجز للعتق بذلك الكلام الذي صح منه فإن اشتراه بعد هذا فدخل الدار لم يعتق أيضا لأن يمينه انحلت بوجود الشرط في غير الملك إذ ليس من ضرورة انحلال اليمين نزول الجزاء وإن لم يدخل الدار بعد البيع حتى اشتراه فدخل عتق عندنا لبقاء اليمين إلى وقت وجود الشرط في ملكه.
ولا يعتق عند الشافعي رحمه الله لبطلان اليمين بزوال الملك فإن اليمين كما لا ينعقد عنده إلا في الملك لا يبقى بعد زوال الملك, فإن قال إذا دخلت هاتين الدارين فأنت حر فباعه فدخل إحداهما ثم اشتراه فدخل الأخرى عتق لوجود الملك عند تمام الشرط.
وعند زفر رحمه الله لا يعتق لأنه يعتبر قيام الملك عند وجود نفس الشرط كما يعتبره عند تمام الشرط وقد بينا هذا في الطلاق فإن دخل إحداهما قبل البيع ثم باعه فدخل الأخرى لم يعتق لأن الشرط قد تم في غير ملكه وأوان نزول الجزاء ما بعد تمام الشرط.(7/434)
ولو قال له إذا دخلت هذه الدار فأنت حر إذا كلمت فلانا فباعه ثم دخل الدار ثم اشتراه فكلم فلانا لم يعتق لأنه جعل شرط العتق الكلام وعلق ذلك اليمين بدخول الدار, والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فيصير عند دخول الدار كأنه قال له أنت حر إذا كلمت فلانا ولو قال ذلك لم يصح لأنه ليس في ملكه عند دخول الدار فلهذا لا يعتق وإن كلم فلانا في ملكه بخلاف الأول فإن هناك عقد اليمين في الحال وجعل دخول الدارين شرطا للعتق وقد وجد الملك عند التعليق وعند تمام الشرط فلهذا يعتق ولو قال إذا دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فباعه فدخل الدار ثم اشتراه لم يعتق إن مات لأنه علق التدبير بدخول الدار فيصير كالمنجز له عند الدخول والتدبير لا يصح إلا في الملك أو مضافا إلى الملك فإذا لم يكن في ملكه عند دخول الدار لم يصر مدبرا فلا يعتق بموته ولو قال إن دخلت دار فلان فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه قد دخل الدار فهو حر لأن الدخول فعل العبد وصاحب الدار في شهادته على فعل العبد كغيره فيثبت الشرط بشهادتهما ولو قال إن كلمت فلانا فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه قد كلمه لم يعتق لأن كلام فلان قوله باللسان والإنسان لا يصلح أن يكون شاهدا على فعل نفسه فلم يبق على الشرط إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يثبت الشرط فإن شهد ابنا فلان أنه قد كلم أباهما فإن جحد الأب ذلك جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما بالكلام وعلى المولى بوجود الشرط وإن كان أبوهما يدعي ذلك فشهادتهما باطلة.
في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى جائزة في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه لا منفعة في المشهود به لأبيهما ومحمد رحمه الله تعالى يعتبر المنفعة للتهمة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يعتبر الدعوة والإنكار لأنهما يشهدان لأبيهما ويظهران صدقه فيما يدعي وقد تقدم بيان(7/435)
ص -208- ... هذه المسألة في كتاب النكاح, وإذا حلف الرجل بعتق عبد بينه وبين آخر لا يدخل دارا ثم اشترى نصيب الآخر فدخل الدار عتق النصف الأول خاصة لأن تعليقه في ذلك النصف صحيح لوجود الملك وقت التعليق فيصير كالمنجز للعتق في ذلك النصف عند وجود الشرط.
ومن أصل أبي حنيفة أن من أعتق نصف عبده يسعى العبد في النصف الآخر وعندهما يعتق كله فهذا مثله.
قال: "ولو كان باع النصف الأول ثم اشترى نصف شريكه ثم دخل الدار لم يعتق" لأن الشرط وجد بعد زوال ملكه فيما صح فيه التعليق وهو النصف الأول ولم يكن التعليق صحيحا في النصف الذي استحدث الملك فيه بعد التعليق فلهذا لا يعتق ولو جمع بين عبده وبين ما لا يقع عليه العتق من ميت أو اسطوانة أو حمار فقال أحدكما حر أو قال هذا حر أو هذا عتق عبده في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يعتق إلا أن يعنيه لأن ما عين عبده في كلامه بل ردد الكلام بينه وبين غيره فلا يتعين عبده إلا بنية كما لو جمع بين عبده وعبد غيره فقال أحدكما حر ولأنه لما ضم إليه ما لا يتحقق فيه العتق صار تقدير الكلام كأنه قال لعبده أنت حر أولا, ولو قال ذلك لم يعتق بدون النية.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول وصف أحدهما بالحرية والعبد محل لهذا الوصف دون الاسطوانة والحمار فيتعين لذلك ويلغو ضم الاسطوانة إليه كما لو أوصى بثلث ماله لحي وميت كانت الوصية كلها للحي ولأن كلامه ايجاب للعتق فيتعين له المحل الذي يصلح لإيجاب العتق فيه وهو الحي دون الميت والاسطوانة وهذا لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن بخلاف عبد الغير فإنه محل بأن يوصف بالعتق ومحل الإيجاب العتق أيضا ولكن يصير موقوفا على إجازة المالك فلهذا لا يتعين عبده هناك.(7/436)
وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا جمع بين عبده واسطوانة وقال أحدهما حر عتق عبده لأن كلامه إيجاب للحرية ولو قال هذا حر أو هذا لم يعتق عبده لأن هذا اللفظ ليس بإيجاب للحرية بمنزلة ما لو قال هذا حر اولا ثم ذكر في بعض النسخ من الأصل بابا من كتاب الولاء وشرح ذلك يأتي بتمامه في كتاب الولاء
انتهى شرح كتاب العتاق من مسائل الخلاف والوفاق أملاه المستقيل للمحن بالإعتاق المحصور في طرف من الآفاق حامدا للمهيمن الرزاق ومرتجيا إلى لقائه العزيز بالأشواق ومصليا على حبيب الخلاق وعلى آله وأصحابه خير الصحب والرفاق.(7/437)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثامن
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(8/1)
ص -3- ... كتاب المكاتب
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله الكتابة لغة هو الضم والجمع يقول كتب البغلة إذا جمع بين سفريها بحلقة ومنه فعل الكتابة لما فيها من الضم والجمع بين الحروف فسمي العقد الذي يجري بين المولى وعبده بطريق المعاوضة كتابة إما لأنه لا يخلو عن كتبة الوثيقة عادة ولهذا سمي مكاتبة على ميزان المفاعلة لأن العبد يكتب لمولاه كما يكتب المولى لعبده ليكون في يد كل واحد منهما ما يتوثق به أو سمي كتابة لأن المولى به يضم العبد إلى نفسه في إثبات صفة المالكية له يدا فإن موجب هذا العقد ثبوت المالكية للعبد يدا في نفسه وكسبه لأن المالكية عبارة عن ضرب قوة وقد ثبتت له هذه القوة بنفس العقد حتى يختص بالتصرف في منافعه ومكاسبه ويذهب للتجارة حيث شاء ولهذا لا يمنعه المولى من الخروج للسفر ولو شرط عليه أن لا يخرج كان الشرط باطلا لأن ذلك ثابت له بضرورة هذه المالكية
ومقصود المولى من إثبات هذه المالكية له أن يتمكن من أداء المال بالتكسب وربما لا يتمكن منه إلا بالخروج من بلدة إلى بلدة.(8/2)
وموجب العقد ما يثبت بالعقد المطلق ثم عتقه عند أداء المال لإتمام هذه المالكية لأن العقد معاوضة فيقتضى المساواة بين المتعاقدين وأصل البدل يجب للمولى في ذمته بنفس العقد ولكن لا يتم ملكه إلا بالقبض لأن الذمة تضعف بسبب الرق فإن صلاحية الذمة لوجوب المال فيها من كرامات البشر وذلك ينتقض بالرق كالحل الذي ينبني عليه ملك النكاح ولهذا لا يثبت الدين في ذمة العبد إلا متعلقا بمالكية رقبته وهذا لا يتحقق فيما كان واجبا للمولى لأن المالكية حقه فلهذا كان ما يجب له ضعيفا في ذمته فثبت للعبد بمقابلته مالكية ضعيفة أيضا ثم إذا تم الملك المولى بالقبض تتم المالكية للعبد أيضا وتمام المالكية لا يكون إلا بالعتق فيعتق لضرورة إتمام المالكية ثم جواز هذا العقد ثبت بالنص قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}[النور: من الآية33].
وبظاهر الآية يقول داود ومن تابعه إذا طلب العبد من مولاه أن يكاتبه وقد علم المولى فيه خيرا يجب عليه أن يكاتبه لأن الأمر يفيد الوجوب.
وقال بعض مشايخنا الأمر قد يكون لبيان الجواز والإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ(8/3)
ص -4- ... فَاصْطَادُوا}[المائدة: من الآية2] وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: من الآية33].
مذكور على وفاق العادة والعادة أن المولى إنما يكاتب عبده إذا علم فيه خيرا ولكن هذا ضعيف فإنه إذا حمل على هذا لم يكن مفيدا شيئا وكلام الله تعالى منزه عن هذا ولكن نقول الأمر قد يكون للندب والإباحة ثابتة بدون هذا الشرط والندب متعلق بهذا الشرط فإنما ندب المولى إلى أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا, ثم الكتابة قد تكون ببدل منجم مؤجل وقد تكون ببدل حال عندنا بظاهر الآية فالتنجيم والتأجيل زيادة على ما يتلى في القرآن ومثل هذه الزيادة لا يمكن إثباتها بالرأي فعرفنا أنه ليس بشرط بل هو ترفيه, والشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز الكتابة إلا مؤجلا منجما أقله نجمان.
قال لأن العبد يلتزم الأداء بالعقد والقدرة على التسليم شرط لصحة إلتزام التسليم بالعقد وهو يخرج من يد مولاه مفلسا فلا يقدر على التسليم إلا بالتأجيل والاكتساب في المدة فإذا كان مؤجلا منجما كان ملتزما تسليم ما يقدر على تسليمه فيصح وإذا كان حالا فإنما يلتزم تسليم ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح العقد.
توضيحه أن صفة الحلول تفوت ما هو المقصود بالكتابة لأنه يثبت للمولى حق المطالبة عقيب العقد والعبد عاجز عن الأداء ويتحقق عجزه بفسخ العقد فيفوت ما هو المقصود وكل وصف يفوت ما هو المقصود بالعقد يجب نفيه عن العقد وذلك لا يكون إلا بالتنجيم والتأجيل.
قال وهذا بخلاف السلم على أصله فإن المسلم إليه قبل العقد كان من أهل الملك والعاقل لا يلتزم إلا تسليم ما يقدر على تسليمه فعرفنا قدرته على التسليم بهذا الطريق وهنا العبد قبل العقد لم يكن أهلا للملك فيتيقن بعجزه عن التسليم في الحال ولأن بعقد السلم يدخل ملك المسلم إليه بدل بقدرته على تسليم المسلم فيه في الحال وهو رأس المال وهنا بالعقد لا يدخل في ملك العبد شيء بقدرته على تسليم البدل في الحال.(8/4)
"وحجتنا" في ذلك أن البدل في باب الكتابة معقود به كالثمن في باب البيع والقدرة على تسليم الثمن ليس بشرط لصحة الشراء فالقدرة على تسليم البدل في باب الكتابة مثله وهذا لأن العقد إنما يرد على المعقود عليه فتشرط القدرة على تسليم المعقود عليه ولهذا لا يجوز البيع إلا بعد أن يكون المبيع مملوكا للبائع مقدور التسليم له ولهذا شرطنا الأجل في السلم لأن المسلم فيه معقود عليه وهو غير مقدور التسليم في الحال لأنه غير مملوك للمسلم إليه وقدرته على التسليم لا تتحقق إلا بملكه فلا يجوز إلا مؤجلا ليثبت قدرته على التسليم بالتحصيل في المدة ولأن الكتابة عقد إرفاق.
فالظاهر أن المولى لا يضيق على المكاتب ولا يطالبه بالأداء ما لم يعلم قدرته عليه إلا أنه لا يذكر الأجل ليكون متفضلا في تأخير المطالبة منعما عليه كما كان في الأصل العقد وليمتحنه بما تفرس فيه من الخير حتى إذا تبين له خلافه تمكن من فسخ العقد وبه فارق السلم(8/5)
ص -5- ... لأنه مبني على الضيق والمماكسة, فالظاهر أنه لا يؤخر عنه بعد توجه المطالبة له اختيارا فلهذا لا يجوز إلا بذكر الأجل ليثبت به قدرته على التسليم, ثم يعتق المكاتب بأداء المال سواء قال له إذا أديت إلي فأنت حر أو لم يقل له.
وللشافعي قول أنه لا بد من أن يضمر هذا بقلبه ويظهر بلسانه, وهذا بعيد لما بينا أن العتق عند الأداء حكم العقد وثبوت الحكم بثبوت السبب والقصد إلى الحكم والتكلم به بعد مباشرة العقد ليس بشرط كما في البيع فإن اضمار التمليك بالقلب وإظهاره باللسان ليس بشرط لثبوته عند مباشرة البيع فهذا مثله وإن عجز عن أول نجم منها أو كانت حالة فلم يؤدها حين طالبه بها رد في الرق لتغير شرط العقد وتمكن الخلل في مقصود المولى, وقد بينا خلاف أبي يوسف في كتاب العتاق ويستوي إن شرط ذلك في الكتابة أو لم يشرط.
وحكى بن أبي ليلى قال هذا إذا شرط عند العقد أن يرده في الرق إذا كسر نجما فإن لم يشترط ذلك فما لم يكسر نجمين لا يرد في الرق وهذا فاسد لأن تمكن الخلل فيما هو مقصود العاقد يمكنه من الفسخ سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشترط كوجود العيب بالمبيع وهذا لأن موجب العقد الوفاء بمقتضاه وبدونه ينعدم تمام الرضا وانعدام تمام الرضا في العقد المحتمل للفسخ يمنع ثبوت صفة اللزوم والعاقد في العقد الذي لا يكون لازما متمكن من الفسخ شرط ذلك أو لم يشترط كما في الوكالة والشركة
فإن كاتبه على ألف منجمة فإن عجز عن نجم فمكاتبته ألفا درهم لم تجز هذه المكاتبة لأن هذا العقد لا يصح إلا بتسمية البدل كالبيع وفي باب البيع لا تصح التسمية بهذه الصفة لكونها مترددة بين الألف والألفين(8/6)
فكذلك في المكاتبة وهذا في معنى صفقتين في صفقة واحدة وقد ورد النهي في ذلك ثم فيه تعليق وجوب بعض البدل بالخطر وهو عجزه عن أداء نجم وهذا شرط فاسد تمكن فيما هو من صلب العقد وهو البدل فيفسد به العقد وقد قررنا هذا الأصل في العتاق وإن كاتبه على ألف درهم على نفسه وماله وللعبد ألف درهم أو أكثر فهو جائز ولا يدخل بينه وبين عبده ربا قال عليه الصلاة والسلام "لا ربا بين العبد وسيده" ثم مقصود المولى الإرفاق بعبده واشتراط مال العبد للعبد في الكتابة يحقق هذا المقصود لأنه كما لا يتمكن من الكسب إلا بمنافعه لا يتمكن من تحصيل الربح إلا برأس مال له فلتحقق معنى الإرفاق صح اشتراط ماله له, والربا هو الفضل الخالي عن العوض والمقابلة إذا كان مستحقا بمعاوضة محضة فما يكون بطريق الإرفاق كما قررنا لا يكون ربا فإن كان في يده مال سيده لم يدخل ذلك في الكتابة لأنه شرط له في العقد مالا مضافا إليه وإضافة المال إلى المرء إما أن يكون بكونه ملكا له أو لكونه كسبا له والعبد ليس من أهل الملك فالإضافة إليه لكونه كسبا له بل يده فيه يد مولاه فهو كسائر الأموال التي في يد المولى وإنما يدخل في هذه التسمية كسبه من مال ورقيق وغير ذلك لأنه مضاف إليه شرعا قال عليه الصلاة والسلام "من باع عبدا وله مال وكذلك ما كان سيده وهبه له أو وهبه له غيره بعلمه أو بغير علمه لأن ذلك كله(8/7)
ص -6- ... كسبه فإنه حصل له بقبوله وعدم علم المولى لا يخرجه من أن يكون كسبا له فيدخل ذلك كله في هذه التسمية.
ثم موجب عقد الكتابة أن يكون هو أحق بكسبه واشتراط ما اكتسبه قبل العقد ليس من جنس ما هو موجب العقد فيكون داخلا في هذا الإيجاب, فأما مال المولى الذي ليس من كسب العبد ليس بجنس ما هو موجب العقد فلا يستحقه بهذه التسمية وإن كاتبه على أن يخدمه شهرا فهو جائز استحسانا.
وفي القياس لا يجوز لأن الخدمة غير معلومة وفيما لا يصح إلا بتسمية البدل لا بد من أن يكون المسمى معلوما ثم خدمته مستحقة لمولاه بملكه رقبته وإنما يجوز عقد الكتابة إذا كان يستحق به المولى ما لم يكن مستحقا له ولكنه استحسن فقال أصل الخدمة معلوم بالعرف ومقداره ببيان المدة وإنما تكون الجهالة في الصفة وذلك لا يمنع صحة تسميته في الكتابة كما لو كاتبه على عبد أو ثوب هروي ثم المولى وإن كان يستخدمه قبل الكتابة فلم يكن ذلك دينا له في ذمة العبد وبتسميته في العقد يصير واجبا له في ذمته فهو بمنزلة الكسب كان مستحقا لمولاه قبل العقد وإنما يؤدي بدل الكتابة من ذلك الكسب ولكن لما كان وجوبه في الذمة بالتسمية في العقد صح العقد بتسميته وكذلك إن كاتبه على أن يحفر له بئرا قد سمى طولها وعرضها وأراه مكانها أو على أن يبني له دارا قد أراه آجرها وجصها وما يبني بها فهو على القياس, والاستحسان الذي قلنا وإن كاتبه على أن يخدم رجلا شهرا فهو جائز في القياس لأن المولى إنما يشترط الخدمة لنفسه ثم يجعل غيره نائبا في الاستيفاء فهو واشتراطه الاستيفاء بنفسه سواء إلا أنه قال هنا يجوز في القياس بخلاف الأول لأن خدمته لم تكن مستحقة لذلك الرجل قبل العقد وإنما تصير مستحقة بقبوله بالعقد فأما خدمته لمولاه وحفر البئر وبناء الدار كان مستحقا له قبل العقد بملك رقبته وذلك الملك يبقى بعد الكتابة فبهذا الحرف يفرق بينهما في وجه القياس وإن كاتبه على ألف درهم يؤديها إلى غريم(8/8)
له فهو جائز لأنه شرط المال لنفسه بالعقد ثم أمره بأن يقضي به دينا عليه وجعل الغريم نائبا في قبضه منه وقبض نائبه كقبضه بنفسه, وكذلك إن كاتبه على ألف درهم يضمنها لرجل عن سيده فالكتابة والضمان جائزان وهذا ليس بضمان هو تبرع من المكاتب بل هو التزام أداء مال الكتابة إلى من أمره المولى بالأداء إليه ولا فرق في حقه بين أن يلتزم الأداء إلى المولى وبين أن يلتزم الأداء إلى من أمره المولى بالأداء إليه وإن ضمن لرجل ما لا بغير إذن سيده سوى الكتابة لم يجز لأنه إنما يضمن المال ليؤديه من كسبه وكسبه لا يحتمل التبرع فكذلك التزامه بطريق التبرع ليؤديه من كسبه لا يجوز وهذا لأنه بقى عبدا بعد الكتابة ولا يجب المال في ذمة العبد إلا شاغلا لمالية رقبته أو كسبه فإذا كان بطريق التبرع لم يكن شغل كسبه فلا يثبت دينا في ذمته للحال وكذلك إن أذن له المولى في ذلك لأن المولى ممنوع من التبرع بكسبه فلا يعتبر إذنه في ذلك وبه فارق القن فإنه لو كفل بإذن مولاه صح لأن المولى مالك للتبرع بمالية(8/9)
ص -7- ... رقبته وكسبه. فإذا أذا أذن له في هذا الالتزام يثبت المال في ذمته متعلقا بمالية رقبته فكان صحيحا, وإن ضمن عن السيد لغريم له بمال على أن يؤديه من المكاتبة أو قبل الحوالة به فهو جائز لأنه لا يتحقق معنى التبرع في هذا الالتزام فإنه مطلوب ببدل الكتابة سواء كان طالبه به المولى أو المضمون له ولأن دين الكتابة وجب في ذمته شاغلا لكسبه حتى يؤديه من كسبه فما يلتزم أداؤه من الكتابة فهو متمكن من أداء ذلك من كسبه فلهذا صح هذا الضمان وإن كاتبه على مال منجم ثم صالحه على أن يعجل بعضها ويحط عنه ما بقي فهو جائز لأنه عبده ومعنى الإرفاق فيما يجري بينهما أظهر من معنى المعاوضة فلا يكون هذا مقابلة الأجل ببعض المال ولكنه إرفاق من المولى بحط بعض البدل وهو مندوب إليه في الشرع ومساهلة من المكاتب في تعجيل ما بقي قبل حل الأجل ليتوصل به إلى شرف الحرية وهو مندوب إليه في الشرع أيضا بخلاف ما لو جرت, هذه المعاملة بين حرين لأن معنى المعاوضة فيما بينهما يغلب على معنى الإرفاق فيكون هذا مبادلة الأجل بالدراهم ومبادلة الأجل بالدراهم ربا وكذلك إن صالحه من الكتابة على شيء بعينه فهو جائز لأن دين الكتابة يحتمل الاسقاط بالإبراء وقبضه غير مستحق فالاستبدال به صحيح كالثمن في البيع وهذا لأن في الاستبدال إسقاط القبض بعوض وإذا جاز إسقاط القبض بما هو إبراء حقيقة وحكما بغير عوض فكذلك بالعوض وإن فارقه قبل القبض لم يفسد الصلح لأنه افتراق عن عين بدين, ألا ترى أنه لو اشترى ذلك الشيء بعينه بما عليه من الكتابة جاز وإن لم يقبضه في المجلس وإن صالحه على عرض أو غيره مؤجل لم يجز لأنه دين بدين ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الكالئ بالكالئ" فإن كاتبه على ألف درهم منجمة على أن يؤدي إليه مع كل نجم ثوبا قد سمى جنسه أو على أن يؤدي مع كل نجم عشرة دراهم فذلك جائز لأن ما ضمه إلى المسمى في كل نجم يكون بدلا مشروطا عليه بمنزلة الألف(8/10)
الذي ذكره أولا والثوب الذي هو مسمى الجنس يصلح أن يكون بدلا في الكتابة لأنه مبني على التوسع فكان هذا بمنزلة قوله كاتبتك على كذا وكذا وهو صحيح.
يتضح فيما ذكر بعده أنه لو قال له على أن تؤدي مع مكاتبتك ألف درهم لأنه لا فرق بين أن يقول كاتبتك على ألف درهم مع ألف درهم أو يقول على ألف درهم وألف درهم وإذا ثبت أن جميع ذلك بدل فإذا عجز عن أداء شيء منه بعد حله رد في الرق وإن كاتبه على ألف درهم فأداها ثم استحقت من يد المولى فالمكاتب حر لوجود شرط عتقه وهو الأداء والعتق بعد وقوعه لا يحتمل الفسخ فالأداء وإن بطل بالاستحقاق بعد الوجود لا يبطل العتق ولأن المكاتبة لم تقع على هذه الألف بعينها يريد به أن بدل الكتابة كان في ذمته وما يؤديه عوض عن ذلك فإن الديون تقتضى بأمثاله لا بأعيانها وبدل المستحق مملوك للمولى بالقبض والمكاتب قابض لما في ذمته فيكون مملوكا له وإن كان بدله مستحقا, ومن ملك ما في ذمته سقط عنه ذلك فلهذا كان حرا ويرجع عليه السيد بألف مكانها لأن قبضه قد انتقض(8/11)
ص -8- ... بالاستحقاق فكأنه لم يقبض أو وجد المقبوض زيوفا فرده فلهذا رجع بألف مكانها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ما لا يجوز من المكاتبة
قال: رضي الله عنه "وإذا كاتب الرجل عبده على قيمته لم يجز" لأن عقد الكتابة لا يصح إلا بتسمية البدل كعقد البيع والقيمة مجهول الجنس والقدر عند العقد فلم تصح تسميته وهو تفسير العقد الفاسد فإن موجب الكتابة الفاسدة القيمة بعد تمامها فإذا أدى إليه القيمة عتق لأن العقد انعقد مع الفساد فينعقد موجبا لحكمه, والأصل أن العقد الفاسد معتبر بالجائز في الحكم لأن صفة الفساد لا تمنع انعقاد أصل العقد بل تدل على انعقاده فإن قيام الوصف بالموصوف فإن الصفة تبع وبانعدام التبع لا ينعدم الأصل ثم العقود الشرعية لا تنعقد إلا مفيدة للحكم في الحال أو في الثاني ولا يمكن تعرف حكم العقد الفاسد من نفسه لأن الشرع لم يرد بالإذن فيه فلا بد من أن يتعرف حكمه من الجائز ولأن الحكم يضاف إلى أصل العقد لا إلى صفة الجواز والذي يتعلق بصفة الجواز لزوم العقد بنفسه وذلك لا يثبت مع الفساد فأما حكم العتق عند أداء البدل مضاف إلى أصل العقد وأصل العقد منعقد وقد وجد أداء البدل لأنا إن نظرنا إلى المسمى فهو القيمة وإن نظرنا إلى الواجب شرعا عند فساد العقد فهو القيمة فلهذا يعتق بأداء القيمة وإن كاتبه على ثوب لم يسم جنسه لم يجز لأن الثياب أجناس مختلفة وما هو مجهول الجنس لا يثبت دينا في الذمة في شيء من المعاوضات كما في النكاح وإن أدى إليه ثوبا لم يعتق
لأنا لم نعلم بأداء المشروط حقيقة فاسم الثوب كما يتناول ما أدى يتناول غيره ولم يوجد أداء بدل الكتابة أيضا حكما لأن بدل الكتابة هو القيمة في العقد الفاسد وبأداء الثوب لا يصير مؤديا القيمة فلهذا لا يعتق, فإن قيل: المسمى ثوب وهذا الاسم حقيقة لما أدى فينبغي أن يعتق وإن لم يكن هذا هو البدل حكما كما لو كاتبه على خمر فأدى.(8/12)
قلنا: نعم المسمى ثوب ولكنا نقول الثياب متفاوتة تفاوتا فاحشا فلا وجه لتعيين هذا الثوب مسمى لأنه لو تعين لم يكن للمولى أن يرجع عليه بشيء آخر فإنه مال متقوم وقد سلم له وفي هذا ضرر عليه فلدفع الضرر عنه لا يتعين هذا مسمى ولأن هذا بمنزلة الاسم المشترك وفي المشترك لا يتعين بمطلق الاسم ولا عموم للاسم المشترك فلهذا لا يعتق بأداء الثوب وكذلك لو كاتبه على خمر أو خنزير أو دار بغير عينها لأن الدار لا تثبت في الذمة في شيء من العقود ولأن اختلاف البلدان والمحال في الدار كاختلاف الأجناس في الثياب ولهذا لو وكله بشراء دار له لم يصح التوكيل, وإن كاتب أمته على ألف درهم على أن يطأها ما دامت مكاتبة لم تجز الكتابة, وقد بينا هذه المسألة بما فيها من الاختلاف والطعن في كتاب العتاق فإن وطئها السيد ثم أدت الكتابة فعليه عقرها لما بينا أن العقد الفاسد معتبر بالجائز في الحكم وفي الكتابة الجائزة يلزمه العقر بالوطء ويتقرر عليه إذا أدت الكتابة فكذلك في الفاسد.(8/13)
ص -9- ... وهذا بخلاف البيع الفاسد فإن البائع إذا وطى ء الجارية المبيعة قبل التسليم ثم سلمها إلى المشتري فأعتقها لم يكن على البائع عقر في الوطء. والفرق بينهما أن الملك للمشتري في البيع الفاسد يحصل عند القبض مقصورا عليه لأن السبب ضعيف فلا يفيد الحكم حتى يتقوى بالقبض فلا يتبين بقبض المشتري أن وطء البائع كان في غير ملكه بل كان وطؤه في ملكه فلا يلزمه العقر ولهذا لو وطئها غير البائع قبل التسليم بشبهة كان العقر للبائع ولو اكتسب كسبا كان ذلك للبائع بخلاف الكتابة فإنها إذا تمت بأداء البدل يثبت الاستحقاق لها من وقت العقد حتى لو وطئت بشبهة كان العقر لها ولو اكتسبت كانت الاكتسابات كلها لها فلهذا يجب العقر على المولى بوطئها. وحقيقة المعنى في الفرق أن موجب الكتابة إثبات المالكية لها في اليد والمكاسب وذلك في حكم المسلم إليها بنفس العقد لمالها من اليد في نفسها إلا أن المولى كان متمكنا من الفسخ والاسترداد لفساد السبب فإذا زال ذلك بالعتق تقرر الاستحقاق لها بأصل العقد ووزانة المبيع بعد قبض المشتري فإنه يكون مملوكا له ويتمكن البائع من فسخ العقد لفساد السبب فإذا زال ذلك بالإعتاق تقرر الملك له من وقت القبض وإذا كاتب عبده مكاتبة فاسدة ثم مات المولى فأدى المكاتبة إلى الورثة عتق استحسانا.(8/14)
وفي القياس لا يعتق لأن العقد الفاسد لكونه ضعيفا في نفسه لا يمنع ملك الوارث ومن ضرورة انتقاله إلى الوارث بطلان ذلك العقد ولو عتق بالأداء إنما يعتق من جهة الوارث والوارث لم يكاتبه ولكنه استحسن فقال ما هو المعقود عليه مسلم إلى العبد بنفس العقد فبموت المولى لا يبطل حقه وإن تمكن الوارث من إبطاله لفساد السبب كالمبيع في البيع الفاسد بعد التسليم فإن البائع إذا مات لا يملكه وارثه ولا يبطل ملك المشتري فيه وإن كان الوارث يتمكن من استرداده وتملكه لفساد السبب حتى لو أعتقه المشتري نفذ عتقه فكذلك هنا بعد الموت يبقى العقد ما لم يفسخه الوارث وإذا بقي العقد كان أداء البدل إلى الوارث القائم مقام المورث كأدائه إلى المورث في حياته فلهذا يعتق به وإن كاتب أمته مكاتبة فاسدة فولدت ولدا ثم أدت المكاتبة عتق ولدها معها اعتبارا للعقد الفاسد بالجائز في الحكم لما بينا أن الاستحقاق إذا تم لها بالأداء فإنه يحكم بثبوته من وقت العقد كما في استحقاق الكسب, وإن ماتت قبل أن تؤدي فليس على ولدها أن يسعى في شيء لأنه إنما يلزمه السعاية فيما كان واجبا على أمه ومع فساد العقد لم يكن عليها شيء من المال فكذلك لا يكون على ولدها فإن استسعاه في مكاتبة الأم فأداه لم يعتق في القياس لأن العقد فاسد والاستحقاق به ضعيف والحق الضعيف في الأم لا يسري إلى الولد.
وفي الاستحسان يعتق هو وأمه مستندا إلى حال حياتها اعتبارا للعقد الفاسد بالجائز في الحكم ولأن الولد جزء منها وكان أداؤه في حياة الأم كأدائها فكذلك بعد موت الأم أداؤه كأدائها. وإن كاتبها على ألف درهم على أن كل ولد تلده فهو للسيد أو على أن تخدمه بعد العتق فالكتابة فاسدة لأن هذا الشرط مخالف لموجب العقد وهو متمكن في صلب العقد فيفسد(8/15)
ص -10- ... به العقد ولأنها بالكتابة تصير أحق بأولادها وإكسابها ولو شرط عليها مع الألف شيئا مجهولا من كسبها لم تصح الكتابة فكذلك إذا شرط مع الألف ما تلده لنفسه لأن ذلك مجهول ثم إن أدت مكاتبتها تعتق وفيه طعن بشر وقد بيناه في كتاب العتاق وإن كاتبها على ألف درهم إلى العطاء أو الدياس أو إلى الحصاد أو إلى نحو ذلك مما لا يعرف من الأجل جاز ذلك استحسانا.
وفي القياس لا يجوز لأن عقد الكتابة لا يصح إلا بتسمية البدل كالبيع وهذه الآجال المجهولة إذا شرطت في أصل البيع فسد بها العقد فكذلك الكتابة ولكنه استحسن.
فقال الكتابة فيما يرجع إلى البدل بمنزلة العقود المبنية على التوسع في البدل كالنكاح والخلع ومثل هذه الجهالة في الأجل لا يمنع صحة التسمية في الصداق فكذلك في الكتابة وهذا لأن الجهالة المستدركة في الأجل نظير الجهالة المستدركة في البدل وهو جهالة الصفة بعد تسمية الجنس فكما لا يمنع ذلك صحة التسمية في الكتابة فكذلك هذا فإن تأخر العطاء فإنه يحل المال إذا جاء أجل العطاء في مثل ذلك الوقت الذي يخرج فيه لأن المقصود وقت العطاء لا عينه فإن الآجال تقدر بالأوقات ولها أن تعجل المال وتعتق لأن الأجل حقها فيسقط بإسقاطها ولها في هذا التعجيل منفعة أيضا وهو وصولها إلى شرف الحرية في الحال, ولو كاتبها على ميتة فولدت ولدا ثم أعتق السيد الأم لم يعتق ولدها معها لأن أصل العقد لم يكن منعقدا فإن الكتابة لا تنعقد إلا بتسمية مال متقوم والميتة ليست بمال متقوم(8/16)
ألا ترى أن البيع به لا ينعقد حتى لا يملك المشتري المبيع بالقبض فكذلك الكتابة وإذا لغي العقد يبقى إعتاق الأم بعد انفصال الولد عنها فلا يوجب ذلك عتق ولدها بخلاف ما إذا كاتبها على ألف درهم مكاتبة فاسدة فولدت ولدا ثم أعتق السيد الأم عتق ولدها معها لأن العقد هناك منعقد مع الفساد فثبت حكمه في الولد اعتبارا للفاسد بالجائز ثم عتق الأم بإعتاق السيد إياها بمنزلة عتقها بأداء البدل فيعتق ولدها معها. وإن كاتبها على ألف درهم وهي قيمتها على أنها إذا أدت فعتقت فعليها ألف أخرى جاز على ما قال لأنه جعل بدل الكتابة عليها ألفي درهم إلا أنه علق عتقها بأداء الألف من الألفين وذلك صحيح فإذا أدت الألف عتقت وعليها الألف الأخرى كما كان الشرط بينهما إذ لا يبعد أن تكون مطالبة ببدل الكتابة بعد عتقها كما لو استحق البدل بعد ما أدت إلى المولى تبقى مطالبة ببدل الكتابة وقد عتقت بالأداء وإن كاتبها على حكمه أو حكمها لم تجز المكاتبة لأنه ما سمى في العقد مالا متقوما فحكمه قد يكون بغير المال كما يكون بالمال فإذا أدت قيمتها لم تعتق لأن أصل العقد لم يكن منعقدا باعتبار أنه لم يسم فيه مالا متقوما فهذا والكتابة على الميتة سواء وإن كاتبها على عبد بعينه لرجل لم يجز وكذلك ما عينه من مال غيره من مكيل أو موزون.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يجوز حتى أنه إن ملك ذلك العين فأداه إلى المولى عتق أو عجز عن أدائه رد في الرق لأن المسمى مال متقوم وقدرته على التسليم بما(8/17)
ص -11- ... يحدث له من ملك فيه موهوم فتصح التسمية كما في الصداق إذا سمى عبد غيره فتصح التسمية بهذا الطريق.
فأما في ظاهر الرواية يقول بأن العتق في عقد المعاوضة يكون معقودا عليه وقدرة العاقد على تسليم المعقود عليه شرط لصحة العقد في العقود التي تحتمل الفسخ وملك الغير ليس بمقدور التسليم للعبد فلا تصح تسميته بخلاف النكاح فشرط صحة التسمية هناك أن يكون المسمى مالا متقوما لا أن يكون مقدور التسليم لأن القدرة على التسليم فيما هو المقصود بالنكاح ليس بشرط لصحة العقد ففيما ليس بمقصود أولى, ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إن ملك ذلك العين فأدى لم يعتق إلا أن يكون المولى قال له إذا أديت إلي فأنت حر فحينئذ يعتق بحكم التعليق, وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن قول زفر رحمه الله تعالى كذلك وهو رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال يعتق بالأداء قال له المولى ذلك أو لم يقل لأن العقد منعقد مع الفساد لكون المسمى مالا متقوما وقد وجد الأداء فيعتق كما لو كاتبه على خمر فأدى.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن ملك الغير لم يصر بدلا في هذا العقد بتسميته لأنه غير مقدور التسليم له إذا لم يسم شيئا آخر معه فلم ينعقد العقد أصلا فإنما يكون العتق باعتبار التعليق بالشرط فإذا لم يصرح بالتعليق قلنا بأنه لا يعتق كما لو كاتبه على ثوب أو على ميتة.(8/18)
وإن قال كاتبتك على هذه الألف درهم وهي لغيرها جازت المكاتبة لأن النقود لا تتعين في عقود المعاوضات فإنما ينعقد العقد بألف هي دين في ذمتها, ألا ترى أن تلك الألف لو كانت من كسبها لم تجبر على أدائها بعينها وإذا أدت غيرها عتقت وكذلك إن قالت كاتبني على ألف درهم على أن أعطيها من مال فلان فالعقد جائز وهذا الشرط لغو لأن الألف تجب في ذمتها فالتدبير في أداء ما في ذمتها إليها, وإذا كاتبها واشترط فيها الخيار لنفسه أولهما جاز ذلك لأن عقد الكتابة يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ بعد انعقاده ويعتمد تمام الرضا فيكون كالبيع في حكم شرط الخيار لهما أو لأحدهما لأن اشتراط الخيار للفسخ بعد الانعقاد ينعدم به تمام الرضا باللزوم فإن ولدت ولدا ثم أسقط صاحب الخيار خياره فالولد مكاتب معها لأن لزوم العقد عند إسقاط الخيار يثبت من وقت العقد
ألا ترى أن في البيع تسلم الزوائد المنفصلة والمتصلة للمشتري إذا تم العقد بالإجازة فكذلك في الكتابة وإن مات المولى قبل إسقاط الخيار والخيار له أو ماتت الأمة والخيار لها فالخيار يسقط بموت من له كما في البيع ويسعى الولد فيما عليها لأنه مولود في كتابتها وإن أعتق المولى نصفها قبل أن يسقط خياره فهذا منه فسخ الكتابة كما لو أعتق جميعها
وإذا انفسخت الكتابة فعليها السعاية في نصف قيمتها في قول أبي حنيفة وكذلك لو أعتق السيد ولدها كان هذا فسخا للكتابة لأن الولد(8/19)
ص -12- ... جزء منها وهو داخل في كتابتها فإعتاقه الولد كإعتاق بعضها وإن كان الخيار لها فالولد يعتق بإعتاق المولى ولا يسقط عنها به شيء من البدل لأن الولد تبع لا يقابله شيء من البدل ولهذا لو مات لا يسقط عنها شيء من البدل وإن كاتبها على ألف درهم تؤديها إليه نجوما واشترط أنها إن عجزت عن نجم فعليها مائة درهم سوى النجم فالكتابة فاسدة لتعلق بعض البدل بشرط فيه خطر وقد تقدم نظير هذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة العبدين(8/20)
قال: رضي الله عنه "وإذا كاتب الرجل عبدين له مكاتبة واحدة على ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه على أنهما إن أديا عتقا وإن عجزا ردا في الرق فهو جائز استحسانا" وقد بيناه في العتاق فإن أدى أحدهما جميع الألف عتقا لوصول جميع المال إلى المولى ولأن أداء أحدهما كأدائهما فإن كل واحد منهما مطالب بجميع المال وهما كشخص واحد في حكم الأداء حتى ليس للمولى أن يأبى قبول المال من أحدهما ثم يرجع المؤدي على صاحبه بحصته حتى إذا كانت قيمتهما سواء رجع بنصفه لأنه تحمل عنه بأمره وكذلك لو أدى أحدهما شيئا رجع على صاحبه بنصفه قل ذلك أو كثر اعتبارا للبعض بالكل بخلاف مال على حرين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فإن أدى أحدهما هناك النصف يكون عن نفسه خاصة لأنه في النصف أصيل والمال على الأصيل أقوى منه على الكفيل وصرف المؤدى إلى الأقوى ممكن لأنه يجوز الحكم ببراءة ذمة أحدهما عن نصيبه قبل براءة الآخر وهنا لا يمكن جعل المؤدى من نصيب المؤدي خاصة لأنه إذا جعل كذلك برئت ذمته عما عليه من البدل فيعتق والحكم بعتق أحدهما قبل وصول جميع المال إلى المولى متعذر فلهذا جعلنا المؤدى عنهما فيرجع على صاحبه بنصفه وللسيد أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال لأن كل واحد منهما التزم جميع المال على أن يكون أصيلا في النصف كفيلا في النصف وإن مات أحدهما لم يسقط عن الحي شيء منها لأنه مات عن كفيل فيبقى عقد الكتابة في حق الميت ببقاء كفيله ولأن الحي منهما محتاج إلى تحصيل العتق لنفسه ولا يتوصل إلى ذلك إلا بأداء جميع المال فلحاجته بقي مطالبا بجميع المال وإن أدى يحكم بعتقهما جميعا وإن أعتق المولى أحدهما تسقط حصته لوقوع الاستغناء له بإعتاق المولى إياه ولأن المولى بإعتاقه إياه يصير مبرئا له عن حصته من بدل الكتابة, وإبراء الأصيل إبراء الكفيل أو يجعل إعتاقه كقبض حصته من البدل منه بطريق أنه أتلفه بتصرفه فلهذا يعتق الآخر بأداء حصته من البدل, ولو(8/21)
كانتا أمتين فولدت إحداهما وأعتق السيد ولدها لم يسقط شيء من المال عنهما لأن الولد تبع لا يقابله شيء من البدل والمولى بإعتاقه لا يكون مبرئا ولا يكون قابضا لشيء من بدل الكتابة.
والمسئلة على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما بينا.
والثاني: أن يكاتبهما على ألف درهم مكاتبة واحدة ولم يزد على هذا وفي هذا إذا أدى(8/22)
ص -13- ... أحدهما حصته من المال يعتق لأن المولى حين أوجب العقد لهما ببدل واحد فقد شرط على كل واحد منهما حصته من المال وكذلك هما بالقبول إنما يلتزم كل واحد منهما حصته فلا يكون للمولى أن يطالب كل واحد منهما إلا بقدر حصته وبالأداء برئت ذمته فيحكم بحريته. والثالث أن يقول المولى إذا أديا عتقا وإن عجزا ردا في الرق ولا يذكر كفالة كل واحد منهما عن صاحبه فعند زفر رحمه الله تعالى جواب هذا الفصل كجواب الثاني يعتق أحدهما بأداء حصته لأن كل واحد منهما لم يلتزم بالقبول إلا حصته, ألا ترى أنه ليس للمولى أن يطالب أحدهما بجميع المال وأن أحدهما إذا أدى جميع المال لم يرجع على صاحبه بشيء بخلاف ما إذا شرط كفالة كل واحد منهما عن صاحبه.
ولكنا نقول لا يعتق واحد منهما ما لم يصل جميع المال إلى المولى لأن ما شرط المولى في العقد يجب مراعاته إذا كان صحيحا شرعا وقد شرط العتق عند أدائهما جميع المال نصا فلو عتق إحداهما بأداء حصته كان مخالفا لشرطه ولأن كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن, ولو عتق أحدهما بأداء حصته لم يبق لقول المولى إن أديا عتقا وإن عجزا ردا.
فائدة وما استدل به زفر رحمه الله تعالى ممنوع فإن عندنا هذا كالفصل الأول في جميع الأحكام فلهذا قلنا ما لم يصل جميع المال إلى المولى لا يعتق واحد منهما رجل كاتب عبدا له على نفسه وعلى عبد له غائب بألف درهم جاز ذلك استحسانا.
وفي القياس الحاضر منهما يصير مكاتبا بحصته من الألف إذا قسم على قيمته وقيمة الغائب لأنه لا ولاية للحاضر على الغائب في قبول العقد في حقه فإنما يصح قبوله في حق نفسه فلا يلزمه إلا حصته من البدل.
والدليل عليه أنه ليس للمولى أن يطالب الغائب بشيء من البدل فعرفنا أن حكم الكتابة لم يثبت في حقه وإنما يثبت في حق الحاضر خاصة وجميع البدل ليس بمقابلته فلا يلزمه إلا حصته من البدل.(8/23)
وجه الاستحسان أن المولى شرط للعتق وصول جميع المال إليه فلا يحصل هذا المقصود إذا أوجبنا على الحاضر حصته فقط ولكن إما أن يجعل كأنه كاتب الحاضر على الألف وعلق عتق الغائب بأدائه وهذا التعليق ينفرد به المولى أو يجعل العقد كأنه بقبول الحاضر منعقدا فيما لا يضر بالغائب لأن تأثير انعدام الولاية للحاضر على الغائب في دفع الضرر عنه لا في منع أصل العقد فإن انعقاد العقد بكلام المتعاقدين وهو مملوك لهما ولهذا جعلنا البيع الموقوف سببا تاما قبل إجازة المالك ولكن لا يثبت به ما يضر بالمالك وهو إزالة ملكه فكذلك هنا لا ضرر على الغائب في انعقاد العقد في حقه ولا في عتقه عند أداء الحاضر إنما الضرر في وجوب البدل عليه فلا يثبت هذا الحكم بقبول الحاضر وهذا هو الأصح فإن أدى الحاضر المال عتقا لانعقاد العقد في حقهما ووصول جميع البدل إلى المولى سواء.
قال في الكتابة إذا أديت فأنتما حران أو لم يقل ولا يرجع على الغائب بشيء لأنه لم(8/24)
ص -14- ... يجب في ذمته شيء من البدل ولو كان واجبا وأدى هذا بغير أمره لم يرجع عليه فإذا لم يكن واجبا فأولى وإن مات الغائب لم يرفع عن الحاضر شيء منه لأنه ما كان على الغائب شيء من البدل ولأن العقد بقي في حق الغائب بعد موته ببقاء من يؤدي بدل الكتابة عنه وإن مات الحاضر فليس للمولى أن يطالب الغائب بشيء من البدل لأنه لم يلتزم له شيئا ولهذا كان لا يطالبه بشيء في حياة الحاضر فكذلك بعد موته, ولكن إن قال الغائب أنا أؤدي جميع المكاتبة وجاء بها وقال المولى لا أقبلها ففي القياس للمولى أن لا يقبل لأنه متبرع غير مطالب بشيء من البدل فيسقط بموت من عليه حين لم يترك وفاء وانفسخ العقد فبقي الغائب عبدا قنا للمولى وكسبه له فيكون له أن لا يقبل المؤدى منه بجهة الكتابة ولكنه استحسن فقال ليس للمولى أن لا يقبل منه ويعتقان جميعا بأداء هذا الغائب لأن حكم العقد ثبت في حق الغائب فيما لا يضر به وذلك بمنزلة البيع بحكم العقد في حق الحاضر فيكون الحاضر مع الغائب هنا بمنزلة مكاتب اشترى ولده ثم مات وقد بينا أن الولد هناك لا يطالب بالبدل ولكن إن جاء به حالا فأدى عتقا جميعا فهذا مثله والمعنى أن الحاضر مات عمن يؤدي البدل ويختار ذلك لتحصيل الحرية لنفسه وهو الغائب فتبقى الكتابة ببقائه بهذه الصفة حتى إذا اختار الأداء يكون أداؤه كأداء الحاضر ولكن لا يثبت الأجل في حقه لأن الأجل ينبني على وجوب المال فإنه تأخير للمطالبة ولا وجوب على الغائب, وإذا كانا حيين فأراد المولى بيع الغائب لم يكن له ذلك في الاستحسان لما بينا أن بقبول الحاضر تم السبب في حق الغائب فيما لا يضره وامتناع بيعه على المولى لا يضره فيجعل قبول الحاضر عنه في هذا الحكم كقبوله بنفسه, وبهذا تبين أن الأصح هذا الطريق دون طريق تعليق عتقه بأداء الحاضر لأن مجرد تعليق العتق بالشرط لا يمنع بيع المولى فيه قبل وجود الشرط, رجل قال لعبده قد كاتبت عبدي فلانا الغائب على كذا(8/25)
على أن تؤديها عنه فرضي بذلك الحاضر فهذا لا يجوز لأن الحاضر هنا مملوك قن لم يدخله المولى في الكتابة والمولى لا يستوجب على عبده دينا, وقد بينا أن بقبول الحاضر لا يمكن إيجاب المال في ذمة الغائب, وجواز عقد الكتابة لا ينفك عن وجوب البدل وإذا لم يجب البدل هنا على أحد لم يجز العقد بخلاف الأول فقد وجب المال هناك على الحاضر لما صار مكاتبا ولكن إن أدى الحاضر هنا المال إلى المولى عتق الغائب استحسانا. وفي القياس لا يعتق لأن العقد صار لغوا حين لم يتعلق به وجوب البدل على أحد.
وجه الاستحسان أن هذا التصرف من المولى إما أن يجعل كتعليقه عتق الغائب بأداء الحاضر وهو ينفرد بهذا التعليق أو يجعل العقد بمباشرة المولى وقبول الحاضر منعقدا في حق الغائب فيما لا يضر به وعتقه عند أداء الحاضر ينفعه ولا يضره فيثبت حكم العقد في حقه بمباشرتهما لأن المولى يستبد بالتصرف الموجب لعتق العبد لا في الزام المال في ذمته والأداء يتحقق بدون تقدم الوجوب كما يتحقق ممن ليس بواجب عليه وهو المتبرع وإن كاتب الحر على عبد لرجل على أن ضمن عنه المكاتبة لم يجز لأنه لم يجب البدل بقبول الحر على العبد(8/26)
ص -15- ... ولا يمكن إيجاب بدل الكتابة على الحر ابتداء بقبوله ولأن الحر لا يضمن عنه ما لم يجب عليه ولو ضمن عنه لسيده ما كان واجبا عليه من بدل الكتابة لم يجز فإذا ضمن ما لم يجب عليه أولى وكذلك إن كان هذا العبد ابنا لهذا الحر وهو صغير أو كبير لأنه لا ولاية للحر على ولده المملوك في إلزام المال عليه فهو كالأجنبي في ذلك, وكذلك عبد وبن له صغير لرجل واحد كاتب الأب على ابنه لم يجز لأن الأب لما لم يدخل في الكتابة لم يلزمه البدل وليس له ولاية على الابن في الزام البدل إياه لكونه مملوكا إلا أنه إن أدى الأب عنه في الوجهين يعتق استحسانا لما بينا رجلان لكل واحد منهما عبد فكاتباهما معا على ألف درهم كتابة واحدة إن أديا عتقا وإن عجزا ردا في الرق.(8/27)
قال يكون كل واحد منهما مكاتبا بحصته لصاحبه حتى إذا أدى حصته من البدل إلى مولاه يعتق لأن كل واحد منهما إنما يستوجب البدل على مملوكه ويعتبر شرطه في حق مملوكه لا في حق مملوك الغير فإنما وجب لكل واحد منهما على مملوكه بقبوله حصته من الألف فإذا أدى فقد برئت ذمته من بدل الكتابة فيعتق بخلاف ما إذا كانا لشخص واحد لأن شرط المولى في حقهما معتبر وقد شرط أنهما لا يعتقان إلا بوصول جميع المال إليه فلهذا لا يعتق واحد منهما هناك بأداء حصته, ولو كاتب عبدا له صغيرا يعقل ويعبر عن نفسه جاز لأنه من أهل العبارة وقوله معتبر عند إذن المولى, ألا ترى أنه لو أذن له في التجارة نفذ تصرفه فكذلك إذا أوجب له الكتابة, وإذا أذن له في القبول فيعتبر قبوله لأن فيه منفعة له وإن كان صغيرا لا يعقل فلا معتبر بقبوله والكتابة لا تنعقد بمجرد الإيجاب بدون القبول. "حر كاتب على عبد لرجل فأدى إليه المكاتبة يعتق ولا يرجع الحر بالمال على العبد ولا على المولى" أما على العبد فلأنه لم يلتزم شيئا من المال ولا أمر الحر بالأداء عنه وأما على المولى ففي القياس له أن يسترد المال لأنه رشاه حيث أعتق عبده فيثبت له حق الرجوع عليه كما لو قال له أعتق عبدك بألف درهم وأعطاها إياه فأعتقه كان له أن يرجع فيما أعطاه ويضمنه إن كان قد استهلكه فكذلك فيما سبق.(8/28)
توضيحه أن المال لو كان واجبا على العبد فضمنه عنه الحر للسيد وأدى كان له أن يرجع عليه فيسترد منه ما أدى إليه فإذا لم يجب المال على العبد أولى, ولكنه استحسن وقال أنه تبرع بأداء المال عنه ولو كان العبد قبل الكتابة ثم أدى حر عنه على سبيل التبرع لم يرجع بالمؤدى على المولى فكذلك الحر إذا كان هو القابل للعقد لأن قبوله كقبول العبد فيما لا يضر به ولأنه لو رجع صار المولى مغرورا من جهته بقبوله وأدائه ودفع الضرر والغرور واجب فلهذا جعلناه متبرعا بأداء بدل الكتابة فلا يرجع به على أحد رجل كاتب عبدين له كتابة واحدة إن أديا عتقا وإن عجزا ردا ثم عجز أحدهما فرده المولى في الرق أو قدمه إلى القاضي فرده وهو لا يعلم بمكاتبة المولى الآخر معه ثم أدى الآخر جميع المكاتبة فإنهما يعتقان جميعا لأنهما كشخص واحد, ألا ترى أنهما لا يعتقان إلا بأداء جميع المال معا وكما(8/29)
ص -16- ... جعلا في حق العتق كشخص واحد فكذلك في العجز فبعجز أحدهما لا يتحقق تغير شرط الكتابة على المولى ما لم يظهر عجز الآخر فلهذا لا ينفذ قضاء القاضي برده في الرق ولأن في هذا القضاء إضرارا بالغائب لأنه يسقط حصة الغائب من البدل لا محالة إذا نفذ قضاء القاضي بعجزه والغائب لا يعتق بأداء حصته فيتضرر من هذا الوجه والحاضر ليس بخصم عن الغائب فيما يضره, وكذلك إن استسعى الغائب بعد ذلك في نجم أو نجمين ثم عجز فرده هو أو القاضي فهذا باطل لأن رد الأول في الرق لما لم يصح صار ذلك كالمعدوم فلا يتحقق العجز بهذا الآخر لتوهم قدرة الأول بالأداء بعد العجز فلهذا لا يصح ردهما في الرق إلا معا وكذلك إذا كاتب الرجلان عبدا واحدا مكاتبة واحدة فغاب أحدهما وقدم الآخر العبد إلى القاضي وقد عجز لم يرده في الرق ما لم يجتمع الموليان لأن العقد واحد باتحاد القابل ولأن من ضرورة الحكم بعجزه في نصيب الحاضر الحكم بعجزه في نصيب الغائب أيضا والحاضر ليس بخصم عن الغائب فلا يرد في الرق ما لم يجتمعا. ولو كان المولى واحدا فمات عن ورثة كان لبعضهم أن يرده في الرق بقضاء القاضي إما لأن كل واحد منهم خصم عن الميت ورده في الرق قضاء على الميت لأنه يبطل به حقه في الولاء ولأن بعض الورثة خصم عن بعض فيما هو ميراث بينهم. ألا ترى أن أحد الورثة إذا أثبت دينا على إنسان بالبينة للميت ثبت في حق الكل وكذلك إذا ثبت عليه دين ولكن لو رده بغير قضاء لم يصح ذلك منه لأن للآخرين رأيا في المسامحة والمهلة معه فلا يكون له ولاية الاستبداد بقطع رأيهم وإن كان المكاتب هو الميت عن ولدين لم يكن للمولى أن يرد أحدهما في الرق حتى يجتمعا لأن كل واحد منهما بانفراده كاف لبقاء عقد الكتابة باعتباره فبعجز أحدهما لا يظهر عجز الميت كما لا يظهر عجزه بعدم أحدهما عند وجود الآخر. ألا ترى أنه لو عجز أحدهما وأدى الآخر عتقا جميعا فلهذا لا يردهما في الرق حتى يجتمعا وإذا كاتب(8/30)
عبدين له مكاتبة واحدة فارتد أحدهما وقتل الآخر فإن الحي لا يعتق ما لم يؤد جميع المكاتبة مراعاة لشرط المولى كما في حال حياة الآخر وإن أدى عتقا جميعا لأنهما في حكم الأداء كشخص واحد فبعد موت أحدهما يبقى العقد في حقه ببقاء من يؤدي بدل الكتابة وهو الحي فلهذا عتقا بأدائه وإن كان المرتد حين قتل ترك له كسبا اكتسبه في ردته فإن المولى يأخذ من ذلك المال جميع المكاتبة لأنه مات عن وفاء فيبقى عقد الكتابة لحاجته إلى تحصيل الحرية ولا يحصل ذلك إلا بأداء جميع المال فلهذا أخذ المولى جميع المكاتبة من تركته ويعتقان جميعا ثم يرجع ورثته على الحي بحصته كما لو أداه في حياته وهذا لأنه مضطر في الأداء حيث لا يتوصل إلى العتق إلا به.
وبهذا تبين فساد استدلال زفر فإن عنده أحدهما إذا أدى لا يرجع على صاحبه وإن عندنا يرجع بعد مقالة المولى إذا أديا عتقا وإن عجزا ردا ثم بقية الكسب ميراث لهم لما بينا في العتاق أن قيام حق المولى في كسبه يمنعنا أن نجعل كسب ردته فيئا فيكون ميراثا لورثته وكذلك إن كان المرتد لحق بدار الحرب أخذ الباقي بجميع المكاتبة لأن أكثر ما فيه أن لحاقه(8/31)
ص -17- ... بدار الحرب كموته والآخر لا يتوصل إلى العتق إلا بأداء جميع البدل فإذا أدى رجع على المرتد بحصته إذا رجع كما يرجع في تركته أن لو مات وإن لم يرجع حتى مات في دار الشرك عن مال وظهر المسلمون على ماله لم يرجع هذا المؤدي فيه بشيء لأن ذلك المال صار فيئا للمسلمين إذ لم يبق فيه للمولى حق حين حكم بحريته والدين لا يبقى في المال الذي صار فيئا وإن وجده قبل القسمة, ألا ترى أن حرا لو استدان دينا ثم ارتد والعياذ بالله ولحق بدار الحرب ولم يخلف مالا هنا فظهر المسلمون عليه وعلى ماله فقتلوه لم يكن لغرمائه على ماله سبيل لأنه صار فيئا وهذا لأن السبي يوجب صفاء الحق في المسبي للسابي ولا يصفو له الحق إذا بقي الدين فيه وإن عجز المكاتب الحاضر والآخر مرتد في دار الحرب لم يرده القاضي في الرق لأن لحاقه بدار الحرب لم يتم لما بقي حق المولى في كسبه ورقبته فهو بمنزلة الغائب في دار الإسلام. وقد بينا أنه إذا كان أحدهما غائبا لا يحكم بعجز الحاضر قبل رجوعه فهذا مثله فإن رد القاضي هذا في الرق لم يكن ردا للآخر حتى إذا رجع مسلما لم يرد إلى مولاه رقيقا لما بينا أن الحاضر ليس بخصم عن الغائب. وإن عجز الغائب لم يظهر بعجز الحاضر, فلهذا لا تنفسخ الكتابة في حق الغائب وإن كان مرتدا في دار الحرب, "رجل كاتب عبدا له وامرأته مكاتبة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثم ولدت ولدا فقتل الولد فقيمته للأم دون الأب" لأنه جزء منها يتبعها في الرق والحرية فيتبعها في الكتابة أيضا فلهذا كان بدل نفسه لها وكسبه وأرش الجناية عليه كله لها وإن قتله المولى فعليه قيمته وكان قصاصا بالكتابة إن كانت قد حلت أو رضيت هي بالقصاص إن لم تكن حلت لأن الأجل حقها فيسقط بإسقاطها كما لو عجلت المال ثم ترجع على الزوج بحصته إذا حلت الكتابة لأنها صارت مؤدية جميع البدل بالمقاصة فترجع على الزوج بحصته بحكم الكفالة ولكن رضاها بسقوط الأجل يعتبر في حقها دون(8/32)
حق الزوج فلهذا لا ترجع عليه إلا بعد حل المال وإن كان في القيمة فضل على الكتابة فذلك الفضل وما ترك الولد من مال فهو للأم دون الأب لأن الولد قتل وهو مملوك وقد كان تبعا للأم في الكتابة فكسبه وما فضل من قيمته يكون لها خاصة وكذلك إن كان الولد جارية فكبرت وولدت ابنة ثم قتلت الابنة السفلى كانت قيمتها للجدة لأن السفلى كالعليا في أنها تابعة للجدة داخلة في كتابتها. وإن ماتت الجدة وبقي الولدان والزوج كان على الولدين من السعاية ما كان على الجدة لأنهما في حكم جزء منها فيسعيان فيما كان عليها وإن أدى أحد الولدين لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه مؤد عن الجدة وكسبه في حكم أداء بدل الكتابة بمنزلة كسب الجدة فلا يرجع على صاحبه بشيء لهذا ولكنه يرجع على الزوج بحصته كما لو أدت الجدة في حياتها جميع البدل رجعت على الزوج بحصته ثم يسلم له ذلك دون الآخر لأنه كسبه وإنما يسلم للجدة من كسبه قدر ما يحتاج إليه لأداء بدل الكتابة وتحصيل الحرية لنفسها فما فضل من ذلك يسلم للمكتسب وهذا هو الذي رجع به فاضل عن حاجتها فيكون للمكتسب خاصة رجل كاتب عبدين له مكاتبة واحدة بألف(8/33)
ص -18- ... درهم وقيمتهما سواء فأدى أحدهما مائتي درهم ثم أعتقه المولى بعد ذلك فإنه يرجع بنصف ما أدى على صاحبه لأنه قبل العتق كان قد استوجب الرجوع على صاحبه بنصف ما أدى قل ذلك أو كثر فلا يبطل ذلك بعتقه لأن عتقه مقرر لحقه لا مبطل له ثم يرفع عن الآخر نصف ما بقي من الكتابة اعتبارا للبعض بالكل وقد بينا أنه لو أعتق أحدهما في حال بقاء جميع الكتابة صار كالقابض للنصف أو كالمبرى ء له عن النصف فكذلك في حق الباقي هنا. وكذلك لو أعتق الذي لم يؤد لأن أداء أحدهما كأدائهما فلا يختلف حكم عتقهما وأيهما عتق فإنه يؤخذ على حالة بمكاتبة صاحبه لأنه بمنزلة الكفيل عنه وقد صحت هذه الكفالة تبعا لعقد الكتابة حين كان مطالبا بجميع المال قبل عتق صاحبه فكذلك يبقى مطالبا بنصيب صاحبه بعد عتقه فإذا أدى رجع به عليه وليس من ضرورة امتناع صحة كفالته ابتداء بما يبقى على صاحبه بعد حريته امتناع بقاء ما كان ثابتا ألا ترى أن الإباق يمنع ابتداء البيع ولا يمنع بقاءه والعدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع بقاءه والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المكاتب(8/34)
قال: رضي الله عنه "قد بينا أن للمكاتب أن يكاتب استحسانا فإن أعتقه بعد الكتابة لم ينفذ عتقه كما قبله" لأنه لا يملكه حقيقة وهو متبرع في إعتاقه وكذلك إن وهب له نصف المكاتبة أو كلها لأنه إبراء بطريق التبرع وكذلك لو قال المكاتب لعبده إذا أعطيتني ألف درهم فأنت حر فهذا باطل ولو أدى لم يعتق لأن تعليق العتق بالشرط لا يصح ممن ليس بأهل للتنجيز كالصبي وهذا بخلاف الكتابة لأنه عقد معاوضة بمنزلة البيع أو أنفع منه في حق المكاتب ولهذا احتمل الفسخ بالتراضي ولو اعتبر معنى التعليق فيه لم يحتمل الفسخ مكاتب كاتب جاريته ثم وطئها فعلقت منه فإن شاءت مضت على الكتابة لأن الاستيلاد لا ينافي ابتداء الكتابة فكذلك بقاءها وإذا اختارت ذلك أخذت عقرها لأن المكاتب فيما يلزمه من العقر بالوطء كالحر وقد بينا أن الحر إذا وطئ مكاتبته يلزمه عقرها لأنها صارت أحق بنفسها فكذلك المكاتب وإن شاءت عجزت نفسها فتكون بمنزلة أم ولده لا يبيعها كما لو استولد المكاتب جاريته فإن عجزت نفسها فأعتقها المولى لم يجز كما لو أعتق جارية من كسب مكاتبه بخلاف ما لو أعتق ولدها لأن الولد داخل في كتابته حتى يعتق بعتقه فيكون مملوكا للمولى فأما الأم لم تدخل في كتابته. ألا ترى أنها لا تعتق بعتقه ولكنها أم ولد له يطأها ويستخدمها فلم تصر مملوكة للمولى لأن ثبوت ملك المولى لضرورة التبعية في الكتابة وامتناع بيعها لأنها تابعة للولد في هذا الحكم لا أنها داخلة في الكتابة. وإن مات الولد لم يكن للمكاتب أن يبيعها أيضا لأن امتناع البيع فيها كان تبعا لحق الولد وحق الولد بموته لا يبطل فكذلك حق الأم وإنما امتنع بيعها تبعا لثبوت نسب ولدها منه وذلك باق بعد موته مكاتب كاتب جاريته ثم استولدها المولى فعليه العقر لها لأنها صارت أحق بنفسها والولد مع أمه بمنزلتها لأنه جزء منها وقد بينا في كتاب العتق أنه لا يمكن الحكم بحرية ولدها مجانا ولا بالقيمة فإن عجزت أخذ(8/35)
ص -19- ... المولى الولد بالقيمة استحسانا لأنها بالعجز صارت أمة قنة للمكاتب والمولى إذا استولد أمة مكاتبه يكون الولد حرا بالقيمة استحسانا والجارية مملوكة للمكاتب بمنزلة المغرور. وإن كان المكاتب هو الذي وطئها ثم مات ولم يترك مالا فإن لم تلد مضت على الكتابة لأن المكاتب مات عن وفاء باعتبار ما عليها من البدل وقد بينا أن الوفاء بمال هو دين له معتبر كالوفاء بالمال العين. وإن كانت ولدت خيرت فإن شاءت رفضت مكاتبتها وسعت هي وولدها في مكاتبة الأول وإن شاءت مضت على مكاتبتها لأنه تلقاها جهتا حرية أما أداء كتابة نفسها لتعتق مع ولدها به أو أداء كتابة المكاتب بعد رفض مكاتبتها لأنها بمنزلة أم الولد والمكاتب إذا مات عن أم ولد له ومعها ولد مولود في الكتابة سعت هي مع ولدها في المكاتبة ويعتقان بالأداء فهذا مثله, ولو كان ترك مالا فيه وفاء بالمكاتبة أديت مكاتبته وحكم بحريته وحرية ولده وتبطل المكاتبة عنها لأنها صارت أم ولد للمكاتب فعتق بموته حين حكمنا بحريته ووقع الاستغناء لها عن أداء مكاتبتها وإن عجزت هي والمولى هو المدعى للولد والمكاتب الأول ميت فالولد حر وعلى المولى قيمته لأن كتابة المكاتب باق بعد موته للوفاء بها وبولدها, وقد بينا أنها لو عجزت في حياة المكاتب أخذ المولى ابنه بالقيمة فكذلك بعد موته وإن كان بالقيمة وفاء بالمكاتبة عتق المكاتب لأن المولى صار مستوفيا لبدل الكتابة بالمقاصة وكانت الأم مملوكة لورثة المكاتب إن كان له وارث سوى المولى وإن لم يكن صارت للمولى بالإرث وكانت أم ولد له لأنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب, "مكاتب كاتب عبده ثم كاتب عبده أمته فاستولدها المكاتب الأول أخذت منه عقرها لما سقط الحد عنده بشبهة حق الملك له فيها بعد عجزها وعجز من كاتبها ومضت على كتابتها" لأنها أحق بنفسها ومكاسبها وولدها بمنزلتها لأنه جزء منها فإن عجزت كان الولد للمكاتب الأول بالقيمة لأن حق المكاتب في كسب(8/36)
مكاتبه كحق الحر فإن الثابت له حق الملك وفي حق الملك المكاتب والحر سواء فكما أن الحر يأخذ ولده بالقيمة في هذه الصورة استحسانا فكذلك المكاتب إلا أن الحر إذا أخذه بالقيمة كان حرا مثله والمكاتب إذا أخذه بالقيمة كان مثله أيضا داخلا في كتابته لأن كسب المكاتب يحتمل الكتابة ولا يحتمل الحرية فإن أعتق المولى هذا الولد نفذ عتقه لأنه لما دخل في كتابته صار ملكا للمولى فإن كاتب المكاتب عبده ثم كاتب الثاني أيضا عبدا له ثم عجز الأوسط فالمكاتب الآخر يصير للمكاتب الأول لأن الأوسط صار عبدا قنا له ومكاتبه أيضا يصير مكاتبا له ولا يكون عجز الأوسط عجزا للآخر فإذا أدى عتق وإن عجز كان عبدا له. ثم ذكر مسألة العتاق إذا ولدت المكاتبة ابنتا ثم ولدت الابنة ابنتا ثم ولدت الابنة ابنتا ثم أعتق المولى إحداهن وقد بينا ذلك بتمامه هناك. "رجل كاتب جاريتين له مكاتبة واحدة ثم استولد إحداهما فالولد حر والأم مع الجارية الأخرى مكاتبة كما كانت ولا خيار لها في ذلك" بخلاف ما إذا كاتب مكاتبة وحدها لأن هناك لها أن تعجز نفسها قبل الاستيلاد وتفسخ الكتابة به فكذلك بعد الاستيلاد وهنا لم يكن لها أن تعجز نفسها قبل الاستيلاد وتفسخ الكتابة لحق الأخرى فإنهما(8/37)
ص -20- ... كشخص واحد فلا يظهر العجز في حق إحداهما دون الأخرى, ألا ترى أن الأخرى لو أدت المكاتبة بعد ما عجزت هذه نفسها عتقا فلهذا لا تخير وكذلك لو كانت إحداهما ولدت بنتا فاستولد السيد البنت لم تصر أم ولد له والولد حر بغير قيمة لأن المكاتبة تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وأولادها وأولاد أولادها وفي هذا تحصيل مقصودها ولأنه لو تحقق عجزها كان ولد الولد حرا بغير قيمة لثبوت نسبه فكذلك قبل عجزها, ومعنى قوله أن الابنة لا تصير أم ولد أنه لا يبطل عنها حكم تبعية الأم في الكتابة لأن مقصود الأم في حقها لا يحصل بالاستيلاد. ألا ترى أنا لو أخرجناها من المكاتبة وجعلناها أم ولد للمولى لم تعتق بأداء المال لأن في هذا تفويت مقصوده فلهذا أبقينا حكم الكتابة فيها حتى تعتق الأم بالأداء, "مكاتبة كاتبت عبدا ثم ولدت ولدا ثم ماتت ولم تدع شيئا".
قال "يسعى الولد فيما على أمه" لأنه مولود في كتابتها ولا يجوز أن يعتبر ما على المكاتب في إسقاط السعاية عنه لأن ذلك دين لا يمكن أداء كتابتها منه قبل حله, ألا ترى أنه لو كان لها على حر دين إلى أجل قضى على الولد بالسعاية فكذلك هنا فإن كان نجم الكتابة إلى سنة فقضى على الولد بالسعاية فعجز عنها عند حله قبل حلول ما على المكاتب أو قبل حلول الدين الذي على الأجنبي فإنه يرد في الرق لأنه قائم مقام الأم ولو عجزت هي في حياتها عن أداء نجم حل عليها ردت في الرق ولا يلتفت إلى مالها من الدين المؤجل على غيرها لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بعد حله فقبل الحلول بمنزلة المعدوم في تحقق عجزها حتى ترد في الرق فكذلك ولدها بعد موتها فإن رد في الرق ثم خرج الدين من الأجنبي أو المكاتب فهو للمولى والولد رقيق له لأن كتابتها قد بطلت بقضاء القاضي برد الولد في الرق فهذا المال كسب أمته فيكون للمولى مع ولدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب كتابة العبد على نفسه وولده الصغار(8/38)
قال: رضي الله عنه "رجل كاتب عبده على نفسه وولده الصغار قال هو جائز" لأنه لو كاتب عبدا حاضرا نفسه وعلى غائب جاز إذا قبل الغائب فهذا مثله أو أولى لأن ولده إليه أقرب من الأجنبي فإن عجز قبل إدراك الولد أو بعده فرد في الرق كان ذلك ردا للولد أيضا لأن الأولاد صغار عاجزون عن الكسب ولأنه ليس عليهم شيء من المال إنما المال على الأب وقد تحقق عجزه فيرد في الرق ويكون ذلك ردا في حق من دخل في العقد تبعا له لأن ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل وهذا بخلاف المكاتبين إذا عجز أحدهما لأن هناك الآخر مطالب بالمال فبعجز أحدهما لا يظهر العجز في حق الآخر وهنا الأولاد لا يطالبون بشيء من المال لأن الأب مملوك لا ولاية له على أولاده في إلزام المال إياهم فلهذا يتم العجز به كما تم العقد بقبوله فإن أدرك ولده فقالوا نحن نسعى في المكاتبة لم يلتفت إليهم لأن المكاتبة قد سقطت برد الأب في الرق وكذلك لو كانوا بالغين حين عجز الأب لأنه ليس عليهم شيء من المال فقدرتهم على(8/39)
ص -21- ... السعاية وعجزهم عنها سواء, وإن مات الأب ولم يدع شيئا سعوا في المكاتبة على النجوم وكان ينبغي في القياس أن لا يثبت النجوم في حقهم ولكن إن جاؤوا بالمال حالا وإلا ردوا في الرق كما بينا في العبد الغائب والحاضر إذا مات الحاضر.
ولكن قال هنا قبول الأب الكتابة في حق أولاده صحيح فيما يرجع إلى مقصوده وعتق الأولاد من مقاصده كعتق نفسه فكما يثبت الأجل ويبقى باعتبار بقائه لتحصيل مقصوده فكذلك يبقى باعتبار بقاء الولد لأنه من مقاصده بخلاف العبد الغائب فإنه لا مقصود للحاضر في عتقه.
توضيحه إن حال الأولاد هنا كحال ولد مولود في الكتابة لأن ذلك الولد كما حدث حدث مكاتبا وهذا الولد كما عقد عقد الكتابة صار مكاتبا.(8/40)
ثم ذلك الولد يسعى على النجوم فهذا الولد مثله يقرره أن سبب الولاية وهو الأبوة ثابت هنا حتى إذا تم سقوط حق المولى بعتقهما كان له الولاية فيعتبر قيام السبب أيضا فيما ينفعهما ولا يضر بالمولى وفي القول بأن الولد يسعى في النجوم منفعة لهما فإن كانوا صغارا لا يقدرون على السعاية ردوا في الرق لتحقق العجز في حق الأب حين لم يخلف ما يؤدي به بدل الكتابة ولا من يؤدي عنه, وإن كانوا يقدرون عليها فسعى بعضهم في المكاتبة فأداها لم يرجع على إخوته بشيء لأنه ما أدى عنهم إذ لم يكن عليهم شيء من المال وإنما أدى عن الأب لأن المال عليه, ألا ترى أنه لو أدى في حياة الأب لم يرجع على إخوته بشيء فكذلك بعد موته فإن ظهر للأب مال كان ميراثا بينهم لاستناد حريتهم إلى ما استند إليه حرية أبيهم ولم يكن لهذا أن يأخذ من تركة الأب ما أدى لأنه متبرع فيما أدى إذ لم يكن مطالبا بشيء من المال كما في حال حياة الأب ولأنه بمنزلة الأب في المكاتبة فإنما يؤدي لتحصيل العتق لنفسه وكسبه فيما يؤدي به البدل ككسب أبيه فلهذا لا يرجع بالمؤدى في تركة أبيه وكان للمولى أن يأخذ كل واحد من الأولاد بجميع المال لا باعتبار أنه دين في ذمته ولكن باعتبار أنه قائم مقام أبيه وفيما هو من حقوق الأب كان قبوله صحيحا في حق الأولاد فيأخذ كل واحد منهما بجميع المال كأنه ليس معه غيره ولهذا لو مات بعضهم لا يرفع عن بقيتهم شيء من المكاتبة كما لو كان معدوما في الابتداء وهذا لأن المكاتبة واحدة في حقهم وفي حق الأب فلا يعتق أحد منهم إلا بوصول جميع المال إلى المولى, فإن أعتق المولى بعضهم رفع عنهم بحصة قيمة المعتق لأن إعتاق المولى بعضهم بمنزلة القبض منه لحصته وفيما يرجع إلى منفعتهم لكل واحد منهم حصة من البدل وإن كان الأب هو القابل لأن العقد مضاف إلى الكل قصدا بخلاف الولد المولود في الكتابة إذا أعتقه المولى فإنه لا يسقط شيء من البدل لأنه كان تبعا في العقد وشيء من(8/41)
البدل لا يقابل التبع, وإن كان فيهم جارية فاستولدها السيد أخذت عقرها وهي مكاتبة على حالها ليس لها أن تعجز نفسها لمكان إخوتها. ألا ترى أنهم لو أدوا عتقت هي أيضا وإن كان الولد كبارا حين كاتب على نفسه وعليهم بغير أمرهم وأدى الكتابة عتقوا؟ ولم يرجع بشيء منها عليهم في هذا الوجه ولا في الوجه الأول لأن بقبوله لم يلزمهم شيء من البدل فكان هو(8/42)
ص -22- ... مؤديا المال عن نفسه لا عنهم رجل كاتب عبدا له وامرأته مكاتبة واحدة على أنفسهما وأولادهما وهم صغار ثم أن إنسانا قتل الولد فقيمته للأبوين جميعا يستعينان بها في الكتابة لأنهما قبلا الكتابة عليهم وحالهما في ذلك على السواء إذ لا ولاية لواحد منهما عليه ولا يمكن جعل هذه القيمة للمولى لأن الولد صار مكاتبا لقبولهما فلا يبقى للمولى سبيل على كسبه ولا على قيمة رقبته فلا بد من أن تؤخذ القيمة منه فتكون للأبوين لأنهما كانا ينفقان عليه في حياته فكانا أحق بحضانته وهذا بخلاف الولد المولود بينهما بعد الكتابة فإن قيمته للأم خاصة لأن ثبوت الكتابة في الولد هناك بطريق التبعية وجانب الأم يترجح في ذلك لأنه جزء منها وهنا ثبوت الكتابة في حق الولد بالقبول والقبول منهما جميعا وإن غاب الأب فأراد المولى سعاية الولد لم يكن له ذلك لأن وجوب المال بقبولهما كان عليهما دون الولد فما بقيا حيين لم يكن على الولد شيء من المال وليس للأبوين سبيل على كسب الولد لأنه مكاتب للمولى مقصودا بالعقد معهما وليس للأبوين سبيل على كسب المكاتب بخلاف الولد المولود في الكتابة فإنه تبع للأم فكانت أحق بكسبه لتستعين به على أداء البدل. وإن مات الولد وترك مالا فماله للأبوين مثل قيمته على ما بينا أنه مكاتب معهما فلا سبيل للمولى على ماله ولكنهما يأخذان ماله فيستعينان به على أداء البدل, وإن أعتق السيد الولد رفعت حصته عن الأبوين لما بينا أن العقد تناوله مقصودا فكان له من البدل حصته وإن لم يكن للمولى أن يطالبه به لانعدام القبول من جهته وصار المولى قابضا بعتقه حصته وإن لم يعتقه وأراد أن يأخذه بشيء من الكتابة لم يكن له ذلك ما بقي أحد الوالدين لأن قبولهما عليه غير معتبر في الإلزام والأبوان هما الأصلان في وجوب المال عليهما بالقبول فما بقي شيء من الأصل لا يظهر حكم الخلف, فإذا ماتا قلنا إن وقعت الكتابة والولد صغير سعى فيها على النجوم(8/43)
بعد موتهما كما يسعى الولد المولود في الكتابة وإن وقعت وهو كبير فعليه أن يؤدي المكاتبة حالة وإلا رد في الرق بمنزلة العبد الحاضر والغائب لأنه لا ولاية للأبوين على الولد الكبير بعد سقوط حق المولى عنه فهو بمنزلة الأجنبي في حقهما فلا يبقى الأجل بعد موتهما لأن الأجل لتأخير المطالبة وهو غير مطالب لانعدام القبول منه أو ممن له ولاية عليه.
فقلنا إن جاء بالمال حالا وإلا رد في الرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة الوصي
قال: رضي الله عنه "وللوصي أن يكاتب عبد اليتيم استحسانا وفي القياس لا يصح ذلك منه" لأنه إرفاق للحال وإعتاق باعتبار المآل.
وجه الاستحسان أن الوصي قائم مقام اليتيم فيما فيه النظر له والكتابة أنظر له من البيع لأن بالبيع يزول ملكه عن العين قبل وصول البدل إليه وبالكتابة لا يزول ملكه عن العين إلا بعد وصول المال إليه وتسقط نفقته عنه في الحال وإذا تعذر وصول المال إليه بعجزه تفسخ للكتابة(8/44)
ص -23- ... فكان عبدا له على حاله فإذا ملك البيع ملك الكتابة بالطريق الأولى فإن وهب المال له بعد الكتابة لم يجز لأنه تبرع بما لا يملكه فلا يصح من جهته ولا من جهة الصبي لأنه ليس بقائم مقامه في التبرع وإن أقر بالقبض صدق لأن المال وجب بعقده وهو يملك مباشرة قبضه فيصح إقراره بالقبض أيضا.
فإن قيل: فعلى قياس هذا ينبغي أن تصح هبته في حق المكاتب لما كان الوجوب بعقده كما لو باعه من إنسان ثم أبرأ المشتري عن الثمن جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
قلنا: لأن في البيع هو كالعاقد لنفسه فيما هو من حقوق عقده ولهذا كان قبض الثمن إليه بعد بلوغ اليتيم فأما في الكتابة هو معبر عن اليتيم ولهذا لا يملك قبض البدل بعد بلوغ اليتيم فيكون هو بالهبة متبرعا بما لا يملكه ولأن هبة البدل من المكاتب إعتاق له والوصي لا يملك الإعتاق فأما الإقرار بالقبض ليس بإعتاق ولكنه إقرار بما يملك الإنشاء فيه.
وإن قال قد كنت كاتبته وأدي إلى لم يصدق لأن الإقرار بالكتابة وقبض البدل إعتاق له.
فإن قيل: أليس أنه يملك إنشاء الكتابة واستيفاء البدل فينبغي أن يصح إقراره به؟
قلنا: إنما يملك الإنشاء لأنه يدخل بتصرفه في ملك اليتيم ظاهرا مثل ما يخرجه عن ملكه وذلك لا يوجد في الإقرار.
فإن قيل: فكذلك إذا أقر باستيفاء البدل بعد ما باشر الكتابة.(8/45)
قلنا: هناك بمباشرة الكتابة يدخل في ملكه ظاهرا مثل ما يخرجه من ملكه ثم بالإقرار بالقبض ليس يخرج من ملكه شيئا إنما يقرر ملكه في البدل بقبضه ولو وكل الوصي بقبض بدل الكتابة جاز لأنه يملك مباشرة القبض بولايته فيصح توكيله به غيره كالأب. فإن كاتبه ثم أدرك اليتيم فلم يرض به فالكتابة ماضية لأنه تصرف نفذ من الوصي في حال قيام ولايته فلا يملك اليتيم إبطاله بعد البلوغ كالبيع وهذا لأن فعله في حال بقاء ولايته كفعل اليتيم بنفسه غير أنه لا يدفع المال إلى الوصي لأن ولاية القبض له كان بطريق نيابته عن اليتيم وقد زال ذلك فهو كدين وجب ليتيم لا بعقد الوصي لا يملك الوصي قبضه بعد بلوغه وهذا لأن العاقد في باب الكتابة سفير. ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك القبض وأنه ليس عليه تسليم المعقود عليه فلا يقبض البدل بحكم العقد أيضا ولكن القبض إلى اليتيم بعد بلوغه ولا يعتق المكاتب إلا بالأداء إليه أو إلى وكيله. وكذلك لو كان القاضي عزل الوصي الذي كان كاتب وجعل غيره وصيا كان قبض البدل إلى الثاني دون الأول حتى لو أدى إلى الأول أو أدى إلى اليتيم لم يعتق. ولا يجوز لأحد الوصيين أن يكاتب بغير إذن صاحبه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويجوز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى بمنزلة بيع أحد الوصيين عبد اليتيم فإن عندهما لا ينفرد به أحدهما لأن الأب أقام رأيهما مقام رأي نفسه ورأي المثنى لا يكون كرأي الواحد.(8/46)
ص -24- ... وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول تصرف الوصي بحكم ولايته ولكل واحد من الوصيين ولاية تامة ولا يجوز للوصي أن يعتق على مال كما لا يعتق بغير مال لأن العبد يخرج من ملك اليتيم بنفس القبول والبدل في ذمة مفلسة كالتاوي وكذلك لا يبيع نفس العبد منه بمال لأنه إعتاق بجعل. ألا ترى أنه إذا صح عتق بنفس القبول قبل أداء المال بخلاف الكتابة ولا يجوز للوصي أن يكاتب إذا كانت الورثة كبارا غيبا كانوا أو حضورا لأنه ليس له على الورثة الكبار ولاية وإنما له حفظ المال عليهم فإنما يملك التصرفات فيما يرجع إلى الحفظ والكتابة ليست من هذه الجملة. ألا ترى أنه لا يبيع العقار.(8/47)
قال: "وكذلك لو كانوا صغارا فأدركوا ثم كاتبه الوصي لم يجز كما لو كانوا كبارا" ألا ترى أنهم لو كاتبوه بأنفسهم صح منهم وإنما ثبت الولاية للوصي في حال لا يملك المولى عليهم مباشرة التصرف بنفسه. وكذا إن كان بعض الورثة كبارا فأبوا أن يجيزوا كتابة الوصي لم تجز مكاتبته لأنه لا ولاية له في نصيب الكبار والصغير لو كان بالغا فكاتب نصيبه بنفسه كان للآخر أن يفسخ الكتابة فكذا إذا فعله الوصي. وإن كانت الورثة صغارا وعلى الميت دين فكاتب الوصي عبدا من تركته لم يجز. وإن كان الدين لا يحيط بماله لأن حق الغريم مقدم وما لم يصل إليه كمال حقه لا يسلم شيء من التركة إلى الوارث فلا يمكن تصحيح كتابته للغريم إذ ليس للوصي عليه ولاية ولا لليتيم لأنه لا يسلم له شيء إلا بعد وفاء الدين ولا للميت لأن حقه في تفريغ ذمته ويتأخر ذلك في كتابته فلهذا لم يجز عقده إلا أن يستوفي الغريم حقه من بقية التركة فحينئذ تنفذ الكتابة لأن المانع قيام حق الغريم وقد زال ذلك بوصول دينه إليه وكذلك إن كان مكان الدين وصية بالثلث لأنه لا ولاية للوصي على الموصى له في كتابة نصيبه وثلث العبد بالوصية صار له فلا تنفذ الكتابة من الوصي فيه كما لو كان بعض الورثة كبارا رجل أوصى بثلث ماله وله عبيد لا مال له غيرهم وترك يتامى صغارا فكاتب الوصي بعض الرقيق فأدى إليه جميع المكاتبة فإنه يعتق حصة الورثة منه لأن ثلثي المكاتب كان مملوكا لهم والوصي قائم مقامهم في الكتابة
ولو كانوا بالغين فكاتبوا واستوفوا البدل عتق نصيبهم فكذلك إذا فعله الوصي فيأخذ الموصى له من المكاتب حصته لأن ثلث العبد بموت الوصي صار له وإنما أدى بدل الكتابة من كسبه وثلث الكسب حقه فكان له أن يستوفي ذلك من الوصي وله أن يضمن الورثة حصته من العبد إن كانوا أغنياء لأنهم معتقون له وأحد الشريكين إذا أعتق وهو موسر يكون ضامنا لنصيب شريكه والصبي لا ينفي اليسار فلا يمنع وجوب ضمان العتق أيضا(8/48)
وقد بينا في العتاق أن الرق لا يمنع وجوب ضمان العتق فالصبي أولى لأن الرق ينافي حقيقة الملك والصبي لا ينافيه وليس له أن يضمن الوصي شيئا لأن الوصي نائب عن الورثة بمنزلة الوكيل لهم بعد البلوغ فلا يكون معتقا وإنما يجب الضمان على المعتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة الأمة الحامل
قال: رضي الله تعالى عنه "رجل كاتب أمة له حاملا فما في بطنها داخل في كتابتها ذكر(8/49)
ص -25- ... أو لم يذكر كما يدخل في بيعها" لأنه جزء منها ولأنها لو حبلت بعد الكتابة وولدت كان الولد داخلا في كتابتها فإذا كان موجودا عند العقد أولى فإن استثنى ما في بطنها لم تجز الكتابة كما لو باعها واستثنى ما في بطنها وهذا لأنه بالاستثناء يشترط ما في بطنها لنفسه وهو شرط فاسد متمكن في صلب العقد فتبطل به الكتابة كما لو استثنى وطأها أو خدمتها لنفسه وإن كاتب ما في بطنها دونها لم يجز كما لو باع ما في البطن وهذا لأن ما في البطن بمنزلة جزء منها فلا يحتمل الكتابة مقصودا ولأن الكتابة لا تتم إلا بالقبول والقبول من الجنين لا يتحقق وليس لأحد عليه ولاية القبول الأم وغيرها فيه سواء لأن القابل لا يمكن أن يجعل نائبا فإن نيابة الغير شرعا فيما يكون متصورا من المنوب عنه وإن كاتبها وهي حامل فولدت ثم ماتت سعى الولد في مكاتبتها على نجومها لأنه جزء منها انفصل بعد ثبوت حكم الكتابة فيها والنجوم تبقى ببقاء مثل هذا الجزء وإن كان عليها دين سعى فيه أيضا لأن هذا الجزء قائم مقامها وهي في حياتها كانت تسعى في الدين والكتابة جميعا فإن أدى الولد المكاتبة قبل الدين عتق وأخذه الغرماء بالدين حتى يسعى لهم فيه استحسانا.(8/50)
وفي القياس لا يعتق لأن كسب الولد فيما يرجع إلى حاجتها ككسبها وإنما يبدأ من كسبها بالدين قبل الكتابة لأن الدين أقوى من الكتابة. ألا ترى أنه لا يسقط عنها بالعجز ولكنه استحسن فقال الولد قائم مقامها وهي في حياتها لو أدت الكتابة قبل الدين عتقت وكان للغرماء أن يطالبوها بالدين فكذلك الولد إذا أدى وهذا لأن ذمة الولد خلف عن ذمتها ولهذا بقيت النجوم ببقاء الولد فهما دينان في ذمته, فإذا قضي أحدهما من كسبه صح قضاؤه ولا سبيل للغرماء على ما أخذه المولى لأن حقهم في ذمته فيطالبونه بأن يسعى لهم كما لو كانت هي التي أدت الكتابة في حياتها, وإن عجز عن المكاتبة رده القاضي رقيقا وبيع في الدين للغرماء كما لو عجزت هي في حياتها وهذا لأن الدين ثابت في ذمته والدين في ذمة الرقيق يثبت متعلقا بمالية الرقبة فيباع فيه. وإن كان المولى قد قبض منه شيئا من المال فهو سالم له كما لو كان أخذ منها في حياتها وهذا لأنه بمنزلة غريم من الغرماء وللمكاتب أن يقضي بعض غرمائه ويسلم المقبوض للقابض عتق المكاتب أو عجز لأنه في قضاء الدين بكسبه كالحر, وإذا قتل الولد خطأ أخذت الدية من عاقلة القاتل فيبدأ منها بقضاء الدين لأن بدل نفس الولد بمنزلة كسبه وذلك في حاجتها بمنزلة مالها فيبدأ منه بقضاء الدين ثم بالكتابة لأن الذمة لما خربت تعلقت الحقوق بالمال فيبدأ بالأقوى والدين أقوى من الكتابة ثم تقضى الكتابة بعد ذلك والباقي يكون لورثة الابن دون ورثة الأم لأنه يحكم بعتقها وعتق الولد بأداء المكاتبة ولا حق لها فيما كان فاضلا عن حاجتها من بدل نفس الولد وكسبه. ألا ترى أن الولد لو كان حيا كان الفضل سالما له فكذا يسلم لورثته بعد موته ويستوي إن كاتبها وهي حامل أو ولدت في كتابتها, وإن ماتت الأم وتركت مالا وفاء بالدين الذي عليها فقبض المولى ذلك من الكتابة تعتق الأم والولد إذا كان الولد هو الذي أدى إليه لأنه خلف عنها فأداؤه كأدائها إلا أن الغرماء(8/51)
أحق بذلك المال(8/52)
ص -26- ... يأخذونه من المولى لأن حقهم تعلق بمالها بعد الموت كما يتعلق حق غرماء الحر بماله بعد موته وحقهم أقوى من حق المولى وليس للأبن ولاية إبطال حقهم فلهذا أخذوا المال منه ثم يرجع هو على الابن ببدل الكتابة ولكن لا يبطل العتق كما لو استحق المقبوض من البدل وهذا بخلاف ما إذا لم تترك مالا وأدى الولد الكتابة من كسبه لأن هناك حق الغرماء في ذمته كحق المولى وهو مكاتب قائم مقام الأم فيملك تخصيص بعض الغرماء بقضاء الدين من كسبه, وإن كان المولى هو الذي قبض مالها من غير أداء الولد إليه لم يعتق لأن هذا مال الغرماء فالمولى غاصب في أخذه لا مستوف لبدل الكتابة بخلاف ما إذا أدى الولد لأنه يكون مؤديا بدل الكتابة بمال هو حق غيره, ألا ترى أنه لو كان في يدها مال مغصوب لإنسان فغصب المولى ذلك منها لم تعتق ولو أدت إليه بجهة الكتابة عتقت فكذلك بعد موتها وإن كان القاضي دفعه إليه وهو لا يعلم أن عليها دينا فهو بمنزلة الباب الأول تعتق هي وولدها لأن أداء القاضي كأداء الولد أو أقوى منه لأن القاضي له ولاية قضاء دين الميت من ماله كما يكون لمن يخلفه ذلك, وإن أعتق المولى ولدها في حياتها عتق ولم يرفع عنها شيء من الكتابة لأنه تبع محض لا يقابله شيء من البدل إذا لم يكن من أهل القبول وقت عقد الكتابة فهو كالولد المولود في الكتابة وإن ماتت ولم تترك مالا فأعتق المولى الولد جاز العتق لأنه قائم مقامها ولو أعتقها المولى جاز العتق, وإن كان عليها دين وبقي حق الغرماء في ذمتها فكذلك إذا أعتق ولدها وهذا لأن حق غرمائها لا يتعلق بذمة الولد ما بقيت الكتابة إنما يتعلق بالكسب وبالعتق لا يفوت شيء من محل حقهم فلا يمنع نفوذ العتق من المولى ولا يفوت الغرماء شيء من محل حقهم ولا يضمن للغرماء شيئا ولكن الولد يسعى لهم في الدين كما كان يفعله قبل العتق, رجل كاتب أمته وهي حبلى أو حبلت من بعد ثم أعتق نصفها قبل أن تلد عتق من الولد مثل ذلك(8/53)
لأن الجنين تبع لها وثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل فلهذا يعتق منه بقدر ما عتق منها وهي بالخيار إن شاءت سعت في نصف المكاتبة وإن شاءت سعت في نصف القيمة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن العتق عنده يتجزى وقد تلقاها جهتا حرية الكتابة والسعاية فتختار أيتهما شاءت, فإن ماتت بعد ما ولدت يسعى الولد فيما على أمه لأنها بمنزلة المكاتبة سواء اختارت السعاية في نصف المكاتبة أو نصف القيمة والولد مولود في كتابتها فيسعى فيما عليها ولا يسعى في شيء من قيمة نفسه لأن ثبوت العتق في نصفه بطريق التبعية للأم فلا ينقلب مقصودا فيما كان فيه تبعا. وإن كان عليها دين يسعى الولد في جميع الدين أيضا لأنه قائم مقامها فيما كان عليها من الدين والكتابة وهذا لأنه لا يعتق إلا بعتقها فكان هذا والولد المولود في الكتابة سواء, وإن أعتقه المولى لم يبطل عنه الدين لأن الدين قد ثبت في ذمته على أن يؤدي من سعايته باعتبار خلافته عنها فلا يبطل بإعتاق المولى إياه كما لا يبطل بإعتاق المولى إياها, وإن كان هذا الولد جارية فعلقت من المولى ثم مات المولى عتقت بجهة الاستيلاد لأنها كانت كالمكاتبة للمولى وسعت في الدين الذي على أمها كما لو كان المولى أعتقها في حياته ولم تسع في المكاتبة لأن(8/54)
ص -27- ... سعايتها في المكاتبة كان لتحصيل العتق لنفسها وقد عتقت ولأن المولى بإعتاقه إياها بعد موت الأم يصير مبرئا لها عن بدل الكتابة, ألا ترى أنه لو أعتق أمها في حياتها كان مبرئا لها عن بدل الكتابة فكذلك الولد ويستوي إن أعتقها قصدا أو بالاستيلاد, وإذا كاتب الرجل أمة فولدت ولدا فجنى على الولد جناية أو اكتسب مالا فجميع ذلك للأم لأنه تابع لها في الكتابة فكسبه وأرش طرفه لها وليس للولد أن يمنع شيئا منها. وإن كان كبيرا فإن عتقا ثم ماتت الأم فذلك ميراث عنها سواء كانت أخذت منه أو لم تأخذ بخلاف ما يكتسبه الولد بعد موتها وهذا لأن في حال بقاء الأصل لا عبرة للتبع فكان كسب الولد ككسبها, ولو اكتسبت ثم عتقت وماتت كان كسبها ميراثا عنها سواء كان في يدها أو في يد غيرها فكذلك كسب ولدها فأما بعد الموت فات ما هو الأصل ولكن بقي الولد خلفا عنها فيما كان من حاجتها وحاجتها إلى أداء البدل لتعتق به فلهذا كان ماوراء ذلك من كسب الولد له, وإن مات الولد بعد العتق من تلك الجراحة كان جميع قيمته للأم لأن الجاني صار قاتلا له فإن بالعتق لا تنقطع السراية هنا حين لم يتبدل المستحق, وإذا صار قاتلا له وهو مكاتب وقت جنايته فيكون الواجب عليه القيمة ويكون ذلك سالما للأم وإن مات الولد عن مال وورثة أحرار ثم ماتت الأم قبل أن تأخذه ولم تترك شيئا فذلك المال مالها لأن سبب الاستحقاق تم لها في حياتها فلا يبطل حقها بموتها ولكن القيمة مالها ويأخذ المولى منه المكاتبة والباقي ميراث عنها ويجوز لولد المكاتبة أن يبيع ويشتري لأنه بمنزلة أمه مكاتب فيملك التصرف, وإن كان كسبه لها بحكم التبعية في الكتابة فإن لحقه دين ثم ماتت الأم سعى في جميع ذلك كما كان يسعى في حياتها فإن اكتسب مالا قضى منه الدين الذي عليه وعلى أمه وسعى في الكتابة لأنه مع لحوق الدين إياه هو قائم مقام الأم بعد موتها فيسعى في جميع ما عليها, وإن مات بدى ء بدينه لأن دينه(8/55)
في ذمته أقوى من حيث أنه أسبق تعلقا وأنه أصيل فيه لمباشرة سببه فيبدأ من كسبه بدينه ثم بدين أمه ألا ترى أن المكاتبة لو أذنت لعبدها في التجارة فلحقه دين ثم ماتت كان غرماء العبد أحق بمالية الرقبة من غرمائها فكذلك الولد وهذا لأن كسبه لها بعد ما يفرغ من حاجته فإن حاجة المكتسب في كسبه مقدم على حاجة غيره مكاتبة ولدت بنتا فكبرت وارتدت ولحقت بالدار ثم أسرت لم تكن فيئا لأنها مكاتبة تبع لأمها والمكاتبة لا تملك بالأسر فتحبس حتى تتوب أو تموت كما لو كانت الأم هي التي فعلت ذلك.
