وجه قول من أوجب الخمس أنه يستخرج بالعلاج من عينه وينطبع مع غيره فكان كالفضة فإنها لا تنطبع ما لم يخلطها شيء ثم يجب فيهاالخمس فهذا مثله.
قال: "وإذا وجد الرجل الركاز من الذهب والفضة والجواهر مما يعرف أنه قديم فاستخرجه من أرض الفلاة ففيه الخمس وما بقي فهو له فهذا على وجهين" إما أن يكون فيه من علامات الإسلام كالمصحف والدرهم المكتوب عليه كلمة الشهادة فيكون بمنزلة اللقطة فعليه أن يعرفها أو يكون فيه شيء من علامات الشرك كالصنم والصليب فحينئذ فيه الخمس، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يوجد في الأرض الميتة فهو لقطة تعرف وما يوجد في الخرب العادي ففيه وفي الركاز الخمس". ولأنه إذا كان فيه شيء من علامات الشرك عرفنا أنه من وضع أهل الحرب وقع في أيدي المسلمين بإيجاف الخيل والركاب ففيه الخمس وإذا كان فيه شيء من علامات الإسلام عرفنا أنه من وضع المسلمين، ومال المسلم(2/386)
ص -197- ... لا يغنم والموجود في باطن الأرض كالموجود على ظاهرها فإن لم يكن به علامة يستدل بها فهو لقطة في زماننا لأن العهد قد تقادم والظاهر أنه لم يبق شيء مما دفنه أهل الحرب ويستوي إن كان الواجد ذميا أو مكاتبا أو صبيا أو حرا أو مسلما وقد بيناه في المعدن فكذلك في اللقطة وكذلك في الركاز.
قال: "وإن وجده في دار رجل فإن قال صاحب الدار أنا وضعته فالقول قوله" لأنه في يده وإن تصادقا على أنه ركاز ففيه الخمس والباقي لصاحب الخطة سواء كان الواجد ساكنا في الدار بعارية أو إجارة أو شراء وصاحب الخطة هو الذي أصاب هذه البقعة بالقسمة حين افتتحت البلدة فسمي صاحب الخطة لأن الإمام يخط لكل واحد من الغانمين حيزا ليكون له فإن كان هو باقيا أو وارثه دفع إليه وإلا فهو لأقصى مالك يعرف لهذه البقعة في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الباقي للواجد قال أستحسن ذلك وأجعل الموجود في الدار والأرض كالموجود في المفازة بعلة أن الواجد هو الذي أظهره وحازه ولا يجوز أن يقال إن الإمام قد ملكه صاحب الخطة في القسمة لأن الإمام عادل في القسمة فلو جعلناه مملكا للكنز منه لم يكن عدلا هذا معنى الاستحسان وإذا لم يملكه بقي على أصل الإباحة فمن سبقت يده إليه كان أحق به.(2/387)
فأما وجه قولهما فما روي أن رجلا أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بألف وخمسمائة درهم وجدها في خربة فقال علي إن وجدتها في أرض يؤدي خراجها قوم فهم أحق بها منك وإن وجدتها في أرض لا يؤدي خراجها أحد فخمسها لنا وأربعة أخماسها لك وهذا مراد محمد من قوله وهذا قياس الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والمعنى فيه أن صاحب الخطة ملك البقعة بالحيازة فملك ظاهرها وباطنها ثم المشتري منه يملك بالعقد فيملك الظاهر دون الباطن كمن اصطاد سمكة فوجد في بطنها لؤلؤة فهي له بخلاف ما لو اشترى سمكة وإذا لم يتملك المشتري عليه بقي على ملك صاحب الخطة ثم الإمام مأمور بالعدل بحسب الإمكان فما وراء ذلك ليس في وسعه ولا نقول الإمام يملكه الكنز بالقسمة بل يقطع مزاحمة سائر الغانمين عن تلك البقعة ويقرر يده فيها وتقرر يده في المحل يوجب ثبوت يده على ما هو موجود في المحل فصار مملوكا له بالحيازة على هذا الطريق.
قال: "مسلم دخل دار الحرب بأمان فوجد ركازا فإن كان وجده في دار بعضهم رده عليه" لأن ما في الدار في يد صاحب الدار وهو قد ضمن بعقد الأمان أن لا يخونهم فعليه الوفاء بما ضمن وإن كان وجده في الصحراء فهو له لأنه مباح ليس في يد أحد منهم فلا يكون هو في أخذه غادرا بهم كالحطب والحشيش وليس فيه خمس لأن الخمس فيما كان وقوعه في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب وذلك غير موجود هنا وإن كان المعدن في دار الإسلام للمسلم أو الذمي فهو له وليس فيه خمس في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.(2/388)
ص -198- ... وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه الخمس وإن كان في أرض المسلم فكذلك الجواب في رواية كتاب الزكاة وفي الجامع الصغير فرق أبو حنيفة رحمه الله بين الموجود في الأرض والدار.
وجه قولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، وقد بينا أن اسم الركاز يتناول المعدن ثم قاسه بالموجود في الفلاة بعلة أنه مال نفيس يستخرج من معدنه وقد كانت عزوفة في يد أهل الحرب وقعت في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب. ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أن المعدن جزء من أجزاء ملكه وسائر أجزاء هذه البقعة مملوكة له لا شيء عليه فيها فكذلك هذا الجزء بخلاف الموجود في الفلاة وبخلاف الكنز وعلى هذا الطريق يسوي بين الدار والأرض.
والطريقة الثانية: أن الدار ملكت بشرط قطع حقوق الله تعالى حتى لا يجب فيها خراج ولا عشر إذا كان فيها نخيل يخرج أكرارا من تمر وعلى هذه الطريق يقول في الأرض يجب الخمس في المعدن لأن الأرض ما ملكت بشرط قطع حقوق الله تعالى عنه ألا ترى أنه يجب فيها الخراج أو العشر فكذلك الخمس فيما يوجد فيه حق الله تعالى.
قال: "حربي دخل دارنا بأمان فأصاب كنزا أو معدنا يؤخذ منه كله" لأن هذا في معنى الغنيمة ولا حق لأهل الحرب في غنائم المسلمين رضخا ولا سهما بخلاف أهل الذمة وإن عمل في المعدن بإذن الإمام أخذ منه الخمس وما بقي فهو له لأن الإمام شرط له ذلك لمصلحة رأي فيه لمصارف الخمس فعليه الوفاء بما شرط له. ألا ترى أنه لو استعان بهم في قتال أهل الحرب رضخ لهم فهذا مثله.(2/389)
قال: "ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج وإن كان في أرض العشر أو في الجبال ففيه العشر كيف كان صاحبه" وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه أن ما روي في إيجاب العشر في العسل لم يثبت وما روي من أنه لا شيء فيه لم يثبت فهذا منه إشارة إلى أنه لا عشر في العسل. ووجهه أنه منفصل من الحيوان فلا شيء فيه كالابريسم الذي يكون من دود القز.
ولنا: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رحمهما الله تعالى أن بني سامر قوم من جرهم كانت لهم نحل عسالة فكانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل عشر قرب قربة وكان يحمي لهم واديهم فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عليهم سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يعطوه شيئا فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر أن النحل ذباب غيث يسوقه الله تعالى إلى من شاء فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحم لهم واديهم وإلا فخل بينهم وبين الناس فدفعوا إليه العشر.(2/390)
ص -199- ... وعن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "أن في العسل العشر" والمعنى فيه: أن النحل تأكل من نوار الشجر وثمارها كما قال الله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[النحل: 69]، فما يكون منها من العسل متولد من الثمار وفي الثمار إذا كانت في أرض عشرية العشر فكذلك فيما يتولد منها ولهذا لو كانت في أرض خراجية لم يكن فيها شيء فإنه ليس في ثمار الأشجار النابتة في أرض الخراج شيء وبهذا فارق دود القز فإنه يأكل الورق وليس في الأوراق عشر فكذلك ما يتولد منها.
قال: "ولا شيء في القير والنفط والملح" لأنها فوارة كالماء وأما ما حولها من الأرض فقد قال بعض مشايخنا لا شيء فيها من الخراج وإن كانت هذه العيون في أرض الخراج لأنها غير صالحة للزراعة فكانت كالأرض السبخة وما لا يبلغها الماء وكان أبو بكر الرازي رضي الله عنه يقول لا شيء في موضع القير وأما حريمه مما أعده صاحبه لإلقاء ما يحصل له فيه يمسح فيوجب فيه الخراج لأنه في الأصل صالح للزراعة إنما عطله صاحبه لحاجته فلا يسقط الخراج عنه.
قال: "ولا شيء في الطرفاء والقصب الفارسي" لأنه لا يستنبت في الجنان بماء ولا يقصد به استغلال الأراضي عادة بل لا يبقي على الأرض فإنه مفسد لها والعشر إنما يجب فيما يقصد به استغلال الأراضي عادة.
قال: "ولا يسقط فيه الخمس عن الركاز والمعدن وإن كان واجده معسرا أو فقيرا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس". ولأنه ليس يجب على الواحد ولكن الخمس صار حقا لمصارف الخمس حين وقع هذا في يد المسلمين من يد أهل الحرب فلا يختلف باختلاف حال من يظهره.(2/391)
قال: "وإذا تقبل الرجل من السلطان معدنا ثم استأجر فيه أجراء واستخرجوا منه مالا قال يخمس وما بقي فهو للمتقبل" لأن عمل أجرائه كعمله بنفسه ولأن عملهم صار مسلما إليه حكما بدليل وجوب الأجرة لهم عليه وإن كانوا عملوا فيه بغير أمره فالأربعة الأخماس لهم دونه لأنهم وجدوا المال والأربعة الأخماس للواجد والتقبل من السلطان لم يكن صحيحا لأن المقصود منه ما هو عين والتقبل في مثله لا يصح كمن تقبل أجمة فاصطاد فيها السمك غيره كان للذي اصطاده وكذلك من تقبل بعض المقانص من السلطان فاصطاد فيها غيره كان الصيد لمن أخذه ولا يصح ذلك التقبل منه فهذا مثله والله أعلم.
تم الجزء الثاني من المبسوط، ويليه الجزء الثالث وأوله:
باب عشر الأرضين(2/392)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثالث
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(3/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
باب عشر الأرضين
قال: الأصل في وجوب العشر قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}[البقرة: 267]قيل: المراد بالمكسوب: مال التجارة ففيه بيان زكاة التجارة والمراد بقوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}[البقرة: 267] العشر.
وقال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: 141] وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر".
ثم الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن كل ما يستنبت في الجنان ويقصد به استغلال الأراضي ففيه العشر الحبوب والبقول والرطاب والرياحين والوسمة والزعفران والورد والورس في ذلك سواء وهو قول بن عباس رضي الله عنه.
وقد روى أنه حين كان واليا بالبصرة أخذ العشر من البقول من كل عشر دستجات دستجة وأخذ فيه أبو حنيفة بالحديث العام: "ما سقت السماء ففيه العشر وما أخرجت الأرض ففيه العشر" وكان يقول العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فكما أن هذا كله يعد من نماء الأرض في وجوب الخراج فكذلك في وجوب العشر.
والمستثنى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى خمسة أشياء: السعف فإنه من أغصان الأشجار وليس في الشجر شيء والتبن فإنه ساق للحب كالشجر للثمار والحشيش فإنه ينقى من الأرض ولا يقصد به استغلال الأراضي والطرفاء والقصب فإنه لا يقصد استغلال الأراضي بهما عادة والمراد القصب الفارسي فأما قصب السكر ففيه العشر وكذلك على قولهما إذا كان يتخذ منه السكر وكذلك في قصب الذريرة العشر.(3/2)
وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه ليس فيه شيء والأصل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أن ما ليست له ثمرة باقية مقصودة فلا شيء فيه كالبقول والخضر والرياحين إنما العشر فيما له ثمرة باقية مقصودة واحتجا فيه بحديث موسى بن طلحة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الخضراوات صدقة"وتأويله عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى صدقة تؤخذ أي لا يأخذ العاشر من الخضراوات إذا مر بها عليه ثم قال ما كان تافها عادة يتيسر وجوده على الغني والفقير فلا يجب فيه حق الله تعالى كما لا تجب الزكاة في الصيود والحطب والحشيش وإنما يجب حق الله تعالى فيما يعز وجوده،(3/3)
ص -4- ... فيناله الأغنياء دون الفقراء كالسوائم ومال التجارة فكذلك هنا ماله ثمرة باقية يعز وجوده فأما الخضراوات والرياحين فتافهة عادة ولهذا أوجبنا في الزعفران ولم نوجب في الورس والوسمة لأنه لا ينتفع بهما انتفاعا عاما.
وأبو يوسف رحمه الله تعالى أوجب في الحناء لأنه ينتفع به انتفاعا عاما ولم يوجبه فيه محمد رحمه الله تعالى لأنه من الرياحين.
وفي الثوم والبصل روايتان عن محمد رحمه الله تعالى قال في إحدى الروايتين هما من الخضر فلا شيء فيهما وفي الرواية الأخرى قال يقعان في الكيل ويبقيان في أيدي الناس من حول إلى حول فيجب فيهما العشر والبطيخ والقثاء والخيار لا شيء فيها عندهما لأنها من الرطاب وبزرها غير مقصود فلا يكون معتبرا وكذلك في الثمار قال لا شيء في الكمثري والخوخ والمشمش والإجاص وما يجفف منها لا يعتبر وأوجبنا في الجوز واللوز العشر وفي الفستق على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب العشر وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يجب.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى العشر يجب في القليل من الخارج وكثيره ولا يعتبر فيه النصاب لعموم الحديثين كما روينا ولأن النصاب في أموال الزكاة كان معتبرا لحصول صفة الغنى للمالك بها وذلك غير معتبر لإيجاب العشر فإن أصل المال هنا لا يعتبر فهو وخمس الركاز سواء والأصل عندهما أنه لا يجب العشر فيما دون خمسة أوسق مما يدخل تحت الوسق والوسق ستون صاعا فخمسة أوسق ألف ومائتا من. واحتجا فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأبو حنيفة يقول تأويل الحديث زكاة التجارة فإنهم كانوا يتبايعون بالأوساق كما ورد به الحديث فقيمة خمسة أوسق مائتا درهم ثم قالا هذا حق مالي وجب بإيجاب الله تعالى فيعتبر فيه النصاب كالزكاة وهذا لأن القليل تافه عادة وهو عفو شرعا ومروءة.(3/4)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال العشر مؤنة الأرض النامية وباعتبار الخارج قل أو كثر تصير الأرض نامية فيجب العشر كما يجب الخراج ثم المذهب عند محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن ما يحرم التفاضل فيه بالبيع يضم بعضه إلى بعض وما لا يحرم التفاضل فيه كالحنطة والشعير لا يضم بعضه إلى بعض لأنهما مختلفان فيعتبر كمال النصاب من كل واحد منهما كالسوائم.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الكل إذا أدرك في وقت واحد يضم بعضه إلى بعض لأن العشر وجوبه باعتبار منفعة الأرض فإذا أدركت في وقت واحد فهي منفعة واحدة فيضم بعضها إلى بعض كأموال التجارة وإذا تفرقت الأراضي لرجل واحد فالمروى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن ما كان من عمل عامل واحد يجمع وما كان من عمل(3/5)
ص -5- ... عاملين يعتبر فيه النصاب في كل واحد منهما على حدة فإنه ليس للعامل ولاية الأخذ مما ليس في عمله وما في عمله دون النصاب.
والمروى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يضم بعض ذلك إلى البعض لإيجاب العشر لأن المالك واحد ووجوب العشر عليه فكان مراد محمد رحمه الله تعالى من هذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في حق الأخذ للعامل فعلى ما قاله أبو يوسف رحمه الله تعالى وإن كانت الأرض مشتركة بين جماعة فأخرجت طعاما فعلى قول محمد رحمه الله تعالى يعشر إن بلغ نصيب كل واحد منهم خمسة أوسق كما بينا في السوائم.
وقال أبو يوسف إذا كان الخارج كله خمسة أوسق ففيه العشر لأنه لا معتبر بالمالك في العشر وإنما المعتبر بالخارج حتى يجب العشر في الأراضي الموقوفة التي لا مالك لها ثم العشر يجب فيما سقته السماء أو سقي سيحا فأما ما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر وبه ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر". وفي رواية: "ما سقي بعلا أو سيحا ففيه العشر وما سقي بالرشاء ففيه نصف العشر".
وعلل بعض مشايخنا بقلة المؤنة فيما سقته السماء وكثرة المؤنة فيما سقي بغرب أو دالية وقالوا لكثرة المؤنة تأثير في نقصان الواجب وهذا ليس بقوي فإن الشرع أوجب الخمس في الغنائم والمؤنة فيها أعظم منها في الزراعة ولكن هذا تقدير شرعي فنتبعه ونعتقد فيه المصلحة وإن لم نقف عليه وكان بن أبي ليلى يقول لا عشر إلا في الحنطة والشعير والزبيب والتمر إذا بلغ خمسة أوسق لظاهر الحديث الخاص فإن اعتبار الوسق للنصاب دليل على أنه لا يجب إلا فيما يدخل تحت الوسق.
قال: وإذا أخرجت الأرض العشرية طعاما وعلى صاحبها دين كثير لم يسقط عنه العشر وكذلك الخراج لأن الدين يعدم غنى المالك بما في يده وقد بينا أن غنى المالك غير معتبر لإيجاب العشر.(3/6)
قال: وإن كانت الأرض لمكاتب أو صبي أو مجنون وجب العشر في الخارج منها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا شيء في الخارج من أرض المكاتب والعشر عنده قياس الزكاة لا يجب إلا باعتبار المالك أما عندنا فالعشر مؤنة الأرض النامية كالخراج والمكاتب والحر فيه سواء وكذلك الخارج من الأراضي الموقوفة على الرباطات والمساجد يجب فيها العشر عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب إلا في الموقوفة على أقوام بأعيانهم فإنهم كالملاك أما الموقوفة على أقوام بغير أعيانهم فلا شيء فيها.
قال: رجل استأجر أرضا من أرض العشر وزرعها قال عشر ما خرج منها على رب الأرض بالغا ما بلغ سواء كان أقل من الأجر أو أكثر في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف(3/7)
ص -6- ... ومحمد رحمهما الله تعالى العشر في الخارج على المستأجر وجه قولهما أن الواجب جزء من الخارج والخارج كله للمستأجر فكان العشر عليه كالخارج في يد المستعير للأرض وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول وجوب العشر باعتبار منفعة الأرض والمنفعة سلمت للآجر لأنه استحق بدل المنفعة وهي الأجرة وحكم البدل حكم الأصل أما المستأجر فإنما سلمت له المنفعة بعوض فلا عشر عليه كالمشتري للزرع.
ثم العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج وخراج أرض المؤاجر على المؤاجر فكذلك العشر عليه أما إذا أعار أرضه من مسلم فالعشر على المستعير في الخارج عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى على المعير وقاسه بالخراج وقال حين سلط المستعير على الانتفاع بالأرض فكأنه انتفع به بنفسه ولكنا نقول منفعة الأرض سلمت للمستعير بغير عوض ووجوب العشر باعتبار حقيقة المنفعة حتى لا يجب ما لم يحصل الخارج بخلاف المستأجر فإن سلامة المنفعة له كان بعوض وبخلاف الخراج فإن وجوبه باعتبار التمكن من الانتفاع وقد تمكن المعير من ذلك ثم محل الخراج الذمة ولا يمكن إيجابه في ذمة المستعير لأنه ليس له حق لازم في الأرض ومحل العشر الخارج وهو مستحق للمستعير فإن كان أعار الأرض من ذمي فالعشر على المعير لأن العشر صدقة لا يمكن إيجابها على الكافر والمعير صار مفوتا حق الفقراء بالإعارة من الكافر فكان ضامنا للعشر.(3/8)
قال: مسلم اشترى من كافر أرض خراج فهي خراجية عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى تصير عشرية لأن في الخراج معنى الصغار وهذا لا يبدأ به المسلم فكذلك لا يبقى بعد الإسلام إذا أسلم مالكه أو باعه من مسلم وقاس خراج الأرض بخراج الرءوس ولكنا نستدل بحديث بن مسعود رحمه الله تعالى أنه كان له أرض خراج بالسواد فكان يؤدي فيها الخراج وكذلك روى عن الحسن بن علي وأبي هريرة رحمهما الله تعالى ثم معنى الصغار في ابتداء وضع الخراج دون البقاء كما أن معنى العقوبة في ابتداء الاسترقاق دون البقاء حتى إذا أسلم الرقيق يبقى رقيقا بخلاف خراج الرءوس فإنه ذل ابتداء وبقاء فلهذا لا يبقى بعد الإسلام والمرجع في معرفة ما قلنا إلى عادات الناس.
قال: وإن اشترى ذمي من مسلم أرض عشر فإن أخذها مسلم بالشفعة أو كان في البيع خيار للبائع أو كان البيع فاسدا فرجعت إلى المسلم فهي عشرية كما كانت لأن حق المسلم لم ينقطع عنها فإن بقيت في ملك الكافر وانقطع حق المسلم عنها فهي خراجية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى عليه عشران وقال محمد رحمه الله تعالى يؤخذ منه عشر واحد وقال مالك رحمه الله تعالى يجبر على بيعها من المسلمين وعلى أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز البيع أصلا وفي القول الآخر وهو قول بن أبي ليلى يؤخذ منه العشر والخراج جميعا.(3/9)
ص -7- ... وكان شريك بن عبد الله يقول: لا شيء فيها وجعل هذا قياس السوائم إذا اشتراها الكافر من مسلم
ولكن هذا ليس بصحيح فإن الأراضي النامية في دارنا لا تخلو عن وظيفة بخلاف سائر الأموال والشافعي في أحد قوليه لا يجوز البيع أصلا كما هو مذهبه في الكافر يشتري عبدا مسلما وفي قوله الآخر يقول بأن ما كان وظيفة لهذه الأرض يبقى وباعتبار كفر المالك الحادث يجب الخراج بناء على أصله في الجمع بينهما ومالك يقول يجبر على بيعه من المسلمين لأن حق الفقراء تعلق بها ومال الكافر لا يصلح لذلك فيجبر على بيعها لإبقاء حق الفقراء فيها وأما محمد رحمه الله تعالى فقال ما صار وظيفة للأرض لا يتبدل بتبدل المالك كالخراج في الأراضي الخراجية ثم العشر الذي يؤخذ منه عند محمد رحمه الله تعالى يوضع موضع الصدقات كما ذكره في السير لأن حق الفقراء تعلق بها فهو كتعلق حق المقاتلة بالأراضي الخراجية.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أن هذا العشر يوضع في بيت مال الخراج لأنه إنما يصرف إلى الفقراء ما كان لله تعالى بطريق العبادة ومال الكافر لا يصلح لذلك فيوضع موضع الخراج كمال يأخذه العاشر من أهل الذمة وإنما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يؤخذ منه عشران لأن ما كان مأخوذا من المسلم إذا وجب أخذه من الكافر يضعف عليه كصدقة بني تغلب وما يمر به الذمي على العاشر.
أما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال الأراضي النامية لا تخلو عن وظيفة في دارنا والوظيفة إما الخراج أو العشر ولا يمكن إيجاب العشر عليه لأنها صدقة والكافر ليس من أهل الصدقة فتعين الخراج بخلاف الخراج في الأراضي الخراجية لأن استيفاءها بعد الوجوب كاستيفاء الأجرة باعتبار التمكن من الانتفاع ومال المسلم يصلح لذلك.(3/10)
قال: وإن اشترى تغلبي أرض عشر من مسلم ضوعف عليه العشر للصلح الذي جرى بيننا وبينهم وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أن تضعيف العشر عليهم في الأراضي التي كانت لهم في الأصل فأما من اشترى منهم أرضا عشرية من مسلم فعليه عشر واحد بناء على أصله أن ما صار وظيفة للأرض يقرر ولا يتغير بتغير المالك فإن أسلم عليها أو باعها من مسلم فعليه العشر مضاعفا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رضي الله تعالى عنه عشر واحد وذكر في رواية أبي سليمان المسألة بعد هذا وذكر قول محمد رحمه الله تعالى كقول أبي يوسف رحمه الله تعالى وتأويله ما بينا أن عند محمد في الأراضي التي كانت لهم في الأصل سواء أسلموا عليها أو باعوها من مسلم يجب العشر مضاعفا لأنها صارت وظيفة لهذه الأرض.
أما أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال: تضعيف العشر باعتبار كفر المالك وقد زال ذلك بإسلامه أو بيعه من المسلم فهو نظير السوائم إذا أسلم عليها التغلبي أو باعها من(3/11)
ص -8- ... المسلم لا يجب فيها إلا صدقة واحدة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال التضعيف على بني تغلب في العشر بمنزلة الخراج حتى يوضع موضع الخراج وبعد ما صارت خراجية لا تتبدل بإسلام المالك ولا يبيعها من المسلم فهذا كذلك بخلاف السوائم فإنه لا وظيفة فيها باعتبار الأصل حتى إذا كانت لغير التغلبي من الكفار لا يجب فيها شيء فعرفنا أن التضعيف فيها كان باعتبار المالك فيسقط بتبدل المالك أو بتبدل حاله بالإسلام.
أما بيان الأرض العشرية والخراجية فنقول: أرض العرب كلها أرض عشرية وحدها من العذيب إلى مكة ومن عدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة وكان ينبغي في القياس أن تكون أرض مكة أرض خراج لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وقهرا ولكنه لم يوظف عليها الخراج.
فكما لا رق على العرب لا خراج على أرضهم وكل بلدة أسلم أهلها طوعا فهي أرض عشرية لأن ابتداء الوظيفة فيها على المسلم والمسلم لا يبدأ بالخراج صيانة له عن معنى الصغار فكان عليه العشر وكل بلدة افتتحها الإمام عنوة وقسمها بين الغانمين فهي أرض عشرية لما بينا وكذلك المسلم إذا جعل داره بستانا أو أحيا أرضا ميتة فهي أرض عشرية.(3/12)
وفي النوادر ذكر اختلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وقال عند أبي يوسف إن كانت هذه الأراضي تقرب من الأراضي العشرية فهي عشرية وإن كانت بالقرب من الأراضي الخراجية فهي خراجية لأن للقرب عبرة ألا ترى أن ما يقرب من القرية ليس لأحد إحياؤها لحق أهل القرية والمرء أحق بالانتفاع بفناء داره. وقال محمد رحمه الله تعالى إن أحياها بماء السماء أو عين استنبطها أو نهر شقه لها من الأودية العظام كالفرات ودجلة وجيحون فهي عشرية وإن شق لها نهرا من بعض الأنهار الخراجية فهي خراجية لأن الخراج لا يوظف على المسلم إلا بالتزامه فإذا ساق إلى أرضه ماء الخراج فهو ملتزم للخراج فيلزمه وإلا فلا وأما أرض السواد والجبل فهي أرض خراج وحد السواد من العذيب إلى عقبة حلوان ومن الثعلبية إلى عبادان لأن عمر رضي الله عنه حين فتح السواد وظف عليها الخراج وبعث لذلك عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان.
قال: وكل بلدة فتحها الإمام عنوة وقهرا ثم من بها على أهلها فهي أرض خراج لأن ابتداء الوظيفة فيها على الكافر ولا يمكن إيجاب العشر لأنها صدقة والكافر ليس من أهلها فيوظف الخراج عليها ولأن خراج الأراضي تبع لخراج الجماجم والذمي إذا جعل داره بستانا أو أحيا أرضا ميتة بإذن الإمام فعليه فيها الخراج لما بينا.
قال: وإذا قال صاحب الأرض قد أديت العشر إلى المساكين لم يقبل قوله وإن حلف على ذلك لأن حق الأخذ فيه إلى السلطان فكان نظير زكاة السوائم على ما بينا.
قال: وإن وضع العشر أو الزكاة في صنف واحد من غير أن يأتي به السلطان وسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى.واعلم أن مصارف العشر والزكاة ما يتلى في كتاب الله عز وجل(3/13)
ص -9- ... في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وللناس كلام في الفرق بين الفقير والمسكين.
فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الفقير هو الذي لا يسأل والمسكين هو الذي يسأل قال الله تعالى في صفة الفقراء: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] قيل: لا إلحافا ولا غير إلحاف وفي المسكين قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] وقد جاء يسأل.
وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى: أن الفقير هو الذي يسأل ويظهر افتقاره وحاجته إلى الناس قال الله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}[محمد: 38] والمسكين هو الذي به زمانة لا يسأل ولا يعطى له قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16] أي لاصقا بالتراب من الجوع والعرى. فالحاصل أن المذهب عندنا أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وعند الشافعي رحمه الله تعالى الفقير أسوأ حالا من المسكين وبين أهل اللغة فيه اختلاف ومن قال بأن المسكين أسوأ حالا قال الفقير الذي يملك شيئا ولكن لا يغنيه قال الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
والمسكين من لا يملك شيئا ومن قال الفقير أسوأ حالا من المسكين قال المسكين من يملك مالا يغنيه قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}[الكهف: 79] وقال الراجز:
هل لك في أجر عظيم تؤجره ... تغيث مسكينا كثيرا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره
والفقير الذي لا يملك شيئا مشتق من انكسار فقار الظهر والحديث يشهد لهذا وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين"، وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر في الوصايا والأوقاف.(3/14)
أما الزكاة فيجوز صرفها إلى صنف واحد عندنا فلا يظهر هذا الخلاف.والعاملين عليها وهم الذين يستعملهم الإمام على جمع الصدقات ويعطيهم مما يجمعون كفايتهم وكفاية أعوانهم ولا يقدر ذلك بالثمن عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لأنهم لما فرغوا أنفسهم لعمل الفقراء كانت كفايتهم في مالهم ولهذا يأخذون مع الغنى ولو هلك ما جمعوه قبل أن يأخذوا منه شيئا سقط حقهم كالمضارب إذا هلك مال المضاربة في يده بعد التصرف وكانت الزكاة مجزية عن المؤدين لأنهم نائبون عن الفقراء بالقبض.
وأما المؤلفة قلوبهم فكانوا قوما من رؤساء العرب كأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وكان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرض الله سهما من الصدقة يؤلفهم به على الإسلام فقيل كانوا قد أسلموا وقيل كانوا وعدوا أن يسلموا.(3/15)
ص -10- ... فإن قيل: كيف يجوز أن يقال بأنه يصرف إليهم وهم كفار؟
قلنا: الجهاد واجب على الفقراء من المسلمين والأغنياء لدفع شر المشركين فكان يدفع إليهم جزأ من مال الفقراء لدفع شرهم وذلك قائم مقام الجهاد في ذلك الوقت ثم سقط ذلك السهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا قال الشعبي انقضى الرشا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أنهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه استبذلوا الخط لنصيبهم فبذل لهم وجاءوا إلى عمر فاستبذلوا خطه فأبى ومزق خط أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: هذا شيء كان يعطيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفا لكم وأما اليوم فقد أعز الله الدين فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فعادوا إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقالوا له أنت الخليفة أم عمر بذلت لنا الخط ومزقه عمر فقال هو إن شاء ولم يخالفه.
وأما قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}[البقرة: [177والتوبة 60] فالمراد إعانة المكاتبين على أداء بدل الكتابة بصرف الصدقة إليهم عندنا.وقال مالك رحمه الله تعالى المراد أن يشتري بالصدقة عبدا فيعتقه وهذا فاسد لأن التمليك لا بد منه وما يأخذه بائع العبد عوض عن ملكه والعبد يعتق على ملك المولى فلا يوجد التمليك والدليل عليه ما روى أن رجلا قال أي رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة فقال: "فك الرقبة وأعتق النسمة"، قال: أو ليسا سواء يا رسول الله؟ قال: "لا فك الرقبة أن تعين في عتقه".
وأما قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فهم المديونون الذين لا يملكون نصابا فاضلا عن دينهم وقال الشافعي رحمه الله تعالى المراد من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين.
وأما قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 60] فهم فقراء الغزاة هكذا قال أبو يوسف(3/16)
وقال محمد هم فقراء الحاج المنقطع بهم لما روى أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحاج وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الطاعات كلها في سبيل الله تعالى ولكن عند اطلاق هذا اللفظ المقصود بهم الغزاة عند الناس ولا يصرف إلى الأغنياء من الغزاة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة"، وذكر من جملتهم الغازي في سبيل الله تعالى.
ولكنا نقول: المراد الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب إنما تكون بالبدن لا بملك المال بدليل الحديث الآخر وردها في فقرائهم.
وأما بن السبيل فهو المنقطع عن ماله لبعده منه والسبيل الطريق فكل من يكون مسافرا على الطريق يسمى بن السبيل كمن يكون فقيرا أو غنيا يسمى بن الفقر وبن الغنى وبن السبيل غني ملكا حتى تجب الزكاة في ماله ويؤمر بالأداء إذا وصلت يده إليه وهو فقير يدا حتى تصرف إليه الصدقة للحال لحاجته.ثم هؤلاء الأصناف مصارف الصدقات لا(3/17)
ص -11- ... مستحقون لها عندنا حتى يجوز الصرف إلى واحد منهم.وقال الشافعي رحمه الله تعالى هم مستحقون لها حتى لا تجوز ما لم تصرف إلى الأصناف السبعة من كل صنف ثلاثة،واستدل بالآية وبحديث: "إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها من فوق سبعة أرقعة"، واعتبر أمر الشرع بأمر العباد فإن من أوصى بثلث ماله لهؤلاء الأصناف لم يجز حرمان بعضهم فكذلك في أمر الشرع.
ولنا: قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
وقال: صلى الله عليه وسلم لمعاذ، رضي الله عنه:"وردها في فقرائهم"،وبعث عمر رضي الله عنه بصدقة إلى بيت أهل رجل واحد هكذا نقل عن بن عباس وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم وقد بينا أن المقصود إغناء المحتاج وذلك حاصل بالصرف إلى واحد وبه فارق أوامر العباد لأن المعتبر فيها اللفظ دون المعنى فقد تقع خالية عن حكمة حميدة بخلاف أوامر الشرع أما الآية فقد قال بن عباس رضي الله عنه المراد بيان المصارف فإلى أيهم انصرفت أجزأت كما أن الله تعالى أمره باستقبال الكعبة في الصلاة وإذا استقبل جزأ كان ممتثلا للأمر ألا ترى أن الله تعالى ذكر الأصناف بأوصاف تنبئ عن الحاجة فعرفنا أن المقصود سد خلة المحتاج؟(3/18)
قال: ولا يجوز تعجيل عشر ما لم يزرع وعشر ثمر لم يخرج أما تعجيل عشر الثمار قبل ظهور الطلع فلا يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويجوز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ذكره في الإملاء قال لأنه لم يبق بينه وبين الوجوب إلا مجرد مضي الزمان فهو كتعجيل الزكاة بعد كمال النصاب وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا السبب الموجب لم يوجد لأن الموجود ملك رقاب النخيل وهو ليس بسبب للعشر حتى لو قطعها لم يلزمه شيء وتعجيل الحق قبل وجود سبب وجوبه لا يجوز كتعجيل الزكاة قبل تمام النصاب أما تعجيل عشر الزرع قبل الزراعة فلا يجوز بالاتفاق لأن الأرض ليست بسبب لوجوب العشر وقد بقي بينه وبين الوجوب عمل سوى مضي الزمان وهو الزراعة وبعد نبات الزرع يجوز التعجيل بالاتفاق وأما بعد ما زرع قبل أن ينبت فيجوز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه لم يبق بينه وبين وجوب العشر إلا مضي الزمان ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن السبب لم يوجد لأن الحب في الأرض كهو في الحب ليس بسبب وجوب العشر.
قال: ولا يعطى زكاته وعشره ولده وولد ولده وأبويه وأجداده وكل من ينسب إلى المؤدي بالولادة أو ينسب إليه بالولادة ولا يجوز صرف الزكاة إليه لأن تمام الإيتاء بانقطاع منفعة المؤدي عما أدى والمنافع بين الآباء والأبناء متصلة قال الله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً}[النساء: 11] فلم يتم الإيتاء بالصرف إليهم فأما من سواهم من القرابة فيتم الإيتاء بالصرف إليه وهو أفضل لما فيه من صلة الرحم.(3/19)
ص -12- ... قال: ولا يعطى مدبره وعبده وأم ولده لأنهم مماليكه كسبهم له وكذلك لا يعطى مكاتبه لأن كسب المكاتب دائر بينه وبين المولى فلم يتم الإيتاء بالصرف إليه وهذا بخلاف ما لو دفع إلى مكاتب غني لأن هناك الإيتاء تم بانقطاع منفعة المؤدي عما أدى ولم يثبت فيه للغنى ملك ولا يد للحال وكذلك لا يصرف إلى زوجته لأن الإيتاء لا يتم فمال الزوجة من وجه لزوجها قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8] قيل بمال خديجة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بناء على أن شهادة الزوج لزوجته جائزة فأما المرأة فلا تعطي زوجها في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعطيه واستدلا بحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رحمهما الله تعالى فإنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على زوجها فقال: "يجوز ولك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة" ولأنه لا حق للزوجة في مال زوجها فيتم الإيتاء كما يتم بالصرف إلى الأخوة بخلاف الزوج يصرف إلى زوجته على ما بينا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لزوجته أصل الولاد ثم ما يتفرع من هذا الأصل يمنع صرف زكاة كل واحد منهما إلى صاحبه فكذلك الأصل ألا ترى أن كل واحد منهما متهم في حق صاحبه لا تجوز شهادته له وأن كل واحد منهما يرث صاحبه من غير حجب كما بالولاد؟ وحديث زينب رضي الله عنها محمول على صدقة التطوع فقد روى أنها كانت امرأة ضيقة اليد تعمل للناس وتتصدق من ذلك وبه نقول إنه يجوز صرف صدقة التطوع لكل واحد منهما إلى صاحبه وكذلك لو أعطى غنيا أو ولدا صغيرا لغنى مع علمه بحاله لا يجوز لأن مصرف الصدقات الفقراء بالنص فإن صرف إلى زوجة غني وهي فقيرة أو إلى بنت بالغة لغنى وهي فقيرة جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه صرفها إلى الفقير واستحقاقها النفقة على الغني لا يخرجها من أن تكون مصرفا كأخت فقيرة لغني فرض عليه نفقتها.(3/20)
وأبو يوسف رحمه الله تعالى قال: لا يجوز لأنها مكفية المؤنة باستحقاقها النفقة على الغني بالإنفاق فهو نظير ولد صغير لغني وكذلك لو صرفها إلى هاشمي أو مولى هاشمي وهو يعلم بحاله لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد". وعن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الأرقم بن أبي الأرقم على الصدقات فاستتبع أبا رافع فجاء معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا رافع إن الله تعالى كره لبني هاشم غسالة الناس وإن مولى القوم من أنفسهم"، وهذا في الواجبات فأما في التطوعات والأوقاف فيجوز الصرف إليهم وذلك مروي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في النوادر لأن في الواجب المؤدى يطهر نفسه بإسقاط الفرض فيتدنس المؤدى بمنزلة الماء المستعمل.
وفي النفل يتبرع بما ليس عليه فلا يتدنس به المؤدى كمن تبرد بالماء فإن أعطاه غنيا،(3/21)
ص -13- ... وهو لا يعلم بحاله فإنه يجزى إن وقع عنده أنه فقير أو سأله فأعطاه أو كان جالسا مع الفقراء أو كان عليه زي الفقراء ثم تبين أنه غني جاز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يجز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو قول الشافعي رضي الله عنه لأن الخطأ ظهر له بيقين لأن المصرف في الصدقات الفقراء دون الأغنياء فلا يجزئه كمن توضأ بالماء ثم تبين أنه نجس أو قضى القاضي في حادثة باجتهاد ثم ظهر نص بخلافه.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن الواجب عليه الصرف إلى من هو فقير عنده وقد فعل فيجوز كما إذا صلى الإنسان إلى جهة بالتحري ثم ظهر الأمر بخلافه وهذا لأن الغنى والفقر لا يوقف عليهما وقد لا يقف الإنسان على غنى نفسه فضلا عن غيره والتكليف إنما يثبت بحسب الوسع بخلاف النص فإنه مما يوقف على حقيقته وكذلك يوقف على نجاسة الماء وطهارته وإن تبين أنه دفع إلى أبيه أو ابنه جاز في ظاهر الرواية عندهما وذكر بن شجاع رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجوز.
وجه تلك الرواية: أن النسب مما يحكم به ويمكن معرفته حقيقة فيتبين الخطأ بيقين كما لو ظهر أنه عبده أو مكاتبه.
وجه ظاهر الرواية حديث معن بن يزيد رضي الله عنه قال دفع أبي صدقته إلى رجل ليصرفها ويفرقها على المساكين فأعطاني فلما رآه أبي في يدي فقال ما إياك أردت يا بني فقلت ما أنا بالذي أرده عليك فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا معن لك ما أخذت ويا يزيد لك ما نويت" فقد جوز الصرف إلى الولد عند الاشتباه وكان المعنى فيه وهو أن الصرف إلى الولد قربة بدليل التطوع فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الأكثر مما هو مستحق عن المؤدي عند الاشتباه مقام الكمال في حكم الجواز.(3/22)
وكذلك إذا تبين أن المدفوع إليه هاشمي فهو على هاتين الروايتين وإن تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هاتين الروايتين أيضا لأن الكفر يحكم به ويوقف على حقيقته وإن تبين أن المدفوع إليه حربي قال في كتاب الزكاة يجوز وتأويله أنه إذا كان مستأمنا في دارنا فهو كالذمي وأبو يوسف رحمه الله تعالى ذكر في جامع البرامكة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه لأن التصدق على الحربي ليس بقربة أصلا فلا يمكن أن يقام مقام ما هو قربة عند الاشتباه.
قال: ويكره أن يعطي رجلا من الزكاة مائتي درهم إذا لم يكن عليه دين أو له عيال وإن أعطاه جاز وعند زفر رحمه الله تعالى لا يجزئه إعطاء المائتين وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا بأس بإعطاء المائتين إليه إنما يكره أن يعطيه فوق المائتين وزفر رحمه الله تعالى يقول غنى المدفوع إليه يقترن بقبضه وذلك مانع من جوازه ولكنا نقول الغنى يحصل بالملك وذلك حكم يثبت بعد قبضه فلم يقترن الغنى بالدفع والقبض فلا(3/23)
ص -14- ... يمنع الجواز ولكن يعقبه متصلا به فأوجب الكراهة للقرب كمن صلى وبقربه نجاسة جازت الصلاة للوقوف على مكان طاهر وكان مكروها للقرب من النجاسة. وأبو يوسف يقول جزء من المائتين مستحق لحاجته للحال والباقي دون المائتين فلا تثبت به صفة الغنى إلا أن يعطيه فوق المائتين.
ثم الغنى الذي يثبت به حرمة أخذ الصدقة أن يملك مائتي درهم أو ما يساويها فضلا عن حاجته عندنا
وقال سفيان الثوري أن يملك خمسين درهما وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا كان صاحب عيال لا تغنيه المائتان جاز صرف الزكاة إليه وإن كان يملك المائتين لقيام حاجته كابن السبيل تصرف إليه الزكاة وإن كان مالكا للمال وسفيان رحمه الله تعالى استدل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سأل الناس وهو غني عن المسألة جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه". قيل وما الغنى يا رسول الله قال: "أن يملك خمسين درهما" وتأويله عندهما في حرمة السؤال والطلب وبه نقول: قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: "ما أتاك من هذا المال من غير طلب ولا استشراف فخذه فإنه مال الله تعالى يؤتيه من يشاء" وذم السؤال لقوله صلى الله عليه وسلم: "السؤال آخر كسب العبد" أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة وإن كان قادرا على الكسب وليس له عيال ولا مال يجوز صرف الزكاة إليه عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". وتأويله عندنا حرمة الطلب والسؤال.(3/24)
ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم الصدقات فقام إليه رجلان يسألانه فنظر إليهما ورآهما جلدين فقال: "أما أنه لاحق لكما فيه وإن شئتما أعطيتكما"، معناه: لاحق لكما في السؤال ألا ترى أنه جوز الإعطاء لهما وقيل كان الحكم في الابتداء أن حرمة الأخذ كانت متعلقة بقوة البدن ثم انتسخ بملك خمسين ثم انتسخ ذلك واستقر الأمر على ملك النصاب وإنما حملناه على هذا ليكون الناسخ أخف من المنسوخ كما قال الله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة: 106]
قال: رجل له على رجل دين فتصدق به على آخر عن زكاة ماله وأمره بقبضه فقبضه أجزأه لأنه في القبض وكيله فتعين المقبوض ملكا لصاحب المال فكأنه قبض بنفسه ثم صرف إليه بنية الزكاة فيكون مؤديا العين دون الدين.
قال: رجل تصدق على رجل بدراهم من ماله عن زكاة مال رجل بغير أمره ثم علم بعد ذلك ورضي به لم يجزه من زكاته لأن رضاه في الانتهاء إنما يؤثر فيما كان موقوفا عليه والصدقة عن المتصدق كان تاما غير موقوف فلا يؤثر فيه رضا الآخر به وإن كان تصدق عليه بأمره أجزأه لأنه يصير مستقرضا المال منه إن شرط له الرجوع عليه أو مستوهبا منه إن لم(3/25)
ص -15- ... يشترط له ذلك والفقير يكون نائبا عنه في القبض يقبض له أولا ثم لنفسه بخلاف ما إذا انعدم الأمر في الابتداء ثم لا يرجع المؤدى على الآمر هنا إلا بالشرط بخلاف المأمور بقضاء الدين فهناك أمره أن يملك ما في ذمته بما يؤدى فله حق الرجوع عليه بدون الشرط وهنا لا يصير مملكا منه شيئا في ذمته بما يؤدى.
يوضح الفرق بينهما أن هناك هو مطالب بقضاء الدين يجبر عليه في الحكم فهو بالأداء بأمره سقطت عنه هذه المطالبة فثبت له حق الرجوع عليه وهنا من عليه الزكاة لا يطالب بأداء الزكاة ولا يجبر عليه في الحكم فلا يثبت للمؤدى بأمره حق الرجوع عليه إلا بالشرط كمن يقول لغيره عوض هبتي من مالك لفلان فعوضه لا يرجع إلا بالشرط.
قال: رجل له مائتا قفيز حنطة للتجارة قيمتها مائتا درهم فحال الحول عليها ثم رجعت قيمتها إلى مائة درهم فإن أراد أداء الزكاة من العين تصدق بربع عشرها خمسة أقفزة بالاتفاق وإن أراد أداء الزكاة من القيمة قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يؤدي خمسة دراهم معتبرا وقت الوجوب وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يؤدي درهمين ونصفا معتبرا وقت الأداء فالأصل عندهما أن الواجب جزء من العين وهو ربع العشر جاء في الأثر: هاتوا ربع عشر أموالكم.(3/26)
ولأن الواجب فيما هو مملوك له وهو العين إلا أن له ولاية نقل الحق من العين إلى القيمة باختياره فتعتبر قيمة العين وقت الاختيار زائدا كان أو ناقصا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الواجب عند حولان الحول إما ربع عشر العين أو ربع عشر القيمة يتعين ذلك باختياره والمخير بين الشيئين إذا أدى أحدهما تعين ذلك من الأصل واجبا والدليل على هذا أن تأثير القيمة في إيجاب الزكاة هنا أكثر من تأثير العين حتى إذا كمل النصاب من حيث القيمة تجب الزكاة سواء كان كاملا من حيث العين أو لم يكن وقد فرع على هذه المسألة بابا في الجامع فما زاد على هذا فيما أمليناه في شرح الجامع وقررنا الفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد على أصل الكل.
قال: والعشر واجب في قليل العسل وكثيره عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان في أرض العشر كما هو مذهبه في باب العشر وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ليس فيما دون خمسة أوسق من العسل العشر ومراده من هذا اللفظ أن تبلغ قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق. فالحاصل أن ما لا يدخل تحت الوسق كالقطن والزعفران والسكر والعسل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تعتبر القيمة فيه وعند محمد رحمه الله تعالى يعتبر فيه خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء ففي القطن يعتبر خمسة أحمال وفي الزعفران خمسة أمنان وفي السكر كذلك وفي العسل خمسة أفراق والفرق ستة وثلاثون رطلا فخمسة أفراق تكون تسعين منا هكذا ذكره في نوادر هشام وعن أبي(3/27)
ص -16- ... يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي أن في العسل المعتبر عشرة أرطال وروى عشر قرب كما ورد به الحديث.
وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن غير المنصوص عليه يقاس على المنصوص عليه لمعنى مؤثر يجمع بينهما والمنصوص عليه خمسة أوسق فيما يدخل تحت الوسق لأن الوسق أعلى ما يقدر به ذلك الجنس فكذلك في كل مال يعتبر فيه خمسة أمثال أدنى ما يقدر به وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول نصب النصاب بالرأي لا يكون ولكن فيما فيه نص يعتبر المنصوص وما لا نص فيه المعتبر هو القيمة كما في عروض التجارة مع السوائم في حكم الزكاة.
قال: رجل له أرض عشرية وفيها نحل لا يعلم به صاحبها فجاء رجل وأخذ عسلها فهو لصاحب الأرض وفيه العشر وإن كانت لم تتخذ لذلك أما كونه لصاحب الأرض فلأنه صار محرزا له بملكه فكانت يده إليه أسبق حكما فيكون هو أولى بملكه وهذا بخلاف الطير إذا فرخ في أرض رجل فجاء رجل وأخذه فهو للآخذ لأن الطير لا يفرخ في موضع ليتركه فيه بل ليطيره إذا قوي على ذلك فلم يصر صاحب الأرض محرزا للفرخ بملكه فكان للآخذ فأما النحل فيعسل في الموضع ليتركه فيه فصار صاحب الأرض محرزا له بملكه كالماء إذا اجتمع في أرض فاجتمع منه الحمأ والطين فهو لصاحب الأرض ووجوب العشر عليه باعتبار أنه نماء في أرض العشر.
وقال في كتاب الزكاة: إذا وجد الجوز أو اللوز في جبل ففيه العشر وروى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا شيء فيه لأنه مباح كالصيود والعشر فيما يكون من نماء أرض العشر وجه ظاهر الرواية أن الموجود نماء كله فلا فرق في وجوب حق الله تعالى بين أن يكون في ملكه أو في غير ملكه كخمس المعادن.(3/28)
قال: ومن أحيا أرضا ميتة فهي له إذا كان بإذن الإمام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هي له سواء أذن له الإمام أو لا لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، ومثل هذا اللفظ لبيان السبب في لسان صاحب الشرع كقوله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر". وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن عادى الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني"، وبعد وجود الإذن من صاحب الشرع لا حاجة إلى إذن أحد من الأئمة وأبو حنيفة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لأحدكم إلا ما طابت به نفس إمامه" فتبين بهذا الحديث شرط الملك وهو إذن الإمام كما تبين بما ورد السبب وهو الإحياء والحكم بعد وجوب السبب يتوقف على وجود شرطه ثم الناس في الموات من الأراضي سواء فلو لم يشترط فيه إذن الإمام أدى إلى امتداد المنازعة والخصومة بينهم فيها فكل واحد منهم يرغب في إحياء ناحية وجعل التدبير في مثله إلى الأئمة يرجع إلى المصلحة لما فيه من إطفاء(3/29)
ص -17- ... ثائرة الفتنة وهذه المسألة تعود في كتاب الشرب مع بيان حد الموات فما زاد على هذا نبينه هناك إن شاء الله تعالى.
باب ما يوضع فيه الخمس
قال: من أصاب ركازا وسعه أن يتصدق بخمسه على المساكين وإذا اطلع الإمام على ذلك أمضى له ما صنع لأن الخمس حق الفقراء والمساكين وقد أوصله إلى مستحقه وهو في إصابة الركاز غير محتاج إلى حماية الإمام فكان هو في الحكم كزكاة الأموال الباطنة وإن كان محتاجا إلى جميع ذلك وسعه أن يمسكه لنفسه لقول علي رضى الله تعالى عنه وإن وجدتها في قرية خربت على عهد فارس فخمسها لنا وأربعة أخماسها لك وسنتمها لك أي نعطيك الخمس منها أيضا ولأن وجوب الخمس في المصاب باعتبار أنه مما أوجف عليه المسلمون فلا يكون الوجوب على المصيب خاصة فهو في كونه مصرفا كغيره ولو رأى الإمام في خمس الغنائم أن يصرفها إلى الغانمين لحاجتهم وسعه ذلك فكذلك هذا المصيب في الخمس وإن تصدق بالخمس على أهل الحاجة من أولاده وآبائه جاز لأنه لما جاز له وضعه في نفسه عند حاجته ففي آبائه وأولاده أولى وهو نظير خمس الغنائم إذا رأى الإمام أن يضعه في أولاد الغانمين وآبائهم.
قال: وما جبي من الخراج فهو لجميع المسلمين يعطى الإمام منه أعطية المقاتلة وفي نوائب المسلمين
والحاصل أن ما يجبى إلى بيت المال أنواع أربع:
أحدها: الخمس ومصرفه ما قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [لأنفال: 41] قال عطاء بن أبي رباح سهم الله وسهم الرسول واحد. وقال قتادة: ذكر اسم الله تعالى لافتتاح الكلام فكان الخمس يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة ثم سقط سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته عندنا.وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو مصروف إلى كل خليفة بعده لأنهم نائبون منا به محتاجون إلى ما كان محتاجا إليه من جوائز الوفود والرسل.(3/30)
ولنا: أن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ما رفعوا هذا السهم لأنفسهم وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب النبوة ولم ينتقل ذلك إلى أحد بعده فهو نظير الصفي الذي كان يصطفيه لنفسه وكذلك سهم ذوي القربى سقط بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا.وبيانه في كتاب السير وبقي المصرف لليتامى والمساكين وبن السبيل وجاء في الحديث أن الخلفاء الراشدين قسموا الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
والنوع الثاني: الصدقات والعشور وقد بينا مصارفها.
والنوع الثالث: الخراج والجزية وما يؤخذ من صدقات بني تغلب وما يأخذ العاشر من أهل الذمة ومن أهل الحرب إذا مروا عليه فهذا النوع مصروف إلى نوائب المسلمين,(3/31)
ص -18- ... ومنها إعطاء المقاتلة كفايتهم وكفاية عيالهم لأنهم فرغوا أنفسهم للجهاد ودفع شر المشركين عن المسلمين فيعطون الكفاية من أموالهم ومن هذا النوع إيجاد الكراع والأسلحة وسد الثغور وإصلاح القناطر والجسور وسد البثق وكرى الأنهار العظام ومنه أرزاق القضاة والمفتين والمحتسبين والمعلمين وكل من فرغ نفسه لعمل من أعمال المسلمين على وجه الحسبة فكفايته في هذا النوع من المال.
والنوع الرابع: تركة من لا وارث له من المسلمين أو من يرثه الزوج أو الزوجة فقط فإن الباقي مصروف إلى بيت المال وما يوجد من اللقطة إذا لم يعرفها أحد فهو موضوع في هذا النوع من بيت المال ومصروف هذا النوع نفقة اللقيط وتكفين من يموت من المسلمين ولا مال له وهو معنى قول محمد رحمه الله تعالى فعلى الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف فلا يدع فقيرا إلا أعطاه حقه من الصدقات حتى يغنيه وعياله وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات شيء أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج ولا يكون ذلك دينا على بيت مال الصدقة لما بينا أن الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين بخلاف ما إذا احتاج الإمام إلى إعطاء المقاتلة ولا مال في بيت مال الخراج صرف ذلك من بيت مال الصدقة وكان دينا على بيت مال الخراج لأن الصدقة حق الفقراء والمساكين فإذا صرف الإمام منها إلى غير ذلك للحاجة كان ذلك دينا لهم على ما هو حق المصروف إليهم وهو مال الخراج.
قال: وما أخذ من صدقات بني تغلب وضع موضع الخراج لما مر وما أخذ من صدقات أهل بلد رد على فقرائهم كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وحكى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لا تخرج الزكاة من بلد إلى بلد إلا لذي قرابة وقد بينا هذا.(3/32)
قال: وإذا لم يبق محتاج من أهل تلك البلدة فإن كان بقرب منهم محتاج فهو أحق من فقراء غيرهم لقربهم فلو وضعها الإمام في أهل الحاجة من غيرهم وسعه ذلك فإن أخرجها إلى غيرهم جاز وهو مكروه وقد تقدم بيان هذا الفصل.
قال: ومن كان غنيا ولم يقر وليس في الديوان اسمه ولا يلي للمسلمين شيئا لم يعط من الخراج شيئا لأنه مشغول بالكسب لنفسه ولا يعمل للمسلمين عملا فلا يستحق شيئا من مالهم.
قال: وتجب للإمام نفقته في بيت المال قدر ما يغنيه يفرض له ذلك لما روى أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف رآه عمر يحمل شيئا من متاع أهله فقال إلى أين يا خليفة رسول الله فقال إلى السوق أبيع متاعا لأهلي لأنفقه في حوائجي فجمع الصحابة وفرضوا له كل يوم درهمين وثلثي درهم أو ثلاثة دراهم وثلثا درهم على ما اختلفت الروايات فيه إلا(3/33)
ص -19- ... أنه روى أنه أوصى إلى عائشة عند موته أن ترد ذلك كله حتى قال عمر رضي الله عنه رحمك الله يا أبا بكر لقد اتعبت من بعدك وعمر في خلافته كان يأخذ الكفاية من بيت المال على ما روى عنه أنه قال إن الجزور ينحر كل يوم والعنق منه لآل عمر أما عثمان رضي الله عنه فكان لا يأخذ شيئا من بيت المال لثروته ويساره وأما علي فكان يأخذ على ما روى أنه قال إن مالي من مالكم كل يوم قصعتا ثريد فالحاصل أن الإمام إذا كان غنيا فالأولى أن لا يأخذ وإن كان محتاجا أخذ كفايته وكفاية عياله على ما أشار الله تعالى إليه في حق الأوصياء: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء: 6]
قال: ولا شيء لأهل الذمة في بيت المال وإن كانوا فقراء لأنه مال المسلمين فلا يصرف إلى غيرهم وكذلك لا يرد عليهم مما أخذ منهم العاشر شيئا لأن المأخوذ صار حقا للمسلمين ومن الناس من قال إذا كان محتاجا عاجزا عن الكسب يعطى قدر حاجته لما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شيخا من أهل الذمة يسأل فقال ما أنصفناه أخذنا منه في حال قوته ولم نرد عليه عند ضعفه وفرض له من بيت المال ولكن الحديث شاذ فلم يأخذ به علماؤنا ورأوا أن من الترغيب له في الإسلام أن لا يعطى من مال المسلمين شيئا ما لم يسلم.
قال: وأمير الجيش في الغنيمة بمنزلة رجل من الجند إن كان فارسا فله سهم الفرسان وإن كان راجلا فله سهم الرجالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل سهمه في الغنيمة كسهم واحد من المسلمين وكذلك من جاهد بعده من الخلفاء الراشدين وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم ثلاث حظوظ خمس الخمس وصفي يصطفيه لنفسه من درع أو سيف أو جارية وسهم كسهم أحدهم فخمس الخمس والصفي كان هو مختصا به أخذهما(3/34)
بولاية النبوة فليس من ذلك شيء لأمراء الجيوش وبعده بقي السهم فهو لأمراء الجيوش كما كان يأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب.(3/35)
ص -20- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب نوادر الزكاة
قال: الشيخ الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم أن مسائل أول الكتاب مبنية على الأصل الذي بيناه في كتاب الزكاة وهو أن ضم النقود بعضها إلى بعض في تكميل النصاب باعتبار معنى المالية فإن الذهب والفضة وإن كانا جنسين صورة ففي معنى المالية هما جنس واحد على معنى أنه تقوم الأموال بهما وأنه لا مقصود فيهما سوى أنهما قيم الأشياء وبهما تعرف خيرة الأموال ومقاديرها ووجوب الزكاة باعتبار المالية قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24: 25 ثم اعتبار كمال النصاب لأجل صفة الغنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، والغنى بهما يكون بصفة واحدة واعتبار كمال النصاب لمعرفة مقدار الواجب وهما في مقدار الواجب فيهما كشيء واحد فإن الواجب فيهما ربع العشر على كل حال وكذلك وجوب الزكاة باعتبار معنى النماء فإنها لا تجب إلا في المال النامي ومعنى النماء فيها بطريق التجارة وربما يحصل بالتجارة في الذهب النماء من الفضة أو على عكس ذلك فكانا بمنزلة عروض التجارة في معنى النماء.(3/36)
وعروض التجارة وإن كانت أجناسا مختلفة صورة يضم بعضها إلى بعض في حق حكم الزكاة فكذلك النقود ألا ترى أن نصاب كل واحد منهما يكمل بما يكمل به نصاب الآخر وهو العروض فكذلك يكمل نصاب أحدهما بالآخر بخلاف السوائم ثم على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى يضم أحد النقدين إلى الآخر باعتبار القيمة وعندهما باعتبار الأجزاء لأن المقصود تكميل النصاب ولا معتبر بالقيمة فيه ألا ترى أن من كانت له عشرة دنانير وهي تساوي مائتي درهم لا تجب عليه الزكاة والدليل عليه أن المعتبر صفة المالية والمالية من الذهب والفضة باعتبار الوزن إليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "جيدها ورديئها سواء" وباعتبار الوزن لا يمكن تكميل النصاب إلا من حيث الأجزاء.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ضم الأجناس المختلفة بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا يكون إلا باعتبار القيمة كما في عروض التجارة وهذا لأن المعتبر صفة المالية وصفة الغنى للمالك وذلك إنما يحصل باعتبار القيمة وإنما لا تعتبر قيمة النقد عند الانفراد فأما عند مقابلة أحدهما بالآخر فتعتبر القيمة ألا ترى أن من كسر على إنسان قلب(3/37)
ص -21- ... فضة جيدة فإنه يجب عليه قيمته من الذهب فلما كان في حقوق العباد تعتبر القيمة عند مقابلة أحدهما بالآخر فكذلك في حق الله تعالى تعتبر القيمة عند ضم أحدهما إلى الآخر.
إذا عرفنا هذا فنقول رجل له ثمانية دنانير ثمنها مائة درهم ومائة درهم حال عليهما الحول فعليه الزكاة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن نصابه بلغ مائتي درهم باعتبار القيمة وفي قول أبي يوسف محمد رحمهما الله تعالى لا زكاة عليه لأن نصابه ناقص باعتبار الأجزاء فإنه يملك نصف نصاب من الفضة وخمسي نصاب من الذهب فإذا جمعت بينهما كانت أربعة أخماس نصاب ونصف خمس وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا أنه إذا كانت له خمسة وتسعون درهما ودينار قيمته خمسة دراهم فإنه يلزمه الزكاة باعتبار أن كل دينار ثمن خمسة دراهم فثمن خمسة وتسعين درهما تسعة عشر دينارا فإن ضمها إلى الدينار يكون عشرين دينارا وبهذه الرواية يتبين أن على أصله يقوم الذهب تارة بالفضة والفضة تارة بالذهب وذلك لأجل الاحتياط وتوفير المنفعة على الفقراء.(3/38)
قال: وإن كان له مائة وخمسون درهما وخمسة دنانير ثمنها خمسون درهما فعليه الزكاة بالاتفاق لأن النصاب كامل من حيث القيمة ومن حيث الأجزاء فإنه يملك ثلاثة أرباع نصاب الفضة وربع نصاب الذهب وكذلك إن كانت له خمسة عشر دينارا وخمسون درهما ثمنها خمسة دنانير أو كانت له عشرة دنانير ومائة درهم ثمنها عشرة دنانير فعليه الزكاة بالاتفاق لكمال النصاب سواء اعتبرت الضم بالأجزاء أو بالقيمة ولم يبين في الكتاب أنه من أي الجنسين تؤدى الزكاة والصحيح أنه يؤدى من كل واحد منهما ربع عشره لأن الواجب فيهما ربع العشر بالنص. قال صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"، وقال عمر رضي الله عنه هاتوا عشور أموالكم وفي أداء ربع العشر من كل نوع مراعاة النظر لصاحب المال والفقراء ألا ترى أن بعد تمام الحول لو هلك أحد النوعين لم يكن عليه أن يؤدي من النوع الآخر إلا ربع عشره فكذلك في حال بقاء النوعين.
وقال: ولو أن رجلا له ألف درهم حال عليها الحول ثم أضاف إليها ألفا أخرى ثم خلطهما ثم ضاعت منهما ألف درهم فعليه أن يزكي خمسمائة إذا لم يعرف الذي ضاع من الذي بقى لأن نصف المال كان مشغولا بحق الفقراء ونصفه كان فارغا عن حقهم وليس صرف الهلاك إلى أحد النوعين بأولى من الآخر فيجعل الهالك منهما والباقي منهما كما هو الأصل في المال المشترك فإنما بقي من مال الزكاة خمسمائة وهذا بخلاف ما إذا اشتمل المال على النصاب والوقص فهلك منهما شيء يجعل الهالك من الوقص خاصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى نحو ما إذا كان له فوق النصاب ثمانون من الغنم فحال عليها الحول ثم هلك أربعون فعليه في الباقي شاة لأن هناك الوقص تبع للنصاب باسمه وحكمه فإنه لا يتحقق الوقص إلا بعد النصاب وهذا هو علامة الأصل مع التبع فإن(3/39)
ص -22- ... التبع يقوم بالأصل والأصل يستغنى عن التبع ثم لا يتحقق المعارضة بين التبع والأصل وجعل الهالك من المالين باعتبار المعارضة فأما هنا فأحد الألفين ليس بتبع للآخر فتتحقق المعارضة بينهما فلهذا يجعل الهالك منهما وهو بمنزلة مال المضاربة إذا كان فيها ربح فهلك منها شيء يجعل الهالك من الربح خاصة لأنه تبع لرأس المال والمال المشترك بين الشريكين إذا هلك منه شيء يجعل الهالك من نصيب الشريكين والباقي من نصيبهما.
فإن قيل لماذا لم يجعل صاحب المال بهذا الخلط مستهلكا لمال الزكاة حتى يكون ضامنا اعتبارا لحقوق العباد فإنه لو غصب ألف درهم وخلطها بألف من ماله كان ضامنا؟.
قلنا: لأن هناك حق المغصوب منه في عين الدراهم حتى لو أراد أن يمسك تلك الدراهم ويعطيه غيرها لم يكن له ذلك والخلط استهلاك العين على معنى أنه لا يتوصل بعده إلى تلك العين.(3/40)
فأما حق الفقراء هنا ففي معنى المالية بدليل أن لصاحب المال أن يؤدي الزكاة من دراهم غير تلك الدراهم ومن جنس آخر من المال وليس في هذا الخلط تفويت معنى المالية ولا إخراج المال من أن يكون محلا لحق الفقراء فلهذا لا يضمن بالخلط شيئا فإن عرف مائة درهم من الباقي أنها من دراهمه الأولى ولم يعرف غيرها فإنه يزكي هذه المائة درهمين ونصفا لأنه يعرف أن ربع عشرها حق الفقراء ويزكي تسعة أجزاء من تسعة عشر جزأ مما بقي لأنه لما عرف المائة بقي المشتبه ألف وتسعمائة فإذا جعلت كل مائة سهما كانت عشرة أسهم من ذلك فارغة عن الزكاة وتسعة أسهم مشغولة بالزكاة فما هلك يكون منها بالحصة وما بقي كذلك فلهذا يزكى تسعة أجزاء من تسعة عشر جزأ مما بقي ولو عرف مائة درهم أنها من دراهمه الأخرى ولم يعرف غير ذلك فلا شيء عليه في هذه المائة لأنه لم يحل عليها الحول وعليه أن يزكي عشرة أجزاء من تسعة عشر جزأ مما بقي لأن المشتبه تسعة عشر سهما عشرة من ذلك مال الزكاة وتسعة فارغة فيكون الهلاك منهما بالحصة والباقي كذلك.
قال: رجل له ألف درهم سود وألف درهم بيض فلما كان قبل الحول بشهر زكى خمسة وعشرين درهما من البيض فهذه المسألة على ثلاثة أوجه إما أن يهلك البيض قبل كمال الحول أو تستحق أو يتم الحول على المالين فإن ضاعت البيض قبل الحول وتم الحول على السود يجزئه ما أدى عن زكاة السود لأنه إنما عجل ما يجب عليه من الزكاة عند كمال الحول وهو زكاة السود فالمعجل يجزئ من ذلك بمنزلة ما لو أدى بعد كمال الحول خمسة وعشرين درهما بيضا بزكاة السود وهذا لأن البيض والسود جنس واحد في حكم الزكاة فلهذا يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب والمعتبر في الجنس الواحد أصل النية فأما نية التعيين فغير معتبرة في الجنس الواحد إذا لم يكن مفيدا كمن عليه قضاء أيام من رمضان(3/41)
ص -23- ... وصام بعددها ينوي القضاء يجزئه وإن لم يعين في نيته يوم الخميس والجمعة وهذا بخلاف ما إذا كانت له خمس من الإبل وأربعون من الغنم فعجل زكاة الغنم شاة ثم ضاعت الغنم وتم الحول على الإبل فإن المعجل لا يجزئ عن زكاة الإبل لأنهما جنسان مختلفان في حكم الزكاة ولهذا لا يضم أحدهما إلى الآخر وعند اختلاف الجنس تعتبر نية التمييز.
ولو استحقت البيض قبل كمال الحول لم يجز المعجل عن زكاة السود لأنه إنما عجل الزكاة من مال الغير فلا يجزئ ذلك عن زكاة ماله وكيف يجزئ وهو ضامن لما أدى من البيض إلى الفقراء أما هنا إنما عجل الزكاة من مال نفسه لأن بالهلاك لا يتبين أنه لم يكن ملكا له فيجزئ المعجل عما يلزمه عند كمال الحول ولو حال الحول على المالين جميعا.
ففي رواية هذا الكتاب قال: المعجل يكون من زكاة البيض حتى إذا هلكت البيض بعد كمال الحول فعليه زكاة السود خمسة وعشرون درهما وقال في الجامع الكبير المعجل يكون بينهما حتى إذا هلكت البيض فعليه نصف زكاة السود اثنا عشر درهما ونصف درهم.
وجه هذه الرواية: أن بعد ما وجبت الزكاة فيهما يجعل الأداء بطريق التعجيل كالأداء بعد كمال الحول ولو أدى بعد كمال الحول زكاة البيض كان المؤدى عما نواه خاصة فكذلك إذا عجل وهذا لأن المعارضة قد تحققت حين وجبت الزكاة فيهما فاعتبرنا نيته في التمييز في ترجيح أحدهما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكل امرئ ما نوى"، بخلاف ما إذا هلك أحدهما قبل كمال الحول لأن هناك لم تتحقق المعارضة بينهما في حكم الزكاة فإن الزكاة وجبت في إحداهما دون الأخرى.(3/42)
وجه رواية الجامع وهي الأصح ما بينا أن السود والبيض جنس واحد في حكم الزكاة فيسقط اعتبار نية التمييز فيهما فكأنه قصد عند الأداء تعجيل الزكاة فقط فيجعل المؤدى من المالين جميعا إذا وجبت الزكاة فيهما وهذا بخلاف الأداء بعد الوجوب فإنه تفريغ للمال عن حق الفقراء لأن بوجوب الزكاة يصير المال مشغولا بحق الفقراء فكانت نية الأداء عن زكاة البيض مفيدة من حيث إنه قصد به تفريغ البيض دون السود بخلاف التعجيل قبل الوجوب فإنه لا فائدة في نية التمييز هناك وباعتبار هذا المعنى لو أدى زكاة البيض بعد الوجوب ثم هلكت البيض لم يكن المؤدى عن السود ولو عجل قبل الوجوب ثم هلكت البيض وتم الحول على السود كان المعجل من زكاة السود.
والذي بينا في السود والبيض كذلك الجواب في الذهب والفضة إذا كانت له مائتا درهم وعشرون مثقالا من ذهب فعجل زكاة أحد المالين أو أدى بعد الوجوب فهي في جميع الفصول مثل ما سبق.
وعلى هذا لو كان له ألف درهم عينا وألف درهم دينا على إنسان فعجل زكاة العين ثم ضاعت قبل كمال الحول فالمعجل يجزئ عن زكاة الدين ولو أدى زكاة العين بعد كمال(3/43)
ص -24- ... الحول ثم ضاعت قبل الحول لم يجز المؤدى عن زكاة الدين لأنه في الأداء بعد الوجوب إنما قصد تطهير ماله العين وقد حصل مقصوده فكان بقاؤه بعد ذلك وهلاكه سواء في التعجيل وقبل الوجوب إنما قصد إسقاط ما يلزمه من الزكاة عند كمال الحول وإنما لزمته الزكاة في الدين وأداء العين عن زكاة الدين جائز.
وعلى هذا لو كان له عبد وجارية للتجارة قيمة كل واحد منهما ألف فعجل زكاة أحدهما قبل الحول ثم مات الذي عجل الزكاة عنه قبل كمال الحول وتم الحول على الآخر فالمعجل يجزئ عنه بخلاف ما إذا زكى أحدهما بعد الحول ثم مات الذي زكى عنه ولو عجل زكاة أحدهما قبل الحول ثم مات الذي زكى عنه بعد كمال الحول فعليه أن يزكي الباقي على هذه الرواية وعلى رواية الجامع عليه نصف زكاة الباقي لأن المعجل يجزئ عنهما إذا وجبت الزكاة فيهما على تلك الرواية.
قال: ولو أن رجلا له مائتا درهم فتصدق بدرهم منها قبل الحول بيوم ثم تم الحول وفي يده مائتا درهم إلا درهم فلا زكاة عليه لأن المعجل خرج عن ملكه بالوصول إلى كف الفقير فتم الحول ونصابه ناقص وكمال النصاب عند تمام الحول معتبر لإيجاب الزكاة فإذا لم يجب عليه الزكاة كان المؤدى تطوعا لا يملك استرداده من الفقير لأنه وصل إلى كف الفقير بطريق القربة فلا يملك الرجوع فيه وهذا لأنه نوى أصل التصدق والصفة فيسقط إعتبار الصفة حين لم يجب عليه الزكاة عند كمال الحول فيبقى أصل نية الصدقة.(3/44)
قال: ولو أن رجلا له جارية للتجارة حال عليها الحول إلا يوم ثم اعورت فتم الحول وهي كذلك قال يزكيها عوراء ومراده إذا كانت قيمتها بعد العور نصابا فأما إذا كانت دون النصاب فلا شيء عليه لأن بالعور فات نصفها وكمال النصاب في آخر الحول معتبر لإيجاب الزكاة فإذا كانت قيمتها مع العور نصابا فعليه أن يزكيها عوراء لأن ما هلك منها قبل كمال الحول يصير في حكم الزكاة كما لم يكن فإن ذهب العور بعد كمال الحول فلا شيء عليه باعتبار ذهاب العور لأن هذه زيادة متصلة بعد كمال الحول وحكم الزكاة لا يسري إلى الزيادة الحادثة بعد كمال الحول متصلة كانت أو منفصلة ألا ترى أنه لو كانت قيمتها بعد العور أقل من نصاب فتم الحول وهي كذلك ثم ذهب العور لم تلزمه الزكاة فكما لا يعتبر ذهاب العور بعد كمال الحول لإيجاب أصل الزكاة فكذلك لا يعتبر لإيجاب أصل الزيادة ولو ذهب العور قبل كمال الحول فتم الحول وهي صحيحة العينين فعليه زكاة قيمتها صحيحة لأن الزيادة إنما حدثت قبل كمال الحول ومثل هذه الزيادة يضم إلى أصل المال في حكم الزكاة متصلة كانت أو منفصلة متولدة كانت أو غير متولدة.
ألا ترى أنه لو كانت له ألفا درهم فضاع ألف منهما قبل الحول ثم حال الحول على الباقية فزكاها ثم وجد المال الذي كان ضاع لم يكن عليه فيه زكاة بخلاف ما إذا وجد المال(3/45)
ص -25- ... الذي ضاع قبل كمال الحول وهذا لأن المال الذي ضاع صار تاويا في حكم الزكاة فإذا وجده كان بمنزلة استفادة استفادها من جنس ماله وحكم الزكاة إنما يتقرر بآخر الحول فإذا تقرر حكم الزكاة عليه في الألف لا يلزمه بعد ذلك في الألف الأخرى شيء وإن وجدها أما إذا وجدها قبل كمال الحول فإنما يقرر حكم الزكاة عليه في ألفين.
ولو كانت الجارية اعورت بعد كمال الحول فعليه أن يزكيها عوراء لأنه هلك نصفها ولو هلكت كلها بعد كمال الحول سقطت عنه الزكاة فكذلك إذا هلك البعض فإن ذهب العور فعليه أن يزكيها صحيحة لأنه تقرر عليه حكم الزكاة في قيمتها صحيحة ثم انتقض بالخسران الذي لحقه وقد ارتفع ذلك الخسران بذهاب العور فهو نظير ما لو ضاع أحد الألفين بعد كمال الحول فزكى ما بقي ثم وجد الذي كان ضاع فعليه أن يزكيه.