وبهذا ونحوه يتبين فساد قول من يقول من أصحابنا أن أحدا لا يتكاتب على أحد فإن الابنة لو لم تصر مكاتبة حقيقة لصارت فيئا بالأسر. فإن ماتت المكاتبة عن غير وفاء فإن القاضي يخرج الابنة من الحبس حتى تسعى فيما على أمها لأن حبسها لحق الشرع وحق الأمة والمولى فيها وفي سعايتها مقدم على حق الشرع, ألا ترى أن الأمة إذا ارتدت لم تحبس ولكنها تدفع إلى المولى يستخدمها ويحبسها فكذلك الابنة هنا تخرج لتسعى فيما على أمها مكاتبة ولدت ولدا ثم قتلها الولد فقتلها بمنزلة موتها وليس عليه من جنايته شيء لأنه جزء منها فكأنها جنت على نفسها ولأنه لو جنى على غيرها كان موجب جنايته في كسبه وكسبه لها فلو وجب لها(8/56)
ص -28- ... بجنايته شيء إنما يجب فيما هو من حقها فلا يكون مفيدا. وإن جنت الأم جناية على إنسان ثم ماتت قبل أن يقضي عليها بشيء سعى الولد في الجناية والكتابة لأنه قائم مقامها وهي في حياتها كانت تسعى فيها فإن عجز نظر فإن كان القاضي قضى لولي الجناية بالقيمة فهو بمنزلة الدين على الولد يباع فيه, وإن كان القاضي لم يقض لولي الجناية بشيء بطلت الجناية بعجزه كما لو عجزت في حال حياتها قبل قضاء القاضي ثم ماتت وهذا لأن حق ولي الجناية في رقبتها وإنما يصير دينا في ذمتها بقضاء القاضي فإذا ماتت قبل القضاء بطل حقه لفوات محله فكذلك هنا والله أعلم بالصواب.
باب مكاتبة الرجلين(8/57)
قال: "وإذا كاتب الرجلان عبدهما مكاتبة واحدة فأدى إلى أحدهما حصته لم يعتق نصيبه منه ما لم يؤد جميع المكاتبة إليهما" لأن العقد واحد في حق المكاتب فلا يعتق شيء منه بأداء بعض البدل كما لو كان لرجل واحد وهذا لأن المقبوض غير سالم للقابض بل لشريكه أن يستوفي منه نصفه لأنه مال وجب لهما بسبب واحد عوضا عما هو مشترك بينهما فكان أداؤه إلى أحدهما كأدائه إليهما وإن أعتقه أحدهما جاز لأنه مالك لنصيبه متمكن من إعتاقه بعد الكتابة كما كان متمكنا منه قبل ذلك وكذلك إن وهب له نصيبه من المكاتبة أو أبرأه عنه عتق لأنه لو كان مالكا لجميعه كان معتقا له بإبرائه عن جميع البدل فكذلك إذا كان مالكا لبعضه كان معتقا لحصته بإبرائه إياه عن حصته من البدل بمنزلة ما لو قال له أنت حر بخلاف ما لو استوفى حصته وهذا لأن ما أسقط بالهبة والإبراء نصيبه خاصة فيتحقق به براءة ذمة المكاتب عن نصيبه فأما المستوفي ليس بنصيبه خاصة حتى كان لشريكه أن يشاركه فلا يتم براءة ذمته عن نصيبه بهذا الاستيفاء, وكذلك إن سلم الشريك للقابض ما قبض أو كان قبض نصيبه بإذن شريكه لأنه لا يتم سلامة المقبوض له بهذا أيضا حتى لو عجز الغلام كان المأخوذ بينهما نصفين وهذا لأنه إنما سلم المقبوض بشرط أن يسلم له ما في ذمة المكاتب فإذا فات شرطه بالعجز رجع بنصف ما قبض كالمحال عليه إذا مات مفلسا يعود الدين إلى ذمة المحيل, ثم المكاتب بالخيار بعد إعتاق أحدهما إياه إن شاء عجز ويكون الشريك بالخيار بين التضمين والسعاية في نصف القيمة والعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبين العتق والسعاية إن كان المعتق معسرا لأنه بتعجيزه نفسه انفسخت الكتابة فيكون حكمه حكم عبد مشترك بين اثنين يعتقه أحدهما.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يضمن المعتق نصف قيمته إن كان موسرا ويسعى العبد في نصف قيمته إن كان معسرا كما هو مذهبه في العبد المشترك.(8/58)
وعلى قول محمد رحمه الله يضمن الأقل من نصف القيمة ونصف ما بقي من الكتابة وكذلك يسعى العبد في الأقل عند عسرة المعتق لأن وجوب الضمان والسعاية لدفع الضرر عن الشريك ويندفع الضرر عنه بإيجاب الأقل كأن حقه وقت الإعتاق كان في الأقل
ألا ترى أنه يعتق نصيبه باتصال ذلك إليه والضرر يندفع عنه باتصال حقه إليه.(8/59)
ص -29- ... وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول اعتبار الأقل بحكم بقاء الكتابة وحين عجز نفسه فقد انفسخت الكتابة فكان حق الساكت في نصف العبد عينا ولا يندفع الضرر عنه إلا باتصال نصف القيمة إليه ولا معنى لاعتبار الأقل بعد ذلك وإن اختار المضي على المكاتبة ثم مات عن مال كثير أخذ المولى الذي لم يعتق نصف المكاتبة من ماله كما كان يطالبه به في حياته ثم الباقي بعد ذلك لورثته. وإذا كاتب الرجلان عبدين بينهما مكاتبة واحدة إن أديا عتقا وإن عجزا ردا فإنه يكون كل واحد منهما مكاتبا بينهما على حدة بحصته وذلك بأن يقسم المسمى على قيمتهما فيكون كل واحد منهما مكاتبا بحصته, وإذا أدى أحدهما حصته إليهما عتق بخلاف ما لو كانا لرجل واحد لأن هناك كل واحد منهما يمكن أن يجعل ملتزما لجميع البدل البعض بطريق الأصالة والبعض بطريق الكفالة مراعاة لشرط المولى والمالك واحد فلا يكون ذلك منهما كفالة على الحقيقة فأما هنا نصف كل واحد منهما لمالك على حدة فلو جعلنا كل واحد منهما مطالبا بجميع البدل كان بحكم الكفالة في البعض وفي نصف ذلك كفالة من كل واحد منهما عن مملوك هو لغير مولاه فيكون كفالة حقيقة ولا تصح الكفالة من المكاتب ولا ببدل الكتابة فلهذا كان كل واحد منهما مطالبا بحصته خاصة يعتق بأداء ذلك إليهما كما لو كاتبه كل واحد منهما بعقد على حدة عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فللشريك أن يرد المكاتبة.
وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى ليس له ذلك بمنزلة ما لو أعتق أحدهما نصيبه أو بمنزلة ما لو باع أحدهما نصيبه لأن تصرف المكاتب لاقى خالص ملكه.(8/60)
ولكنا نقول هذا عقد محتمل للفسخ وفي إبقائه ضرر على الشريك الآخر أما في الحال فلأنه يتعذر عليه بيع نصيبه وأما بعد الأداء فلأنه يتعذر عليه استدامة الملك في نصيبه فلدفع الضرر عن نفسه يتمكن من فسخ عقد شريكه وإذا جاز فسخ الكتابة لدفع الضرر عن المتعاقدين فلأن يجوز فسخه لدفع الضرر عن غيرهما ممن لم يرض بعقدهما أولى ولا يبعد أن يلاقي تصرف الإنسان ملكه ثم للغير أن يفسخه لدفع الضرر عن نفسه كالراهن يبيع المرهون أو الآجر يبيع المؤاجر, فإن أعتقه الشريك الآخر بعد ذلك نفذ عتقه عندنا.
وقال ابن أبي ليلى لا ينفذ عتقه حتى ينظر ماذا يصنع في المكاتبة فإن أداها عتق وضمن الذي كاتبه نصيب شريكه والولاء كله له وإن عجز ينفذ عتقه وهذا بناء على أصله أن الكتابة لا تتجزى وأن المولى بعقد الكتابة يستحق الولاء فإذا صار المكاتب مستحقا لجميع ولائه لا يملك الآخر إبطاله عليه بالإعتاق ولكن يتوقف حكم إعتاقه لتوقف ملكه في نصيبه فإن أدى الكتابة تبين أن نصيب الشريك كان منتقلا إلى المكاتب فيضمن المكاتب له نصف قيمته والولاء كله له وإن عجز تبين أنه كان مشتركا بينهما فينفذ عتق المعتق في نصيبه, فأما عندنا نصيب الشريك باق على ملكه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى غير مكاتب.
وعندهما مكاتب كان متمكنا من فسخ الكتابة فيعتق نصيبه بإعتاقه, وإذا أعتق فالمكاتب(8/61)
ص -30- ... بالخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن شاء مضى على الكتابة وأدى البدل وكان ولاؤه لهما, وإذا اختار ذلك فليس للمكاتب أن يضمن المعتق شيئا لأنه ما أتلف عليه شيئا من حقه وإن شاء عجز نفسه فعند ذلك يخير الذي كاتبه بين عتقه واستسعائه وتضمين شريكه لما بينا.
وعندهما يعتق كله بإعتاق أحدهما وإن كان المعتق موسرا فللآخر حق التضمين فإن كان معسرا فللآخر حق الاستسعاء على ما بينا من الاختلاف بينهما.
وعلى هذا لو كاتب الآخر نصيبه أيضا عند بن أبي ليلى لا ينفذ منه وعندنا ينفذ ويكون مكاتبا بينهما وليس للمكاتب الأول أن يفسخ عقد الثاني وإن باشره بغير إذنه لأن ثبوت حق الفسخ لمعنى دفع الضرر ولا ضرر عليه هنا لأن نصيبه مكاتب, ثم المسألة في كتابة أحد الشريكين على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بغير إذن شريكه ويستوفي البدل قبل أن يفسخ الشريك الكتابة فنقول على قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصيبه لوجود شرط العتق وهو أداء البدل ثم يكون للساكت أن يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من العبد لأن المؤدي كسبه وكسبه كان مشتركا بينهما فله أن يأخذ نصف ذلك منه ونصف ما بقي من الكسب في يد العبد أيضا ثم يرجع المكاتب على العبد بما أخذه منه شريكه لأن جميع البدل كان بمقابلة نصيبه وقد سلم نصيبه للعبد أيضا ولم يسلم للمولى نصف البدل فيرجع به عليه كما لو استحقه مستحق آخر من يده ثم إن كان المكاتب موسرا فللشريك خيار بين ثلاثة أشياء وإذا اختار التضمين يرجع المكاتب بما ضمن على العبد ويكون الولاء كله له وإن اختار الاستسعاء أو الإعتاق أو كان المكاتب معسرا فالولاء بينهما.(8/62)
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الجواب كذلك إلا أن المكاتب لا يرجع على العبد بالنصف الذي أخذه شريكه منه لأن عندهما صار الكل مكاتبا فإن جميع البدل مقابل بجميع الكسب ولم يسلم له إلا النصف وقد سلم للمولى من جهته نصف البدل أيضا ثم إن كان المكاتب موسرا فليس للساكت إلا التضمين وإن كان معسرا فليس له إلا الاستسعاء. والوجه الثاني أن يكاتب أحدهما نصيبه بإذن شريكه.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا استوفي البدل عتق نصيبه وللشريك أن يرجع عليه بنصف ما أخذ أيضا وبنصف ما بقي من الكسب في يد العبد لأنه أداه من كسبه وإذنه في العقد لا يكون إذنا في قبض البدل, ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك قبض البدل فلهذا كان هذا الفصل والفصل الأول سواء عنده إلا في حكمين أحدهما أنه لا يكون للآخر حق فسخ الكتابة والآخر أنه لا يكون له أن يضمن المكاتب بعد العتق لوجود الرضا منه بالسبب.
وعلى قولهما إذنه في كتابة نصيبه يكون إذنا في كتابة الكل فيصير الكل مكاتبا بينهما إلا أن يقبض أحدهما جميع البدل لا يعتق ما لم يصل إلى الآخر نصيبه لأن المكاتب في نصيبه كان وكيلا والوكيل بالكتابة لا يملك القبض للبدل فإن وصل إلى الآخر نصيبه حينئذ يعتق وما(8/63)
ص -31- ... بقي من الكسب كله سالم للعبد. والوجه الثالث أن يأذن أحدهما لشريكه في أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل.
فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا قبض المكاتب البدل فليس للشريك أن يرجع بشيء من المقبوض لأنه قبضه برضاه وصار هو آذنا للعبد في أن يقضي دينه بكسبه فلا يثبت له حق استرداد شيء من القابض بخلاف الأول.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق كله بقبض المكاتب سواء وصل إلى الشريك نصيبه أو لم يصل لأنه كان وكيلا من جهته في قبض البدل فيعتق العبد بالأداء إليه والمقبوض مشترك بينهما ولا سبيل للشريك على ما بقي من كسب العبد في يده سواء وصل إليه نصيبه مما قبضه المكاتب أو لم يصل بأن هلك في يده لأن هلاك نصيبه في يد وكيله كهلاكه في يده, وإن كان أحد الشريكين كاتب جميع العبد فقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذا كقولهما حتى إذا عتق بالأداء إليه رجع الشريك عليه بنصف المقبوض وإذا كان بغير إذنه لم يكن له أن يرجع على العبد بشيء من ذلك لأن جميع البدل هنا بمقابلة جميع الكسب والرقبة ولم يسلم له من جهة المكاتب إلا النصف وقد سلم للمكاتب نصف البدل أيضا فلا يرجع عليه بشيء آخر فإن أذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل ثم نهاه بعد ما قبض بعضه صح نهيه لأن أذنه للمكاتب في قضاء دينه بنصيبه من الكسب لا يكون ملزما شيئا إياه فيكون له أن يرجع عن ذلك حتى يشاركه فيما يقبض بعده ولا يشاركه فيما كان قبض قبل النهي اعتبارا للبعض بالكل, وإن كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فلم يعلم به شريكه حتى كاتبه نصيبه بإذن الأول ثم علم بكتابة الأول فأراد ردها لم يكن له ذلك لأنه بمباشرة الكتابة في نصيبه صار مسقطا لخياره فإن الخيار له كان لدفع الضرر وقد التزم ذلك الضرر ثم ما يأخذ واحد منهما بعد هذا منه فهو سالم له لا يشاركه الآخر فيه لأن نصيب كل واحد منهما صار مكاتبا بعقد باشره بنفسه فلا يكون بينهما في البدل شركة كما لو(8/64)
باع كل واحد منهما نصيبه بعقد على حدة بخلاف ما إذا كاتباه معا لأن البدل هناك وجب لهما بعقد واحد وإن كان الأول أخذ منه شيئا قبل كتابة الثاني كان للثاني أن يشاركه فيه لأن الثاني إنما يكون مسقطا حقه عن كسبه بكتابة نفسه فيقتصر ذلك على ما يكتسبه بعد كتابته فلا يتعدى إلى ما كان قبله وإن أذن كل واحد منها لصاحبه في مكاتبة نصيبه منه فهذا إذن له في القبض ولا يرجع أحدهما فيما قبض الآخر ولا يشركه.
وقوله وهذا إذن له في القبض تجوز في العبارة فإن الإذن في الكتابة لا يكون إذنا في القبض ولكن إنما لا يرجع واحد منهما على صاحبه لأن المكاتب صار أحق بجميع كسبه ونصيب كل واحد منهما من البدل واجب بعقد على حدة فلا شركة بينهما في المقبوض وإن كاتب أحدهما نصيبه منه بعد ما أذن له صاحبه في الكتابة والقبض فقبض بعض الكتابة ثم عجز الغلام ففي القياس للشريك أن يرجع على القابض بنصف المقبوض لأنه إنما رضي(8/65)
ص -32- ... بقبضه ليعتق نصيبه به ولم يعتق حين عجز الغلام ولأنه إنما رضي الآذن بأن يقضي العبد دينه بنصيبه من الكسب وبعد العجز لا دين فبقي هو كسب عبد مشترك بينهما فله أن يأخذ منه نصفه.
وفي الاستحسان لا سبيل له عليه فيما قبض اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه صار مسقطا حقه عن المقبوض حين أذن له في قبضه فلا يعود حقه فيه بعجز الغلام, ألا ترى أنه لو تبرع إنسان بقضاء بعض البدل عن المكاتب ثم عجز المكاتب عما بقي لم يكن للمتبرع استرداد ما تبرع به فهذا مثله وإذا كاتب أحدهما كله بغير إذن شريكه ثم وهب للعبد نصف المكاتبة لم يعتق منه شيء كما لو كان العبد كله له وهذا لأنه أضاف الهبة إلى نصف شائع فلا يتعين لذلك حصة نصيبه خاصة فلهذا لا يعتق.(8/66)
وإن قال وهبت لك جميع حصتي من هذه المكاتبة عتق إما لأن جميع البدل وجب بعقده فكان هذا وقوله وهبت لك المكاتبة كلها سواء أو لأنه بريء من حصته من البدل حين أضاف الهبة إلى نصيبه خاصة بمنزلة ما لو كاتباه ثم وهب أحدهما جميع حصته إلا أن الأول أصح لأن العبد هنا لا يعتق إلا بأداء جميع البدل إليه فعلم أن هبة جميع حصته تكون هبة لجميع المكاتبة مكاتبة بين رجلين علقت من أحدهما فهي بالخيار لأنه تلقاها جهتا حرية فإن شاءت عجزت فكانت أم ولد له ويضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها لأنها أمة بينهما وقد استولدها وإن شاءت مضت على الكتابة وأخذت عقرها فإن مضت على الكتابة ثم علقت من الآخر ثم عجزت فالولد الأول للأول والولد الثاني للثاني لأن نصفها في الظاهر مكاتب له حين استولدها وذلك يكفي لثبوت نسب الولد الثاني منه وهي أم ولد للأول لأنه استحق حق أمية الولد في جميعها إلا أن المكاتبة في نصيب الآخر كان مانعا من ظهور هذا الاستحقاق قبل العجز وقد ارتفع هذا المانع بالعجز فصارت أم ولد له من ذلك الوقت, ألا ترى أن الخيار إذا سقط في البيع بشرط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد وإذا صارت أم ولد له فعليه نصف قيمتها للثاني وعلى الثاني جميع قيمة الولد لأنه تبين أنه استولد مملوكة الغير ولكنه كان مغرورا باعتبار ظاهر الملك فيكون ولده حرا بالقيمة ولم يذكر حكم العقر لأنه على رواية هذا الكتاب وجب نصف العقر على الثاني ونصف العقر على الأول فيكون أحدهما قصاصا بالآخر وقد بينا في كتاب الدعوى أن الأصح وجوب جميع العقر على الثاني ثم يكون النصف بالنصف قصاصا ويبقى للأول نصف العقر على الثاني وبينا هناك أن قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا أنه حين استولدها أحدهما صار الكل أم ولد له وهي مكاتبة فلا يصح استيلاد الثاني بعد ذلك ولا يثبت النسب منه بالدعوى. "مكاتبة بين رجلين ولدت بنتا ثم وطى ء أحدهما الابنة(8/67)
فعلقت منه" قال "ثبت نسبه منه" لأن الابنة بمنزلة أمة مكاتبة بينهما فيثبت نسب ولدها من أحدهما بالدعوى كما ثبت نسب ولد المكاتبة والابنة على حالها ليس لها أن تخرج نفسها من المكاتبة لتكون أم ولد للمستولد(8/68)
ص -33- ... لأنها تابعة في العقد فلا تملك فسخ العقد في حق نفسها مقصودا ولا ولاية لها على فسخ العقد في حق أمها ولأن الأم إنما كانت تعجز نفسها عما عليها من البدل وليس على الولد شيء من البدل وقد كان للأم منفعة في التخيير فخيرناها ولا منفعة للابنة في ذلك وعلى المستولد عقرها لأنه وطئها وهي مكاتبة ولكن عقرها للأم بمنزلة كسبها وإنها تابعة للأم في الكتابة. فإن عجزت المكاتبة صارت الابنة أم ولد للواطى ء لأن المانع من ظهور أمية الولد في نصيب شريكه منها قد ارتفع بعجز الأم وإنما تصير أم ولد له من حين علقت منه فلهذا يضمن لشريكه نصف قيمتها يوم علقت منه, وإن لم تعجز فاعتق الشريك الآخر الابنة بعد علوقها من الأول عتقت عند أبي حنيفة رحمه الله لأن نصيبه من الابنة باق على ملكه ما بقيت الكتابة فيها فينفذ عتقه ولا سعاية عليها لأن نصيب المعتق عتق بإعتاقه ونصيب الآخر بمنزلة أم الولد, ولا سعاية على أم الولد للمستولد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة أم ولد بين شريكين أعتقها أحدهما وولدها حر لأنه ثابت النسب من المستولد وقد عتقت بذلك لكونه متمكنا من إعتاقه ولا سعاية عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لأن إعتاق الشريك نصيبه من الأم يكون إعتاقا لنصيبه منه كما بينا من عتق السفلى بإعتاق العليا على أصله والمكاتبة باقية على حالها تعتق بالأداء أو تعجز فتكون أمة بينهما مكاتبة بين رجلين ولدت فأعتق أحدهما الولد عتق نصيبه منه لكونه مالكا لنصيبه بسبب دخوله في مكاتبة الأم وهو على حاله حتى تعجز الأم أو تعتق لأنه لما صار تبعا لأمه في الكتابة لا ينقلب مقصودا ما بقي حكم التبعية ولأن الأم لها حق في كسب الولد فلا يتمكن المعتق من إبطال حقها في كسبه فإن عتقت عتق معها لبقاء حكم التبعية في النصف الذي بقي رقيقا منه فإن عجزت فقد زال معنى التبعية وصار الولد مقصودا وهو مشترك بينهما أعتقه أحدهما وقد بينا حكم العبد(8/69)
المشترك يعتقه أحد الشريكين. وإذا اختار التضمين يضمنه نصف قيمته وقت إعتاقه لا وقت عجز الأم لأن وجوب الضمان بسبب الإعتاق فتعتبر القيمة عند ذلك كما تعتبر قيمة المغصوب وقت الغصب, "مكاتبة بين رجلين ولدت بنتا فوطئا الابنة فعلقت فولدت منهما ثم ماتا فالابنة حرة" لأنها كانت أم ولد لهما فتعتق بموتهما كما لو أعتقاها وهذا لأنها استغنت عن تبعية الأم لما ظهر لها من سبب العتق مجانا وتبقي الأم على مكاتبتها لأن نفوذ العتق في التبع لا يوجب عتق الأصل, ولو كانت الأم هي التي ولدت منهما ثم ماتا عتقت هي بجهة الاستيلاد وعتق ولدها أيضا لأنه تبع لها وثبوت العتق في التبع بثبوته في الأصل ولأن عتقها بالاستيلاد كعتقها بإعتاق منهما ابتداء, وقد بينا أنهما إذا أعتقاها عتق الولد معها لأن إعتاقهما إياها بمنزلة الاستيفاء لما عليها من المكاتبة, وإن عجزت ثم ولدت منهما بعد ذلك فالولد الأول رقيق لأن بعجزها انفسخت الكتابة وصار الولد الأول رقيقا ثم يثبت فيها حق أمية الولد بعد انفصال هذا الولد عنها وحق العتق لا يسري إلى الولد المنفصل كحقيقة العتق.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كاتب أحد الشريكين بغير إذن شريكه ثم علقت منه فهي أم ولد له(8/70)
ص -34- ... وأبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا لا يخالفهما لأن نصيب الشريك عنده لم يصر مكاتبا فتصير أم ولد للمشتري ولكنه حفظ جوابهما ولم يحفظ جواب أبي حنيفة وهي مكاتبة على حالها لأن الكتابة لا تنافي الاستيلاد سابقا ولا طارئا ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها للشريك وهذه إجازة للمكاتبة لأن العقد في حق الشريك لدفع الضرر عنه وقد زال ذلك بتحول نصيبه إلى المستولد.
قال وهذا بمنزلة رجل له أم ولد كاتبها يريد به التشبيه في حكم لزوم الكتابة.(8/71)
فأما في مسألة الأصل المستولد ضامن نصف العقر لأن كتابته في نصيبه كان نافذا ومن استولد مكاتبته يلزمه العقر لها, وقد فسره بعد هذا فقال "جارية بين رجلين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه ثم وطئ الذي كاتبها قبل أن يعلم شريكه بالمكاتبة فولدت منه فهي أم ولد له والمكاتبة جائزة ويضمن الواطئ نصف قيمتها ونصف عقرها للشريك ونصف العقر لها وللمكاتبة الخيار" لأنه تلقاها جهتا حرية فإن اختارت الكتابة أخذت نصف العقر منه وإن اختارت أن تكون أم ولد له لم يكن لها نصف العقر لأن استحقاقها نصف العقر لكونها أحق بنفسها بعقد الكتابة وقد زال ذلك حين اختارت الاستيلاد فإن أم الولد لا تستوجب على مولاها دينا وإن أجاز شريكه المكاتبة بعد ما علقت منه فإجازته باطلة وهي مكاتبة لأنه أجاز عقدا باطلا ولأن نصيبه تحول إلى المكاتب بالاستيلاد وإنما كان يعتبر إجازته باعتبار ملكه, فإن وطئها الذي لم يكاتب فعلقت منه فهي أم ولد الذي علقت منه لأنه مالك لنصيبه منها فصح استيلاده فيها والمكاتبة على حالها جائزة حتى يردها الواطى ء لأنه لامنافاة بين الاستيلاد والكتابة وكل واحد منهما يطرأ على صاحبه فلم يكن إقدامه على الاستيلاد إبطالا منه للكتابة ولكنه لو انفسخت الكتابة بعد ذلك صار الكل أم ولد له لأن المانع من انتقال نصيب الشريك إليه بالاستيلاد هو الكتابة وقد ارتفعت, وإن كاتبها أحدهما بإذن شريكه ثم استولدها الآخر فإن شاءت عجزت وكانت أم ولد المستولد لزوال المانع في نصيب الشريك وإن شاءت مضت على كتابتها وأخذت منه نصف العقر لأن الكتابة في نصيب الشريك لازمة حين باشرها بإذن شريكه وتأخذ منه نصف العقر لأنها أحق بنفسها في ذلك النصف, فإذا أدت المكاتبة عتقت ولم تسع للمستولد في شيء لأن نصيبه منها أم ولد ولا سعاية على أم الولد للمستولد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وإن كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فاكتسبت مالا وقضت منه الكتابة فعتقت ثم(8/72)
اكتسبت مالا ثم حضر الذي لم يكاتب فله نصف ما اكتسبته قبل أداء الكتابة ولها نصفه لأن نصيب المكاتب منها مكاتب ونصيب الشريك مملوك له والكسب يملك بملك الأصل وما اكتسبته بعد أداء الكتابة فهو لها لأن عندهما تعتق كلها بعتق البعض.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق نصيب المكاتب ونصيب الشريك بمنزلة المكاتب لما عليها من السعاية والمكاتب أحق بكسبه من المولى فلهذا لم يكن للشريك شيء مما اكتسبت بعد أداء الكتابة فإن ماتت قبل أن تؤدي شيئا وتركت مالا فنصفه للذي لم يكاتب لأنه(8/73)
ص -35- ... كسب نصيبه منها ويأخذ الذي كاتب النصف الباقي في المكاتبة لأن كسب نصيبه منها والمكاتبة كانت نافذة في نصيبه فيأخذ بدل الكتابة من تركتها بعد موتها ثم يأخذ الذي لم يكاتب نصف قيمتها مما بقي إن كان شريكه معسرا لأنه يثبت له حق استسعائها في نصف القيمة إن كانت حية وقد ماتت عن مال فيأخذ تلك السعاية من مالها والباقي ميراث لورثتها الأحرار لأنه حكم بعتقها بأداء السعاية مستندا إلى حال حياتها فإن لم يكن لها وراث غيرهما كان ما بقي بينهما نصفين لأن نصيب كل واحد منهما عتق على ملكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهي مولاة لهما وإن شاء أن يضمن شريكه لأنه موسرا كان له ذلك لأن المكاتب صار معتقا لنصيبه ثم يرجع به المكاتب في مالها كما يرجع عليها لو كانت حية ويكون ولاؤها وميراثها له إن لم يكن لها وارث لأنه تملك نصيب شريكه بالضمان وإن كانت ماتت بعد ما أدت المكاتبة وقد تركت مالا لا يدري متى اكتسبته قبل الأداء أو بعده فالمال له لأن الكسب حادث فيحال حدوثه إلى أقرب الأوقات وهو ما بعد أداء الكتابة ولأن سبب الاستحقاق لها لأنه قد ظهر وهو اكتسابها واستحقاق النصف لشريكه لم يعلم سببه وهو كون نصيبه قنا حين اكتسب ولا يقال قد عرفنا نصيبه مملوكا قنا له فيجب التمسك بذلك حتى يتبين خلافه لأن هذا ظاهر علم زواله بعد ما أدت الكتابة واستصحاب الحال إنما يعتبر إذا لم يكن خلافه معلوما في الحال, "جارية بين رجلين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه فأدت إليه الكتابة ثم وطئها الآخر فعلقت منه" قال "تسعى له في نصيبه" لأن نصيبه بمنزلة المكاتب لما عليها من السعاية ولا تصير أم ولد له, أما عندهما لأنها عتقت بأداء الكتابة.(8/74)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه تعذر استدامة الملك لما نفذ فيها من العتق من جهة المكاتب وإنما تكون أم ولد له إذا عجزت عن السعاية وليس لها ذلك ها هنا حتى لو مات المستولد قبل أن تؤدي السعاية عتق نصيبه بجهة الاستيلاد وسقط عنها السعاية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "رجل كاتب جارية ثم مات عن ابنين فاستولدها أحدهما فهي بالخيار إن شاءت عجزت فكانت أم ولد له ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه" لأن الكتابة انفسخت بالعجز فصارت مشتركة بينهما إرثا قد استولدها أحدهما وإن شاءت مضت على كتابتها وأخذت عقرها لأن المكاتب لا يورث ما بقيت الكتابة وقد سقط الحد عن الواطئ بشبهة حق الملك الثابت له فيها بانعقاد سببه فيجب العقر لها, وإذا كاتب الرجلان جارية بينهما مكاتبة واحدة ثم ارتد أحدهما عن الإسلام فأدت المكاتبة إليهما ثم قتل مرتدا قال لا تعتق وليس أداؤها إلى المرتد بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تعتق لأن قبض المرتد عندهما جائز كقبض المسلم بمنزلة قولهما في تصرفات المرتد.
وأما في قول أبي حنيفة تصرفات المرتد تتوقف وتبطل بقتله فكذلك قبضه نصيبه من البدل كان موقوفا وبالقتل تبين أنه كان حق الوارث فكان قبضه باطلا وترجع الورثة على(8/75)
ص -36- ... الشريك بنصف ما أخذ كما لو كان هو أخذ نصيبه وحده ولهذا لا يعتق نصيب الشريك منها أيضا ثم يستسعونها في النصف الباقي فإن عجزت ردت في الرق بمنزلة مكاتبة أدت نصف البدل إلى الموليين ثم عجزت, ثم أشار في الأصل إلى أنه وإن كاتبه في حالة الردة لم يجز قبضه لبدل الكتابة بخلاف ما إذا باعه في حالة الردة وقبض ثمنه كان جائزا من قبل أن بالردة صار ماله كأنه للوارث والعاقد في باب الكتابة لا يستحق قبض البدل بعقده إذا كانت المكاتبة لغيره بخلاف العاقد في باب البيع فإن حق قبض الثمن له وإن كان البيع لغيره وكان في هذا الكلام نظر لأن بيعه في كسب إسلامه لا ينفذ بعد الردة ما لم يسلم وبعد الإسلام يجوز قبضه في المكاتبة وفي الثمن جميعا وإنما هذا الفرق فيما إذا كان البيع والكتابة قبل الردة فلا يجوز قبضه لبدل الكتابة بعد الردة ويجوز قبضه الثمن بحق العقد وإنما لحقه الحجر بالردة كالعبد المأذون إذا باع شيئا ثم حجر عليه مولاه كان قبضه الثمن صحيحا, ولو لحق المرتد منهما بدار الحرب فأدت جميع الكتابة إلى الشريك الآخر لم تعتق لأن قبضه نصيب ورثة المرتد باطل وإن أدت إلى الشريك الباقي وإلى ورثة المرتد عتقت إذا كان قد قضى بلحاقه كما لو مات فدفعت الكتابة إلى الشريك الحي وإلى ورثة الميت(8/76)
وإن عجزت بعد ما ارتد أحدهما فردها في الرق ثم قتل المرتد على ردته فهي على مكاتبتها لأن فسخ الكتابة في نصيب المرتد باطل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ككتابته والكتابة إذا كانت واحدة لا يمكن فسخها في البعض دون البعض بسبب العجز كما لو كان أحد الموليين غائبا فعجزت عن المكاتبة لم يفسخ القاضي العقد بخصومة الشاهد منهما حتى يحضر الآخر, وإذا ارتد الشريكان معا ثم عجزت المكاتبة فرداها في الرق فإن أسلما فهي أمة قنة بينهما, وإن قتلا على الردة فهي على مكاتبتها. وإن كانت المكاتبة بين رجلين فولدت بنتا. ثم إن أحد الموليين وطى ء الابنة فعلقت منه ووطى ء الآخر الأم فعلقت منه فقالتا نحن نعجز فذلك لهما ومراده أن للأم أن تعجز نفسها لأنه تلقاها جهتا حرية وأما الولد فليس من هذا الخيار في شيء لأنه ليس عليه شيء من البدل فإذا اختارت الأم المضي على الكتابة أخذت كل واحدة منهما عقرها من الواطئ, وعقر الابنة يكون للأم بمنزلة الكسب وإن عجزت كانت كل واحدة منهما أم ولد للذي وطئها ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كاتب الرجل نصيبه من عبده بغير إذن شريكه فللشريك أن يرد ذلك ولا يرده إلا بقضاء القاضي إلا أن يرضى العبد ومولاه الذي كاتبه أن ينقض الكتابة وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لأن ثبوت حق الفسخ للآخر مختلف فيه بين العلماء فلا يتم إلا بقضاء القاضي أو التراضي كالرجوع في الهبة وهذا لأن الفاسخ إنما يفسخ باعتبار ملكه والعاقد يمنعه من ذلك باعتبار ملكه أيضا فإذا استوت الإقدام كان الفضل إلى القاضي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/77)
ص -37- ... باب مكاتبة الرجل شقصا من عبده
قال: رضي الله عنه "وإذا كاتب الرجل نصف عبده جاز ذلك وصار كله مكاتبا بذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى" لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ كالعتق.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقتصر على القدر الذي كاتب منه فإن أدى المكاتبة عتق منه ذلك القدر ويسعى فيما بقي من قيمته على قدر ما يطيق بمنزلة رجل أعتق بعض عبده.
ومعنى هذا أنه ليس للمولى أن يطالبه بالسعاية في الحال ولكن يجعله منجما عليه بحسب ما يعلم أنه يطيق أداءه لأنه معسر فيستحق النظرة إلى الميسرة بالنص ولأن مقصوده تكميل العتق دون التضييق عليه وإن اكتسب العبد مالا قبل الأداء إليه فنصفه له ونصفه للمولى لأن نصفه مملوك للمولى غير مكاتب والكسب يملك بملك الأصل وما اكتسب بعد الأداء ليس للمولى منه شيء لأن النصف منه عتق بالأداء والنصف الآخر يستسعى كالمكاتب فيكون هو أحق بجميع كسبه بعد الأداء, وإذا كاتب نصفه ثم أراد أن يحول بينه وبين الكسب لم يكن له ذلك لأن مقصود المولى بالكتابة تمكينه من التقلب والتكسب ليؤدي به البدل. وقد ثبت هذا الحق للمكاتب بكتابة النصف لازما فكما لا يكون له أن يفسخ الكتابة لا يكون له أن يحول بينه وبين الكسب. وإذا أراد أن يخرج من المصر فله أن يمنعه في القياس لأن نصفه مملوك له وللمولى أن يمنع ملكه من السفر ولا يتأتى السفر في قدر ما صار مكاتبا منه وحده فكان للمولى أن يمنعه دفعا للضرر عن ملكه كمن استأجر دابة ليركبها هو ليس له أن يركب غيره أو استأجر ثوبا ليلبسه هو ليس له أن يلبس غيره لأن الركوب واللبس يتفاوت فيه الناس فيصير المستأجر ممنوعا من التصرف فيما يملكه من المنفعة على وجه يلحق الضرر بصاحب الثوب. ولكنه في الاستحسان لا يمنع من ذلك لأن المولى أثبت له حق التقلب والتكسب وربما لا يحصل له هذا المقصود في المصر والخروج من المصر للطلب طريق ظاهر بين الناس فيصير مثبتا له ذلك الحق(8/78)
حين كاتب نصفه فلا يمنعه بعد ذلك منه وهذا أولى الوجهين بالأخذ به لأن المقصود من هذا العقد الإرفاق به
وكذلك لو أراد أن يستخدمه أو يستسعيه يوما ويخلي عنه يوما للكسب فله ذلك في القياس لأن خدمته ومنفعته ككسبه فكما أن للمولى أن يأخذ نصف كسبه فكذلك له أن يجعل نصف خدمته لنفسه بالتهايؤ بينه وبين نفسه.
وفي الاستحسان لا يعرض له في شيء حتى يؤدي أو يعجز لأنه أثبت له حق التقلب والتكسب وذلك بمنافعه يكون فمن ضرورة ثبوت هذا الحق له لازما أن يكون أحق بمنافعه وهذا أولى الوجهين بالأخذ به لأنه إرفاق به وليس فيه ضرر على مولاه فإنه إذا اكتسب بمنافعه كان للمولى أن يأخذ نصفه فيكون هذا تحويلا لحقه من المنفعة إلى الكسب ولا ضرر فيه
ولو جعلنا المكاتب أحق بكسبه كان فيه إبطال حق المولى عن نصف الكسب فلهذا لا يعتبر الإرفاق في ذلك وإذا كاتب نصف جاريته فولدت ولدا كان ولدها بمنزلتها ونصف كسبه للمولى لأن نصف الولد مملوك كنصف الأم ونصف كسبه للأم لأنه داخل في كتابتها فتأخذ حصة ذلك من(8/79)
ص -38- ... كسبه فإن أدت عتق نصفها ونصف الولد معها ويسعى كل واحد منهما في نصف قيمته لأن كل واحد منهما معتق البعض وقد احتبس ما بقي من ملك المولى فيه عنده وكل واحد منهما مقصود في هذه السعاية فإذا اكتسب الولد بعد ذلك فذلك الكسب له دون أمه ومولاه لأنه صار كالمكاتب بما لزمه من السعاية في نصف قيمته مقصودا. وإن ماتت الأم قبل أن تؤدي شيئا من كتابتها يسعى الولد في المكاتبة لأن نصفه تبع للأم في الكتابة فيقوم مقامها بعد موتها في السعاية وفي المكاتبة فإذا أداها عتق نصفها كما لو أدت في حال حياتها ويسعى بعد ذلك في نصف قيمته ولا يسعى في نصف قيمة أمه لأن في السعاية في نصف القيمة كل واحد منهما مقصود فلا يجب عليه ما كان واجبا عليها من السعاية لأن ذلك في حكم التبعية ولا تبعية هنا في حق ذلك النصف وهو بمنزلة رجل أعتق نصف جاريته ونصف ولدها ثم ماتت الأم فلا سعاية على الولد من قبل الأم ولو كان أعتق نصف أمته وهي حبلى فولدت بعد ذلك أو حبلت بعد العتق فهذا الولد يسعى فيما على أمه إذا ماتت لأن جميع الولد تبع لها. ألا ترى أنه ليس عليه شيء من السعاية مقصودا فيسعى فيما عليها بعد موتها. وإذا كاتب نصف أمته فولدت ولدا ثم ماتت الأم وتركت مالا وعليها دين قضي الدين من جميع تركتها أولا لأن نصفها مكاتب ونصفها مأذون ودين المأذون في كسبه مقدم على حق المولى ويكون للمولى نصف ما بقي بعد الدين لأن نصفه ملكه وكسب ذلك النصف له بعد الفراغ من الدين ونصف المكتسب لها فيؤدي من ذلك كتابتها فإن بقي شيء أخذ المولى نصف قيمتها لأنه كان يستسعيها في نصف القيمة بعد أداء الكتابة لو كانت حية فيأخذ ذلك من تركتها بعد موتها والباقي ميراث لورثتها لأنا حكمنا بموتها حرة ولا يرث هذا الولد منها شيئا لأن استناد العتق في الولد إلى حال حياتها كان في النصف الذي هو تبع لها وفي النصف الباقي الولد مقصود فإن عليه أن يسعى في نصف قيمته ولا يعتق إلا بعد(8/80)
أداء سعايته فكان بمنزلة المملوك عند موت أمه فإن لم تدع الأم شيئا سعى الولد في الدين كله لأن في حكم الدين الولد قائم مقام الأم كولد المأذونة وولد المكاتبة يسعى في الكتابة أيضا لهذا المعنى ثم يسعى في نصف قيمة نفسه لأنه معتق النصف بعد أداء الكتابة ولا يسعى في نصف قيمة الأم لما بينا أنه ليس بتبع لها في هذا النصف, فإن أدى الكتابة قبل أن يؤدي دين الغرماء عتق نصفه ونصف أمه كما لو أدت في حياتها ولم يرجع الغرماء على المولى بما أخذ لكنهم يتبعون الولد بالدين لأنه قائم مقامها فأخذه بدل الكتابة منه كأخذه منها, وإذا أخذ منها كان المأخوذ سالما والغرماء يتبعونها بديونهم فكذلك الولد وما اكتسب الولد قبل أن يؤدي الكتابة فنصفه للمولى بعد الدين لأن الولد بمنزلتها. وقد بينا أنه يبدأ بالدين من كسبها ثم يسلم للمولى نصف ما بقي باعتبار ملكه في نصفها فكذلك الولد. "رجل كاتب نصف أمته فاستدانت دينا سعت في جميع الدين" لأن كتابة النصف من المولى يتضمن الإذن للنصف الآخر في التجارة على ما بينا أنه تمليك لها من التقلب والتكسب ومن ضرورته الإذن في التجارة فإن عجزت(8/81)
ص -39- ... كان جميع الدين في جميع رقبتها تباع في ذلك لأن جميع الدين ظهر وجوبه في حق المولى باعتبار الإذن فتباع فيه بعد العجز وكذلك إن كانت لشريكين وكاتبها أحدهما بإذن شريكه فاستدانت دينا ثم عجزت فالدين في جميع رقبتها تباع فيه لأن رضا الشريك بالكتابة يتضمن الإذن لها في التجارة في نصيب نفسه ضرورة. "عبد بين رجلين أذن له أحدهما في التجارة فاستدان دينا فهو في نصيب الآذن خاصة" لأن الآذن رضي بتعلق الدين بمالية رقبته وذلك منه صحيح في نصيبه دون نصيب شريكه وكذلك إن كاتب أحدهما بغير إذن شريكه لأن الشريك لم يرض بتعلق الدين بنصيبه ولا بثبوت حكم الآذن في نصيبه بخلاف ما إذا كانت الكتابة بإذنه فإن اشترى الذي أذن له في التجارة نصيب شريكه بعد ما لحقه الدين فالدين في النصف الأول خاصة كما لو كان قبل شرائه وكذلك ما استدان بعد هذا بغير علم مولاه لأن حكم الآذن لم يثبت في المشتري بنفس شرائه وهذا النصف كان محجورا قبل الشراء وتأثير الشراء في رفع الآذن الثابت لا في إثباته وإن علم أنه يشتري ويبيع فلم ينهه فالقياس كذلك لأن شراءه وبيعه صحيح باعتبار الآذن في نصفه وتأثير سكوت المولى في إثبات الرضا بتصرفه لينفذ ذلك دفعا للضرر والغرور عمن عامله وذلك حاصل بدون ثبوت الآذن في النصف الباقي فلا يجعل سكوته إذنا.(8/82)
وفي الاستحسان يلزمه جميع ذلك في جميع الرقبة اعتبارا للبعض بالكل فإنه لو كان الكل محجورا فرآه المولى يبيع ويشتري فلم ينهه صار الكل مأذونا فكذلك إذا كان النصف محجورا لأن سكوته عن النهي بعد العلم بتصرفه بمنزلة التصريح بالآذن وإذا كاتب نصف عبده لم يكن له أن يبيع الباقي لأنه ثبت للعبد حق التكسب والتقلب لازما وفي بيع الباقي إبطال هذا الحق عليه فإن باعه من العبد عتق النصف الذي باعه لأن بيع النصف من نفسه إعتاق وكتابة البعض لا تمنع إعتاق ما بقي منه لأن في الإعتاق تقرير حقه لا إبطاله وله الخيار إن شاء عجز وسعى في نصف قيمته وإن شاء مضى على الكتابة فإن مضى على الكتابة وأدى بعضها ثم عجز حسب له ما أدى من نصف القيمة وسعى فيما بقي منه لأن بعتق النصف صار هو أحق بجميع كسبه وللمولى عليه إما الكتابة وإما نصف القيمة فما سبق فيه يكون محسوبا مما له عليه وكذلك بدل الكتابة في حال قيام العقد أو نصف القيمة بعد العجز عنه وما كان كسبه قبل أن يشتري نفسه فله نصفه وللمولى نصفه لأن نصفه كان مملوكا للمولى حين اكتسب هذا المال فإن كان أدى إلى المولى شيئا قبل أن يشتري نفسه فقال المولى اطرح نصف ذلك المؤدى لأن لي نصف الكسب فله ذلك إن كان أداه من شيء اكتسبه وإن كان أداه من دين استدانه فلا شيء للمولى من ذلك لما قلنا أنه في النصف الآخر مأذون له ولا يسلم كسبه للمولى إلا بعد الفراغ من دينه ولو كاتب نصف عبده ثم اشترى السيد من المكاتب شيئا جاز الشراء في نصفه لأن النصف منه مكاتب والنصف مأذون وشراء المولى من مكاتبه مفيد وشراؤه من المأذون إذا لم يكن عليه دين غير مفيد, فلهذا كان نصف المشتري للسيد بنصف الثمن والنصف الآخر للسيد(8/83)
ص -40- ... بقديم ملكه وإن اشترى المكاتب من مولاه عبدا ففي الاستحسان جاز شراؤه في الكل كما لو اشتراه من غيره لأن النصف منه مكاتب والنصف مأذون.
وفي القياس لا يجوز شراؤه إلا في النصف لأن النصف منه مكاتب والنصف مملوك للمولى وشراء المملوك من مولاه لا يجوز إذا لم يكن عليه دين لأنه غير مفيد ويجوز إن كان عليه دين لأنه مفيد فكذلك هنا.
وبالقياس نأخذ لأنه أقوى الوجهين فالعقود الشرعية غير مطلوبة بعينها بل لفائدتها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب كتابة العبد المأذون(8/84)
قال: رضي الله عنه "وإذا كاتب الرجل عبده المأذون جاز إذا لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين يحيط برقبته أو لا يحيط بها فللغرماء أن يردوا الكتابة بمنزلة ما لو باعه المولى" لأن هناك الغرماء يتوصلون إلى حقهم من الثمن في الحال وهنا لا يتوصلون إلى حقهم لأن بدل الكتابة منجم مؤجل عليه فإذا كان لهم أن ينقضوا البيع لدفع الضرر عنهم فلأن يكون لهم أن ينقضوا الكتابة أولى فإن أخذ المولى الكتابة أو بعضها ثم علم الغرماء بذلك فلهم أن يأخذوا ذلك من المولى لأن حق الغرماء في كسبه مقدم على حق المولى فلا يسلم للمولى شيء من كسبه ما بقي حق الغرماء ولكن العبد قد عتق إن كان أدى جميع الكتابة لوجود الشرط بمنزلة ما لو أعتقه المولى فإن قيام الدين عليه لا يمنع صحة إعتاق المولى إياه فإن بقي من دينهم شيء كان لهم أن يضمنوا المولى قيمته لأن مالية رقبته كان حقا للغرماء حتى يبيعوه في دينهم وقد أبطل المولى ذلك عليهم بالإعتاق فيضمن قيمته ثم يتبعون العبد ببقية دينهم لأنه كان في ذمته وبالعتق تقوى ذمته ولا يرجع المولى على العبد بالمكاتبة لأنه إنما كاتبه ليؤدي البدل من كسبه وهو كان عالما في ذلك الوقت أن كسبه مشغول بالدين فيكون راضيا بقبض البدل مشغولا ولأن البدل للمولى بما أوجبه للعبد من الحق في كسبه وإنما أوجب له الحق في كسبه مشغولا بالدين فإذا سلم البدل للمولى مشغولا بالدين تتحقق المساواة وإن لم يأخذ المولى المكاتبة ولم يردها الغرماء حتى قضى المولى دينهم جازت الكتابة لأن المانع دينهم وقد ارتفع بوصول دينهم فجازت الكتابة كما لو باعه ثم قضى الدين وهذا لأن المانع حق الغرماء وقد ارتفع بوصول دينهم إليهم ولا يرجع على العبد بما أدى عنه من الدين لأنه ظهر ملكه بما أدى فهو كما إذا أدى الفداء عن العبد الجاني ولأنه أصلح مكاتبته فيكون عاملا لنفسه في ذلك ولأنه لم يكن مطالبا بأداء هذا الدين وكان هو في الأداء كمتبرع آخر وكذلك إن أبى(8/85)
المولى أن يؤدي الدين فأداه الغلام عاجلا لأنه سقط حقهم بوصول دينهم إليهم من جهة العبد. "رجل كاتب أمته وعليها دين فولدت ولدا وأدت المكاتبة ثم حضر الغرماء فلهم أن يأخذوا المكاتبة من السيد لأنه كسبها ويضمنونه قيمة الجارية" لأنه أتلف ماليتها عليهم بالعتق ويرجعون بفضل الدين إن شاؤوا على الجارية وإن شاؤوا على الولد لأن حق الغرماء كان متعلقا بمالية الولد لما انفصل(8/86)
ص -41- ... بعد لحوق الدين إياها. ألا ترى أنه يباع في ديونهم وقد احتبست تلك المالية عند الولد بالعتق فيبيعونه بدينهم إن شاؤوا ولكن لا يأخذون منه إلا مقدار قيمته لأن وجوب الدين عليه باحتباس ماليته عنده فيتقدر بذلك القدر وإن شاؤوا رجعوا على الجارية بجميع ديونهم لأن ذمتها تأكدت بالعتق وليس لهم أن يضمنوا المولى قيمة الولد لأنه ما صنع في الولد شيئا وإنما عتق الولد تبعا للأم بجهة الكتابة. وإن ماتت الأم بعد أداء بدل الكتابة فعلى الولد الأقل من قيمته ومن الدين لما قلنا, أمة بين رجلين أذن لهما أحدهما في التجارة فاستدانت دينا ثم كاتب الآخر نصيبه منها بإذن شريكه فأبى الغرماء أن يجيزوا ذلك فلهم ذلك لأنهم استحقوا بيع نصيب الآذن في ديونهم وفي لزوم الكتابة في النصف الآخر إبطال هذا الحق عليهم لأن مكاتب البعض لا يباع ولأن إذن الشريك غير معتبر في حق الغرماء لأن حقهم في نصيبه مقدم على حقه فيجعل وجود إذنه كعدمه فإن رضوا به جاز لأن المانع حقهم. وإن لم يحضر الغرماء حتى أخذ المولى الكتابة عتق نصيبه لوجود شرطه ويأخذ الغرماء نصف ما أخذ من كسبه ونصف حصة نصيب الآذن وهو مشغول بديونهم ثم يرجع به الذي كاتبه على المكاتبة لأن نصيب المكاتب من الكسب قد سلم لها ولم يسلم له جميع البدل من جهتها فكان له أن يرجع عليها بما استحق من ذلك من يده(8/87)
"أمة مأذون لها في التجارة عليها دين فولدت ولدا وكاتب السيد الولد فللغرماء أن يردوا ذلك إن لم يكن بالأم وفاء بالدين" لأن حقهم تعلق بمالية الولد حتى يباع به في ديونهم وفي الكتابة إبطال ذلك الحق عليهم وإن كان فيها وفاء جازت الكتابة لأن حقهم يصل إليهم من مالية الأم ببيعها في ديونهم وهذا لأن الأم أصل والولد تبع وإذا كان في الأصل وفاء بالدين لم يكن شيء من التبع مشغولا بالدين. ألا ترى أنه إذا كان في كسبها وفاء بالدين لا تباع رقبتها فيه فكذلك إذا كان فيها وفاء بالدين لا يباع ولدها فيه فلهذا جازت الكتابة, فإن أعتق السيد الولد كان لهم أن يضمنوه قيمته إذا لم يكن في الأم وفاء بالدين لأن حقهم تعلق بماليته عند عدم الوفاء في الأم وقد أتلف ذلك عليهم بالإعتاق فيضمن لهم قيمته كما لو أعتق الأم, فإن كان السيد معسرا فلهم أن يستسعوا الابن فيما بقي من الدين لأن حقهم كان متعلقا بماليته وقد احتبس ذلك عنده بالعتق فكان لهم أن يستسعوه في الأقل من قيمته ومما بقي من الدين
وإن كانت الأم عليها دين فولدت ولدا فشب الولد وباع واشترى ولزمه دين ثم جاء الغرماء الأولون فردوا المكاتبة فقد بطلت المكاتبة بردهم لقيام حقهم في مالية الأم تباع الأم لغرمائها ويباع الولد لغرمائه خاصة دون غرماء أمه لأن دينه في ذمته وقد تعلق بماليته فهو آكد من دين غرماء الأم إذ ليس في ذمته من ديونهم شيء. ألا ترى أن دين العبد ودين المولى إذا اجتمعا في مالية العبد بعد موت المولى يقدم دينه على دين المولى
فإن قيل: هناك دينه أسبق تعلقا بماليته وهنا دين غرماء الأم أسبق تعلقا بمالية الولد.
قلنا: الترجيح بالسبق إنما يكون بعد المساواة في القوة وقد بينا أن دين الولد أقوى حتى يبقى كله بعد العتق والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي ولا معنى للترجيح بالسبق مع التفاوت(8/88)
ص -42- ... في القوة والضعف وكذلك إن لم يكن كاتب الأم ولكنه أذن للولد في التجارة لأن بالإذن يتعلق دينه بمالية رقبته كما يتعلق بثبوت حكم الكتابة فيه, "رجل كاتب عبدين له تاجرين عليهما دين مكاتبة واحدة فغاب أحدهما ثم جاء الغرماء فليس لهم أن يردوا الحاضر في الرق" لأن كتابتهما واحدة فلا يردان في الرق إلا معا والحاضر لا ينتصب خصما عن الغائب فكان غيبة أحدهما كغيبتهما. ألا ترى أنه لو رد الحاضر في الرق وبيع في الدين ثم أدى الغائب البدل عتقا جميعا وبطل البيع, فعرفنا أن رد الحاضر في الرق غير مفيد شيئا ولكنهم يستسعونه فيما عليه من الدين لأن ديونهم ثابتة في ذمته فيأخذون ذلك من كسبه وما أدى من المكاتبة فالغرماء أحق به لأن ذلك من كسبه أيضا وليس لهم أن يضمنوا المولى قيمتهما لأن المولى ما أتلف ماليتهما على الغرماء ولا كسبهما, ألا ترى أنهما لو حضرا ردا في الرق وبيعا للغرماء في الدين وهذا لأن إتلاف المالية على الغرماء يكون بثبوت حقيقة العتق في الرقبة أو حق العتق وبمجرد الكتابة لم يثبت شيء من ذلك ولهذا احتمل الكتابة الفسخ. ألا ترى أن حق الغرماء بمنزلة حق الشريك ولو كاتب أحد الشريكين لم يكن للشريك الآخر أن يضمنه شيئا قبل أداء بدل الكتابة فكذلك الغرماء ولكنهم إن شاؤوا ضمنوه قيمة هذا العبد الشاهد لأنه منعهم من بيعه بتصرفه والتأخير كالإبطال في إيجاب الضمان ولو أبطل حق البيع بتصرفه بالتدبير كان ضامنا لهم فكذلك إذا أخره وليس لهم أن يضمنوه قيمة الغائب لأن امتناع بيعه ليس بتصرفه بدليل أنه لو حضر تمكنوا من بيعه ولو حضر العبدان فأجاز الغرماء مكاتبة أحدهما لم يكن لهم أن يردوا الآخر في الرق لأن مكاتبتهما واحدة فإجازتهم العقد في أحدهما يكون إجازة في الآخر والله أعلم بالصواب.
باب ميراث المكاتب(8/89)
قال: "وإذا مات المكاتب عن وفاء وعليه دين وله وصايا من تدبير وغيره وترك ولدا حرا وولدا ولد في المكاتبة من أمته بدئ من تركته بديون الأجانب" لأن دين الأجنبي أقوى من دين المولى حتى يبقى دين الأجنبي عليه بعد العجز دون دين المولى ثم بدين المولى إن كان ثم بالمكاتبة لأن دين المولى أقوى من بدل الكتابة إذ ليس لبدل الكتابة حكم الدين ما لم يقبض ولأنه يملك أن يعجز نفسه عن المكاتبة فيسقطها عن نفسه ولا يملك أن يعجز نفسه عن سائر الديون سوى المكاتبة ثم بالمكاتبة بعد ذلك فإن أديت حكم بحريته والباقي ميراث بين أولاده وبطلت وصاياه لأنه تبرع وقد بينا أن استناد العتق إنما يظهر في حكم الكتابة دون وصاياه ووصايا المكاتب في الحاصل على ثلاثة أوجه:
"أحدها" أن يوصي بشيء من أعيان كسبه فهذه الوصية باطلة سواء أدى الكتابة في حال حياته أو مات قبل الأداء لأن في الوصية بالعين يراعى قيام ملك الموصي وقت الإيصاء وملكه وقت الإيصاء لا يحتمل الوصية.
"والثاني" أن يقول إذا عتقت فثلث مالي وصية لك فإن أدى بدل الكتابة وعتق ثم مات(8/90)
ص -43- ... جازت الوصية لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وإن لم يؤد حتى مات فهذه الوصية باطلة.
والثالث أن يقول ثلث مالي وصية لفلان ثم يؤدي بدل الكتابة ثم يموت فهذه الوصية باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى صحيحة عندهما وهو نظير ما تقدم في العتاق إذا قال كل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر ثم عتق فملك مملوكا فإن مات المكاتب وترك ألفا وعليه للمولى ألف درهم دين وبدل الكتابة بدى ء ببدل الكتابة استحسانا وفي القياس يبدأ بالدين لأن الدين أقوى من بدل الكتابة وللاستحسان وجهان:
أحدهما أن المولى لو قبض هذا المال بجهة الكتابة يسلم له من تلك الجهة ولو قبضه من جهة الدين لا يسلم له من تلك الجهة لأنه تبين أنه مات عاجزا والمولى لا يستوجب على عبده دينا.(8/91)
"والثاني" أنه إذا قبض بجهة الكتابة سلم المال له ووصل المكاتب إلى شرف الحرية وإذا قبض بجهة الدين لا يسلم له إلا ذلك المال أيضا ولا تحصل الحرية للعبد فكان قبضه من جهة يحصل بها للعبد الحرية أولى وإن لم يترك مالا إلا دينا على إنسان فاستسعى الولد المولود في الكتابة ولا دين على المكاتبة سواها فعجز عنه وقد أيس من الدين أن يخرج فإنه يرد في الرق لأن الدين المأيوس تاو فلا يثبت باعتباره القدرة على الأداء وبدونه قد تحقق عجز الولد ولو تحقق عجز الأم في حياتها لكانت ترد في الرق ولا معتبر بالدين المأيوس عن خروجه فكذلك إذا تحقق عجز الولد فإذا خرج الدين بعد ذلك كان للمولى لأنه كسب أمته. وإذا ماتت المكاتبة عن وفاء وولد قد كوتب عليه مكاتبة واحدة وهو صغير أو كبير أو عن ولد مولود في مكاتبتها ورثه بعد قضاء مكاتبتها لأن عتق الولد لا يستند إلى ما يستند إليه عتق الأب إما لأنه مكاتب معه مضموم إليه في العقد أو لأنه تبع له, وإن كان الولد مفردا بكتابته فأداها بعد موت الأب قبل قضاء مكاتبة الأب أو بعده لم يرثه لأنه مقصود بالكتابة فإنما يعتق من وقت أداء البدل مقصورا عليه لأن الاستناد للضرورة ولا ضرورة في حقه هنا فإذا لم يستند عتقه كان هو عبدا عند موت أبيه فلهذا لا يرثه. وإن مات المولى عن مكاتبه وله ورثة ذكور وإناث ثم مات المكاتب عن وفاء فإنه يؤدي كتابته فيكون ذلك بين جميع ورثة المولى لأنه ماله فيكون ميراثا لهم عنه كسائر أمواله وما فضل عنها فللذكور منهم دون الإناث إن لم يكن للمكاتب وارث سوى ورثة المولى لأن بأداء مكاتبته بعد موته يحكم بحريته وكان ولاؤه للمولى لأنه مستحق ولاءه بكتابته في حياته فإنما يخلفه في الميراث بالولاء الذكور من عصبته دون الإناث وكذلك إن لم يمت المكاتب حتى أدى المكاتبة إليهم أو وهبوها له أو أعتقوه ثم مات فميراثه للذكور من ورثة المولى لأن بهذه الأسباب عتق على ملكه فإنه عتق وهو مكاتب(8/92)
والمكاتب لا يورث فلهذا كان ولاؤه للمولى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/93)
ص -44- ... باب مكاتبة الصغير
قال: رضي الله عنه "رجل كاتب عبدا صغيرا لم يعقل لم تجز" لأن الكتابة لا تنعقد إلا بالقبول والذي لا يعقل ليس من أهل القبول فإن كان يعقل جاز لأنه من أهل القبول
ألا ترى أن إذن المولى له في التجارة يصح وإنه يقبل الهبة والصدقة لأنه نفع فكذلك الكتابة وإذا صح العقد كان هو بمنزلة الكبير في جميع الأحكام وإن كان لا يعقل فكاتبه ثم أداها عنه رجل فقبلها المولى لم يعتق لأن أداء البدل إنما يعتبر بعد انعقاد العقد ولم ينعقد العقد حين لم يقبله أحد فلا يحصل العتق بالأداء كما لو كاتب ما في بطن جاريته فجاء رجل وأدى عنه المال لم يعتق ثم يرد المال على صاحبه لأن أداءه لمقصود ولم يحصل ذلك المقصود ولأنه أداه باعتبار سبب باطل. وإذا كاتب عبدين صغيرين يعقلان مكاتبة واحدة فهما كالكبيرين في ذلك لأن الصغير الذي يعقل من أهل قبول الكتابة فكان كالكبير فيما ينبني عليه وقد بينا أن حقيقة الكفالة لا تثبت في هذه الكتابة إذا كان العبدان لرجل واحد والصغيران فيه كالكبيرين رجل كاتب على عبد لرجل رضيع رضي المولى بذلك لا يجوز لأنه لا ولاية للقابل على عبد الغير ولا يلزمه البدل بالقبول في كتابة الغير, ولكن إن أدى إليه المكاتبة عتق استحسانا.
وفي القياس لا يعتق لما بينا في الفصل الأول لأن قبول الرجل على الرضيع غير معتبر ولكنه استحسن هنا فقال يعتق.
وقال في وجه الاستحسان أجعل هذا بمنزلة قوله إذا أديت إلي كذا فعبدي حر.(8/94)
ومعنى هذا أنه خاطب الأجنبي هنا بالعقد فيمكن أن يجعل معلقا عتقه بأداء الأجنبي وفي الأول ما خاطب الأجنبي بعقد إنما خاطب به الذي لا يعقل فلا يمكن أن يجعل معلقا عتقه بأداء الأجنبي, وحقيقة المعنى فيه أن العقد هنا منعقد لقبول الأجنبي ولكن لم يلزم مراعاة لحق المولى حتى لم يجب له البدل على أحد فإذا أدى إليه المكاتبة فقد وصل إليه حقه فقلنا بأنه يعتق. ألا ترى أنه لو كاتب حرا على عبد له غائب, ثم رجع الغائب فأجاز كان العقد جائزا, ولو أدى القابل قبل رجوع الغائب عتق الغائب ولو أدى البدل إلا درهما ثم رجع الغائب فأجاز فعليه أداء الدراهم الباقي ويعتق إذا أدى فبهذا تبين معنى الاستحسان في الرضيع والله أعلم بالصواب
باب مكاتبة عبده على نفسه
قال: رضي الله عنه "رجل كاتب عبده على نفسه وعلى عبد له آخر غائب بغير أمره على ألف درهم مكاتبة واحدة وضمنها الحاضر فإن مكاتبته على نفسه جائزة ولا يجوز على الغائب" لأنه لا ولاية له على الغائب في الإلزام وقد بينا أن على طريقة القياس الحاضر يصير مكاتبا بحصته من البدل.
وعلى طريقة الاستحسان يصير مكاتبا بجميع البدل ويثبت حكم العقد في حق الغائب(8/95)
ص -45- ... فيما لا يضره حتى يمتنع بيعه ويعتق بأداء الحاضر جميع المال ولا يرجع هو على الغائب بشيء لأنه لم يكن له على الغائب شيء من البدل ولا كان هو مأمورا بالأداء عنه وإن عجز الحاضر رد في الرق لأن المال عليه خاصة وقد تحقق عجزه ولا قول للغائب في ذلك من قبول ولا رد لأن العقد غير موقوف على إجازته بل قد نفذ حين وجب جميع المال على الحاضر وإنما ثبت حكم العقد في حقه تبعا ولا قول للتبع في القبول والرد. وإن أدى الحاضر حصته لم يعتق استحسانا لأنه ملتزم جميع البدل والمولى غير راض بعتقه ما لم يؤد جميع البدل. وإن مات عن غير وفاء فإن عجل الآخر جميع المكاتبة قبل منه استحسانا لأنه تبع في حكم العقد بمنزلة الولد المشتري في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وكذلك إن وقع العقد مع هذا والآخر حاضر ساكت لأن سكوته لا يكون التزاما للبدل وإذا لم يكن عليه شيء من البدل فحضوره وغيبته سواء وكذلك المكاتب على نفسه وولد له صغير إذ لا ولاية للمملوك على ولده في الزام البدل إلا في وجه واحد إن مات الوالد سعى الولد في المكاتبة على نجومها بمنزلة الولد المولود في الكتابة وقد بينا معنى هذا. "رجل كاتب جارية له على نفسها وعلى جارية أخرى ثم استولد السيد المكاتبة فاختارت العجز فلها ذلك" لأنها مقصودة في الكتابة والمال كله عليها وقد تلقاها جهتا حرية فلها الخيار وإن استولد الأخرى فعلى طريقة القياس تصير أم ولد له لأنها غير داخلة في الكتابة وتسعى المكاتبة في حصتها من المال.
وعلى طريقة الاستحسان تكون على حالها حتى ينظر ما تصنع الأخرى لأن حكم الكتابة(8/96)
قد تناولها تبعا ولهذا امتنع بيعها وقد بينا أن قول التابع لا يعتبر وإن ظهر له حق عتق لجهة أخرى فإذا أدت الأخرى عتقا جميعا وإن عجزت فحينئذ تصير أم ولد له وإن كان دبر لم يرفع عن المكاتبة شيء من الكتابة لأن بالتدبير لا يتغير حكم الكتابة فيها بخلاف ما لو أعتقها فإنه يسقط حصتها من البدل لتغير حكم العقد فيها بالإعتاق, ألا ترى أنه لو أعتق الحاضرة منهما سقط حصتها وجعل كالقابض للمال منهما فكذلك إذا أعتق الأخرى يجعل كالقابض لحصتها من البدل لأن الأخرى إنما التزمت المال عنهما ولو أدت الغائبة وجب القبول منها فكذلك تسقط حصتها بإعتاقه إياها وإن لم يدبرها ولكنها ولدت ولدا لم يكن له أن يبيع ولدها لأن الولد بمنزلة الأم وما كان له أن يبيعها لثبوت حكم الكتابة فيها فكذلك لا يبيع ولدها واكره للمولى أن يطأها لأن حكم الكتابة قد ثبت فيها على وجه الاستحسان. ألا ترى أنه امتنع بيعها فكذلك يحرم وطؤها كالولد المولود في الكتابة
وإن قتلت فأخذ المولى قيمتها وفيها وفاء بالكتابة عتقت المكاتبة لأن قيمة نفسها ككسبها ولو ماتت عن كسب كان يوفي بدل الكتابة من كسبها ويحكم بحريتها فكذلك يجعل المولى مستوفيا لبدل الكتابة بما أخذ من قيمتها ولم يرجع المولى على المكاتبة بشيء منه لأنها لو كانت حية فأدت الكتابة لم يرجع على المكاتبة بشيء فكذلك من خلفها وهو الولي بسبب الولاء لا يكون له أن يرجع على المكاتبة بشيء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/97)
ص -46- ... باب الكتابة على الحيوان وغيره
قال: "رجل كاتب عبده على عبد مؤجل أو على وصيف جاز استحسانا.
وفي القياس لا يجوز لأن هذا العقد لا يصح إلا بتسمية البدل فلا يثبت الحيوان دينا في الذمة كالبيع والإجارة.
وفي الاستحسان قال هذا عقد مبني على التوسع في حكم البدل والبدل بمقابلة ما يثبت للعبد من صفة المالكية وذلك ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كما في الصداق ثم قيمة الوصيف أربعون دينارا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما على قدر الغلاء والرخص. وإن جاء بوصيف وسط أو قيمته أجبر المولى على القبول كما في الصداق وقد بينا معنى هذا في النكاح, وإن كاتبه على دابة أو ثوب لم يجز حتى يبين الجنس لأن اسم الدابة والثوب يشتمل على أجناس ومع جهالة الجنس لا تصح التسمية في شيء من العقود كما في الصداق والخلع, "رجل كاتب عبده على جارية فدفعها إليه فوطئها المولى فولدت منه ثم استحقها رجل".
قال "يأخذها المستحق وعلى المولى عقرها وقيمة ولدها" لأنه مغرور فإنه استولدها على أنها مملوكته ثم يرجع المولى بقيمة الولد على المكاتب ولا يرجع بالعقر لأنه مغرور من جهة المكاتب والمغرور يرجع على الغار بقيمة الولد دون العقر وهذا لأن المكاتب في حكم الغرور من المولى كالأجنبي. ألا ترى أنه لو ابتاع من مكاتب له جارية فاستولدها ثم استحقها مستحق أخذها وعقرها وقيمة ولدها ويرجع المولى على المكاتب بالثمن وبقيمة الولد كما لو اشتراها من أجنبي آخر ثم لا يبطل عتق المكاتب لأنه قد عتق بتسليم الجارية إلى المولى والعتق بعد وقوعه لا يبطل باستحقاق البدل ولكن يرجع المولى على المكاتب بالجارية التي كاتب عليها لأن قبضه انتقض بالاستحقاق من الأصل فيما يحتمل النقض فيكون رجوعه بموجب العقد كما لو كانت الكتابة على دراهم فاستحقت بعد القبض(8/98)
وإن كاتب على دار قد سماها ووصفها أو على أرض لم يجز لأن الدار والأرض لا تثبت دينا في الذمة في شيء من العقود وهو مجهول جهالة فاحشة.
وإلى نحو هذا أشار فإذا لم يعين الدار فقد كاتب على شيء لا يعرف وإذا عينها فقد كاتب على ما لا يملك دينا وقد بينا اختلاف الروايات في الكتابة على الأعيان. ولو كاتبها على ياقوتة أو لؤلؤة أو ما أشبه ذلك من العروض لم يجز أما إذا كانت بعينها فلأنه لا يملك. وإن كانت بغير عينها فإن الياقوتة واللؤلؤة لا تثبت دينا في الذمة صداقا فكذلك في الكتابة وهذا لأن التفاوت في اليواقيت واللؤلؤ عظيم في المالية وهذه الجهالة فوق جهالة الجنس في معنى التفاوت في المالية وهو مقصود. وإن كاتبه على كر حنطة أو ما أشبه ذلك من المكيل والموزون جاز وله الوسط من جنسه لأن جنس المسمى معلوم وجهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في الكتابة بخلاف السلم, وإن كاتبه على وصيف فأعطاه وصيفا وعتق به ثم أصاب(8/99)
ص -47- ... السيد به عيبا فاحشا رده على المكاتب ويرجع بمثله لأن بدل الكتابة كالصداق يرد بالعيب الفاحش ولم يرجع المكاتب رقيقا بعد ما عتق وكذلك إن استحق نصف الوصيف كان للمولى أن يرد ما بقي لأن الشركة عيب فاحش يرد الصداق به فكذلك بدل الكتابة فيرده إنشاء ويطالبه بموجب العقد وهو وصيف وسط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب كتابة أهل الكفر
قال: رضي الله عنه "ذمي ابتاع عبدا مسلما فكاتبه فهو جائز ولا يرد" لأن شراءه صحيح عندنا فإنما كاتب ملكه وكان مجبرا على بيعه ليزول به ذل الكفر عن المسلم وقد حصل هذا بالكتابة لأن المكاتب بمنزلة الحر يدا وإن كاتبه على خمر أو خنزير لم يجز لأن القابل مسلم وهو ليس من أهل أن يلتزم في ذمته الخمر بالعقد ولكنه إن أدى الخمر عتق لأن الكتابة انعقدت مع الفساد فيعتق بأداء البدل المشروط وعليه قيمته لأن رقبته سلمت له بحكم عقد فاسد فيلزمه قيمته وكذلك إن كان المولى هو المسلم وقد بينا هذا الحكم فيما إذا كانا مسلمين. فإذا كان أحدهما مسلما أولى ذمي كاتب عبدا كافرا على خمر فهو جائز لأن الخمر في حقهم مال متقوم بمنزلة الخل والعصير في حقنا, فإن أسلم العبد فالمكاتبة جائزة وعليه قيمة الخمر وهذا استحسان.(8/100)
وفي القياس يبطل العقد لأن الإسلام ورد والحرام مملوك بالعقد غير مقبوض فيجعل كالمقترن بالعقد كما في البيع, ولكنه استحسن فقال قد صحت الكتابة بصحة التسمية في الابتداء وباعتبار صحة العقد يثبت للعبد صفة المالكية يدا فبإسلامه يتأكد ملك المالكية ولا يجوز أن يكون إسلامه مبطلا مالكيته, وإذا بقيت الكتابة وقد تعذر عليه تسليم الخمر بإسلامه مع بقاء السبب الموجب للتسليم فيجب قيمته كما لو تزوج الذمي ذمية على خمر بغير عينها ثم أسلم أحدهما إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى هناك يوجب مهر المثل لأن بقاء العقد بعد فساد التسمية هناك ممكن فيجعل الإسلام الطارئ كالمقارن وهنا لا يمكن إبقاء العقد مع فساد التسمية ولا بد من إبقاء العقد لما قلنا فتبقى التسمية معتبرة أيضا فلهذا يجب قيمة الخمر, وإن كاتبه على ميتة أو دم لم يجز لأن هذا ليس بمال في حقهم وشرط صحة التسمية في الكتابة أن يكون المسمى مالا, ثم قد بينا حكم هذا في حق المسلمين أنه لا يعتق بالأداء لأن العقد غير منعقد أصلا إلا أن يكون المولى.
قال في الكتابة إذا أديت إلي فأنت حر ثم أداه وقبله السيد فيعتق بقوله أنت حر لا بالأداء ولا يرجع عليه السيد بشيء فكذلك في حق الذمي لأن معنى انعدام المالية في الميتة يعمهما وإذا كاتب النصراني أم ولده فأدت بعض الكتابة ثم أسلمت ثم عجزت فردها القاضي وقضى عليها بالقيمة لتعذر بيعها بسبب الاستيلاد فإنه لا يحتسب بما أخذه السيد منها بهذه القيمة وكذلك إن أدته بعد إسلامها لأنها حين ردت في الرق صارت مملوكة له وصار هو أحق بجميع مكاسبها. ألا ترى أنه لو أسلم كان متمكنا من استدامة الملك فيها وكسبها(8/101)
ص -48- ... سالم له فإنما قضى عليها بالسعاية بعد ما صار هذا المال للسيد فلهذا لا يحتسب بذلك المال من هذه القيمة ذمي وطئ مكاتبته فولدت منه فهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة وإن شاءت عجزت وكذلك إن أسلمت فهي على خيارها فإن مضت على الكتابة أخذت عقرها من سيدها وإن عجزت نفسها قضي عليها بالسعاية في قيمتها لأنها أسلمت وهي أم ولده ولا عقر على السيد لأن عقرها ككسبها وقد بينا حكم الكسب في الفصل الأول, فكذلك هنا, "عبد كافر بين مسلم وذمي فكاتب الذمي نصيبه بإذن شريكه على خمر تجوز المكاتبة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا تجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى" لأن عندهما الكتابة لا تتجزى ولا يمكن تنفيذها في نصيب المسلم بالخمر فكذلك في نصيب الكافر.(8/102)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الكتابة تتجزى فيقتصر العقد على نصيب الكافر خاصة ولو باعه من كافر بخمر جاز, فكذلك إذا كاتبه على خمر ولا يضمن للمسلم فيما أخذ النصراني من الخمر سواء كاتب بإذنه أو بغير إذنه لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم والعبد قضي به دينا عليه وقد استهلكه القابض فلا يكون له أن يرجع عليه بشيء منه لأن الذمي لا يضمن الخمر للمسلم بالاستهلاك, وإن كاتباه جميعا على خمر مكاتبة واحدة لم يجز في نصيب واحد منهما لأن العقد واحد, ألا ترى أنه لا يعتق إلا بأداء جميع البدل لو كان دراهم وقد تعذر تصحيحه في نصيب المسلم إذا كان البدل خمرا فلا يصح في نصيب الآخر أيضا إذ لو صححناه يعتق بأداء نصيب الآخر من الخمر إليه وذلك خلاف شرطهما فإن أدى إليهما عتق لوجود الشرط وعليه نصف قيمته للمسلم لأن العقد في نصيبه فاسد وقد تقرر بالأداء مع صفة الفساد فيرجع على العبد بقيمة نصيبه وللذمي نصف الخمر لأن المفسد قد زال في نصيبه حين عتق بالأداء وتسمية الخمر في حقه كان صحيحا وقد سلم له نصف الخمر كما شرط فلهذا لا يرجع على العبد بشيء. ولو أن ذميين كاتبا عبدا على خمر ثم أسلم أحدهما فلهما جميعا قيمة الخمر يوم أسلم لأن العقد واحد فيجعل إسلام أحدهما في تعذر قبض الخمر كإسلامهما ولو أسلما تحول الخمر قيمة عليه ولا يعتق بأداء الخمر بعد ذلك فكذلك إذا أسلم أحدهما وهذا لأن نصيب المسلم تحول إلى الدراهم بإسلامه ومن ضرورته تحول نصيب الآخر إلى الدراهم أيضا لأن العقد في نصيبهما واحد فلهذا لا يعتق نصيب واحد منهما بأداء الخمر, وإذا قبض أحدهما حصته من القيمة كان المقبوض مشتركا بينهما والباقي مشترك بينهما كما لو قبض أحدهما الخمر قبل الإسلام وهذا لأن القيمة إنما سميت قيمة لقيامها مقام العين. وإذا مات عبد المكاتب فالمكاتب أحق بالصلاة عليه لأنه كسبه وقد كان أحق به في حياته وعليه كفنه بعد موته فيكون هو أحق بالصلاة عليه(8/103)
إلا أنه إن كان حضر مولاه فينبغي له أن يقدمه للصلاة عليه لأنه ملك مولاه فلا ينبغي له أن تتقدم عليه للصلاة على الجنازة وإن كان الحق له حربي دخل دار الإسلام بأمان فاشترى عبدا مسلما وكاتبه جاز لأنه ملكه بالشراء حتى لو أعتقه أو دبره جاز ذلك فكذلك إذا كاتبه, فإن أدخله معه دار الحرب فهو حر ساعة أدخله في قياس قول أبي(8/104)
ص -49- ... حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لو أدخله قبل الكتابة عتق عنده فكذلك إذا أدخله بعد الكتابة لأن عنده لو أعتقه جاز عتقه وإدخاله إياه في دار الحرب بمنزلة إعتاقه وهذا لأن الحربي لا يثبت له الملك في دار الحرب على من هو من أهل دار الإسلام فكذلك لا يبقى له عليه الملك وتمام بيان هذا في السير الكبير, وكذلك لو كان دبره فقضى القاضي عليه بالسعاية في قيمته أو لم يقض حتى أدخله في دار الحرب أو كانت جارية فاستولدها ثم أدخلها دار الحرب فإنها تعتق وتسقط السعاية عنها وعن المدبر كما لو أعتقها وكذلك إن كان العبد ذميا أو الأمة ذمية لأنهما من أهل دار الإسلام كالمسلم. وإن كان اشترى عبدين فكاتبهما مكاتبة واحدة ثم رجع إلى دار الحرب بأحدهما فالذي أدخله معه دار الحرب حر كما لو أعتقه قصدا والآخر لا يعتق بإعتاق أحدهما قصدا ولكنه على مكاتبته يسعى في حصته منها, فإن رجع الحربي إلى دار الإسلام أداها إليه وإن لم يرجع فأداها إلى القاضي عتق لأن من في دار الحرب حربي في حق من هو في دار الإسلام كالميت وللقاضي ولاية في قبض ديون الميت فلهذا يعتق المكاتب بأداء البدل إلى القاضي ويكون ذلك المال للحربي إذا جاء أخذه لبقاء حكم الأمان له في المال الذي خلفه في دارنا وولاء العبد له لأنه استحق ولاءه حين عتق على ملكه فهو كما لو أعتقه ثم رجع إلى دار الحرب ثم عاد إلى دار الإسلام فإن ولاء العبد يكون له. "حربي مستأمن في دارنا اشترى عبدا فأدخله دار الحرب عتق ولم يكن له ولاؤه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن عنده حين أدخله دار الحرب فقد سقطت حرمة ملكه وبقي العبد في يد نفسه ويده محترمة فيعتق بذلك لأنه لو قهر مولاه صار هو مالكا والمولى مملوكا فكذلك إذا استولى على نفسه ومتى كان عتق العبد لتملكه نفسه لم يكن عليه ولاء كالمراغم.(8/105)
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يعتق العبد المسلم إذا أدخله دار الحرب حتى يظهر عليه المسلمون أو يهرب منه إلينا بمنزلة العبد الحربي إذا أسلم في دار الحرب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا أعتق الحربي في دار الحرب عبدا مسلما فالعتق جائز لأنه لا يملكه بعد العتق بالقهر فإن حريته تتأكد بإسلامه فلهذا نفذ إعتاقه في دار الحرب وله ولاؤه لأن الولاء كالنسب والنسب يثبت ممن باشر سببه في دار الحرب كما يثبت في دار الإسلام وكذلك الولاء وقد باشر الحربي هنا اكتساب سبب الولاء وهو إعتاقه إياه وكل معتق يجري عليه السبي بعد العتق والمولى حربي أو مسلم في دار الحرب فإن في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
للمعتق أن يوالي من شاء, وقد بينا في كتاب العتاق إن عتق الحربي عبده في دار الحرب لا ينفذ في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى
وأن الطحاوي رضي الله عنه جعل هذا الخلاف في الولاء, وكأنه أخذ ذلك من رواية كتاب المكاتب فإنه نص هنا على الخلاف في الولاء أن للمعتق أن يوالي من شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى(8/106)
ص -50- ... وعلى قول أبي يوسف ولاؤه الذي أعتقه استحسانا وفي بعض النسخ جعل ذلك الاستحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى في المسلم خاصة يعتق الحربي أن له ولاءه بمنزلة الحربيين يعتق أحدهما صاحبه ثم أسلما.
قال لأن الحكم على المولى إذا كان مسلما حكم أهل الإسلام ففي التعليل أشار إلى أن الاستحسان فيما إذا كان المولى مسلما, وفي قوله هو بمنزلة الحربيين يعتق أحدهما صاحبه ثم أسلما أشار إلى الاستحسان في الفصلين جميعا فاشتبه مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا.
وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في الفصلين له أن يوالي من شاء لأن العبد حربي فما دام في دار الحرب لا يلزمه حكم الإسلام وإلزام الولاء عليه من حكم الإسلام فلا يلزمه ذلك في دار الحرب وإن خرج إلينا فقد خرج ولا ولاء عليه فله أن يوالي من شاء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ضمان المكاتب(8/107)
قال: رضي الله عنه "ولا يجوز كفالة المكاتب بالمال بأمر المكفول عنه ولا بغير أمره" لأنه تبرع واصطناع معروف فإنه يلتزم للغرماء مالا في ذمته من غير منفعة له في ذلك وهو ليس من صنيع التجار عادة بل يحترزون عنها وكذلك كفالته بالنفس لأنه التزام بطريق التبرع وهو يتضرر بذلك من حيث أنه يحبس إذا غاب المطلوب ويستوي إن كان بإذن مولاه أو بغير إذنه لأنه لا ملك للمولى في منافعه ومكاسبه فوجود إذنه فيما هو تبرع كعدمه ولأنه لا ولاية للمولى في إلزام شيء في ذمته وكذلك قبول الحوالة فإن معنى التزام المال في قبول الحوالة أظهر منه في الكفالة فإن كفل بمال بإذن سيده ثم عجز لم تلزمه تلك الكفالة لأن أصل ضمانه كان باطلا في حالة رقه لانعدام أهلية التبرع مع الرق وبالعجز يتأكد رقه ولا معتبر بإذن سيده حين كفل وإن أدى فعتق لزمته الكفالة لأن التزامه صحيح في ذمته باعتبار أنه مخاطب له قول ملزم ولا يكون هو في هذا الالتزام أدون من العبد ولو أن عبدا محجورا كفل بكفالة ثم عتق لزمته فالمكاتب مثله إلا أن العبد إذا كفل بإذن سيده يطالب به في حال رقه لأن له ولاية إلزام المال في رقبته بخلاف المكاتب, ولو كان المكاتب صغيرا حين كفل لم يؤخذ بها وإن عتق لأن الصغير ليس له قوم ملزم في التبرعات في حق نفسه, ألا ترى أنه لو كان حرا لم يلزمه بذلك شيء, فكذلك إذا أعتق بعد الكفالة وكذلك بن المكاتب وأبوه وقرابته لأن من دخل في كتابته فحاله كحال المكاتب ومن لم يدخل في كتابته فهو عبد محجور عليه فلا تصح كفالته وإن كان بإذن المكاتب لأن إذنه إنما يعتبر فيما يملك مباشرته بنفسه وإن كفل له سيده بمال على إنسان جاز لأنه بمنزلة الأجنبي عنه حتى يشتري منه ويبيع كسائر الأجانب وكفالة الأجنبي له بالمال صحيح لأنه تبرع عليه لا منه فكذلك كفالة المولى, فإن عجز المكاتب رجع السيد بالمال على المكفول عنه إن كان كفل بأمره وإن كان كفل بغير أمره بطل المال عنهما(8/108)
ص -51- ... جميعا ولم يرجع عليه بشيء لأن ما في ذمة الأجنبي وهو المال المكفول به كسب المكاتب وكسبه بالعجز يصير ملكا لمولاه فكان ملك المولى المال المكفول به بهذا الطريق كملكه والهبة منه وهناك يسقط عنهما جميعا ويرجع على المكفول عنه إن كان كفل بأمره ولم يرجع إذا كفل بغير أمره فهذا مثله ولو كان أدى السيد المال ثم عجز المكاتب رجع به المولى على الذي ضمنه بأمره لأنه بالأداء استوجب الرجوع عليه وصار ذلك دينا له في ذمته فلا يسقط بعجز المكاتب بعد ذلك ويستوي إن كان المقبوض قائما بعينه في يد المكاتب أو مستهلكا لأن ما قبضه المكاتب التحق بسائر أمواله فكما أن عود ماله إلى المولى بالعجز لا يمنعه من الرجوع على المكفول عنه فكذلك عود هذا المال إليه, وكذلك لو حلت المكاتبة فصارت قصاصا بماله على المولى من الضمان لأن المولى بالمقاصة يصير قاضيا دين الكفالة للمكاتب أو يصير متملكا ما في ذمته فيثبت له حق الرجوع على المكفول عنه إذا كان كفل بأمره ولا تجوز مكاتبة ما في البطن وإن قبلتها الأم عليه لأن ما في البطن غير معلوم الوجود والحياة ولا ولاية لأحد عليه في القبول والقبول منه لا يتصور وقد بينا أن كتابة الصبي الذي لا يعقل باطل فما في البطن أولى وكذلك إن تولى قبول ذلك حر على ما في البطن وضمنه لأنه لا ولاية له عليه في القبول وما في البطن ليس بمحل الكتابة والعقد متى أضيف إلى غير محله كان باطلا وإنما يجعل قبول الغير كقبول من هو المقصود في موضع يتحقق القبول فيه ممن هو المقصود إلا أن المولى إن كان قال للحر إذا أديت إلي ألفا فهو حر فأداه عتق إذا وضعت لأقل من ستة أشهر حتى يتيقن بوجوده في البطن يومئذ وهذا لأن ما في البطن محل تنجيز العتق فيكون محلا لتعليق عتقه بالشرط ويعتق بوجود شرطه ثم يرجع صاحب المال بماله لأن المؤدى لم يملكه من المولى بسبب صحيح وعتق الجنين كان بوجود الشرط والشرط هو الأداء إلى المولى دون التمليك(8/109)
منه فبقي المال على ملك المؤدى فلهذا يرجع به عليه, وإن عتق الجنين وإذا وهب المكاتب هبة أو تصدق بصدقة فهو باطل لأنه تبرع فإن عتق بالأداء ردت الهبة والصدقة حيث كانت لأنه لم يكن أهلا لما صنع ولا كان كسبه محتملا له فلغا فعله وبقي المال على ملكه فيأخذه حيث ما يجده بعد العتق بخلاف كفالته فإن ذلك التزام في ذمته وله ذمة صالحة لالتزام الحقوق فينفذ ذلك بعد عتقه وإن استهلك الموهوب له أو المتصدق عليه فهو ضامن لقيمته باستهلاكه مالا لا حق له فيه يستوفي ذلك منه المكاتب في حال قيام الكتابة وبعد العتق ويستوفيه المولى بعد عجز المكاتب بطريق الأولى لأن الحق في كسبه خلص له وإذا اشترى المكاتب عبدا من مولاه أو من غيره فوجد به عيبا فله أن يرده على البائع لأنه في حقوق عقد الشراء كالحر والمولى منه في ذلك كأجنبي آخر فإن عجز ثم وجد السيد به عيبا وقد اشتراه المكاتب من غير السيد فلسيده أن يرده بالعيب لأن الحق يخلص له بعجز المكاتب كما يخلص للمكاتب بعتقه.
ثم لا يمتنع عليه الرد بالعيب بعد العتق فكذلك على المولى بعد العجز والمولى يخلفه في كسبه بعد العجز خلافه الوارث المورث وللوارث حق الرد بالعيب فيما اشتراه مورثه(8/110)
ص -52- ... فكذلك للمولى ذلك ولكن المكاتب هو الذي يلي رده لأن الرد بالعيب من حقوق العقد
وذلك إلى العاقد خاصة ما بقي حيا وهو كالعبد المأذون يشتري شيئا ثم يحجر عليه مولاه
"مكاتب اشترى عبدا ثم باعه من سيده ثم عجز فوجد به السيد عيبا لم يستطع رده على عبده" لأنه لا يستوجب بالرد عليه شيئا فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا ولأن حق الرد بالعيب بناء على ثبوت المطالبة بتسليم الجزء الفائت وذلك غير ثابت للمولى على عبده ولا يرده على بائعه من عبده لأنه ما عامله بشيء ولا كان ملكه مستفادا بذلك العقد وإنما كان المستفاد بعقده ملك المكاتب فما لم يعد ذلك الملك لا تتصور الخصومة معه في العيب.
وكذلك إن مات المكاتب بعد العجز ثم وجد السيد بالعبد عيبا لم يرده لأن إعادة الملك المستفاد للمكاتب متعذر بعد موته عاجزا عما كان متعذرا بعد عجزه في حياته فإذا عجز المكاتب وعليه دين لمولاه ودين لأجنبي فإنه يبطل دين المولى عنه لأن الدين في ذمة العبد لا يثبت إلا شاغلا ماليته وماليته ملك مولاه وهو لا يستوجب الدين في ملكه ويباع في دين الأجنبي لأنه كان ثابتا في ذمته وبقي بعد العجز كذلك فإن العجز لا ينافي وجوب الدين عليه للأجنبي ابتداء إذا وجد سببه فكذلك لا ينافي بقاءه وإذا بقي الدين عليه كان متعلقا بماليته فيباع فيه, وإن لم يعجز ولكنه مات عن مال كثير بدى ء بدين الأجنبي لأنه أقوى ثم بقضاء دين المولى ومكاتبته.(8/111)
وفي هذا أشار إلى التسوية بين المكاتبة والدين الآخر للمولى وقد ذكر قبل هذا مفسرا أن دين المولى مقدم في القضاء على المكاتبة وهو الصحيح وقد بينا وجهه, وإذا عجز المكاتب وفي رقبته دين فجاء رجل بعبد اشتراه منه يريد رده عليه بالعيب له ذلك لأنه حق استوجبه عليه قبل العجز فلا يبطل بالعجز فإن رده وسلمه إليه كان الثمن دينا له في ذمته كسائر الديون والعبد المردود كسبه فيباع ويقسم ثمنه بين الراد وسائر الغرماء بالحصص لاستواء حقهم في كسبه. وإن قال الراد لا أرده حتى آخذ ثمنه كان له ذلك لأن حال المشتري مع البائع عند الرد كحال البائع مع المشتري في ابتداء العقد وقد كان له أن يحبس المبيع لاستيفاء الثمن فكذلك المشتري بعد الرد له أن يحبسه لاسترداد الثمن وباعتبار بقاء يده هو أحق بماليته من سائر الغرماء فيباع له خاصة. وإذا سبي المكاتب فاستدان دينا فهو بمنزلة ما استدانه في أرض الإسلام لأن المكاتب لا يملك بالأسر فهو باق على ملك مولاه مكاتبا سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام, وإن ارتد المكاتب وعليه دين واستدان في ردته أيضا علم ذلك بإقراره ثم قتل على ردته فهو بمنزلة دين المرض حتى يبدأ بما استدانه في حال الإسلام من أكسابه ثم ما بقي للذي أدانه في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف رضوان الله عليهم أجمعين الكل في ذلك سواء لأن من أصل أبي يوسف أن الحر بعد الردة في التصرفات بمنزلة الصحيح لتمكنه من دفع ما نزل به عن نفسه بالتوبة فكذلك المكاتب.
ومن أصل محمد رحمه الله تعالى أنه في التصرفات بمنزلة المريض لكونه مشرفا على الهلاك فكذلك المكاتب.(8/112)
ص -53- ... ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الحر بالردة تتوقف تصرفاته ويصير في حكم المحجور عليه والمكاتب إنما ينفذ تصرفه بعد الردة لمراعاة حق مولاه لأن كسبه قد تعلق به حق مولاه فأما في حق نفسه السبب الموجب للحجر متقرر فلهذا كان بمنزلة المريض فيما يلزمه بإقراره, ويقدم دين الإسلام عليه ويستوي في هذا كسب الإسلام وما اكتسبه بعد الردة لأن حق المولى ثابت في ذلك كله لبقاء عقد الكتابة فلهذا يستوي الكسبان فيه وما بقي بعد قضاء ديونه وأداء مكاتبته يكون لورثته المسلمين لأن قيام حق المولى يمنع من أن يجعل كسب ردته فيئا فيكون موروثا عنه بعد عتقه ككسب إسلامه, ولو ارتد العبد المأذون ثم استدان في ردته ثم أسلم فجميع ذلك في رقبته لأنه باق على إذنه بعد الردة
فإذا أسلم صار كأن الردة لم تكن فيكون هذا وما استدانه في حال إسلامه سواء
ولو قتل مرتدا عن مال كان غرماؤه أحق به من المولى لأنهم في حال حياته كانوا أحق بكسبه من المولى فكذلك بعد موته. وإذا سعى ولد المكاتب المولود في مكاتبته وقضي مكاتبته وعتق ثم حضر غرماء أبيه لم يكن لهم أن يأخذوا من المولى ما أخذ ولكنهم يتبعون الولد بدينهم لأنه بعد موت أبيه قائم مقامه والمكاتب في حياته لو أدى المكاتبة أولا عتق ولا سبيل للغرماء على ما أخذه المولى فكذلك ولده بعد موته استحسانا.
نقول فإن كان المكاتب ترك مالا فأداه الابن إلى السيد فإن الغرماء يرجعون بذلك المال على السيد لأن حقهم ثبت في ذلك المال بموت المكاتب وهو مقدم على حق المولى فلا يملك الولد إبطال ذلك الحق عليهم.(8/113)
ثم قال "ويعود الابن مكاتبا كما كان" لأن أداءه لما بطل صار كأن لم يؤد بدل الكتابة إلى المولى. وقد قال قبل هذا في الفصل بعينه أنه يكون حرا وهكذا يذكر في آخر الكتاب ويضيفه إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أن بن المكاتب إذا أدى من تركة المكاتب مالا في المكاتبة ولحقه دين كان على الميت فالعتق ماض فيؤخذ من المولى ما أخذ ويرجع على الابن ببدل الكتابة وهذا هو الأصح لأن شرط عتقه قد وجد وهو الأداء فيعتق. وإن كان المال مستحقا للغرماء.
ولكن على الرواية الأخرى يقول هو لا يخلف أباه في كسبه ما بقي الرق فيه فلا معتبر بأدائه في ذلك ولكن يخلفه فيما يكتسبه بنفسه فيعتبر أداؤه في ذلك ولهذا يسلم للمولى ما يقبضه من تركة المكاتب وقد بينا فيما سبق وجوه وصية المكاتب. فإن أوصى لعبد له فقال بيعوه بعد موتي نسمة فهذا باطل لأن هذا وصية للعبد بقدر ثلثه فإن البيع نسمة يكون للعتق والمشتري لا يرغب فيه بمثل الثمن. ألا ترى أن الحر لو أوصى بهذا يحط عنه من الثمن بقدر ثلث ماله إذا لم يكن يرغب في الشراء بأكثر منه ووصية المكاتب بالثلث باطلة وإن مات عن وفاء لما بينا أن كسبه لا يحتمل التبرع. فإن أجازوا بعد الموت ثم أرادوا أن يدفعوه إلى صاحبهم فلهم ذلك لأن العقد كان لغوا باعتبار أنه لم يصادف محله فلا تعمل الإجازة في لزومه(8/114)
ص -54- ... بخلاف ورثة الحر إذا أجازوا وصيته بما زاد على الثلث لأن ذلك صادف محله لكونه مملوكا له ولكنه امتنع نفوذه لحق الورثة فإجازتهم تكون إسقاطا لحقهم فلهذا يتم بنفسه وهنا لم يصادف محله فلا تعمل الإجازة فيه ولكنهم لو دفعوه إلى صاحبه بعد الإجازة ففي القياس لهم الاسترداد أيضا لأن الإجازة لا ينعقد بها العقد ابتداء, ألا ترى أن الصبي لو طلق امرأته ثم أجازه بعد البلوغ كان لغوا, ولكنه استحسن فقال دفعهم المال إلى صاحبه تمليك منه لذلك المال وتمليكهم صحيح بعد ما خلص المال لهم من الوجه الذي قصد تمليكه فلهذا يصح ذلك ليحصل مقصودهم, وإذا تصدق على المكاتب بصدقة فقضى منها الكتابة أو لم يكن فيها وفاء فعجز عن المكاتبة والصدقة في يده فهي طيبة للمولى لأن الصدقة تمت وصار المقبوض كسبا للمكاتب فإنما يسلم للمولى إما بجهة الكتابة أو بجهة الخلافة عنه في كسبه بعد العجز فيكون طيبا له كسائر أكسابه.
والأصل فيه حديث بريرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: "هي لها صدقة ولنا هدية" وكذلك ما يتصدق به على عبد المكاتب فهو جائز لأن المكاتب في حكم الصدقة كالفقير المحتاج ويجوز التصدق على عبد الفقير بزكوة المال ويحل ذلك لمولاه فكذلك على العبد المكاتب والله أعلم بالصواب.
باب الاختلاف في المكاتب
قال: رضي الله عنه قد بينا في كتاب العتاق الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله فيما إذا اختلف المولى مع المكاتب في مقدار البدل أو جنسه في حكم التحالف ثم فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال: "إذا قال المكاتب كاتبتني على ألف درهم وقال المولى على ألفين فجعل القاضي القول قول المكاتب مع يمينه وألزمه ألف درهم" كما هو قول المكاتب ثم أقام السيد البينة على أنه كاتبه على ألفين فبينته مقبولة لما فيها من إثبات زيادة المال وهو حقه.(8/115)
ثم إن كان المكاتب لم يؤد شيئا بعد لم يعتق إلا بأداء الألفين لأن الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين وإن كان أدى ألفا وأمضى القاضي عتقه ثم أقام المولى البينة ففي القياس هذا والأول سواء لأنه تبين بالحجة أن بدل الكتابة ألفان وأن القاضي مخطى ء في إمضاء عتقه بعد أداء الألف ولكنه استحسن فقال هو حر وعليه ألف درهم لأن القاضي قضى بعتقه بدليل شرعي والعتق بعد وقوعه لا يحتمل النقض ثم بينة المولى بعد ذلك مقبولة على إثبات الزيادة له في ذمته غير مقبولة على نفي العتق المقضي به إذ ليس من ضرورة وجوب المال على المكاتب بطلان العتق كما لو استحق البدل من المولى.
لأنا قد بينا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في وقت عتق المكاتب فمنهم من يقول يعتق بنفس العقد, ومنهم من يقول يعتق بأداء قدر قيمته وقضاء القاضي بعتقه صادف موضع الاجتهاد فكان نافذا فإن أدى المكاتب ألف درهم ولم يخاصمه إلى القاضي حتى أقام المولى(8/116)
ص -55- ... البينة على الألفين لم يعتق حتى يؤدي الألف الباقية لأنه تبين أن بدل الكتابة ألفان فلا يعتق بأداء بعض المال ولما لم يخاصمه إلى القاضي لا يمكن إثبات العتق له محالا به على قضاء القاضي في المجتهدات لأن القاضي لم يقض بشيء فلهذا لا يعتق حتى يؤدي جميع المال وإذا اختلفا فقال المولى كاتبتك على ألفين وقال العبد كاتبتني على ألف إذا أديت فأنا حر فأقاما البينة فإنه يقضي عليه بألفين فيؤخذ ببينة المولى على المال وببينة العبد على العتق فإذا أدى ألفا عتق وعليه ألف أخرى لأن العبد قد أقام البينة على عتقه بعد أداء الألف حين شهد شهوده أنه قال إذا أدى ألفا فهو حر بمنزلة رجل أعتق عبده على ألف. وقد بينا معنى هذه المسألة في كتاب العتاق إلا أن هناك أبهم الجواب وهنا فسر وفرق بينما إذا شهد شهود العبد أنه قال إذا أديت إلي فأنت حر وبين ما إذا لم يشهدوا بذلك ولكن شهدوا أنه كاتبه على ألف ونجمها عليه نجوما فإنه لا يعتق هنا حتى يؤدي ألفا أخرى وهذا الفرق صحيح لأن في الفصل الأول عتقه عند أداء الألف بحكم الشرط مصرح به في شهادته ولا يوجد ذلك في الفصل الثاني فإنه يعتق بحكم العقد وقد ثبت ببينة المولى أن البدل بحكم العقد ألفان فلا يعتق إلا بأداء الألفين. ألا ترى أنه لو كاتبه على ألف ثم جدد الكتابة على ألفين أو زاده في المكاتبة ألفا أخرى فإنه لا يعتق إلا بأداء الألفين فكذلك عند إقامة البينة لأنا نجعل كأن الأمرين كانا, وإن اختلفا فقال العبد كاتبتني على نفسي ومالي على ألف درهم وقال المولى بل كاتبتك على نفسك دون مالك فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لأن العبد في هذا الفصل يدعي زيادة في حقه والمولى ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه لإنكاره والبينة بينة العبد لما فيها من إثبات الزيادة, وكذلك لو قال المولى كاتبتك على نفسك خاصة وقال العبد بل على نفسي وولدي فإن قال المولى كان هذا المال في يدك حين كاتبتك(8/117)
فهو مالي وقال العبد أصبته بعد ذلك فالقول قول العبد والبينة بينة المولى لأن المال في يد العبد فهو مستحق بحكم يده والمولى يحتاج إلى إثبات الاستحقاق عليه بالبينة ولأن الكسب حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات وهو ما بعد الكتابة ويحتاج المولى إلى إثبات التاريخ السابق بالبينة, وإن ادعى أحدهما فسادا في المكاتبة وأنكر الآخر فالقول قول المنكر لأن اتفاقهما على العقد يكون إتفاقا منهما على ما يصح به العقد فإن مطلق فعل المسلم محمول على الصحة فلا يقبل قول من يدعى الفساد إلا بحجة ولأن المفسد شرط زائد على ما به تتم المكاتبة فلا يثبت بمجرد الدعوى قبل إقامة الحجة ولهذا لو أقاما البينة كانت البينة بينة من يدعى الفساد لأنه يثبت زيادة شرط ببينته
وإن قال المولى كاتبتك على ألف إلى سنة وقال العبد إلى سنتين فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لأن الأجل حق العبد فهو يدعي زيادة في حقه وهو منكر, ألا ترى أن المولى لو أنكر أصل الأجل كان القول قوله والبينة بينة العبد فكذلك إذا أنكر زيادة في الأجل
وإن ادعى أنه كاتبه نجوما على ألف كل شهر مائة وقال المولى نجومك مائتان كل شهر فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لأن الاختلاف بينهما في الحقيقة في فصل الأجل(8/118)
ص -56- ... العبد يدعى أن الأجل عشرة أشهر والمولى يدعى أن الأجل خمسة أشهر. ولو قال العبد كاتبتني على مائة دينار وأقام البينة. وقال المولى على ألف درهم وأقام البينة فالبينة بينة المولى لأن حق المكاتب ثابت باتفاقهما وإنما قامت البينتان فيما هو حق المولى وبينته على إثبات حق نفسه أولى بالقبول من بينة غيره على حقه, ولو قال المولى لمكاتبته ولدت هذا الولد قبل أن أكاتبك فهو عبدي وقالت بل ولدته في مكاتبتي فالقول قول من في يده الولد منهما لأنه مستحق له باعتبار يده والآخر يريد استحقاقه عليه فلا يستحقه إلا بإقامة البينة.
فإن قيل: إذا كان في يد السيد فلماذا يجعل القول قوله وولادتها الولد حادث ويحال بالحادث على أقرب الأوقات.(8/119)
قلنا: نعم ولكن هذا نوع ظاهر والظاهر يصلح حجة لدفع الاستحقاق ولكن لا يثبت به الاستحقاق, والمكاتب يحتاج إلى استحقاق اليد على المولى في الولد والظاهر لهذا لا يكفي فإن أقاما البينة فالبينة بينة المكاتبة أما إذا كان الولد في يد المولى فلأنه يثبت الاستحقاق ببينتها والمولى ينفي ذلك الاستحقاق, وأما إذا كان في يد المكاتبة فإنها ببينتها تثبت حكم الكتابة في الولد وحريته عند أدائها والمولى ينفي ذلك ببينته فكان المثبت من البينتين أولى كما لو أعتق جاريته ثم اختلفا في ولدها هذا الاختلاف وأقاما البينة فالبينة بينة الجارية لما فيها من إثبات العتق للولد. وإذا ماتت المكاتبة ثم اختلف ولدها والمولى في المكاتبة فهو كاختلاف المولى والأم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر لأن الولد قام مقام الأم فاختلافه مع المولى في مقدار البدل بمنزلة اختلاف الأم, ولهذا لو ادعى الولد أنه أدى البدل أو أن الأم أدت البدل لم يصدق إلا بحجة كما لو ادعت الأم ذلك في حياتها وكذلك إذا كان الاختلاف بين المكاتبة وبن المولى بعد موت المولى, ولو كاتب الذمي عبدا له مسلما ثم اختلفا في مقدار البدل وأقام المولى بينة من النصارى لم تقبل لأن الخصم مسلم وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم, "حربي دخل دار الإسلام بأمان فاشترى عبدا ذميا وكاتبه ثم اختلفا في المكاتبة فأقام المولى البينة من أهل الحرب ممن دخل معه بأمان لم تقبل شهادتهم على العبد الذمي" لأنه من أهل دارنا وشهادة أهل الحرب على من هو من أهل دارنا لا تكون حجة كشهادة الكفار على المسلمين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المريض(8/120)
قال: رضي الله عنه "مريض كاتب عبده على ألف درهم نجمها عليه نجوما وقيمته ألف درهم وهو لا يخرج من ثلثه فإنه يخير العبد إن شاء عجل ما زاد من القيمة على ثلث مال الميت وإلا رد في الرق" لأنه بتأجيل المال عليه أخر حق الورثة إلى مضي الأجل وفيه ضرر عليهم فلا يصح فيما هو من حقهم وهذا لأن ضرر التأجيل كضرر الإبطال من حيث أن الحيلولة تقع بين الورثة وبين حقهم عقيب موته, ألا ترى أن المريض إذا أجل في دين له على الأجنبي يعتبر له من الثلث كما لو أبرأ وأن شهود التأجيل في الدين إذا رجعوا ضمنوا(8/121)
ص -57- ... كشهود الإبراء فإن عجل ما زاد على الثلث حسب ذلك من كل نجم بحصته لأن التنجيم كان ثابتا في جميع المال وإن عجل شيئا عند اعتراض الورثة يشيع المعجل في جميع النجوم فيكون من كل نجم بحصته إذ ليس بعض النجوم بأن يجعل المؤجل عنه أولى من البعض وإن كاتبه على ألفين وقيمته ألف درهم لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي الألفين في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله يقال له عجل ثلثي قيمتك لأن من أصلهما أن مال المولى بدل الكتابة فلا يصح تأجيله إلا في قدر الثلث, ومن أصل محمد رحمه الله تعالى أن ما زاد على ثلثي قيمته كان المريض متمكنا من أن لا يتملكه أصلا فإذا تملكه مؤجلا لا يثبت للأولياء حق الاعتراض على الأجل فيه وقد بيناه في كتاب العتاق, وإن كاتبه على ألف وقيمته ألفان ولا مال له غيره قيل له عجل ثلثي قيمتك وأنت حر وإلا رددناك في الرق لأنه حاباه بنصف المال والمحاباة في المرض وصية فلا يجوز إلا بقدر ثلثه وإذا استغرقت المحاباة للثلث لا يمكن تصحيح التأجيل في شيء منه فيؤمر بأن يعجل ثلثي قيمته أو يرد في الرق, "رجل كاتب عبده في صحته على ألف درهم ثم أقر في مرضه أنه استوفى بدل الكتابة فهو مصدق ويعتق المكاتب" لأنه استحق براءة ذمته عند إقرار المولى باستيفاء البدل منه لما كان العقد في صحته ومرضه لا يبطل الاستحقاق الثابت للمكاتب كما لو باعه من إنسان في صحته ثم أقر في مرضه باستيفاء الثمن بخلاف ما لو كاتبه في مرضه ثم أقر باستيفاء البدل فإنه لا يصح إلا بقدر ثلثه لأنه ما استحق هنا براءة ذمته عند إقراره وإنما استحق براءة ذمته عند إيصال المال إليه ظاهرا ليتعلق به حق ورثته كما كان حقهم متعلقا برقبته ثم تتمكن تهمة المواضعة هنا أنه قصد بتصرفه تحصيل العتق له فيجعل في حق الورثة كان المولى أعتقه مكان الكتابة فلهذا كان معتبرا من ثلثه, ولو كاتبه في صحته على ألف درهم وقيمته خمسمائة ثم أعتقه في(8/122)
مرضه ثم مات ولم يقبض شيئا فإنه يسعى في ثلثي قيمته لأن مال المولى في مرضه الأقل من قيمته ومن بدل الكتابة فإن ما زاد على الأقل غير متيقن بأنه له. ألا ترى أنه يتمكن من أن يعجز نفسه فلا يكون حقه إلا في القيمة فلهذا يعتبر الثلث والثلثان في الأقل وهو قيمته فعليه أن يسعى في ثلثي قيمته ولأن إعتاقه إياه إبطال للكتابة لأن الإعتاق المبتدأ في حق المولى غير العتق بجهة الكتابة وإذا كان هذا إبطالا للكتابة جعل كأنه لم يكاتبه, وكذلك أن وهب جميع ما عليه من الكتابة في مرضه وهو حر ويسعى في ثلثي قيمته لأن مال المولى هو الأقل فإنما يعتبر تبرعه بالهبة من الثلث فيمايعلم أنه حقه وهو الأقل.
وفي الكتاب قال إنه متى أدى ثلثي قيمته عتق وإن كان على المكاتبة في قول يعقوب
ومراده قول يعقوب في أنه إذا كان لعتقه وجهان سعى في أقل ما يلزمه من جهة السعاية ومن جهة المكاتبة ولا يخير بينهما لأن التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد غير مفيد.
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كاتبه في صحته ثم أعتقه في مرضه فهو(8/123)
ص -58- ... بالخيار إن شاء سعى في ثلثي قيمته وإن شاء سعى في ثلثي ما عليه وقد بينا هذا في كتاب العتاق, وإن كان المولى قد قبض منه قبل ذلك خمسمائة ثم أعتقه في مرضه سعى في ثلثي قيمته ولم يحتسب له شيء مما أدى قبل ذلك لأنه لما عتق بالإعتاق المبتدأ بطل حكم الكتابة في حق المولى فما أدى قبل ذلك كسب عبده فيكون سالما له غير محسوب مما عليه من السعاية وهذا عندهما وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن اختار فسخ الكتابة والسعاية في ثلثي قيمته.(8/124)
قال: "وإن أدى المكاتبة إلا مائة درهم ثم أعتقه في مرضه أو وهب له الباقي سعى في ثلثي المائة" لأن ما بقي من بدل الكتابة هنا أقل, وقد بينا أن مال المولى القدر المتيقن به وهو الأقل فلهذا يعتبر الثلث والثلثان هنا من بدل الكتابة لأنه أقل وإذا ولدت المكاتبة ولدا واشترت ولدا آخر لها ثم ماتت سعيا في الكتابة على النجوم لأن المولود في الكتابة قائم مقام الأم في بقاء النجوم ببقائه وهو المطالب ببدل الكتابة وهو الذي يلي الأداء إلى المولى عند حلول كل نجم دون المشتري لأن المشتري لو كان وحده لا يطالب بالمال على النجوم ولكن إذا لم يؤد المال حالا فهو بمنزلة عبدها يباع فعرفنا أنه غير قائم مقامها وإنما القائم مقامها هو المولود في الكتابة, ألا ترى أنه لو كان وحده كان المال في ذمته وإنما يطالب به عند حلول الأجل فصار المولود في الكتابة في حق الولد الآخر كالأم وفي حال حياتها كانت هي التي تطالب بالمال وتلي الأداء دون الولد فكذا هنا فإن سعى الولد في الكتابة وأدى لم يرجع على أخيه بشيء لأنه أدى عن أمه ولأن كسبه في أداء بدل الكتابة منه بمنزلة تركتها وعند الأداء من التركة لا يرجع على أخيه بشيء فكذلك إذا أدى من كسبه, ولو اكتسب هذا الابن المشتري كسبا فلأخيه أن يأخذه فيستعين به في كتابته لأنه قائم مقام أمه وكان لها في حياتها أن تأخذ كسبه فكذلك لمن قام مقامها وهذا لأنه لما بقي الأجل باعتبار بقاء المولود في الكتابة ولا يبقى الأجل إلا باعتبار من هو أصل عرفنا أنه أصل في هذا العقد والمشتري تبع له وعلى هذا لو أراد أن يسلمه في عمل ليأخذ كسبه فيستعين به في مكاتبته, كان له ذلك ويأمره القاضي أن يؤاجر نفسه أو يأمر أخاه أن يؤاجره كما لو كانت الأم حية كان لها أن تؤاجره بأمر القاضي إذا أبى أن يؤاجر نفسه ليؤدي المكاتبة من إجارته وما اكتسب المولود في المكاتبة بعد موت الأم قبل الأداء فهو له خاصة وما اكتسب أخوه حسب من تركتها(8/125)
فقضى منه الكتابة والباقي ميراث بينهما لأن المشتري بمنزلة عبدها فيكون كسبه لها بمنزلة مال خلفته يقضي منه بدل الكتابة والباقي ميراث عنها بين الاثنين فأما المولود في الكتابة قد انتصب أصلا فإذا حكم بعتقه مستندا إلى وقت عتق أمه كان ما اكتسب بعد ذلك له خاصة وهذا كله مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
فأما عندهما الولد المشتري والولد المولود في الكتابة وكل من تكاتب عليها في حكم السعاية على النجوم سواء فلا يكون لأخيه أن يأخذ منه شيئا من كسبه إذ كل واحد منهما قائم(8/126)
ص -59- ... مقام الأم وليس أحدهما بتبع لصاحبه, وإذا كان العبد بين رجلين فمرض أحدهما ثم كاتب الصحيح بإذنه جاز ذلك وليس للوارث إبطاله لأنه قائم مقام مورثه ولم يكن للمورث إبطاله فكذلك لا يكون ذلك لوارثه وهذا لأنه ليس في هذا الإذن إبطال شيء من حق الورثة عما تعلق حقهم به إنما هو مجرد إسقاط خيار ثبت له, وكذلك إن أذن له في القبض فقبض بعض المكاتبة ثم مات المريض لم يكن للوارث أن يأخذ منه شيئا من أصحابنا رضي الله عنهم من قال هذا غلط وينبغي أن يكون للوارث أن يأخذ منه ما زاد على الثلث لأن إذنه في القبض رضا منه بأن يقضي المكاتب دينه بنصف الكسب الذي هو حق المريض وهذا تبرع منه فإنما يعتبر من ثلثه, ولكنا نقول المريض يتمكن من إسقاط حق ورثته عن كسبه بأن يساعده على الكتابة فيعمل رضاه أيضا بقضاء بدل الكتابة من كسبه ولا يكون للورثة سبيل على إبطال ذلك وهذا لأن الكسب بدل المنفعة وتبرعه بمنفعة نصيبه لا يكون معتبرا من ثلثه فكذلك تبرعه من بدل المنفعة, ولا يجوز للمكاتب أن يزوج أمته من عبده لأن فيه تعييبا لهما فإن النكاح عيب في العبيد والإماء جميعا ولا يسقط بهذا العقد نفقتها عنه ولا يجب المهر أيضا فكان هذا ضررا في حق المكاتب فلهذا لا يصح منه. وللمكاتب أن يأذن لعبده في التجارة لأنه من صنيع التجار ويقصد به اكتساب المال والمكاتب منفك الحجر عنه في مثله ولأن الفك الثابت بالكتابة فوق الثابت بالإذن وإذا جاز للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة فلأن يجوز للمكاتب أولى فإن لحقه دين بيع إلا أن يؤدي عنه المكاتب ويجوز أن يؤدي عنه الدين وإن كان أكثر من قيمته لأن هذا تصرف تناوله الفك الثابت بالكتابة والمكاتب في مثله كالحر. ألا ترى أن فيما يبيع ويشتري بنفسه جعل كالحر لهذا فإن عجز المكاتب وقد لحق كل واحد منهما دين بيع كل واحد منهما في دين نفسه لا أن يفديهما المولى لأن بعجز المكاتب صار كل واحد منهما مملوكا للمولى فيكون(8/127)
الرأي إليه في أن يؤدي عنهما الدين أو يباع كل واحد منهما في دينه فإن فضل من ثمن المكاتب شيء لم يصرف في دين عبده لأن حق غرماء العبد إنما تعلق بمالية العبد وكسبه والمكاتب ليس من ذلك في شيء بل المكاتب في حق العبد بمنزلة الحر فكما لا يقضي دين العبد من مال مولاه الحر فكذلك لا يقضي من ثمن المكاتب
وإن فضل من ثمن العبد شيء صرف في دين المكاتب لأن العبد كسبه وحق غرمائه ثبت في كسبه إلا أن دين العبد كان مقدما في مالية رقبته فما يفضل من دينه صرف في دين المكاتب. فإن قضي المولى بعض غرماء العبد دينه ثم جاء الآخرون لم يكن لهم على من اقتضى دينه سبيل إذا لم يكن الدين مشتركا بينهم لأن المولى إنما قضى من خالص ملكه ولا حق للغرماء في خالص ملكه فهو بمنزلة متبرع آخر يتبرع بقضاء بعض دينه فلا يكون للباقين على المقتضى سبيل ولكنهم يأخذون العبد بدينهم لتعلق حقهم بمالية رقبته ولا يخاصمهم المولى بما قضى من دينه في رقبته لأنه لا يستوجب دينا في ذمة عبده ولا في مالية رقبته فكان هو في الأداء بمنزلة متبرع آخر
وعجز المكاتب حجر على عبده" لأن ثبوت الإذن باعتبار الفك الثابت للمكاتب وقد زال ذلك(8/128)
ص -60- ... بعجزه فيكون عجزه كموت الحر وبموت الحر يصير العبد محجورا عليه فكذلك بعجز المكاتب وكذلك بموته لأنه إن مات عاجزا فقد انفسخت الكتابة وإن مات عن وفاء فهو كموت الحر فيكون حجرا على العبد في الوجهين جميعا فإن كان له ولد فأذن له في التجارة وعليه دين لم يصح إذنه لأن غرماء العبد أحق بمالية رقبته والولد المولود في الكتابة إنما يخلف أباه فيما هو حقه فأما فيما هو حق غرمائه فلا فلهذا لا يصح إذنه له في التجارة
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة فاستدان دينا فدفعه المولى إلى الغرماء بدينهم جاز ذلك
والمراد بالمولى هو المكاتب دون مولى المكاتب لأنه لا حق لمولى المكاتب في التصرف في كسبه ما بقيت الكتابة والمكاتب في التصرف في كسبه كالحر فيما تناوله الفك ودفع العبد إلى الغرماء بدينهم يجوز من الحر فكذلك من المكاتب, ولو أذن لعبده في التزويج لم يجز لأنه لا يملك مباشرته بنفسه لما فيه من الضرر عليه فكذلك لا يأذن العبد فيه وإن أذن لأمته في التزويج جاز ذلك استحسانا كما لو زوجها بنفسه لأنه يأخذ مهرها ويسقط نفقها عن نفسه.
وفي القياس لا يجوز أيضا لأن هذا التصرف ليس من صنع التجار عادة والله أعلم بالصواب.
باب الخيار في الكتابة(8/129)
قال: رضي الله عنه "ويجوز من اشتراط الخيار في الكتابة ما يجوز في البيع" لأنه عقد معاوضة يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ بعد نفوذه كالبيع فإن اشترط المولى لنفسه فيها الخيار ثلاثا فاكتسب العبد كسبا أو كانت جارية فوطئت بشبهة أو ولدت ولدا ثم أجاز الكتابة كان ذلك كله للمكاتب والمكاتبة لأن الخيار كان مانعا من نفوذ حكم الكتابة فإذا زال المانع بإسقاط الخيار صار كأن لم يكن فيتم العقد من حين عقد كما في البيع إذا أجاز من له الخيار يسلم المبيع للمشتري بزوائده المتصلة والمنفصلة ولأن ولدها في حكم جزء منها وهي صارت أحق بنفسها عند سقوط الخيار فكذلك بما هو جزء منها والعقر بدل جزء منها والكسب بدل منافعها وهي أحق بمنافعها بحكم الكتابة كما أنها أحق بنفسها ولو باع المولى الولد أو وهبه وسلم أو أعتقه فهو جائز وهو رد للمكاتبة كما في البيع
ولو ولدت الجارية المبيعة في مدة الخيار للبائع فأعتق الولد أو باعه كان ردا للبيع والمعنى في الكل واحد أن الولد جزء منها ولو باشر هذا التصرف فيها كان ردا للمكاتبة فكذلك في جزء منها وهذا لأن الولد يسلم لها بنفوذ الكتابة بالإجازة ومقصود المولى تصحيح بيعه وهبته ولا يمكن تصحيحه إلا بفسخ الكتابة فجعلناه فاسخا لهذا ولكن فيه بعض الإشكال في العتق لأنه لامنافاة بين عتق الولد وبين نفوذ الكتابة فيها, ألا ترى أنه لو أعتق ولدها بعد نفوذ الكتابة ولزومها كان عتقه صحيحا نافذا فينبغي أن لا يجعل إعتاقه الولد ردا للكتابة على هذا الطريق ولكنه مستقيم على الطريق الأول, رجل كاتب عبده على نفسه وولده صغار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فمات بعض ولده ثم أجاز الكتابة جازت ولا يسقط عنه شيء من البدل لأن البدل كله عليه دون الولد إذ لا ولاية له على(8/130)
ص -61- ... ولده في إلزام البدل إياه فكذلك موته لا يؤثر في كتابته ولا يسقط عنه شيء من البدل وإن كاتب أمته على أنها بالخيار ثلاثا فولدت فأعتق السيد الولد فهي على خيارها لأن تنفيذ عتق السيد الولد مع بقاء الكتابة فيها ممكن, ألا ترى أنه لو أعتق ولدها بعد لزوم الكتابة نفذ عتقه ثم لا يحط عنها شيء من البدل لأن في هذا تحصيل بعض مقصودها. ألا ترى أنها لو ولدت بعد نفوذ الكتابة فأعتق المولى الولد لم يحط عنها شيء من البدل فكذلك قبل تمام الكتابة إذا أعتق الولد وهذا بخلاف ما إذا كان الخيار للمولى فإن إقدامه على العتق هناك فسخ منه للعقد, ألا ترى أنه لو أعتق الأم كان فسخا للعقد حتى لا يعتق الولد معها فكذلك إعتاقه الولد لأنه جزء منها وهو متمكن من فسخ الكتابة بخياره, فأما إذا كان الخيار لها فالعقد لازم من جانب المولى, ألا ترى أنه لو أعتقها لم يكن فسخا للكتابة حتى يعتق الولد معها وكذلك إذا أعتق ولدها, فإن ماتت بعد الولادة والخيار للمولى فله الإجازة ثم الولد بمنزلة الأم استحسانا.
وفي القياس المكاتبة باطلة وبالقياس يأخذ محمد رحمه الله تعالى لأن أوان لزوم العقد عند إسقاط الخيار فلا بد من بقاء من هو الأصل والمقصود بالعقد عند ذلك وهذا لأن البدل إنما يجب عند إسقاط الخيار ولا يمكن إيجابه على الميت ولا على الولد ابتداء لأنه خلف فما لم يثبت الوجوب في حق من هوالأصل لا يظهر حكمه في حق الخلف.(8/131)
ووجه الاستحسان أن الولد جزء منها فبقاؤه عند إسقاط الخيار كبقائها. ألا ترى أن بعد نفوذ العقد لو ماتت جعل الولد قائما مقامها في السعاية على النجوم فكذلك قبل تمام العقد بالإجازة إذا ماتت يجعل الولد قائما مقامها في تنفيذ العقد بالإجازة. وإنما استحسنا ذلك لحاجتها ولحاجة ولدها إلى تحصيل العتق عند أداء البدل. ولو كان الخيار لها فموتها بمنزلة قبول المكاتبة لأن الخيار لا يورث ممن هو حر فكيف يورث من المكاتبة ولكنها لما أشرفت على الموت وعجزت عن التصرف بحكم الخيار سقط خيارها. فلو كان الخيار للمولى فاشترت وباعت في مدة الخيار ثم رد المولى المكاتبة لم يجز شيء مما صنعت لأن المكاتبة بطلت بفسخ المولى قبل تمامها والإذن في التجارة من ضرورة نفوذ الكتابة ولزومها فإذا لم يثبت ذلك لم تكن مأذونة في التجارة فلا ينفذ تصرفها إلا أن يكون المولى رآها فلم يغير عليها فيكون ذلك منه إجازة. ألا ترى أن رجلا لو باع عبدا على أن البائع بالخيار ثلاثا وقبضه المشتري فأذن له في التجارة واستدان دينا ثم رد البائع البيع لم يلزمه شيء من ذلك فكذلك في المكاتبة. فأما إذا رآه يتصرف فقد قامت الدلالة لنا على أن سكوته عن النهي بعد العلم بتصرفه يكون دليل الرضا ودليل الرضا كصريح الرضا ولو صرح بذلك كان إجازة منه للكتابة. وإن كان الخيار للمكاتب كان شراؤه وبيعه رضا منه بالكتابة لأنه تصرف منه في المعقود عليه على ما هو مقتضي العقد منه فيتضمن الإجازة للعقد منه وهو نظير ما لو اشترى عبدا على أنه بالخيار ثم أذن له المشتري في التجارة كان هذا رضا منه بالبيع فكذلك الكتابة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/132)
ص -62- ... باب مكاتبة أم الولد والمدبر
قال: رضي الله عنه "رجل باع أم ولد له أو مدبرته خدمتها من نفسها جاز ذلك وهما حرتان والثمن دين عليهما بمنزلة ما لو باع رقبتهما من نفسهما" وهذا لأن المملوك للمولى عليهما الخدمة بملك الرقبة فهو بكل واحد من هذين اللفظين يكون مسقطا حقه عنهما بعوض ومضيفا لتصرفه إلى ما هو المملوك له عليهما فيصح ويجب البدل بنفس القبول أم ولد بين شريكين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه فللآخر أن ينقض الكتابة" كما لو كانت قنة ولا يقال هنا ليس لهما أن يبيعاها قبل الكتابة فلماذا ثبت للساكت حق فسخ كتابة صاحبه لأن لهما أن يستخدماها ويؤاجراها ولأن لهما أن يستديما الملك فيها وإذا ردت الكتابة تعذر على الشريك استدامة الملك فيها فكان له أن يفسخ الكتابة لدفع هذا الضرر عن نفسه. ولو كاتب أم ولده وأمه له وقيمتهما سواء ثم أعتق أم الولد أو عتقت بموته فالأخرى تسعى في نصف البدل لأن البدل يتوزع على قيمتهما وقيمتهما سواء وبإعتاق أم الولد يصير مستوفيا حصتها من البدل, وكذلك لو كاتب مدبرا له وقنا وقيمتهما سواء ثم مات المولى فإن خرج المدبر من الثلث فإنه يسقط نصف البدل وسعي الآخر في نصف البدل, وإنما يعني بهاتين المسئلتين أن تكون قيمته مدبرا أو قيمتها أم ولد مثل قيمة القن لأن في الانقسام إنما تعتبر القيمة على الصفة التي تناولها العقد والله أعلم بالصواب.
باب دعوة المكاتب(8/133)
قال: رضي الله عنه "جارية بين مكاتب وحر ولدت فادعاه المكاتب فالولد ولده والجارية أم ولده ويضمن نصف عقرها ونصف قيمتها للحر يوم علقت منه ولا يضمن من قيمة الولد شيئا" لأن المكاتب بماله من حق الملك في كسبه يملك الدعوة كالحر فبقيام الملك له في نصفها هنا ثبت نسب الولد منه من وقت العلوق وثبت لها حق أمية الولد في حق امتناع البيع تبعا لثبوت حق الولد ويصير متملكا نصيب صاحبه منها من حين علقت فيضمن نصف عقرها لشريكه ونصف قيمتها من ذلك الوقت ولا يضمن من قيمة الولد شيئا لأنه حادث على ملكه والحر في نظير هذا لا يكون ضامنا شيئا من قيمة الولد فكذلك المكاتب.
وأشار في الأصل إلى أن الجنين تبع, ألا ترى أن أمة إذا كانت بين رجلين وهي حبلى فاشترى أحدهما نصيب صاحبه منها كان ما في بطنها أيضا للمشتري فإن ضمن ذلك ثم عجز كانت الجارية وولدها مملوكا للمولى لأنهما كسبه وقد خرجا من حكم الكتابة بعجزه فكانا مملوكين له وإن لم يخاصمه ولم يضمنه شيئا حتى عجز كان نصف الجارية ونصف الولد لشريكه الحر لأنهما خرجا من حكم الكتابة بعجزه ونصفهما على ملك الشريك الحر ما لم يصل إليه الضمان إذ لا منافاة بين ثبوت النسب منه وبقاء الملك للشريك بخلاف الأول فإن المكاتب بالضمان هناك يصير متملكا نصيب الشريك والضمان كان واجبا ما بقيت الكتابة وقد زال ذلك بالعجز وصار الحر متمكنا من التصرف في نصيب نفسه منها ولكن عليه نصف العقر(8/134)
ص -63- ... لإقراره بوطئها بسبب الملك وهي مشتركة بينهما, فإن كانت مكاتبة بينهما فادعى المكاتب ولدها جازت الدعوة لبقاء حق ملكه في نصفها بعد الكتابة وهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة وأخذت العقر من المكاتب بوطئه إياها وإن شاءت عجزت وضمن المكاتب لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها. ألا ترى أن الحر لو ادعى الولد كان الحكم فيه كذلك فكذلك المكاتب إلا أنه إذا كان الحر هو المدعى واختارت أن تعجز نفسها فهي بمنزلة أم الولد, وإذا كان المكاتب هو المدعي فهي بمنزلة أم الولد في امتناع بيعها ولكن لا تثبت أمية الولد فيها حقيقة ما لم يعتق المكاتب بالأداء فإن كانا ادعيا الولد فالدعوة دعوة الحر لأن له حقيقة الملك في نصفها وحق الملك لا يعارض حقيقة الملك ولأن في تصحيح دعوة الحر إثبات الحرية للولد في الحال وحقيقة أمية الولد للأم وذلك لا يوجد في دعوة المكاتب فإن اختارت المضي على الكتابة ثم مات الحر سقط نصيب الحر من المكاتبة عنها لأن نصيبه عتق بموته فكأنه عتق بإعتاقه وسعت في أقل من حصة المكاتب من المكاتبة ومن نصف قيمتها وهذا قول محمد رحمه الله تعالى. فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تسعى في نصف قيمتها كما بينا في مكاتبة بين شريكين يعتقها أحدهما وإن اختارت العجز سعت في نصف قيمتها إن كان المعتق معسرا. وإن كان موسرا ضمن نصف القيمة للمكاتب أما عندهما ظاهر. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن أمية الولد لم تثبت في نصيب المكاتب بعد. ألا ترى أنه لو عجز كان نصيبه ملكا للمولى فلهذا بقي قيمة رقها في حكم الضمان والسعاية ثم لا يرجع عليها بما ضمن لأنه لما ملك نصيب المكاتب بالضمان صارت أم ولد له, ومن أعتق نصف أم ولده عتق كلها ولا سعاية عليها. فإن كان المكاتب وطئها أولا فولدت له ثم وطئها الحر فولدت له فادعيا الولدين معا ولم يعلم إلا بقولهما فولد كل واحد منهما له بغير قيمة ويغرم كل واحد منهما لها الصداق وبهذا اللفظ تبين(8/135)
أن عقر المملوكة هو الصداق وأنه في كل موضع يستعمل لفظ العقر فإنما يريد به الصداق وهي بالخيار بين العجز والمضي على المكاتبة فإن عجزت كانت أم ولد للحر خاصة لأن دعوتهما التقت فيها بالولدين. ولو التقت دعوتهما فيها في ولد واحد كان الحر أولى بها لأن في دعوته إثبات أمية الولد لها في الحال فكذلك هنا وعليه نصف قيمتها للمكاتب لأنه تملك نصيب المكاتب منها فإنه لم يثبت فيها حق أمية الولد للمكاتب بعد وولد المكاتب ثابت النسب منه لأن حين وطئها كان نصفها مملوكا له وعليه نصف قيمته للحر لأن الولد صار مقصودا في حق المكاتب بالدعوة حين لم يتملك نصيب صاحبه من الأم فيضمن قيمة نصيب شريكه من الولد له بخلاف الحر
فإن عجزت وعجز المكاتب معها كان ولد المكاتب رقيقا بين مولاه وبين الحر لأن وجوب ضمان نصف قيمة الولد للحر على المكاتب باعتبار تملكه إياه بالاستتباع في الكتابة وقد زال ذلك بعجزه. وإن كان وطء المكاتب بعد وطء الحر فهي أم ولد للحر كما بينا وولد المكاتب بمنزلة أمه لا يثبت نسبه من المكاتب لأنه تبين أنه استولد أم ولد الحر.(8/136)
ص -64- ... وقال محمد رحمه الله تعالى استحسن أن أثبت نسبه وهو للحر بمنزلة أمه لأنه حين وطئها كان نصفها مملوكا له في الظاهر وذلك يكفي لثبوت النسب. ولا خلاف بينهم في هذه المسألة وإنما فيها القياس والاستحسان كما نص عليه في كتاب الدعوى والزيادات في الحرين لا أن هناك مدعي الأصغر يضمن قيمة الولد لشريكه لأنه حر بحكم الغرور ولا يثبت فيه حكم أمية الولد إذ علق حر الأصل وهنا لا يعتق الأصغر على المكاتب لأنه ليس من أهل الإعتاق فيبقى مملوكا لمدعى الأكبر بمنزلة أمه, ومحمد رحمه الله تعالى يثبت الحرية بسبب الغرور في حق المكاتب في النكاح دون ملك اليمين لأن ما ظنه المكاتب هنا لو كان حقيقة لم يكن الولد حرا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب كتابة المرتد
قال: رضي الله عنه "مرتد كاتب عبده ثم لحق بدار الحرب ثم رجع مسلما فإن رفع المكاتب إلى القاضي فرده في الرق فالمكاتبة باطلة وإلا فهو على مكاتبته" لأن عقده كان موقوفا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بطل بقضاء القاضي فلا يعود بعد ذلك وإن عاد الملك إليه وإذا كاتب المسلم عبده ثم ارتد المولى فهو على مكاتبته وإن لحق بدار الحرب لأن لحوقه بدار الحرب مرتدا كموته وبموت المولى لا تبطل الكتابة بعد ما صحت ولكن يؤدي المكاتبة إلى ورثته. وإن كان المرتد قبض منه مكاتبته فإن أسلم فهو حر وإن قتل مرتدا لم يجز إقراره بالقبض في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو على حاله إذا لم يعلم ذلك إلا بقوله لأن إقراره كسائر تصرفاته قولا فيبطل إذا قتل على ردته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال فإن كان يعلم ذلك يجوز أخذه للدين بشهادة الشهود في كل ما وليه ولا يجوز أن يخرج شيئا من ملكه بثمن وغير ذلك.(8/137)
وأكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون إن هذا الجواب غلط في الكتابة وإنما يستقيم هذا في ثمن المبيع لأن ثمن المبيع حق القبض فيه للعاقد فأما في بدل الكتابة حق القبض ليس للعاقد ولكنه للمالك, ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يقبض البدل فكان هذا دين وجب له لا بمباشرة سببه فلا يصح قبضه في براءة المديون إذا قتل على ردته؟
قال: رضي الله عنه "عندي أن ما ذكره في الكتاب صحيح" لأن حق القبض هنا يثبت له بعقد الكتابة فإنه باشر العقد في ملكه فلهذا يستحق ولاءه وإن قبض ورثته البدل وإذا ثبت أن حق القبض له بالعقد لا يبطل ذلك بردته كما في البيع وهذا لأن المكاتب يستحق الحرية عند تسليم المال إليه وردته لا تبطل استحقاق المكاتب.
فإن قيل: لماذا لا يقول في الإقرار هكذا استحق براءة قيمته عند إقراره بالقبض منه فلا يبطل ذلك بردته؟
قلنا: إنما يستحق براءة ذمته عند إقراره بقبض ملكه منه والملك هنا صار لورثته وهذا لأن الإقرار مخرج لبدل الكتابة من ملك ورثته بغير عوض وهو لا يملك ذلك بعد الردة(8/138)
ص -65- ... والقبض مقرر حق ورثته في المقبوض فيمكن تنفيذ ذلك في حقهم فإن لم يقبض شيئا حتى لحق بدار الحرب فجعل القاضي ماله ميراثا لورثته فأخذوا المكاتبة ثم رجع مسلما فولاء العبد له لأنه يستحق الولاء بعقد الكتابة وإذا رجع مسلما فهو من أهل أن يثبت الولاء له عليه, ألا ترى أنه لو كان دبر عبده فأعتقه القاضي بعد لحوقه بدار الحرب ثم رجع مسلما كان ولاؤه له دون الورثة وهذا لأن الولاء أثر من آثار الملك فيعاد إليه ما يجد من ملكه قائما بعد إسلامه فكذلك الولاء الذي هو أثر الملك ويأخذ من الورثة ما قبضوه من بدل الكتابة إن وجد بعينه سواء قبضوا جميع البدل أو بعضه لأنه قد وجد عين ماله وقال عليه الصلاة والسلام "من وجد عين ماله فهو أحق به" والله أعلم بالصواب.
باب شركة المكاتب وشفعته
قال: "وليس للمكاتب أن يشارك حرا شركة مفاوضة" لأنها تنبني على المساواة في التصرف ولا مساواة بين الحر والمكاتب في التصرفات ولأن شركة المفاوضة تتضمن الكفالة العامة فإن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه بما يلزمه والمكاتب ليس من أهل الكفالة.
وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أظهر فإن عنده كفالة أحد المتفاوضين تلزم شريكه فلو صححنا المفاوضة بينهما لكان إذا كفل الحر بمال يلزم ذلك المكاتب ولا يجوز أن يلزم المال على المكاتب بعقد الكفالة ويجوز له أن يشارك الحر شركة عنان لأنها تتضمن توكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء والبيع والمكاتب في ذلك كالحر فإن عجز المكاتب بعد ذلك انقطعت الشركة بينهما لأنه لما رد في الرق صار عبدا محجورا عليه لا يملك مباشرة التصرف لنفسه فكذلك لا يملك شريكه أن يشتري له بحكم الوكالة فلهذا تبطل الشركة.(8/139)
قال: "وله الشفعة فيما اشتراه المولى وللمولى فيما اشتراه المكاتب" لأنه بعد الكتابة التحق بسائر الأجانب في حقه في حكم البيع والشراء. ألا ترى أن كل واحد منهما يشتري من صاحبه فيجوز فكذلك في حكم الأخذ بالشفعة لأن الأخذ بالشفعة شراء.
قال: "ولو أعتق المكاتب بعد شركة العنان بقيت الشركة على حالها" لأن ملكه تأكد بالعتق وكذلك قدرته على التصرف فيبقى شريكه على وكالته.
قال: "وإن شارك الغير شركة مفاوضة بغير إذن سيده أو بإذنه ثم عتق لم تصح تلك الشركة" لأن المكاتب ليس من أهل المفاوضة والعقد إذا بطل لانعدام الأهلية لا يصح بحدوث الأهلية بعد ذلك.
قال: "وإن اشترى المكاتب دارا على أنه بالخيار ثلاثة أيام فعجز ورد في الرق انقطع خياره" لأنه مجرد رأي كان ثابتا له بين الفسخ والإمضاء فلا يبقى بعد العجز له لما صار محجورا عليه عن التصرف كما لو مات ولا يخلفه المولى في ذلك, لأن رأي الإنسان لا يحتمل النقل إلى غيره ولأن الدار بعجزه خرجت من حكم ملكه وصارت مملوكة للمولى وذلك مسقط لخيار المشتري فإن كان البائع بالخيار فهو على خياره بعد عجز المكاتب كما بعد موته وإن كان(8/140)
ص -66- ... الخيار للمكاتب المشتري فبيعت دار إلى جنبها فله أن يأخذ تلك الدار بالشفعة لأنه صار أحق بما اشترى حتى يملك التصرف فيه فتجب الشفعة له باعتباره وأخذه بالشفعة يكون إسقاطا منه لخياره لأنه تقرر به ملكه في المشتري حين حصل ثمرة ذلك الملك لنفسه وإن لم يأخذها بالشفعة حتى رد المشتري على البائع فلا شفعة في الدار الأخرى لواحد منهما أما المكاتب فلأنه زال جواره برد المشتري وأما البائع فلأنه لم يكن جارا حين بيعت هذه الدار.
قال: "ولا يقطع المكاتب في سرقته من مولاه" لأنه مملوك له يدخل بيته من غير حشمة ولا استئذان فلا يتم إحراز المال عنه والقطع لا يجب إلا بسرقة مال محرز قد تم إحرازه وكذلك إن سرق من بن مولاه أو من امرأة مولاه أو من ذي رحم محرم من مولاه لأن المولى لو سرق من أحد من هؤلاء أو سرق أحد من هؤلاء من المولى لم يقطع باعتبار أن بعضهم يدخل دار بعض من غير استئذان ولا حشمة وكذلك المكاتب لأنه ملكه يدخل عادة في كل بيت يدخل فيه مالكه من غير استئذان فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه وكذلك لو سرق واحد من هؤلاء من المكاتب لأنه لو سرق واحد من هؤلاء من المولى لم يقطع فكذلك من المكاتب لأن المكاتب ملك المولى وله في كسبه حق الملك.
قال: "فإن سرق المكاتب من أجنبي ثم رد في الرق فاشتراه ذلك الرجل لم يقطع" لأن القطع عقوبة تندرى ء بالشبهات وفي مثله المعترض بعد الوجوب قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب, ألا ترى أن السارق لو ملك المسروق بعد وجوب القطع عليه يسقط عنه القطع وإن ملكه بسبب حادث فكذلك المسروق منه إذا ملك السارق بعد وجوب القطع.(8/141)
قال: "وإن سرق المكاتب من رجل ولذلك الرجل عليه دين فإنه يقطع" لأنه لا شبهة بينهما بسبب وجوب الدين للمسروق منه على السارق فإن عجز المكاتب فطلب المسروق منه دينه فقضى القاضي أن يباع له في دينه وقد أبى المولى أن يفديه فإنه يقطع في القياس لأن المسروق منه لم يصر مالكا وإن قضى القاضي بأن يباع في دينه ولم يذكر الاستحسان.
وقيل في الاستحسان ينبغي أن لا يقطع لأن مالية العبد صارت له بقضاء القاضي فإنه إذا بيع في الدين يصرف ثمنه إليه فيجعل هذا بمنزلة ما لو صار الملك له في رقبته في إيراث الشبهة ولكنه استحسان ضعيف فلهذا لم يذكره وكذلك العبد المأذون في جميع ما ذكرنا.
قال: "وإن سرق المكاتب من مكاتب آخر لمولاه لم يقطع كما لو سرق من مولاه" لأن كسب ذلك المكاتب من وجه لمولاه أو يجعل سرقة المكاتب كسرقة مولاه ولو سرق المولى من ذلك المكاتب لا يقطع فكذلك مكاتبه وكذلك إن سرق من عبد كان بين مولاه وبين آخر وقد أعتق المولى نصيبه منه لأن هذا كالمكاتب لمولاه من وجه, ألا ترى أن الشريك إذا اختار ضمان المولى رجع المولى به عليه فيكون بمنزلة المكاتب له؟.
قال: وإذا سرق المكاتب من مضارب مولاه من مال المضاربة لا يقطع" لأنه مال المولى لو سرقه منه لا يقطع فكذا من مضاربه وكذلك لو سرق المكاتب من مال رجل لمولاه عليه(8/142)
ص -67- ... مثل ذلك دين لأن فعله في السرقة كفعل المولى ولو سرق المولى هذا المال لم يقطع وكيف يقطع وإنما أخذه بحق لأن صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه له أن يأخذه فأما إذا كانت السرقة عروضا قطعا جميعا لأن دين المولى ثابت في ذمة المديون وذلك لا يوجب له حقا ولا شبهة فيما ليس من جنس حقه في مال المديون فلهذا يقطع المولى والمكاتب بسرقته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
قال: شمس الأئمة الزاهد انتهى شرح كتاب المكاتب بإملاء المحصور المعاتب والمحبوس المعاقب وهو منذ حولين على الصبر مواظب وللنجاة بلطيف صنع الله مراقب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/143)
ص -68- ... كتاب الولاء
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم بأن الولاء نوعان ولاء نعمة وولاء موالاة, فولاء النعمة ولاء العتاقة وإنما اخترنا هذه العبارة اقتداء بكتاب الله: {إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: من الآية37] أي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق والآية في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه.
وأكثر أصحابنا رضي الله عنهم يقولون سبب هذا الولاء الإعتاق ولكنه ضعيف فإن من ورث قريبه فعتق عليه كان مولى له ولا إعتاق هنا.
والأصح أن سببه العتق على ملكه لأن الحكم يضاف إلى سببه يقال ولاء العتاقة ولا يقال ولاء الإعتاق وولاء الموالاة ما ثبت بالعقد فإن الموالاة عقد يجري بين اثنين والحكم يضاف إلى سببه والمطلوب بكل واحد منهما التناصر وقد كانوا في الجاهلية يتناصرون بأسباب منها الحلف والمحالفة فالشرع قرر حكم التناصر بالولاء حتى قال صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم" فالمراد بالحليف مولى الموالاة فإنهم كانوا يؤكدون ذلك بالحلف ولمعنى التناصر أثبت الشرع حكم التعاقد بالولاء وبنى على ذلك حكم الإرث وفي حكم الإرث تفاوت بين السببين أما ثبوت أصل الميراث بالسببين ففي كتاب الله تعالى إشارة إليه فقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: من الآية33] والمراد الموالاة وفيه تحقيق مقابلة الغنم بالغرم من حيث أنه يعقل جنايته ويرث ماله إلا أن الإرث بولاء العتاقة أقوى لكونه متفقا عليه, ولهذا قلنا مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام وهو قول علي رضي الله تعالى عنه.(8/144)
وكان بن مسعود رضي الله عنه يقول مؤخر عن ذوي الأرحام لقوله صلى الله عليه وسلم: "للمعتق في معتقه وإن مات ولم يدع وارثا كنت أنت عصبته" فقد شرط لتوريثه عدم الوارث وذوو الأرحام من جملة الورثة وقال صلى الله عليه وسلم الولاء مشبه بالنسب وقال صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب" وما أشبه الشيء لا يزاحمه ولا يقدم عليه بل يخلفه عند عدمه.
ولكنا نحتج بما روى أن بنت حمزة رضي الله عنها أعتقت عبدا فمات المعتق وترك بنتا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف المال للبنت ونصفه لبنت حمزة رضي الله عنها والباقي بعد(8/145)
ص -69- ... نصيب صاحب الفرض للعصبة فتبين بهذا أن المعتق عصبة ورد الباقي على صاحب الفرض عند عدم العصبة مقدم على حق ذوي الأرحام.
ثم لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي على البنت بل جعله للمعتقة عرفنا أنها عصبة مقدم على ذوي الأرحام.
وفي حديثه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى هذا فإنه قال كنت أنت عصبته فتبين بهذا اللفظ أن مراده ولم يدع وارثا هو عصبة.
وقوله والولاء كالنسب دليلنا عند التحقيق لأن العتق يضاف إلى المعتق بالولاء من حيث أنه سبب لاحيائه فإن الحرية حياة والرق تلف حكما فكان كالأب الذي هو سبب لإيجاد الولد فتستحق العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة فأما قرابة ذوي الأرحام لا يستحق بها الإضافة على كل حال والإنسان لا يضاف إلى عمته وخالته حقيقة فكان مؤخرا عن الولاء وكان الولاء خلفا عن الأبوة في حكم الإضافة فتستحق به العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة ثم تقدم الورثة على ذوي الأرحام. فأما ولاء الموالاة سبب لاستحقاق الإرث عندنا ولكنه مؤخر عن ذوي الأرحام.
وعند الشافعي رضي الله عنه ليس بسبب الإرث أصلا, وهو بناء على أن من أوصى بجميع ماله فيمن لا وارث له عندنا يكون للموصى له جميع المال وعنده يكون له الثلث لأن من أصله أن ما زاد على الثلث حق بيت المال عند عدم الورثة العصبة فلا يملك إبطال ذلك الحق بعقده بطريق الوصية أو الموالاة وعندنا المال ملكه وحقه وإنما يمتنع تصرفه فيما زاد على الثلث لتعلق حق الورثة والصرف إلى بيت المال عند عدم الوارث لأنه لا مستحق له لا لأنه مستحق لبيت المال, فإذا انعدم الوارث كان له أن يوجبه بعقده لمن شاء بطريق الوصية أو الموالاة.(8/146)
قال بن مسعود رضي الله عنه السائبة يضع ماله حيث أحب وتمام هذه المسألة في الوصايا والفرائض, إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بما رواه عن الصحابة عمر وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا الولاء للكبر وهو قول إبراهيم وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى, وكان شريح رحمه الله تعالى يقول الولاء بمنزلة المال ولسنا نأخذ بهذا.
وفائدة هذا الاختلاف أن ميراث المعتق بالولاء بعد المعتق يكون لابن المعتق دون بنته عندنا, وعند شريح رحمه الله تعالى بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الانثيين هو يقول الولاء أثر من آثار الملك وكما أن أصل ملك الأب في هذا العبد بعد موته بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الانثيين فكذلك الولاء الذي هو أثر من آثار الملك فكأنه بالعتق يزول بعض الملك ويبقى بعضه فهذا معنى قوله الولاء بمنزلة المال ولكنه ضعيف.(8/147)
ص -70- ... فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الولاء لحمة كلحمة النسب" والنسب لا يورث وإنما يورث به فكذلك الولاء وهذا لأن ثبوت الولاء للمعتق بأحداث قوة المالكية في المعتق ونفي المملوكية فكيف يكون الولاء جزءا من الملك؟
ومعنى قول الصحابة رضي الله عنهم الولاء للكبر للقرب والكبر بمعنى العظم وبمعنى القرب فدخل كل واحد من المعنيين في قوله تعالى {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح:22] وتفسيره "رجل أعتق عبدا ثم مات وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ثم مات المعتق فميراثه لابن المعتق لصلبه دون بن ابنه" لأن بن المعتق لصلبه أقرب إلى المعتق من بن ابنه ولهذا كان أحق بميراثه فكذلك بالإرث بولائه وهذا لأن الولاء عينه لم يصر ميراثا بين الابنين حتى يخلف بن الابن أباه في نصيبه ولكنه للأب على حاله, ألا ترى أن المعتق ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده فكان استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه حقيقة ثم يخلفه فيه أقرب عصبته كما يخلفه في ماله لو مات الأب فيكون لابنه دون بن ابنه ودون ابنته لأن هذا الاستحقاق بطريق العصوبة والبنت لا تكون عصبة بنفسها إنما تكون عصبة بالابن فعند وجوده لا تزاحمه وعند عدمه هي لا تكون عصبة وهذا لأن السبب هو النصرة كما بينا والنصرة لا تحصل بالنساء, ألا ترى أن النساء لا يدخلن في العاقلة عند حمل أرش الجناية فكذلك في الإرث بولاء الغير, وإن كان للمعتق بنت فلها النصف والباقي لابن المعتق لأن الإرث بالولاء طريقه العصوبة وحق أصحاب الفرائض مقدم فلهذا يعطي نصيب بنت المعتق أولا وكذلك نصيب زوجته إن كانت ثم حكم الباقي هنا كحكم جميع المال في المسألة الأولى فيكون لابن المعتق دون بن ابنه, فإذا مات هذا الابن بعد ذلك عن بن ثم ماتت بنت المعتق فميراثها لابني بن المعتق جميعا لأنها تابعة لأبيها في الولاء فإن الولاء كالكسب والولد منسوب إلى أبيه حقيقة له فكذلك يكون مولى لموالي أبيه فكان(8/148)
ميراثها بهذا الطريق لمعتق الأب يخلفه في ذلك ابنا ابنه كما في ماله لو مات الأب وكذلك هذا القول في كل عصبة للمعتق, وقد طول محمد رحمه الله ذلك في الأصل.
وحاصله يرجع إلى ما ذكرنا أن أقرب عصبة المعتق عند موت المعتق يخلفه في ميراث المعتق في ذلك الوقت وهو معنى قول الصحابة رضي الله تعالى عنهم الولاء للكبر.
قال: "فإن كان لأحد الابنين ابنان وللآخر بن واحد فالميراث بينهم على عدد رؤوسهم" لأن الجد لو مات الآن كان ميراثه بينهم بالسوية فكذلك ميراث المعتق وكذلك الحكم في ولاء المدبر وميراثه وولاء أم الولد والمكاتب وميراثهما لأن المدبر والمكاتب والمستولد استحق ولاءهم لما باشر من السبب ولا فرق بين أن يكون نزول العتق بهذا السبب بعد موته أو قبله, وكذلك في العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وبعتقه بعد موته لأنه يستحق الولاء بما أوصى به وفعل وصيته بعد موته كفعله في حياته, فإن كانت بنت المعتق ماتت عن بنت ثم ماتت ابنتها فليس لابني بن المعتق من ميراث هذه الأخيرة شيء لأن المعتق لو كان حيا لم يرثها لأنه(8/149)
ص -71- ... ليس بمولى لها إنما هو مولى لأمها, وقد بينا أن الولاء كالنسب والولد في النسب لا يتبع أمه إذا كان له نسب من جانب الأب فكذلك في الولاء.
ثم روى عن عمر وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا "ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن, وعن إبراهيم أنه قال ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو كاتبن أو أعتق من أعتقن, وعن شريح ليس للنساء من الولاء شيء إلا ما أعتقن أو كاتبن, وهذا الحديث مخالف لما ذكره الأعمش عن إبراهيم عن شريح رحمهم الله تعالى أن الولاء بمنزلة المال, وبهذه الآثار نأخذ.
فقد روى مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو جره ولاء معتق معتقهن"
والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بما اشتهر من أقاويل الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وبالحديث المشهور الذي روينا أن بنت حمزة رضي الله عنهما أعتقت مملوكا فمات وترك بنتا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته النصف وبنت حمزة رضي الله عنهما النصف فبهذا تبين أن المرأة تكون عصبة لمعتقها وهذا لأن سبب النسبة للولاء إحداث قوة المالكية بالعتق وقد تحقق ذلك منها كما يتحقق من الرجل بخلاف النسب فإن سببه الفراش والفراش للرجل على المرأة فلا تكون المرأة صاحبة فراش ولأنها أصل في هذا الولاء لمباشرتها سببه وكما أن المرأة في ملك المال تساوي الرجل فكذلك فيما يترتب عليه(8/150)
بخلاف النسب فإن سببه وهو الفراش يثبت بالنكاح في الأصل والمرأة لا تساوي الرجل في ملك النكاح لأنها بصفة الأنوثة مملوكة نكاحا فلا تكون مالكة نكاحا وإذا ثبت أنها أصل في هذا الولاء كان ميراث معتقها لها فكذلك ميراث معتق معتقها لأن معتق المعتق ينسب إلى معتقه بالولاء وهي مثل الرجل في الولاء الذي هو الأصل على المعتق الأول ولأن ميراث معتق المعتق يكون لمعتقه بالعصوبة ومعتقه معتقها في هذا الفصل فتخلفه في استحقاق ذلك المال كما تخلفه في استحقاق المال بالعصوبة لو مات الأب.
وعلى هذا مكاتبها ومكاتب مكاتبها لأن الكتابة سبب في استحقاق الولاية كالعتق وعلى هذا جر ولاء معتق معتقها لأن سببه العتق على ما نبينه فتستوي هي بالرجل في استحقاق ذلك.
قال: وإذا أعتقت المرأة عبدا ثم ماتت عن زوجها وبن وبنت ثم مات المعتق فميراثه لابن المرأة خاصة" لأنه أقرب عصبتها إذ ليس لزوجها في العصوبة حظ والبنت لا تكون عصبة بنفسها فكان أقرب عصبتها الابن فيخلفها في ميراث معتقها ويستوي إن كانت أعتقته بجعل أو بغير جعل لأن ثبوت الولاء لها بأحداث قوة المالكية في المعتق وفي هذا يستوي العتق بجعل أو بغير جعل.
قال: "وإذا اشترت امرأتان أباهما فعتق عليهما ثم اشترت إحداهما مع الأب أخا لها من(8/151)
ص -72- ... الأب فعتق ثم مات الأب فميراثه بينهم جميعا للذكر مثل حظ الانثيين" لأنه مات عن بن وابنتين فإن مات الأخ بعد ذلك فلهما من ميراثه الثلثان بالنسب لأنهما أختاه لأب وللأختين الثلثان ثم للتي اشترت الأخ مع الأب بالولاء نصف الثلث الباقي لأنها معتقة نصفه بالشراء فإن شراء القريب إعتاق وهي المشترية لنصف الأخ ولهما جميعا نصف الثلث الباقي بولاء الأب لأن الأب كان هو المعتق لهذا النصف من الأخ بشرائه وهما كانتا معتقتين الأب بشرائهما إياه, وقد بينا أن المرأة في ميراث معتق معتقها كالرجل ولهذا كان نصف الثلث الباقي لهما بطريق الخلافة عن أبيهما.
قال: "امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأباها ثم مات العبد فميراثه للابن خاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله" وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول ثم رجع فقال لأبيها السدس والباقي للابن.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الأبوة تستحق بها العصوبة كالبنوة, ألا ترى أن الأب عصبة عند عدم الابن واستحقاق الميراث بالولاء ينبني على العصوبة ووجود الابن لا يكون موجبا حرمان الأب أصلا عن الميراث, ألا ترى أنه لم يصر محروما عن ميراثها بهذا, كذلك عن ميراث معتقها فالأحسن أن يجعل ميراث المعتق بينهما كميراثهما, لو ماتت الآن فيكون للأب السدس والباقي للابن وهذا لأن كل واحد منهما ذكر في نفسه ويتصل بها بغير واسطة فلا يجوز أن يكون أحدهما محجوبا بالآخر فهذا شبه الاستحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى.
فأما القياس ما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن أقرب عصبة المعتق يقوم مقام المعتق بعد موته في ميراث المعتق والابن هو العصبة دون الأب واستحقاق الأب السدس منها بالفريضة دون العصوبة فهو كاستحقاق البنت نصف مالها بالفريضة مع الأب وذلك لا يكون سببا لمزاحمتها مع الأب في ميراث معتقها فكذلك هنا.(8/152)
قال: "رجل أعتق أمة ثم غرقا جميعا لا يدري أيهما مات أولا لم يرث المولى منها شيئا" لأن الوراثة خلافة فشرط استحقاق ميراث الغير بقاؤه حيا بعد موته وذلك غير معلوم هنا ولأن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا إذ ليس أحدهما بالتقديم بأولى من الآخر ولو علمنا موتهما معا لم يرث المولى منها فهذا مثله ولكن ميراثها لأقرب عصبة المولى إن لم يكن لها وارث لأن المولى لما لم يرثها جعل كالمعدوم فكأنه كان كافرا أو ميتا قبلها فيكون ميراثها لأقرب عصبته.
قال: "وإذا أعتق الرجل الأمة ثم مات وترك ابنا ثم مات الابن وترك أخا من أمه ثم ماتت الأمة فميراثها لعصبة المعتق وليس للأخ لأم من ذلك شيء سواء كان أخ المعتق لأمه أو أخ لابنه" لأن الولاء للمعتق وأخ بن المعتق لأمه أجنبي من المعتق وأخ المعتق لأمه ليس بعصبة له إنما هو صاحب فريضة ولا يخلف المعتق في ميراث معتقه الأمن كان عصبة له.
قال: "امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأخاها ثم مات العبد ولا وارث له غيرهما فالميراث للابن" لأنه أقرب عصبتها يقدم على الأخ بالإرث عنها فكذلك في الخلافة في(8/153)
ص -73- ... ميراث معتقها وإن جنى جناية فعقله على عاقلة الأخ لأن جناية معتقها كجنايتها وجنايتها على قوم أبيها فكذلك جناية معتقها وابنها ليس من قوم أبيها.
واستدل عليه بحديث إبراهيم عن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أنهما اختصما إلى عمر رضي الله تعالى عنه في مولى لصفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها مات فقال علي رضي الله عنه عمتي وأنا أرث مولاها وأعقل عنه وقال الزبير رحمه الله تعالى أمي وأنا أرث مولاها فقضي عمر بالميراث للزبير وبالعقل على علي رضي الله تعالى عنه, وقال الشعبي شهدت على الزبير أنه ذهب بموالي صفية وشهدت على جعدة بن هبيرة أنه ذهب بموالي أم هانئ رضي الله عنها وكان ابنا لها فخاصمه على ميراث مولاها. فبهذين الحديثين يثبت أن ميراث المعتق يكون لابن المعتقة وإن كان عقل جنايته على قوم أبيها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب جر الولاء
قال: رضي الله عنه "روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال إذا كانت الحرة تحت مملوك فولدت عتق الولد بعتقها فإذا أعتق أبوهم جر الولاء وبه نأخذ" لأن الولد جزء من أجزائها وهي حرة بجميع أجزائها فينفصل الولد منها حرا ثم الولاء كالنسب والولد ينسب إلى أبيه بالنسب فكذلك في الولاء يكون منسوبا إلى من ينسب إليه أبوه والأب بعد العتق ينسب بالولاء إلى معتقه فكذلك ولده, واستدل على إثبات جر الولاء بحديث الزبير أيضا فإنه أبصر بخيبر فتية لعسا أعجبه ظرفهم وأمهم مولاة لرافع بن خديج وأبوهم عبد لبعض الحرقة من جهينة أو لبعض أشجع فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ثم قال انتسبوا إلي.
وقال رافع بل هم موالي فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى بالولاء للزبير.(8/154)
وفي هذا دليل أن الولد منسوب إلى موالي أمه ما لم يظهر له ولاء من جانب أبيه فإذا ظهر بالعتق جر الأب ولاء الولد إلى مواليه وهذا لأن في النسب الولد منسوب إلى أمه إذا لم يكن له نسب من أبيه للضرورة كالولد من الزنى وولد الملاعنة بعد ما انقطع نسبه من أبيه.
ثم إذا ظهر له نسب من جانب الأب بأن أكذب الملاعن نفسه صار الولد منسوبا إليه وكذلك في الولاء وقوله فتية لعسا بيان لملاحتهم فهو حمرة تضرب إلى السواد قال الشاعر:
مياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وقوله أعجبني ظرفهم أي ملاحتهم, وقيل كياستهم فمن كان بهذا اللون فهو كيس عادة ثم ذكر الشعبي قال إذا أعتق الجد جر الولاء وهكذا يروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وفي ظاهر الرواية الجد لا يجر الولاء بخلاف الأب وقد بينا في صدقة الفطر فإن هذه أربع مسائل جر الولاء وصدقة الفطر وصيرورته مسلما بإسلام جده ودخول الجد في الوصية للقرابة بخلاف الأب في الفصول الأربعة روايتان بينا وجه الروايتين هناك.(8/155)
ص -74- ... واستبعد محمد رحمه الله تعالى قول من يقول النافلة بإسلام الجد يصير مسلما فقال لو كان كذلك لكان بنو آدم مسلمين بإسلام آدم صلوات الله عليه ولا يسبي صغير أبدا وهذا باطل, وكذلك في جر الولاء بعتق الجد لو أعتق الأب فلا بد من القول بأن الأب جر ولاء الولد إلى مواليه والجد أب وبعد ما ثبت جر الولاء بالأبوة لا يتحقق نقله إلى غيره.
قال: "وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه ثم أسر أبوه فأعتق فإن الابن يكون مولى لموالي الأب" لأن ولاء الموالاة ضعيف والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فكأنه لا ولاء على الولد لأحد وهذا بخلاف ما لو كان الابن معتق إنسان فأعتق أباه إنسان آخر فإنه لا ينجر ولاء الابن إليه لأن الولاء الثابت على الابن مثل الولاء الذي ظهر للأب وهو في هذا مقصود فبعدما صار مقصودا في حكم لا يمكن جعله تبعا في عين ذلك.
قال: "وإذا تزوج العبد حرة فولدت له أولادا فأولادها موال لموالي الأم معتقة كانت أو موالية" فمتى أعتق أبوهم جر ولاءهم إلى مولاه أما إذا كانت موالية فلأن الولد لو كان مقصودا بولاء الموالاة كان يسقط اعتباره بظهور ولاء العتق للأب فكيف إذا كان تبعا
وأما كانت معتقة فلأن الولد هنا تبع في الولاء وإنما كان تبعا للأم لضرورة عدم الولاء للأب والثابت بالضرورة لا يبقى بعد ارتفاع الضرورة, وإذا كانت الأم معتقة إنسان والأب حر مسلم نبطي لم يعتقه أحد فالولد مولى لموالي الأم في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك إن كان الأب وإلى رجلا.(8/156)
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الفصلين لا يكون الولد مولى لموالي الأم ولكنه منسوب إلى قوم أبيه قال وكيف ينسب إلى قوم أمه وأبوه حر له عشيرة وموال بخلاف ما إذا كان الأب عبدا وتقرير هذا من وجهين أحدهما أن العبد رقيق بجميع أجزائه وماؤه جزء منه فإنما تثبت الحرية لمائة لاتصاله برحمها فلهذا كان الولد مولى لمواليها حتى يعتق الأب وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا, ألا ترى أنه لو كان حرا عربيا كان الولد منسوبا إلى قوم أبيه ولا يكون مولى لموالي أمه فكذلك إذا كان أعجميا لأن العرب والعجم في حرية الأصل سواء, والثاني أن الرق تلف حكما فإذا كان الأب عبدا كان حال هذا الولد في الحكم كحال من لا أب له فيكون منسوبا إلى مولى الأم وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا لأن الحرية حياة باعتبار صفة المالكية والعرب والعجم فيه سواء.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن ولاء العتاقة ولاء نعمة وهو قوي معتبر في الأحكام والحرية والنسب في حق العجم ضعيف, ألا ترى أن حريتهم تحتمل الإبطال بالاسترقاق بخلاف حرية العرب ولأن العجم ضيعوا أنسابهم, ألا ترى أن تفاخرهم ليس بالنسب ولكن تفاخرهم كان قبل الإسلام بعمارة الدنيا وبعد الإسلام بالدين وإليه أشار سلمان رضي الله تعالى عنه حين قيل سلمان بن من قال سلمان بن الإسلام, فإذا ثبت هذا الضعف في جانب الأب كان هذا وما لو كان الأب عبدا سواء وكذلك إن كان الأب مولى(8/157)
ص -75- ... الموالاة لأن ولاء الموالاة ضعيف لا يظهر في مقابلة ولاء العتاقة فوجوده كعدمه, فأما إذا كان الأب عربيا فله نسب معتبر, ألا ترى أن الكفاءة بالنسب تعتبر في حق العرب ولا تعتبر في حق العجم.
والأصل في النسبة النسب فإذا كان في جانب الأب نسب معتبر أو ولاء قوي كان الولد منسوبا إليه وإذا عدم ذلك كان الولد مولى لموالي الأم.
واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى بعربية تزوجها رجل من الموالي فولدت له ابنا فإن الولد ينسب إلى قوم أبيه دون قوم أمه فكذلك إذا كانت معتقة لأن كونها عربية وكونها معتقة سواء كما سوينا بينهما في جانب الأب.
ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فرقا بينهما وقالا في الفرق أن العربية لم تجر عليها نعمة عتاق, ومعنى هذا أن الأم إذا كانت معتقة فالولد ينسب إلى قومها بالولاء والنسبة بالولاء أقوى لأنه معتبر شرعا وإذا كانت عربية فلو انتسب الولد إلى قومها إنما ينسب بالنسب والانتساب بالنسبة إلى الأم ضعيف جدا وكذلك بواسطة الأم إلى أبيها حتى لا تستحق العصوبة بمثل هذا النسب فلهذا رجحنا جانب الأب لأن النسبة إليه بالنسب وإذا كان نسبه ضعيفا لا يستحق به العصوبة.(8/158)
قال: وإذا أعتق الرجل أمة وولدها أو كانت حبلى حين أعتقها أو أعتقت وولدت بعد العتق لأقل من ستة أشهر وقد أعتق الأب رجل آخر كان الولد مولى الذي أعتقه مع أمه دون من أعتق أباه أما إذا كان الولد منفصلا عنها فهو مملوك لمالك الأم" فتناوله العتق مقصودا والولد إذا صار مقصودا بولاء العتق لا يكون تبعا للأب وكذلك إن كانت حبلى به لأن الجنين بإعتاقها يعتق مقصودا فإن الجنين في حكم العتق كشخص على حدة حتى يفرد بالعتق فهو والمنفصل سواء, وكذلك لو ولدت لأقل من ستة أشهر بيوم من حين أعتقت لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن حين أعتقت, وكذلك لو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر بيوم لأن التوأم خلقا من ماء واحد فمن ضرورة التيقن بوجود أحدهما حين أعتقت التيقن بوجود الآخر فأما إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر فلم يتيقن بوجود هذا الولد حين أعتقت فكان مولى لموالي الأم تبعا وهذا لأن الحل إذا كان قائما بين الزوجين فإنما يسند العلوق إلى أقرب الأوقات إذ لا ضرورة في الإسناد إلى ماوراءه إلا إذا كانت معتدة من موت أو طلاق فحينئذ إذا جاءت به لتمام سنتين منذ يوم مات أو طلق فالولد مولى لموالي الأم لأن الحل ليس بقائم في المعتدة من طلاق بائن أو موت فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات لضرورة الحاجة إلى إثبات النسب, وإذا حكمنا بذلك ظهر أن الولد كان موجودا في البطن حين أعتقت وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعي لأنا لا نثبت الرجعة بالشك ومن ضرورة إثبات النسب إلى سنتين من غير أن يجعل مراجعا الحكم بأن العلوق قبل الطلاق وإن جاءت به لأكثر من سنتين كان الولد مولى لموالي الأب فصار مراجعا لتيقننا أن العلوق حصل بعد الطلاق, وإن كانت أقرت(8/159)
ص -76- ... بانقضاء العدة فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد ذلك ولتمام سنتين منذ طلق فالولد مولى لموالي الأم لأنا علمنا مجازفتها في الإقرار بانقضاء العدة حين أقرت وهي حامل فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات ولا يصير مراجعا إلا أن تكون جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلق فحينئذ يصير مراجعا لأن إقرارها بانقضاء العدة صار لغوا حين تيقنا أنها كانت حاملا يومئذ فكان ولاء الولد لموالي الأب لأنا لم نتيقن بكونه موجودا في البطن حين أعتقت ولا يصير مقصودا بالولاء إلا بذلك.
قال: "أمة معتقة ولدت من عبد فالولد مولى لموالي أمه فإن أعتق الولد وأمه فموالاته موالاة لموالي الأم" بمنزلة موالاة الأم لو كانت هي التي أعتقها وكذلك إن أسلم على يد الولد رجل ووالاه فهو مولى لموالي الأم أيضا يعقلون عنه ويرثونه لأن ولدها كنفسها(8/160)
ولو أسلم على يدها ووالاها كان مولى لمواليها فهذا مثله فإن أعتق الأب بعد ذلك جر ولاؤها ولاء كلهم حتى يكون مولى لموالي الأب لأن ولاء الأم انجر إلى قوم الأب فكذلك ما ينبني عليه من ولاء معتقه ومولاه وهذا لأن نسبة معتقه ومولاه إلى قوم الأم كان بواسطة وقد انقطعت هذه الواسطة حين صار هو منسوبا إلى قوم الأب, ويستوي إن كان ولد المعتقة حيا أو ميتا له ولد أو ليس له ولد لأنه تبع في حكم الولاء لمعتق أمه وبقاء الأصل يغني عن اعتبار بقاء التبع لأن ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل ولا يرجع عاقلة الأم على عاقلة الأب بما غرموا من إرش جنايته لأنهم غرموا ذلك حين كان مولى لهم حقيقة فإن حكم جر الولاء في الولد ثبت مقصورا على الحال لأن سببه وهو عتق الأب مقصور غير مستند إلى وقت سابق وكذلك حكمه بخلاف الملاعن إذا أكذب نفسه وقد عقل جناية الولد قوم أمه, فإنهم يرجعون على عاقلة الأب بذلك لأن النسب يثبت من وقت العلوق فتبين بإكذابه نفسه أنه كان ثابت النسب منه من حين علق وقوم الأم كانوا مجبرين على أداء الأرش فلا يكونون متبرعين في ذلك ولو لم يعتق الأب فأراد المولى الذي أسلم على يدي أبيه أن يتحول بولائه إلى مالك أبيه وقد عقل عنه موالي الأم لم يكن له ذلك لأن عقده مع الابن تأكد بحصول المقصود به فلا يحتمل الفسخ وفي التحول إلى غيره فسخ الأول بخلاف ما إذا أعتق الأب فإنه ليس في تحول ولائه إلى موالي الأب فسخ ذلك العقد الذي جرى بينه وبين الابن بل فيه تأكيد ذلك ولأن هذا التحول يثبت حكما لضرورة اتباع التبع الأصل والأول يكون عن قصد منه وقد يثبت الشيء حكما في موضع لا يجوز إثباته قصدا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ولاء الموالاة(8/161)
قال: "إبراهيم رضي الله عنه إذا أسلم الرجل على يد الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول عنه إلى غيره" وبهذا نأخذ والإسلام على يديه ليس بشرط لعقد الموالاة وإنما ذكره على سبيل العادة(8/162)
ص -77- ... وسواء أسلم على يده أو أتاه مسلما وعاقده عقد الولاء كان مولى له, وكان الشعبي يقول لا ولاء إلا لذي نعمة يعني العتاق وبه يأخذ الشافعي رحمه الله تعالى, وإنما أخذنا فيه بقول إبراهيم رضي الله تعالى عنه لحديث أبي الأشعث حيث سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل أسلم على يديه ووالاه فمات وترك مالا فقال عمر رضي الله عنه ميراثه لك فإن أبيت فلبيت المال ولحديث زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن رجلا من أهل الأرض أتاه بواليه فأبى علي رضي الله عنه ذلك فأتى بن عباس رضي الله عنه فوالاه ولحديث مسروق رضي الله عنه أن رجلا من أهل الأرض وإلى بن عم له وأسلم على يديه فمات وترك مالا فسأل بن مسعود رضي الله عنه عن ميراثه فقال هو لمولاه, وأيد أقاويل الصحابة حديث تميم الداري رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يسلم على يدي الرجل ما السنة فيه قال هو أولى الناس بمحياه ومماته وأيد هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: من الآية33] وقد بينا في أول الكتاب فإن أسلم على يديه ولم يواله لم يعقل عنه ولم يرثه إلا على قول الروافض فإنهم يقولون بالإسلام على يديه يكون مولى له لأنه أحياه بإخراجه إياه من ظلمة الكفر لأن الكفار كالموتى في حق المسلمين فهو كما لو أحياه بالعتق وعلى هذا يزعمون أن الناس موالي علي وأولاده رضي الله عنهم فإن السيف كان بيده وأكثر الناس أسلموا من هيبته وهذا باطل عندنا فإن الله تعالى هو الذي أحياه بالإسلام بأن هداه لذلك.(8/163)
وبيان ذلك في قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: من الآية122] أي كافرا فرزقناه الهدى وقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ }[الأحزاب: من الآية37] يعني بالإسلام فدل أن المنعم بالإسلام هو الله تعالى فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى الذي عرض عليه الإسلام لأنه بما صنع نائب عن الشرع مباشر ما يحق عليه لله تعالى فهو في حقه كغيره من المسلمين لا يكون مولى له ما لم يعاقده عقد الولاء ثم من أين لهم هذا التحكم أن أكثر الناس أسلموا من هيبة علي وهو كان صغيرا حين أسلم الكبار من الصحابة وأبو بكر وعمر كانا مقدمين عليه رضي الله عنهم في أمور القتال وغير القتال لا يخفى ذلك على من يتأمل في أحوالهم, ولكن الروافض قوم بهت لا يحترزون عن الكذب بل بناء مذهبهم على الكذب فإن أسلم رجل على يدي رجل ووالى رجلا آخر فهو مولى هذا الذي والاه يرثه ويعقل عنه لأنه بالإسلام على يدي الأول لم يصر مولى له ولو كان مولى بأن عاقده كان له أن يتحول عنه وقد فعل ذلك حين عاقد مع الثاني فكيف إذا لم يكن مولى للأول, فإن مات عن عمة أو خالة أو غيرهما من القرابة كان ميراثه لقرابته دون المولى لما بينا أنه لا يملك إبطال حق المستحق عن ماله بعقده كما لو أوصى بجميع ماله وله وارث وذوو الأرحام من جملة الورثة قال صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" فلا يملك إبطال حقه بعقده.
توضيحه أن سبب ذي الرحم وهو القرابة أقوى لأنه متفق على ثبوته شرعا, وإن اختلفوا في الإرث به وعقد الولاء مختلف في ثبوته شرعا فلا يظهر الضعيف في مقابلة القوي.(8/164)
ص -78- ... فإن قيل: ينبغي أن يكون للمولى الثلث لأنه خالص حقه يملك وضعه فيمن شاء.
قلنا: نعم ولكنه بعقد الولاء ما وضع شيئا من ماله فيه إنما جعله وارثا منه وفي سبب الوراثة ذو القرابة يترجح فلا يظهر استحقاق المولى معه بهذا السبب في شيء من المال بخلاف الوصية بالثلث فإنه خلافة في المال مقصودا.
توضيحه أن التملك بالوصية غير التملك بالإرث, ألا ترى أن الموصى له لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصى بخلاف الوارث فلا يمكن جعل الثلث له لا بطريق الوصية لأنه ما أوجب له ذلك ولا بطريق الإرث لترجح استحقاق القريب عليه وإذا والى رجل رجلا ثم ولد له بن من امرأة قد والت رجلا فولاء الولد لموالي الأب لأن الأب هو الأصل في النسب والولاء فإذا كان للولد في جانب الأب ولاء هو مساو للولاء الذي في جانب الأم يترجح جانبه كما في ولاء العتق.
قال: "وكذلك إن كانت والت وهي حبلى به وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا أعتقت وهي حبلى به كان ولاء الولد لموالي أمه" لأن الولد هناك يكون مقصودا بالسبب وهو العتق فإن الجنين محل للعتق مقصودا وهنا الجنين لم يصر مقصودا بالولاء لأنه ما دام في البطن فهو ليس بمحل لعقد الموالاة مقصودا لأن تمام هذا العقد بالإيجاب والقبول وليس لأحد عليه ولاية القبول, وإذا كان تبعا فاتباعه الأب أولى كما بينا وكذلك لو كان لهما أولاد صغار حين والى الأب إنسانا, وقد والت الأم قبل ذلك آخر فالأولاد موال لموالي الأب لأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الأولاد في قولهما.(8/165)
وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها ذلك عند عدم الأب أما مع وجود الأب فلا ولئن كان لها ذلك مع وجود الأب فهي ما عقدت عليهم إنما عقدت على نفسها خاصة ولئن جعل عقدها على نفسها عقدا على الأولاد فعقد الأب كذلك على نفسه عقد على الأولاد, وولاء الموالاة يقبل التحول فيجعل الأب محولا لولائهم إلى من والاه وذلك صحيح منه ولهذا كان الأولاد موال لموالي الأب فإن جنى الأب جناية فعقل الذي والاه عنه فليس لولده أن يتحول عنه إلى غيره بعد الكبر لأن ولاء الأب تأكد بعقد الجناية ويتأكد التبع يتأكد الأصل وكما ليس للأب أن يتحول عنه إلى غيره بعد ما عقل جنايته فكذلك ليس لولده ذلك إذا كبر. وكذلك إذا كان هذا الولد جني أو جني بعض أخوته فعقل عنه مولاه فليس له أن يتحول عنه لأن الأب مع أولاده كالشخص الواحد في حكم الولاء فبعقل جناية أحدهم بتأكد العقد في حقهم جميعا بخلاف ما قبل عقل الجناية عن أحد منهم لأن هناك ولاؤهم لم يتأكد فإن تأكد العقد بحصول المقصود به وإنما لم يجعل هذا العقد متأكدا قبل حصول المقصود به لأنه ليس فيه معنى المعاوضة بل أحدهما متبرع على صاحبه بالقيام على نصرته وعقل جنايته والآخر متبرع على صاحبه في جعله إياه خليفته في ماله بعد وفاته وعقد التبرع لا يلزم بنفسه ما لم يتصل به القبض ولو كان هذا معاوضة باعتبار المعنى لم يخرج من أن يكون متبرعا صورة فيكون كالهبة بشرط(8/166)
ص -79- ... العوض لا يتم بنفسه ما لم يتصل به القبض فإن كان له بن كبير حين والى الأب فأسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه فولاؤه له لأنه مقصود باكتساب سبب الولاء هنا بمنزلة اكتساب أبيه فهو كما لو أعتق الأب إنسان والابن إنسان آخر فيكون كل واحد منهما مولى لمن أعتقه, وإن أسلم الابن ولم يوال أحدا فولاؤه موقوف نعني به أنه لا يكون مولى لموالي الأب بخلاف المولود في ولائه والصغير عند عقد الأب لأن عقد الولاء ترتب على الإسلام عادة, والابن الكبير لا يتبع أباه في الإسلام بخلاف الصغير والمولود بعد الإسلام فكذلك في حكم الولاء الذي ترتب عليه وهذا لأن الصغير ليس بأصل في اكتساب سبب الولاء, ألا ترى أنه لا يصح هذا العقد منه بدون إذن وليه فيجعل فيه تبعا لأبيه أما الكبير أصل في اكتساب سبب هذا الولاء حتى يصح منه عقد الولاء بدون إذن أبيه وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه منافاة ولهذا لا يصير مولى للذي والاه أبوه, وإذا أسلمت الذمية ووالت رجلا ولها ولد صغير من رجل ذمي لم يكن ولاء ولدها لمولاها, في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
وفي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون ولاء ولدها لمولاها فمنهمن جعل هذه المسألة قياس ولاية التزويج أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يثبت ذلك للأم على ولدها الصغير حتى يصح عقدها ولا يتعلق به صفة اللزوم حتى يثبت للولد خيار البلوغ فكذلك يصح هذا العقد منها في حق الولد لأنه لا يتعلق به صفة اللزوم بنفسه وعندهما ليس للأم ولاية التزويج مع اختلاف في الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى هناك وكذلك ولاء الموالاة, والأظهر أن هذه مسألة على حدة.
ووجه قولهما أن حكم الولاء يثبت بعقد فيستدعي الإيجاب والقبول ويتردد بين المنفعة والمضرة والولد بعد الانفصال لا يكون تبعا للأم في مثل هذا العقد ولا يكون لها عليه ولاية المباشرة لهذا العقد كعقد الكتابة.(8/167)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ولاء الموالاة إما أن يعتبر بالإسلام من حيث أنه يترتب عليه عادة أو بولاء العتاقة فإن اعتبر بالإسلام فالولد الصغير يتبع أمه في الإسلام فكذا في هذا الولاء وإن اعتبر بولاء العتاقة فالولد يتبع أمه فيه إذا لم يكن له ولاء من جانب أبيه وهذا لأنه يتمحض منفعة في حق هذا الولد لأنه ما دام حيا فمولاه يقوم بنصرته ويعقل جنايته وإذا بلغ قبل أن يعقل جنايته كان له أن يتحول عنه إن شاء فعرفنا أنه منفعة محضة في حقه فيصح من الأم كقبول الهبة والصدقة بخلاف عقد الكتابة فإن فيه إلزام الدين في ذمته ولا يتمحض منفعة في حقه, وإذا أسلم حربي أو ذمي على يدي رجل ووالاه ثم أسلم ابنه على يدي آخر ووالاه كان كل واحد منهما مولى الذي والاه ولا يجر بعضهم ولاء بعض وليس هذا كالعتاق, وأشار إلى الفرق ولا فرق في الحقيقة لأن كل واحد منهما مقصود في سبب الولاء وهو العقد ولو كان مقصودا في سبب ولاء العتق أيضا لم يجر أحدهما ولاء الآخر وإنما مراده من الفرق أن الولد الكبير لما أسلم على يدي الثاني لا يصير مولى لموالي أبيه لأن هناك سبب(8/168)
ص -80- ... الولاء العقد لا الإسلام وهو أصل في العقد يتمكن من مباشرته بنفسه فلهذا لا يجعل فيه تبعا لأبيه حربي أسلم ووالى مسلما في دار الحرب أو في دار الإسلام فهو مولاه لأن سببه هو العقد الذي جرى بين المسلمين والعقد بين المسلمين صحيح سواء كان في دار الحرب أو كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام كعقد النكاح وهذا لأن المقصود التناصر والمسلم يقوم بنصرته حيث يكون أو يعتبر ولاء الموالاة بولاء العتق, ولو أن مسلما في دار الإسلام أعتق عبدا مسلما له في دار الحرب كان مولى له فكذلك في الموالاة, فإن سبي ابنه فأعتق لم يجر ولاء الأب لأن الوالد لا يتبع ولده في الولاء فإن الولاء كالنسب والوالد لا ينسب إلى ولده لأنه فرعه.