وهذا الأصل الذي بيناه في كتاب الغصب أن الزيادة إذا حدثت في محل النقصان كانت جابرة للنقصان وينعدم بها النقصان معنى. يوضحه أن وجوب الزكاة باعتبار المالية وهي قد عادت بذهاب العور إلى المالية الأولى التي تقررت عليه الزكاة فيها عند كمال الحول فعليه أن يؤدي ذلك كله.
قال: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم ابتاع بها جارية للتجارة قيمتها ثمانمائة فعليه زكاة الألف فإن ماتت الجارية فليس عليه إلا زكاة المائتين لأنه حابى في الشراء بقدر المائتين وذلك لا يتغابن الناس في مثله فصار مستهلكا محل حق الفقراء في ذلك القدر فيضمن زكاة المائتين وفي مقدار ثمانمائة حول حقهم من محل إلى محل يعدله فإن الجارية التي للتجارة بمنزلة الدراهم في كونها مال الزكاة فيكون هلاك الجارية في يده كهلاك الدراهم.(3/46)
وهذا بخلاف السوائم فإن من وجب عليه الزكاة في خمس من الإبل فاشترى بها أربعين من الغنم ثم هلكت الغنم فهو ضامن للزكاة لأن وجوب الزكاة في السوائم باعتبار العين فإنما النماء مطلوب من عينها والعين الثاني غير الأول ألا ترى أن هذا التصرف لو وجد منه في خلال الحول انقطع به الحول فكذلك إذا وجد بعد كمال الحول صار مستهلكا ضامنا للزكاة.
وهنا وجوب الزكاة في الدراهم وعروض التجارة باعتبار المالية والنماء مطلوب بالتصرف ولهذا لو وجد منه هذا التصرف في خلال الحول لم ينقطع به الحول فإذا وجد بعد كمال الحول لا يصير ضامنا للزكاة أيضا فإن كان ابتاع بالألف جارية لغير التجارة والمسألة على حالها فعليه زكاة الألف ماتت الجارية أو بقيت لأنه صار مستهلكا حق الفقراء بتصرفه فالجارية التي للخدمة ليست بمال الزكاة ألا ترى أن هذا التصرف لو وجد منه في خلال الحول انقطع به الحول فإذا وجد بعد كمال الحول صار ضامنا للزكاة.
قال: رجل عنده جارية للتجارة فولدت ولدا قبل الحول بيوم ثم حال الحول عليها فعليه زكاتهما جميعا لأن الولد إنما ينفصل عن الأم بصفتها وهي عنده للتجارة فولدها(3/47)
ص -26- ... كذلك ثم المستفاد في خلال الحول يضم إلى أصل النصاب بعلة المجانسة وإن لم يكن متولدا من الأصل فالمتولد أولى فإن ولدت بعد الحول بيوم فإنه يزكيها ولا يزكي ولدها لأن الحول قد انتهى قبل انفصال الولد وإنما يسري من الأصل إلى الولد ما كان قائما لا ما كان منتهيا ألا ترى أن الرق ينتهي بالعتق فالولد الذي ينفصل منها بعد العتق لا يكون رقيقا ولا لنا هذا بمنزلة مال استفاده من جنس النصاب بعد كمال الحول فلا تجب فيه الزكاة إلا باعتبار حول جديد.
فإن قيل: لما ولدت بعد الحول بيوم فقد علمنا أن حدوث الولد كان قبل كمال الحول فينبغي أن يثبت فيه حكم الحول.
قلنا: نعم لكن وجوب الزكاة في الولد باعتبار صفة المالية لا باعتبار عينه وصفة المالية تحدث بعد الانفصال فإن الجنين في البطن لا يكون مالا متقوما ولهذا لا يضمن بالغصب فما به صار الولد محل وجوب الزكاة حادث بعد كمال الحول فلا يسري إليه حكم الزكاة.
قال: رجل له جارية قيمتها ألف درهم فباعها قبل الحول بيوم بثمانمائة درهم فعليه زكاة ثمانمائة درهم لأن وجوب الزكاة عند كمال الحول وماله عند ذلك ثمانمائة ولو استهلك الكل قبل كمال الحول لم يضمن شيئا من الزكاة فكذلك إذا استهلك البعض بتصرفه.
ولو باعها بعد الحول فعليه زكاة الألف لأنه بقدر المحاباة صار مستهلكا ولو استهلك الكل بعد الحول كان ضامنا للزكاة فكذلك إذا استهلك البعض.
قال: وإن كانت عنده لغير التجارة فباعها قبل الحول بيوم بثمانمائة درهم فإنه يضم هذا إلى ماله فيزكيه مع ماله إذا تم الحول لأن هذا مستفاد من جنس النصاب في خلال الحول ولو باعها بعد الحول بيوم لم يكن عليه زكاة في ثمنها حتى يحول عليه الحول لأنه مستفاد بعد تمام الحول وهذا لأن الجارية لما لم تكن للتجارة عنده فإنما حدثت المالية له في حكم الزكاة بتصرفه هذا فيكون ثمنها بمنزلة مال وهب له في حكم الزكاة.(3/48)
قال: ولو كانت الجارية عنده للتجارة وقيمتها ألف درهم فباعها بعد الحول بمائة درهم فعليه زكاة الألف قال لأن هذا مما لا يتغابن الناس فيه بقدره يشير بهذا إلى الفرق بين هذه وبين مسألة الجامع وهو ما إذا باعها بتسعمائة وخمسين فإنه لا يكون ضامنا شيئا من الزكاة لأن الخمسين ونحوها مما يتغابن الناس فيه وصاحب المال مسلط على التصرف في ماله شرعا بمنزلة الأب والوصي في مال اليتيم وكما أن هناك يفصل بين ما يتغابن الناس فيه وما لا يتغابن الناس فيه في تصرفهما فكذلك هنا يفصل بينهما فإذا كانت المحاباة بقدر ما يتغابن الناس فيه لم يكن مستهلكا شيئا وإن كانت بقدر ما لا يتغابن الناس فيه كان مستهلكا محل حق الفقراء في مقدار المحاباة فكان ضامنا للزكاة ولو باعها قبل الحول بيوم بمائة(3/49)
ص -27- ... درهم ضم المائة إلى ماله ثم زكاه ولا شيء عليه في مقدار المحاباة لأنه صار مستهلكا قبل وجوب الزكاة.
قال: ولو كانت له جارية قيمتها خمسمائة فباعها بألف درهم واشتراها المشتري للتجارة ثم حال الحول عليها ثم وجد بها عيبا فردها بقضاء أو بغير قضاء فعلى البائع زكاة الألف لأن حق المشتري عند رد الجارية بالعيب يثبت دينا في ذمة البائع ويتخير هو بين أداء الألف وبين أداء ألف أخرى بناء على الأصل المعروف أن النقود لا تتعين في العقود والفسوخ فهذا دين لحقه بعد الحول فلا يسقط عنه شيء من الزكاة. قال: وعلى الراد زكاة خمسمائة درهم لأنه تم الحول وفي ملكه الجارية فقط وإنما استفاد الزيادة بردها بعد كمال الحول فلهذا لا يلزمه إلا زكاة الخمسمائة.
فإن قيل إنما كانت قيمة الجارية خمسمائة حين كانت صحيحة لا عيب فيها فأما مع وجود العيب تكون قيمتها دون الخمسمائة فينبغي أن لا تجب على المشتري زكاة خمسمائة.
قلنا: مراد محمد رحمه الله تعالى من هذا الجواب ما إذا كانت قيمتها خمسمائة مع وجود هذا العيب على أن المشتري يستحق الرجوع بحصة العيب إذا تعذر رد الجارية فبهذا الطريق يكون الجزء الفائت بسبب العيب كالقائم حكما فلهذا يلزمه زكاة خمسمائة.
قال: وإن كانت قيمتها ألف درهم فباعها بخمسمائة ثم حال الحول فوجد المشتري بها عيبا فردها فعلى المشتري زكاة ألف درهم لأنه تم الحول والجارية في ملكه وهي تساوي ألف درهم فتلزمه زكاة الألف سواء ردها بقضاء أو بغير قضاء لأنه مختار في الرد فيكون هذا بمنزلة بيعه إياها بخمسمائة بعد كمال الحول وعلى البائع زكاة خمسمائة لأنه تم الحول وفي ملكه خمسمائة ثم استفاد الزيادة بعد ذلك بالرد عليه فلا يلزمه إلا زكاة خمسمائة.(3/50)
قال: ولو كان لرجل عبد ثمنه ألف درهم ولآخر جارية ثمنها ألف درهم فتبايعا العبد بالجارية وتقابضا وهما للتجارة جميعا فحال الحول ثم وجد الذي قبض العبد بالعبد عيبا فرده فإن كان رده بقضاء قاض وأخذ جاريته فعلى كل واحد منهما زكاة ألف درهم أما الراد فلأنه تم الحول وفي ملكه العبد ثم استفاد الزيادة بعد ذلك فلا يلزمه إلا زكاة الألف وأما المردود عليه فلأن عين الجارية استحقت من يده من غير اختياره وذلك مسقط للزكاة عنه فلا يلزمه إلا زكاة ما عاد إليه من المالية وذلك ألف درهم.
قال: وإن ردها بغير قضاء قاض فعلى الراد زكاة الألف لما قلنا وعلى المردود عليه زكاة الألفين لأنه تم الحول وفي ملكه جارية قيمتها ألفا درهم ثم أخرجها من ملكه باختياره حين أقال العقد بالعيب بغير قضاء القاضي فيلزمه زكاة الألفين وهذا لأن الرد بالعيب بغير القضاء فيلزمه زكاة الألفين وهذا لأن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة الإقالة وهو في حق غيرهما كبيع مستقل وهذا بخلاف ما سبق في الدراهم لأن حق الراد هناك لا يتعين في(3/51)
ص -28- ... الدراهم المدفوعة فلا يكون ذلك بمنزلة الاستحقاق وها هنا حق الراد يتعين في الجارية فلهذا جعل بمنزلة الاستحقاق إذا رد العبد بقضاء القاضي ولو كان الذي قبض الجارية هو الذي وجد العيب بها فردها بقضاء أو بغيره فعليه زكاة الألفين لأنه هو المختار للرد وقد تم الحول وماله ألفا درهم فلا يسقط عنه شيء من الزكاة بإخراجها من ملكه باختياره.
قال: رجل له جارية للتجارة باعها بألف درهم ثم باعها المشتري من آخر بألف درهم واشتراها كل واحد منهما للتجارة ثم استحقت بعد الحول فعلى المشتري الآخر زكاة ألف درهم ولا زكاة على واحد من البائعين لأنها لما استحقت من يد المشتري الآخر فقد استوجب الرجوع بثمنها على بائعها وذلك مال سالم له فعليه زكاته وأما بائعها فقد تبين أنه كان له حق الرجوع على بائعها أيضا بألف درهم فإنما كان ماله ألفا وعليه ألف درهم دين للمشتري الآخر فلا تلزمه الزكاة وكذلك الأول كان في يده ألف درهم في الحول وعليه ألف درهم دين للمشتري الأول فلا تلزمه الزكاة ومال المديون لا يكون نصاب الزكاة.
قال: رجل له جارية للتجارة بثمن ألفي درهم فباعها بألف درهم بيعا فاسدا واشتراها المشتري بنية التجارة وتقابضا فحال الحول فعلى المشتري أن يردها على البائع بفساد العقد وعلى البائع زكاة ألفي درهم لأنها كانت مضمونة على المشتري بقيمتها وقيمتها ألفا درهم فهي بمنزلة المغصوبة وتبين أن مال البائع عند كمال الحول ألفا درهم وعلى المشتري زكاة الألف لأن قيمتها دين في ذمته فإنما ماله الذي يسلم له ما دفع في ثمنها وهو ألف درهم فلهذا لا يلزمه إلا زكاة الألف ويستوي إن ردها بقضاء أو بغير قضاء أو لم يردها ولكن أعتقها المشتري بعد الحول لأن المعتبر هو المالية والمالية التي تسلم للبائع عند كمال الحول مقدارها ألفان فإنه إما أن يرد عليه الجارية أو قيمتها إذا تعذر رد عينها والذي يسلم للمشتري مقدار الألف درهم فيلزمه زكاة الألف.(3/52)
قال: ولو أن رجلا له مائتا درهم فضاع نصفها قبل كمال الحول بيوم ثم أفاد مائة فتم الحول وعنده مائتا درهم فعليه الزكاة لأن المعتبر كمال النصاب في آخر الحول مع بقاء شيء منه في خلال الحول وقد وجد والمستفاد لو كان قبل هلاك بعض النصاب كان مضموما إلى النصاب لعلة المجانسة فكذلك بعد هلاك بعض النصاب لبقاء حكم الحول في الموضعين فإن تم الحول ولم يستفد هذه المائة ثم مضت السنة الثانية إلا يوما ثم استفاد مائة ثم تم الحول فلا شيء عليه في الحولين لأنه تم الحول الأول وماله دون النصاب فلم تلزمه الزكاة ولم ينعقد الحول الثاني على ماله لنقصان النصاب في أول هذا الحول وإنما استفاد المائة وليس على ماله حول ينعقد فلا تلزمه الزكاة ولكن ينعقد الحول من حين استفاد المائة لأنه تم نصابه الآن فإذا تم الحول من هذا الوقت زكى المائتين.
قال: ولو أن رجلا وهب لرجل ألف درهم ثم حال عليها الحول عنده ثم وهبها(3/53)
ص -29- ... الموهوب له لغيره فعليه زكاتها لأنه صار مستهلكا محل حق الفقراء بما صنع حين أخرج المال من ملكه بغير عوض ومراده ما إذا وهبها لغني فأما إذا وهبها لفقير لم يكن ضامنا شيئا لأن الهبة من الفقير صدقة لا رجوع فيها ومن تصدق بجميع المال بعد كمال الحول لم يكن ضامنا للزكاة وإن لم ينو الزكاة لأنه في مقدار الزكاة أوصل الحق إلى مستحقه فلو رجع فيها الواهب الآخر فضاعت عنده لم يكن عليه فيها زكاة لأن بالرجوع يعود إلى قديم ملكه ويخرج به من أن يكون مستهلكا محل حق الفقراء فهلاكه في يده بعد الرجوع كهلاكه في يده قبل الهبة وكذلك لو لم يضع ولكن رجع فيها الأول فلا زكاة على الواهب الثاني ولا على الأول لأنها استحقت من يد الثاني بغير اختياره فالدراهم تتعين في الهبة والرجوع فيها ولا زكاة على الأول لأنها لم تكن في ملكه حين تم الحول ويستوي إن كان الأول رجع فيها بقضاء أو بغير قضاء عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى وعلى قول سفيان الثوري رحمه الله ليس للواهب الأول أن يرجع في مقدار الزكاة إذا أدى ولكن الموهوب له يتصدق به على الفقراء وقد بينا هذا في كتاب الهبة.
قال: ولو كان له عبد للتجارة فحال عليه الحول ثم باعه بمثل قيمته فعليه أداء الزكاة من ثمنه إذا قبضه لأنه حول حق الفقراء من محل إلى محل يعد له فلو رده المشتري بخيار الرؤية واسترد الثمن فمات في يد البائع فلا زكاة عليه لأن الرد بخيار الرؤية فسخ من الأصل فإنما عاد العبد إلى قديم ملكه وهلاكه في يده بعد ما عاد إليه كهلاكه قبل البيع وكذلك لو مات العبد قبل أن يقبض المشتري لأن البيع ينتقض من الأصل بفوات القبض المستحق بالعقد وكذلك لو رده المشتري بخيار الشرط فمات عند البائع فإن خيار الشرط يمنع تمام الصفقة فالرد بحكمه يكون فسخا من الأصل سواء كان بقضاء أو بغير قضاء.(3/54)
قال: رجل له عبد للتجارة فحال الحول وهو عنده ثم تزوج عليه امرأة ودفعه إليها ثم فجر بها بن زوجها قبل الدخول فعليها رد العبد لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول فيلزمها رد الصداق فإن ردته فمات عند الزوج فلا زكاة عليه لأن الفرقة من جهتها قبل الدخول في حكم الفسخ فإنما عاد العبد إلى قديم ملك الزوج فيكون هلاكه بعد الاسترداد كهلاكه قبل النكاح وهذا لأنه لا بد للملك الجديد من سبب جديد ولم يوجد هنا سبب جديد لملك الزوج في العبد فلا بد من القول بعوده إلى قديم ملكه فلو مات العبد في يدها فهي ضامنة قيمته للزوج لأنه تعذر عليها رد العبد بعد تقرر السبب الموجب للرد فتلزمها القيمة لأنها قبضته على وجه الملك لنفسها بعوض فيدخل المقبوض في ضمانها فلو قبض الزوج منها القيمة فضاعت في يده فعليه الزكاة لأنه صار مستهلكا محل حق الفقراء بتصرفه حين تزوج على رقبة العبد فإنه أخرجه من ملكه بعوض لا يكون محلا لحق الفقراء فكان ضامنا للزكاة إلا أنه متى عاد إلى قديم ملكه يرتفع حكم الاستهلاك به ولم يعد إلى قديم(3/55)
ص -30- ... ملكه حتى هلك في يدها فبقي مستهلكا وهلاك القيمة المقبوضة في يده كهلاك مال آخر وهو نظير ما لو اشترى جارية للخدمة ثم هلكت الجارية قبل التسليم فاسترد القيمة لم يكن ضامنا للزكاة ولو كان العبد مات في يد بائع الجارية فاسترد قيمته فهلكت القيمة في يده كان ضامنا للزكاة.
ولو كان مكان العبد عنده ألف درهم فحال عليها الحول ثم تزوج امرأة على ألف درهم ودفع إليها ثم قبلت بن زوجها بشهوة قبل الدخول فردت الألف إلى الزوج فضاعت منه فعليه فيها الزكاة بخلاف ما سبق لأن هناك لا يجب عليها رد الألف المقبوضة بعينها ولكن لها الخيار إن شاءت ردت تلك الألف وإن شاءت ردت مثلها فلم يخرج الزوج من أن يكون مستهلكا محل حق الفقراء وإن ردت عليه تلك الألف وفي الأول عليها رد العبد بعينه فيخرج الزوج من أن يكون مستهلكا بعود العبد إلى قديم ملكه.(3/56)
قال: ولو حال الحول بعد التسليم إليها ثم قبلت ابنه بشهوة فردت عليه الألف فعليها زكاة الألف للسنة الثانية لأنه لما لم يلزمها رد الألف بعينها كان هذا دينا لحقها بعد الحول فلا يسقط الزكاة عنها وعلى الزوج الزكاة للسنة الأولى ولا زكاة عليه فيها للسنة الثانية لأنها في السنة الثانية كانت في ملك المرأة ويدها وفي مسألة العبد لو نوت هي التجارة وحققت ذلك وحال الحول عندها ثم قبلت بن الزوج فردت العبد عليه لم يكن عليها زكاة لأن عين العبد استحقت من يدها بعد وجوب الزكاة وذلك مسقط للزكاة عنها وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا تسقط الزكاة عنها هنا لأن الفرقة جاءت من قبلها فهي التي اكتسبت سبب زوال ملكها عن العبد فتكون متلفة حق الفقراء فتلزمها الزكاة ولكنا نقول لم يوجد منها صنع في إبطال ملكها في العبد لأن صنعها تقبيل بن الزوج وذلك غير مبطل ملكها العبد ألا ترى أنه لو حصل ذلك منها بعد الدخول لم يبطل ملكها في شيء من العبد ولكن المبطل لملكها انفساخ النكاح وذلك أمر حكمي فلهذا يجعل هذا بمنزلة الاستحقاق من يدها.
قال: رجل له ألف درهم ومائة درهم حال عليها الحول إلا شهرا فزكى الألف عما يستفيده فيما يستقبل ثم أفاد أربعين ألفا وحال عليها لحول فالمعجل يجزئ من زكاة المستفاد وعليه زكاة المائة لأن بما عجل لم ينقطع حكم الحول فقد بقي في ملكه بعض النصاب وهو المائة ثم المستفاد مضموم إلى ما بقي عنده في حكم الحول بعلة المجانسة فعند كمال الحول تلزمه الزكاة في الكل وزكاة أربعين ألف درهم ألف درهم وقد عجلها فإنما بقي عليه زكاة المائة درهمان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ودرهمان ونصف عندهما.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تعجيل الزكاة إنما يجوز عن المال القائم في ملكه ولا يجوز عما يستفيده فعليه زكاة المستفاد عند كمال الحول ونحن نقول لما جعل المستفاد بمنزلة الموجود عنده في أول الحول في حكم وجوب الزكاة فيه فكذلك يجعل(3/57)
ص -31- ... بمنزلة الموجود عنده في حكم جواز التعجيل فإن تم الحول قبل أن يستفيد شيئا ثم أفاد أربعين ألفا فالمعجل لا يجزئ من زكاتها ويجزي من زكاة المائة خاصة وهذا غلط لأنه تم الحول وفي ملكه مائة درهم فالمعجل قد تم خروجه عن ملكه بالوصول إلى الفقير فلا تجب عليه الزكاة في المائة أصلا إلا أن يكون المعجل يجزئ من زكاة المائة ثم حين استفاد أربعين ألفا نعقد الحول على ماله فإذا تم الحول من هذا الوقت كان عليه أن يزكي الكل.
قال: ولو كانت له مائة درهم فتصدق بها عما يفيد ثم أفاد ألف درهم من عامه ذلك فالمعجل لا يجزئ من زكاته لأنه إنما عجل قبل كمال النصاب وتعجيل الزكاة قبل النصاب لا يجوز لمعنى وهو أن جواز التعجيل بعد تقرر السبب والسبب هو كمال النصاب فالأداء قبله يكون تعجيلا قبل وجود السبب وذلك باطل بمنزلة أداء الصلاة قبل دخول الوقت والصوم قبل دخول شهر رمضان.(3/58)
قال: فإن كانت له مائتا درهم فتصدق بها كلها عما يفيد ثم أفاد عشرة آلاف درهم من عامه ذلك فإنه يستقبل بها حولا ولا يجزيه المعجل عما يلزمه من زكاتها لأنه لما تصدق بجميعها فقد انقطع حكم الحول إذ لم يبق في ملكه شيء مما انعقد عليه الحول فإذا انقطع حكم الحول كان المؤدى تطوعا ولا يجزيه عما يلزمه من الزكاة من مال آخر باعتبار حول آخر وهذا بخلاف ما لو عجل عن المائتين عشرة دراهم زكاة حولين ثم استفاد عشرة دراهم فمضى حولان فالمعجل يجزيه عن زكاة الحولين جميعا لأن هناك قد بقي حكم الحول ببقاء بعض النصاب وملك النصاب الواحد سبب لوجوب الزكاة باعتبار كل حول وحولان الحول شرط لا سبب فلهذا جاز التعجيل أما هنا لم يبق في ملكه شيء مما انعقد عليه الحول وملك ذلك النصاب ليس بسبب لوجوب الزكاة في مال آخر مقصودا فلهذا لا يجزئ المعجل حتى لو بقي عنده درهم من المائتين ثم استفاد عشرة آلاف فتم الحول تلزمه الزكاة ويجزي المعجل عما يلزمه لأنه بقي الحول منعقدا ببقاء جزء من النصاب في ملكه وقد استفاد من جنسه فتم الحول ونصابه كامل فتلزمه الزكاة ويجزيه المعجل عما يلزمه باعتبار هذا الحول.
قال: ولو كانت له مائتا درهم فضاع نصفها بعد كمال الحول فعليه أداء درهمين ونصف اعتبارا للبعض بالكل فإنه لو ضاع الكل يسقط عنه جميع الزكاة فإن ضاع النصف سقط عنه نصف الزكاة ثم هذا على أصلهما واضح فإنما يوجبان الكسور في زكاة الدراهم ابتداء فالبقاء أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يوجب الكسور في زكاة الدراهم ابتداء ولكن يقول ببقاء الكسور بعد الوجوب لأن كمال النصاب معتبر لوجوب الزكاة وهو غير معتبر لبقاء الواجب.
قال: رجل له ألف درهم حال عليها خمسة أحوال ثم ضاع نصفها فعليه نصف ما وجب عليه في هذه الخمس سنين وهذا ظاهر لأن هلاك النصف معتبر بهلاك الكل وإنما الكلام في بيان ما يلزمه فيها في هذه الأحوال فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه(3/59)
ص -32- ... في الحول الأول خمسة وعشرون درهما وفي الحول الثاني أربعة وعشرون درهما لأن مقدار خمسة وعشرين درهما صار دينا عليه ودين الزكاة يمنع وجوب الزكاة عنده وهو لا يرى الزكاة في الكسور وإنما يلزمه في السنة الثانية زكاة تسعمائة وستين درهما وهكذا في كل سنة لا يعتبر في ماله ما وجب عليه من الزكاة للسنين الماضية والكسور في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يعتبر من ماله ما وجب عليه من الزكاة للسنين الماضية وتعتبر الكسور لأنهما يوجبان الزكاة في الكسور ولا يعتبران بعد النصاب الأول نصابا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يلزمه في كل سنة خمسة وعشرون درهما لأن دين الزكاة عنده لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة وقد بينا هذا الأصل في كتاب الزكاة.
قال: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم استفاد ألفا أخرى فحال الحول عليها ثم استفاد ألفا أخرى فحال الحول عليها ثم ضاع نصفها فإنه يزكي في السنة الأولى نصف المال الأول وفي السنة الثانية ما بقي من نصف المال الأول ونصف المال الآخر وفي السنة الثالثة ما بقي من المال الأول والمال الثاني ونصف المال الآخر كله لأن الألف الأولى حال عليها ثلاثة أحوال ثم هلك نصفها فعليه فيها للسنة الأولى زكاة نصف الألف وفي السنة الثانية كذلك إلا مقدار ما وجب فيها للسنة الأولى فإن ذلك صار دينا عليه وفي السنة الثالثة كذلك إلا مقدار ما وجب عليه للحولين والألف الثانية حال عليها حولان ثم هلك نصفها فعليه أن يزكي للحول الأول نصفها وللحول الثاني كذلك إلا مقدار ما وجب عليه للحول الأول والألف الثالثة حال عليها حول واحد ثم هلك نصفها فعليه أن يزكي نصفها لأن هلاك بعض المال بعد وجوب الزكاة معتبر بهلاك الكل.(3/60)
قال: ولو أن رجلا له أربعون ألف درهم حال عليها الحول ثم أخرج ألف درهم منها يزكيها فتصدق بخمسمائة درهم ثم ضاع عشرون ألف درهم من المال وبقي تسعة عشر ألفا وهذه الخمس مائة التي بقيت من الألف التي أخرجها للزكاة فالخمسمائة التي زكى عن تسعة وثلاثين ألفا وخمسمائة لأنه حين أدى كان في ملكه تسعة وثلاثون ألفا سوى الألف التي أخرجها للزكاة فإذا ضمت هذه الخمسمائة المؤداة إلى تسعة وثلاثين ألفا كان الكل تسعة وثلاثين ألفا وخمسمائة وإنما قصد أداء الزكاة عن جميع ذلك فلهذا تتوزع تلك الخمسمائة على هذه الجملة فما أصاب عشرين ألفا التي هلكت بطل عنه لأنه أدى بعض زكاتها وهلك البعض وما أصاب تسعة عشر ألفا وخمسمائة يحتسب له من زكاتها ويؤدي ما بقي من زكاتها اعتبارا لهلاك البعض بهلاك الكل.
قال: ولو أن رجلا له ثلاثمائة درهم فحال عليها ثلاثة أحوال ثم ضاع نصفها فإنه يزكي خمسين ومائة درهم لسنة واحدة وهذا إنما يستقيم على أصل أبي حنيفة رحمه الله(3/61)
ص -33- ... تعالى لأن عنده النصاب الأول يجعل أصلا ويجعل الهلاك فيما زاد على النصاب الأول كأن لم يكن فكأنه كان في ملكه في الأحوال الثلاثة مائتا درهم فلا يجب فيها إلا خمسة دراهم للحول الأول ثم هلك ربعها فيسقط عنه ربع الواجب ويبقي ثلاثة أرباعه أما على قول محمد وهو رواية عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى يجمع بين ما وجب عليه في الأحوال الثلاثة ثم يسقط نصف ذلك بهلاك نصف المال ويبقى النصف لبقاء نصف المال.
قال: ولو أن رجلا تصدق بمال لا ينوي به زكاته فإنه لا يجزيه من زكاته لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكل امرئ ما نوى" ولأن الزكاة عبادة مقصودة فلا تتأدى بدون النية ومراده إذا تصدق بمال آخر سوى النصاب فأما إذا تصدق بجميع النصاب الذي وجبت فيه لزكاة فإنه يسقط عنه الزكاة نوى أو لم ينو استحسانا لأن الواجب جزء منه وقد أوصله إلى مستحقه فإن تصدق ببعض النصاب ففيه اختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عند أحدهما لا يسقط شيء من الزكاة وعند الآخر يسقط عنه مقدار زكاة المؤدي وقد بينا هذا في كتاب الزكاة.
قال: وإن تصدق رجل عنه بأمره من مال نفسه جاز لأن الصدقة تجزئ فيها النيابة فأداء الغير بأمره كأدائه بنفسه وهذا لحصول المقصود به وهو إغناء المحتاج ثم لا يكون للمؤدى أن يرجع عليه بدون الشرط بخلاف ما لو قضى دينه بأمره فإن الدين كان واجبا في ذمته وكان هو مطلوبا به مجبرا على قضائه فإذا ملكه المؤدي ببدل أداه من عند نفسه بأمره رجع به عليه ولا يوجد مثله في الزكاة فإنه كان مخيرا بأدائه ولا يجبر عليه في الحكم فلم يكن المؤدي مملكا شيئا منه فلا يرجع عليه بدون شرط كما لو عوض عن هبته بأمره وإن تصدق عنه بغير أمره لم يجزه عن الزكاة لانعدام النية منه وهذا لأن معنى الابتلاء مطلوب في العبادة وذلك لا يتحقق بأداء الغير بدون أمر من وجبت عليه الزكاة.(3/62)
قال: ولو أن رجلا له جارية للتجارة حال عليها الحول وهي تساوي مائتي درهم فصارت تساوي أربعمائة درهم ثم اعورت فصارت قيمتها مائة درهم فعليه أن يؤدي الزكاة عن مائة درهم لأن الزيادة الحادثة كانت تبعا للأصل فيجعل ما هلك من الزيادة أولا ويصير ذلك كأن لم يكن فكأنها اعورت حين كان قيمتها مائتي درهم وتراجعت قيمتها إلى مائة فيسقط عنه نصف الزكاة باعتبار ما هلك ويبقى النصف باعتبار ما بقي ولو كانت عنده جارية قيمتها مائتا درهم حال عليها الحول ثم باعها بثلثمائة درهم ثم توت منه مائتا درهم فعليه أن يزكي المائة لأن الربح كان تبعا للأصل فما توى من الربح صار كأنه لم يكن وكأنه باعها بمائتين فتوت مائة واستوفى مائة فيلزمه زكاة المائة اعتبارا للبعض بالكل.
قال: رجل له ألف درهم على غني أو فقير فحال عليها الحول ثم تصدق بها عليه أو أبرأه منها فلا زكاة عليه فيها ولا تجزيه من زكاة غيرها وإن نوى ذلك وقد بينا أن أداء الدين بزكاة المال العين لا يجوز لأن العين أكمل من الدين في المالية أما زكاة هذه الألف فلا إشكال أنها(3/63)
ص -34- ... تسقط عنه إذا كان المديون فقيرا لأنه أوصل الحق إلى مستحقه وإن كان المديون غنيا فكذلك الجواب في رواية هذا الكتاب وفي رواية الجامع قال يكون ضامنا زكاتها.
وجه تلك الرواية: أنه لو كان المال عينا في يده فوهبه من غني بعد وجوب الزكاة عليه صار مستهلكا حق الفقراء ضامنا للزكاة فكذلك إذا كان دينا فأبرأه منه لأنه لا حق في الزكاة للغني فلا يكون في فعله إيصال الحق إلى مستحقه.
وجه هذه الرواية: أن أداء الزكاة عن الدين لا يجب إلا بعد القبض وحين أبرأه المديون منه فقد انعدم القبض فلا يلزمه أداء الزكاة عنه والأصح ما ذكر في الجامع أنه بالإبراء صار مبطلا الدين بتصرفه فيكون بمنزلة القابض المستهلك كالمشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا حتى يتقرر عليه جميع الثمن ولو تصدق بها على فقير آخر وأمر بقبضها منه ينوي عن زكاته فإن ذلك يجزيه لأن ذلك الفقير وكيل من جهته في القبض فكأنه قبضها بنفسه ثم تصدق بها عليه ينوي من زكاته وكذلك إن قبضها ثم تصدق بها على المديون وهو ينوي من زكاته فإنه يجزيه إذا كان فقيرا كما لو تصدق بها على غيره وإن كان غنيا وهو يعلم بذلك لم يجزه عن الزكاة ويكون ضامنا زكاة هذه الألف على الروايتين جميعا أما على رواية الجامع فلا يشك فيه وعلى رواية هذا الكتاب فلأنه بالقبض وجب عليه أداء الزكاة فكان هبته منه كهبته من غني آخر وإن كان لا يعلم بغناه ثم علم بعد الأداء إليه فذلك يجزيه من الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى ومراده إذا تحرى ودفع إليه على أنه فقير وقد بينا هذا في كتاب التحري.(3/64)
وكذلك لو كان المتصدق عليه ذميا فإن دفع الزكاة إلى الذمي مع العلم لا يجوز كدفعه إلى الغني وإن تصدق بها على والده أو ولده أو زوجته أو تصدقت المرأة بذلك على زوجها وهم لا يعلمون بذلك ثم علموا فإنه لا يجزيهم من الزكاة في رواية هذا الكتاب وفي رواية كتاب الزكاة والتحري قال يجزئ ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى واستدلا فيه بحديث معن بن يزيد.
وقد بينا وجه تلك الرواية ووجه هذه الرواية أن النسب وإن كان طريق معرفته في الأصل الاجتهاد فإنه بمنزلة المقطوع به شرعا ولهذا لو نفى نسب رجل عن أبيه لزمه الحد فإنما تحول من اجتهاد إلى يقين ولا معتبر بالاجتهاد بعد اليقين كما لو قضى القاضي في حادثة باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه بخلاف مسألة الغنى لأن الغني والفقير مما لا يمكن الوقوف على حقيقته فإنما تحول هناك من اجتهاد إلى اجتهاد وكذلك لو تصدق به على عبد أبيه أو أمه وهو لا يعلم به ثم علم بعده لم يجزه عندهم جميعا وهذا على رواية هذا الكتاب فإن التصدق بالزكاة على عبده بمنزلة التصدق على مولاه ولهذا لو تصدق به على عبد غني وهو يعلم به فإنه لا يجزيه ولو تصدق به على حربي دخل إلينا بأمان أو بغير أمان،(3/65)
ص -35- ... لم يجزه على رواية هذا الكتاب إذا كان لا يعلم به وفي رواية كتاب الزكاة جعله بمنزلة التصدق به على الذمي فقال: يجزيه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
ووجه هذه الرواية: أن التصدق على الحربي لا يكون قربة ألا ترى أنه لا يتنفل به وقد نهينا عن مبرة أهل الحرب قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] فلا يقع فعله موقع الصدقة بخلاف التصدق به على الذمي فإنه يقع موقع الصدقة لأنا لم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا ولهذا جاز التنفل به.
قال: ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان فمكث فيها سنتين فعليه الزكاة في المال الذي خلف وفيما أفاد في دار الحرب لأنه مخاطب بحكم الإسلام حيث ما يكون إلا أن ماله الذي خلف في دار الإسلام إذا كان من السوائم فللسلطان حق أخذ الزكاة منه بخلاف ما أفاد في دار الحرب لأن فيما أفاد في دار الحرب قد انعدمت الحماية من إمام المسلمين فلا يكون له أن يأخذ الزكاة منها ولكن يعنى من عليه بالأداء إلى فقراء المسلمين الذين يسكنون في دار الإسلام بخلاف ما إذا وجبت عليه الزكاة في دار الإسلام فإنه يؤمر بالدفع إلى أهل بلده لأن فقراء أهل بلده لهم حق المجاورة مع الحاجة وقد بينا هذا في كتاب الزكاة.
فأما في دار الحرب قل ما يجد فقراء المسلمين ولو وجدهم فالفقراء الذين يسكنون في دار الإسلام أفضل من الذين يسكنون في دار الحرب وقد بينا أن من في دار الإسلام لو نقل صدقة بلده إلى فقراء بلدة أخرى هم أفضل من فقراء أهل بلدته فذلك أولى به ولو أن رجلا له مائة درهم وسيف فيه فضة مائة درهم ولا مال له غيره فعليه فيه الزكاة لأن وجوب الزكاة في الفضة باعتبار العين فحلية السيف وغيرها من ذلك سواء في تكميل النصاب به.(3/66)
قال: ولو كانت له أوان من الذهب والفضة للاستعمال لا للتجارة فعليه فيها الزكاة بخلاف اللؤلؤ والياقوت والجواهر إذا لم تكن للتجارة فإنه لا زكاة فيها لأن وجوب الزكاة فيها باعتبار معنى النماء ولا يتحقق ذلك إلا بنية التجارة فيها كسائر العروض فأما وجوب الزكاة في الذهب والفضة باعتبار عينها والعين لا تتبدل بالصنعة ولا بالاستعمال ثم لم يبين هنا ولا في كتاب الزكاة أنه كيف يؤدي الزكاة من الأواني المصوغة.
وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا كان له إناء مصوغ من الفضة وزنه مائتا درهم فإما أن يتصدق بربع عشره على فقير فيكون شريكا له في ذلك أو يؤدي قيمة ربع عشره من الذهب فإن أدى خمسة دراهم لم يسقط عنه جميع الزكاة وعليه أن يؤدي فضل القيمة وهذا صحيح على أصل محمد وزفر رحمهما الله تعالى في اعتبار القيمة فيما يؤدى مع المجانسة فإنه لا ربا في أداء الزكاة فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن أدى خمسة دراهم تسقط عنه الزكاة لأنه يعتبر الوزن دون الجودة والصنعة فإن أدى قيمة خمسة دراهم من الذهب لم يسقط عنه جميع الزكاة لأن عند اختلاف الجنس تعتبر القيمة فلا بد من أداء الفضل.(3/67)
ص -36- ... قال: رجل له مائتا درهم فقال هي في المساكين صدقة إن كلمت فلانا فكلمه ثم حال عليها الحول فعليه فيها الزكاة لأنه وإن لزمه التصدق بها بحكم النذر فملكه كامل فيها فإن ديون الله تعالى لا تمكن نقصانا في الملك خصوصا ما لا تتوجه المطالبة به بحال فلا يمنع ذلك وجوب الزكاة في ماله بخلاف دين الزكاة فإن تصدق بها عما أوجب على نفسه فعليه زكاتها خمسة دراهم لأنه صرف حق الفقراء إلى حاجته فإن الوفاء بالنذر من جملة حاجته فهو بمنزلة انفاقه المال على نفسه فيكون ضامنا للزكاة وإن تصدق بخمسة دراهم منها ينوي عن زكاتها ثم تصدق بما بقي مما أوجب على نفسه فعليه خمسة دراهم يتصدق بها لأن التصدق بالخمسة الأولى كان عن الزكاة دون النذر فإنه نواها عن الزكاة وللمرء ما نوى ثم تصدق عن نذره بمائة وخمسة وتسعين وإنما التزم التصدق بمائتين عن نذره فعليه أن يؤدي خمسة أخرى.
وإن ضاع المال بعد الحول فلا شيء عليه من الزكاة ولا مما أوجب على نفسه لأن كل واحد منهما كان غنيا في هذا المحل فلا يبقى بعد فوات المحل بخلاف ما سبق لأن هناك وجد منه تصرف وهو الأداء ولا وجه لتجويز المؤدى عنهما جميعا لأن المحل الواحد لا يتسع لذلك فجعلنا المؤدى عما نواه وصار هو في حق الآخر كالمستهلك للمحل وهنا لم يوجد منه تصرف وإنما فات المحل لضياع المال ومعنى فوات المحل يتحقق في كل واحد من الحقين فلهذا لا يلزمه شيء آخر.(3/68)
قال: ولو أن أم ولد لرجل لها حلي من ذهب أو فضة فعلى المولى أن يزكى ذلك مع ماله إذا حال الحول لأن أم الولد في حكم الملك كالأمة القنة فكسبها وما في يدها يكون ملكا للمولى وكذلك كسب العبد الذي لا دين عليه فإن كان على العبد دين كثير محيط بما في يده فلا زكاة على سيده فيما في يده أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن المولى لا يملك ما في يده وأما عندهما فلأن ما في يده مشغول بحق الغرماء والمال المشغول بالدين لا يكون نصاب الزكاة فإن كان في يده أكثر مما عليه فالفضل مملوك للمولى فارغ عن حق الغرماء فيضمه إلى ماله ويزكيه ولكن هذا بعد ما يقضي العبد ديونه لأنه لا يسلم للمولى شيء من كسبه قبل قضاء ديونه فإذا قضى ديونه فالآن يسلم الفضل للمولى فيؤدي الزكاة عنه بمنزلة مال له على رجل فقضاه فإنه يلزمه أداء الزكاة عنه بعد الاستيفاء.
قال: والمجنون إذا كان له مال فحال عليه الحول ثم برأ فلا زكاة عليه للحول الماضي سواء كان مجنونا جنونا أصليا أو جنونا طارئا وإن أفاق في يوم من الحول في أوله أو في آخره فعليه الزكاة قال وهو بمنزلة رمضان يعني إذا كان مفيقا في يوم من رمضان في أوله أو في آخره فعليه صوم جميع الشهر ويتبين بما ذكر هنا أن في الصوم لا فرق بين الجنون الأصلي والجنون الطارئ وقد بينا اختلاف الروايات فيه في كتاب الصوم والذي قال هنا في(3/69)
ص -37- ... كتاب الزكاة قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية بن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى.
وروى هشام عن أبي يوسف أن المعتبر أكثر الحول وقال إن كان مفيقا في أكثر الحول تلزمه الزكاة وإن كان مجنونا في أكثر الحول لا تلزمه الزكاة وقاس الأهلية فيمن تجب عليه بالمحلية فيما تجب فيه الزكاة وهي السائمة فإن صاحب السائمة إذا كان يعلفها بعض الحول اعتبرنا فيه أكثر الحول فإن كانت سائمة في أكثر الحول تجب فيها الزكاة وإلا فلا وهذا لأن الأقل تبع للأكثر وللأكثر حكم الكل ألا ترى أن الذمي إذا كان صحيحا في أكثر السنة تلزمه الجزية وإن كان مريضا في أكثر السنة لا تلزمه الجزية؟
وجه ظاهر الرواية: أن الحول للزكاة كالشهر للصوم ثم لو أدرك جزءا من الشهر مفيقا يلزمه صوم جميع الشهر فكذلك إذا أدرك جزءا من الحول مفيقا تلزمه الزكاة والدليل عليه المستفاد فإن وجود المستفاد في ملكه في جزء من الحول وإن قل كوجوده في جميع الحول في حكم الزكاة فكذلك حكم الإفاقة.
قال: والأجير والمضارب وصاحب البضاعة والمستودع والعبد والمكاتب لا يعتبر أحد من هؤلاء أما الأجير وصاحب البضاعة والمستودع فلأنهم أمناء لا حق لهم في المال والعاشر إنما يأخذ الزكاة وذلك لا يكون إلا بنية صاحب المال وأدائه أو أمره بذلك ولم يوجد وأما المضارب ففي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول يأخذ العاشر منه الزكاة وفي قوله الآخر لا يأخذ نص عليه في الجامع الصغير قال يعقوب ولا أعلمه رجع في العبد وقياس قوله الآخر يوجب أن لا يعتبر العبد أيضا وهنا نص على التسوية بين العبد والمضارب فعرفنا أن الصحيح رجوعه في العبد أيضا وأما المكاتب فلا شك أن العاشر لا يأخذ منه شيئا لأنه لا مالك لكسبه فالمكاتب ليس من أهل الملك والمولى لا يملك كسبه ما بقي عقد الكتابة فلا يأخذ منه شيئا سواء كان السيد معه أو لم يكن.(3/70)
فأما المتفاوضان والشريكان شركة عنان فعلى كل واحد منهما أن يزكي نصف ما في أيديهما لأن ملك كل واحد منهما في النصف المشترك كامل وإن أخذ العاشر من المضارب شيئا فكذلك لا يجزئ رب المال من زكاته لأن العاشر غاصب فيما أخذ منه بغير حق ومن عليه الزكاة إذا غصب بعض ماله لم يجزه ذلك من الزكاة ولا ضمان على المضارب لأنه أمين أخذ منه المال بغير اختياره ولكن لا ربح له حتى يستوفي رب المال ماله لأن ما أخذه العاشر تاو فكأنه هلك بعض المال من يد المضارب وإن كان المضارب هو الذي دفع ذلك إليه كان ضامنا لرب المال ما دفعه إليه لأنه خائن في دفع المال إلى غير من أمر بالدفع إليه.
قال: ولو أن أحد المتفاوضين أو أحد الشريكين شركة عنان أدى الزكاة عن المال كله(3/71)
ص -38- ... بغير أذن الشريك فهو ضامن لنصيب الشريك فيما أدى لأن كل واحد منهما نائب عن صاحبه في التجارة واستنماء المال لا في أداء الزكاة فكان متعديا فيما أدى من نصيب الشريك وذلك لا يجزئ من زكاة الشريك لانعدام نيته وأمره فإن كان كل واحد منهما فعل ذلك كان كل واحد منهما ضامنا لصاحبه نصيبه فيتعاوضان ويكون كل واحد منهما متطوعا فيم أدى زيادة على ما عليه حتى لا يرجع واحد منهما على الفقير بشيء وإن كان واحد منهما أمر صاحبه بأداء الزكاة عن جميع المال فإن أدى أحدهما جاز المؤدى عن زكاتهما وإن أديا جميعا معا فكل واحد منهما يكون مؤديا زكاة نصيبه ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه بشيء سواء أديا من المال المشترك أو أدى كل واحد منهما من خالص ماله.
فإن أدى أحدهما أولا من خالص ملكه لم يرجع على صاحبه بشيء إلا أن يكون كل واحد منهما شرط عند الأمر أن يرجع عليه بما يؤدى عنه وقد بينا هذا في المأمور إذا لم يكن شريكا فكذلك إذا كان شريكا في المال وإن أدى أحدهما من المال المشترك ثم أدى الآخر من المال المشترك أيضا فالثاني ضامن لنصيب صاحبه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى سواء علم بذلك أو لم يعلم وعندهما لا يكون ضامنا سواء علم بأدائه أو لم يعلم نص عليه في الزيادات وفي كتاب الزكاة فرق بين أن يعلم بأدائه أو لم يعلم وقد بينا المسألة هناك.(3/72)
قال: ولو أن رجلين بينهما عبد قيمته ألف درهم فأعتقه أحدهما وهو معسر فاستسعى الآخر العبد في حصته وأخذها منه بعد حول فلا زكاة عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن من أصله أن المستسعى في بعض قيمته مكاتب وما عليه بمنزلة بدل الكتابة ولا زكاة في بدل الكتابة حتى يحول عليه الحول بعد القبض وأما عندهما المستسعي في بعض قيمته حر عليه دين لأن العتق عندهما لا يتجزأ فتجب الزكاة فيه قبل القبض ويلزمه الأداء إذا قبضه بمنزلة دين له على آخر فإن كان المعتق موسرا فضمنه الشريك نصف قيمته وقبضه بعد الحول تلزمه الزكاة عندهم جميعا لأنه صار مملكا نصيبه من شريكه باختياره تضمينه فهو بمنزلة ما لو ملك نصيبه بالبيع بالدراهم إذا قبض الثمن بعد الحول تلزمه الزكاة لما مضى.
قال: ولو أن رجلا ورث عن أبيه ألف درهم فأخذها بعد سنين فلا زكاة عليه لما مضى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وفي قولهما عليه الزكاة لما مضى ففي هذه الرواية جعل الموروث بمنزلة الدين الضعيف مثل الصداق وبدل الخلع وفي ذلك قولان لأبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك في هذا وفي كتاب الزكاة جعل الموروث كالدين المتوسط عند أبي حنيفة رحمه الله وهو ثمن مال البذلة والمهنة فقال إذا قبض نصابا كاملا بعد كمال الحول تلزمه الزكاة لما مضى.(3/73)
ص -39- ... وجه تلك الرواية أن الوارث يخلف المورث في ملكه وذلك الدين كان مال الزكاة في ملك المورث فكذلك في ملك الوارث.
ووجه هذه الرواية: أن الملك في الميراث يثبت للوارث بغير عوض فيكون هذا بمنزلة ما يملك دينا عوضا عما ليس بمال وهو الصداق فلا يكون نصاب الزكاة حتى يقبض يوضحه أن الميراث صلة شرعية والصداق للمرأة في معنى الصلة أيضا من وجه قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}[النساء: 4] أي عطية وما يستحق بطريق الصلة لا يتم فيه الملك قبل القبض فلا يكون نصاب الزكاة.
قال: ولو باع جارية بألف درهم لغير التجارة فأخذها بعد سنين فعليه الزكاة لما مضى عندهم جميعا وهذا ذكره في كتاب الزكاة وذكر بن سماعة أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تلزمه الزكاة حتى يحول عليه الحول بعد القبض قال الكرخي وهو الصحيح وقد بينا وجه الروايتين في كتاب الزكاة ثم على هذه الرواية ما لم يقبض مائتين لا تلزمه الزكاة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بخلاف الدين الذي هو عوض عن مال التجارة فإنه إذا قبض منه أربعين درهما تلزمه الزكاة لأن أصل ذلك المال كان نصاب الزكاة فعوضه يكون بناء في حكم الزكاة ونصاب البناء يتقدر بأربعين درهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهنا أصل هذا المال لم يكن مال الزكاة فكان ثمنه في حكم الزكاة أصلا مبتدأ ونصاب الابتداء يتقدر بمائتين فلا يلزمه أداء الزكاة ما لم يقبض مائتين وعندهما إذا قبض شيئا قليلا أو كثيرا تلزمه الزكاة بقدر ما قبض في الديون كلها وقد بينا هذا في كتاب الزكاة.(3/74)
قال: ولو أن رجلا أوصى لرجل بوصية ألف درهم فمكث سنين ثم بلغه فقبل الوصية ثم أخذها فلا زكاة عليه لما مضى لأن الموصى به لا يدخل في ملك الموصى له قبل قبوله فلا يكون نصاب الزكاة في حقه وعلى قياس قول زفر رحمه الله تعالى ينبغي أن تلزمه الزكاة لما مضى لأن عنده الموصى به يدخل في ملك الموصي له قبل قبوله بمنزلة الميراث فإن قبلها ثم حال الحول قبل أن يقبضها فلا زكاة عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعليه الزكاة لما مضى في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهذا لأن الموصى به إنما يملكه الموصى له بطريق الصلة فلا يتم ملكه فيه إلا بالقبض في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ومن أصحابنا من قال مسألة الوصية بعد قبول الموصى له نظير مسألة الميراث وفيها رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما بينا في الميراث والأصح أن في مسألة الوصية الرواية واحدة أنه لا تجب عليه الزكاة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر بخلاف الميراث على رواية كتاب الزكاة لأن ملك الموصى له بناء على ملك الموصي حتى لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصى فأما ملك الوارث ينبني على ملك المورث،(3/75)
ص -40- ... فلهذا اعتبر هناك ملك المورث وجعله نصاب الزكاة قبل القبض واعتبر ها هنا ملك الموصى له ابتداء فلم يجعله نصاب الزكاة ما لم يتم ملكه بالقبض.
قال: ولو أن رجلا له ألف درهم وخاتم فضة في أصبعه فيه درهم فحال الحول على المال غير شهر ثم ضاع المال وبقي الخاتم ثم استفاد ألفا وتم الحول فعليه أن يزكي المال لأن فضة الخاتم كانت مضمومة إلى الألف في حكم النصاب فيبقى الحول ببقائها وإن ضاع الألف على ما بينا أن بقاء جزء من النصاب يكفي لبقاء الحول فإنما استفاد الألف والحول باق فتلزمه الزكاة إذا تم الحول لوجود كمال النصاب في طرفي الحول مع بقاء شيء منه في خلال الحول ولو لم يكن له خاتم.
والمسألة بحالها فإنه يستقبل الحول على المستفاد منذ ملكه لأنه هلك جميع النصاب حين ضاع المال الأول فلم يبق الحول الأول منعقدا لأن البقاء يستدعي جزءا من النصاب فإن وجد درهما من الدراهم الأول قبل الحول بيوم ضمه إلى ما عنده فيزكي الكل وكذلك إن وجد البقية بعد ما زكى فعليه أن يزكي كلها وإن لم يكن له خاتم لأن بالضياع لا ينعدم أصل الملك وإنما تنعدم يده وتمكنه من لتصرف فيه فإذا ارتفع ذلك قبل كمال الحول بأن وجد كله أو بعضه صار الضياع كأن لم يكن فكأنه كان في يده حتى وجد الألف الأخرى وتم الحول فتلزمه الزكاة عن الكل وهو نظير ما لو وجب عليه دين مستغرق في خلال الحول ثم سقط الدين قبل تمام الحول فإنه يلزمه أداء الزكاة إذا تم الحول وإن كان إنما وجد ما ضاع بعد الحول فلا زكاة عليه فيها حتى يكمل الحول فيه منذ استفاد المال لأنه لما تم الحول والمال الأول تاو لم يجب عليه شيء باعتباره وإنما انعقد الحول على ماله من حين استفاد وإن كانت ضاعت الألف الأولى بعد الحول وبقي الخاتم فعليه الزكاة في الخاتم بقدر حصته لأنه كان مضموما إلى ماله ووجبت الزكاة فيه ولما تم الحول ثم هلك بعض ماله بعد وجوب الزكاة وبقي البعض فعليه أن يؤدي من الباقي حصته.(3/76)
قال: فإن مر على العاشر بمائتي درهم غير درهم وفي يده خاتم فضة فيه درهم فإن العاشر يأخذ منه الزكاة لأن المعتبر كمال النصاب فيما يمر به على العاشر وقد وجد فإن الخاتم من نصابه وإن لم يكن في يده خاتم فلا زكاة عليه ولا يأخذ منه العاشر شيئا وإن أخبره بمال آخر له في بيته لأنه إنما يعتبر كمال النصاب في المال الممرور به عليه ولم يوجد وهذا لأن ثبوت حق الأخذ للعاشر باعتبار حاجة صاحب المال إلى الحماية وذلك في المال الممرور به عليه دون الذي خلفه في بيته فإذا كان الممرور به عليه نصابا كاملا يأخذ منه الزكاة وإلا لم يأخذ منه شيئا.
قال: ولو أن رجلا وهب لرجل ألف درهم فحال عليها الحول ثم رجع فيها الواهب بقضاء أو بغير قضاء فلا زكاة فيها على الواهب لأنها لم تكن في ملكه ولا على الموهوب(3/77)
ص -41- ... له لأن مال الزكاة استحق من يده بعد كمال الحول بعينه ويستوي فيه الرجوع بقضاء أو بغير قضاء لأن حق الواهب في الرجوع مقصور على العين فيستوي فيه القضاء وغير القضاء بمنزلة الأخذ الشفعة وإن لم يحل عليها الحول عند الموهوب له حتى استفاد ألف درهم ثم رجع فيها الواهب بقضاء أو بغير قضاء فلا زكاة عليه فيها لما قلنا ويزكي الموهوب له المال المستفاد إذا تم الحول.
قال: في الكتاب إذا مضى تمام حول منذ ملكها فمن أصحابنا من يقول إن بالرجوع في الهبة يبطل ملك الموهوب له من الأصل فيقطع حكم ذلك الحول ويعتبر مضى حول على المستفاد من حين ملكه.
قال: الشيخ الإمام شمس الأئمة رحمه الله تعالى والأصح عندي أنه إذا تم الحول من حين ملك الموهوب فعليه زكاة المستفاد لأن الحول كان انعقد من حين ملك الموهوب فحين استفاد ألفا كانت هذه الألف مضمومة إلى أصل النصاب في حكم الحول ثم لما رجع الواهب في الموهوب صار كأن ذلك القدر هلك من ماله فيبقى الحول ببقاء المستفاد ويلزمه أداء الزكاة عند تمام الحول عما هو باق وهذا لأن الرجوع في الهبة ينهي ملك الموهوب له فالملك ثبت له في الهبة إلى أن يرجع الواهب فيه ولهذا لو كان الموهوب جارية فوطئها ثم رجع فيها الواهب فليس على الموهوب له عقرها ولو ولدت ولدا ثم رجع فيها الواهب بقي الولد سالما للموهوب له فعرفنا أن الرجوع في الهبة في حق الموهوب له بمنزلة الهلاك.(3/78)
قال: رجل له أرض أجرها ثلاث سنين كل سنة بثلثمائة درهم ولم يأخذ الأجرة حتى مضت المدة ثم أخذها جملة واحدة فنقول إذا مضى ثمانية أشهر من وقت العقد انعقد الحول على ماله لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد وإنما تملك بالتعجيل أو باستيفاء المنفعة ولم يوجد التعجيل هنا فإنما يملك بحسب ما يستوفى من المنفعة شيئا فشيئا فإذا مضت ثمانية أشهر فقد ملك مائتي درهم ولا ينعقد الحول على ماله إلا بعد كمال النصاب فإذا مضى بعد ذلك اثني عشر شهرا وجب عليه زكاة خمسمائة درهم لأنه ملك في هذه المدة من الأجرة ثلاثمائة أخرى وذلك مستفاد في خلال الحول فإنما تم الحول وفي ملكه خمسمائة فلهذا يلزمه زكاة خمسمائة ثم إذا مضت سنة بعد ذلك فعليه زكاة ثمانمائة إلا مقدار ما وجب عليه من زكاة الخمسمائة لأنه قد ملك بمضي الحول الثاني ثلاثمائة أخرى فتم الحول الثاني وماله ثمانمائة إلا أن ما وجب عليه من زكاة الخمسمائة دين فلا يعتبر ذلك القدر من ماله في الحول الثاني وكذلك الكسور في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما تعتبر الكسور وهذا على الرواية التي يوجب فيها الزكاة في الأجرة قبل القبض وهو رواية هذا الكتاب والجامع والأمالي.
وذكر أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الأجرة بمنزلة الصداق لا(3/79)
ص -42- ... تجب فيها الزكاة حتى يحول الحول عليها بعد القبض لأن المنفعة ليست بمال ولكن الرواية الأولى أصح لأن المنفعة تأخذ حكم المالية بالعقد ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلتها ثم على هذه الرواية في وجوب أداء الزكاة عند القبض روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين ما لم يقبض مائتين لا يلزمه أداء الزكاة لأن المنافع وإن أخذت حكم المالية بالعقد فإنها لا تكون نصاب الزكاة بحال فكانت الأجرة بمنزلة ثمن مال البذلة والمهنة فلا يلزمه أداء الزكاة ما لم يقبض مائتين وفي الرواية الأخرى قال إذا قبض منها أربعين درهما فعليه أداء الزكاة لأن المنفعة في حكم التجارة بمنزلة العين فكانت الأجرة بمنزلة دين هو ثمن مال التجارة فإذا قبض منها أربعين درهما يلزمه أداء درهم فإن كان أجرها كل سنة بمائتي درهم لم ينعقد الحول ما لم يمض كمال السنة لأنه إنما ملك مائتي درهم عند مضي سنة فإذا مضت سنة أخرى زكى أربعمائة درهم لأن بمضي السنة الثانية ملك مائتي درهم أخرى من الأجر فإنما تمت السنة وفي ملكه أربعمائة درهم ثم إذا مضت سنة أخرى فعليه زكاة ستمائة لأنه تم الحول وفي ملكه ستمائة إلا أنه يطرح ما وجب عليه من الزكاة للسنة الماضية وهو عشرة دراهم والكسور في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا فإنما يزكي عنده للسنة الثانية خمسمائة وستين درهما.(3/80)
قال: رجل له على رجل ألف درهم ضمنها رجل بغير أمره فحال الحول على ماله ثم أبرأ منه الأصيل فلا زكاة على الذي كان له المال ولا على الضامن وإن كان له ألف درهم أما الذي له أصل المال فقد بينا أنه بعد الإبراء لا يكون ضامنا للزكاة على رواية هذا الكتاب سواء كان المديون غنيا أو فقيرا وأما على الضامن فلأن المال قد وجب دينا في ذمته بالضمان ولم يكن له حق الرجوع على الأصيل عند الأداء لأنه ضمن بغير أمره فكان عليه الدين بقدر ماله في جميع الحول ومال المديون لا يكون نصاب الزكاة فلهذا لا تلزمه الزكاة وإن سقط عنه الدين بالإبراء بعد كمال الحول والله أعلم.
باب زكاة الأرضين والغنم والإبل
قال: رحمه الله تعالى رجل له أرض عشرية فمنحها لمسلم فزرعها فالعشر على المستعير لأن العشر يجب في الخارج والخارج سلم للمستعير بغير عوض التزمه فيكون هذا والخارج من ملكه في حقه سواء.وروى بن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العشر على المعير لأنه مؤنة الأرض النامية فيجب على مالك الأرض كالخراج إلا أنه فرق ما بين العشر والخراج أنه يعتبر في العشر حصول النماء حقيقة وقد وجد ذلك إلا أن المعير آثر المستعير على نفسه في تحصيل النماء فيكون مستهلكا محل حق الفقراء بمنزلة ما لو زرع الأرض لنفسه ثم وهب الخارج من غيره.
قال: ولو منحها لرجل كافر فعشرها على رب الأرض وهذا يؤيد رواية ابن المبارك.(3/81)
ص -43- ... والفرق بين الفصلين في ظاهر الرواية أن هنا منحها من لا عشر عليه لأن في العشر معنى الصدقة والكافر ليس من أهلها فيصير به مستهلكا محل حق الفقراء وفي الأول إنما منحها لمسلم وهو من أهل أن يلزمه العشر فلا يصير مستهلكا بل يكون محولا حقهم من نفسه إلى غيره.
قال: ولو غصبها مسلم فزرعها فإن كان الزرع نقصها فالعشر على ربها لأن الغاصب ضامن لنقصان الأرض وذلك بمنزلة الأجرة يسلم لرب الأرض فيلزمه العشر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وفي قولهما العشر في الخارج بمنزلة ما لو أجرها من مسلم وإن لم ينقصها الزرع فلا عشر على ربها لأنه لم يكن متمكنا من الانتفاع بها ولا كان مسلطا للزارع على زراعتها ولكن العشر في الخارج على الغاصب لأن منفعة الأرض سلمت له بغير عوض وإن غصبها منه كافر فإن نقصها الزراعة فالعشر على ربها لأنه قد سلم له عوض منفعة الأرض فهو بمنزلة ما لو أجرها وإن لم ينقصها فلا عشر فيها لأن من سلمت له المنفعة ليس من أهل أن يلزمه العشر والمالك لم يكن متمكنا من الانتفاع بها.
وروى جرير بن إسماعيل عن محمد رحمهما الله تعالى أن على الغاصب عشرها لأن المنفعة سلمت له على الوجه الذي يسلم أن لو كان مالكا للأرض وهذا صحيح على أصل محمد رحمه الله تعالى فإن عنده الكافر إذا اشترى أرضا عشرية من مسلم فعليه عشرها كما كان وإن اختلفت الرواية عنه في مصرف العشر المأخوذ من الكافر وقد بينا ذلك في السير والزكاة.(3/82)
قال: ولو أعار المسلم أرضه الخراجية فالخراج عليه سواء كان المستعير مسلما أو كافرا لأن وجوب الخراج باعتبار التمكن من الانتفاع بالأرض وقد كان المعير متمكنا من ذلك ثم الخراج مؤنة الأرض النامية ومؤنة الملك تجب على المالك إلا أن في العشر محل هذه المؤنة الخارج فأمكن إيجابها فيه فإن كان المستعير مسلما أوجبنا الخراج في الخارج ومحل الخراج ذمة المالك فسواء كان المستعير مسلما أو كافرا كان الخراج على المالك في ذمته فإن غصبها مسلم أو كافر فعلى الغاصب نقصان الأرض والخراج على ربها ويستوى إن قل النقصان أو كثر في قول أبي حنيفة بمنزلة ما لو أخرجها بعوض قليل أو كثير وعلى قول محمد رحمه الله تعالى إن كان النقصان مثل الخراج أو أكثر فالخراج على ربها وإن كان النقصان أقل فعلى الغاصب أن يؤدي الخراج وليس عليه ضمان النقصان استحسن ذلك لدفع الضرر عن صاحب الأرض وإن لم تنقصها الزراعة شيئا فالخراج على الغاصب دون المالك لأن الغاصب هو المتمكن من الانتفاع بها بغير عوض دون المالك.
قال: ولو أن صاحب الأرض الخراجية زرعها ولم تخرج شيئا أو أصاب الزرع آفة فلا خراج فيها بخلاف ما إذا لم يزرعها لأنه إذا عطلها فقد تمكن من الانتفاع بها وإذا زرعها(3/83)
ص -44- ... فلم تخرج شيئا أو أصاب الزرع آفة فقد انعدم تمكنه من الانتفاع بها وهو مصاب في هذه الحالة يعان ولا يغرم شيئا كيلا يؤدي إلى استئصالها ومما حمد من سير الأكاسرة أنه إذا أصاب زرع بعض الرعية آفة غرموا له ما أنفق في الزراعة من بيت مالهم وقالوا التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإن لم يعطه الإمام شيئا فلا أقل من أن لا يغرمه الخراج فإن لم يزرعها ولكنها غرقت ثم نضب الماء عنها في وقت لا يقدر على زراعتها قبل مضي السنة فلا خراج عليه لأنه لم يتمكن من الانتفاع بها ولو نضب الماء عنها في وقت يقدر على زراعتها قبل مضي السنة فعليه الخراج زرعها أو لم يزرعها لأنه تمكن من الانتفاع بها.
قال: ولو أن رجلا اشترى أرضا عشرية أو خراجية للتجارة فلا زكاة فيها وإن حال الحول عليها ولكن فيها العشر أو الخراج لأن وجوب العشر أو الخراج باعتبار نماء الأرض وكذلك وجوب الزكاة باعتبار معنى النماء وكل واحد من الحقين يجب لله تعالى فلا يجوز الجمع بينهما بسبب أرض واحدة ولما تعذر الجمع بينهما رجحنا ما تقرر فيها وهو العشر أو الخراج فقد صار ذلك وظيفة لازمة لهذه الأرض فلا يتغير ذلك بنيته ولأن العشر والخراج أسرع وجوبا من الزكاة فإنه لا يعتبر فيهما كمال النصاب ولا صفة الغنى في المالك وبه فارق ما لو اشترى دارا للتجارة فإنه ليس في رقبة الدار وظيفة أخرى فتعمل نية التجارة فيها حتى تلزمه الزكاة.
وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أن الأرض إذا كانت عشرية فاشتراها للتجارة فعليه فيها الزكاة لأن العشر إنما يجب في الخارج والزكاة إنما تجب باعتبار مالية الأرض في ذمة المالك فقد اختلف محل الحقين فيجمع بينهما بخلاف الخراج فإنه يجب في ذمة المالك كالزكاة ولكن هذا ضعيف وقد صح من أصل علمائنا أنه لا يجمع بين العشر والخراج والعشر يجب في الخارج والخراج يجب في ذمة المالك ثم لم يجز الجمع بينهما.(3/84)
قال: ولو أن كافرا اشترى أرضا عشرية فعليه فيها الخراج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولكن هذا بعد ما انقطع حق المسلم عنها من كل وجه حتى لو استحقها مسلم أو أخذها بالشفعة كانت عشرية على حالها سواء وضع عليها الخراج أو لم يوضع لأنه لم ينقطع حق المسلم عنها فلو وجد المشتري بها عيبا لم يستطع أن يرده بعد ما وضع عليها الخراج لأن الخراج عيب وهذا عيب حدث في ملك المشتري فيمنعه من الرد بالعيب ألا ترى أن مسلما لو اشترى أرضا خراجية بشرط أن خراجها درهم فوجده درهمين كان له أن يردها فإن كان زيادة الخراج عيبا فكذلك أصل الخراج فإذا تعذر ردها بالعيب رجع بحصة العيب من الثمن فإن لم يكن وضع عليها الخراج حتى وجد بها عيبا فله أن يرد الأرض لأنها إنما بيعت بوضع الخراج عليها وإنما ذكر هذا التفصيل هنا ومراده من وضع الخراج عليها مطالبة صاحبها بأداء الخراج.(3/85)
ص -45- ... قال: ولو أن تغلبيا اشترى أرضا من أرض العشر فعليه العشر مضاعفا وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن الصلح وقع بيننا وبينهم على أن يضعف عليهم ما يؤخذ من المسلم والعشر يؤخذ من المسلم فيضعف عليهم وأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فلأن كافرا آخر لو اشترى أرضا عشرية كان العشر عليه مضاعفا عنده فالتغلبي أولى وأما عند محمد رحمه الله تعالى عليه عشر واحد لأن تضعيف العشر في الأراضي الأصلية لهم وهي التي وقع عليها الصلح فأما فيما سوى ذلك من الأرضين التغلبي كغيره من الكفار وما صار وظيفة في الأرض لا يتبدل بتبدل المالك عند محمد رحمه الله تعالى.
قال: ألا ترى أنه لو اشترى أرضا خراجية كان عليه الخراج على حاله ولو اشترى أرضا من أرض نجران كان عليه المال على حاله؟ ولكنا نقول إنما وقع الصلح بيننا وبينهم على أن يضعف عليهم ما يبذله المسلم والخراج مما لا يبذله المسلم فلا يضعف عليهم وأما العشر مما يبذله المسلم فيضعف عليهم باعتبار الصلح كما لو اشترى سائمة من مسلم يجب عليه الصدقة فيها مضعفة ولو أن رجلا اشترى أرضا خراجية فإن كان العقد في وقت يتمكن فيه من زراعتها قبل مضي السنة فالخراج على المشتري لأنه تمكن من الانتفاع بها بعد ما تملكها وإن كان لا يقدر على زراعتها حتى تمضي السنة فالخراج على البائع لأنه هو المتمكن من الانتفاع بها في السنة قبل أن يبيعها وقد بينا أن وجوب الخراج باعتبار التمكن من الانتفاع.(3/86)
قال: وإن باع أرضا عشرية بما فيها من الزرع فإن كان الزرع قد بلغ فالعشر على البائع لأن بإدراك الزرع وجب عليه العشر فيها ثم بإخراجها من ملكه صار مستهلكا محل حق الفقراء فيكون ضامنا للعشر وإن لم يبلغ الزرع فالعشر على المشتري في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى عشر الزرع على البائع وفضل ما بينهما على المشتري لأن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العشر يجب في القصيل إذا قصله صاحبه وإذا لم يقصله حتى انعقد الحب فإنما يجب العشر في الحب دون القصيل وقد انعقد الحب في ملك المشترى فكان العشر عليه وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هو عند اتحاد المالك كذلك.
فأما إذا كان الزرع في ملك إنسان وانعقاد الحب في ملك غيره فلا بد من اعتبار الحالين لأن وجوب العشر في النماء الحاصل وأصل الزرع إنما حصل للبائع بغير عوض فأما المشتري إنما حصل له ذلك بعوض وهو الثمن فلا يمكن إيجاب العشر في ذلك القدر على المشتري فأوجبناه على البائع وما حصل من الفضل بعد الشراء فهو إنما يسلم للمشتري بغير عوض فعليه عشر ذلك الفضل فإن كان من جملة الخضراوات ولكن ليس له ثمرة باقية يجب فيه العشر عندهما.(3/87)
ص -46- ... قال: ولو أن أرضا غصبها رجل فزرعها فالزرع له ويتصدق بالفضل على ما أنفق فيها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يتصدق في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى بشيء وقد بينا هذا في كتاب الغصب فيما إذا تصرف الغاصب في المغصوب أو تصرف المودع وربح.
قال: فإن كان أجرها بمال كثير يجب في مثله الزكاة فحال عليها الحول فعليه أن يتصدق بها ولا زكاة عليه لأنه قد لزمه التصدق بجميعها قبل حولان الحول فلا يلزمه شيء آخر باعتبار مضي الحول وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا نذر أن يتصدق بمائتي درهم عينها فحال عليها الحول تجب فيها الزكاة لأن المال هناك كان ملكا طيبا له وإنما التزم التصدق بها بنذره والالتزام بالنذر يكون في الذمة ولهذا كان له أن يتصدق بغيرها ويمسكها فلهذا لزمته الزكاة فيها وأما هنا إنما لزمه التصدق في عين هذا المال حيث تمكن منه حتى لا يكون له أن يتصدق بغيره ويمسكه فلهذا لا يلزمه شيء آخر فإن حال عليه الحول رجع أبو يوسف رحمه الله تعالى عن هذا فقال عليه الزكاة فيها والفضل يتصدق به لأن ملكه فيها كامل فتلزمه الزكاة باعتبار الحول ولكن هذا ضعيف فإن وجوب الزكاة في المال بمعنى التطهير. قال الله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة: 103] وهذا لا يحصل بإيجاب الزكاة في هذا المال لأنه لا يزول الخبث بأداء الزكاة ولكن يلزمه التصدق بالفضل فلا معنى لإيجاب الزكاة فيها فقلنا يتصدق بجميعها بعد الحول كما كان يتصدق قبل الحول.(3/88)
قال: ولو أن مسلما باع أرضه العشرية بما فيها من زرع لم يدرك من كافر فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يوضع فيها الخراج لأن الحب انعقد في ملك المشتري فكأنه هو الذي زرعها بعد الشراء فعليه الخراج وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى على البائع عشر الزرع ويوضع الخراج على الكافر أما قوله على البائع عشر الزرع صحيح على قياس مذهبه فيما إذا باعها من مسلم وأما قوله ويوضع الخراج على الكافر فهو غلط لأن من أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الكافر إذا اشترى أرضا عشرية فعليه فيها عشران ولا يوضع الخراج عليه فهنا أيضا على قوله يجب في الفضل عشران على المشتري لأن المشتري لو كان مسلما كان عليه عشر الفضل فإذا كان كافرا كان عليه في الفضل عشران.
قال: وإن أجرها مسلم من مسلم فلم يزرعها فلا عشر فيها لأن محل العشر الخارج ولم يحصل ولو عطلها المالك لم يجب عشرها على أحد فكذلك إذا عطلها المستأجر ولكن على المستأجر الأجر إن كان قد قبضها لأنه كان متمكنا من الانتفاع بها في المدة وبالتمكن من الانتفاع يتقرر الأجر عليه.
قال: ولو أن أرضا من أرض الخراج مات ربها قبل أن يؤخذ منه الخراج فإنه لا يؤخذ من ورثته لأن الخراج في معنى الصلة فيسقط بالموت قبل الاستيفاء ولا يتحول إلى التركة(3/89)
ص -47- ... كالزكاة ثم خراج الأرض معتبر بخراج الرأس ففي كل واحد منهما معنى الصغار وكما أن خراج الرأس يسقط بموت من عليه قبل الاستيفاء فكذلك خراج الأرض ولا يمكن استيفاؤه من الورثة باعتبار ملكهم لأنهم لم يتمكنوا من الانتفاع بها في السنة الماضية.