والأصل لا ينسب إلى الفرع فلهذا لا يجر الابن ولاء الأب, وإن سبي أبوه فأعتق جر ولاءه لما بينا أن ولاء الموالاة لا يظهر في مقابلة ولاء العتق فكان الابن بعد عتق الأب بمنزلة من لا ولاء له فيجر الأب ولاءه بخلاف ما إذا أسلم الأب ووالى رجلا لأن ولاء الابن هنا مساو لولاء الأب فيظهر في مقابلته فيكون كل واحد منهما مولى لمولاه, ولو كان بن ابنه لم يسب ولكنه أسلم على يدي رجل ووالاه ثم سبي الجد فأعتق لم يجر ولاء نافلته لما بينا أن الجد لا يجر الولاء إلا أن يجر ولاء ابنه فإن تحقق ذلك فحينئذ يجر ولاء ابنه وإنما يتصور جره ولاء ابنه فيما إذا سبي أبوه فاشتراه هذا الجد حتى عتق عليه فيصير ابنه مولى لمواليه وينجر إليه ولاء النافلة بهذه الواسطة, فأما إذا أعتق الابن غيره فالجد لا يجر ولاءه لكونه مقصودا بالعتق ولا يجر ولاء ولده أيضا.(8/169)
قال: "وموالاة الصبي باطلة يعني إذا أسلم على يدي صبي ووالاه" لأن بالعقد يلتزم نصرته في الحال والصبي ليس من أهل النصرة ولهذا لا يدخل في العاقلة وهو ليس من أهل الالتزام بخلاف ما إذا أسلم على يدي امرأة ووالاها لأن المرأة من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل اكتساب سبب الولاء بالعتق فكذلك بالعقد. وإن والى رجل عبدا لم نجزه إلا أن يكون بإذن المولى فحينئذ يكون مولى له لأنه عقد التزام النصرة والعبد لا يملكه بنفسه بدون
إذن مولاه فإن كان بإذنه فحينئذ يكون عقده كعقد مولاه فيكون الولاء للمولى كما إذا أعتق عبدا من كسبه بإذن مولاه وهذا لأن المقصود به النصرة والميراث بعد الموت ونصرة العبد لمولاه وهو ليس بأهل للملك بالإرث ولهذا يجعل المولى خلفا عنه فيما هو من حكم هذا العقد, وإن والى صبيا بإذن أبيه أو وصيه يجوز لأن عبارة الصبي إذا كان يعقل معتبرة في العقود والتزامه بالعقد بإذن وليه صحيح, فيما لا يكون محض مضرة كالبيع والشراء ونحوه لأن الولي يملك عليه هذا العقد فإنه لو قبل الولاء لولده على إنسان كان صحيحا فكذلك يملكه الولد بإذن أبيه ثم يكون مولى للصبي لأنه أهل للولاء بنفسه إذا صح سببه, ألا ترى أنه إذا ورث قريبه يعتق عليه ويكون مولى له فكذا حكم ولاء الموالاة بخلاف العبد, ولو أسلم على يدي مكاتب ووالاه كان جائزا لأن المكاتب من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل مباشرة سبب الولاء ألا ترى أنه يكاتب(8/170)
ص -81- ... عبده فيكون صحيحا منه وإذا أدى مكاتبته فعتق قبل أدائه كان مولى لمولاه فكذا هنا يكون مولى لمولاه لأنه مع الرق ليس بأهل لموجب الولاء وهو الإرث فيخلفه مولاه فيه ولو والى ذمي مسلما أو ذميا جاز وهو مولاه وإن أسلم الأسفل لأن الذمي من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل اكتساب سبب الولاء كالمسلم, وإذا صح العقد فإسلام الأسفل لا يزيده إلا وكادة ويبقى مولى له بعد إسلامه حتى يتحول إلى غيره, ولو أسلم رجل من نصارى العرب على يدي رجل من غير قبيلته ووالاه لم يكن مولاه ولكن ينسب إلى عشيرته وأصله هم يعقلون عنه ويرثونه وكذلك المرأة لما بينا أن النسب في حق العرب معتبر وإنه يضاهي ولاء العتق ومن كان عليه ولاء العتق لم يصح منه عقد الموالاة مع أحد فكذلك من كان له نسب من العرب لا يصح منه عقد الموالاة مع أحد وهذا بخلاف ولاء العتق فإن من ثبت عليه الرق من نصارى العرب إذا أعتق كان مولى لمعتقه لأن ولاء العتق قوي كالنسب في حق العرب أو أقوى منه فيظهر مع وجوده ويتقرر حكمه بتقرر سببه فأما ولاء الموالاة ضعيف لا يتقرر سببه مع وجود النسب في حق العربي والحكم ينبني على السبب. "ذمي أسلم ولم يوال أحدا ثم أسلم آخر على يديه ووالاه فهو مولاه" لأنه من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل المقصود بالولاء وإن لم يكن لأحد عليه ولاء, وإن أسلم ذمي على يد حربي فإنه لا يكون مولاه وإن أسلم الحربي بعد ذلك وهذا ظاهر لأنه لو أسلم على يدي مسلم لم يكن مولى له, ولكن فائدة هذه المسألة بيان أن الحربي الذي يعرض الإسلام على غيره, ويلقنه لا يصير مسلما بذلك ألا ترى أنه قال وإن أسلم الحربي بعد ذلك لم يكن مولاه وهذا لأن من يلقن غيره شيئا لا يكون مباشرا لذلك الشيء بنفسه كالذي يلقن غيره طلاق امرأته وعتق عبده.(8/171)
قال: "رجل والى رجلا فله أن يتحول عنه ما لم يعقل عنه ولكن إنما ينتقض العقد بحضرته " لأن العقد تم بهما ومثل هذا العقد لا يفسخه أحدهما إلا بمحضر من صاحبه كعقد الشركة والمضاربة والوكالة وهذا لأن تمكن كل أحد منهما من الفسخ باعتبار أن العقد غير لازم بنفسه لا باعتبار أنه غير منعقد بنفسه ففي فسخ أحدهما إلزام الآخر حكم الفسخ في عقد كان منعقدا في حقه فلا يكون إلا بمحضر منه لما عليه من الضرر لو ثبت حكم الفسخ في حقه قبل علمه وهو نظير الخطاب بالشرعيات فإنه لا يظهر حكم الخطاب في حق المخاطب ما لم يعلم به لدفع الضرر عنه, وكذلك لو أن الأعلى تبرأ من ولاء الأسفل صح ذلك إذا كان بمحضر منه لأن العقد غير لازم من الجانبين ولكل واحد منهما أن ينفرد بفسخه بغير رضاء صاحبه بعد أن يكون بمحضر منه وإن والى الأسفل رجلا آخر كان ذلك نقضا للعقد مع الأول وإن لم يكن بمحضر منه لأن انتقاض العقد في حق الأول هنا يثبت حكما لصحة العقد مع الثاني وفي العقد مع الثاني لا يشترط حضرة الأول فكذلك فيما يثبت حكما له بخلاف الفسخ مقصودا وهو نظير عزل الوكيل حال غيبته لا يصح مقصودا ويصح حكما لعتق العبد الذي وكله ببيعه.(8/172)
ص -82- ... فإن قيل: فلماذا يجعل صحة العقد مع الثاني موجبا فسخ العقد الأول ولو والاهما جملة صح.
قلنا: لأن الولاء كالنسب ما دام ثابتا من إنسان لا يتصور ثبوته من غيره فكذلك الولاء فعرفنا أن من ضرورة صحة العقد مع الثاني بطلان العقد الأول ثم ولاء الموالاة بعد صحته معتبر بولاء العتق حتى إذا أعتق الأسفل عبدا ووالاه رجل فولاء معتقه وولاؤه للأعلى الذي هو مولاه ولو مات الأعلى ثم مات الأسفل فإنما يرثه الذكور من أولاد الأعلى دون الإناث على نحو ما بيناه في ولاء العتق والله أعلم بالصواب.
باب بيع الولاء(8/173)
قال: "ذكر عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وبهذا نأخذ دون ما روى عن سليمان بن يسار أنه كان مولى لميمونة بنت الحارث فوهبت ولاءه لابن العباس وهذا لأن الهبة عقد تمليك فيستدعي شيئا مملوكا يضاف إليه عقد الهبة ليصح التمليك فيه وليس للمعتق على معتقه شيء مملوك وعلى هذا لو تصدق بولاء العتاقة أو أوصى به لإنسان فهو باطل وكذلك لو باع ولاء العتاقة فهو باطل لما قلنا ولأن البيع يستدعي مالا متقوما والولاء ليس بمال متقوم, وقد بينا في أول الكتاب أن الولاء نفسه لا يورث إنما يورث به كالنسب والإرث قد يثبت فيما لا يحتمل البيع والهبة كالقصاص فإذا كان لا يورث فلان لا يتحقق فيه البيع والهبة والصدقة كان أولى وولاء الموالاة قياس ولاء العتق لا يجوز بيعه من أحد ولا هبته لما قلنا بل أولى لأن ولاء الموالاة يعتمد التراضي والأسفل غير راض بأن يكون ولاؤه لغير من عاقده وولاء العتق لا يعتمد التراضي فإذا لم يصح التحويل هناك فهنا أولى وإن كان الذي أسلم ووالى هو الذي باع ولاءه من آخر أو وهبه كان ذلك نقضا للولاء الأول وموالاة مع هذا الثاني إن لم يكن عقل عنه الأول لأن قصده بتصرفه أن يكون ولاؤه للثاني فيجب تحصيل مقصوده بطريق الإمكان ألا ترى أنه لو عقد مع الثاني بغير محضر من الأول كان ذلك نقضا منه للولاء الأول بخلاف الأعلى فإنه لا يملك نقض ولائه بغير محضر منه بحال ولكن بيع الأسفل من الثاني باطل حتى يرد عليه ما قبض من الثاني من الثمن لأن البيع لا ينعقد إلا على مال متقوم والولاء ليس بمال فلا ينعقد به البيع مضافا إليه كالميتة والدم وإذا لم ينعقد البيع لا يملك البدل بالقبض فلا ينفذ عتقه فيه والله أعلم بالصواب.
باب عتق الرجل عبده عن غيره(8/174)
قال: ذكر في الأصل حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة أتتها تسألها في مكاتبتها فقالت لها اشتريك فأعتقك وأوفي عنك أهلك فذكرت ذلك لهم فقالوا إلا أن نشترط الولاء لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها وأعتقيها فإنما(8/175)
ص -83- ... الولاء لمن أعتق" فاشترتها فأعتقتها وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ما بال أقوام يقولون اعتق يا فلان والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق" ثم قال هذا وهم من هشام بن عروة ولا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بباطل ولا بغرور وهو شاذ من الحديث لا يكاد يصح إنما القدر الذي صح ما ذكره إبراهيم رحمه الله تعالى لما ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "الولاء لمن أعتق" وهو بيان للحكم الذي بعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما زاد عليه هشام فهو وهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأمر بالعقد الفاسد والشراء بهذا الشرط فاسد.
واستدل بحديث الزهري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اشترى من امرأته الثقفية جارية وشرط لها أنها لها بالثمن إذا استغنى عنها فسأل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال أكره أن أطأها ولا حد فيها شرط فكان عمر رضي الله عنه أوثق وأعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره وفي البيع مع الشرط اختلاف بين العلماء نذكره في كتاب البيوع.(8/176)
وفائدة هذا الحديث أن بيع المكاتبة برضاها يجوز وأن الولاء يثبت لمن حصل العتق على ملكه لا لمن شرطه لنفسه بدون ملك المحل فإنه قال "الولاء لمن أعتق" ولأجله روى الحديث في هذا الكتاب, وإذا أعتق الرجل عن حي أو ميت قريب أو أجنبي بإذنه أو بغير إذنه فالعتق جائز عن المعتق والولاء له دون المعتق عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى, أما إذا كان بغير إذنه فهو قول الكل لأنه ليس لأحد ولاية إدخال الشيء في ملك غيره بغير رضاه سواء كان قريبا أو أجنبيا حيا أو ميتا فإنما ينفذ العتق على ملك المعتق فيكون الولاء له, وهذا بخلاف ما إذا تصدق الوارث عن مورثه فإن ذلك يجزيه لأن نفوذ الصدقة لا يستدعي ملك من تكون الصدقة عنه لا محالة ولأنه بالتصدق عنه يكتسب له الثواب ولا يلزمه شيئا وبالعتق عنه يلزمه الولاء وليس للوارث أن يلزم مورثه الولاء بعد موته بغير رضاه, فأما إذا كان بإذنه فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى كذلك لأن التمليك من المعتق عنه بغير عوض لا يحصل إلا بالقبض ولم يوجد, وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يكون الولاء للمعتق عنه وقد بينا في باب الظهار من كتاب الطلاق(8/177)
وكذلك إذا قال الرجل أعتق عبدك على ألف درهم أضمنها لك ففعل, لم يكن العتق عن الآمر بخلاف ما لو قال أعتق عبدك عني على ألف لأن هناك التمليك يندرج فيه وذلك يستقيم إذا كان في لفظه ما يدل عليه وهو قوله أعتقه عني فأما هنا فليس في لفظه ما يدل على التماس التمليك منه فلا يندرج فيه التمليك وبدونه يكون العتق عن المعتق دون الآمر وليس على الآمر من المال شيء لأنه ضمن ما ليس بواجب على أحد ولأنه التزم له مالا بانتفاعه بملك نفسه وتحصيله الولاء لنفسه وهذا باطل قد بيناه في كتاب العتاق وإن كان أدى المال رجع عنه لأنه أدى بطريق الرشوة ولو أن امرأة تزوجت رجلا على أن يعتق أباها ففعل فالولاء للزوج ولها مهر مثلها بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق أباها عنها فإن التمليك منها يندرج هناك فيتقرر فيها رقبة الأب صداقا لها وهنا لا(8/178)
ص -84- ... يندرج التمليك حين لم يكن في اللفظ عليه دليل فيبقي النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها.
قال: "وكذلك الخلع يعني أن تختلع من زوجها على أن تعتق أباه فالعتق عنها والأب مولى لها" لأنه عتق على ملكها ولم يبين أن الزوج هل يرجع عليها بشيء.
فمن أصحابنا من يقول يرجع عليها بما ساق إليها لأنه شرط عليها منفعة الولاء لنفسه ولم ينل والأصح أنه لا يرجع عليها بشيء, لأن الولاء ليس بمال متقوم ولو خلعها على خمر لم يرجع عليها فهذا مثله, ولو قال أعتق عبدك عني على ألف درهم ففعل فهو حر على الآمر والمال لازم له والولاء له وفي هذا خلاف زفر رحمه الله تعالى وقد بيناه في باب الظهار وكذلك إن كان الآمر بذلك امرأة العبد فسد النكاح لأنها قد ملكت الرقبة.
وذكر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها حلفت أن لا تكلم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه فشفع عليها حتى كلمته فأعتق عنها بن الزبير رضي الله تعالى عنه خمسين رقبة في كفارة يمينها وبهذا استدل أبو يوسف رحمه الله تعالى فإن البدل ليس بمذكور في الحديث, ولكنا نقول كما لم يذكر البدل في الحديث فلم يذكر أنها امرأته بذلك وبالاتفاق بدون الأمر لا يكون العتق عن المعتق عنه فإنما يحمل هذا على أنها كفرت يمينها وبن الزبير رحمه الله تعالى إنما أعتق شكرا لله تعالى حيث كلمته.
وذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أعتقت عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم عبيدا من تلاده بعد موته وإنما يحمل هذا على أن عبد الرحمن رحمه الله تعالى كان أوصى بعتقهم وجعل إليها ذلك والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الولاء(8/179)
قال: رضي الله عنه "رجل مات وترك مالا ولا وارث له فادعي رجل أنه وارثه بالولاء فشهد له شاهدان أن الميت مولاه ووارثه لا وارث له غيره لم تجز الشهادة حتى يفسرا الولاء لأن اسم المولى مشترك قد يكون بمعنى الناصر قال الله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] وقد يكون بمعنى بن العم قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: من الآية5] وقد يكون بالعتق وقد يكون بالموالاة فما لم يفسروا لم يتمكن القاضي من القضاء بشيء وكذا لو شهدا أن الميت مولى هذا مولى عتاقه لأن اسم مولى العتاقة يتناول الأعلى ويتناول الأسفل فلا يدري القاضي بأي الأمرين يقضي وأيهما كان أعتق صاحبه.
فإن قيل: هذا الاحتمال يزول بقولهما ووارثه فإن الأسفل لا يرث من الأعلى وإنما يرث الأعلى من الأسفل.
قلنا: بهذا لا يزول الاحتمال فمن الناس من يرى توريث الأسفل من الأعلى وهو باطل عندنا ولعل الشاهدين اعتقدا ذلك وقصدا به التلبيس على القاضي يعلمهما أنهما لو فسرا لم يقض القاضي له بالميراث ثم قد يكون مولى عتاقه له بإعتاق منه وبإعتاق من أبيه أو بعض(8/180)
ص -85- ... أقاربه وبين الناس كلام في الإرث بمثل هذا الولاء يختص به العصبة أم يكون بين جميع الورثة فلهذا لا يقضى بشهادتهما ما لم يفسرا, فإن شهدا أن هذا الحي أعتق هذا الميت وهو يملكه وهو وارثه لا يعلمون له وارثا سواه جازت الشهادة لأنهم فسروا ما شهدوا به على وجه لم يبق فيه تهمة التلبيس ويستوى في هذا الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء لأنهم يشهدون بسبب استحقاق المال فهو بمنزلة شهادتهم على النسب وإن لم يشهدوا أنه وارثه لم يرث منه شيئا لأن استحقاق الإرث بولاء العتاقة مقيد بشرط وهو أن لا يكون للميت عصبة نسبا ولا يثبت ذلك الشرط إلا بشهادتهم وقولهم لا نعلم له وارثا
غيره ليس بشهادة إنما الشهادة على ما يعلمون وكما أنهم لا يعلمون فالقاضي لا يعلم فعرفنا أن هذا ليس هو المشهود به فلا بد من أن يشهدوا أنه وارثه وكذلك إن شهدوا على عتق كان من أبيه وفسروا على وجه يثبت وراثته منه, فإن قالا لم ندرك أباه هذا المعتق ولكنا قد علمنا هذا لم نجز شهادتهما على هذا أما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فلأنهما لا يجوز أن الشهادة على الولاء بالتسامع.
وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يجوز ذلك ولكن إذا أطلقا الشهادة عند القاضي فأما إذا بينا أنهما لم يدركا وأنما يشهدان بالتسامع فالقاضي لا يقبل ذلك وبيان هذا في كتاب الشهادات, ولو أقام المدعي شاهدين أنه أعتق أم هذا الميت وأنها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان وأن أباه مات عبدا أو ماتت أمه ثم مات وهو وارثه فقد فسروا الأمر على وجهه فإن القاضي يقضي له بالميراث.(8/181)
قال: "فإن أقام رجل البينة أنه كان أعتق أباه قبل أن يموت وهو يملكه وإنه وارثه فإنه يقضي له بالميراث" لأنه أثبت سبب جر الولاء إليه وهو عتق الأب فتبين أن القاضي أخطأ في قضائه بالميراث لموالي الأم وكذلك هذا في ولاء الموالاة إذا أثبت الثاني خطأ القاضي في القضاء به للأول فإنه يبطل ما قضي به ويكون الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بالمعاينة, ولو ادعي رجلان ولاء ميت بالعتق وأقام كل واحد منهما البينة جعلت ميراثه بينهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق ولأنه لا يبعد إرث رجلين بالولاء من واحد كما لو أعتقا عبدا بينهما والبينات حجج فيجب العمل بها بحسب الإمكان
فإن وقتت كل واحدة من البينتين وقتا وكان أحدهما سابقا فهو أولى لأنه أثبت الولاء لنفسه في وقت لا ينازعه الغير فيه فهو كالنسب إذا أقام رجلان البينة عليه وأحدهما أسبق تاريخا ولأنه بعد ما ثبت العتق من الأول في الوقت الذي أرخ شهوده لا يتصور ملك الثاني فيه حتى يعتقه فتبين بشهادة الذين أرخوا تاريخا سابقا بطلان شهادة الفريق الثاني
وإن كان ذلك في ولاء الموالاة فصاحب العقد الآخر أولى لأنه بعد عقد الموالاة مع الأول يتحقق منه العقد مع الثاني ويكون ذلك بقضاء للولاء الأول فشهود الآخر أثبتوا بشهادتهم ما يفسخ الولاء الأول فالقضاء بشهادتهم أولى إلا أن يشهد شهود صاحب الوقت الأول أنه كان عقل عنه فحينئذ قد تأكد ولاؤه ولا ينتقض بالعقد مع الآخر بل يبطل الثاني ويبقي الأول بحاله فلهذا كان الأول أولى, وإن أقام رجل البينة أنه أعتقه وهو يملكه(8/182)
ص -86- ... وقضى له القاضي بولائه وميراثه ثم أقام آخر البينة على مثل ذلك لم يقبل القاضي ذلك كما في النسب إذا ترجح أحد المدعيين بتقدم القضاء من القاضي ببينته لم تقبل البينة من الآخر بعد ذلك وهذا لأن القاضي يعلم كذب أحد الفريقين وقد تأكدت شهادة الفريق الأول بانضمام القضاء إليها فإنما يحال بالكذب على شهادة الفريق الثاني إلا أن يشهدوا أنه كان اشتراه من الأول قبل أن يعتقه ثم أعتقه وهو يملكه فحينئذ يقضي القاضي له بالميراث ويبطل قضاؤه للأول لأنهم أثبتوا سبب كونه مخطئا في القضاء الأول وهو أن الأول لم يكن مالكا حين أعتقه لأن الثاني كان اشتراه منه قبل ذلك.(8/183)
قال: "رجل مات وادعي رجل أن أباه أعتقه وهو يملكه وأنه لا وارث لأبيه ولا لهذا الميت غيره وجاء بابني أخيه فشهدا على ذلك" قال " م تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لجدهما على ما بينا أن الولاء للمعتق وإلارث به كان للمعتق بطريق العصوبة على أن يخلفه في ذلك أقرب عصبته وشهادة النافلة للجد لا تقبل وكذلك شهادة ابني المعتق بذلك لا تجوز لأنهما يشهدان لأبيهما, وإذا ادعي رجل ولاء رجل وأقام البينة أنه أعتقه وهو يملكه وأقام الآخر البينة أن هذا حر الأصل أسلم على يديه ووالاه والغلام يدعي أنه حر الأصل يقضي به للذي والاه دون الذي أعتقه لأن حرية الأصل تثبت له بالبينة وحرية الأصل لا ناقض لها فبعد ثبوتها تندفع بينة العتق ضرورة لأن العتق ينبني علي الملك وقد انتفى الملك بثبوت حرية الأصل ولهذا قضى بولائه للذي والاه, وكذلك لو كان ميتا عن تركة لأن إحدى البينتين تقوم على رقه والأخرى على حريته فالمثبت للحرية أولى ولأن صاحب الموالاة أثبت ببينته أنه عاقده عقد الولاء وذلك إقرار منه بأنه حر ولا ولاء عليه فثبوت هذا الإقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة أن لو كان حيا أو ادعي ذلك فإن كان حيا فأقر أنه مولى عتاقه لهذا أجزت بينة العتاقة وكان هذا نقضا من الغلام للموالاة لو كان والي هذا الآخر لأن العبد مكذب للذين شهدوا بحريته في الأصل ومدعي الموالاة خرج من أن يكون خصما في إثبات ذلك لأن العبد بإقراره بولاء العتاقة على نفسه يصير ناقضا لولاء الموالاة لما بينهما من المنافاة وهو متمكن من نقض ولائه ما لم يعقل عنه, فإذا لم يبق خصم يدعي حرية الأصل له صح إقراره بالملك وولاء العتاقة.
ومن أصحابنا من يقول هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن من أصله أن البينة على حرية العبد لا تقبل من غير الدعوى وعندهما تقبل فيثبت له حرية الأصل بحجة حكمية وذلك لا يحتمل النقض بإقراره فينبغي أن لا يثبت عليه ولاء العتاقة عندهما.(8/184)
والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن بينة العتاقة تعارض بينة حرية الأصل فيما لأجله تقبل البينة عندهما وهو إثبات حقوق الشرع عليه ثم تترجح بخصم يدعيها أو لما انتفي ولاء الموالاة فهذا حر لا ولاء عليه وقد أقر بأنه مولى هذا الذي يدعي ولاء العتق عليه فيكون إقراره صحيحا لأنه يقر بما هو من خالص حقه كما لو أقر بالنسب لإنسان ولا نسب له رجل(8/185)
ص -87- ... مات عن بنين وبنات فادعي رجل أن أباه أعتقه وهو يملكه وشهد ابنا الميت على ذلك وادعي آخر أن أباه أعتقه فأقرت بذلك بنت الميت فالإقرار باطل والشهادة جائزة " لأن الابنين يشهدان علي أبيهما بالولاء ولا تهمة في شهادة الولد على والده ثم الإقرار لا يعارض البينة لأن الإقرار لا يعدو المقر والشهادة حجة في حق الناس كافة فلا بد من أن يقضي القاضي بأن الميت معتق أب المدعي ومن ضرورة هذا القضاء تكذيب الابنة فيما أقرت به فسقط اعتبار إقرارها وهو بمنزلة ما لو مات عن ألف درهم وابنين وابنة وادعي رجل دينا ألف درهم على الميت وشهد له ابنا الميت وادعي آخر دينا ألف درهم وأقرت ابنة الميت بذلك فإنه لا يلتفت إلى إقرارها ويجعل المال كله للذي أثبت دينه بالبينة ولو شهد للآخر بن له وابنتان ولم يوقتوا وقتا كان الولاء بينهما نصفين للمساواة بين الحجتين فإن شهادة النساء مع الرجال في الولاء مثل شهادة الرجال ولا ترجيح من حيث التاريخ في إحدى البينتين فلهذا كان الولاء بينهما نصفين, ولو جاء رجل من الموالى فادعي على عربي أنه مولاه وأن أباه أعتق أباه وجاء بأخويه لأبيه يشهدان بذلك والعربي ينكره لم تقبل شهادتهما لأن في الحقيقة هذا منهم دعوى فإن المدعي مع أخويه في هذا الولاء سواء لأنهما يشهدان لأبيهما مالا فإن الولاء كالنسب تتحقق الدعوى فيه من الجانبين. فإذا كان العربي منكرا كان المدعي هو الابن الذي يدعي الولاء بطريق الخلافة عن أبيه فيجعل كان الأب حي يدعيه وشهادة الابنين لأبيهما فيما يدعيه لا تكون مقبولة, وإن ادعي العربي ذلك وأنكره المولى جازت الشهادة لأن انكار الابن كانكار أبيه لو كان حيا فإنهما يشهدان على أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة, وإن ادعي رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين فشهد أحدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر أن أباه أعتقه عن دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة لاختلافهما في(8/186)
المشهود به لفظا ومعنى فإن التدبير غير العتق المنجز في المرض, ومثل هذا لو شهد أحدهما أن أباه قد علق عتقه بدخول الدار وقد دخل والآخر أنه قد علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما أن أباه كاتبه واستوفى البدل والآخر أنه أعتقه بمال فإن الكتابة غير العتق بمال, ألا ترى أنه يملك الكتابة من لا يملك العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان حيث تقبل شهادتهما لأن العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول, ولو مات رجل فأخذ رجل ماله وادعي أنه وارثه لم يؤخذ منه لأنه لا منازع له في ذلك وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من يعارضه ولأن المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك فإن خاصمه فيه إنسان سألته البينة لأنه يدعي استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق إلا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذي اليد, فإن ادعي رجل أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره وأقام الذي في يديه المال البينة على مثل ذلك قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين لأن المقصود بهذه البينة اثبات السبب(8/187)
ص -88- ... وهو الولاء وإنما قامت بينة كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك فيقضي بينهما بالولاء ثم استحقاق المال يترتب على ذلك.
فإن قيل: لا كذلك بل المقصود إثبات استحقاق المال وأحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد والخارج على الملك المطلق فيقضي للخارج أو يجعل كما لو ادعيا تلقي الملك من واحد وأقاما البينة فتكون بينة ذي اليد أولى.
قلنا: لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم اثباته بالبينة وإن لم يكن هناك مال وإنما ينظر إلى إقامتهما البينة على الولاء أولا وهما في ذلك سواء ثم استحقاق الميراث ينبني على ذلك وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء لأن السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن اثباته بدون الحكم وهو الملك ولأن السبب هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض فلهذا كانت بينته أولى وهنا الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب فلهذا قضي بينهما, فإن أقام مسلم شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وأنه مات وهو مسلم لا وارث له غيره وأقام ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وأنه مات كافرا لا وارث له غيره فللمسلم نصف الميراث ونصف الميراث لأقرب الناس إلى الذمي من المسلمين فإن لم يكن له منهم قرابة جعلته لبيت المال لما بينا أن المقصود إثبات الولاء وقد استوت الحجتان في ذلك فإن شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم فيثبت الولاء بينهما نصفين ثم إحدى البينتين توجب كفره عند الموت والأخري توجب إسلامه عند الموت والذي يثبت إسلامه أولى, وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ولكن الإرث بحسب السبب وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به إلا نصف الميراث ونصف الولاء للذمي وهو ليس بأهل أن يرثه فيجعل كالميت ويكون هذا النصف لأقرب عصبة له من المسلمين فإذا لم يوجد ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات(8/188)
الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب فإن النسب لا يتجزى بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما, فإذا لم يكن أحدهما ممن يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه فأما الولاء يحتمل التجزي حتى لو أعتق رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه فلهذا لا يرث المسلم إلا نصف الميراث فإن كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم لأن إسلام الميت يثبت بشهادة الشهود المسلمين والحجة في الولاء تقوم عليه وشهادة النصاري ليست بحجة عليه ولأن المسلم أثبت دعواه بما هو حجة على خصمه والذمي أثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه فلا تتحقق المعارضة بينهما ولكن يقضي بولائه للمسلم وبجميع الميراث له فإن وقت كل واحدة من البينتين وقتا في العتق وهو حي والشهود كلهم مسلمون فصاحب الوقت الأول أحق لأن صاحب الوقت الأول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد ذلك ومتى كانت إحدى البينتين طاعنة في الأخرى دافعة لها فالعمل بها أولى, "ذمي في يديه عبد أعتقه فأقام مسلم شاهدين مسلمين أنه عبده وأقام الذمي شاهدين(8/189)
ص -89- ... مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه أمضيت العتق والولاء للذمي" لأن في بينه إثبات العتق وفي بينة المسلم إثبات الملك وكل واحد منهما حجة على الخصم فيترجح بينة العتق كما لو كان كل واحد من المدعيين مسلما وإذا كان شهود الذمي كفارا قضيت به للمسلم لأن بينته في إثبات الملك حجة على خصمه وبينة الذمي في إثبات العتق ليس بحجة على خصمه فكأنها لم تقم في حقه, وإن كان المسلم أقام شاهدين مسلمين أنه عبده دبره أو كانت جارية وأقام البينة أنه استولدها وأقام الذمي شاهدين مسلمين على الملك والعتق فبينة الذمي أولى لأن المسلم يثبت ببينته حق العتق والذمي حقيقة العتق وحق العتق لا يعارض حقيقة العتق ولو قبلنا بينة المسلم وطأها بالملك بعد ما قامت البينة على حريتها وذلك قبيح ولهذا كانت بينة الذمي أولى, ولو كانت أمة في يدي ذمي قد ولدت له ولدا فادعي رجل أنها أمته غصبها هذا منه وأقام البينة على ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا منه في ملكه قضيت بها وبولدها للمدعي لأن بينته طاعنة في بينة ذي اليد دافعة لها فإنهم إنما شهدوا بالملك لذي اليد باعتبار يده إذ لا طريق لمعرفة الملك حقيقة سوى اليد وقد أثبتت بينة المدعي أن يده كانت يد غصب من جهته لا يد ملك فلهذا كانت بينة المدعي أولى وإذا قضى بالملك للمدعي قضي له بالولد أيضا لأنه جزء منها وولادتها في يدي الآخر بعد ما ثبت أنه ليس بمالك لها لا يوجب أمية الولد لها, وكذلك لو ادعي المدعي أنها أمته أجرها من ذي اليد أو أعارها منه أو وهبها منه وسلمها إليه لأن بهذه الأسباب يثبت أن وصولها إلى يده كان من جهته وأن يده فيها ليست يد ملك فهذا وفصل الغصب سواء, ولو كان المدعي أقام البينة أنها أمته ولدت في ملكه قضيت بها لذي اليد لأنه ليس في بينة المدعي هنا ما يدفع بينة ذي اليد لأن ولادتها في ملكه لا ينفي ملك ذي اليد بعد ذلك فيبقي الترجيح لذي اليد من حيث أنه يثبت الحرية للولد(8/190)
وحق أمية
الولد لها, وكذلك لو ادعي ذو اليد أنها أمته أعتقها وأقام المدعي البينة أنها أمته ولدت في ملكه فبينة المعتق أولى لأن فيها إثبات حريتها ولا يجوز أن توطأ بالملك بعد ما قامت البينة على حريتها, ولو شهد شهود كل واحد منهما مع ذلك بالغصب على الآخر كان شهود العتق أيضا أولى لأن البينتين تعارضتا في أن كل واحدة منهما دافعة للأخرى طاعنة فيها وللمعارضة لا تندفع واحدة منهما بالأخرى ثم في بينة ذي اليد زيادة إثبات الحرية لها واستحقاق الولاء عليها وهذا لأن الولاء أقوى من الملك لأنه لا يحتمل النقض بعد ثبوته وإذا كان في إحدى البينتين إثبات حق قوي ليس ذلك في الأخرى تترجح هذه البينة والله أعلم بالصواب.
باب ولاء المكاتب والصبي
قال: رضي الله تعالى عنه "وإذا كاتب المسلم عبدا كافرا ثم إن المكاتب كاتب أمة مسلمة ثم أدى الأول فعتق فولاؤه لمولاه وإن كان كافرا" لأن الولاء كالنسب ونسب الكافر قد يكون ثابتا من المسلم فكذلك يثبت الولاء للمسلم على الكافر إذا تقرر سببه ولأن الولاء أثر من آثار الملك وأصل الملك يثبت للمسلم على الكافر فكذلك أثره ولكنه لا يرثه لكونه مخالفا(8/191)
ص -90- ... له في الملة وشرط الإرث الموافقة في الملة ولا يعقل عنه جنايته لأن عقل الجناية باعتبار النصرة والمسلم لا ينصر الكافر فإذا أدت الأمة فعتقت فولاؤها للمكاتب الكافر لأنها عتقت من جهته على ملكه وهو من أهل أن يثبت الولاء له لكونه حرا وكما يثبت الملك للكافر على المسلم فكذلك الولاء أو يعتبر بالنسب ونسب المسلم قد يكون ثابتا من الكافر, فإن ماتت فميراثها للمولى المسلم, وإن جنت فعقل جنايتها على عاقلة المولى المسلم لأن مولاها وهو المكاتب الكافر ليس من أهل أن يرثها ولا أن يعقل جنايتها فيجعل كالميت وعند الموت معتقه يقوم مقامة في ولاء معتقه في حكم الإرث وعقل الجناية فهذا مثله.
فإن قيل: فأي فائدة في إثبات الولاء للمسلم على الكافر وللكافر على المسلم إذا كان لا يرثه ولا يعقل جنايته بعد ذلك.
قلنا: أما فائدته النسبة إليها بالولاء كالنسب مع أن الكافر قد يسلم فيرثه وبعقل جنايته بعد ذلك وبعد الإسلام قد ظهرت من الوجه الذي قلنا أن المولى المسلم معتقه فيرثه ويعقل جنايتها عاقلته رجل باع مكاتبا فبيعه باطل لأنه استحق نفسه بالكتابة وفي بيعه إبطال هذا
الحق الثابت له وقد صار بمنزلة الحر يدا فلا يقدر المولى على تسليمه بحكم البيع ومالية رقبته صار كالتاوي لأن حق المولى في بدل الكتابة دون مالية الرقبة. فإن أعتقه المشتري بعد القبض فقبضه باطل وهو مكاتب على حاله لأنه مع بقاء الكتابة ليس بمحل للبيع كالحر والبيع لا ينفذ بدون المحل والملك لا يثبت بالقبض إذا لم يكن العقد منعقدا فلهذا كان عتق المشتري باطلا.(8/192)
وإن قال المكاتب قد عجزت وكسر المكاتبة فباعه المولى فبيعه جائز لأن المكاتب يملك فسخ الكتابة بأن يعجز نفسه فإنما صادفه البيع من المولى وهو قن وكذلك لو باع المكاتب برضاه يجوز في ظاهر الرواية لما روينا من حديث بريرة ولأنهما قصدا تصحيح البيع ولا وجه لذلك إلا بتقديم فسخ الكتابة فيتقدم فسخ الكتابة ليصح البيع وقد بينا ما في هذا الفصل من اختلاف الروايات فيما أمليناه من شرح الجامع, "رجل كاتب عبده على ألف وهي حالة فكاتب العبد أمة على ألفين ثم وكل العبد مولاه بقبض الألفين منها على أن ألفا منها قضاء له من مكاتبته ففعل فإن ولاء الأمة للمولى" لأن المولى وكيل عبده في قبض الألفين منها فتعتق هي بالأداء إليه ثم المولى يقبض إحدى الألفين لنفسه بعد ما يقبضه للمكاتب فتبين بهذا أن عتقها يسبق عتق المكاتب, ولو أدت إلى المكاتب فعتقت قبل عتق المكاتب كان ولاؤها للمولى لأن المكاتب ليس من أهل أن يثبت له الولاء فيخلفه مولاه في ذلك فهذا مثله ولأنا نعلم أن المكاتب لم يعتق قبلها وما لم يعتق قبلها لا يكون هو أهلا لولائها وليس للعبد المأذون له أن يعتق, وإن أذن له مولاه فيه إذا كان عليه دين لأن كسبه حق غرمائه وكما لا يكون للمولى أن يعتق كسبه إذا كان عليه دين فكذلك لا يكون له أن يأذن للعبد فيه أو ينيبه مناب نفسه وإن فعل والدين على العبد يحيط بكسبه ورقبته ففي نفوذه اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى بناء على أن المولى هل يملك كسب العبد المديون وهي مسألة(8/193)
ص -91- ... المأذون وإن لم يكن عليه دين جاز ذلك منه بإذن المولى لأن المولى يملك مباشرته بنفسه فإن كسبه خالص ماله فيملك أن ينيب العبد مناب نفسه وكذلك الكتابة. فإن كاتب عبدا بإذن المولى ثم أعتقه مولاه ثم أدى المكاتب المكاتبة عتق وولاؤه للمولى دون العبد المعتق لأن العبد كان نائبا عن المولى في عقد الكتابة كالوكيل, ألا ترى أن المولى هو الذي يقبض بدل الكتابة منه فإنما عتق عند الأداء على ملك المولى ولهذا كان الولاء له وهذا بخلاف مكاتب المكاتب إذا أدى بعد ما أعتق الأول لأن الثاني مكاتب من جهة الأول باعتبار حق الملك الذي له في كسبه وقد انقلب ذلك بالعتق حقيقة ملك وكان حق قبض البدل له فإنما عتق على ملك الأول فكان له ولاؤه وليس للعبد في كسبه ملك ولا حق وبعد عتقه يكون كسبه الذي اكتسبه في حالة الرق لمولاه, وللصبي أن يكاتب عبده بإذن أبيه أو وصيه وليس له أن يعتقه على مال لأن وليه يملك مباشرة الكتابة في عبده دون العتق بمال فكذلك يصح إذنه في الكتابة دون العتق بمال, وإذا أدى المكاتب إليه البدل فولاؤه للصبي لأنه عتق على ملكه وإذا ثبت أن الصبي من أهل ولاء العتق فكذلك ولاء الموالاة للصبي أن يقبل ولاء من يواليه بإذن وصيه أو أبيه ولهما أن يقبلا عليه هذا الولاء لما بينا أن عقد الولاء يتردد بين المنفعة والمضرة ومعنى المنفعة فيه أظهر ومثل هذا العقد يملكه الوصي على الصبي ويصح من الصبي بإذن الولي لأنه يتأيد رأيه بانضمام رأى الولي إليه كما في التجارات, وإن أسلم صبي على يدي رجل ووالاه لم يجز عقد الموالاة لأن حق الاستبداد باعتبار ما ظهر له من العقل والتمييز يثبت فيما يتمحض منفعة له دون ما يتردد بين المنفعة والمضرة والإسلام يتمحض منفعة له فيصح منه وأما عقد الولاء متردد بين المنفعة والمضرة فلا يصح منه مباشرته ما لم ينضم رأي وليه إلى رأيه وكذلك إن فعله بإذن وليه الكافر لأنه لما حكم بإسلامه فلا ولاية للأب(8/194)
الكافر عليه بل هو كاجنبي آخر منه في مباشرة هذا العقد عليه فكذلك في الإذن له فيه, وإن أسلم رجل على يدي رجل على أن يكون ولاؤه لما في بطن امرأته أو على أن يكون لأول ولد تلده لم يجز له ذلك لأنه لا ولاية لأحد على ما في البطن في ايجاب العقد ولا في قبوله وبدونه لا يثبت عقد الولاء فلهذا كان الحكم في الموجود في البطن هذا ففي المعدوم أصلا أولى رجل أعطى رجلا ألف درهم على أن يعتق عبده عن بن المعطي وهو صغير ففعل فالعتق عن المولى الذي أعتق ولا يكون عن الصبي" لأن الصبي ليس له ولاية العتق في ملكه ولا لوليه ذلك عليه ولا يمكن إضمار التمليك من الصبي في هذا الالتماس لأن الاضمار لتصحيح ما صرح
به إن أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض فإذا لم يكن في الإضمار تصحيح ما صرح به فلا معنى للاشتغال به ولا يمكن إضمار التمليك من المعطي للمال في كلامه أيضا لأنه ما التمس إعتاقه عن نفسه والتمليك في ضمن هذا الالتماس, فظهر أن العبد باق على ملك مولاه إلى أن أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض, وكذلك إن كان الآمر بذلك مكاتبا أو عبدا تاجرا بأن قال لحر أعتق عبدك عني على ألف درهم لأنه ليس في إضمار التمليك هنا تصحيح ما صرح(8/195)
ص -92- ... به فإن المكاتب والعبد ليس لهما أهلية العتق في كسبهما, وإن كان العبد للصبي فقال رجل لإبيه أو وصيه أعتقه عني على ألف درهم ففعله الأب جاز لأنه يصير مملكا العبد من الملتمس بالألف ثم نائبا عنه في العتق وللولي حق هذا التصرف في مال الصبي كالبيع وكذلك لو قال هذا حر لمكاتب أو عبد مأذون له عبد فقال أعتقه عني على ألف درهم لأنه يصير مملكا العبد منه بألف وذلك صحيح من المكاتب والمأذون في كسبهما ثم ينوب عن الملتمس في العتق وذلك صحيح منهما أيضا, وإن قال ذلك مكاتب لمكاتب لم يجز ولم يعتق لأن إضمار التمليك إنما يجوز لتصحيح ما صرح به والمكاتب الملتمس ليس بأهل للعتق فلما ثبت التمليك منه بهذا الالتماس بقي المأمور معتقا ملك نفسه وهو مكاتب فيكون الاعتاق باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الولاء الموقوف(8/196)
قال: رضي الله تعالى عنه "رجل اشترى من رجل عبدا ثم شهد أن البائع كان أعتقه قبل أن يبيعه فهو حر وولاؤه موقوف إذا جحد ذلك البائع" لأن المشتري مالك له في الظاهر وقد أقر بحريته بعتق نفذ فيه ممن يملكه ولو أنشأ فيه عتقا نفذ منه فكذلك إذا أقر بحريته بسبب صحيح ثم كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه فالبائع يقول المشتري كاذب وإنما عتق عليه بإقراره والمشتري يقول عتق على البائع وولاؤه له وليس لواحد منهما ولاية الزام صاحبه الولاء فبقي موقوفا فإن صدقه البائع بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن لأنه أقر ببطلان البيع وإنه كان حرا من جهته حين باعه وكذلك إن صدقه ورثته بعد موته أما في حق رد الثمن فلأنه أوجب من التركة والتركة حقهم وأما في حق الولاء ففي القياس لا يعتبر تصديق الورثة لأنهم يلزمون الميت ولاء قد أنكره وليس لهم عليه ولاية إلزام الولاء ألا ترى أنهم لو أعتقوا عنه عبدا لم يلزمه ولاؤه فكذلك هذا, ولكنه استحسن فقال ورثته يخلفونه بعد موته ويقومون مقامه في حقوقه فيكون تصديقهم كتصديقه في حياته ألا ترى أن في النسب يجعل اقرار جميع الورثة إذا كانوا عددا كإقرار المورث فكذلك في الولاء
وإن كان أقر بالتدبير فأنكره البائع فهو موقوف لا يخدم واحدا منهما لأن كل واحد منهما تبرأ عن خدمته ولكنه يكتسب فينفق على نفسه, فإذا مات البائع عتق لأن المشتري مقر أنه مدبر البائع قد عتق بموته والبائع كان مقرى أنه ملك المشتري وأن إقراره فيه نافذ فيحكم بعتقه وولاؤه موقوف فإن صدقه الورثة لزم الولاء البائع استحسانا لما قلنا(8/197)
"أمة بين رجلين شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه وصاحبه ينكر فإنها تبقى موقوفة لا تخدم واحدا منهما", لأن كل واحد منهما يتبرأ عنها ويزعم أنها أم ولد صاحبه وأن حقه في ضمان نصف القيمة على صاحبه فتبقى موقوفة حتى يموت أحدهما فإذا مات أحدهما عتقت لأن الحي منهما مقر بأنها كانت أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت منهما كان مقرى بأنها أم ولد الحي وأن إقراره فيها نافذ فيعتق باتفاقهما وولاؤها موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه, "أمة لرجل معروفة أنها له ولدت من آخر فقال رب الأمة(8/198)
ص -93- ... بعتكها بألف وقال الآخر بل زوجتنيها فالولد حر" لأن في زعم والده أنه ملك لمولى الأمة فإنه استولدها بالنكاح ومولى الأمة يزعم أنه حر لأنه باعها من أب الولد وإنما استولد ملك نفسه فيثبت حرية الولد لاتفاقهما على ذلك عند إقرار مولى الأمة به وولاؤه موقوف لأن مولى الأمة ينفي ولاءه عن نفسه ويقول هو حر الأصل علق في ملك أبيه والجارية موقوفة بمنزلة أم الولد لا يطأها واحد منهما ولا يستخدمها ولا يستغلها لأن أب الولد يتبرأ عنها لانكاره الشراء ويزعم أنها أمة لمولاها ومولاها يقول هي أم ولد لأب الولد لأني قد بعتها منه فتبقى موقوفة بمنزلة أم الولد لأن مولاها أقر بذلك وأب الولد مقر بأن إقرار مولاها فيها نافذ فإذا مات أب الولد عتقت لأن مولاها مقر بأنها عتقت بعد موت أب الولد لكونها أم ولد وأب الولد كان مقرى بأن إقرار مولاها فيها نافذ فلهذا عتقت وولاؤها موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصا من الثمن لتصادقهما على وجوب هذا القدر من المال له عليه فإن أب الولد يزعم أنه دخل بها بالنكاح فعليه صداقها لمولاها ومولاها يزعم أنه باعها منه فعليه الثمن وبعد ما تصادقا على وجوب المال في ذمته لا يعتبر اختلافهما في السبب ولكن يؤمر من عليه بأن يؤدي ذلك من الوجه الذي يدعيه ويقبضه الآخر من الوجه الذي يدعي أنه واجب له(8/199)
"رجل أقر أن أباه أعتق عبده في صحته أو في مرضه ولا وارث له سواه فولاؤه موقوف في القياس ولا يصدق على الأب" لأنه أقر بما لا يملك انشاءه فإنه لا يملك أن يلزم ولاءه أباه بإنشاء العتق فلا يصدق في الإقرار به لكونه متهما في حق أبيه ولأن الولاء كالنسب وبإقرار الوارث إذا كان واحدا لا يثبت النسب عن أبيه فكذلك لا يثبت الولاء له ولكنه استحسن وألزم ولاءه الأب إذا كان عصبتهما واحدا وقومهما من حي واحد لأن الولاء أثر الملك وإقراره في أصل الملك بعد موت الأب كإقرار الأب له في حياته فكذلك في أثره ثم الإرث بحكم ذلك الولاء إنما يثبت للابن المقر كما لو أعتقه بنفسه وعقد الجناية يكون على قومه, فإذا كانا من حي واحد فهو غير متهم في حق قومه لأنه لو أنشأ عتقه بنفسه يلزمهم عقل جنايته فكذلك إذا أقر به على أبيه وإن كان الأب أعتقه قوم والابن أعتقه آخرون فالولاء موقوف لأنه متهم في حق موالي الأب فإنه لا يملك أن يلزمهم عقل جنايته بإنشاء العتق فيكون متهما في الإقرار به وهذا الفصل نظير النسب لأنه لا يملك إثبات حكمه في حق الأب وقومه بطريق الإنشاء فلا يصدق في الإقرار به أيضا, وإن كان معه بن آخر فكذبه كان له أن يستسعي العبد في حصته لأن نصف العبد مملوك وهو يزعم أن صاحبه قد أفسده عليه بإقراره كاذبا ولم يصر بذلك ضامنا كما لو شهد على شريكه بالعتق بل احتبس نصيبه عند العبد فله أن يستسعيه في نصف قيمته.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولاء هذا النصف للذي استسعاه لأنه يدعيه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الآخر للميت لأن الولد المقر يزعم أن ولاء الكل للميت وإقراره صحيح فيما هو من حقه كما لو لم يكن معه غيره ولهذا جعلنا ولاء حصته(8/200)
ص -94- ... للميت إذا كان قومهما واحدا. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء النصف الذي هو نصيب المقر للميت لهذا المعنى أيضا وولاء النصف الذي استسعاه موقوف لأن عندهما العتق لا يتجزى فالذي استسعاه يتبرأ من الولاء ويقول إنما عتق هذا النصف بإقرار شريكي لأن إقراره كالعتق فالولاء في الكل له والمقر يزعم أنه ليس له بل هو للميت فيتعارض قولهما في نصيب الذي استسعاه فيبقي موقوفا حتى يرجع أحدهما إلى تصديق صاحبه وكذلك إن كان في الورثة رجال ونساء فأقرت امرأة منهم بذلك.
فإن قيل: على قولهما لما أقر المستسعي بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر به للميت فينبغي أن يثبت ولاء العبد كله من الميت.
قلنا: نعم ولكن من ضرورة إثبات كل الولاء من الميت الحكم بأنه عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعي في السعاية فلإبقاء حقه في السعاية جعلنا ولاء هذا النصف موقوفا.
"عبد بين رجلين قال أحدهما إن لم يكن دخل أمس المسجد فهو حر وقال الآخر إن كان دخل فهو حر" قد بينا هذه المسألة في كتاب العتاق في الإسقاط نصف السعاية عن المملوك أعادها لبيان حكم الولاء وهو أنهما إذا كانا معسرين يسعى العبد في نصف قيمته بينهما والولاء بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن نصيب كل واحد عتق على ملكه باعتبار ما أدى إليه من السعاية وما سقط بإسقاطه لا باعتبار الأحوال فيكون لكل واحد منهما ولاء نصيبه, وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الولاء موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويزعم أن صاحبه حانث وأن الكل عتق من جهته لأن العتق عنده لا يتجزى فلهذا كان الولاء موقوفا.(8/201)
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يسعى في قيمته كاملة لهما والولاء موقوف لأن العتق عند محمد رحمه الله تعالى لا يتجزى فكل واحد منهما يزعم أن صاحبه حانث وأن الولاء كله له فلهذا يتوقف الولاء وكل ولاء موقوف فميراثه يوقف في بيت المال لأنه لصاحب الولاء وهو غير معلوم والمال الذي لا يعرف مستحقه يوقف في بيت المال حتى يظهر مستحقه وجنايته على نفسه لا يعقل عنه بيت المال لأن بيت المال لا يرث ماله إنما يوقف المال فيه ليظهر مستحقه فلا يعقل جنايته أيضا وهذا لأن بيت المال إنما يعقل جناية من يكون ولاؤه للمسلمين ومن عليه ولاء عتاقة لا يكون ولاؤه للمسلمين ونحن نتيقن أن على هذا الرجل ولاء عتاقة فلهذا لا يجعل عقل جنايته على بيت المال والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب آخر من الولاء
قال: رضي الله عنه "واللقيط حر يرثه بيت المال ويعقل عنه" هكذا نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهذا لأن الحرية والإسلام تثبت له باعتبار الدار فيكون ولاؤه لأهل دار الإسلام يرثونه ويعقلونه جنايته ومال بيت المال مال المسلمين بخلاف مال من عليه ولاء(8/202)
ص -95- ... موقوف لأن ذلك منسوب إلى المعتق وهذا غير منسوب إلى أحد حتى لو والى اللقيط إنسانا قبل أن يعقل عنه بيت المال جنايته فولاؤه له لأنه صار منسوبا إليه بالولاء حين عاقده وولاؤه لبيت المال لم يتأكد بعقل الجناية حتى لو تأكد بعقل الجناية لم يملك أن يوالي أحدا.
فإن قيل: الولاء عليه للمسلمين ثبت شرعا فلا يملك إبطاله بعقده كولاء العتق.
قلنا: نعم ولكن ثبوته لمعنى ذلك المعنى يزول بالعقد وهو أنه غير منسوب إلى أحد بخلاف مولي العتاقة فإن ثبوت الولاء عليه لمعنى لا يزول ذلك بالعقد وحكم موالى اللقيط كحكم اللقيط, لأنهم ينسبون إليه بولاء العتق أو الموالاة وولاؤه للمسلمين فكذلك ولاء مواليه كما في معتق المعتق وكذلك الكافر أسلم ولا يوالي أحدا لأنه غير منسوب إلى أحد بالولاء وهو من أهل دار الإسلام فهو كاللقيط, فإن كان بينه وبين رجل من العرب عبد فأعتقاه فجنى جناية كان نصف الجناية على عاقلة العربي لأن نصف ولائه له ونصفها على بيت المال لأن نصف ولائه لمن هو مولى المسلمين وكذلك إذا ادعيا ولدا وأقاما البينة فهو ولدهما ونصف جنايته على قبيلة العربي ونصفه على بيت المال باعتبار ثبوت نسبه من اللقيط والعربي جميعا.
قال: "ذمي أعتق مسلما أو كافرا فأسلم الكافر كان ميراثه لبيت المال" لأنه مولى الكافر ولكن الكافر لا يرث المسلم وعقله على نفسه لأنه منسوب بالولاء إلى إنسان ولا يمكن إيجاب عقل جنايته على بيت المال ولا وجه لإيجابه على الكافر لأن الكافر لا ينصر المسلم فكان عقل جنايته على نفسه ألا ترى أنه لو مات مولاه ولا عشيرة له من الكفار كان ماله مصروفا إلى بيت المال؟
قال: "ولو جنى جناية كان عقل جنايته على نفسه فكذلك حال المعتق وهذا إذا لم يكن للذمي عشيرة من المسلمين فإن كان له ذلك فميراثه له" لأنه أقرب عصبة من المعتق(8/203)
وإن والي هذا المعتق رجلا لم يجز لأن عليه ولاء عتاقة لكافر فلا يتمكن من إبطاله بعقد الموالاة, وإن أسلم مولاه المعتق ووالي رجلا صار هذا المعتق مولاه لأنه كان منسوبا إليه بالولاء وقد صار مولى لمن عاقده نصراني أعتق عبدا له مسلما كان ولاؤه لقبيلة مولاه الذي أعتقه إن كان من بني تغلب فهو تغلبي منسوب إليهم يعقلون عنه ويرث المسلمون منهم أقربهم إلى مولاه عصوبة لأن الولاء يثبت للمعتق وإن كان نصرانيا إلا أنه لا يرث لكونه مخالفا له في الدين فيقوم أقرب عصبته مقامه في استحقاق ميراثه وعقل جنايته على قبيلة مولاه كعقل جناية مولاه لأنه منسوب إليهم بالولاء وكل معتق جرى عليه الرق بعد العتق انتقض به الولاء الأول وكان حكم الولاء للعتق الذي يحدث من بعد عندنا.
وعند الشافعي رضي الله عنه لا ينتقض الأول بالاسترقاق فربما يقول لا يسترق من عليه ولاء لمسلم لأن الولاء كالنسب ولا يبطل النسب بالاسترقاق أو لمراعاة حق المسلم في الولاء لا يجوز استرقاقه كالحرية المتأكدة بالإسلام لا يجوز إبطالها بالرق.
"ولكنا" نقول سبب الولاء الأول قد انعدم بالاسترقاق وهو العتق وقوة المالكية التي(8/204)
ص -96- ... حدثت فيه ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب ولا يجوز أن يمتنع الاسترقاق لأن سببه قد تقرر فلا يمتنع إلا لمانع, وهي العصمة ولا عصمة باعتبار الولاء كما لا عصمة له باعتبار نسب المسلم حتى يجوز استرقاق الحربي وإن كان له والد مسلم وإذا صار رقيقا للثاني فأعتقه فقد اكتسب سبب الولاء عليه لنفسه فلهذا كان مولى له حربي أعتق عبدا في دار الحرب ثم خرجا مسلمين كان له أن يوالي من شاء لما بينا أن عتقه في دار الحرب باطل لأنه إن لم يخل سبيله فلا ولاية له عليه وإن خلى سبيله كان عتقه نافذا ولكن لا يثبت الولاء له لأن ذلك من حكم الإسلام فلا يجرى على أهل الحرب ولئن ثبت الولاء فهو أثر من آثار الملك ولا حرمة لملكه فكذلك لا حرمة لأثر ملكه ولكن بإحراز العبد نفسه في دار الإسلام يبطل ذلك كله فله أن يوالي من شاء "حربي دخل دارنا بأمان فاشترى عبدا فأعتقه أو أعتق عبدا جاء به من دار الحرب معه ثم رجع إلى دار الحرب فأسر وجرى عليه الرق فمعتقه مولاه لا يتحول عنه أبدا" لأن سبب ثبوت الولاء له العتق وإحداث القوة في المملوك وذلك باق بعد ما صار رقيقا وضعف حاله بسبب الرق لا يكون فوق ضعف حاله بالموت والولاء الثابت للمعتق لا يبطل بالموت فكذلك برقه.
فإن قيل: الرق الذي حدث فيه ينافي ابتداء الولاء بالعتق وإن تقرر سببه منه كما بينا في المكاتب فكذلك ينافي بقاءه.
قلنا: لا كذلك ولكن الرق مناف حقيقة الملك وعليه يترتب العتق الذي يعقبه الولاء ولا حاجة إلى ذلك في إبقاء الولاء وهو نظير الموت في أنه ينافي الملك وابتداء الولاء للميت ولا ينافي بقاءه.(8/205)
فإن مات معتقه كان ميراثه في بيت المال لأن مولاه رقيق لا يرثه وليس له عشيرة من المسلمين فيوضع ماله في بيت المال نصيب كل مال ضائع وعقل جنايته على نفسه لأنه منسوب بالولاء إلى إنسان, فإن عتق هذا الحربي صار مولى لمعتقه وكذلك معتقه يكون مولى له بواسطة أم ولد لحربي خرجت إلينا مسلمة فهي حرة توالي من شاءت لما بينا أنها أحرزت نفسها بدار الإسلام, ولو كانت قنة فأحرزت نفسها بالدار كانت تعتق لملكها نفسها ولا ولاء عليها لأحد فكذلك إذا كانت أم ولد ولهذا كان لها أن توالي من شاءت.
والأصل فيه ما روى أن ستة من عبيد أهل الطائف خرجوا مسلمين حين كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أولئك عتقاء الله" "مسلم دخل دار الحرب بأمان أو أسلم حربي هناك ثم أعتق عبدا اشتراه في دار الحرب ثم أسلم عبده لم يكن مولاه في القياس وله أن يوالي من شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى, لأن ثبوت الولاء عليه من حكم الإسلام وحكم الإسلام لا يجري على الحربي في دار الحرب فإذا لم يثبت على هذا المعتق الحربي ولاء حين أسلم فله أن يوالي من شاء.
وقال أبو يوسف أجعله مولاه استحسانا لما ورد في الخبر من عتق النبي عليه الصلاة(8/206)
ص -97- ... والسلام زيد بن حارثة وعتق أبي بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله تعالى بمكة منهم صهيب وبلال وكان ولاؤهم له.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقبل أن تصير مكة دار الحرب وإنما صارت دار حرب بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر بالقتال فجرى حكم الإسلام في دار الإسلام على أن أولئك المعتقين كانوا مسلمين وكانوا يعذبون بمكة, والمسلم إذا أعتق عبدا مسلما في دار الحرب فولاؤه له, "حربي اشترى في دار الإسلام عبدا فأعتقه ثم رجع الحربي إلى دار الحرب فأسر واسترق فاشتراه معتقه وأعتقه فولاء الأول للآخر وولاء الآخر للأول" لأنه تقرر من كل واحد منهما اكتساب سبب الولاء في صاحبه ولا منافاة بين الولاءين لأنه إذا كان يجوز نسبة كل واحد من الأخوين بالأخوة إلى صاحبه فكذلك نسبة كل واحد من المعتقين إلى صاحبه بالولاء حربي مستأمن اشترى عبدا مسلما فأدخله دار الحرب فهو حر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه في كتاب العتاق ولا يكون ولاؤه للذي أدخله في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه إنما عتق بعد وصوله إلى دار الحرب وزوال العصمة عن ملك الحربي وثبوت الولاء باعتبار عصمة الملك فإذا لم يبق لملكه عصمة لا يثبت له ولاؤه.
وعند أبي يوسف ومحمد إن أعتقه الذي أدخله فولاؤه له لأن المسلم من أهل دار الإسلام(8/207)
وإن كان في دار الحرب فهو ملتزم لحكم الإسلام فيثبت الولاء له بالعتق, ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما عتق لملكه نفسه لأنه لما دخل دار الحرب حل له قتل مولاه وأخذ ماله وهو قاهر لمولاه في حق نفسه فيعتق بملكه نفسه ولهذا لا يكون عليه ولاء, وإذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب لم يعتق بنفس الإسلام لأنه لم يكن محرزا نفسه بدار الإسلام قبل هذا وملكه نفسه بالإحراز بخلاف الأول على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه كان محرزا نفسه بدار الإسلام ولم يبطل ذلك بإدخال الحربي إياه دار الحرب, فإن باعه الحربي من مسلم أو حربي مثله فهو حر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن ملك الحربي زال عنه بالبيع وملك الحربي متى زال عن العبد المسلم في دار الحرب يزول إلى العتق كما لو خرج مراغما.
وعندهما لا يعتق لأن المشتري يخلف البائع في ملكه وهي مسألة السير فإن غنمه المسلمون عتق بالإتفاق لأن يده في نفسه أقرب من أيدي المسلمين إليه فيصير محرزا نفسه بمنعة الجيش, "حربي خرج مستأمنا في تجارة لمولاه فأسلم لم يعتق ولكن الإمام يبيعه ويمسك ثمنه على مولاه" لأن مالية الحربي فيه صار معصوما بالأمان فلا يعتق ولكن بعد الإسلام لا يجوز إبقاء المسلم في ملك الكافر ألا ترى أن مولاه لو كان معه يجبره الإمام على بيعه ولم يتركه ليرجع به إلى دار الحرب فإذا لم يكن المولى معه ناب الإمام عنه في البيع ويمسك ثمنه على مولاه حتى يجيء فيأخذه, وكذلك لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا في تجارة لمولاه لأنه ما قصد بالخروج إحراز نفسه على مولاه فهو كما لو خرج مع مولاه(8/208)
ص -98- ... في تجارة بخلاف ما إذا خرج مراغما لأنه قصد إحراز نفسه عن مولاه فكان حرا يوالي من شاء ما لم يعقل عنه بيت المال فإن عقل عنه بيت المال لم يكن له أن يوالي أحدا لأن ولاءه للمسلمين قد تأكد بعقد جنايته, "رجل ارتد ولحق بدار الحرب فمات مولي له قد كان أعتقه قبل ردته فورثه الرجال من ورثته دون النساء ثم خرج ثانيا أخذ ما وجد من مال نفسه في يد ورثته ولم يأخذ ما وجد من مال مولاه في أيديهم" لأنه كان مرتدا حين مات مولاه والمرتد لا يرث وأنما يعاد إليه بعد الإسلام المال الذي كان له قبل الردة فأما ما لم يكن مملوكا قط لا يعاد إليه لأنه لو أسلم كان هذا ملكا مبتدأ له وبسبب اسلامه لا يستحق تملك المال على أحد ابتداء وكذلك إن كان في دار الإسلام حين مات مولاه لأنه مرتد فلا يرث المسلم ولكن يجعل هو كالميت في إرث مولاه فيكون ميراثه لأقرب عصبة منه من المسلمين, "امرأة من بني أسد أعتقت عبدا لها في ردتها أو قبل ردتها ثم لحقت بدار الحرب فسبيت فاشتراها رجل من همدان فأعتقها فإنه يعقل عن العبد بنو أسد في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وترثه المرأة إن لم يكن له وارث" لأن قبل ردتها كان عقل جناية هذا المعتق على بني أسد باعتبار نسبة المعتقة إليهم وذلك باق بعد السبي فإن النسب لا ينقطع بالسبي وبعد ما عتقت هي منسوبة إليهم بالنسب أيضا فكان عقل جنايته عليهم
ألا ترى أنه بعد السبي قبل العتق كان الحكم هكذا فلا يزداد بالعتق إلا وكادة.(8/209)
ثم رجع يعقوب عن هذا, وقال يعقل عنه همدان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لأن المعتقة لما سبيت فأعتقت صارت منسوبة بالولاء إلى قبيلة معتقها فكذلك معتقها يكون منسوبا إليهم بواسطتها وهذا لأن ولاء العتق في الحكم أقوى من النسب ألا ترى أن عقل جنايتها يكون على قوم معتقها, ولو أعتقت بعد هذا عبدا كان مولى لقوم معتقها فكذلك ما سبق وقبل الردة إنما كان المعتبر النسبة لانعدام ولاء العتق عليها, فإذا ظهر ولاء العتق كان الحكم له كما ينسب الولد بالولاء إلى قوم أمه ما لم يظهر له ولاء في جانب أبيه فإذا ظهر كان الحكم له وكذلك لو كانت معتقة للأولين لما بينا أن الولاء الثابت عليها للأولين قد بطل حين سبيت وأعتقت فكذلك ما يبتنى عليه من ولاء معتقها "رجل ذمي أعتق عبدا فأسلم العبد ثم نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب فليس للعبد أن يوالي أحدا" لأن الولاء ثابت عليه لمعتقه وإن صار حربيا باعتبار أن صيرورته حربيا كموته وإن جنى جناية لم يعقل عنه بيت المال وكانت عليه في ماله لأنه منسوب بالولاء للإنسان وإنما يعقل بيت المال عمن لا عشيرة له من المسلمين ولا ورثة, وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة ثم أعتقت عبدا ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبي أبوها من دار الحرب كافرا فأعتقه رجل لم يجر ولاء مولاها لأنها حرة حربية فلا تصير مولى لموالي أبيها لما بينا أن حكم الإسلام لا يجري على الحربية في دار الحرب وإنما ينجر ولاء معتقها إلى موالي الأب بواسطتها فإذا لم تثبت هذه الواسطة في حقهم لا ينجر إليهم الولاء, فإن كان مولاها الذي أعتقته مسلما فجنى جناية فعقله على بيت المال لأنها حين(8/210)
ص -99- ... أعتقت العبد كان ولاؤها لبيت المال ألا ترى أنها لو جنت كان عقل جنايتها على بيت المال فيثبت ذلك الحكم في حق مولاها ثم يبقى بعد ردتها كما يبقى بعد موتها لو ماتت لأن من هو من أهل دار الحرب فهو في حق المسلمين كالميت, "امرأة من العجم أسلمت ثم أعتقت عبدا ثم سبي أبوها فاشتراه رجل فأعتقه فإن ولاء المرأة وولاء مولاها إلى موالي الأب وينجر بواسطتها ولاء معتقها إلى موالي الأب أيضا" وهذا لأن ثبوت الولاء عليها للمسلمين لا يمنعها من أن توالي إنسانا فلا يمنع جر ولائها إلى قوم الأب بعد ما عتق الأب
"حربي أو مرتد أسلم في دار الحرب ثم أعتق عبدا مسلما ثم رجع عن الإسلام فأسر فأسلم العبد وأبي المولى أن يسلم فقتل فولاء العبد للمولى لا يتحول عنه" لأن قتله بعد الردة كموته والولاء الثابت لا يبطل بموته فإن كان له عشيرة كان عقله عليهم وإن لم يكن له عشيرة فميراثه لبيت المال وعقله على نفسه لما بينا أنه منسوب بالولاء إلى إنسان بعينه فلا يعقل عنه بيت المال فإذا تعذر إيجاب عقل جنايته على غيره جعل على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الإقرار بالولاء(8/211)
قال: رضي الله عنه "رجل أقر أنه مولى فلان مولى عتاقة من فوق أو من تحت وصدقه الآخر فهو مولى له ويعقل عنه قومه" لأن الولاء كالنسب والإقرار بالنسب صحيح من الأب والابن جميعا فكذلك الإقرار بالولاء وهذا لأن الأسفل يقر على نفسه بأنه منسوب إلى الأعلى بالولاء والأعلى يقر على نفسه بأنه منسوب إليه وأن عليه نصرته وإقرار كل واحد منهما على نفسه نافذ, وإن كان له أولاد كبار وأنكروا ذلك وقالوا أبونا مولى عتاقة لفلان آخر فالأب يصدق على نفسه والأولاد مصدقون على أنفسهم لأنه لا ولاية للأب عليهم بعد البلوغ في عقد الولاء فكذلك في الإقرار به وهم يملكون مباشرة عقد الولاء على أنفسهم بعد البلوغ فيملكون الإقرار به, وإذا ثبت هذا في ولاء الموالاة فكذلك في ولاء العتاقة لأنهما في النسبة والنصرة سواء وإن كان الأولاد صغارا كان الأب مصدقا عليهم لأنه يملك مباشرة عقد الولاء عليهم بولاية الأبوة فينفذ إقراره عليهم أيضا ولأن الصغار من الأولاد يتبعونه في الإسلام ولا يعتبر اعتقادهم بخلافه, فإن كانت لهم أم فقالت أنا مولاة فلان وصدقها مولاها بذلك فالولد مولى موالي الأب لأن كل واحد من الأبوين أصل في حق نفسه, ولو كان ولاء كل واحد منهما معروفا كان الولد مولى لموالي الأب
ولو قالت الأم للأب أنت عبد فلان وقال كنت عبد فلان فأعتقني وصدقه فلان فالقول قول الأب لأن بتصادقهما ظهر في جانب الأب ولاء فلا يلتفت إلى قولهما في حق الولد بعد ذلك, وكذلك لو قالت هم ولدي من غيرك لأن الولد للفراش وفراش الزوج عليها ظاهر فلا تصدق فيما تدعي من فراش آخر عليها غير معلوم, ولو قالت ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر فهو مولى لموالي وقال الزوج ولدتيه بعد عتقك بستة أشهر فالقول قول الزوج لأن الولاء كالنسب, وفي مثل هذا لو اختلفا في النسب بأن قالت المرأة ولدته بعد النكاح لأقل من ستة أشهر وقال الزوج بل لستة أشهر كان القول قول(8/212)
ص -100- ... الزوج لظهور فراشه عليها في الحال فكذلك في الولاء لظهور ولاء الأب في الحال وهو موجب جر ولاء الولد ما لم يعلم أنه كان مقصودا بالعتق, "امرأة في يدها ولد لا يعرف أبوه أقرت أنها معتقة هذا الرجل وصدقها ذلك الرجل لم تصدق على الابن في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهي مصدقة في قول أبي حنيفة" لأن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي تملك مباشرة عقد الولاء على ولدها ويتبعها الولد في الإسلام فتصدق في الإقرار عليه بالولاء أيضا وكذلك إن قالت كان زوجي رجلا من أهل الأرض أسلم أو كان عبدا صدقت على الولد في قول أبي حنيفة ولا تصدق في قولهما لأن عندهما لا تملك مباشرة عقد الولاء عليه, وإن كان زوجها رجلا من العرب وهي لا تعرف فأقرت أنها مولى عتاقة لرجل صدقت على نفسها ولا تصدق على الولد في قول أبي حنيفة لأن الولد بماله من النسب مستغن عن الولاء واعتبار قولها عليه لمنفعة الولد فإذا لم توجد المنفعة هنا لا يعتبر قولها عليه بخلاف ما سبق والإقرار بولاء العتاقة والولاء سواء في الصحة والمرض كالإقرار بالنسب وهذا لأن تصرفه في المرض إنما يتعلق بالمحل الذي يتعلق به حق الغرماء والورثة وذلك غير موجود في الولاء.
وإذا قال فلان مولى لي قد أعتقته وقال فلان بل أنا أعتقتك لم يصدق واحد منهما على صاحبه في قول أبي حنيفة اعتبارا للولاء بالسبب.(8/213)
ولو قال أنا مولى لفلان وفلان اعتقاني فأقر أحدهما بذلك وأنكر الآخر وحلف ما أعتقته فهو بمنزلة عبد بين اثنين يعتقه أحدهما, وإن قال أنا مولى فلان أعتقني ثم قال لا بل أعتقني فلان فهو مولى للأول لأنه رجع عن الإقرار بالولاء للأول وهو لا يملك ذلك وبعد ما ثبت عليه الولاء للأول لا يصح إقراره بالولاء للثاني, ولو قال أعتقني فلان أو فلان وادعي كل واحد منهما فهذا الإقرار باطل لجهالة المقر له فإن الإقرار للمجهول غير ملزم إياه شيئا فيقر بعد ذلك لأيهما شاء أو لغيرهما أنه مولاه فيجوز ذلك كما لو لم يوجد الإقرار الأول
"رجل أقر أنه مولى لامرأة أعتقته فقالت لم أعتقك ولكنك أسلمت على يدي وواليتني فهو مولاها" لأنهما تصادقا على ثبوت أصل الولاء واختلفا في سببه والأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها وليس له أن يتحول عنها في قول أبي حنيفة رحمه الله وله ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه إنما يثبت عليه بإقراره مقدار ما وجد فيه التصديق وذلك لا يمنعه من التحول.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقر يعامل في إقراره كأن ما أقر به حق وفي زعمه أن عليه ولاء عتاقة لها وذلك يمنعه من التحول.
وأصل المسألة في النسب إذا أقر لإنسان فكذبه ثم ادعاه لم يصح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو صحيح في قولهما وقد بيناه في العتاق, وإن أقر أنه أسلم على يدها ووالاها وقالت بل أعتقتك فهو مولاها وله أن يتحول عنها ما لم يعقل عنه قومها لأن الثابت(8/214)
ص -101- ... عند التصديق مقدار ما أقر به المقر وهو إنما أقر بولاء الموالاة وذلك لا يمنعه من التحول ما لم يتأكد بعقل الجناية, وإن أقر أن فلانا أعتقه وقال فلان ما أعتقتك ولا أعرفك فأقر أنه مولى لآخر لا يجوز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويجوز في قولهما اعتبارا للولاء بالنسب وفي النسب في نظيره خلاف ظاهر منهم فكذلك في الولاء, وإذا مات رجل وادعي رجلان كل واحد منهما أنه أعتقه وصدق بعض أولاده من الذكور والإناث أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل مولي للذي صدقه لأن الأولاد البالغين كل واحد منهم أصل في مباشرة الولاء على نفسه ذكرا كان أو أنثى فكذلك إقرار كل واحد منهما بالولاء للذي صدقه صحيح في حق نفسه والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب عتق ما في البطن(8/215)
قال: رضي الله عنه "رجل قال لأمته ما في بطنك حر ثم قال إن حبلت فسالم حر فولدت بعد هذا القول لأقل من سنتين فالقول فيه قول المولى" لجواز أن يكون هذا الولد موجودا في البطن وقت الإيجاب فإنما يعتق هذا أو كان من حبل حادث فإنما يعتق سالم وقد بينا أن العلوق إنما يستند إلى أقرب الأوقات إذا لم يكن فيه إثبات عتق بالشك فأما إذا كان فيه إثبات عتق بالشك فإنما يعتبر اليقين لأن بالشك لا يزول وهنا تيقنا بحرية أحدهما فالبيان فيه إلي المولى كما لو قال لعبدين له أحدكما حر, فإن أقر أنها كانت حاملا يومئذ فهذا منه إقرار بعتق الولد وإن أقر أنه حبل مستقبل عتق سالم لإقراره به وإن جاءت به لأكثر من سنتين عتق سالم لأنا تيقنا أنه من علوق حادث, "رجل أوصى بما في بطن أمته لرجل فأعتقه الموصى له بعد موته فإن عتقه جائز وهو مولاه" لأن الوصية أخت الميراث فكما أن الجنين يملك بالإرث فكذلك بالوصية وعتق الموصي له في ملكه نافذ فإن ضرب إنسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة وهو ميراث لمولاه الذي أعتقه لأن بدل نفس الجنين موروث عنه وأبواه مملوكان فكان ميراثا لمولاه, ولو أوصى بما في بطن أمته لفلان فأعتقه الموصى له به وأعتق الوارث الأمة وأعتق مولى الزوج زوج الأمة فولاء الولد للموصي لأنه مقصود بالعتق من جهته, فإن ضرب إنسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة ميراثا لأبويه لأنهما حران عند وجوب بدل نفس الجنين فإن كانا أعتقا بعد الضربة, قبل أن يسقط أو بعد الإسقاط فالغرة للذي أعتق الولد لأنه يحكم بموت الجنين عند الضربة ولهذا وجب البدل به وعند ذلك كانا مملوكين فلا يرثانه وإن عتقا بعد ذلك بل الميراث للمعتق وإنما يستقيم هذا الجواب وهو أن ولاء الجنين للمعتق إذا كان عتق ما في البطن أولا أو كانا سواء, فأما إذا أعتق الوارث الأم أولا فإن الجنين يعتق بعتق الأم ويكون الوارث ضامنا للموصى له قيمة الجنين يوم تلد ولا يتصور(8/216)
الإعتاق من جهته في الجنين بعد ذلك ولا يثبت له ولاؤه, وإذا أعتق الرجل ما في بطن أمته فولدت لستة أشهر فقالت للمولى قد أقررت أني حامل بقولك ما في بطنك حر وقال المولى هذا حبل حادث فالقول قول المولى لأنكاره العتق وما تقدم لا يكون إقرارا منه بوجود الولد في البطن(8/217)
ص -102- ... يومئذ بل معناه ما في بطنك حر إن كان في بطنك ولد ولو أعتق أمته وهي معتدة فجاءت بولد لتمام سنتين من وقت وجوب العدة عليها فهو مولى لموالي الأم لأنا حكمنا بأن العلوق كان سابقا على إعتاقه إياها حين أثبتنا نسب الولد من الزوج, فإن ولدت ولدين أحدهما لتمام سنتين والآخر بعد ذلك بيوم فكذلك أيضا هكذا ذكره في الأصل وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى, فأما عند محمد رحمه الله تعالى يكون الولد لموالي الأب هنا وكأنها ولدتهما لأكثر من سنتين قال اتبع الشك اليقين وهما يتبعان الثاني الأول وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات, ولا يمين في الولاء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن ادعى الأعلى أو الأسفل.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه اليمين وقد بينا هذا مع نظائره في كتاب النكاح والدعوى ولا خلاف أن المولى إذا جحد العتق فإنه يستحلف لأن العتق مما يعمل فيه البدل فيجري فيه الاستحلاف وعند نكوله يقضى بالعتق ثم الولاء ينبني عليه وهو نظير المرأة تستحلف في انقضاء العدة ثم إذا نكلت ينبني عليه صحة رجعة الزوج, وكذلك لو ادعى رجل عربي على ورثة ميت قد ترك ابنة ومالا أنه مولاه الذي أعتقه وله نصف ميراثه فلا يمين على الابنة في الولاء ولكن تحلف أنها ما تعلم له في ميراث أبيها حقا ولا إرثا لأن هذا استحلاف في المال والمال مما يعمل فيه البدل وهو كمن ادعى ميراثا بنسب لا يستحلف المنكر على النسب عنده ويستحلف على الميراث, وإن ادعى عربي على نبطي أنه والاه وجحده النبطي فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وولاء الموالاة في هذا كولاء العتاقة. فإن أقر به بعد انكاره فهو مولاه ولا يكون جحوده نقضا للولاء(8/218)
وكذلك لو كان العربي هو الجاحد لأن النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وإنكار أصل الشيء لا يكون تصرفا فيه بالرفع كإنكار الزوج لأصل النكاح, وإن ادعى نبطي على عربي أنه مولاه الذي أعتقه والعربي غائب ثم ادعى النبطي ذلك على آخر وأراد استحلافه فإنه لا حلف لوجهين:
"أحدهما" أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى الاستحلاف في الولاء.
"والثاني" أنه قد ادعي ذلك على غيره ولو أقر الثاني له بذلك لم يكن مولاه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكيف يستحلف على ذلك, وعندهما إن قدم الغائب فادعي الولاء فهو أحق به وإن أنكر فهو مولى للثاني, "رجل من الموالي قتل رجلا خطأ فادعى ورثته على رجل من قبيلة أنه أعتقه وأرادوا استحلافه فليس لهم ذلك" لأنه لا يمين في الولاء ولأنه ليس بخصم لهم وإن أقر الرجل به لم يصدق على العاقلة لأنه متهم في حق العاقلة وإنما يريد أن يلزمهم مالا بإقراره وهو لا يملك أن يلزمهم ذلك بإنشاء التصرف في هذه الحالة فكذلك بالإقرار وتكون الدية على القاتل في ماله لأن أصل وجوب الدية عليه في ماله, وإن كان المقتول من الموالى فادعى رجل أنه أعتقه قبل القتل وأنه لا وارث له غيره وأراد استحلاف القاتل على الولاء وهو مقر بالقتل لم يستحلف عليه ولكن يحلف ما يعلم لهذا في دية فلان المسمى عليك(8/219)
ص -103- ... حقا لأنه لو أقر بما ادعاه المدعى أمر بتسليم الدية إليه فإذا أنكر يستحلف على ذلك لرجاء نكوله فأما أصل الولاء فلا يمين فيه على من يدعيه فكيف على غيره, "وولد الملاعنة من قوم أمه وعقل جنايته عليهم" لأنه لا نسب له ولا ولاء من جانب الأب فيكون منسوبا إلى قوم الأم بالنسب إن كانت من العرب وبالولاء إن كانت من الموالي فإن أعتق بن الملاعنة عبدا فعقل جنايته على عاقلة الأم أيضا لأن المعتق منسوب بالولاء إلى من ينسب إليه المعتق بواسطة وقد بينا أن المعتق منسوب إلى قوم أمه عليهم عقل جنايته فكذلك معتقه. وإن مات العبد بعد موت الابن وأمه ولا وارث له غيره ورثه أقرب الناس من الأم من العصبات لأن الولد لما كان منسوبا إليها كانت هي في حقه كالأب ولو كان له أب كان ميراث معتقه لأقرب عصبة الأب بعد موته فكذلك هنا, ولو كان لها بن ثم مات المولي ولا وارث له غير بن الأم وهو أخ المعتق لأمه فإنه يرث المولى كأنه أخ المعتق لأبيه وأمه ولأن هذا الابن أقرب عصبة الأم في نسبة المعتق إليها كالأب فكذلك ابنها في استحقاق ميراث المعتق كابن الأب, ولو كان للمعتق أخ وأخت كان ميراث المولى للأخ دون الأخت لهذين المعنيين ولو لم يكن له وارث غير أمه لم يكن لها من الميراث شيء لما بينا أنه لا يرث من النساء بالولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن وكان الميراث لأقرب الناس منها من العصبات لأنها لما لم ترث شيئا كانت كالميتة, فإن ادعاه الأب وهو حي ثبت نسبه منه لأن النسب قد استتر باللعان بعد ما كان ثابتا منه بالفراش وبقي موقوفا على حقه, فإذا ادعاه في حال قيام حاجته ثبت نسبه منه ورجع ولاء مواليه العتاقة والموالاة إليه ويرجع عاقلة الأم بما عقلوا عنهم علي عاقلة الأب وما كانوا متبرعين في هذا الأداء بل كانوا مجبرين عليه في الحكم فيرجعون عليهم, وقد بينا الفرق بين هذا وبين ما إذا جر الأب ولاء الولد بعد ما عقل عنه موالي الأم وإنما(8/220)
يرجعون على عاقلة الأب لما بينا أن النسب إنما يثبت من وقت العلوق فتبين أن عاقلة الأم أدوا ما كان مستحقا على عاقلة الأب وإن كان الابن ميتا لم تجز دعوة الأب إلا أن يكون بقي له ولد لأنه بالموت استغني عن النسب فدعوى الأب لا تكون إقرارا بالنسب بل تكون دعوى للميراث وهو في ذلك متناقض, فإن خلف الولد ابنا فحاجة بن الابن كحاجة الابن في تصحيح دعوى الأب ولو كان ولد الملاعنة بنتا فماتت وتركت ولدا ثم ادعاه الأب جازت دعوته في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن موتها عن ولد كموت بن الملاعنة عن ولد وهذا لأن ولدها محتاج إلى إثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين, وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم تجز دعوته لأن نسبة هذا الولد إلى أبيه دون أمه فإن الولد من قوم أبيه, ألا ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه كان من قريش وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة فلا معتبر بوجود هذا الولد لما لم يكن منسوبا إليها فلهذا لا تصح دعوة الأب وإن كان ولد الملاعنة أعتق عبدا ثم مات لاعن ولد فادعى الأب نسبه لم يصدق باعتبار بقاء مولاه لأن الولاء أثر الملك ولو بقى له أصل الملك على العبد لم يصدق هو في الدعوة باعتباره فبقاء الولاء أولى وهذا لأنه إنما يعتبر بقاء من يصير(8/221)
ص -104- ... منسوبا إليه بالنسب إذا صحت دعوته والمولى لا يصير منسوبا إليه بالنسب, إذا لاعن بولدي توأم ثم أعتق أحدهما عبدا ومات فادعى الأب الحي منهما ثبت نسبهما لأنهما خلقا من ماء واحد فبقاء أحدهما محتاجا إلى النسبة كبقائهما, وإذا ثبت نسبهما جر الأب ولاء معتق الميت منهما إلى نفسه كما لو كان ثابت النسب منه حين أعتقه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد انتهى شرح كتاب الولاء بطريق الإملاء من الممتحن بأنواع البلاء يسأل من الله تعالى تبديل البلاء والجلاء بالعز والعلاء فإن ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين.(8/222)
ص -105- ... كتاب الأيمان
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رضي الله تعالى عنه اليمين في اللغة القوة ومنه قوله تعالى" {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}[الحاقة:45] "وقال القائل:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
فما يستعمل بالعهود والتوثيق والقوة يسمى يمينا.
وقيل: اليمين الجارحة فلما كانت يستعمل بذلها في العهود سمي ما يؤكد به العقد باسمها وهي نوعان نوع يعرفه أهل اللغة, وهو ما يقصد به تعظيم المقسم به ويسمون ذلك قسما إلا أنهم لا يخصون ذلك بالله تعالى وفي الشرع هذا النوع من اليمين لا يكون إلا بالله تعالى.(8/223)
فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك حرمة اسمه بحال, والنوع الآخر الشرط والجزاء وهو يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى اليمين وهو المنع أو الإيجاب ولكن أهل اللغة لا يعرفون ذلك لأنه ليس فيه معنى التعظيم ثم بدأ الكتاب ببيان النوع الأول فقال الأيمان ثلاثة, وهذا اللفظ على النحو الذي ذكره محمد رحمه الله تعالى يروي عن رجلين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أبي مالك الغفاري وكعب بن مالك رحمهما الله ولم يرد عدد الأيمان, فإن ذلك أكثر من أن يحصى, وإنما أراد أن اليمين بالله تعالى تنقسم في أحكامها ثلاثة أقسام يمين يكفر ويمين لا يكفر ويمين يرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها, فأما الذي يكفر فهو اليمين على أمر في المستقبل لإيجاد فعل أو نفى فعل وهذا عقد مشروع أمر الله تعالى به في بيعة نصرة الحق وفي المظالم والخصومات وهي في وجوب الحفظ أربعة أنواع نوع منها يجب إتمام البر فيها وهو أن يعقد على أمر طاعة أمر به أو الامتناع عن معصية وذلك فرض عليه قبل اليمين وباليمين يزداد وكادة ونوع لا يجوز حفظها وهو أن يحلف على ترك طاعة أو فعل معصية لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف أن يطيع الله فليطعه ومن حلف أن يعصي الله فلا يعصه" ونوع يتخير فيه بين البر والحنث والحنث خير من البر فيندب فيه إلى الحنث لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر" وأدنى درجات الأمر الندب. ونوع(8/224)
ص -106- ... يستوي فيه البر والحنث في الإباحة فيتخير بينهما وحفظ اليمين أولى بظاهر قوله تعالى: ْ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: من الآية89] وحفظ اليمين يكون بالبر بعد وجودها فعرفنا أن المراد حفظ البر ومن حنث في هذا اليمين فعليه الكفارة كما قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: من الآية89] ويتخير بين الطعام والكسوة والإعتاق للتنصيص على حرف أو ولأن البداية بالأخف والختم بالأغلظ إشارة إلى ذلك لأنها لو كانت مرتبة كانت البداية بالأغلظ. والتي لا تكفر اليمين الغموس وهي المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبها ذلك وهذه ليست بيمين حقيقة لأن اليمين عقد مشروع وهذه كبيرة محضة والكبيرة ضد المشروع ولكن سماه يمينا مجازا لأن ارتكاب هذه الكبيرة لاستعمال صورة اليمين كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحر بيعا مجازا لأن ارتكاب تلك الكبيرة لاستعمال صورة البيع.
ثم لا ينعقد هذا اليمين فيما هو حكمه في الدنيا عندنا ولكنها توجب التوبة والاستغفار.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى تنعقد موجبة للكفارة فمن أصله محل اليمين نفس الخبر وشرط انعقادها القصد الصحيح. وعندنا محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق لأنها تنعقد موجبة للبر ثم الكفارة خلف عنه عند فوت البر فالخبر الذي لا يتصور فيه الصدق لا يكون محلا لليمين والعقد لا ينعقد بدون محله.(8/225)
وحجته قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: من الآية225] فالله اثبت المؤاخذة في اليمين المكسوبة واليمين الغموس بهذه الصفة لأنها بالقلب مقصودة ثم فسر هذه المؤاخذة بالكفارة في قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89]. معناه بما قصدتم والعقد هو القصد ومنه سميت النية عقيدة وأوجب الكفارة موصولة باليمين بقوله فكفارته لأن الفاء للوصل وقال في آخر الآية ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم والكفارة بنفس الحلف إنما تجب بالغموس والمراد بقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: من الآية89] الامتناع من الحلف فإن بعد الحلف إنما يتصور حفظ البر وحفظ اليمين يذكر لمعنى الامتناع قال القائل:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت
ولأن قوله خالف فعله في يمين بالله تعالى مقصود فيلزمه الكفارة كما في المعقودة على أمر في المستقبل وأقرب ما يقيسون عليه إذا حلف ليمسن السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا وهذا لأن وجوب الكفارة في المعقودة على أمر في المستقبل لمعنى الحظر ولهذا سميت كفارة أي ساترة وهذا الحظر من حيث الاستشهاد بالله تعالى كاذبا وذلك بعينه موجود في الغموس ولأن الغموس إنما يخالف المعقودة على أمر في المستقبل في توهم البر والبر مانع من الكفارة وانعدام ما يمنع الكفارة يحقق معنى الكفارة فيها ولأن في أحد نوعي اليمين وهو الشرط والجزاء يسوى بين الماضي والمستقبل في موجبه فكذلك في النوع الآخر.(8/226)
ص -107- ... وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: من الآية77] فقد بين جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة فلو كانت الكفارة فيها واجبة لكان الأولى بيانها ولأن الكفارة لو وجبت إنما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص وذلك لا يقول به أحد قال عليه الصلاة والسلام خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وذكر منها اليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم. وقال اليمين الغموس تدع الديار بلاقع أي خالية من أهلها.
وقال بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "كنا نعد اليمين الغموس من الأيمان التي لا كفارة فيها". والمعنى فيه أنها غير معقودة لأن عقد اليمين للحظر أو الإيجاب وذلك لا يتحقق في الماضي والخبر الذي ليس فيه توهم الصدق والعقد لا ينعقد بدون محله كالبيع لا ينعقد على ما ليس بمال لخلوه عن موجب البيع وهو تمليك المال ولأنه قارنها ما يحلها ولو طرأ عليها يرفعها, فإذا قارنها منع انعقادها كالردة والرضاع في النكاح بخلاف مس السماء ونحوه فإنه لم يقارنها ما يحلها لأنها عقدت على فعل في المستقبل فما يحلها انعدام الفعل في المستقبل ولهذا تتوقت تلك اليمين بالتوقيت ولأن الغموس محظور محض فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة كالزنا والردة وهذا لأن المشروعات تنقسم ثلاثة أقسام:(8/227)
عبادة محضة وسببها مباح محض, وعقوبة محضة كالحدود وسببها محظور محض, وكفارات وهي تتردد بين العبادة والعقوبة فمن حيث أنها لا تجب الأجزاء تشبه العقوبة ومن حيث إنه يفتي بها فلا تتأدى إلا بنية العبادة وتتأدي بما هو محض العبادة كالصوم تشبه العبادات فينبغي أن يكون سببها مترددا بين الحظر والإباحة وذلك المعقودة على أمر في المستقبل لأنه باعتبار تعظيم حرمة اسم الله تعالى باليمين مباح وباعتبار هتك هذه الحرمة بالحنث محظور فيصلح سببا للكفارة فأما الغموس محظور محض لأن الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى محظور محض فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى فلا يصلح سببا للكفارة.
ثم الكفارة تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ولهذا يجب في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث لأن قبل الحنث ما هو الأصل قائم فإذا حنث فقد فات الأصل فتجب الكفارة ليكون خلفا ويصير باعتبارها كأنه على بره وهذا إنما يتصور في خبر فيه توهم الصدق أنه ينعقد موجبا للأصل ثم الكفارة خلف عنه وفي مس السماء هكذا لأن السماء عين ممسوسة فلتصور البر انعقدت اليمين ثم لفواته بالعجز من حيث العادة تلزمه الكفارة في الحال خلفا عن البر فأما فيما نحن فيه لا تصور للبر فلا ينعقد موجبا لما هو الأصل فلا يمكن أن يجعل موجبا للخلف ولأنه حينئذ لا يكون خلفا بل يكون واجبا ابتداء ولا يمكن جعل الكفارة واجبة باليمين ابتداء لأنها حينئذ لا تكون كبيرة بل تكون سبب التزام القربة ومعنى قوله تعالى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة: من الآية89] وحنثتم ومن أسباب الوجوب ما هو مضمر في الكتاب كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] ثم(8/228)
ص -108- ... إن الله تعالى أوجب الكفارة بعد عقد اليمين بقوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89] والقراءة بالتشديد لا تتناول إلا المعقودة وكذلك بالتخفيف لأنه يقال عقدته فانعقد كما يقال كسرته فانكسر وإنما يتصور الانعقاد فيما يتصور فيه الحل لأنه ضده قال القائل:
ولقلب المحب حل وعقد
ولا يتصور ذلك في الماضي أو المراد بقوله {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: من الآية225] المؤاخذة بالوعيد في الآخرة لأن دار الجزاء في الحقيقة الآخرة فأما في الدنيا قد يؤاخذ المطيع ابتداء وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذة المطلقة محمولة على المؤاخذة في الآخرة وبفصل الشرط والجزاء يستدل على ما قلنا فإنه إذا أضيف إلى الماضي يكون تحقيقا للكذب ولا يكون يمينا وإليه يشير في الكتاب ويقول أمر الغموس أمر عظيم والبأس فيه شديد.
معناه أن ما يلحقه من المأثم فيه أعظم من أن يرتفع بالكفارة. والنوع الثالث يمين اللغو فنفي المؤاخذة بها منصوص في القرآن قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: من الآية225].
واختلف العلماء في صورتها فعندنا صورتها أن يحلف على أمر في الماضي أو في الحال وهو يرى أنه حق ثم ظهر خلافه وهو مروي عن زرارة بن أبي أوفي وعن بن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايتين, وعن محمد رحمه الله قال: "هو قول الرجل في كلامه لا والله بلى والله" وهو قريب من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن عنده اللغو
ما يجري على اللسان من غير قصد في الماضي كان أو في المستقبل وهو إحدى الروايتين عن بن عباس قال: "اليمين اللغو يمين الغضب" وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير اللغو: "قول الرجل لا والله بلى والله" وهو قول عائشة رضي الله تعالى عنها.(8/229)
وتأويله عندنا فيما يكون خبرا عن الماضي فإن اللغو ما يكون خاليا عن الفائدة والخبر الماضي خال عن فائدة اليمين على ما قررنا فكان لغوا فأما الخبر في المستقبل عدم القصد لا يعدم فائدة اليمين.
وقد ورد الشرع بأن الهزل والجد في اليمين سواء, ولما أخذ المشركون حذيفة بن اليمان رضي الله عنه واستحلفوه أن لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف لهم بعهودهم ونحن نستعين بالله عليهم" والمكره غير قاصد ومع ذلك أمره بالوفاء به فدل أن عدم القصد لا يمنع انعقاد اليمين ممن هو من أهله وتأويل قوله: صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" رفع الإثم.
ومن السلف من قال اللغو هو اليمين المكفرة وهذا باطل فإن الله تعالى عطف اليمين التي فيها الكفارة على اللغو والشيء لا يعطف على نفسه ومنهم من يقول يمين اللغو اليمين على المعصية وقال بعضهم لا كفارة فيها وقال بعضهم هي محبطة بالكفارة أي لا مؤاخذة فيها بعد الكفارة وهذا أيضا فاسد فإن كون الفعل معصية لا يمنع عقد اليمين عليه ولا يخرجه(8/230)
ص -109- ... عن كونه سببا للكفارة كالظهار فإنه منكر من القول وزور ثم كان موجبا للكفارة عند العود وهذا النوع لا يتحقق إلا في اليمين بالله تعالى فأما في الشرط والجزاء لا يتحقق اللغو هكذا ذكره بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لأن عدم القصد لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق.
فإن قيل: فما معنى تعليق محمد رحمه الله تعالى نفي المؤاخذة في هذا النوع من الرجاء بقوله نرجو إن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها وعدم المؤاخذة في اليمين اللغو منصوص عليه وما عرف بالنص فهو مقطوع به.(8/231)
قلنا: نعم ولكن صورة تلك اليمين مختلف فيها فإنما علق بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التي ذكرها وذلك غير معلوم بالنص مع أنه لم يرد بهذا اللفظ التعليق بالرجاء إنما أراد به التعظيم والتبرك بذكر اسم الله تعالى كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالمقابر قال صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وما ذكر الاستثناء بمعنى الشك فإنه كان متيقنا بالموت وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ولكن معنى ذكر الاستثناء ما ذكرنا وإذا حلف ليفعلن كذا ولم يوقت لذلك وقتا فهو على يمينه حتى يهلك ذلك الشيء الذي حلف عليه فيلزمه الكفارة حينئذ وأعلم أن اليمين ثلاثة أنواع مؤبدة لفظا ومعنى بأن يقول والله لا أفعل كذا أبدا أو يقول لا أفعل مطلقا والمطلق فيما يتأبد يقتضي التأبيد كالبيع, ومؤقتة لفظا ومعنى بأن يقول لا أفعل كذا اليوم فيتوقت اليمين بذلك الوقت لأن موجبه الحظر أو الإيجاب وذلك يحتمل التوقيت فيتوقت بتوقيته, ومؤبد لفظا مؤقت معنى كيمين الفور إذا قال تعال تغد معي فقال والله لا أتغدي يتوقت يمينه بذلك الغداء المدعو إليه وهذا النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله تعالى ولم يسبق به وأخذه من حديث جابر بن عبد الله وابنه حين دعيا إلى نصرة إنسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناه على ما عرف من مقصود الحالف وهو الأصل في الشرع أن يبتني الكلام على ما هو معلوم من مقصود المتكلم قال الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}[الاسراء: من الآية64], والمراد الإمكان والإقدار لاستحالة الأمر بالشرك والمعصية من الله تعالى ثم الكفارة لا تجب إلا بعد فوت البر في اليمين المطلقة وإنما يفوت البر بهلاك ذلك الشيء الذي حلف عليه أو بموت الحالف وأما في اليمين المؤقتة ففوت البر بمضي الوقت مع بقاء(8/232)
ذلك الشيء الذي حلف عليه ومع بقاء الحالف وأما إذا كان الحالف قد مات قبل مضي ذلك الوقت لا تجب الكفارة, وإذا هلك ذلك الشيء ففيه اختلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى, وإذا قال ورحمة الله لا أفعل كذا أو غضب الله وسخط الله وعذاب الله وثوابه ورضاه وعلمه فإنه لا يكون يمينا.
والحاصل أن نقول اليمين إما أن يكون باسم من أسماء الله تعالى أو بصفة من صفاته وذلك يبتني على حروف القسم فلا بد من معرفتها أولا فنقول حروف القسم الباء والواو(8/233)
ص -110- ... والتاء أما الباء فهي للإلصاق في الأصل وهي بدل عن فعل محذوف فمعنى قوله بالله أي أحلف بالله قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: من الآية56] أو أقسم بالله قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: من الآية109] ولهذا يصح اقترانها بالكتابة فيقول القائل به وبك.
ثم الواو تستعار للقسم بمعنى الباء لما بينهما من المشابهة صورة ومعنى أما صورة فلأن مخرج كل واحد منهما بضم الشفتين. وأما المعنى فلأن الواو للعطف وفي العطف معني الإلصاق إلا أنه لا يستقيم إظهار الفعل مع حرف الواو بأن يقول أحلف والله لأن الاستعارة لتوسعة صلات الاسم لا لمعنى الإلصاق فإذا استعمل مع إظهار الفعل يكون بمعنى الإلصاق ولهذا لا يستقيم حرف الواو مع الكناية وإنما يستقيم مع التصريح بالاسم سواء ذكر اسم الله تعالى أو اسم غير الله فيقول وأبيك وأبي ثم التاء تستعار لمعنى الواو لما بينهما من المشابهة فإنهما من حروف الزوائد تستعمل العرب إحداهما بمعنى الأخرى كقولهم تراث ووارث ولكن هذه الاستعارة لتوسعة صلة القسم بالله خاصة ولهذا لا يستقيم ذكر التاء إلا مع التصريح بالله حتى لا يقال بالرحمن وإنما يقال بالله خاصة قال الله تعالى {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: من الآية91] {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: من الآية57] ثم الحلف بأسماء الله تعالى يمين في الصحيح من الجواب.(8/234)
ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله تعالى كقوله والله والرحمن فهو يمين وما يسمى به غير الله تعالى كالحكيم والعالم فإن أراد به اليمين فهو يمين وإن لم يرد به اليمين لا يكون يمينا, وكان بشر المريسي يقول في قوله والرحمن إن أراد به اسم الله تعالى فهو يمين وإن أراد به سورة الرحمن لا يكون يمينا لأنه حلف بالقرآن وقد بينا في كتاب الطلاق أن قوله والقرآن لا يكون يمينا. ولكن الأول أصح لأن تصحيح كلام المتكلم واجب ما أمكن ومطلق الكلام محمول على ما يفيد دون ما لا يفيد وذلك في أن يجعل يمينا ويستوي إن قال والله أو بالله أو تالله وكذلك إن قال الله لأن من عادة العرب حذف بعض الحروف للإيجاز قال القائل:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبن أني نسيت الإلحاف
أي وقفت إلا أن عند نحويي البصرة عند حذف حرف القسم بذكر منصوبا بانتزاع حرف الخافض منه وعند نحويي الكوفة يذكر مخفوضا لتكون كسرة الهاء دليلا على محذوفه وكذلك لو قال لله لأن معناه بالله فإن الباء واللام يتقاربان قال الله تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: من الآية71] أي آمنتم به وقال بن عباس رضي الله تعالى عنهما: "دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج",.
وذكر القفال في تفسيره إذا قال له وعني به اليمين يكون يمينا واستدل بقول القائل:
لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها
معناه لله أنك ولو قال وايم الله فهو يمين.(8/235)
ص -111- ... قال محمد رحمه الله تعالى ومعناه أيمن فهو جمع اليمين وهذا مذهب نحويي الكوفة, وأما البصريون يقولون معناه والله وأيم صلته كقولهم صه, ومه وما شاكله, وكذلك لو قال: لعمرو الله فهو يمين باعتبار النص قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: من الآية72] والعمرو هو البقاء والبقاء من صفات الذات فكأنه قال والله الباقي, وأما الحلف بالصفات فالعراقيون من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والعزة والجلال والكبرياء يمين والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا وقالوا صفات الذات ما لا يجوز أن يوصف بضده كالقدرة وصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده يقال رحم فلان ولم يرحم فلان وغضب على فلان ورضي عن فلان قالوا:
وعلى هذا ينبغي في القياس في قوله وعلم الله أن يكون يمينا لأنه من صفات الذات فإنه لا يوصف بضد العلم ولكنهم تركوا هذا القياس لأن العلم يذكر بمعنى المعلوم كقول الرجل في دعائه اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة رحمه الله أي معلومه والمعلوم غير الله.
فإن قيل: وقد يقال أيضا انظر إلى قدرة الله والمراد المقدور ثم قوله وقدرة الله يمين.(8/236)
قلنا: معنى قوله انظر إلى قدرة الله أي إلى أثر قدرة الله تعالى ولكن بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فإن القدرة لا تعاين ولكن هذا الطريق غير مرضي عندنا فإنهم يقصدون بهذا الفرق الإشارة إلى مذهبهم أن صفات الفعل غير الله تعالى, والمذهب عندنا أن صفات الله لا هو ولا غيره فلا يستقيم الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل في حكم اليمين ومنهم من يعلل فيقول رحمه الله تعالى الجنة قال الله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: من الآية107] وإذا كانت الرحمة بمعنى الجنة فالسخط والغضب بمعنى النار فيكون حلفا بغير الله تعالى وهذا غير مرضي أيضا لأن الرحمة والغضب عندنا من صفة الله تعالى, والأصح أن يقول الأيمان مبنية على العرف والعادة فما تعارف الناس الحلف به يكون يمينا وما لم يتعارف الحلف به لا يكون يمينا والحلف بقدرة الله تعالى وكبريائه وعظمته متعارف فيما بين الناس وبرحمته غضبه غير متعارف فلهذا لم يجعل قوله وعلم الله يمينا.
ولهذا قال محمد رحمه الله في قوله وأمانة الله إنه يمين ثم سئل عن معناه فقال لا أدري فكأنه قال وجد العرب يحلفون بأمانة الله عادة فجعله يمينا وذكر الطحاوي أن قوله وأمانة الله لا يكون يمينا لأنه عبادة من العبادات والطاعات ولكن أمر الله تعالى بها وهي غير الله تعالى.
وجه رواية الأصل أنه يتعذر الإشارة إلى شيء بعينه على الخصوص أنه أمانة الله والحلف به متعارف وعلمنا أنهم يريدون به الصفة فكأنه قال والله الأمين. فإن قال ووجه الله روى عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه يمين لأن الوجه يذكر بمعنى الذات قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: من الآية27] قال الحسن هو هو وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون(8/237)
ص -112- ... يمينا, قال أبو شجاع رحمه الله تعالى في حكايته عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو من أيمان السفلة يعني الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة.
وهذا دليل على أنه لم يجعله يمينا, وإن قال وحق الله فهو يمين في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى, وفي الرواية الأخري لا يكون يمينا لأن حق الله على عباده الطاعات كما فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله لمعاذ: "أتدري ما حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" والحلف بالطاعات لا يكون يمينا.
وجه قوله أن معنى وحق الله والله الحق والحق من صفات الله تعالى قال الله تعالى {ذلك بأن الله هو الحق} [الحج: 62] ولا خلاف أنه لو قال والحق لا أفعل كذا أنه يمين كقوله والله قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: من الآية71] ولو قال حقا لا يكون يمينا لأن التنكير في لفظه دليل على أنه لم يرد به اسم الله وإنما أراد به تحقيق الوعد معناه أفعل هذا لا محالة فلا يكون يمينا.
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى وقد بينا في باب الإيلاء من كتاب الطلاق ألفاظ القسم ما اتفقوا عليه وما فيه اختلاف كقولهم هو يهودي أو نصراني أو مجوسي وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إذا قال هو يهودي إن فعل كذا وهو نصراني إن فعل كذا فهما يمينان وإن قال هو يهودي هو نصراني إن فعل كذا فهي يمين واحدة لأن في الأول كل واحد من الكلامين تام بذكر الشرط والجزاء وفي الثاني الكلام واحد حين ذكر الشرط مرة واحدة, ولو حلف على أمر في الماضي بهذا اللفظ فإن كان عنده أنه صادق فلا شيء عليه وإن كان يعلم أنه كاذب. كان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول يكفر لأنه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بالموجود تنجيز فكأنه قال هو كافر.(8/238)
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يكفر اعتبارا للماضي بالمستقبل ففي المستقبل هذا اللفظ يمين يكفرها كاليمين بالله تعالى ففي الماضي هو بمنزلة الغموس أيضا, والأصح أنه إن كان عالما يعرف أنه يمين فإنه لا يكفر به في الماضي والمستقبل وإن كان جاهلا وعنده أنه يكفر بالحلف يصير كافرا في الماضي والمستقبل لأنه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده أنه يكفر به فقد صار راضيا بالكفر, ومن هذا الجنس تحريم الحلال فإنه يمين يوجب الكفارة عندنا, وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون يمينا إلا في النساء والجواري لأن تحريم الحلال قلب الشريعة واليمين عقد شرعي فكيف ينعقد بلفظ هو قلب الشريعة ولأنه ليس في هذا المعنى تعظيم المقسم به ولا معنى الشرط والجزاء من حيث أنه بوجود الشرط لا يثبت عين ما علق به من الجزاء أو اليمين يتنوع بهذين النوعين.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: من الآية2] قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل على نفسه وقيل حرم مارية على نفسه فيعمل بهما أو لما ثبت بهذه الآية(8/239)
ص -113- ... أن التحريم المضاف إلى الجواري يكون يمينا فكذلك التحريم المضاف إلى سائر المباحات كقوله والله فكما أن هناك عند وجود الشرط لا يثبت ما علق به من التحريم فكذلك في الجواري.
ثم معنى اليمين في هذا اللفظ يتحقق بالقصد إلى المنع أو إلى الإيجاب لأن المؤمن يكون ممتنعا من تحريم الحلال, وإذا جعل ذلك بيمينه علامة فعله عرفنا أنه قصد منع نفسه عن ذلك الفعل كما في قوله والله لأنه ثبت أن الإنسان يكون ممتنعا من هتك حرمة اسم الله تعالى فكان يمينا وعلى هذا القول في قوله هو كافر إن فعل كذا كان يمينا لأن حرمة الكفر حرمة تامة مصمتة كهتك حرمة اسم الله تعالى فإذا جعل فعله علامة لذلك كان يمينا. فأما إذا قال هو يأكل الميتة أو يستحلها أو الدم أو لحم الخنزير إن فعل كذا فهذا لا يكون يمينا لأن هذه الحرمة ليست بحرمة تامة مصمتة حتى أنه ينكشف عند الضرورة وكذلك قوله هو يترك الصلاة والزكاة إن فعل كذا لأن ذلك يجوز عند تحقق الضرورة والعجز فلم يكن في معنى اليمين من كل وجه. ولو ألحق به باعتبار بعض الأوصاف لكان قياسا ولا مدخل للقياس في هذا الباب(8/240)
وكذلك لو حلف بحد من حدود الله تعالى أو بشيء من شرائع الإسلام لم يكن يمينا لأنه حلف بغير الله تعالى ولأن الحلف بهذه الأشياء غير متعارف وقد بينا أن العرف معتبر في اليمين. ولو قال عليه لعنة الله أو غضب الله أو أماتة الله أو عذبه الله بالنار أو حرم عليه الجنة إن فعل كذا فشيء من هذا لا يكون يمينا إنما هو دعاء على نفسه قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] ولأن الحلف بهذه الألفاظ غير متعارف, وسئل محمد رحمه الله تعالى عمن يقول وسلطان الله لا يفعل كذا فقال لا أدري ما هذا من حلف بهذا فقد أشار إلى عدم العرف والصحيح من الجواب في هذا الفصل أنه إذا أراد بالسلطان القدرة فهو يمين كقوله وقدرة الله, ولو جعل عليه حجة أو عمرة أو صوما أو صلاة أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة إن فعل كذا ففعل لزمه ذلك الذي جعله على نفسه ولم يجب كفارة اليمين فيه في ظاهر الرواية عندنا.
وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى قال إن علق النذر بشرط يريد كونه كقوله إن شفى الله مريضي أورد غائبي لا يخرج عنه بالكفارة, وإن علق بشرط لا يريد كونه كدخول الدار ونحوه يتخير بين الكفارة وبين عين ما التزمه وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى في الجديد وقد كان يقول في القديم بتعين عليه كفارة اليمين.
وروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى رجع إلى التخيير أيضا فإن عبد العزيز بن خالد الترمذي رضي الله تعالى عنه قال خرجت حاجا فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب النذور والكفارات على أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلما انتهيت إلى هذه المسألة فقال قف فإن من رأيي أن أرجع فلما رجعت من الحج إذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى قد توفى فأخبرني الوليد بن أبان رحمه الله أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام وقال يتخير وبهذا كان يفتى إسماعيل الزاهد(8/241)
ص -114- ... رحمه الله قال رضي الله عنه وهو اختياري أيضا لكثرة البلوى في زماننا وكان من مذهب عمر وعائشة رضي الله عنهما أنه يخرج عنه بالكفارة ومن مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنه لا يخرج عنه بالكفارة حتى كان بن عمر يقول لا أعرف في النذر إلا الوفاء.
وأما وجه قوله الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرا وسمى فعليه الوفاء بما سمى ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين" والمعنى فيه أنه علق بالشرط ما يصح التزامه في الذمة فعند وجود الشرط يصير كالمنجز ولو نجز النذر لم يخرج عنه بالكفارة ألا ترى أن الطلاق المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط كالمنجز فهذا مثله وتحقيق هذا وهو أن معنى اليمين لا يوجد هنا لأنه ليس فيه تعظيم المقسم به لأنه جعل دخول الدار علامة التزام الصوم والصلاة وفي الالتزام معنى القربة والمسلم لا يكون ممتنعا من التزام القربة.
توضيحه أن الكفارة تجب لمعني الحظر لأنها ستارة للذنب ومعني الحظر لا يوجد هنا وفي القول بالخيار له تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد حتى إذا قال إن دخلت الدار فعلى طعام ألف مسكين فمن يقول بالخيار يخيره بين إطعام عشرة مساكين وبين إطعام ألف مسكين وكذا العتق والكسوة. وإن قال المعسر إن دخلت الدار فعلي صوم سنة يخيره بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام والتخيير بين القليل والكثير في جنس واحد غير مفيد شرعا فلا يجوز أن يكون حكما شرعيا.(8/242)
ووجه قوله الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" فيحمل هذا على النذر المعلق بالشرط وما رووه على النذر المرسل, أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعا بين الإخبار والمعنى فيه أن كلامه يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا أما معنى النذر فظاهر وأما معنى اليمين فلأنه قصد بيمينه هذا منع نفسه عن إيجاد الشرط لأن الإنسان يمتنع من التزام هذه الطاعات بالنذر مخافة أن لا يفي بها فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: من الآية27] إلى قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: من الآية16] فإذا جعل دخول الدار علامة التزام ما يكون ممتنعا من التزامه يكون يمينا وكذلك من حيث العرف يسمي يمينا يقال حلف بالنذر فلوجود اسم اليمين ومعناها قلنا يخرج بالكفارة ولوجود معنى النذر قلنا يخرج عنه بعين ما التزمه بخلاف النذر المرسل فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه وكذلك المعلق بشرط يريد كونه لأن معنى اليمين غير موجود فيه وهو القصد إلى المنع بل قصده إظهار الرغبة فيما جعله شرطا يقرر هذا أن معنى الحظر يتحقق هنا لأن الالتزام بالنذر قربة بشرط أن يفي بما وعد فأما بدون الوفاء يكون معصية قال الله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: من الآية2] وقال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: من الآية75] ولا يدري أنه هل يفي بهذا أو لا يفي فيكون مترددا دائرا بين الحظر والإباحة بمنزلة اليمين بالله تعالى فيصلح سببا لوجوب الكفارة.(8/243)
ص -115- ... فإن قيل: هذا في النذر المرسل موجود.
قلنا: نعم ولكن لا بد من اعتبار اسم اليمين لإيجاب الكفارة لأنها تسمى كفارة اليمين واسم اليمين لا يوجد في النذر المرسل ومنهم من يقول هو يمين يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته فيخرج عنها بالكفارة كاليمين بالله تعالى بخلاف اليمين بالطلاق والعتاق فإنه لا يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته بل بوجود الشرط يقع الطلاق والعتاق ولو شرعت الكفارة فيها كانت لرفع ما وقع من الطلاق
والعتاق وذلك غير مشروع هنا ولو شرعت الكفارة كانت مشروعة خلفا عن البر ليصير كأنه تم على بره وذلك مشروع فإنه لو تم على بره لا يلزمه شيء والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز كالعبد إذا أذن له مولاه بأداء الجمعة يتخير بين أداء الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعا فهذا مثله, وكذلك إذا حلف بالمشي إلى بيت الله إن فعل كذا ففعل ذلك الفعل لم يلزمه شيء في القياس لأنه إنما يجب بالنذر ما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرعا ولأنه لا يلزمه عين ما التزمه وهو المشي فلأن لا يلزمه شيء آخر أولى وهو الحج أو العمرة.(8/244)
وفي الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة وهكذا روى عن علي رضي الله عنه ولأن في عرف الناس يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج والعمرة وفي النذور والأيمان يعتبر العرف فجعلنا هذا عبارة عن التزام حج أو عمرة مجازا لأن المقصود بالكلام استعمال الناس لإظهار ما في باطنهم فإذا صار اللفظ في شيء مستعملا مجازا يجعل كالحقيقة في ذلك الشيء ثم يتخير بين الحج والعمرة لأنهما النسكان المتعلقان بالبيت لا يتوصل إلى أدائهما إلا بالإحرام وإلا بالذهاب إلى ذلك الموضع ثم يتخير إن شاء مشي وإن شاء ركب وأراق دما لحديث عقبة بن عامر أنه قال يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما" ولأن النسك بصفة المشي يكون أتم على ما روى أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بعد ما كف بصره كان يقول لا أتأسف على شيء كتأسفي على أن لا أحج ماشيا فإن الله تعالى قدم المشاة فقال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فإذا ركب فقد أدخل فيه نقصا ونقائص النسك تجبر بالدم, وإن اختار المشي فالصحيح من الجواب أنه يمشي من بيته إلى أن يفرغ من أفعال الحج وما سواه فيه من الكلام قد بيناه في المناسك وقد ذكرنا أنه ثمان فصول في ثلاث يلزم بلا خلاف في المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة أو مكة. وفي ثلاث لا يلزمه شيء بالاتفاق وهو إذا نذر الذهاب إلى مكة أو السفر إلى مكة أو الركوب
وفي فصلين خلاف وهو ما إذا نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يأخذ فيهما بالقياس وهما بالاستحسان, ولو حلف بالمشي إلى بيت الله وهو ينوي مسجدا من المساجد سوى المسجد الحرام لم يلزمه شيء لأن المنوى من محتملات لفظه فالمساجد كلها بيوت الله تعالى على معنى أنها تجردت عن حقوق العباد فصارت معدة لإقامة الطاعة فيها لله تعالى فإذا عملت نيته.(8/245)
ص -116- ... صار المنوي كالملفوظ به وسائر المساجد يتوصل إليها بغير إحرام فلا يلزمه بالتزام المشي إليها شيء ومسجد بيت المقدس ومسجد المدينة في ذلك سواء عندنا بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يتوصل إليه إلا بالإحرام والملتزم بالإحرام يلزمه أحد النسكين المختص أداؤهما بالإحرام وهو الحج أو العمرة,وإذا قال أنا أحرم إن فعلت كذا أو أنا محرم أو أهدي أو أمشي إلى البيت وهو يريد أن يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا فليس عليه شيء لأن ظاهر كلامه وعد فإنه يخبر عن فعل يفعله في المستقبل والوعد فيه غير ملزم وإنما يندب إلى الوفاء بما هو قربة منه من غير أن يكون ذلك دينا عليه وإن أراد الإيجاب لزمه ما قال لأن المنوى من محتملات لفظه فإن الفعل الذي يفعله في المستقبل قد يكون واجبا وقد يكون غير واجب فإذا أراد الإيجاب فقد خص أحد النوعين بنيته وتعليقه بالشرط دليل على الإيجاب أيضا لأنه يدل على أنه يثبت عند وجود الشرط ما لم يكن ثابتا من قبل وهو الوجوب دون التمكن من الفعل فإنه لا يختلف بوجود الشرط وعدمه, وإن لم يكن له نية ففي القياس لا يلزمه شيء لأن ظاهر لفظه عدة ولأن الوجوب بالشك لا يثبت وفي الاستحسان يلزمه ما قال لأن العرف بين الناس أنهم يريدون بها اللفظ الإيجاب ومطلق الكلام محمول على المتعارف والتعليق بالشرط دليل الإيجاب أيضا وإنما ذكر محمد رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في المناسك وإذا حلف أن يهدي ما لا يملكه لا يلزمه شيء لقوله عليه الصلاة والسلام "لا نذر فيما لا يملكه بن آدم" ومراده من هذا اللفظ أن يقول إن فعلت كذا فلله على أن أهدي هذه الشاة وهي مملوكة لغيره فأما إذا قال والله لأهدين هذه الشاة ينعقد يمينه لأن محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق وذلك بكون الفعل ممكنا ومحل النذر فعل هو قربة وإهداء شاة الغير ليس بقربة إلا أن يريد اليمين فحينئذ ينعقد لأن في النذر معنى اليمين.(8/246)
حتى ذكر الطحاوي أنه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعني به اليمين بأن قال لله تعالى على أن أقتل فلانا كان يمينا ويلزمه الكفارة بالحنث لقوله عليه الصلاة والسلام: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" وإذا قال لله على أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي لم يلزمه شيء في القياس وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى.
وفي الاستحسان يلزمه ذبح شاة وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه إن ذكر بلفظ الهدي فذلك يختص بالحرم وفي سائر الألفاظ إما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر.
وجه القياس أنه نذر بإراقة دم محقون فلا يلزمه شيء كما لو قال أبي أو أمي وهذا لأن الفعل الذي سماه معصية ولا نذر في معصية الله تعالى ولأنه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل لا يلزمه شيء, ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شيء فإذا نذر ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شيء.(8/247)
ص -117- ... وجه الاستحسان ما روى أن رجلا سأل بن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة فقال أرى عليك مائة بدنة ثم قال ائت ذلك الشيخ فاسأله وأشار إلى مسروق فسأله فقال أرى عليك شاة فأخبر بذلك بن عباس رضي الله عنهما فقال وأنا أرى عليك ذلك.
وفي رواية عن بن عباس أنه أوجب فيه كفارة اليمين وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة وسألت امرأة عبد الله بن عمر فقالت إني جعلت ولدي نحيرا فقال أمر الله بالوفاء بالنذر فقالت أتأمرني بقتل ولدي فقال نهى الله عن قتل الولد وإن عبد المطلب نذر إن تم له عشرة بنين أن يذبح عاشرهم فتم له ذلك بعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرع بينه وبين عشر من
الإبل فخرجت القرعة عليه فما زال يزيد عشرا عشرا والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الإبل مائة فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات فنحر مائة من الإبل وأرى عليك مائة من الإبل.
والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر واختلفوا فيما يخرج به فاستدللنا بإجماعهم على صحة النذر لأن من الإجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ولا يظهر خلاف ذلك ولا شك أن رجوع بن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ولم يظهر من أحد خلاف ذلك, والذي روى عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه فإن قول مروان لا يعارض قول الصحابة مع أن الإجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة يترك به القياس لأنه لا وجه لحمل قوله إلا على السماع ممن ينزل عليه الوحي.(8/248)
ثم أخذنا بفتوى بن عباس ومسروق في إيجاب الشاة لها لأن هذا القدر متفق عليه فإن من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة أو لأن من أوجب الشاة فإنما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب مائة من الإبل فإنما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب والأخذ بفعل الخليل صلوات الله عليه أولى من الأخذ بفعل عبد المطلب وهو الاستدلال الفقهي في المسألة فإن الشاة محل لوجوب ذبحها بإيجاب ذبح مضاف إلى الولد فكأن إضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق كالإضافة إلى الشاة فيكون ملزمة.
وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: من الآية102] أي أمرت بذبحك بدليل أن ابنه قال في الجواب {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: من الآية102] ولأنهما اعتقدا الأمر بذبح الولد حيث اشتغلا به فأقر عليه وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز خصوصا فيما لا يحل العمل فيه بغالب الرأي من إراقة دم نبي, ثم وجب عليه بذلك الأمر ذبح الشاة لأن الله تعالى قال {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104, 105] أي حققت وإنما حقق ذبح الشاة فلا يجوز أن يقال إنما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة لأن في الآية تقديما وتأخيرا معناه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:107-104] وهذا لأن قبل ذبح الشاة إنما أتى بمقدمات(8/249)
ص -118- ... ذبح الولد من تله للجبين وإمراره السكين على حلقه وبه لم يحصل الامتثال لأنه ليس بذبح ولأنه لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء, ولا يجوز أن يقول وجوب الشاة بأمر آخر لأن اثبات أمر آخر بالرأي غير ممكن ولأنه حينئذ لا يكون فداء والله تعالى سمى الشاة فداء على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الأمر ولا يجوز أن يقال وجب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته وإنما كانت الشاة فداء عن ولد وجب ذبحه وهذا لا يوجد في النذر وهذا لأنه ما وجب عليه ذبح الولد حتى جعلت الشاة فداء إذ لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الأصل في يده ولأن الولد كان معصوما عن الذبح وقد ظهرت العصمة حسا على ما روى أن الشفرة كانت تنبو وتنفل ولا تقطع وبين كونه معصوما عن الذبح وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب ذبح الولد بل أضيف الإيجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة.(8/250)
وفائدة هذه الإضافة الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام وإظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من المخلوقين وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال وليكون له ثواب أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بن الذبيحين" وما ذبحا بل أضيف إليهما ثم فديا بالقرابين ولا يقال قد وجب ذبح الولد ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الأمر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة فيفرغ المحل الأول منه بعد الوجوب فيه فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب وهذا لأن الوجوب في المحل لا يكون إلا بعد صلاحية المحل له وبعد ذلك وإن تحول إلى محل آخر يبقى المحل الأول صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان فعرفنا أنه لم يكن محلا وأن الوجوب بحكم ذلك الإيجاب حل بالشاة من حيث أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب ولهذا سمي فداء, نظيره من الحياة أن يرمي إلى إنسان فيفديه غيره بنفسه من حيث أنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه لا أن يتحول إليه بعد ما وصل إلى المحل ويقول لغيره فدتك نفس عن المكاره والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل في قبول حكم الحدث لا أن يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث. ولو سلمنا أنه وجب ذبح الولد فإنما كان ذلك لغيره وهو الفداء لا لعينه ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي مثل هذا إيجاب الأصل في حال العجز عنه يكون إيجابا للفداء كالشيخ الفاني إذا نذر الصوم يلزمه الفداء لأن وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه فإنه عاجز عنه.(8/251)
وذكر الطبري في تفسيره أن الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لأول ولد يولد له ثم نسي ذلك فذكر في المنام فإن ثبت هذا فهو نص لأن شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه, خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى: {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: من الآية123] فأما إذا نذر بذبح عبده فمحمد رحمه الله تعالى أخذ فيه بالاستحسان أيضا وقال أيضا يلزمه ذبح الشاة لأن العبد كسبه وملكه فإذا صح إضافة النذر إلى الولد لكونه كسبا له وإن لم يكن(8/252)
ص -119- ... ملكا له فلأن يصح إضافته إلى كسبه وهو ملكه أولى, وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالقياس فقال لا يلزمه شيء لأن جعل الشاة فداء عن الولد لكرامة الولد والعبد في استحقاق الكرامة ليس بنظير الولد ولا مدخل للقياس في هذا الباب. وإن نذر ذبح بن ابنه ففيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين لا يلزمه شيء وهو الأظهر لأن بن الابن ليس نظير الابن من كل وجه ولا مدخل للقياس في هذا الباب, وفي الرواية الأخرى قال يلزمه لأنه مضاف إليه بالبنوة كالابن وهو في معنى الكرامة كالابن في حقه. وإن أضاف النذر إلى أبيه أو أمه لا يلزمه شيء في الصحيح من الجواب لأنه لا ولاية له عليهما وهما كالأجانب في حقه في حكم النذر بالذبح.
وفي الهارونيات يشير إلى أنه يلزمه ذبح الشاة وكأنه اعتبر أحد الطرفين بالطرف الآخر ثم قد بينا الفرق في المناسك بين النذر بالهدي والبدنة والجزور, وإذا حلف بالنذر فإن نوى شيئا من حج أو عمرة فعليه ما نوى لأن المنوي من محتملات لفظه فيكون كالملفوظ به وإن لم يكن له نية فعليه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم "النذر يمين وكفارته كفارة يمين" ولأنه التزام بحق الله والحلف في مثله يوجب الكفارة ساترة للذنب, وإن حلف على معصية بالنذر فعليه كفارة يمين. وقال الشعبي رحمه الله تعالى لا شيء عليه لأن المعاصي لا تلتزم بالنذر والكفارة خلف عن البر الواجب باليمين أو الوفاء الواجب بالنذر وذلك لا يوجد في المعصية, وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى دخل على الشعبي رضي الله عنه وسأله عن هذه المسألة فقال لا شيء عليه لأن المنذور معصية فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى أليس أن الظهار معصية وقد أمر الله بالكفارة فيه فتحير الشعبي وقال أنت من الأرائيين.(8/253)
وفي الكتاب استدل بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وإذا حلف بالنذر وهو ينوي صياما ولم ينو عددا فعليه صيام ثلاثة أيام إذا حنث لأن ما أوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وأدنى ما أوجب الله من الصيام ثلاثة أيام, وكذلك إذا نوى صدقة ولم ينو عددا فعليه إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الحنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله تعالى عليه من إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين وقد بينا هذه الفصول في المناسك, ولا ينبغي أن يحلف فيقول وأبيك وأبي فإنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ونهى عن الحلف بجد من جدوده ومن الحلف بالطواغيت وفي الباب حديثان:
"أحدهما" حديث عمر رضي الله عنه قال تبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأسفار وأنا أحلف بأبي فقال: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر" فما حلفت بعد ذلك لا ذاكرا ولا آثرا.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ومن قال لغيره تعالى أفاخرك فليقل لا إله إلا الله, وإذا حلف على يمين أو نذر وقال إن شاء الله موصولا فليس عليه شيء عندنا.(8/254)
ص -120- ... وقال مالك يلزمه حكم اليمين والنذر لأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى ولا يتغير بذكره حكم الكلام
ولكنا نستدل بقوله تعالى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: من الآية69] ولم يصبر ولم يعاتبه على ذلك والوعد من الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من استثنى فله ثنياه" وعن بن مسعود وبن عمر وبن عباس رضي الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا "من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد استثني ولا حنث عليه ولا كفارة" إلا أن بن عباس كان يجوز الاستثناء وإن كان مفصولا لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: من الآية24] يعني إذا نسيت الاستثناء موصولا فاستثن مفصولا, ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى بين حكم الزوج الثاني بعد التطليقات الثلاث ولو كان الاستثناء المفصول صحيحا لكان المطلق يستثنى إذا ندم ولا حاجة إلى المحلل وفي تصحيح الاستثناء مفصولا إخراج العقود كلها من البيوع والأنكحة من أن تكون ملزمة.
قال: "وإلى هذا أشار أبو حنيفة رحمه الله تعالى حين عاتبه الخليفة فقال أبلغ من قدرك أن تخالف جدي قال ففيم يا أمير المؤمنين قال في الاستثناء المفصول قال إنما خالفته مراعاة لعهودك فإذا جاز الاستثناء المفصول فبارك الله في عهودك إذن فإنهم يبايعونك ويحلفون ثم يخرجون فيستثنون فلا يبقى عليهم لزوم طاعتك فندم الخليفة وقال استر هذا علي" وتأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: من الآية24] أي إذا لم تذكر إن شاء الله في أول كلامك فاذكره في آخر كلامك موصولا بكلامك(8/255)
ثم الاستثناء مبطل للكلام ومخرج له من أن يكون عزيمة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى هو بمعنى الشرط وقد بينا هذا فيما أمليناه من أيمان الجامع, وإذا حلف على يمين فحنث فيها فعليه أي الكفارات شاء إن شاء أعتق رقبة وإن شاء أطعم عشرة مساكين وإن شاء كسا عشرة مساكين لقول إبراهيم النخعي كل شيء في القرآن بأو فهو بالخيار, وإن لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة. عندنا وهو بالخيار عند الشافعي رحمه الله تعالى إن شاء تابع وإن شاء فرق لأن الصوم مطلق في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: من الآية196] ولكنا نشترط صفة التتابع بقراءة بن مسعود رضي الله عنه ثلاثة أيام متتابعة وقد بينا هذا في كتاب الصوم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين صدقة الفطر فقد ورد هناك حديثان أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "أدوا عن كل حر وعبد". والثاني قوله: "أدوا من كل حر وعبد من المسلمين" ثم لم يحمل المطلق على المقيد حتى أوجبنا صدقة الفطر عن العبد الكافر وهذا لأن المطلق والمقيد هناك في السبب ولا منافاة بين السببين فالتقييد في أحد الحديثين لا يمنع بقاء حكم الإطلاق في الحديث الآخر بناء على أصلنا أن التعليق بالشرط لا يقتضي نفي الحكم عند عدم الشرط وهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو الصوم الواجب في الكفارة وبين التتابع والتفريق منافاة في حكم واحد ومن ضرورة ثبوت صفة التتابع بقراءة بن مسعود رضي الله عنه أن لا يبقي مطلقا.
قال: "ويجوز في كفارة اليمين من الرقاب ما يجزئ في كفارة الظهار والحكم في هذه(8/256)
ص -121- ... الرقبة مثل الحكم في تلك الرقبة سواء" على ما ذكرنا في باب الظهار رجل أعتق نصف عبده عن يمينه وأطعم خمسة مساكين فذلك لا يجزئ عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما العتق لا يتجزي ويتأدى الواجب بالعتق عندهما وعند أبي حنيفة العتق يتجزي والواجب هو إعتاق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولم يوجد ذلك لأن نصف الرقبة ليس برقبة ولو جوزنا هذا كان نوعا رابعا فيما يتأدى به الكفارة وإثبات مثله بالرأي لا يجوز وهذا بخلاف ما لو أطعم كل مسكين مدا من بر ونصف صاع من شعير لأن التقدير في الطعام غير منصوص عليه في القرآن وإثبات ذلك لمعنى حصول كفاية المسكين به في يومه وفي ذلك لا يفترق الحال بين الأداء من نوع واحد ومن نوعين وهنا الرقبة في التحرير وعشرة مساكين في الإطعام منصوص عليه ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان إخلالا بالمنصوص عليه وذلك لا يجوز, وإن حنث وهو معسر وأخر الصوم حتى أيسر لم يجزه الصوم هكذا نقل عن بن عباس وإبراهيم النخعي رضي الله عنهما إذا صام المكفر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يطعم أو يكسو لم يجزه الصوم وعليه الكفارة بالإطعام أو الكسوة لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فيسقط به حكم البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت والمتيمم إذا أبصر الماء قبل أداء الصلاة وهذا لأن الله تعالى شرط عدم الوجود بقوله {فمن لم يجد} وهذا الشرط ليس لتصحيح الصوم فإن أصل الصوم صحيح من الواجد للمال ولكنه شرط ليكون الصوم كفارة يسقط به الواجب عند الأداء والفراغ منه فإذا انعدم هذا الشرط لم يكن الصوم كفارة له, وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقاويل في قول مثل قولنا. وقول آخر أن المعتبر حالة الوجوب في اليسار والعسرة وما وجب عند ذلك صار دينا في ذمته لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك كالزكاة وصدقة الفطر واعتبره بالحدود أن المعتبر عند الوجوب بالتنصف بالرق وهذا ضعيف لأن(8/257)
الواجب باليمين الكفارة لا ما يكفر به كالواجب بالحدث الطهارة دون ما يتطهر به من الماء والتراب بل ذلك يختلف باختلاف حاله في القدرة والعجز عند الأداء ووجوب الحد باعتبار هتك حرمة المنعم بالجناية والنعمة تختلف بالرق والحرية وذلك عند ارتكاب الجناية لا بعده مع أن الحدود تندرى ء بالشبهات فإذا وجب بصفة النقصان لا يتكامل بالحرية الطارئة من بعد وله قول آخر أنه لا يجوز الصوم ما لم يكن معسرا من وقت الوجوب إلى وقت الأداء لأن التكفير بالصوم عن ضرورة محضة وذلك لا يتحقق إذا كان موسرا في إحدى الحالتين ولأنه إذا كان موسرا عند الحنث فقد وجب عليه التكفير بالمال فهو بالتأخير إلى أن يعسر مفرط فلا يستحق التخفيف باعتبار تفريطه
ولكنا نقول كما أن هذه كفارة ضرورة فالتيمم طهارة ضرورة ثم كان المعتبر فيه وقت الأداء لا وقت الوجوب وهذا لأن الضرورة باعتبار حاجته إلى إسقاط الواجب عن ذمته وذلك للأداء. وإن اشترى عبدا شراء فاسدا فقبضه وأعتقه عن يمينه أجزأه لأنه ملك العبد بالقبض وإعتاقه في ملك نفسه نافذ ونية التكفير به صحيح لكونه متصرفا فيما يملك. وإن وجبت عليه كفارات أيمان متفرقة فأعتق رقابا(8/258)
ص -122- ... بعددهن ولا ينوي لكل يمين رقبة بعينها أو نوى في كل رقبة عنهن أجزته استحسانا لأن نية التعيين في الجنس الواحد لغو وقد بيناه في باب الظهار, وكذلك لو أعتق عن إحداهن وأطعم عن الأخرى وكسا عن الثالثة كان كل نوع من هذه الأنواع يتأدى به الكفارة مطلقا فيكون الحكم في كلها سواء وقد بينا في الظهار أن إعتاق الجنين لا يجزئ عن الكفارة وإن كان موجودا لكونه في حكم الاجزاء فكذلك في اليمين, وكفارة المملوك بالصوم ما لم يعتق لأنه أعسر من الحر المعسر لأنه لا يملك وإن ملك ولا يجزئ أن يعتق عنه مولاه أو يطعم ويكسو إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول للمولى أن يملكه حتى يتسرى بإذن مولاه وقد بينا هذا في كتاب الطلاق والنكاح وهذا بخلاف الحر إذا أمر إنسانا أن يطعم عنه لأن الحر من أهل أن يملك فيجوز أن يجعل هو متملكا بأن يكون المسكين قابضا له أولا ثم لنفسه والعبد ليس من أهل الملك لأن الرق المنافي فيه موجود وبين صفة المالكية مالا والمملوكية مالا مغايرة على سبيل المنافاة والمكاتب والمدبر وأم الولد في هذا بمنزلة القن والمستسعى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك لأنه بمنزلة المكاتب وإن صام المعسر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يعتق فعليه التكفير بالمال لانعدام شرط جواز البدل قبل حصول المقصود به والأولى أن يتم صوم يومه وإن أفطر فلا قضاء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وهذا والصوم المظنون سواء, "ذمي حلف على يمين ثم أسلم ثم حنث في يمينه لم يكن عليه كفارة عندنا".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الكفارة لأنه من أهل اليمين فإن المقصود من اليمين الحظر أو الإيجاب والذمي من أهله قال الله تعالى {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} فقد جعل للكافرين يمينا.(8/259)
والدليل عليه أنه يستحلف في المظالم والخصومات بالله وأنه من أهل الطلاق والعتاق ومن أهل اليمين بالطلاق والعتاق فيكون من أهل اليمين بالله تعالى, وإذا انعقدت يمينه يلزمه الكفارة عند الحنث إن حنث قبل الإسلام كفر بالمال لأنه ليس من أهل التكفير بالصوم ونظيره العبد يلزمه الكفارة بالتكفير بالصوم لأنه ليس بأهل للتكفير بالمال وإن حنث بعد الإسلام كفر بالصوم إذا لم يجد المال.
والدليل على أن الكافر أهل للكفارة أن في الكفارة معنى العقوبة ومعنى العبادة فيجب على الكافر بطريق العقوبة وعلى المسلم بطريق الطهرة كالحدود فإنها كفارات كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات لأهلها" ثم تقام على المسلم التائب تطهرا وعلى الكافر عقوبة.
"وحجتنا" في ذلك حديث قيس بن عاصم المنقري حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني حلفت في الجاهلية أو قال نذرت فقال صلى الله عليه وسلم: "هدم الإسلام ما كان في الشرك" ولأن وجوب الكفارة باعتبار هتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وما فيه من الشرك أعظم من ذلك فقد هتك حرمة اسم الله تعالى بإصراره على الشرك بأبلغ الجهات, وعقد اليمين لما فيه من الحظر والإيجاب تعظيما لحرمة اسم الله تعالى والكافر ليس بأهل له قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ(8/260)
ص -123- ... الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: من الآية12] والاستحلاف في المظالم والخصومات لأنه من أهل مقصودها وهو النكول أو الإقرار وانعقاد يمينه بالطلاق والعتاق لأنه من أهلها مجيزا فأما هذه اليمين موجبها البر لتعظيم اسم الله والكافر ليس من أهله وبعد الحنث موجبها الكفارة والكافر ليس بأهل لها لأن الكفارة كاسمها ستارة للذنب قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: من الآية114] ومعنى العقوبة في الكفارة صورة فأما من حيث المعنى والحكم المقصود منها العبادة ألا ترى أنه يأتي بها من غير أن تقام عليه كرها وأنها تتأدى بالصوم الذي هو محض العبادة ولا تتأدى إلا بنية العبادة والمقصود بها التطهر كما بينا بخلاف الحدود فإنها تقام خزيا وعذابا ونكالا ومعنى التكفير بها إذا جاء تائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة كما فعله ماعز رضي الله عنه فلهذا يستقيم إقامتها على الكافر بطريق الخزي والنكال, "رجل أعتق رقبة عن كفارة يمينه ينوي ذلك بقلبه ولم يتكلم بلسانه وقد تكلم بالعتق أجزأه" لأن النية عمل القلب ويتأدى به سائر العبادات فكذلك الكفارات لأن اشتراط النية فيها لمعنى العبادة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم"
قال: "ولا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث عندنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال دون الصوم وإن كان يمينه على معصية فله في جواز التكفير قبل الحنث وجهان.(8/261)
احتج بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: من الآية89] وحرف الفاء للتعقيب مع الوصل فيقتضي جواز أداء الكفارة موصولا بعقد اليمين وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير" وفي رواية "فليكفر ثم ليأت بالذي هو خير" وهذا تنصيص على الأمر بالتكفير قبل الحنث وأقل أحواله أن يفيد الجواز ولأن السبب للكفارة اليمين فإنها تضاف إلى اليمين والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة.
ومن قال على يمين تلزمه الكفارة باعتبار أن التزام السبب يكون كناية عن الواجب به والدليل عليه اليمين بالطلاق فالسبب هناك اليمين دون الشرط حتى يكون الضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط فكذلك اليمين بالله تعالى, وإذا ثبت هذا فنقول أداء الحق المالي بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائز كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول وأما البدني لا يجوز إلا بعد تقرر الوجوب لأن التكفير بالصوم للضرورة ولا ضرورة قبل تقرر الوجوب ولأن هذه كفارة مالية توقف وجوبها على معنى فيجوز أداؤها قبله ككفارة القتل في الآدمي والصيد إذا جرح مسلما ثم كفر بالمال قبل زهوق الروح أو جرح المحرم صيدا ثم كفر قبل موته يجوز بالمال بالاتفاق.
"وحجتنا" في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" وما رواه الشافعي رحمه الله تعالى محمول على التقديم والتأخير بدليل ما روينا وهذا لمعنيين, أحدهما أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة ولا وجوب قبل(8/262)
ص -124- ... الحنث بالاتفاق, والثاني أن قوله فليكفر أمر بمطلق التكفير ولا يجوز مطلق التكفير إلا بعد الحنث أما قبل الحنث يجوز عنده بالمال دون الصوم وليس من باب التخصيص لأن ما يكفر به ليس في لفظه, والتخصيص في الملفوظ الذي له عموم دون ما يثبت بطريق الاقتضاء والمعنى فيه أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الشيء طريقا له واليمين مانعة من الحنث محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث ألا ترى أن الصوم والإحرام لما كان مانعا مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح فإنه طريق يفضي إلى زهوق الروح وبخلاف كمال النصاب فإنه تحقق الغني المؤدي إلى النماء الذي به يكون المال سببا لوجوب الزكاة ولأن الكفارة لا تجب إلا بعد ارتفاع اليمين فإن بالحنث اليمين يرتفع وما يكون سببا للشيء فالوجوب يترتب على تقرره لا على ارتفاعه.(8/263)
والدليل عليه أن اليمين ليست بسبب التكفير بالصوم حتى لا يجوز أداؤه قبل الحنث وبعد وجود السبب الأداء جائز ماليا كان أو بدنيا. ألا ترى أن صوم المسافر في رمضان يجوز لوجود السبب وإن كان الأداء متأخرا إلى أن يدرك عدة من أيام أخر وإضافة الكفارة إلى اليمين لأنها تجب بحنث بعد اليمين كما تضاف الكفارة إلى الصوم والإحرام بهذا الطريق, ولئن سلمنا أن اليمين سبب فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الواجب وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء يقرره أن الكفارة توبة كما قال الله تعالى في كفارة القتل: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: من الآية92] والتوبة قبل الذنب لا تكون وهو في عقد اليمين معظم حرمة اسم الله تعالى فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة قبل الحدث بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء جنايته وجنايته في الجرح إذ لا صنع له في زهوق الروح وبخلاف الزكاة لأنه شكر النعمة والنعمة المال دون مضي الحول فكان حولان الحول تأجيلا فيه والتأجيل لا ينفي الوجوب فكيف ينفي تقرر السبب؟(8/264)
قال: "وإذا أعتق عبدا عند الموت عن كفارة يمينه وليس له مال غيره عتق من ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته" لأن ما يباشره المريض من العتق كالمضاف إلى ما بعد الموت ولو أوصى به بعد الموت كان معتبرا من ثلثه على ما بيناه في الزكاة وسائر الحقوق الواجبة لله تعالى وإذا لم يكن له مال سواه فقد لزمه السعاية في ثلثي قيمته وكان هذا عتقا بعوض فلا يجزيه عن الكفارة وكذلك إن أعتقه في صحته على مال قليل أو كثير لأن العتق بمال لا يتمحض قربة والكفارة لا تتأدى إلا بما هو قربة فإن أبرأه من المال بعد ذلك لم يجز عن كفارته لأن أصل العتق وقع غير مجزى ء عن الكفارة والإبراء عن المال بعد ذلك إسقاط للدين ولا مدخل له في الكفارات فلهذا لا يجزيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(8/265)
ص -125- ... باب الإطعام في كفارة اليمين
قال: رضي الله تعالى عنه "بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمولى له أرقا وفي رواية برقا إني أحلف على قوم أن لا أعطيهم ثم يبدو لي فأعطيهم فإذا أنا فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر" وفي هذا دليل أنه لا بأس للإنسان أن يحلف مختارا بخلاف ما يقوله المتشفعة أن ذلك مكروه بظاهر قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: من الآية224] ولكنا نقول قد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة من غير ضرورة كانت له في ذلك وتأويل تلك الآية أنه يجازف في الحلف من غير مراعاة البر والحنث وفيه دليل على أن الحالف إذا رأى الحنث خيرا يجوز له أن يحنث نفسه وقد روينا فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة.
وفي حديث أبي مالك الأشعري رحمه الله تعالى قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم رجع قوم من عنده بخمس ذود وقالوا حملنا عليها فقلت لعله نسي يمينه فأتيته فأخبرته بذلك فقال: "إني أحلف ثم أرى غيره خيرا منه فأتحلل يميني" وفيه دليل أن أوان التكفير ما بعد الحنث كما هو مذهبنا وأن ما روى "فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير" محمول على التقديم والتأخير وكذلك قوله ثم يأت بالذي هو خير لأن ثم قد تكون بمعنى الواو قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[البلد: من الآية17] أي وكان ثم الله شهيد أي والله شهيد وفيه دليل أن التوكيل بالتكفير جائز بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا توكيل في العبادة أصلا لظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[لنجم:39] ولكنا نقول المقصود فيما هو مالى الابتداء بإخراج جزء من المال عن ملكه وذلك يتحقق بالنائب.(8/266)
وفيه دليل أن الوظيفة لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو صاع من شعير وهكذا روى عن عائشة وبن عباس رضي الله عنهم وذكر بعده عن علي رضي الله عنه نصف صاع من حنطة وقد بينا هذه المسألة في كتاب الظهار وكفارة اليمين مثله وقد بينا أن دقيق الحنطة وسويقها بمنزلة الحنطة لأن ما هو المقصود يحصل للفقير بهما مع سقوط مؤنة الطحن عنه. وقد بينا أن طعام الإباحة تتأدى به الكفارة عندنا والمعتبر فيه أكلتان مشبعتان سواء كان خبز البر مع الطعام أو بغير أدام وإن أعطى قيمة الطعام يجوز فكذلك في كفارة اليمين وكذلك إن غداهم وأعطاهم قيمة العشاء اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن المقصود واحد وقد أتى من كل وظيفة بنصفه وإن غداهم وعشاهم وفيهم صبي فطم أو فوق ذلك شيئا لم يجز لأنه لا يستوفي كمال الوظيفة كما يستوفيه البالغ, وعليه طعام مسكين واحد مكانه
فإن أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه أن يعيد عليهم مدا مدا وإن لم يقدر عليهم استقبل الطعام لأن الواجب لا يتأدى إلا بإيصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين وذلك نصف صاع من حنطة.
وذكر هشام عن محمد رحمهما الله أنه لو أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين في كفارة(8/267)
ص -126- ... يمينه فغدى الوصي عشرة مساكين ثم ماتوا قبل أن يعشيهم فعليه الاستقبال لأن الوظيفة في طعام الإباحة الغداء والعشاء فلا يتأدي الواجب إلا باتصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين ولا يكون الوصي ضامنا لما أطعم لأنه فيما صنع كان ممتثلا لأمره وكان بقاؤهم إلى أن يعشيهم ليس في وسعه. ولو كان أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين غداء وعشاء ولم يذكر الكفارة فغدي الوصى عشرة فماتوا فإنه يعشي عشرة أخرى ويكفي ذلك لأن الموصى به أكلتان فقط دون إسقاط الكفارة بهما وقد وجد بخلاف الأول. ثم قد بينا في باب الظهار أن المسكين الواحد في الأيام المتفرقة كالمساكين عندنا وعند تفريق الدفعات في يوم واحد فيه اختلاف بين المشايخ فكذلك في اليمين, وبينا هناك أن إطعام فقراء أهل الذمة في الكفارة يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى
وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين المنذور والكفارة فقال إذا نذر إطعام عشرة مساكين فله أن يطعم فقراء أهل الذمة إنما ليس له أن يطعم في الكفارة فقراء أهل الذمة اعتبارا لما أوجب الله عليه من الكفارة بالزكاة وقد بينا أنه يجوز صرف الكفارة إلى من يجوز صرف الزكاة إليه
ولو أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين أجزأه ذلك من الطعام إن كان الطعام أرخص من الكسوة وإن كانت الكسوة أرخص من الطعام لم يجزئ ما لا يجزئ كل واحد منهما عن نفسه لأن المنصوص عليه ثلاثة أنواع فلو جوزنا إطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة مساكين كان نوعا رابعا فيكون زيادة على المنصوص وهذا بخلاف ما إذا أدى إلى كل مسكين مدا من حنطة ونصف صاع من شعير لأن المقصود واحد وهو سد الجوعة فلا يصير نوعا رابعا فأما المقصود من الكسوة غير المقصود من الطعام ألا يرى أن الإباحة تجزي في أحدهما دون الآخر ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان نوعا رابعا.(8/268)
ثم مراده من هذه المسألة إذا أطعم خمسة مساكين بطريق الإباحة والتمكين دون التمليك فإن التمليك فوق التمكين. وإذا كان الطعام أرخص من الكسوة أمكن إكمال التمكين بالتمليك فتجوز الكسوة مكان الطعام وإن كانت الكسوة أرخص لا يمكن إقامة الطعام مقام الكسوة لأن التمكين دون التمليك وفي الكسوة التمليك معتبر فلا يمكن إقامة الكسوة مقام الطعام لأنه ليس فيهما وفاء بقيمة الطعام فأما إذا ملك الطعام خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين فإنه يجوز على اعتبار أنه إن كان الطعام أرخص تقام الكسوة مقام الطعام وإن كانت الكسوة أرخص يقام الطعام مقام الكسوة لوجود التمليك فيها إليه أشار في باب الكسوة بعد هذا, ولو أطعم خمسة مساكين ثم افتقر كان عليه أن يستقبل الصيام لأن إكمال الأصل بالبدل غير ممكن فإنهما لا يجتمعان وليس له أن يسترد من المساكين الخمسة ما أعطاهم لأنها صدقة قد تمت بالوصول إلى يد المساكين ومن كانت له دار يسكنها أو ثوب يلبسه ولا يجد شيئا سوى ذلك أجزأه الصوم في الكفارة لأن المسكن والثياب من أصول حوائجه وما لا بد منه فلا يصير به واجدا لما يكفر به بخلاف ما لو كان له عبد يخدمه فإن ذلك ليس من أصول الحوائج ألا(8/269)
ص -127- ... ترى أن كثيرا من الناس يتعيش من غير خادم له ولأن الرقبة منصوص عليها فمع وجود المنصوص عليه في ملكه لا يجزيه الصوم.
وفي الكتاب علل فقال لأن الصدقة تحل له وهذا يؤيد مذهب أبي يوسف رحمه الله الذي ذكره في الأمالي أنه إذا كان الفاضل من حاجته دون ما يساوي مائتين يجوز له التكفير بالصوم لأن الصدقة تحل له فلا يكون موسرا ولا غنيا, فأما ظاهر المذهب أنه إن كان يملك فضلا عن حاجته مقدار ما يكفر به لا يجوز له التكفير بالصوم لأن المنصوص عليه الوجود دون الغنى واليسار قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة: من الآية196] وهذا واجد, وقد بينا في كتاب الأعتاق أن المعتبر في وجوب الضمان ملكه مقدار ما يؤدي به الضمان وإن كان اليسار منصوصا عليه هناك فهنا أولى وبينا في الظهار أنه لو أعطى كل مسكين صاعا عن ظهارين لا يجزيه إلا عن أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف ما إذا اختلف جنس الكفارة فكذلك في كفارة اليمين. وإن أعطى عشرة مساكين ثوبا عن كفارة يمين لم يجزه عن الكسوة لأن الواجب عليه لكل مسكين كسوته وهو ما يصير به مكتسيا وبعشر الثوب لا يكون مكتسيا ويجزي من الطعام إذا كان الثوب يساويه, وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزيه إلا بالنية لأنه يجعل الكسوة بدلا عن الطعام وهو إنما نواه بدلا عن نفسه فلا يمكن جعله بدلا عن غيره إلا بنية.(8/270)
وجه ظاهر الرواية أنه ناو للتكفير به وذلك يكفيه كما لو أدى الدراهم بنية الكفارة يجزيه, وإن لم ينو أن يكون بدلا عن الطعام إلا أن أبا يوسف يقول الدراهم ليست بأصل فأداؤها بنية الكفارة يكون قصدا إلى البدل فأما الكسوة أصل فأداؤها بنية الكفارة لا يكون قصدا إلى جعلها بدلا عن الطعام, ولكنا نقول عشر الثوب ليس بأصل في الكسوة لكل مسكين فهو وأداء الدراهم سواء مسلم حلف على يمين ثم ارتد ثم أسلم فحنث فيها لم يلزمه شيء لأنه بالردة التحق بالكافر الأصلى ولهذا حبط عمله قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: من الآية5] وكما أن الكفر الأصلي ينافي الأهلية لليمين الموجبة للكفارة فكذلك الردة تنافي بقاء اليمين الموجبة للكفارة, وإذا جعل الرجل لله على نفسه إطعام مسكين فهو على ما نوى من عدد المساكين وكيل الطعام لأن المنوى من محتملات لفظه وهو شيء بينه وبين ربه. وإن لم يكن له نية فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة إعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه من إطعام المساكين وأدنى ذلك عشرة مساكين في كفارة اليمين إلا أنه إن قال في نذره إطعام المساكين فليس له أن يصرف الكل إلى مسكين واحد جملة. وإن قال طعام المساكين فله ذلك لأن بهذا اللفظ يلتزم مقدارا من الطعام وباللفظ الأول يلتزم الفعل لأن الإطعام فعل فلا يتأدى إلا بأفعال عشرة ويعطى من الكفارة من له الدار والخادم لأنهما يزيدان في حاجته فالدار تسترم والخادم يستنفق وقد بينا أنه يجوز صرف الزكاة إلى مثله فكذلك الكفارة وإن أوصى بأن يكفر عنه يمينه بعد موته فهو من ثلثه لأنه لا يجب(8/271)
ص -128- ... أداؤه بعد الموت إلا بوصية ومحل الوصية الثلث ثم ذكر الاختلاف في مقدار الصاع وقد بيناه في صدقة الفطر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الكسوة
قال: رضي الله تعالى "والكسوة ثوب لكل مسكين إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء" هكذا نقل عن الزهري في قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: من الآية89] أنه الإزار فصاعدا من ثوب تام لكل مسكين وعن بن عباس رضي الله عنه قال لكل مسكين ثوب ويعطى في الكسوة القباء والذي روى عن أبي موسى الأشعري أنه كان يعطي في كفارة اليمين لكل مسكين ثوبين فإنما يقصد التبرع بأحدهما فأما الواحد يتأدى به الواجب هكذا نقل عن مجاهد رحمه الله تعالى قال أدناه ثوب لكل مسكين وأعلاه ما شئت وهذا لأن الكسوة ما يكون المرء به مكتسيا وبالثوب الواحد يكون مكتسيا حتى يجوز له أن يصلي في ثوب واحد وإذا كان في ثوب واحد فالناس يسمونه مكتسيا لا عاريا والمراد بالإزار الكبير الذي هو كالرداء فأما الصغير الذي لا يتم به ستر العورة لا يجزئ, ولو كسا كل مسكين سراويل.
ذكر في النوادر عن محمد رحمه الله تعالى أنه يجزئه لأنه يكون به مكتسيا شرعا حتى تجوز صلاته فيه(8/272)
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه من الكسوة لأن لابس السراويل وحده يسمى عريانا لا مكتسيا إلا أن تبلغ قيمته قيمة الطعام فحينئذ يجزئه من الطعام إذا نواه. ولو أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة لأن الاكتساء به لا يحصل ولكنه يجزئ من الطعام إذا كان نصف ثوب يساوي نصف صاع من حنطة, ولو كسا كل مسكين قلنسوة أو أعطاه نعلين أو خفين لا يجزيه من الكسوة لأن الاكتساء به لا يحصل, وإن أعطى كل واحد منهم عمامة فإن كان ذلك يبلغ قميصا أو رداء أجزأه وإلا لم يجزه من الكسوة لأن العمامة كسوة الرأس كالقلنسوة ولكن يجزيه من الطعام إذا كانت قيمته تساوي قيمة الطعام, ولو أعطى عشرة مساكين ثوبا بينهم وهو ثوب كثير القيمة يصيب كل مسكين أكثر من قيمة ثوب لم يجزه من الكسوة لأنه لا يكتسي به كل واحد منهم ولكن يجزيه من الطعام.
قال ألا ترى أنه لو أعطى كل مسكين ربع صاع حنطة وذلك يساوي صاعا من تمر لم يجز عنه من الطعام ولو كان هذا المد من الحنطة يساوي ثوبا كان يجزئ من الكسوة دون الطعام وهذا تفسير لما أبهمه قبل هذا من أنه لا يجوز إقامة الطعام مقام الكسوة وتبين بهذا أن المراد هناك التمكين دون التمليك
ولو أعطى مسكينا واحدا عشرة أثواب في مرة واحدة لم يجزه كما في الطعام وإن أعطاه في كل يوم ثوبا حتى استكمل عشرة أثواب في عشرة أيام أجزأه كما في الطعام.
فإن قيل: الحاجة إلى الطعام تتجدد بتجدد الأيام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد بتجدد الأيام وإنما تتجدد في كل ستة أشهر أو نحو ذلك.
قلنا: نعم الحاجة إلى الملبوس كذلك ولكنا أقمنا التمليك مقامه في باب الكسوة(8/273)
ص -129- ... والتمليك يتحقق في كل يوم وإذا قام الشيء مقام غيره يسقط اعتبار حقيقة نفسه وهذا لأن الحاجة إلى الملك لا نهاية لها إلا أنا لا نجوز أداء الكل دفعة واحدة للتنصيص على تفريق الأفعال وذلك بتفرق الأيام في حق الواحد وقد يحصل أيضا بتفرق الدفعات في يوم واحد إلا أنه ليس لذلك حد معلوم فقدرنا بالأيام وجعلنا تجدد الأيام في حق الواحد كتجدد الحاجة تيسيرا, وإن أعطى عشرة مساكين عبدا أو دابة قيمته تبلغ عشرة أثواب أجزأه من الكسوة باعتبار القيمة كما لو أدى الدراهم وإن لم تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه من الطعام لأن مقصوده معلوم وهو سقوط الواجب به عنه فيحصل مقصوده بالطريق الممكن, ولو أقام رجل البينة عليه أنه ملكه وأخذه فعليه استقبال التكفير لأن المؤدي استحق من يد المسكين فكأنه لم يصل إليه, ولو كسا عن رجل بأمره عشرة مساكين أجزأ عنه وإن لم يعط عنه ثمنا لأن فعل الغير ينتقل إليه بأمره كفعله بنفسه والمسكين يصير قابضا له أولا ثم لنفسه وقد بينا في الطعام مثله في الظهار ولو كساهم بغير أمره ورضي به لم يجز عنه لأن الصدقة قد تمت من جهة المؤدي فلا يتصور وقوعها عن غيره بعد ذلك, وإن رضي به ولو أعطى عن كفارة أيمانه في أكفان الموتى أو في بناء مسجد أو في قضاء دين ميت أو في عتق رقبة لم يجز عنه لأن الواجب إنما يتأدى بالتمليك إلى الفقير والتمليك لا يحصل بهذا وقد بينا مثله في الزكاة أنه لا يجزئه.
فإن قيل: في باب الكفارة التمليك غير محتاج إليه عندكم حتى يتأدى بالتمكين من الطعام بخلاف الزكاة.
قلنا: لا يعتبر التمليك عند وجود ما هو المنصوص عليه وهو فعل الإطعام وهذا لا يوجد في هذه المواضع فلا بد من اعتبار التمليك وذلك لا يحصل بتكفين الميت وبناء المسجد. وإن أعطي منها بن سبيل منقطعا به أجزأه لأنه محل لصرف الزكاة إليه وقد بينا أن مصرف الكفارة من هو مصرف الزكاة(8/274)
ولو كانت عليه يمينان فكسا عشرة مساكين كل مسكين ثوبين عنهما أجزأه عن يمين واحدة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كما في الطعام, وإذا كسا مسكينا عن كفارة يمينه ثم مات المسكين فورثه هذا منه أو اشتراه في حياته أو وهبه له لم يفسد ذلك عليه لأن الواجب قد تأدى بوصول الثوب إلى يد المسكين ولم يبطل ذلك بما اعترض له من الأسباب وقد بينا في الزكاة نظيره.
والأصل فيه ما روي أن بريرة كان يتصدق عليها وتهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "هي لها صدقة ولنا هدية" فهذا دليل على أن اختلاف أسباب الملك ينزل منزلة اختلاف الأعيان وفي حديث أبي طلحة أنه تصدق على ابنته بحديقة له ثم ماتت فورثها منها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام "إن الله قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك" والله أعلم بالصواب
باب الصيام
قال: "وإذا حنث الرجل وهو معسر فعليه ثلاثة أيام متتابعة فإن أصبح في يوم مفطرا ثم عزم على الصوم عن كفارة يمينه لم يجزه" لأنه دين في ذمته وما كان دينا في الذمة لا يتأدى إلا(8/275)
ص -130- ... بنية من الليل. وهذا لأنه إنما يتأدى بالنية من النهار صوم يوم توقف الإمساك في أول النهار عليه باعتبار أن النية تستند إليه وهذا فيما يكون عينا في الوقت دون ما يكون دينا في الذمة وإذا أفطرت المرأة في هذا الصوم لمرض أو حيض فعليها أن تستقبل لأنها تجد ثلاثة أيام خالية عن الحيض والمرض فلا تعذر فيها بالإفطار بعذر الحيض بخلاف الشهرين المتتابعين وقد بينا هذا في الصوم ولا يجزئ الصوم عن هذا في أيام التشريق لأنه واجب في ذمته بصفة الكمال والصوم في هذه الأيام ناقص لأنه منهى عنه فلا يتأدى به ما وجب في ذمته بصفة الكمال فإن كان لهذا المعسر مال غائب عنه أو دين وهو لا يجد ما يطعم أو يكسو(8/276)
ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم لأن المانع قدرته على المال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد فما يكون دينا على مفلس أو غائبا عنه فهو غير قادر على التكفير به إلا أن يكون في ماله الغائب عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم لأنه متمكن من التكفير بالعتق فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد. وكذلك إن كان العبد أبق وهو يعلم حياته فإنه لا يجزيه التكفير بالصوم لقدرته على التكفير بالعتق, ولو كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم بعد ما يقضي دينه عن ذلك المال وهذا غير مشكل لأنه بعد قضاء الدين بالمال غير واجد لمال يكفر به وإنما الشبهة فيما إذا كفر بالصوم قبل أن يقضي دينه بالمال فمن مشايخنا من يقول بأنه لا يجوز. ويستدل بالتقييد الذي ذكره بقوله بعد ما يقضي دينه وهذا لأن المعتبر هنا الوجود دون الغني وما لم يقض الدين بالمال فهو واجد, والأصح أنه يجزيه التكفير بالصوم لما أشار إليه في الكتاب من قوله ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا وفي هذا التعليل لا فرق بينما قبل قضاء الدين وبعده وهذا لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخاف العطش يجوز له التيمم لأن الماء مستحق لعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم وإن صام العبد عن كفارة يمينه فعتق قبل أن يفرغ منه وأصاب مالا لم يجزه الصوم لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل وقد بينا مثله في الحر المعسر إذا أيسر فكذلك في غيره لأن السبب الموجب للكفارة بالمال متحقق في حقه ولكن لانعدام الملك كان يكفر بالصوم وقد زال ذلك بالعتق فكان هو والحر سواء, ولو صام رجل ستة أيام عن يمينين أجزأه وإن لم ينو ثلاثة أيام لكل واحدة لأن الواجب عليه نية الكفارة دون نية التمييز فإن التمييز في الجنس الواحد غير مفيد وإنما يستحق شرعا ما يكون مفيدا والصوم في نفسه أنواع فلا يتعين نوع من الكفارات إلا بالنية فأما كفارات الأيمان نوع واحد فلا(8/277)
يعتبر نية التمييز فيما بينها كقضاء رمضان فإن عليه أن ينوى القضاء وليس عليه نية تعيين يوم الخميس والجمعة.
ثم فرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين هذا وبين الأطعام والكسوة من حيث إن هناك لو أعطى كل مسكين صاعا أو ثوبين عن يمينين لم يجز إلا عن واحدة لأن الأداء يكون دفعة واحدة وهنا صوم ستة أيام عن يمينين لا يتصور دفعة واحدة بل ما لم يفرغ عن صوم ثلاثة أيام لا يتصور صوم ثلاثة أخرى فلهذا جاز كل ثلاثة عن كفارة ووزان هذا من(8/278)
ص -131- ... الطعام والكسوة, ما لو فرق فعل الدفع وإن كان عنده طعام إحدى الكفارتين فصام لإحداهما ثم أطعم للأخرى لم يجزه الصوم لأنه كفر بالصوم في حال وجود ما يكفر به من المال وعليه أن يعيد الصوم بعد التكفير بالإطعام لأنه لما كفر بالإطعام عن يمين فقد صار غير واجد في حق اليمين الأخرى وهو نظير محدثين في سفر وجدا من الماء مقدرا ما يكفى لوضوء أحدهما فتيمم أحدهما أولا ثم توضأ الآخر به فعلى من تيمم إعادة التيمم بعد ما توضأ به الآخر لهذا المعنى, ولا يجوز صوم أحد عن أحد حي أو ميت في كفارة أو غيرها لحديث بن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا لا يصوم أحد عن أحد ولأن معنى العبادة في الصوم في الابتداء بما هو شاق على بدنه وهو الكف عن اقتضاء الشهوات وهذا لا يحصل في حق زيد بأداء عمرو والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب من الأيمان
قال: رضي الله عنه "وإذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبدا ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبدا ثم فعله كانت عليه كفارة يمينين" لأن اليمين عقد يباشره بمبتدأ وخبر وهو شرط وجزاء والثاني في ذلك مثل الأول فهما عقدان فبوجود الشرط مرة واحدة يحنث فيهما وهذا إذا نوى يمينا أخرى أو نوى التغليظ لأن معنى التغليظ بهذا يتحقق أو لم يكن له نية لأن المعتبر صيغة الكلام عند ذلك ثم الكفارات لا تندرى ء بالشبهات خصوصا في كفارة اليمين فلا تتداخل وأما إذا نوى بالكلام الثاني اليمين الأول فعليه كفارة واحدة لأنه قصد التكرار والكلام الواحد قد يكرر فكان المنوى من محتملات لفظه وهو أمر بينه وبين ربه.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا إذا كانت يمينه بحجة أو عمرة أو صوم أو صدقة, فأما إذا كانت يمينه بالله تعالى فلا تصح نيته وعليه كفارتان قال أبو يوسف رحمه الله تعالى هذا أحسن ما سمعنا منه.(8/279)
ووجهه أن قوله فعليه حجة مذكور بصيغة الخبر فيحتمل أن يكون الثاني هو الأول فأما قوله والله هذا إيجاب تعظيم المقسم به نفسه من غير أن يكون بصيغة الخبر فكان الثاني إيجابا كالأول فلا يحتمل معنى التكرار لأن ذلك في الإخبار دون الإيقاع والإيجاب, وإذا كانت إحدى اليمينين بحجة والأخرى بالله فعليه كفارة وحجة لأن معنى تكرار الأول غير محتمل هنا فانعقدت يمينان, وقد حنث فيهما بإيجاد الفعل مرة فيلزمه موجب كل واحد منهما فإن حلف ليفعلن كذا إلى وقت كذا وذلك الشيء معصية يحق عليه أن لا يفعله لأنه منهي عن الإقدام على المعصية ولا يرتفع النهي بيمينه ولكن اليمين منعقدة
فإذا ذهب الوقت قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث فيها بفوت شرط البر فيلزمه الكفارة, فإن لم يؤقت فيه وقتا وذلك الفعل مما يقدر على أن يأتي به كشرب الخمر والزنا ونحوه لم يحنث إلى أن يموت لأن الحنث بفوت شرط البر وشرط البر بوجود ذلك الشيء منه في عمره فإذا مات قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث(8/280)
ص -132- ... بفوت شرط البر حين أشرف على الموت ووجبت عليه الكفارة فينبغي له أن يوصى بها لتقضى بعد موته كما ينبغي أن يوصي بسائر ما عليه من حقوق الله تعالى كالزكاة ونحوها, وإذا حلف بأيمان متصلة معطوفة بعضها على بعض واستثنى في آخرها كان ذلك استثناء من جميعها لأن الكلمات المعطوفة بعضها على بعض ككلام واحد فيؤثر الاستثناء في إبطالها كلها اعتبارا للأيمان بالإيقاعات. وقيل هذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الاستثناء عندهما لإبطال الكلام وحاجة اليمين الأولى كحاجة اليمين الثانية, فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى الاستثناء بمنزلة الشرط فإنما ينصرف إلى وقت كذا وذلك الشيء معصية يحق عليه أن لا أستطيع فهذا على ثلاثة أوجه فإن كان يعني ما سبق به من القضاء فهو موسع عليه ولا يلزمه الكفارة لأن المنوي من محتملات لفظه.
فالمذهب عند أهل السنة أن كل شيء بقضاء وقدر وأن الاستطاعة مع الفعل فإذا لم يفعل علمنا أن الاستطاعة التي قد استثنى بها لم توجد ولكن هذا في اليمين بالله فإن موجبه الكفارة وذلك بينه وبين ربه(8/281)
فإن كانت اليمين بالطلاق أو العتاق فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في الحكم لأن العادة الظاهرة أن الناس يريدون بهذه الاستطاعة ارتفاع الموانع فإن الرجل يقول أنا مستطيع لكذا ولا أستطيع أن أفعل كذا على معنى أنه يمنعني مانع من ذلك قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: من الآية97] وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة فإذا كان الظاهر هذا والقاضي مأمور باتباع الظاهر لا يدينه في الحكم فإن كان يعني شيئا يعرض من البلايا لم يسقط عنه يمينه ما لم يعرض ذلك الشيء, وكذلك إن لم يكن له نية في الاستطاعة فهو على أمر يعرض له فلا يكون على القضاء والقدر ما لم ينوه لما بينا أن الكلام المطلق محمول على ما هو الظاهر والمتعارف. ولو قال والله لا أكلم فلانا ووالله لا أكلم فلانا رجلا آخر إن شاء الله تعالى يعني بالاستثناء اليمينين جميعا كان الاستثناء عليهما لكون إحدى اليمينين معطوفة على الأخرى وفي بعض النسخ لم يذكر حرف العطف ولكن قال والله لا أكلم فلانا وهذا صحيح أيضا لأن موجب هذه اليمين الكفارة وذلك أمر بينه وبين ربه, فإذا لم يسكت بين اليمينين كان المنوي من محتملات لفظه أو يجعل الواو في الكلام الثاني للعطف دون القسم فكأنه قال والله والله. وكذلك لو قال علي حجة إن كلمت فلانا وعلي عمرة إن كلمت فلانا إن شاء الله فكلمه لم يحنث لأن الكلام الثاني معطوف على الأول
فأما إذا قال عبدي حر إن كلمت فلانا عبدي الآخر حر إن كلمت فلانا إن شاء الله ثم كلمه فإن عبده الأول حر في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله لأنه لم يذكر بين الكلامين حرف العطف فانعدم الاتصال بينهما حكما ووجد الاتصال صورة حين لم يسكت(8/282)
ص -133- ... بينهما. فإن نوى صرف الاستثناء إليهما كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولا يدين في الحكم لأنه خلاف الظاهر فإن الكلام الثاني غير معطوف على الأول فيصير فاصلا بين الاستثناء والكلام الأول, وإن قال لامرأته إن حلفت بطلاقك فعبدي حر فهذه يمين بالعتق لأن اليمين تعرف بالجزاء والجزاء عتق العبد لأن الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء وهو الفاء والشرط أن يحلف بطلاق امرأته
فإذا قال بعد ذلك لعبده إن حلفت بعتقك فامرأته طالق فإن عبده يعتق لأن بالكلام الثاني حلف بطلاق امرأته يذكر الشرط والجزاء طلاقها فوجد به الشرط في اليمين الأول فلهذا يعتق عبده ولا تطلق امرأته لأن الحلف بعتق العبد كان سابقا على الحلف بطلاقها وما يكون سابقا على اليمين لا يكون شرطا لأن الحالف إنما يقصد منع نفسه عن إيجاد الشرط وذلك لا يتحقق فيما كان سابقا على يمينه. ولو قال لامرأته ثلاث مرات إن حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت اثنتين إن كان دخل بها لأنه باليمين الثانية يحنث في اليمين الأولى فتطلق واحدة ثم باليمين الثالثة يحنث في اليمين الثانية فتطلق أخرى لأنها في عدته وإن لم يكن دخل بها لا تطلق إلا واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة ولأن شرط الحنث في اليمين الثانية لا يوجد باليمين الثالثة لأن الشرط هو الحلف بطلاقها وذلك لا يتحقق في غير الملك بدون الإضافة إلى الملك فلهذا لا تطلق إلا واحدة. ولو قال عبده حر إن حلف بطلاق امرأته ثم قال لامرأته أنت طالق إن شئت لا يعتق عبده وليس هذا بيمين وإن وجد الشرط والجزاء صورة بل هو مخير بمنزلة قوله أمرك بيدك أو اختارى فقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه رضي الله تعالى عنهن مع نهيه عن اليمين بالطلاق.(8/283)
والدليل عليه أنه يشترط وجود المشيئة منها في المجلس ولو كان يمينا لم يتوقت بالمجلس كقوله أنت طالق إن كلمت, وكذلك إذا قال إذا حضت حيضة لم يعتق عبده لأن هذا تفسير لطلاق السنة بمنزلة قوله أنت طالق للسنة, وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يعتق لأن هذا ليس بإيقاع لطلاق السنة بدليل أنه لو جامعها في الحيض ثم طهرت وقع الطلاق عليها ولو كان هذا كقوله للسنة لم يقع, قلنا هو سني من وجه فلا يحنث بالحيض وتطليق لوجود الشرط حقيقة. وأما إذا قال لها إذا حضت فأنت طالق أو إذا جاء غد فأنت طالق عتق عبده عندنا, وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق قال لأن الحالف يكون مانعا نفسه من إيجاد الشرط وإنما يكون الكلام يمينا بذكر شرط يتصور المنع عنه فأما بذكر شرط لا يتصور المنع عنه لا يصير حالفا بطلاقها فلا يعتق عبده كما لو قال أنت طالق غدا. ولكنا نقول الكلام يعرف بصيغته وقد وجد صيغة اليمين بذكر الشرط والجزاء ولم يغلب عليه غيره فكان يمينا بخلاف قوله أنت طالق غدا لأنه ما ذكر الشرط والجزاء إنما أضاف الطلاق إلى وقت وبخلاف قوله أنت طالق إن شئت أو إذا حضت حيضة لأنه غلب عليه معنى آخر كما بينا وبأن لم يكن في وسعه منع هذا الشرط لا يخرج من أن يكون يمينا كما لو جعل الشرط فعل إنسان آخر لا يقدر على منعه من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/284)
ص -134- ... باب المساكنة
قال: رضي الله عنه "وإذا حلف الرجل لا يساكن فلانا ولا نية له فساكنه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حدة لم يحنث" لأن المساكنة على ميزان المفاعلة فشرط حنثه وجود السكنى مع فلان والسكنى المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فتكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا واحدا أو سكنا في دار وكل واحد منهما في بيت منها لأن جميع الدار مسكن واحد, فأما إذا كان في الدار مقاصير وحجر فكل مقصورة مسكن على حدة فلا يكون هو مساكنا فلانا فلا يحنث في يمينه بمنزلة ما لو سكنا في محلة كل واحد منهما على حدة.
والدليل على الفرق أن الدار التي تشتمل على المقاصير كل مقصورة منها حرز على حدة حتى لو أخرج السارق المتاع من مقصورة فأخذ في صحن الدار يقطع ولو سرق من يسكن إحدى المقصورتين من المقصورة الأخرى يقطع والدار التي تشتمل على بيوت حرز واحد حتى لو أخرج السارق المتاع من بيت وأخذ في صحن الدار لا يقطع ومن كان مأذونا في الدخول في أحد البيوت من الدار إذا سرق من البيت الآخر لا يقطع. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال هذا إذا كانت الدار كبيرة نحو دار الوليد بالكوفة ونظيره دار نوح ببخارى لأن ذلك بمنزلة المحلة فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فإنه يحنث سواء كانت دارا تشتمل على مقاصير أو على بيوت لأن في عرف الناس هذا مسكن واحد ويعد الحالف مساكنا لصاحبه وإن كان كل واحد منهما في مقصورة. وإن كان نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد أو في حجرة أو في منزل واحد بأن يكونا فيه جميعا لم يحنث حتى يساكنه فيما نوي لأن المنوي من محتملات لفظه.
فإن قيل: المسكن ليس في لفظه فيكف تعمل نيته في تخصيص المسكن ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطل؟(8/285)
قلنا: نحن لا نعتبر تخصيص المسكن حتى لو نوى شيئا بعينه لا تعمل نيته ولكن الفعل يقتضي المصدر لا محالة فبذكر الفعل يصير المصدر كالمذكور لغة وهو إنما نوى أكمل ما يكون من السكنى لأن أكمل ذلك أن يجمعهما بيت واحد وما دون هذا عند المقابلة بهذا يكون قاصرا فيكون هذا منه نية نوع من السكنى وذلك صحيح, نظيره ما قال في الجامع إن خرجت ونوى السفر تعمل نيته لأنه نوى نوعا من الخروج والخروج الذي هو مصدر كالمذكور بذكر الفعل فتصح نيته في نوع منه بخلاف ما إذا نوى الخروج إلى بغداد لأن المكان ليس في لفظه فلا تعمل نيته في ذلك وإن كان نوى أن لا يساكنه في مدينة أو قرية وسمى ذلك فإن ساكنه في شيء من ذلك حنث ولا تكون المساكنة في ذلك إلا أن يسكنا بيتا واحدا أو دارا واحدة من دار البلدة أو القرية على ما بينا أن المساكنة فعل على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك لا يكون إلا في مسكن واحد(8/286)
ص -135- ... وفائدة تخصيصه البلدة أو القرية إخراج سائر المواضع عن يمينه, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه في هذا الفصل يحنث إذا جمعهما المكان الذي سمي في السكنى. وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة لأجل العرف فإنه يقال فلان يساكن فلانا قرية كذا وبلدة كذا وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة. فأما في ظاهر الرواية لا يحنث في ذلك إلا أن ينويه فحينئذ تعمل نيته لما فيه من التشديد عليه وإن حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث لأن هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بمتاعه وثقله ألا ترى أن الإنسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ولا يسمى ساكنا فيه ويدخل على الأمير ويكون في داره يوما ولا يسمي مساكنا له في داره فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه فلا يحنث إلا أن ينويه فحينئذ في نيته تشديد عليه فيكون عاملا, ألا ترى أن الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ويقول ما سكنتها قط فيكون صادقا في ذلك, ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ولا نية له ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث لأن السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ويقال سكن يوما أو شهرا والاستدامة على ما يستدام كالإنشاء قال الله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: من الآية68] أي لا تمكث قاعدا فيجعل استدامة السكني بعد يمينه كإنشائه وكذلك اللبس والركوب لأنه يستدام كالسكنى, فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا.
وفي القياس يحنث وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه.(8/287)
ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف وهو البر دون الحنث ولا يتأني البر إلا بهذا ولأن السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان والخروج ضده فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ولو خرج منها بنفسه ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث لأنه عقد يمينه على سكناه وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين وحكى عنه في تعليل هذه المسألة قال خرجت من مكة وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة.
"وحجتنا" في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام وذلك لا يتأتى إلا بالثقل والمتاع والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي أين تسكن فيقول في محلة كذا وهو في تجارته يكون في السوق ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات فإن السكنى لا تتأتى بها مع أن من مشايخنا من يقول إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث وإن خلف ثقله بها وقد روى بعض ذلك عن محمد رحمه الله(8/288)
ص -136- ... بخلاف السكنى في الدار فإن من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله ومتاعه وعياله فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخاري وإن كان بها عياله وثقله.
قال رضي الله عنه وهذه المسألة تنبني على أصل في مسائل الأيمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ والعادة بخلافها لا تعتبر لأن المجاز لا يعارض الحقيقة, وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارى ء على حقيقة اللغة والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين والله لإجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ. وكان مالك يقول ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن, وهذا بعيد أيضا فإن من حلف لا يستضيء بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث والله تعالى سمى الشمس سراجا, ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث والله تعالى سمى الأرض بساطا. ولو حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا فعرفنا أن الصحيح ما قلنا. فإن نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعته فيها لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة فيبقى ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا هذا إذا كان الباقي يتأتى بها السكنى إما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها لا يبقى ساكنا فيها فلا يحنث. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قريب من هذا قال أن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا, وعن محمد رحمه الله تعالى قال إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكني به لم يحنث لأن بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول. ولو كان في طلب مسكن آخر فبقي في ذلك يوما أو(8/289)
أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة في السكة فيصير ذلك القدر مستثنى لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب وكذلك إن بقى في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث وإن بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط لأن نقل الأمتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا, ولو حلف لا يساكن فلانا في دار قد سماها بعينها واقتسما وضربا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما بابا لنفسه ثم سكن الحالف طائفة والآخر طائفة لزمه الحنث لأنه قد ساكنه فيها بعينها والمعني فيه أن شرط حنثه حين عقد اليمين أن يجمعهما فعل السكني في الموضع الذي عينه وقد وجد ذلك بعد القسمة وضرب الحائط كما قبله وهذا بخلاف ما لو كانت يمينه على أن لا يساكنه في منزل ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها لأن هناك بالقسمة وضرب الحائط صار كل جانب منزلا على حدة ولأن في غير العين يعتبر الوصف وفي العين يعتبر العين دون الوصف كما لو حلف أن لا يكلم شابا فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث بخلاف ما لو حلف أن لا يكلم هذا الشاب(8/290)
ص -137- ... فكلمه بعد ما شاخ يحنث وهذا لأنه في الدار المعينة أظهر بيمينه التبرم منها لا من فلان وفي غير المعين إنما أظهر التبرم من مساكنة فلان ولا يكون مساكنا له إذا لم يجمعهما منزل واحد. ولو حلف أن لا يساكنه وهو ينوى في بيت واحد فساكنه في منزل كل واحد منهما في بيت لم يحنث لأنه نوى أكمل ما يكون من المساكنة فتصح نيته ويصير المنوى كالملفوظ به. وإن حلف أن لا يسكن دارا بعينها فهدمت وبنيت بناء آخر فسكنها يحنث لأنها تلك الدار بعينها ومعني هذا أن البناء وصف ورفع البناء الأول وإحداث بناء آخر يغير الوصف وفي العين لا معتبر بالوصف واسم الدار يبقي بعد هدم البناء حتى لو سكنها كذلك صار حانثا وهذا لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فلا يزول ذلك برفع البناء أما ترى أن العرب تطلق اسم الدار على الخرابات التي لم يبق منها إلا الآثار قال القائل:
عفت الديار محلها فمقامها
وقال آخر
يا دار مية بالعلياء فالسند
وهذا بخلاف ما لو حلف لا يسكن بيتا عينه فهدم حتى ترك صحراء ثم بني بيت آخر في ذلك الموضع فسكنه لم يحنث لأن اسم البيت يزول بهدم البناء ألا ترى أنه لو سكنه حين كان صحراء لم يحنث وهذا لأن البيت اسم لما يكون صالحا للبيتوتة فيه والصحراء غير صالح لذلك واليمين المعقودة باسم لا يبقى بعد زوال الاسم ثم إنما حدث اسم البيت لذلك الموضع بالبناء الذي أحدث فكان هذا اسما غير ما عقد به اليمين, ووزانه من الدار أن لو جعلها بستانا أو حماما ثم بنى دارا فسكنها لم يحنث لأن الاسم زال جعلها بستانا أو حماما ثم حدث اسم الدار بصفة حادثة فلم يكن ذلك الاسم الذي انعقد به اليمين
وإذا حلف لا يسكن دار فلان هذه فباعها فسكن الحالف ولم يكن له نية لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحنث وكذلك العبد والثوب وكل ما يضاف إلى إنسان بالملك.(8/291)
وجه قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى أنه جمع في كلامه بين الإشارة والإضافة فيتعلق الحكم بالإشارة لأنها أبلغ في التعريف من الإضافة فإنها تقطع الشركة والإضافة لا تقطع الشركة فكان هذا بمنزلة قوله لا أسكن هذه الدار
والدليل عليه ما لو قال والله لا أكلم زوجة فلان هذه صديق فلان هذا فكلم بعد ما عاداه وفارقها يحنث لما قلنا وكذلك لو قال لا أكلم صاحب هذا الطيلسان فكلم بعد ما باع الطيلسان يحنث. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول عقد يمينه على ملك يضاف إلى مالك فلا يبقى بعد زوال الملك كما لو كان أطلق دار فلان وتحقيقه من وجهين:
"أحدهما" أن الدار لا يقصد هجرانها لعينها بل لأذى حصل من مالكها واليمين تتقيد(8/292)
ص -138- ... بمقصود الحالف فصار بمعرفة مقصوده كأنه قال ما دامت لفلان بخلاف الزوجة والصديق فإنه يقصد هجرانهما لعينهما وكذلك قوله صاحب الطيلسان لأنه يقصد هجرانه لعينه لا لطيلسانه فكان ذكر هذه الأشياء للتعريف لا لتقييد اليمين.
فإن قيل: في العبد هو آدمي فيقصد هجرانه لعينه ومع ذلك قلتم إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه بعد ما باعه لا يحنث.
قلنا: ذكر بن سماعة في نوادره أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحنث بهذا في العبد ووجه ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط المنزلة عند الأحرار فالظاهر أنه إذا كان الأذى منه لا يقصد هجرانه باليمين فلا يجعل له هذه المنزلة ولكن إنما يحلف إذا كان الأذى من مالكه ولأن إضافة المملوك إلى المالك حقيقة كالاسم, ثم لو جمع في يمينه بين ذكر الاسم والعين وزال الاسم لم يبق اليمين كما لو حلف لا يدخل هذه الدار بعينها فجعلت بستانا فدخل لم يحنث لزوال الاسم فكذلك إذا جمع بين الإضافة والتعيين فزالت الإضافة لا يبقى اليمين بخلاف الزوجة والصديق فالإضافة هناك ليست بحقيقية ولكنه تعريف كالنسبة وكما أنه يتعلق اليمين بالعين دون النسبة فكذلك هنا يتعلق بالعين دون الإضافة فإن نوى أن لا يسكنها وإن زالت الإضافة فله ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه بنيته وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لو نوي أن لا يسكنها ما دامت لفلان فله ما نوى لأن المنوى من محتملات لفظه. وإذا حلف أن لا يسكن دار فلان أو دارا لفلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا له قد باعها بعد يمينه لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد بخلاف قوله زوجة فلان أو صديق فلان لأن هناك إنما يقصد هجرانهما لعينهما فيتعين ما كان موجودا وقت يمينه بناء على مقصوده كما لو عينه. وذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى التسوية بينهما.(8/293)
ووجهه أنه عقد اليمين بالإضافة وحقيقة ذلك فيما كان موجودا وقت يمينه ولكن على هذه الرواية لا بد من أن يقال إذا جمع بين الإضافة والتعيين يبقي اليمين بعد زوال الإضافة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما هو قول محمد رحمه الله تعالى. وأما إذا سكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى فهو حانث بالإتفاق. وإن سكن دارا اشتراها فلان بعد يمينه حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وكذلك العبد والدابة والثوب
ولو حلف لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان فتناول شيئا مما استحدثه فلان لنفسه فهو حانث بالاتفاق. وقد أشار بن سماعة إلى التسوية بين الكل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لما بينا أنه عقد اليمين على الإضافة فما لم يوجد حقيقة وقت اليمين لا يتناوله اليمين. فأما وجه قوله في الفرق على ظاهر الرواية أن الطعام والشراب يستحدث الملك فيهما في كل وقت فعرفنا أن مقصود الحالف وجود الإضافة إلى فلان وقت التناول فأما الدار والعبد والدابة فلا يستحدث الملك فيها في(8/294)
ص -139- ... كل وقت فعرفنا أن مقصوده ما كان موجودا في الحال دون ما يستحدث فيه فكان هذا بمنزلة الزوجة والصديق.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنه عقد يمينه على ملك مضاف إلى المالك فإذا وجدت الإضافة إلى وقت الفعل كان حانثا كما في الطعام والشراب وتحقيقه أن شرط حنثه وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان بالملك وإنما حمله على اليمين أذى دخله من فلان وفي هذا لا فرق بين الموجود في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه بخلاف الزوجة والصديق. وقد روى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في قوله دارا لفلان أنه لا يحنث إذا سكن دار اشتراها فلان بعد يمينه بخلاف قوله دار فلان لأن اللام دليل على الملك فصار تقدير كلامه كأنه قال لا أسكن دارا هي مملوكة لفلان فيتعين الموجود في ملكه دون ما يستحدثه ولا يوجد ذلك في قوله دار فلان. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله على عكس هذا قال إذا قال دار فلان لا يتناول ما يستحدث الملك فيه بخلاف قوله دارا لفلان لأن في قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الإضافة. ألا ترى أنه لو لم يذكر فلانا كان كلاما مختلا فلا بد من قيام الملك لفلان وقت اليمين ليتناوله اليمين وفي قوله دارا لفلان الكلام تام بدون ذكر فلان فإنه لو قال لا أسكن دارا كان مستقيما فذكر فلان لتقييد اليمين بما يكون مضافا إلى فلان وقت السكنى. وإن حلف لا يسكن دارا لفلان فسكن دارا بينه وبين آخر لم يحنث قل نصيب الآخر أو كثر لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار يملكها فلان والمملوك لفلان بعض هذه الدار وبعض الدار لا يسمى دارا(8/295)
وإن حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها لغيره حنث لأن المشترى لغيره كالمشتري لنفسه فيما ينبنى على الشراء ألا ترى أن حقوق العقد تتعلق به وأنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره وإنما رتب الحالف يمينه على الشراء دون الملك فإن قال أردت ما اشتراه لنفسه دين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء إذا كان يمينه بالطلاق لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يسكن بيتا ولا نية له فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة لم يحنث إذا كان من أهل الأمصار وحنث إذا كان من أهل البادية لأن البيت اسم لموضع يبات فيه واليمين يتقيد بما عرف من مقصود الحالف فأهل الأمصار إنما يسكنون البيوت المبنية عادة وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر فإذا كان الحالف بدويا فقد علمنا أن هذا مقصوده بيمينه فيحنث بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار واسم البيت للمبني حقيقة فلا يختلف فيه حكم أهل الأمصار وأهل البادية لأن أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة.