قال: ولو مات رب الأرض العشرية وفيها زرع فإنه يؤخذ منه العشر على حاله وفي رواية بن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه سوى بين العشر والخراج وقال يسقط بموت رب الأرض فأما في ظاهر الرواية الزرع كما حصل صار مشتركا بين الفقراء ورب الأرض عشره حق الفقراء وتسعة أعشاره حق رب الأرض ولهذا لا يعتبر في إيجاب العشر المالك حتى يجب في أرض المكاتب والعبد والمديون والصبي والمجنون فبموت أحد الشريكين لا يبطل حق الآخر ولكن يبقى ببقاء محله فأما الخراج محله الذمة وبموته خرجت ذمته من أن تكون صالحة لالتزام الحقوق والمال لا يقوم مقام الذمة فيما طريقه طريق الصلة وقد بينا في كتاب الزكاة وجوب الخراج في أرض الصبي والمجنون لأنه مؤنة الأرض النامية ومال الصبي محتمل للمؤنات بمنزلة النفقات.(3/90)
قال: ولو أن رجلا عجل خراج أرضه ألف درهم فذلك يجزيه لأن سبب وجوب الخراج ملك الأرض المنتفع بها وذلك موجود والتعجيل بعد تمام السبب جائز لسنة ولسنتين ألا ترى أنه لو عجل صدقة الفطر لسنتين كان جائزا فكذلك إذا عجل الزكاة عن النصاب لسنتين كان جائزا فأما إذا عجل عشر أرضه قبل أن يزرعها لم يجزه لأن العشر وإن كان مؤنة الأرض النامية فإنه لا يجب إلا باعتبار حصول الخارج فلا يتم السبب قبل الزراعة وقبل تمام السبب لا يجوز التعجيل كما لو عجل الزكاة عن الإبل والغنم قبل أن يجعلها سائمة وبعد ما زرعها جاز تعجيل العشر سواء استحصد أو لم يستحصد لأن سبب الوجوب قد تم ولم يبق إلى وجوب العشر إلا مجرد مضي الزمان فهو كتعجيل الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول فإن عجل عشر نخله قال هنا يجزيه وهو قول أبي يوسف فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إن حصل الطلع جاز التعجيل وإلا لم يجز لأن ملك النخل كملك الأرض على معنى أن العشر لا يجب فيه وإنما يجب في الخارج منه فكما لا يجوز تعجيل العشر باعتبار ملك الأرض قبل الزراعة فكذلك لا يجوز تعجيل عشر النخل قبل أن يخرج الطلع بخلاف ما إذا عجل عشر الزرع قبل أن ينعقد الحب لأن القصيل محل لوجوب العشر فيه بدليل أنه لو قصله كما هو يلزمه أداء العشر منه فلهذا جاز التعجيل باعتباره وأما النخل ليس بمحل للعشر فإنه لو قطعه كان حطبا لا شيء فيه فلا يجوز فيه تعجيل العشر باعتباره وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول لم يبق بينه وبين وجوب العشر إلا مجرد مضي الزمان فيجوز التعجيل كما يجوز التعجيل عن الزرع قبل أن ينعقد الحب وعن النصاب قبل أن يحول الحول.(3/91)
ص -48- ... قال: ولو كان في الأرض الخراجية أرض نخل أو مشجرة فلا خراج فيها لكن يوضع عليها بقدر ما تطيق ومعنى هذا أنه ليس فيها خراج الكرم ولا خراج الرطبة ولا خراج الزرع لأنها ليست بمنزلة هذه الأراضي في الانتفاع ولكن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيما وظف من الخراج اعتبر الطاقة حيث قال للذين مسحا الأراضي لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق فقالا بل حملناها ما تطيق فعرفنا أن المعتبر هو الطاقة ففي المشجرة وأرض النخل تعتبر الطاقة أيضا وذلك أن ينظر إلى غلته فإن كانت مثل غلة الرطبة فخراجها مثل خراج أرض الرطبة وإن كانت مثل غلة الكرم فخراجها كذلك.
قال: فإن عجل خراج أرضه ثم غرقت تلك السنة كلها فإنه يرد عليه ما أدى من خراجها لأنه لم يكن متمكنا من الانتفاع بها فلا يلزمه خراجها ويد الإمام في الخراج المعجل نائبة عن يد صاحب الأرض وقد بينا نظير هذا في زكاة السائمة إذا عجلها فدفعها إلى الساعي ثم هلكت السائمة والمعجل قائم في يد الساعي فإنه يرد عليه فكذلك في الخراج.
قال: فإن زرعها في السنة الثانية فإنه يحسب له ما أدى من خراجها في هذه السنة إن لم يرد عليه لأن يده نائبة في ذلك المال كيده ولا فائدة في الرد عليه ثم الاستيفاء منه.
فإن قيل: أليس أنكم قلتم في الزكاة: إذا عجلها ولم تجب عليه الزكاة في ذلك الحول فإن المعجل لا يجزئ عما يلزمه في حول آخر؟.
قلنا: ذلك فيما إذا دفعها إلى الفقير فتتم الصدقة تطوعا عند مضي الحول وهنا لا يتم المؤدى خراجا في الحول الأول ولكن له حق الاسترداد فيحسب ذلك له من خراجه في الحول الثاني.(3/92)
قال: فإن أجر أرضه سنين فغرقت سنة فلم يفسخ القاضي الإجارة فلا أجر عليه حتى ينضب الماء عنها ولا خراج على ربها في السنة التي غرقت فيها لأن وجوب كل واحد منهما باعتبار التمكن من الانتفاع وقد انعدم إلا أن فرق ما بينهما أن الأجر يجب للمدة التي مضت قبل أن تغرق والخراج لا يجب لأن الأجر عوض يجب شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة فأما الخراج إنما يجب جملة واحدة باعتبار التمكن من الانتفاع ولم يوجد ذلك حين غرقت الأرض وتكون الإجارة على حالها لأن تعذر الانتفاع بالأرض مع بقائها بعارض على شرف الزوال فتبقى الإجارة ما لم يفسخ القاضي العقد فإن فسخ القاضي العقد في تلك الحالة فإنها لا تعود الإجارة مستقبلة لأنه قضى بفسخ العقد والسبب الموجب له قائم وهو بمنزلة العبد المستأجر إذا أبق فإن لم يفسخ القاضي العقد حتى عاد كانت الإجارة باقية وإن فسخ القاضي العقد بينهما لم تعد الإجارة بعد ذلك وإن عاد من إباقه.
قال: ولو أن صبيا أدى أبوه عشر أرضه أو خراجها أو أدى ذلك وصيه فهما ضامنان وإنما أراد ما إذا أديا العشر إلى الفقراء أو الخراج إلى المقاتلة لأن حق الأخذ فيهما للسلطان،(3/93)
ص -49- ... فلا يسقط عن الصبي بأدائها إلى الفقراء أو المقاتلة فأما إذا أديا إلى السلطان فلا ضمان عليهما وكيف يضمنا والسلطان يطالبهما بذلك ويجبرهما على الأداء ثم بين مصارف الصدقات والعشر والخراج والخمس والجزية وما يؤخذ من أهل نجران ومن بني تغلب وقد بينا جميع ذلك في كتاب الزكاة.
قال: فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة وحال عليها الحول فعليه فيها الزكاة وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت الغنم المأخوذة في الزكاة في يد الإمام وهي سائمة فحال عليها الحول لأن هناك لا فائدة في إيجاب الزكاة فإن مصرف الواجب والموجب فيه واحد وهنا في إيجاب الزكاة فائدة فإن مصرف الموجب فيه المقاتلة ومصرف الواجب الفقراء فكان الإيجاب مفيدا فلهذا تجب الزكاة.
قال: الشيخ الإمام الأجل رحمه الله تعالى وفي هذا الفصل نظر فإن الزكاة لا تجب إلا باعتبار الملك والمالك ولهذا لا تجب في سوائم الوقف ولا في سوائم المكاتب ويعتبر في إيجابها صفة الغنى للمالك وذلك لا يوجد هنا إذا اشتراها الإمام بمال الخراج للمقاتلة فلا تجب فيها الزكاة إلا أن يكون مراده أنه اشتراها لنفسه فحينئذ تجب عليه الزكاة باعتبار وجود المالك وصفة الغنى له.
قال: وإن كان للرجل خمسة وعشرون بعيرا حال عليها الحول ثم استفاد عشرة أبعرة فضمها معها ثم ضاع منها عشر من الابل لا يعلم من أيها هي فعليه ثلاث من الغنم فيها والقياس في ذلك أن يكون عليه خمسة أسباع بنت مخاض.(3/94)
وجه القياس: أن الجملة كانت خمسة وثلاثين فحين ضاع منها عشرة يجعل ما ضاع مما فيه الزكاة ومما لا زكاة فيه بالحصة فيكون خمسة أسباع ما ضاع من مال الزكاة وسبعاه مما لا زكاة فيه وخمسة أسباع العشرة سبعة وسبع وقد كان وجب عليه بنت مخاض في خمسة وعشرين ضاع منها سبعة وسبع وبقي منها سبعة عشر وستة أسباع خمسة وعشرين فإن كل سبع من خمسة وعشرين ثلاثة وأربعة أسباع فإذا اجتمعت خمس مرات ثلاثة وأربعة أسباع يكون سبعة عشر وستة أسباع فلهذا كان الواجب فيه خمسة أسباع بنت مخاض ولكنه استحسن فقال الشرع أوجب الغنم عند قلة الإبل وإن لم يكن بينهما مجانسة لدفع الضرر عن صاحب المال بإيجاب الشقص عليه كما يدفع الضرر عنه في الابتداء فيجعل الهلاك من مال الزكاة كأن لم يكن فكأن في ملكه سبعة عشر بعيرا وستة أسباع فعليه فيها ثلاثة من الغنم.
ولكن وجه القياس أقوى لأن معنى دفع الضرر معتبر في الابتداء فأما في حالة البقاء لا يعتبر ولكن يبقى من الواجب بقدر ما بقي من المال ألا ترى أنه لا يعتبر النصاب في البقاء بخلاف الابتداء وقد كان الواجب عند تمام الحول بنت مخاض فلا معنى للتحويل إلى الغنم عند هلاك بعض المال فعرفنا أن وجه القياس أقوى فلهذا فرع على وجه القياس فقال: إن(3/95)
ص -50- ... عرف خمسة من الإبل فعليه فيها خمس بنت مخاض وفي الباقية أربعة أخماس ثلثي بنت مخاض أما وجوب خمس بنت مخاض في الخمسة ظاهر لأنه قد وجب بنت المخاض في خمسة وعشرين فيكون في خمسة خمسها ثم بقي من مال الزكاة عشرون وما لا زكاة فيه عشرة والهالك عشرة فثلث الهالك مما لا زكاة فيه وثلثاه مما فيه الزكاة وهو ستة وثلثان فإذا نقصنا ذلك من العشرين بقي ثلث عشر وثلث وقد كان عليه ثلثا بنت مخاض في ستة عشر وثلثان لأنها ثلثا خمسة وعشرين وثلاثة عشر وثلث يكون أربعة أخماسه فإن كل خمس يكون ثلاثة وثلث فلهذا قال في الباقية أربعة أخماس ثلثي بنت مخاض.
ولو كان له خمسة وعشرون بعيرا فخلطها بمثلها بعد الحول بيوم ثم ضاع نصفها فعليه في الباقي نصف بنت مخاض لأن نصف الهالك من مال الزكاة ونصفه مما لا زكاة فيه وإن ما بقي نصف مال الزكاة فلهذا قال عليه نصف بنت مخاض في القياس وينبغي على طريقة الاستحسان أن يكون عليه في الباقي شاتان لأن الهالك يجعل كأن لم يكن والباقي من مال الزكاة اثني عشر ونصف.
ولكن وجه القياس أقوى كما بينا وما ذكر بعد هذا إلى آخر الكتاب من مسائل المعدن وصدقة الفطر فقد بينا جميع ذلك في كتاب الزكاة والصوم فلا معنى لإعادة ذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(3/96)
ص -51- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصوم
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السر خسي، رحمه الله تعالى الصوم في اللغة هو الإمساك ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي: واقفة. ومنه صام النهار إذا وقفت الشمس ساعة الزوال.
وفي الشريعة عبارة عن إمساك مخصوص وهو الكف عن قضاء الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج من شخص مخصوص وهو أن يكون مسلما طاهرا من الحيض والنفاس في وقت مخصوص وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة وهو أن يكون على قصد التقرب.
فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وأصل فرضية الصوم ثبت بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] ففيه بيان السبب الذي جعله الشرع موجبا وهو شهود الشهر وأمر بالأداء نصا بقوله: {فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، وذكر من جملتها الصوم وقد كان وقت الصوم في الابتداء من حين يصلي العشاء أو ينام وهكذا كان في شريعة من قبلنا.
ثم خفف الله تعالى الأمر على هذه الأمة وجعل أول الوقت من حين يطلع الفجر بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ}[البقرة: 187] قال أبو عبيد الخيط الأبيض الصبح الصادق والخيط اللون وفي حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "الخيط الأبيض والأسود بياض النهار وسواد الليل" وسبب هذا التخفيف ما ابتلي به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما ابتلي صرمة بن أنس حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم مجهودا فقال: "مالك أصبحت طلحا؟" أو قال: "طليحا" الحديث.(3/97)
ومعنى التخفيف: أن المعتاد في الناس أكلتان الغداء والعشاء فكان التقرب بالصوم في الابتداء بترك الغداء والاكتفاء بأكلة واحدة وهي العشاء ثم إن الله تعالى أبقى لهذه الأمة الأكلتين جميعا وجعل معنى التقرب في تقديم الغداء عن وقته كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحور إنه الغذاء المبارك.
والتقرب بالصوم من حيث مجاهدة النفس، والمجاهدة في هذا من وجهين: أحدهما:(3/98)
ص -52- ... بمنع النفس من الطعام وقت الاشتهاء والثاني: بالقيام وقت حبها المنام ومن المجاهدة حفظ اللسان وتعظيم ما عظم الله تعالى كما بدأ به الكتاب.
وذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى أنه كان يكره أن يقول الرجل جاء رمضان وذهب رمضان ولكن ليقل جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان قال لا أدري لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى فكأنه ذهب في هذا إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى" وفي رواية "ولكن عظموه كما عظمه الله تعالى". واختار بعض مشايخنا قول مجاهد في هذا فقال والصحيح من المذهب أنه يكره ذلك لأن محمدا رحمه الله تعالى لم يبين مذهب نفسه ولا روى خبرا بخلاف قول مجاهد وقالوا في بيان المعنى أنه مشتق من الإرماض وهو الإحراق والمحرق للذنوب المذهب لها هو الله تعالى والذي عليه عامة مشايخنا أنه لا بأس بذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة". وقال: "من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وقال "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، وليس فيها ذكر رمضان وإثبات الاسم لا يكون بالآحاد وإنما يكون بالمتواتر والمشاهير ولو كان من أسماء الله تعالى فهو اسم مشترك كالحكيم والعالم ولا بأس بأن يقال جاء الحكيم والعالم والمراد به غير الله تعالى.
قال: رجل تسحر وقد طلع الفجر وهو لا يعلم به في شهر رمضان ومراده الفجر الثاني فبطلوع الفجر الأول الذي تسميه العرب ذنب السرحان لا يدخل وقت الصوم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل وكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير"، المنتشر. وإذا تبين أن تسحره كان بعد طلوع الفجر الثاني فسد صومه إلا على قول بن أبي ليلى فإنه يقيسه على الناسي بناء على أصله أن المخصوص من القياس بالنص يقاس عليه غيره(3/99)
وعندنا المخصوص من القياس بالنص لا يقاس عليه فإن قياس الأصل يعارضه ولا يلحق به إلا ما كان في معناه من كل وجه وهذا ليس في معنى الناسي لأن الاحتراز عن هذا الغلط ممكن في الجملة بخلاف النسيان ثم فساد صومه لفوات ركن الصوم وهو الإمساك وعليه الإمساك في بقية يومه قضاء لحق الوقت فإن الإمساك في نهار رمضان عند فوات الصوم مشروع. قال صلى الله عليه وسلم: "ألا من أكل"، فلا يأكل بقية يومه وعليه قضاء هذا اليوم لأن فوات الأداء بعد تقرر السبب الموجب له فيضمنه بالمثل بما هو مشروع له ولا كفارة عليه لأنه معذور وكفارة الفطر عقوبة لا تجب إلا على الجاني. قال صلى الله عليه وسلم: "من أفطر في نهار رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر والذي أفطر وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم تبين أنها لم تغب فعليه مثل هذا"، وفيه حديث عمر رضي الله عنه عنه حين أفطر مع الصحابة(3/100)
ص -53- ... يوما فلما صعد المؤذن المأذنة قال: الشمس يا أمير المؤمنين قال بعثناك داعيا ولم نبعثك راعيا ما تجانفنا لإثم وقضاء يوم علينا يسير.
قال: رجل أصبح في شهر رمضان جنبا فصومه تام إلا على قول بعض أصحاب الحديث يعتمدون فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من أصبح جنبا فلا صوم له" محمد صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة قاله.
ولنا: قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}[البقرة: 187] وإذا كانت المباشرة في آخر جزء من أجزاء الليل مباحة فالاغتسال يكون بعد طلوع الفجر ضرورة وقد أمر الله تعالى بإتمام الصوم وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبحت جنبا وأنا أريد الصوم فقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا ربما أصبح جنبا وأنا أريد الصوم"، فقال: لست كأحدنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إني لأرجو أن أكون أعلمكم بما يبقى".
ولما بلغ عائشة حديث أبي هريرة قالت رحم الله أبا هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في رمضان فذكر قولها لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقال: هي أعلم، حدثني به الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنه وكان يومئذ ميتا ثم تأويل الحديث من أصبح بصفة توجب الجنابة وهو أن يكون مخالطا أهله وإن احتلم نهارا لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام".(3/101)
قال: وإن ذرعه القيء لم يفطر لما روينا ولقول بن عباس رضي الله تعالى عنه الصوم مما دخل وإن تقيأ متعمدا فعليه القضاء لحديث علي رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء" ولأن فعله يفوت ركن الصوم وهو الإمساك ففي تكلفه لا بد أن يعود شيء إلى جوفه ولا كفارة عليه إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول كل مفطر غير معذور فعليه الكفارة ولم يفصل في ظاهر الرواية بين مليء الفم وما دونه وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فرق بينهما وهو الصحيح فإن ما دون مليء الفم تبع لريقه فكان قياس ما لو تجشأ وملء الفم لا يكون تبعا لريقه ألا ترى أنه ناقض لطهارته فإن عاد إلى جوفه أو أعاده فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إذا ذرعه القيء فرده وهو يستطيع أن يرمي به فعليه القضاء وروى بن مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه إذا ذرعه القيء فكان ملء فيه أو أكثر فعاد إلى جوفه فسد صومه تعمد ذلك أو لم يتعمد.
والمشهور أن فيه خلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فمحمد اعتبر الصنع في طرف الإخراج أو الإدخال لأنه يفوت به الإمساك وأبو يوسف يعتبر انتقاض الطهارة ليستدل(3/102)
ص -54- ... به على أنه ليس بتبع لريقه حتى إذا ذرعه القيء دون ملء الفم وعاد بنفسه لم يفسد صومه بالاتفاق وإن أعاده فسد صومه عند محمد ولم يفسد عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وإن كان ملء الفم فعاد بنفسه فسد صومه عند أبي يوسف ولم يفسد عند محمد وإن أعاده فسد صومه بالاتفاق وإن تقيأ أقل من ملء فمه فإن عاد بنفسه يفسد صومه عند محمد ولم يفسد صومه عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وإن أعاده ففيه روايتان عن أبي يوسف في إحداهما لا يفسد صومه لأنه ليس بناقض لطهارته وفي الأخرى يفسد صومه لكثرة صنعه في الإدخال والإخراج جميعا فكان قياس ملء الفم.
قال: وإن احتجم الصائم لم يضره إلا على قول أصحاب الحديث يستدلون فيه بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمعقل بن يسار وهو يحتجم في رمضان فقال: "افطر الحاجم والمحجوم".
ولنا: حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال مر بنا أبو طيبة في بعض أيام رمضان فقلنا: من أين جئت؟ فقال: حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "أفطر الحاجم والمحجوم", شكى الناس إليه الدم فرخص للصائم أن يحتجم وفي حديث بن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة
وتأويل الحديث الذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بهما وهما يغتابان آخر فقال صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم", أي أذهب ثواب صومهما الغيبة. وقيل الصحيح أنه غشي على المحجوم فصب الحاجم الماء في حلقه فقال صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم", أي فطره بما صنع به فوقع عند الراوي أنه قال "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم خروج الدم من البدن لا يفوت ركن الصوم ولا يحصل به اقتضاء الشهوة وبقاء العبادة ببقاء ركنها.(3/103)
قال: وإذا طهرت الحائض في بعض نهار رمضان لم يجزها صومها في ذلك اليوم لانعدام الأهلية للأداء في أوله وعليها الامساك عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى عنه فالأصل عنده أن من كان مباحا له الإفطار في أول اليوم ظاهرا وباطنا لا يلزمه الإمساك فيه في بقية اليوم لأن وجوب الإمساك في يوم واحد لا يتجزأ كوجوب الصوم وعلى هذا الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم والمريض إذا بريء والمسافر إذا قدم مصره والمجنون إذا أفاق في بعض النهار لا يلزمهم الإمساك عنده بخلاف يوم الشك إذا تبين أنه من رمضان والمتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم به لأن الأكل كان مباحا له باطنا
والأصل عندنا أن من صار في بعض النهار على صفة لو كان عليها في أول النهار يلزمه الصوم فعليه الإمساك في بقية النهار لأن الامساك مشروع خلفا عن الصوم عند فواته لقضاء حق الوقت ولأنه لو أكل ولا عذر به اتهمه الناس والتحرز عن مواضع التهمة واجب.
قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم". وقال علي،(3/104)
ص -55- ... رضي الله تعالى عنه إياك وما يقع عند الناس إنكاره وفي رواية ما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا يطيق أن يوسعه عذرا وإن أكلت لم يلزمها شيء لأن الإمساك لحق الوقت وقد فات على وجه لا يمكن تداركه وعليها قضاء هذا اليوم مع سائر أيام الحيض لما روى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها ما بال إحدانا تقضي صيام أيام الحيض ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت كنا على عهد رسول صلى الله عليه وسلم نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة ولأن الحرج عذر مسقط للقضاء كما أنه مسقط للأداء وفي قضاء خمسين صلاة في كل عشرين يوما حرج بين وليس في قضاء صوم عشرة أيام في أحد عشر شهرا كبير حرج.
قال: ويقبل الصائم ويباشر إذا كان يأمن على نفسه ما سوى ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. وفي رواية كان يصيب من وجهها وهو صائم قالت وكان أملككم لأدبه أو لإربه فالأدب العضو والإرب الحاجة وجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أذنبت ذنبا فاستغفر لي قال: "وما ذنبك؟" قال هششت إلى امرأتي وأنا صائم فقبلتها. فقال: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟" فقال: لا قال: "فقم أذن", وفيه إشارة إلى معنى بقاء ركن الصوم وانعدام اقتضاء الشهوة بنفس التقبيل فإن كان لا يأمن على نفسه فالتحرز أولى لما روي أن شابا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فمنعه وسأل شيخ عن ذلك فأذن له فيه فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليبه وسلم: "قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه".
وهكذا روي عن بن عباس رضي الله عنه وفي حديثه أن الشاب قال له إن ديني ودينه واحد قال نعم ولكن الشيخ يملك نفسه وهو إشارة إلى معنى تعريض الصوم للفساد والتجاوز عن القبلة إلى غيرها(3/105)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه", وعلى هذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه كره المباشرة الفاحشة للصائم وكذلك بأن يعانقها وهما متجردان ويمس ظاهر فرجه ظاهر فرجها.
قال: وإن اشتبه شهر رمضان على الأسير تحرى وصام شهرا بالتحري لأنه مأمور بصوم رمضان وطريق الوصول إليه التحري عند انقطاع سائر الأدلة كأمر القبلة فإن تبين أنه أصاب شهر رمضان أجزأه لأنه أدرك ما هو المقصود بالتحري وإن تبين أنه صام شهرا قبله لم يجزه لأنه أدى العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزه كمن صلى قبل الوقت وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب الأم أنه إن علم به قبل مضي شهر رمضان فعليه أن يصوم وإن علم به بعد مضي شهر رمضان جاز صومه
وإن تبين أنه صام شهرا بعده جاز بشرطين إكمال العدة وتبييت النية لشهر رمضان لأنه قاض لما وجب عليه بشهود الشهر وفي القضاء يعتبر هذان الشرطان.(3/106)
ص -56- ... فإن قيل كيف يجوز ولم ينو القضاء؟
قلنا: لأنه نوى ما هو واجب عليه من الصوم في هذه السنة وهذا ونية القضاء سواء.
فإن تبين أنه صام شوال فعليه قضاء يوم الفطر لأن الصوم فيه لا يجوز عن القضاء وإن تبين أنه صام ذي الحجة فعليه قضاء يوم النحر وأيام التشريق وإن تبين أنه صام شهرا آخر فليس عليه قضاء شيء إلا أن يكون رمضان كاملا وذلك الشهر ناقصا فحينئذ يقضي يوما لإكمال العدة.
قال: وإن صام شهر رمضان تطوعا وهو يعلم به أو لا يعلم فصومه عن شهر رمضان والكلام في هذه المسألة على فصول.
أحدها: أن أصل النية شرط لأداء صوم رمضان إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وحجته أن المشروع في زمان رمضان صوم واحد لأن الزمان معيار للصوم ولا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد ومن ضرورة استحقاق الفرض فيه انتفاء غيره فما يتصور منه من الإمساك في هذا اليوم مستحق عليه لصوم الفرض فعلى أي وجه أتى به يقع من الوجه المستحق وهو نظير من وهب النصاب الذي وجبت فيه الزكاة من فقير جاز عن الزكاة وإن لم ينو.
ولنا: حرفان:
أحدهما: أن المستحق عليه فعل هو عبادة والعبادة لا تكون إلا بالإخلاص والعزيمة.
قال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".
والثاني: أن مع استحقاق الصوم عليه في هذا اليوم بقيت منافعه مملوكة له.
فإن معنى العبادة لا يحصل إلا بفعل يباشره عن اختيار ويصرف إليه ما هو مملوك له وصرف منافعه المملوكة إلى ما هو مستحق عليه على وجه يكون مختارا فيه لا يكون إلا عن قصد وعزيمة وفي مسألة هبة النصاب معنى القصد والعزيمة حصل باختيار المحل ومعنى العزيمة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع فيه لحصول المقصود وهو الثواب؟.(3/107)
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله ينكر هذا المذهب لزفر رحمه الله تعالى ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما هو قول مالك رحمه الله تعالى وحجتهما أن صوم الشهر في معنى عبادة واحدة فإن سببها واحد وهو شهود جزء من الشهر والشروع فيها في وقت واحد والخروج منها كذلك فكان بمنزلة ركعات صلاة واحدة.
ولنا: أن صوم كل يوم عبادة على حدة ألا ترى أن فساد البعض لا يمنع صحة ما بقي وأنه يتخلل بين الأيام زمان لا يقبل الصوم وهو الليل وإن انعدمت الأهلية في بعض الأيام لا يمنع تقرر الأهلية فيما بقي فكانت بمنزلة صلوات مختلفة فيستدعي كل واحد منهما نية على حدة ثم إن أطلق نية الصوم أو نوى النفل فهو صائم عن الفرض عندنا.(3/108)
ص -57- ... وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كان يعلم أن اليوم من رمضان فنوى النفل لم يكن صائما وإن كان لا يعلم جاز صومه عن النفل لأن الخطاب بأداء الفرض لا يتوجه عليه إلا بعد العلم به.
وقال ابن أبي ليلى إن كان يعلم أن اليوم من رمضان جاز صومه عن الفرض وإن كان لا يعلم لم يكن صائما لأن قصده عند عدم العلم كان إلى أداء النفل غير مشروع في هذا اليوم فهو كنية أداء الصوم في الليل وأنه لغو لكونه غير مشروع فيه.
والشافعي رحمه الله تعالى يقول إن صفة الفريضة قربة كأصل الصوم فكما لا يتأدى أصل الصوم إلا بالنية فكذلك الصفة وبانعدام الصفة ينعدم الصوم ضرورة وعلى هذا إذا أطلق النية لا يجوز والوجه الآخر أن بنية النفل صار معرضا عن الفرض لما بينهما من المغايرة فصار كإعراضه بترك النية ولا يجوز أن يصير ناويا للصوم المشروع في هذا الوقت بنية النفل لأنه لو اعتقد في المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر وعلى هذا لو أطلق النية يجوز لأنه ما صار معرضا بهذه النية.(3/109)
ولنا: حديث علي وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما كان يصومان يوم الشك وكانا يقولان لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان وإنما كانا يصومان بنية النفل لإجماعنا على أنه لا يباح صوم يوم الشك بنية الفرض فلولا أن عند التبين يجوز الصوم عن الفرض لم يكن لهذا التحرز منهما معنى ثم هذا صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل ومعناه أنه هو المشروع فيه وغيره ليس بمشروع أصلا والمتعين في زمان كالمتعين في مكان فيتناوله اسم الجنس كما يتناوله اسم النوع ومعنى القربة في أصل الصوم يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه ولا يتحقق في الصفة إذ لا اختيار له فيها فلا يتصور منه إبدال هذا الوصف بوصف آخر في هذا الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة ونية النفل لغو بالاتفاق لأن النفل غير مشروع في هذا الوقت والإعراض عن الفرض يكون بنية النفل فإذا لغت نية النفل لم يتحقق الإعراض وهو نظير الحج على قوله وبه يبطل قوله أنه لو اعتقد أنه نفل يكفر.
وعلى هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان وقع عن فرض رمضان لأن وجوب الأداء ثابت في حق المسافر حتى لو أدى جاز وإنما يفارق المقيم في الترخص بالفطر فإذا لم يترخص كان هو والمقيم سواء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول يقع صومه عما نوى لأنه ما ترك الترخص حين قصد صرف منافعه إلى ما هو الأهم وهو ما تقرر دينا في ذمته وهذه الرخصة لدفع الحرج والمشقة عنه فكان من مصالح بدنه وفي هذه النية اعتبار المصلحة أن يصوم أو يفطر فصح منه.
ولأن رمضان في حق المسافر كشعبان في حق المقيم، على معنى أنه مخير بين أن يصوم أو يفطر فإن نوى المسافر النفل ففيه روايتان: عن أبي حنيفة في رواية ابن سماعة عنه يقع(3/110)
ص -58- ... عن فرض رمضان لأنه ترك الترخص.وفي رواية الحسن يقع عن النفل لأن رمضان في حقه كشعبان في حق غيره.
فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أن صومه يقع عن رمضان لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة هو والصحيح سواء بخلاف المسافر وذكر أبو الحسن الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهو سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض.
وأما الكلام في وقت النية فلا خلاف في أن أوله من وقت غروب الشمس لأن الأصل في العبادات اقتران النية بحال الشروع في الصوم إلا أن وقت الشروع في الصوم وقت مشتبه لا يعرفه إلا من يعرف النجوم وساعات الليل وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة والمتهجد بالليل يستحب له أن ينام سحرا فلدفع الحرج جوز له بنية متقدمة على حالة الشروع وإن كان غافلا عنه عند الشروع بأن تجعل تلك النية كالقائمة حكما فأما النية بعد طلوع الفجر لصوم رمضان تجوز في قول علمائنا رحمهم الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تجوز وفي الكتاب لفظان:
أحدهما: إذا نوى قبل الزوال.
والثاني: إذا نوى قبل انتصاف النهار وهو الأصح.
فالشرط عندنا وجود النية في أكثر وقت الأداء ليقام مقام الكل.(3/111)
وإذا نوى قبل الزوال لم يوجد هذا المعنى لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت أداء الصوم من طلوع الفجر فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل", والعزم عقد القلب على الشيء فإذا لم ينعقد قلبه على الصوم من الليل لا يجزئه والمعنى فيه أن القصد والعزيمة عند أول جزء من العبادة شرط ليكون قربة كالصلاة وسائر العبادات فإذا انعدم ذلك لم يكن ذلك الجزء قربة وما بقي لا يكفي للفريضة لأن المستحق عليه صوم يوم كامل بخلاف النفل فإنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى مع أن مبنى النفل على المسامحة والفرض على الضيق ألا ترى أن صلاة النفل تجوز قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول بخلاف الفرض؟.
ولنا: حديث عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" فقال:نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم" فصام وأمر الناس بالصيام وأمر مناديا فنادى: "ألا من كان أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم".
وتأويل حديثه أن المراد هو النهي عن تقديم النية على الليل ثم هو عام دخله الخصوص بالاتفاق وهو صوم النفل فنحمله على سائر الصيامات بالقياس وهو أن هذا يوم(3/112)
ص -59- ... صوم فالإمساك في أول النهار يتوقف على أن يصير صوما بالنية قبل الزوال كالنفل وهذا لأن الصوم ركن واحد وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره فإذا اقترنت النية بأكثره ترجح جانب الوجود على جانب العدم فيجعل كاقتران النية بجميعه ثم اقتران النية بحالة الشروع ليس بشرط في باب الصوم بدليل جواز التقديم فصارت حالة الشروع هنا كحالة البقاء في سائر العبادات وإذا جاز نيته متقدمة دفعا للحرج جاز نيته متأخرة عن حالة الشروع بطريق الأولى لأنه إن لم تقترن بالشروع هنا فقد اقترنت بالأداء ومعنى الحرج في جنس الصائمين لا يندفع بجواز التقديم ففي الصائمين صبي يبلغ نصف الليل وحائض تطهر في آخر الليل فلا ينتبه إلا بعد طلوع الفجر وفي أيامه يوم الشك فلا يمكنه أن ينوي الفرض ليلا إذ لم يتبين أنه من رمضان.
وإن نوى الصوم بعد الزوال لم يجزه لانعدام الشرط في أكثر وقت الأداء فيترجح به جانب العدم ثم القرب بسبب الصوم وقع في ترك الغداء كما بينا ووقت الغداء قبل الزوال لا بعده فإذا نوى قبل الزوال كان تاركا للغداء على قصد التقرب وإذا نوى بعد الزوال لم يكن تركه الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وكذلك المسافر إذا نوى قبل الزوال وقد قدم مصره أو لم يقدم ولم يكن أكل شيئا جاز صومه عن الفرض عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى هو يقول إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقا لصوم الفرض فلم يتوقف على وجود النية ولم يستند إليه في حقه إلى أول النهار بخلاف المقيم.(3/113)
ولنا: أن المعنى الذي لأجله جوز في حق المقيم إقامة النية في أكثر وقت الأداء مقامها في جميع الوقت وجد في حق المسافر فالمسافر في هذا الوقت أسوة المقيم إنما يفارقة في الترخص بالفطر ولم يترخص به ولأن العبادة في وقتها مع ضرب نقصان أولى من تفويتها عن وقتها والمسافر والمقيم في هذا سواء وبهذا فارق صوم القضاء فإنه دين في ذمته والأيام في حقه سواء فلا يفوته شيء إذا لم نجوزه مع النقصان فلهذا اعتبرنا صفة الكمال منه.
قال: رجل أصبح صائما في رمضان قبل أن تبين أنه من رمضان ثم تبين أنه منه فصومه جائز وقد أساء حين تقدم الناس ومراده في هذا يوم الشك ومعنى الشك أن يستوي طرف العلم وطرف الجهل بالشيء وإنما يقع الشك من وجهين: إما أن غم هلال شعبان فوقع الشك أنه اليوم الثلاثون منه أو الحادي والثلاثون أو غم هلال رمضان فوقع الشك في اليوم الثلاثين أنه من شعبان أو من رمضان ولا خلاف أنه يكره الصوم فيه بنية الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين".
ولأنه حين نوى الفرض فقد اعتقد الفريضة فيما ليس بفرض وذلك كاعتقاد النفلية فيما هو فرض ولكن مع هذا إذا تبين أن اليوم من رمضان فصومه تام لأن النهي ليس لعين الصوم فلا يؤثر فيه. فأما إذا صام فيه بنية النفل فلا بأس به عندنا وهو الأفضل.(3/114)
ص -60- ... وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن وافق ذلك يوما كان يصومه أو صام قبله أياما فلا بأس به وإلا فهو مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام: يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق ويوم الشك.
ولنا حديث علي وعائشة رضي الله عنهما أنهما كانا يصومان يوم الشك كما روينا ولأن هذا اليوم من شعبان لأن اليقين لا يزال بالشك والصوم من شعبان تطوعا مندوب إليه كما في سائر أيامه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يصوم في شهر أكثر منه في شعبان فإنه كان يصومه كله وتأويل النهي أن ينوي الفرض فيه وبه نقول.
قال: إلا أن يكون أبصر الهلال وحده ورد الإمام شهادته وإنما ترد شهادته إذا كانت السماء مصحية وهو من أهل المصر فأما إذا كانت السماء مغيمة أو جاء من خارج المصر أو كان من موضع نشز فإنه تقبل شهادته عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه قال لأن تهمة الكذب إذا كان بالسماء غيم أظهر فإن الغيم مانع من الرؤية فإذا لم تقبل شهادته عند عدم المانع فعند قيامه أولى.
ولنا: حديث عكرمة على ما رويناه ثم هو مخبر بأمر ديني وهو وجوب أداء الصوم على الناس فوجب قبول خبره إذا لم يكذبه الظاهر كمن روى حديثا وهذا الظاهر لا يكذبه فلعله تقشع الغيم عن موضع القمر فاتفقت له الرؤية دون غيره بخلاف ما إذا كانت السماء مصحية لأن الظاهر يكذبه فإنه مساو للناس في الموقف والمنظر وحدة البصر وموضع القمر فإذا رد الإمام شهادته فعليه أن يصوم ولا يفطر إلا على قول الحسن بن حي يعتمد ظاهر قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] وقوله صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون", وهذا ليس بيوم الصوم في حق الجماعة فكذلك في حق الواحد.(3/115)
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما". ولأن وجوب الصوم برؤية الهلال أمر بينه وبين ربه فلا يؤثر فيه الحكم وقد كان لزمه الصوم قبل أن ترد شهادته فكذلك بعده فإن أفطر بالجماع لم تلزمه الكفارة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى هو يقول إنه متيقن أن اليوم من رمضان إذ لا طريق للتيقن أقوى من الرؤية وتيقنه لا يتغير بشك غيره ألا ترى أنه يلزمه الصوم فيه عن الفرض ويوم الشك ينهى فيه عن مثله وكما أن وجوب الصوم بينه وبين ربه فكذلك وجوب الكفارة عند الفطر.
ولنا: أنه مفطر بالشبهة لأن الإمام حين رد شهادته فقد حكم بأنه كاذب بدليل شرعي أوجب له الحكم به ولو كان حكمه هذا حقا ظاهرا وباطنا لكان يباح الفطر له فإذا كان نافذا ظاهرا يصير شبهة وكفارة الفطر عقوبة تدرأ بالشبهات حتى لا يجب على المخطئ ثم الكفارة إنما وجبت بالفطر في يوم رمضان مطلقا وهذا اليوم رمضان من وجه شعبان من وجه ألا ترى أن سائر الناس لا يلزمهم الصوم فيه ويوم من رمضان لا ينفك عن الصوم فيه قضاء أو(3/116)
ص -61- ... أداء فلم يكن هذا اليوم في معنى المنصوص من كل وجه فلو أوجبنا الكفارة فيه كان بطريق القياس على المنصوص ولا مدخل للقياس في إثبات الكفارة فأما وجوب الصوم فهو عبادة يؤخذ فيه بالاحتياط فكونه من رمضان من وجه يكفي في حقه.
قال: رجل قبل امرأته في شهر رمضان فانزل عليه القضاء ولا كفارة عليه لحديث ميمونة بنت سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال: "قد أفطر".
وتأويله أنه قد علم من طريق الوحي حصول الإنزال به ثم معنى افتضاء الشهوة قد حصل بالإنزال فانعدم ركن الصوم ولا يتصور أداء العبادة بدون ركنها ولكن لا تلزمه الكفارة لنقصان في الجناية من حيث إن التقبيل تبع وليس بمقصود بنفسه وفي النقصان شبهة العدم إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يوجب الكفارة على كل مفطر غير معذور وكذلك المرأة إن أنزلت لحديث أم سليم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل فقال "إن كان منها مثل ما يكون منه فلتغتسل" أشار إلى أنها تنزل كالرجل وإذا أنزلت فحكمها حكم الرجل.
قال: ومن أكل أو شرب أو جامع ناسيا في صومه لم يفطره ذلك والنفل والفرض فيه سواء وقال مالك رحمه الله تعالى في الفرض يقضى وهو القياس على ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الجامع الصغير لولا قول الناس لقلت يقضى أي لولا روايتهم الأثر أو لولا قول الناس إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى خالف الأثر ووجه القياس أن ركن الصوم ينعدم بأكله ناسيا كان أو عامدا وبدون الركن لا يتصور أداء العبادة والنسيان عذر بمنزلة الحيض والمرض فلا يمنع وجوب القضاء عند انعدام الأداء.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أكلت وشربت في رمضان ناسيا وأنا صائم فقال: "إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك".(3/117)
وهكذا روي عن علي رضي الله عنه. وقال سفيان الثوري رضي الله عنه إن أكل أو شرب لم يفطر وإن جامع ناسيا أفطر قال لأن الحديث ورد في الأكل والشرب والجماع ليس في معناه لأن زمان الصوم زمان وقت للأكل عادة فيبتلى فيه بالنسيان وليس بوقت الجماع عادة فلا تكثر فيه البلوى ولكنا نقول قد ثبت بالنص المساواة بين الأكل والشرب والجماع في حكم الصوم فإذا ورد نص في أحدهما كان ورودا في الآخر باعتبار هذه المقدمة كمن يقول لغيره إجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما كان ذلك تنصيصا على أنه يعطى عمرا أيضا درهما فإن تذكر فنزع نفسه من ساعته فصومه تام وكذا الذي طلع عليه الفجر وهو مخالط لأهله إذا نزع نفسه من ساعته فصومه تام وعلى قول زفر رحمه الله تعالى فيهما جميعا يقضى الصوم لوجود جزء من المواقعة وإن قل بعد التذكر وطلوع الفجر.(3/118)
ص -62- ... ولنا: أنه لم يوجد بعد التذكر وطلوع الفجر إلا الامتناع من قضاء الشهوة وذلك ركن الصوم فلا يفسد الصوم.
وروى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في نوادر الصوم أنه قال في الذي طلع عليه الفجر يقضى بخلاف الناسي والفرق أن اقتران المواقعة بطلوع الفجر مانع من انعقاد الصوم وفي الناسي صومه كان منعقدا ولم يوجد ما يرفعه وهو اقتضاء الشهوة بعد التذكر فبقي صائما فإن أتم الفعل فعليه القضاء دون الكفارة إلا على قول الشافعي رحمه الله تعالى فإنه يجعل استدامة الفعل بعد التذكر وطلوع الفجر كالإنشاء.
ولنا: أن الشبهة قد تمكنت في فعله من حيث أن ابتداءه لم يكن جناية.
وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في الذي طلع عليه الفجر إذا أتم الفعل فعليه الكفارة بخلاف ما إذا تذكر لأن آخر الفعل من جنس أوله وفي الذي طلع عليه الفجر أول فعله عمد فكذلك آخره بخلاف الناسي فإن ذكر الناسي فلم يتذكر وأكل مع ذلك فقد ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول زفر لا يفسد صومه لبقاء المانع وهو النسيان وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يفسد صومه لأن الاحتياط قد لزمه حين ذكر وعدم التذكر بعد ما ذكر نادر فلا يعتبر.
قال: وإذا تمضمض الصائم فسبقه الماء فدخل حلقه فإن لم يكن ذاكرا لصومه فصومه تام كما لو شرب وإن كان ذاكرا لصومه فعليه القضاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ثم عذر هذا أبين من عذر الناسي فإن الناسي قاصد إلى الشرب غير قاصد إلى الجناية على الصوم وهذا غير قاصد إلى الشرب ولا إلى الجناية على الصوم فإذا لم يفسد الصوم ثمة فهنا أولى.(3/119)
ولنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: "بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما". فالنهي عن المبالغة التي فيها كمال السنة عند الصوم دليل على أن دخول الماء في حلقه مفسد لصومه ولأن ركن الصوم قد انعدم مع عذر الخطأ وأداء العبادة بدون ركنها لا يتصور وهكذا القياس في الناسي ولكنا تركناه بالسنة وهذا ليس في معناه لأن التحرز عن النسيان غير ممكن والتحرز عن مثل هذا الخطأ ممكن ثم ركن الصوم قد انعدم معنى فإن الذي حصل له وإن كان مخطئا قد انعدم صورة لا معنى بأن يتناول حصاة فسد صومه فإذا انعدم معنى أولى لأن مراعاة المعاني في باب العبادات أبين من مراعاة الصور وكان بن أبي ليلى يقول إن كان وضوؤه فرضا لم يفسد صومه وإن كان نفلا فسد صومه لهذا وقال بعض أهل الحديث إن كان في الثلاث لا يفسد صومه وإن جاوز الثلاث يفسد صومه ومنهم من فصل بين المضمضة والاستنشاق في الوضوء والجنابة والاعتماد على ما ذكرنا وتأويل الحديث أن المراد رفع الاثم دون الحكم وبه نقول.(3/120)
ص -63- ... قال: والاكتحال لا يضر الصائم وإن وجد طعمه في حلقه وكان إبراهيم النخعي يكره للصائم أن يكتحل وبن أبي ليلى كان يقول إن وجد طعمه في حلقه فطره لوصول الكحل إلى باطنه.
ولنا: حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل وهو صائم
وعن أبي مسعود قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء من بيت أم سلمة وعيناه مملوءتان كحلا كحلته أم سلمة.
وصوم يوم عاشوراء في ذلك الوقت كان فرضا ثم صار منسوخا ثم ما وجد من الطعم في حلقه أثر الكحل لا عينه كمن ذاق شيئا من الأدوية المرة يجد طعمه في حلقه فهو قياس الغبار والدخان
وإن وصل عين الكحل إلى باطنه فذلك من قبل المسام لا من قبل المسالك إذ ليس من العين إلى الحلق مسلك فهو نظير الصائم يشرع في الماء فيجد برودة الماء في كبده وذلك لا يضره وعلى هذا إذا دهن الصائم شاربه.
فأما السعوط والوجور يفطره لوصوله إلى أحد الجوفين إما الدماغ أو الجوف والفطر مما يدخل ولا كفارة عليه لأن معنى الجناية لا يتم به فإن اقتضاء الشهوة لا يح صل به إلا في رواية هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن عليه الكفارة إذا لم يكن به عذر.
والحقنة تفطر الصائم لوصول المفطر إلى باطنه وهذا بخلاف الرضيع إذا احتقن بلبن امرأة لا يثبت به حرمة لرضاع إلا في رواية شاذة عن محمد رحمه الله تعالى لأن ثبوت حرمة الرضاع بما يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم وذلك بما يحصل إلى أعالي البدن لا إلى الأسافل فأما الفطر يحصل بوصول المفطر إلى باطنه لانعدام الامساك به.
والإقطار في الأذن كذلك يفسد لأنه يصل إلى الدماغ والدماغ أحد الجوفين فأما الإقطار في الإحليل لا يفطره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويفطره عند أبي يوسف وحكى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه توقف فيه.(3/121)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا صب الدهن في إحليله فوصل إلى مثانته فسد صومه وهذا الاختلاف قريب فقد وقع عند أبي يوسف رحمه الله تعالى أن من المثانة إلى الجوف منفذ حتى لا تقدر المرأة على استمساك البول والأمر على ما قالا فإن أهل الطب يقولون البول يخرج رشحا وما يخرج رشحا لا يعود رشحا وبعضهم يقول هناك منفذ على صورة حرف الخاء فيخرج منه البول ولا يتصور أن يعود فيه شيء مما يصب في الإحليل فأما الجائفة والآمة إذا داواهما بدواء يابس لم يفطره وإن دواهما بدواء رطب فسد صومه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يفسد في قولهما والجائفة اسم لجراحة وصلت إلى الجوف والآمة اسم لجراحة وصلت إلى الدماغ فهما يعتبران الوصول إلى الباطن من مسلك هو خلقة في البدن لأن المفسد للصوم ما ينعدم به الإمساك المأمور به وإنما يؤمر بالإمساك لأجل الصوم من مسلك هو خلقة دون الجراحة العارضة.(3/122)
ص -64- ... وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المفسد للصوم وصول المفطر إلى باطنه فالعبرة للواصل لا للمسلك وقد تحقق الوصول هنا وفي ظاهر الرواية فرق بين الدواء الرطب واليابس وأكثر مشايخنا رضي الله عنهم أن العبرة بالوصول حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه وإن علم أن الرطب لم يصل إلى جوفه لا يفسد صومه عنده إلا أنه ذكر اليابس والرطب بناء على العادة فاليابس إنما يستعمل في الجراحة لاستمساك رأسها به فلا يتعدى إلى الباطن والرطب يصل إلى الباطن عادة فلهذا فرق بينهما والدليل على أن العبرة لما قلنا إن اليابس يترطب برطوبة الجراحة.
قال: رجل أصبح في أهله صائما ثم سافر لم يفطر لأنه حين أصبح مقيما وجب عليه أداء الصوم في هذا اليوم حقا لله تعالى وإنما أنشأ السفر باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه وإن أفطر فلا كفارة عليه لتمكن الشبهة بسبب اقتران المبيح للفطر فإن السفر مبيح للفطر في الجملة فصورته وإن لم تبح تمكن شبهة وكفارة الفطر تسقط بالشبهة وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في رواية البويطي أنه يلزمه الكفارة اعتبارا لآخر النهار بأوله وهذا بعيد فإن في أوله يتعرى فطره عن الشبهة وبعد السفر يقترن السبب المبيح بالفطر ولو وجد هذا السبب في أول النهار لكان الفطر يباح له فإذا وجد في آخره يصير شبهة.(3/123)
قال: رجل أصبح صائما متطوعا ثم أفطر عليه القضاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وحجته حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها فضل سؤره فشربت ثم قالت إني كنت صائمة لكن كرهت أن أرد سؤرك فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان صومك عن قضاء فاقضي يوما وإن كان صومك تطوعا فإن شئت فاقضيه وإن شئت فلا تقضيه". ولأن المتنفل متبرع بما ليس عليه فلا يلزمه ما لم يتبرع به ولكنه مخير في آخره كما كان مخيرا في أوله كمن شرع في صلاة التطوع ينوي أربعا فصلى ركعتين كان مخيرا في الشفع الثاني وهذا بخلاف الحج فإن بتبرعه هناك لا يلزمه شيء إنما تعذر الخروج عما شرع فيه فيلزمه الإتمام حتى لو تيسر عليه الخروج بالإحصار لم يلزمه القضاء عندي وبخلاف الناذر فإنه ملتزم ما ليس عليه فكان نظير النذر من المعاملات الكفالة ونظير الشروع في الهبة والإقرار.
ولنا: حديث عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى لنا حيس فأكلنا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتدرنا لنسئله فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها سباقة إلى الخيرات فقال صلى الله عليه وسلم: "إقضيا يوما مكانه". فإن كان هذا بعد حديث أم هانئ كان ناسخا له وإن كان قبله فتبين به أن المراد بقوله: "إن شئت فاقضيه وإن شئت فلا تقضيه", تأخير القضاء وتعجيله أو تبين به أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أم هانئ بإسقاط القضاء عنها بقصدها التبرك بسؤر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنها غفلت عن الصوم لفرط قصدها إلى التبرك.(3/124)
ص -65- ... كما أن أبا طيبة لما حجم النبي صلى الله عليه وسلم شرب دمه فقال صلى الله عليه وسلم: "حرم الله جسدك على النار".
وشرب الدم لا يوجب هذا ولكنه لفرط المحبة غفل عن الحرمة فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر.
ولأنه باشر فعل قربة مقصودة فيجب عليه إتمامها ويلزمه القضاء بالإفساد كمن أحرم بحج التطوع ولا نقول إن تبرعه بما ليس عليه يلزمه ما لم يتبرع به ولكن وجب عليه حفظ المؤدى لكونه قربة فإن التحرز عن إبطال العمل واجب قال الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 33].
كما أن الوفاء بالعهد واجب فكما يلزمه الأداء بعد النذر لأن الوفاء به فكذلك يلزمه أداء ما بقي لأن التحرز عن إبطال العمل فيه بخلاف الصلاة فإنه ليس في الامتناع من الشفع الثاني إبطال الشفع الأول ولأنه بالشروع تعين هذا اليوم لأداء الصوم المشروع فيه وله ولاية التعيين فيتعين بتعيينه والتحق بالزمان المتعين المصوم شرعا والإفساد في ذلك الزمان يوجب القضاء فهذا مثله وهو كالناذر لما كان له ولاية الايجاب التحق ذلك بالواجب شرعا حتى إذا انعدم الأداء منه لزمه القضاء فهذا مثله.
وهذه المسألة تبنى على أصل وهو أن بعد الشروع لا يباح له الإفطار بغير عذر عندنا فيصير بالافطار جانيا فيلزمه القضاء وعند الشافعي رحمه الله تعالى يباح له الافطار من غير عذر واختلفت الروايات في الضيافة هل تكون عذرا فروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه عذر مبيح للفطر وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يكون عذرا وروى بن مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يكون عذرا وهو الأظهر لما روي أن رسول الله عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فامتنع رجل من الأكل فقال إني صائم فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما دعاك أخوك لتكرمه فافطر واقض يوما مكانه".(3/125)
ووجه الرواية الأخرى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل"، أي فليدع لهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية"، فقيل أو تشرك أمتك بعدك فقال: "لا ولكنهم يراءون بأعمالهم", فقيل وما الشهوة الخفية فقال: "أن يصبح أحدهم صائما ثم يفطر على طعام يشتهيه". وسواء كان الفطر بعذر أو بغير عذر فالقضاء واجب وكذلك سواء حصل الفطر بصنعه أو بغير صنعه حتى إذا حاضت الصائمة تطوعا فعليها القضاء في أصح الروايتين.
وفي كتاب الصلاة إذا افتتح التطوع بالتيمم ثم أبصر الماء فعليه القضاء والخروج هنا ما كان بصنعه فتبين أن الصحيح أن الشروع ملزم للإتمام كالنذر موجب للأداء وأنه متى تعذر الإتمام بعد صحة الشروع فعليه القضاء.
قال: رجل أغمي عليه في شهر رمضان حين غربت الشمس فلم يفق إلا بعد الغد فليس عليه قضاء اليوم الأول لأنه لما غربت الشمس وهو مفيق فقد صح منه نية صوم الغد وركن الصوم هو الإمساك والإغماء لا ينافيه فتأدى صومه في اليوم الأول لوجود ركنه(3/126)
ص -66- ... وشرطه وعليه قضاء اليوم الثاني لأن النية في اليوم الثاني لم توجد وقد بينا أن صوم كل يوم يستدعي نية على حدة وبمجرد الركن بدون الشرط لا تتأدى العبادة.
قال: وإذا نظر إلى فرج امرأته فأنزل فصومه تام ما لم يمسها وقال مالك رحمه الله تعالى إن نظر مرة فكذلك وإن نظر مرتين فسد صومه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة فإنما الأولى لك والأخرى عليك". ولأن النظر الأول يقع بغتة فلا ينعدم به الإمساك فإذا تعمد النظر بعد ذلك حتى أنزل فقد فوت ركن الصوم.
ولنا: أن النظر كالتفكر على معنى أنه مقصور عليه غير متصل بها ولو تفكر في جمال امرأة فأنزل لم يفسد صومه فكذلك إذا نظر إلى فرجها ولو كان هذا مفسدا للصوم لم يشترط فيه التكرار كالمس وتأويل الحديث المؤاخذة بالمأثم إذا تعمد النظر إلى ما لا يحل وإن جامعها متعمدا فعليه أن يتم صوم ذلك اليوم بالإمساك تشبها بالصائمين وعليه قضاء ذلك اليوم والكفارة أما وجوب القضاء فقول جمهور العلماء وقال الأوزاعي ليس عليه القضاء واستدل بحديث الأعرابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة له ولم يبين حكم القضاء وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقال صلى الله عليه وسلم: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" وليس على المظاهر سوى الكفارة.(3/127)
ولنا: أنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر وقد انعدم الأداء منه فيلزمه القضاء كما لو كان معذورا وفوت ما لزمه من الأداء فيضمنه بمثل من عنده كما في حقوق العباد وإنما أراد بقوله: "فعليه ما على المظاهر", بسبب الفطر وبه نقول أن وجوب القضاء ليس بسبب الفطر وإنما بين للأعرابي ما كان مشكلا عليه ووجوب القضاء غير مشكل فأما وجوب الكفارة قول جمهور العلماء وكان سعيد بن جبير يقول لا كفارة على المفطر في رمضان لأن في آخر حديث الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال له: "كلها أنت وعيالك", فانتسخ بهذا حكم الكفارة.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" وحديث الأعرابي حين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت فقال: "ماذا صنعت"؟ فقال: واقعت أهلي في رمضان نهارا متعمدا فقال: "اعتق رقبة", فضرب بيده على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا رقبتي هذه فقال صلى الله عليه وسلم: "صم شهرين متتابعين", فقال: وهل أتيت ما أتيت إلا من الصوم؟ فقال: "اطعم ستين مسكينا", فقال لا أجد فقال: "اجلس", فجلس فأتى بصدقات بني زريق فقال: "خذ خمسة عشر صاعا فتصدق بها على المساكين". فقال: على أهل بيت أحوج إليها مني ومن عيالي والله ما بين لابتي المدينة أحوج إليها مني ومن عيالي فقال صلى الله عليه وسلم: "كلها أنت وعيالك", زاد في بعض الروايات: "تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك".
فإن ثبتت هذه الزيادة ظهر أنه كان مخصوصا وإن لم تثبت هذه الزيادة لا يتبين به انتساخ الكفارة ولكنه عذره في التأخير للعسرة ثم الكفارة مرتبة عند علمائنا والشافعي,(3/128)
ص -67- ... رحمهم الله تعالى وقال مالك رحمه الله تعالى ثبتت على سبيل التخيير لحديث سعد بن أبي وقاص أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أفطرت في رمضان فقال: "اعتق رقبة أو صم شهرين أو أطعم ستين مسكينا".
ولنا: ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليه ما على المظاهر". وتبين بهذا أن المراد بالحديث الآخر بيان ما به تتأدى الكفارة في الجملة لا بيان التخيير ثم بعد العجز عن العتق كفارته بالصوم إلا على قول الحسن البصري فإنه يقول عليه بدنة وجعل هذا قياس المجامع في الإحرام ولكنا نقول لا مدخل للقياس في إثبات ما به تتأدى الكفارة إنما طريق معرفته النص وليس في شيء من النصوص ذكر البدنة في كفارة الفطر فكما لا مدخل للقياس فيما تتأدى به العبادات فكذا فيما يجب بالجناية فيها.
والصوم مقدر بالشهرين بصفة التتابع إلا على قول بن أبي ليلى فإنه يقول إن شاء تابع وإن شاء فرق بالقياس على القضاء وما روينا من الآثار حجة عليه وكان ربيعة الرازي يقول الصوم مقدر باثني عشر يوما قال لأن السنة اثني عشر شهرا فصوم كل يوم يقوم مقام اثني عشر يوما وبعض الزهاد يقول الصوم مقدر بألف يوم فإن في رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر فإذ فوت صوم يوم منه فعليه أن يصوم ألف يوم ليقوم مقامه ولسنا نأخذ بشيء من هذا فإن الاعتماد على الآثار المشهورة كما روينا وهذه آثار تلقتها العلماء بالقبول والعمل بها وإثبات الكفارة بمثلها جائز.(3/129)
وكما تجب الكفارة على الرجل تجب عليها إن طاوعته وللشافعي رحمه الله تعالى ثلاثة أقاويل قول مثل هذا وقول آخر إن الكفارة عليه دونها وقول آخر فصل بين البدني والمالي فقال عليها الكفارة بالصوم ويتحمل الزوج عنها إذا كان ماليا واستدل بحديث الأعرابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة في جانبه لا في جانبها فلو لزمتها الكفارة لبين ذلك كما بين الحد في جانبها في حديث العسيف ثم سبب الكفارة المواقعة المعدمة للصوم والرجل هو المباشر لذلك دونها إذ هي محل المواقعة وليست بمباشرة للمواقعة فكان فعلها دون فعل الرجل كالجماع فيما دون الفرج بخلاف الحد فإن سببه الزنى وهي مباشرة للزنا فإن الله تعالى سماها زانية وعلى القول الآخر يقول ما يتعلق بالمواقعة إذا كان بدنيا اشتركا فيه كالاغتسال وإذا كان ماليا تحمل الزوج عنها كالمهر وثمن ماء الاغتسال.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر في رمضان" وكلمة من تعم الرجال والنساء وتبين بهذا أن السبب الموجب للكفارة فطر هو جناية كاملة وهذا السبب يتحقق في جانبها كما يتحقق في جانبه فنلزمها الكفارة كما يلزمها الحد بسبب الزنى وبه تبين أن تمكينها فعل كامل فإن مع النقصان لا يجب الحد وبيان النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة في جانبه بيان في جانبها لأن كفارتهما واحدة بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان هو الجلد وفي جانبها الرجم ولا(3/130)
ص -68- ... معنى للتحمل لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو عبادة وبسبب النكاح لا يجري التحمل في العبادات والعقوبات إنما ذلك في مؤن الزوجية وإن غلبها على نفسها فعليها القضاء دون الكفارة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يفسد صومها والكلام في هذا نظير الكلام في الخاطئ وقد بيناه.
قال: وكذلك ان أكل أو شرب متعمدا فعليه القضاء والكفارة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا كفارة عليه لأن سبب وجوب الكفارة بالنص المواقعة المعدمة للصوم فلو أوجب بالأكل كان بالقياس على المواقعة ولا مدخل للقياس في الكفارة ألا ترى أنه لا تقاس دواعي الجماع على الجماع فيه ولأن الحرمة تارة تكون لأجل العبادة وتارة لعدم الملك ثم ما يتعلق بالأكل لا يتعلق بالمواقعة متى كانت الحرمة لعدم الملك فكذلك العبادة واستدل بالحج فإن ما يتعلق بالمواقعة فيه وهو فساد النسك لا يتعلق بسائر المحظورات فكذلك الصوم والجامع أن هذه عبادة للكفارة العظمى فيها فتختص بالمواقعة.(3/131)
ولنا: حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله أفطرت في رمضان فقال: "من غير مرض ولا سفر", فقال نعم فقال: "أعتق رقبة", وإنما فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤاله الفطر بما يحوجه إليه كالمرض والسفر وذكر أبو داود أن الرجل قال شربت في رمضان وقال علي رضي الله عنه إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع ولأن فطره تضمن هتك حرمة النص فكان كالفطر بالجماع وبيانه أن نص التحريم بالشهر يتناول ما يتناوله نص الإباحة بالليالي وهتك حرمة النص جناية متكاملة ثم نحن لا نوجب الكفارة بالقياس وإنما نوجبها استدلالا بالنص لأن السائل ذكر المواقعة وعينها ليس بجناية بل هو فعل في محل مملوك وإنما الجناية الفطرية فتبين أن الموجب للكفارة فطر هو جناية ألا ترى أن الكفارة تضاف إلى الفطر والواجبات تضاف إلى أسبابها والدليل عليه أنه لا تجب على الناسي لانعدام الفطر والفطر الذي هو جناية متكاملة يحصل بالأكل كما يحصل بالجماع ولأنه آلة له وتعلق الحكم بالسبب لا بالآلة ثم إيجابه في الأكل أولى لأن الكفارة أوجبت زاجرة ودعاء الطبع في وقت الصوم إلى الأكل أكثر منه إلى الجماع والصبر عنه أشد فإيجاب الكفارة فيه أولى كما أن حرمة التأفيف يقتضي حرمة الشتم بطريق الأولى ثم لأجل العبادة استوى حرمة الجماع وحرمة الأكل بخلاف حال عدم الملك فإن حرمة الجماع أغلظ حتى تزيد حرمة الجماع على حرمة الأكل وبخلاف الحج فإن حرمة الجماع فيه أقوى حتى لا يرتفع بالحلق والدليل على المساواة هنا فصل الناسي فقد جعلنا النص الوارد في الأكل حال النسيان كالوارد في الجماع فكذلك يجعل النص الوارد في إيجاب الكفارة بالمواقعة كالوارد في الأكل والدواعي تبع فلا تتكامل به الجناية.
ثم حاصل المذهب عندنا أن الفطر متى حصل بما يتغذى به أو يتداوى به تتعلق الكفارة(3/132)
ص -69- ... به زجرا فإن الطباع تدعو إلى الغذاء وكذلك إلى الدواء لحفظ الصحة أو إعادتها فأما إذا تناول ما لا يتغذى به كالتراب والحصاة يفسد صومه إلا على قول بعض من لا يعتمد على قوله فإنه يقول حصول الفطر بما يكون به اقتضاء الشهوة ولكنا نقول ركن الصوم الكف عن إيصال الشيء إلى باطنه وقد انعدم ذلك بتناول الحصاة ثم لا كفارة عليه إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه قال هو مفطر غير معذور قال وجنايته هنا أظهر إذ لا غرض له في هذا الفعل سوى الجناية على الصوم بخلاف ما يتغذى به ولكنا نقول عدم دعاء الطبع إليه يغني عن إيجاب الكفارة فيه زاجرا كما لم نوجب الحد في شرب الدم والبول بخلاف الخمر ثم تمام الجناية بانعدام ركن الصوم صورة ومعنى فانعدام معنى ما يحصل به اقتضاء الشهوة إذا انعدم لم تتم الجناية وفي النقصان شبهة العدم والكفارة تسقط بالشبهة.
قال: وإن جامعها ثانيا في الشهر فعليه كفارة واحدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى عليه كل يوم كفارة قال لأن السبب تقرر في اليوم الثاني وهو الجماع المعدم للصوم أو الفطر الذي هو جناية على الصوم فوجبت الكفارة ثم الكفارات لا تتداخل كما في سائر الكفارات فإن معنى العبادة فيها راجح حتى يفتى بها وتتأدى بما هو عبادة والتداخل في العقوبات المحضة.
ولنا: حرفان:
أحدهما: أن كمال الجناية باعتبار حرمة الصوم والشهر جميعا حتى أن الفطر في قضاء رمضان لا يوجب الكفارة لانعدام حرمة الشهر وباعتبار تجدد الصوم لا تتجدد حرمة الشهر ومتى صارت الحرمة معتبرة لإيجاب الكفارة مرة لا يمكن اعتبارها لإيجاب كفارة أخرى لأنها تلك الحرمة بعينها.
والثاني: أن كفارة الفطر عقوبة تدرأ بالشبهات فتتداخل كالحدود وبيان الوصف أن سبب الوجوب جناية محضة على حق الله تعالى والجنايات سبب لإيجاب العقوبات والدليل عليه سقوطها بعذر الخطأ بخلاف سائر الكفارات.(3/133)
قال: فإن أفطر في يوم وكفر ثم أفطر في يوم آخر فعليه كفارة أخرى إلا في رواية زفر عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فإنه يقول يكفيه تلك الكفارة لاعتبار اتحاد حرمة الشهر وهو قياس من تلى آية السجدة في مجلس وسجد ثم تلاها مرة أخرى لم تلزمه سجدة أخرى لاتحاد السبب.
وجه ظاهر الرواية: أن التداخل قبل أداء الأول لا بعده كما في الحدود إذا زنى بامرأة فحد ثم زنى بها يلزمه حد آخر وهذا أصح لأن السبب فطر هو جناية على الصوم وحرمة الشهر محل تغلظ به هذه الجناية والعبرة للأسباب دون المحال فإن جامع في رمضانين فقد ذكر في الكسائيات عن محمد رحمه الله تعالى أن عليه كفارتين لاعتبار تجدد حرمة(3/134)
ص -70- ... الشهر والصوم وأكثر مشايخنا يقولون لا اعتماد على تلك الرواية والصحيح أن عليه كفارة واحدة لاعتبار معنى التداخل.
قال: وكل صوم في القرآن لم يذكره الله متتابعا فله أن يفرقه وما ذكر متتابعا فليس له أن يفرقه أما المذكور متتابعا فصوم كفارة القتل وكفارة الظهار فإن النص ورد بقدر معلوم مقيد بوصف فكما لا يجوز الإخلال بالقدر المنصوص فكذا بالوصف المنصوص فأما ما لم يذكره متتابعا فصوم القضاء قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184] ويجوز القضاء متتابعا ومتفرقا لأنه مطلق عن الوصف وقال بن عباس رضي الله عنه اتهموا ما أنهم الله وفي الحديث أن رجلا سأل رسول الله عن قضاء أيام من رمضان أفيجزيني أن أصوم متفرقا؟ قال: "أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم والدرهمين أكان يقبل منك"؟ فقال: نعم فقال: "الله أحق بالتجاوز والقبول". والذي في قراءة أبي بن كعب < فعدة من أيام أخر متتابعة > شاذ غير مشهور وبمثله لا تثبت الزيادة على النص فأما صوم كفارة اليمين فثلاثة أيام متتابعة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى.
قال: إنه مطلق في القرآن ونحن أثبتنا التتابع بقراءة بن مسعود فإنها كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان سليمان الأعمش يقرأ ختما على حرف بن مسعود وختما من مصحف عثمان رضي الله عنه والزيادة عندنا تثبت بالخبر المشهور.
قال: رجل جامع امرأته في يوم من رمضان ثم حاضت المرأة ومرض الرجل في ذلك اليوم سقطت عنهما الكفارة عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا تسقط وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى على القول الذي يوجب الكفارة على المرأة وقال زفر رحمه الله تعالى تسقط عنها بعذر الحيض ولا تسقط عنه بعذر المرض.(3/135)
وجه قول بن أبي ليلى: أن السبب الموجب للكفارة قد تم وهو الفطر فوجبت الكفارة دينا في الذمة والحيض والمرض لا ينافي بقاء الكفارة ثم الحيض والمرض لم يصادف الصوم هنا فاعتراضهما في اليوم والليل سواء وهو قياس السفر بعد الفطر لا يسقط الكفارة ليلا كان أو نهارا وزفر رحمه الله تعالى يفرق ويقول الحيض ينافي الصوم وصوم يوم واحد لا يتجزأ فتقرر المنافي في آخره يمكن شبهة المنافاة في أوله فأما المرض لا ينافي الصوم فلا يتمكن بالمرض في آخر النهار شبهة المنافاة في أوله للصوم ولكنا نقول المرض ينافي استحقاق الصوم بدليل أنه لو لم يفطر حتى مرض يباح له الفطر والكفارة لا تجب إلا بالفطر في صوم مستحق واستحقاق الصوم في يوم واحد لا يتجزأ فتقرر المنافاة للاستحقاق في آخر النهار يمكن شبهة منافاة الاستحقاق في أوله بخلاف السفر فإنه غير مناف للاستحقاق حتى لو لم يفطر حتى سافر لا يباح له الفطر فلا يتمكن بالسفر في آخر النهار شبهة في أوله بخلاف ما إذا لم يفطر حتى سافر ثم أفطر لأن سقوط الكفارة هناك باعتبار(3/136)
ص -71- ... الصورة المبيحة والصورة المبيحة إنما تعمل إذا اقترنت بالسبب ولا إسناد في الصور إنما ذلك في المعاني.
ثم السفر فعله والكفارة إنما وجبت حقا لله تعالى فلا يسقط بفعل العبد باختياره بخلاف المرض والحيض فإنه سماوي لا صنع للعباد فيه فإذا جاء العذر ممن له الحق سقطت به الكفارة فإن سوفر به مكرها فقد ذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن على قول أبي يوسف رضي الله تعالى عنه لا تسقط به الكفارة لأن الصنع للعباد فيه فهو قياس ما لو أكره على الأكل بعد ما أفطر وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تسقط لأنه لا صنع له فيه ولا اعتماد على هذه الرواية عن زفر رحمه الله تعالى فإن عنده بالمرض لا تسقط الكفارة فبالسفر مكرها كيف تسقط.
قال: رجل أصبح صائما في غير رمضان يريد به قضاء رمضان ثم أكل متعمدا فقد أساء ولا كفارة عليه لأن وجوب الكفارة بالنصوص والنصوص وردت بالفطر في رمضان والفطر في غير رمضان ليس في معنى الفطر في رمضان من كل وجه لأن هذا اليوم ما كان متعينا لقضائه وهذا بخلاف الحج فإن الجماع في قضاء الحج يوجب ما يوجب في الأداء لتحقق المساواة في معنى الجناية ألا ترى أن في حج النفل يتعلق بالجماع ما يتعلق في حج الفرض بخلاف الصوم؟.
قال: مسافر أصبح صائما في رمضان ثم أفطر قبل أن يقدم مصره أو بعد ما قدم فلا كفارة عليه لأن أداء الصوم في هذا اليوم ما كان مستحقا عليه حين كان مسافرا في أوله فهذا والفطر في قضاء رمضان سواء وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه إن أفطر بعد ما صار مقيما فعليه الكفارة وجعل وجود الإقامة في آخره كوجودها في أوله ولكنا نقول الشبهة تمكنت بالسفر الموجود في أول النهار فإنه ينعدم به استحقاق الأداء وصوم يوم واحد لا يتجزأ في الاستحقاق.(3/137)
قال: رجل عليه قضاء أيام من شهر رمضان فلم يقضها حتى دخل رمضان من قابل فصامها منه فإن صيامه عن هذا الرمضان الداخل وقد بينا هذا الفصل في المقيم والمسافر جميعا وعليه قضاء رمضان الماضي ولا فدية عليه عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه مع القضاء لكل يوم إطعام مسكين ومذهبه مروي عن بن عمر ومذهبنا مروي عن علي وابن مسعود رحمهما الله تعالى.
وحاصل الكلام: أن عنده القضاء مؤقت بما بين الرمضانين يستدل فيه بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤخر قضاء أيام الحيض إلى شعبان وهذا منها بيان آخر ما يجوز التأخير إليه ثم جعل تأخير القضاء عن وقته كتأخير الأداء عن وقته فكما أن تأخير الأداء عن وقته لا ينفك عن موجب فكذلك تأخير القضاء عن وقته ولنا ظاهر قوله تعالى:(3/138)
ص -72- ... {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184] وليس فيها توقيت والتوقيت بما بين الرمضانين يكون زيادة.
ثم هذه عبادة موقتة قضاؤها لا يتوقت بما قبل مجيء وقت مثلها كسائر العبادات وإنما كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تختار للقضاء شعبان لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحتاج إليها فيه فإنه كان يصوم شعبان كله ولأن كان القضاء مؤقتا بما بين الرمضانين فالتأخر عن وقت القضاء كالتأخر عن وقت الأداء وتأخير الأداء عن وقته لا يوجب عليه شيئا إنما وجوب الصوم باعتبار السبب لا بتأخير الأداء فكذلك تأخير القضاء عن وقته.
ثم الفدية تقوم مقام الصوم عند اليأس منه كما في الشيخ الفاني وبالتأخير لم يقع اليأس عن الصوم والقضاء واجب عليه فلا معنى لإيجاب الفدية وكما لم يتضاعف القضاء بالتأخير فكذلك لا ينضم القضاء إلى الفدية لأنه في معنى التضعيف.
قال: وإن شك في الفجر فأحب إلي أن يدع الأكل وإن أكل وهو شاك فصومه تام أما التسحر فهو مندوب إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكلة السحور على صيام النهار". وعن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكل السحور", والتأخير مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك", إلا أنه يؤخر على وجه لا يشك في الفجر الثاني فإن شك فيه فالمستحب أن يدع الأكل لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك", والأكل يريبه فإن أكل وهو شاك فصومه تام لأن الأصل بقاء الليل والتيقن لا يزال بالشك فإن كان أكبر رأيه أنه تسحر والفجر طالع فالمستحب له أن يقضي احتياطا للعبادة ولا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية لأنه غير متيقن بالسبب والأصل بقاء الليل.(3/139)
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال إن كان في موضع يستبين له الفجر فلا يلتفت إلى الشك ولكنه يأكل إلى أن يستيقن بطلوع الفجر وإن كان في موضع لا يستبين له الفجر أو كانت الليلة مقمرة فالأولى أن يحتاط وإن أكل لم يلزمه شيء إلا أنه إذا كان أكبر رأيه أنه أكل بعد طلوع الفجر فحينئذ يلزمه القضاء لأن أكبر الرأي بمنزلة التيقن فيما يبنى أمره على الاحتياط.
قال: وإن صام أهل المصر من غير رؤية الهلال ولم يصم رجل منهم حتى أبصر الهلال من الغد فصام أهل المصر ثلاثين يوما والرجل تسعة وعشرين يوما فليس على الرجل قضاء شيء وقد أخطأ أهل المصر حين صاموا بغير رؤية الهلال لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما". فأهل المصر خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا مخطئين ومنهم من قال يرجع إلى قول أهل الحساب عند الاشتباه وهذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا أو عرافا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".(3/140)
ص -73- ... والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأقدروا له", معناه التقدير بإكمال العدة كما في الحديث المبين وإنما لا يجب على الرجل قضاء شيء لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما قال صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا", وأشار بأصابعه وخنس إبهامه في الثالثة وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما صمنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر مما صمنا ثلاثين يوما وهكذا عن عائشة فلم يتبين خطأ الرجل فيما صنع فلا يلزمه قضاء شيء والذي روي شهران لا ينقصان رمضان وذو الحجة المراد في حق الثواب دون العدد لاستحالة أن يقع الخلف في خبر صاحب الشرع إلا أن يكون أهل المصر رأوا هلال شعبان فأحصوا ثلاثين يوما ثم صاموا فقد أحسنوا وعلى من لم يصم معهم قضاء يوم لأنا تيقنا أنه أفطر يوما من شهر رمضان لأن الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يوما.