والأصل في هذا أن سائلا سأل بن مسعود رضي الله عنه فقال إن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزي البقر فقال ممن صاحبكم فقال من بيني رياح قال ومتى أقتنت بنو رياح البقر إنما وهم صاحبكم الإبل فدل أن عند إطلاق الكلام يعتبر عرف المتكلم فيما يتقيد به كلامه, وإذا حلف لا يسكن بيتا لفلان فسكن صفة له حنث لأن الصفة بيت إلا أن يكون نوي البيوت(8/296)
ص -140- ... دون الصفاف فيدين فيما بينه وبين الله ولا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص اللفظ العام من أصحابنا من يقول هذا الجواب بناء على عرف أهل الكوفة لأن الصفة عندهم اسم لبيت يسكنونه يسمي صفا ومثله في ديارنا يسمى كاشانه فأما الصفة في عرف ديارنا غير البيت فلا يطلق عليه اسم البيت بل ينفي عنه فيقال هذا صفة وليس ببيت فلا يحنث.قال والأصح عندي أن مراده حقيقة ما نسميه الصفة.
ووجهه أن البيت اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد وهو مبنى للبيتوته فيه وهذا موجود في الصفة إلا أن مدخله أوسع من مدخل البيوت المعروفة فكان اسم البيت متناولا له فيحنث بسكناه إلا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فحينئذ يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه خص العام بنيته ولو حلف لا يسكن دار فلان هذه فسكن منزلا منها حنث لأن السكنى في الدار هكذا تكون فإن الإنسان يقول أنا ساكن في دار فلان وإنما يسكن في بعضها فإنه لا يسكن تحت السور وعلى الغرف والحجر إلا أن يكون نوى أن يسكنها كلها فلا يحنث حينئذ حتى يسكنها كلها لأنه نوى حقيقة كلامه ومطلق الكلام وإن كان محمولا على المتعارف فنية الحقيقة تصح فيه كما لو قال يوم يقدم فلان فأمرأته طالق حمل على الوقت للعرف. فإن نوى حقيقة بياض النهار عملت نيته في ذلك فهذا مثله حتى لو كان حلف بعتق أو طلاق يدين في القضاء لأن هذه حقيقة غير مهجورة ولو حلف لا يسكن دارا لفلان وهو ينوى بأجر أو عارية وسكنها على غير ما عنى ولم يجر قبل ذلك كلام فإنه يحنث وما نوى لا يغني عنه شيئا لأنه نوى التخصيص فيما ليس من لفظه فإن في لفظه فعل السكني وهو نوى التخصيص في السبب الذي يتمكن به من السكني إلا أن يكون قبل هذا كلام يدل عليه بأن استعاره فأبى فحلف وهو ينوى العارية ثم سكن بأجر فحينئذ لا يحنث لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال ويصير ذلك كالمنصوص عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الدخول(8/297)
قال: رضي الله عنه "وإذا حلف لا يدخل بيتا لفلان ولم يسم بيتا بعينه ولم يكن له نية فدخل بيتا هو فيه ساكن بأجر أو عارية فهو حانث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث" لأن الإضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبالسكنى مجاز فلا تجتمع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد والحقيقة مرادة بالاتفاق فيتنحى المجاز واللام في قوله لفلان دليل الملك أيضا.
"وحجتنا" في ذلك أنه عقد يمينه على الإضافة إلى فلان وما يسكنه فلان عارية أو إجارة مضاف إليه بمنزلة ما يسكنه بالملك ألا ترى إنك تقول بيت فلان ومنزل فلان وإن كان نازلا فيه بأجر أو عارية فكذلك مع حرف اللام فإن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال لرافع بن خديج لمن هذا الحائط فقال لي استأجرته لم ينكر عليه إضافته إلى نفسه بحرف اللام ولا يقول أنه إذا دخل بيتا هو ملك فلان أنه يحنث بحقيقة الإضافة بالملك لوجود الإضافة بالسكنى.
وحاصل هذا الكلام أنه يحنث باعتبار عموم المجاز وفي ذلك الملك, والمستعار(8/298)
ص -141- ... سواء, كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا يحنث باعتبار عموم المجاز وهو الدخول دون حقيقة وضع القدم.
فإن قيل: كيف يكون للمجاز عموم والمصير إليه بطريق الضرورة.
قلنا: العموم للحقيقة ليس باعتبار أنه حقيقة بل بدليل ذلك الدليل بعينه موجود في المجاز وهذا لأن المجاز كالمستعار ويحصل بلبس الثوب المستعار دفع الحر والبرد كما يحصل بلبس الثوب المملوك ولا يقال بأن المجاز يصار إليه للضرورة بل هو أحد قسمي الكلام ألا ترى أن في كتاب الله تعالى مجازا وحقيقة والله تعالى يتعالى أن تلحقه الضرورة فعرفنا أن العموم يعتبر في المجاز كما في الحقيقة.(8/299)
وعلى هذا روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا حلف لا يدخل بيتا لفلان فدخل بيتا أجره فلان من غيره لم يحنث لأنه مضاف إلى المستأجر بالسكنى دون الآجر. ولو حلف لا يسكن حانوتا لفلان فسكن حانوتا أجره فإن كان فلان ممن يسكن حانوتا لا يحنث بهذا أيضا وإن كان لا يسكن حانوتا فحينئذ يحنث لما عرف من مقصود الحالف فإن من حلف لا يسكن حانوت الأمير يعلم كل أحد أن مراده حانوت يملكه الأمير وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم شيئا ولم يكن له نية فدخل عليه في بيته أو في بيت غيره أو في صفة حنث لأنه وجد الدخول على فلان فإن الدخول عليه في موضع يبيت هو فيه أو يجلس لدخول الزائرين عليه وذلك يكون في بيته تارة وفي بيت غيره أخرى والصفة في هذه كالبيت فيحنث لهذا وإن دخل عليه في مسجد لم يحنث لأنه معد للعبادة فيه لا للبيتوتة والجلوس لدخول الزائرين عليه وكذلك إن دخل عليه في ظلة أو سقيفة أو دهليز باب دار لم يحنث لأن العرف الظاهر أن جلوسه لدخول الزائرين عليه لا يكون في مثل هذه المواضع عادة وإنما يكون نادرا عند الضرورة فأما الجلوس عادة يكون في الصفة أو البيت فهو وإن أتاه في هذه المواضع لا يكون داخلا عليه ولا يحنث وكذلك لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل البادية.
والحاصل أنه جعل قوله لا أدخل على فلان وقوله لا أدخل عليه بيتا سواء لاعتبار العرف كما بينا وإذا حلف لا يدخل عليه بيتا فدخل عليه في المسجد أو الكعبة لم يحنث لأنه مصلى والبيت اسم للموضع المعد للبيتوتة فيه.
فإن قيل: أليس أن الله تعالى سمي الكعبة بيتا بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: من الآية96] وسمي المساجد بيوتا في قوله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ} [النور: من الآية36].(8/300)
قلنا: قد بينا أن الأيمان لا تنبني على لفظ القرآن وقد سمي بيت العنكبوت بيتا فقال: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: من الآية41] ثم هذا لا يدل على أن مطلق اسم البيت في اليمين يتناوله.
قال: "وكل شيء من المساكن يقع عليه اسم بيت حنث فيه إن دخل ومراده ما يطلق عليه(8/301)
ص -142- ... الاسم عادة في الاستعمال وإن دخل بيتا هو فيه ولم ينو الدخول عليه لم يحنث" لأن شرط حنثه الدخول عليه وذلك بأن يقصد زيارته أو الاستخفاف به بأن يقصد ضربه وهذا لم يوجد إذا لم ينو الدخول عليه أو لم يعلم أنه فيه ألا ترى أن السقاء يدخل دار الأمير في كل يوم ولا يقال دخل على الأمير وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يحنث وإن لم يعلم كونه فيه ولم ينو الدخول عليه بأن دخل على قوم هو فيهم والحالف لا يعلم بمكانه لأن حقيقة الدخول عليه قد وجد ولا يسقط حكمه باعتبار جهله
وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم بيتا ولم ينوه فدخل دارا هو فيها لم يحنث ألا ترى أنه لو كان في بيت منها لا يراه الداخل فإنه لا يكون داخلا عليه أرأيت أنه لو كانت الدار عظيمة فيها منازل فدخل منزلا منها وفلان في منزل آخر كان يحنث إنما يقع اليمين في هذا إذا دخل عليه بيتا أو صفة لأنه حينئذ يكون داخلا عليه حقيقة إلا أن يكون حلف أن لا يدخل عليه دارا فحينئذ يحنث إذا دخل داره لأن اعتبار العرف عند عدم التصريح بخلافه وكذلك إن نوى دارا لأنه يشدد الأمر على نفسه بهذه النية
ولو حلف لا يدخل بيتا وهو فيه داخل فمكث فيه أياما لم يحنث لأن الدخول هو الانفصال من الخارج إلى الداخل ولم يوجد ذلك بعد يمينه إنما وجد المكث فيه وذلك غير الدخول وهذا بخلاف السكنى لأنه فعل مستدام يضرب له مدة فتكون للاستدامة فيه حكم الإنشاء فأما الدخول ليس بمستدام ألا ترى أنه لا يضرب له المدة فإنه لا يقال دخل يوما أو شهرا إنما يقال دخل ومكث فيه يوما.(8/302)
ولو قال: والله لأدخلنه غدا فأقام فيه حتى مضى الغد حنث لأن شرط بره وجود فعل الدخول في غد ولم يوجد إنما وجد المكث فيه فإذا نوى بالدخول الإقامة فيه لم يحنث لأن المنوى من محتملات لفظه فإن الدخول لمقصود الإقامة وكأنه جعل ذكر الدخول كناية عما هو المقصود فلهذا لم يحنث, وإن قال والله لا أدخلها إلا عابر سبيل فدخلها ليقعد فيها أو يعود مريضا أو يطعم حنث لأنه عقد يمينه على الدخول واستثنى دخولا بصفة وهو أن يكون عابر سبيل أي مجتازا ومار طريق قال الله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] وقد وجد الدخول لا على الوجه المستثني فيحنث وإن دخلها مجتازا ثم بدا له أن يقعد فيها لم يحنث لأن دخوله على الوجه المستثنى فلم يحنث به وبقى ما وراء ذلك مكث في الدار وذلك غير الدخول فلا يحنث به أيضا وإن نوى بكلامه أن لا يدخلها يريد النزول فيها صحت نيته لأنه عابر سبيل يكون مجتازا في موضع ولا يكون نازلا فيه فجعل هذا مستثني دليل على أن مراده منع نفسه مما هو ضده وهو الدخول للنزول فإذا صحت نيته صار المنوى كالملفوظ وإذا دخلها يريد أن يطعم أو يقعد لحاجة ولا يريد المقام فيها لم يحنث لأن شرط حنثه دخول بصفة وهو أن يكون للسكني والقرار ولم يوجد. وإذا حلف لا يدخل دار فلان فجعلها بستانا أو مسجدا ودخلها لم يحنث قال لأنها قد تغيرت عن حالها ولم يرد تغير الوصف لأن ذلك لا يرفع اليمين إذا لم يكن وصفا داعيا إلى اليمين وإنما أراد تغير الاسم لأنه عقد اليمين باسم الدار والبستان(8/303)
ص -143- ... والمسجد والحمام غير الدار فإذا لم يبق ذلك الاسم لا يبقي اليمين وكذلك لو كانت دارا صغيرة فجعلها بيتا واحدا وأشرع بابه إلى الطريق أو إلى دار فدخله لم يحنث لأنها قد تغيرت وصارت بيتا وهذه إشارة إلى ما قلنا أن اسم البيت غير اسم الدار فمن ضرورة حدوث اسم البيت لهذه البقعة زوال اسم الدار
وإن حلف لا يدخل بيتا بعينه فهدم سقفه وبقيت حيطانه فدخله يحنث لأنه بيت وإن انهدم سقفه قال الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: من الآية52] أي ساقطة سقفها ولأن البيت اسم لما هو صالح للبيتوتة فيه وما بقيت الحيطان فهو صالح لذلك وإن لم يكن مسقفا بخلاف ما لو انهدمت الحيطان لأنه صار صحراء غير صالح للبيتوتة فلا يتناوله اسم البيت. وإن حلف لا يدخل دار فلان فاحتمله إنسان فأدخله وهو كاره لم يحنث لأنه مدخل لا داخل ألا ترى أن الميت قد يدخل الدار وفعل الدخول منه لا يتحقق وإن أدخله بأمره حنث لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه فأما إذا لم يأمره ولكنه غير ممتنع راض بقلبه حتى أدخله.
فقد قال بعض مشايخنا يحنث لأنه لما كان متمكنا من الامتناع فلم يفعل صار كالآمر به وإدخاله مكرها إنما يكون مستثنى لأنه لا يستطيع الامتناع عنه. والأصح أنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وقد انعدم فعله حقيقة وحكما لأن فعل الغير بغير أمره واستعماله إياه لا يصير مضافا إليه حكما إلا بأمره ولم يوجد إما بترك المنع والرضا بالقلب فلا. وإن دخلها على دابة حنث لأن سير الدابة يضاف إلى راكبها
ألا ترى أن الراكب ضامن لما تطأ دابته وأنه يتمكن من إيقافه متى شاء فكان هذا والدخول ماشيا سواء(8/304)
وإن حلف لا يضع قدمه فيها فدخلها راكبا أو ماشيا عليه حذاء أو لم يكن حنث لأن وضع القدم عبارة عن الدخول عرفا فإذا نوى حين حلف أن لا يضع قدمه ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث لأنه نوى حقيقة كلامه وهذه حقيقة مستعملة غير مهجورة وإن حلف لا يدخلها فقام على حائط من حيطانها حنث لأنه قد دخلها فإن القائم على حائط من حيطانها ليس بخارج منها فعرفنا أنه داخل فيها ألا ترى أن السارق لو أخذ في ذلك الموضع ومعه المال لم يقطع كما لو أخذ في صحن الدار.
توضيحه أن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فيكون الحائط داخلا فيه ألا ترى أنه يدخل في بيع الدار من غير ذكر وإن حلف لا يدخل في الدار فقام على السطح يحنث لأن السطح من الدار ألا ترى أن من نام على سطح الدار يستجيز من نفسه أن يقول بت الليلة في داري. ولو قام في طاق باب الدار والباب بينه وبين الدار لم يحنث لأن الباب لإحراز الدار وما فيها فكل موضع إذا رد الباب بقي خارجا فليس ذلك من الدار فلا يحنث لأنه لم يدخلها وإن كان بحيث لو رد الباب بقي داخلا فهذا قد دخلها فيحنث
ولو كان داخلا فيها فحلف أن لا يخرج فقام في مقام يكون الباب بينه وبين الدار إذا أغلقت حنث لأن الخروج انفصال من الداخل إلى الخارج وقد وجد ذلك حين وصل إلى هذا الموضع وإن أخرج إحدى رجليه لم يحنث وكذلك إن حلف أن لا يدخلها فأدخل إحدى رجليه لم يحنث لأن قيامه بالرجلين فلا يكون(8/305)
ص -144- ... بإحداهما خارجا ولا داخلا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعد أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن يعلمه سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن يخرج من المسجد فعلمه بعد ما أخرج إحدى رجليه ولم يكن مخالفا لوعده. من أصحابنا من يقول هذا إذا كان الداخل والخارج مستويان فإن كان الداخل أسفل من الخارج فبإدخال إحدى الرجلين يصير داخلا لأن عامة بدنه تمايل إلى الداخل وإن كان الخارج أسفل من الداخل فبإخراج إحدى الرجلين يصير خارجا لهذا المعنى, والأول أصح لأنه لم يوجد شرط الحنث حقيقة فلا يحنث واعتبار إحدى الرجلين يوجب أن يكون حانثا والرجل الأخرى تمنع من ذلك فلا يحنث بالشك. وإن دخل من حائط لها حتى قام على سطح من سطوحها فقد دخلها لما بينا أن السطح مما أدير عليه الحائط فالداخل إليه يكون داخلا فيها. ولو دخل بيتا من تلك الدار قد أشرع إلى السكة حنث لأنه مما أدير عليه الحائط وهذا إذا كان لذلك البيت باب في الدار وباب في السكة. وإن دخل في علوها على الطريق الأعظم أو دخل كنيفا منها شارعا إلى الطريق حنث وهذا إذا كانت مفتحه في الدار لأنه من حجر الدار ومرافقه فالداخل إليه لا يكون خارجا من الدار وإذا لم يكن خارجا كان داخلا في الدار والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الخروج(8/306)
قال: رضي الله عنه "وإذا حلف على امرأته بالطلاق أن لا تخرج حتى يأذن لها فأذن لها مرة سقطت اليمين" لأن حتى للغاية قال الله تعالى:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: من الآية5] واليمين يتوقت بالتوقيت ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها بخلاف ما قبلها فإذا انتهت اليمين بالإذن مرة لم يحنث بعد ذلك وإن خرجت بغير إذنه إلا أن ينوى الإذن في كل مرة فحينئذ يكون مشددا الأمر على نفسه بلفظ يحتمله. ولو قال إلا باذني فلا بد من الإذن لكل مرة حتى إذا خرجت مرة بغير إذنه حنث لأنه استثنى خروجا بصفة وهو أن يكون بإذنه فإن الباء للإلصاق فكل خروج لا يكون بتلك الصفة كان شرط الحنث ومعنى كلامه إلا مستاذنة قال الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية64] أي مأمورين بذلك ونظيره إن خرجت إلا بقناع أو إلا بملاءة فإذا خرجت مرة بغير قناع أو بغير ملاءة حنث. فأما إذا قال إلا أن آذن لها فهذا بمنزلته حتى إذا وجد الإذن مرة لا يبقى اليمين فيه لأن إلا أن بمعنى حتى فيما يتوقت قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: من الآية66] أي أن يحاط بكم ألا ترى أنه لا يستقيم إظهار المصدر هنا بخلاف قوله: إلا بإذني فإنه يستقيم أن يقول إلا خروجا بإذني فعرفنا أنه صفة للمستثنى وهنا.
لو قال إلا خروجا أن آذن لك كان كلاما مختلا فعرفنا أنه بمعنى التوقيت وفيه طعن الفراء وقد بيناه وإن حلف عليها أن لا تخرج من بيته فخرجت إلى الدار حنث لأنه جعل شرط الحنث الخروج من البيت نصا والبيت غير الدار فبالوصول إلى صحن الدار صارت خارجة من البيت بخلاف ما لو حلف أن لا تخرج لأن مقصوده هنا الخروج إلى السكة والوصول إلى موضع يراها الناس فيه ولا يوجد ذلك بخروجها إلى صحن الدار. وإن حلف لا(8/307)
ص -145- ... يدخل فلان بيته فدخل داره لم يحنث لما بينا أنه سمي البيت نصا والدار غير البيت فالداخل في الدار لا يكون داخلا في البيت ألا ترى أن الإنسان قد يأذن لغيره في دخول داره ولا يأذن في دخول بيته
ولو حلف على امرأته أن لا تخرج من باب هذه الدار فخرجت من غير الباب لم يحنث لأنه حلف بتسمية الباب. فإن قيل: مقصوده منعها من الخروج لكيلا لا يراها الأجانب وذلك لا يختلف بالباب وغير الباب.
قلنا: اعتبار مقصوده يكون مع مراعاة لفظه ولا يجوز إلغاء اللفظ لاعتبار المقصود ثم قد يمنعها من الخروج إلى الباب لكيلا يراها الجار المحاذي وربما يتهمها بإنسان إذا خرجت من الباب رآها وإذا خرجت من غير الباب لم يرها وربما يكون على الباب كلب عقور فكان تقييد الباب مفيدا فيجب اعتباره وكذلك لو حلف على باب بعينه فخرجت من باب آخر لم يحنث مراعاة للفظه. ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال لأولاده عليهم السلام {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} وكان ذلك منه أمرا بما هو مفيد وإن حلف أن لا تخرج إلا بإذنه فأذن لها من حيث لا تسمع لم يكن إذنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو إذن لأن الإذن فعل الآذن يتم به كالرضا ولو حلف أن لا تخرج إلا برضاه فرضى بذلك ولم تسمع فخرجت لم يحنث فهذا مثله, وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الإذن إما أن يكون مشتقا من الوقوع في الإذن وذلك لا يحصل إلا بالسماع أو يكون مشتقا من الأذان وهو الإعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: من الآية3] وذلك لا يحصل إلا بالسماع بخلاف الرضا فإنه بالقلب يكون.(8/308)
توضيحه أن مقصوده من هذا أن لا تتجاسر بالخروج قبل أن تستأذنه وهذا المقصود لا يحصل إذا لم تسمع بإذنه فكان وجوده كعدمه ولو حلف عليها لا تخرج من المنزل إلا في كذا فخرجت لذلك مرة ثم خرجت في غيره حنث لوجود الخروج لا على الوجه المستثني فإن كان عنى لا تخرج هذه المرة إلا في كذا فخرجت فيه ثم خرجت في غيره لم يحنث لأنه خص اللفظ العام بنيته وإن خرجت لذلك ثم بدا لها فانطلقت في حاجة أخرى ولم تنطلق في ذلك الشيء لم يحنث لأن خروجها بالصفة المستثني ثم بعد ذلك وجد منها الذهاب في حاجة أخرى لا الخروج وشرط حنثه الخروج وإن حلف عليها أن لا تخرج مع فلان من المنزل فخرجت مع غيره أو خرجت وحدها ثم لحقها فلان لم يحنث لأن الخروج الانفصال من الداخل إلى الخارج ولم تكن مع فلان وذلك شرط حنثه فلهذا لا يحنث وإن لحقها فلان بعد ذلك وكذلك لو حلف لا يدخل فلان عليها بيتا فدخل فلان أولا ثم دخلت هي فاجتمعا فيه لم يحنث لأنها دخلت على فلان وشرط حنثه دخول فلان عليها وإن حلف عليها أن لا تخرج من الدار فدخلت بيتا أو كنيفا في علوها شارعا إلى الطريق الأعظم لم يكن خروجها إلى هذا الموضع خروجا من الدار على ما بينا أن الواصل إلى هذا الموضع يكون داخلا في الدار فلا تصير هي خارجة من الدار بالوصول إليه والله أعلم بالصواب.(8/309)
ص -146- ... باب الأكل
قال: "وإذا حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا فذاق شرابا من ذلك ولم يدخله حلقه لم يحنث" لأنه عقد يمينه على فعل الأكل والشرب والذوق ليس بأكل ولا شرب فإن الأكل إيصال الشيء إلى جوفه بفيه مهشوما أو غير مهشوم ممضوغا أو غير ممضوغ مما يتأتى فيه الهشم والمضغ والشرب أيضا إيصال الشيء إلى جوفه بفيه مما لا يتأتى فيه الهشم والمضغ في حال اتصاله والذوق معرفة طعم الشيء بفيه من غير إدخال عينه في حلقه ألا ترى أن الصائم إذا ذاق شيئا لم يفطره والأكل والشرب مفطر له ومتى عقد يمينه على فعل فأتى بما هو دونه لم يحنث وإن أتى بما هو فوقه حنث لأنه أتى بالمحلوف عليه وزيادة وإن كان قال لا أذوق حنث لوجود الذوق حقيقة وإن لم يدخله حلقه إلا إذا تمضمض بماء فحينئذ لا يحنث لأن قصده التطهير لا معرفة طعم الماء فلم يكن ذلك ذوقا وإن عنى بالذوق الأكل في المأكول والشرب في المشروب لم يحنث ما لم يدخله في حلقه لأن المنوى من محتملات لفظه وفيه عرف ظاهر فإن الرجل يقول ما ذقت اليوم شيئا أي ما أكلت.
وجاء في الحديث "أنهم كانوا لا يتفرقون إلا عن ذوق" فإن نوى ذلك عملت نيته وإن لم تكن له نية فيمينه على حقيقة ذلك لأن ذلك متعارف أيضا إلا أنه روى هشام عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا تقدم ما يدل على أن مراده الأكل لا يحنث ما لم يأكل بأن قال تغد معي فحلف أن لا يذوق طعامه فيمينه على الأكل لأن ما تقدم دليل عليه وذلك فوق نيته.(8/310)
وإن قال لا أذوق طعاما ولا شرابا فذاق أحدهما حنث لأنه كرر حرف النفي فتبين أن مراده نفي كل واحد منهما على الانفراد كما قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} [الواقعة:25] وكذلك لو قال لا آكل كذا ولا كذا أو لا أكلم فلانا ولا فلانا وكذلك إن أدخل حرف أو بينهما لأن في موضع النفي حرف أو بمعنى ولا قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: من الآية24] يعنى ولا كفورا فصار كل واحد منهما كأنه عقد عليه اليمين بانفراده بخلاف ما إذا ذكر حرف الواو بينهما ولم يعد حرف النفي لأن الواو للعطف فيصير في المعنى جامعا بينهما ولا يتم الحنث إلا بوجودهما
وإن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا طريا أو مالحا لم يحنث إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يحمل الأيمان على ألفاظ القرآن وقد قال الله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: من الآية14]
وقد بينا بعد هذا.والدليل عليه أن من حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وقد قال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [لأنفال: من الآية55] ثم معنى اللحمية ناقص في السمك لأن اللحم ما يتولد من الدم وليس في السمك دم ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات منه وبائع السمك لا يسمى لحاما والعرف في اليمين معتبر إلا أن يكون نوى السمك فحينئذ تعمل نيته لأنه لحم من وجه وفيه تشديد عليه وهو نظير قوله كل امرأة له طالق لا تدخل المختلعة فيه إلا بالنية وكل مملوك له لا يدخل فيه المكاتب.(8/311)
ص -147- ... قال ألا ترى أنه إن أكل رئة أو كبدا لم يحنث وفي رواية أبي حفص رضي الله تعالى عنه أو طحالا وإن أكل لحم غنم أو طير مشوي أو مطبوخ أو قديد حنث لأن المأكول لحم مطلق ألا ترى أن معنى الغذاء تام فيه ويستوى في ذلك الحرام والحلال حتى لو أكل لحم خنزير أو إنسان حنث لأنه لا نقصان في معنى اللحمية فيه فإن كمال معنى اللحمية بتولده من الدم وما يحل وما يحرم من الحيوانات والطيور فيها دم.
قال: "وكذلك لو أكل شيئا من الرءوس فإنما على الرأس لحم لا يقصد بأكله سوى أكل اللحم بخلاف ما لو حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا لم يحنث" لأن فعل الشراء لا يتم به بدون البائع وبائع الرأس يسمى رآسا لا لحاما فكذلك هو لا يسمى مشتريا للحم بشراء الرأس فأما الأكل يتم به وحده فيعتبر فيه حقيقة المأكول وكذلك إن أكل شيئا من البطون كالكرش والكبد والطحال. قيل هذا بناء على عادة أهل الكوفة فإنهم يبيعون ذلك مع اللحم فأما في البلاد التي لا يباع مع اللحم عادة لا يحنث بكل حال(8/312)
وقيل بل يحنث بكل حال لأنه يستعمل استعمال اللحم لا تخاذ المرقة واللحم ما يتولد من الدم والكبد والطحال عينه دم فمعنى اللحمية فيها أظهر وكذلك إن أكل شحم الظهر فإنه لحم إلا أنه سمين ألا ترى أنه يباع مع اللحم وأنه يسمى سمين اللحم ولا يحنث في شحم البطن والألية لأنه ينفي عنه اسم اللحم ويقال أنه شحم وليس بلحم ولا يستعمل استعمال اللحم في اتخاذ الباحات والألية. كذلك فإنه ليس بلحم ولا شحم بل له اسم خاص وفيه مقصود لا يحصل بغيره إلا أن ينوى ذلك فحينئذ تعمل نيته لأنه من محتملات لفظه وفيه تشديد عليه. ولو حلف لا يأكل اداما ولا نية له فالإدام الخل والزيت واللبن والزبد وأشباه ذلك مما يصطبغ الخبز به ويختلط به. فأما الجبن والسمك والبيض واللحم فإنه ليس بأدام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى, وعلى قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي. وروى هشام عنه أن الجوز اليابس إدام كالجبن.
وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن الإدام ما يؤكل مع الخبز غالبا فإنه مشتق من المؤادمة وهو الموافقة قال(8/313)
صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة : "لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي يوفق فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون إداما وقال صلى الله عليه وسلم: "سيد أدام أهل الجنة اللحم" وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله وقال "هذه إدام هذه" فعرفنا أن ما يوافق الخبز في الأكل فهو إدام إلا أنا خصصنا ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر والعنب لأن الإدام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم لا يؤكل وحده غالبا فكان إداما. ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الإدام تبع ولكن حقيقة التبعية فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج إلى أن يحمل معه كالخل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الإدام الخل" فما يصطبغ به فهو بهذه الصفة, فأما اللحم والجبن والبيض يحمل مع الخبز فلا يكون إداما وإن كان قد يؤكل معه كالعنب.(8/314)
ص -148- ... توضيحه أن الإدام ما لا يتأتى أكله وحده كالملح فإنه إدام والخل واللبن لا يتأتي فيه الأكل وحده لأن ذلك يكون شربا لا أكلا فعرفنا أنه إدام فأما اللحم والجبن والبيض يتأتى الأكل فيها وحدها فلم تكن إداما إلا أن ينوى ذلك فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه. ولو حلف لا يأكل طعاما ينوى طعاما بعينه أو حلف لا يأكل لحما ينوى لحما بعينه فأكل غير ذلك لم يحنث إلا أنه إذا كانت يمينه بالطلاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام لأنه ذكر الطعام منكرا في موضع النفي والنكرة في موضع النفي تعم. وإن قال لا آكل وعني طعاما دون طعام لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى عندنا. وعند الشافعي رحمه الله تعالى هذا والأول سواء لأن الأكل يقتضى مأكولا فكأنه صرح بذكر الطعام وهو بناء على أصله أن الثابت بمقتضى اللفظ كالملفوظ(8/315)
فأما عندنا لا عموم للمقتضى ونية التخصيص إنما تصح فيما له عموم دون ما لا عموم له فالأصل عندنا أنه متى ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول أو الحال أو الصفة كانت نيته لغوا لأنه تخصيص ما لا لفظ له, أما نية التخصيص في المفعول كما بينا ونية التخصيص في الحال بأن يقول لا أكلم هذا الرجل وهو قائم بين يديه ونوى حال قيامه فنيته لغو بخلاف ما لو قال هذا الرجل القائم وهو ينوى حال قيامه فإن نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى وتخصيص الصفة أن يقول لا أتزوج امرأة وهو ينوى كوفية أو بصرية فإن نيته لغو. ولو نوى عربية أو حبشية عملت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في الجنس وذلك في لفظه ولو حلف لا يأكل شواء ولا نية له فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره لأن الناس يطلقون هذه اللفظة على اللحم عادة دون الفجل والجزر المشوى ألا ترى أن الشوا اسم لمن يبيع اللحم المشوي فمطلق لفظه ينصرف إليه للعرف إلا أن ينوى كل ما يشوى من بيض أو غيره فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه. "ولو حلف لا يأكل رأسا" قال: "فهذا على رؤوس البقر والغنم" وهذا لأنا نعلم أنه لم يرد رأس كل شيء وإن رأس الجراد والعصفور لا يدخل في هذا وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو الرأس الذي يشوى في التنانير ويباع مشويا فكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لأنه رأى عادة أهل الكوفة فإنهم يفعلون ذلك في هذه الرؤوس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة فرجع وقال يحنث في رأس البقر والغنم خاصة.(8/316)
ثم إن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلا في رأس الغنم خاصة فقالا لا يحنث إلا في رؤوس الغنم فعلم أن الاختلاف اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان, وإن حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاج والأوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك ونحوه فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فإنما يحمل على ما يطلق عليه اسم البيض(8/317)
ص -149- ... ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة ونحوها وإن حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره استحسانا.
وفي القياس يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الأخذ بالقياس يفحش فإن المسهل من الدواء مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة فإن الطبيخ في العادة ما يتخذ من الألوان والباحات وهو الذي يسمى متخذ ذلك طباخا فأما من يطبخ الآجر لا يسمى طباخا, قالوا وإنما يحنث إذا أكل اللحم المطبوخ فأما المقلية اليابسة فلا وما طبخ بالماء إذا أكل المرقة مع الخبز يحنث وإن لم يأكل عين اللحم لأن أجزاء اللحم فيه ولأن تلك المرقة تسمي طبيخا. وإذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم وهذه الأشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك الفاكهة ما يقدم بين يدي الضيفان للتفكه به لا للشبع والرمان والرطب من أنفس ذلك كالتين. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذه الأشياء غير الفاكهة قال الله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وقال الله تعالى: {وَقَضْبًا وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: من الآية28-31] فتارة عطف الفاكهة على هذه الأشياء وتارة عطف هذه الأشياء على الفاكهة والشيء لا يعطف على نفسه مع أنه مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد في موضع المنة بلفظين ثم الاسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى: {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: من الآية31] أي متنعمين وذلك معنى زائد على ما به القوام والبقاء والعنب والرطب يتعلق بهما القوام وقد يجتزى بهما في بعض المواضع والرمان كذلك في الأدوية فلا(8/318)
يتناولها مطلق اسم الفاكهة, ألا ترى أن يابس هذه الأشياء ليس من الفواكه فإن الزبيب والتمر قوت وحب الرمان من التوابل دون الفواكه وما يكون رطبه من الفواكه فيابسه من الفواكه أيضا كالتين والمشمش والخوخ وما لا يكون يابسه من الفواكه فرطبة لا يكون من الفواكه كالبطيخ فإنه يقدم مع الفواكه بين يدي الضيفان ولا يتناوله اسم الفاكهة وأما القثاء والفول والجزر ليس من الفواكه إنما هي من البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقل وبعضها يجعل في القدر مع التوابل. قال: "ويدخل في الفاكهة اليابسة اللوز والجوز وأشباه ذلك" وقد بينا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يجعل الجوز اليابس من الإدام دون الفاكهة لأنه لا يتفكه به عادة إنما يأكل مع الخبز كالجبن أو يجعل مع التوابل في القدر ولكن في ظاهر الرواية يقول رطب الجوز من الفواكه فكذلك يابسه للأصل الذي بينا
وإن حلف لا يأكل طعاما فأكل خبزا أو فاكهة أو غير ذلك حنث ومراده أو غير ذلك مما يسمى طعاما عادة دون ماله طعم حقيقة فإن كل أحد يعلم أنه لا يريد السقمونيا بهذا اللفظ وله طعم عرفنا أن مراده ما يسمى في العادة طعاما ويؤكل على سبيل التطعم. ولو حلف ليأكلن هذا الطعام اليوم فأكله غيره في اليوم لم(8/319)
ص -150- ... يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه يحنث إذا غابت الشمس.
والأصل فيه أن اليمين إذا كانت مؤقتة بوقت فانعقادها موجبا للبر في آخر ذلك اليوم إلا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وجود ما حلف عليه ليس بشرط لانعقاد اليمين حتى إذا قال لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه تنعقد اليمين فكذلك هنا انعدام الطعام في آخر اليوم عنده لا يمنع انعقاد اليمين فإذا انعقدت وتحقق فوت شرط البر حنث فيها وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انعدام ما حلف عليه يمنع انعقاد اليمين كما في مسألة الشرب فلا ينعقد اليمين هنا لما انعدم الطعام في آخر الوقت وهذا لأن شرط حنثه ترك أكل الطعام في آخر جزء من أجزاء اليوم ولا يتصور ذلك إذا لم يبق الطعام وقد بينا أن بدون توهم البر لا ينعقد اليمين وإن لم يكن وقت فيه وقتا حنث لأن اليمين انعقدت في الحال لتوهم البر فيها لكون الطعام قائما في الحال ثم فات شرط البر بأكل الغير إياه فيحنث.(8/320)
قال: "وكذلك إن مات الحالف قبل أن يأكله والطعام قائم بعينه" لأن شرط البر قد فات بموته وكذلك إن مضت المدة وهو حي والطعام قائم لأن شرط البر فعل الأكل في الوقت وقد تحقق فوته بمضي الوقت فحنث في يمينه. وعلى هذا لو حلف ليقضين حق فلان غدا فقضاه اليوم لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. ويحنث عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما جاء الغد لأن عنده كما جاء الغد انعقدت اليمين فإن عدم المحلوف عليه لا يمنع انعقاد اليمين عنده وإن حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان مع آخر حنث لأن ما اشتراه فلان من ذلك طعام وقد أكله فإن كل جزء من الطعام يسمى طعاما بخلاف ما لو حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها فلان وآخر معه لأن نصف الدار لا يسمى دارا إلا أن يكون نوي في الطعام أن يشترى هو وحده فتعمل نيته لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام فإن شراء الطعام قد يكون وحده وقد يكون مع غيره وكذلك لو حلف لا يأكل من طعام يملكه فلان بخلاف ما لو حلف لا يلبس ثوبا لفلان أو ثوبا اشتراه فلان لأن اسم الثوب للكل وبعض الثوب ليس بثوب. ألا ترى أنه لو قال هذا الثوب لفلان وهو بينه وبين آخر كان كذبا ولو قال هذا الطعام لفلان وهو يعنى نصفه كان صدقا ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق شيئا فأكل خبزه حنث لأن عين الدقيق لا يؤكل عادة فتنصرف يمينه إلى ما يتخذ منه كما لو حلف لا يأكل من هذه النخلة.
واختلف مشايخنا فيما لو أكل عين الدقيق فمنهم من يقول يحنث لأنه أكل الدقيق حقيقة والعرف وإن اعتبر فالحقيقة لا تسقط به وهذا لأن عين الدقيق مأكول. والأصح أنه لا يحنث لأن هذه حقيقة مهجورة ولما انصرفت اليمين إلى ما يتخذ منه للعرف يسقط اعتبار الحقيقة كمن قال للأجنبية إن نكحتك فعبدي حر فزني بها لم يحنث لأنه لما انصرف إلى العقد لم يتناول حقيقة الوطء وإن كان عني أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز لأنه نوى حقيقة(8/321)
ص -151- ... كلامه. ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة شيئا فإن نوى يأكلها حبا كما هو فأكل من خبزها أو سويقها لم يحنث لأن المنوى حقيقة كلامه فهو كالملفوظ. وإن لم يكن له نية فأكل من خبزها لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ويحنث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
قال في الكتاب يمينه على ما يصنع منها, وهذا إشارة إلى أن عندهما لو أكل من عينها لم يحنث ولكن ذكر في الجامع الصغير وإن أكل من خبزها يحنث عندهما أيضا فهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وهو الصحيح.
وجه قولهما أن أكل الحنطة في العادة هكذا يكون فإنك تقول أكلنا أجود حنطة في الأرض تريد الخبز ويقال أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة وأهل بلدة كذا يأكلون الشعير والمراد الخبز. إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول عين الحنطة مأكول عادة فإنها تقلى فتؤكل وتغلى فتؤكل ويتخذ منها الهريسة. ومن انعقدت يمينه على أكل عين مأكولة ينصرف يمينه إلى أكل عينه دون ما يتخذ منه كالعنب والرطب وهذا لأن لكلامه حقيقة مستعملة ومجازا متعارفا ولا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز لأن المجاز مستعار والثوب الواحد في حالة واحدة لا يتصور أن يكون ملكا وعارية فإذا كانت الحقيقة مرادة هنا يتنحى المجاز وهما لا ينكر أن هذا الأصل ولكنهما يقولان إذا أكل الحنطة إنما يحنث باعتبار عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة وقد بينا نظائره في وضع القدم وغيره.(8/322)
قال: "وإذا أكل من سويقها لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وكذلك قول محمد أيضا" لأن الموجود في الحنطة لبها وهو ما يصير بالطحن دقيقا ومن أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أن السويق جنس آخر غير الدقيق ولهذا جوزا بيع السويق بالدقيق متفاضلا فما تناول ليس من جنس ما كان موجودا في الحنطة التي عينها فلا يحنث. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يمينه تناولت الحقيقة فلا يحنث بأكل السويق وإن حلف لا يأكل من هذا الطلع شيئا فأكل منه بعد ما صار بسرا لم يحنث لأن الطلع عينه ماكول ومتى عقد يمينه على أكل ما تؤكل عينه لا ينصرف يمينه إلى ما يكون منه ثم البسر ليس من جنس الطلع ألا ترى أن بيع البسر بالطلع يجوز كيف ما كان وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا البسر فأكل منه بعد ما صار رطبا لأن البسر عينه مأكول ولأن الرطب وإن كان من جنس البسر إلا أن الإنسان قد يمتنع من تناول البسر ولا يمتنع من تناول الرطب والأصل أنه متى عقد يمينه على عين بوصف يدعو ذلك الوصف إلى اليمين يتقيد اليمين ببقاء ذلك الوصف وينزل منزلة الاسم ولهذا لو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث لأن صفة الرطوبة داعية إلى اليمين فقد يمتنع الإنسان من تناول الرطب دون التمر وهذا بخلاف ما لو حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث لأن صفة الشباب ليست بداعية إلى اليمين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا الحمل فأكله بعد ما كبر يحنث لأن الصفة المذكورة(8/323)
ص -152- ... ليست بداعية إلى اليمين ولو حلف لا يأكل من هذا السويق فشربه لم يحنث لأن الشرب غير الأكل فإن الله تعالى قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: من الآية60] والشيء لا يعطف على نفسه وقد بينا حد كل واحد من الفعلين. وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فشربه أو حلف لا يشربه فأكله لم يحنث وأكل اللبن بأن يثرد فيه الخبز وشربه أن يشربه كما هو. ولو تناول شيئا مما يصنع منه كالجبن والأقط لم يحنث لأن عينه مأكول وقد عقد اليمين عليه. ألا ترى أنه لو حلف لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلا لم يحنث. ولو حلف ليأكلن هذا السويق فأكله كله إلا حبة منه لم يحنث لأنه يسمى في العادة أكل ولأنه لا يتصور أكل كله على وجه لا يبقى حبة في الإناء وبين لهواته وأسنانه فتحمل يمينه على ما يتأتى فيه البر إذا كان ذلك متعارفا بين الناس. وعلى هذا لو حلف ليأكلن هذه الرمانة فأكلها كلها إلا حبة واحدة كان قد بر في يمينه لأن أكل الرمانة هكذا يكون فإنه لا يمكنه أن يأكلها على وجه لا يسقط منه حبة إلا أن ينوي ذلك فحينئذ قد شدد على نفسه بنية حقيقة كلامه. ولو مص ماءها ورمى بالحب لم يحنث سواء حلف على أكلها أو شربها لأن هذا ليس بأكل ولا شرب ولكنه مص.
وإن قال لامرأتيه أيتكما أكلت هذه الرمانة فهي طالق فأكلتا جميعا لم تطلقا لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد وشرط الطلاق أكل الواحدة جميع الرمانة ولم يوجد ذلك فلهذا لم تطلق واحدة منهما. وإن حلف لا يأكلن سمنا فأكل سويقا فدلت بسمن وأوسع حتى يستبين فيه طعمه ويرى مكانه حنث وكذلك كل شيء فيه سمن يوجد طعمه ويستبين فيه وإن كان لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لأنه عقد يمينه على أكل عين السمن فلا بد من قيام عينه عند الأكل ليحنث وقيام عين المأكول بذاته أو طعمه فإذا كان يرى مكانه ويستبين فيه طعمه فقد علمنا وجود شرط حنثه(8/324)
زاد هشام في نوادره أن يكون بحال يمكن عصر السمن فأما إذا كان لا يرى مكانه ولا يستبين طعمه فيه فقد صار مستهلكا فيه. ولم يذكر في الكتاب ما إذا عقد اليمين على مائع فاختلط بمائع آخر من جنسه أو من غير جنسه. وذكر في النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا حلف لا يشرب لبنا فصب الماء في اللبن وشربه فإن كان اللون فيما شرب لون اللبن ويوجد طعمه وهو الغالب فيحنث به وإن كان اللون لون الماء فيه علمنا أن اللبن مغلوب مستهلك فلا يحنث به ألا ترى أنه يقال للأول لبن مغشوش وللثاني ماء خالطه لبن وهكذا ذكر في نسخ الأصل. وعن محمد رحمه الله تعالى أنه يعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة لأن القليل لا يظهر في مقابلة الكثير وإن كانا سواء لم يحنث في القياس للشك والتردد.
وفي الاستحسان هو حانث لأن ما حلف عليه لم يصر مغلوبا بما سواه. وإن حلف لا يشرب لبن هذه البقرة فخلطه بلبن بقرة أخرى فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا والأول سواء لأن المغلوب في حكم المستهلك سواء كان الغالب من جنسه أو من خلاف جنسه. وعند محمد رحمه الله تعالى يحنث هنا على كل حال لأن الشيء يكثر بجنسه ولا يصير(8/325)
ص -153- ... مستهلكا به. ولو حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكل ذلك التمر كله حنث لأنه قد أكل تلك التمرة حقيقة فإنه يأكل تمرة تمرة وجهله بما حلف عليه لا يمنع حنثه وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها شعير حبة حبة حنث لأنه قد أكل المحلوف عليه بيقين وهذا بخلاف ما سبق من السمن إذا كان لا يرى مكانه في السويق لأن هناك يأكل الكل جملة فما يأكله من السمن مستهلك إذا كان لا يرى مكانه وهنا إنما يأكل حبة حبة فإذا أكل حبة الشعير وحدها فقد وجد شرط الحنث حتى إذا كانت يمينه على الشراء لم يحنث لأنه يشتري الكل جملة ومشتري الحنطة لا يسمى مشتريا للشعير وإن كان فيها حبات الشعير لأن بائعها لا يسمى بائع الشعير. وإن حلف لا يأكل شحما فإن أكل شحم البطن فهو حانث وإن أكل لحما يخالطه شحم البطن فهو حانث. وإن أكل لحما يخالطه شحم يعني شحم الظهر لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وهو حانث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة.
وجه قول أبي يوسف رضوان الله عليهم أجمعين أن شحم الظهر شحم بذاته ويصلح لما يصلح له الشحم فكان كشحم البطن قال الله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: من الآية146] والمستثنى من جنس المستثنى منه هو الحقيقة. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا لحم عند الناس ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل لحما يحنث بهذا وكذلك في العادة يقال في العربية سمين اللحم وبالفارسية فربهن.(8/326)
والدليل عليه أن يمينه لو كان على الشراء لم يحنث بهذا, إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يفرق بما ذكرنا أن الشراء لا يتم به وحده بخلاف الأكل ثم سمين اللحم يستعمل استعمال اللحوم في اتخاذ القلايا, والباحات كاستعمال الشحوم. وقد بينا أن الأيمان لا تنبني على ألفاظ القرآن وفي الآية استثناء الحوايا أيضا وما اختلط بعظم وأحد لا يقول أن مخ العظم يكون شحما. وإذا حلف لا يأكل بسرا فأكل بسرا مذنبا حنث, وكذلك لو حلف لا يأكل رطبا فأكل رطبا فيه بعض البسر فهو حانث لأنه أكل المحلوف عليه حقيقة وعرفا. ولو حلف لا يأكل رطبا فأكل بسرا مذنبا حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى. وكذلك لو حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا وفيه شيء من البسر فهو على الخلاف أبو يوسف رحمه الله يقول المذنب لا يسمى رطبا وإنما يسمى بسرا حتى يحنث بأكله لو كانت يمينه على البسر فكيف يكون رطبا وبسرا في حالة واحدة. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الجانب الذي أرطب منه رطب, ألا ترى أنه لو ميز ذلك وأكله وحده حنث في يمينه فكذلك إذا أكله مع غيره ولهذا يحنث لو كانت يمينه على أكل البسر لأن أحد الجانبين منه بسر وهذا ينبني على الأصل الذي بينا فإن الرطب والبسر جنس واحد, ومن اصل أبى يوسف رحمه الله تعالى أن المغلوب مستهلك بالغالب وإن كان الجنس واحدا. فأما عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في الجنس الواحد لا يكون(8/327)
ص -154- ... الأقل مستهلكا بالأكثر فيعتبر كل واحد منهما على حدة وإن حلف لا يأكل من هذا العنب شيئا فأكل منه بعد ما صار زبيبا لم يحنث لأن الوصف المذكور داع إلى اليمين فقد يمتنع المرء من تناول العنب دون الزبيب وقد بينا نظيره في الرطب مع التمر ولأن الزبيب غير العنب. ألا ترى أن من غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق صاحبه عنه ويمينه على عين مأكول فلا يتناول ما يتخذ منه ولو حلف لا يأكل جوزا فأكل منه رطبا أو يابسا حنث وكذلك اللوز والفستق والتين وأشباه ذلك لأن الاسم الذي عقد به اليمين حقيقة في الرطب واليابس منه فإنه بعد اليبس لا يتجدد للعين اسم آخر بخلاف الزبيب. وإن حلف لا يأكل شيئا من الحلو فأي شيء من الحلو أكله من خبيص أو عسل أو سكر أو ناطف حنث والحلو اسم لكل شيء حلو لا يكون من جنسه غير حلو وذلك موجود في هذه الأشياء وإن أكل عنبا أو بطيخا لم يحنث وإن كان حلوا لأن من جنسه حامض غير حلو خصوصا باوزجند. وإن حلف لا يأكل خبيصا فأكل منه يابسا أو رطبا حنث لأن الرطب واليابس خبيص حقيقة وعرفا. وإن حلف طائعا أو مكرها أن لا يأكل شيئا سماه فأكره حتى أكله حنث وهذا لأن الإكراه لا يعدم القصد ولا يمنع عقد اليمين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بيناه في الطلاق وبعد انعقاد اليمين شرط حنثه الأكل وذلك فعل محسوس ولا ينعدم بالإكراه. ألا ترى أنه لا يمنع حصول الشبع والرى به وكذلك إن أكله وهو مغمي عليه أو مجنون لأن شرط حنثه الأكل والجنون والإغماء لا يعدم فعل الأكل ووجوب الكفارة باليمين لا بالحنث وهو كان صحيحا عند اليمين فيحنث عند وجود الشرط وإن أوجر أو صب في حلقه مكرها وقد حلف لا يشربه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وهو ليس بفاعل بل هو مفعول به فلا يحنث ولكن لو شرب منه بعد هذا حنث لأن ما سبق غير معتبر في إيجاد شرط الحنث ولكن لا يرتفع اليمين به لأن ارتفاعها بوجود شرط الحنث وإن حلف لا يأكل طعاما سماه(8/328)
فمضغه حتى دخل جوفه من مائه ثم ألقاه لم يحنث لأنه ما وصل إلى جوفه عين الطعام ولا ما يتأتى فيه المضغ والهشم وقد بينا أن الأكل لا يتم إلا بهذا. وإن حلف لا يأكل تمرا فأكل قسبا لم يحنث لأن القسب يابس البسر ولو أكله رطبا لم يحنث فكذلك إذا أكله يابسا وكذلك إن أكل بسرا مطبوخا. وإن حلف لا يأكل حبا فأي حب أكل من سمسم أو غيره حنث لأن كل شيء يقع عليه اسم الحب مما يأكله الناس فهو داخل في يمينه باعتبار العادة إلا أن ينوى شيئا بعينه فيكون على ما نوى بينه وبين الله تعالى. وكل شيء يؤكل ويشرب كالسويق والعسل واللبن فإن عقد اليمين على أكله لم يحنث بشربه وإن عقد على شربه لم يحنث بأكله لأنهما فعلان مختلفان. وإن كان المحل واحدا وشرط حنثه الفعل دون المحل وإن حلف لا يأكل خبزا فأكل خبز حنطة أو شعير حنث لأنه خبز حقيقة وعرفا وإن أكل من خبز غيرهما لم يحنث إلا أن ينويه لأنه لا يسمي خبزا مطلقا ولا يؤكل ذلك عادة في عامة الأمصار, وإن أكل خبز قطايف لم يحنث إلا أن يكون نواه لأنه لا يسمي خبزا مطلقا وإنما يسمى قطايف, وإن نواه فالمنوي من محتملات لفظه(8/329)
ص -155- ... لأنه نوى خبزا مقيدا. وإن أكل خبز الأرز فإن كان من أهل بلد ذلك طعامهم كأهل طبرستان فهو حانث فأما في ديارنا لا يحنث لأن أكل خبز الأرز غير معتاد في ديارنا ولا يسمى خبزا مطلقا,
وإن حلف لا يأكل تمرا فأكل حيسا حنث لأن هذا هو التمر بعينه لم يغلب عليه غيره فإن الحيس تمر ينقع في اللبن حتى ينتفخ فيؤكل دخل رجل على رجل فدعاه إلى الغداء فحلف أن لا يتغدى ثم رجع إلى أهله فتغدى لم يحنث لأن يمينه إنما وقعت جوابا لكلامه ومعنى هذا أن مطلق الكلام يتقيد بما سبق فعلا أو قولا حتى لو قامت امرأته لتخرج فقال لها إن خرجت فأنت طالق كانت يمينه على تلك الخرجة فكذلك إذا دعاه إلى الغداء فقال إن تغديت معناه الغداء الذي دعوتني إليه. ولو صرح بذلك لم يحنث إذا رجع إلى أهله وتغدى ولا إذا تغدى عنده في يوم آخر فكذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب اليمين في الشراب(8/330)
قال: رضي الله عنه "رجل حلف لا يشرب شرابا فأي شراب شربه من ماء أو غيره حنث في يمينه" لأن الشراب ما يتأتى فيه فعل الشرب وقد بينا حده والماء في ذلك كغيره فإنه شراب طهور قال الله تعالى" {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الانسان: من الآية21] فيدخل في ذلك كل شراب تشتهيه الأنفس وإن عين شرابا بعينه دين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شربه حنث والنبيذ الزبيب أو التمر ينقع في الماء فتستخرج حلاوتها ثم يجعل شرابا مأخوذا من النبذ وهو الطرح قال الله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}[آل عمران: من الآية187]. فإن شرب سكرا أو فضيخا أو عصيرا لم يحنث لأنه ليس بنبيذ ولا يطلق عليه اسم النبيذ عادة ولكن هذا إذا كانت يمينه بالعربية أما بالفارسية اسم النبيذ يطلق على كل مسكر والأيمان تنبني على العرف في كل موضع ولو حلف لا يشرب ماء فشرب نبيذا لم يحنث لأنه غير الماء فإنه قد تغير بما غلب عليه من حلاوة الزبيب والتمر وإن طبخ فلا إشكال فيه أنه غير الماء, وإن حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وإن كان الإناء الذي يشربان منه مختلفا فإن شرب الحالف من شراب والآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد حنث لأن مراده الامتناع من منادمته وقد وجد ذلك إذا جمعهما مجلس واحد سواء كان الشراب واحدا أو مختلفا والإناء الذي يشربان فيه واحدا أو مختلفا لأن الشرب مع الغير هكذا يكون, ألا ترى أن الأمير مع ندمائه يشرب ثم إناؤه الذي يشرب منه غير إنائهم وربما يشرب الصرف ويمزج لهم إلا أن يكون نوى شرابا واحدا حين حلف فحينئذ قد نوى أكمل ما يكون من الشرب مع فلان ونيته لذلك صحيح. ولو حلف لا يأكل الطعام فأكل منه شيئا يسيرا حنث وكذلك لو حلف لا يشرب الماء لأن الاسم حقيقة للقليل والكثير والفعل يتحقق في القليل والكثير فإذا عنى الماء كله(8/331)
والطعام كله لم يحنث بهذا لأن الماء والطعام اسم جنس فإذا عني الكل فإنما نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته فلا يحنث بهذا لأنه لا يستطيع أن يشرب الماء كله ولا أن يأكل(8/332)
ص -156- ... الطعام كله. ولو حلف لا يذوق شرابا وهو يعني لا يشرب النبيذ خاصة فأكله أكلا لم يحنث لأنه ذكر الشراب والشراب يشرب فنية الشرب فيما ذكر من الذوق صحيح وقد بينا أنه متى عقد يمينه على فعل الشرب لم يحنث بالأكل, وإن حلف لا يذوق لبنا ولا نية له فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاقه وزاد عليه, ولو حلف لا يشرب من دجلة فغرف منها بقدح وشربه لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أن يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحنث لأن الشرب من دجلة هكذا يكون في العادة فإنه يقال أهل بلدة كذا يشربون من دجلة وإنما يراد بطريق الاغتراف في الأواني, ولكن أبو حنيفة يقول حقيقة الشرب من دجلة يكون بالكرع وهذه حقيقة مستعملة جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم نزل عندهم هل عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا وقد بينا أن الحقيقة إذا كانت مستعملة فاللفظ يحمل عليه دون المجاز والحقيقة مرادة فإنه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة لأن من للتبعيض فالحقيقة أن يضع فاه على بعض دجلة والحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه معدولا به عن موضعه فهذا وما تقدم من مسألة الحنطة سواء وأن عندهما في الفصلين إنما يحنث لعموم المجاز.
قال: "ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب من هذا الجب فغرف منه بقدح فشرب فإنه يحنث" وهذا عندهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان ملآنا فيمينه على الكرع خاصة وإن لم يكن ملآنا فحينئذ الجواب كما قالا لأن الكرع لا يتأتى هنا كما لو حلف لا يشرب من هذا البئر وإن تكلف للكرع من البئر ففيه اختلاف المشايخ كما بيناه في مسألة الدقيق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/333)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء التاسع
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(9/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
باب الكسوة
قال رضي الله عنه: وإذا حلف لا يشتري ثوبا ولا نية له فاشترى كساء خز أو طيلسانا أو فروا أو قباء أو غير ذلك مما يلبس الناس حنث لأن اسم الثوب حقيقة لهذا وينطلق عليه عرفا وإن اشترى مسحا أو بساطا لم يحنث لأن اسم الثوب لا يطلق عليه عادة وإنما يطلق على ملبوس بنى آدم وفي الأيمان للعادة عبرة ولو اشترى قلنسوة لم يحنث لأنه ليس بثوب فالثوب ما يستر العورة وتجوز الصلاة فيه وكذلك لو اشترى خرقة لا تكون أي لا تبلغ نصف ثوب لأن هذا لا يستر العورة ولا يتأدى به الكسوة في الكفارة وإن اشترى أكثر من نصف الثوب حنث لأن اسم الثوب ينطلق على أكثر الثوب ولأنه يستر عورته وكذلك إن اشترى ثوبا صغيرا حنث ومراده ما يكون إزارا أو سراويل يستر العورة وتجوز الصلاة فيه وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا فلو سمي ثوبا بعينه ولبس منه طائفة يكون أكثر من نصفه حنث لأنه يسمى لابسا له ألا ترى أن الإنسان قد يلبس الرداء وبعض جوانبه على الأرض وإن حلف لا يلبس ثوبا بعينه فاتخذ منه جبة وحشاها ولبسها حنث لأنه جعل شرط حنثه لبس العين وعقد اليمين باسم الثوب والثوب باق بعد ما اتخذ منه الجبة فإن لابس الجبة يسمى لابسا للثوب بخلاف ما لو حلف على قميص لا يلبسه أبدا فجعل منه قباء فلبسه لم يحنث لأنه عقد اليمين باسم القميص ولا يبقى هذا الاسم بعد ما جعله قباء ألا ترى أن لابس القباء لا يسمى لابسا للقميص وإن حلف لا يلبس من غزل فلانة شيئا فلبس ثوبا من غزلها حنث لأن لبس الغزل هكذا يكون في العادة وفي القياس لا يحنث لأن الثوب غير الغزل ألا ترى أن من غصب غزلا فنسجه كان الثوب له ولكنه ترك هذا القياس للعرف فإن أحدا لا يلف الغزل على نفسه هكذا ولو فعله لا يسمى لابسا ثوبا وإنما يسمى لابسا للغزل وإن نوى الغزل بعينه قبل أن ينسج لم يحنث إذا لبسه يعنى ثوبا لأنه نوى حقيقة كلامه وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا من(9/2)
غزلها وغزل أخرى لم يحنث لأن الذي من غزلها بعض الثوب ويستوي إن نسج غزلهما مختلطا أو غزل كل واحدة منهما في جانب على حدة وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا من نسج فلان أو من شراء فلان وهذا إذا كان فلان ذلك يباشر الشراء والنسج بيده فإن كان ممن لا يفعل ذلك وإنما ينسج له غلمانه وأجراؤه فهو حانث إذا لبس ثوبا نسجوه له لأن مقصود الحالف معتبر في اليمين وإن حلف لا يلبس خزا فلبس ثوبا من هذا الذي يسميه الناس الخز حنث وإن لم يكن خالصا لأن مطلق الاسم منصرف إلى ما هو المتعارف باعتبار أن العرف اصطلاح حادث طرأ على أصل اللغة(9/3)
ص -4- ... وهو مقصود المتكلم عند الإطلاق وإن حلف لا يلبس حريرا أو ابريسما فلبس ثوب خز سداه حرير وابريسم لم يحنث لأن الثوب لا ينسب إلى سداه وإنما ينسب إلى لحمته فإن اللحمة هي التي تظهر دون السدا ألا ترى أن لبس الحرير حرام على الذكور ثم لابأس بلبس العتابي والمصمت
وإن كان سداه حريرا لأن لحمته غزل ولو لبس ثوبا لحمته ابر يسم أو حرير حنث عندنا بمنزلة ما لو كان حريرا كله ألا ترى أنه لا يحل للرجال لبسه والشافعي يعتبر اللون والبريق فيقول إن كان الغالب عليه بريق الإبريسم ولينه حنث وإلا فلا وأشار إلى الفرق بين هذا وبين الخز ولا معنى للفرق سوى العرف فإن الناس يسمونه ثوب الخز وإن لم تكن لحمته خزا ولا يسمونه ثوب الحرير إلا أن يكون حريرا كله أو يكون لحمته حريرا.
قال إلا أن يعني سدا الثوب أو لحمته أو علمه فحينئذ يحنث إذا لبسه بتلك الصفة لأنه شدد الأمر على نفسه بنيته وإن حلف لا يلبس قطنا فلبس ثوب قطن حنث لأن القطن هكذا يلبس وإن لبس قباء لبس بقطن ولكنه محشو بقطن لم يحنث لأن القباء ينسب إلى الظهارة لا إلى الحشو ولا يسمى في الناس لابسا للحشو وإنما يسمى لابسا للقباء المحشو فلا يحنث لكون حشوه قطنا إلا أن يعنيه وإن حلف لا يلبس كتانا فلبس ثوبا من قطن وكتان حنث لأنه قد لبس الكتان بخلاف ما لو كان حلف لا يلبس ثوب كتان لأنه إذا سمى الثوب فشرط حنثه أن يكون جميعه كتانا ولم يوجد وإذا سمي الكتان فشرط حنثه وهو لبس الكتان قد وجد لأنه يقال هذا ثوب قطن وكتان فإن القطن والكتان يستويان في إضافة الثوب إليهما فلا يصير منسوبا إلى أحدهما دون الآخر بخلاف الخز فإنه يغلب على الإبر يسم في نسبة الثوب إليه وبخلاف الإبر يسم مع الغزل فإن الإبر يسم يغلب على الغزل في نسبة الثوب إليه حتى يسمى ملحما وإن كان سداه قطنا وإن حلف لا يلبس هذا القطن فجعله ثوبا فلبسه حنث لأن القطن هكذا يلبس.(9/4)
والحاصل أنه بنى هذه المسائل على معاني كلام الناس فلا يشكل على من يتأمل في كلام الناس
وإن حلف لا يلبس ثوبا قد سماه بعينه فاتزر به أو ارتدى أو اشتمل به حنث والقميص وغيره فيه سواء بخلاف ما لو قال لا ألبس قميصا فاتزر بقميص أو ارتدى به فإنه لا يحنث في القياس في الفصلين سواء ولكنه استحسن الفرق بينهما بناء على الحرف الذي بينا أن الوصف في غير المعين معتبر وفي المعين لا يعتبر إنما يصير معلوما بوصفه ثم لبس القميص بصفة مخصوصة متعارف والثابت بالعرف كالثابت بالنص وإذا لم يعين القميص انصرفت يمينه إلى اللبس بالصفة المعروفة فإذا اتزر به أو ارتدى به لم يحنث ألا ترى أنه لو قال ما لبست اليوم قميصا كان صدقا وأما في المعين لا يعتبر الوصف فعلى أي وجه لبسه كان حانثا ألا ترى أنه لو قال ما لبست هذا القميص وقد اتزر به كان كاذبا وإن لبس قميصا ليس له كمان حنث في يمينه لأنه يسمى قميصا وإن لم يكن له كم لأن القميص كالدرع وقد يشتري الرجل لدرعه كمين فعرفنا أن القميص والدرع ينسب إلى البدن فلا ينعدم الاسم بعدم الكمين كالرجل يسمى رجلا وإن لم يكن له يدان وإن حلف لا يلبس ثوبا فوضعه على عاتقه يريد به الحمل لا يحنث لأنه(9/5)
ص -5- ... حامل حافظ لا مستعمل لابس ألا ترى أن الأمين إذا فعل ذلك بالأمانة لم يضمن وإن نوى نوعا من الثياب دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام
وإن حلف لا يلبس من ثوب فلان شيئا وهو ينوى ما عنده فاشتري فلان ثيابا فلبس منها لم يحنث لأن المنوى من محتملات لفظه فإنه عقد يمينه على فعل في ملك مضاف إلى فلان ونوى حقيقة الإضافة في الحال فتصح نيته ويجعل ما نوى كالملفوظ به ولو حلف لا يكسو فلانا شيئا ولا نية له فكساه قلنسوة أو خفين أو نعلين أو جوربين حنث لأن الكسوة عبارة عن التمليك وما ملكه شيء فيتم شرط حنثه بخلاف ما لو حلف لا يكسوه ثوبا فإن الثوب ما يكون ساترا لبدنه وذلك لا يوجد في الخف والقلنسوة ولهذا لا تتأدى بهما الكسوة في الكفارة ولو حلف لا يكسوه ثوبا فأعطاه دراهم فاشترى بها ثوبا لم يحنث لأنه ما كساه الثوب وإنما وهب له الدراهم وأشار عليه بمشورة والموهوب له بالخيار إن شاء اشترى بها ثوبا وإن شاء غيره فلو أرسل إليه بثوب كسوة حنث لأنه قد كساه فإن فعل رسوله كفعله فإن نوى أن يعطيه من يده إلى يده لم يحنث لأنه نوى حقيقة كلامه وإن حلف لا يلبس سلاحا فتقلد سيفا أو تنكب قوسا أو ترسا لم يحنث لأنه لا يسمى في الناس لابسا وإنما يسمى متقلدا للسيف أو حاملا للسلاح أو معلقا له على نفسه ولو لبس درع حديد حنث لأنه يسمى به لابسا للسلاح ولو حلف لا يلبس درعا فلبس درع حديد أو درع امرأة حنث لأن اسم الدرع تناولهما حقيقة وعادة فإن عني أحدهما فقد نوى التخصيص في اللفظ العام وذلك صحيح فلا يحنث إلا بلبس ما عني وإن حلف لا يلبس شيئا فلبس درع حديد أو درع امرأة أو خفين أو قلنسوة حنث في كل ذلك لأنه عقد يمينه على فعل اللبس في محل هو شيء واسم الشيء يتناول هذا كله وفعل اللبس يوجد في كلها فلهذا حنث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب القضاء في اليمين(9/6)
قال وإذا حلف ليعطين فلانا ماله رأس الشهر أو عند الهلال ولا نية له فله الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها كلها لأن الشهر جزء من الزمان يشتمل على الليل والنهار ورأس كل شهر أوله فأول الليلة وأول اليوم من الشهر يكون رأس الشهر ألا تري أن في العرف يقال اليوم رأس الشهر وإنما أهل البارحة وعند عبارة عن القرب وذكره في المعنى وذكر الرأس سواء وإن حلف ليعطينه حقه صلاة الظهر فله وقت الظهر كله لأن الصلاة تذكر بمعنى الوقت قال عليه الصلاة والسلام "إن للصلاة أولا وآخرا" والمراد الوقت ولأن الإعطاء إنما يكون في الزمان لا في الصلاة فعرفنا أن مراده الوقت وإن قال عند طلوع الشمس أو حين تطلع الشمس فهو إلى أن تبيض لأن صاحب الشرع نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ثم النهي يمتد إلى أن تبيض وإن قال ضحوة فوقت الضحوة من حين تبيض الشمس إلى أن تزول وإن قال مساء فالمساء مساءان أحدهما بعد الزوال والآخر بعد غروب الشمس فأيهما نوى صحت نيته وإن قال سحرا فوقت السحر مما بعد ذهاب ثلثي الليل إلى طلوع الفجر الثاني فإن لم(9/7)
ص -6- ... يعطه حتى مضى الوقت الذي سماه حنث لفوات شرط البر وإن قال يوم كذا فله ذلك اليوم كله فإذا غابت الشمس قبل أن يعطيه حنث لأن اليوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ألا ترى أن صوم اليوم يتأدى بوجود الإمساك في هذا القدر وإن أعطاه قبل مجيء الوقت المسمى أو وهبه له أو أبرأه منه ثم جاء الوقت وليس عليه شيء لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لما بينا أن اليمين المؤقتة إنما تنعقد موجبا في آخر الوقت المسمى وعند ذلك لا حق له عليه وفي مثله لا ينعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى ولو مات أحدهما قبل مضى الوقت لم يحنث لأن شرط حنثه ترك فعل الأداء في آخر ذلك الوقت إليه ولا يتحقق ذلك إذا مات أحدهما قبله وكذلك لو قضى إلى وكيل الطالب بر لأن دفعه إلى وكيل الطالب كدفعه إلى الطالب وإن حلف لا يعطيه حتى يأذن له فلان فمات فلان قبل أن يأذن له فأعطاه لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويحنث في قول أبي يوسف رحمه الله لأنه عقد يمينه على فعل الإعطاء وجعل لذلك غاية وهو إذن فلان فبموت فلان تفوت الغاية وذلك يوجب صيرورة اليمين مطلقة لإطلاقها وإذن فلان كان مانعا من الحنث فبفواته يتحقق اتحاد شرط الحنث ولا ينعدم وهما يقولان المعقود عليه حرمة الدفع إلى غاية وهو إذن فلان وقد فات إذنه بموته فيفوت المعقود عليه والعقد لا يبقي بعد فوات المعقود عليه توضيحه أنها لو بقيت بقيت حرمة الدفع مطلقا لا مؤقتا وهذا المطلق لم يكن ثابتا بيمينه فلا يثبت من بعد ولأنه جعل شرط حنثه ترك الاستئذان من فلان قبل الإعطاء وذلك لا يتحقق بعد موت فلان فمن هذا الوجه يفوت شرط الحنث بموت فلان وإن حلف ليقضين فلانا ماله وفلان قد مات وهو لا يعلم به لم يكن عليه حنث في يمينه وإن كان يعلم بموته حين حلف حنث وكذلك لو حلف ليضربنه أو ليكلمنه أو ليقتلنه وهذا قول أبي حنيفة ومحمد(9/8)
وقال أبو يوسف رضوان الله عليهم أجمعين يحنث علم أو لم يعلم لأنه أضاف اليمين إلى محلها فانعقدت ثم شرط البر فات منه وفوات شرط البر يوجب الحنث كما لو كان عالما بموته أو كان حيا فمات قبل أن يقتله وبيان الوصف أن محل اليمين خبر في المستقبل سواء كان الحالف قادرا عليه أو عاجزا عنه ألا ترى أنه لو قال والله لأمسن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه لأنه عقدها على خبر في المستقبل وإن كان هو عاجزا عن إيجاده فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا محل اليمين المعقودة خبر فيه رجاء الصدق لأنها تعقد للحظر أو للإيجاب أو لإظهار معنى الصدق وذلك لا يتحقق فيما ليس فيه رجاء الصدق فلا تنعقد أصلا كاليمين الغموس ثم إذا كان لا يعلم بموته فمقصوده إزهاق روح موجودة فيه وقت اليمين ولا تصور لهذا إذا كان ميتا وإذا كان يعلم بموته فمقصوده أزهاق روح يحدثه الله تعالى فيه إذا أحياه وذلك متوهم فانعقدت يمينه ثم حنث لوقوع اليأس عما هو شرط البر ظاهرا وعلى هذا والله لأشربن هذا الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء في الكوز لا تنعقد يمينه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه(9/9)
ص -7- ... عقد يمينه على خبر ليس فيه رجاء الصدق إلا أنه لا فرق هنا بين أن يعلم أن الكوز لا ماء فيه أو لا يعلم لأنه عقد اليمين على شرب الماء الموجود في الكوز والله تعالى وإن أحدث في الكوز ماء فليس هو الماء الذي كان موجودا في الكوز وقت اليمين بخلاف مسألة القتل إذا كان يعلم بموت فلان لأنه عقد يمينه على فعل القتل في فلان فإذا أحياه الله تعالى فهو فلان فكان ما عقد عليه اليمين متوهما ووزان هذا في مسألة الكوز أن لو قال لأقتلن هذا الميت فإن يمينه لا ينعقد لأنه لا تصور لما حلف عليه فإنه إذا أحياه الله تعالى حتى يتحقق فيه فعل القتل لا يكون ميتا وفي مسألة القتل رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى على ضد ما ذكره في الأصل أنه إذا كان لا يعلم بموته ينعقد يمينه باعتبار ما يتوهمه بجعله كالموجود حقيقة في حقه وإن كان يعلم بموته لا تنعقد يمينه ولكن الأول أصح فأما إذا حلف ليمسن السماء فهو آثم في هذه اليمين لأن المقصود باليمين تعظيم المقسم به وإنما يحصل بيمينه هتك حرمة الإسم باستعمال اليمين في هذا المحل ولكن عليه الكفارة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى فإنه يعتبر لعقد اليمين أن يكون ما يحلف عليه في وسعه إيجاده وذلك غير موجود هنا(9/10)
ولكنا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق في الخبر وذلك موجود فإن السماء عين ممسوس والملائكة يصعدون السماء ولو أقدره الله تعالى على صعود السماء يصعد وكذلك الحجر محل قابل للتحول لوجوده فانعقدت يمينه ثم حنث في الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ألا ترى أن في الفعل الذي يقدر عليه يحنث إذا مات قبل أن يفعله لوجود العجز عن إيجاد شرط البر ظاهرا ولا فائدة في انتظار الموت هنا لأن ذلك العجز ثابت في الحال ولا يقال إعادة الزمان الماضي في قدرة الله تعالى أيضا وقد فعله لسليمان صلوات الله عليه فكان ينبغي أن ينعقد اليمين الغموس بالطريق الذي قلتم وهذا لأن هناك أخبر عن فعل قد وجد منه وذلك لا كون له والله تعالى وإن أعاد الزمان الماضي لا يصير الفعل موجودا من الحالف حتى يفعله وفي مسألة مس السماء لو وقت يمينه لم يحنث ما لم يمض ذلك الوقت لما بينا أن انعقاد اليمين المؤقتة في آخر الوقت المسمي وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يحنث في الحال لأنه إنما يتوقت انعقاد اليمين إذا كان ما حلف عليه في وسعه إيجاده عند ذلك فأما إذا لم يكن في وسعه إيجاده كان توقيته لغوا فيحنث في الحال وهكذا على مذهبه في مسألة شرب الماء الذي في الكوز إذا وقت يمينه فإن كان في الكوز ماء لم يحنث إلا في آخر الوقت وإن لم يكن في الكوز ماء حنث في الحال ولو حلف بطلاق امرأته ليأتين البصرة فمات قبل ذلك طلقت عند الموت لأن بموته فات شرط البر وهو إتيان البصرة ولا نقول أنه يحنث بعد موته ولكنه كما أشرف على الموت وتحقق عجزه عن إتيان البصرة حنث حتى إن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها ولا عدة عليها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث وعليها العدة وتعتد إلى أبعد الأجلين بمنزلة امرأة الفأر فإن ماتت هي وهو حي لم تطلق لأنه قادر على إتيان البصرة بعد موتها فلم يتحقق شرط الحنث بموتها ولو حلف بطلاق امرأته إن لم تأت البصرة هي فماتت(9/11)
ص -8- ... فلا ميراث للزوج لأنها لما أشرفت على الموت فقد تحقق عجزها عن إتيان البصرة فتطلق ثلاثا قبل موتها ولو مات الزوج كان لها الميراث لأنها تقدر على إتيان البصرة بعد موته ولو حلف بعتق كل مملوك له لا يكلم فلانا فإنما يتناول هذا اللفظ الموجود في ملكه حين حلف فإن بقى في ملكه إلى وقت الكلام عتق وإلا فلا فإن لم يكن في ملكه حين حلف مملوك لم ينعقد يمينه.
ولو قال: إذا كلمت فلانا فكل مملوك لي يوم أكلمه حر فهو كما قال إذا ملك مملوكا ثم كلمه عتق وإن قال كل مملوك أشتريه حر يوم أكلم فلانا فاشترى رقيقا ثم كلم فلانا ثم اشترى آخرين عتق الذين اشتراهم قبل الكلام ولم يعتق الذين اشتراهم بعد الكلام لأن قوله كل مملوك أشتريه شرط وقوله فهو حر يوم أكلم فلانا جزاء لما بينا أن الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء فإنما جعل الجزاء عتقا معلقا بالكلام وهذا يتحقق في الذين اشتراهم قبل الكلام ولو تناول كلامه الذين اشتراهم بعد الكلام لعتقوا بنفس الشراء فلم يكن هذا هو الجزاء الذي علقه بالشراء وإن حلف بعتق عبده إن لم يكلم فلانا فمات الحالف عتق العبد من ثلثه لأن شرط حنثه فوت الكلام في حياته وذلك يتحقق عند موته فكان هذا بمنزلة العتق في المرض فيعتبر من ثلثه وإن مات المحلوف عليه وبقي الحالف عتق العبد لفوات شرط البر وهو الكلام مع فلان فإن الميت لا يكلم فإن المقصود من الكلام الإفهام وذلك لا يحصل بعد الموت وإن حلف لا يطلق امرأته فأمر رجلا فطلقها أو جعل أمرها بيدها فطلقت نفسها حنث لأن الموقع للطلاق هو الزوج ولكن بعبارة الوكيل أو بعبارتها وحقوق العقد في الطلاق لا تتعلق بالعاقد بل هو معبر عن الآمر فكأنه طلقها بنفسه إلا أن يكون نوى أن يتكلم به بلسانه فحينئذ يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص ولأن الظاهر أن مقصوده أن لا يفارقها ويحتمل أن يكون مقصوده أن لا يتكلم بطلاقها ولكن القاضي مأمور باتباع(9/12)
الظاهر والله تعالى مطلع على ما في ضميره ولهذا لو خلعها وقال أنت بائن حنث لأن ما منع نفسه منه وقصده بيمينه قد أتى به ولو آلى منها فمضت المدة بانت وحنث في يمينه في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الإيلاء طلاق مؤجل فعند مضى المدة يقع الطلاق ويكون مضافا إلى الزوج وعند زفر رحمه الله تعالى لا يحنث لأن الطلاق إنما وقع حكما باعتبار دفع الضرر عنها فلا يكون شرط الحنث به موجودا وعلى هذا لو كان الزوج عنينا ففرق القاضي بينهما بعد مضى المدة لم يحنث في قول زفر رحمه الله تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى هنا روايتان في إحداهما سوى بين هذا وبين الإيلاء لأن القاضي نائب عن الزوج في الطلاق شرعا بعد مضي المدة وفي الأخرى فرق بينهما فقال هنا لم يوجد من الزوج معني يصير به مباشرا للطلاق وذلك شرط حنثه والعتق قياس الطلاق لأن الحقوق فيه تتعلق بمن وقع له دون من باشره فأما إذا حلف لا يبيع ولا يشترى فأمر غيره ففعل ذلك لم يحنث لأن حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق بالعاقد والعاقد لغيره بمنزلة العاقد لنفسه فيما يرجع إلى حقوق(9/13)
ص -9- ... العقد فلا يصير الحالف بفعل الوكيل عاقدا إلا أن يكون نوى أن لا يأمر غيره فحينئذ قد شدد الأمر على نفسه بنيته وكذلك إن كان الحالف ممن لا يباشر البيع والشراء بنفسه لأن اليمين تتقيد بما عرف من مقصود الحالف وإن حلف لا يتزوج امرأة فأمر غيره فزوجه حنث لأن حقوق العقد في النكاح تتعلق بالآمر دون العاقد ولأن الوكيل لا يضيف العقد إلى نفسه وإنما يضيف إلى الموكل فكان بمنزلة الرسول وكذلك إن زوجه بغير أمره فأجازه بالقول حنث لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وعن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يحنث لأن في أصل العقد العاقد ليسب معبر عنه إذا لم يكن مأمورا به من جهته والإجازة ليست بعقد ألا ترى أن ما هو شرط النكاح وهو الشهود لا يشترط عند الإجازة فلهذا لا يحنث وفي الإجازة بالفعل اختلاف المشايخ.(9/14)
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أنه لا يحنث لأن عقد النكاح يختص بالقول حتى لا ينعقد بالفعل بحال ولا يمكن أن يجعل المجيز بالفعل عاقدا حقيقة ولا حكما إنما يكون راضيا وشرط حنثه العقد دون الرضا وإن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق إن كلمت فلانا فتزوج امرأة قبل الكلام وأخرى بعده تطلق التي تزوج قبل الكلام خاصة لما بينا أن التزوج شرط والطلاق جزاء معلق بالكلام وذلك يتحقق في التي تزوجها قبل الكلام دون التي يتزوجها بعد الكلام لأنها لو طلقت طلقت بنفس التزوج وذلك لم يكن جزاء شرطه وفيه اختلاف زفر رحمه الله تعالى وقد بيناه في الجامع وبينا هناك الفرق بين ما إذا وقت يمينه فقال إلى ثلثين سنة وبين ما إذا لم يوقت وبينما إذا قدم الشرط أو أخر وقال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فإنما تطلق بهذا اللفظ التي تزوجها بعد الكلام وقت يمينه أو لم يوقت وإذا حلف لا يبيع لرجل شيئا قد سماه بعينه فباعه لآخر طلبه إليه لم يحنث وكذلك الشراء لأن معنى قوله لا أبيع لفلان أي لأجل فلان وما باع لأجله حين أمره به غيره وإنما باعه لأجل من أمر به بخلاف ما لو قال لا أبيع ثوبا لفلان لأن معنى هذا الكلام لا أبيع ثوبا هو مملوك لفلان وقد وجد ذلك وإن أمره به غيره وإيضاح هذا الفرق في الجامع وإن حلف لا يهب لفلان هبة فوهب ولم يقبل فلان أو قبل ولم يقبض فهو حانث عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحنث لأن الهبة عقد تمليك كالبيع وفي البيع لا يحنث ما لم يقبل المشتري لأن الملك لا يحصل قبل قبوله فكذلك في الهبة ولهذا قال زفر رحمه الله تعالى في البيع لو باعه بيعا فاسدا لم يحنث حتى يقبضه المشتري ولكنا نقول الهبة تبرع وذلك يتم في جانب المتبرع بفعله لأنه إيجاب لا يقابله استيجاب وذلك يتم بالموجب في حقه كالإقرار بخلاف البيع فإنه معاوضة وإيجاب يقابله استيجاب والدليل عليه العرف فإن الرجل يقول وهبت لفلان فرد على هبتي وأهديت إليه فرد على(9/15)
هديتي وكذلك كل عقد هو تبرع كالصدقة والقرض حتى لو حلف لا يقرض فلانا شيئا فأقرضه ولم يقبل حنث إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في القرض لا يحنث كما في البيع فإن القرض عقد ضمان فإنه يوجب ضمان المثل على المستقرض وذلك لا(9/16)
ص -10- ... يحصل إلا بقبضة وعلى هذه الرواية يفرق أبو يوسف رحمه الله تعالى بين هذا وبين ما إذا حلف لا يستقرض فإنه يحنث إذا طلب القرض من آخر وإن لم يقرضه لأن السين في قوله استقرضت لمعنى السؤال فإنما شرط حنثه طلب القرض وقد وجد بخلاف ما لو حلف لا يقرض أو حلف لا يهب فأمر غيره حتى فعل حنث وكذلك لو حلف لا يكسوه أو لا يحمله على دابة لأن هذا من العقود التي لا تتعلق الحقوق فيها بالعاقد ألا ترى أنه يقال كسا الأمير فلانا وإنما أمر غيره به وإن حلف ليضر بن عبده أو ليخيطن ثوبه أو ليبنين داره فأمر غيره ففعل بر في يمينه لأنه هو الفاعل لذلك وإن أمر غيره به فإن في العرف يقال ابني فلان دارا أو خاط فلان ثوبا على معنى أنه أمر غيره به وإن لم يكن هو بناء ولا خياطا إلا أن يكون عنى أن يبنيه بيده فحينئذ المنوى حقيقة فعله وفيه تشديد عليه وكذلك كل شيء يحسن فيه أن يقول فعلته وقد فعل وكيله ولو حلف على حر ليضربنه فأمر غيره فضربه لم يبر حتى يضربه بيده لأنه لا ولاية له على الحر فلا يعتبر أمره فيه ألا ترى أنه لا يثبت للضارب حل الضرب باعتبار أمرة بخلاف العبد فإنه مملوك له عليه ولاية فأمر غيره بضربه معتبر ألا ترى أن الضارب يستفيد به حل الضرب ولأن العادة الظاهرة أن الإنسان يترفع من ضرب عبده بيده وإنما يأمر به غيره فعرفنا أن ذلك مقصوده ولا يوجد مثله في حق الحر إلا أن يكون الحالف السلطان أو القاضي فحينئذ يبر إذا أمر غيره بضربه لأنه لا يباشر الضرب بنفسه عادة وضرب الغير بأمره يضاف إليه فيقال الأمير اليوم ضرب فلانا وضرب القاضي فلانا الحد إلا أن ينوي أن يضربه بيده فحينئذ نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته ويدين في القضاء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب اليمين في الخدمة(9/17)
قال رضي الله تعالى عنه: وإذا حلف الرجل لا يستخدم خادما قد كانت تخدمه قبل ذلك ولا نية له فجعلت الخادم تخدمه من غير أن يأمرها حنث لأنه يستخدمها باستدامة ملكه فيها فإنه إنما اشتراها للخدمة فما دام مستديما للملك فيها فهو دليل استخدامها ولأنها كانت تخدمه قبل اليمين باستخدام كان منه فإذا جعلت تخدمه على حالها ولم ينهها فهو مستخدم لها بما سبق منه حتى لو نهاها ثم خدمته لم يحنث لأنه بالنهى قد انقطع حكم الاستخدام السابق ولأن إدامة الملك دليل الاستخدام ولا معتبر بالفعل بعد التصريح بخلافه ولو حلف على خادم لا يملكها أن لا يستخدمها فخدمته بغير أمره لم يحنث لانعدام الاستخدام صريحا ودلالة فإنه ليس بمالك ليكون طالبا خدمتها باستدامة ذلك الملك أو ليجعل الاستخدام السابق باعتباره قائما وإن كان حلف أن لا تخدمه حنث لأنه عقد اليمين على فعل الخادم وقد تحقق منه ذلك سواء كان بأمره أو بغير أمره بخلاف الأول فإنه عقد اليمين على فعل نفسه لأن الاستخدام طلب الخدمة وكل شيء من عمل بيته فإنه خدمته لأن الإنسان إنما يتخذ الخادم لذلك وكذلك لو سألها وضوء أو شرابا أو أشار أو أومأ إليها بذلك فقد استخدمها لأن الاستخدام بالإيماء والإشارة ظاهر ممن ترفع عن أن يخاطب خدمه بالكلام وكذلك لو(9/18)
ص -11- ... حلف أن لا يستعين بها فأشار إليها بشيء من ذلك حنث إن أعانته أو لم تعنه لأن الاستعانة طلب الإعانة وقد تحقق منه إلا أن يكون نوى أن تفعله فلا يحنث حينئذ حتى تعينه لأن المقصود هو الإعانة دون الاستعانة فإذا ذكر السبب وعنى به ما هو المقصود عملت نيته فإذا حلف لا يخدمه خادم فلان فجلس على مائدة مع قوم يطعمون وذلك الخادم يقوم في طعامهم وشرابهم حنث لأنه قد خدم كل واحد منهم فوجد به شرط الحنث في حق الحالف بدليل حديث أنس رضي الله عنه كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرؤس مضطربات الثدي وإن كان حلف أن لا يستخدمها لم يحنث لأنه عقد اليمين على فعل نفسه ولم يوجد منه حقيقة ولا حكما لأنها غير مملوكة له وسواء في ذلك إذا استخدم غلاما أو جارية صغيرا كان أو كبيرا لأن اسم الخادم يتناولهما والاستخدام يتحقق منهما وهو متعارف أيضا فلهذا حنث في ذلك كله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب اليمين في الركوب(9/19)
قال رضي الله عنه: وإذا حلف لا يركب دابة فركب حمارا أو فرسا أو برذونا أو بغلا حنث وكذلك إن ركب غيرها من الدواب كالبعير والفيل لأن اسم الدابة يتناوله حقيقة وعرفا فإن الدابة ما يدب على الأرض قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [هود: 6] الآية وفي الاستحسان لا يحنث لعلمنا أنه لم يرد التعميم في كل ما يدب على الأرض وقد وقع يمينه على فعل الركوب فيتناول ما يركب من الدواب في غالب البلدان وهو الخيل والبغال والحمير وقد تأيد ذلك بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وإنما ذكر الركوب في هذه الأنواع الثلاثة فأما في الأنعام ذكر منفعة الأكل بقوله {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل:5] وبأن كان يركب الفيل والبعير في بعض الأوقات فذلك لا يدل على أن اليمين يتناوله ألا ترى أن البقر والجاموس يركب في بعض المواضع ثم لا يفهم أحد من قول القائل فلان ركب دابة البقر إلا أن ينوي جميع ذلك فيكون على ما نوي لأنه نوي حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه وإن عني الخيل وحده لم يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإن قال لا أركب وعنى الخيل وحدها لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن في لفظه فعل الركوب والخيل ليس بمذكور ونية التخصيص تصح في الملفوظ دون ما لا لفظ له وإن حلف لا يركب فرسا فركب برذونا لم يحنث وكذلك إن حلف لا يركب برذونا فركب فرسا لم يحنث لأن البرذون فرس العجم والفرس اسم العربي فهو كما لو حلف لا يكلم عربيا فكلم عجميا أو على عكس هذا لم يحنث وإن حلف لا يركب شيئا من الخيل فركب فرسا أو برذونا حنث لأن اسم الخيل يجمع الكل قال الله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [ الأنفال:60] الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" ولهذا يستحق الغازي السهم بالبرذون والفرس جميعا وإن حلف لا يركب دابة فحمل(9/20)
عليها مكرها لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعله في الركوب وهو ما ركبها بل حمل عليها مكرها ألا ترى أن(9/21)
ص -12- ... الحمل يتحقق فيما يستحيل نسبة الفعل إليه كالجمادات وإن ركب دابة عريانا أو بسرج أو إكاف حنث لأنه ركبها والركوب بهذه الأوصاف معتاد وإن حلف لا يركب دابة لفلان فركب دابة لعبده ولا دين عليه لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى إلا أن ينويها وفي قول محمد رحمه الله تعالى هو حانث لأنه عقد يمينه على دابة هي مملوكة لفلان فإن اللام دليل على الملك وكسب العبد مملوك لمولاه فيكون حانثا به وكونها في يد عبده ككونها في يد أجيره وهما يقولان عقد يمينه على دابة هي منسوبة إلى فلان وهذه منسوبة إلى العبد حقيقة من حيث أنه اكتسبها وعرفا من حيث أنه يقال دابة عبد فلان وشرعا فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع عبدا وله مال.." فقد أضاف المال إلى العبد فلا يحنث به إلا أن ينويه وهو نظير ما تقدم في قوله لا أدخل دارا لفلان أن المعتبر هو النسبة بالسكنى دون الملك فهذا مثله ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان على العبد دين يحيط بكسبه وبرقبته لم يحنث وإن نواها لأن من أصله أن المولى لا يملك كسب عبده المديون بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين فإن هناك إذا نواها يحنث لأنه نوى إضافة الملك وهو مملوك له(9/22)
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى سواء كان عليه دين أو لم يكن عليه دين فإن نواها يحنث لأن عنده استغراق كسب العبد بالدين لا يمنع ملك المولى وعند محمد يحنث على كل حال لأن المعتبر عنده إضافة الملك واستغراق كسب العبد بالدين يمنع ملك المولى وإن ركب دابة لمكاتب فلان لم يحنث وكذلك الدار والثوب لأنه إن اعتبر إضافة الملك فكسب المكاتب غير مملوك ما بقى مكاتبا وإن اعتبر إضافة النسبة فهي منسوبة إلى المكاتب دون المولى وإن حلف لا يركب مركبا ولا نية له فركب سفينة أو محملا أو دابة حنث لأنه ذكر المركب هنا وكل هذا مركب والمركب ما يركب ومن حيث العرف تسمى السفينة مركبا وكذلك شرعا قال الله تعالى: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] وقال: {ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] وإن حلف لا يركب بهذا السرج فزاد فيه شيئا أو نقص منه حنث لأنه ذلك السرج الذي عينه وقد ركب به والنقصان والزيادة في شيء لا يبدل أصله ولو بدل السرج نفسه وترك اللبد والصفة لم يحنث لأن اسم السرج للحنا أصل واللبد والصفة وصف فيه والمعتبر هو الأصل دون الوصف وهذا لأن الذي يدعوه إلى اليمين ضيق السرج وسعته وذلك يتبدل بتبدل الحنا دون اللبد والصفة وإذا حلف بالله ماله مال وله دين على مفلس أو على ملى وليس له غيره لم يحنث لأن الدين ليس بمال حقيقة فالمال ما يتمول وتمول ما في الذمة لا يتحقق والمال ما يتوصل به إلى قضاء الحوائج وما في الذمة باعتبار عينه غير صالح لذلك بل باعتبار ما له وهو بالقبض والمقبوض عين وكذلك إن كان رجل قد غصبه مالا فاستهلكه وأقر به أو جحده وهو قائم بعينه لم يحنث أما إذا استهلكه فقد صار دينا في ذمته وأما إذا كان قائما بعينه إذا كان جاحدا له فهو تاو في حق الحالف ألا ترى أنه لا يلزمه الزكاة باعتباره ولا يحرم عليه الصدقة باعتباره والتأوى لا يمكن تموله فلا يعد ذلك مالا له ولو كانت له وديعة عند إنسان حنث لأن الوديعة عين ماله ويد مودعه(9/23)
كيده ألا ترى أنه(9/24)
ص -13- ... يتمكن من استردادها متى شاء وأنه تنفذ تصرفاته فيها مطلقا ولم يذكر المغصوب إذا كان قائما بعينه والغاصب مقر به قيل هنا يحنث لأنه متمكن من استردادها بقوة السلطان لما كان الغاصب مقرا به وتصرفه فيه ينفذ فهو كالوديعة وقيل لا يحنث لأن الغاصب إذا كان قاهرا فالظاهر أنه لا يتمكن من الاسترداد عنه وإن كان مقرا وفي العرف إذا صودر رجل يقال له قد افتقر ولم يبق له مال وإن كان من صادره مقرا وفي باب الأيمان العرف معتبر وإن كانت عنده فضة أو ذهب قليل أو كثير حنث لأن النقد مال على كل حال ألا ترى أن زكاة المال تجب في النقود باعتبار العين إلا أن اعتبار النصاب هناك لإثبات صفة الغني للمالك بها أما هنا اسم المال يتناول القليل والكثير وكذلك مال التجارة والسائمة كان ذلك مالا حقيقة وشرعا حتى تجب الزكاة فيها وإن نوى الفضة والذهب خاصة لم يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإن كان له عروض أو حيوان غير السائمة لم يحنث وفي القياس يحنث لأن ذلك مال ألا ترى أن الوصية تتناول ذلك كله ولكنه استحسن فقال ليس ذلك بمال شرعا وعرفا حتى لا تجب الزكاة فيها ولا يعد صاحبها متمولا بها والأيمان مبنية على العرف والعادة وإن لم يكن له مال وكان له عبد له مال لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويحنث في قول محمد رحمه الله تعالى وهذا ومسألة الدابة سواء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الوقت في اليمين(9/25)
قال رضي الله عنه: وإذا حلف الرجل ليعطين فلانا حقه إذا صلى الأولى فله وقت الظهر إلى آخره لأن المراد بذكر الصلاة الوقت والأولى هي الظهر في لسان الناس فلا يحنث ما لم يخرج وقت الظهر قبل أن يعطيه وإن حلف ليعطيه كل شهر درهما ولا نية له وقد حلف في أول الشهر فهذا الشهر يدخل في يمينه وينبغي أن يعطيه فيه درهما قبل أن يخرج وكذلك لو حلف في آخر الشهر ألا ترى أنه لو حلف ليعطينه في الشهر كان عليه أن يعطيه قبل أن يهل الهلال سواء كان في أول الشهر أو آخره وكذلك لو قال في كل شهر لأن الشهر الذي فيه أقرب الشهور إليه ألا ترى أنه لو قال في كل يوم كان اليوم الذي حلف فيه داخلا في الجملة فكذلك إذا قال في كل شهر وكذلك لو كان المال عليه نجوما عند انسلاخ كل شهر فحلف ليعطينه النجوم في كل شهر كان له ذلك الشهر الذي حل فيه النجم فمتى أعطاه في آخر ذلك الشهر فقد بر لأنه جعل شرط البر إعطاء كل نجم بعد حلوله في الشهر والشهر اسم لجزء من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل الهلال فإذا أعطاه في ذلك أو في آخره فقد تم شرط بره ولو حلف ليعطينه عاجلا ولا نية له فالعاجل قبل أن يمضي الشهر لأن الآجال في العادة تقدر بالشهور وأدنى ذلك شهر فما دونه في حكم العاجل وكذلك لو حلف لا يكلم فلانا عاجلا فإن كان يعنى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية فإذا كلمه بعد شهر لم يحنث وكذلك إذا قال مليا فالمراد به البعيد قال تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم: 46] وإن كان يعني(9/26)
ص -14- ... شيئا فهو على ما نوى وإلا كان على الشهر فصاعدا لأن البعيد والأجل سواء وإن حلف ليعطينه في أول الشهر الداخل فيه فله أن يعطيه قبل أن يمضى منه نصفه وإن مضى منه نصفه قبل أن يعطيه حنث لأن للشهر أولا وآخرا فأوله عند الإطلاق يتناول النصف الأول والآخر منه يتناول النصف الآخر
وعلى هذا روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لو قال والله لا أكلمه آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخر الشهر أن يمينه يتناول الخامس عشر والسادس عشر وإن حلف لا يعطيه ماله عليه حينا فأعطاه قبل ستة أشهر حنث لأن الحين قد يذكر بمعنى الساعة قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] والمراد وقت الصلاة ويذكر بمعني أربعين سنة قال الله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [ الإنسان: 1]ويذكر بمعنى ستة أشهر كما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تأويل قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] أنه ستة أشهر من حين يخرج الطلع إلى أن يدرك التمر فعند الإطلاق يحمل على الوسط من ذلك فإن خير الأمور أوسطها ولأنا نعلم أنه لم يرد به الساعة فإنه إذا قصد المماطلة ساعة واحدة لا يحلف على ذلك ويعلم أنه لم يرد أربعين سنة فإنه إذا أراد ذلك يقول أبدا فعرفنا أن المراد ستة أشهر والزمان في هذا كالحين لأنهما يستعملان استعمالا واحدا فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ حين لم ألقك منذ زمان ويستوي إن كان ذكره معرفا بالألف واللام أو منكرا لأن ستة أشهر لما صار معهودا في الحين والزمان فالمعرف ينصرف إلى المعهود وكذلك الدهر في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا أدري مالدهر من أصحابنا من يقول هذا الاختلاف فيما إذا ذكره منكرا وقال دهرا فأما إذا ذكره معرفا فذلك على جميع العمر قال الله تعالى {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}(9/27)
[الإنسان: 1] فقد جعل الحين من الدهر جزء فيبعدان يسوى بينهما في التقدير ومنهم من قال إن الخلاف في الكل واحد وهما يقولان الدهر في العرف يستعمل استعمال الحين والزمان فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ دهر لم ألقك منذ حين وفي ألفاظ اليمين المعتبر هو العرف وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول قد علمت بالنص أن الحين بعض الدهر ولم أجد في تقدير الدهر شيئا نصا ونصب المقادير بالرأي لا يكون وإنما يعتبر العرف فيما لم يرد نص بخلافه فلهذا توقف ولا عيب عليه في ذلك ألا ترى أن بن عمر رضي الله عنه لما سئل عن شيء فقال لا أدري حين لم يحضره جواب ثم قال طوبي لابن عمر سئل عما لا يدري فقال لا أدري وقيل إنما قال لا أدري لأنه حفظ لسانه عن الكلام في معني الدهر فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" معناه أنه خالق الدهر وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما يؤثر عن ربه استقرضت من عبدي فأبي أن يقرضني وهو يسبني ولا يدري فسب الدهر ويقول وادهراه وإنما أنا الدهر حديث فيه طول فلهذه الآثار الظاهرة حفظ لسانه وقال لا أدري ما الدهر وهو كما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن خير البقاع فقال "لا أدري حتى(9/28)
ص -15- ... أسأل جبريل فسأل جبريل فقال لا أدري حتى أسأل ربي فصعد إلى السماء ثم نزل وقال سألت ربي عن ذلك فقال خير البقاع المساجد وخير أهلها من يكون أول الناس دخولا وآخرهم خروجا" فعرفنا أن التوقف في مثل هذا يكون من الكمال لا من النقصان وإن حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رضوان الله عليهم أجمعين على سبعة أيام لأن الألف واللام للمعهود فيما فيه معهود والمعهود في الأيام السبعة التي تدور عليها الشهور والسنين كلما دارت عادت وفي الشهور اثني عشر شهرا وليس في السنين معهود فيستغرق العمر وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الألف واللام للكثرة فكأنه قال أياما كثيرة وأكثر ما يتناوله اسم الأيام مقرونا بالعدد العشرة لأنه يقال بعده أحد عشر يوما وكذلك في الشهور والسنين فينصرف يمينه إلى العشرة مما سمي وإن قال أياما ولا نية له على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو على ثلاثة أيام لأنه ذكر لفظ الجمع وأدني ما يطلق عليه اسم الجمع المتفق عليه ثلاثة وكذلك قول أبي حنيفة على ما ذكره في الجامع الكبير وهو الصحيح وذكر هنا أن على قوله يكون على عشرة أيام سواء قال أياما أو قال الأيام وأكثر مشايخنا على أن هذا غلط والصحيح ما ذكره في الجامع وقد بيناه ثمة وإن حلف ليعطينه غدا في أول النهار فإذا أعطاه قبل أن ينتصف النهار بر لما بينا أن للنهار أولا وآخرا كما للشهر وإن حلف ليعطينه مع حل المال أو عند حله أو حين يحل المال أو حيث يحل ولا نية له فهذا يعطيه ساعة يحل فإن أخره أكثر من ذلك حنث لأن مع للضم وعند للقرب وحين في مثل هذا الموضع يراد به الساعة عادة فكأنه حلف ليعطينه ساعة يحل فإذا أخره من ذلك حنث وإن حلف لا يضرب عبده فوجأه أو خنقه أو قرصه أو مد شعره أو عضه حنث لأن الضرب فعل موجع على قصد الاستخفاف أو التأديب وهذا كله موجع موصل الألم إلى قلبه فكان ضربا وكذلك من حيث(9/29)
العادة القاصد إلى ضرب عبده إنما يقصد ما يقدر عليه من هذه الأفعال ويسمى فعله ضربا ومن يعاينه يفعل ذلك يسميه ضاربا عبده ولو حلف ليضربنه مائة سوط فضربه مائة سوط وخفف بر لأن شرط بره أصل الضرب دون نهايته والخفيف كالضرب الشديد ومطلق الاسم لا يتناول نهاية الشيء وإن جمعها جماعة ثم ضربه بها لم يبر لأنه إنما يكون ضاربا له بما يصل إلى بدنه والواصل إلى بدنه بعض السياط حين جمع الكل جمعا فلهذا لا يبر ولو ضربه بسوط واحد له شعبتان خمسين ووقعت عليه الشعبتان بر لأن كل شعبة سوط واقع على بدنه ضربا فيصير بكل إيقاع ضاربا له سوطين فإذا ضربه خمسين فقد ضربه مائة سوط وهو شرط بره ألا ترى أن الإمام يصير مقيما حد الزنى بهذا المقدار فكذلك الحالف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب البشارة
قال رضي الله عنه: وإذا قال أي غلماني بشرني بكذا فهو حر فبشره بذلك واحد ثم آخر عنق الأول دون الثاني لأن الأول بشير والآخر مخبر فإن البشير من يخبره بما غاب عنه علمه(9/30)
ص -16- ... فتتغير عند سماعه بشرة وجهه وإنما وجد هذا من الأول دون الثاني وإن بشروه معا عتقوا لأن كل واحد منهم أخبره بما غاب عنه علمه فالعلم بالمخبر به يتعقب الخبر ولا يقترن به.