وعلى هذا روي عن محمد رحمه الله تعالى أنهم لو صاموا بشهادة الواحد على رؤية الهلال فصاموا ثلاثين يوما ثم لم يروا الهلال أفطروا لأن الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يوما وقد ألزمه بن سماعة فقال هذا فطر بشهادة الواحد وأنت لا ترى ذلك وهذا إلزام ظاهر والجواب عنه أن الفطر بقضاء القاضي وذلك بمقتضى الشهادة ويثبت بمثله ما لا يثبت بنفس الشهادة كالميراث عند شهادة القابلة على الولادة.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فيمن أبصر الهلال وحده ورد الإمام شهادته فصام ثلاثين يوما ولم يروا الهلال لم يفطر إلا مع الإمام والجماعة فلعل الغلط وقع له كما ورد في حديث عمر رضي الله عنه أنه أمر الذي قال رأيت الهلال أن يمسح حاجبه بالماء ثم قال أين الهلال فقال فقدته فقال شعرة قامت من حاجبك فحسبتها هلالا وإنما أمرناه بالصوم في الابتداء احتياطا من غير أن نحكم أن اليوم من رمضان والاحتياط في أن لا يفطر إلا مع الإمام والجماعة.(3/141)
قال: وإذا جامع الرجل امرأته في الفرج فغابت الحشفة ولم ينزل فعليهما القضاء والكفارة والغسل أما الغسل فلاستطلاق وكاء المني بفعله وأما الكفارة فلحصول الفطر على وجه تتم الجناية به قيل تمام الجناية في اقتضاء الشهوة وذلك لا يحصل بدون إنزال قلنا اقتضاء الشهوة في المحل يتم بالإيلاج فأما الإنزال تبع لا يعتد به في تكميل الجناية فلو جامعها في الموضع المكروه فعليهما الغسل لما بينا ولا شك في إيجاب الكفارة على قولهما وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان.
روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا كفارة عليهما وهو ظاهر على أصله لأنه لا يجعل هذا الفعل كاملا في إيجاب العقوبة التي تندرى ء بالشبهات كالحد وفي جانب المفعول ظاهر فليس لها فيه اقتضاء الشهوة؟
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن عليهما الكفارة وهو الأصح،(3/142)
ص -74- ... فإن السبب قد تم وهو الفطر بجناية متكاملة إنما يدعي أبو حنيفة رحمه الله تعالى النقصان في معنى الزنى من حيث إنه لا يحصل به إفساد الفراش ولا معتبر به في إيجاب الكفارة
قال: فإن جامع بهيمة أو ميتة فليس عليه الكفارة أنزل أو لم ينزل عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فإن السبب عنده الجماع المعدم للصوم وقد وجد ولكنا نقول الجناية لا تتكامل إلا باقتضاء شهوة المحل وهذا المحل غير مشتهى عند العقلاء فإن حصل به قضاء الشهوة فذلك لغلبة الشبق أو لفرط السفه وهو كمن يتكلف لقضاء شهوته بيده لا تتم جنايته في إيجاب الكفارة فهذا مثله.
قال: فإن جامع أو أكل أو شرب ناسيا فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء ولا كفارة عليه لأنه اشتبه عليه ما يشتبه فإن الأكل مع النسيان يفوت ركن الصوم حقيقة ولا بقاء للعبادة مع فوات ركنها فيكون ظنه هذا في موضعه فصار شبهة في اسقاط الكفارة قال محمد رحمه الله تعالى إلا أن يكون بلغه خبر الناسي فحينئذ عليه القضاء والكفارة لأن ظنه مدفوع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "تم على صومك", فلا تبقى شبهة.(3/143)
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا كفارة عليه وإن بلغه الخبر لأن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين وإنما يوجب العمل تحسينا للظن بالراوي فلا تنتفي الشبهة به وعلى هذا لو احتجم فظن أن ذلك فطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء والكفارة لأن ظنه في غير موضعه فإن انعدام ركن الصوم بوصول الشيء إلى باطنه ولم يوجد إلا أن يكون افتاه مفتى العامة بأن صومه قد فسد فحينئذ لا كفارة عليه لأن الواجب على العامي الأخذ بفتوى المفتي فتصير الفتوى شبهة في حقه وإن كان خطأ في نفسه وإن كان سمع الحديث أفطر الحاجم والمحجوم فاعتمد ظاهره قال محمد رحمه الله تعالى تسقط عنه الكفارة أيضا كما لو اعتمد الفتوى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها لا تسقط لأن العامي إذا سمع حديثا فليس له أن يأخذ بظاهره لجواز أن يكون مصروفا عن ظاهره أو منسوخا
وإن دهن شاربه أو اغتاب فظن أن ذلك فطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء والكفارة سواء اعتمد حديثا أو فتوى لأن هذا الظن والفتوى بخلاف الإجماع غير معتبر.
قال: وإذا أسلم الكافر في النصف من شهر رمضان صام ما بقي من الشهر وليس عليه قضاء ما مضى منه وكذلك اليوم الذي أسلم فيه لا يجزيه صومه وإن لم يأكل ونوى قبل الزوال لانعدام أهلية العبادة في أول النهار ولكنه يمسك تشبها بالصائمين وليس عليه قضاؤه.
ومن العلماء من يقول عليه قضاء هذا اليوم والأيام الماضية من الشهر وجعلوا إدراك جزء من الشهر كإدراك جميع الشهر كما أن ادراك جزء من وقت الصلاة بعد الإسلام كإدراك جميع الوقت والتفريط إنما جاء من قبله بتأخير الاسلام فلا يعذر في إسقاط القضاء وهو قريب من أصل الشافعي رحمه الله تعالى أن الكفار مخاطبون بالشرائع.(3/144)
ص -75- ... ولنا: ما روي أن وفد ثقيف حين قدموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا في النصف من رمضان فأمرهم بصوم ما بقي من الشهر ولم يأمرهم بقضاء ما مضى وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن وجوب القضاء ينبني على خطاب الشرع بالأداء وذلك لا يكون بدون الأهلية للعبادة والكافر ليس بأهل لثوابها فلا يثبت خطاب الأداء في حقه والصوم عبادة معلومة بميعادها وهو الزمان فلا تصور للصوم منه في الزمن الماضي بخلاف الصلاة فإنها معلومة بأوقاتها والوقت ظرف لها فجعل إدراك جزء من الوقت سببا لوجوب الأداء ثم القضاء ينبني عليه.
قال: ولا تصلي الحائض ولا تصوم لقوله عليه الصلاة والسلام في بيان نقصان دين المرأة: "تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي", يعني زمان الحيض فإذا طهرت قضت أيام الصوم ولا تقضي الصلاة لما تقدم بيانه.
قال: وكل وقت جعلتها فيه نفساء أو حائضا فإنها تعيد صوم ذلك اليوم ولا تعيد صلاته وكل وقت عددتها فيه مستحاضة فإنها تعيد صلاته إن لم تكن صلتها فإن كانت صلت وصامت فقد جاز لأن المستحاضة في حكم الطاهرات فيما يرجع إلى العبادات.
قال صلى الله عليه وسلم: "للمستحاضة توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير قطرا", وقال: "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة", ثم طول محمد رحمه الله هذا الفصل في الأصل فذكر في باب المستحاضة مسائل منها أن ينقص الدم عن أقل مدة الحيض أو يزيد على أكثر مدة الحيض أو أكثر مدة النفاس أو يسبق رؤية الدم أوانه فالاستحاضة تكون بدم فاسد ويستدل بتقدمه على أوانه على فساده وتمام شرح هذه المسائل في كتاب الحيض.(3/145)
قال: ولا يجوز شيء من الصوم الواجب أن يصومه في يوم الفطر أو النحر أو أيام التشريق لأن الصوم في هذه الأيام منهي عنه قال أبو رافع أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي في أيام منى: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال", وفي رواية: "إنها أيام أكل وشرب وذكر". وعن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق وتأويل النهي في يوم التروية وعرفة في حق الحاج إذا كان يضعف بالصوم عن الوقوف والذكر.
وفي الحديث المشهور الذي روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام والمنهى عنه يكون فاسدا والواجب في ذمته مستحق عليه أداؤه بصفة الصحة فلا يتأدى بما هو فاسد وكذلك صوم المتعة عندنا لا يتأدى في يوم النحر وأيام التشريق وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم يتأدى صوم المتعة في أيام التشريق وهو مروي عن عائشة وبن عمر ومعاذ ومذهبنا مروي عن علي وبن مسعود رضي الله تعالى عنهما.
قال: وإن كان على الرجل صيام شهرين متتابعين من فطر أو ظهار أو قتل فصامها وأفطر(3/146)
ص -76- ... فيها يوما لمرض فعليه استقبال الصيام لانعدام صفة التتابع بالفطر فإن كانت امرأة فأفطرت فيما بين ذلك للحيض لم يكن عليها استقباله وكان إبراهيم النخعي يسوي بين اللفظين في أنه لا يجب الاستقبال لاعتبار العذر وبن أبي ليلى رحمه الله كان يسوي بين الفصلين في أنه يجب الاستقبال لانعدام التتابع بالفطر وكان يقول قد تجد المرأة شهرين خاليين من الحيض إذا حبلت أو أيست والفرق لنا بين الفصلين من وجهين:
أحدهما: أن الرجل يجد شهرين خاليين عن المرض فلو أمرناه بالاستقبال لم يكن فيه كبير حرج والمرأة لا تجد شهرين خاليين عن الحيض عادة فلعلها لا تحبل ولا تعيش إلى أن تيأس ففي الأمر بالاستقبال حرج بين.
والثاني: أن المرض لا ينافي الصوم حتى لو تكلف وصام جاز فانقطاع التتابع كان بفعله والواجب عليه تتابع الصوم في الوقت الذي يتصور فيه الأداء منه فإذا لم يوجد استقبل فأما الحيض ينافي أداء الصوم منها فلم ينقطع التتابع بفعلها إلا أن عليها أن تصل قضاء أيام الحيض بصومها لأن هذا القدر من التتابع في وسعها فعليها أن تأتي به وروى بن رستم عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا صامت شهرا فأفطرت فيه بعذر الحيض ثم أيست فعليها الاستقبال لزوال العذر قبل تمام المقصود وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها لو حبلت بعد ما صامت شهرا فأفطرت فيه لعذر الحيض بنت على صومها لأنها بالحبل لا تخرج من أن تكون من ذوات الأقراء وإن لم تصل قضاء أيام الحيض بصومها استقبلت لأنها تركت التتابع الذي في وسعها.(3/147)
قال: وإن صام عن ظهار شهرين أحدهما رمضان لم يكن عما نواه وكان عن رمضان لأن صوم الظهار دين في ذمته فإنما يتأدى ما هو مشروع له الوقت لا ما هو مستحق عليه بجهة مخصوصة وعليه الاستقبال لأنه يجده شهرين خاليين عن رمضان وهذا بخلاف ما إذا نذر أن يصوم رجب فصامه عن الظهار جاز عما نوى لأن صوم رجب كان مشروعا له وكان صالحا لأداء الواجب به قبل النذر وهو بالنذر موجب على نفسه ما ليس بواجب ولا تبقى صلاحية لغيره إذ ليس له هذه الولاية فأما الشرع لما عين صوم رمضان للفرض نفى صلاحيته لغيره وللشرع هذه الولاية فلهذا لا يتأدى صوم الظهار من المقيم في رمضان وله أن يفرق بين قضاء رمضان وقد بينا هذا وفيه قول عن عائشة رضي الله عنها أنه يجب متتابعا وكذلك صوم جزاء الصيد والمتعة لأنه مطلق في القرآن قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}[المائدة: 95] وقال تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}[البقرة: 196] والذي روى في قراءة أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعة في الحج شاذ غير مشهور والزيادة على النص بمثله لا تثبت.
قال: رجل أصبح صائما ينوي قضاء رمضان ثم علم أنه ليس عليه شيء منه فالأحسن(3/148)
ص -77- ... له أن يتم صومه تطوعا وإن أفطر لم يلزمه شيء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول يلزمه القضاء وليس له أن يفطر وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى مثل قول زفر رحمه الله تعالى وكذلك المكفر بالصوم إذا أيسر في خلاله فالأولى أن يتم صومه تطوعا وإن أفطر لم يلزمه القضاء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول بعد التبين واليسار هو في نفل صحيح حتى لو أتمه كان نفلا فيلزمه التحرز عن إبطاله والقضاء إن أبطله كما لو كان شروعه بنية النفل وكمن أحرم بحج مظنون وكمن تصدق على فقير على ظن أنه عليه ثم علم أنه ليس عليه لم يكن له أن يسترد.
ولنا: أن عمله كان في أداء الفرض أما في حق المكفر فقد كان واجبا عليه حين شرع ظاهرا وباطنا وكذلك في المظنون فإن المرء يخاطب بما عنده لا بما عند الله تعالى وذلك الفرض الذي شرع فيه قد سقط عنه شرعا فما بقي من النفل إنما بقي نظرا من الشرع له لا إيجابا عليه فالأولى له أن يتمه ولكن لا يلزمه شيء إن لم يتمه لأن الواجب عليه التحرز عن إبطال عمله وهو لم يبطل عمله بالفطر لأن عمله كان في أداء الفرض دون النفل وهو نظير النفل المشروع في كل يوم الأولى للمرء أن يأتي به ولا شيء عليه إن امتنع منه.(3/149)
ثم الشروع في كونه ملزما لا يكون أقوى من النذر وإضافة النذر إلى ما هو واجب لا يفيد الإيجاب فالشروع أولى بخلاف الحج فإن ما أدى من الفرض قد سقط بالتبين ولكن لم يخرج به من الإحرام فالإحرام عقد لازم لا خروج منه إلا بأداء الأفعال ألا ترى أنه لو فاته الحج لا يخرج من الإحرام إلا بأعمال العمرة فإن أحصر في الحج المظنون فتحلل بالهدي فقد اختلف فيه مشايخنا منهم من يقول لا يلزمه قضاء شيء لأنه تم خروجه من الإحرام والأصح أنه يلزمه القضاء لأن الإحرام في الأصل لازم والتحلل بالإحصار لدفع الحرج والمشقة عنه ففيما وراء ذلك تبقى صفة اللزوم معتبرة بخلاف الصدقة لأنها تمت بالوصول إلى الفقير فوزانه ما لو أتم الصوم ثم تبين أنه ليس عليه وفي هذا لا يمكنه إبطاله.
قال: امرأة أصبحت صائمة متطوعة ثم أفطرت ثم حاضت فعليها القضاء عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى لا قضاء عليها لأن الحيض الموجود في آخر النهار في منافاة الصوم كالموجود في أوله فتبين أن هذا اليوم لم يكن وقت أداء الصوم في حقها والشروع في غير وقت الصوم لا يكون ملزما شيئا كالشروع ليلا.
ولنا: أن شروعها في الصوم قد صح لاستجماع شرائط الأداء عند الشروع ثم بالإفساد وجب القضاء دينا في ذمتها والحيض بعد ذلك لا ينافي بقاء الصوم دينا وإنما يكون الحيض مؤثرا إذا صادف الصوم وهنا الحيض لم يصادف الصوم فاعتراضه ليلا أو نهارا سواء ولأن الشروع كالنذر ولو نذرت أن تصوم هذا اليوم ثم أفطرت ثم حاضت كان عليها القضاء فكذلك إذا شرعت فإن لم تفطر حتى حاضت فقد ذكر بن سماعة عن محمد رحمه الله(3/150)
ص -78- ... تعالى أن عليها القضاء أيضا وهو الصحيح على ما أشار إليه الحاكم وفي رواية بن رستم عن محمد لا قضاء عليها لأن الحيض صادف الصوم والمنافاة لم تكن بفعلها فلا تكون جانية ملزمة للقضاء.
وجه الرواية الأخرى: أن شروعها قد صح فكان بمنزلة نذرها ولو نذرت أن تصوم هذا اليوم فحاضت فيه كان عليها القضاء وإن لم يكن تعذر الإتمام مضافا إلى فعلها لا يمنع وجوب القضاء كالمتيمم إذا شرع في النفل ثم أبصر الماء فعليه القضاء.
قال: المكفر بالصوم عن ظهار إذا جامع بالنهار عامدا وجب عليه الاستقبال سواء جامع التي ظاهر منها أو غيرها لانقطاع التتابع بفعله فإن جامع بالنهار ناسيا أو بالليل عامدا نظر فإن جامع غير التي ظاهر منها لم يكن عليه الاستقبال لأن جماعه لم يؤثر في صومه فلم ينقطع التتابع وإن جامع التي ظاهر منها فعليه الاستقبال في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى لا يلزمه الاستقبال فإن جماع الناسي والجماع بالليل لا يؤثر في إفساد الصوم فلا ينقطع به التتابع كالأكل والشرب وجماع غير التي ظاهر منها ولأنه لو استقبل صار مؤديا صوم الشهرين بعد المسيس ولو بنى صار مؤديا أحد الشهرين قبل المسيس والآخر بعده وهذا أقرب إلى الامتثال وهو نظير ما لو أطعم ثلاثين مسكينا ثم جامع لم يكن عليه استقبال الإطعام وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الواجب عليه بالنص إخلاء الشهرين عن المسيس وهو قادر على هذا فلا يتأدى الواجب إلا به وبيانه أن الله تعالى قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}[المجادلة: 4].(3/151)
ومن ضرورة الأمر بتقديم الشهرين على المسيس الأمر بإخلائهما عنه والثابت بضرورة النص كالمنصوص فكان الواجب عليه شيئين عجز عن أحدهما وهو تقديم الشهرين على المسيس وهو قادر على الآخر وهو إخلاؤهما عن المسيس فيأتي بما قدر عليه وذلك بالاستقبال بخلاف جماع غير التي ظاهر منها فإنه غير مأمور بتقديم صوم شهرين على جماعها فلا يكون مأمورا بإخلائها عنه وإن لم يؤثر جماعه في الصوم لا يدل على أنه لا يبطل به معنى الكفارة إذا انعدم به الشرط المنصوص كما لو أيسر في خلال صوم الكفارة فإن يساره لا يؤثر في الصوم وتبطل به الكفارة ثم حرمة الجماع في حق التي ظاهر منها بدوام الليل والنهار وفي مثله النسيان والعمد سواء كالجماع في الإحرام وهذا بخلاف الإطعام فإنه ليس في التكفير بالإطعام تنصيص على التقديم على المسيس و الأمر بإخلائه عن المسيس كان لضرورة الأمر بالتقديم على المسيس.
فإن قيل بالإجماع ليس له أن يجامعها قبل أن يكفر وإن كانت كفارته بالإطعام وعندكم لا يجوز قياس المنصوص على المنصوص.(3/152)
ص -79- ... قلنا: ما عرفنا ذلك بالقياس بل بالنص وهو حديث أوس بن الصامت رضي الله عنه حين ظاهر من امرأته ثم رآها في ليلة قمراء وعليها خلخال فأعجبته فواقعها ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر". فبهذا النص تبين أنه ليس له أن يغشاها قبل التكفير سواء كانت كفارته بالإطعام أو بالصيام.
قال: وتجوز نية صوم التطوع قبل انتصاف النهار وقال مالك رحمه الله تعالى لا تجوز لأنه حين أصبح غير ناو للصوم فقد تعين أول النهار لفطره والصوم والفطر في يوم واحد لا يحتمل الوصف بالتجزى فهو كما لو تعين بأكله.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم : "المتطوع بالخيار ما لم تزل الشمس"، يعني المريد للصوم وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح دخل على نسائه وقال: "هل عندكن شيء؟", فإن قلن لا قال: "إني صائم". وفي حديث عاشوراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن لم يأكل فليصم". فإن كان صوم عاشوراء نفلا فهو نص وإن كان فرضا فجواز الفرض بنية من النهار يدل على جواز النفل بطريق الأولى ولسنا نقول إن جهة الفطر قد تعينت بترك النية في أول النهار ولكن بقي الأمر مراعى ما بقي وقت الغداء فإن الصوم ليس إلا ترك الغداء في وقته على قصد التقرب وفوات وقت الغداء بزوال الشمس فإذا نوى قبل الزوال فقد ترك الغداء في وقته على قصد التقرب فكان صوما.
قال: ولو نوى التطوع بعد انتصاف النهار لم يكن صائما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون صائما إذا نوى قبل غروب الشمس ولم يكن أكل في يومه شيئا قال لأن النفل غير مقدر شرعا بل هو موكول إلى نشاطه فربما ينشط فيه بعد الزوال وهو وقت الأداء كما قبله وشبهه بالصلاة فإن التطوع بالصلاة يجوز راكبا وقاعدا مع القدرة على القيام لأنه موكول إلى نشاطه.(3/153)
ولنا: ما بينا أن الصوم ترك الغداء في وقته على قصد التقرب فإن العشاء باق في حق الصائم والمفطر جميعا ووقت الغداء ما قبل الزوال دون ما بعده فإذا لم ينو قبل الزوال لم يكن تركه الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وأما في قضاء رمضان وكل صوم واجب في ذمته فسواء نوى قبل الزوال أو بعده لم يكن عنه ما لم ينو من الليل لأن ما كان دينا في ذمته لم يتعين لأدائه يوم ما لم يعينه فإمساكه في أول النهار قبل النية لم يتوقف عليه فلا يستند حكم النية إليه بخلاف صوم رمضان فإنه متعين في وقته فيتوقف إمساكه عليه فيستند حكم النية ثم إقامة النية في أكثر الوقت مقام النية في جميعه لأجل الضرورة والحاجة وذلك فيما يفوته دون ما لا يفوته وصوم رمضان يفوته عن وقته والنفل لا يفوته أصلا فأما ما كان دينا في ذمته لا يفوت فلا تقام النية في أكثر الوقت في حقه مقام النية في جميعه.
قال: ولا يكون صائما في رمضان ولا في غيره ما لم ينو الصوم وإن اجتنب المفطرات(3/154)
ص -80- ... إلى آخر يومه بمرض أو غير مرض وقد بينا قول زفر رحمه الله تعالى في الصحيح المقيم أنه يتأدى منه الصوم بمجرد الإمساك من غير النية فإن كان مريضا أو مسافرا فلا خلاف أنه لا يكون صائما ما لم ينو وعند زفر رحمه الله تعالى ما لم ينو من الليل قال لأن الأداء غير مستحق عليه في هذا الوقت نفسه فلا يتعين إلا بنيته بخلاف الصحيح المقيم وعندنا اشتراط النية ليصير الفعل قربة فإن الإخلاص والقربة لا يحصل إلا بالنية قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: 5] ففي هذا المسافر والمقيم سواء إنما فارق المسافر المقيم في الترخص بالفطر فإذا لم يترخص صحت منه النية قبل انتصاف النهار كما تصح من المقيم.
قال: فإن أصبح بنية الفطر فظن أن نيته هذه قد أفسدت عليه صومه وأفتى بذلك فأكل قبل انتصاف النهار فعليه القضاء ولا كفارة عليه للشبهة التي دخلت وهما فصلان أحدهما إذا أصبح ناويا للصوم ثم نوى الفطر لا يبطل به صومه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يبطل فإن الشروع في الصوم لا يستدعي فعلا سوى نية الصوم فكذلك الخروج لا يستدعي فعلا سوى النية ولأن النية شرط أداء الصوم وقد أبدله بضده وبدون الشرط لا تتأدى العبادة.
ولنا: الحديث الذي روينا: "الفطر مما يدخل" وبنيته ما وصل شيء إلى باطنه ثم هذا حديث النفس
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا". وكما أن الخروج من سائر العبادات لا يكون بمجرد النية فكذلك من الصوم وبالاتفاق اقتران النية بحالة الأداء ليس بشرط فإنه لو كان مغمى عليه في بعض اليوم يتأدى صومه.(3/155)
ففي هذا الفصل إذا أفتي بأن صومه لا يجوز فأفطر لم يكن عليه كفارة لشبهة اختلاف العلماء لأن على العامي أن يأخذ بقول المفتي وإن كان أصبح غير ناو للصوم ثم أكل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا كفارة عليه سواء أكل قبل الزوال أو بعده وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن أكل قبل الزوال فعليه الكفارة وإن أكل بعد الزوال فلا كفارة عليه قال لأن قبل الزوال حكم الإمساك موقوف على أن يصير صائما بنيته فصار بأكله جانيا مفوتا للصوم فأما بعد الزوال إمساكه غير موقوف على أن يصير صوما بالنية فلم يكن في أكله جانيا على الصوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الكفارة تستدعي كمال الجناية وذلك بهتك حرمة الصوم والشهر جميعا ولم يوجد منه هتك حرمة الصوم لأنه ما كان صائما قبل أن ينوي فتجرد هتك حرمة الشهر عن حرمة الصوم وهو غير موجب للكفارة كما لو تجرد هتك حرمة الصوم عن هتك حرمة الشهر بأن أفطر في قضاء رمضان وعلى قول زفر رحمه الله تعالى عليه الكفارة سواء أكل قبل الزوال أو بعده لأن عنده هو صائم وإن لم ينو.(3/156)
ص -81- ... قال: فإن أصبح غير ناو للصوم ثم نوى قبل الزوال ثم أكل فلا كفارة عليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه تلزمه الكفارة لأن شروعه في الصوم قد صح فتكاملت جنايته بالفطر كما لو كان نوى بالليل.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل" ينفي كونه صائما بهذه النية والحديث وإن ترك العمل بظاهره يبقي شبهة في درء ما يندرى ء بالشبهات كمن وطى ء جارية ابنه مع العلم بالحرمة لا يلزمه الحد لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". ثم هذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى ظاهر لأن عنده لو أكل قبل النية لا تلزمه الكفارة وما كان موجودا في أول النهار يصير شبهة في آخره كالسفر إنما الشبهة على قول محمد رحمه الله تعالى وعذره ما بينا.
قال: المغمى عليه في جميع الشهر إذا أفاق بعد مضيه فعليه القضاء إلا على قول الحسن البصري فإنه يقول سبب وجود الأداء وهو شهود الشهر لم يتحقق في حقه لزوال عقله بالإغماء ووجوب القضاء ينبني عليه ولنا أن الاغماء مرض وهو عذر في تأخير الصوم إلى زواله لا في إسقاطه وهذا لأن الإغماء يضعف القوى ولا يزيل الحجا ألا ترى أنه لا يصير موليا عليه؟ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتلي بالإغماء في مرضه وكان معصوما عما يزيل العقل.
قال الله تعالى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}[الطور: 29] فإذا كان مجنونا في جميع الشهر فلا قضاء عليه إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول الجنون مرض يخل العقل فيكون عذرا في التأخير إلى زواله لا في إسقاط الصوم كالإغماء.(3/157)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ", ومن كان مرفوعا عنه القلم لا يتوجه عليه الخطاب بأداء الصوم والقضاء ينبني عليه ثم الجنون يزيل عقله فلا يتحقق معه شهود الشهر وهو السبب الموجب للصوم بخلاف الإغماء فإنه يعجزه عن استعمال عقله ولا يزيله فلذلك جعل شاهدا للشهر حكما وهو كابن السبيل تلزمه الزكاة لقيام ملكه وإن عجز عن إثبات اليد عليه بخلاف من هلك ماله.
قال: فإن أفاق المجنون في بعض الشهر فعليه صوم ما بقي من الشهر وليس عليه قضاء ما مضى في القياس وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأنه لو استوعب الشهر كله منع القضاء في الكل فإذا وجد في بعضه يمنع القضاء بقدره اعتبارا للبعض بالكل وقياسا على الصبي وهذا لأن الصبي أحسن حالا من المجنون فإنه ناقص العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله والمجنون عديم العقل بعيد عن الإصابة عادة ولهذا جاز إعتاق الصغير عن الكفارة دون المجنون فإذا كان الصغر في بعض الشهر يمنع وجوب القضاء فالجنون أولى.(3/158)
ص -82- ... استحسن علماؤنا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] والمراد منه شهود بعض الشهر لأنه لو كان السبب شهود جميع الشهر لوقع الصوم في شوال فصار بهذا النص شهود جزء من الشهر سببا لوجوب صوم جميع الشهر إلا في موضع قام الدليل على خلافه ثم الجنون عارض أعجزه عن صوم بعض الشهر مع بقاء أثر الخطاب فيلزمه القضاء كالإغماء وبيان الوصف أنه لو كان حج ثم جن بقي المؤدى فرضا له وكذلك لو كان صلى الفرض ثم جن وبقاء المؤدى فرضا دليل بقاء أثر الخطاب فأما إذا استوعب الجنون الشهر كله فإنما أسقطنا القضاء لا لانعدام أثر الخطاب بل لدفع الحرج والمشقة والحرج عذر مسقط للقضاء كالحيض في حق الصلاة.
فحاصل الكلام أن الوجوب في الذمة ولا ينعدم ذلك بسبب الصبي ولا بسبب الجنون ولا بسبب الإغماء إلا أن الصبي يطول عادة فيكون مسقطا للقضاء دفعا للحرج والإغماء لا يطول عادة فلا يكون مسقطا للقضاء والجنون قد يطول وقد يقصر فإذا طال التحق بما يطول عادة وإذا قصر التحق بما يقصر عادة ثم فرق ما بين الطويل والقصير في الصوم أن يستوعب الشهر كله لأن الشهر في حكم الأجل وفي الصلاة أن يزيد على يوم وليلة لتدخل الفوائت في حد التكرار وعلى هذا الأصل قلنا لو نوى الصوم بالليل ثم جن بالنهار جاز صومه عن الفرض في ذلك اليوم خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لأن الجنون لا ينافي العبادة ولا صفة الفرضية فإن الأهلية للعبادة لكونه أهلا لثوابها وركن الصوم بعد النية هو الإمساك والجنون لا ينافيه.(3/159)
قال: وإن جن في شهر رمضان ثم أفاق بعد سنين في رمضان فعليه قضاء الشهر الأول لإدراكه جزء منه وقضاء الشهر الآخر لإدراكه جزءا منه وليس عليه قضاء الشهور التي في السنين الماضية بين ذلك لأنه لم يدرك جزءا منها في حال الإفاقة فإن كان جنونه أصليا بأن بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر فالمحفوظ عن محمد رحمه الله تعالى أنه ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب يتوجه عليه الآن فيكون بمنزلة الصبي حين يبلغ وروى هشام عن أبي يوسف قال في القياس لا قضاء عليه ولكن استحسن فأوجب عليه قضاء ما مضى من الشهر لأن الجنون الأصلي لا يفارق الجنون العارض في شيء من الأحكام وليس فيه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى.
قال: مريض أفطر في شهر رمضان ثم مات قبل أن يبرأ فليس عليه شيء لأن وقت أداء الصوم في حقه عدة من أيام أخر بالنص ولم يدركه ولأن المرض لما كان عذرا في إسقاط أداء الصوم في وقته لدفع الحرج فلأن يكون عذرا في إسقاط القضاء أولى. وإن بريء وعاش شهرا فلم يقض الصوم حتى مات فعليه قضاؤه لأنه أدرك عدة من أيام أخر وتمكن(3/160)
ص -83- ... من قضاء الصوم فصار القضاء دينا عليه. وفي حديث أبي مالك الأشجعي رحمه الله تعالى أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كان مريضا في شهر رمضان ثم مات فقال عليه الصلاة والسلام: "إن كان مات قبل أن يطيق الصوم فلا شيء عليه وإن أطاق الصوم ولم يصم حتى مات فليقض عنه", يعني بالإطعام ثم لا يجوز لوليه أن يصوم عنه وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إن صح الحديث صام عنه وارثه قال أبو حامد من أصحابهم وقد صح الحديث والمراد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
ولنا: حديث بن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا: "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" ثم الصوم عبادة لا تجري النيابة في أدائها في حالة الحياة فكذلك بعد الموت كالصلاة وهذا لأن المعنى في العبادة كونه شاقا على بدنه ولا يحصل ذلك بأداء نائبه ولكن يطعم عنه لكل يوم مسكينا لأنه وقع اليأس عن أداء الصوم في حقه فتقوم الفدية مقامه كما في حق الشيخ الفاني وإنما يجب عليهم الإطعام من ثلثه إذا أوصى ولا يلزمهم ذلك إذا لم يوص عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يلزمهم ذلك من جميع ماله أوصى أو لم يوص وهو نظير الخلاف في دين الزكاة ثم الإطعام عندنا يقدر بنصف صاع لكل مسكين وعنده يقدر بالمد وأصل الخلاف في طعام الكفارة ونحن نقيسه على صدقة الفطر بعلة أنه أوجب كفاية للمسكين في يومه.(3/161)
وعلى هذا إذا مات وعليه صلوات يطعم عنه لكل صلاة نصف صاع من حنطة وكان محمد بن مقاتل يقول أولا يطعم عنه لصلوات كل يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة صوم يوم وهو الصحيح والصاع قفيز بالحجاجي وهو ربع الهاشمي وهو ثمانية أرطال في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول ثم رجع فقال خمسة أرطال وثلث رطل ومن أصحابنا من وفق فقال ثمانية أرطال بالعراقي كل رطل عشرون إستارا فذلك مائة وستون إستارا وخمسة أرطال وثلث رطل بالحجاجي كل رطل ثلاثون إستارا فذلك مائة وستون وهذا ليس بقوي فقد نص في كتاب العشر والخراج عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه خمسة أرطال وثلث رطل بالعراقي وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وإنما رجع أبو يوسف حين حج مع الرشيد فدخل المدينة وسألهم عن صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه سبعون شيخا منهم كل واحد منهم يحمل صاعا تحت ثوبه فقال ورثت هذا عن أبي عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كل ذلك خمسة أرطال وثلث رطل.
ولنا: حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال وتوارث أهل المدينة ليس بقوي فقد قال مالك رحمه الله تعالى فقيهم صاع أهل المدينة تحرى عبد الملك بن مروان على صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا(3/162)
ص -84- ... آل الأمر إلى التحري فتحرى عمر رضي الله عنه أولى بالمصير إليه والقفيز الحجاجي صاع عمر رضي الله عنه حتى كان الحجاج يمن به على أهل العراق ويقول ألم أخرج لكم صاع عمر رضي الله عنه.
قال: ابراهيم النخعي رحمه الله كان صاع عمر حجاجيا ثم قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاعان مختلفان منها للنفقات ومنها للصدقات فما روي أنه كان خمسة أرطال وثلث محمول على صاع النفقات.
قال: وإن صح بعد رمضان عشرة أيام ثم مات فعليه قضاء العشرة الأيام التي صح فيها لأنه بقدرها أدرك عدة من أيام أخر والبعض معتبر بالكل وذكر الطحاوي أنه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يلزمه قضاء جميع الشهر وإن صح يوما واحدا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يلزمه القضاء بقدر ما صح وهذا وهم من الطحاوى فإن هذا الخلاف في النذر إذا نذر المريض صوم شهر ثم برأ يوما ولم يصم فهو على هذا الخلاف فأما قضاء رمضان فلا خلاف بينهم والفرق لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن هناك السبب الموجب هو النذر إلا أنه ليس للمريض ذمة صحيحة في التزام أداء الصوم حتى يبرأ فعند البرء يصير كالمجدد للنذر والصحيح إذا قال لله علي أن أصوم شهرا ثم مات بعد يوم فعليه قضاء جميع الشهر وهنا السبب الموجب للأداء إدراك عدة من أيام أخر فلا يلزمه القضاء إلا بقدر ما أدرك والمسافر في جميع هذه الوجوه بمنزلة المريض.
قال: مسافر أصبح صائما ثم قدم المصر فأفتى بأن صيامه لا يجزئه وأنه عاص فأفطر فعليه القضاء ولا كفارة عليه والكلام في هذه المسألة في فصول.(3/163)
أحدها: أن أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء وهو قول أكثر الصحابة وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز وهو مروي عن بن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما يستدلون بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ}[البقرة: 184] فصار هذا الوقت في حقه كالشهر في حق المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر", وقال: "ليس من البر الصيام في السفر" وفي رواية: "ليس من امبرم صيام في امسفر".
ولنا: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[البقرة: 185] لبيان الترخص بالفطر فينتفي به وجوب الأداء لا جوازه.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله إني أسافر في رمضان أفأصوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "صم إن شئت". وفي حديث أنس رضى الله تعالى عنه قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على(3/164)
ص -85- ... البعض وتأويل حديثهم إذا كان يجهده الصوم حتى يخاف عليه الهلاك على ما روي أنه مر برجل مغشي عليه قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن حاله فقيل إنه صائم فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر", يعني لمن هذا حاله.
والثاني: أن المسافرة في رمضان لا بأس بها وعلى قول أصحاب الظواهر يستديم السفر في رمضان ولا ينشئه والدليل على جواز المسافرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لليلتين خلتا من رمضان فصام حتى أتى قديدا فشكى الناس إليه فأفطر ثم لم يزل مفطرا حتى دخل مكة فإن سافرت في رمضان فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صمت فقد صام وإن أفطرت فقد أفطر وكل ذلك واسع.
والثالث: إذا أنشأ السفر في رمضان فله أن يترخص بالفطر وكان علي وبن عباس كانا يقولان ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر فأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر والحديث الذي روينا حجة فقد أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى الناس إليه ولا يقال لما أهل الهلال وهو مقيم فقد لزمه أداء صوم الشهر فلا يسقط ذلك عنه بسفر ينشئه باختياره كاليوم الذي يسافر فيه لأنا نقول صوم الشهر عبادات متفرقة وإنما يلزمه الأداء باعتبار اليوم الذي كان مقيما في شيء منه دون اليوم الذي كان مسافرا في جميعه قياسا على الصلوات.
والرابع: أن الصوم في السفر أفضل من الفطر عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى الفطر أفضل لأن ظاهر ما روينا من الآثار يدل على أن الصوم في السفر لا يجوز فإن ترك هذا الظاهر في حق الجواز بقي معتبرا في أن الفطر أفضل وقاس بالصلاة فإن الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم لأن السفر يؤثر فيهما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم".(3/165)
ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المسافر: "يترخص بالفطر وإن صام فهو أفضل له". وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم حتى شكى الناس إليه ثم أفطر فذلك دليل على أن الصوم أفضل ثم الفطر رخصة وأداء الصوم عزيمة والتمسك بالعزيمة أولى من الترخص بالرخصة وهذا لأن الرخصة لدفع الحرج عنه وربما يكون الحرج في حقه في الفطر أكثر فإنه يحتاج إلى القضاء وحده والصوم مع الجماعة في السفر يكون أخف من الفطر والقضاء وحده في يوم جميع الناس فيه مفطرون بخلاف الصلاة فإن شطر الصلاة سقط عنه أصلا حتى لا يلزمه القضاء فإن الظهر في حقه كالفجر في حق المقيم.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا قدم المصر فأفتى أن صومه لا يجزيه تصير هذه الفتوى شبهة في إسقاط الكفارة وكذا كونه مسافرا في أول النهار يصير شبهة في آخره والكفارة تسقط بالشبهة.
قال: ولا بأس بقضاء رمضان في أيام العشر يريد به تسعة أيام من أول ذي الحجة وهو قول عمر رضي الله تعالى عنه وكان علي رضي الله عنه يقول لا يجوز لحديث(3/166)
ص -86- ... روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في أيام العشر ونحن أخذنا بقول عمر رضي الله تعالى عنه لأن الصوم في هذه الأيام مندوب إليه وهو قياس صوم عاشوراء وصوم شعبان وقضاء رمضان في هذه الأوقات يجوز وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان عشر ذي الحجة", وتأويل النهي في حق من يعتاد صوم هذه الأيام تطوعا أنه لا ينبغي له أن يترك عادته ويؤدي ما عليه من القضاء في هذه الأيام.
قال: وإذا بلغ الغلام في يوم من رمضان فأفطر فيه فلا شيء عليه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا بلغ قبل الزوال فعليه أن يصوم وإن أفطر فعليه قضاء هذا اليوم لأن وقت النية يمتد إلى وقت الزوال في حق من كان أهلا للعبادة في أول النهار فصار بلوغه قبل الزوال كبلوغه ليلا فعليه أن ينوي الصوم.
وجه ظاهر الرواية: أن الخطاب بالصوم ما كان متوجها عليه في أول النهار وصوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا وإمساكه في أول النهار ما توقف على صوم الفرض لأنه لم يكن أهلا له فهو نظير الكافر يسلم ولو بلغ في غير رمضان في يوم فنوى الصوم تطوعا أجزأه بالاتفاق وفي الكافر يسلم اشتباه فقد ذكر في الجامع الصغير في صبي بلغ وكافر يسلم قال هما سواء وهذا يدل على أن نية كل واحد منهما صوم التطوع صحيح وأكثر مشايخنا على الفرق بين الفصلين فقالوا لا يصح من الكافر نية صوم التطوع بعد ما أسلم قبل الزوال لأنه ما كان أهلا للعبادة في أول النهار فلا يتوقف إمساكه على أن يصير عبادة بالنية قبل الزوال.
قال: وإذا ذاق الصائم بلسانه شيئا ولم يدخل حلقه لم يفطر لأن الفطر بوصول شيء إلى جوفه ولم يوجد والفم في حكم الظاهر. ألا ترى أن الصائم يتمضمض فلا يضره ذلك؟ ويكره له أن يعرض نفسه لشيء من هذا لأنه لا يأمن أن يدخل حلقه بعد ما أدخله فمه فيحوم حول الحمى قال صلى الله عليه وسلم: "فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه".(3/167)
قال: وإن دخل ذباب جوفه لم يفطره ولم يضره وهذا استحسان وكان ينبغي في القياس أن يفسد صومه لأنه ليس فيه أكثر من أنه غير مغذ وأنه لا صنع له فيه فكان نظير التراب يهال في حلقه
وفي الاستحسان لا يضره هذا لأنه لا يستطاع الامتناع منه فإن الصائم لا يجد بدا من أن يفتح فمه فيتحدث مع الناس وما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو ولأنه مما لا يتغذى به فلا ينعدم به معنى الإمساك وهو نظير الدخان والغبار يدخل حلقه قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وقد يدخل في هذا الاستحسان بصفة القياس فإنه لو كان الذباب في حلقه ثم طار لم يضره ولو كان هذا مفسدا للصوم لكان بوصوله إلى باطنه يفسد صومه وإن خرج بعد ذلك وإن نزل في حلقه ثلج أو مطر فقد اختلف مشايخنا فيه والصحيح أنه يفطره لأن هذا مما يستطاع الامتناع منه بأن يكون تحت السقف ولأن هذا مما يتغذى به.(3/168)
ص -87- ... قال: وإن كان بين أسنانه شيء فدخل جوفه لم يفطر لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فإن تسحر بالسويق فلا بد من أن يبقى بين أسنانه شيء فإذا أصبح يدخل في حلقه مع ريقه ثم ما يبقى بين الأسنان تبع لريقه فكما أنه إذا ابتلع ريقه لم يضره فكذلك ما هو تبع وهذا إذا كان صغيرا يبقى بين الأسنان عادة وهو بخلاف ما إذا دخل ذلك القدر في فمه لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه فإن كان بحيث لا يبقى بين الأسنان عادة يفسد صومه لأن هذا لا تكثر فيه البلوى والتحرز عنه ممكن وقدروا ذلك بالحمصة فإن كان دونها لم يفسد به الصوم وقدر الحمصة إذا أدخله في حلقه فسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال زفر رحمه الله تعالى عليه الكفارة لأنه ليس فيه أكثر من أنه طعام متغير فهو كالمفطر باللحم المنتن ولأبي يوسف أن هذا من جنس ما لا يتغذى به والطباع تعافه فهو نظير التراب ثم للفم حكم الباطن من وجه وحكم الظاهر من وجه والكفارة تسقط بالشبهة فلهذا أسقطنا عنه الكفارة.(3/169)
قال: رجل قال: لله علي صوم شهر فله أن يصومه متفرقا أما وجوب الصوم بنذره فلأنه عاهد الله عهدا والوفاء بالعهد واجب قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}[النحل: 91] وذم من ترك الوفاء بالعهد بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}[التوبة: 75] ثم ما كان من جنسه واجب شرعا صح التزامه بالنذر وما ليس من جنسه واجب شرعا كعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في رواية عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف فكأنه اعتبر في تلك الرواية كون المنذور قربة ثم ما يلزمه بالنذر فرع لما هو واجب بإيجاب الله تعالى وما أوجب الله تعالى من الصوم مطلقا فتعيين وقت الأداء إلى العبد والخيار إليه في الأداء متفرقا أو متتابعا كقضاء رمضان فكذلك ما يوجبه على نفسه ولأن صوم الشهر عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين الأيام وقت لا يقبل الصوم فلا يلزمه التتابع فيه إلا أن ينص عليه أو ينويه فإن المنوي إذا كان من محتملات لفظه جعل كالملفوظ.
قال: فإن سمى شهرا بعينه كرجب فعليه أن يصومه وإن لم يصمه فعليه القضاء وكذلك إن أفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم بالقياس على ما وجب بإيجاب الله تعالى من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان ويستوي إن كان قال متتابعا أو لم يقل لأن الصفة في العين غير معتبرة وأيام شهر بعينه متجاورة لا متتابعة فلا يلزمه صفة التتابع فيه وإن نص عليه أو نواه بخلاف ما إذا سمى شهرا بغير عينه لأن الوصف في غير المعين معتبر ثم في المعين إذا لم يصمه حتى وجب عليه القضاء فله أن يفرق القضاء لأن القضاء معتبر بالأداء كما في صوم رمضان.
قال: وإن كان أراد يمينا فعليه كفارة اليمين سواء أفطر في جميع الشهر أو في يوم منه,(3/170)
ص -88- ... لأن المنوي من محتملات لفظه فإن الحالف يعاهد الله تعالى كالناذر ثم شرط حنثه أن لا يصوم جميع الشهر فسواء أفطر فيه يوما أو أكثر فقد وجد شرط الحنث والحاصل أنه إذا لم ينو شيئا كان كلامه نذرا باعتبار الظاهر والعادة وإن نوى اليمين كان يمينا بنيته نذرا بظاهره وإن نواهما جميعا كان نذرا ويمينا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنهما لا يجتمعان في كلمة واحدة ولكنه إن نوى اليمين فهو يمين تلزمه الكفارة بالحنث دون القضاء وإن نواهما كان نذرا ولم يكن يمينا.
وجه قوله: أن حكم النذر يخالف حكم اليمين فلا يجتمعان في كلام واحد كقوله لامرأته أنت علي حرام إن نوى به الطلاق كان طلاقا وإن نوى به اليمين كان يمينا ولا يجتمعان وإن نواهما.
وليس هذا نظير قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في اجتماع معنى الحقيقة والمجاز في كلام واحد في بعض مسائل الأيمان لأن حكم المجاز هناك غير مخالف لحكم الحقيقة فكان بمنزلة لفظ العموم.
وجه قولهما: أن في لفظه كلمتين إحداهما يمين وهو قوله لله فإن معناه بالله قال بن عباس رضي الله عنه دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وهذا لأن اللام والباء يتعاقبان قال الله تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ}[طه: 71] وفي موضع آخر {بِهِ}[البقرة: 137]
وقوله علي نذر إلا أن عند الإطلاق غلب عليه معنى النذر باعتبار العادة فحمل عليه فإذا نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته فيعمل بنيته وليس هذا نظير ما يقال إن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تجتمع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه وإنما ذلك في كلمة واحدة لا في كلمتين.(3/171)
قال: وإن نذر صوم سنة بعينها أفطر يوم النحر ويوم الفطر وأيام التشريق لأن الصوم في هذا الأيام منهي عنه شرعا وإلى العبد ولاية الإيجاب بنذره لا رفع المنهي ثم عليه قضاء هذه الأيام عندنا وقال زفر, رحمه الله تعالى ليس عليه القضاء وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وأصل المسألة إذا قال: لله علي أن أصوم غدا وغدا يوم النحر أو قال لله علي أن أصوم يوم النحر صح نذره في الوجهين ويؤمر بأن يصوم يوما آخر فإن صام في ذلك اليوم خرج من موجب نذره وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يصح نذره وهو رواية بن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا قال صلى الله عليه وسلم: لله علي صوم يوم النحر لم يصح نذره وإن قال غدا وغدا يوم النحر صح نذره.(3/172)
ص -89- ... وجه قولهما أن الصوم غير مشروع في هذه الأيام وليس إلى العبد شرع ما ليس بمشروع كالصوم ليلا
وبيانه أن الشرع عين هذا الزمان للأكل بقوله عليه السلام: "فإنها أيام أكل وشرب", وتعينه لأحد الضدين ينفي الضد الآخر فيه والدليل على أنه لا يصلح لأداء شيء من الواجبات أن الصوم اسم لما هو قربة والمنهي عنه يكون معصية فلا يكون صوما.
ولنا: أن الصوم مشروع في هذه الأيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم هذه الأيام وموجب النهي الانتهاء والانتهاء عما ليس بمشروع لا يتحقق ولأن موجب النهي الانتهاء على وجه يكون للعبد فيه اختيار بين أن ينتهي فيثاب عليه وبين أن يقدم على الارتكاب فيعاقب عليه وذلك لا يتحقق إذا لم يبق الصوم مشروعا فيه وموجب النهي غير موجب النسخ فإذا كان موجب النسخ رفع المشروع عرفنا أنه ليس موجب النهي رفع المشروع والمعنى الذي لأجله كان الصوم مشروعا في سائر الأيام كون الامساك فيها بخلاف العادة وهذا المعنى في هذه الأيام أظهر والشرع أمر بالفطر فيه لا أنه جعله مفطرا فيه بخلاف الليل فقد جعله مفطرا بدخول الليل بقوله: "فقد أفطر الصائم أكل أولم يأكل". والنهي يجعل الأداء من العبد فاسدا ولهذا لا يصلح لأداء شيء من الواجبات به ولكن صفة الفساد لا تمنع بقاء أصله شرعا كمن أفسد إحرامه نفي عقد الإحرام وعليه أداء الأفعال شرعا.(3/173)
وإذا ثبت أن الصوم مشروع في هذا اليوم فقد حصل نذره مضافا إلى محله فيصح وليس في النذر ارتكاب المنهي إنما ذلك في أداء الصوم ولهذا أمرناه بأن يصوم يوما آخر كيلا يكون مرتكبا للنهي ولو صام في هذه الأيام خرج عن موجب نذره لأنه ما التزم إلا هذا القدر وقد أدى كمن قال لله علي أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء خرج عن موجب نذره بإعتاقها لأنه ما التزم إلا هذا القدر وقد أدى بإعتاقها وإن كان لا يتأدى شيء من الواجبات بها وكمن نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فعليه أن يصلي في وقت آخر فإذا صلى في ذلك الوقت خرج عن موجب نذره.
وجه رواية الحسن أنه إذا نص على يوم النحر فقد صرح في نذره بما هو منهي عنه فلم يصح وإذا قال غدا لم يصرح في نذره بما هو منهي عنه فصح نذره وهو كالمرأة إذا قالت لله علي أن أصوم يوم حيضي لم يصح نذرها ولو قالت غدا وغدا يوم حيضها صح نذرها.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا نذر صوم سنة بعينها فعليه قضاء خمسة أيام إذا أفطر فيها يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وإن التزم سنة بغير عينها فعليه قضاء خمسة وثلاثين يوما لأن صوم رمضان لا يكون عن المنذور ولو قال سنة متتابعة فعليه أن يصل هذا القضاء بالأداء وكان محمد بن سلمة رحمه الله تعالى يقول في هذا الفصل لا يفطر في الأيام الخمسة لأن هذا القدر من التتابع في وسعه والأول أصح وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وكذلك المرأة إن نذرت صوم سنة بعينها قضت أيام الحيض لما بينا.(3/174)
ص -90- ... قال: رجل جعل لله عليه أن يصوم كل خميس يأتي عليه فأفطر خميسا فعليه القضاء وكفارة اليمين إن أراد يمينا فإن أفطر خميسا آخر قضاه أيضا ولم يكن عليه كفارة أخرى لأن اليمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لا يحنث مرة أخرى وبحكم النذر لزمه صوم كل خميس فكل ما أفطر في خميس كان عليه قضاؤه وهذا لأن إيجاب القضاء في كل خميس لا يقتضي تعدد النذر بخلاف إيجاب الكفارتين.
قال: وإن جعل لله عليه أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا فقدم فلان ليلا لم يلزمه شيء لأن اليوم حقيقة لبياض النهار ولم يوجد ذلك عند قدوم فلان ولا يقال اليوم بمعنى الوقت كما لو قال لامرأته أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه فلان لأن اليوم قد يحتمل معنى الوقت ولكن إذا قرن به ما يختص بأحد الوقتين وهو بياض النهار علم أنه ليس مراده الوقت مطلقا بخلاف الطلاق فإنه لا يختص بأحد الوقتين وإن قدم فلان في يوم قد أكل فيه فعليه أن يصوم ذلك اليوم فيما يستقبل ولا يقضي هذا اليوم الذي أكل فيه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليه قضاءه قال لأن السبب هو النذر والوقت شرط فيه فعند وجوده يستند الوجوب إلى نذره فكأنه قال لله علي أن أصوم غدا فأكل الغد فعليه قضاؤه.
وجه ظاهر الرواية: أنه أضاف النذر إلى وقت قدوم فلان فعند وجود القدوم يصير كالمجدد للنذر كما هو الأصل أن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنجز ومن أكل في يوم ثم قال لله علي أن أصوم هذا اليوم أبدا فعليه أن يصومه فيما يستقبل وليس عليه قضاء هذا اليوم وكذلك لو قدم فلان بعد الزوال وجواب أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا غير محفوظ ويجوز أن يفرق بينهما بعلة أن ما بعد الزوال ليس بوقت لالتزام الصوم من أحد وما قبل الزوال إن لم يكن وقتا لالتزام الصوم في حق الأكل فهو وقت في حق غيره وإلا ظهر أنه يسوي بينهما وإن كان قدم قبل الزوال ولم يكن أكل فيه صامه لبقاء وقت النية عند القدوم وصار كالمنجز للنذر في الحال.(3/175)
قال: رجل أصبح صائما يوم الفطر ثم أفطر فلا قضاء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعليه القضاء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الشروع ملزم كالنذر بدليل سائر الأيام والنهي لا يمنع صحة الشروع فيجب القضاء كمن شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لم يجب عليه الإتمام بعد الشروع لأن فيه معصية ووجوب القضاء ينبني على وجوب الإتمام ولأن القدر المؤدى كان فاسدا لما فيه من ارتكاب النهي فلا يجب عليه حفظه ووجوب الإتمام والقضاء لحفظ المؤدى بخلاف النذر فإنه بنذره صار مرتكبا للنهي وفي الشروع في الصلاة في الوقت المكروه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبعد التسليم الفرق من وجهين.
أحدهما: أن بالشروع هناك لا يصير مرتكبا للنهي لأن بمجرد التكبير لا يصير مصليا,(3/176)
ص -91- ... كمن حلف أن لا يصلي فكبر لا يحنث فلهذا صح الشروع وهنا بمجرد الشروع صار صائما مرتكبا للنهي بدليل مسألة اليمين.
ولأن هناك يمكنه الأداء بذلك الشروع لا بصفة الكراهة بأن يصبر حتى تبيض الشمس فلهذا لزمه وهنا بهذا الشروع لا يمكنه الأداء بدون صفة الكراهة فلم تلزمه.
قال: امرأة قالت: لله علي أن أصوم يوم حيضي فلا شيء عليها لأن الحيض ينافي أداء الصوم ومع التصريح بالمنافي لا يصح الالتزام كمن قال لله علي أن أصوم اليوم الذي أكلت فيه وكذلك إن حاضت ثم قالت لله علي أن أصوم هذا اليوم لأن المنافي متحقق فكأنها صرحت به بخلاف ما إذا قالت لله علي أن أصوم غدا فحاضت من الغد لأنه ليس في لفظها تصريح بالمنافي فصح الالتزام ثم تعذر عليها الأداء بما اعترض من الحيض فعليها القضاء.
قال: وإذا دخل الغبار أو الدخان حلق الصائم لم يضره لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فالتنفس لا بد منه للصائم والتكليف بحسب الوسع ولو طعن برمح حتى وصل إلى جوفه لم يفطره لأن كون الرمح بيد الطاعن يمنع وصوله إلى باطنه حكما فإن بقي الزج في جوفه فسد صومه لأنه صار مغيبا حقيقة فكان واصلا إلى باطنه وهو قياس ما لو ابتلع خيطا فإن بقي أحد الجانبين بيده لم يفسد صومه وإن لم يبق فسد صومه.(3/177)
قال: ولو أكره على أكل وشرب فعليه القضاء دون الكفارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن تناول بنفسه مكرها فكذلك وإن صب في حلقه لم يفسد صومه واعتبر صنعه في ذلك ونحن نعتبر وصول المفطر إلى باطنه مع ذكره للصوم وذلك لا يختلف بفعله وبفعل غيره وكذلك النائم إن صب في حلقه ماء فسد صومه عندنا ولم يفسد عند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأنه أعذر من الناسي إذا لا صنع له أصلا ولكنا نقول الناسي معدول به عن القياس بالنص وهذا ليس في معناه لأن النسيان لا صنع فيه للعباد فإذا كان العذر ممن له الحق منع فساد صومه وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أطعمك وسقاك". وهنا إنما جاء العذر بسبب مضاف إلى العباد وهو النوم منه والصب من غيره وهذا غير مانع من فساد الصوم لوصول المفطر إلى باطنه.
قال: "وللصائم أن يستاك بالسواك أول النهار وآخره" وكره الشافعي رحمه الله تعالى للصائم السواك آخر النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك". والسواك يزيل الخلوف وما هو أثر العبادة يكره إزالته كدم الشهيد.ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "خير خلال الصائم السواك" وقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة وبالسواك عند كل وضوء". ثم هو تطهير للفم فلا يكره للصائم كالمضمضة.
والسواك لا يزيل الخلوف بل يزيد فيه إنما يزيل النكهة الكريهة ومراده صلى الله عليه وسلم بيان درجة(3/178)
ص -92- ... الصائم لا عين الخلوف فإن الله تعالى يتعالى عن أن تلحقه الروائح ودم الشهيد يبقى عليه ليكون شاهدا له على خصمه يوم القيامة والصوم بين العبد وبين من يعلم السر وأخفى فلا حاجة إلى الشاهد.
والسواك الرطب واليابس فيه سواء لقول بن عباس رضي الله عنه لا بأس للصائم أن يستاك بالسواك الأخضر وكذلك لا بأس أن يبله بالماء إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره ذلك لأنه يجد منه بدا فهو نظير الذوق وإدخال الماء في فمه من غير حاجة. ولنا: حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك بالسواك الرطب وهو صائم.
قال: وإذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها أو ولدها أفطرت لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع الصوم". ولأنه يلحقها الحرج في نفسها أو ولدها والحرج عذر في الفطر كالمريض والمسافر وعليها القضاء ولا كفارة عليها لأنها ليست بجانية في الفطر ولا فدية عليها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان خافت على نفسها فكذلك وإن خافت على ولدها فعليها الفدية ومذهبه مروي عن بن عمر رحمه الله تعالى مذهبنا مروي عن علي وبن عباس رضي الله عنهما إلا أن المروي عن بن عمر الفدية دون القضاء والجمع بينهما لم يشتهر عن أحد من الصحابة وهو يقول الفطر منفعة حصلت بسبب نفس عاجزة عن الصوم خلقة لا علة فيوجب الفدية كفطر الشيخ الفاني وهذا لأن الفطر منفعة شخصين منفعتها ومنفعة ولدها فباعتبار منفعتها يجب القضاء وباعتبار منفعة ولدها تجب الفدية.(3/179)
ولنا: أن هذا مفطر يرجى له القضاء فلا يلزمه الفداء كالمريض والمسافر وهذا لأن الفدية مشروعة خلفا عن الصوم والجمع بين الخلف والأصل لا يكون وهو خلف غير معقول بل هو ثابت بالنص في حق من لا يطيق الصوم فلا يجوز إيجابه في حق من يطيق الصوم ولا يجوز أن يجب باعتبار الولد لأنه لا صوم على الولد فكيف يجب ما هو خلف عنه ولأنه لا يجب في مال الولد ولو كان باعتباره لوجب في ماله كنفقته ولتضاعف بتعدد الولد.
وأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه يفطر ويطعم لكل يوم نصف صاع من حنطة وقال مالك لا فدية عليه قال لأن أصل الصوم لم يلزمه لكونه عاجزا عنه فكيف يلزمه خلفه لأن الخلف مشروع ليقوم مقام الأصل ولنا أن الصوم قد لزمه لشهود الشهر حتى لو تحمل المشقة وصام كان مؤديا للفرض وإنما يباح له الفطر لأجل الحرج وعذره ليس بعرض الزوال حتى يصار إلى القضاء فوجبت الفدية كمن مات وعليه الصوم يوضحه أن الصوم لزمه لا باعتبار عينه بل باعتبار خلفه كالكفارة تجب على العبد لا باعتبار المال بل باعتبار خلفه وهو الصوم والأصل فيه قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ(3/180)
ص -93- ... مِسْكِينٍ}[البقرة: 184] جاء عن بن عباس رضي الله تعالى عنه: وعلى الذين يطيقونه فلا يطيقونه فدية. وقيل حرف لا مضمر فيه معناه وعلى الذين لا يطيقونه قال الله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}[النساء: 176] أي لئلا تضلوا {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الانبياء: 31] أي لئلا تميد بكم
قال: وإذا أكل الصائم الطين أو الجص أو الحصاة متعمدا فعليه القضاء ولا كفارة عليه وقد بينا هذا ومراده طين الأرض فأما إذا أكل الطين الارمني تلزمه الكفارة رواه بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لأن هذا مما يتداوى به فإنه والغاريقون سواء.
قال: ابن رستم قلت لمحمد فإن أكل من هذا الطين الذي يقلى ويؤكل قال لا أدري ما هذا والصحيح أنه تلزمه الكفارة لأنه يؤكل تفكها ويؤكل على سبيل التداوي فقد ينفع المرطوب.
قال: ويكره للصائم مضغ العلك ولا يفطره لأن مضغ العلك يدبغ المعدة ويشهي الطعام ولم يأن له فهو اشتغال بما لا يفيد والناظر إليه من بعد يظن أنه يتناول شيئا فيتهمه ولا يأمن أن يدخل شيئا منه حلقه فيكون معرضا صومه للفساد ولكن لا يفطره لأن عين العلك لا تصل إلى حلقه إنما يصل إليه طعمه وهذا إذا كان العلك مصلحا ملتئما فأما إذا لم يكن ملتئما فمضغه حتى صار ملتئما يفسد صومه لأنه تتفتت أجزاؤه فيدخل حلقه مع ريقه.
قال ولا بأس بأن تمضغ المرأة لصبيها طعاما إذا لم تجد منه بدا لأن الحال حال الضرورة ويجوز لها الفطر لحاجة الولد فلأن يجوز مضغ الطعام كان أولى فأما إذا كانت تجد من ذلك بدا يكره لها ذلك لأنها لا تأمن أن يدخل شيء منه حلقها فكانت معرضة صومها للفساد وذلك مكروه عند عدم الحاجة قال صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه", والله تعالى أعلم بالصواب.
باب صدقة الفطر(3/181)
الأصل في وجوب صدقة الفطر حديث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا صاعا من تمر وصاعا من شعير وحديث عبد الله بن ثعلبة العدوي ويقال العبدري الذي بدأ به محمد رحمه الله تعالى الباب فقال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير"، وحديث بن عباس رضي الله عنه أنه خطب بالبصرة فقال: أدوا زكاة فطركم فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال: "من هنا من أهل المدينة قوموا رحمكم الله فعلموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في هذا اليوم أن نؤدي صدقة الفطر عن كل حر وعبد نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير.ثم الشافعي رحمه الله تعالى أخذ بحديث(3/182)
ص -94- ... ابن عمر وقال إنها فريضة بناء على أصله أنه لا فرق بين الواجب والفريضة وعندنا هي واجبة لأن ثبوتها بدليل موجب للعمل غير موجب علم اليقين وهو خبر الواحد وما يكون بهذه الصفة يكون واجبا في حق العمل ولا يكون فرضا حتى لا يكفر جاحده إنما الفرض ما ثبت بدليل موجب للعلم
وقيل في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15] أي تطهر بأداء زكاة الفطر وصلى صلاة العيد بعده.
ثم سبب وجوب صدقة الفطر رأس يمونه بولايته عليه قال صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون", وحرف عن للانتزاع من الشيء فيحتمل أحد وجهين إما أن يكون سببا ينتزع منه الحكم أو محلا يجب عليه ثم يؤدى عنه وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر فتعين الأول ولأنه يتضاعف بتضاعف الرءوس فعلم أن السبب هو الرأس وإنما يعمل في وقت مخصوص وهو وقت الفطر ولهذا يضاف إليه فيقال صدقة الفطر والإضافة في الأصل وإن كان إلى السبب فقد يضاف إلى الشرط مجازا فإن الإضافة تحتمل الاستعارة فأما التضاعف بتضاعف الرءوس لا يحتمل الاستعارة ثم هي عبادة فيها معنى المؤنة ولهذا لا يشترط لوجوبه كمال الأهلية ومعنى المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا على الوقت.
وإذا كان الوجوب في وقت الفطر من رمضان وهو عند طلوع الفجر من يوم الفطر يستحب أداؤه كما وجب قبل الخروج إلى المصلى لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يؤدوا صدقة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى وقال: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم", والمعنى أنه إذا أدى قبل الخروج تفرغ قلب الفقير عن حاجة العيال فتفرغ لأداء الصلاة.
وقيل في يوم الفطر يستحب للمرء ستة أشياء أن يغتسل ويستاك ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه ويؤدي فطرته ويتناول شيئا ثم يخرج إلى المصلى.(3/183)
قال: وعلى المسلم الموسر أن يؤدي زكاة الفطر عن نفسه أما اشتراط الإسلام فلان في آخر حديث بن عمر رضي الله عنه قال من المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم: "في زكاة الفطر طهرة للصائمين من اللغو والرفث".وقال عمر رضي الله عنه الصوم محبوس بين السماء والأرض حتى تؤدي زكاة الفطر ولأنها عبادة فلا تجب إلا على من هو أهل لثوابها وهو المسلم وأما اشتراط اليسار فقول علمائنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى من ملك قوت يومه وزيادة بقدر ما يؤدي زكاة الفطر فيؤدي زكاة الفطر لأنه ذكر في آخر حديث بن عمر رضي الله عنه غني أو فقير ولأنه واجد لما يتصدق به فضلا عن حاجته فيلزمه الأداء كالموسر وهذا لأن صدقة الفطر تشبه الكفارة دون الزكاة حتى لا يعتبر فيها الحول وفي الكفارة يعتبر تيسر الأداء دون الغنى فكذلك في زكاة الفطر.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم : "لا صدقة إلا عن ظهر غنى". ولأن الفقير محل الصرف إليه فلا يجب(3/184)
ص -95- ... عليه الأداء كالذي لا يملك إلا قوت يومه وهذا لأن الشرع لا يرد بما لا يفيد فلو قلنا بأنه يأخذ من غيره ويؤدي عن نفسه كان اشتغالا بما لا يفيد وحديث بن عمر رضي الله عنه محمول على ما كان في الابتداء ثم انتسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غنى", أو: "ما أبقت غنى" أو هو محمول على الندب فإنه قال في آخره: "أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيعطيه الله أفضل مما أعطى".
ثم اليسار المعتبر لإيجاب زكاة الفطر أن يملك مائتي درهم أو ما يساوي مائتي درهم من الدراهم التي تغلب النقرة فيها على الغش فضلا عن حاجته ويتعلق بهذا اليسار أحكام ثلاثة حرمة أخذ الصدقة ووجوب زكاة الفطر والأضحية وكما يؤدي عن نفسه فكذلك يؤدي عن أولاده الصغار لأن رأس أولاده في معنى رأسه فإنه يمونهم بولايته وقد بينا أن سبب الوجوب هذا وكذلك يؤدي عن مماليكه للخدمة لأنه يمونهم بولايته عليهم القن والمدبر وأم الولد في ذلك سواء فإن ولايته عليهم لا تنعدم بالتدبير والاستيلاد إنما تستحيل المالية بهذا السبب ولا عبرة للمالية فإنه يؤدي عن نفسه وعن أولاده الصغار ولا مالية فيهم ما خلا مكاتبيه فإنه لا يؤدي عنهم لأن ولايته عليهم قد اختلت بسبب الكتابة فإن المكاتب صار بمنزلة الحر في حق اليد والتصرف.
وحكي عن عطاء أنه يؤدي عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا عن كل حر وعبد". وقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: " أدوا عمن تمونون", وهو لا يمون المكاتب.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يؤدي زكاة الفطر عن جميع مماليكه إلا المكاتبين له وليس على المكاتب أن يؤدي عن نفسه ولا عن مماليكه إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يجعل المكاتب مالكا لكسبه بناء على أصله أن المملوك من أهل ملك المال إذا ملكه المولى(3/185)
وعندنا المملوك مال ليس من أهل ملك المال للتضاد بين المالكية وبين المملوكية والمكاتب ليس بمالك لكسبه على الحقيقة وقد بينا أن شرط الوجوب الغنا وذلك لا يثبت بدون حقيقة الملك والدليل عليه إباحة الأخذ له وإن كان في يده كسب.
قال: ويؤدي المسلم عن مملوكه الكافر عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يؤدى عنه وهذه المسألة تنبني على أصل وهو أن الوجوب عندنا على المولى عن عبده فتعتبر أهلية المولى وعنده لوجوب على العبد ثم يتحمل المولى عنه فيعتبر كون العبد أهلا للوجوب عليه وهو يستدل لإثبات هذا الأصل بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد ولأنها طهرة للصائم ووجوب الصوم على العبد وقيل صدقة الفطر للصوم كسجود السهو للصلاة والسجود يجب على المصلي لا على غيره وقال بن عمر في صدقة الفطر ثلاثة أشياء قبول الصوم والفلاح والنجاة من سكرات الموت وعذاب القبر.(3/186)
ص -96- ... ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا عمن تمونون", فإنما الوجوب على من خوطب بالأداء وجعله بمنزلة النفقة ونفقة المملوك على المولى فكذلك صدقة الفطر عنه ثم هذه صدقة واجبة باعتبار ملكه فكانت عليه ابتداء كزكاة المال عن عبد التجارة وهذا لأن حال العبد دون حال فقير لا يملك شيئا لأن ذلك الفقير من أهل الملك والعبد لا فإذا لم تجب على الفقير الذي لا يملك شيئا فلأن لا تجب على العبد أولى والدليل عليه أنه لا يخاطب بالأداء بحال بخلاف الصغير الذي له مال فإنه يخاطب بالأداء بعد البلوغ إذا لم يؤده عنه وليه وحرف على في حديث بن عمر بمعنى حرف عن قال الله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين: 2] أي عن الناس ولا معتبر بالصوم فإنه يجب على الرضيع ولا صوم عليه.
وعلى سبيل الابتداء في المسألة لنا حديث نافع عن بن عمر ومقسم عن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي", وهو نص ولكنه شاذ وقد بينا أن السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك لا يختلف بكفر المملوك وإسلامه ولا يؤدي الكافر عن مملوكه المسلم أما عندنا فلأن الوجوب على المولى والمولى ليس بأهل له وعند الشافعي رحمه الله تعالى تحمل المولى عن عبده يستدعي أهلية أداء العبادة والكافر ليس بأهل له والوجوب على العبد عنده باعتبار تحمل المولى الأداء عنه فإذا انعدم ذلك في حق المملوك لم يجب أصلا.
قال: وإذا كان للولد الصغير مال أدى عنه أبوه من مال الصغير في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وكذلك يضحى عنه من ماله استحسانا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكره في كتاب الحيل وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى يؤدي من مال نفسه ولو أدى من مال الصغير ضمن.(3/187)
وكذلك الخلاف في الوصي إلا أن عند محمد وزفر رحمهما الله تعالى الوصي لا يؤدى عنه أصلا والقياس ما قالا لأنها زكاة في الشريعة كزكاة المال فلا تجب على الصغير ولأنها عبادة والصبي ليس بأهل لوجوب العبادة عليه فإن الوجوب ينبني على الخطاب استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى فقالا فيها معنى المؤنة بدليل الوجوب على الغير بسبب الغير فهو كالنفقة ونفقة الصغير في ماله إذا كان له مال ثم هذه طهرة شرعية فتقاس بنفقة الختان وهذا لأنا لو لم نوجب عليه احتجنا إلى الإيجاب على الأب فكان في الإيجاب في ماله حفظ حق الأب وهو إسقاط عنه ومال الصبي يحتمل حقوق العباد وبه فارق الزكاة ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كما يؤدي عن الصغير من ماله فكذلك عن مماليك الصغير يؤدي من مال الصغير وعند محمد لا يؤدى عن مماليكه أصلا.
والمعتوه والمجنون في ذلك بمنزلة الصغير. وروى عن محمد رحمه الله تعالى: أن(3/188)
ص -97- ... الأب إنما يؤدي عن ابنه المعتوه والمجنون إذا بلغ كذلك فأما إذا بلغ مفيقا ثم جن فليس عليه أن يؤدي عنه من مال نفسه ولا من مال ولده لأنه إذا ولد مجنونا بقي ما كان واجبا ببقاء ولايته فأما إذا بلغ مفيقا فقد سقط عنه لزوال ولايته فلا يعود بعد ذلك وإن عادت الولاية لأجل الضرورة وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك لا يختلف بالجنون الأصلي والطارئ.
قال: وليس على الرجل أن يؤدي عن أولاده الكبار وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان كانوا زمنى معسرين فعليه الأداء عنهم وإن كانوا أصحاء معسرين في عياله فله فيه وجهان واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون", هو يمون ولده الزمن والمعسر.وأصحابنا قالوا بأن السبب رأس يمونه بولايته عليه ليكون في معنى رأسه ولا ولاية له على أولاده الزمنى إذا كانوا كبارا وبدون تقرر السبب لا يثبت الوجوب.
قال: ولا يؤدي الجد عن نوافله الصغار وإن كانوا في عياله وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن عليه الأداء عنهم بعد موت الأب وهذه أربع مسائل يخالف الجد فيها الأب في ظاهر الرواية ولا يخالف في رواية الحسن:
أحدها: وجوب صدقة الفطر.
والثاني: التبعية في الإسلام.
والثالث: جر الولاء.
والرابع: الوصية لقرابة فلان.
وجه رواية الحسن: أن ولاية الجد عند عدم الأب ولاية متكاملة وهو يمونهم فيتقرر السبب في حقه.
ووجه ظاهر الرواية: أن ولاية الجد منتقلة من الأب إليه فهو نظير ولاية الوصي وهذا لأن السبب إنما يتقرر إذا كان رأسه في معنى رأس نفسه باعتبار الولاية وذلك لا يتقرر في حق الجد لأن ثبوت ولايته بواسطة وولايته على نفسه ثابتة بدون الواسطة.(3/189)
قال: ولا يؤدي الزوج زكاة الفطر عن زوجته وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يجب عليه الأداء عنها لقوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا عمن تمونون", وهو يمون زوجته وملكه عليها نظير ملك المولى على أم ولده فإنه يثبت به الفراش وحل الوطى ء فكما يجب عليه الأداء عن أم ولده فكذلك عن زوجته.
ولنا: أن عليها الأداء عن مماليكها ومن يجب عليه الأداء من غيره لا يجب على الغير الأداء عنه وهذا لأن نفسها أقرب إليها من نفس مماليكها ثم النفقة على الزوج باعتبار العقد فلا يكون موجبا للصدقة كنفقة الأجير على المستأجر وهذا لأن في الصدقة معنى العبادة وهو ما تزوجها ليحمل عنها العبادات.(3/190)
ص -98- ... وقد بينا أن مجرد المؤنة بدون الولاية المطلقة لا ينهض سببا وبعقد النكاح لا يثبت له عليها الولاية فيما سوى حقوق النكاح بخلاف أم الولد فإن للمولى عليها ولاية مطلقة بسبب ملك الرقبة فإن أدى الزوج عن زوجته بأمرها جاز وإن أدى عنها بغير أمرها لم يجز في القياس كما لو أدى عن أجنبي ويجوز استحسانا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن العادة أن الزوج هو الذي يؤدي فكان الأمر منها ثابتا باعتبار العادة فيكون كالثابت بالنص.
قال: وليس على الرجل أن يؤدي عن أبويه ولا عن أحد من قرابته وإن كانوا في عياله لأنه لا ولاية له عليهم ولأنه متبرع في الإنفاق عليهم فهو كمن تبرع بالإنفاق على الغير فلا يجب عليه الصدقة عنهم باعتباره.
قال: ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه حيث هو ويكره له أن يبعث بصدقته إلى موضع آخر لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه من نقل عشره وصدقته عن مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته عشره وصدقته في مخلاف عشيرته وأما عن رقيقه فإنما يؤدي صدقة الفطر حيث هو وإن كانوا في بلد آخر وحكى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه رجع عن هذا القول فقال يؤدي عنهم حيث هم وجعله قياس زكاة المال ولا خلاف أن المعتبر هناك موضع المال لا موضع صاحبه فهنا كذلك.
ووجه ظاهر الرواية: أن الوجوب على المولى في ذمته ورأس المماليك في حقه كرأسه فكما أن في أداء الصدقة عن نفسه يعتبر موضعه فكذلك عن مماليكه بخلاف الزكاة فإن الواجب جزء من المال حتى يسقط بهلاك المال وهنا لا يسقط بهلاك المماليك بعد الوجوب على المولى.
قال: رجلان بينهما مملوك للخدمة لا يجب على واحد منهما صدقة الفطر عنه عندنا(3/191)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجب عليهما وهو بناء على الأصل الذي تقدم بيانه فإن عنده الوجوب على العبد وهو كامل في نفسه وعندنا الوجوب على المولى عن عبده وكل واحد منهما لا يملك ما يسمى عبدا فإن نصف العبد ليس بعبد وعلى سبيل الابتداء هو يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون", وهما يمونانه فإن نفقته عليهما فكذلك الصدقة عنه.
ولنا: أن السبب رأس يمونه بولايته عليه ولا ولاية لواحد منهما عليه حتى لو أراد أن يزوجه لا يملك ذلك وبمجرد وجوب النفقة لا يكون عليه وجوب الصدقة فإن النفقة تجب باعتبار ملك سائر الحيوانات ولا تجب الصدقة ما لم يتقرر السبب وهو رأس يمونه بولايته عليه.
قال: فإن كان بينهما مماليك للخدمة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب(3/192)
ص -99- ... على واحد منهما صدقة الفطر عنهم، وعند محمد رحمه الله تعالى يجب على كل واحد منهما الصدقة في حصته إذا كان كاملا في نفسه حتى إذا كان بينهما خمسة أعبد يجب على كل واحد منهما الصدقة عن عبدين ومذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى مضطرب ذكر في بعض روايات هذا الكتاب كقول محمد رحمه الله تعالى والأصح أن قوله كقول أبي حنيفة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى مر على أصله فإنه لا يرى قسمة الرقيق جبرا فلا يملك كل واحد منهما ما يسمى عبدا ومحمد مر على أصله فإنه يرى قسمة الرقيق جبرا وباعتبار القسمة ملك كل واحد منهما في البعض متكامل وكذلك مذهب أبي يوسف إن كان قوله كقول محمد وإن كان قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فعذره أن القسمة تنبني على الملك فأما وجوب الصدقة فينبني على الولاية لا على الملك حتى تجب الصدقة عن الولد الصغير وليس لواحد منهما ولاية متكاملة على شيء من هذه الرءوس.
قال: فإن كان بينهما جارية فجاءت بولد فادعياه ثم مر يوم الفطر فلا صدقة على واحد منهما عن الأم لما بينا فأما على الولد يجب على كل واحد منهما صدقة كاملة في قول أبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى تجب عليهما صدقة واحدة عنه ولا رواية فيه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فمحمد يقول الأب أحدهما في الحقيقة وصدقة الفطر عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر فجعلناها عليهما نصفين ألا ترى أنهما يرثانه ميراث بن واحد وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هو بن لكل واحد منهما بكماله لأن البنوة لا تحتمل التجزيء ألا ترى أنه يرث من كل واحد منهما ميراث بن كامل فكذلك يجب على كل واحد منهما عنه صدقة كاملة.(3/193)
قال: وليس على الرجل صدقة الفطر في مماليك التجارة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب وهو بناء على الأصل الذي بينا فإن عنده الوجوب على العبد وزكاة التجارة على المولى فلا يمنع ذلك وجوب زكاة الفطر على العبد وعندنا الوجوب على المولى كزكاة التجارة فلا يجتمع زكاتان على ملك واحد على رجل واحد.
قال: وله أن يجمع صدقة نفسه ومماليكه فيعطيها مسكينا واحدا لقوله صلى الله عليه وسلم: " أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم", والإغناء يحصل بصرف الكل إلى واحد فوق ما يحصل بالتفريق ولأن المعتبر القدر المنصوص عليه وصفة الفقر في المصروف إليه وذلك لا يختلف بالتفريق والجمع فجاز الكل وهذا بخلاف الكفارة فإنه لو صرف الكل إلى مسكين واحد جملة لا يجوز لأن العدد في المصروف إليه منصوص عليه فلا بد من وجوده صورة ومعنى.
قال: فإن أعطي قيمة الحنطة جاز عندنا لأن المعتبر حصول الغنى وذلك يحصل بالقيمة كما يحصل بالحنطة وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز وأصل الخلاف في الزكاة وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله تعالى يقول أداء الحنطة أفضل من أداء القيمة,(3/194)
ص -100- ... لأنه أقرب إلى امتثال الأمر وأبعد عن اختلاف العلماء فكان الاحتياط فيه وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول أداء القيمة أفضل لأنه أقرب إلى منفعة الفقير فإنه يشتري به للحال ما يحتاج إليه والتنصيص على الحنطة والشعير كان لأن البياعات في ذلك الوقت بالمدينة يكون بها فأما في ديارنا البياعات تجرى بالنقود وهي أعز الأموال فالأداء منها أفضل.
وقال: ومن مات من مماليكه وولده ليلة العيد فلا صدقة عليه عنهم ومن مات بعد الصبح فالصدقة واجبة عنهم ولا خلاف أن وجوب الصدقة يتعلق بالفطر من رمضان وإنما الخلاف في وقت الفطر من رمضان عندنا وقت الفطر عند طلوع الفجر من يوم الفطر وعنده وقت غروب الشمس من الليلة التي يهل بها هلال شوال حجته لإثبات هذا الأصل أن حقيقة الفطر عند غروب الشمس وكذلك انسلاخ شهر رمضان يكون عن رؤية هلال شوال وذلك عند غروب الشمس وحجتنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنهاكم عن صوم يومين يوم تفطرون فيه من صومكم ويوم تأكلون فيه لحم نسككم". ولأن حقيقة الفطر عند غروب الشمس كما يكون في هذا اليوم كذلك فيما قبله.
والفطر من رمضان إنما يتحقق بما يكون مخالفا لما تقدم وذلك عند طلوع الفجر لأن فيما تقدم كان يلزمه الصوم في هذا الوقت وفي هذا اليوم يلزمه الفطر وهذا اليوم يسمى يوم الفطر فينبغي أن يكون الفطر من رمضان فيه ليتحقق هذا الاسم كيوم الجمعة تجب فيه الجمعة وتؤدى فيه ليتحقق هذا الاسم فيه.(3/195)
إذا عرفنا هذا فنقول كل من أسلم من الكفار ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر عندنا لأن وقت الوجوب جاء وهو مسلم وكل من يولد ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر عندنا لأنه جاء وقت الوجوب وهو منفصل ومن مات من أولاده ومماليكه ليلة الفطر فليس عليه الصدقة عنه لأنه جاء وقت الوجوب وهو ميت ومن مات بعد طلوع الفجر منهم فعليه الصدقة عنه لأن وقت الوجوب جاء وهو حي وصدقة الفطر بعد ما وجبت لا تسقط بموت المؤدى عنه بخلاف الزكاة فإن الواجب هناك جزء من المال وبهلاكه يفوت محل الواجب وهنا الصدقة تجب في ذمة المؤدي فبموت المؤدى عنه لا يفوت محل الواجب فلهذا لا تسقط حتى روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي أن من قال لعبده إذا جاء يوم الفطر فأنت حر فعليه صدقة الفطر عنه لأنه إنما عتق بعد طلوع الفجر فلا تسقط به الصدقة الواجبة عنه والدليل على أن وقت الوجوب عند طلوع الفجر حديث بن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأداء صدقة الفطر قبل الخروج إلى المصلى والمقصود بهذا الأمر المسارعة إلى الأداء لا التأخير عن وقت الوجوب.
قال: وإذا مر يوم الفطر وفي يد الرجل مملوك قد اشتراه وفي البيع خيار لأحد المتبايعين فإنما الصدقة على من يستقر له الملك عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى: على(3/196)
ص -101- ... من له الخيار وعند الشافعي رحمه الله تعالى على من له ملك العبد وقت الوجوب هو يقول هذه مؤنة بسبب الملك فتكون نظير النفقة والنفقة تجب على من له الملك وقت الوجوب فكذلك الصدقة وزفر رحمه الله تعالى يقول الولاية لمن له الخيار على المشتري ووجوب الصدقة باعتبار الولاية على الرأس.
ولنا: أن البيع بشرط الخيار إذا تم يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد المتصلة والمنفصلة وإذا فسخ عاد إلى قديم ملك البائع فحكم الملك والولاية موقوف فيه فكذلك ما ينبني عليه وما يجب عليه بسبب الملك مقابل بما يستحقه بسبب الملك وهو الزوائد فكما توقف حكم استحقاقه فكذلك حكم الاستحقاق عليه إلا أن النفقة لا تحتمل التوقف لأنها تجب لحاجة المملوك للحال فإذا جعلناها موقوفة مات المملوك جوعا فلأجل الضرورة اعتبرنا فيه النفقة للحال بخلاف الصدقة وكذلك الخلاف في زكاة التجارة إن كان اشتراه للتجارة.(3/197)
قال: فإن لم يكن في البيع خيار إلا أن المشتري لم يقبضه حتى مر يوم الفطر فإن قبضه بعد ذلك فصدقته عليه لأنه كان مالكا له وقت الوجوب وقد تقرر ملكه بقبضه وإن تلف قبل أن يقبضه فلا صدقة على واحد منهما أما البائع فلأنه لم يكن مالكا وقت الوجوب لأن البيع البات يزيل ملكه وأما المشتري فلأن البيع انفسخ من الأصل بهلاك المعقود عليه قبل القبض فينعدم به ملكه من الأصل ووجوب الصدقة بحكم الملك ولم يبق لملكه حكم حين انفسخ البيع من الأصل وإن لم يمت ورده قبل القبض بعيب أو خيار رؤية فصدقته على البائع ولا شيء على المشتري لأن البيع انفسخ من الأصل بالرد قبل القبض بهذه الأسباب وعاد إلى قديم ملك البائع فكأنه لم يخرج عن ملكه بخلاف الأول فإن انفساخ البيع هناك بعد الهلاك كفوات القبض المستحق بالعقد فلا يظهر حكم ملك البائع في حال قيامه فإن رده بعد القبض بعيب أو خيار رؤية فصدقته على المشتري لأن ملكه وولايته كانت تامة وقت الوجوب لكونه قابضا فوجبت الصدقة عليه ثم لا تسقط عنه بزوال ملكه عن العين كما لا يسقط بهلاكه في يده.
قال: فإن كان اشتراه شراء فاسدا فمر يوم الفطر قبل أن يقبضه فصدقته على البائع سواء قبضه المشتري بعد ذلك أو لم يقبضه وفسخ البيع لأن البيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه فبقي ملك البائع بعده كما كان قبله وإذا قبضه المشتري بعد ذلك فزوال ملك البائع كان مقصورا على الحال لأن السبب إنما تم الآن والموهوب في هذا نظير المشترى شراء فاسدا قال فإن مر يوم الفطر وهو مقبوض فإن أعتقه المشتري فصدقته عليه لأنه كان مالكا وقت الوجوب وتقرر ملكه بتعذر فسخ البيع وإن رده فصدقته على البائع لأنه عاد إلى قديم ملكه فإن المشتري وإن كان قابضا مالكا وقت الوجوب ولكن يده وملكه مستحق الرفع(3/198)
ص -102- ... عنها شرعا فإذا رفع صار كأن لم يكن بخلاف الرد بالعيب وخيار الرؤية فإنه غير مستحق الرفع عليه ولكنه يرفعه باختياره.
قال: وإذا عجز المكاتب فليس على المولى فيه زكاة السنين الماضية لفطر ولا تجارة أما زكاة الفطر فلأن السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك لم يكن موجودا فيما مضى وأما زكاة التجارة فلأنه ما كان متمكنا من التصرف فيه بل كان كالخارج من ملكه وكذلك إذا كان العبد آبقا فوجده لأنه كان تاويا في السنين الماضية فليس عليه عنه زكاة الفطر ولا التجارة وكذلك إن كان مغصوبا مجحودا أو مأسورا لأن ملكه في حكم التاوي ويده مقصورة عنه.
قال: وإذا عجز المكاتب وقد كان قبل الكتابة للتجارة لم يعد إلى مال التجارة لأن بعقد الكتابة صار فاسخا لنية التجارة فيه فإنه أخرجه من أن يكون محلا لتصرفاته فلا يصير للتجارة بعد ذلك إلا بفعل هو تجارة وعليه زكاة الفطر عنه إذا مر يوم الفطر لأن المملوك في الأصل للخدمة حتى يجعله للتجارة بخلاف ما إذا أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه وقد كان اشتراه للتجارة لأنه ما صار فاسخا لنية التجارة فيه فإنه بالإذن لم يخرجه من أن يكون محلا لتصرفاته.
قال: وإذا لم يخرج الرجل صدقة الفطر فعليه إخراجها وإن طالت المدة إلا على قول الحسن بن زياد فإنه يقول يسقط بمضي يوم الفطر لأنها قربة اختصت بأحد يومي العيد فكانت قياس الأضحية تسقط بمضي أيام النحر.(3/199)
ولنا: أن هذه صدقة مالية فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كزكاة المال ولا نقول الأضحية تسقط بل ينتقل الواجب إلى التصدق بالقيمة لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص فأما التصدق بالمال قربة في كل وقت ولم يذكر في الكتاب جواز التعجيل في صدقة الفطر إلا في بعض النسخ فإنه قال لو أدى قبل يوم الفطر بيوم أو بيومين جاز والصحيح من المذهب عندنا أن تعجيله جائز لسنة ولسنتين لأن السبب متقرر وهو الرأس فهو نظير تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب وعلى قول الحسن بن زياد لا يجوز تعجيله أصلا كالأضحية وكان خلف بن أيوب يقول يجوز تعجيله بعد دخول شهر رمضان لا قبله لأنه صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم
وكان نوح بن أبي مريم يقول يجوز تعجيله في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قال في العشر الأواخر منه.
قال: ويجوز أن يدفع صدقة الفطر إلى أهل الذمة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى ثلاث روايات.
في رواية قال: كل صدقة مذكورة في القرآن لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذه الرواية يجوز دفع صدقة الفطر إليهم.
وفي رواية قال: كل صدقة واجبة بإيجاب الشرع ابتداء من غير سبب من العبد لا يجوز(3/200)
ص -103- ... دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذا لا يجوز دفع صدقة الفطر إليهم ويجوز دفع الكفارات والنذور إليهم.
وفي رواية قال: كل صدقة هي واجبة لا يجوز دفعها إليهم فعلى هذا لا يجوز دفع الكفارات وإنما يجوز دفع التطوعات.
والشافعي رحمه الله تعالى يقيس هذا بزكاة المال بعلة أنها صدقة واجبة فإن الصدقة المالية صلة واجبة للمحاويج المناسبين له في الملة فلا يملك صرفها إلى غيرهم والمقصود منه أن يتقوى به على الطاعة ويتفرغ عن السؤال لإقامة صلاة العيد ولا يحصل هذا المقصود بالصرف إلى أهل الذمة كما لا يحصل بالصرف إلى المستأمنين فكما لا يجوز صرفها إليهم فكذلك إلى أهل الذمة.
ولنا: أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة فإن التصدق عليهم قربة بدليل التطوعات لأنا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}[الممتحنة: 8] بخلاف المستأمن فإنه مقاتل وقد نهينا عن المبرة مع من يقاتلنا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ}[الممتحنة: 9].والقياس أن يجوز صرف الزكاة إليهم إنما تركنا القياس فيه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم", والمراد به الزكاة لا صدقة الفطر والكفارات إذ ليس للساعي فيها ولاية الأخذ فبقي على أصل القياس.
قال: وفقراء المسلمين أحب إلي لأنه أبعد عن الخلاف ولأنهم يتقوون بها على الطاعة وعبادة الرحمن والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان.(3/201)
قال: وإذا كان للرجل دار وخادم ولا مال له غير ذلك فليس عليه صدقة الفطر لأنه يحل له أخذ الصدقة ولأنه محتاج فإن الدار تسترم والخادم يستنفق ولا بد له منهما فهما يزيدان في حاجته ولا يغنيانه وقد بينا أن الصدقة لا تجب إلا على الغني لأن وجوبها للإغناء كما قال أغنوهم ولا يخاطب بالإغناء من ليس بغني في نفسه.
قال: وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة فتعلقت رقبته بالدين ومولاه موسر فعليه صدقة الفطر لأنه يمونه بولايته عليه وبسبب الدين تستحق ماليته ومالية من يؤدى عنه صدقة الفطر غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة لأن شغله بنوع من خدمته وهذا بخلاف ما إذا كان الدين المستغرق على المولى فإنه لا يلزمه صدقة الفطر لأن الدين عليه ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغني.
قال: فإن اشترى العبد المأذون له عبيدا فليس على المولى عنهم صدقة الفطر لأنه إنما اشتراهم للتجارة وفي الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كان اشتراهم(3/202)
ص -104- ... للخدمة فإن أذن له المولى في ذلك فإن لم يكن على المأذون دين فعلى المولى صدقة الفطر عنهم لأنه مالك لرقابهم وإن كان على العبد دين مستغرق لكسبه ورقبته فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصله أنه لا يملك رقابهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصلهما أن دين العبد لا يمنع ملك المولى في كسبه كما لا يمنع ملكه في رقبته.
قال: وزكاة الفطر في العبد الموصى بخدمته على مالك الرقبة وارثا كان أو موصى له لأنه تقرر السبب في حقه فأما الموصى له بالخدمة فحقه في المنفعة لا في الرقبة وكذلك العبد المستعار والمؤاجر تجب الصدقة على المالك دون المستعير والمستأجر وكذلك عبد الوديعة تجب الصدقة عنه على المودع فإن يد المودع كيده وكذلك إن كان في عنقه جناية عمدا أو خطأ لأن ملكه وولايته لا يزول بهذا السبب وكذلك العبد المرهون تجب الصدقة عنه على الراهن إذا كان عنده وفاء بالدين وفضل مائتي درهم لأن الرهن لا يزيل ملك الرقبة ولا يوجب فيها حقا للمرتهن إنما حق المرتهن في المالية وذلك غير معتبر لإيجاب الصدقة وفي الاملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس على الراهن أن يؤدي الصدقة عنه حتى يفكه فإذا فكه أعطاها لما مضى وإن هلك قبل أن يفكه فلا صدقة عنه على الراهن وجعله كالبيع بشرط الخيار.(3/203)
بقي الكلام في بيان القدر الواجب من الصدقة وذلك من البر نصف صاع في قول علمائنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى صاع واستدل بحديث بن عمر رضي الله عنه فإنه ذكر فيه صاعا من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير والتقدير بنصف صاع شيء أحدثه معاوية برأيه على ما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله عنه كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام حتى قدم معاوية من الشام فقال لا أرى إلا مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من طعامكم هذا وأكثر ما في الباب أن الآثار فيه قد اختلفت والأخذ بالاحتياط في باب العبادات واجب والاحتياط في إتمام الصاع وقاسه بالشعير والتمر لعلة أنه أحد الأنواع التي تتأدى به صدقة الفطر.
ولنا: حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير كما روينا في أول الباب وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "وعن كل اثنين صاعا من بر". فالذي روى الصاع كأنه سمع آخر الحديث لا أوله وهو قوله: "وعن كل اثنين" والتقدير من البر بنصف صاع مذهب أبي بكر وعمر وعلي وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى قال أبو الحسن الكرخي إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه لا يجوز أداء نصف صاع من بر وبهذا يندفع دعواه أنه رأى معاوية ونقيسه على كفارة الأذى لعلة أنها وظيفة المسكين ليوم وفي كفارة الأذى نص فإن كعب بن عجرة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصدقة؟ فقال: "ثلاثة آصع على ستة مساكين". وليس البر نظير(3/204)
ص -105- ... التمر والشعير فإن التمر والشعير يشتمل على ما ليس بمأكول وهو النوى والنخالة وعلى ما هو مأكول فأما البر مأكول كله فإن الفقير يمكنه أكل دقيق الحنطة بنخالته بخلاف الشعير.
وقد بينا تفسير الصاع فيما تقدم وإنما يعتبر نصف صاع من بر وزنا هكذا رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وقال بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى كيلا حتى قال قلت له لو وزن الرجل منوين من الحنطة وأعطاها الفقير هل تجوز من صدقته فقال لا فقد تكون الحنطة ثقيلة الوزن وقد تكون خفيفة فإنما يعتبر نصف الصاع كيلا.
وجه قوله: أن الآثار جاءت بالتقدير بالصاع وهو اسم للمكيال ووجه الرواية الأخرى أن العلماء حين اختلفوا في مقدار الصاع أنه ثمانية أرطال أو خمسة أرطال وثلث فقد اتفقوا على التقدير بما يعدل بالوزن فإنما يقع عليه كيل الرطل فهو وزنه.
قال: ودقيق الحنطة كالحنطة ودقيق الشعير كعينه عندنا وعند الشافعي لا يجوز الأداء من الدقيق بناء على أصله أن في الصدقات يعتبر عين المنصوص عليه.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا قبل خروجكم زكاة فطركم فإن على كل مسلم مدين من قمح أو دقيقه". ولأن المقصود سد خلة المحتاج وإغناؤه عن السؤال كما قال صاحب الشرع وحصول هذا بأداء الدقيق أظهر لأنه أعجل لوصول منفعته إليه وعلى هذا روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال أداء الدقيق أفضل من أداء الحنطة وأداء الدرهم أفضل من أداء الدقيق لأنه أعجل لمنفعته وأما من الزبيب يتقدر الواجب بنصف صاع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكره في الجامع الصغير وعلى قول أبي يوسف ومحمد يتقدر بصاع وهو رواية أسد بن عمرو والحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى ووجهه أن الزبيب نظير التمر فإنهما يتقاربان في المقصود والقيمة فكما يتقدر من التمر بصاع فكذلك من الزبيب وقد روي في بعض الآثار أو صاعا من زبيب.(3/205)
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الزبيب نظير البر فإنه مأكول فكما يتقدر من البر بنصف صاع لهذا المعنى فكذلك من الزبيب والأثر فيه شاذ وبمثله لا يثبت التقدير فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لأنه لو كان صحيحا لاشتهر لعلمهم به وإن أراد الأداء من سائر الحبوب أعطى باعتبار القيمة وقد بينا جواز أداء القيمة عندنا وهذا لأنه ليس في سائر الحبوب نص على التقدير فالتقدير بالرأي لا يكون وكذا من الأقط يؤدى باعتبار القيمة عندنا وقال مالك رضي الله عنه يتقدر من الأقط بصاع وقال الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه لا أحب له الأداء من الأقط وإن أدى فلم يتبين لي وجوب الإعادة عليه وهذا الحديث روي أو صاعا من أقط وبه أخذ مالك رحمه الله تعالى وقال الأقط كان قوتا لأهل البادية في ذلك الوقت كما أن الشعير والتمر كانا قوتا في أهل البلاد.
وأصحابنا قالوا: الحديث شاذ لم ينقل في الآثار المشهورة وبمثله لا يجوز إثبات(3/206)
ص -106- ... التقدير فيما تعم به البلوى فيبقى الاعتبار بالقيمة فإن كانت قيمته قيمة نصف صاع من بر أو صاع من شعير جاز وإلا فلا والحاصل أن فيما هو منصوص لا تعتبر القيمة حتى لو أدى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر لا يجوز لأن في اعتبار القيمة هنا إبطال التقدير المنصوص في المؤدى وذلك لا يجوز فأما ما ليس بمنصوص عليه فإنه ملحق بالمنصوص باعتبار القيمة إذ ليس فيه إبطال التقدير المنصوص وسويق الحنطة كدقيقها لأن التقدير منه نصف صاع لما بينا في الدقيق والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الاعتكاف
الاعتكاف قربة مشروعة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187] فالإضافة إلى المساجد المختصة بالقرب وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قربة والسنة حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى وقال الزهري عجبا من الناس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه وما ترك الاعتكاف حتى قبض وفي الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدنيا وتسليم النفس إلى بارئها والتحصن بحصن حصين وملازمة بيت الله تعالى.
قال عطاء: مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ويقول لا أبرح حتى تقضي حاجتي والمعتكف يجلس في بيت الله تعالى ويقول لا أبرح حتى يغفر لي فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص ثم جوازه يختص بمساجد الجماعات.(3/207)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم وتصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فإنه يعتكف فيه وكان سعيد بن المسيب يقول لا اعتكاف إلا في مسجدين مسجد المدينة والمسجد الحرام ومن العلماء من قال لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد وضموا إلى هذين المسجدين المسجد الأقصى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد إيليا", يعني مسجد بيت المقدس والدليل على الجواز في سائر المساجد قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187] فعم المساجد في الذكر.
واختلفت الروايات عن بن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فروى أن حذيفة قال لابن مسعود عجبا من قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى وأنت لا تمنعهم فقال بن مسعود ربما حفظوا ونسيت وأصابوا وأخطأت كل مسجد جماعة يعتكف فيه. وروي أن بن مسعود مر بقوم معتكفين فقال لحذيفة وهل يكون الاعتكاف إلا في المسجد الحرام فقال حذيفة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه",وفي الكتاب ذكر عن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في مسجد(3/208)
ص -107- ... جماعة هذا بيان حكم الجواز فأما الأفضل فالاعتكاف في المسجد الحرام أفضل منه في سائر المساجد
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه كان يكره الجوار بمكة ويقول إنها ليست بدار هجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر منها إلى المدينة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا بأس بذلك وهو أفضل وعليه عمل الناس اليوم.
ثم الاعتكاف غير واجب بإيجاب الشرع ابتداء إلا أن يوجبه العبد بنذره فيلزمه لحديث عمر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أعتكف يوما في الجاهلية أو قال ليلة أو قال يومين فقال: "أوف بنذرك". ومن شرط الاعتكاف الواجب الصوم عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس بشرط ومذهبنا مروي عن بن عباس وعائشة رضي الله عنهما أنهما
قالا لا اعتكاف إلا بصوم ومذهبه مروي عن بن مسعود وعن علي فيه روايتان إحدى الروايتين مثل قولنا والثاني ما روي عنه قال ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجب ذلك على نفسه فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بهذا وبحديث عمر رضي الله عنه في سؤاله أني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر والليل لا يصام فيه ولأن ابتداء الاعتكاف من وقت غروب الشمس في حق من نذر أن يعتكف شهرا وما يكون شرط العبادة شرط اقترانه بأوله كالطهارة للصلاة وكذلك الاعتكاف بدوام الليل والنهار ولا صوم بالليل فتبين بهذا أنه ليس شرط الاعتكاف ولا هو ركنه لأن الصوم أحد أركان الدين والاعتكاف نفل زائد فلا يكون الأقوى ركنا للأضعف بل هو زائد في معنى القربة على ما يتم به الاعتكاف فيلزمه التنصيص عليه كالتتابع في الصوم والقرآن في الحجر.(3/209)
ولنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اعتكف إلا صائما والأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لا تجري على نمط واحد إلا لداع يدعو إليه وليس ذلك إلا بيان أنه من شرائط الاعتكاف والمعنى فيه أنه لو قال لله علي أن أعتكف صائما يلزمه الجمع بينهما وبقوله صائما ولا يصح أن يجعل نصبا على المصدر كما يقال ضربته وجيعا أي ضربا وجيعا فإنه حينئذ يصير كأنه قال اعتكف اعتكافا صائما والصوم لا يكون صفة للاعتكاف فالاعتكاف لبث في مقام لتعظيم ذلك المقام والصوم كف النفس عن اقتضاء الشهوات إتعابا للبدن فكيف يكون صفة للاعتكاف فعرفنا أنه نصب على الحال كما يقال دخل الدار راكبا والحال خلو عن الإيجاب لأنه صفة الموجب لا الواجب ومع ذلك يلزمه الجمع بينهما فعرفنا أنه إنما لزمه لأنه شرط الاعتكاف كمن يقول أصلي طاهرا وشرط الشيء يتبعه فيثبت بثبوته سواء ذكر أو لم يذكر بخلاف قوله أصوم متتابعا فإنه نصب على المصدر لأن التتابع صفة الصوم وبخلاف قوله أصلي قائما فإنه ينصب قائما على المصدر يقال صلاة قائمة وبخلاف قوله أحج قارنا فإن العمرة بالانضمام إلى الحج يزداد فيها معنى القربة ولهذا لزمه دم القران وهو دم نسك وعن كلامه جوابان:(3/210)
ص -108- ... أحدهما: أن الصوم شرط الاعتكاف والشرائط إنما تثبت بحسب الإمكان ولا يمكن اشتراط الصوم ليلا فسقط للتعذر وجعل الليل تبعا للأيام كما أن الشرب والطريق يجعل تبعا في بيع الأرض.
والثاني: أن شرط الاعتكاف أن يكون مؤدى في وقت الصوم وبوجود الصوم في النهار يتصف جميع الشهر بأنه وقت الصوم ودليله شهر رمضان فصار الشرط به موجودا كما أن من شرط الصلاة أن يقوم إليها طاهرا وذلك يحصل في جميع البدن بغسل الأعضاء الأربعة وحديث عمر رضي الله عنه دليلنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف وصم", وبلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن الصحيح من الرواية إني نذرت أن أعتكف يوما.
فأما التطوع من الاعتكاف في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يكون إلا بصوم ولا يكون أقل من يوم فجعل الصوم للاعتكاف كالطهارة للصلاة وفي ظاهر الرواية يجوز التنفل بالاعتكاف من غير صوم فإنه قال في الكتاب إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج وهذا لأن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز تركه.(3/211)
قال: ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لجمعة أو غائط أو بول أما الخروج للبول والغائط فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان ولأن هذه الحاجة معلوم وقوعها في زمان الاعتكاف ولا يمكن قضاؤها في المسجد فالخروج لأجلها صار مستثنى بطريق العادة وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إذا خرج لحاجة الإنسان لا ينبغي أن يدخل تحت سقف فإن آواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه وهذا ليس بشيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجة وإذا خرج للحاجة لم يمكث في منزله بعد الفراغ من الطهر لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدرها وأما إذا خرج للجمعة فلا يفسد اعتكافه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يفسد اعتكافه فإن كان اعتكافه دون سبعة أيام اعتكف في أي مسجد شاء وإن كان سبعة أيام أو أكثر اعتكف في المسجد الجامع قال لأن ركن الاعتكاف هو المقام والخروج ضده فيكون مفسدا له إلا بقدر ما تحققت الضرورة فيه ولا ضرورة في الخروج للجمعة لأنه يمكنه أن يعتكف في الجامع فلا يحتاج إلى هذا الخروج فهو والخروج لعيادة المريض وتشييع الجنائز سواء.
ولنا: أن الخروج للجمعة معلوم وقوعه في زمان الاعتكاف فصار مستثنى من نذره كالخروج للحاجة والخروج لعيادة المريض ليس بمعلوم وقوعه في زمان الاعتكاف لا محالة وهذا لأن الناذر يقصد التزام القربة لا المعصية والتخلف عن الجمعة معصية فيعلم يقينا أنه(3/212)
ص -109- ... لم يقصده بنذره فإذا اعتكف في الجامع كان خروجه أكثر لأنه يحتاج في الخروج لحاجة الإنسان إلى الرجوع إلى بيته وإذا كان بيته بعيدا عن الجامع يزداد خروجه إذا اعتكف في الجامع على ما إذا اعتكف في مسجد حيه.
فإذا أراد الخروج للجمعة قال في الكتاب يخرج حين تزول الشمس فيصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا قالوا هذا إذا كان معتكفه قريبا من الجامع بحيث لو انتظر زوال الشمس لا تفوته الخطبة ولا الجمعة فإذا كان بحيث تفوته لم ينتظر زوال الشمس ولكنه يخرج في وقت يمكنه أن يأتي الجامع فيصلي أربع ركعات قبل الأذان عند المنبر وفي رواية الحسن ست ركعات ركعتان تحية المسجد وأربع سنة وكذلك بعد الجمعة يمكث مقدار ما يصلي أربع ركعات أو ستا بحسب اختلافهم في سنة الجمعة ولا يمكث أكثر من ذلك لأن الخروج للحاجة والسنن تبع للفرائض ولا حاجة بعد الفراغ من السنة فإن مكث أكثر من ذلك لم يضره ذكره بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال ألا ترى أنه لو بدا له أن يتم اعتكافه في الجامع جاز وهذا لأن المفسد للاعتكاف الخروج من المسجد لا المكث في المسجد إلا أنه لا يستحب له ذلك لأنه التزم أداء الاعتكاف في مسجد واحد فلا ينبغي له أن يتمه في مسجدين.
قال: ولا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد جنازة إلا على قول الحسن البصري فإنه يروي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعود المعتكف المريض ويشهد الجنازة".
ولنا: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في اعتكافه إذا خرج لحاجة الإنسان يمر بالمريض فيسأل عنه ولا يعرج عليه ولأن هذا لم يكن معلوما وقوعه في مدة اعتكافه فالخروج لأجله لم يكن مستثنى كالخروج لتلقي الحاج وتشييعهم وما كان من أكل أو شرب فإنه يكون في معتكفه إذ لا ضرورة في الخروج لأجله فإن هذه الحاجة يمكن قضاؤها في معتكفه.(3/213)
قال: وإذا مرض المعتكف في اعتكاف واجب فإن أفطر يوما استقبل الاعتكاف لأن من شرط الاعتكاف الصوم وقد فات والعبادة لا تبقى بدون شرطها كما لا تبقى بدون ركنها.
قال: وإذا خرج من المسجد يوما أو أكثر من نصف يوم فكذلك الجواب لأن ركن الاعتكاف قد فات فأما إذا خرج ساعة من المسجد فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يفسد اعتكافه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يفسد ما لم يخرج أكثر من نصف يوم وقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أقيس وقولهما أوسع قالا اليسير من الخروج عفو لدفع الحاجة فإنه إذا خرج لحاجة الإنسان لا يؤمر بأن يسرع المشي وله أن يمشي على التؤدة فظهر أن القليل من الخروج عفو والكثير ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أكثر من نصف يوم فإن الأقل تابع للأكثر فإذا كان في أكثر اليوم في المسجد جعل كأنه في(3/214)
ص -110- ... جميع اليوم في المسجد كما قلنا في نية الصوم في رمضان إذا وجدت في أكثر اليوم جعل كوجودها في جميع اليوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ركن الاعتكاف هو المقام في المسجد والخروج ضده فيكون مفوتا ركن العبادة والقليل والكثير في هذا سواء كالأكل في الصوم والحدث في الطهارة.
قال: ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة الرجال والنساء فيه سواء قال لأن مسجد البيت ليس له حكم المسجد بدليل جواز بيعه والنوم فيه للجنب والحائض وهذا لأن المقصود تعظيم البقعة فيختص ببقعة معظمة شرعا وذلك لا يوجد في مساجد البيوت.
ولنا: أن موضع أداء الاعتكاف في حقها الموضع الذي تكون صلاتها فيه أفضل كما في حق الرجال وصلاتها في مسجد بيتها أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل صلاة المرأة فقال: "في أشد مكان من بيتها ظلمة". وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الاعتكاف أمر بقبة فضربت في المسجد فلما دخل المسجد رأى قبابا مضروبة فقال: "لمن هذه؟" فقيل لعائشة وحفصة فغضب وقال: "آلبر يردن بهن؟" وفي رواية: "يردن بهذا", وأمر بقبته فنقضت فلم يعتكف في ذلك العشر فإذا كره لهن الاعتكاف في المسجد مع أنهن كن يخرجن إلى الجماعة في ذلك الوقت فلأن يمنعن في زماننا أولى.(3/215)
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها إذا اعتكفت في مسجد الجماعة جاز ذلك واعتكافها في مسجد بيتها أفضل وهذا هو الصحيح لأن مسجد الجماعة يدخله كل أحد وهي طول النهار لا تقدر أن تكون مستترة ويخاف عليها الفتنة من الفسقة فالمنع لهذا وهو ليس لمعنى راجع إلى عين الاعتكاف فلا يمنع جواز الاعتكاف وإذا اعتكفت في مسجد بيتها فتلك البقعة في حقها كمسجد الجماعة في حق الرجل لا تخرج منها إلا لحاجة الإنسان فإذا حاضت خرجت ولا يلزمها به الاستقبال إذا كان اعتكافها شهرا أو أكثر ولكنها تصل قضاء أيام الحيض لحين طهرها وقد بينا هذا في الصوم المتتابع في حقها ومسجد بيتها الموضع الذي تصلى فيه الصلوات الخمس من بيتها.
قال: وإذا قال الرجل لله علي أن اعتكف شهرا فعليه اعتكاف شهر متتابع في قول علمائنا وقال زفر رحمه الله تعالى: هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق قال لأن الاعتكاف فرع عن الصوم فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه بالنذر ولا أصل للاعتكاف في الفرائض سوى الصوم ثم التتابع في الصوم لا يجب بمطلق النذر فكذلك في الاعتكاف والدليل على التسوية أن تعيين الوقت إليه ولا يتعين لأدائه الشهر الذي يعقب نذره فيهما بخلاف الأيمان والآجال والإجارات فإنه يتعين لها الشهر الذي يعقب السبب.
ولنا : أن الاعتكاف يدوم بالليل والنهار جميعا فبمطلق ذكر الشهر فيه يكون متتابعا,(3/216)
ص -111- ... كاليمين إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا والآجال والإجارات بخلاف الصوم فإنه لا يدوم بالليل والنهار وتأثيره أن ما كان متفرقا في نفسه لا يجب الوصل فيه إلا بالتنصيص وما كان متصل الأجزاء لا يجوز تفريقه إلا بالتنصيص ثم الاعتكاف من حيث الابتداء يشبه الصوم فإن أداءه يستدعي فعلا من جهته وكل وقت لا يصلح له كاليوم الذي أكل فيه بخلاف الأيمان فإن موجب اليمين لا يستدعي فعلا من جهته وكل وقت يصلح له فيتعين له الوقت الذي يعقب السبب ومن حيث الدوام لاعتكاف يشبه الأيمان والآجال دون الصوم فصار الحاصل أن الأيمان والآجال والإجارات عامة في الوقت ابتداء ودواما والصوم خاص بالوقت ابتداء ودواما والاعتكاف خاص بالوقت ابتداء عام بالوقت دواما فمن حيث الابتداء ألحقناه بالصوم فكان تعيين الوقت إليه ومن حيث الدوام ألحقناه بالآجال والأيمان فكان متتابعا وكذلك لو قال في نذره ثلاثين يوما فهذا وقوله شهرا سواء لأن ذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر قال الله تعالى: {َثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}[مريم: 10] وفي تلك القصة قال في موضع آخر: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً}[آل عمران: 41]فقوله ثلاثين يوما أي بلياليها فكان متتابعا.(3/217)
قال: وإذا قال لله علي اعتكاف شهر بالنهار فهو كما قال إن شاء تابع وإن شاء فرق لأن وجوب التتابع لاتصال بعض الأجزاء بالبعض وقد انقطع ذلك بتنصيصه على النهار دون الليالي وإن لم يقل بالنهار ونواه فنيته باطلة لأن الشهر اسم لقطعة من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل الهلال فليس في لفظه الشهر ولا الليالي فإنما نوى تخصيص ما ليس في لفظه وذلك باطل كمن قال لا آكل ونوى مأكولا دون مأكول ولأن هذا استثناء لبعض الوقت الذي سماه والاستثناء بالنية لا يحصل كما لو قال شهرا ونوى نصف شهر بخلاف ما لو قال ثلاثين يوما ونوى النهار دون الليل لأن هنا إنما نوى حقيقة كلامه فإن اليوم في الحقيقة هو بياض النهار فلهذا أعملنا نيته أو لأنه نوى تخصيص ما في لفظه.
قال: وإن قال لله علي اعتكاف شهر كذا فمضى ولم يعتكفه فعليه قضاؤه لأن إضافة النذر بالاعتكاف إلى زمان بعينه كإضافة النذر بالصوم إليه فيلزمه أداؤه وإذا فوت الأداء فعليه قضاؤه وهذا في شهر سوى رمضان مجمع عليه.
فأما إذا قال لله علي اعتكاف شهر رمضان فمضى ولم يعتكف فإن كان لم يصم في الشهر لمرض أو سفر قضى اعتكافه بقضاء صوم الشهر وإن كان صام الشهر فعليه اعتكاف شهر بصوم وعند زفر والحسن بن زياد رحمهما الله تعالى لا شيء عليه وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ووجهه أن اعتكافه تعلق بصوم رمضان فإذا صام رمضان ولم يعتكف بقي الاعتكاف بغير صوم والاعتكاف الواجب لا يكون إلا بصوم.
وجه ظاهر الرواية: أن نذره قد صح وتعلق بالزمان الذي عينه فإذا لم يعتكف فيه انقطع(3/218)
ص -112- ... هذا التعيين وصار دينا في الذمة فكأنه قال لله علي اعتكاف شهر والتزام الاعتكاف يكون التزاما لشرطه وهو الصوم ولهذا قلنا لو اعتكف في رمضان القابل قضاء عما التزمه لا يجوز وعليه كفارة اليمين إن كان أراد يمينا لوجود شرط حنثه وإن اعتكف ذلك الشهر الذي سماه إلا أنه أفطر منه يوما قضى ذلك اليوم لأن الشهر المتعين متجاور الأيام لا متتابع فصفة التتابع في الاعتكاف لا تثبت إلا إذا أضافه إلى شهر بعينه.
قال: وإذا نذرت المرأة اعتكاف شهر فحاضت فيه فعليها أن تقضي أيام حيضها وتصلها بالشهر فإن لم تصلها به فعليها أن تستقبله لأن هذا القدر من التتابع في وسعها وما سقط عنها معلوم بأنه ليس في وسعها ولهذا قلنا لو نذرت اعتكاف عشرة أيام فحاضت فيها فعليها الاستقبال.
قال: وإذا اعتكف الرجل من غير أن يوجبه على نفسه فهو معتكف ما أقام في المسجد وإن قطعه فلا شيء عليه لأنه لبث في مكان مخصوص فلا يكون مقدرا باليوم كالوقوف بعرفة وهذا لأن المقصود تعظيم البقعة وذلك يحصل ببعض اليوم وقد ينافي هذا رواية الحسن.
قال: وإذا اعتكف في مسجد فانهدم فهذا عذر ويخرج منه إلى مسجد آخر لأن المسجد المهدوم لا يمكن المقام فيه ولأنه خرج من أن يكون معتكفا فالمعتكف مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة ولا يتأتى ذلك في المسجد المهدوم فكان عذرا في التحول إلى مسجد آخر.
قال: ولا بأس بأن يشتري المعتكف ويبيع في المسجد ويتحدث بما بداله بعد أن لا يكون مأثما فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع الناس في اعتكافه وصوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا والبيع والشراء من جنس الكلام المباح فلا بأس به للمعتكف(3/219)
قالوا وهذا إذا لم يحضر السلعة إلى المسجد فأما إحضار السلعة إلى المسجد للبيع والشراء في المسجد مكروه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم" إلى قوله: "وبيعكم وشراءكم". ولأن بقعة المسجد تحررت عن حقوق العناد وصارت خالصة لله تعالى فيكره شغلها بالبيع والتجارة بخلاف ما إذا لم يحضر السلعة فقد انعدم هناك شغل البقعة.
قال: وإذا أخرجه السلطان من المسجد مكرها في اعتكاف واجب فإن دخل مسجدا آخر كما تخلص استحسنا أن يكون على اعتكافه وفي القياس عليه الاستقبال وكذلك لو أخذه غريم فحبسه وقد خرج لغائط أو بول من أصحابنا من قال هذا القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والأصح أن عند أبي حنيفة يلزمه الاستقبال وهذا الاستحسان والقياس على قولهما فيما إذا كان خروجه أكثر من نصف يوم وجه القياس أن ركن الاعتكاف وهو اللبث قد فات فيستوي فيه المكره والطائع كما إذا فات ركن الصوم(3/220)
ص -113- ... بالإكراه على الأكل. وجه الاستحسان أنه معذور فيما صنع فإنه لا يمكنه مقاومة السلطان ولا دفع الغريم عن نفسه إلا بإيصال حقه إليه فلم يصر بهذا تاركا تعظيم البقعة ولم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا انهدم المسجد فقال بعض مشايخنا الجواب فيهما سواء والأصح أن هناك لا يفسد اعتكافه قياسا واستحسانا لأن العذر كان ممن له الحق إذ لا صنع للعباد في انهدام المسجد وهنا العذر كان من جهة العباد فلهذا كان القياس فيه أن يستقبل.
قال: وإذا أوجب على نفسه الاعتكاف يوما دخل المسجد قبل طلوع الفجر فأقام فيه إلى أن تغرب الشمس لأنه التزم الاعتكاف في جميع اليوم واليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بدليل الصوم.
وقال: وإن أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس لما بينا أن الشهر اسم لقطعة من الزمان وذلك يشتمل على الأيام والليالي ومتى دخل في اعتكافه الليل مع النهار فابتداؤه يكون من الليل لأن الأصل أن كل ليلة تتبع اليوم الذي بعدها ألا ترى أنه يصلى التراويح في أول ليلة من رمضان ولا يفعل ذلك في أول ليلة من شوال واليوم الذي بعد ليلته زمان الاعتكاف فكذلك الليلة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في شهر بعينه كذلك يدخل في المسجد قبل غروب الشمس فأما في شهر بغير عينه فالخيار إليه إن شاء دخل المسجد قبل طلوع الفجر وإن شاء قبل غروب الشمس وهو أفضل.(3/221)
قال: وإن أوجب اعتكاف يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس فأقام فيه ليلة ويومها والليلة الأخرى ويومها إلى أن تغرب الشمس وكذلك هذا في الأيام الكثيرة أما إذا ذكر ثلاثة أيام أو أكثر فالجواب في قولهم جميعا إن ذكر أحد العددين بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر فأما إذا ذكر يومين فقد روي عن أبي يوسف أنه يلزمه اعتكاف يومين بليلة تتخللهما فإنما يدخل المسجد قبل طلوع الفجر قال لأن التثنية غير الجمع فهذا والمذكور بلفظ الفرد سواء إلا أن الليلة المتوسطة تدخل بضرورة اتصال بعض الأجزاء بالبعض وهذه الضرورة لا توجد في الليلة الأولى.
وجه ظاهر الرواية: أن في المثنى معنى الجمع قال صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة فكان هذا والمذكور بلفظ الجمع سواء ألا ترى أنه لو قال ليلتين صح نذره بخلاف ما إذا قال ليلة واحدة.
قال: وإذا جامع المعتكف امرأته في الفرج فسد اعتكافه سواء جامعها ليلا أو نهارا ناسيا كان أو عامدا أنزل أو لم ينزل لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187] فصار الجماع بهذا النص محظور الاعتكاف فيكون مفسدا له بكل حال كالجماع في الإحرام لما كان محظورا كان مفسدا للإحرام وقد ذكر بن سماعة في روايته عن بعض أصحابنا أنه إذا كان ناسيا لا يفسد اعتكافه قال الاعتكاف فرع عن الصوم والفرع(3/222)
ص -114- ... يلحق بالأصل في حكمه فإن باشرها فيما دون الفرج فإن أنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه وقد أساء فيما صنع وللشافعي رحمه الله تعالى ثلاثة أقاويل قول مثل قولنا وقوله الآخر أنه لا يفسد اعتكافه وإن أنزل كما لا يفسد الإحرام بالمباشرة فيما دون الفرج وإن أنزل فإنهما متقاربان على معنى أن كل واحد منهما يدوم بالليل والنهار والقول الثالث أنه يفسد اعتكافه وإن لم ينزل لظاهر الآية فإن اسم المباشرة يتناول الجماع فيما دون الفرج كما يتناول الجماع في الفرج فصار ذلك محظور الاعتكاف بالنص.
وجه قولنا: أن المباشرة فيما دون الفرج إذا اتصل به الإنزال مفسد للصوم والاعتكاف فرع عليه وهو في معنى الجماع في الفرج فيما هو المقصود فيفسد اعتكافه فأما إذا لم يتصل به الإنزال فهو ليس في معنى الجماع في الفرج ولا ملحق به حكما في إفساد العبادة ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم فكذلك الاعتكاف وهذا كله إذا لم يخرج من المسجد فإن خرج لهذا الفعل فسد اعتكافه بالخروج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما بينا.
قال: فإذا أوجب على نفسه اعتكافا ثم مات قبل أن يقضيه أطعم عنه لكل يوم نصف صاع من حنطة وهذا إذا أوصى لأن الاعتكاف فرع عن الصوم وقد بينا في الصوم حكم الفدية فكذلك في الاعتكاف.
فإن قيل الفدية عن الصوم غير معقول ولا هو ثابت بطريق القياس فكيف قستم الاعتكاف عليه والعجب أن في الصلاة قلتم مثل هذا ولا مدخل للقياس فيه؟.
قلنا: أما في الاعتكاف فالجواب عن هذا السؤال سهل لأن صحة النذر بالاعتكاف باعتبار الصوم فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه بالنذر فكان التنصيص على الفدية في الصوم تنصيصا عليه في الاعتكاف وأما في الصلاة فلم يطلق الجواب في شيء من الكتب على الفدية مكان الصلاة ولكن قال في موضع من الزيادات يجزيه ذلك إن شاء الله تعالى فبتقييده بالاستثناء بيان أنه لا يثبت الجواب فيه إذ لا مدخل للقياس فيه.(3/223)
قال: وإن كان مريضا حين نذر الاعتكاف فلم يبرأ حتى مات فلا شيء عليه لأنه ليس للمريض ذمة صحيحة في وجوب أداء الصوم والاعتكاف بناء عليه ألا ترى أنه لا يلزمه أداء صوم رمضان بشهوده الشهر فكذلك لا يلزمه الأداء بالنذر والفدية تنبني على وجوب الأداء وإن صح يوما ثم مات أطعم عنه عن جميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه الله تعالى يطعم عنه بعدد ما صح من الأيام وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا لما صح فقد صارت له ذمة صحيحة في التزام الأداء فيجعل كالمجدد للنذر في هذا الوقت.والصحيح لو نذر اعتكاف شهر ثم مات بعد يوم أطعم عنه لجميع الشهر إن أوصى يجبر الوارث عليه من الثلث وإن لم يوص لم يجبر الوارث عليه ولكنه إن أحب فعل فكذلك هذا.(3/224)
ص -115- ... قال: وإن نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء وروي عن أبي يوسف أنه إن نوى ليلة بيومها يلزمه وليس بينهما اختلاف في الحقيقة ولكن جواب محمد رحمه الله تعالى فيما إذا لم تكن له نية فاسم الليل خاص بزمان لا يقبل الصوم وشرط الاعتكاف الواجب الصوم فإذا نوى ليلة بيومها عملت نيته اعتبارا للفرد بالجمع فصار شرط الاعتكاف وهو الصوم بنيته موجودا فصح نذره.
قال: ولو أصبح في يوم ثم قال لله علي أن أعتكف هذا اليوم فإن كان قد أكل فيه أو كان بعد الزوال لم يلزمه شيء لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت لا يقبل الصوم في حقه وإن كان قبل الزوال ولم يكن أكل شيئا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصح نذره وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يصح نذره وهو بناء على ما تقدم بيانه أن القليل من الخروج يفسد الاعتكاف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما الخروج فيما دون نصف اليوم لا يفسد الاعتكاف وما هو الشرط وهو الصوم يصح منه في هذا اليوم.
قال: وإن نذر اعتكاف وقت ماض وهو يعلم أو لا يعلم فلا شيء عليه لأن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى ولم يتعبد الله بشيء من العبادات في الزمان الماضي وصحة الأداء باعتبار إمكان الأداء وذلك لا يتحقق في الزمن الماضي.
قال: وإن أحرم المعتكف بحج أو عمرة لزمه الإحرام لأنه لا منافاة بين الاعتكاف والإحرام ثم يتم اعتكافه ويشرع فيه وأداء المناسك يحتمل التأخير عن الإحرام فإذا فرغ منه مضى في إحرامه إلا أن يخاف فوت الحج فحينئذ يدع الاعتكاف ويحج لأن ما يخاف فوته يكون أهم فيبدأ به ثم يستقبل الاعتكاف لأنه قد لزمه بالنذر متتابعا فإذا انقطع التتابع لخروجه كان عليه أن يستقبله.(3/225)
وقال: وإن أوجب على نفسه اعتكافا ثم ارتد والعياذ بالله ثم أسلم سقط عنه الاعتكاف اعتبارا لما التزمه بما أوجب الله تعالى وشيء من العبادات التي كانت واجبة عليه لحق لله تعالى خالصا لا يبقى بعد الردة لأنه بالردة خرج من أن يكون أهلا للعبادة فإن الأهلية للعبادة بكونه أهلا لثوابها والمرتد ليس بأهل لثواب العبادة ولأنه بالردة التحق بكافر أصلي فإن الردة تحبط عمله والكافر الأصلي إذا أسلم لم يكن عليه اعتكاف ما لم يلتزمه بنذره بعد الاسلام فهذا مثله.
قال: وإذا نذر المملوك اعتكافا صح نذره لأن له ذمة صحيحة في التزام الأداء إلا أن لمولاه أن يمنعه منه لأن منافعه مستحقة للمولى إلا ما صار مستثنى شرعا وذلك مقدار ما تتأدى به الفرائض فلا يدخل فيه ما يلتزمه من الاعتكاف باختياره فكان للمولى منعه فإذا اعتق قضاه وكذلك الزوج له أن يمنع امرأته من الاعتكاف الذي التزمته بنذرها لأن منافعها مستحقة للزوج بعقد النكاح. وأما المكاتب فليس لمولاه منعه لأنه صار أحق بنفسه ومنافعه.(3/226)
ص -116- ... والذي بينا في النذر كذلك في الشروع فإن كان بإذن المولى والزوج فليس للزوج منع زوجته من الإتمام وللمولى منع عبده وإن كان لا يستحب له ذلك لأن الزوج بالإذن ملكها منافعها وهي من أهل الملك والمولى بالإذن ما ملك العبد منافعه لأنه ليس من أهل الملك ولكنه وعد فالوفاء له وخلف الوعد مذموم فلا يستحب له منعه فإن فعل لم يكن عليه شيء غير أنه قد أساء وأثم وهو قياس لإحرام فإن المرأة إذا أحرمت بإذن زوجها لم يكن للزوج أن يحللها والعبد إذا أحرم بإذن مولاه كان للمولى أن يحلله وإن كره له ذلك.
قال: وإذا أكل المعتكف نهارا ناسيا لم يضره الأكل لأن حرمة الأكل لأجل الصوم لا لأجل الاعتكاف حتى اختص بوقت الصوم والأكل ناسيا لا يفسد الصوم بخلاف ما إذا جامع ناسيا فحرمة الجماع لأجل الاعتكاف حتى يعم الليل والنهار جميعا وقد بينا أن ما كانت حرمته لأجل الاعتكاف يستوي فيه الناسي والعامد بالقياس على الإحرام ومعنى الفرق أنه متى اقترن بحاله ما يذكره لا يبتلى فيه بالنسيان عادة فيعذر لأجله ففي الإحرام هيئة المحرمين مذكرة له وفي الاعتكاف كونه في المسجد مذكرا له فأما في الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره لأنه غير ممنوع عن التصرف في الطعام في حالة الصوم ألا ترى أن في الأكل في الصلاة سوى بين النسيان والعمد لأنه ليس من جنس أركان الصلاة.
قال: وإذا أغمي على المعتكف أياما أو أصابه لمم فعليه إذا بريء أن يستقبل الاعتكاف لأن ما هو شرط الأداء وهو الصوم قد انعدم بتطاول الإغماء فعليه الاستقبال فإن صار معتوها ثم أفاق بعد سنين ففي القياس ليس عليه قضاء الاعتكاف كما لا يلزمه قضاء الفرائض لسقوط الخطاب عنه بالعته وفي الاستحسان عليه القضاء لأن سبب الالتزام تقرر قبل العته فكان بمنزلة الفرائض التي لزمته بتقرر السبب قبل العته وهذا لأنه بالعته لم يخرج من أن يكون أهلا للعبادة فإنه أهل لثوابها فبقيت ذمته صالحة للوجوب فيها فيما تقرر سببه.(3/227)
قال: ويلبس المعتكف وينام ويأكل ويدهن ويتطيب بما شاء فإن النبي كان يفعل ذلك كله في اعتكافه.
قال: ولا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال فإن حرمة هذه الأشياء ليس لأجل الاعتكاف ألا ترى أنه كان محرما قبل الاعتكاف ولا يفوت به ركن الاعتكاف وهو اللبث ولا شرطه وهو الصوم وكذلك إن سكر ليلا لما بينا أن حرمة السكر ليست لأجل الاعتكاف فلا يكون مؤثرا فيه.
قال: وصعود المعتكف على المئذنة لا يفسد اعتكافه أما إذا كان باب المئذنة في المسجد فهو والصعود على سطح المسجد سواء وإن كان بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة رضي الله عنه فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من غير ضرورة والأصح أنه قولهم جميعا واستحسن أبو حنيفة هذا(3/228)
ص -117- ... لأنه من جملة حاجته فإن مسجده إنما كان معتكفا لإقامة الصلاة فيه بالجماعة وذلك إنما يتأتى بالأذان وهو بهذا الخروج غير معرض عن تعظيم البقعة أصلا بل هو ساع فيما يزيد في تعظيم البقعة فلهذا لا يفسد اعتكافه.
قال: ولا بأس بأن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض أهله ليغسله لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه كان يخرج رأسه إلى عائشة فكانت تغسله وترجله ولأنه بإخراج رأسه لا يصير خارجا من المسجد فإن من حلف لا يخرج من هذه الدار فأخرج رأسه منها لم يحنث وإن غسل رأسه في المسجد في إناء فلا بأس بذلك إذ ليس فيه تلويث المسجد.
وذكر حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف أصبح في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه ففي هذه دليل على أن من أراد اعتكاف يوم أو نذر ذلك ينبغي أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر وقد بينا هذا.
قال: وإن نذر اعتكاف يوم العيد قضاه في وقت آخر وكفر عن يمينه إن كان أراد يمينا وإن اعتكف فيه أجزأه وقد أساء وهذا عندنا اعتبارا للاعتكاف بالصوم وقد بينا هذه الأحكام في النذر بصوم يوم العيد فكذلك الاعتكاف وذكر محمد رحمه الله في الأصل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأوسط من رمضان فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: إن ما تطلبت وراءك فقال عليه السلام: "من كان معتكفا معنا فليعد إلى معتكفه وإني أراني أسجد في ماء وطين". فقال أبو سعيد فمطرنا وكان عريش المسجد من جريد فوكف فوالذي بعثه بالحق لقد صلى بنا المغرب ليلة الحادي والعشرين وإني أرى جبهته وأرنبة أنفه في الماء والطين وإنما أورد هذا الحديث لبيان ليلة القدر وفيه اختلاف بين الصحابة والعلماء بعدهم.(3/229)
فأما أبو سعيد الخدري رضي الله عنه كان مذهبه أن ليلة القدر الحادي والعشرون لهذا الحديث ولم يأخذ به علماؤنا لما صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فاته ثلاث ليال فقد فاته خير كثير ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين وآخرها ليلة", فقيل سوى ليلة القدر يا رسول الله؟ فقال: "سوى ليلة القدر". وليس في حديث أبي سعيد كبير حجة فإنه لم يقل أراني أسجد في ماء وطين في ليلة القدر وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إنها ليلة الخامس والعشرين فإنه صح في الحديث أن نزول القرآن كان لأربع وعشرين مضين من رمضان.
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] والهاء كناية عن القرآن باتفاق المفسرين فإذا جمعت بين الآية والحديث تبين أنها ليلة الخامس والعشرين وأكثر الصحابة على أنها ليلة السابع والعشرين فقد ذكر عاصم عن ذر بن حبيش قال قلت لأبي بن كعب يا أبا المنذر أخبرني عن ليلة القدر فإن بن مسعود كان يقول من يقم الحول يدركها فقال:(3/230)
ص -118- ... يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كان يعلم أنها ليلة السابع والعشرين ولكنه أراد حث الناس على الجهد في جميع الحول قلت بم عرفت ذلك قال بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتبرناها فوجدناها قلت وما تلك العلامة قال تطلع الشمس من صبيحتها كأنها طست لا شعاع لها
وكان بن عباس رضي الله عنه يقول إنها ليلة السابع والعشرين فقيل له ومن أين تقول ذلك قال لأن سورة القدر ثلاثون كلمة وقوله هي الكلمة السابعة والعشرون وفيها إشارة إلى ليلة القدر وذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة رضي الله عنه أنها تكون في شهر رمضان ولكنها تتقدم وتتأخر وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر.
وفائدة الاختلاف: أن من قال لعبده أنت حر ليلة القدر فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عتق إذا انسلخ الشهر وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى وفي الشهر الآتي في الليلة الأخيرة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا مضت ليلة من الشهر في العام القابل فجاء مثل الوقت الذي حلف فيه عتق لأن عندهما لا تتقدم ولا تتأخر بل هي في ليلة من الشهر في كل وقت فإذا جاء مثل ذلك الوقت فقد تيقنا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه فلهذا عتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(3/231)
ص -119- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب نوادر الصوم
قال: الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء اعلم بأن موجب النذر الوفاء قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}[النحل: 91] والناذر معاهد لله تعالى بنذره فعليه الوفاء بذلك وقد ذم الله تعالى قوما تركوا الوفاء بالنذر فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}[التوبة: 75] وإنما يذم المرء بترك الواجب ومدح قوما بالوفاء بالنذر فقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ}[الانسان: 7] الآية. ثم النذر إنما يصح بما يكون قربة مقصودة فأما ما ليس بقربة مقصودة فإنه لا يصح التزامه بالنذر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
ولأن الناذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة وإنما يجعل العبادة المشروعة نفلا واجبا بنذره وما فيه معنى القربة ولكن ليس بعبادة مقصودة بنفسها كتشييع الجنازة وعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قال إن نذر أن يعود مريضا اليوم صح نذره وإن نذر أن يعود فلانا لا يلزمه شيء لأن عيادة المريض قربة شرعا قال صلى الله عليه وسلم: "عائد المريض يمشي على محارف الجنة حتى يرجع" وعيادة فلان بعينه لا يكون معنى القربة فيها مقصودا للناذر بل معنى مراعاة حق فلان فلا يصح التزامه بالنذر.(3/232)
وفي ظاهر الرواية: قال عيادة المريض وتشييع الجنازة وإن كان فيه معنى حق الله تعالى فالمقصود حق المريض والميت والناذر إنما يلتزم بنذره ما يكون مشروعا حقا لله تعالى مقصودا إذا عرفنا هذا فنقول النذر إما أن يكون بالصدقة أو بالصوم أو الصلاة أو الاعتكاف فنبدأ بالنذر بالصدقة فنقول إما أن يعين الوقت بنذره فيقول لله علي أن أتصدق بدرهم غدا أو يعين المكان فيقول في مكان كذا أو يعين المتصدق عليه فيقول على فلان المسكين أو يعين الدرهم فيقول لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم وفي الوجوه كلها يلزمه التصدق بالمنذور عندنا ويلغو اعتبار ذلك التقييد حتى لو تصدق به قبل مجيء ذلك الوقت أو في غير ذلك المكان أو على غير ذلك المسكين أو بدرهم غير الذي عينه خرج عن موجب نذره.
وعلى قول زفر: لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء كما التزمه, قال: لأن في ألفاظ(3/233)
ص -120- ... العباد يعتبر اللفظ ولا يعتبر المعنى ألا ترى أن من قال لغيره طلق امرأتي للسنة فطلقها لغير السنة لم يقع ولو أمره أن يتصدق بدرهم على فلان الفقير فتصدق على غيره كان مخالفا وهذا لأن أوامر العباد قد تكون خالية عن فائدة حميدة فلا يمكن اعتبار المعنى فيها وإنما يعتبر اللفظ فلا يحصل الوفاء إلا بالتصدق على الوجه الذي التزمه وعلماؤنا رحمهم الله قالوا ما يوجبه المرء على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ألا ترى أن ما لله تعالى من جنسه واجبا على عباده صح التزامه بالنذر وما ليس لله تعالى من جنسه واجبا على عباده لا يصح التزامه بالنذر؟.
ثم ما أوجب الله تعالى من التصدق بالمال مضافا إلى وقت يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت كالزكاة بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وصدقة الفطر قبل مجيء يوم الفطر فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهذا لأن صحة النذر باعتبار معنى القربة وذلك في التزام الصدقة لا في تعيين المكان والزمان والمسكين والدرهم وإنما يعتبر من التعيين ما يكون مفيدا فيما هو المقصود لا ما ليس بمفيد.
ومعنى العبادة في التصدق باعتبار سد خلة المحتاج إذ أخرج المتصدق ما يجري فيه الشح والضنة عن ملكه ابتغاء مرضاة الله تعالى وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة تعيين المكان والزمان وبهذا يتبين الجواب عما اعتمد عليه من اعتبار اللفظ فإن صحة النذر لم تكن باعتبار اللفظ بل باعتبار معنى القربة كما بينا وبه فارق الوصية فإن صحة الوصية لم يكن باعتبار معنى القربة فلهذا اعتبرنا تعيين المصروف إليه فصار فلان موصى له بما سمى فإذا دفعه إلى غيره كان مخالفا أمر الموصي وهذا بخلاف ما إذا قال إذا قدم فلان فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به قبل قدوم فلان لم يجزه وكذلك لو قال إذا جاء غد لأن هناك علق النذر بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب والسبب هو النذر فإذا علقه بالشرط كان معدوما قبله.(3/234)
وهنا أضاف النذر إلى وقت والإضافة إلى وقت لا يخرجه من أن يكون سببا في الحال فيجوز التعجيل بمنزلة أداء الزكاة قبل كمال الحول وعلى قول الشافعي رضي الله عنه يجوز التعجيل قبل قدوم فلان بناء على مذهبه في جواز التكفير بالمال بعد اليمين قبل الحنث وقد بينا المسألة في كتاب الأيمان.
وأما النذر بالعبادات البدنية فإما أن يضيفه إلى مكان أو زمان أما إذا أضافه إلى زمان بأن قال لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبله أجزأه عن المنذور في قول أبي يوسف وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وفي قول محمد وزفر لا يجزئه وكذلك لو قال لله علي أن أعتكف رجب فاعتكف شهرا قبله أو قال لله علي أن أصلي ركعتين غدا فصلى اليوم فهو على هذا الخلاف.
وجه قول محمد وزفر رحمهما الله: أن ما يوجبه العبد على نفسه معتبر بما أوجب الله(3/235)
ص -121- ... تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه لا يجوز تعجيله على ذلك الوقت كصوم رمضان وكذلك ما أوجب الله تعالى عليه من الصلاة في وقت بعينه كصلاة الظهر لا يجوز تعجيلها قبل الزوال فكذلك ما يوجبه على نفسه وبه فارق الصدقة ولأن بالنذر بالصوم جعل ما هو المشروع في الوقت نفلا واجبا بنذره ولهذا لا يصح إضافة النذر بالصوم إلى الليل لأن الصوم غير مشروع فيه نفلا والمشروع من الصوم في وقت غير المشروع في وقت آخر ونذره تعلق بالصوم المشروع في الوقت المضاف إليه حتى يتأدى فيه بمطلق النية وبالنية قبل الزوال ولو لم يتعين صوم ذلك الوقت بنذره لما تأدى إلا بالنية من الليل كما لو أطلق النذر بالصوم.
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الناذر يلتزم بنذره الصوم دون الوقت لأن معنى القربة في الصوم باعتبار أنه عمل بخلاف هوى النفس وإنما يلزم بالنذر ما هو قربة وتعيين الوقت غير مفيد في هذا المعنى فلا يكون معتبرا كما في الصدقة ولا يقال الصوم في بعض الأوقات قد يكون أعظم في الثواب كما ورد به الأثر في صوم الأيام البيض وفي صوم بعض الشهور والأيام لأن بالإجماع النذر لا يتقيد بالفضيلة التي في الوقت المضاف إليه حتى لو نذر أن يصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء فصام بعد مضي ذلك اليوم يوما دونه في الفضيلة فإنه يخرج عن موجب نذره وهذا بخلاف صوم رمضان وصلاة الظهر لأن الشرع جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم.(3/236)
قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]. ومثل هذا لبيان السبب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر" وكذلك الشرع جعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الاسراء: 78]. فإذا أدى قبل ذلك الوقت كان مؤديا قبل وجود سبب الوجوب فلهذا لا يجوز أما هنا الناذر لم يجعل الوقت بنذره سببا للوجوب لأنه ليس للعباد ولاية نصب الأسباب فيكون السبب متقررا قبل مجيء الوقت المضاف إليه وإن كان وجوب الأداء متأخرا فلهذا جاز التعجيل وهو نظير المسافر في شهر رمضان إذا صام كان مؤديا للفرض وإن كان وجوب الأداء متأخرا في حقه إلى عدة من أيام أخر والحرف الثاني أنه أدى العبادة بعد وجود سبب وجوبها قبل وجوبها فيجوز كما لو كفر بعد الجرح قبل زهوق الروح في قتل المسلم أو في قتل الصيد.
وبيان الوصف أن هذه عبادة تضاف إلى النذر لا إلى الوقت يقال صوم النذر والواجبات تضاف إلى أسبابها والإضافة إلى وقت لا يمنع كونه نذرا في الحال بدليل أن التعجيل في النذر بالصدقة يجوز بالاتفاق وما لم يوجد السبب لا يجوز الأداء هناك كما لو علق النذر بالشرط وبعد وجود السبب يجوز التعجيل ماليا كان أو بدنيا كما في كفارة(3/237)
ص -122- ... القتل وكما لو صام المسافر في شهر رمضان يجوز لوجود السبب وهو شهود الشهر.
فإذا ثبت هنا أن السبب وهو النذر متقرر قلنا يجوز تعجيل الأداء وفي جواز التعجيل هنا منفعة للناذر فربما لا يقدر على الأداء في الوقت المضاف إليه لمرض أو غيره وربما تخترمه المنية قبل مجيء ذلك الوقت إلا أنه بالإضافة إلى ذلك الوقت قصد التخفيف على نفسه حتى لو مات قبل مجيء ذلك الوقت لا يلزمه شيء فأعطيناه مقصوده واعتبرنا تعيينه في هذا الحكم وجوزنا التعجيل لتوفير المنفعة عليه كما في الصدقة إذا عين الدراهم فهلكت تلك الدراهم لم يلزمه شيء ولو تصدق بمثلها وأمسكها خرج عن موجب نذره.
وإذا ثبت اعتبار التعيين من هذا الوجه قلنا يجوز الأداء بمطلق النية وبالنية قبل الزوال لأن تعيينه معتبر فيما يرجع إلى النظر له وفي التأدي بمطلق النية قبل الزوال معنى النظر له فاعتبرنا تعيينه في هذا الحكم.
وأما إذا عين المكان بأن قال: لله علي أن أصوم شهرا بمكة أو أعتكف فصام أو اعتكف في غير ذلك المكان خرج عن موجب نذره عندنا وقال زفر لا يخرج عن موجب نذره وكذلك لو قال لله علي أن أصلي ركعتين بمكة فصلاهما هنا أجزأه عندنا خلافا لزفر والأصل عنده أنه لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء في المكان الذي عينه أو في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه.
وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم مسجد بيت المقدس على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال صلاة في مسجد بيت المقدس تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجدي هذا وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في مسجد بيت المقدس وصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي هذا".(3/238)
فإذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا يجوز أداؤهما إلا في ذلك الموضع عنده وإن نذر أن يصلي ركعتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أداؤهما إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام وإذا نذر الصلاة في مسجد بيت المقدس لا يجوز أداؤها إلا في أحد هذه المساجد الثلاثة ولا يجوز أداؤها في غير هذه المساجد في سائر البلاد. وإذا نذر الصلاة في المسجد الجامع لا يجوز أداؤها في مسجد المحلة وإذا نذر الصلاة في مسجد المحلة يجوز أداؤها في المسجد الجامع ولا يجوز أداؤها في بيته واعتمد في ذلك ما روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في البيت فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم وقال: "صلي ها هنا فإن الحطيم من البيت", الحديث فهذا دليل اعتبار تعيينه المكان في النذر بالصلاة.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد بيت(3/239)
ص -123- ... المقدس فقال: "من صلى في مسجدي هذا فكأنما صلى في بيت المقدس", فهو دليل على جواز الأداء في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه.
ولأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن لبعض الأمكنة فضيلة على البعض وكذلك لبعض الأزمنة فإذا عين لنذره مكانا ثم أدى في مكان دون ذلك المكان في الفضيلة فإنما يقيم الناقص مقام الكامل مع قدرته على الأداء بصفة الكمال كما التزمه فلا يجوز وإن أدى في مكان هو أفضل من المكان الذي عينه فقد أدى أتم مما التزمه فيجزيه ذلك ألا ترى أنه لو نذر أن يصوم يوما فصام بالنية قبل الزوال لا يخرج عن موجب نذره لأن المؤدى أنقص مما التزمه وهذا بخلاف ما إذا أضاف النذر إلى وقت فاضل فمضى ذلك الوقت لأن هناك قد تحقق العجز عن الأداء بالصفة التي التزمه ولهذا لم يجوز زفر التعجيل على ذلك الوقت لأن العجز لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت.
وحجتنا في ذلك أن صحة النذر باعتبار معنى القربة وذلك في الصلاة لا في المكان لأن الصلاة تعظيم لله تعالى بجميع البدن وفي هذا المعنى الأمكنة كلها سواء وإن كان الأداء في بعض الأمكنة أفضل فذلك لا يدل على أن الواجب لا يتأدى بدون ذلك كما في أداء المكتوبات ولا شك أن أداء الصلاة بالجماعة في المسجد أفضل وقد أمر شرعا بالأداء بهذه الصفة ومع ذلك إذا أداها في بيته وحده سقط عنه الواجب.(3/240)
ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم ثواب المتطوع بالصلاة في هذه المساجد قال: "وأفضل ذلك كله صلاة الرجل في بيته في جوف الليل الآخر". ثم عنده لو التزم صلاة في بعض هذه البقاع فصلاها في بيته لم يجز ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل صلاة المرأة فقال: "في أشد مكان من بيتها ظلمة", فعلى هذا ينبغي أنها إذا التزمت الصلاة في المسجد الحرام فصلت في أشد مكان من بيتها ظلمة أن تخرج عن موجب نذرها وعند زفر رحمه الله تعالى لا تخرج والذي يوضح ما قلنا أن الناذر إنما يلتزم بنذره ما هو من فعله لا ما ليس من فعله والمكان ليس من فعله فيكون هو بالنذر ملتزما للصلاة دون المكان وفي أي موضع صلى فقد أدى ما التزمه فيخرج عن موجب نذره وإن كان الأداء في الموضع الذي عينه أفضل.
قال: وإن قال لله علي أن أصوم شهرا متتابعا فأفطر يوما في الشهر استقبل الشهر من أوله لأن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم متتابعا إذا أفطر فيه يوما لزمه الاستقبال كصوم الظهار والقتل فكذلك ما يوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر بالصوم فإن ما أوجب الله تعالى عليه من الصوم مطلقا وهو قضاء رمضان إذا أفطر فيه يوما لا يلزمه الاستقبال فكذلك ما يوجبه على نفسه.
قال: ولو قال: لله علي أن أصوم رجب متتابعا فأفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم وحده لأن ما يوجبه على نفسه من الصوم في وقت بعينه معتبر بما أوجب الله عليه من الصوم(3/241)
ص -124- ... في وقت بعينه وهو صوم رمضان وهذا لأن ذكر التتابع في شهر بعينه غير معتبر لأن المعين لا يعرف إلا بصفته وإنما ذكر الصفة لتعريف ما ليس بمعين فيعتبر ذلك عند إطلاق لفظ الشهر ولا يعتبر عند التعيين ولأن أيام الشهر المعين تكون متجاورة لا متتابعة فذكر التتابع في الشهر المعين وجوده كعدمه.
وكذلك لو قال: لله علي أن أصوم شهرا وهو يعني رجب بعينه لأن المنوي من محتملات لفظه فيجعل كالمصرح به وفي الكتاب أشار إلى فرق آخر فقال في الشهر المعين إذا أفطر يوما فقد عجز عن أداء الصوم على الوجه الذي التزمه لأنه لو استقبل الصوم لم يكن مؤديا في ذلك الوقت الذي أوجبه على نفسه وعند إطلاق الشهر بعد ما أفطر يوما هو قادر على أن يصوم شهرا متتابعا كما التزمه فلهذا أوجبنا عليه الاستقبال.(3/242)
قال: وإن أراد بقوله لله علي يمينا كفر عن يمينه مع قضاء ذلك اليوم في الشهر المعين لأن المنوي من محتملات لفظه فإن في النذر معنى اليمين قال صلى الله عليه وسلم: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين", وقد حنث حين أفطر يوما فعليه الكفارة والقضاء لأن ظاهر كلامه نذر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن أراد به اليمين فعليه الكفارة دون القضاء وإن أراد النذر أو أرادهما فعليه القضاء دون الكفارة لأن لفظه للنذر حقيقة ولليمين مجازا ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ولكنا نقول قوله لله علي يمين فإن اللام والباء يتعاقبان قال الله: {آمَنْتُمْ بِهِ}[البقرة: 137] وفي موضع آخر قال: {آمنتم له}[طه:71] فقوله لله بمنزلة قوله بالله. وقال بن عباس رضي الله عنه دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج معناه بالله وقوله علي نذر فإنما أثبتنا كل واحد من الحكمين بلفظ آخر ثم الحالف يلتزم البر حقا لله تعالى والناذر يلتزم الوفاء حقا لله تعالى فكان اللفظ محتملا لكل واحد منهما لا أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للآخر فيكون بمنزلة اللفظ العام إلا أن عند الاطلاق يحمل على النذر لغلبة الاستعمال فإذا نوى اليمين مع ذلك كان اللفظ متناولا لهما بمنزلة اللفظ العام في كونه متناولا لجميع محتملاته.