والدليل على أن البشارة تتحقق من الجماعة قوله تعالى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ولو بعث أحد غلمانه مع رجل بالبشارة فقال إن غلامك يبشرك بكذا عتق لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فالبشير هو المرسل والرسول مبلغ قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 39] وإنما سمعت من رسل الله صلوات الله عليهم وهم الملائكة ثم كان بشارة من الله تعالى لها وكذلك لو كتب به إليه كتابا لأن البيان بالكتاب كالبيان باللسان فإن قال نويت المشافهة لم يعتق لأنه نوى حقيقة كلامه فإن البشارة إنما تكون حقيقة منه إذا سمعه بعبارته وإذا قال أي غلماني أخبرني بكذا فالأول والثاني والكاتب والمرسل يعتقون جميعا لأن الخبر متحقق منهم فقد يخبر المرء بما هو معلوم له كما يخبر بما غاب عنه علمه إلا أن يعني المشافهة فتعمل نيته لأنه حقيقة كلامه وقع في بعض نسخ الأصل التسوية بين الإخبار والإعلام والمراد أن الإعلام يحصل بالكتاب والرسول كالإخبار فأما الأعلام لا يكون من الثاني بعد الأول لأن الإعلام إيقاع العلم بالخبر وذلك لا يتكرر بخلاف الأخبار ألا ترى أن الرجل يقول أخبرني بهذا غير واحد ولا يقول أعلمني غير واحد وإذا قال أي غلماني حدثني فهو على المشافهة بمنزلة قوله كلمني ألا ترى أنا نقول أخبرنا الله بكذا بكتابه أو على لسان رسوله ولا نقول حدثنا الله ولا كلمنا الله وإن حلف إن علم بمكان فلان ليخبرنك به ثم علما جميعا فلا بد من أن يخبره ليبر لأن الأخبار يتحقق وإن كان المخبر به معلوما له ولو قال ليعلمنك به لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو حانث في قول أبي يوسف رحمه الله لأنهما إذا(9/31)
علما جميعا به فما هو شرط بره وهو الإعلام فائت فهو بمنزلة قوله لأشربن الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه وإن قال يوم أفعل كذا فعبده حر ففعله ليلا عتق لأن اليوم يذكر بمعني الوقت قال الله تعالى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً} [الأنفال: 16] والرجل يقول انتظر يوم فلان ويذكر والمراد بياض النهار فقلنا إذا قرن به ما يمتد كالصوم علم أن المراد به بياض النهار وإذا قرن به ما لا يمتد فالمراد به الوقت وإنما قرن بذكر اليوم هنا فعلا لا يمتد فكان بمعنى الوقت وإن قال نويت النهار دون الليل دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه وهي حقيقة مستعملة وإن قال ليلة أفعل كذا فهو على الليل خاصة لأن الليل ضد النهار قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] وكما أن النهار مختص بزمان الضياء فالليل مختص بزمان الظلمة والسواد وإن حلف لا يبيت في مكان كذا فأقام فيه ولم ينم حنث لأن البيتوتة هو المكث والقرار بالليل في مكان ولهذا يسمى الموضع الذي يكون المرء فيه بالليل مبيتا واللفظ لا يدل على النوم واليقظة فيحنث نام أو لم ينم إلا أن يعنى النوم فيكون على ما نوى لأنه نوى التخصيص في لفظه والعرف والاستعمال يشهد له وكذلك إن أقام فيه أكثر من نصف الليل وإن أقام فيه أقل من نصف الليل لم يحنث لأن(9/32)
ص -17- ... الإنسان قد يكون في بعض الليل في غير منزله ثم يرجع إلى منزله وإذا سئل أين بات قال في منزلي ولأن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع للأكثر فإذا أقام فيه أكثر من نصف الليل فكأنه أقام فيه جميع الليل فيحنث وإن حلف لا يظله ظل بيت فدخل بيتا حنث لأن هذا للفظ عبارة عن الدخول في عرف الناس فإنه إنما يظله ظل البيت إذا دخل تحت سقفه وإن أقام في ظله خارجا لم يحنث إلا أن ينوى ذلك لأن لفظه عبارة عن الدخول لغلبة الاستعمال ولم يوجد ذلك وإن حلف لا يأويه بيت فآواه بيت ساعة من الليل أو النهار ثم خرج لم يحنث حتى يكون فيه أكثر من نصف الليل أو النهار في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول لأن الإيواء والبيتوتة تتقارب في الاستعمال إلا أن البيتوتة تستعمل في الليل خاصة يقال بات فلان يفعل كذا إذا فعل ليلا وظل يفعل كذا إذا فعله نهارا فأما الإيواء يستعمل فيهما ثم البيتوتة لا تكون إلا في أكثر من نصف الليل فكذلك الإيواء لا يكون إلا في أكثر من نصف الليل أو النهار ثم رجع وقال إذا دخل ساعة حنث وهو قول محمد رحمه الله تعالى لأن الإيواء بالحصول في مكان قال الله تعالى {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} [هود: 43] أي ألتجئ إليه فأكون فيه وقال أبو سعيد الخدري لابن عباس رضي الله عنهم لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول أي لا أجتمع معك وقال عليه الصلاة والسلام "ما آواه الحرز ففيه القطع" فإذا آواه الحرز أي حصل فيه فإذا دخل البيت ساعة فقد وجد الإيواء فيحنث ولو أدخل إحدى قدميه لم يحنث لأنه ما حصل في البيت بإدخال إحدى القدمين وكذلك إن أدخل جسده وهو قائم ولم يدخل رجليه لم يحنث لأن اعتماد القائم على رجليه والجسد تبع للرجلين فإذا لم يدخلهما لم يكن حاصلا في البيت فلا يحنث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب اليمين في الكفالة(9/33)
قال وإذا حلف لا يكفل بكفالة فكفل بنفس حر أو عبد أو ثوب أو دابة أو بدرك في بيع فهو حانث لأن الكفالة التزام المطالبة بما على الغير من تسليم مال أو نفس وقد تحقق ذلك منه ويسمى به في الناس كفيلا والمتحرز من الكفالة يكون ممتنعا من ذلك فيحنث والضمان والقبالة قياس الكفالة لأن الكل يستعمل استعمالا واحدا وإذا حلف لا يكفل عن إنسان بشيء فكفل بنفس رجل لم يحنث لأن صلة عن لا تستعمل إلا في الكفالة بالمال فأما الصلة في الكفالة بالنفس الباءي قال كفل بنفس فلان وكفل عن فلان بكذا من المال وإن حلف لا يكفل عنه بشيء فاشترى له بأمره شيئا لم يحنث لأن الكفالة التزام المطالبة بما على الغير والثمن بالشراء هنا في ذمة الوكيل دون الموكل فلا يكون الوكيل كفيلا عن الموكل بل يكون هو في حقه بمنزلة البائع ولهذا طالبه بالثمن وإن أبرأه البائع عنه وحبس المبيع عنه إلى أن يستوفي الثمن وإن كفل بأمره عن إنسان شيئا لم يحنث لأنه ما التزم عن الآمر شيئا هو عليه وإنما التزم ما على المطلوب ولكن بمسألة الآمر فكان كفيلا عن المطلوب دون الآمر ألا ترى أنه يبرأ ببراءة المطلوب وأنه لا يرجع عند الأداء على الآمر بشيء وإنما يرجع على المطلوب إذا كان(9/34)
ص -18- ... ذلك بسؤاله ولو كان المال على فلان وبه كفيل فأمر فلان الحالف فكفل بها عن كفيله لم يحنث لأن الكفيل غير الأصيل وهو إنما كفل عن الكفيل وشرط حنثه الكفالة عن الأصيل ألا ترى أنه لو بريء الكفيل الأول بريء الكفيل الثاني وإن بقي المال على الأصيل ولو حلف لا يكفل له فكفل لغيره والدراهم أصلها له لم يحنث لأن الكفالة له أن يلتزم مطالبة عليه ولم يوجد ذلك فإن المطالبة إنما تتوجه للمكفول له دون من يملك أصل المال وكذلك لو كفل لعبده لأنه ما التزم المطالبة للمولى إنما التزمها للعبد وإن كان أصل المال للمولى ولا بد من مراعاة لفظ الحالف في بره وحنثه وإن كفل لفلان وأصل الدراهم لغيره حنث لأنه التزم المطالبة لفلان ومتى كان وجوب المال بعقده ففي حكم المطالبة كان الواجب له وإن كان أصل الملك لغيره وإن حلف لا يكفل عنه فضمن عنه حنث لأن الضمان والكفالة تتقارب في الاستعمال كالهبة مع التخلي والعمري وإن كان عني اسم الكفالة أن لا يكفل ولكن يضمن دين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى حقيقة لفظه ولكنه نوى الفصل بين الضمان والكفالة وهذا خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء ولو حلف لا يكفل عن فلان وأحال فلان عليه بماله عليه لم يحنث إذا لم يكن للمحتال له دين على المحيل لأن الكفالة عنه أن يلتزم المطالبة عنه لغيره بما لم يكن عليه قبل الكفالة وذلك لم يوجد هنا إنما وكل فلان المحتال له بقبض دينه من الحالف وذلك لا يكون كفالة عنه للمحتال له وكذلك إن ضمنه له ولو كان للمحتال له على المحيل مال ولم يكن للمحيل مال على المحتال عليه حنث لأنه التزم المطالبة عنه للمحتال له بما لم يكن عليه من قبل والالتزام بقبول الحوالة أبلغ من الالتزام بالكفالة والضمان فإذا كان يحنث هناك فكذلك يحنث هنا لأنه لا فرق بينهما في حق الملتزم إنما الفرق في حق المضمون عنه أن الحوالة توجب براءة الأصيل والكفالة لا توجب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب(9/35)
وإليه المرجع والمآب.
باب اليمين في الكلام وغيره
قال وإذا حلف لا يتكلم اليوم ثم صلى لم يحنث استحسانا وفي القياس يحنث وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأنه بالتسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن متكلم فإن التكلم ليس إلا تحريك اللسان وتصحيح الحروف على وجه يكون مفهوما من العباد وقد وجد ذلك ألا ترى أنه لو أتى به في غير الصلاة كان حانثا فكذلك في الصلاة.
ووجه الاستحسان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا يتكلم في الصلاة" ولا يفهم أحد من هذا ترك القراءة وأذكار الصلاة وكذلك في العرف يقال فلان لم يتكلم في صلاته وإن كان قد أتى بأذكار الصلاة ويقال حرمة الصلاة تمنع الكلام ولا يراد به الأذكار والعرف معتبر في الأيمان فأما إذا قرأ في غير الصلاة أو سبح أو هلل أو كبر يحنث لأنه قد تكلم ألا ترى أنه يقال القرآن كلام الله وأن التكلم لا يتحقق من الأخرس والقراءة والذكر باللسان لا يتحقق من الأخرس فكان كلاما وكذلك لو أنشد شعرا(9/36)
ص -19- ... أو تكلم بأي لسان كان فهو حانث لوجود الشرط ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد فإن كان بحيث لا يسمع صوته لا يحنث وإن كان بحيث يسمع صوته فهو حانث لأنه يكون مكلما فلانا بإيقاع صوته في أذنه فإذا كان من البعد بحيث لا يسمع لم يوجد ذلك وإذا كان بحيث يسمع فقد أوقع صوته في أذنه وإن لم يفهم لتغافله عنه واشتغاله بغيره فيحنث ألا ترى أن الأول يسمى هاذيا والثاني يسمى مناديا له وكذلك لو ناداه وهو نائم فأيقظه حنث وهذا ظاهر وقع في بعض نسخ الأصل فناداه أو أيقظه وهذا إشارة إلى أنه وإن لم ينتبه بندائه فهو حانث لأنه أوقع صوته في أذنه ولكنه لم يفهم لمانع والأظهر أنه لا يحنث لأن النائم كالغائب وإن لم ينتبه كان بمنزلة ما لو ناداه من بعيد بحيث لا يسمع صوته فلا يكون حانثا وإذا انتبه فقد علمنا أنه أسمعه صوته فيكون مكلما له وقيل هو على الخلاف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحنث لأنه يجعل النائم كالمنتبه وعندهما لا يحنث بيانه فيمن رمي سهما إلى صيد فوقع عند نائم حيا ثم لم يدرك ذكاته حتى مات على ما نبينه في كتاب الصيد وإن مر على قوم فسلم عليهم وهو فيهم حنث لأنه مخاطب كل واحد منهم بسلامه إلا أن ينوى القوم دونه فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يكون مكلما له إذا قصد بالخطاب غيره ولكنه لا يدين في القضاء لأنه في الظاهر مخاطب لهم وإن كتب إليه أو أرسل لم يحنث لما بينا أن الكلام لا يكون إلا مشافهة ألا ترى أن أحدا منا لا يستجيز أن يقول كلمني الله وقد أتانا كتابه ورسوله وإنما يقال كلم الله موسى تكليما لأنه اسمعه كلامه بلا واسطة وكذلك لو أومى أو أشار لم يحنث لأن الكلام ما لا يتحقق من الأخرس والإيماء والإشارة يتحقق منه فلا يكون كلاما وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال سألني هارون عمن حلف لا يكتب إلى فلان فأمر أن يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث فقلت نعم إذا كان مثلك يا أمير المؤمنين وهذا(9/37)
صحيح لأن السلطان لا يكتب بنفسه عادة إنما يأمر به غيره ومن عادتهم الأمر بالإيماء والإشارة وعن ابن سماعة قال سألت محمدا عمن حلف لا يقرأ كتابا لفلان فنظر فيه حتى فهمه ولم يقرأه فقال سأل هارون أبا يوسف رحمه الله تعالى عن هذا وكان قد ابتلى بشيء منه فقال لا يحنث وأنا بريء من ذلك ثم ندم وقال أما أنا فلا أقول فيه شيئا وذكر هشام وابن رستم عن محمد رحمهم الله تعالى أنه يحنث لأن المقصود الوقوف على ما فيه لا عين القراءة وفي الأيمان يعتبر المقصود.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن اللفظ مراعى ولفظه القراءة والنظر والتفكر ليفهم لا يكون قراءة ألا ترى أنه لا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة وإن قال لا أكلم مولاك وله موليان أعلى وأسفل ولا نية له حنث بأيهما كلم وكذلك لو قال لا أكلم جدك وله جدان من قبل أبيه وأمه لأن هذا اسم مشترك والأسماء المشتركة في موضع النفي تعم لأن معنى النفي لا يتحقق بدون التعميم وهو بمنزلة النكرة تعم في موضع النفي دون الإثبات وهذا إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الوصية لمولاه وقد بينا تمام هذا الفرق في الجامع وإن حلف(9/38)
ص -20- ... لا يفارق غريمه حتى يستوفى ماله عليه فلزمه ثم فر منه الغريم لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه في المفارقة وهو ما فارق غريمه إنما الغريم هو الذي فارقه وكذلك لو كابره حتى انفلت منه لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما في وسعه دون ما ليس في وسعه.
قال: ولو أن المطلوب أحال بالمال على رجل وأبرأه الطالب منه ثم فارقه لم يحنث عند محمد وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يحنث لأن ما جعله غاية وهو استيفاء ماله عليه قد فات حين بريء المطلوب بالحوالة وقد بينا أن فوت الغاية عندهما يسقط اليمين لا إلى حنث خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى كما في قوله لا أكلمك حتى يأذن لي فلان فإن توى المال على المحال عليه ورجع الطالب إلى المطلوب لم يحنث أيضا لأن الحوالة تنفسخ بالتوى ولا يتبين أنها لم تكن وإنما تنفسخ الحوالة في حق حكم يحتمل الفسخ وسقوط اليمين لا يحتمل الفسخ فلهذا لا يعود اليمين بانفساخ الحوالة وإن لم يحل بالمال ولكنه قضاه وفارقه ثم وجده زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا فإن كان الغالب عليه الفضة لم يحنث وإن رده لأنه مستوف بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز بها في الصرف والسلم جازفتم شرط بره ثم انتقض قبضه بالرد فلا ينتقض به حكم البر لأنه لا يحتمل الانتقاض وإن كان الغالب النحاس كالستوقة فهو حانث لأنه ما صار مستوفيا حقه بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز وإن استحق المقبوض من يده لم يحنث لأنه مستوف ألا ترى أنه لو أجازه المستحق بعد الافتراق في الصرف والسلم جاز ثم انتقض قبضه بالاستحقاق بعد حصول الاستيفاء وشرط البر لا يحتمل الانتقاض وإن حلف ليعطينه حقه عن قريب فهو وقوله عاجلا سواء وإن نوى وقتا فهو على ما نوى لأن الدنيا كلها قريب عاجل وإن لم يكن له نية فهو على أقل من شهر استحسانا وقد بينا هذا وإن حلف أن لا يحبس عنه من حقه شيئا ولا نية له فينبغي أن يعطيه ساعة حلف لأن(9/39)
الحبس عبارة عن التأخير فإن لم يؤخره بعد الحلف لم يكن حابسا وإن أخره كان حابسا ولكن الحبس قد يطول ويقصر فإن حاسبه فأعطاه كل شيء له عنده وأقر بذلك الطالب ثم أتاه بعد ذلك بأيام فقال بقي لي عندك كذا من قبل كذا فذكر المطلوب ذلك وقد كان نسيا ذلك جميعا لم يحنث إذا أعطاه ساعتئذ أو قال له خذه لأن الحبس لا يتحقق فيما لا يكون معلوما لهما وبعد التذكر لم يحبسه ولكنه أعطاه بالمناولة أو التخلية بينه وبينه فلهذا لم يحنث وإن حلف لا يقعد على الأرض ولا نية له فقعد على بساط أو غيره لم يحنث لأن القاعد على الأرض من يباشر الأرض من غير أن يكون بينه وبين الأرض ما هو منفصل عنه ولم يوجد ذلك وفي العرف الرجل يقول لغيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض ويقول فلان جالس على الأرض وفلان على البساط والعرف معتبر في الأيمان وإن قعد على الأرض ولباسه بينه وبين الأرض حنث لأنه يسمى في الناس قاعدا على الأرض ولأن الملبوس تبع اللابس فلا يصير حائلا بينه وبين الأرض ولأن الإنسان إنما يمتنع من الجلوس على الأرض لكيلا تضربه وهذا يوجد وإن كان(9/40)
ص -21- ... ذيله بينه وبين الأرض ولا يوجد إذا جلس على بساط وإن حلف لا يمشى على الأرض فمشى عليها بنعل أو خف حنث لأن المشي على الأرض هكذا يكون في العرف وإن مشى على بساط لم يحنث لأنه غير ماش على الأرض ولو مشي على ظهر إجار حافيا أو بنعلين حنث لأن ظهر الإجار يسمى أرضا عرفا فإن من أراد الجلوس عليه يقول له غيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض وإن حلف لا يدخل في الفرات فمر على الجسر أو دخل سفينة لم يحنث وإن دخل الماء حنث لأن في العرف دخول الفرات بالشروع في الماء والجسر والسفينة ما اتخذ للعاجزين عن الشروع في الفرات فعرفنا أن الحاصل على الجسر أو السفينة لا يكون داخلا في الفرات عرفا.
وفي النوادر ولو حلف لا يدخل بغداد فمر في الدجلة في السفينة فهو حانث في قول محمد رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله لا يحنث ما لم يخرج إلى الحد.
قال ولو كان من أهل بغداد فجاء من الموصل في السفينة في دجلة حتى دخل بغداد كان مقيما وإن لم يخرج إلى الحد ومحمد رحمه الله تعالى سوى بينهما ويقول الموضع الذي حصل فيه من بغداد فيكون حانثا كما لو حلف لا يدخل الدار فدخلها راكبا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول مراد الحالف دخول الموضع الذي يتوطن فيه أهل بغداد ولا يوجد ذلك ما لم يخرج إلى الحد فإن قهر الماء يمنع قهر غيره وإن حلف لا يكلم فلانا إلى كذا وكذا فإن نوى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية ولم يسم شيئا فله أن يكلمه بعد ذلك اليوم لأن الكلام كان مطلقا له قبل اليمين فلا يمتنع إلا القدر المتيقن به والمتيقن ذلك اليوم لأنا نعلم أنه إذا كان مراده أقل من يوم لا يحلف على ذلك ولا يقين فيما وراء ذلك فلا يحنث بالشك.
فإن قيل: أليس أنه لو قال لفلان علي كذا وكذا درهما يلزمه أحد وعشرون درهما.(9/41)
قلنا وهنا لو قال كذا وكذا يوما فالجواب كذلك فأما إذا لم يقل يوما فيحتمل أن مراده الساعة واليوم والليلة يشتمل على ساعات كثيرة فلهذا له أن يكلمه بعد ذلك اليوم وإن حلف لا يكلم فلانا إلى قدوم الحاج أو إلى الحصاد فقدم أول قادم كان له أن يكلمه لأن مراده وقت القدوم ووقت الحصاد وقد علمنا بدخول ذلك الوقت فهو كما لو حلف لا يكلمه إلى الغد فكما طلع الفجر من الغد له أن يكلمه ولو حلف لا يؤم الناس فأم بعضهم حنث لأن الناس اسم جنس وقد علمنا أنه لم يرد استغراق الجنس لأن ذلك لا يتحقق فيتناول أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس وإن حلف لا يكلمه حتى الشتاء فجاء أول الشتاء سقطت اليمين وكذلك الصيف وقد بينا الفصول الأربعة في كتاب الطلاق وإن حلف لا يستعير من فلان فاستعار منه حائطا يضع عليه جذوعه حنث لأن الاستعارة طلب العارية وقد تحقق منه بما استعار من حائطه ليضع عليه جذوعه فهو كما لو استعار منه بيتا أو دارا أو دابة ولو سار إليه ضيفا أو دخل عليه فاستقى من بئره لم يحنث لأنه لا يسمى مستعيرا شيئا فإن موضع جلوس الضيف وما جلس عليه في يد المضيف ومن استقي من بئر في دار غيره لا تثبت يده على الرشا(9/42)
ص -22- ... فلا يكون مستعيرا شيئا من ذلك ولو حلف لا يعرف هذا الرجل وهو يعرفه بوجهه دون اسمه لم يحنث لأنه يعرفه من وجه دون وجه فإنه يمكنه أن يشير إليه إذا كان حاضرا ولا يمكنه إحضاره إذا كان غائبا والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا عن رجل فقال "هل تعرفه" فقال نعم فقال "هل تدري ما اسمه" قال لا قال "فإنك إذا لا تعرفه" إلا أن يعني معرفة وجهه فإن عني ذلك فقد شدد الأمر على نفسه واللفظ محتمل لما نوى وهذا إذا كان للمحلوف عليه اسم فإن لم يكن له اسم بأن ولد من رجل فرأى الولد جاره ولكن لم يسم بعد فحلف الجار أنه لا يعرف هذا الولد فهو حانث لأنه يعرف وجهه ويعرف نسبه وليس له اسم خاص ليشترط معرفة ذلك فكان حانثا في يمينه والله أعلم بالصواب.
باب في الاستثناء
قال وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إلا أن يقدم فلان فإن قدم فلان لم تطلق وإن مات قبل أن يقدم طلقت لأن معنى كلامه أنت طالق إن لم يقدم فلان أي إلا أن يقدم فلان فلا تكون طالقا وإنما لا تكون طالقا عند قدوم فلان إذا كان الوقوع متعلقا بشرط عدم القدوم سواء كان الشرط نفيا أو إثباتا فما لم يوجد لا ينزل الجزاء فإن قدم فلان فشرط الوقوع قد انعدم وإذا مات قبل أن يقدم فقد تحقق شرط الوقوع الآن وهذا بخلاف ما لو قال أنت طالق إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان فإنها إن كلمت فلانا قبل القدوم طلقت وإن سبق القدوم لم تطلق بعد ذلك وإن كلمت فلانا يمين لوجود الشرط والجزاء واليمين قابلة للتوقيت فكان قوله إلا أن يقدم فلان توقيت ليمينه بمعنى حتى وإذا كلمت قبل القدوم فقد وجد الشرط واليمين باقية فتطلق وإذا قدم فلان فقد انتهت اليمين بوجود غايتها وإذا كلمت بعد ذلك فقد وجد الشرط ولا يمين فأما في الأول قوله أنت طالق إيقاع لا يحتمل التوقيت فلو جعلنا قوله إلا أن يقدم فلان بمعنى حتى كان لغوا وكلام العاقل مهما أمكن(9/43)
تصحيحه لا يجوز إلغاؤه فجعلناه قوله إلا أن يقدم فلان بمعني الشرط لأن الإيقاع يحتمل التعليق بالشرط ولو قال أنت طالق إلا أن يري فلان غير ذلك فهذا إليه على مجلسه الذي يعلم فيه فإن قام قبل أن يري غيره طلقت لأن معنى كلامه إن لم ير فلان غير ذلك ولو قال إن رأى فلان غير ذلك كان يتوقت بالمجلس عليه فكذلك إذا قال إن لم ير فلان غير ذلك لأنه تمليك للأمر من فلان
وكذلك لو قال إلا أن يشاء فلان غير ذلك أو إلا أن يبدو لفلان غير ذلك وذلك كله بلسانه لأنا لا نقف على ما في ضميره وإنما يعبر عما في قلبه لسانه ولو قال إلا أن أرى غير ذلك أو إلا أن أشاء أو إلا أن يبدو لي فهو إلى الموت لأن في حقه لا يمكن أن يحمل على معنى تمليك الأمر من نفسه فإنه كان مالكا لأمرها فيحمل على حقيقة الشرط وعدم رؤيته غير ذلك بعد موتها يتحقق والحال بعد موتها في حقه كالحال قبله وكذلك قوله أنت طالق إن شاء فلان أو أحب أو رضي أو هوى أو أراد ذلك كله على مجلس علمه به ولو أضاف إلى نفسه فكان على الأبد لأن في حق(9/44)
ص -23- ... الغير يجعل تمليكا للأمر منه فيختص بالمجلس وفي حق نفسه لا يمكن أن يجعل تمليكا فيبقي حقيقة الشرط معتبرا ولو قال إن لم أشأ ثم قال بعد ذلك لا أشاء لا يقع به الطلاق لأن الشرط عدم مشيئة طلاقها في عمره ولم يوجد ذلك بقوله لا أشاء فإنه متمكن من أن يشاء بعد ذلك ولو قال إن أبيت طلاقك أو كرهت طلاقك ثم قال لست أشاء طلاقك وقد أبيته طلقت لأنه جعل الشرط هنا وجود فعل هو إباء منه وقد وجد ذلك بقوله لا أشاء أو بقوله أبيت وفي الأول جعل الشرط عدم المشيئة فكأنه قال إن سكت عن مشيئة طلاقك حتى أموت فلا يصير الشرط موجودا بقوله لا أشاء فلهذا لا تطلق ولو قال إن لم يشأ فلان ذلك فقال فلان لا أشاء طلقت لا بقوله لا أشاء ولكن بخروج المشيئة عن يده فقوله لا أشاء بمنزلة ما لو قام عن المجلس أو أخذ في عمل آخر حتى أنه لو وقت كلامه في حق فلان فقال إن لم يشأ فلان اليوم فقال فلان لا أشاء لم تطلق لأن هذا يتوقت باليوم دون المجلس وبقوله لا أشاء لا تنعدم المشيئة منه في بقية اليوم فلهذا لا تطلق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب اليمين في الأزهار والرياحين
قال رضي الله عنه وإذا حلف لا يشتري بنفسجا فاشترى دهن بنفسج حنث عندنا ولم يحنث عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه يعتبر حقيقة لفظه وما اشترى غير البنفسج لأن المنتقل إلى الدهن رائحة البنفسج لا عينه ولكنا نعتبر العرف فإنه إذا أطلق اسم البنفسج في العرف يراد به الدهن ويسمى بائعه بائع البنفسج فيصير هو بشرائه مشتريا للبنفسج أيضا ولو اشترى ورق البنفسج لم يحنث.(9/45)
وذكر الكرخي في مختصره أنه يحنث أيضا وهذا شيء ينبنى على العرف وفي عرف أهل الكوفة بائع الورق لا يسمي بائع البنفسج وإنما يسمي به بائع الدهن فبنى الجواب في الكتاب على ذلك ثم شاهد الكرخي عرف أهل بغداد أنهم يسمون بائع الورق بائع البنفسج أيضا فقال يحنث به وهكذا في ديارنا ولا يقول اللفظ في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز ولكن فيهما حقيقة أو يحنث فيهما باعتبار عموم المجاز والخيري كالبنفسج فأما الحنا والورد فقال إني أستحسن أن أجعله على الورق والورد إذا لم يكن له نية وإن اشترى دهنهما لم يحنث والقياس في الكل واحد ولكنه بني الاستحسان على العرف وإن الورد والحنا تسمي به العين دون الدهن والبنفسج والخيري يسمى بهما مطلقا والياسمين قياس الورد يسمي به العين فإن الدهن يسمي به زنبقا وإن حلف لا يشتري بزرا فاشتري دهن بزر حنث وإن اشترى الحب لم يحنث لاعتبار العرف الظاهر ولو حلف لا يشتري دهنا فهذا على الدهن الذي يدهن به الناس عادة حتى لو اشترى زيتا أو بزرا لم يحنث ولو حلف لا يدهن فادهن بزيت حنث ولو ادهن بسمن أو بزر لم يحنث والزيت من حيث أنه يلقي فيه الأرايح ويطبخ ثم يدهن به يكون دهنا ومن حيث إنه لا يدهن به كذلك لا يكون دهنا مطلقا فإن كانت يمينه على الشراء لم(9/46)
ص -24- ... يحنث وإذا كانت على الأدهان يحنث به وأما السمن والبزر لا يدهن بهما في العادة بحال ولو حلف لا يشتري بزا فاشترى فروا أو مسحا لم يحنث وكذلك الطيالسة والأكيسة لأن بائع هذه الأشياء لا يسمى بزازا ولا يباع في سوق البزازين أيضا فلا يصير مشتريا البز بشرائها ولو حلف لا يشتري طعاما فاشتري تمرا أو فاكهة حنث في القياس لأن الطعام اسم لما يطعمه الناس والفاكهة والتمر بهذه الصفة ألا ترى أنه لو عقد يمينه على الأكل حنث بهما فكذلك الشراء ولكنه استحسن فقال لا يحنث إلا في الحنطة والخبز والدقيق لأنه عقد يمينه على الشراء والشراء إنما يتم به وبالبائع وما يسمى بائعه بائع الطعام أو يباع في سوق الطعام يصير هو بشرائه مشتريا للطعام وبائع الفاكهة واللحم لايسمى بائع الطعام فلا يصير هو بشرائها مشتريا للطعام أيضا بخلاف الأكل فإنه يتم بالآكل وحد فيعتبر فيه حقيقة الاسم وإن حلف لا يشتري سلاحا فاشترى حديدا غير معمول لم يحنث لأن بائعه لا يسمى بائع السلاح وإنما يسمى حدادا وكذلك يباع في سوق الحدادين ولا يباع في سوق الأسلحة وإن اشتري سكينا لم يحنث أيضا لأن بائعه لا يسمى بائع السلاح وإنما يسمى سكانا وإما إذا اشترى سيفا أو درعا أو قوسا يحنث لأنه سلاح يباع في سوق السلاح وبائعه يسمى بائع السلاح فيصير هو مشتريا السلاح بشرائه.(9/47)
قال وإذا سأل رجل رجلا عن حديث فقال أكان كذا وكذا فقال نعم وسعه أن يقول حدثني فلان بكذا وإن حلف على ذلك كان صادقا لأنه ذكر في جوابه نعم وهو غير مستقل بنفسه فيصير ما تقدم كالمعاد فيه ألا ترى أن من قرأ صكا على غيره وقال أشهد عليك بكذا وكذا فقال نعم وسعه أن يشهد بجميع ذلك عليه. وإن حلف لا يشم طيبا فدهن به لحيته فوجد ريحه لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل منه يسمي شم الطيب ولم يوجد وإنما وصلت رائحة الطيب إلى دماغه فهو كما لو مر على سوق العطارين فدخل رائحة الطيب في أنفه ألا ترى أن المحرم بهذا لا يلزمه شيء وأنه لو ادهن قبل إحرامه ثم وجد ريحه بعد الإحرام لم يلزمه شيء وهو ممنوع من شم الطيب في الإحرام وليس الدهن بطيب إذا لم يجعل فيه طيب إنما الطيب ما يجعل فيه المسك والعنبر ونحوهما لأن الطيب ماله رائحة مستلذة وليس للدهن ذلك إذا لم يكن فيه طيب وإنما يستعمل الدهن لتليين الجلد ودفع اليبوسة لا للطيب إذا لم يكن متطيبا وإن حلف لا يشم دهنا أو لا يدهن فالزيت فيه كغيره من الأدهان وقد بينا الفرق بين هذا والشراء وإن حلف لا يشم ريحانا فشم آسا أو ما أشبه ذلك من الرياحين حنث وإن شم الياسمين أو الورد لم يحنث لأنهما من جملة الأشجار والريحان اسم لما ليس له شجر ألا ترى أن الله تعالى قال {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] قد جعل الريحان غير الشجر عرفنا أن ماله شجر فليس بريحان وإن كان له رائحة مستلذة وكذلك في العرف لا يطلق اسم الريحان على الورد والياسمين وإنما يطلق على ما ينبت من بزره مما لا شجر له وقيل الريحان ما يكون لعينه رائحة مستلذة.(9/48)
ص -25- ... وشجر الورد والياسمين ليس لعينه رائحة إنما الرائحة للورد خاصة فلا يكون من جملة الرياحين.
قال: ولو أن امرأة حلفت أن لا تلبس حليا فلبست خاتم الفضة لم تحنث لأن الرجل ممنوع من استعمال الحلي وله أن يلبس خاتم الفضة فعرفنا أنه ليس بحلى وقيل هذا إذا كان مصوغا على هيئة خاتم الرجال فأما إذا كان على هيئة خاتم النساء مما له فصوص فهو من الحلى لأنه يستعمل استعمال الحلى للتزين به والسوار والخلخال والقلادة والقرط من الحلى لأنها تستعمل استعمال الحلى للتزين بها حتى يختص بلبسها من يلبس الحلى والله تعالى وعد ذلك لأهل الجنة بقوله {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] فأما اللؤلؤ عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يكون حليا إلا أن يكون مرصعا بالذهب والفضة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو حلى لقوله تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج:23] ولقوله {وََتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وكذلك من حيث العرف يستعمل ذلك استعمال الحلي فالمرأة قد تلبس عقد لؤلؤ للتحلي بها ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى شاهد العرف في عصره وأنهم يتحلون باللؤلؤ مرصعا بالذهب أو الفضة ولا يتحلون باللؤلؤ وحده فبنى الجواب على ما شاهده وقد بينا أنه لا تبنى مسائل الأيمان على ألفاظ القرآن ولكن قولهما أظهر وأقرب إلى عرف ديارنا ولو حلف لا يقطع بهذا السكين فكسره فجعل منه سكينا آخر ثم قطع لم يحنث لأنه حين كسره فقد زال الاسم الذي عقد به اليمين فلهذا لا يحنث وقد بينا نظيره في الدار إذا جعلها بستانا ولو حلف لا يتزوج امرأة فتزوج امرأة بغير شهود حنث في القياس لأنه منع نفسه عن أصل العقد والفساد والجواز صفة لا ينعدم أصل العقد بانعدامها كالبيع ألا ترى أنه لو عقد يمينه على الماضي بأن قال ما تزوجت كان على الفاسد والجائز فكذلك في المستقبل.(9/49)
وجه الاستحسان أن المقصود بالنكاح ملك الحل وذلك لا يحصل بالعقد الفاسد كيف وقد نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل العقد بغير شهود حيث قال "لا نكاح إلا بشهود" بخلاف البيع فالمقصود هناك وهو الملك يحصل بالعقد الفاسد إذا تأكد بالقبض وبخلاف ما لو تدبر الكلام في النكاح لأنه في الخبر عن الماضي من النكاح ليس مقصوده الحل والعفة وإنما يمينه في الماضي على مجرد الخبر والخبر يتحقق عن العقد الفاسد والجائز ولو حلف لا يشتري عبدا فاشتراه شراء فاسدا حنث عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يحنث إلا بالقبض لأن القبض في الشراء الفاسد نظير القبول في الشراء الصحيح من حيث أن الملك لا يحصل إلا به ولكنا نقول شرط حنثه العقد وبالإيجاب والقبول ينعقد العقد فاسدا كان أو صحيحا والملك غير معتبر في تحقيق شرط الحنث ألا ترى أنه لو اشتراه بشرط الخيار أو اشتراه لغيره حنث وإن لم يثبت الملك له قال وهذا والنكاح سواء في القياس ولكني أستحسن في البيع وهذا الاستحسان يعود إلى القياس في النكاح وأشار إلى الفرق فقال ألا ترى أنه لو أعتقه بعد(9/50)
ص -26- ... القبض عتق وأنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد فدل أن العقد منعقد هنا غير منعقد هناك
ولو حلف لا يصلى ركعتين فصلاها بغير وضوء ففي القياس يحنث وفي الاستحسان لا يحنث وهذا والنكاح سواء لأن المقصود بالصلاة العبادة ونيل الثواب ولا يحصل ذلك بالصلاة بغير وضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور".
قال: ولو حلف لا يصلى فافتتح الصلاة لم يحنث حتى يصلى ركعة وسجدة استحسانا وفي القياس يحنث لأن شرط حنثه فعل يكون به مصليا وقد حصل ذلك بالتكبير لأنه يسمى في العادة مصليا ويحرم عليه ما يحرم على المصلين ولكنه استحسن فقال الصلاة تشتمل على أركان منها القيام والقراءة والسجود والركوع لأنها عبادة بجميع البدن وكل ركن من هذه الأركان لا يتناوله اسم الصلاة فلا يكون مصليا مطلقا ما لم يأت بأركان الصلاة وإنما يسمى مصليا بعد التكبير مجازا على اعتبار أنه اشتغل بالأركان التي يصير بها مصليا فإذا قيد الركعة بسجدة فقد أتي بأركان الصلاة وما بعد ذلك يكون تكرارا ولا يشترط التكرار في إتمام شرط الحنث وقد بينا في كتاب الصلاة أن القعدة من أسباب التحلل وإن حلف لا يصوم فأصبح صائما ثم أفطر حنث لأن الصوم ركن واحد وهو الإمساك وشرطه النية فلما أصبح ناويا للصوم فقد أتى بما هو ركن الصوم فيتم به شرط حنثه إلا أن يكون قال يوما فحينئذ إذا أفطر قبل الليل لم يحنث لأن شرط حنثه صوم يوم كامل ولا يحصل ذلك إلا بامتداد الإمساك إلى غروب الشمس وإن حلف ليفطرن عند فلان ولا نية له فأفطر على ماء وتعشى عند فلان حنث لأنه جعل شرط بره الفطر عند فلان وقد تعشى عند فلان وما أفطر عنده فالفطر الحكمي بغروب الشمس وحقيقته بوصول المفطر إلى جوفه وقد وجد ذلك قبل أن يأتي فلانا وإن كان نوى حين حلف العشاء لم يحنث لأن الفطر يذكر في العادة والمراد العشاء فإن الرجل يقول أفطرت عند فلان وفلان يفطر عنده جماعة والمراد التعشي وإن حلف لا يتوضأ بكوز(9/51)
فلان فصب فلان عليه الماء من كوزه فتوضأ حنث لأن التوضي بالماء الذي في الكوز لا يغير الكوز وقد وجد ذلك وإن كان الذي يصب عليه الماء من ذلك الكوز غيره وكوز الصفر والأدم وغير ذلك فيه سواء وهذا إذا كان ذلك يسمى كوزا عادة فأما إذا توضأ بإناء لفلان غير الكوز لم يحنث ولو كان فلان هو الذي وضأه وغسل يديه ووجهه لم يحنث لأنه عقد اليمين على فعل نفسه وهو التوضي ولم يوجد وكذلك لو حلف لا يشرب بقدح فلان والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب اليمين في العتق
قال رضي الله عنه: رجل تزوج أمة ثم قال لها إن مات مولاك فأنت طالق اثنتين فمات المولى والزوج وارثه وقع الطلاق عليها ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال محمد رحمه الله لا يقع الطلاق لأن موت المورث سبب لانت قال المال إلى الوارث وذلك مفسد للنكاح وأوان وقوع الطلاق بعد وجود الشرط فيقترن(9/52)
ص -27- ... الطلاق بحال فساد النكاح ولا يقع الطلاق في هذه الحالة كما إذا قال إذا باعك مني فأنت طالق اثنتين ثم اشتراها لم تطلق.
توضيحه أن الطلاق لا يقع إلا في النكاح المستقر وهو غير مستقر في حال انتقال الملك إليه ولهذا قال محمد لو كان قال إذا مات مولاك فأنت حرة فمات المولى وهو وارثه لا تعتق لأن العتق لا ينزل إلا في الملك المستقر وبنفس موت المولى لا يستقر الملك للوارث ولكن أوان استقرار ملكه بعده بخلاف ما لو قال إذا مات مولاك فملكتك لأن أوان العتق هناك ما بعد استقرار الملك وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول وجد شرط الطلاق وهي منكوحة بعد فيقع الطلاق كما لو لم يكن الزوج وارثا له وبيان ذلك أن موت المولى سبب لزوال ملكه فإنما يزول ملكه بعد الموت ثم ينتقل إلى الوارث بعد ذلك ثم يفسد النكاح بعد ما يدخل في ملكه ووقوع الطلاق قبل هذا بدرجتين لأن وقوع الطلاق يقترن بزوال ملك المولى وزوال ملك المولى غير مؤثر في دفع استقرار النكاح.(9/53)
والدليل عليه أنه لو قال لها إذا مات مولاك فأنت حرة لم تعتق لأن أوان وقوع العتق مع زوال ملك المالك وملك الوارث يكون بعد ذلك فإذا لم يعتبر الملك الذي يتأخر للوارث في تصحيح عتقه فكذلك لا يعتبر في المنع من وقوع الطلاق ألا ترى أنه لو شرط الملك بقوله إذا مات مولاك فملكتك وقع العتق دون الطلاق فإذا لم يشترط الملك يقع الطلاق دون العتق لأن الملك منفذ للعتق مانع وقوع الطلاق رجل قال لأمته إذا مات فلان فأنت حرة ثم باعها ثم تزوجها ثم قال لها إذا مات مولاك فأنت طالق اثنتين ثم مات المولى وهو وارثه على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تعتق ويقع الطلاق وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يقع العتاق ولا يقع الطلاق وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق ولا العتاق أما أبو يوسف رحمه الله تعالى مر على أصله أن الطلاق لا يمتنع وقوعه إلا بعد الملك كما أن العتق لا يقع إلا بعد الملك وقد علقهما الحالف بموت فلان والذي ثبت بموت فلان زوال ملكه ثم ثبوت الملك للوارث بعد ذلك فأوان العتق والطلاق قبل ثبوت الملك له فيقع الطلاق ولا يقع العتق ومحمد رحمه الله تعالى مر على أصله أن وقوع الطلاق مع وقوع الملك وحال وقوع الملك للزوج في رقبتها ليس بحال استقرار النكاح فلا يقع الطلاق ولا يقع العتق لأنه يقترن بوقوع الملك وأوان نفوذ العتق ما بعد الملك وأما زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول لا يقع الطلاق لما قال محمد رحمه الله تعالى لأن ما بعد موت المولى ليس بحال استقرار النكاح ويقع العتق باعتبار أنه حلف بالعتق في الملك والشرط ثم في الملك لأن تمام الشرط بعد موت المولى المورث وكما مات المورث انتقل الملك إلى الوارث فيقع العتق ولا يعتبر تخلل زوال الملك بعد ذلك كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت حرة ثم باعها ثم اشتراها ثم دخلت الدار.
توضيحه أن العتق لما كان أوان نزوله بعد الملك يصير تقدير كلامه كأنه قال إذا مات(9/54)
ص -28- ... مولاك فورثتك ولا يدرج مثل هذا في الطلاق لأنه يبطل الطلاق والإدراج للتصحيح لا للإبطال أو يدرج حتى لا يقع الطلاق ويقع العتق كما هو مذهب زفر وإذا قال لأمته إذا باعك فلان فأنت حرة فباعها من فلان ثم اشتراها منه لم تعتق لأن الشرط بيع فلان إياها وبيع فلان من الحالف سبب لزوال ملكه فأما وقوع الملك للحالف بشرائه لا ببيع فلان فلهذا لا تعتق ألا ترى أنه لو قال إذا وهبك لي فلان فأنت حرة فباعها من فلان وسلمها ثم استودعها البائع ثم قال للبائع هبها لي فقال هي لك أنها له وهذا قبول ولا تعتق لأن العتق والهبة وقعا وهي في ملك غيره فإنه إنما يملكها بالهبة والشراء بعد خروجها من ملك البائع والواهب فكان العتق متصلا بزوال ملك البائع والواهب أو مقترنا بوقوع الملك للحالف ولا ينفذ العتق إلا بعد تقدم الملك في المحل وإن قال إذا وهبك فلان مني فأنت حرة فوهبها منه وهو قابض لها عتقت وكذلك قوله إذا باعك فلان مني فأنت حرة لأنه صرح بما هو سبب الملك في حقه وإضافة العتق إلى سبب الملك كإضافته إلى نفس الملك رجل قال لآخر يا فلان والله لا أكلمك عشرة أيام والله لا أكلمك تسعة أيام والله لا أكلمك ثمانية أيام فقد حنث مرتين لأنه باليمين الثانية صار مخاطبا له فيحنث في اليمين الأولى وباليمين الثالثة صار مخاطبا له فيحنث في اليمين الثانية وعليه اليمين الثالثة حتى إن كلمه في الثمانية الأيام حنث أيضا وإن قال والله لا أكلمك ثمانية أيام والله لا أكلمك تسعة أيام والله لا أكلمك عشرة أيام فقد حنث مرتين وعليه اليمين الثالثة إن كلمة في العشرة الأيام حنث أيضا رجل قال علي المشي إلى بيت الله تعالى وكل مملوك له حر وكل امرأة له طالق إن دخل هذه الدار وقال رجل آخر علي مثل ما حلفت على يمينك من هذه الأيمان إن دخلت الدار فدخل الثاني الدار لزمه المشي إلى بيت الله تعالى ولم يلزمه عتق ولا طلاق لأن الثاني صرح بكلمة على وهي كلمة التزام(9/55)
فكانت عاملة فيما يصح التزامه في الذمة دون ما لا يصح التزامه في الذمة والمشي إلى بيت الله تعالى يصح التزامه في الذمة فيتعلق بدخوله الدار وعند الدخول يصير كالمنجز فأما الطلاق لا يصح التزامه في الذمة والعتق وإن كان يصح التزامه في الذمة ولكن لا يتنجز في المحل بدون التنجيز فلهذا لا يعتق مملوكه ولا تطلق زوجته إذا دخل الدار.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار وقال آخر علي مثل ذلك في امرأتي من الطلاق إن دخلتها فدخل الثاني الدار لم تطلق امرأته عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وطلقت عند زفر رحمه الله تعالى لأنه ألزم نفسه عند دخول الدار في امرأته من الطلاق ما التزمه الأول والأول إنما الزم نفسه وقوع الطلاق عليها عند الدخول لا لزوم الطلاق دينا في ذمته فيثبت ذلك في حق الثاني.
قال: في الكتاب ألا ترى أنه لو قال لله علي طلاق امرأتي لا يلزمه شيء وهذا يصير رواية في فصل وفيه اختلاف أن من قال لامرأته طلاقك على واجب أو طلاقك لي لازم فكان محمد بن سلمة رحمه الله تعالى يقول يقع الطلاق فيهما جميعا والعراقيون من(9/56)
ص -29- ... مشايخنا كانوا يقولون في قوله علي واجب لا يقع وفي قوله لي لازم يقع والأصح ما ذكره محمد بن مقاتل رضي الله تعالى عنه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق فيهما جميعا لأن الوجوب واللزوم يكون في الذمة والطلاق لا يلتزم في الذمة وليس لالتزامه في الذمة عمل في الوقوع وعلى قول محمد رحمه الله تعالى في قوله لي لازم يقع لأن معناه حكم الطلاق لي لازم وجعل السبب كناية عن الحكم صحيح وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ينوى في ذلك لاحتمال أن يكون المراد لزوم الحكم إياه فإذا نوى الوقوع وقع فأما العتق فقد جعل الثاني بهذا اللفظ عليه عتق مماليكه فيؤمر بالوفاء بالنذر من غير أن يجبر عليه في القضاء كما لو قال لله علي أن أعتق عبدي هذا لم يعتق بهذا القول ولكن الأفضل له إن بقي به.
معناه أن يؤمر بالوفاء فيما بينه وبين ربه كما هو موجب نذره ألا ترى أن رجلا لو قال عبده سالم حر إن دخل الدار فقال رجل آخر علي مثل ما جعلت على نفسك إن دخلت الدار فدخلها أنه لا شيء عليه وهذا ظاهر لأن الثاني يلتزم بالدخول عتق مالا يملكه ولا عتق فيما لا يملكه بن آدم فإن عني به عتق عبد من عبيده الذي يملكه فالأحسن له أن يفي به وهو آثم إن لم يف به لترك الوفاء بالمنذور وبيانه في قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الآية وأما المشي إلى بيت الله تعالى والحج والعمرة والنذر والصيام وكل شيء يتقرب به العبد إلى ربه فإذا قال رجل آخر علي مثل ما حلفت به إن فعلت ففعله الثاني فإنه عليه وكذلك لو قال الأول علي عتق نسمة إن فعلت كذا ففعل فعليه عتق نسمة لأنه قربة يصح التزامها في الذمة بالنذر والوفاء بالنذور يؤمر به الناذر بينه وبين ربه والله أعلم.(9/57)
ص -30- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحدود
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الحد في اللغة هو المنع ومنه سمي البواب حدادا لمنعة الناس من الدخول وسمي اللفظ الجامع المانع حدا لأنه يجمع معاني الشيء ويمنع دخول غيره فيه فسميت العقوبات حدودا لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها.
وفي الشرع الحد اسم لعقوبة مقدرة تجب حقا لله تعالى ولهذا لا يسمى به التعزير لأنه غير مقدر ولا يسمي به القصاص لأنه حق العباد وهذا لأن وجوب حق العباد في الأصل بطريق الجبران فأما ما يجب حقا لله تعالى فالمنع من ارتكاب سببه لأن الله تعالى عن أن يلحقه نقصان ليحتاج في حقه إلى الجبران وهي أنواع فهذا الكتاب لبيان نوعين منها حد الزنى وحد النسبة إلى الزنى وسبب كل واحد منهما ما يضاف إليه لأن الواجبات تضاف إلى أسبابها والموجب هو الله تعالى ولكن الأسباب لتيسير المعرفة على العباد لا أن تكون الأسباب هي الموجبة ثم حد الزنى نوعان رجم في حق المحصن وجلد في حق غير المحصن وقد كان الحكم في الابتداء الحبس في البيوت والتعيير والأذى باللسان كما قال الله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء:15] وقال {فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] ثم انتسخ ذلك بحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" وقد كان هذا قبل نزول سورة النور بدليل قوله "خذوا عني" ولو كان بعد نزولها لقال خذوا عن الله تعالى ثم انتسخ ذلك بقوله تعالى {فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] واستقر الحكم على الجلد في حق غير المحصن والرجم في حق المحصن فأما الجلد فهو متفق عليه بين العلماء وأما الرجم فهو حد مشروع في حق المحصن ثابت بالسنة إلا على قول الخوارج فإنهم(9/58)
ينكرون الرجم لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن في حد التواتر.
والدليل على أن الرجم حد في حق المحصن أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا بعد ما سأل عن إحصانه ورجم الغامدية وحديث العسيف حيث قال "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" دليل على ذلك وقال عمر رضي الله عنه على المنبر وإن مما أنزل في القرآن أن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة وسيأتي قوم ينكرون ذلك ولولا أن الناس يقولون زاد عمر في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف والجمع بين الجلد والرجم في حق(9/59)
ص -31- ... المحصن غير مشروع حدا عندنا وعند أصحاب الظواهر هما حد المحصن لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" ولحديث علي رضي الله عنه فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها ثم قال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسنة.
وحجتنا حديث ماعز والغامدية قد رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلدهما وقال"فإن اعترفت فارجمها" وقد بينا أن المقصود الزجر عن ارتكاب السبب وأبلغ ما يكون من الزجر بعقوبة تأتي على النفس بأفحش الوجوه فلا حاجة معها إلى الجلد والاشتغال به اشتغال بما لا يفيد وما لا فائدة فيه لا يكون مشروعا حدا وقد بينا أن الجمع بينهما قد انتسخ وقيل تأويل قوله جلد مائة ورجم بالحجارة الجلد في حق ثيب هو غير محصن والرجم في حق ثيب هو محصن وحديث علي رضي الله عنه تأويله أن جلدها لأنه لم يعرف إحصانها ثم علم إحصانها فرجمها وهو القياس عندنا على ما بيناه في الجامع ثم سبب هذا الحد يثبت عند الإمام بالشهادة تارة وبالإقرار أخرى فبدأ الكتاب ببيان ما يثبت بالشهادة فقال والزنا مختص من بين سائر الحقوق في أنه لا يثبت إلا بشهادة أربعة لقوله تعالى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال تعالى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقد تكلف بعضهم فيه معنى وهو أن الزنى لا يتم إلا باثنين وفعل كل واحد لا يثبت إلا بشهادة شاهدين ولكن هذا ضعيف فإن شهادة شاهدين كما يثبت فعل الواحد يثبت فعل الاثنين ولكنا نقول إن الله تعالى يحب الستر على عباده وإلى ذلك ندب وذم من أحب أن تشيع الفاحشة فلتحقيق معني الستر شرط زيادة العدد في الشهود على هذه الفاحشة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لهلال بن أمية "إئت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد في ظهرك" وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين شهد عنده أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الأزرق على(9/60)
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنى فقال لزياد وهو الرابع بم تشهد فقال أنا رأيت أقداما بادية وأنفاسا عالية وأمرا منكرا وفي رواية قال رأيتهما تحت لحاف واحد ينخفضان ويرتفعان ويضطربان اضطراب الخيزران وفي رواية رأيت رجلا أقعي وامرأة صرعى ورجلين مخضوبتين وإنسانا يذهب ويجيء ولم أر ما سوى ذلك فقال الله أكبر الحمد لله الذي لم يفضح واحدا من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم ففي هذا بيان اشتراط الأربعة لإبقاء ستر العفة.
قال: وإذا شهدت الأربعة بالزنى بين يدي القاضي ينبغي له أن يسألهم عن الزنى ما هو وكيف هو متى زنا وأين زنا لأنهم شهدوا بلفظ محتمل فلا بد من أن يستفسرهم أما السؤال عن ماهية الزنى لأن من الناس من يعتقد في كل وطء حرام أنه زنا ولأن الشرع سمي الفعل فيما دون الفرج زنا قال: "العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذب" والحد لا يجب إلا بالجماع في الفرج ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفسر ماعزا حتى فسر كالميل في المكحلة والرشا في البئر وقال له مع ذلك لعلك قبلتها لعلك مسستها حتى إذا ذكر الكاف والنون قبل إقراره.(9/61)
ص -32- ... والزنى لغة مأخوذ من الزنى وهو الضيق ولا يكون ذلك إلا بالجماع في الفرج فلهذا سألهم عن ماهية الزنى وكيفيته وأما السؤال عن الوقت لجواز أن يكون العهد متقادما فإن حد الزنى بحجة البينة لا يقام بعد تقادم العهد عندنا والسؤال عن المكان لتوهم أن يكون فعل ذلك في دار الحرب حيث لم يكن تحت ولاية الإمام والسؤال عن المزني بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ماعزا عن ذلك بقوله "الآن أقررت أربعة فبمن زنيت" ولأن من الجائز أن يكون له نكاح أو شبهة نكاح في المفعول بها وذلك غير معلوم للشهود فإذا فسروا تبين ذلك للقاضي.
والحاصل أن القاضي مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد كما قال صلى الله عليه وسلم "ادرؤا الحدود بالشبهات" ولقن المقر الرجوع بقوله أسرق ما أخاله سرق وقال عمر رضي الله عنه اطردوا المعترفين يعني الذين يقرون على أنفسهم بالسبب الموجب للحد ومن أسباب احتيال الدرء أن يستقصى مع الشهود ولأن المتعلق بهذه الشهادة ما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تدراكه فيستقصى للتحرز عن ذلك فإذا بينوا ذلك والقاضي لا يعرف عدالة الشهود فإنه يحبسه حتى يسأل عن الشهود وهذا لأنه لو خلى سبيله هرب فلا يظفر به بعد ذلك ولا وجه إلى أخذ الكفيل منه لأن أخذ الكفيل نوع احتياط فلا يكون مشروعا فيما بني على الدرء.(9/62)
فإن قيل: الاحتياط في الحبس أظهر قلنا حبسه ليس بطريق الاحتياط بل بطريق التعزير لأنه صار متهما بارتكاب الفاحشة فيحبسه تعزيرا ولهذا لا يحبسه في الديون قبل ظهور عدالة الشهود ولأن الحبس أقصى العقوبة هناك فإنه بعد ما ثبت الحق لا يعاقبه إلا بالحبس فلا يجوز أن يفعله قبل ثبوت الحق بخلاف الحدود فإذا ظهرت عدالة الشهود نظر في أمر الرجل فإن كان محصنا رجمه وإن كان غير محصن جلده والإحصان الذي يتعلق به الرجم له شرائط فالمتقدمون يقولون شرائطه سبعة العقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح والدخول بالنكاح وأن يكون كل واحد من الزوجين مثل الآخر في صفة الإحصان والإسلام والأصح أن نقول شرط الإحصان على الخصوص اثنان الإسلام والدخول بالنكاح الصحيح بامرأة هي مثله فأما العقل والبلوغ فهما شرط الأهلية للعقوبة لا شرط الإحصان على الخصوص لأن غير المخاطب لا يكون أهلا لالتزام شيء من العقوبات والحرية شرط تكميل العقوبة لا أن تكون شرط الإحصان على الخصوص فأما الدخول شرط ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم "الثيب بالثيب" والثيوبة لا تكون إلا بالدخول.
وشرطنا أن يكون ذلك بالنكاح الصحيح لأن الثيوبة على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يتصور بسبب مشروع سوى النكاح الصحيح وكان المقصود به تغليظ الجريمة لأن الرجم أفحش العقوبات فيستدعى أغلظ الجنايات والجناية في الإقدام على الزنى بعد إصابة الحلال يكون أغلظ ولهذا لا تشترط العفة عن الزنى في هذا الإحصان بخلاف إحصان القذف لأن الزنى بعد الزنى أغلظ في الجريمة من الزنى بعد العفة فأما الإسلام شرط في قول علمائنا.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس بشرط وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لحديث(9/63)
ص -33- ... ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما رجم يهوديين زنيا وزاد في بعض الروايات وقد أحصنا.
والمعني فيه أن هذه عقوبة يعتقد الكافر حرمة سببها فيقام عليه كما يقام على المسلم كالجلد والقطع والقتل في القصاص بخلاف حد الشرب فإنه لا يعتقد حرمة سببه وتأثيره ما بينا أن ما اشترط في الإحصان إنما يشترط لمعنى تغلظ الجريمة وغلظ الجريمة باعتبار الدين من حيث اعتقاد الحرمة فإذا كان هو في دينه معتقدا للحرمة كالمسلم فقد حصل ما هو المقصود فكان به محصنا فإن المحصن من يكون في حصن ومنع من الزنى وهو باعتقاده ممنوع من الزنى وقد أنذر عليه بالعقوبة في دينه فكان محصنا ثم لا يجوز اشتراط الإسلام لمعنى الفضيلة والكرامة والنعمة كما لا يشترط سائر الفضائل من العلم والشرف ولا يجوز اشتراط الإسلام لمعني التغليظ لأن الكفر أليق بهذا من الإسلام فالإسلام للتخفيف والعصمة والكفر من دواعى التغليظ فإذا كان تقام هذه العقوبة على المسلم بارتكاب هذه الفاحشة فعلى الكافر أولى.(9/64)
وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم "من أشرك بالله فليس بمحصن" معناه ليس بكامل الحال فإن المحصن من هو كامل الحال والرجم لا يقام إلا على من هو كامل الحال والاعتماد في المسألة على الاستدلال بالثيوبة فإن الثيوبة بالنكاح الصحيح شرط لإيجاب الرجم ومعلوم أن المقصود انكسار شهوته بإصابة الحلال وهذا المقصود يتم بالإصابة بملك اليمين كما يتم بالنكاح ثم شرط أن يكون بالنكاح فما كان ذلك إلا لاعتبار معنى النعمة ويتبين بهذا أن ما يشترط لإقامة الرجم يشترط بطريق هو نعمة فكذلك اعتقاد الحرمة يشترط بطريق هو نعمة وذلك بالإسلام بل أولى لأن أصل النعمة في الوطء بملك اليمين موجود إنما انعدم نهايتها وأصل النعمة منعدم هنا فيما يعتقده الكافر وتأثيره أن الجريمة كما تتغلظ باجتماع الموانع تتغلظ باجتماع النعم ولهذا هدد الله تعالى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن بضعف ما هدد به غيرهن بقوله تعالى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لزيادة النعمة عليهن وعوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الزلات بما لم يؤاخذ به غيرهم لزيادة النعمة عليهم والحر يقام عليه الحد الكامل ولا يقام على العبد لزيادة نعمة الحرية في حق الحر فبدن العبد أكثر احتمالا للحد من بدن الحر فعرفنا أن بزيادة النعمة يزداد تغليظ الجريمة لما في ارتكاب الفاحشة من كفران النعمة فأما سائر الفضائل إنما لا تشترط لأن شرط الحد بالرأي لا يمكن إثباته ونحن قلنا ما يكون شرطا بالاتفاق لا ينبغي أن يشترط بطريق هو نعمة استدلالا بالثيوبة فأما ما لم يعرف شرطا لو أثبتناه لأثبتناه بالرأي ابتداء مع أنه إنما يشترط في الإحصان ما ينطلق عليه اسم الإحصان وسائر الفضائل لا ينطلق عليه اسم الإحصان وأما الإسلام فيطلق عليه اسم الإحصان في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وقال تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ(9/65)
بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] فأما العفة وإن كان يطلق عليها اسم الإحصان ولكن العفة انزجار(9/66)
ص -34- ... عن الزنى والانزجار عن الزنى مع الإقدام على الزنى لا يتحقق فلا يمكن اشتراط العفة مقترنا بالزنى ولا سابقا على الزنى لأنه لا تتغلظ به الجريمة كما بينا فإن الإصرار على الزنى أفحش في الجريمة مع أن العفة الوقوف على حدود الدين فإذا شرطنا أصل الدين بطريق هو نعمة فقد حصل ما هو المقصود؟ فأما الحديث فإنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم التوراة ألا ترى أنه دعا بالتوراة وبابن صوريا الأعور وناشده بالله حتى اعترف بأن حكم الزنى في كتابهم الرجم فرجمهما وقال "أنا أحق من أحيي سنة أماتوها" وإحياء سنة أميتت إنما يكون بالعمل بها فدل أنه إنما رجمهما بحكم التوراة ولم يكن الإحصان شرطا في الرجم بحكم التوراة وقوله وقد أحصنا شاذ ولو ثبت فمراده الإحصان من حيث الحرية كما في قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] وأما اشتراط إحصان كل واحد منهما في الآخر فهو مذهبنا.
وفي رواية عن أبي يوسف وهو قول الشافعي رحمهما الله تعالى ليس بشرط حتى أن المملوكين إذا كان بينهما وطء بنكاح صحيح في حالة الرق ثم عتقا لا يكونا محصنين عندنا وكذلك الكافران وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى هما محصنان وكذلك الحر إذا تزوج أمة أو صغيرة أو مجنونة ودخل بها وكذلك المسلم إذا تزوج كتابية ودخل بها أو أسلمت المرأة قبل أن يدخل بها الزوج الكافر فدخل بها قبل أن يفرق بينهما فإنها لا تكون محصنة بهذا الدخول عندنا وعلى قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى يثبت الإحصان لأن ما هو المقصود قد تم وهو انكسار الشهوة بإصابة الحلال وأن يكون بطريق هو نهاية في النعمة.(9/67)
ولكنا نستدل بما روى أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعها فإنها لا تحصنك" وإن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أراد أن يتزوج يهودية فقال له عمر رضي الله عنه دعها فإنها لا تحصنك وقال صلى الله عليه وسلم "لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحرة العبد ولا الحر الأمة" وفيه معنيان أحدهما أن الزوجية تنبئ عن المساواة فذلك المفهوم من قولهم زوج نعل زوج خف وقد صارت الزوجية هنا شرطا فتشترط المساواة بينهما في الصفة لأن تمام الزوجية يكون به ثم بسبب الرق ينتقص ملك الحل وقد بينا ذلك في كتاب الطلاق فلا بد من اعتبار حرية كل واحد منهما لتكون الثيوبة بعد كمال ملك الحل وإذا ثبت اشتراط الحرية يثبت اشتراط البلوغ والعقل فيها بطريق الأولى لأن بسبب الصغر يدخل في هذا الفعل نقصان فإن تمام ميل طبع المرء إلى البالغة العاقلة وكذلك يشترط الإسلام لأن الكافرة في حق المسلم ناقصة الحال لا يتم سكونه إليها وقد بينا أن الرجم أقصى العقوبات وفي شرائطه يعتبر النهاية أيضا احتيالا لدرء هذه العقوبة فإن أقر الزاني بأنه محصن فإقراره عليه حجة تامة لأنه غير متهم فيما يقر به على نفسه ولكنه يستفسره الإمام لأن الإحصان لفظ مبهم وهو يطلق على أشياء يسمى به كل واحد منها وإن قال لست بمحصن فشهد عليه شاهدان أنه محصن استفسرهما عن الإحصان ما هو وكيف هو فإذا بينا ذلك رجمه إن كان(9/68)
ص -35- ... الشاهد بالإحصان رجلين ولا يشترط في الإحصان عدد الأربعة لأنه ليس بسبب موجب للعقوبة.
قال وكذلك لو شهد رجل وامرأتان بالإحصان وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يثبت الإحصان بشهادة رجل وامرأتين أما الكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على ما بينا في النكاح أن النكاح في غير هذه الحالة عنده لا يثبت بشهادة الرجل مع النساء لأنه ليس بمال ولا من حقوق ما هو مال وإنما يتحقق الكلام هنا بيننا وبين زفر.
فحجته رحمه الله تعالى أن المقصود بالإحصان هنا تكميل العقوبة وباعتبار ما هو المقصود لا يكون للنساء فيه شهادة لأن المكمل للعقوبة بمنزلة الموجب لأصل العقوبة به فكما لا يثبت أصل العقوبة بشهادة النساء فكذلك تكميلها ألا ترى أن هذا الزاني لو كان عبدا مسلما لذمي فشهد ذميان أن مولاه كان أعتقه قبل الزنى وقد استجمع سائر شرائط الإحصان لا تقبل شهادتهما ومعلوم أن في غير هذه الحالة شهادة أهل الذمة على العتق على الذمي مقبولة ولكن لما كان المقصود هنا تكميل العقوبة على المسلم نظرنا إلى المقصود دون المشهود به يوضح ما قلنا أن الإحصان شرط والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فكما لا يثبت سبب العقوبة بشهادة النساء فكذلك شرطها.(9/69)
وحجتنا فيه أن الإحصان ليس بسبب موجب للعقوبة فيثبت بشهادة الرجال مع النساء كسائر الحقوق وهذا لا إشكال فيه فإن الإحصان عبارة عن خصال حميدة بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه فيستحيل أن يكون سببا لإيجاب العقوبة ولا هو شرط أيضا لأن الشرط ما يتوقف الحكم على وجوده بعد السبب ولا يتوقف وجوب الرجم على وجود الإحصان بعد الزنى فإنه وإن صار محصنا بعد الزنى لم يرجم ولكنه عبارة عن حال في الزاني يصير الزنى في تلك الحالة موجبا للرجم والحكم غير مضاف إلى الحال ثبوتا ولا وجودا عنده فعرفنا أن الشهادة بالنكاح في هذه الحالة وفي غير هذه الحالة سواء وأما شهادة أهل الذمة فنقول العتق هناك يثبت وإنما لا يثبت سبق التاريخ لأن هذا تاريخ ينكره المسلم وما ينكره المسلم لا يثبت بشهادة أهل الذمة ولأن المسلم يتضرر بهذه الشهادة من حيث إقامة العقوبة الكاملة عليه ولا يجوز أن يتضرر المسلم بشهادة الكفار وتحقيقه أن شهادة أهل الذمة دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فإن شهادتهم على المسلمين غير مقبولة وعلى أهل الذمة مقبولة في الحدود وغيرها فإذا كان الخصوص في المشهود عليه ينظر إلى من يقام عليه الحكم بعد شهادتهم والذي يقام هنا الحد الكامل على المسلم فلا تقبل شهادتهما فيه فأما شهادة الرجال مع النساء دخلها الخصوص في المشهود به لا في المشهود عليه فإنما يمتنع قبولها إذا كان المشهود به سبب العقوبة أو شرطا مؤثرا في العقوبة وقد بينا أن ذلك غير موجود في الإحصان فلهذا قبلت شهادة النساء مع الرجال هنا.
قال: فإن قال شهود الإحصان حين استفسرهم القاضي إنه تزوج امرأة فجامعها أو(9/70)
ص -36- ... باضعها فذلك كاف لأن مطلق الجماع يتناول الجماع في الفرج خاصة ولهذا ما تعلق بالجماع من الأحكام شرعا إنما يتعلق بالجماع في الفرج والمباضعة مفاعلة من إدخال البضع في البضع فأما إذا قالوا دخل بها فذلك يكفي لثبوت الإحصان في قول أبي حنيفة ولا يكفي في قول محمد رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبي يوسف وهو كقول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى محمد رحمه الله يقول الدخول مشترك قد يراد به الوطء وقد يراد به الملاقاة وكل لفظ مشترك أو مبهم يذكر الشهود فعلى القاضي أن يستفسرهم ليكون إقدامه على الأمر عن بصيرة ألا ترى أنهم لو قالوا أتاها أو قربها لا يكتفي بذلك؟
وأبو حنيفة رحمه الله قال إنهم ذكروا الدخول مضافا إليها والدخول مضافا إلى النساء بحرف الباء يراد به الجماع قال الله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وإذا قيل فلان دخل بامرأته لا يفهم منه إلا الجماع والاسم مشترك بدون الصلة وأما مع هذه الصلة والإضافة فلا وهو كاسم الوطء فقد يراد به الوطء بالقدم ثم إذا قالوا وطئها كان ذلك كافيا لثبوت الإحصان فهذا مثله ولكن محمد رحمه الله تعالى يقول قد يقال دخل بها والمراد مر بها أي خلى بها إلا أن ذلك نوع مجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة.
قال: وإن شهدوا على التزويج فقط غير أن له منها ولدا فهو إحصان ولا يكون الإحصان بشيء أبين من هذا لأنا لما حكمنا بثبوت النسب منه فقد حكمنا بالدخول بها وذلك أقوى من شهادة الشهود على أنه جامعها ولأن الذي يقع به العلم بالدخول بها إذا كان بينهما أولاد فوق ما يقع بشهادة الشاهدين.
قال ولا يكون محصنا بالخلوة الموجبة للمهر والعدة لأن المقصود انكسار الشهوة بإصابة الحلال لاستغنائه عن الحرام وذلك لا يحصل بالخلوة وإنما تجعل الخلوة تسليما للمستحق بالعقد في حكم المهر
والعدة ألا ترى أن سائر الأحكام المتعلقة بالوطء لا يثبت شيء منها بالخلوة فكذلك الإحصان.(9/71)
قال ولا يجمع بين الجلد والرجم ولا بين الجلد والنفي أما في حق الجمع بين الجلد والرجم في حق المحصن فقد بيناه وأما في حق البكر فلا يجمع بين الجلد والنفي عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يجمع بينهما فيجلد مائة ويغرب سنة واحتج في ذلك بحديث العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأبو بكر رضي الله عنه ضرب وغرب وعمر رضي الله عنه ضرب وغرب واشتغل بعضهم بالقياس فقال النفي مما يقع به التعزير فكان من جنسه حدا كالجلد ولكن هذا كلام الجهال فإن إثبات الحدود وتكميلها بالقياس لا يكون ولكن الحرف لهم أن الزنى قبل أن تتخذه المرأة عادة تكتسب به إنما ينشأ من الصحبة والمؤالفة والمؤانسة والفراغ والتغريب قاطع لهذا السبب والحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه فما يكون قاطعا للسبب يحصل به المقصود فيكون حدا ألا ترى أن حد السرقة مشروع بقطع اليد والرجل لأن تمكنه من هذا(9/72)
ص -37- ... الفعل بالمشي والبطش فقطع الآلة الماشية والباطشة مانع له من ذلك ولا معنى لقولكم كيف تنفي مع المحرم أو بغير محرم لأن النفي هجرة واجبة فلا يعتبر فيه المحرم كالهجرة في التي أسلمت في دار الحرب فلما كان حدا فعلى الإمام أن يتكلف لما يحتاج إليه في إقامته كالجلد.
وحجتنا فيه قوله تعالى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 24] فقد جعل الجلد جميع حد الزنى فلو أوجبنا معه التغريب كان الجلد بعض الحد فيكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ وروى أن محدجا سقيما وجد على بطن أمة من إماء الحي يفجر بها فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اضربوه مائة" فقالوا إن بدنه لا يحتمل الضرب فقال صلى الله عليه وسلم "خذوا عثكالا عليه مائة شمراخ فاضربوه بها" ولم يأمره بالتغريب ولو كان ذلك حدا لتكلف له كما تكلف للحد وإن عمر رضي الله عنه جلد أبا بكرة رضي الله تعالى عنه في داره على الزنى وأمر امرأته أن تكتم فلو كان التغريب متمما للحد لما أمرها بالكتمان لأن ذلك لا يتصور ولما نفي شارب الخمر ارتد ولحق بالروم فقال والله لا أنفي أحدا بعد هذا أبدا فلو كان مشروعا حدا لما حلف أن لا يقيمه.(9/73)
قال علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحد مشروع لتسكين الفتنة فما يكون فتنة لا يكون حدا وعن إبراهيم رحمه الله تعالى أن عليا وابن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في أم ولد زنت بعد موت مولاها قال علي رضي الله عنه تجلد ولا تنفى وقال ابن مسعود رضي الله عنه تنفى وأخذنا بقول علي رضي الله عنه لأنه أقرب إلى دفع الفتنة والفساد ومعنى هذا ما ذكره في الكتاب قال أرأيت شابة زنت أكنت أنفيها أي في نفيها تعريض لها لمثل ما ابتليت به فإنها عند أبويها تكون محفوظة ففي دار الغربة تكون خليعة العذار والنساء لحم على وضم إلا ماذب عنهن وإنما تبقى المرأة محفوظة بالحافظ والاستحياء وذلك ينعدم بالتغريب فيكون تعريضا لها للإقدام على هذه الفاحشة برفع المانع وهذا أولى مما قاله الخصم لأن ما ينشأ عن الصحبة والمؤانسة يكون مكتوما وما ينشأ عن المواقحة يكون ظاهرا فإن في هذا قطع لسبب ما ينشأ عن المحادثة وهو مكتوم ففيه تعريض للزنا بطريق الوقاحة وهو أفحش ثم قال أرأيت أمة زنت أكنت أنفيها فأحول بينها وبين مولاها وبين خدمتها وحق المولى في الخدمة مرعي وهو مقدم على الشرع وإذا ثبت أن الأمة لا تنفي فكذلك الحرة لأن الله قال {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وإذا ثبت أن نصف الحد خمسون جلدة ثبت أن كماله مائة جلدة ثم لا يجوز أن تنفي الحرة مع المحرم لأن المحرم لم يزن فكيف يقام عليه الحد وبدون المحرم هي ممنوعة عن المسافرة شرعا فلا يجوز إقامة الحد بطريق فيه إبطال ما هو مستحق شرعا فأما المهاجرة لا تقصد السفر بغير محرم وإنما تقصد التخلص من المشركين حتى لو وصلت إلى جيش لهم منعة في دار الإسلام وأمنت لم يكن لها أن تسافر بغير محرم بعد ذلك فأما الحديث فقد بينا أن الجمع بين الجلد والتغريب كان في الابتداء ثم انتسخ بنزول سورة النور.(9/74)
ص -38- ... والمراد بالتغريب الحبس على سبيل التعزير قيل في تأويل قوله تعالى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] أنه الحبس وقال القائل:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
أي محبوس ونحن نقول يحبس بطريق التعزير حتى تظهر توبته وإن ثبت النفي على أحد فذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد كما نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت المخنث من المدينة ونفى عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج من المدينة حين سمع قائلة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفاه والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة فإنه قال وما ذنبي يا أمير المؤمنين قال لا ذنب لك وإنما الذنب لي حيث لا أطهر دار الهجرة منك وقول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى في النفي كقول الشافعي رحمه الله تعالى إلا أنه يقول ينفى إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه ولكن دون مسيرة سفر وعند الشافعي رحمه الله لا يكون النفي دون مسيرة سفر.
قال ولا يكون محصنا بالجماع في النكاح الفاسد لأنه نوع من الوطء الحرام فلا يتم به عليه النعمة ولا يستفيد كمال الحال والإحصان عبارة عن ذلك ولا بالجماع في النكاح الصحيح إذا كان قال لها إن تزوجتك فأنت طالق لأن الدلالة قامت لنا على أنها تطلق بنفس العقد فجماعه إياها بعد ذلك يكون زنا إلا أنه لا يجب به الحد لشبهة اختلاف العلماء ولكن لا يستفاد بهذا الفعل كمال الحال وكذلك إن تزوج المسلم مجوسية أو مسلمة بغير شهود فدخل بها لأن هذا من أنواع النكاح الفاسد.(9/75)
قال وإذا ثبت الزنى عند القاضي سأل الزاني أمحصن أنت لأنه لو أقر بالإحصان استغنى القاضي عن طلب إحصانه بالحجة فإن أنكر إحصانه وشهد الشهود عليه فرجم ثم رجع شهود الإحصان لم يضمنوا شيئا لأنهم ما شهدوا بسبب العقوبة ولا بشرطها ولأن سبب العقوبة ثابت ببقاء شهود الزنى على شهادتهم فإن رجع شهود الزنى وشهود الإحصان فلا ضمان على شهود الإحصان عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يشتركون في الضمان بناء على أصل أن الإحصان شرط الرجم وأن شهود الشرط يضمنون عند الرجوع كشهود السبب عنده وعندنا لا ضمان على شهود الشرط ثم قد بينا أن الإحصان ليس بشرط لأن الشرط حقيقة ما يتوقف تمام السبب عليه ولكنه حال في الزاني فلا يكون الإتلاف مضافا إليه بوجه وربما قال زفر رحمه الله تعالى الإحصان يغلظ جريمته والرجم عقوبة جريمة مغلظة فإذا ثبت أن بشهود الإحصان تغلظت جريمته كانوا بمنزلة من أثبت أصل الجريمة فصاروا في المعنى كستة نفر شهدوا على استحقاق القتل ولكن هذا بعيد فإن الإسلام والنكاح يثبت بشهادتهما ولا يجوز أن تضاف إليهما الجريمة ولا تغليظها ألا ترى أنه لو شهد رجلان بالزنى وآخران بالإحصان لا تتم الحجة معلوم أن الرجم يستحق بشهادة شهود أربعة فلو كان شهود(9/76)
ص -39- ... الإحصان كشهود الزنى لتمت الحجة هنا فأما إذا رجع شهود الزنى أو بعضهم فالمسألة على ثلاثة أوجه إما أن يرجع أحدهم قبل القضاء أو بعد القضاء قبل إقامة الحد أو بعد إقامة الحد فإن رجع أحدهم قبل القضاء يحدون حد القذف عندنا كما لو رجعوا جميعا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحد إلا الراجع خاصة.
وجه قوله أن الحجة تمت باجتماع الأربعة على أداء الشهادة وتمام الحجة يمنع من أن يكون كلامهم قذفا ثم الراجع فسخ معنى الشهادة من كلامه برجوعه فينقلب كلامه قذفا ولكن له ولاية فسخ الشهادة على نفسه لا على غيره فيبقى كلام الباقين شهادة وصار في حقهم كأنه لم يرجع فلا يلزمهم الحد بخلاف ما إذا أشهد ثلاثة وامتنع الرابع لأن الحجة لم تتم هناك والشهادة على الزنى في الحقيقة قذف ولكن باعتبار تمام الحجة يخرج من أن يكون قذفا شرعا فلما لم تتم الحجة هناك بقى كلامهم قذفا فيلزمهم الحد ولما تمت الحجة هنا لم يكن كلامهم قذفا ثم حكم فسخ الشهادة برجوع الرابع مقصور عليه فلا يتعدى إلى الباقي.
وحجتنا فيه أن العارض بالشهود قبل القضاء كالمقترن بأصل الأداء بدليل عمى الشهود وردتهم وبدليل المال فإن رجوع الشهود هناك قبل القضاء يمنع القاضي من القضاء بالمال لعدم تمام الحجة في الابتداء فإذا ثبت هذا فنقول لو امتنع الرابع من أداء الشهادة في الابتداء يقام حد القذف على الثلاثة ولا يكون ذلك لسكوت الرابع بل بنسبتهم إياه إلى الزنى فكذلك إذا رجع أحدهم قبل القضاء قوله إن الحجة تمت وكان كلامهم شهادة.(9/77)
قلنا هذا موقوف مراعى لأن الشهادة لا تكون حجة موجبة ما لم يتصل بها القضاء فإذا لم يتصل القضاء هنا بالشهادة حتى رجع أحدهم بقي كلامهم قذفا بالزنى إلا أن يكون حجة الحد على المشهود عليه تامة ألا ترى أن كلام الراجع قذف بالزنى ومعلوم أنه لو شهد مع القاذف ثلاثة نفر يقام عليهم الحد جميعا فكذلك هنا فأما إذا رجع أحدهم بعد القضاء قبل استيفاء الحد فإنه لا يقام الحد على المشهود عليه لأن العارض بعد القضاء فيما يندرىء بالشبهات كالعارض قبله بدليل عمي الشهود وردتهم وهذا لأن الإمام لا يمكنه إقامة الحد إلا بحجة كاملة ولم تبق بعد رجوع أحدهم.
ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الآخر يحدون جميعا حد القذف استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحد الراجع وحده وهو القياس وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله تعالى لأن الأصل أن رجوع الشاهد بعد القضاء قبل الاستيفاء فيما يندريء بالشبهات كالرجوع قبل القضاء وفيما يثبت مع الشبهات كالرجوع بعد الاستيفاء بدليل المال فإنهم إذا رجعوا بعد القضاء لا يمتنع الاستيفاء على المقضي عليه إذا ثبت هذا فنقول إقامة الحد على المشهود عليه تندريء بالشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد القضاء كالرجوع قبلة فأما سقوط حد القذف عنهم يثبت مع الشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد القضاء كرجوعه بعد الاستيفاء.(9/78)
ص -40- ... توضيحه أن الحجة تعتمد القضاء وبعد ما تمت الحجة لا يكون كلامهم قذفا ثم برجوع أحدهم يبطل معنى الحجة في حقه فيصير كلامه قذفا ولكن لا ولاية له على الباقين ولا على إبطال حكم الحاكم فيبقى كلام الباقين حجة غير قذف كما كان قبل رجوعه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان رجوع أحدهم بعد القضاء كرجوعه قبل القضاء بدليل سقوط الحد عن المشهود عليه ولا يكون ذلك إلا بعد إبطال الحكم وإذا ثبت بطلان الحكم بهذا الدليل كان هذا وما قبل القضاء سواء وتحقيقه أن فيما يجب حقا لله تعالى تمام القضاء بالاستيفاء فإن الاستيفاء من تتمة القضاء ولهذا كان إلى الإمام وهذا لأن القضاء إما أن يكون لإعلام من له الحق بحقه أو لتمكينه من الاستيفاء وذلك لا يتصور في حقوق الله تعالى فكان المعتبر في حقوق الله تعالى النيابة في الاستيفاء ولا يتم ذلك بالقضاء بل بحقيقة الاستيفاء فإذا رجع أحدهم قبل تمام القضاء بالاستيفاء كان بمنزلة رجوعه قبل القضاء وكذلك إن أقيم بعض الحد ثم رجع أحدهم لأن الحد لا يتجزى فاستيفاؤه لا يكون إلا بإتمامه فأما إذا رجع أحدهم بعد إقامة الحد فهذا على وجهين إما أن يكون الحد جلدا أو رجما فإن كان جلدا فإنه يحد هذا الراجع بالاتفاق ولا حد على الباقين لأن الحجة تمت والحكم تأكد بالاستيفاء فرجوع أحدهم يبطل معنى الشهادة في حقه لإقراره فيكون قاذفا له ولا يبطل به معنى الشهادة المتأكدة في حق الباقين فلا حد عليهم فأما إذا كان الحد رجما فعندنا يحد الراجع وحده.
وقال زفر رحمه الله تعالى: لا يحد الراجع أيضا لأن الراجع لا يكون قاذفا له بالرجوع فإنه يثني عليه خيرا فيقول كان عفيفا ولم يكن زانيا وإنما يكون قاذفا له بالشهادة السابقة فتبين أنه قذف حيا ثم مات ومن قذف حيا ثم مات لا يقام عليه حد القذف لأن حد القذف لا يورث بخلاف ما إذا كان الحد جلدا لأن المقذوف حي بعد إقامة الحد عليه.(9/79)
والدليل على الفرق أنه لو ظهر أن أحد الشهود كان عبدا فإن كان الحد جلدا يحدون حد القذف وإن كان رجم المشهود عليه فلا رجم عليهم بالاتفاق وهذا مثله.
وحجتنا فيه أنه بالرجوع أقر على نفسه بالتزام حد القذف وإقراره على نفسه حجة وتحقيقه وهو أن الشاهد عند الرجوع لا يصير قاذفا من وقت الشهادة بل يصير قاذفا في الحال لأن اقتران معنى الشهادة بكلامه يمنعه من أن يكون قذفا وإنما انتزع معنى الشهادة من كلامه عند رجوعه فيصير كلامه السابق الآن قذفا كمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق عند دخول الدار يصير ذلك الكلام طلاقا لا أن يتبين أنه كان طلاقا لأن صيرورته طلاقا باعتبار وصوله إلى المحل ووصوله إلى المحل مقصور على الحال فإذا ثبت أنه إنما يصير كلامه في الحال قذفا والمقذوف في الحال ميت ومن قذف ميتا يلزمه الحد فإن قيل: هو في الحال مرجوم بحكم الحاكم لو قذفه قاذف لا يحد قاذفه فكيف يحد هذا الراجع؟(9/80)
ص -41- ... قلنا هو مرجوم بحكم الحاكم بشهادتهم وهو يزعم أن شهادته ليست بحجة وزعمه معتبر في نفسه بخلاف القاذف فإن قذفه لا يقدح في الشهادة التي هي حجة.