قال: ولو قال لله علي صوم يوم فأصبح من الغد لا ينوي صوما فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصومه عن نذره لم يجزه ذلك بخلاف ما إذا قال لله علي صوم غد لأن ما يوجبه على نفسه في الوجهين معتبر بما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بالنية قبل الزوال وما كان في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بنية من الليل نحو قضاء رمضان فكذلك ما يوجب على نفسه في الوجهين وهذا لمعنيين:(3/243)
أحدهما: أن عند تعيين اليوم إمساكه في أول النهار يتوقف على الصوم المنذور عند وجود النية فإذا وجدت النية قبل الزوال استندت إلى أول النهار لتوقف الإمساك عليه وذلك لا يوجد فيما إذا أطلق النذر.(3/244)
ص -125- ... والثاني: أن في النذر المعين إذا ترك النية من الليل فقد تحقق عجزه عن أدائه بصفة الكمال كما التزمه فجوزناه بضرب نقصان بطريق إقامة النية في أكثر النهار مقام النية في جميع النهار لأجل العجز وذلك لا يوجد فيما إذا لم يعين الوقت فإنه قادر على أن يصوم يوما آخر بصفة الكمال كما التزمه
ثم هنا ذكر النية قبل الزوال وفي كتاب الصوم قبل انتصاف النهار وهو الصحيح لأن الشرط وجود النية في أكثر وقت الصوم,وذلك لا يوجد إذا نوى قبل الزوال لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر فإنما يشترط وجود النية في وقت الضحوة على وجه تكون النية موجودة في أكثر وقت الصوم.
فإذا نوى بالنهار في النذر المطلق لم يجزه عن المنذور وكان صائما عن التطوع والمستحب له أن يتمه فإن أفطر فلا قضاء عليه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه القضاء وأصل المسألة فيما إذا شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه وقد بينا ذلك في كتاب الصوم وإنما شبهنا هذه المسألة بتلك المسألة لأن في الموضعين جميعا إنما قصد اسقاط الواجب عن نفسه وما قصد التنفل بالصوم وإنما جعل شارعا في النفل من غير قصده على سبيل النظر له لكيلا يضيع سعيه لا على سبيل الإيجاب عليه فإذا أفطر لم يلزمه القضاء.(3/245)
قال: ولو قال لله: علي أن أصوم غدا ثم أصبح فنوى أن يصوم تطوعا فإنه يكون صومه مما أوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر وهذا للأصل الذي بيناه أن ما أوجب الله في وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بتعيين النية فكذلك ما أوجبه على نفسه وهذا لأن الناذر لا يجعل بنذره ما ليس بمشروع مشروعا ولكن يجعل ما كان مشروعا نفلا في الوقت واجبا على نفسه ففي النذر المعين إنما التزم الصوم المشروع في هذا الزمان وقد أصابه بمطلق النية وبنية النفل ألا ترى أنه قبل النذر كان مصيبا له بهذه النية فكذلك بعد النذر وعند إطلاق النذر الواجب في ذمته والمشروع في هذا اليوم غير متعين لما هو الواجب في ذمته فإنما يكون بمطلق النية وبنية النفل مصيبا للمشروع في هذا الوقت وهو التطوع فلا يكون محولا عن ذمته ما التزمه فيها إلى المشروع في هذا الوقت بدون تعيين النية.
قال: ولو قال: لله علي أن أصوم رجب ثم ظاهر من امرأته فصام شهرين متتابعين أحدهما رجب اجزآه من الظهار كما نواه وعليه قضاء المنذور بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان وهو مقيم فإن صومه يكون عن فرض رمضان وأشار إلى الفرق بينهما في الكتاب فقال لأن صوم الظهار مثل صوم المنذور من حيث إن كل واحد منهما وجب بسبب من جهته فعن أيهما نواه كان عن ذلك.
وأما صوم رمضان أقوى من صوم الظهار لأنه واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء وصوم(3/246)
ص -126- ... الظهار إنما وجب بسبب من جهة العبد والضعيف لا يظهر في مقابلة القوى فلهذا كان صومه عن فرض رمضان على كل حال ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا مساواة بين صوم الظهار وصوم المنذور لأن المنذور هو المشروع في رجب نفسه وصوم الظهار واجب في ذمته فينبغي أن يترجح المنذور باعتبار السبق لأن صوم الظهار إنما يتحول من ذمته إلى المشروع في الوقت بنيته وقد كان النذر سابقا على هذه النية.
ولأن المشروع في الوقت لما صار واجبا عليه بنذره لا يبقى صالحا لصوم الظهار لأن ما في ذمته إنما يتأدى بما كان مشروعا في الوقت له لا عليه فالفرق الصحيح بينهما أن قبل نذره كان الصوم المشروع في رجب صالحا لأداء صوم الظهار فلا يتغير ذلك بنذره لأنه يوجب على نفسه بنذره ما لم يكن واجبا عليه ولكن لا ينفي صلاحيته لغيره إذ ليس ذلك تحت ولاية العبد فإذا بقي بعد نذره صالحا لأداء صوم الظهار به تأدى بنيته.
وأما صوم رمضان فقد جعله الشرع فرضا عليه ومن ضرورته أن لا ينفي صالحا لأداء صوم الظهار به وللشرع هذه الولاية فإذا لم يبق صالحا لأداء صوم الظهار به تلغو نيته عن الظهار به وانتفاء الصلاحية من ضرورة وجوب الأداء عن فرض رمضان حتى أن في حق المسافر لما لم يكن الأداء في الشهر واجبا عليه فإذا نواه عن الظهار كان عن الظهار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومسئلة النذر بمنزلة المسافر في صوم رمضان ثم في مسألة النذر إذا كان نوى اليمين لم تلزمه الكفارة لأن شرط بره أن يكون صائما في رجب لا أن يكون صومه عن المنذور وقد وجد ذلك وإن صامه عن الظهار.(3/247)
قال: والمجنونة والنائمة إذا جامعهما زوجهما وهما صائمتان في رمضان فعليهما القضاء دون الكفارة لأن وجوب الكفارة يستدعي جناية متكاملة فإنها ستارة للذنب ولم يوجد ذلك في حقهما ووجوب القضاء لانعدام أداء الصوم في الوقت وقد وجد ذلك في حقهما فإن الصوم لا يتأدى مع فوات ركنه وقد انعدم ركن الصوم في حقهما مع قيام العذر وقد بينا خلاف زفر رحمه الله تعالى في هذه المسألة في كتاب الصوم.
قال هنا: ألا ترى أنهما لو قتلا رجلا خطأ لم يكن عليهما في ذلك كفارة ولا تحرمان الميراث؟
قال رحمه الله تعالى: وهذا صحيح في حق المجنونة غلط في حق النائمة فالرواية محفوظة أن النائم إذا انقلب على مورثه فقتله تلزمه الكفارة ويحرم الميراث ثم هذا الاستشهاد ضعيف فإن كفارة القتل لا تستدعي جناية متكاملة ولهذا تجب على الخاطى ء بخلاف كفارة الفطر.
قال: وإذا خاف الرجل وهو صائم إن هو لم يفطر تزداد عينه وجعا أو تزداد حماه شدة فينبغي أن يفطر لأن الله تعالى رخص للمريض في الفطر بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184] وهذا مريض لأن وجع العين نوع مرض والحمى(3/248)
ص -127- ... كذلك ثم إن الله تعالى بين المعنى فيه فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] وفي إيجاب أداء الصوم مع هذا الخوف عسر فينبغي له أن يأخذ باليسر فيه ويترخص بالفطر قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه".
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى كل من كان له أن يفطر في يوم فأفطر فيه بعد ما صام فلا كفارة عليه وهذا قول أصحابنا جميعا لأن صوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا كما لا يتجزأ أداء فإذا لم يكن الأداء واجبا في جزء من النهار لا تتكامل الجناية بالفطر فيه ولأن الكفارة في رمضان تسقط بالشبهة ولهذا لا تجب على المتسحر الذي لا يعلم بطلوع الفجر.
وعلى المفطر الذي يرى أن الشمس قد غابت ولم تغب وإباحة الفطر له في جزء من اليوم يكون شبهة قوية في المحل فإنه ينعدم بها استحقاق الأداء ولا شبهة أقوى من ذلك والشبهة في المحل مسقطة للكفارة سواء علم بها أو لم يعلم ألا ترى أن من وطى ء جارية ابنه لا يلزمه الحد سواء علم بالحرمة أو لم يعلم لشبهة في المحل باعتبار أن مال الولد مضاف إلى والده شرعا وبيان هذا الأصل أنه إذا أصبح مريضا أو مسافرا في أول النهار ونوى الصوم ثم بريء من مرضه أو صار مقيما ثم أفطر فلا كفارة عليه لأنه كان له أن يفطر في أول النهار.(3/249)
وكذلك لو كان صحيحا مقيما في أول النهار ثم مرض في آخره فأفطر لأنه لما عجز عن الصوم بسبب المرض صار الفطر مباحا له ولو سافر في آخر النهار ثم أفطر لم يكن عليه الكفارة لا لأن الفطر صار مباحا له فإنه إذا شرع في الصوم وهو مقيم ثم سافر لا يباح له الفطر ولكن لأن السفر في الأصل مبيح للفطر فإذا اقترن بالسبب الموجب للكفارة يكون مورثا شبهة مسقطة للكفارة وإن لم يصر الفطر مباحا له بمنزلة النكاح الفاسد يكون مسقطا للحد وإن لم يكن مبيحا للوطء وخرج على هذا الأصل ما إذا أصبحت المرأة صائمة ثم أفطرت ثم حاضت أو أصبح الرجل صائما ثم أفطر ثم مرض وقد بينا هذه المسائل في كتاب الصوم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب ما يجب فيه القضاء والكفارة وما يجب فيه القضاء دون الكفارة وما يجوز من الشهادة على رؤية الهلال وما لا يجوز
قال: رضي الله عنه ومن ابتلع جوزة رطبة وهو صائم فعليه القضاء ولا كفارة عليه وإن ابتلع لوزة رطبة أو بطيخة صغيرة فعليه القضاء والكفارة والأصل في هذا أنه متى حصل الفطر بما لا يتغذى به أو يتداوى به عادة فعليه القضاء دون الكفارة لأن وجوب الكفارة يستدعي كمال الجناية والجناية تتكامل بتناول ما يتغذى به أو يتداوى به لانعدام الإمساك صورة ومعنى ولا تتكامل الجناية بتناول ما لا يتغذى به ولا يتداوى به لأن الإمساك ينعدم به صورة لا معنى ولأن الكفارة مشروعة للزجر والطباع السليمة تدعو إلى تناول ما يتغذى به وما(3/250)
ص -128- ... يتداوى به لما فيه من إصلاح البدن فتقع الحاجة إلى شرع الزاجر فيه ولا تدعو الطباع السليمة إلى تناول ما لا يتغذى به ولا يتداوى به فلا حاجة لشرع الزاجر فيه.
إذا عرفنا هذا فنقول الجوزة الرطبة لا تؤكل كما هي عادة واللوزة الرطبة تؤكل كما هي عادة وهذا إذا ابتلع الجوزة فأما إذا مضغها وهي رطبة أو يابسة فعليه الكفارة ذكره الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لأنه تناول لبها ولب الجوز مما يتغذى به وأكثر ما فيه أنه جمع بين ما يتغذى به وبين ما لا يتغذى به في التناول وذلك موجب للكفارة عليه.
وإذا ابتلع أهليلجة فعليه القضاء والكفارة أراد به الدواء أو لم يرد هكذا ذكره بن سماعة وهشام عن محمد رحمهم الله تعالى وذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أن عليه القضاء دون الكفارة قال لأنها لا تؤكل كما هي للتداوي عادة والأصح ما ذكره هنا فإن الهليلجة مما يتداوى به فسواء أكلها على الوجه المعتاد أو على غير الوجه المعتاد قلنا إنه تجب عليه الكفارة.
وكذلك إن أكل مسكا أو غالية أو زعفرانا فعليه القضاء والكفارة لأن هذه الأشياء تؤكل عادة للتغذي أو للتداوي وذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لو أكل عجينا لا تلزمه الكفارة لأن العجين لا يؤكل عادة قبل الطبخ ولا يدعو الطبع إلى تناوله وهكذا ذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى وقال لو أكل الدقيق أيضا لا تلزمه الكفارة لأنه يصير عجينا في فمه قبل أن يصل إلى جوفه.
قال: ولو أكل حنطة يجب عليه القضاء والكفارة لأن الحنطة تؤكل كما هي عادة فإنها مادامت رطبة تؤكل وبعد اليبس تغلى فتؤكل وتقلى فتؤكل.(3/251)
قال: ولو أكل طينا أرمنيا فعليه الكفارة ذكره بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى قال لأنه بمنزلة الغاريقون يتداوى به قال بن رستم فقلت له فإن أكل من هذا الطين الذي يأكله الناس قال لا أعرف أحدا يأكله وفي رواية أخرى عن محمد رحمه الله تعالى أنه لا تلزمه الكفارة في الطين الأرمني أيضا إذا أكله كما هو إلا أن يسويه على الوجه المعتاد الذي يتداوى به والأول أصح.
قال: ومن أفطر في شهر رمضان بعذر والشهر ثلاثون يوما فقضى شهرا بالأهلة وهو تسعة وعشرون يوما فعليه قضاء يوم آخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184], ففي هذا بيان أن المعتبر في القضاء إكمال العدة بالأيام.
قال: ولو شهد رجل واحد برؤية هلال رمضان وبالسماء علة قبلت شهادته إذا كان عدلا وقد بينا هذه المسألة في كتاب الصوم والاستحسان وشرط في الكتاب أن يكون الشاهد عدلا والطحاوي يقول عدلا كان أو غير عدل قيل مراده أنه يكتفي بالعدالة الظاهرة ولا يشترط أن يكون الشاهد عدلا في الباطن وقيل إنما لا تشترط العدالة في هذا(3/252)
ص -129- ... الموضع لانتفاء التهمة لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره وإنما لا يقبل خبر الفاسق لتمكن التهمة والأصح اشتراط العدالة فيه لأن هذا من أمور الدين ولهذا يكتفى فيه بخبر الواحد وخبر الفاسق في باب الدين غير مقبول بمنزلة رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأما على الفطر فلا تقبل إلا شهادة رجلين إذا كان بالسماء علة وأشار في بعض النوادر إلى الفرق فقال المتعلق بهلال رمضان هو الشروع في العبادة وخبر الواحد فيه مقبول كما لو أخبر بإسلام رجل والمتعلق بهلال شوال الخروج من العبادة وذلك لا يثبت إلا بشهادة رجلين كما في الشهادة على ردة المسلم.
وأشار هنا إلى فرق آخر فقال المتعلق بهلال شوال ما فيه منفعة للناس وهو الترخص بالفطر فيكون هذا نظير الشهادة على حقوق العباد والمتعلق بهلال رمضان محض حق الشرع وهو الصوم الذي هو عبادة يؤخذ فيها بالاحتياط فلهذا يكتفى فيه بخبر الواحد إذا كان بالسماء علة وهذا صحيح على ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنهم يصومون بخبر الواحد ولا يفطرون إذا لم يروا الهلال وإن أكملوا العدة ثلاثين يوما بدون التيقن بانسلاخ رمضان للأخذ بالاحتياط في الجانبين.
فأما ابن سماعة يروي عن محمد رحمه الله تعالى أنهم يفطرون إذا أكملوا العدة ثلاثين يوما لأن صوم الفرض في رمضان لا يكون أكثر من ثلاثين يوما قال بن سماعة فقلت لمحمد كيف يفطرون بشهادة الواحد قال لا يفطرون بشهادة الواحد بل بحكم الحاكم لأنه لما حكم بدخول رمضان وأمر الناس بالصوم فمن ضرورته الحكم بانسلاخ رمضان بعد مضي ثلاثين يوما.(3/253)
والحاصل أن الفطر هنا مما تفضي إليه الشهادة لا أنه يكون ثابتا بشهادة الواحد وهو نظير شهادة القابلة على النسب فإنها تكون مقبولة ثم يفضي ذلك إلى استحقاق الميراث والميراث لا يثبت بشهادة القابلة ابتداء ويستوي إن شهد رجل أو امرأة على شهادة نفسه أو على شهادة غيره حرا كان أو عبدا محدودا في القذف أو غير محدود بعد أن يكون عدلا في ظاهر الرواية بمنزلة رواية الأخبار فإن الصحابة كانوا يقبلون رواية أبي بكرة بعد ما أقيم عليه حد القذف.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا تقبل شهادة المحدود في القذف على رؤية الهلال وإن حسنت توبته لأنه محكوم بكذبه شرعا. قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور: 13] فإذا كان المتهم بالكذب وهو الفاسق غير مقبول الشهادة هنا فالمحكوم بكذبه كان أولى فأما إذا لم يكن بالسماء علة فلا تقبل شهادة الواحد والمثنى حتى يكون أمرا مشهورا ظاهرا في هلال رمضان وهكذا في هلال الفطر في رواية هذا الكتاب وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى,(3/254)
ص -130- ... قال تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين بمنزلة حقوق العباد والأصح ما ذكر هنا فإن في حقوق العباد إنما تقبل شهادة رجلين إذا لم يكن هناك ظاهر يكذبهما وهنا الظاهر يكذبهما في هلال رمضان وفي هلال شوال جميعا لأنهما أسوة سائر الناس في الموقف والمنظر وحدة البصر وموضع القمر فلا تقبل فيه الشهادة إلا أن يكون أمرا مشهورا ظاهرا وقد بينا اختلاف الأقاويل في ذلك في كتاب الصوم.
قال: ولو أن رجلا جامع امرأته ناسيا في رمضان فتذكر ذلك وهو مخالطها فقام عنها أو جامعها ليلا فانفجر الصبح وهو مخالطها فقام عنها من ساعته فلا قضاء عليه في الوجهين جميعا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه القضاء في الوجهين لوجود جزء من المجامعة بعد التذكر وانفجار الصبح إلى أن نزع نفسه منها وذلك يكفي لإفساد الصوم ولكنا نقول ذلك ما لا يستطاع الامتناع عنه ومما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو وأصل هذه المسألة فيما إذا حلف لا يلبس هذه الثوب وهو لابسه فنزعه من ساعته فهو حانث في القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من اللبس بعد اليمين وفي الاستحسان لا حنث لأن ما لا يستطاع الامتناع عنه فهو عفو يوضحه أن نزع النفس كف عن المجامعة والكف عن المجامعة ركن الصوم فلم يوجد منه بعد انفجار الصبح ولا بعد التذكر إلا ما هو ركن الصوم وذلك غير مفسد لصومه.
ألا ترى أن اللقمة لو كانت في فيه فألقاها بعد التذكر أو بعد انفجار الصبح لم يفسد صومه إلا أن زفر رحمه الله تعالى يفرق فيقول الموجود هناك جزء من إمساك اللقمة في فيه إلى أن يلقيها وذلك غير مفسد للصوم والموجود هنا جزء من الجماع وذلك مفسد للصوم.(3/255)
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في الناسي لا يفسد صومه إذا نزع نفسه كما تذكر وإذا انفجر الصبح فعليه القضاء وإن نزع نفسه لأن آخر الفعل من جنس أوله وأول الفعل من الناسي غير مفسد للصوم مع مصادفته وقت الصوم فكذلك آخره وأول الفعل في حق الذي انفجر له الصبح عمد مفسد للصوم إذا صادف وقت الصوم فكذلك آخره يوضحه أن الشروع في الصوم يكون عند طلوع الفجر فاقتران المجامعة بطلوع الفجر يمنع صحة الشروع في الصوم فيلزمه القضاء وفي حق الناسي شروعه في الصوم صحيح ولم يوجد بعده ما يفسد الصوم فلهذا لا يلزمه القضاء.
ولم يذكر في الكتاب أنه بعد ما نزع نفسه لو أمنى هل يلزمه القضاء أم لا قال رضي الله عنه والصحيح أنه لا يفسد صومه لأن مجرد خروج المني لا يفسد الصوم وإن كان على وجه الشهوة كما لو احتلم ولم يوجد بعد التذكر وطلوع الفجر إلا ذلك وإذا أتم الفعل بعد التذكر وطلوع الفجر فعليه القضاء دون الكفارة عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى عليه القضاء والكفارة لوجود المجامعة بعد التذكر وطلوع الفجر والموجب للكفارة عنده(3/256)
ص -131- ... الجماع المعدم للصوم وقد وجد فأما عندنا الموجب للكفارة هو الفطر على وجه تتكامل به الجناية وذلك لم يوجد فيما إذا طلع الفجر وهو مخالط لأهله فداوم على ذلك لأن شروعه في الصوم لم يصح مع المجامعة والفطر إنما يكون بعد الشروع في الصوم ولم يوجد ولئن كان الموجب للكفارة الجماع المعدم للصوم فالجماع هو إدخال الفرج في الفرج ولم يوجد منه بعد التذكر ولا بعد طلوع الفجر إدخال الفرج في الفرج وإنما وجد منه الاستدامة وذلك غير الإدخال.
ألا ترى أن من حلف لا يدخل دار فلان وهو فيها لم يحنث وإن مكث في الدار ساعة فهذا مثله ولو أنه نزع نفسه ثم أولج ثانيا فعليه الكفارة بالاتفاق لأنه وجد منه إبتداء المجامعة بعد صحة الشروع في الصوم مع التذكر فيكون عليه القضاء والكفارة وهذا على الرواية الظاهرة فيما إذا جامع ثانيا وهو يعلم أن صومه لم يفسد به ثم أفطر بعد ذلك متعمدا فإنه تلزمه الكفارة فأما على الرواية التي رويت عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يلزمه الكفارة وإن كان عالما لشبهة القياس فهنا أيضا يقول لا تجب الكفارة.
قال: ولو أن صائما ابتلع شيئا كان بين أسنانه فلا قضاء عليه سمسمة كانت أو أقل منها لأن ذلك مغلوب لا حكم له كالذباب يطير في حلقه وإن تناول سمسمة وابتلعها ابتداء فهو مفطر لأن هذا يقصد إبطال صومه ومعنى هذا أنه إذا أدخل سمسمة في فمه فابتلعها فقد وجد منه القصد إلى إيصال المفطر إلى جوفه وذلك مفسد لصومه فأما إذا كان باقيا بين أسنانه فلم يوجد منه القصد إلى إيصال المفطر إلى جوفه والذي بقي بين أسنانه تبع لريقه ولو ابتلع ريقه لم يفسد صومه فهذا مثله يوضح الفرق أنه لا يمكنه التحرز عن اتصال ما بقي بين أسنانه إلى جوفه خصوصا إذا تسحر بالسويق وما لا يمكنه التحرز عنه فهو عفو ألا ترى أن الصائم إذا تمضمض فإنه يبقى في فمه بلة ثم تدخل بعد ذلك حلقه مع ريقه وأحد لا يقول بأن ذلك يفطره.(3/257)
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لو بقي لحم بين أسنان الصائم فابتلعه فعليه القضاء قال وهذا إذا كان قدر الحمصة أو أكثر فإن كان دون ذلك فلا قضاء عليه فبهذه الرواية يظهر الفرق بين القليل الذي لا يستطاع الامتناع عنه وبين الكثير الذي يستطاع الامتناع عنه ثم في قدر الحمصة أو أكثر إذا ابتلعه فعليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا وعند زفر رحمه الله تعالى عليه القضاء والكفارة لأن ذلك مما يتغذى به ولو أدخله في فيه وابتلعه كان عليه القضاء والكفارة فكذلك إذا كان باقيا بين أسنانه فابتلعه وليس فيه أكثر من أنه متغير وذلك لا يمنع وجوب الكفارة عليه كما لو أفطر بلحم منتن ولكنا نقول ما بقي بين الأسنان مما لا يتغذى به ولا يتداوى به في العادة مقصودا فالفطر به لا(3/258)
ص -132- ... يوجب الكفارة كالفطر بتناول الحصاة يوضحه أنه لم يوجد منه ابتداء الأكل في حالة الصوم لأن ابتداء الأكل بإدخال الشيء في فيه وإتمامه بالاتصال إلى جوفه وحين أدخل هذا في فيه لم يكن فعله جناية على الصوم فتتمكن الشبهة في حقه في فعله والكفارة تسقط بالشبهة.
ولو أن مسافرا صام في رمضان عن واجب آخر أجزأه من ذلك الواجب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعليه قضاء رمضان وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع صومه عن رمضان ولا يكون عن غيره بنيته مريضا كان أو مسافرا ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المريض نصا ولكن أطلق الجواب في حق من كان مقيما أنه يكون صومه عن فرض رمضان وهو الصحيح لأنه لا فرق في ذلك بين المريض والصحيح لأن المريض إنما يباح له الترخص بالفطر إذا كان عاجزا عن الصوم فأما إذا كان قادرا على الصوم فهو والصحيح سواء فيكون صومه عن فرض رمضان وأما المسافر إذا نوى التطوع في رمضان فلا إشكال في قولهما أنه يكون صومه عن فرض رمضان وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان:
وجه قولهما: أن المسافر إنما يفارق المقيم في الترخص بالفطر فإذا ترك هذا الترخص كان هو والمقيم سواء وصوم المقيم لا يكون إلا عن رمضان لأنه لم يشرع في هذا الزمان إلا هذا الصوم فنيته جهة أخرى تكون لغوا فكذلك في حق المسافر ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان:
أحدهما: أن أداء صوم رمضان غير مستحق على المسافر في هذا الوقت ولكنه مخير بين الصوم والفطر مع قدرته على الصوم كالمقيم في شعبان ثم هناك يتأدى صومه عما نوى فكذلك هنا وعلى هذا الطريق يقول إذا نوى التطوع يكون صومه عن التطوع.(3/259)
والطريق الآخر: أنه ما ترك الترخص حين نوى واجبا آخر كان مؤاخذا به ولكنه صرف صومه إلى ما هو أهم عليه لأن الواجب الآخر دين في ذمته لو مات قبل إدراك عدة من أيام أخر كان مؤاخذا به فيكون هو مترخصا بصرف الصوم إلى ما هو الأهم فإنه في رمضان لو مات قبل إدراك عدة من أيام أخر لم يكن مؤاخذا به وعلى هذا الطريق يقول إذا نوى التطوع كان صائما عن الفرض لأنه ترك الترخص حين لم يصرف الصوم إلى ما هو الأهم عنده وإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيكون صومه عن رمضان ولو قال لله علي أن أصوم هذا اليوم شهرا فعليه أن يصوم ذلك اليوم كلما دار إلى تمام ثلاثين يوما منذ قال هذا القول فيكون صومه في أربعة أيام أو خمسة أيام من الشهر لأن معنى كلامه لله علي أن أصوم هذا اليوم كلما دار في شهر ويتعين له الشهر الذي يعقب نذره بمنزلة ما لو أجر داره شهرا.
ولو قال: لله علي أن أصوم هذا الشهر يوما كان عليه أن يصوم ذلك الشهر متى شاء وهو في سعة ما بينه وبين أن يموت لأن معنى كلامه لله علي أن أصوم هذا الشهر وقتا من(3/260)
ص -133- ... الأوقات فيكون موسعا عليه في مدة عمره وحقيقة الفرق أن اليوم قد يكون بمعنى الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}[لأنفال: 16] والمراد منه الوقت والرجل يقول انتظر يوم فلان أي وقت إقباله أو إدباره وقد يكون عبارة عن بياض النهار على ضد الليل وهذا ظاهر فإذا قرنه بذكر الصوم عرفنا أن المراد بياض النهار لأنه وقت للصوم ومعيار له.
ففي المسألة الأولى: قرن اليوم بالصوم فقال أصوم هذا اليوم فحملناه على بياض النهار ثم ذكر الشهر لبيان مقدار الأيام التي تناولها نذره.
وفي المسألة الثانية: قرن الشهر بذكر اليوم فصار مقدار الصوم بذكر الشهر معلوما ثم ذكر اليوم بعد ذلك من غير أن جعله معيارا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت فجعلنا كأنه قال أصوم هذا الشهر وقتا.
قال: ولو قال: لله علي صوم هذا اليوم غدا فإن قال هذا قبل الزوال ولم يكن أكل فيه شيئا فعليه صوم هذا اليوم وإن قال بعد الزوال أو بعد ما أكل فلا شيء عليه ولو قال لله علي صوم غد اليوم كان عليه الصوم غدا لأنه ذكر الوقتين من غير أن ذكر بينهما حرف العطف فيكون المعتبر من كلامه أول الوقتين ذكرا ويلغو آخر الوقتين ذكرا وقد بينا هذا الأصل في الطلاق إذا قال لامرأته أنت طالق اليوم غدا فهي طالق اليوم ولو قال: غدا اليوم تطلق غدا.
ففي المسألة الأولى: المعتبر من كلامه ذكر اليوم فكأنه اقتصر على قوله لله علي صوم هذا اليوم فإن كان قبل الزوال ولم يكن أكل صح نذره وإلا فلا.
وفي المسألة الثانية: المعتبر من كلامه قوله غدا فيكون ملتزما صوم الغد بنذره وذلك صحيح فإن أفطر في الغد فعليه القضاء.(3/261)
قال: ولو قال: لله علي صوم الأيام ولا نية له ففي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليه صوم عشرة أيام وفي قولهما عليه صوم سبعة أيام لأن حرف اللام حرف العهد والمعهود هي الأيام السبعة التي تدور عليها الشهور والسنون كلما مضت عادت فإليها ينصرف مطلق لفظه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ذكر الألف واللام دليل الكثرة فإنما ينصرف كلامه إلى أكثر ما يتناوله اسم الأيام في اللغة مقرونا بالعدد وذلك عشرة أيام لأنه يقال لما بعد العشرة أحد عشر يوما وإنما قلنا إن الألف واللام دليل الكثرة لأنهما لاستغراق الجنس وقد بينا هذا في كتاب الأيمان.
وعلى هذا الأصل إذا قال لله علي صيام الشهور فعليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى عشرة أشهر لأنه أكثر ما يتناوله لفظ الجمع مقرونا بالعدد فإنه يقال عشرة أشهر أو شهور ثم يقال لما بعده أحد عشر شهرا وعندهما يلزمه صوم اثني عشر شهرا باعتبار المعهود قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}[التوبة: 36] وهي التي تدور عليها السنون.(3/262)
ص -134- ... وإن قال لله علي صيام شهور فعليه صيام ثلاثة أشهر لأنه أدنى ما يتناوله اسم الجمع لأنه ليس في كلامه حرف العهد ولا ما يدل على الكثرة.
ولو قال: لله علي صوم الجمع فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هذا على عشر جمع وعندهما على جمع العمر.
ولو قال: لله علي صوم جمع هذا الشهر فعليه أن يصوم كل جمعة تمر عليه في ذلك الشهر لأن الجمع جمع جمعة وهو اسم لليوم الذي تقام فيه صلاة الجمعة وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يلزمه صوم جميع ذلك الشهر لأن الجمعة تذكر بمعنى الأسبوع في العادة يقول الرجل لغيره لم ألقك منذ جمعة وإنما يريد به الأسبوع قال رضي الله عنه والأصح ما ذكر في ظاهر الرواية لأنه لا يلزمه بالنذر إلا القدر المتيقن به وكل واحد من هذين المعنيين من محتملات كلامه فيلزمه المتيقن.
ولو قال: لله علي صوم أيام الجمعة كان عليه صوم سبعة أيام لأن الأيام اسم جمع فبه يتبين أن مراده الأسبوع دون اليوم الذي تقام فيه الجمعة خاصة.
ولو قال لله علي صوم جمعة فهذا على وجهين: قد يقع على أيام الجمعة السبعة وقد يقع على الجمعة بعينها فأي ذلك نوى عملت نيته وإن لم تكن له نية فهذا على أيام الجمعة سبعة أيام وهذا يؤيد رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى في الفصل الأول فإنه لم يعتبر المتيقن هنا واعتبر ما تعارفه الناس ولكن الفرق بينهما في ظاهر الرواية أن هنا ذكر الجمعة مطلقا ولو كان المراد بهذا اللفظ اليوم الذي تقام فيه الجمعة لقيد بذكر اليوم فترك التقييد هنا دليل على أن مراده الأيام السبعة وفي الفصل الأول وإن لم يذكر اليوم ففي لفظه ما يدل على أنه هو المراد لأنه أضاف الجمع إلى الشهر فذلك دليل على أن مراده أيام الجمعة التي تدور في الشهر.(3/263)
قال: ولو قال: لله علي صوم كذا كذا يوما فإن نوى عددا هو من محتملات لفظه كان على ما نوى وإن لم يكن له نية فهو على أحد عشر يوما لأن كذا اسم لعدد مبهم فقد ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف وأقل عددين مفسرين ليس بينهما حرف العطف أحد عشر فعلى ذلك يحمل ما ذكر من العددين المبهمين ولو قال كذا وكذا يوما لزمه صوم أحد وعشرين يوما لأنه ذكر حرف العطف بين العددين المبهمين وأقل عددين مفسرين بينهما حرف العطف أحد وعشرون فعلى ذلك يحمل مبهم كلامه إذا لم ينو شيئا آخر.
قال: ولو قال لله علي صوم بضعة عشر يوما لزمه صيام ثلاثة عشر يوما لأن البضع أدناه الثلاثة على ما روى أنه لما نزل قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 3-4] خاطر أبو بكر مع قريش على أن الروم تغلب فارس في ثلاث سنين إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم تعدون البضع فيكم؟" فقال: من الثلاث إلى سبع، فقال(3/264)
ص -135- ... عليه الصلاة والسلام: "زد في الخطر وأبعد في الأجل"، فقد بين أن أدنى ما يتناوله اسم البضع ثلاثة فإنما يلزمه القدر المتيقن فلهذا كان عليه صيام ثلاثة عشر يوما.
قال: ولو قال: لله علي صوم السنين فهو على عشر سنين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى للأصل الذي بينا له وفي قولهما إن نوى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية فهو على جميع العمر لأنه ليس في السنين شيء معهود فيحمل لفظه على استغراق الجنس وذلك جميع عمره في حقه.
قال: ولو قال: لله علي صوم زمان أو صوم الزمان فهذا على ستة أشهر لأن الزمان والحين يستعملان استعمالا واحدا فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ زمان لم ألقك منذ حين.
ولفظ الحين يتناول ستة أشهر سواء قرن به الألف واللام أو لم يقرن فكذلك لفظ الزمان وإنما حملنا لفظ الحين على ستة أشهر لقوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: 25] قال بن عباس رضي الله تعالى عنه المراد ستة أشهر ثم لفظ الحين في كتاب الله تعالى ورد بمعنى أشياء بمعنى الوقت.
قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}[الروم: 17] والمراد وقت الصلاة، وبمعنى أربعين سنة قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}[الإنسان: 1] والمراد أربعون سنة وبمعنى قيام الساعة قال الله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:54] يعني قيام الساعة وقد علمنا أنه لم يرد بنذره ساعة واحدة ولا أربعين سنة لأن بقاء الآدمي إلى هذه المدة الطويلة للصوم فيها نادر فعرفنا أن المراد ستة أشهر وهو المتوسط في هذه الأعداد وخير الأمور أوسطها.(3/265)
ولو قال: لله علي صوم أبد أو الأبد فهو على جميع العمر لأن الأبد ما لا غاية له ولكن علمنا أنه لم يرد به زيادة على مدة عمره وإن قال صوم الدهر فأبو حنيفة رحمه الله تعالى لم يوقت فيه شيئا وقال لا أدري ما الدهر وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى جعلا لفظ الدهر كلفظ الحين والزمان وقد بينا ذلك في كتاب الأيمان والنذور والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(3/266)
ص -136- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحيض
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن ما اختصره الحاكم من تصنيف محمد بن الحسن في الحيض قاصر مبهم لا يتم المقصود به فوقعت الحاجة لهذا إلى الاستعانة بما خرجه المشايخ وما اختاروا من الأقاويل فيه فذكرت ذلك في شرح الكتاب فوقع في البيان بعض البسط لهذا فنقول وبالله التوفيق.
الحيض في اللغة هو الدم الخارج ومنه يقال حاضت الأرنب وحاضت الشجرة إذا خرج منها الصمغ الأحمر وفي الشريعة اسم لدم مخصوص وهو أن يكون ممتدا خارجا من موضع مخصوص وهو القبل الذي هو موضع الولادة والمباضعة بصفة مخصوصة فإن وجد ذلك كله فهو حيض وإلا فهو استحاضة
والاستحاضة استفعال من الحيض قالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فلا أطهر فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك دم حيض إنما هو عرق امتد أو داء اعترض توضئي لكل صلاة" أشار إلى أنه فاسد لا يتعلق به ما يتعلق بالصحيح والفرق بين الصحيح والفاسد من الدماء من أهم ما يحتاج إلى معرفته في هذا الكتاب فنقول: الفاسد من الدماء أنواع:(3/267)
فمنها ما نقص عن أقل مدة الحيض لأن التقدير الشرعي يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر وينبني على هذا اختلاف العلماء في أقل مدة الحيض عندنا ثلاثة أيام ولياليها وقال بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى يومان والأكثر من اليوم الثالث وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى ثلاثة أيام بما يتخللها من الليالي وذلك ليلتان وقال الشافعي رحمه الله تعالى يوم وليلة وقال مالك رحمه الله تعالى بقدر ما يوجد ولو ساعة احتج بأن هذا نوع حدث فلا يتقدر أقله بشيء كسائر الأحداث أقربها دم النفاس لكنا نقول في الفرق بينهما أن دم النفاس يخرج عقيب خروج الولد فيستدل بما تقدمه على أنه من الرحم فلا حاجة إلى التقدير فيه بالمدة فأما الحيض فليس يسبقه علامة يستدل بها على أنه من الرحم فجعلنا العلامة فيه الامتداد ليستدل به على أنه ليس بدم عرق ثم قدره الشافعي رحمه الله تعالى بيوم وليلة تحرزا عن الكبر فقال لما استوعب السيلان جميع الساعات عرفنا أنه من الرحم فلا حاجة إلى الاستظهار بشيء آخر ونحن قدرنا بثلاثة أيام بالنص وهو ما(3/268)
ص -137- ... روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام"، وهو مروي عن عمر وعلي وبن مسعود وبن عباس وعثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك رضي الله عنهم والمقادير لا تعرف قياسا فما نقل عنهم كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي يوسف رحمه الله تعالى أن الأكثر من اليوم الثالث يقام مقام الكمال لمعنى وهو أن الدم من المرأة لا يسيل على الولاء لأن ذلك يضنيها ويجحفها ولكنه يسيل تارة وينقطع أخرى.
وجه رواية الحسن رحمه الله تعالى أن في الآثار ذكر التقدير بالأيام فجعلنا الثلاثة من الأيام أصلا وما يتخللها من الليالي يتبعها ضرورة ومن الدماء الفاسدة أن يتجاوز أكثر مدة الحيض فإن أكثره مقدر شرعا فلا يكون لما زاد عليه حكمه إذ يفوت به فائدة التقدير الشرعي وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها".وعلى هذا ينبني اختلافهم في أكثر مدة الحيض فعندنا عشر أيام ولياليها لما روينا من الآثار.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى خمسة عشر يوما لقوله صلى الله عليه وسلم في نقصان دين المرأة: "تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي"، والمراد زمان الحيض والحيض والطهر يجتمعان في الشهر عادة ولهذا جعل الله تعالى عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء فيتعين شطر كل شهر للحيض وذلك خمسة عشر يوما، ولكنا نقول ليس المراد حقيقة الشطر ففي عمرها زمان الصغر ومدة الحبل وزمان الإياس ولا تحيض في شيء من ذلك فعرفنا أن المراد ما يقارب الشطر وإذا قدرنا بالعشرة فقد جعلنا ما يقارب الشطر حيضا فأما أقل مدة الطهر خمسة عشر يوما عندنا والشافعي رحمه الله تعالى.(3/269)
وقال عطاء: تسعة عشر يوما قال لأن الشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة وقد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما فإذا كان أكثر الحيض عشرة بقي الطهر تسعة عشر ولكنا نقول إن مدة الطهر نظير مدة الإقامة من حيث إنها تعيد ما كان سقط من الصوم والصلاة وقد ثبت بالأخبار أن أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما فكذلك أقل مدة الطهر ولهذا قدرنا أقل مدة الحيض بثلاثة أيام اعتبارا بأقل مدة السفر فإن كل واحد منهما يؤثر في الصوم والصلاة وقد ثبت لنا أن أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها فكذلك هذا فأما أكثر مدة الطهر فلا غاية له إلا إذا ابتليت بالاستمرار حتى ضلت أيامها ووقعت الحاجة إلى نصب العادة لها فحينئذ فيه اختلاف.
قال أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي لا يتقدر أكثر طهرها بشيء ولا تنقضي عدتها أبدا لأن نصب المقادير بالتوقيف لا بالرأي وكان محمد بن إبراهيم الميداني يقول يتقدر أكثر الطهر في حقها بستة
أشهر إلا ساعة قال لأن الطهر المتخلل بين الدمين دون مدة الحبل عادة وأدنى مدة الحبل ستة أشهر فقدرنا أكثر مدة الطهر بستة أشهر إلا ساعة فإذا طلقها(3/270)
ص -138- ... زوجها تنقضي عدتها بتسعة عشر شهرا وعشرة أيام إلا ثلاث ساعات لجواز أن يكون الطلاق في أول الحيض وهذه الحيضة لا تحسب من العدة فتحتاج إلى عشرة أيام وثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وثلاث حيض كل حيضة عشرة أيام.
وكان الزعفراني يقول أكثر الطهر يتقدر في حقها بسبعة وعشرين يوما لأن الشهر يشتمل على الحيض والطهر وأقل الحيض ثلاثة فبقي الطهر سبعة وعشرين يوما وكان أبو سهل الغزالي يقول بأنه يتقدر أكثر الطهر في حقها بشهرين فقد لا ترى المرأة الحيض في كل شهر عادة.
ومن الدماء الفاسدة ما جاوز أكثر مدة النفاس وينبني عليه اختلاف العلماء في أكثر مدة النفاس فعندنا أربعون يوما وقال الشافعي رحمه الله تعالى ستون يوما وقال مالك رحمه الله تعالى سبعون يوما وإنما قدرنا بالأربعين لحديث عبد الله بن باباه رضي الله عنه وكان من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقعد النفساء ما بينها وبين أربعين يوما إلا أن ترى طهرا قبل ذلك". وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنتظر النفساء ما بينها وبين أربعين صباحا إلا أن ترى طهرا قبل ذلك".وفي الحقيقة بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى اتفاق لأن أكثر النفاس أربعة أمثال أكثر الحيض إلا أن عنده أكثر الحيض خمسة عشر يوما فأربعة أمثاله ستون يوما وعندنا أكثر الحيض عشرة فأربعة أمثاله أربعون يوما.
ومن الدماء الفاسدة ما تراه الحامل فقد ثبت لنا أن الحامل لا تحيض وذلك مروى عن عائشة رضي الله عنها وعرف أنها إذا حبلت انسد فم رحمها فالدم المرئي ليس من الرحم فيكون فاسدا.
ومن الدماء الفاسدة ما تراه الصغيرة جدا لأنه سبق أوانه فلا يعطى له حكم الصحة إذ لو جعلناه حيضا حكمنا ببلوغها به ضرورة وذلك محال في الصغيرة جدا.(3/271)
واختلاف مشايخنا في أدنى المدة التي يجوز الحكم فيها ببلوغ الصغيرة فكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله تعالى يقدر ذلك بتسع سنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين والظاهر أنه بنى بها بعد البلوغ وكان لأبي مطيع البلخي ابنة صارت جدة وهي بنت تسعة عشرة سنة حتى قال: فضحتنا هذه الجارية.
ومن مشايخنا من قدر ذلك بسبع سنين لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا"، والأمر حقيقة للوجوب وذلك بعد البلوغ. وسئل أبو نصر محمد بن سلام رحمهما الله تعالى عن ابنة ست سنين إذا رأت الدم هل يكون حيضا فقال نعم إذا تمادى بها مدة الحيض ولم يكن نزوله لآفة وأكثر المشايخ على ماله محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى لأن رؤية الدم فيما دون ذلك نادر ولا حكم للنادر.
ومن الدماء الفاسدة ما تراه الكبيرة جدا إلا أن محمدا رحمه الله تعالى ذكر في نوادر(3/272)
ص -139- ... الصلاة أن العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض كان حيضا وكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله تعالى يقول هذا إذا لم يحكم بإياسها أما إذا انقطع عنها الدم زمانا حتى حكم بإياسها وكانت بنت تسعين سنة أو نحو ذلك فرأت الدم بعد ذلك لم يكن حيضا وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى يقول إن رأت دما سائلا كما تراه في زمان حيضها فهو حيض وإن رأت بلة يسيرة لم يكن ذلك حيضا بل ذلك بلل من فم الرحم فكان فاسدا لا يتعلق به حكم الحيض فهذا بيان أنواع الدماء الفاسدة.
فصل
ألوان ما تراه المرأة في أيام الحيض ستة: السواد والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية.
أما السواد فغير مشكل أنه حيض لقوله صلى الله عليه وسلم: "دم الحيض أسود عبيط محتدم". والحمرة كذلك فهو اللون الأصلي للدم إلا أن عند غلبة السوداء يضرب إلى السواد وعند غلبة الصفراء يرق فيضرب إلى الصفرة ويتبين ذلك لمن افتصد.
والصفرة كذلك حيض لأنها من ألوان الدم إذا رق وقيل هو كصفرة السن أو كصفرة التبن أو كصفرة القز.
وأما الكدرة فلون كلون الماء الكدر وهو حيض في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى سواء رأت في أول أيامها أو في آخر أيامها وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن رأت الكدرة في أول أيامها لم يكن حيضا وإن رأت في آخر أيامها يكون حيضا قال لأن الكدرة من كل شيء تتبع صافيه فإذا تقدمه دم أمكن جعل الكدرة حيضا تبعا فأما إذا لم يتقدمها دم لو جعلناه حيضا كان مقصودا لا تبعا وهما يقولان ما يكون حيضا إذا رأته المرأة في آخر أيامها يكون حيضا إذا رأته في أول أيامها كالسواد والحمرة لأن جميع مدة الحيض في حكم وقت واحد وما قاله أبو يوسف رحمه الله تعالى فيما إذا كان النقب من أعلى الظرف فأما إذا كان النقب من أسفله فالكدرة يسبق خروجها الصافي وهنا النقب من أسفل فجعلنا الكدرة حيضا وإن رأته ابتداء.(3/273)
وأما الخضرة فقد أنكر بعض مشايخنا وجودها حتى قال أبو نصر بن سلام حين سئل عن الخضرة كأنها أكلت قصيلا على طريق الاستبعاد وذكر أبو علي الدقاق أن الخضرة نوع من الكدرة والجواب فيها على الاختلاف الذي بينا.
وأما التربية فهو ما يكون لونه كلون التراب وهو نوع من الكدرة وقد روي عن أم عطية وكانت غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة قالت: كنا نعد التربية حيضا والأصل فيه قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً}[البقرة: 222] وجميع هذه الألوان في حكم الأذى سواء وروي أن النساء كن يبعثن بالكرسف إلى عائشة رضي الله عنها،(3/274)
ص -140- ... لتنظر فكانت إذا رأت كدرة قالت لا حتى ترين القصة البيضاء يعني البياض الخالص والقصة الطين الذي يغسل به الرأس وهو أبيض يضرب لونه إلى الصفرة فإنما أرادت أنها لا تخرج من الحيض حتى ترى البياض الخالص والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
اعلم بأن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بظهور الدم وبروزه وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى في غير الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت إذا أحست بالبروز وإن لم يظهر وحكم الاستحاضة لا يثبت إلا بالظهور وفرق بينهما فقال للحيض والنفاس وقت معلوم فيمكن إثبات حكمهما باعتبار وقتهما إذا أحست بالبروز والاستحاضة حدث كسائر الأحداث ليس له وقت معلوم لاثبات حكمه فلا يثبت حكمه إلا بالظهور والفتوى على القول الأول لما روي أن امرأة قالت لعائشة رضي الله تعالى عنها إن فلانة تدعو بالمصباح ليلا لتنظر إلى نفسها فقالت ما كانت إحدانا تتكلف لذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها تعرف ذلك بالمس فهو إشارة منها إلى الظهور ولأن ما لم يظهر فهو في معدنه والشيء في معدنه لا يعطى له حكم الظهور ما لم يظهر.
إذا عرفنا هذا فنقول للمرأة فرجان داخل وخارج فالفرج الخارج بمنزلة الإليتين من الدبر فإذا وضعت الكر سف فإما أن تضعه في الفرج الداخل أو في الفرج الخارج فإذا وضعته في الفرج الخارج فابتل الجانب الداخل من الكر سف كان ذلك حيضا وإن لم ينفذ إلى الجانب الخارج لأنه صار ظاهرا بهذا القدر من الخروج وإن وضعته في الفرج الداخل فابتل الجانب الداخل من الكر سف لم يكن حيضا(3/275)
فإن نفذت البلة إلى الجانب الخارج نظر فإن كانت القطنة عالية أو محاذية لحرف الفرج كان حيضا لظهور البلة وإن كانت متسفلة لم يكن حيضا وعلى هذا لو حشى الرجل إحليله بقطنة فابتل الجانب الداخل من القطنة لم ينتقض وضوءه وإن تعدت البلة إلى الجانب الخارج نظرنا فإن كانت القطنة عالية أو محاذية لرأس الإحليل انتقض وضوءه وإن كانت متسفلة لم ينتقض وضوؤه وهذا كله ما لم تسقط القطنة فإن سقطت فهو حيض وحدث سواء ابتل الخارج أو الداخل لظهور البلة.
ولو أن حائضا وضعت الكر سف في أول الليل ونامت فلما أصبحت نظرت إلى الكر سف فوجدت البياض الخالص فعليها صلاة العشاء لأنا تيقنا بطهرها من حين وضعت الكر سف فلو كانت طاهرة حين وضعت الكر سف ونامت ثم انتبهت بعد طلوع الفجر فوجدت البلة على الكر سف فإنه يجعل حيضا من أقرب الأوقات وذلك بعد طلوع الفجر أخذا باليقين والاحتياط حتى يلزمها قضاء العشاء إن لم تكن صلت.(3/276)
ص -141- ... فصل
وأما الأحكام التي تتعلق بالحيض عشرة أو أكثر.
منها: أن الحائض لا تصوم ولا تصلي لقوله صلى الله عليه وسلم: "تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلى"، يعني زمان الحيض.
ومنها: أنه يلزمها قضاء الصوم دون الصلاة لما روي أن امرأة قالت لعائشة رضى الله عنها ما بال إحدانا تقضي صيام أيام الحيض ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة أنكرت عليها السؤال لشهرة الحال ونسبتها إلى حرور وهي قرية كان أهلها يسألون سؤال التعنت في الدين.
ومنها: أنه لا يأتيها زوجها لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}[البقرة: 222] الآية فذلك تنصيص على حرمة الغشيان في أول الحيض وآخره قال صلى الله عليه وسلم: "من أتى امرأته الحائض أو أتاها في غير مأتاها أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم"، ومراده إذا استحل ذلك الفعل.
ومنها: أنها لا تمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79] وهذا وإن قيل في تأويله لا ينزله إلا السفرة الكرام البررة فظاهره يفيد منع غير الطاهر من مسه وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض القبائل: "لا يمس القرآن حائض ولا جنب".
ومنها: أنها لا تقرأ القرآن إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه كان يجوز للحائض قراءة القرآن دون الجنب قال لأن الجنب قادر على تحصيل صفة الطهارة بالاغتسال فيلزمه تقديمه على القراءة والحائض عاجزة عن ذلك فكان لها أن تقرأ.(3/277)
ولنا: حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى الحائض والجنب عن قراءة القرآن ثم عجزها عن تحصيل صفة الطهارة يدل على تغلظ ما بها من الحدث فلا يدل على اطلاق القراءة لها وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنها إنما تمنع عن قراءة آية تامة ولا تمنع عن قراءة ما دون ذلك وقال الكرخي رحمه الله تعالى تمنع عن قراءة ما دون الآية أيضا على قصد قراءة القرآن كما تمنع عن قراءة الآية التامة لأن الكل قرآن.
وجه قول الطحاوي رحمه الله أن المتعلق بالقرآن حكمان جواز الصلاة ومنع الحائض عن قراءته ثم في حق أحد الحكمين يفصل بين الآية وما دونها وكذلك في الحكم الآخر.
ومنها: أنها لا تطوف بالبيت لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف: "اصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت".
ومنها: أن لا تدخل المسجد لأن ما بها من الأذى أغلظ من الجنابة والجنب ممنوع(3/278)
ص -142- ... من دخول المسجد فكذلك الحائض وهذا لأن المسجد مكان الصلاة فمن ليس من أهل اداء الصلاة ممنوع من دخوله.
ومنها: أنه يلزمها الاغتسال إذا انقطع عنها الدم لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ}[البقرة: 222] والأطهار بالاغتسال.
ومنها: أنه يتقرر به الاستبراء قال صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة".
ومنها: أن العدة تنقضي به لقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة: 228] والقرء الحيض بيانه قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}[الطلاق: 4] نقل الحكم إلى الأشهر عند عدم الحيض وذلك دليل على أن أصل ما تنقضي به العدة الحيض والنفاس كالحيض فيما ذكرنا من الأحكام إلا في حكم الاستبراء وانقضاء العدة حتى لو اشترى جارية بعد ما ولدت فإذا طهرت من نفاسها لم يكن له أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة وكذلك النفاس لم يعتبر من أقراء العدة.
فصل
مراهقة رأت الدم فجاءت تستفتي قبل أن يتمادى بها الدم هل تؤمر بترك الصوم والصلاة كان الشيخ الإمام أبو حفص ومحمد بن سلمة رحمهما الله تعالى يقولان بأنها تؤمر بذلك وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى في غير رواية الأصول أنها لا تؤمر بذلك حتى يستمر بها الدم ثلاثة أيام وهو اختيار بشر بن غياث ووجهه أنها على يقين من الطهارة وفي شك من الحيض لجواز أن ينقطع فيما دون الثلاث فلا يكون حيضا واليقين لا يزال بالشك فتؤمر بالصوم والصلاة فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام علم بأنها كانت حائضا فعليها قضاء الصيام إذا طهرت والأصح هو الأول فإن الله تعالى وصف الحيض بأنه أذى وقد تيقنت به في وقته فيتعلق به حكمه وإنما يخرج المرئي من أن يكون حيضا إذا انقطع لما دون الثلاث وفي هذا الانقطاع شك فحكمنا بهذا الظاهر وتركنا المشكوك وجعلناها حائضا لا تصوم ولا تصلي.(3/279)
فإذا انقطع دمها لتمام عشرة أيام فهو حيض كله فإن جاوز العشرة واستمر بها الدم فحيضها عشرة أيام من أول ما رأت الدم وطهرها عشرون يوما لأن أمر الحيض مبني على الإمكان لتأيده بسبب ظاهر وهو رؤية الدم وإلى العشرة الإمكان موجود فجعلناها حيضا وإذا انقطع لتمام العشرة كان الكل حيضا فبزيادة السيلان لا ينتقص الحيض وإذا كانت العشرة حيضا فبقية الشهر وذلك عشرون يوما طهرها لأن الشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها تأخذ بالاحتياط فتغتسل بعد ثلاثة أيام ثم تصوم وتصلي سبعة أيام بالشك ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعد تمام العشرة وتقضي صيام الأيام السبعة لأن الاحتياط في باب العبادات واجب ومن الجائز أن حيضها أقل(3/280)
ص -143- ... الحيض فتحتاط لهذا وهو ضعيف فإنا قد عرفناها حائضا ودليل بقائها حائضا ظاهر وهو سيلان الدم فلا معنى لهذا الاحتياط.
وكان ابراهيم النخعي رحمه الله تعالى يقول ترد إلى عادة نسائها يعني نساء عشيرتها وهذا ضعيف أيضا لأن طباع النساء مختلفة حتى لا تجد أختين أو أما وابنة على طبع واحد وكذلك المرأة يختلف طبعها في كل فصل فكيف يستقيم اعتبار حال نسائها في معرفة مدة حيضها؟ وللشافعي قولان:
أحدهما: أن حيضها يوم وليلة أقل مدة الحيض أخذا باليقين.
والثاني: أن حيضها سبعة أيام بناء على العادة الظاهرة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "تحيضي يعلم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر وتطهر"،وهذا ضعيف أيضا فإن اعتبار العادة عند عدم ظهور ما يخالفها وقد ظهر هنا ما يضاد الطهر وهو سيلان الدم فكان الحكم له إلا إذا تعذر الإمكان هذا إذا كانت مبتدأة فأما صاحبة العادة إذا استمر بها الدم فحيضها أيام عادتها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحكم لون الدم فما دام على لون واحد من السواد والحمرة فهو حيض واستدل بالحديث الذي روينا: "دم الحيض أسود عبيط محتدم"، والمراد به البيان عند الاشتباه.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"، وهذه مستحاضة فترد إلى أيام أقرائها وبهذا اللفظ تبين أن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام لأن الأيام اسم جمع وأقله ثلاثة.
ومراده صلى الله عليه وسلم من الحديث الآخر بيان لون الدم في أصل الخلقة وقد يختلف ذلك باختلاف الأغذية والطباع كما بينا.(3/281)
وقال مالك رحمه الله تعالى: المستحاضة تستظهر بثلاثة أيام بعد أيامها للاختبار فإن طهرت وإلا اغتسلت وصلت. وما روينا من الحديث حجة عليه فقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام أقرائها من غير زيادة وقال لفاطمة بنت أبي حبيش حين استحيضت: "انتظري الأيام التي كنت تحيضين فيها فإذا مضت فاغتسلي وصلي"، ولم يأمرها بالاستظهار بعدها بشيء.
فصل هو دائرة الكتاب
الأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الآخر أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يصير فاصلا بل يجعل كالدم المتوالي ومن أصله أنه يجوز بداية الحيض بالطهر ويجوز ختمه به بشرط أن يكون قبله وبعده دم فإن كان بعده دم ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر ولا يجوز بدايته به وإن كان قبله دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر ولا يجوز ختمه به ومن أصله أنه يجعل زمانا هو طهر كله حيضا بإحاطة الدمين به وحجته في ذلك أن الطهر الذي هو دون خمسة عشر يوما لا يصلح للفصل بين الحيضتين فكذلك للفصل بين الدمين وبيانه: أن(3/282)
ص -144- ... أقل مدة الطهر الصحيح خمسة عشر يوما فما دونه فاسد وبين صفة الصحة والفساد منافاة والفاسد لا تتعلق به أحكام الصحيح شرعا فكان كالدم المتوالي.
وبيانه من المسائل: مبتدأة رأت يوما دما وأربعة عشر طهرا ويوما دما فالعشرة من أول ما رأت عنده حيض يحكم ببلوغها به وكذلك إذا رأت يوما دما وتسعة طهرا ويوما دما واحتج محمد رحمه الله تعالى في الكتاب على أبي يوسف رحمه الله تعالى فقال الدم المرئي في اليوم الحادي عشر لما كان استحاضة كان بمنزلة الرعاف فلو جاز أن تجعل أيام الطهر حيضا بالدم الذي ليس بحيض لجاز بالرعاف ولأن ذلك الدم ليس بحيض بنفسه فكيف يجعل باعتباره زمان الطهر حيضا والجواب لأبي يوسف رحمه الله تعالى أنه خارج من الفرج فلا يكون كالرعاف.
ألا ترى أن المرأة إذا كانت عادتها في الحيض خمسة فرأت ستة دما ثم أربعة طهرا ثم يوما دما فإنها تصير مستحاضة في اليوم السادس باعتبار المرئي في اليوم الحادي عشر ولو كان ذلك كالرعاف ما صارت به مستحاضة في اليوم السادس وكذلك لو رأت بعد ستة دما أربعة عشر طهرا ثم ثلاثة دما فهذه الثلاثة تكون استحاضة فلو كان الدم المرئي في اليوم السادس الذي هو استحاضة بمنزلة الرعاف لكانت الثلاثة حيضا لتمام الطهر خمسة عشر.
قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: وقد يجوز أن يجعل الزمان الذي هو حيض كله صورة طهرا حكما
فكذلك يجوز أن يجعل الزمان الذي هو طهر كله صورة حيضا بإحاطة الدمين به وإذا ثبت جواز هذا في جميع المدة ثبت في أوله وآخره بطريق الأولى لكن إذا وجد شرطه وهو أن يكون قبله دم وبعده دم ليكون الدم محيطا بالطهر.(3/283)
وبيان هذا الأصل من المسائل على قوله في امرأة عادتها في أول كل شهر خمسة فرأت قبل أيامها بيوم دما ثم طهرت خمستها ثم رأت يوما دما فعنده خمستها حيض إذا جاوز المرئي عشرة لإحاطة الدمين بزمان عادتها وإن لم تر فيه شيئا وكذلك لو رأت قبل خمستها يوما دما ثم طهرت أول يوم من خمستها ثم رأت ثلاثة دما ثم طهرت آخر يوم من خمستها ثم استمر الدم فحيضها خمستها عنده وإن كان ابتداء الخمسة وختمها بالطهر لوجود الدم قبله وبعده.
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الشرط أن يكون الدم محيطا بطرفي العشرة فإن كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلا بين الدمين وإلا كان فاصلا وعلى هذه الرواية لا يجوز بداية الحيض ولا ختمه بالطهر قال لأن الطهر ضد الحيض فلا يبدأ الشيء بما يضاده ولا يختم به ولكن المتخلل بين الطرفين يجعل تبعا لهما كما قلنا في الزكاة أن كمال النصاب في أول الحول وآخره شرط لوجوب الزكاة ونقصانه في خلال الحول يضر.
وبيان هذا من المسائل: لو رأت يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما أو رأت ساعة دما؟(3/284)
ص -145- ... وعشرة أيام غير ساعتين طهرا وساعة دما فالعشرة كلها حيض لإحاطة الدم بطرفي العشرة
ولو رأت يوما دما وسبعة طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا على هذه الرواية بخلاف الرواية الأولى.
وروى بن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى مع هذا شرطا آخر وهو أن يكون المرئي في أكثر الحيض مثل أقله فإن وجد هذا الشرط فالطهر المتخلل لا يكون فاصلا وإن لم يوجد كان فاصلا ولم يكن شيء منه حيضا وهو قول زفر رحمه الله تعالى ووجهه أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام وهو اسم للدم فإذا بلغ المرئي هذا المقدار كان قويا في نفسه فجعل أصلا وما يتخلله من الطهر تبعا له وإن كان الدم دون هذا كان ضعيفا في نفسه لا حكم له إذا انفرد فلا يمكن جعل زمان الطهر حيضا تبعا.
وبيان هذا من المسائل: لو رأت يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا على هذه الرواية لأن المرئي من الدم دون الثلاث ولو رأت يومين دما وسبعة طهرا ويوما دما فالعشرة حيض لأن المرئي بلغ أقل مدة الحيض وكذلك إن رأت يوما دما وأربعة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما فالعشرة حيض على ما بينا.(3/285)
والأصل عند محمد رحمه الله تعالى وهو الأصح وعليه الفتوى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلا فإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام أو أكثر نظر فإن استوى الدم بالطهر في أيام الحيض أو كان الدم غالبا لا يصير فاصلا وإن كان الطهر غالبا يصير فاصلا فحينئذ ينظر إن لم يمكن أن يجعل واحد منهما بانفراده حيضا لا يكون شيء منه حيضا وإن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا إما المتقدم أو المتأخر يجعل ذلك حيضا وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما بانفراده حيضا يجعل الحيض أسرعهما إمكانا ولا يكون كلاهما حيضا إذ لم يتخللهما طهر تام وهو لا يجوز بداية الحيض بالطهر ولا ختمه به سواء كان قبله وبعده دم أو لم يكن ولا يجعل زمان الطهر زمان الحيض بإحاطة الدمين به ووجهه أن الطهر معتبر بالحيض فكما أن ما دون الثلاث من الحيض لا حكم له ويجعل كحال الطهر فكذلك ما دون الثلاث من الطهر لا حكم له فيجعل كالدم المتوالي
وإذا بلغ ثلاثة أيام فصاعدا فإن كان الدم غالبا فالمغلوب لا يظهر في مقابلة الغالب وإن كانا سواء فكذلك لوجهين:
أحدهما: قياس وهو أن اعتبار الدم يوجب حرمة الصوم والصلاة واعتبار الطهر يوجب حل ذلك فإذا استوى الحلال والحرام يغلب الحرام الحلال كما في التحري في الأواني إذا كانت الغلبة للنجاسة أو كانا سواء لا يجوز التحري فهذا مثله.والثاني وهو الاستحسان أن المرأة لا ترى الدم على الولاء لأن ذلك يضنيها فيقتلها.
فباعتبار هذه القاعدة لا بد أن يجعل بعض الزمان الذي لم يكن فيه الدم معتبرا بالحيض وعند ذلك يغلب الدم على الطهر عند التساوي فلهذا جعلناه كالدم المتوالي. فأما(3/286)
ص -146- ... إذا غلب الطهر الدم يصير فاصلا لأن حكم الغالب ظاهر شرعا وإذا صار فاصلا بقي كل واحد من الدمين منفردا عن صاحبه فيعتبر فيه إمكان جعله حيضا كأنه ليس معه غيره وإن وجد الامكان فيهما جعل المتقدم حيضا لأنه أسرعهما إمكانا وأمر الحيض مبني على الإمكان ثم لا يجعل المتأخر حيضا لأنه ليس بينهما طهر خمسة عشر يوما ولا بد أن يتخلل بين الحيضتين طهر تام وأقل الطهر التام خمسة عشر يوما.
وبيان مذهبه من المسائل: مبتدأة رأت يوما دما ويومين طهرا ويوما دما فالأربعة حيض لأن الطهر المتخلل دون الثلاث ولو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا لأن الطهر بلغ ثلاثة أيام وهو غالب على الدمين فصار فاصلا وكذلك إن زادت في الطهر فإن رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما فالستة كلها حيض لأن الدم استوى بالطهر في طرفي الستة فصار غالبا ولو رأت يوما دما وأربعة طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا لأن الطهر غالب وكذلك لو رأت يومين دما وخمسة طهرا ويوما دما ما لم يكن شيء منه حيضا لأن الطهر غالب ولو رأت ثلاثة دما وأربعة طهرا ويوما دما فالثمانية حيض لاستواء الدم بالطهر ولو رأت ثلاثة دما وخمسة طهرا ويوما دما فحيضها الثلاثة الأولى لأن الطهر غالب فصار فاصلا والمتقدم يمكن أن يجعل بانفراده حيضا فجعلناه حيضا ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا وثلاثة دما فحيضها الثلاثة الأخيرة لما بينا فإن رأت ثلاثة دما وستة طهرا وثلاثة دما فحيضها الثلاثة الأول لأنه أسرعها إمكانا.
فإن قيل: قد استوى الدم بالطهر هنا فلماذا لم يجعل كالدم المتوالي قلنا استواء الدم بالطهر إنما يعتبر في مدة الحيض وأكثر مدة الحيض عشرة والمرئي في العشرة ثلاثة دم وستة طهر ويوم دم فكان الطهر غالبا فلهذا صار فاصلا.(3/287)
والأصل عند الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلا فإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام كان فاصلا على كل حال ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا يجعل ذلك حيضا كما بينا قبل من مذهب محمد وإنما خالفه في حرف واحد وهو أنه لم يعتبر غلبة الدم ولا مساواة الدم بالطهر.
وبيانه من المسائل: مبتدأة رأت يوما دما ويومين طهرا ويوما دما فالأربعة حيض وكذلك لو رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ساعة طهرا وساعة دما فالكل حيض. فإن رأت يومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا على قوله لأن الطهر المتخلل بلغ ثلاثة أيام وواحد منهما بانفراده لا يمكن أن يجعل حيضا وإن رأت يوما دما وثلاثة طهرا وثلاثة دما فعنده الثلاثة الأخيرة حيض ولو كانت رأت أولا ثلاثة دما كان الحيض هذه الثلاثة وإن رأت ثلاثة دما وثلاثة طهرا وثلاثة دما فالحيض عنده الثلاثة الأولى لأنه أسرعهما إمكانا والله أعلم.(3/288)
ص -147- ... فصل
أشكل فيه مذهب محمد رحمه الله تعالى من هذه الجملة مبتدأة رأت يومين دما وخمسة طهرا ويوما دما ويومين طهرا ويوما دما فجواب محمد رحمه الله تعالى أنه يلغي اليومين والخمسة ويجعل الأربعة المتأخرة حيضها لأنا لو اعتبرنا حيضها من أول اليومين كان ختم العشرة بالطهر وذلك لا يجوز عنده
وطعنوا عليه في هذا الجواب فقالوا ينبغي أن يلغى أحد اليومين الأولين ويجعل العشرة بعده حيضا لأن الطهر الثاني قاصر فهو كالدم المتوالي فإذا جعلناه كالدم استوى الدم بالطهر في العشرة فيكون الكل حيضا لأن ابتداءه وختمه بالدم قالوا وليس لأحد أن يعيب علينا في إلغاء أحد اليومين لأنكم ألغيتم اليومين والخمسة بعده وما قلناه أولى لأن أمر الحيض مبني على الإمكان فإذا أمكن جعل العشرة حيضا بهذا الطريق ينبغي أن يجعل.
والجواب عن هذا الطعن أن اليومين كشيء واحد لاتصال بعضهما ببعض فلا يجوز إلغاء أحدهما واعتبار الآخر مع أن جهات الإلغاء بهذا الطريق تكثر فإنك إذا ألغيت ربع اليوم الأول أو ثلثه أو نصفه يحصل به هذا المقصود وعند كثرة الجهات لا يترجح البعض على البعض من غير دليل فلم يبق إلا القول بإلغاء اليومين والخمسة وجعل الأربعة حيضا.
فصل
من هذه الجملة اختلف فيه المشايخ على قول محمد رحمه الله تعالى وهو أنه إذا اجتمع طهران معتبران وصار أحدهما حيضا مغلوبا كالدم المتوالي هل يتعدى حكمه إلى الطهر الآخر قال أبو زيد الكبير يتعدى وقال أبو سهل الغزالي لا يتعدى.(3/289)
وبيان ذلك: مبتدأة رأت يومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما فعلى قول أبي زيد رضي الله عنه كلها حيض عند محمد رحمه الله تعالى لأن في الثلاثة الأول الدم في طرفيه استوى بالطهر فيجعل كالدم المتوالي فكأنها رأت ستة دما وثلاثة طهرا ويوما دما وعلى قول أبي سهل حيضها الستة الأولى لأنه تخلل العشرة طهران كل واحد منهما تمام ثلاثة أيام فإذا لم يميز أحدهما عن الآخر كان الطهر غالبا فلم يمكن جعله حيضا فلهذا ميزنا وجعلنا الستة الأولى حيضا لاستواء الدم بالطهر فيها.
وكذلك لو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما على قول أبي زيد العشرة حيض وعلى قول أبي سهل: حيضها الستة الأولى.
وكذلك لو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما فعلى قول أبي زيد العشرة حيض وعلى قول أبي سهل حيضها الستة الأخيرة بعد اليوم والثلاثة.
فإن رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول(3/290)
ص -148- ... أبي زيد يضاف يومان من أول الاستمرار إلى ما سبق فتكون العشرة كلها حيضا. وعلى قول أبي سهل حيضها عشرة بعد اليوم والثلاثة الأولى فمن أول الاستمرار ستة حيض على قوله.
ولو رأت يومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد حيضها من أول ما رأت عشرة فيكون أول يوم من الاستمرار من جملة حيضها وبه تتم العشرة وعلى قول أبي سهل حيضها ستة أيام من أول ما رأت فلا يكون شيء من أول الاستمرار حيضا لها فيصل إلى موضع حيضها الثاني.
وكذلك لو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
فصل في بيان الأوقات والساعات وأجزاء النهار
اعلم بأن الوقت الواحد لا يتكرر في يوم واحد وذلك كطلوع الفجر وطلوع الشمس فإن كان ابتداء الوقت من عند طلوع الشمس فتمام اليوم والليلة قبيل طلوع الشمس من الغد لأن قبيل اسم لوقت يتصل به الوقت المذكور بخلاف قبل بيانه فيمن قال لامرأته وقت الضحوة أنت طالق قبيل غروب الشمس لم تطلق حتى تغرب الشمس.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا قيل امرأة رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع قبل طلوع الشمس من اليوم الرابع فالجواب أن الثلاثة كلها حيض لأن الكل ثلاثة أيام والطهر فيه قاصر فهو كالدم المتوالي.
وكذلك لو رأت في اليوم الرابع عند طلوع الشمس فالجملة ثلاثة أيام وساعة والطهر فيه قاصر عن الثلاثة فكان الكل حيضا.
وإن رأت من اليوم الرابع بعد طلوع الشمس لم يكن شيء منه حيضا لأن الطهر ثلاثة أيام فصار فاصلا بين الدمين.
فإن رأت عند طلوع الشمس ثم رأت من اليوم الرابع عند طلوع الشمس أيضا ثم رأت من اليوم السابع بعد طلوع الشمس فالكل حيض لأن الطهر الأول لما كان دون الثلاث فهو كالدم المتوالي فيصير الدم غالبا حكما.(3/291)
فإن رأت عند طلوع الشمس ثم رأت من اليوم الرابع قبل طلوع الشمس ثم من اليوم السابع عند طلوع الشمس ثم من العاشر بعد طلوع الشمس فعلى قول أبي زيد رحمه الله تعالى الكل حيض لأن الطهر الأول دون الثلاث فهو كالدم المتوالي فصار الطهر الثاني مغلوبا به فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث كما بينا وعند أبي سهل رحمه الله تعالى الستة الأولى حيض لأن الطهر الثاني كان ثلاثة أيام وإن صار مغلوبا بالدم فلا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث.
وأما الساعة، ففي لسان الفقهاء اسم لجزء من الزمان بخلاف ما يقوله المنجمون إنه(3/292)
ص -149- ... وقت ممتد حتى يشتمل اليوم والليلة عندهم على أربعة وعشرين ساعة فتارة ينتقص الليل حتى يكون تسع ساعات ويزداد النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة وتارة ينتقص النهار حتى يزداد الليل ويثبتون ذلك بطريقهم فأما في لسان الفقهاء الساعة عبارة عن جزء من الزمان.
فإذا قيل مبتدأة رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ساعتين طهرا وساعة دما فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام والطهر قاصر.
وإن رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ثلاث ساعات طهرا وساعة دما لم يكن شيء منه حيضا لأن الكل دون ثلاثة أيام إلا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول الكل حيض لأن الأكثر من اليوم الثالث بمنزلة كماله عنده.
وإن رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ساعة طهرا وساعة دما فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام وساعة والطهر فيه قاصر.
وإن رأت ساعة دما وثلاثة أيام طهرا وساعة دما لم يكن شيء من ذلك حيضا عند محمد رحمه الله تعالى لأن الطهر لما بلغ ثلاثة أيام صار فاصلا.
فإن رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ساعتين طهرا وساعة دما وثلاثة أيام طهرا وساعة دما وثلاثة أيام طهرا وساعة دما فعلى قول أبي زيد الكل حيض لأن الطهر الأول لقصوره عن الثلاث كالدم المتوالي فصار الطهر الثاني مغلوبا به ثم يتعدى أثره إلى الطهر الثالث وعلى قول أبي سهل حيضها ستة أيام وساعة لأن الطهر الثاني كامل وإن صار مغلوبا فلا يتعدى أثره ألى الطهر الثالث كما هو أصله.(3/293)
وأما أجزاء النهار فبحسب ما يذكر من ثلث أو ربع أو غيره فإذا قيل مبتدأة رأت ربع يوم دما ثم يومين وثلث يوم طهرا ثم ربع يوم دما لم يكن شيء منه حيضا لأن الكل قاصر عن الثلاث بسدس يوم وإن قيل رأت يوم ربع دما ويومين ونصف يوم طهرا وربع يوم دما فالكل حيض لأنها بلغت ثلاثة أيام والطهر قاصر وإن رأت ربع يوم دما وثلاثة أيام طهرا وربع يوم دما لم يكن شيء منه حيضا لأن الطهر كامل فصار فاصلا بين الدمين وعلى هذا فقس ما تسأل عنه من هذا النوع فإن هذا النوع لا يدخل في الواقعات إنما وضعوه لتشحيذ الخواطر وامتحان المتبحرين في العلم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب.