فإن قيل: أكثر ما فيه أنه مقر بأنه كان عفيفا ولو قذفه إنسان بالزنى ثم أكذب نفسه وقال إنه كان عفيفا لا يقام عليه الحد أيضا.
قلنا نعم القاذف وإن أكذب نفسه فالحجة المسقطة للإحصان بقيت كاملة في حقه فأما إذا رجع واحد من الشهود لا تبقى الحجة المسقطة للإحصان كاملة في حقه فلهذا يقام عليه الحد وهذا بخلاف ما إذا ظهر أن أحدهم عبد لأن العبد لا شهادة له فتبين أن كلامهم كان قذفا في حال حياته ومن قذف حيا ثم مات لا يقام عليه الحد فأما حكم الضمان فعلى الراجع ربع الدية لأنه زعم أنه مقتول ظلما بشهادتهم وكل شاهد على الزنى متلف ربع النفس كما قال عمر رضي الله عنه حين شهد أحد الشهود على المغيرة رضي الله عنه أوه أودى ربع المغيرة ولأنه قد بقى على الشهادة من يقوم بثلاثة أرباع الحق وإنما انعدمت الحجة في ربع الحق فلهذا كان على الراجع ربع الدية عندنا.
قال ولو رجعوا جميعا حدوا حد القذف وغرم كل واحد منهم ربع الدية عندنا. وقال ابن أبي ليلى والحسن رحمهما الله تعالى يقتلون لأنهم قاتلون له فإن ما يحصل بقضاء القاضي يكون مضافا إلى شهادة الشهود ونحن نسلم أنهم بمنزلة القاتلين له ولكن قضاء القاضي بإباحة دمه شبهة مانعة من وجوب القصاص مع أن الرجم يكون بالحجارة ومباشرة القتل بالحجر لا يوجب القصاص عندنا والشهود متسببون عندنا ولا قصاص على المتسبب على ما نبين في كتاب الديات في شهود القصاص.(9/81)
قال وإن قال أحد الشهود بعد الرجم كنت يوم شهدت عليه كافرا أو مملوكا لم يصدق على أصحابه في ذلك لما بينا أن كلامهم حجة متأكدة باعتبار الظاهر وإقرار المرء حجة على نفسه لا على غيره فلا يتبين بقوله إن كلامهم كان قذفا بخلاف ما إذا ظهر أن أحدهم كان كافرا أو عبدا فإن هناك تبين أن كلامهم كان قذفا فإن كان المقذوف حيا بأن كان الحد جلدا يحدون وإن كان المقذوف ميتا بأن كان الحد رجما لا يحدون ثم إذا ظهر أن أحد الشهود كان أعمى أو محدودا في قذف فهو وما لو ظهر أنه عبد سواء لأن المحدود في القذف ليس له شهادة الأداء فإن الشرع أبطل شهادته ولهذا لا يلاعن امرأته والأعمى ليست له شهادة في الزنى لأن الشهادة على الزنى لا تكون إلا بعد الرؤية كالمرود في المكحلة وليس للأعمى ذلك ومعتق البغض كالمكاتب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا شهادة للمكاتب فإذا كان ظهور هذا بعد الرجم فدية المرجوم في بيت المال لأن هذا خطأ من الإمام في عمله لله تعالى فيكون ضمانه في مال الله وهو مال بيت المال والإمام في هذا عامل للمسلمين لأن المقصود تطهير دار الإسلام عن ارتكاب الفواحش فيها فيكون الضمان في مال المسلمين وهذا لأنه لا يمكن إيجاب الضمان على الإمام لأنه لو ضمن كان خصما وفيما هو خصم لا يكون قاضيا كما في(9/82)
ص -42- ... حقوق نفسه فإذا تعذر إيجاب الضمان عليه قلنا يجب الضمان على من وقع القضاء له ففي حقوق الله تعالى يكون على بيت المال وفي حقوق العباد كالقصاص والمال يكون الضمان على المقضي له.
قال فإن رجمه الإمام بشهادتهم قبل أن يسأل عن الشهود ثم سأل عنهم فأخبر أنهم غير عدول فلا ضمان على أحد لأن للفاسق شهادة الأداء عندنا ولكن يتوقف في شهادته لتمكن تهمة الكذب ولهذا يلاعن امرأته فلا يتبين بظهور فسقهم أن القاضي قضى بغير حجة فلهذا لا يجب الضمان بخلاف ما سبق.
وفي الكتاب قال إن هؤلاء قد تجوز شهادتهم إذا تابوا وهذا ضعيف فالكفار تجوز شهادتهم إذا أسلموا والعبيد إذا أعتقوا والاعتماد على ما قلنا.
قال فإن وجد الرجل مجبوبا بعد ما رجم فعلى الشهود الدية لأنه ظهر كذبهم بيقين لأن المجبوب ليس له آلة الزنى فكيف يزني وظهور كذبهم هنا فوق ظهور كذبهم فيما إذا رجعوا بخلاف ما إذا ظهر أنهم عبيد أو كفار فإن هناك لم يتيقن بكذبهم والعبد والكافر قد يصدق ولكن لا شهادة لهم فكان خطأ من الإمام فلهذا كان الضمان في بيت المال وإن كانت امرأة فنظر النساء إليها بعد الرجم وقلن هي عذراء أو رتقاء فلا ضمان على الشهود بقول النساء لأن شهادة النساء لا تكون حجة تامة في إلزام ضمان المال ولا مقصود هنا سوى إيجاب ضمان المال على الشهود بخلاف الجب فذلك معاين يتيقن به لا من جهة قول النساء لكن إن نظر إليها النساء قبل إقامة الحد وقلن هي عذراء أو رتقاء يدرأ عنها الحد لأن الشبهة تتمكن بقول النساء ولا شبهة أبلغ من هذا فمع الرتق لا يتصور الزنى الموجب للحد وبعد الزنى الموجب للحد لا يتصور بقاء العذرة.(9/83)
قال وإذا شهدوا بالزنى والإحصان وماتوا أو غابوا أو عموا أو ارتدوا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف قبل إقامة الحد أو قبل أن يقضي بشهادتهم لم يرجم أما ما يبطل الشهادة كالعمى والخرس والردة وحد القذف لأن هذه العوارض لو اقترنت بالشهادة منعتها من أن تكون حجة فكذلك إذا اعترضت بعد الشهادة قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الاستيفاء لأن موجبه مما يندريء بالشبهات ولكن لا حد على الشهود لأنهم جاؤا مجيء الشهود والعدد متكامل وكذلك إن أصاب ذلك أحد الشهود فهو وما لو أصابهم في الحكم سواء فأما في موت الشهود وغيبتهم فنقول إن ذلك لا يقدح في الحجة ألا ترى أن في حقوق الناس لا يمتنع على القاضي القضاء بها فكذلك في الزنى إذا كان الحد جلدا لأن بالموت يتأكد عدالتهم إذ لا يتصور منهم بعد الموت ما يبطل عدالتهم وكذلك غيبتهم لا تكون قدحا في عدالتهم فلا يمنع إقامة الحد على القاضي فأما إذا كان الحد رجما فإنه لا يقام بعد غيبة الشهود وموتهم لأن السنة في الرجم أن يبدأ به الشهود ثم الإمام ثم الناس وقد تعذر ذلك بموتهم وغيبتهم وهذا قولنا وأما عند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتبر في الرجم بداية الشهود ولكن الإمام هو الذي يبدأ.(9/84)
ص -43- ... قال لأن الشهود فارقوا سائر الناس في أداء الشهادة وإقامة الرجم ليس من أداء الشهادة في شيء فهم في ذلك كسائر الناس ألا ترى أن الحد لو كان جلدا لا يؤمر الشهود بالضرب فكذا الرجم ولكنا نستدل بحديث علي رضي الله عنه فإنه لما أراد أن يرجم شراحة الهمدانية قال الرجم رجمان رجم سر ورجم علانية فرجم العلانية أن يشهد على المرأة ما في بطنها وتعترف بذلك فيبدأ فيه الإمام ثم الناس ورجم السر أن يشهد أربعة على رجل بالزنى فيبدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس ولأن في الأمر ببداية الشهود احتيالا لدرء الحد فالإنسان قد يجترئ على أداء الشهادة كاذبا ثم إذا آل الأمر إلى مباشرة القتل يمتنع من ذلك وقد أمرنا في الحدود بالاحتيال للدرء بخلاف الجلد فكل أحد لا يحسن الضرب فلو أمرنا الشهود بذلك ربما يقتلونه بخرقهم من غير أن يكون قتله مستحقا وذلك لا يوجد في الرجم فكل أحد يحسن الرمي وقد صار الإتلاف مستحقا هنا.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يؤمر الشهود بالبداية إذا كانوا حاضرين حتى إذا امتنعوا لايقام الرجم فإذا ماتوا أو غابوا يقام الرجم هنا لأنه قد تعذر البداية بهم بسبب لا يلحقهم فيه تهمة فلا يمتنع إقامة الرجم كما لو كانوا مقطوعي الأيدي أو مرضى أو عاجزين عن الحضور بخلاف ما لو امتنعوا لأنهم صاروا متهمين بذلك ولكنا نقول حين كانوا مقطوعي الأيدي في الابتداء لم تستحق البداية بهم للتعذر فأما هنا فقد استحق البداية بهم لتيسر ذلك عند الحكم فإذا تعذر بالموت أو الغيبة لا يقام الحد كما لو تعذر بامتناعهم.(9/85)
قال ولا يحفر للمرجوم ولا يربط بشيء ولا يمسك ولكن ينصب قائما للناس فيرجم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يحفر له ولا ربطه فإنه روى لما مسه حر الحجارة هرب فاستقبله رجل بلحي حمل فقتله ثم لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هلا خليتم سبيله" وفي رواية أبطأ عليه الموت فهرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة ولو كان مربوطا أو في حفيرة لم يتمكن من الهرب وأما المرأة فإن حفر لها فحسن وإن ترك لم يضر لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم الغامدية أمر بأن يحفر لها إلى قريب من السرة فجعلت فيها فلما رجموها وماتت أمر بإخراجها وصلى عليها وقال "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له" وإن عليا رضي الله عنه حفر لشراحة الهمدانية إلى قريب من السرة ثم لفها في ثيابها وجعلها فيها ثم رماها وكان مصيب الرمية فأصاب أصل أذنها ولأن مبنى حال المرأة على الستر والحفر أستر لها لأنها تضطرب إذا مستها الحجارة فربما ينكشف شيء من عورتها ولكن مع هذا الحفر ليس من الحد في شيء فلا يضر تركه فأما مبنى حال الرجال على الظهور فينصب قائما عند الرجم ولا يشبه بالنساء في الحفر له وإذا شهد الشهود على رجل وامرأة بالزنى فادعت المرأة أنه أكرهها ولم يشهد الشهود بذلك ولكنهم شهدوا أنها طاوعته فعليهما الحد لأن إنكارها صفة الطواعية لا يكون فوق إنكارها أصل الفعل ولا ينفعها ذلك بعد ما شهد الشهود به عليها ولكن إن قالت تزوجني وقال الرجل كذبت بل زنيت بها فلا حد على(9/86)
ص -44- ... واحد منهما لأنها تدعى عليه الصداق ولو ساعدها الزوج على ذلك لزمه الصداق فإذا أنكر كان لها أن تحلفه عليه فإذا نكل لزمه الصداق وإن حلف لم يلزمه الصداق ولا يحد واحد منهما لأنه لو أقيم الحد إنما يقام بالحلف والحدود لا تقام بالأيمان بخلاف الأول فإنها بدعوى الإكراه لا تدعى الصداق لأن الزنى بالمكرهة لا يوجب الصداق لها والشافعي رحمه الله يخالفنا في الفصلين فيقول بمجرد دعواهما أو دعوى أحدهما النكاح لا يسقط الحد لقوله صلى الله عليه وسلم "لو أعطى الناس بدعواهم" وهذا لأن كل زان لا يعجز عن دعوى نكاح صحيح أو فاسد فلو أسقطنا الحد بمجرد الدعوى لانسد باب إقامة الحد
ولكنا نقول كما أمرنا بإقامة الحدود فقد أمرنا بدرئها بالشبهة.
قال صلى الله عليه وسلم "ادرؤا الحدود بالشبهات" وتتمكن الشبهة عند دعوى أحدهما النكاح لاحتمال أن يكون صادقا ألا ترى أنه تسمع بينته على ذلك ويستحلف خصمه على قول من يرى الاستحلاف في النكاح فإذا سقط الحد يسقط عن الآخر للشركة ولا يؤدي هذا إلى سد باب الحد ألا ترى أن هذا الحد يقام بالإقرار ثم لو رجع المقر عن إقراره لا يقام عليه ولا يؤدي ذلك إلى سد باب إقامة الحد في الإقرار فأما إذا زنى بمكرهة يلزمه الحد دون المهر عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب المهر لها وهي نظير مسألة القطع والضمان أنهما لا يجتمعان عندنا على ما نبينه في السرقة إن شاء الله تعالى والشافعي رحمه الله تعالى يقول هنا المستوفي بالوطء متقوم لحقها بدليل أنه متقوم بالعقد والشبهة فلا يجوز إسقاط حقها عنه بغير رضاها فإذا كانت مطاوعة فقد رضيت بسقوط حقها فيجب المهر لها ولكنا نقول فعله بالمكرهة زنا والواجب بالزنى الحد فلا يجوز الزيادة على ذلك بالرأي ثم لو كان بضعها يتقوم على الزاني لم يسقط ذلك برضاها ألا ترى أنه لما كان يتقوم بشبهة العقد لم يسقط برضاها بأن طاوعته.(9/87)
والدليل عليه أنه لو زنى بأمة وهي مطاوعة لم يجب المهر وتقوم بضعها لحق المولى فلا يسقط برضاها ولكن إنما لم يجب لأن البضع لا يتقوم بالمال بالزنى المحض وإنما يتقوم بالعقد أو بشبهته ولم يوجد ثم إذا سقط الحد عنه بدعواها النكاح وجب الصداق لها لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن عقوبة أو غرامة فإذا جعل ما ادعت من النكاح كالثابت في إسقاط الحد فكذلك في إيجاب المهر يجعل كالثابت في إيراث الشبهة.
قال وكذلك الرجل يطأ جارية امرأته وقال ظننتها تحل لي أو يطأ جارية أبيه أو أمه ويقول ظننت أنها تحل لي لا حد عليهما عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليهما الحد لأن السبب وهو الزنى قد تقرر بدليل أنهما لو قالا علمنا بالحرمة يلزمهما الحد ولو سقط إنما يسقط بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا كمن وطىء جارية أخيه أو أخته وقال ظننتها تحل لي ولكنا نقول قد تمكنت بينهما شبهة اشتباه لأنه اشتبه عليه ما يشتبه فإن مال المرأة من وجه كأنه للزوج قيل في تأويل قوله تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 7] أي بمال خديجة(9/88)
ص -45- ... ولما جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال إن عبدي سرق مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا ولأنها حلال له فربما يشتبه عليه إن حال جاريتها كحالها وفي جارية الأب والأم كذلك قد يشتبه ذلك باعتبار أن الأملاك متصلة بين الآباء والأولاد والمنافع دائرة ولأن الولد جزء من أبيه فربما اشتبه عليه أنها لما كانت حلالا للأصل تكون حلالا للجزء أيضا وشبهة الاشتباه مؤثرة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه كالقوم على مائدة فسقوا خمرا على علم منهم أنه خمر يلزمه الحد ومن لم يعلم لا يحد والأصل في حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رجلا تضيف أهل بيت باليمن فأصبح يخبر الناس أنه زنى بربة البيت فكتب إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر إن كان يعلم أن الله حرم الزنى فحدوه وإن كان لا يعلم فعلموه فإن عاد فحدوه فقد جعل ظن الحل في ذلك الوقت شبهة لعدم اشتهار الأحكام فلأن يكون الظن في موضع الاشتباه مورثا شبهة أولى فأما إذا لم يجب الحد وجب المهر لما بينا أن هذا الفعل في غير الملك لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وإذا سقطت العقوبة وجب المهر.(9/89)
قال: وإذا شهد الشهود على رجل أنه استكره هذه المرأة فزنى بها حد الرجل دون المرأة لأن وجوب الحد للزجر وهي منزجرة حين أبت التمكين حتى استكرهها ولأن الإكراه من جهتها يعتبر في نفي الإثم عنها على ما ذكرنا في كتاب الإكراه أن لها أن تمكن إذا أكرهت بوعيد متلف والحد أقرب إلى السقوط من الإثم فإذا سقط الإثم عنها فالحد أولى ويقام الحد على الرجل لأن الزنى التام قد ثبت عليه وجنايته إذا استكرهها أغلظ من جنايته إذا طاوعته ولا يقال قد سقط الحد عنها فينبغي أن يسقط عنه كما لو ادعت النكاح وهذا لأن الشبهة بدعوى النكاح تتمكن في الفعل والفعل مشترك بينهما فأما كونها مكرهة لا يتمكن به شبهة في الفعل ولا يخرج فعل الرجل من أن يكون زنا محضا لأن المرأة محل الفعل ولا تنعدم المحلية بكونها مكرهة وهو كما لو زنى بصبية أو مجنونة أو نائمة يقام عليه الحد وإن لم يجب عليها.(9/90)
قال: ولو أن مجنونا أكره عاقلة حتى زنى بها لا حد على واحد منهما أما المرأة فلأنها مكرهة غير ممكنة طوعا وأما الرجل فلأنه مجنون ليس من أهل التزام العقوبة فإذا دعت العاقلة البالغة مجنونا أو صبيا إلى نفسها فزنى بها لا حد عليها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليها الحد وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنها زانية فعليها الحد بالنص وبيانه وهو أن الزنى ليس إلا وطء متعر عن العقد والملك وشبههما وقد وجد ذلك إلا أنه سقط الحد عن أحدهما لانعدام الأهلية لمعنى فلا يمتنع إقامته على الآخر كما لو زنى بصبية أو مجنونة وهذا لأن فعل كل واحد منهما كامل في نفسه وهي في التمكين زانية كالرجل في الإيلاج ألا ترى أن الله تعالى سماها زانية وبدأ بذكرها وإن من نسبها إلى الزنى يلزمه الحد ولو كان لا يتصور منها مباشرة الزنى لم يحد قاذفها به كالمجبوب ولأنها بهذا التمكين تقضي شهوتها كالرجل بالإيلاج فإذا ثبت كمال الفعل من كل جانب يراعى حال كل واحد منهما فيما يلزمه من العقوبة.
وحجتنا في ذلك أنها مكنت نفسها من فاعل لم يأثم ولم يحرج فلا يلزمها الحد كما(9/91)
ص -46- ... لو مكنت نفسها من زوجها وبيان الوصف ظاهر لأن الإثم والحرج ينبني على الخطاب وهما لا يخاطبان وتحقيقه أن المباشر للفعل هو الرجل والمرأة تابعة بدليل تصور الفعل فيها وهي نائمة لا تشعر بذلك وإن لم يكن أصل الفعل زنا فهي لا تصير زانية لأن ثبوت التبع بثبوت الأصل وفعل الصبي والمجنون زنا لغة ولكن ليس بزنا شرعا لأن الزنى شرعا فعل وجب الكف عنه لخطاب الشرع فلا ينفك عن الإثم والحرج وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بذلك وإذا انعدم الزنى شرعا في جانبه فكذلك في جانبها والحد حكم شرعي فيستدعي ثبوت سببه شرعا وإنما سماها الله تعالى زانية على معنى أنها مزني بها كما قال تعالى {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي مرضية وقال تعالى {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي مدفوق وإنما يجب الحد على قاذفها لنسبتها إلى ما تتعير وتستوجب به الحد وتقضي به شهوتها وهو التمكين من الزنى وإن كانت تابعة في ذلك وأما الرجل إذا زنى بصبية فهو المباشر لأصل الفعل وفعله زنا لغة وشرعا فلهذا لزمه الحد بحقيقة أن المرأة محل والمحلية مشتهاة وذلك باللين والحرارة فلا يتمكن نقصان فيه بجنونها وصغرها فقد تم فعله زنا لمصادفة محله فأما من جانب الرجل استعمال الآلة لا نفس الآلة واستعمال الآلة لا يكون زنا شرعا إلا إذا كان واجب الكف عند الخطاب وذا بصفة الإثم والحرج وذلك ينعدم بالصبا والجنون وهذا فقه دقيق وفرق حسن.(9/92)
وفي الكتاب علل فقال ذكر الصبي كأصبعه معناه ما هو المقصود بالزنى معدوم في آلة الصبي فلا يكون فعله بهذه الآلة زنا والمعتوه بمنزلة الصبي في الحكم فأما المحصنة إذا زنى بها غير المحصن فعليها الرجم لأن فعل غير المحصن زنا فتصير هي زانية بالتمكين من الزنى ثم المعتبر حالها فيما يقام من العقوبة بعد تقرر السبب وكل رجل يزني بامرأة لا يجب عليها الحد بشبهة مثل الخرساء التي لا تنطق فلا حد عليه لأن الشبهة تمكنت هنا والخرساء لو كانت تنطق ربما تدعى شبهة نكاح وقد لا تقدر على إظهار ما في نفسها بالإشارة وقد بينا أنها لو ادعت النكاح سقط عنها الحد فكذلك إذا كانت خرساء والأصل فيه حديث عمر رضي الله تعالى عنه ادرؤا ما استطعتم فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم للمسلم مخرجا فادرؤا عنه وهذا بخلاف ما إذا زنى بصبية أو مجنونة لأن سقوط الحد عنها ليس للشبهة بل لانعدام الأهلية.
قال وإذا زنى الحربي المستأمن بالمسلمة أو الذمية فعليها الحد ولا حد عليه في قول أبي حنيفة وقال محمد رحمهما الله تعالى لا حد على واحد منهما وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول ثم رجع وقال يحدان جميعا أما المستأمن فعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تقام عليه الحدود التي هي لله تعالى خالصا كحد الزنى والسرقة وقطع الطريق وفي قول أبي يوسف الآخر والشافعي رحمهما الله تعالى يقام الحد عليه كما يقام على الذمي لأنه ما دام في دارنا فهو ملتزم أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالذمي ألا ترى أنه يقام عليه القصاص وحد القذف ويمنع من الربا ويجبر على بيع العبد المسلم والمصحف إذا اشتراه كما يجبر عليه(9/93)
ص -47- ... الذمي وهذا لأن هذه الحدود تقام صيانة لدار الإسلام فلو قلنا لا تقام على المستأمن يرجع ذلك إلى الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناه الأمان ليستخف بالمسلمين بخلاف حد شرب الخمر فإنه لا يقام على الذمي وهذا لأنهما يعتقدان إباحة شرب الخمر وإنما أعطيناهم الأمان على أن نتركهم وما يدينون.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] فتبليغ المستأمن مأمنه واجب بهذا النص حقا لله تعالى وفي إقامة الحد عليه تفويت ذلك ولا يجوز استيفاء حقوق الله تعالى على وجه يكون فيه تفويت ما هو حق لله والمعنى أن المستأمن ما التزم شيئا من حقوق الله تعالى وإنما دخل تاجرا ليعاملنا ثم يرجع إلى داره ألا ترى أنه لا يمنع من الرجوع إلى دار الحرب ولو كان ملتزما شيئا من حقوق الله تعالى يمنع من ذلك كالذمي وهذا لأن منعه من أن يعود حربا للمسلمين بعد ما حصل في أيديهم حق الله تعالى بخلاف القصاص فإنه حق العباد وهو قد التزم حقوق العباد في المعاملات وحد القذف فيه بعض حق العباد أيضا لأن المقصود رفع العار عن المقذوف والإجبار على بيع العبد المسلم من حق العبد وهو من حقوق المسلمين أيضا لأن في استخدام العبد المسلم نوع إذلال بالمسلمين وكذلك في استخفافه بالمصحف وأما الربا فهو مستثني من كل عهد قال صلى الله عليه وسلم "إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد" فأما في جانب المرأة المسلمة فمحمد رحمه الله تعالى يقول لا حد عليها أيضا لأنها مكنت نفسها من فاعل لا يلزم الحد بفعله فهو كالتمكين من صبي أو مجنون وهذا لأن الكفار لا يخاطبون بالشرائع عندنا وما هو من خالص حق الله تعالى فالخطاب فيه قاصر عن الكافر كما هو قاصر عن الصبي والمجنون وقاس هذا بما لو مكنت نفسها من مكره فإنه لا يجب الحد عليها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول فعل المستأمن زنا بدليل أنه لو قذفه قاذف به بعد الإسلام لا يقام عليه الحد فصارت هي زانية بالتمكين(9/94)
من الزنى ويقام عليها الحد بخلاف الصبي والمجنون فإن فعلهما ليس بزنا شرعا حتى لو قذفهما قاذف بذلك الفعل بعد البلوغ والعقل يجب عليه الحد وهذا لأن معنى قولنا الكفار لا يخاطبون بالشرائع العبادات التي تنبني على الإسلام فأما الحرمات ثابتة في حقهم وكان فعل المستأمن واجب الكف عنه بخطاب الشرع فيكون زنا إلا أنه لا يقام عليه الحد لوجوب تبليغه مأمنه وأما إذا مكنت نفسها من مكره فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجب الحد عليها وإن ضجع أبو يوسف رحمه الله تعالى الرواية فيه بقوله لست أحفظ عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المكره شيئا وهذا لأن المكره ممنوع عن الإقدام على الزنى وفي الإقدام عليه يكون فعله زنا وتصير هي بالتمكين زانية تبعا فيلزمها الحد.
قال وإذا زني المسلم أو الذمي بالمستأمنة حد المسلم والذمي دون المستأمنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يحدان أما الكلام في المستأمنة فقد بيناه وتعذر إقامة الحد عليها ليس للشبهة فلا يمنع إقامته على الرجل مسلما كان أو ذميا لأن حد الزنى يقام على أهل الذمة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى لا يقام(9/95)
ص -48- ... ولكنه يدفع إلى أهل دينه ليقيموا عليه ما يعتقدون من العقوبة لما روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما لما سئلا عن ذميين زنيا فقالا يدفعان إلى أهل دينهما ولكنا نقول قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجم على اليهوديين وكانا ذميين ولنا فيه أسوة حسنة ولأن الذمي من أهل دارنا وملتزم أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات وهو يعتقد حرمة الزنى كما يعتقده المسلم فيقام عليه كما يقام على المسلم لأن المقصود من الحدود تطهير دار الإسلام عن ارتكاب الفواحش.
توضيحه أن من كان من أهل دارنا فهو تحت يد الإمام حقيقة وحكما حتى يمنعه من الرجوع إلى دار الحرب فيقيم الحد عليه أيضا بخلاف المستأمن فإنه ليس تحت يد الإمام حكما حتى لا يمنعه من الرجوع إلى دار الحرب.
قال: وإذا شهد الشهود على رجل أنه زنى بامرأة فقال ظننت أنها تحل لي أو شبهتها بامرأتي أو جاريتي لم يدرأ عنه الحد لأن فعل الزنى قد تحقق عنه وظنه هذا ليس بصادر عن دليل فكان لغوا وكذلك لو أن بصيرا وجد امرأة على فراشه فواقعها على ظن أنها امرأته وهي أجنبية فعليه الحد وكذلك الأعمى عندنا وقال زفر رحمه الله يدرأ الحد عن الأعمى لأنه عدم آلة التمييز وهو البصر فبنى على ظاهر الحال والظاهر أن لا يكون على فراشه إلا زوجته أو أمته فيصير ذلك شبهة في حقه بخلاف البصير ومذهبنا مروى عن عمر رضي الله عنه.(9/96)
والمعنى فيه أن اعتمد مجرد الظن فإن الموجودة على فراشه قد تكون أمه أو أخته وقد تكون أجنبية وقد تكون زوجته فلا معتبر بذلك وهو متمكن من أن يسألها كتمكن البصير من أن يراها فأما إذا دعى الأعمى امرأته إلى فراشه فأتته أجنبية فواقعها إن كانت قالت له أنا زوجتك فلا حد عليه وإن أجابت أو أتته ساكتة فكذلك الجواب عند أبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى يجب عليه الحد لأنها إذا قالت أنا زوجتك فقد اعتمد خبر الواحد وذلك دليل شرعي ألا ترى أن البصير إذا تزوج امرأة فأخبره رجل أن امرأته هذه كان له أن يعتمد خبره ويطأها فإذا تبين أنها غير امرأته كان الثابت حكم الوطء بشبهة فكذلك هي إذا أخبرته بذلك فأما إذا لم تخبره فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول إجابتها أو إتيانها بعد ما دعي زوجته بمنزلة إخبارها أني زوجتك ومحمد رحمه الله تعالى يقول إن أجابته إلى الفراش فهو كما لو وجدها نائمة على فراشه وكما لا يسقط الحد هناك بظنه فكذلك هنا.
قال: رجل استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها فلا حد عليهما في قول أبي حنيفة وقال وأبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى عليهما الحد لتحقق فعل الزنى منهما فإن الاستئجار ليس بطريق لاستباحة البضع شرعا فكان لغوا بمنزلة ما لو استأجرها للطبخ أو الخبز ثم زنى بها وهذا لأن محل الاستئجار منفعة لها حكم المالية والمستوفى بالوطء في حكم العتق وهو ليس بمال أصلا والعقد بدون محله لا ينعقد أصلا فإذا لم ينعقد به كان هو والإذن سواء ولو زنى بها بإذنها يلزمه الحد ولكن أبو حنيفة رحمه الله احتج بحديثين ذكرهما عن عمر رضي الله عنه أحدهما ما روى أن امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه(9/97)
ص -49- ... من نفسها فدرأ عمر رضي الله عنه الحد عنهما والثاني أن امرأة سألت رجلا مالا فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها فدرأ الحد وقال هذا مهر ولا يجوز أن يقال إنما درأ الحد عنها لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالا كما ذكرنا في الحديث الثاني مع أنه علل فقال إن هذا مهر ومعنى هذا أن المهر والأجر يتقاربان قال تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] سمى المهر أجرا ولو قال أمهرتك كذا لأزني بك لم يجب الحد فكذلك إذا قال استأجرتك توضيحه أن هذا الفعل ليس بزنا وأهل اللغة لا يسمون الوطء الذي يترتب على العقد زنا ولا يفصلون بين الزنى وغيره إلا بالعقد فكذلك لا يفصلون بين الاستئجار والنكاح لأن الفرق بينهما شرعي وأهل اللغة لا يعرفون ذلك فعرفنا أن هذا الفعل ليس بزنا لغة وذلك شبهة في المنع من وجوب الحد حقا لله تعالى كما لا يجب الحد على المختلس لأن فعله ليس بسرقة لغة يوضحه أن المستوفى بالوطء وإن كان في حكم العتق فهو في الحقيقة منفعة والاستئجار عقد مشروع لملك المنفعة وباعتبار هذه الحقيقة يصير شبهة بخلاف الاستئجار للطبخ والخبز ولأن العقد هناك غير مضاف إلى المستوفي بالوطء ولا إلى ما هو سبب له والعقد المضاف إلى محل يوجب الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر.(9/98)
قال رجل أكره حتى زنى بامرأة كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يلزمه الحد وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن الرجل لا يزني ما لم تنتشر آلته وذلك دليل الطواعية بخلاف المرأة فإن التمكين يتحقق منها مع الإكراه فلا يكون تمكينها دليل الطواعية ثم رجع فقال إذا كان المكره سلطانا فلا حد عليه لأن الحد مشروع للزجر وهو منزجر عن الزنى وإنما كان قصده من الإقدام دفع الهلاك عن نفسه فلا يلزمه الحد كالمرأة وهذا لأن انتشار الآلة لا يدل على أنه كان طائعا لأن انتشار الآلة قد يكون طبعا وقد يكون طوعا ألا ترى أن النائم قد تنتشر آلته من غير قصد وفعل منه وإنما انتشار الآلة دليل الفحولية فأما إذا أكرهه غير السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه الحد إذا زنى وعندهما إذا جاء من إكراه غير السلطان ما يشبه إكراه السلطان فلا حد عليه وقيل هذا اختلاف عصر فإن السلطان كان مطاعا في زمن أبي حنيفة ولم ير لغير السلطان من القوة ما يقوى به على الإكراه فقال لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان ثم في عصرهما قد ظهرت القوة لكل متغلب فقالا يتحقق الإكراه من غير السلطان.
وجه قولهما أن المعتبر خوف التلف على نفسه وذلك يتحقق إذا كان المكره قادرا على إيقاع ما هدد به سلطانا كان أو غيره بل خوف التلف هنا أظهر لأن المتغلب يكون مستعجلا لما قصده لخوفه من العزل بقوة السلطان والسلطان ذو أناة بما يفعله فإذا تحقق الإكراه من السلطان بالتهديد فمن المتغلب أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما يكون مغيرا للحكم يختص بالسلطان كإقامة الجمعة ونحوها وتحقيقه أن الإكراه من غير السلطان نادر لأنه مغلوب بقوة السلطان فالمبتلى به يستغيث بالسلطان ليدفع شره عنه فإذا عجز عن ذلك فهو نادر ولا حكم(9/99)
ص -50- ... للنادر فأما المبتلى بالسلطان لا يمكنه أن يستغيث بغيره ليدفع شره عنه فيتحقق خوف التلف على نفسه فيكون ذلك مسقطا للحد عنه.
قال رجل زنى بأمة أو حرة ثم قال اشتريتها درئ عنه الحد لأنه ادعى سببا مبيحا فإن الشراء في الأمة يفيد ملك المتعة وفي الحرة النكاح فإنه ينعقد بلفظ الشراء فكان دعواه الشراء كدعوى النكاح وقد بينا أن مجرد دعوى النكاح يسقط الحد.
قال وإذا شهد الشهود على رجل بالزنى وزكاهم المزكون وزعموا أنهم أحرار مسلمون فرجمه الإمام ثم تبين أنهم عبيد أو مجوس فإن ثبت المزكون على التزكية وزعموا أنهم أحرار فلا ضمان عليهم ولا على الشهود أما على الشهود فلأنه لم يتبين كذبهم ولم تقبل شهادتهم إذ لا شهادة على المسلمين للعبيد والكفار وأما على المزكين فلأنهم اعتمدوا ما سمعوا من إسلامهم وحريتهم وإنما زكوهم بقول الناس فلم يتبين كذبهم فيما أخبروا به القاضي من قول الناس أنهم أحرار مسلمون فأما إذا رجعوا عن التزكية وقالوا تعمدنا فعليهم ضمان الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا ضمان على المزكين ولكن الدية في بيت المال في الوجهين لأن المزكين ما أثبتوا سبب الإتلاف وهو الزنى وإنما أثنوا على الشهود خيرا فكانوا في المعنى كشهود الإحصان إلا أن أولئك أثبتوا خصالا محمودة في الزاني لا يقام الرجم عليه إلا بها وهؤلاء أثبتوا خصالا في الشاهد لا يقام الرجم إلا عندها فكما لا ضمان على شهود الإحصان إذا رجعوا فكذلك لا ضمان على المزكين وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المزكون جعلوا ما ليس بموجب موجبا فكانوا بمنزلة من أثبت سبب الإتلاف وبيان ذلك أن الشهادة لا توجب شيئا بدون التزكية وسبب الإتلاف الشهادة وإنما كانت الشهادة موجبة بالتزكية فكانت التزكية علة العلة وهي بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليه بخلاف شهود الإحصان فإن الشهادة على الزنى بدون الإحصان موجب للعقوبة وشهود(9/100)
الإحصان ما جعلوا ما ليس بموجب موجبا وأما الشهادة لا توجب شيئا بدون التزكية فمن هذا الوجه تقع الفرقة بينهما ولهذا اشترط الذكورة في المزكين كشهود الزنى ويثبت الإحصان بشهادة النساء مع الرجال وإن كان المزكون قالوا هم عدول فلا شيء عليهم بالاتفاق لأنهم صادقون في ذلك والعبد قد يكون عدلا ويكون القاضي جهل حين اكتفى منهم بهذا القدر فلهذا لا يضمن المزكون.
قال وإذا زنى بجارية فقتلها إن قتلها بفعله فعليه الحد وضمان القيمة الحد للزنا والقيمة لإتلاف النفس وهما معنيان كل واحد منهما منفصل عن الآخر وكذلك لو فعل ذلك بحرة فعليه الحد والدية وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمة يدرأ عنه الحد للشبهة لأن ضمان القيمة سبب لملك الأمة بخلاف الحرة وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا زنى بأمة فأذهب بصرها فعليه قيمتها وسقط عنه الحد لأن الجثة العمياء تملك بالضمان فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد فأما إذا قتلها فإنما لزمه ضمان القيمة بالجناية وضمان(9/101)
ص -51- ... القيمة بالجناية بدل النفس فلا يوجب الملك لأن وجوبها بعد تقرر الجناية بالموت وهي ليست بمحل للملك بعد الموت.
قال وإذا زنى بأمة هي رهن عنده فإن قال ظننت أنها تحل لي درئ عنه الحد وإن قال علمت أنها علي حرام حد لأن عقد الرهن يثبت ملك اليد حقا للمرتهن وبملك اليد تثبت شبهة الاشتباه كما في المعتدة من خلع أو من تطليقات إذا وطئها وقال ظننت أنها تحل لي لا يحد لبقاء ملك اليد له فيها بسبب العدة.
وذكر في كتاب الرهن أنه يحد على كل حال لأن حق المرتهن إنما يثبت في المالية وذلك ليس بسبب للحل بحال وهو نظير الغريم إذا وطىء جارية من التركة يلزمه الحد وإن كانت المالية حقا له فإنها تباع في دينه.
قال ولو استأجر أمة لتخدمه أو استعارها فزنى بها فعليه الحد في الوجهين جميعا لانعدام شبهة الاشتباه فإن ملك المنفعة لا يتعدى إلى ملك الحل بحال.
قال وإذا شهد أربعة على رجل بالزنى واختلفوا في المزني بها أو في المكان أو في الوقت بطلت شهادتهم وذلك لأن الزنى فعل يختلف باختلاف المحل والمكان والزمان وما لم يجتمع الشهود الأربعة على فعل واحد لا يثبت ذلك عند الإمام ولكن لا حد على الشهود عندنا وقال زفر رحمه الله عليهم حد القذف لأن كل اثنين نسباه إلى زنا آخر فكانا قاذفين له وشرط سقوط الحد عنهم اجتماعهم على الشهادة بزنا واحد ألا ترى أنه لو شهد ثلاثة وسكت الرابع حد الثلاثة فكذلك إذا شهد كل اثنين على زنا آخر لأن الزنى لا يثبت بشهادة المثنى ولكنا نقول قد اجتمع الأربعة على الشهادة عليه بالزنى وذلك منع من وجوب الحد عليهم كما لو شهد أربعة من الفساق بالزنى على رجل.(9/102)
توضيحه أنا لو اعتبرنا اختلافهم في المزني بها أو في المكان أو في الزمان في إيراث الشبهة وذلك مسقط للحد عن المشهود عليه غير موجب للحد عليهم ويجعل في الحكم كأنهم امتنعوا من بيان ذلك أصلا ولو شهدوا عليه بالزنى وامتنعوا من بيان المزني بها والمكان والزمان لا يقام الحد على المشهود عليه ولا عليهم فهذا مثله.
قال وإذا شهدوا على بيت واحد أنه زنى بها فيه فقال اثنان في مقدمه وقال اثنان في مؤخره في القياس لا حد على المشهود عليه وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن الفعل في مقدم البيت غير الفعل في مؤخر البيت وهو بمنزلة الشهادة في بيتين أو قبيلتين.
وفي الاستحسان يقام الحد على المشهود عليه عندنا لأنهم اجتمعوا على فعل واحد واختلفوا فيما لم يكلفوا نقله والتوفيق ممكن فوجب قبول شهادتهم كما لو اختلفوا في ثيابها حين زنى بها وبيان الوصف أنهم لو شهدوا أنه زنى بها في هذا البيت لم يسألهم القاضي إن كان في مقدمه أو في مؤخره وبيان إمكان التوفيق من وجهين.
أحدهما: أن ابتداء الفعل كان في مقدم البيت وانتهاءه كان في مؤخره لاضطرابهما أو(9/103)
ص -52- ... كان في وسط البيت فظن اثنان أن ذلك الموضع من مقدم البيت واثنان أنه من مؤخر البيت فشهدوا على ما وقع عندهم بخلاف البيتين والقبيلتين فالتوفيق هناك غير ممكن ثم هذا الاستحسان منا لتصحيح الشهادة لا لإقامة الحد فإنما يستحسن لدرء الحد ولم يذكر إذا تقارب اختلافهم في الزمان والجواب فيه كالجواب في المكان إذا تقارب على وجه يمكن التوفيق تقبل شهادتهم استحسانا ولو اختلفوا في الثوب الذي كان عليه حين زنى بها لم تبطل شهادتهم لأنهم لو امتنعوا من بيان ثوبه حين زنى لم يقدح ذلك في شهادتهم فعرفنا أنهم اختلفوا فيما لم يكلفوا نقله والتوفيق ممكن لجواز أن يكون عليه ثوبان وقع بصر اثنان على أحدهما وبصر الآخرين على الآخر.
قال وإذا شهد أربعة على رجل بالزنى وأحدهم والده أو ولده فالشهادة جائزة لأنه لا تهمة في شهادة الولد على والده ثم يرث الولد من والده وإن رجم بشهادته إلا أنه إذا أمره الإمام بالبداية ينبغي أن لا يتعمد قتله لأن الولادة مانع للولد من أن يتعرض لوالده بالقتل وإن كان مباح الدم على ما روى أن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه المشرك فلم يأذن له وقال "يكفيك ذلك غيرك" وكذلك إن كان الشاهد أخا أو جدا أو واحدا من ذي الرحم المحرم لأنه اجتمع حرمتان الإسلام والقرابة وذلك مانع من التعرض له بالقتل كما في العادل لا يحل له أن يقتل أخاه الباغي بخلاف المسلم يحل له أن يقتل أخاه الكافر لأن الموجود هناك حرمة واحدة وهي القرابة فكان بمنزلة حرمة الإسلام فيما بين الأجانب.
قال فأما في حق الوالدين من الكفار الموجود حرمتان الولاد يعني به الجزئية والقرابة فلو أنه أصاب مقتله لم يحرم الميراث أيضا لأنه قتل بحق وحرمان الميراث جزاء على القتل المحظور عقوبة فلا يثبت ذلك في القتل بحق.(9/104)
قال ولو امتنع أحد الشهود من البداية بالرجم فذلك شبهة في إسقاط الحد عن المشهود عليه ولكن لا يقام الحد على الشهود لأنهم ثابتون على الشهادة وإنما امتنع بعضهم من مباشرة القتل وذلك لا يكون رجوعا عن الشهادة على الزنى وقد يمتنع الإنسان من مباشرة القتل بحق.
قال وإذا شهد الشهود على رجل بالزنى وعدلوا فلم يقض القاضي بالرجم حتى قتله إنسان بالسيف عمدا أو خطأ فعليه القصاص في العمد والدية على العاقلة في الخطأ لأن الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل بها القضاء ألا ترى أنهم لو رجعوا بعد عدالتهم
لم يقض القاضي بشيء ولم يضمنوا للمشهود له شيئا ولو وجب حق المشهود له قبل القضاء بظهور عدالتهم لصاروا متلفين ذلك عليه بالرجوع فينبغي أن يضمنوا له ولما ثبت أن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء فبقيت النفس معصومة على ما كانت قبل الشهادة فيجب القصاص على من قتله عمدا ولأن الشهادة قد بطلت بالقتل فإن القاضي لا يقضي بها بعد ذلك لفوات المحل فهو كما لو بطلت الشهادة برجوعهم فإن قضى القاضي برجمه ثم قتله إنسان عمدا أو خطأ أو(9/105)
ص -53- ... قطع يده أو فقأ عينه لا شيء عليه لأنه قد صار مباح الدم بقضاء القاضي والفعل في محل مباح لا يكون سبب وجوب الضمان وكذلك لو رجع الشهود عن شهادتهم فلا شيء على الجاني لأن رجوعهم ليس بحجة في حق الجاني فوجوده كعدمه وإن وجد أحد الشهود عبدا بعد ما قتله الرجل عمدا ففي القياس عليه القصاص لأنه تبين أنه كان محقون الدم حين ظهر أن عدد الشهود لم يتكامل فإن العبد لا شهادة له ولأن هذا في معنى قتله إياه قبل قضاء القاضي لأنه قد تبين أن قضاء القاضي كان باطلا ولكنه استحسن فأبطل عنه القصاص وجعل عليه الدية في ماله في ثلاث سنين لأن القاضي قضى بإباحة دمه وصورة قضاء القاضي تكفي لإيراث الشبهة فإنه لو كان حقا كان مبيحا للدم فصورته تمكن شبهة كالنكاح الفاسد يجعل شبهة في إسقاط الحد ولهذا لا يجب القصاص على المولى إذا جاء المشهود بقتله حيا وإذا امتنع وجوب القصاص للشبهة وجبت الدية في ماله لأن القتل عمد والعاقلة لا تعقل العمد ولكن تجب الدية في ثلاث سنين لأن وجوبها بنفس القتل فإن كان هذا الرجل قتله رجما فلا شيء عليه لأنه ممتثل أمر القاضي فيكون فعله كفعل القاضي فلا يضمن شيئا ولكن هذا خطأ من الإمام فيما عمله لله تعالى فتجب الدية في بيت المال بخلاف الأول لأن هناك ما امتثل أمر القاضي في قتله إياه بالسيف ولهذا يؤدبه القاضي هناك على ما صنع ولا يؤدبه هنا وإن لم يكونوا أجهزوا عليه حتى ظهر أن أحد الشهود عبد فأرش الجراحة أيضا في بيت المال اعتبارا للبعض بالكل والمعنى الجامع أن الخطأ من الإمام في الوجهين.(9/106)
قال أربعة شهدوا على رجل بالزنى وهو غير محصن وضربه الإمام الحد ثم وجد أحدهم عبدا وقد مات من ذلك الضرب أو لم يمت فلا شيء في بيت المال ولا على الإمام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو على بيت المال وعلى هذا لو رجع الشهود وقد جرحته السياط فلا ضمان على الشهود في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يضمن الشهود أرش الجراحات والدية إن مات من ذلك.
وحجتنا أن الجلدات أقيمت عليه بشهادتهم فالشاهد يجعل كالمباشر لما أوجبه بشهادته في حكم الضمان كما لو كان الحد رجما وكما أن شهود القصاص وشهود القتل إذا رجعوا ضمنوا ما أتلف بشهادتهم كأنهم باشروا ذلك فهذا مثله فإذا ثبت أنهم كالمباشرين تلفا ومن ضرب إنسانا بسوط فجرحه من ذلك فهو ضامن أرش الجراحة ولو مات من ذلك كان ضامنا للدية فكذلك إذا رجعوا هنا وإذا ظهر أنهم عبيد فقد ظهر الخطأ من الإمام فذلك الضمان في بيت المال وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما أوجبوا بشهادتهم ضربا مؤلما غير جارح ومتلف بدليل أنه لا يقام هذا الحد الشديد على المريض كيلا يؤدي إلى الإتلاف وبدليل أنه يختار لإقامة الحد سوطا لا ثمرة له كيلا يجرحه ويفرق على الأعضاء كيلا يؤدي إلى الجراحة ولأنه لو ضربه فلم يجرحه يتم إقامة الحد حتى لا يعاد عليه فيثبت أنهم إذا أوجبوا بشهادتهم ضربا مؤلما غير جارح ولا متلف ولكن الجراحة والإتلاف أفضت إليه الشهادة،(9/107)
ص -54- ... والشاهد عند الرجوع لا يضمن ما أفضى إليه شهادته كالشهادة بالنسب في حال الحياة إذا رجع بعد ما مات المشهود عليه وورث المشهود له بنسبه وكما أن الجراحة والإتلاف ليس من موجب الشهادة فكذا ليس من موجب القضاء لأن القاضي إنما يقضي بما شهد به الشهود فلا يمكن إيجاب الضمان على القاضي ولا في بيت المال لأنه إنما يجب في بيت المال ما كان واجبا بقضاء القاضي إذا تبين فيه الخطأ ولا شيء على الجلاد أيضا لأنه امتثل أمر القاضي وهو مجتهد فيما أقام من الحد فلهذا لا يضمن أحد شيئا بخلاف ما إذا باشر الضرب بالسوط فإنما يحصل بضربه من موجبات فعله وهو متعد في ذلك فكان مؤاخذا بضمانه.
قال أربعة شهدوا على رجل بشيء يجب فيه التعزير فعزره الإمام فمات من ذلك فلا شيء على الإمام ولا في بيت المال عندنا وهو مذهب عمر وعلي رضي الله عنهما
وعلى قول الشافعي رحمه الله تجب الدية في بيت المال وهو قول علي رضي الله عنه لأن التعزير للتأديب لا للإتلاف فإذا أدى إلى الإتلاف كان خطأ من الإمام فيجب الضمان في بيت المال لأنه عمل فيه لله تعالى وكما نقول في الزوج إذا عزر زوجته فماتت كان عليه ضمان الدية ولكنا نقول الإمام محق فيما أقام وهو مستوف حقا لله تعالى فيصير كأن من له الحق أماته بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لأنه يستوفي ذلك لمنفعة نفسه فما يتولد منه يكون مضافا إليه.
توضيحه أن إقامة التعزير مستحق على الإمام شرعا إذا علم أنه لا ينزجر إلا به وما يكون مستحقا على المرء لا يتقيد بشرط ليس في وسعه التحرز عنه وهو كما لو قطع يد السارق فمات من ذلك فأما تعزير الزوج مباح له غير مستحق عليه والمباحات تتقيد بشرط السلامة كالمشي في الطريق والرمي إلى الصيد.
قال وإذا حكم الإمام على رجل بالزنى والرجم بشهادة الشهود وقال للناس ارجموه وسعهم أن يرجموه وإن لم يعاينوا أداء الشهادة.(9/108)
وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى لا يسعهم ذلك ما لم يشهد به عدل آخر عندهم أو يعاينوا أداء الشهادة والحكم لأن القتل أمر عظيم إذا وقع فيه الغلط لا يمكن التدارك والتلافي ومن يكون مجرد قوله ملزما الأنبياء المعصومون عن الكذب فإنهم لا يقرون على الكذب والقاضي لا تبلغ درجته درجة الأنبياء بل هو غير معصوم عن الخطأ والكذب فلا يسعهم الإقدام بمجرد قوله على ما إذا وقع الغلط لا يمكن تداركه وجه ظاهر الرواية أن قضاء القاضي أولى من شهادة الشهود فلو عاينوا أداء الشهادة وسعهم أن يرجموه وإن كان الشهود غير معصومين عن الكذب فكذلك إذا أخبرهم القاضي بقضائه وهذا لأن العادة الظاهرة هي الاكتفاء في كل بلدة بقاض واحد فلو لم يكن مجرد حكمه حجة لكان يتخذ قاضيان في كل بلدة لحاجة الناس إلى ذلك وفي الاكتفاء بقاض واحد دليل على أن مجرد قوله حجة يطلق لهم الإقدام على إقامة الحد رجما كان أو قتلا حد قطاع الطريق أو قطعا في السرقة.(9/109)
ص -55- ... قال وإذا شهد عليه ثلاثة بالزنى وقال الرابع لم أر ما قالوا ولكني رأيتهما في لحاف واحد فشهادتهم باطلة لأن الرابع ما شهد بشيء فلم يتكامل عدد شهود الزنى فلا يجب الحد على المشهود عليه ويحد الثلاثة لأنهم قذفوه بالزنى حيث لم يتكامل عدد الشهود ولا يحد الرابع لأنه ما نسبه إلى الزنى بقوله رأيتهما في لحاف واحد والأصل فيه ما روينا من حديث المغيرة فإن عمر رضي الله تعالى عنه أقام الحد على الثلاثة حين امتنع زياد من الشهادة على صريح الزنى ولم يقم الحد على زياد وإن كان الرابع قال أشهد أنه زان ثم سئل عن صفته فلم يصف ذلك فعليه الحد بقوله أنه زان لأنه قد نسبه إلى الزنى بهذا وأكد ذلك بلفظ الشهادة ولو لم يؤكد ذلك بلفظة الشهادة ولكن قال هذا زان كان قاذفا له بهذا اللفظ مستوجبا الحد فهنا أولى وتأويل هذه المسألة أن الرابع إذا قال هذا في مجلس آخر سوى المجلس الذي شهد فيه الثلاثة فأما إذا اجتمع الأربعة في مجلس وشهدوا عليه بالزنى وأبى بعضهم أن يفسر ذلك فلا حد على ما فسره بعد هذا لأن الأربعة إذا شهدوا عليه بالزنى فسئلوا عن كيفيته وماهيته وقالوا لا نزيد لك على هذا لم تقبل شهادتهم لأنهم لم يبينوا مبهم كلامهم ولكن لا حد عليهم لتكامل عددهم فإن تكامل عدد الشهود مانع من وجوب الحد عليه كما لو شهد عليه أربعة من الفساق بالزنى وكذلك إن وصف بعضهم دون بعض لأن عددهم متكامل في أصل الشهادة عليه بالزنى وامتناع بعضهم عن البيان لا يكون رجوعا عن الشهادة ولكن يصير ذلك شبهة في حق المشهود عليه فلا يقام عليه الحد ولا يقام على الشهود أيضا كما في فسق الشهود.(9/110)
قال أربعة شهدوا على رجل بالزنى بامرأة فشهد أربعة على الشهود أنهم هم الذين زنوا بها لا تقبل شهادة واحد منهم ولا يقام الحد للشبهة التي دخلت عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقام حد الزنى على الفريق الأول ولا شيء على المشهود عليه للأول لأن الفريق الثاني عدول شهدوا على الفريق الأول بالزنى فوجب قبول شهادتهم وقد ثبت فسقهم لظهور زناهم بالحجة فتبطل شهادتهم على المشهود عليه الأول وبقيت الشبهة التي أشار إليها أبو حنيفة رحمهم الله تعالى أن قصد الفريق الثاني بهذه الشهادة إبطال شهادة الفريق الأول لأنهم حين لم يشهدوا إلى أن شهد الفريق الأول فإما أن يكونوا كاذبين قاصدين إلى إبطال شهادتهم أو كانوا صادقين ولكنهم اختاروا الستر فلما شهد الفريق الأول حملتهم الضغينة على الشهادة عليهم دون الحسبة ومثل هذه الشهادة لا تقبل كما لو شهدوا بالزنى بعد تقادم العهد ولأن في لفظهم ما يدل على أن قصدهم المجازاة دون الحسبة فإن في الشهادة بطريق الحسبة يقولون زنوا وهم زناة وأما قولهم هم الذين زنوا يكون على طريق المجازاة ثم هذا يؤدي إلى التهاتر فربما يشهد فريق ثالث على الفريق الثاني بمثل ذلك ومثل هذا لا يجوز إقامة الحد به.
قال وإن شهد ثلاثة نفر وامرأتان بالزنى لم تجز شهادتهم لحديث الزهري قال مضت(9/111)
ص -56- ... السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في حد الزنى فكانوا جميعا قذفة.
قال وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنى لا تجوز شهادتهم لأن الشهادة على الشهادة فيها ضرب شبهة من حيث أن الكلام إذا تداولته الألسنة تمكن فيه زيادة ونقصان ولأن الشهادة على الشهادة بدل والإبدال منصوبة للحاجة ولا تقام الحدود بمثله لأنها مبنية على الدرء ولا حد على الفروع لأنهم ما نسبوا المشهود عليه إلى الزنى إنما حكوا شهادة الأصول بذلك والحاكي للقذف عن غيره لا يكون قاذفا فإن قدم الأصول فشهدوا على شهادة أنفسهم على هذا الرجل بالزنى لا تقبل شهادتهم لوجهين أحدهما أن العهد قد تطاول والثاني أن الحاكم حكم برد هذه الشهادة لأن في الموضع الذي تقبل الشهادة على الشهادة نقبل شهادة الأصول أيضا ففي الموضع الذي ترد أيضا يتعدى رده إلى شهادة الأصول من وجه وذلك شبهة ولا حد على الشهود لتكامل عددهم ولأنا إنما لا نقيم الحد على المشهود عليه بنوع شبهة والشبهة تصلح لدرء الحد بها لا لإيجاب الحد.
قال وإن قال الشهود للرجل والمرأة في غير مجلس القاضي نشهد أنكما زانيان وقدموهما إلى القاضي وشهدوا عليهما وقالا إنهم قد قالوا لنا هذه المقالة قبل أن يرفعونا إليك ولنا بذلك بينة لم تقبل شهادتهما على ذلك ولم تسقط شهادتهم به وحد الرجل والمرأة لأنهم عدول.(9/112)
فإن قيل: صاروا قاذفين لهما بالنسبة إلى الزنى في غير مجلس القاضي فكانوا متهمين قلنا إنما كان كذلك لأن تكامل العدد كما يمنع من أن يكون كلامهم قذفا في مجلس القاضي فكذلك في غير مجلسه ولأن المقصود من فعلهما الندم معناه أن مقصود الشهود من هذه المقالة في غير مجلس القاضي أنكما زانيان ليظهرا الندم ليستروا عليهما أو الإصرار ليشهدوا عليهما والشاهد مندوب إلى ذلك ولأن كلامهم الأول موقوف فإذا اتصل به شهادتهم في مجلس القاضي لم يكن قذفا وإلا فحينئذ يكون قذفا.
قال وإذا شهدوا عليهما بالزنى فقال اثنان طاوعته وقال آخران استكرهها درئ الحد عنهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحد الرجل وحده لهما أن الحجة في جانب الرجل تمت موجبة للحد فإنما الاختلاف بينهم في حالها وذلك لا يغير حكم الفعل في جانبه فإن الكل لو اتفقوا أنها كانت طائعة أو مكرهة يجب الحد على الرجل وهذا لأن الزنى فعلان من الرجل والمرأة وإنما يقام الحد على كل واحد منهما بفعله وقد اتفقوا على وجود الفعل الموجب للحد على الرجل ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أن كل اثنين شهدا بفعل آخر فما لم يتفق الأربعة على الفعل الواحد لا يثبت الزنى كما لو اختلفوا في المكان والزمان وبيانه أن شاهدي الطواعية شهدا بفعل(9/113)
ص -57- ... مشترك بينهما فإنها إذا كانت طائعة كانت شريكة له في الفعل حتى تشاركه في إثم الفعل وشاهدا الإكراه شهدا بفعل تفرد به الرجل لأنه لا شركة للمرأة في الفعل إذا كانت مكرهة حتى لا تشاركه في إثم الفعل والفعل المشترك غير الفعل الذي تفرد به الرجل
وقولنا إن الزنى فعلان يعني من حيث الحكم فأما في الحقيقة الفعل واحد ولهذا لو تمكنت الشبهة من أحد الجانبين يصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عن الآخر والطريق الثاني: ما ذكره الطحاوي أن الذين شهدوا أنها طاوعته صاروا قاذفين لها ملتزمين حد القذف لولا شهادة الآخرين أنه زنى بها وهي مكرهة فكانا خصمين ولا شهادة للخصم وإنما لا يقام حد القذف عليهما بشهادة آخرين بمنزلة من قذف امرأة ثم أقام شاهدين أنها زنت وهي مكرهة سقط الحد عن القاذف ولأن اعتبار عدد الأربعة في الشهادة على الزنى الموجب للحد وهذه شهادة على سقوط إحصانها لأن زنا المكرهة لا يوجب حد الزنى عليها بحال وسقوط الإحصان يثبت بشهادة شاهدين وبيان هذا الطريق فيما ذكره محمد في الكيسانيات قال لو شهد ثلاثة أنها طاوعته وواحد أنها مكرهة فعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يقام الحد على الشهود وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقام على الثلاثة حد القذف بخصومتها لأنهم صاروا قاذفين لها والشاهد على سقوط إحصانها واحد وبشهادة واحد لا يثبت الإحصان وهذا لأن المكرهة لا فعل لها فتكون هذه الشهادة في حقها بمنزلة ما لو امتنع الرابع من أداء الشهادة.(9/114)
قال ولو شهد ثلاثة أنه استكرهها وواحد أنها طاوعته فليس على هذا الواحد حد القذف لها بشهادة الباقي بسقوط إحصانها هذا كله بناء على ظاهر المذهب أن المكرهة على الزنى يسقط إحصانها وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يسقط إحصانها بفعلها ووجه ظاهر الرواية أنها ممكنة من وطء حرام فإن الإكراه لا يعدم لها الفعل خصوصا فيما لا يصلح أن تكون المكرهة آلة للمكره ولأنها مضطرة إلى ذلك وذلك لا يمنع سقوط إحصانها.
قال وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بهذه المرأة في موضع كذا في وقت كذا وشهد أربعة أنه زنى بهذه المرأة الأخرى في ذلك الوقت بعينه في مكان آخر والبينتان بينهما بعد لم يحد واحد منهم لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين والشخصان في وقت واحد لا يتصور أن يكونا في مكانين مختلفين ولا يعرف الصادق من الكاذب فيمتنع القضاء للتعارض أو لتمكن تهمة الكذب في شهادة كل فريق أو لعدم ظهور رجحان جانب الصدق وإن شهد كل فريق منهم على وقت غير الوقت الآخر جازت الشهادة وحد الرجل والمرأتان لأنه ثبت على الرجل فعلان وعلى كل امرأة فعل موجب للحد بحجة كاملة فيقيم القاضي الحد عليهم إذ الزنى بعد الزنى يتحقق في وقتين ومكانين مختلفين بامرأة وامرأتين.
قال وإن شهد أربعة أنه زنى يوم النحر بمكة بفلانة وشهد أربعة أنه قتل يوم النحر بالكوفة فلانا لم تقبل واحدة من الشهادتين لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين ولا حد على شهود الزنى لتكامل عددهم وعلى هذا سائر الأحكام من العتاق والطلاق ولا يقال لا تنكر(9/115)
ص -58- ... كرامة الأولياء فيجوز أن يكون في يوم واحد بمكة والكوفة لأن مثل ذلك الولي لا يزني ولا يجحد ما فعله ولأنا أمرنا ببناء الأحكام على ما هو الظاهر المعروف فإن حضر أحد الفريقين وشهدوا فحكم الحاكم بشهادتهم ثم شهد الآخرون فشهادة الآخرين باطلة لأن رجحان جانب الصدق ثبت في شهادة الأولين حين اتصل الحكم بها فيبقى الكذب في شهادة الفريق الثاني ولا يقام الحد على شهود الزنى وإن كانوا هم الفريق الثاني لتكامل عددهم.
قال وإذا ثبت حد الزنى على رجل بشهادة الشهود وهو محصن أو غير محصن فلما أقيم عليه بعضه هرب فطلبه الشرط فأخذوه في فورة أقيم عليه بقية الحد لأن الهروب غير مسقط عنه ما لزمه من الحد وأصله أن حد الزنى لا يقام بحجة البينة بعد تقادم العهد عندنا وكذلك كل حد هو محض حق الله تعالى وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقام واعتبره بسائر الحقوق من حيث إن تقادم العهد غير مسقط عنه ما لزمه فاعتبر البينة بالإقرار فإن هذه الحدود تقام بالإقرار بعد تقادم العهد فكذلك بالبينة لأنها إحدى الحجتين.(9/116)
وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث قال أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضغن قال الحسن رحمه الله تعالى في حديثه لا شهادة لهم والمعنى أن الشاهد على هذه الأسباب مخير في الابتداء بين أن يستر عليه أو يشهد فلما أخر الشهادة عرفنا أنه مال إلى الستر ثم حملته العداوة على أن يترك الستر ويشهد عليه فلا تكون هذه شهادة بطريق الحسبة فلهذا لا تقبل بخلاف حد القذف فإن الشهادة عليه لا تقبل إلا بخصومة المقذوف وطلبه الحد فإنما أخروا أداء الشهادة لعدم الخصومة من المقذوف ولأن فيه بعض حق العباد وهو دفع العار عن المقذوف فمتى أقام الحجة عليه وجب الحكم به لدفع الضرر عنه ولا يدخل على هذا الكلام السرقة فإن الشهادة عليها لا تقبل قبل الخصومة ولكن خصومة المسروق منه هناك في المال لا في الحد وبعد تقادم العهد الشهادة مقبولة فيما فيه الخصومة له ولأن الحد هناك محض حق الله تعالى ولهذا صح الرجوع فيه عن الإقرار بخلاف حد القذف وحد الله تعالى أقرب إلى الدرء لأنه يتعالى عن أن يلحقه خسران أو ضرر وهذا بخلاف الإقرار فإن معنى الضغينة لا يتحقق في الإقرار بعد التقادم إذ الإنسان لا يعادي نفسه على وجه يحمله ذلك على الإقرار ولم يبين في الكتاب حد التقادم وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال جهدت بأبي حنيفة رحمه الله تعالى كل الجهد فأبى أن يؤقت في التقادم وقتا وهذا لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في البعد من القاضي والقرب وباختلاف عادة القاضي في الجلوس والتوقيت لا يكون بالرأي بل بالنص فلما لم يجد فيه نصا أبى أن يوقته بشيء وجعله موكولا إلى رأي القاضي وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنهم إذا شهدوا بعد سنة لا تقبل وأشار الطحاوي رحمه الله تعالى إلى ستة أشهر وهو الحين والأصح ما نقل عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنهما قدرا ذلك بشهر فقالا ما دون الشهر قريب عاجل والشهر وما(9/117)
فوقه آجل كما بينا في الأيمان فإذا شهدوا(9/118)
ص -59- ... به بعد شهر لا تقبل ولكن هذا إذا لم يكن بينهم وبين القاضي مسيرة شهر فإن كان ذلك وعلم أنه تأخر الأداء لبعدهم من مجلسه لا يكون ذلك قدحا في شهادتهم ولا يمتنع إقامة الحد به لحديث المغيرة رضي الله عنه فإنه كان واليا بالبصرة حين جاء الشهود إلى المدينة فشهدوا عليه بالزنى فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سلم عملك إلى أبي موسى والحق بي ثم لما حضر قبل الشهادة عليه حتى قال بعد شهادة الواحد أوه أودى ربع المغيرة فعرفنا أن التقادم إذا كان لعذر ظاهر لا يكون قدحا بالشهادة إذا عرفنا هذا قلنا في مسألة الكتاب وهو ما إذا هرب فوجد بعد أيام في القياس أنه لا يمتنع إقامة بقية الحد عليه لأنه إنما تأخر لعذر وهو هربه فلا يكون ذلك قدحا في الشهادة ولكنه استحسن فقال العارض في هذه الحدود بعد الشهادة قبل الإتمام كالمقترن بالشهادة بدليل عمي الشهود وردتهم وهذا لأن التفريط هنا كان من أعوان الإمام حتى تمكن من الهرب منهم فالظاهر أنهم مالوا إلى اكتساب سبب درء الحد عنه ثم حملتهم العداوة على الجد في طلبه فكان هذا والضغينة في الشهود سواء.
قال ولا تسقط شهادة القاذف ما لم يضرب تمام الحد إذا كان عدلا لأن القذف خبر متردد بين الصدق والكذب فلا يكون مسقطا للشهادة وإنما المسقط للشهادة إقامة الحد عليه لأن الحكم بكذبه يتحقق والحد لا يتجزى فما دونه يكون تعزيرا لا حدا والتعزير غير مسقط للشهادة ففي هذه المسألة عن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات أحدها: ما بينا وهو قولهما. والثانية: إذا أقيم عليه أكثر الحد سقطت شهادته إقامة للأكثر مقام الكل والثالثة: إذا ضرب سوطا واحدا تسقط شهادته لأن من ضرورة إقامة ذلك القدر من الحد الحكم بكذبه وكذلك هذه الروايات الثلاثة في النصراني إذا أقيم عليه بعض الحد ثم أسلم على ما ذكر في الجامع الصغير.(9/119)
قال وإذا أقيم على القاذف تسعة وسبعون سوطا ثم قذف آخر لم يضرب إلا ذلك السوط الواحد لأن مبني الحدود على التداخل والمغلب عندنا في حد القذف حق الله تعالى ولهذا لو قذف جماعة لا يقام عليه إلا حد واحد عندنا على ما نبينه وقد اجتمع الحدان هنا لأن كمال الحد الأول بالسوط الذي بقي فلهذا يدخل أحدهما في الآخر ولا يقام إلا ذلك السوط.
توضيحه أن المقصود إظهار كذبه ليندفع به العار عن المقذوف وذلك يحصل في حقهما بإقامة السوط لأنه يصير محكوما بكذبه وتسقط شهادته.
قال وضرب التعزير أشد من ضرب الزنى وضرب الزاني أشد من ضرب شارب الخمر وحد القذف أخف من جميع ذلك أما ضرب التعزير أشد لأن المقصود به الزجر وقد دخله التخفيف من حيث نقصان العدد فلو قلنا بتخفيف الضرب أيضا فات ما هو المقصود لأن الألم ما لم يخلص إليه لا ينزجر ولهذا قلنا يجرد في التعزير عن ثيابه ويعذر في إزار واحد واختلفوا في مقدار التعزير ففي ظاهر المذهب لا يبلغ التعزير أربعين سوطا وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يجوز أن يبلغ التعزير خمسة وسبعين سوطا وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" قال أبو يوسف(9/120)
ص -60- ... رحمه الله تعالى المراد الحد الكامل وهو حد الأحرار وأدناه ثمانون جلدة فينقص التعزير من ذلك خمسة أسواط وقيل كان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يضرب بالخمسين مرة واحدة فنقص ضربة واحدة في التعزير وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال لا يزاد على تسعة وثلاثين سوطا لأن الأربعين في حق العبد في القذف والشرب حد فنقص التعزير عنه بضربة واحدة وهذا بيان أقصى التعزير فأما فيما دون ذلك الرأي إلى الإمام يعزره بقدر ما يعلم أنه ينزجر به لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس وباختلاف جرائمهم(9/121)
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال أقرب كل شيء من بابه فالتعزير في اللمس والقبلة بشهوة أقربه من الزنى والتعزير في الشبهة بغير الزنى أقربه من الشبهة بالزنى فاعتبر كل فرع بأصله فيما أقيم من التعزير ثم الضرب في الزنى أشد من الضرب في الشرب لأن حد الزنى يتلى في القرآن وقد سماه الله تعالى عذابا بقوله تعالى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وقال تعالى {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وحد الشرب لا يتلى في القرآن ولأن المقصود هو الزجر ودعاء الطبع إلى الزنى عند غلبة الشبق أكثر منه إلى الشرب ثم حد الشرب أشد من حد القذف لأن جريمة الشارب متيقن بها بخلاف جريمة القاذف فالقذف خبر متمثل بين الصدق والكذب وقد يعجز عن إقامة أربعة من الشهداء مع صدقه فلهذا كان حد القذف أخف من حد الشرب حتى يضرب حد القذف وعليه ثيابه إلا أنه ينزع عنه الحشو والفرو ليخلص الألم إلى بدنه وسائر الحدود تقام على الرجل في إزار إلا أنه روى بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه يقام عليه حد الشرب وعليه ثيابه أيضا لأن حد الشرب حد القذف كما قال علي رضي الله عنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله تعالى ثمانون جلدة ولأن حد الشرب كان بالجريد والنعال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن اتفقت الصحابة على الجلد في عهد عمر رضي الله عنه ولهذا قال علي رضي الله عنه ما من أحد أقيم عليه حد فيموت فأحب أن أديه إلا حد الشرب فإنه بآرائنا ولضعفه قال لا يجرد عن ثيابه ولكن في ظاهر الرواية لتحقق جريمته يجرد كما في حد الزنى.(9/122)
قال ولا يمد في شيء من الحدود والتعزير قيل مراده المد بين العقابين وقيل مراده أن الجلاد لا يفصل عضده عن إبطه ولا يمد يده فوق رأسه وقيل مراده أنه بعد ما أوقع السوط على بدن المجلود لا يمده لأنه زيادة مبالغة لم يستحق عليه ذلك لأنه ربما يؤدي إلى التلف والتحرز عن ذلك واجب شرعا في موضع لا يستحق الإتلاف شرعا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحسم السارق بعد القطع للتحرز عن الإتلاف ويعطي كل عضو حظه من الضرب لأنه قد نال اللذة في كل عضو ولأن جميع الجلدات في عضو واحد ربما يؤدي إلى الإتلاف والإتلاف غير مستحق فيفرق على الأعضاء كيلا يؤدي إلى الإتلاف غير أنه لا يضرب الوجه والفرج أما الفرج فلا يحتمل الضرب والضرب على الفرج متلف وأما الوجه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم برجم الغامدية أخذ حصاة كالحمصة ورماها بها قال للناس "ارموها(9/123)
ص -61- ... واتقوا الوجه" فلما منع من ضرب الوجه في موضع كان الإتلاف مستحقا ففي موضع لم يستحق الإتلاف أولى ولأن الوجه موضع الحواس ففي الضرب عليه إذهاب بعض الحواس عنه وهو استهلاك حكما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يضرب الصدر والبطن أيضا لأن الضرب عليهما متلف.
قال ولا يضرب الرأس في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول ثم رجع وقال يضرب الرأس أيضا ضربة واحدة وهو قول ابن أبي ليلى لحديث أبي بكر رضي الله عنه فإنه قال اضربوا الرأس فإن الشيطان في الرأس.
وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه فإنه قال للجلاد إياك أن تضرب الرأس والفرج ولأن الرأس موضع الحواس ففي الضرب عليه تفويت بعض الحواس.
قال ولا تجرد المرأة لإقامة الحد والتعزير عليها لأنها عورة مستورة وكشف العورة حرام إلا أنه ينزع عنها الحشو والفرو ليخلص الألم إلى بدنها ولأن ستر العورة يحصل بالملبوس عادة فلا حاجة إلى إبقاء الحشو والفرو عليها.
قال وتضرب وهي قاعدة كأستر ما يكون ويضرب الرجل قائما وكان بن أبي ليلى رحمه الله يضرب المرأة الحد وهي قائمة كالرجل ولكنا نأخذ بقول عمر رضي الله عنه حيث قال يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف والظهور ومبنى حالها على الستر.
قال فإن كان حدها الرجم فإن حفر لها فحسن وإن ترك لم يضر وقد بيناه.(9/124)
قال وإن كانت حبلى حبست حتى تلد لحديث الغامدية فإنها لما أقرت أن بها حبلا من الزنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذهبي حتى تضعي حملك" ولحديث معاذ رضي الله عنه حين هم برجم المغنية إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها وهو المعني لأن ما في بطنها نفس محترمة فإن المخلوق من ماء الزنى له من الحرمة والعهد ما لغيره ولم يوجد منه جناية ولو رجمت كان فيه إتلاف الولد ولو تركت هربت وليس للإمام أن يضيع الحد بعد ما ثبت عنده ببينة فيحبسها حتى تلد ثم إن كان حدها الرجم رجمها لأن إتلافها مستحق وإنما تؤخر لحق الولد وقد انفصل الولد عنها وإن كان حدها الجلد تؤخر إلى أن تتعافى من نفاسها لأن النفساء في حكم المريضة والحدود فيما دون النفس لا تقام في حالة المرض ولأنه إذا انضم ألم الجلد إلى ألم الولادة ربما يؤدي إلى الإتلاف وهو غير مستحق في هذه الحالة فتؤخر إلى أن تتعافى من نفاسها.
قال وإن شهدوا عليها بالزنى فادعت أنها حبلت فمجرد قولها لا يكون حجة فيما يؤخر الحد عنها كما لا يكون حجة في المسقط ولكن القاضي يريها النساء لأن هذا شيء يطلع عليه النساء وما بشكل على القاضي فإنما يرجع فيه إلى من له بصر في هذا الباب كما في قيم المتلفات والأصل فيه قوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فإن(9/125)
ص -62- ... قلن هي حبلى حبسها إلى سنتين فإن لم تلد رجمها للتيقن بكذبهن فإن الولد لا يبقى أكثر من سنتين وإن ادعت أنها عذراء أو رتقاء فنظر إليها النساء فقلن هي كذلك درى ء الحد عنها لأن شهادتهن حجة فيما لا يطلع عليه الرجال ولكن لا يقام الحد على الشهود بقول النساء وكذلك المجبوب إذا علم أنه مجبوب درئ الحد ولم يحد الشهود لأن المجبوب لا يزني ولا حد على قاذفه وهذا لأن المقصود من إقامة الحد إظهار كذب القاذف ليندفع به العار عن المقذوف وكذبه ظاهر هنا وإنما يلحق العار القاذف هنا دون عفة المقذوف وعند الشافعي رحمه الله تعالى قذف المجبوب كقذف غيره يوجب الجلد على القاذف بناء على أصله أن نفس القذف جريمة وفيما يرجع القاضي فيه إلى قول النساء يكتفي بقول امرأة واحدة والمثنى أحوط وقد بينا هذا في الطلاق.
قال وإذا قال المسلم الزاني أنا عبد فشهد نصرانيان أن مولاه أعتقه منذ سنة وهو نصراني عتق بشهادتهما ولكن يقام عليه حد العبيد لأن شهادة النصراني لا تكون حجة على المسلم فيجعل فيما يقام عليه وجود هذه الشهادة كعدمها بخلاف ما إذا شهد على ذلك رجل وامرأتان فإن هذه الشهادة حجة على المسلم فيكون معتبرا في إقامة الحد الكامل عليه وهذا الفرق الذي قررناه في مسألة الإحصان.(9/126)
قال وإن شهد أربعة نصارى على نصراني بالزنى فقضى عليه بالحد ثم أسلم قال أدرأ عنه الحد لأن القاضي لا يتمكن من إقامة الحد إلا بحجة وشهادة النصراني ليست بحجة على المسلم وقد بينا أن العارض من قبل إقامة الحد كالمقترن بالسبب وكذلك لو كان أقيم عليه بعضه وأسلم لا يقام عليه ما بقي وكذلك الشهادة على السرقة والقطع والقتل وهذا استحسان في الحدود والقصاص وأما في القياس فقد تم القضاء بما هو حجة ولا تأثير للإسلام بعد ذلك في إسقاط ما لزمه من الحق عنه كالمال إذا قضى عليه بشهادة النصراني فأسلم يستوفي منه وفي الاستحسان قال العقوبات تندرئ بالشبهات فيجعل المعترض قبل الاستيفاء شبهة مانعة كالمقترن بأصل السبب بخلاف الأموال فإنها تثبت بالشبهات ثم المقصود في العقوبات الاستيفاء ولهذا لو رجع الشهود قبل الاستيفاء امتنع الاستيفاء بخلاف المال وقد بينا أن في الحدود التي هي حق الله تعالى تمام القضاء بالاستيفاء فما يعترض قبل الاستيفاء من إسلام المقضي عليه يجعل كالموجود قبل القضاء ثم ذكر مسألة الشهادات أن شهادة الكفار بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت مللهم إلا على قول ابن أبي ليلى قال لا نجيز شهادة أهل ملة على أهل ملة أخرى.
قال ولا تجوز شهادة الكافر المحدود في القذف فإن أسلم ثم شهد جازت شهادته لأنه بالإسلام استفاد عدالة لم تكن موجودة قبل إقامة الحد وهذه العدالة لمتصر مجروحة بخلاف العبد يقام عليه حد القذف ثم يعتق لأنه بالعتق لم يستفد عدالة لم تكن موجودة وقت إقامة الحد فإن العبد عدل في دينه وتمام بيان هذه الفصول في الشهادات.(9/127)
ص -63- ... قال أربعة شهدوا على رجل بالزنى ثم أقروا عند القاضي أنهم شهدوا بالباطل فعليهم الحد لأنهم أكذبوا أنفسهم بالرجوع عن الشهادة فإن لم يحدهم القاضي حتى شهد أربعة أخر غيرهم على ذلك الرجل بالزنى جازت شهادتهم لظهور عدالتهم وأقيم الحد على المشهود عليه بشهادتهم لأن شهادة الفريق الأول ورجوعهم في حق الفريق الثاني كالمعدوم ويدرأ عن الفريق الأول حد القذف لأنه تبين بشهادة الفريق الثاني أن المشهود عليه زان وأنهم صادقون في قذفه بالزنى ولأنه تبين أنه غير محصن وقذف غير المحصن لا يوجب الحد وأكثر ما في الباب أن الفريق الأول لم يعاينوا الزنى منه فحالهم كحال سائر الأجانب في قذفه والقاذف إنما يستوجب الحد إذا لم يكن هناك أربعة يشهدون على المقذوف بالزنى.
قال وإذا ثبت الزنى والسرقة على الكافر بشهادة المسلمين ثم أسلم أقيم عليه الحد لأنه لو كان مسلما عند أداء الشهادة كانت هذه الشهادة حجة عليه فكذلك إذا اعترض إسلامه إلا أن يكون العهد قد تقادم فحينئذ يدرأ عنه للشبهة كما لو كان مسلما حين شهدوا عليه.
قال رجل زنى بامرأة مستكرهة فأفضاها فعليه الحد للزنا فإن كانت تستمسك البول فعليه ثلث الدية وإن كانت لا تستمسك البول فعليه كمال الدية لأنه أفسد عليها عضوا لا ثاني له في البدن وهو ما يستمسك به البول وفي ذلك كمال الدية وما يجب بالجناية ليس بدل المستوفي بالوطء حتى يقال لا يجمع بينه وبين الحد بل هو بدل المتلف بالجناية وذلك غير المستوفي بالوطء فالمستوفي بالوطء ما يملك بالنكاح وإلا فضاء لا يكون مستحقا بالنكاح وإن طاوعته فعليها الحد وليس عليه ضمان الجناية لوجود الرضي منها فإن أذنها فيما دون النفس معتبر في إسقاط الأرش وكذلك إن كانت صبية يجامع مثلها إلا أن رضاها هناك لا يعتبر في إسقاط الأرش لأنها ليست من أهل إسقاط حقها.(9/128)
قال وإن زنى بصبية لا يجامع مثلها فأفضاها فلا حد عليه لأن وجوب حد الزنى يعتمد كمال الفعل وكمال الفعل لا يتحقق بدون كمال المحل فقد تبين أن المحل لم يكن محلا لهذا الفعل حين أفضاها بخلاف ما إذا زنى بها ولم يفضها لأنه تبين أنها كانت محلا لذلك الفعل حين احتملت الجماع ولأن الحد مشروع للزجر وإنما يشرع الزجر فيما يميل الطبع إليه وطبع العقلاء لا يميل إلى وطء الصغيرة التي لا تشتهي ولا تحتمل الجماع فلهذا لا حد عليه ولكنه يعزر لارتكابه ما لا يحل له شرعا ثم إن كانت تستمسك البول فعليه ثلث الدية والمهر أما ثلث الدية لجرح الجائفة والمهر للوطء فإن الوطء في ملك الغير لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وقد سقطت العقوبة لشبهة النقصان في الفعل فيجب المهر لأنه يثبت مع الشبهة والوطء ليس إلا إيلاج الفرج في الفرج وقد وجد ذلك منه ألا ترى أنه يجب المهر تارة بالعقد وتارة بالوطء ثم العقد على الصغيرة يوجب المهر فكذلك وطئها إن كانت لا تستمسك البول فعليه كمال الدية لإفساد العضو الذي كان استمساك البول به فإنه لا ثاني له في البدن ولا مهر عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه الله تعالى عليه(9/129)
ص -64- ... مهر لوجود حقيقة الوطء منه فكما لا يدخل المهر في بعض الدية فكذا لا يدخل في جميع الدية لأن وجوب الدية بالجناية على العاقلة مؤجلا والمهر في مال الجاني حالا فكيف يدخل أحدهما في الآخر وهما يقولان الفعل واحد فإذا وجب به كمال بدل النفس يدخل فيه ما دونه كما لو شج رجلا فذهب عقله أو سقط جميع شعره حتى وجب عليه كمال الدية دخل فيه أرش الموضحة وهذا لأن المستوفي بالوطء في حكم العتق وكذلك المتلف بالجناية وعند اتحاد المستوفي لا يجب أكثر من بدل النفس بخلاف ما إذا كان البول يستمسك فإن الواجب هناك بعض بدل النفس فيجوز أن يجب المهر معه وهو نظير ما لو فقأ إحدى عيني أمة إنسان يضمن نصف قيمتها ولا يملك شيئا من الجثة بخلاف ما إذا فقأ العينين وضمن كمال الدية فإنه يملك الجثة.
قال وإذا جامع صبية فأفضاها ومثلها لا يجامع لم تحرم عليه أمها وابنتها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يحرم استحسانا لوجود حقيقة الوطء بوجود إيلاج الفرج في الفرج والوطء علة لإيجاب حرمة المصاهرة.(9/130)
والدليل على أن الوطء جعل حكما أنه يتعلق به الاغتسال بنفس الإيلاج من غير إنزال ويجب به المهر وباب الحل والحرمة مبنى على الاحتياط فللاحتياط استحسن أبو يوسف رحمه الله تعالى وجه قولهما أن ثبوت حرمة المصاهرة بالوطء ليس لعينه بل لأنه حرث للولد ولهذا لا يثبت بوطء الميتة وبالوطء في الدبر وهذا الفعل ليس بحرث للولد لأن الحرث لا يتحقق إلا بمحل منبت بخلاف الاغتسال فإن وجوبه باستطلاق وكاء المني وذلك يتم بمعنى الحرارة واللين في المحل وبخلاف ما إذا كانت صغيرة يشتهي مثلها لأن كون المحل منبتا حقيقة لا يمكن الوقوف عليه فيقام السبب الظاهر وهو كونها مشتهاة مقامه ألا ترى أن هذا الفعل حلال شرعا لمعنى الحرث ثم يحل وطء الصغيرة التي تشتهي بالنكاح ولا يحل وطء الصغيرة التي لا تشتهي ومن قذف هذا الذي جامع هذه الصبية لا حد عليه لارتكابه وطئا حراما فإن الوطء الحرام في غير الملك مسقط للإحصان والصورة في إيراث الشبهة بمنزلة الحقيقة في درء ما يندرئ بالشبهات.
قال رجل زنى بامرأة فكسر فخذها فعليه الحد والأرش في ماله لأنه بمنزلة العمد ولا تعقل العاقلة العمد وهو الجواب عن قول محمد رحمه الله في مسألة الإفضاء بأن الواجب من الدية في ماله هنا لأن الفعل عمد فيستقيم إدخال المهر فيه.
قال وإذا قال الشهود تعمدنا النظر إلى الزانيين لم تبطل شهادتهم به لأنهم قصدوا بهذا النظر صحة تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة فإنه لا يحل لهم أداء الشهادة ما لم يروا كالمرود في المكحلة والنظر إلى العورة عند الحاجة لا يوجب الفسق وإن تعمد ذلك ألا ترى أن القابلة تنظر والختان والحافظة كذلك وكذلك لو قالوا رأينا ذلك ولم نتعمد النظر.(9/131)
ص -65- ... قال وإذا ادعت المزني بها أنها صارت مفضاة لم يقبل قولها في ذلك ما لم يشهد الشهود على الإفضاء وما لم يفسروا أنهم رأوا ذلك لأنها تدعى الجناية الموجبة للأرش وذلك لا يثبت إلا بشهادة الشهود.
قال ومن أتى امرأة أجنبية في دبرها فعليه الحد في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى والتعزير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك اللواط عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يوجب التعزير عليهما وعندهما يحدان حد الزنى يرجمان إن كانا محصنين ويجلدان إن كانا غير محصنين وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وفي قول آخر قال يقتلان على كل حال لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "اقتلوا الفاعل والمفعول به" وفي رواية "ارجموا الأعلى والأسفل" وتأويل ذلك عندنا في حق من استحل ذلك الفعل فإنه يصير مرتدا فيقتل لذلك وهو تأويل الحديث الذي روى "من أتى امرأته الحائض أو أتى امرأته في غير مأتاها فقد كفر بما أنزل على محمد" يعني إذا استحل ذلك.(9/132)
وحجتهما أن هذا الفعل زنا فيتعلق به حد الزنى بالنص فأما من حيث الاسم فلأن الزنى فاحشة وهذا الفعل فاحشة بالنص قال الله تعالى {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] ومن حيث المعنى أن الزنى فعل معنوي له غرض وهو إيلاج الفرج في الفرج على وجه محظور لا شبهة فيه لقصد سفح الماء وقد وجد ذلك كله فإن القبل والدبر كل واحد منهما فرج يجب ستره شرعا وكل واحد منهما مشتهى طبعا حتى إن من لا يعرف الشرع لا يفصل بينهما والمحل إنما يصير مشتهى طبعا لمعنى الحرارة واللين وذلك لا يختلف بالقبل والدبر ولهذا وجب الاغتسال بنفس الإيلاج في الموضعين ولا شبهة في تمحض الحرمة هنا لأن المحل باعتبار الملك ويتصور هذا الفعل مملوكا في القبل ولا يتصور في الدبر فكان تمحض الحرمة هنا أبين ومعنى سفح الماء هنا أبلغ منه في القبل لأن هناك المحل منبت فيتوهم أن يكون الفعل حرثا وإن لم يقصد الزاني ذلك ولا توهم هنا فكان تضييع الماء هنا أبين وليس هذا الكلام على سبيل القياس فالحد بالقياس لا يثبت ولكن هذا إيجاب الحد بالنص وما كان اختلاف اسم المحل إلا كاختلاف اسم الفاعل فإن النص ورد بالحد في حق ماعز رضي الله عنه فإيجاب الحد على الغير بذلك الفعل لا يكون قياسا فكذلك هنا ورد النص بإيجاب الحد على من باشر هذا الفعل في محل هو قبل فإيجابه على المباشر في محل هو دبر بعد ثبوت المساواة في جميع المعاني لا يكون قياسا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا الفعل ليس بزنا لغة ألا ترى أنه ينفي عنه هذا الاسم بإثبات غيره فيقال لاط وما زنى وكذلك أهل اللغة فصلوا بينهما قال القائل:
من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
فقد غاير بينهما في الاسم ولا بد من اعتبار اسم الفعل الموجب للحد ولهذا لا يجب القطع على المختلس والمنتهب والذي ورد في الحديث إذا أتى الرجل الرجل فهمان زانيان(9/133)
ص -66- ... مجاز لا تثبت حقيقة اللغة به والمراد في حق الإثم ألا ترى أنه قال وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان والمراد في حق الإثم دون الحد كما أن الله تعالى سمى هذا الفعل فاحشة فقد سمى كل كبيرة فاحشة فقال {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] ثم هذا الفعل دون الفعل في القبل في المعنى الذي لأجله وجب حد الزنى من وجهين:
أحدهما: أن الحد مشروع زجرا وطبع كل واحد من الفاعلين يدعو إلى الفعل في القبل وإذا آل الأمر إلى الدبر كان المفعول به ممتنعا من ذلك بطبعه فيتمكن النقصان في دعاء الطبع إليه.
والثاني: أن حد الزنى مشروع صيانة للفراش فإن الفعل في القبل مفسد للفراش ويتخلق الولد من ذلك الماء لا والد له ليؤدبه فيصير ذلك جرما يفسد بسببه عالم وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله "وولد الزنى شر الثلاثة" وإذا آل الأمر إلى الدبر ينعدم معنى فساد الفراش ولا يجوز أن يجبر هذا النقصان بزيادة الحرمة من الوجه الذي قالا لأن ذلك يكون مقايسة ولا مدخل لها في الحدود.(9/134)
ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة فالمروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنهما يحرقان بالنار وبه أمر في السبعة الذين وجدوا على اللواطة وكان علي رضي الله عنه يقول يجلدان إن كانا غير محصنين ويرجمان إن كانا محصنين وكان بن عباس رضي الله عنهما يقول يعلى أعلى الأماكن من القرية ثم يلقى منكوسا فيتبع بالحجارة وهو قوله تعالى {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] الآية وكان بن الزبير رضي الله عنه يقول يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى اتفقت الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسلم لهما أنفسهما وإنما اختلفوا في كيفية تغليظ عقوبتهما فأخذنا بقولهم فيما اتفقوا عليه ورجحنا قول علي رضي الله عنه بما يوجب عليهما من الحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول الصحابة اتفقوا على أن هذا الفعل ليس بزنا لأنهم عرفوا نص الزنى ومع هذا اختلفوا في موجب هذا الفعل ولا يظن بهم الاجتهاد في موضع النص فكان هذا اتفاقا منهم أن هذا الفعل غير الزنى ولا يمكن إيجاب حد الزنى بغير الزنى بقيت هذه جريمة لا عقوبة لها في الشرع مقدرة فيجب التعزير فيه يقينا وما وراء ذلك من السياسة موكول إلى رأي الإمام إن رأى شيئا من ذلك في حق فله أن يفعله شرعا.(9/135)
قال والناس أحرار في كل شيء إلا في أربعة في الشهادة والعقل والحدود والقصاص يعني بالشهادة أن المشهود عليه إذا طعن في الشاهد أنه عبد فما لم يقم البينة على حريته لا يقضي بشهادته وبالعقل إن عاقله القاتل خطأ إذا زعموا أنه عبد فما لم تقم البينة على حريته لا يعقلون جنايته وبالحدود إذا ادعى الزاني أنه عبد فما لم تقم البينة على حريته لا يقيم عليه حد الأحرار وبالقصاص إذا قطع يد حر أو عبد وزعم أنه عبد لا قصاص عليه فما لم تقم البينة على حريته لا يقضي عليه بالقصاص وهذا لأن ثبوت الحرية لمجهول الحال باعتبار الظاهر وهو أن الدار الإسلام فالظاهر من حال كل من هو فيه الحرية أو باعتبار استصحاب الحال من حيث إن الناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وهما كانا حرين وهذا يصلح حجة لدفع(9/136)
ص -67- ... الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق وشهادة الشاهد تثبت الاستحقاق وكذلك العاقلة تثبت استحقاق الدية عليهم وكذلك الحد والقصاص فالظاهر لهذا لا يكون حجة حتى تقوم البينة عليه وهو نظير اليد فإنها حجة لدفع الاستحقاق لا لإثباته حتى أنه باعتبار اليد في الجارية لا يستحق أولادها على الغير بخلاف ما إذا ثبت الملك فيها بالبينة فإن قامت البينة في هذه الفصول على أنه كان ملكا لفلان أعتقه وقضى القاضي بذلك ثم حضر المولى الغائب فأنكر ذلك فلا حاجة إلى إعادة البينة عليه لأن هذه بينة قامت على خصم وهو المنكر لحريته فإنه خصم عن الغائب لاتصال حقه بحق الغائب فالقضاء به عليه يكون قضاء على الغائب.(9/137)
قال وإذا قضى القاضي بحد أو قصاص أو مال وأمضاه ثم قال قضيت بالجور وأنا أعلم ذلك ضمنه في ماله وعزر وعزل عن القضاء لأنه فيما جار فيه ليس بقضاء بل هو إتلاف بغير حق إنما قضاؤه على موافقة أمر الشرع والشرع لا يأمر بالجور وهو فيما يتلف بغير حق كغيره في إيجاب الضمان عليه في ماله ويعزر لارتكابه مالا يحل له قصدا ويعزل عن القضاء لظهور خيانته فيما جعل أمينا فيه وفي هذا اللفظ دليل أن الصحيح من مذهب علمائنا أن القاضي لا ينعزل بالجور ولكن يستحق عزله لأن الفسق عندنا لا يمنع صحة تقليده ابتداء فلا يمنع البقاء بطريق الأولى بخلاف ما تقوله المعتزلة أنه ينعزل بالجور وأن تقليد الفاسق ابتداء لا يصح بناء على أصلهم أن بالفسق يخرج من الإيمان لأن اسم الفسق اسم ذم واسم الإيمان اسم مدح فلا يجتمعان وهي معروفة من مذهبهم في القول بالمنزلة بين المنزلتين والشافعي رحمه الله يوافقهم في أنه ينعزل بناء على أصله أن بالفسق ينتقص إيمانه وأن التقليد ممن قلده كان على ظن أداء الأمانة فلا يبقى حكمه بعد الخيانة كما في الوديعة يقول بالخلاف من طريق الفعل يبطل العقد وهذا كله عندنا باطل فإن الولاة من الخلفاء والسلاطين والقضاة بعد الخلفاء الراشدين قل ما يخلو واحد منهم عن فسق وجور ففي القول بما قالوا يؤدي إلى أن يكون الناس سدى لا والي لهم وأي قول أفحش من هذا وإن ظهر أنه قضى بالجور وقد فعله خطأ لم يكن عليه غرمه لأنه غير معصوم عن الخطأ والخطأ موضوع شرعا قال الله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] فكان هو قاضيا على موافقة أمر الشرع ظاهرا غير جان فيما فعل ولكن إذا تبين الخطأ أخذ المقضي له بغرم ذلك إن كان قضاؤه بحق العباد وإن كان بحق الله تعالى فضمانه في بيت المال وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى القاضي إذا أخبر عن قضائه بشيء وأمر الناس برجم أو قتل بناء على قضائه فإن كان عالما ورعا وسعهم(9/138)