باب نصب العادة للمبتدأة
قال رضي الله عنه اعلم بأن بلوغ المرأة قد يكون بالسن وقد يكون بالعلامة والعلامة إما الحيض وإما الحبل فنبتدئ بالحيض فنقول:
إذا رأت المبتدأة دما صحيحا وطهرا صحيحا مرة واحدة ثم ابتليت بالاستمرار يصير ذلك عادة لها في زمان الاستمرار بخلاف ما يقوله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في(3/294)
ص -150- ... صاحبة العادة: أنها لا تنتقل عادتها برؤية المخالف مرة واحدة، لأن هنا الانتقال عن حالة الصغر وذلك عادة في النساء فيحصل بالمرة فأما في صاحبة العادة الانتقال عن العادة الثابتة إلى ما ليس بعادة فلا يحصل بالمرة حتى يتأكد بالتكرار يوضح الفرق أن الحاجة هناك إلى نسخ العادة الأولى وإثبات الثانية فلا يحصل بالمرة فأما هنا الحاجة إلى إثبات العادة دون النسخ فيحصل بالمرة.
وبيان هذا: مبتدأة رأت خمسة دما وخمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فإنها تترك من أول الاستمرار خمسة وتصلي خمسة عشرة يوما وذلك دأبها.
ثم تفسير الدم الصحيح أنه لا ينتقص عن ثلاثة أيام ولا يزاد على عشرة أيام ولا يصير مغلوبا بالطهر
وتفسير الطهر الصحيح أن لايكون دون خمسة عشر يوما ولا تصلي المرأة في شيء منه بدم من أوله أو وسطه أو آخره وكان بين الحيضتين.
ثم بعد هذا أربعة فصول: إما أن يفسد الدم والطهر جميعا أو يفسد الدم ويصح الطهر أو يصح الدم ويفسد الطهر أو يكون الدم صحيحا والطهر صحيحا في الظاهر ولكنه يفسد بطريق الضرورة فلا يصلح لنصب العادة.
أما بيان الفصل الأول: مبتدأة رأت أربعة عشر يوما دما وأربعة عشر يوما طهرا ثم استمر بها الدم فهنا الدم والطهر فاسدان فكأنها ابتليت بالاستمرار ابتداء فكان حيضها من أول ما رأت عشرة وطهرها بقية الشهر عشرون ومعنا ثمانية وعشرون فمن أول الاستمرار تصلي يومين ثم تدع عشرة وتصلي عشرين.
فإن كان الدم خمسة عشر والطهر أربعة عشر فكذلك الجواب تصلي من أول الاستمرار يوما واحدا تمام عشرين.وإن كان الدم ستة عشر فأول الاستمرار يوافق ابتداء حيضها فتدع عشرة وتصلي عشرين.(3/295)
ثم نسوق المسألة هكذا إلى أن يكون الدم ثلاثة وعشرين والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فالعشرة من أول ما رأت حيض وقد صلت ثلاثة عشر يوما بالدم ثم طهرت أربعة عشر ثم من أربعة عشر طهر سبعة تمام الطهر وسبعة من موضع حيضها الثاني لم تر فيه ثم جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها الثاني ثلاثة فالثلاثة حيض كامل فتدع من أول الاستمرار ثلاثة ثم تصلي عشرين ثم تدع عشرة وتصلي عشرين وذلك دأبها.
فإن كان الدم أربعة وعشرين والمسئلة بحالها فنقول ستة من طهر أربعة عشر بقية طهرها بقي ثمانية أيام من موضع حيضها الثاني لم تر فيه ثم جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها يومان ويومان لا يكون حيضا فهذه لم تر مرة فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يوما من أول الاستمرار ثم تدع عشرة وتصلي عشرين وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما قول أبي يوسف رحمه الله تعالى بخلاف هذا فإنه ينقل(3/296)
ص -151- ... العادة بعد الرؤية مرة. وكذلك قول محمد رحمه الله تعالى بخلاف هذا فإنه يرى الإبدال على ما نذكره في باب الانتقال.
وبيان الفصل الثاني: مبتدأة رأت أحد عشر يوما دما وخمسة عشر يوما طهرا ثم استمر بها الدم فنقول الدم هنا فاسد لأنه زاد على العشرة وبفساده يفسد الطهر لأنها صلت في أول يوم منه بالدم فأما على قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمهما الله تعالى حيضها عشرة أيام وطهرها عشرون فجاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أربعة فتصلي أربعة أيام ثم تدع عشرة وتصلي عشرين وعلى قول أبي علي الدقاق طهرها ستة عشر فتدع من أول الاستمرار عشرة وتصلي ستة عشر لأن فساد الدم في اليوم الحادي عشر لما لم يؤثر في الدم حتى كانت العشرة حيضا فلأن لا يؤثر في الطهر أولى والأصح ما قاله محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى لأن اليوم الحادي عشر من الطهر لا من الحيض فرؤية الدم الفاسد فيه تؤثر في الطهر.
وبيان الفصل الثالث: وهو أن يكون الدم صحيحا والطهر فاسدا بأن نقول مبتدأة رأت خمسة أيام دما وأربعة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فحيضها خمسة وطهرها بقية الشهر وذلك خمسة وعشرون يوما فجاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أحد عشر يوما فتصلي أحد عشر يوما ثم تدع خمسة وتصلي خمسة وعشرين وكذلك دأبها.
وبيان الفصل الرابع: مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا ويوما دما ويومين طهرا ثم استمر بها الدم فهنا الدم في الثلاثة صحيح والطهر خمسة عشر صحيح في الظاهر ولكنها لما رأت بعده يوما دما ويومين طهرا فهذه الثلاثة لا يمكن أن تجعل حيضا لأن ختمها بالطهر ولا وجه إلى الإبدال فتصلي في هذه الأيام ضرورة فيفسد به ذلك الطهر ويخرج من أن يكون صالحا لنصب العادة فيكون حيضها ثلاثة وطهرها بقية الشهر سبعة وعشرون يوما وقد مضى ثمانية عشر فتصلي تسعة من أول الاستمرار ثم تترك ثلاثة أيام وتصلي سبعة وعشرين يوما.(3/297)
ولو رأت في الابتداء أربعة دما وخمسة عشر طهرا ثم يوما دما ويومين طهرا ثم استمر بها الدم فهنا الطهر صحيح صالح لنصب العادة لأن بعده دم يوم وطهر يومين ثم يوم من أول الاستمرار تمام الأربعة فابتداء الحيض الثاني وختمه بالدم فلهذا كان الطهر خمسة عشر خالصا فتدع من أول الاستمرار يوما وتصلي خمسة عشر ثم تدع أربعة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها.
فإن رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر ثم الدم يوما والطهر ثلاثة أيام والدم يوما والطهر ثلاثة ثم استمر الدم فعلى قول أبي زيد رحمه الله تعالى الطهر خالص هنا صالح لنصب العادة لأنه يجر من أول الاستمرار يومين إلى ما رأت بعد خمسة عشر فتجعل العشرة كلها حيضا فكان الطهر خمسة عشر خالصا فأما على قول أبي سهل رحمه الله(3/298)
ص -152- ... تعالى اليوم والثلاثة بعد الخمسة عشر لا يكون حيضا وإنما حيضها سبعة أيام بعد ذلك فيفسد طهر خمسة عشر لأنها صلت في شيء منه بدم فكان حيضها عشرة وطهرها عشرون وقد مضى خمسة عشر يوما ثم يوم دم وثلاثة طهر قد صلت فيه فذلك تسعة عشر ثم يوم دم قد صلت فيه وذلك عشرون ثم ثلاثة أيام طهر ولا يبتدئ الحيض بالطهر فقد جاء الاستمرار والباقي من أيام حيضها سبعة فتدع سبعة وتصلي عشرين وعلى هذا فقس ما يكون من هذا النوع من المسائل.
فصل في نصب العادة أيضا
وإذا ابتليت المبتدأة بالاستمرار بعد ما يكون منها الصحاح من الدماء والاطهار فهو على خمسة أوجه:
أحدها: أن ترى دمين وطهرين متفقين على الولاء، ثم الاستمرار.
والثاني: أن يكونا مختلفين، ثم الاستمرار.
والثالث: أن ترى ثلاثة دماء وثلاثة أطهار مختلفة، ثم الاستمرار.
والرابع: أن ترى متفقين بعدهما مخالف لهما ثم الاستمرار.
والخامس: أن ترى متفقين بينهما ما يخالفهما, ثم الاستمرار.
فصورة الفصل الأول: إذا رأت الدم ثلاثة والطهر خمسة عشر والدم ثلاثة والطهر خمسة عشر ثم استمر بها الدم فالجواب أنها تدع من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر لأن ما رأت صار عادة قوية بالتكرار وقد بينا أنه لو رأته مرة صار عادة لها فإذا رأته مرتين أولى.
وبيان الفصل الثاني: مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى تبني ما رأت في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى وعلى قول أبي عثمان سعيد بن مزاحم السمرقندي لا تبني ولكنها تستأنف من أول الاستمرار.(3/299)
وتفسير قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى أنها لما رأت أربعة دما فثلاثة منها مدة حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها ولكنها تترك الصلاة فيه لرؤية الدم فلما طهرت ستة عشر فأربعة عشر منها تمام طهرها ويومين من مدة حيضها ولكنها لم تر فيه فلا تترك الصوم والصلاة لأن بداية الحيض لا يكون بالطهر ثم جاء الاستمرار وقد بقي من مدة حيضها يوم وذلك لا يكون حيضا فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر يوما ووجهه أن ما رأت في المرة الأولى صار عادة لها بالمرة الواحدة لما بينا وصاحبة العادة تبني ما ترى على عادتها ما لم يوجد ما ينقضها ألا ترى أنها لو رأت ذلك مرتين بنت عليه ما ترى بعدهما فكذلك إذا رأته مرة.(3/300)
ص -153- ... وجه قول أبي عثمان أن ما رأت ثانيا في صفة الصحة مثل ما رأته أولا وإنما تبني الفاسد على الصحيح فأما الصحيح لا يبنى على الصحيح لأن البناء للحاجة والضرورة وإنما أثبتنا العادة للمبتدأة بالمرة الواحدة لأجل الضرورة فأما العادة في الأصل مشتقة من العود وذلك لا يحصل بالمرة ولا ضرورة في بناء الصحيح على الصحيح لما بينهما من المعارضة والمساواة بخلاف إذا ما رأت أولا مرتين متفقتين لأن ذلك تأكد بالتكرار وترجح به.
ثم على قول أبي عثمان رحمه الله تعالى إذا استأنفت من أول الاستمرار تبني على أقل المدتين لأنها عائدة اليها فالأقل موجود في الأكثر فتترك من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها.
وبيان الفصل الثالث: مبتدأة رأت الدم ثلاثة والطهر خمسة عشر والدم أربعة والطهر ستة عشر والدم خمسة والطهر سبعة عشر ثم استمر بها الدم فهنا لا خلاف بينهما أنه لا تبنى بعض الصحاح على البعض ومحمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى يفرق بين هذا وبين ما سبق فيقول هنا رأت مرتين خلاف ما رأت أولا والعادة تنتقل برؤية المخالف مرتين فلهذا لا تبني على الأول وهناك إنما رأت خلاف العادة مرة واحدة فلا تنتقل به العادة فلهذا تبني الثاني على الأول.
ثم في هذه المسألة يقول محمد بن إبراهيم تبني على أوسط الأعداد وهو قول أبي عبد الله بن أبي حفص رحمه الله تعالى وعبد الله بن النجم رحمه الله تعالى.(3/301)
فأما على قول أبي عثمان رحمه الله تعالى تبني على أقل المرتين الأخيرتين فلا يظهر هذا الخلاف فيما ذكرنا من الصورة فإن أوسط الأعداد أربعة وستة عشر وهكذا أقل المرتين الأخيرتين إنما يظهر الخلاف فيما إذا قلبت الصورة فقلت رأت في الابتداء خمسة وسبعة عشر ثم أربعة وستة عشر ثم ثلاثة وخمسة عشر فعلى قول من يقول بأوسط الأعداد تدع من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر يوما وذلك دأبها وعلى قول من يقول بأقل المرتين الأخيرتين تدع من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها.
وجه قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى أن عند التعارض العدل هو الوسط قال صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوسطها"، ولهذا قلنا إذا تزوج امرأة على عبد يلزمه عبد وسط وكذلك هنا عند التعارض تبني في زمان الاستمرار على أوسط الأزمان.
وجه قول أبي عثمان أن أقل المرتين الأخيرتين تأكد بالتكرار لأن القليل موجود في الكثير فيصير ذلك عادة لها في زمان الاستمرار والفتوى على قول أبي عثمان رحمه الله تعالى لأنه أيسر على النساء فإن على ما قاله محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى تحتاج إلى حفظ جميع ما ترى ليتبين الأوسط من ذلك وعلى ما قاله أبو عثمان لا تحتاج إلى حفظ مرتين لتبني على أقلهما ولليسر أخذوا بهذا القول في الفتوى كما أن في مسائل(3/302)
ص -154- ... الانتقال افتوا بقول أبي يوسف رحمه الله تعالى في أن العادة تنتقل برؤية المخالف مرة لأن ذلك أيسر على النساء.
وبيان الفصل الرابع: مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تصلي من أول الاستمرار ستة عشر لأنهما يقولان العادة لا تنتقل برؤية المخالف مرة فكان البناء باقيا فحين رأت أربعة فثلاثة من ذلك مدة حيضها ويوم من حساب طهرها ومن ستة عشر أربعة عشر تمام طهرها ويومان من حساب حيضها لم تر فيه فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى العادة تنتقل برؤية المخالف مرة فتترك من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
وبيان الفصل الخامس: مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فالجواب أنها تدع من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك عادة جعلية لها فإنها لو رأت متفقين على الولاء كانت عادة أصلية لها فإذا كان بينهما مخالف صار ما رأت مرتين متفقتين عادة جعلية لها ومعنى هذه التسمية أنا جعلنا ما رأته آخرا كالمضموم إلى ما رأته أولا لما بينهما من الموافقة في العدد فتأكد بالتكرار وصار عادة لها تبني عليه في زمان الاستمرار.
فصل(3/303)
مبتدأة بلغت بالحبل بأن حبلت من زوجها قبل أن تحيض فولدت واستمر بها الدم فنفاسها أربعون يوما. وقال الشافعي رحمه الله تعالى نفاسها ساعة وهو بناء على ما بيناه في الحيض أن المعتبر هناك أكثر الحيض عند الإمكان فكذلك هنا المعتبر أكثر النفاس وعنده هناك المعتبر أقل الحيض يوم وليلة فكذا نفاسها أقل النفاس وذلك ساعة ثم بعد الأربعين يجعل طهرها عشرون لأنه كما لا يتوالى حيضتان ليس بينهما طهر لا يتوالى حيض ونفاس ليس بينهما طهر وإنما قدرنا طهرها بعشرين يوما لأن حيض المبتدأة إذا ابتليت بالاستمرار أكثر الحيض وذلك عشرة وطهرها بقية الشهر وذلك عشرون فلا فرق بين أن تكون البداءة من الحيض أو من الطهر في مقدار العدد فلهذا جعلنا طهرها عشرين وحيضها بعد ذلك عشرة وذلك دأبها.
وكذلك لو طهرت بعد الأربعين أربعة عشر يوما فهذا طهر قاصر لا يصلح للفصل بين الحيض والنفاس فكان كالدم المتوالي فإن طهرت بعد الأربعين خمسة عشر يوما ثم استمر بها الدم فإنها تترك من أول الاستمرار عشرة لأن طهرها خمسة عشر طهر صحيح فيصير عادة لها بالمرة الواحدة ولا عادة لها في الحيض فيكون حيضها عشرة، فلهذا تدع من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر فدورها في كل خمسة وعشرين يوما.(3/304)
ص -155- ... ثم نسوق المسألة إلى أن نقول طهرت بعد الأربعين أحدا وعشرين يوما ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى تدع من أول الاستمرار تسعة ثم تصلي أحدا وعشرين يوما وذلك دأبها لأنها لما طهرت في الحادي والعشرين فلا يمكن جعل ذلك حيضا بل هو طهر صحيح وعادتها بالطهر والحيض يجتمع في الشهر فإذا صار أحدا وعشرين طهرا لها لم يبق لحيضها إلا تسعة فجعلنا حيضها تسعة ألا ترى أنها لو حاضت خمسة في الابتداء ثم طهرت أربعة عشر واستمر بها الدم جعلنا حيضها خمسة وطهرها بقية الشهر وذلك خمسة وعشرون فهذا مثله وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى تدع من أول الاستمرار عشرة وتصلي أحدا وعشرين وذلك دأبها فيكون دورها في كل واحد وثلاثين يوما قال لأنا إنما قدرنا الطهر بما بقي من الشهر لأنه ليس لأكثره غاية معلومة وذلك لا يوجد في الحيض فأكثره معلوم وهو عشرة فكان طهرها أحدا وعشرين يوما كما رأت وحيضها عشرة
ثم نسوق هذه المسألة إلى أن نقول: طهرت سبعة وعشرين ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: حيضها من أول الاستمرار ثلاثة لأنه هو الباقي من الشهر ويمكن أن يجعل حيضا وعلى قول أبي عثمان رحمه الله تعالى حيضها من أول الاستمرار عشرة ودورها في كل سبعة وثلاثين يوما فإن طهرت ثمانية وعشرين يوما ثم استمر بها الدم فهنا حيضها من أول الاستمرار عشرة بالاتفاق ودورها في كل ثمانية وثلاثين يوما لأنه لم يبق من الشهر ما يمكن أن يجعل حيضا لها فلأجل التعذر رجعنا إلى اعتبار أكثر الحيض وتركنا معنى اجتماع الحيض والطهر في شهر واحد.(3/305)
فإن رأت أحدا وأربعين يوما دما كما ولدت ثم خمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى نفاسها أربعون وطهرها عشرون لأنها صلت في اليوم الحادي والأربعين بالدم فيفسد به طهر خمسة عشر ولا يصلح لنصب العادة فلهذا كان طهرها عشرين فمن أول الاستمرار تصلي أربعة تمام طهرها ثم تدع عشرة. وعلى قول أبي علي الدقاق طهرها ستة عشر كما بينا فمن أول الاستمرار تدع عشرة وتصلي ستة عشر يوما وذلك دأبها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الاستمرار
قال: رضي الله عنه: اعلم بأن الاستمرار نوعان: متصل ومنقطع.
فالمتصل أن يستمر الدم بالمرأة في جميع الاوقات وحكم هذا ظاهر بها إن كانت مبتدأة فحيضها من أول ما رأت عشرة وطهرها عشرون إلى أن تموت أو تطهر وإن كانت صاحبة عادة فأيام عادتها في الحيض تكون حيضا لها وأيام عادتها في الطهر تكون مستحاضة فيها.
فأما الاستمرار المنقطع وهو مقصود هذا الباب أن نقول مبتدأة رأت يوما دما ويوما طهرا واستمر بها كذلك أشهرا فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الجواب في جنس(3/306)
ص -156- ... هذه المسائل ظاهر لأنه يرى ختم الحيض بالطهر وبدايته بالطهر فحيضها عشرة من أول ما رأت وطهرها عشرون وهو والاستمرار المتصل سواء فأما على قول محمد رحمه الله تعالى فحيضها من أول ما رأت تسعة وطهرها أحد وعشرون لأن اليوم العاشر كان طهرا وهو لا يرى ختم الحيض بالطهر ويحتاج على قوله إلى معرفة ختم العشرة وإلى معرفة ختم الشهر ليتبين به حكم بداية الحيض في الشهر الثاني وفي معرفته طريقان.
أحدهما: أن الأوتار من أيامها حيض والشفوع طهر واليوم العاشر من الشفوع فعرفنا أنه كان طهرا وكذلك اليوم الثلاثين ختم الشهر من الشفوع فكان طهرا وتستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان في الشهر الأول.
والثاني: طريق الحساب وعليه تخرج المسائل لأنه أقرب إلى الفهم فنقول السبيل أن يأخذ يوما دما ويوما طهرا وذلك اثنان فيضربه فيما يوافق العشرة وذلك خمسة واثنان في خمسة يكون عشرة وآخر المضروب طهر ومعرفة ختم الشهر أن يأخذ دما وطهرا وذلك اثنان يضربه فيما يوافق الشهر وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين وآخر المضروب طهر ويستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان في الشهر الأول فكان دورها في كل شهر تسعة حيضا واحدا وعشرين طهرا فإن رأت يومين دما ويوما طهرا واستمر كذلك فالعشرة من أوله حيض لأن ختم العشرة بالدم وإذا أردت معرفة ذلك فالسبيل أن تأخذ دما وطهرا وذلك ثلاثة فتضربه فيما يقارب العشرة لأنك لا تجد الموافق وذلك ثلاثة وثلاثة في ثلاثة تسعة وآخر المضروب طهر ثم بعده يوم دم فعرفت أن ختم العشرة كان بالدم ومعرفة ختم الشهر أن تأخذ دما وطهرا وذلك ثلاثة فتضربه فيما يوافق الشهر وذلك عشرة فيكون ثلاثين وآخر المضروب طهر ثم استقبلها في الشهر الثاني مثل ذلك فيكون دورها في كل شهر عشرة حيضا وعشرين طهرا.
وكذلك إن رأت يوما دما ويومين طهرا فهو على هذا التخريج.(3/307)
فإن رأت يومين دما ويومين طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت عشرة لأن ختم العشرة بالدم ومعرفة ذلك أن تأخذ دما وطهرا وذلك أربعة فتضربه فيما يوافق العشرة وذلك اثنان فيكون ثمانية وآخر المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام العشرة فعرفنا أن ختم العشرة كان بالدم إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك أربعة فتضربه فيما يقارب الشهر وذلك سبعة فيكون ثمانية وعشرين وآخر المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام الشهر واستقبلها في الشهر الثاني يومان طهر ويومان دم فهذه الستة تكون حيضا لها في الشهر الثاني لأن ختم العشرة في الشهر الثاني بيومين طهر ولا يختم الحيض بالطهر إلى أن ينظر إن ختم الشهر الثاني بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك أربعة، فيضربه فيما يوافق الشهرين، وذلك خمسة عشر،(3/308)
ص -157- ... فيكون ستين وآخر المضروب طهر ثم استقبلها في الشهر الثالث يومان دم فاستقام أمرها فكان دورها في كل شهرين في الشهر الأول عشرة حيض ثم اثنان وعشرون طهر ثم ستة حيض ثم اثنان وعشرون طهر.
فإن رأت ثلاثة دما ويومين طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت ثمانية لأن ختم العشرة بالطهر إلى أن ينظر إن ختم الشهر بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك خمسة فيضربه فيما يوافق الشهر وذلك ستة فيكون ثلاثين وآخر المضروب طهر فكان دورها في كل شهر ثمانية حيضا واثنين وعشرين طهرا وكذلك إن قلبت وقلت رأت يومين دما وثلاثة طهرا فهو على هذا التخريج إلا أن حيضها هنا من أول كل شهر سبعة.
فإن رأت ثلاثة دما وثلاثة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت تسعة إلى أن ينظر إن ختم الشهر بماذا يكون فيأخذ دما وطهرا وذلك ستة فيضربه فيما يوافق الشهر وذلك خمسة فيكون ثلاثين وآخر المضروب طهر فاستقام أمرها وكان دورها في كل شهر الحيض تسعة والطهر واحد وعشرون. فإن رأت أربعة دما وثلاثة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت عشرة لأن ختم العشرة بالدم إلى أن ينظر إلى ختم الشهر بماذا يكون فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب الشهر وذلك أربعة فيكون ثمانية وعشرين وآخر المضروب طهر ثم بعده دم أربعة يومان تمام الشهر الأول ويومان من أول الشهر الثاني فيكون حيضا وفي الشهر الثاني حيضها تسعة لأن اليوم العاشر كان طهرا إلى أن ينظر أن ختم الشهرين بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب الشهرين وذلك تسعة فيكون ثلاثة وستين وآخر المضروب طهر فقد مضى من أيام حيضها في الشهر الثالث ثلاثة كان طهرا وبداءة الحيض بالطهر لا يكون ثم بعده أربعة دم وثلاثة طهر فما وجدت في الشهر الثالث من أيام الحيض إلا أربعة فذلك حيضها إلى أن ينظر أن ختم الشهر الثالث بماذا يكون.(3/309)
فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب تسعين يوما وذلك ثلاثة عشر فيكون أحدا وتسعين وآخر المضروب طهر فقد مضى من الشهر الرابع يوم لم تر فيه ثم بعده أربعة دم وثلاثة طهر ويومان تمام العشرة دم فوجدت تسعة أيام في الشهر الرابع فذلك حيضها إلى أن ينظر أن ختم الشهر الرابع بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب مائة وعشرين يوما وذلك سبعة عشر فيكون مائة وتسعة عشر وآخر المضروب طهر ثم بعده يوم دم تمام الشهر الرابع.
وفي الشهر الخامس ثلاثة دم وثلاثة طهر وأربعة دم فهذه العشرة حيضها إلى أن ينظر أن ختم الشهر الخامس بماذا يكون.(3/310)
ص -158- ... فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب مائة وخمسين يوما وذلك أحد وعشرون فيكون مائة وسبعة وأربعين وآخر المضروب طهر ثم بعده أربعة دم ثلاثة من ذلك تمام الشهر الخامس تصلي فيه ثم في الشهر السادس رأت يوما دما وثلاثة طهرا وأربعة دما فهذه الثمانية تكون حيضا لها لأن ختم العشرة في الشهر السادس كان بالطهر إلى أن ينظر إن ختم الشهر السادس بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يقارب مائة وثمانين وذلك ستة وعشرون فيكون مائة واثنين وثمانين وآخر المضروب طهر فقد مضى من الشهر السابع يومان من أيام حيضها لم تر فيه ثم بعده أربعة دم وثلاثة طهر وأربعة دم فختم العشرة في الشهر السابع كان بالدم فيكون حيضها ثمانية أيام بعد يومين مضت من الشهر السابع إلى أن ينظر أن ختم الشهر السابع بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك سبعة فيضربه فيما يوافق سبعة أشهر وذلك ثلاثون فتكون مائتين وعشرة وآخر المضروب طهر فاستقام وكان دورها في كل سبعة أشهر حيضها وطهرها في كل شهر ما ذكرنا لأنه استقبلها في الشهر الثامن مثل ما كان في الشهر الأول أربعة دم وثلاثة طهر وكذلك إن قلبت فقلت رأت ثلاثة دما وأربعة طهرا فهو في التخريج مثل ما سبق واستقام دورها في كل سبعة أشهر إلا أنه ربما يزداد وينقص في هذه المدة بعض أيام حيضها ويتبين ذلك إذا خرجت.
فإن رأت أربعة دما وأربعة طهرا واستمر كذلك أشهرا فحيضها من أول ما رأت عشرة لأن ختمها بالدم والدم غالب على الطهر فيها إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون فيأخذ دما وطهرا وذلك ثمانية ويضربه فيما يقارب الشهر وذلك أربعة فيكون اثنين وثلاثين وآخر المضروب طهر فقد مضى من أيام حيضها في الشهر الثاني يومان لم تر فيهما ثم استقبلها أربعة دم وأربعة طهر فحيضها في هذا الشهر أربعة لأنها لم تجد في العشرة إلا هذا إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.(3/311)
فيأخذ دما وطهرا وذلك ثمانية فيضربه فيما يقارب الشهرين وذلك ثمانية فيكون أربعة وستين يوما وآخره طهر فقد مضى من الشهر الثالث أربعة أيام لم تر فيها ثم استقبلها دم أربعة فهذه الأربعة حيضها في الشهر الثالث لأن ختم العشرة بالطهر إلى أن ينظر أن ختم الشهر الثالث بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك ثمانية فيضربه فيما يقارب ثلاثة أشهر وذلك أحد عشر فيكون ثمانية وثمانين وآخره طهر ثم استقبلها أربعة دم يومان تمام الشهر الثالث تصلي فيهما وفي الشهر الرابع وجدت عشرة يومان دم وأربعة طهر وأربعة دم فهذه العشرة حيضها إلى أن ينظر أن ختم الشهر الرابع بماذا يكون.(3/312)
ص -159- ... فيأخذ دما وطهرا وذلك ثمانية فيضربه فيما يوافق أربعة أشهر وذلك خمسة عشر فيكون مائة وعشرين يوما وآخره طهر فاستقام أمرها واستقبلها في الشهر الخامس أربعة دم كما كان في الشهر الأول فيكون دورها في كل أربعة أشهر في الشهر الأول عشرة حيض وفي الشهر الثاني أربعة بعد يومين مضيا حيض وفي الشهر الثالث أربعة حيض بعد أربعة مضت منه وفي الشهر الرابع عشرة حيض.
فإن رأت خمسة دما وأربعة طهرا واستمر كذلك فحيضها في الشهر الأول عشرة لأن ختم العشرة بالدم إلى أن ينظر أن ختمه بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك تسعة فيضربه فيما يقارب الشهر وذلك ثلاثة فيكون أوله سبعة وعشرين وآخره طهر ثم بعده دم خمسة ثلاثة منها تمام الشهر وتصلي فيها ثم يومان من أول الشهر الثاني رأت فيهما وبعدهما طهر أربعة ودم خمسة فالعشرة من أول الشهر الثاني حيض إلى أن ينظر أن ختمه بماذا يكون فيضرب تسعة فيما يقارب الشهر وذلك سبعة فيكون ثلاثة وستين وآخره طهر فقد مضى من الشهر الثالث ثلاثة لم تر فيها ثم استقبلها دم خمسة فهذا حيضها في الشهر الثالث لأن ختم العشرة بالطهر إلى أن ينظر أن ختم الشهر الثالث بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك تسعة فيضربه فيما يوافق ثلاثة أشهر وذلك عشرة فيكون تسعين وآخره طهر فاستقام أمرها لأنه استقبلها في الشهر الرابع مثل ما كان في الشهر الأول فعلمنا أن دورها في كل ثلاثة أشهر كما بينا.
وكذلك إن قلبت فقلت: رأت أربعة دما وخمسة طهرا فهو في التخريج كما بينا.
فإذا رأت خمسة دما وخمسة طهرا واستمر كذلك فحيضها خمسة من أول ما رأت لأن ختم العشرة بالطهر إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون فيأخذ دما وطهرا وذلك عشرة ويضربه فيما يوافق الشهر وذلك ثلاثة فيكون ثلاثين وآخره طهر فاستقام أمرها في كل شهر الحيض خمسة والطهر خمسة وعشرون.(3/313)
فإن رأت خمسة دما وستة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت خمسة لأن ختم العشرة بالطهر وتصير هذه الخمسة عادة لها بالمرة الواحدة لأنها مبتدأة إلى أن ينظر أن ختم الشهر الثاني بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك أحد عشر ويضربه فيما يقارب الشهر وذلك ثلاثة فيكون ثلاثة وثلاثين وآخر المضروب طهر فقد مضى في الشهر الثاني من أيام عادتها ثلاثة وبقي يومان ويومان لا يكون حيضا ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العادة لا تنتقل بالمرة الواحدة وتخرج هذه المسألة على قولهما دون قول أبي يوسف رحمه الله تعالى كما بينا في أول الكتاب.(3/314)
ص -160- ... فأما على قول من لا يرى البدل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنها لا تترك الصلاة في شيء من الشهر الثاني إلى أن ينظر أنها هل ترى في الشهر الثالث في أيام عادتها فتأخذ دما وطهرا وذلك أحد عشر فتضربه فيما يقارب الشهرين وذلك ستة فيكون ستة وستين وآخره طهر فقد مضى من أيام عادتها في الشهر الثالث لم تر فيه شيئا وصاحبة العادة إن لم تر مرتين على الولاء يستأنف لها موضع الرؤية لأن العادة كما تنتقل برؤية المخالف مرتين تنتقل بعدم الرؤية في أيامها مرتين وإذا استأنف في موضع الرؤية كان حيضها خمسة واستقام أمرها على أن يكون دورها في كل ستة وستين يوما الحيض خمسة والطهر أحد وستون يوما.
وأما على قول من يرى البدل وهو قول محمد رحمه الله تعالى فإنه يقول يبدل لها خمسة بعد ثلاثة مضت من الشهر الثاني لوجود شرط الإبدال لأنه يبقى بعده طهر تام وهو ثمانية وعشرون على ما نثبته في بابه فيترك هذه الخمسة إلى أن ينظر أن ختم الشهرين بماذا يكون.
فيأخذ أحد عشر ويضربه فيما يقارب الشهرين وذلك ستة فيكون ستة وستين فلم تر مرتين على الولاء فيستأنف لها من موضع الرؤية واستقام دورها في كل ستة وستين تدع خمسة وتصلي ثمانية وعشرين ثم تدع خمسة بحساب البدل ثم تصلي ثمانية وعشرين وهذا دأبها.
وإن استمر بها الدم بعد شهور استمرارا متصلا فكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى يقول حيضها في أيام الاستمرار خمسة وطهرها بقية الشهر خمسة وعشرون لأنها كانت تصلي في ثمانية وعشرين لأجل الضرورة لا لأنه كان طهرا صحيحا يصلح لنصب العادة فإذا ارتفعت الضرورة باتصال الاستمرار عادت إلى ما هو الأصل وهو أن يكون باقي الشهر بعد أيام عادتها في الحيض طهرا لها وذلك خمسة وعشرون.(3/315)
وكان أبو عثمان يقول حيضها عشرة في زمان الاستمرار وطهرها عشرون لأن الطهر لما فسد فسد الدم أيضا وإنما كنا لا نجعل العشرة حيضا لأن ختمها بالطهر وقد زال ذلك المعنى فحيضها عشرة وطهرها عشرون كما لو ابتليت بالاستمرار ابتداء.
وكان أبو سهل يقول: حيضها خمسة وطهرها ثمانية وعشرون لأنها قد رأت كل واحد منهما مرات وحكمنا بأن الخمسة حيض وطهرها ثمانية وعشرون فعلى ذلك تبني في زمان الاستمرار لأن المحكوم بصحته شرعا بمنزلة ما هو صحيح حقيقة فإن رأت ستة دما وخمسة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت ستة وباقي الشهر طهر إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك أحد عشر ويضربه فيما يقارب الشهر وذلك ثلاثة فيكون ثلاثة وثلاثين وآخر المضروب طهر فقد مضى من أيامها في الشهر الثاني ثلاثة لم تر فيها ثم رأت ستة دما وقد بقي من أيام حيضها ثلاثة وذلك يكفيها فكان حيضها في الشهر الثاني هذه الثلاثة إلى أن ينظر أن ختمه بماذا يكون.(3/316)
ص -161- ... فيأخذ أحد عشر ويضربه فيما يقارب الشهرين وذلك ستة فيكون ستة وستين وآخره طهر فقد مضت أيامها في الشهر الثالث لم تر فيها فتصلي إلى موضع حيضها الآخر على قول من لا يرى البدل وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يبدل لها ستة بعد ستة مضت من الشهر الثالث لأنه يبقى بعدها من الشهر الثالث ثمانية عشر وذلك طهر تام إلى أن ينظر أن ختم الشهر الثالث بماذا يكون.
فيضرب أحد عشر فيما يقارب ثلاثة أشهر وذلك ثمانية فيكون ثمانية وثمانين يوما وآخره طهر ثم رأت ستة دما يومان تمام الشهر الثالث تصلي فيهما وأربعة وجدته في أيامها فذلك حيضها في الشهر الرابع إلى أن ينظر أن ختمه بماذا يكون.
فيأخذ أحد عشر ويضربه فيما يقارب أربعة أشهر وذلك أحد عشر فيكون مائة واحدا وعشرين وآخره طهر ثم الدم بعده ستة وجدتها في أيامها فذلك حيضها في الشهر الخامس إلى أن ينظر أن ختمه بماذا يكون.
فيضرب أحد عشر في أربعة عشر فيكون مائة وأربعة وخمسين وآخره طهر فقد مضى من أيامها في الشهر السادس أربعة بقي يومان وذلك لا يكون حيضا فتصلي إلى موضع حيضها الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويبدل لها عند محمد رحمه الله تعالى ستة بعد أربعة مضت من الشهر السادس إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.(3/317)
فيضرب أحد عشر فيما يقارب ستة أشهر وذلك ستة عشر فيكون مائة وستة وسبعين وآخر المضروب طهر ثم بعده دم ستة أربعة تمام الشهر السادس تصلي فيه وإنما رأت في الشهر السابع يومين في أيامها وذلك لا يكون حيضا فتبين أنها لم تر مرتين على الولاء فيستأنف لها من وقت الإبدال وتجعل تلك الستة يعني الستة التي جعلت بدلا عند محمد رحمه الله تعالى حيضا لها بطريق انتقال العادة إليه حتى إذا كانت لم تصل فيها أخذا بقول محمد رحمه الله تعالى فليس عليها قضاء تلك الصلوات أيضا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى واستقام أمرها على أن يكون دورها في كل ستة أشهر على ما بينا فتنتقل عادتها من حيث المكان والعدد على حاله.
فإن رأت ستة دما وستة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت ستة إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك اثني عشر ويضربه فيما يقارب الشهر وذلك ثلاثة فيكون ستة وثلاثين وآخره طهر فقد مضت أيامها في الشهر الثاني لم تر فيها فتصلي إلى موضع حيضها الثاني عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويبدل لها ستة بعد ستة مضت من الشهر الثاني عند محمد رحمه الله تعالى تترك فيها الصلاة إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.
فيضرب اثني عشر فيما يوافق الشهرين وذلك خمسة فيكون ستين وآخره طهر،(3/318)
ص -162- ... فاستقام أمرها واستقبلها في الشهر الثالث مثل ما كان في الشهر الأول فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تترك ستة من أول كل شهرين وتصلي أربعة وخمسين وعند محمد رحمه الله تعالى تترك ستة من أول الشهر وتصلي ثلاثين ثم تترك ستة بحساب البدل ثم تصلي ثمانية عشر وذلك دأبها وعلى هذا الطريق يخرج ستة وسبعة وقلبها وثمانية وثمانية وثمانية وتسعة وقلبها وتسعة وتسعة وتسعة وعشرة وقلبها إلى أن يقول رأت في الابتداء عشرة دما وعشرة طهرا واستمر كذلك فحيضها من أول ما رأت عشرة إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك عشرون ويضربه فيما يقارب الشهر وذلك اثنان فيكون أربعين وآخره طهر فقد مضت أيامها في الشهر الثاني لم تر فيها شيئا والإبدال غير ممكن إلا على قول من يقول بالجر أو الطرح على ما نبينه في بابه لأن بعد الإبدال لا يبقى إلى موضع حيضها الثاني طهر تام فتصلي إلى موضع حيضها الثاني حتى ينظر إلى أن ختم الشهرين بماذا يكون.
فيأخذ دما وطهرا وذلك عشرون ويضربه فيما يوافق الشهرين وذلك ثلاثة فيكون ستين وآخره طهر فاستقام أمرها واستقبلها في الشهر الثالث مثل ما كان في الشهر الأول فيكون دورها في كل شهرين تترك عشرة وتصلي خمسين يوما وذلك دأبها والله أعلم.
باب الانتقال(3/319)
قال رحمه الله تعالى الانتقال على ضربين انتقال موضع وانتقال عدد ولا يحصل الانتقال بالمرة الواحدة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ما لم تر مرتين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى بالمرة الواحدة يحصل انتقال العادة قال لأن ابتداء العادة يحصل بالمرة فيكون كذلك انتقالها لأن المرأة صاحبة بلوى وفي الانتقال بالمرة الواحدة تيسير عليها فكان القول به أولى لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] ولأن المرة الأخيرة متصلة بالاستمرار والبناء على العادة في زمان الاستمرار فترجح ما كان متصلا بالاستمرار على ما كان قبله لأن هذه المرة لصحتها صارت فاصلة بين زمان الاستمرار وما تقدم.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا العادة مشتقة من العود ولن يحصل العود بدون التكرار ولأن الشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة: 106] والأول متأكد بالتكرار فلا ينسخه إلا ما هو مثله في التأكد.
وقد بينا الفرق بين ابتداء العادة وانتقالها ثم نبدأ ببيان انتقال الموضع فنقول هو نوعان تارة يكون بالرؤية في غير موضع عادتها مرتين وتارة يكون بعدم الرؤية مرتين.(3/320)
ص -163- ... وبيان ذلك: امرأة حيضها عشرة وطهرها خمسة عشر طهرت مرة خمسة وعشرين يوما ثم رأت الدم عشرة فهذه العشرة حيض عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وتنتقل عادتها في الحيض إلى موضع الرؤية وفي الطهر إلى خمسة وعشرين وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تكون هذه العشرة حيضا لها ولكن يتوقف أمرها على الرؤية في أيام عادتها في الثاني فإن رأت تبين أن ما سبق لم يكن حيضا وإن لم تر بأن طهرت خمسة وعشرين بعد هذه العشرة ثم رأت الدم عشرة تبين أن العشرة الأولى كانت حيضا لأنها رأت خلاف عادتها في الموضع مرتين والعدد بحاله فانتقلت عادتها إلى موضع الرؤية.
ولو كانت عادتها في الحيض ثلاثة وفي الطهر خمسة عشر فطهرت ستة عشر يوما فهذه لم تر مرة لأنه لم يبق من أيام عادتها ما يمكن أن يجعل حيضا لها فتصلي إلى موضع حيضها وموضع حيضها الأول من خمسة عشر إلى ثمانية عشر وموضع حيضها الثاني من ثلاثة وثلاثين إلى ستة وثلاثين حتى إذا طهرت ثلاثة وثلاثين ثم استمر بها الدم فقد وافق الاستمرار ابتداء حيضها الثاني فيجعل ثلاثة حيضا وخمسة عشر طهرا.
وإن طهرت أربعة وثلاثين فلم تر مرتين على الولاء لأن الباقي من أيامها الثاني لا يمكن أن يجعل حيضا فانتقلت عادتها إلى أول الاستمرار لعدم الرؤية مرتين فتكون الثلاثة من أول الاستمرار حيضا لها ألا ترى أن امرأة عادتها في الحيض في أول كل شهر عشرة وفي الطهر عشرين فحبلت ثم ولدت وقد بقي من الشهر عشرة واستمر بها الدم فهذه العشرة والشهر الذي يليها نفاسها ثم بعده عشرون طهرها ثم عشرة حيضها فقد انتقلت عادتها في الحيض من أول الشهر إلى آخره لعدم الرؤية مرارا في زمان الحبل فعرفنا أن العادة تنتقل بعدم الرؤية مرتين والله أعلم بالصواب.
فصل في بيان البدل(3/321)
على قول محمد رحمه الله تعالى: صاحبة العادة المعروفة إذا لم تر في أيامها ما يصلح أن يكون حيضا ورأت بعد أيامها ما يصلح أن يكون حيضا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف حكم ما رأت على ما ترى في المرة الثانية فإن رأت في موضع عادتها تبين أن ما سبق لم يكن حيضا وإن رأت في الشهر الثاني مثل ما رأت في الشهر الأول تبين أن ما سبق كان حيضا وانتقلت عادتها وكان لا يجوز الإبدال لأن في الإبدال إبهام نقل العادة بالمرة الواحدة وذلك لا يجوز.
فأما محمد قال إذا رأت بعد أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا جعل حيضا بدلا عن أيامها إذا أمكن الإبدال والإمكان بأن يبقى إلى موضع حيضها الثاني بعد الإبدال أقل مدة الطهر وذلك خمسة عشر يوما أو أكثر سواء كان الطهر خالصا أو فيه استمرار فإن كان الباقي بعد الإبدال من طهرها دون خمسة عشر نظر فإن أمكن أن يجر من موضع حيضها الثاني ما يضم(3/322)
ص -164- ... إلى ما في الطهر فيكون ذلك خمسة عشر ويبقى بعد الجر من موضع حيضها الثاني ما يمكن أن يجعل حيضا يبدل لها أيضا وإن كان الباقي دون ذلك فحينئذ لا يبدل لها وتصلي إلى موضع حيضها الثاني لأن الحيض مبني على الإمكان والإمكان موجود إذا بقي بعد الإبدال مدة طهر تام أو أمكن تتميمه بالجر لأن عادة المرأة لا تبقى على صفة واحدة ولكنها تتقدم تارة وتتأخر أخرى.
وكان أبو حفص الكبير ومحمد بن مقاتل يقولان بالبدل على قول محمد رحمه الله تعالى بطريق الطرح لا بطريق الجر وبيانه إذا كان الباقي بعد الإبدال أقل من خمسة عشر يوما فإن أمكن أن يطرح من أيام البدل ما يضم إلى باقي الطهر فيتم خمسة عشر يوما ويبقى من موضع البدل ما يمكن أن يجعل حيضا يبدل لها وإن كان الباقي دون ذلك لا يبدل لها وقالا هذا الوجه أولى لأن التغيير فيه في موضع واحد وفي الجر التغيير في موضعين وجواز التغيير لأجل الضرورة فإذا كان يرتفع ذلك بالمرة لا يجوز إثباته في موضعين وعدد البدل دون عدد الأصل وبيانه في التيمم مع الوضوء.
وكان أبو زيد الكبير وأبو يعقوب الغزالي يقولان بالبدل إذا كان يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني خمسة عشر يوما فإن كان الباقي دون ذلك لا يبدل لها لأن إثبات البدل ليكون الدم المرئي بين طهرين تامين فإذا وجد بهذه الصفة يبدل لها وإلا فلا.
وبيانه من المسائل: امرأة عادتها في الحيض خمسة وطهرها عشرون طهرت مرة اثنين وعشرين يوما ثم استمر بها الدم يجعل حيضها من أول الاستمرار ثلاثة لأنها رأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا.
فإن طهرت ثلاثة وعشرين ثم استمر بها الدم فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يوما وعند محمد رحمه الله تعالى يبدل لها خمسة من أول الاستمرار لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر يوما.(3/323)
وكذلك إن طهرت أربعة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين ثم استمر بها الدم فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يوما وعند محمد رحمه الله تعالى يبدل لها خمسة من أول الاستمرار لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر يوما.
وكذلك إن طهرت أربعة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين واستمر بها الدم يبدل لها خمسة لأن الباقي بعد خمسة عشر يوما فتدع خمسة وتصلي خمسة عشر ثم تدع خمسة وتصلي عشرين.
فإن طهرت ستة وعشرين يوما ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد وأبي يعقوب لا يبدل لها لأن الباقي بعد الإبدال أربعة عشر يوما ولكنها تصلي من أول الاستمرار تسعة عشر(3/324)
ص -165- ... يوما ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يبدل لها خمسة لأن الإبدال بطريق الجر ممكن فيجر من موضع حيضها الثاني يوما إلى بقية طهرها ليتم خمسة عشر فتدع من أول الاستمرار خمسة بطريق البدل ثم تصلي خمسة عشر ثم تدع أربعة ثم تصلي عشرين ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وعلى قول أبي حفص ومحمد بن مقاتل رحمهما الله تعالى يبدل لها بطريق الطرح فتدع من أول الاستمرار أربعة ثم تصلي خمسة عشر ثم تدع خمسة وتصلي عشرين.
وكذلك إن طهرت سبعة وعشرين ثم استمر بها الدم فهو في التخريج كما بينا.
وإن طهرت ثمانية وعشرين ثم استمر بها الدم لا يبدل لها بالاتفاق لأن بعد الإبدال يبقى من الطهر اثني عشر فإن جررت إليه ثلاثة لا يبقى من موضع حيضها الثاني ما يمكن أن يجعل حيضا وإن ضممت من أيام البدل ثلاثة لا يبقى ما يمكن أن يجعل حيضا فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك سبعة عشر يوما ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وكما يجوز الإبدال بعد أيامها عند محمد رحمه الله تعالى يجوز قبل أيامها بشرط أن يكون دما عقيب طهر صحيح لا استمرار فيه حتى إذا صلت في شيء من الطهر المتقدم بالدم لا يبدل لها قبل أيامها.
بيانه: امرأة حيضها خمسة وطهرها عشرون طهرت خمسة عشر ثم رأت خمسة دما ثم طهرت أيامها فعند محمد رحمه الله تعالى تجعل الخمسة المتقدمة حيضا بدلا عن أيامها.(3/325)
ولو طهرت أربعة عشر ثم رأت ستة دما ثم طهرت أيامها لم يبدل لها شيء من المتقدم لأنها صلت في يوم منه بالدم وهو اليوم الخامس عشر وعند محمد رحمه الله تعالى يبدل لها مثل أيامها أو أقل من أيامها بقدر الممكن ولا يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها إلا بشرط أن يكون بين طهرين صحيحين لا استمرار فيهما لأن الحاجة إلى جعل الزيادة حيضا ابتداء فما لم يكن مرئيا بين طهرين صحيحين لا يمكن جعله حيضا ابتداء فإن أمكن الإبدال قبل أيامها وبعد أيامها يبدل لها قبل أيامها لأنه أسرعهما إمكانا.
وبيانه: إذا كانت عادتها في الحيض ثلاثة وفي الطهر سبعة وعشرون فطهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم ثلاثة ثم طهرت اثني عشر يوما ثم رأت الدم فإنها لم تر في أيامها شيئا فتبدل لها الثلاثة التي رأتها بعد خمسة عشر لأنها مرئية بعد طهر صحيح فكان إمكان البدل فيه قائما فلهذا يبدل لها تلك الثلاثة دون ما رأته بعد أيامها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الزيادة والنقصان في أيام الحيض
قال: رحمه الله تعالى: اعلم بأن صاحبة العادة المعروفة إذا رأت الدم زيادة على عادتها المعروفة يجعل ذلك حيضا ما لم يجاوز أكثر الحيض فإن جاوز ردت إلى أيام عادتها فيجعل(3/326)
ص -166- ... ذلك حيضها وما سواه استحاضة لأن طبع المرأة لا يكون على صفة واحدة في جميع الأوقات فيزداد حيضها تارة باعتبار قوة طبعها وينقص أخرى بضعف طبعها وأمر الحيض مبني على الإمكان فإذا لم تجاوز العشرة فالإمكان قائم في الكل وإن جاوز العشرة فقد صارت مستحاضة لما رأت زيادة على العشرة.
قال صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها". ولأن ما رأته بعد معروفها تبع لمعروفها إذا لم يجاوز العشرة وحكم التبع حكم المتبوع فأما بعد المجاوزة تجاذبه جانبان فإن اعتباره بأيامها يجعله حيضا واعتباره بما زاد على العشرة يجعله استحاضة فيترجح هذا الجانب لأنه ما ظهر إلا عند ظهور هذه الاستحاضة فالظاهر أنه كان لداء في باطنها.
فإن جاءت المرأة تستفتي فقالت كانت عادتي في الحيض خمسة والآن أرى الدم في اليوم السادس فقد اختلف فيه مشايخنا قال أئمة بلخ أنها تؤمر بالاغتسال والصلاة لأن حال الزيادة متردد بين الحيض والاستحاضة فلا تترك الصلاة مع التردد ولأن هذه الزيادة لا تكون حيضا إلا بشرط وهو الانقطاع قبل أن يجاوز العشرة وذلك موهوم فلا تترك الصلاة باعتبار أمر موهوم وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى يقول لا تؤمر بالاغتسال والصلاة وهو الأصح لأنها عرفناها حائضا بيقين وفي خروجها من الحيض شك ودليل بقائها حائضا ظاهر وهو رؤية الدم وهذه الزيادة لا تكون استحاضة إلا بشرط الاستمرار حتى تجاوز العشرة وذلك الشرط غير ثابت فتيقناها حائضا لا تؤمر بالاغتسال والصلاة حتى يتبين أمرها فإن جاوز العشرة فحينئذ تؤمر بقضاء ما تركت من الصلوات بعد أيام عادتها واعتبر هذا بالمبتدأة لا تؤمر بالاغتسال والصلاة مع رؤية الدم ما لم تجاوز العشرة.(3/327)
ومما ذكر محمد رحمه الله تعالى في هذا الباب من المسائل امرأة عادتها في الحيض خمسة في أول كل شهر فرأت ثلاثة أيام دما في أيامها ثم انقطع سبعة أيام أو ستة أيام ثم رأته يوما أو أكثر فخمستها المعروفة هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى بناء على جواز ختم الحيض بالطهر وأن طهر ما دون خمسة عشر كالدم المتوالي عنده وعلى قول محمد رحمه الله تعالى الثلاثة الأولى هي الحيض لأنه لا يرى ختم الحيض بالطهر.
ولو أنها رأت في أول العشرة يومين دما وفي آخرها يومين دما فذكر الشيخ الإمام برهان الدين رحمه الله تعالى أن قوله خمستها حيض إذا كان اليومان الآخران هما اليوم العاشر والحادي عشر أما إذا كان اليومان التاسع والعاشر فالكل حيض عند أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يكن شيء من ذلك حيضا في قول محمد رحمه الله تعالى لأن الطهر غالب فصار فاصلا بين الدمين وواحد منهما بانفراده لا يمكن أن يجعل حيضا فإن لم تر في أولها يومين دما لم يكن شيء من ذلك حيضا عندهم جميعا.
وإن رأت في أولها يومين دما ورأت اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر دما،(3/328)
ص -167- ... كانت خمستها هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الطهر قاصر فهو كالدم المتوالي
وعند محمد الثلاثة الأخيرة هي الحيض بطريق البدل فإن الإبدال ممكن لأنه يبقى بعده إلى مدة حيضها الثاني مدة طهر كامل.
فإن رأت في أول خمستها يوما دما ويوما طهرا حتى جاوز العشرة كانت خمستها حيضا في قولهم جميعا لأن ابتداء الخمسة وختمها كان بالدم والطهر المتخلل قاصر.
فإن طهرت أول يوم من الشهر ثم رأت يوما دما ويوما طهرا حتى جاوز العشرة فاليوم الأول ليس بحيض عندهم جميعا لأنه لم يسبقه دم وهو في نفسه طهر وإنما جوز أبو يوسف رحمه الله تعالى ابتداء الحيض بالطهر بشرط أن يتقدمه دم الاستحاضة والأربعة الباقية من أيامها حيض في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه لا يرى ختم الحيض بالطهر إلا إذا تعقب دما وعلى قول محمد حيضها ثلاثة وهي الثاني والثالث والرابع من أيامها فإن الخامس كان طهرا وهو لا يرى ختم الحيض بالطهر وإن وقف على العشرة كان ما بعد اليوم الأول حيضا كله.
وإن رأت يوما دما قبل رأس الشهر ومن أول الشهر يوما طهرا ويوما دما إلى تمام العشرة فاليوم الأول وجميع ذلك حيض إلى اليوم العاشر فإنها لم تر فيه دما ولا بعده وما سوى ذلك وجد فيه شرط الإمكان فجعل حيضا وإن جاوز العشرة فخمستها المعروفة هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال محمد حيضها ثلاثة أيام وهي الثاني والثالث والرابع من معروفها لأنها طهرت في اليوم الأول والخامس وهو لا يرى بداية الحيض ولا ختمه بالطهر وبعض هذه المسائل يأتي بيانه في فصل يفرض له.
باب في تقديم الحيض وتأخيره
اعلم أن صاحبة العادة إذا رأت قبل عادتها دما فهو على ثلاثة أوجه في وجه هو حيض بالاتفاق
وفي وجه اختلفوا فيه وفي وجه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.(3/329)
أما الوجه الأول وهو أنها إذا رأت قبل أيامها ما لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ورأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ولم يجاوز الكل عشرة فالكل حيض بالاتفاق لأن ما رأته قبل أيامها غير مستقل بنفسه فيجعل تبعا لما رأته في أيامها وذكر في نوادر الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى مطلقا أن المتقدم لا يكون حيضا ولكن تأويله إذا كان بحيث لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده
وبعض أئمة بلخ أخذوا بالظاهر فقالوا المتقدم عنده لا يكون حيضا على حال لأنه مستنكر مرئي قبل وقته.
وأما الوجه الذي اختلفوا فيه فثلاثة فصول: أحدها أن ترى قبل خمستها المعروفة خمسة أو ثلاثة أو لا ترى في خمستها شيئا أو رأت قبل خمستها يوما أو يومين ومن أول خمستها يوما أو يومين بحيث لا يمكن جعل كل واحد منهما بانفراده حيضا ما لم يجتمعا. ففي(3/330)
ص -168- ... كتاب الصلاة قال الكل حيض وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبي حنيفة وقد نص على الخلاف في نوادر الصلاة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يكون شيء من ذلك حيضا. وجه قولهما أن الحيض مبني على الإمكان والمتقدم قياس المتأخر فكما جعل المتأخر عند الإمكان حيضا فكذلك المتقدم. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المتقدم دم مستنكر مرئي قبل وقته فلا يكون حيضا كالصغيرة جدا إذا رأت الدم وهذا لأن الحاجة إلى إثبات الحيض لها ابتداء ولا يحصل ذلك بما ليس بمعهود لها ما لم يتأكد بالتكرار لأن الدلالة قامت على أن العادة لا تنتقل بالمرة الواحدة بخلاف المتأخر فإن الحاجة هناك إلى إبقاء ما ثبت من صفة الحيض والإبقاء لا يستدعي دليلا موجبا.
والوجه الثالث: إذا رأت قبل أيامها ما يكون حيضا بانفراده ورأت أيامها مع ذلك فعلى قولهما لا يشكل أن الكل حيض إذا لم يجاوز العشرة اعتبارا للمتقدم بالمتأخر وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان فيه.
روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى أن الكل حيض وما رأت في أيامها يكون أصلا لكونه مستقلا بنفسه فيستتبع ما تقدم كما لو كان المتقدم يوما أو يومين.
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أيامها حيض فأما المتقدم فحكمه موقوف على ما ترى في الشهر الثاني فإن رأت مثل ما رأته في الشهر الأول تبين أنه كان حيضا وانتقلت عادتها بالتكرار وإن رأت في الشهر الثاني في أيامها ولم تر قبل أيامها تبين أن المتقدم لم يكن حيضا لأنه مستنكر مرئي قبل وقته وهو في نفسه مستقل فلا يمكن جعله تبعا لأيامها بخلاف اليوم واليومين.
فإذا جاءت المرأة تستفتي أنها ترى الدم قبل أيامها فعندهما تؤمر بترك الصلاة إذا كان الباقي من أيام طهرها ما لو ضم إلى أيامها لم يجاوز العشرة لأنها ترى الدم عقيب طهر صحيح فكان حيضا للإمكان(3/331)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان الباقي من طهرها ثلاثة أيام أو أكثر لم تؤمر بترك الصلاة لأن هذا المتقدم ليس بحيض لكونه مستقلا في نفسه فلا تستتبعه أيام حيضها وإن كان يوما أو يومين فعلى قول أئمة بلخ تؤمر بترك الصلاة وعلى قول أئمة بخارى لا تؤمر به عند أبي حنيفة لأن هذا المتقدم عنده لا يكون حيضا إلا بشرط أن ترى في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ولم يثبت هذا الشرط بعد فلا تؤمر بترك الصلاة وهو نظير الاختلاف الذي بيناه في الباب المتقدم.
فأما في المتأخر إن رأت أيامها ورأت بعد أيامها أيضا ولم يجاوز العشرة فالكل حيض بالاتفاق لأن ما بعد أيامها في حكم التبع لأيامها ويستقيم إثبات التبع بعد ثبوت الأصل بخلاف المتقدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن لم تر في أيامها ورأت بعد أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا أو رأت في أيامها يوما أو يومين وبعد أيامها مثل ذلك بحيث لا(3/332)
ص -169- ... يمكن جعل كل واحد منهما بانفراده حيضا ويمكن جعل ذلك كله حيضا ففي ظاهر الرواية أن ذلك حيض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى للإمكان.
وذكر أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى رواية أخرى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه موقوف على ما ترى في الشهر الثاني فإن رأت في الشهر الثاني في أيامها تبين أن ذلك لم يكن حيضا وانتقلت به عادتها وإن رأت قبل أيامها وفي أيامها وبعد أيامها فعلى أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حكم المتقدم والمتأخر سواء لا يفصل البعض عن البعض ولكن إن لم يجاوز الكل عشرة فالكل حيض وإن جاوز كان حيضها أيام عادتها دون ما تقدم وما تأخر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أيامها تصير فاصلة بين المتقدم والمتأخر ومعنى هذا أنه لا يعتبر المتقدم إنما تعتبر أيامها وما تأخر فإن لم يجاوز العشرة فالكل حيض وإن جاوز فحيضها أيامها.
وظاهر المذهب عن أبي حنيفة أنه ينظر إلى قدر المتقدم فإن كان يوما أو يومين لا يفصل عن أيامها والجواب فيه كما قالا إن لم يجاوز الكل العشرة فالكل حيض وإن كان المتقدم ثلاثة أيام أو أكثر يصير فاصلا فينظر إلى أيامها وما تأخر خاصة وهذا بناء على أصله أن المتقدم إذا كان لا يستقل بنفسه يجعل حيضا تبعا لها بخلاف ما إذا استقل بنفسه وأما إذا رأت قبل أيامها ولم تر في أيامها شيئا ورأت بعد أيامها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا جاوز الكل العشرة فحيضها أيامها لأنه يجعل زمان الطهر حيضا بإحاطة الدمين به وعلى قول محمد رحمه الله تعالى حيضها ما تقدم إن أمكن وإن لم يمكن فحيضها ما تأخر وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان:
في ظاهر الرواية يجعل المتأخر حيضا وعلى ما ذكر أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى يكون موقوفا على ما ترى في الشهر الثاني.(3/333)
وعلى هذا بنى محمد رحمه الله تعالى أول الباب فقال امرأة كان حيضها خمسة أيام من أول كل شهر فرأت قبلها خمسة دما وطهرت أيامها ثم رأت بعد ذلك يوما أو يومين أو ثلاثة فأيامها المعروفة هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى.
وقال محمد رحمه الله تعالى: المتقدم هو الحيض وكذلك إن كانت رأت يومين دما من أول أيامها مع ذلك أو من آخر أيامها لأن ما رأته في أول أيامها لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وإن رأت ثلاثة دما في أيامها مع ذلك من أولها أو من آخرها كانت هذه الثلاثة هي الحيض في قول محمد رحمه الله تعالى لأنها رأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده.
وإن كان حيضها ثلاثة أيام من أول كل شهر فتقدم حيضها قبل ذلك أحد عشر عشر يوما ثم طهرت أيامها فلم تر فيها ولا فيما بعدها دما فعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى:(3/334)
ص -170- ... أن ذلك استحاضة إلا أن يعاودها الدم في مثل تلك الحالة أحد عشر يوما أخر فإن عاودها كانت ثلاثة أيام من الأيام الأول من أولها حيضا وثلاثة أيام من هذه الأحد عشر يوما الأخرى حيضا من أولها لأنه لا يرى الإبدال فجعل حكم ذلك موقوفا فإن تأكد بالتكرار انتقلت به العادة لما بينا أن انتقال العادة يحصل بعدم الرؤية في أيامها مرتين فأما عند محمد رحمه الله تعالى ثلاثة أيام من أول الأحد عشر يوما الأول حيض بطريق البدل لأنه مرئي عقيب طهر صحيح وحكم انتقال العادة به يكون موقوفا على ما ترى في الشهر الثاني.(3/335)
كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإن كان حيضها خمسة أيام من أول الشهر فحاضتها ثم استمر بها الدم إلى تمام الشهر ثم انقطع في خمستها ثم استمر بعدها ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى حيضها خمستها لإحاطة الدم بجانبيها وقال محمد رحمه الله حيضها خمسة أيام بعد أيامها لأن شرط الإبدال في المتقدم أن يكون مرئيا عقيب طهر صحيح لا استمرار فيه ولم يوجد فكان الإبدال بعد أيامها لأنه يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني مدة طهر تام وإن كان فيه استمرار وإن لم تر كذلك ولكنها رأت خمسة قبل أيامها دما وطهرت أيامها فتلك الخمسة هي الحيض في قول محمد رحمه الله تعالى لوجود شرط الإبدال في المتقدم فإن رأت في المرة الثانية تلك الخمسة وأيامها المعروفة وزيادة يوم دما فحيضها الخمسة المعروفة لأن انتقال العادة لا يحصل بالمرة الواحدة فإن لم تر في المرة الثانية كذلك ولكنها رأت الخمسة التي قبل أيامها وطهرت أيامها وطهرت بعد أيامها ثم رأت في المرة الثالثة تلك الخمسة وخمستها وزيادة يوم فحيضها هي الخمسة الأولى لان انتقال العادة حصل بعدم الرؤية في أيامها مرتين وكذلك ان طهرت في أيامها مرتين ولم تر في غيرها دما ثم رأت الدم خمسة قبل أيامها وفي أيامها وزيادة يوم فحيضها خمسة من أول ما رأت لانتقال العادة في الموضع لعدم الرؤية مرتين وإن كانت طهرت في أيامها مرة واحدة فحيضها هي الخمسة المعروفة لأن الانتقال لا يحصل بعدم الرؤية مرة إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فإن كانت لم تر قبل أيامها ولا في أيامها ورأت بعدها خمسة دما ثم في المرة الثانية طهرت خمستها وهذه الخمسة ثم استمر بها الدم فأيامها خمسة من حين استمر بها الدم لانتقال العادة إلى موضع الرؤية بعدم الرؤية في أيامها مرتين.(3/336)
قال: في الكتاب: وما بعدها طهر إلى تمام الشهر من حين استمر بها الدم ثم تكون حائضا وأكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى على أن هذا الجواب غلط والصحيح أن بعد ما تترك خمسة من أول الاستمرار تصلي ثلاثين يوما لأن عادتها في الطهر قد انتقلت إلى ثلاثين يوما برؤيته مرتين على الولاء ففي الشهر الأول طهرت خمستها بعد ما مضى من طهرها خمسة وعشرون فذلك ثلاثون يوما ثم رأت خمسة ثم طهرت بقية الشهر وذلك عشرون(3/337)
ص -171- ... يوما وطهرت خمستها وخمسة بعد خمستها في الشهر الثالث فذلك ثلاثون يوما فعلمنا أنها طهرت مرتين على الولاء ثلاثين فانتقلت عادتها في الطهر إلى هذا فعليه تبني في زمان الاستمرار.
قال: الحاكم رحمه الله تعالى ويحتمل أن يكون وجه جواب محمد رحمه الله تعالى أنها لما طهرت أيامها المعروفة مرتين كان حيضها منتقلا إلى حيث ترى الدم فلما رأته في الخمسة الثالثة من الشهر صار ذلك الموضع وقتها وكان حكمها كالتي تدرك فحيضها من أول الإدراك أو كالتي انتقلت عادتها بالحبل عن موضع عادتها فإذا استمر بها الدم حتى ينتهي إلى هذه الخمسة من الشهر الآخر فقد انتهت إلى معروفها وهي ترى الدم فلا بد من أن يجعل ذلك حيضا ولم يحصل بين هذه الخمسة وبين الخمسة الأولى من حساب الطهر إلا خمسة وعشرون يوما فلذلك أجاب بما أجاب به وهذا الذي قاله ضعيف لأن في حق المبتدأة ليس لها في الطهر عادة تبني على تلك العادة ولهذه في الطهر عادة متأكدة بالتكرار وذلك ثلاثون يوما فلا يجوز النقصان عنه في زمان الاستمرار.
ومن أصحابنا من قال: مراده مما قال وما بعدها طهر إلى تمام الشهر خمسة عشر يوما لأنه إنما استمر بها الدم بعد ما مضى عشرة أيام من الشهر فإن تركت خمسة بقي إلى تمام الشهر خمسة عشر يوما فتصلي فيها ثم تدع خمسة من أول الشهر وهذا أيضا ضعيف فقد قال في الكتاب وما بعدها طهر إلى تمام الشهر من حين استمر بها الدم فإنما جعل أول الشهر في حقها من وقت الاستمرار والأصح أنه غلط لما بينا.
فصل في بيان أصول مسائل انتقال العدد(3/338)
اعلم بأن العادة نوعان أصلية وجعلية فصورة العادة الأصلية أن ترى المرأة دمين وطهرين متفقين صحيحين على الولاء أو أكثر من ذلك وصورة العادة الجعلية أن ترى المرأة دمين وطهرين متفقين بينهما مخالف لهما أو ترى أطهارا مختلفة أو دماء مختلفة فينصب أوسط الأعداد لها عادة على قول من يقول بأوسط الأعداد وأقل المرتين على قول من يقول بأقل المرتين الأخيرتين فتكون هذه عادة جعلية لها في زمان الاستمرار سميت جعلية لأنه جعل عادة لها للضرورة ولم يوجد فيها دليل ثبوت العادة حقيقة.
فإن رأت العادة الجعلية بعد العادة الأصلية قال أئمة بلخ رحمهم الله تعالى لا تنتقض به العادة الأصلية لأنها دونها والشيء لا ينقضه ما هو دونه إنما ينقضه ما هو مثله أو فوقه.
ولأن ما ثبت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة وقد تحققت الضرورة في إثبات عادة لها ولا ضرورة في نقض العادة التي كانت لها ومشايخ بخارى رحمهم الله تعالى يقولون تنقض العادة الأصلية بالعادة الجعلية لأنه لا بد من التكرر في العادة الجعلية بخلاف ما كان في العادة الأصلية مثاله إذا كانت العادة الأصلية في الحيض خمسة لا تثبت الجعلية إلا(3/339)
ص -172- ... برؤية ستة أو سبعة أو ثمانية فالتكرار فيها خلاف العادة الأصلية مرارا لأن سبعة وثمانية يتكرر فيها ستة فبالتكرار بخلاف العادة الأصلية تنتقض تلك العادة ولكن لكونها متفاوتة في نفسها تكون العادة الثانية جعلية لا أصلية.
ثم قد بينا أن العادة الأصلية لا تنتقض برؤية المخالف مرة واحدة إلا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى حتى إذا كانت عادتها في الحيض خمسة وفي الطهر عشرين فطهرت خمسة عشر ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تصلي من أول الاستمرار خمسة تمام عادتها في الطهر وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تدع من أول الاستمرار خمسة وقد انتقلت عادتها في الطهر إلى خمسة عشر بالرؤية مرة واحدة فأما العادة الجعلية تنتقض برؤية المخالف مرة واحدة بالاتفاق لأنها أضعف من العادة الأصلية وثبوتها ما كان بسبب التكرار فكذلك انتقاضها لا يتوقف على وجود التكرار فيما يخالفها بخلاف العادة الأصلية.
ثم المبتدأة إذا رأت أطهارا مختلفة ودماء مختلفة فوقعت الحاجة إلى نصب العادة لها فالبناء على أوسط الأعداد عند محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى وعلى أقل المرتين الأخيرتين عند أبي عثمان رحمه الله تعالى وصاحبة العادة والمبتدأة في هذا الحكم سواء وقد تكون عادة المرأة في الحيض والطهر جميعا أصلية وقد تكون جعلية فيهما وقد تكون أصلية في أحدهما جعلية في الآخر بحسب ما يتفق وذلك كله ينبني على معرفة الأطهار الصحيحة والدماء الصحيحة.
فالطهر الصحيح على الإطلاق أن لا ينتقص عن أدنى مدته وأن لا تصلي المرأة في شيء منه بالدم فإن صلت في أول يوم منه بالدم ثم كان الطهر بعده خمسة عشر أو أكثر فهذا صالح لجعل ما بعده من الدم حيضا غير صالح لنصب العادة به وإن صلت في شيء منه بالدم ثم كان الطهر بعده دون خمسة عشر فهو غير صالح لنصب العادة ولا يجعل ما بعده حيضا.(3/340)
والدم الصحيح أن لا ينتقص عن أدنى مدته وأن يكون بين طهرين كاملين وبيان هذا أنه لو كانت عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرين فرأت الدم أحد عشر يوما ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم استمر بها الدم فنقول عشرة من أول ما رأت حيضها واليوم الحادي عشر أول طهرها فتصلي فيه بالدم ثم الطهر خمسة عشر فقد جاء الاستمرار وقد بقي من زمان طهرها أربعة فتصلي هذه الأربعة ثم تترك عشرة وتصلي عشرين.
وإن كان بعد طهر خمسة عشر رأت خمسة دما ثم طهرت خمسة عشر فهذه الخمسة تكون حيضا لها لأنه مرئي عقيب طهر خمسة عشر فيمكن جعله حيضا ولكن لا تنتقل عادتها في الطهر إلى خمسة عشر لأن الطهر الأول قد صلت في أول يوم منه بالدم فلا يصلح لنصب العادة.(3/341)
ص -173- ... ولو كانت رأت الدم أحد عشر ثم الطهر أربعة عشر ثم الدم خمسة ثم الطهر خمسة عشر ثم استمر فإن الخمسة لا تجعل حيضا لها لأنها غير مرئية عقيب طهر كامل بل بتلك الخمسة يتم طهرها ثم طهرت خمسة عشر فعشرة من ذلك مدة حيضها لم تر فيه ثم جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي من أول الاستمرار خمسة عشر ثم تدع عشرة وتصلي عشرين.
وأما بيان البناء على أوسط الأعداد أو على أقل المرتين الأخيرتين أن نقول امرأة حيضها خمسة وطهرها عشرون رأت الدم سبعة والطهر خمسة عشر والدم ستة والطهر سبعة عشر ثم استمر بها الدم فعلى قول من يقول بأوسط الاعداد تبني على ستة في الحيض وعلى سبعة عشر في الطهر لأن المعتبر أوسط الأعداد فيما رأت لا أوسط ما ترى وأوسط الأعداد في الحيض ستة لأن قبله كان خمسة وبعده كان سبعة وأوسط الأعداد في الحيض ستة لأن الطهر سبعة عشر فإنه كانت عادتها في الطهر عشرين وقد رأت مرة خمسة عشر فأوسط الأعداد سبعة عشر.
وعلى قول من يقول بأقل المرتين الأخيرتين إنما تبني على ستة في الحيض وخمسة عشر في الطهر لأنها أقل المرتين الأخيرتين فقد رأت مرة سبعة ومرة ستة وفي الطهر مرة سبعة عشر ومرة خمسة عشر فلهذا بنت في زمان الاستمرار على أقل المرتين الأخيرتين.
وأصل آخر: أنه متى كان لها عادة أصلية فوقعت الحاجة إلى نصب العادة لها برؤية أطهار مختلفة أو دماء مختلفة فينصب لها أوسط الأعداد على قول من يقول به وأقل المرتين على قول من يقول به مما يوافق العادة الأصلية فإنه يطرح المأخوذ ثم ينظر إلى أوسط الأعداد من الباقي أو إلى أقل المرتين فإن كان يوافق العادة الأصلية عرفت أنها باقية فتبني عليها الفساد وإن لم تكن موافقة للعادة الأصلية عرفت أن العادة الأصلية قد انتقضت والمطروح يصير عادة جعلية لها فتبني على ذلك في زمان الاستمرار.(3/342)
وبيانه: امرأة عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون طهرت ثلاثين يوما ثم رأت الدم عشرة ثم الطهر أربعين ثم الدم عشرة ثم الطهر خمسة عشر ثم الدم عشرة ثم الطهر عشرين ثم استمر فنقول أوسط الأعداد في الطهر عشرون لأنها رأت مرة ثلاثين ومرة أربعين ومرة خمسة عشر فأوسط الأعداد عشرون وهو موافق للعادة الأصلية فيطرح ذلك يبقي بعده خمسة عشر وثلاثون وأربعون فأوسط الأعداد ثلاثون فلم يكن موافقا للعادة الأصلية فعرفنا أن العادة الأصلية قد انتقضت به وإنما تبني في زمان الاستمرار على ما هو المطروح وهو دم عشرة وطهر عشرين.
ولو رأت الدم عشرة والطهر ثلاثين والدم عشرة والطهر خمسة عشر والدم عشرة والطهر عشرين ثم استمر فأوسط الأعداد في الطهر عشرون فيطرح ذلك يبقى بعده خمسة(3/343)
ص -174- ... عشر وثلاثون وما كان في الأصل عادة لها وذلك عشرون فأوسط الأعداد من ذلك عشرون فلما وافق أوسط الأعداد من الباقي بعد الطرح العادة الأصلية عرفنا أنها لم تنتقض فتبني عليها ما بعدها فحين طهرت ثلاثين فعشرون منها زمان طهرها وعشرة من حساب حيضها ثم رأت الدم عشرة وهو ابتداء طهرها ثم الطهر خمسة عشر عشرة تمام مدة طهرها وخمسة من حساب حيضها ثم الدم عشرة خمسة بقية مدة حيضها وخمسة من حساب طهرها ثم الطهر عشرين خمسة عشر بقية مدة طهرها وخمسة من حساب حيضها فجاء الاستمرار وقد بقي من مدة حيضها خمسة فتدع خمسة من أول الاستمرار ثم تصلي عشرين ثم تدع عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها.
والمسائل المخرجة على هذا الأصل كثيرة في السؤالات ومن أحكم الأصول فهما ودراية تيسر عليه تخريجها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب في التقدم والتأخر بالإفراد والشفوع
قال: رضي الله عنه: الأصل أن التقدم متى كان بفرد فإنها لا ترى في أيامها الأول ولا في أيامها الثواني ومتى كان التقدم بشفع فإنها ترى في أيامها الأول والثواني والتأخر متى كان بفرد فإنها لا ترى في أيامها الأول ولا الثواني ومتى كان بشفع فإنها لا ترى في أيامها الأول وترى في أيامها الثواني.
وبيان هذا امرأة حيضها ثلاثة من أول الشهر وطهرها سبعة وعشرون فرأت من أول الشهر يوما دما ويوما طهرا واستمر كذلك فإنها من أول الشهر حيض لأن ابتداءه وختمه كان بالدم إلى أن ينظر أن ختم هذا الشهر بماذا يكون فيأخذ دما وطهرا وذلك اثنان فيضربه فيما يوافق الشهر وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين وآخر المضروب طهر فعرفنا أنها وجدت أيامها في الشهر الثاني كما وجدت في الشهر الأول وهكذا في كل مرة.(3/344)
فإن تقدم بيوم بأن طهرت ستة وعشرين ثم رأت يوما دما ويوما طهرا فاليوم الأول تمام طهرها ثم كان أيامها ابتداؤه وختمه بالطهر فلم تجد أيامها في هذا الشهر فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف حكمها على ما ترى في الشهر الثاني وعند محمد رحمه الله تعالى تجعل ثلاثة من أول ما رأت حيضا لها بدلا عن أيامها وحكم انتقال العادة موقوف على ما ترى في المرة الثانية فانظر أن ختم الشهر الثاني بماذا يكون فخذ دما وطهرا وذلك اثنان فاضربه فيما يقارب أحدا وثلاثين وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين وآخره طهر ثم يوم دم تتم به مدة طهرها ثم استقبلها في المرة الثانية يوم طهر ويوم دم ويوم طهر فلم تجد في هذه المرة أيضا فانتقلت عادتها إلى موضع الإبدال لعدم الرؤية في أيامها مرتين.
فإن تقدم بشفع بأن طهرت خمسة وعشرين ثم رأت يوما دما ويوما طهرا واستمر(3/345)
ص -175- ... كذلك فقدم طهرها بيومين واستقبلها زمان الحيض يوم دم ويوم طهر ويوم دم فقد وجدت في هذه المدة إلى أن ينظر أن ختم الشهر بماذا يكون فتأخذ دما وطهرا وذلك اثنان فيضرب فيما يوافق اثنين وثلثين وذلك ستة عشر فيكون اثنين وثلاثين وآخره طهر ثم استقبلها في أيامها في الشهر الثاني دم يوم وطهر يوم ودم يوم فقد وجدت أيامها وهكذا تجد في كل مرة.
ثم تسير والمسألة في التقدم فردا أو شفعا إلى أن تقول طهرت ستة عشر يوما ثم رأت يوما دما ويوما طهرا كذلك فقد بقي من زمان طهرها أحد عشر فخذ دما وطهرا وذلك اثنان فاضربه فيما يقارب أحد عشر وذلك خمسة فتكون عشرة وآخره طهر ثم دم يتم به طهرها ثم استقبلها في أيامها طهر يوم ودم يوم وطهر يوم فلم تجد في أيامها في هذه المرة أيضا وانتقلت عادتها إلى موضع الإبدال لعدم الرؤية في أيامها مرتين ثم تجد ذلك في كل مرة.
فإن طهرت خمسة عشر ثم رأت يوما دما ويوما طهرا فقد بقي من طهرها اثني عشر فخذ دما وطهرا وذلك اثنان فاضربه فيما يوافق اثني عشر وذلك ستة فيكون اثني عشر وآخر المضروب طهر فاستقبلها في أيامها يوم دم ويوم طهر ويوم دم فقد وجدت في أيامها إلى أن ينظر أنها هل تجد في المرة الثانية فخذ دما وطهرا واضربه فيما يوافق اثنين وأربعين وذلك أحد وعشرون فيكون اثنين وأربعين وآخره طهر ثم استقبلها في أيامها دم يوم وطهر يوم ودم يوم فقد وجدت وهكذا تجد في كل مرة.(3/346)
فإن تأخر بيوم بأن طهرت ثمانية وعشرين ثم رأت يوما دما ويوما طهرا فنقول إنها لم تجد في هذه المرة أيامها فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تصلي إلى موضع حيضها الثاني وحكمها موقوف على ما ترى في المرة الثانية وعند محمد رحمه الله تعالى تجعل الثلاثة من أول ما رأت حيضا لها بدلا وحكم انتقال العادة موقوف على ما ترى في الشهر الثاني فخذ دما وطهرا واضربه فيما يقارب تسعة وعشرين وذلك أربعة عشر فيكون ثمانية وعشرين وآخره طهر ثم يوم دم به يتم طهرها فيستقبلها في الشهر الثاني طهر يوم ودم يوم وطهر يوم فلم تجد وانتقلت عادتها لعدم الرؤية مرتين إلى موضع الإبدال فتجد بعد ذلك في كل مرة.
فإن تأخر بيومين بأن طهرت تسعة وعشرين ثم رأت يوما دما ويوما طهرا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تصلي إلى موضع حيضها الثاني وعند محمد رحمه الله تعالى تدع من أول ما رأت ثلاثة بطريق البدل إلى أن ينظر أنها هل ترى في الشهر الثاني فيأخذ دما وطهرا وذلك اثنان ويضربه فيما يوافق ثمانية وعشرين وذلك أربعة عشر فيكون ثمانية وعشرين وآخره طهر ثم استقبلها في الشهر الثاني دم يوم وطهر يوم ودم يوم فقد وجدت في هذه المرة وهكذا تجد في كل مرة.(3/347)
ص -176- ... فإن رأت بعد طهرها سبعة وعشرين يومين دما ويوما طهرا واستمر كذلك فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى حيضها من أول ما رأت ثلاثة لأنه يرى ختم الحيض بالطهر وعلى قول محمد رحمه الله تعالى حيضها من أول ما رأت خمسة وطهرها خمسة وعشرون.
قال: الحاكم رحمه الله تعالى وهذا غير مطرد على أصل محمد رحمه الله تعالى غير أنه اضطر إلى هذا الجواب ومعنى هذا أن الإبدال زيادة على أيام عادتها لا يجوز عنده إلا أن يكون بين طهرين صحيحين لا استمرار فيهما ولم يوجد ذلك الشرط هنا ولكنه قال إنها لم تجد أيامها في المرة الأولى لأن ختم الثلاثة بالطهر وهكذا لا تجد في كل مرة وإذا أردت معرفة ذلك فخذ دما وطهرا وذلك ثلاثة واضربه فيما يوافق الشهر وذلك عشرة فيكون ثلاثين وآخره طهر ثم استقبلها في الشهر الثاني يومان دم ويوم طهر فلم تجد وهكذا لا تجد في كل مرة فلو لم نزد في أيامها أدى ذلك إلى أن لا تكون حائضا في شيء من عمرها مع رؤيتها الدم في أكثر عمرها وذلك لا يجوز فلهذه الضرورة زدنا في أيامها فجعلناها خمسة من أول ما رأت يومان دم ويوم طهر ويومان دم فهذه الخمسة حيضها وباقي الشهر طهرها خمسة وعشرون فتجد بعد ذلك في كل مرة.
وكان أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى يقول الأصح عندي أن يجعل حيضها أربعة لأن الزيادة على أيامها لأجل الضرورة وهذه الضرورة تندفع بزيادة يوم واحد ليكون ابتداء حيضها وختمه بالدم فلا يزاد أكثر من يوم واحد فكان حيضها أربعة.(3/348)
وكان أبو عبد الله الزعفراني رحمه الله تعالى يقول الأصح عندي أن يجعل حيضها ثلاثة أيام وساعة فإن الزيادة للضرورة فتتقدر بقدر الضرورة وترتفع هذه الضرورة بزيادة ساعة من أيام الدم فلا يزاد أكثر من ذلك فيكون حيضها ثلاثة أيام وساعة ولم يعتبر محمد رحمه الله تعالى شيئا من هذا لأن كل دور من الدم وذلك يومان في حكم شيء واحد لاتصال بعضه بالبعض فإذا وجب زيادة شيء منه يزاد كله فيجعل حيضها خمسة أيام من أول كل شهر.
فإن رأت يومين دما ويوما طهرا واستمر بها الدم فثلاثة أيام من حين استمر بها الدم حيض وما قبله استحاضة في قول محمد رحمه الله تعالى لأنا لو اعتبرنا من أول الرؤية كان ختم أيامها بالطهر فلا يجد بدا من أن يزيد في أيامها حيضها وإذا اعتبرنا من أول الاستمرار أمكن جعل الثلاثة حيضا لها من غير حاجة إلى الزيادة وإلغاء يومي دم ويوم طهر قبل الاستمرار أهون من الزيادة في أيامها فلهذا يلغي ذلك ويجعل حيضها من أول الاستمرار ثلاثة وكان الزعفراني رحمه الله تعالى يقول إنما يلغي من أول اليومين ساعة فيبقى يومان إلا ساعة دم ويوم طهر فيضم إليه ساعة من أول الاستمرار حتى تتم ثلاثة أيام ويمكن جعل هذه الثلاثة حيضا لأن ابتداءه وختمه بالدم والإلغاء لأجل الضرورة فإذا ارتفعت الضرورة بإلغاء ساعة لا يجوز إلغاء ثلاثة أيام.(3/349)
ص -177- ... فإن رأت بعد طهر سبعة وعشرين يوما دما ويومين طهرا واستمر كذلك فنقول إنها لم تجد أيامها في المرة الأولى لأن ختم الثلاثة كان بالطهر وهكذا لا تجد في كل مرة لما بينا أنه يستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان يستقبلها في الشهر الأول يوم دم ويومان طهر فلا بد من الزيادة في مدة حيضها فيجعل حيضها من أول ما رأت أربعة ليكون ابتداؤه وختمه بالدم والطهر في خلاله قاصر ثم طهرها بقية الشهر وذلك ستة وعشرون وعلى قول الزعفراني رحمه الله تعالى إنما يزاد ساعة واحدة من اليوم الرابع لأن الضرورة به ترتفع كما بينا والمسائل المخرجة على هذا الأصل كثيرة وفيما بيناه كفاية.
فإن كان حيضها عشرة أيام من أول الشهر وطهرها عشرين فطهرت ثلاثين يوما ثم استمر بها الدم فعشرة من أول الدم المستمر حيض عند محمد رحمه الله تعالى بطريق البدل لأنها لم تر في أيامها شيئا والإبدال بطريق الجر ممكن فإنا إذا أبدلنا هذه العشرة يبقى من زمان طهرها عشرة فيجر خمسة من أيام الحيض إلى باقي الطهر ليتم خمسة عشر فلهذا أبدل لها وقال تترك من أول الاستمرار عشرة ثم تصلي خمسة عشر ثم تترك خمسة ثم تصلي عشرين ثم تترك عشرة وتصلي عشرين.
وكذلك إن طهرت اثنين وثلاثين يوما لأنا إذا أبدلنا لها من أول الاستمرار عشرة يبقى من الطهر ثمانية فيجر من أيامها الثاني سبعة إليه ليتم خمسة عشر فإنه يبقى بعده ثلاثة أيام وذلك حيض تام فأما إذا طهرت اثنين وثلاثين فالآن لا يبدل لها من أول الاستمرار لأنا لو أبدلنا لها عشرة يبقى من زمان طهرها سبعة فلا يمكن أن يجر من الحيض الثاني إليه ما يتم به الطهر خمسة عشر لأن ذلك ثمانية والباقي بعدها يومان ويومان لا يمكن أن يجعل حيضا فلهذا لم يبدل لها ولكنه قال تصلي إلى موضع حيضها الثاني والله أعلم بالصواب
فصل في بيان التاريخ(3/350)
امرأة كان أيام حيضها عشرة وأيام طهرها عشرين ثم استمر بها الدم يوم الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وأربعمائة ثم جنت وبقيت كذلك مدة طويلة ثم أفاقت والدم مستمر كذلك فجاء اليوم وهو يوم الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وسبعين وأربعمائة إلى فقيه تستفتيه أنها حائض اليوم أم طاهر فإن كانت حائضا فهذا أول حيضها أو آخره وإن كانت طاهرا فكذلك.
فالسبيل لذلك الفقيه أن ينظر من تاريخ الاستمرار إلى يوم السؤال فيأخذ السنين الكوامل والشهور الكوامل والأيام التي لم تبلغ شهرا فيجعل السنين شهورا والشهور أياما ثم يطرح من الجملة العدد الناقص من الشهور فنقول من تاريخ الاستمرار إلى وقت السؤال ثلاث سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يوما فاجعل السنين شهورا بأن تضرب ثلاثة في اثني عشر فيكون ستة وثلاثين وتضم إليه ستة أشهر فيكون اثنين وأربعين يضرب ذلك في ثلاثين،(3/351)
ص -178- ... فيكون ألفا ومائتين وستين يضم إليه ثلاثة عشر يوما فيكون ألفا ومائتين وثلاثة وسبعين إلا أن في الأشهر كوامل ونواقص فاجعل النصف كوامل والنصف نواقص واطرح بعدد نصف الشهور من الجملة وذلك أحد وعشرون يوما يبقى ألف ومائتان واثنان وخمسون.
ثم انظر إلى ماله ثلث صحيح وعشر صحيح فاطرحه لأن دورها في كل ثلاثين عشرة حيض وعشرون طهر فألف وماتان وثلاثون تطرح من هذه الجملة يبقى اثنان وعشرون وليس له ثلث صحيح ولا عشر صحيح فعرفت أن عشرة من أول هذا الباقي حيضها واثني عشر طهرها فيقال لها قد بقي من مدة طهرك ثمانية فتصلي ثمانية إلا أنه يبقى فيه شبهة وهو أنه من الجائز أن عدد الكوامل من الشهور كان أقل وعدد النواقص كان أكثر.
فإن أردت إزالة هذه الشبهة فاحسبه بالأسابيع لأن كل أسبوع سبعة أيام من غير زيادة فإن وافق العدد بالأسابيع ما كان معك علمت أن النواقص والكوامل كانا سواء فإن فضل يوم علمت أن النواقص كان أكثر بشهر وإن انتقص يوم علمت أن الكوامل أكثر بشهر فانظر إلى ماله سبع صحيح فاطرحه من أصل الحساب ولألف ومائة وتسعين سبع صحيح يبقى اثنان وستون ولستة وخمسين سبع صحيح فاطرحه من الباقي بقي معك ستة.
فابتداء الاستمرار كان يوم الأحد ومنه إلى وقت السؤال خمسة أيام لأنها سألت يوم الخميس وقد فضل يوم فعلمت أن النواقص كان أكثر بشهر فاطرح من الباقي معك وذلك اثنان وعشرون واحدا بقي أحد وعشرون حيضها من ذلك عشرة وطهرها أحد عشر فيقال لها هذا يوم الحادي عشر من طهرك فصلي تسعة أيام تمام طهرك ثم اتركي عشرة وصلي عشرين وما كان من هذا الجنس تخرجه على هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل(3/352)
امرأة جاءت إلى فقيه فأخبرته عن طهر خمسة عشر يوما ولا تحفظ شيئا سوى ذلك فهذا لا يكفيها لنصب العادة ولا الاستئناف لتوهم الاستحاضة قبلها أو بعدها فيقال لها تذكري فإن لم تتذكر شيئا فحكمها حكم الضالة على ما يأتي بيانه في بابه فإن أخبرته عن طهر صحيح ودم صحيح ولا تحفظ شيئا آخر فهذا أيضا لا يكفيها لنصب العادة لتوهم الاستحاضة قبلها أو بعدها.
فإن قالت: اعلم أني لم أكن مستحاضة فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يكفيها لنصب العادة لأنه يرى انتقال العادة بالمرة الواحدة وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يكفيها لنصب العادة لأن عندهما لا تنتقل العادة بالمرة الواحدة.
فإن أخبرت عن دمين صحيحين وطهرين صحيحين متفقين وعلمت أنها لم تكن مستحاضة قبلهما ولا بعدهما فهذا يكفيها لنصب العادة ولا يكفيها للاستئناف لأن العادة تنتقل برؤية المخالف مرتين ولكن لا يكفيها للاستئناف لتوهم الطهر الطويل قبلهما أو بعدهما.(3/353)
ص -179- ... فإن أخبرت عن دمين صحيحين مختلفين في العدد وعن طهرين صحيحين مختلفين في العدد فعلى قول من يقول بأقل المرتين هذا يكفيها لنصب العادة ولكن لا يكفيها للاستئناف لتوهم الطهر الطويل وعلى قول من يقول بأوسط الأعداد هذا لا يكفيها لنصب العادة.
فإن أخبرت عن ثلاثة أطهار ودماء مختلفة فإن لم تعلم أنها هل كانت مستحاضة قبلها أو بعدها فهذا لا يكفيها لنصب العادة على قول من يقول بأوسط الأعداد لأن الخالص من هذه الثلاثة دمان وطهران وإن علمت أنها لم تكن مستحاضة قبلها ولا بعدها فهذا يكفيها لنصب العادة بالبناء على أوسط الأعداد ولا يكفيها للاستئناف لتوهم الطهر الطويل وعلى هذا القياس يخرج ما كان من هذا الوجه والله أعلم.
باب الإضلال
قال: وإذا كانت امرأة تحيض في كل شهر حيضة فاستحيضت وطبقت بين الفريقين ونسيت عدد أيامها وموضعها فإنها تبني على أكبر رأيها لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة كاستقبال القبلة فكما أن عند اشتباه أمر القبلة عليها تتحرى فكذا اشتباه حالها في الحيض والطهر عليها تتحرى.
فكل زمان يكون أكبر رأيها أنها حائض فيه تترك الصلاة وكل زمان أكثر رأيها على أنها فيه طاهرة تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك وكل زمان لم يستقر رأيها فيه على شيء بل تردد بين الحيض والطهر والدخول في الحيض فإنها تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك وكل زمان لم يستقر رأيها على شيء بل تردد رأيها فيه بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض فإنها تصلي فيه بالغسل لكل صلاة بالشك والقياس فيما إذا لم يكن لها رأي أن تغتسل في كل ساعة لأنه ما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض ولكن لو أخذنا بهذا كان فيه حرج بين فإنها لا تتفرغ عن الاغتسال لشغل آخر ديني أو دنيوي فأمرناها بالاغتسال لكل صلاة لهذا.(3/354)
وكان أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول هذا قياس أيضا والاستحسان أنها تغتسل لوقت كل صلاة وزعم أن هذا هو قول محمد رحمه الله تعالى لأن في أمرنا إياها بالاغتسال لكل صلاة من الحرج ما لا يخفى فكما أن في المستحاضة التي تعرف أيامها يقام الوقت مقام الصلاة حتى يكفيها في كل وقت وضوء واحد فكذلك في الاغتسال ولكن الأصح ما ذكر في الكتاب أنها تغتسل لكل صلاة لأن اعتبار الحرج فيما لا نص فيه بخلافه والأثر جاء هنا بالاغتسال لكل صلاة.
فإن حمنة بنت جحش رضي الله تعالى عنها لما استحيضت سبع سنين أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة فإن كانت فيه قد نسيت أيامها فهو نص وإن كانت تحفظ أيامها فلما أمرنا بالاغتسال لكل صلاة من حفظت أيامها فلمن نسيت أولى وبه أمر(3/355)
ص -180- ... حمنة بنت جحش وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وبه أمر سلمة بنت سهيل وكانت تحت أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه فشق عليها ذلك فأمرها أن تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ثم تصلي الظهر في آخر الوقت والعصر في أول الوقت بغسل واحد ثم تؤخر المغرب إلى آخر الوقت فتغتسل وتصلي المغرب في آخر الوقت والعشاء في أول الوقت بغسل واحد ثم تغتسل للفجر وبه أخذ إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى وتأويله عندنا أنها تذكرت أن خروجها من الحيض كان يكون في آخر هذه الأوقات.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى رفع فتوى إلى بن عباس رضي الله عنهما بعد ما كف بصره فدفعه إلي فقرأته عليه فإذا فيه إني امرأة من المسلمين ابتليت بالدم وقد سألت عليا رضي الله تعالى عنه فأمرني أن أغتسل لكل صلاة فقال وأنا أرى لها مثل ما رأى علي رضي الله تعالى عنه فلهذه الآثار أمرناها بالاغتسال لكل صلاة.
وكان أبو سهل: رحمه الله تعالى يقول تغتسل في وقت وتصلي ثم تغتسل في الوقت الثاني لأداء صلاة الوقت وتعيد ما صلت قبل هذا الوقت لتتيقن أداء أحدهما بصفة الطهارة لأن الاحتياط في باب العبادات واجب وإنما تصلي المكتوبات والسنن المشهورة لأنها تبع للمكتوبات شرعت لجبر النقصان المتمكن فيها وكذلك تصلي الوتر لأنها واجبة أو سنة مؤكدة ولا تصلي شيئا من التطوعات سوى هذا لأن أداء التطوع في حالة الطهر مباح وفي حالة الحيض حرام وما تردد بين المباح والبدعة لا يؤتى به فإن التحرز عن البدعة واجب وفيما تصلي تقرأ في كل ركعة آية واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وثلاث آيات عندهما قدر ما يتم به فرض القراءة.(3/356)
ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من يقول تقرأ الفاتحة في الأوليين من المكتوبة وفي السنن في كل ركعة لأن الفاتحة تعينت واجبة في حق العمل فلا تترك قراءتها ولا تقرأ السورة معها كما لا تقرأ خارج الصلاة آية تامة من القرآن لأن ما تردد بين السنة والبدعة لا يؤتى به.
وكذلك لا تمس المصحف ولا تدخل المسجد لأنها في كل وقت على احتمال أنها حائض وليس للحائض مس المصحف ولا دخول المسجد ولا قراءة آية تامة من القرآن فإن سمعت سجدة فسجدت كما سمعت سقطت عنها لأنها إن كانت طاهرة فقد أدت ما لزمها وإن كانت حائضا فلا تجب السجدة على الحائض بالسماع وإن سجدت بعد ذلك يلزمها أن تعيدها بعد عشرة أيام لجواز أن سماعها كان في حالة الطهر فلزمتها السجدة ثم أدت في حالة الحيض فلا تسقط عنها فإذا أعادت بعد عشرة أيام تيقنت أن إحداهما كانت في حالة الطهر.
وإن حجت فلا تأتي بطواف التحية أصلا لأنه سنة وما تردد بين السنة والبدعة لا يؤتى به فأما طواف الزيارة فركن الحج لا بد أن تأتي به ثم تعيده بعد عشرة أيام لتتيقن أن أحدهما(3/357)
ص -181- ... حصل في حالة الطهر فتتحلل به بيقين وتأتي بطواف الصدر ثم لا تعيده لأن طواف الصدر واجب على الطاهر دون الحائض فإن كانت حائضا فليس عليها ذلك وإن كانت طاهرة فقد أتت به.
ولا يطؤها زوجها لأن الوطء لاتتحقق فيه الضرورة ولكنه اقتضاء للشهوة وهو حرام في حالة الحيض
وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى للزوج أن يتحرى ويطأها بالتحري لأنه حقه في حالة الطهر وزمان الطهر أكثر من زمان الحيض وعند غلبة الحلال يجوز التحري كالمساليخ إذا اختلطت والحلال غالب على الميتة ولكن هذا غير صحيح فإن التحري في باب الفروج لا يجوز نص عليه في كتاب التحري في الجواري وإنما التحري فيما يحل تناوله بالإذن دون الملك.
ولا تفطر في شيء من شهر رمضان ثم بعد مضي شهر رمضان يلزمها قضاء أيام الحيض وأكثر ما كان حيضها في الشهر عشرة أيام سواء كان الشهر كاملا أو ناقصا لأن باقي الشهر بعد أيام الحيض طهر فإن انتقص الشهر فظهور ذلك النقصان في الطهر لا في الحيض.
ثم المسألة على ثلاثة أوجه إما أن تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار أو لا تتذكر شيئا من ذلك.
فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل فعليها قضاء عشرين يوما لأن أكثر ما فسد صومها فيه في الشهر عشرة وربما وافق ابتداء حيضها ابتداء القضاء فلا يجزيها صومها في عشرة أيام ثم يجزيها في عشرة أخرى فإذا صامت عشرين يوما خرجت مما عليها من القضاء بيقين.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فعليها أن تصوم اثنين وعشرين يوما احتياطا لأن أكثر ما فسد صومها فيه في الشهر أحد عشر يوما فإن ابتداء الحيض إذا كان من عند طلوع الشمس فتمام عشرة أيام في مثل هذا الوقت من اليوم الحادي عشر فيفسد صومها فيه ثم عليها قضاء ضعف ذلك لجواز أن ابتداء القضاء وافق أول يوم من حيضها فلا يجزيها الصوم في أحد عشر ثم يجزيها في أحد عشر أخرى.(3/358)
وإن كانت لا تدري أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار فأكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون يلزمها قضاء عشرين يوما لأن الحيض لا يكون أكثر من عشرة وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول تقضي اثنين وعشرين يوما لتوهم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار والاحتياط في باب العبادات واجب ويستوي إن قضت موصولا بالشهر أو مفصولا عنه وهذا كله إذا علمت أن دورها كان يكون في كل شهر وإن لم تعرف ذلك أيضا فعليها الأخذ بالاحتياط فلا تفطر في شيء من الشهر.(3/359)
ص -182- ... وعليها إن كانت تعرف أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل قضاء خمسة عشر يوما لأن من الجائز أن حيضها كان عشرة وطهرها خمسة عشر يوما فإنما فسد صومها في خمسة عشر يوما إما عشرة من أول الشهر وخمسة من آخره أو خمسة من أول الشهر بقية حيضها وعشرة من آخر الشهر فإذا عرفنا أن عليها قضاء خمسة عشر يوما فإما أن تقضي موصولا بالشهر أو مفصولا عنه فإن قضت موصولا فعليها أن تقضي خمسة وعشرين يوما لأنه إن كان فسد صومها من أول الشهر عشرة ومن آخر الشهر خمسة فيوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه ثم تصوم بعده تسعة عشر يوما فلا يجزيها في أربعة أيام بقية حيضها ثم يجزيها في خمسة عشر وإن كان إنما فسد من آخر الشهر عشرة فيوم الفطر أول يوم من طهرها لا تصوم فيه ثم يجزيها الصوم في أربعة عشر يوما ثم لا يجزيها في عشرة ثم يجزيها في يوم آخر فمن هذا الوجه عليها أن تصوم خمسة وعشرين يوما ومن الوجه الأول تسعة عشر فتحتاط وتصوم خمسة وعشرين وكذلك إن قضت مفصولا فإنما تقضي خمسة وعشرين يوما لتوهم أن ابتداء القضاء وافق أول يوم من حيضها فلا يجزيها الصوم في عشرة أيام ثم يجزيها في خمسة عشر يوما.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فأكثر ما فسد من صومها في الشهر ستة عشر يوما إما أحد عشر من أوله وخمسة من آخره أو خمسة من أول الشهر بقية الحيض وأحد عشر من آخره وإما أن تقضي ذلك موصولا برمضان أو مفصولا عنه فإن قضت موصولا فعليها أن تصوم اثنين وثلاثين يوما لأنه إن كان أول الشهر ابتداء حيضها فيوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه ثم لا يجزئها الصوم بعده في خمسة أيام ويجزئها في أربعة عشر يوما ثم لا يجزئها في أحد عشر يوما ثم يجزئها في يومين فتكون الجملة اثنين وثلاثين.(3/360)
وإن كان ابتداء شوال أول طهرها بأن كان ختم حيضها في آخر رمضان فلا تصوم في يوم العيد ثم يجزئها الصوم بعده في ثلاثة عشر يوما ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في ثلاثة فتكون الجملة سبعة وعشرين فمن هذا الوجه عليها قضاء سبعة وعشرين يوما ومن الوجه الأول عليها قضاء اثنين وثلاثين فتأخذ بالاحتياط وتصوم اثنين وثلاثين لتخرج مما عليها بيقين وإن قضت مفصولا فعليها قضاء ثمانية وثلاثين لأنه يتوهم أن يوافق ابتداء القضاء أول يوم من حيضها فلا يجزئها الصوم في أحد عشر يوما ثم يجزئها في أربعة عشر ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يومين فتكون الجملة ثمانية وثلاثين يوما فإذا صامت هذا المقدار تيقنت بجواز صومها في ستة عشر يوما وذلك القدر كان واجبا عليها.
وإن كانت لا تدري أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار أو بالليل فعلى قول عامة مشايخنا رحمهم الله تعالى تصوم خمسة وعشرين يوما وعلى قول الفقيه أبي جعفر رحمه الله تعالى تأخذ بأحوط الوجهين فإن قضت موصولا بالشهر صامت اثنين وثلاثين(3/361)
ص -183- ... يوما وإن قضت مفصولا عن الشهر صامت ثمانية وثلاثين يوما وهذا كله إذا كان شهر رمضان كاملا فإن كان ناقصا فالواجب عليها قضاء خمسة عشر يوما لأنا تيقنا بجواز صومها في أربعة عشر فيتعين للفساد خمسة عشر فإذا أرادت القضاء صامت سبعة وثلاثين يوما لأن من الجائز أن يوافق ابتداء صومها ابتداء حيضها فلا يجزئها في أحد عشر يوما بأن كان حيضها بالنهار ويجزئها في أربعة عشر ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يوم فجملة ذلك سبعة وثلاثون يوما فلهذا صامت هذا القدر لتخرج مما عليها بيقين.
ولو وجب على هذه المرأة صوم شهرين متتابعين في كفارة القتل أو في كفارة الفطر بأن كانت أفطرت قبل هذه الحالة إذ في هذه الحالة لا تلزمها الكفارة لتمكن الشبهة في كل يوم بالتردد بين الحيض والطهر ثم هذا على وجهين إما أن كانت تعلم أن حيضها كان يكون في كل شهر أو لا تعلم ذلك وكل وجه على وجهين أما إن كانت تعلم أن ابتداء حيضها بالليل أو بالنهار أولا تعلم ذلك.
فأما الفصل الأول وهو ما إذا كان دورها في كل شهر فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل فعليها أن تصوم تسعين يوما لأن الواجب عليها صوم ستين يوما متتابعة فمن كل ثلاثين يتيقن بجواز صومها في عشرين فإذا صامت تسعين يوما تيقنت بجواز صومها في ستين يوما فتسقط به الكفارة عنها.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فعليها أن تصوم مائة يوم وأربعة أيام لجواز أن يكون ابتداء صومها يوافق ابتداء حيضها فلا يجزئها في أحد عشر يوما ثم يجزئها في تسعة عشر يوما ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في تسعة عشر ثم في الشهر الثالث كذلك فيبلغ العدد تسعين يوما وإنما جاز صومها منه في سبعة وخمسين ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في ثلاثة تتمة ستين فبلغ عدد الجملة مائة يوم وأربعة أيام فلهذا صامت هذا المقدار.(3/362)
وإن كانت لا تدري أن حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار فعلى قول أكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى تصوم تسعين يوما وعلى ما ذكره الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى تأخذ بأحوط الوجهين فتصوم مائة وأربعة أيام.
وأما الفصل الثاني وهو ما إذا كانت لا تدري أن دورها في كم يكون فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل فعليها أن تصوم مائة يوم لأن من كل خمسة وعشرين يتيقن بجواز صومها في خمسة عشر بأن كان حيضها عشرة وطهرها خمسة عشر فإذا صامت مائة يوم جاز صومها في ستين يوما بيقين فتسقط عنها الكفارة به.
وإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فعليها أن تصوم مائة وخمسة عشر يوما لأن من الجائز أن يوافق ابتداء الصوم ابتداء الحيض فلا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في(3/363)
ص -184- ... أربعة عشر ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في أربعة عشر فيبلغ العدد مائة وإنما جاز صومها في ستة وخمسين يوما ثم لا يجزئها في أحد عشر يوما ثم يجزئها في أربعة من أربعة عشر يوما تتمة ستين فبلغ مائة وخمسة وعشرين وإنما جاز صومها فيه في ستين يوما.
وإن كانت لا تدري كيف كان ابتداء حيضها فهو على الاختلاف الذي بينا ولو وجب عليها صوم ثلاثة أيام في كفارة يمين.
فإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل فعليها أن تصوم خمسة عشر يوما لأنه إن وافق ابتداء صومها ابتداء الحيض لم يجزئها في عشرة ثم يجزئها في ثلاثة بعدها وذلك ثلاثة عشر فإن كانت حين افتتحت الصوم بقي من طهرها يوم أو يومان جاز صومها فيهما ثم لم يجز في عشرة وانقطع به التتابع فإن صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين متتابعة وعذر الحيض فيه لا يكون عفوا لأنها تجد ثلاثة أيام خالية عن الحيض بخلاف الشهرين وقد بينا هذا في كتاب الصوم فعليها أن تحتاط بصوم خمسة عشر يوما حتى إذا كان الباقي من طهرها يومين حين افتتحت الصوم لم يجزها صومها فيهما عن الكفارة لانقطاع التتابع في العشرة بعدهما لعذر الحيض وجاز صومها في ثلاثة بعدها فكانت الجملة خمسة عشر يوما وإن شاءت صامت ثلاثة أيام ثم بعد عشرة أيام تصوم ثلاثة أيام أخرى فتيقن أن إحدى الثلاثتين وافقت زمان طهرها وجاز صومها فيها عن الكفارة.(3/364)
وإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فعليها أن تصوم ستة عشر يوما لأن من الجائز أن الباقي من طهرها حين افتتحت الصوم يومان فلا يجزيها الصوم فيهما عن الكفارة لانقطاع التتابع ثم لا يجزيها في أحد عشر يوما بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام فتكون الجملة ستة عشر يوما صامت ثلاثة أيام ثم أفطرت أحد عشر ثم صامت ثلاثة أيام فتيقن أن إحدى الثلاثتين في زمان طهرها فيجزيها وعلى هذا قال في قضاء رمضان أيضا إذا كان الواجب عليها قضاء عشرة أيام بأن كان دورها في كل شهر فإن شاءت صامت عشرين يوما كما بينا وإن شاءت صامت عشرة أيام في شهر ثم في شهر آخر عشرة أخرى سوى العشرة الأولى لتتيقن أن إحدى العشرتين موافق زمان طهرها.
وكذلك إن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون في كل شهر ثلاثة أو أربعة فعليها بعد مضي رمضان قضاء ضعف عدد أيامها وإن شاءت صامت عدد أيامها في عشر من شهر ثم في شهر آخر صامت مثل ذلك في عشر آخر لتتيقن أن إحداهما موافق زمان طهرها فيجزيها من القضاء إلا أنا لم نشتغل بهذا في قضاء رمضان لأنه ليس فيه تخفيف عليها بنقصان العدد وبيناه في صوم كفارة اليمين لأن التخفيف فيه يتحقق ولو وجب عليها قضاء صلاة تركتها في زمان طهرها صلت تلك الصلاة بعد الاغتسال ثم أعادتها بعد عشرة أيام لتخرج مما عليها بيقين فإن أحد الوقتين زمان طهرها بيقين.(3/365)
ص -185- ... ولو أن هذه المرأة طلقها زوجها بعد الدخول بها فعلى قول أبي عصمة سعد بن معاذ رضي الله عنه لا تنقضي عدتها في حكم التزوج بزوج آخر أبدا لما بينا أنه لا يقدر أكثر الطهر بشيء فإن التقدير بالرأي لا يجوز.
وعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى إذا مضى من وقت الطلاق تسعة عشر شهرا وعشرة أيام غير أربع ساعات يجوز لها أن تتزوج لأنه يقدر أكثر مدة الطهر بستة أشهر غير ساعة كما بينا ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة وذلك عشرة أيام غير ساعة ثم بعد ثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر غير ساعة وثلاثة حيض كل حيضة عشرة أيام فإذا جمعت الكل بلغ تسعة عشر شهرا وعشرة أيام غير أربع ساعات فيحكم بانقضاء عدتها بهذه المدة ولها أن تتزوج بعدها.
وعلى قول من يقدر مدة الطهر في حقها بتسعة وعشرين يوما كما بينا تتزوج بعد أربعة أشهر ويوم واحد غير ساعة لأن من الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها فلا تحسب هذه الحيضة من العدة وهو عشرة أيام غير ساعة ثم بعد ثلاثة أطهار كل طهر سبعة وعشرين يوما وثلاث حيض كل حيضة عشرة فيبلغ عدد الجملة مائة وواحدا وعشرين يوما غير ساعة فلهذا كان لها أن تتزوج بعد هذه المدة.
فأما في حكم انقطاع الرجعة فإذا مضى تسعة وثلاثون يوما من وقت الطلاق انقطعت الرجعة لأن بابها مبني على الاحتياط ومن الجائز أن حيضها كان ثلاثة وطهرها خمسة عشر وكان وقوع الطلاق في آخر جزء من أجزاء طهرها فتنقضي عدتها بتسع وثلاثين يوما فلهذا حكمنا بانقطاع الرجعة بهذا القدر احتياطا وهو نظير ما قلنا في امرأة تحفظ أيامها طهرت من الحيضة الثالثة وأيامها دون العشرة فاغتسلت بسؤر الحمار انقطعت به الرجعة ولا تحل للأزواج ما لم تتيمم معه أو تصلي بعد التيمم.(3/366)
ولو أن هذه المبتلاة كانت أمة فاشتراها إنسان فمدة استبرائها على قول أبي عصمة رحمه الله تعالى لا تقدر بشيء لما بينا وعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى تقدر بستة أشهر وعشرين يوما غير ساعتين لجواز أن الشراء كان بعد ما مضى من حيضها ساعة فلا تحسب هذه الحيضة من الاستبراء وهو عشرة أيام إلا ساعة ثم بعده طهر ستة أشهر إلا ساعة ثم بعده الحيض عشرة أيام فتكون الجملة ستة أشهر وعشرين يوما غير ساعتين يستبرئها بها.
وإنما هذا كالبناء على قول من يجوز وطأها بالتحري لأن المقصود من الاستبراء استباحة الوطء
فأما على قول من لا يبيح وطأها أصلا وهو الأصح فلا حاجة إلى هذا التكلف وما كان من أحكامها فعلى هذا الوجه تخريجه والله أعلم.(3/367)
ص -186- ... فصل في اضلال عدد في عدد
فإن سأل سائل عن امرأة أضلت أيامها فيما هو دونها من العدد فهذا محال بأن قال أيامها عشرة فاضلت ذلك في أسبوع لأن العشرة لا توجد في الأسبوع فكيف تضل فيه وكذلك لو قال أضلت في مثلها من العدد فهو محال أيضا بأن قال أيامها سبعة فأضلت ذلك في أيام الجمعة لأنها واجدة عالمة بحالها وإن قال أضلت أيامها فيما هو فوقها من العدد فالسؤال مستقيم.
ثم الأصل فيه: أن كل زمان يتيقن فيه بالحيض تترك الصلاة والصوم ولا يأتيها زوجها فيه بيقين وكل زمان تيقنت فيه بالطهر تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين ولا يأتيها زوجها فيه وكل زمان تردد بين الحيض والطهر تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها فيه وكل زمان تردد بين الحيض والطهر والخروج من الحيض تصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها فيه.
وأصل: آخر أنها متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر من الضعف فلا يتيقن بالحيض في شيء منه نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثة فضلت ذلك في ستة أو ثمانية لأنها لا تتيقن بالحيض في شيء من أوله وآخره ومتى ضلت أيامها فيما دون ضعفه يتيقن بالحيض في بعضه نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثة فضلت ذلك في خمسة فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث فإنه أول الحيض أو آخره أو الثاني منه بيقين فتترك الصلاة فيه.(3/368)
لهذا إذا عرفنا هذا جئنا إلى بيان المسائل فنقول إن كانت تعلم أن أيامها كانت ثلاثة في العشر الآخر من الشهر ولا تدري في أي موضع من العشر كانت ولا رأي لها في ذلك فهذه أضلت أيامها في أكثر من ضعفها فتصلي ثلاثة أيام من أول العشر بالوضوء لوقت كل صلاة لأنه تردد حالها في هذه المسألة بين الحيض والطهر ثم بعد ذلك تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض إلا أنها إن كانت تذكر أن خروجها من الحيض في أي وقت من اليوم كان يكون تغتسل في كل يوم في ذلك الوقت مرة وإن كانت لا تعرف ذلك تغتسل لكل صلاة.
فإن كانت أيامها أربعة فأضلت ذلك في العشرة فإنها تتوضأ أربعة أيام من أول العشرة لوقت كل صلاة لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم بعد ذلك تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشرة لأنه تردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
وإن كانت أيامها خمسة فأضلت ذلك في عشرة فإنها تصلي خمسة أيام من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تصلي إلى آخر العشرة بالاغتسال لكل صلاة لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
فإن كانت أيامها ستة فأضلت ذلك في عشرة فإنها تصلي من أول العشرة أربعة أيام(3/369)
ص -187- ... بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع يومين ثم تصلي في أربعة أيام بالاغتسال لكل صلاة لأن الأربعة الأولى ترددت بين الحيض والطهر فأما اليوم الخامس والسادس فهو حيض بيقين لأنه إن كانت أيامها من أول العشر فهذا آخر حيضها وإن كانت من آخر العشر فهذا أول حيضها فلهذا تركت الصلاة فيهما بيقين ثم في الأربعة الأواخر تردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض فتصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة.
وإن كانت أيامها سبعة فأضلت ذلك في عشرة فإنها تصلي ثلاثة من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع أربعة بيقين لأن هذه الأربعة فيها يقين الحيض فإنها آخر الحيض إن كانت البداية من أول العشرة وأول الحيض إن كانت أيامها في آخر العشرة ثم تصلي ثلاثة أيام بالاغتسال لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
وإن كانت أيامها ثمانية فأضلت ذلك في عشرة فإنها تصلي في يومين من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع الصلاة ستة لأن فيها يقين الحيض ثم تصلي في اليومين الآخرين بالاغتسال لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
فإن كانت أيامها تسعة فأضلتها في عشرة فإنها تصلي في يوم من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع الصلاة ثمانية أيام لأن فيها يقين الحيض ثم تصلي في اليوم الآخر بالاغتسال لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
فإن كانت أيامها عشرة فهي واجدة لأن إضلال العشرة في العشرة لا يتحقق.(3/370)
فإن كانت تذكر أنها كانت تطهر في آخر الشهر ولا تدري كم كانت أيامها توضأت إلى تمام سبعة وعشرين يوما من الشهر ثم أمسكت عن الصلاة ثلاثة أيام ثم اغتسلت غسلا واحدا وهذا الجواب صحيح لكن فيه بعض الإبهام فإنه لم يميز وقت التيقن بالطهر من وقت الشك وتمام الجواب في أن نبين ذلك فنقول إلى عشرين من الشهر لها يقين الطهر فتتوضأ فيها لوقت كل صلاة ويأتيها زوجها ثم في سبعة أيام بعد ذلك تردد حالها بين الحيض والطهر فإن كان حيضها ثلاثة فهذه السبعة من جملة الطهر وإن كان حيضها عشرة فهذه السبعة من جملة حيضها فتصلي فيها بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها ثم في ثلاثة أيام تتيقن بالحيض فتترك الصلاة فيها ووقت الخروج من الحيض معلوم لها وهو عند انسلاخ الشهر فاغتسلت عند ذلك غسلا واحدا.
فإن كانت تذكر أنها كانت ترى الدم إذا جاوزت عشرين يوما ولا تدري كم كانت أيامها فإنها تدع بعد العشرين الصلاة ثلاثة أيام بيقين لأن الحيض لا يكون أقل منها. ثم(3/371)
ص -188- ... تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض وتعيد صوم هذا العشر في عشر آخر من شهر آخر لأن فيها يقين الطهر وهذا الجواب مستقيم إذا كانت تعلم أن ابتداء رؤية الدم كان بعد مجاوزة العشرين.
فأما إذا كانت تعلم أنها كانت ترى الدم يوم الحادي والعشرين ولا تتذكر سوى ذلك شيئا فالجواب أنها تتيقن بالطهر إلى الحادي والعشرين من الشهر فتصلي فيها بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين ويأتيها زوجها ثم تصلي في تسعة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر فمن الجائز أن اليوم الحادي والعشرين آخر حيضها وأيامها عشرة ولا يأتيها زوجها فيه لتردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
وإن كانت تستيقن أنها كانت ترى الدم بعد ما مضى سبعة عشر من الشهر ولا تدري كم كانت أيامها فقد ذكر في بعض نسخ الحيض أنها تدع ثلاثة أيام بعد ستة عشر لأن فيها يقين الحيض والطهر والخروج من الحيض ثم تصلي في سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لأن فيه تردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض ولكن تأويل هذا أنها كانت تذكر أن ابتداء حيضها كان يكون بعد سبعة عشر وفي عامة النسخ قال إنها تصلي بالوضوء ثلاثة أيام ثم بالاغتسال سبعة أيام وهذا الذي ذكره الحاكم في المختصر وقال إنما خالف بين الجواب في هذه والجواب في الأولى لأنها لا تعلم أن حيضها كان متصلا بمضي سبعة عشر من الشهر وإنما تعلم كونه في العشرة التي بعدها.(3/372)
فإذا كان موضوع المسألة هذا فهذه امرأة أضلت أيامها في العشرة بعد سبعة عشر من الشهر ولا تدري كم كانت أيامها فأقلها ثلاثة بيقين وقد بينا فيمن أضلت ثلاثة في عشرة أنها تتوضأ لوقت كل صلاة وإذا كان على المستحاضة صلوات فائتة ولا تذكر شيئا من أمرها فإنها تقضي ما عليها في يوم إن قدرت عليه وإن لم تقدر ففي يومين بالاغتسال لكل صلاة ثم تعيدها بعد مضي عشرة أيام في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لتتيقن بالأداء في زمان الطهر في إحدى المرتين.
فإن كانت تذكر أنها ترى الدم يوم الحادي عشر في الشهر ولا تذكر أوله وآخره فإنها تتوضأ إلى الحادي عشر بيقين الطهر ويأتيها زوجها فيه ثم تتوضأ لوقت كل صلاة في تسعة أيام بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع اليوم الحادي والعشرين ثم تغتسل في تسعة أيام لكل صلاة بالشك لا يأتيها زوجها فيه لتردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض.
وإن كانت تعلم أنها كانت تحيض في كل شهر مرة في أوله أو في آخره ولا تدري كم كان حيضها ولا تدخل شهرا في شهر فإنها تتوضأ من أول الشهر ثلاثة أيام لوقت كل صلاة لتردد حالها في هذه الثلاثة بين الحيض والطهر ولا يأتيها زوجها ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض ولا يأتيها زوجها أيضا ثم(3/373)
ص -189- ... تتوضأ إلى آخر الشهر ولم يميز في هذا الجواب الزمان الذي فيه يقين الطهر ولا بد من ذلك فنقول في العشر الأوسط تتوضأ لوقت كل صلاة لأنها تتيقن بالطهر فيها ويأتيها زوجها وفي العشر الأواخر تتوضأ لوقت كل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ولا يحتمل الخروج من الحيض في هذه العشرة إنما تردد حالها بين الحيض والطهر والدخول في الحيض لأنه لو تصور الخروج من الحيض في هذه العشرة كان فيه إدخال شهر في شهر وقد نصت على أنها كانت لا تدخل شهرا في شهر فلهذا تتوضأ في العشرة لوقت كل صلاة ثم تغتسل مرة واحدة لاحتمال خروجها من الحيض لتمام الشهر إن كان حيضها في هذه العشرة الأخيرة.
فإن كانت تعرف أنها كانت ترى الدم عشرة أيام من الشهر ولا تدري أوله وآخره فإنها تتوضأ من أول الشهر إلى تمام العشرة لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل مرة ثم تتوضأ وتصلي إلى آخر الشهر ولكن في العشر الأوسط يقين الطهر فتتوضأ لوقت كل صلاة بيقين ويأتيها زوجها وفي العشر الآخر تتوضأ لوقت كل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل مرة واحدة لاحتمال خروجها من الحيض عند تمام الشهر إن كان حيضها العشر الآخر.
فإن كانت تعلم أن أيامها خمسة وأنها كانت ترى الدم في اليوم العشرين من الشهر ولا تحفظ شيئا سوى هذا فمن أول الشهر إلى تمام خمسة عشر تصلي بالوضوء لوقت كل صلاة باليقين ويأتيها زوجهالأنها تتيقن بالطهر فيها ثم في أربعة أيام تتوضأ لوقت كل صلاة بالشك ولا يأتيها زوجها
لتردد حالها بين الحيض والطهر وفي اليوم العشرين تترك بيقين وتغتسل بعدها أربعة أيام بالشك لأن كل ساعة من هذه الأربعة الأيام فيها توهم خروجها من الحيض.(3/374)
قال: وإذا كانت لها أيام معلومة من كل شهر فانقطع عنها الدم أشهرا ثم عاودها واستمر بها وقد نسيت أيامها فإنها تمسك عن صلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار لأنها يتيقن فيها بالحيض فإن عادتها في الموضع قد انتقلت بعدم الرؤية مرتين أو أكثر فأول عادتها من وقت الاستمرار وتتيقن بالحيض في ثلاثة أيام فتترك الصلاة فيها ثم تغتسل لكل صلاة في سبعة أيام لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض وتتوضأ عشرين يوما لوقت كل صلاة لأنها تتيقن فيها بالطهر ويأتيها زوجها وذلك دأبها.
وتأويل هذه المسألة: إذا كانت تعلم أن دورها في كل شهر وأنها كانت لا تدخل شهرا في شهر فإن كانت لا تعرف ذلك فلم يتعرض لهذا الفصل في الكتاب ولا بد من بيانه فنقول هو على ثلاثة أوجه إما أن كانت لا تدري كم كان حيضها وطهرها أو كانت تذكر مقدار طهرها ولا تذكر مقدار حيضها أو كانت تذكر مقدار حيضها ولا تذكر مقدار طهرها.
فأما الفصل الأول فنقول أنها تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام بيقين ثم تصلي(3/375)
ص -190- ... سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين ويأتيها زوجها فيها لأنها بيقين الطهر في هذه الثمانية فإنه إن كان حيضها ثلاثة أيام فهذا آخر طهرها وإن كان حيضها عشرة فهذا أول طهرها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ولا يأتيها زوجها فبلغ الحساب أحدا وعشرين ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لكل صلاة بالشك لأنه لم يبق لها يقين بالطهر ولا بالحيض بعد هذا فما من ساعة بعد هذا إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض إما بالزيادة في حيضها على الثلاثة أو في طهرها على خمسة عشر.
وأما الفصل الثاني وهو: إذا علمت أن طهرها خمسة عشر ولا تدري كم حيضها فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام ثم تغتسل سبعة أيام بالشك ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء بيقين ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك فبلغ الحساب أحدا وعشرين ولو كان حيضها ثلاثة فابتداء طهرها بعد أحد وعشرين وإن كان حيضها عشرة فابتداء طهرها الثاني بعد خمسة وثلاثين ففي هذه الأربعة عشر تصلي بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض ثم تصلي يوما واحدا بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين وذلك بعد ما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين يوما لأن في هذا اليوم يقين الطهر ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة أبدا لأنه لم يبق لها يقين في شيء بعدها فما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض.(3/376)
وأما الفصل الثالث وهو: ما إذا كانت تعلم أن حيضها ثلاثة ولا تدري كم كان طهرها فإنها تدع ثلاثة من أول الاستمرار بيقين ثم تصلي خمسة عشر يوما بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين ويأتيها زوجها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر فإذا بلغ الحساب أحدا وعشرين فبعد ذلك تغتسل لكل صلاة أبدا لأنه لم يبق لها يقين في شيء وما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض فتغتسل لكل صلاة ولا يأتيها زوجها.
وإن كانت تذكر أن طهرها خمسة عشر وتردد رأيها في الحيض بين الثلاثة والأربعة فإنها تترك من أول الاستمرار ثلاثة ثم تغتسل غسلا واحدا ثم تصلي في اليوم الرابع بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ثم تغتسل عند مضي اليوم الرابع مرة أخرى ثم تصلي بالوضوء أربعة عشر يوما باليقين فبلغ الحساب ثمانية عشر ثم تصلي في اليوم التاسع عشر بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع اليوم العشرين والحادي والعشرين بيقين ثم تغتسل وتصلي اليوم الثاني والعشرين بالوضوء بالشك ولا تغتسل في اليوم الثالث والعشرين وتغتسل عند تمام الثالث والعشرين لأنه إن كان حيضها ثلاثة فأوان خروجها(3/377)
ص -191- ... من الحيضة الثانية عند تمام الحادي والعشرين وإن كان حيضها أربعة فأوان خروجها من الحيضة الثانية عند تمام الثالث والعشرين فلهذا تغتسل عند ذلك ثم تصلي ثلاثة عشر يوما بالوضوء لوقت كل صلاة باليقين فبلغ الحساب ستة وثلاثين ثم تصلي في يومين بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ثم تدع يوما واحدا لأن هذا اليوم آخر حيضها إن كان حيضها ثلاثة وأول حيضها إن كان حيضها أربعة فتتيقن فيه بالحيض فبلغ الحساب تسعة وثلاثين ثم تغتسل لجواز أن هذا وقت خروجها من الحيض ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها بين الحيض والطهر فبلغ الحساب اثنين وأربعين ثم تغتسل لأن هذا أوان خروجها من الحيض إذا كانت أيامها أربعة ثم تصلي اثني عشر يوما بالوضوء لوقت كل صلاة باليقين لأنها تتيقن بالطهر فيها فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثم تصلي بعد ذلك ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ثم تغتسل مرة أخرى ولم يبق لها يقين الترك في شيء بعد أربعة وخمسين فنسوق المسألة هكذا ونأمرها بالاغتسال في كل وقت يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض إلا أن لا يبقى لها يقين الطهر في شيء أيضا فحينئذ تغتسل لكل صلاة أبدا.
وعلى هذا النحو يخرج ما إذا علمت أن حيضها ثلاثة وتردد رأيها في الطهر بين خمسة عشر وستة عشر فمن فهم الفصل الأول تيسر عليه تخريج الثاني.(3/378)
قال: وإذا كانت المستحاضة لا تذكر أيامها غير أنها تتيقن بالطهر يوم العاشر ويوم العشرين ويوم الثلاثين فإنها تتوضأ من أول الشهر ثلاثة أيام ثم تغتسل لكل صلاة ستة أيام لاحتمال خروجها من الحيض في كل ساعة منها ثم تصلي اليوم العاشر بالوضوء بيقين الطهر ثم تصلي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك ثم تغتسل ستة أيام إلى تمام تسعة عشر ثم تتوضأ وتصلي يوم العشرين بيقين ثم ثلاثة أيام بعده تصلي فيها بالوضوء بالشك ثم تغتسل ستة أيام إلى تمام تسعة وعشرين يوما لكل صلاة ثم تصلي اليوم الثلاثين بالوضوء بيقين الطهر ولا يجزيها صومها في تسعة أيام من شهر رمضان فلتصم ضعفها ثمانية عشر يوما لما بينا.
قال الحاكم رحمه الله تعالى: فإن قضت الصوم في هذه الأيام الثلاثة العاشر والعشرين والثلاثين كفاها تسعة أيام وهو صحيح لأنها تتيقن بالطهر في هذه الأيام فيصح صومها فيها عن القضاء والتتابع في صوم القضاء ليس بشرط وما قضت من الفوائت في غير هذه الأيام الثلاثة أعادتها في هذه الأيام الثلاثة ولا يقربها زوجها إلا في هذه الأيام لأنها تتيقن فيها بالطهر.
وإن كانت تعلم أن أيام حيضها كانت ثلاثة في العشر الآخر من الشهر ولا تدري إذا مضى عشرون من الشهر أو إذا بقي ثلاثة من الشهر فإنها إلى تمام العشرين تصلي بالوضوء بيقين ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ إلى آخر الشهر ولكن في أربعة أيام لها يقين الطهر فيأتيها زوجها(3/379)
ص -192- ... فيها وفي الثلاثة تردد حالها بين الحيض والطهر فتتوضأ فيها بالشك ولا يأتيها زوجها ثم تغتسل غسلا واحدا.
وإن كانت أيامها ثلاثة في وسط العشر الآخر ولا تدري غير ذلك فإنها تصلي بالوضوء إلى تمام ثلاثة وعشرين بيقين الطهر ثم تصلي في اليوم الرابع والعشرين بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر ثم تدع الصلاة يوم الخامس والعشرين والسادس والعشرين لأنها تتيقن بالحيض وتغتسل يوم السابع والعشرين لكل صلاة لتوهم خروجها من الحيض فيه وفي الحقيقة هذه المرأة أضلت أيامها الثلاثة في أربعة أيام وقد بينا حكمها فيما سبق والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب حل الوطء بانقطاع الدم قبل وقته
قال رضي الله عنه إذا انقطع دم المرأة دون عادتها المعروفة في حيض أو نفاس اغتسلت حين تخاف فوت الصلاة وصلت وتجنبها زوجها احتياطا حتى تأتي على عادتها لأن حيض المرأة لا يبقى على صفة واحدة في جميع عمرها بل يزداد تارة وينقص أخرى فالانقطاع قبل تمام عادتها طهر ظاهر على احتمال أن لا يكون طهرا بأن يعاودها الدم فإن الدم لا يسيل في زمان الحيض على الولاء فينبغي لها أن تأخذ بالاحتياط فتنتظر آخر الوقت لأنها لا يفوتها بهذا القدر من التأخير شيء فإذا خافت فوت الوقت اغتسلت وصلت احتياطا لأن الانقطاع طهر ظاهرا ومضي الوقت على الطاهر يجعل الصلاة دينا في ذمتها وذلك لا يكون إلا بتفويت منها بترك الأداء في الوقت فعليها أن لا تفوت ولأنه يفحش أن يمضي عليها وقت صلاة وليس فيها مانع من أداء الصلاة ظاهرا ولا تصلي فيه ويجتنبها زوجها احتياطا لاحتمال أنها حائض بعد بأن يعاودها الدم وتأثير هذا الاحتمال بعادتها المعروفة ولكن لا تتزوج بزوج آخر إن كان هذا آخر عدتها احتياطا لتوهم أنها حائض بعد.(3/380)
وكذلك ان كانت مستبرأة لا يطؤها المولى حتى تمضي أيام عادتها احتياطا وإن كانت استكملت عادتها في الدم ثم انقطع اغتسلت في آخر الوقت وصلت وهذا أظهر من الأول لأن الاعتبار بما سبق يدل على أن هذا الانقطاع طهر لأنها تنتظر آخر الوقت إذا كانت أيامها دون العشرة لاحتمال أن يعاودها الدم وليس في هذا التأخير تفويت شيء وإنما تؤخر إلى آخر الوقت المستحب دون المكروه نص عليه محمد رحمه الله تعالى في آخر الكتاب فقال إذا انقطع الدم عنها في وقت العشاء فإنها تؤخر الصلاة إلى وقت يمكنها أن تغتسل فيه وتصلي قبل انتصاف الليل ووقت العشاء يبقى إلى طلوع الفجر ولكن التأخير إلى ما بعد نصف الليل مكروه.
وكذلك لو انقطع عنها الدم في وقت العصر فإنها تؤخر إلى وقت يمكنها أن تغتسل فيه وتصلي قبل تغير الشمس لأن تأخير الصلاة إلى ما بعد تغير الشمس مكروه وبالتوهم لا(3/381)
ص -193- ... يحل لها ارتكاب المكروه ولا بأس لزوجها أن يطأها هنا لأن انقطاع الدم طهر من حيث الظاهر والاستدلال بما قبله واحتمال توهم العود لم يتأيد بدليل هنا فلا يمنعه من الوطء وكذلك لها أن تتزوج إن كان هذا آخر عدتها لأنها قد طهرت ظاهرا والمعلوم الظاهر لا يترك العمل به بالمحتمل وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة فإن كانت أيامها عشرة فكما تمت العشرة اغتسلت وصلت ولا تؤخر سواء انقطع عنها الدم أو لم ينقطع لأنا تيقنا بخروجها من الحيض فإن الحيض لا يكون أكثر من عشرة.
وإن لم يكن لها قبل ذلك عادة وكانت مبتدأة وانقطع دمها على الخمس أو في النفاس وانقطع دمها على العشرين وسعها أن تمكن زوجها من نفسها وأن تتزوج لأن في حق المبتدأة العادة تحصل بالمرة الواحدة فالتحقت بصاحبة العادة غير أن قوله وأن تتزوج إن لم يكن لها زوج كلام مختل لأنها إن لم تكن معتدة فقد كان لها أن تتزوج في حالة الحيض والنفاس وإن كانت معتدة فلا يتصور انقضاء عدتها بالحيضة الأولى لأن الصغيرة إذا اعتدت شهرين ثم حاضت يلزمها استئناف العدة لقدرتها على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فدل أنه كلام مختل ذكره بالقياس على ما سبق من غير تأمل فيه.(3/382)
ولو كانت نصرانية تحت مسلم فانقطع عنها الدم فيما دون العشرة وسع الزوج أن يطأها ووسعها أن تتزوج لأنه لا اغتسال عليها فإنها لا تخاطب قبل الإسلام بأحكام الشرع وكذلك لو كانت مطلقة رجعية فانقطع عنها الدم قبل تمام العشرة في الحيضة الثالثة فإنه لا اغتسال عليها فإن أسلمت بعد انقطاع الدم فليس للزوج أن يراجعها أيضا ولها أن تتزوج لأنا حكمنا بطهارتها بنفس انقطاع الدم فلا تعود فيه بالإسلام بخلاف ما إذا عاودها الدم فرؤية الدم مؤثر في إثبات الحيض به ابتداء فكذلك يكون مؤثرا في البقاء بخلاف الإسلام وإن كانت أيامها عشرة فكما انقطع الدم عند تمام العشرة انقطعت الرجعة ولها أن تتزوج لأنها خرجت من الحيض بيقين ولكنها لا تقرأ القرآن ما لم تغتسل وهي بمنزلة الجنب في وجوب الاغتسال عليها وللجنابة تأثير في المنع من قراءة القرآن دون بقاء العدة.
قال: عجوز كبيرة حكم بإياسها ثم رأت الدم بعد ذلك فقد ذكر الزعفراني رحمه الله تعالى في كتاب الحيض أنها لا تكون حائضا ولو كانت اعتدت بالشهور وتزوجت لم يبطل نكاحها لأن الظاهر أن الدم في هذه الحالة من فساد الرحم أو الغذاء فلا يبطل به ما تقدم من الحكم بإياسها وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى يقول إن رأت حمرة وتمادى بها إلى مدة الحيض كان حيضا استدلالا بما ذكر محمد رحمه الله تعالى في نوادر أبي سليمان رحمه الله تعالى فإنه قال بنت ثمانين أو تسعين إذا رأت الدم فهو حيض فإن كانت كدرة لم يكن حيضا لأن الظاهر أنه من فساد الرحم أو الغذاء ثم المعتبر في اللون في حقها عند رفع الخرقة فإن الرطوبة على الخرقة قد تتغير من الحمرة إلى الكدرة أو من(3/383)
ص -194- ... الكدرة إلى الخضرة قبل الرفع أو بعد الرفع ولا معتبر بواحد من الحالين إنما المعتبر عند الرفع لأن الظهور عند ذلك يحصل.
وكذلك في حق الحائض إذا تغير اللون من الحمرة إلى البياض أو من البياض إلى الحمرة فالعبرة بحالة الرفع فإن رأت البياض عند الرفع ثم تغير إلى الحمرة بعد ذلك أو إلى الخضرة أو إلى الصفرة فهذا انقطاع وإن كانت كدرة عند الرفع ثم تغيرت إلى البياض فهي حائض بعد لأن الخروج عند رفع الخرقة يكون فيعتبر اللون في تلك الحالة.
وإن كان حيضها مرة ستا ومرة خمسا فانقطع عنها الدم لتمام الخمسة فإنها تغتسل وتصلي احتياطا ولا يأتيها زوجها حتى يمضي اليوم السادس لتوهم معاودة الدم وقد تأيد هذا التوهم بدليل معتبر كان قبل هذا ولو كانت معتدة انقطعت الرجعة بمضي خمسة أيام من الحيضة الثالثة وليس لها أن تتزوج حتى يمضي اليوم السادس وعند مضيه يلزمها أن تغتسل فتأخذ بالاحتياط في كل حكم وإنما يتصور لزوم الاغتسال عند مضي اليوم السادس.
فأما إذا انقطع دمها لتمام الخمسة ولم تبتل بالاستمرار فإنها تغتسل لتمام الخمسة ولا يلزمها أن تغتسل لتمام الستة إذا لم يعاودها الدم هذا في حق من ليست لها عادة معروفة ولكنها ابتليت بالاستمرار وتردد رأيها في الحيض بين الخمس والست وقد بينا هذا فيما سبق والله أعلم بالصواب.
باب النفاس
قال: رضي الله عنه: النفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة قيل إنه مشتق من تنفس الرحم به وقيل هو من النفس الذي هو عبارة عن الدم وقيل هو من النفس التي هي الولد فخروجه لا ينفك عن دم يتعقبه وأكثر مدته أربعون يوما عندنا وقد بينا اختلاف العلماء فيه واعتمادنا فيه على السنة فقد روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كانت النفساء يقعدن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف.(3/384)
وفي حديث أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفساء أربعين صباحا ألا أن ترى الطهر قبل ذلك ولا غاية لأفلة لعموم قوله إلا أن ترى الطهر قبل ذلك حتى إذا رأت الدم يوما ثم طهرت فذلك اليوم نفاس لها بخلاف الحيض فإن أقله مقدر لأن دم الحيض والنفاس ما يكون من الرحم ولدم النفاس دليل يستدل به على أنه من الرحم وهو تقدم خروج الولد فلا حاجة إلى الاستدلال عليه بالامتداد بخلاف دم الحيض.
والذي ذكره أبو موسى رحمه الله تعالى في مختصره: أن أقل النفاس عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى خمسة وعشرون يوما وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أحد عشر يوما ليس المراد به أنه إذا انقطع فيما دون ذلك لا يكون نفاسا ولكن المراد به إذا وقعت الحاجة إلى نصب العادة لها في النفاس لا ينقص ذلك من خمسة وعشرين يوما عند أبي حنيفة(3/385)
ص -195- ... رحمه الله تعالى إذا كانت عادتها في الطهر خمسة عشر لأنه لو نصب لها دون هذا القدر أدى إلى نقض العادة فمن أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الدم إذا كان محيطا بطرفي الأربعين فالطهر المتخلل لا يكون فاصلا طال أو قصر فلو قدر نفاسها بأقل من خمسة وعشرين يوما فعاودها الدم قبل تمام الأربعين كان الكل نفاسا فلهذا قدر بخمسة وعشرين.
وفي الإخبار بانقضاء العدة قدر مدة نفاسها بخمسة وعشرين على ما سنبينه وكذلك أبو يوسف رحمه الله تعالى إنما قدر بأحد عشر يوما في الإخبار بانقضاء العدة فأما إذا انقطع الدم دون ذلك فلا خلاف في أنه نفاس ثم أبو حنيفة رحمه الله تعالى مر على أصله فقال الأربعون للنفاس كالعشرة للحيض ثم الطهر المتخلل في العشرة عنده لا يكون فاصلا وإذا كان الدم محيطا بطرفي العشرة يجعل الكل كالدم المتوالي فكذلك في النفاس إذا أحاط الدم بطرفي الأربعين.
وأبو يوسف رحمه الله تعالى مر على أصله أن الطهر المتخلل إذا كان أقل من خمسة عشر لا يصير فاصلا ويجعل كالدم المتوالي فإذا بلغ خمسة عشر يوما صار فاصلا بين الدمين فهذا مثله ومحمد رحمه الله تعالى فرق بين النفاس وبين ما تقدم في الحيض فقال هناك إذا كانت الغلبة للطهر يصير فاصلا بين الدمين وإن كان دون الخمسة عشر وهنا لا يصير فاصلا لأنه لا يتصور هنا في مدة الأربعين طهر ما دون خمسة عشر وهو غالب على الدم إنما يتصور ذلك في مدة الحيض.
ثم هناك الدم قد يتقدم وقد يتأخر فلو لم يعتبر غلبة أحدهما على الآخر أدى إلى القول بجعل زمان هو طهر كله حيضا وذلك لا يجوز بخلاف النفاس وإنما قال إن الطهر خمسة عشر هنا يصير فاصلا بين الدمين لأن طهر خمسة عشر صالح للفصل بين الحيضتين فكذلك للفصل بين الحيض والنفاس فكان المتقدم نفاسا والمتأخر حيضا.(3/386)
وبيان هذا إذا رأت الدم يوما بعد الولادة ثم طهرت ثمانية وثلاثين يوما ثم رأت الدم يوما فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأربعون كلها نفاس وعندهما النفاس هو اليوم الأول فقط ثم يخرج على هذا الأصل المسائل إلى أن يقول رأت الدم خمسة بعد الولادة والطهر خمسة عشر يوما والدم خمسة والطهر خمسة عشر ثم استمر بها الدم فعندهما نفاسها الخمسة الأولى وعادتها في الطهر خمسة عشر لأنها رأت مرتين وحيضها الخمسة التي بعد العشرين وصار ذلك عادة لها بالمرة الواحدة لأنها مبتدأة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى نفاسها خمسة وعشرون والطهر الأول غير معتبر لإحاطة الدم بطرفيه في مدة الأربعين فأما الطهر الثاني فهو صحيح معتبر لأن به تتم الأربعون فيصير ذلك عادة لها في الطهر بالمرة الواحدة ولا عادة لها في الحيض فيجعل أول الاستمرار حيضها عشرة وطهرها خمسة وعندهما يجعل حيضها من أول الاستمرار خمسة وطهرها خمسة عشر،(3/387)
ص -196- ... وعادتها في النفاس عندهما تكون خمسة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى خمسة وعشرون لأن العادة في النفاس في حق المبتدأة تثبت بالمرة الواحدة كالعادة في الحيض ويختلفون في أول وقت النفاس.
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى: وقت الولادة أول وقت النفاس وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى وقت فراغ رحمها أول وقت النفاس وإنما يتبين ذلك فيما إذا ولدت ولدا وفي بطنها ولد آخر فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تصير نفساء وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا تصير نفساء ما لم تضع الولد الثاني قالا لأنها حامل بعد والحامل كما لا تحيض فكذلك لا تصير نفساء لأن النفاس أخو الحيض واستدلا بحكم انقضاء العدة فإنه لا يثبت إلا بوضع آخر الولدين فكذلك حكم النفاس وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قال النفاس هو الدم الخارج عقب الولادة وقد تحقق ذلك وإنما لا يجعل لما تراه المرأة الحامل من الدم حكم الحيض لأنه ليس من الرحم فإن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة إذا حبلت انسد فم رحمها وهذا المعنى غير موجود هنا لأن فم الرحم قد انفتح بوضع أحد الولدين فالدم المرئي من الرحم كان نفاسا وهذا بخلاف حكم انقضاء العدة لأنه متعلق بفراغ الرحم ولا فراغ مع بقاء شيء من الشغل وهنا حكم النفاس للدم الخارج من الرحم بعد الولادة وقد تحقق ذلك.
فإن كان بين الولدين عشرة أيام واستمر بها الدم وهي مبتدأة في النفاس فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تترك الصوم والصلاة بعد ولادة الولد الأول ونفاسها بعد وضع الولد الثاني ثلاثون يوما وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا تترك الصوم والصلاة ما لم تضع الولد الثاني ونفاسها بعد ذلك أربعون يوما وحكي أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة رحمهما الله تعالى أرأيت لو كان بين الولدين(3/388)
أربعون يوما قال هذا لا يكون قال فإن كان قال لا نفاس لها من الولد الثاني وإن رغم أنف أبي يوسف ولكنها تغتسل كما تضع الولد الثاني وهذا صحيح لأنه لا يتوالى نفاسان ليس بينهما طهر كما لا تتوالى حيضتان ليس بينهما طهر.
قال: فإن خرج بعض الولد ثم رأت الدم فروى خلف بن أيوب عن أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه إن خرج الأكثر منه فهي نفساء لأن بقاء الأقل لا يمنع خروج الدم من الرحم وكذلك لو انقطع الولد فيها فإذا خرج الأكثر كانت نفساء لأن للأكثر حكم الكمال فأما إذا أسقطت سقطا فإن كان قد استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما ترى من الدم بعد ذلك وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها ولكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضا يجعل حيضا وإن لم يمكن بأن لم يتقدمه طهر تام فهو استحاضة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يمتحن السقط بالماء الحار فإن ذاب فيه فليس بولد(3/389)
ص -197- ... فلا نفاس لها وان لم يذب فهو ولد وتصير به نفساء وهذا من باب الطب ليس من الفقه في شيء فلم نقل به لهذا ولكن حكمنا السيما والعلامة فإن ظهر فيه شيء من آثار النفوس فهو ولد والنفاس هو الدم الخارج بعقب خروج الولد وإن لم يستبن فيه شيء من الآثار فهذه علقة أو مضغة فلم يكن للدم المرئي بعدها حكم النفاس ثم المسألة على وجهين إما أن ترى الدم قبل إسقاط السقط أو لا تراه.
فإن رأت الدم قبل إسقاط السقط فإن كان السقط مستبين الخلق لا تترك الصلاة والصوم بالدم المرئي قبله وإن كانت تركت الصلاة فعليها قضاؤها لأنه تبين أنها كانت حاملا حين رأت الدم وليس لدم الحامل حكم الحيض وهي نفساء فيما تراه بعد لسقط.
وإن لم يكن السقط مستبين الخلق فما رأته قبل السقط حيض إن أمكن أن يجعل حيضا بأن وافق أيام عادتها وكان مرئيا عقيب طهر صحيح لأنه تبين أنها لم تكن حاملا.
ثم إن كان ما رأت قبل السقط مدة تامة فما رأت بعد السقط استحاضة وإن لم تكن مدة تامة تكمل مدتها مما رأت بعد السقط ثم هي مستحاضة بعد ذلك فإن كانت أيامها ثلاثة فرأت قبل السقط ثلاثة دما ثم استمر بها الدم بعد السقط فحيضها الثلاثة التي رأتها قبل السقط وهي مستحاضة فيما رأت بعد السقط وإن كان ما رأت قبل السقط يوما أو يومين تكمل مدتها ثلاثة أيام مما تراه بعد السقط ثم هي مستحاضة بعد ذلك وإن لم ترد ما قبل السقط ورأته بعده فإن كان السقط مستبين الخلق فهي نفساء وإن لم يكن مستبين الخلق فإن أمكن جعل ما تراه بعد السقط حيضا يجعل حيضا لها بعدل أيام عادتها وإن لم يمكن جعله حيضا فهي مستحاضة في ذلك فإن أسقطت في بئر المخرج سقطا لا تدري أنه كان مستبين الخلق أو لم يكن فهذا أيضا على وجهين إما أن ترى الدم قبل السقط أو لا تراه إلا بعد السقط.(3/390)
فإن لم تر الدم إلا بعد السقط وأيامها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون فنقول إذا كان السقط مستبين الخلق فلها نفاس أربعين لأنها مبتدأة في النفاس وقد استمر بها الدم فيكون نفاسها أكثر النفاس كالمبتدأة بالحيض إذا استمر بها الدم.
وإن لم يكن السقط مستبين الخلق فحيضها عشرة فتترك الصلاة عقيب السقط عشرة أيام بيقين لأنها في هذه العشرة إما حائض وإما نفساء ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لأنه تردد حالها فيها بين الطهر والنفاس ثم تترك عشرة بيقين لأنها في هذه العشرة إما حائض أو نفساء ثم تغتسل لتمام مدة النفاس والحيض ثم بعده طهرها عشرون وحيضها عشرة وهكذا دأبها أن تغتسل في كل وقت تتوهم أنه وقت خروجها من الحيض والنفاس فإن كانت قد رأت قبل إسقاط السقط دما فإن كان ما رأت قبل الإسقاط مستقلا لا تترك الصلاة بعد الإسقاط وإن لم يكن مستقلا تركت بعد الإسقاط قدر ما تتم به مدة حيضها ولا تترك الصلاة فيما رأت قبل الإسقاط على كل حال ولو تركت فعليها قضاؤها،(3/391)
ص -198- ... لأنه إ ن كان السقط مستبين الخلق لم يكن ما رأت قبله حيضا وإن لم يكن مسبين الخلق كان ذلك حيضا فتردد حالها فيما رأت قبل السقط بين الحيض والطهر فلا تترك الصلاة بالشك.
ثم إن كان حيضها عشرة وطهرها عشرون فإن رأت قبل الإسقاط عشرة ثم أسقطت اغتسلت وصلت عشرين يوما بعد السقط لأنه تردد حالها فيه بين الطهر والنفاس ثم تترك عشرة بيقين لأنها فيه نفساء أو حائض ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما عشرة بالشك لأنه تردد حالها فيها بين النفاس والطهر ثم تغتسل وتصلي عشرة أخرى بيقين الطهر ثم تصلي عشرة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل وهكذا دأبها.
وإن كانت رأت قبل السقط خمسة أيام دما ثم أسقطت كما بينا فإنها تترك الصلاة خمسة أيام بعد السقط لأن السقط إن لم يكن مستبين الخلق فهذه الخمسة تتمة مدة حيضها وإن كان مستبين الخلق فهذا أول نفاسها فتترك الصلاة في هذه الخمسة بيقين ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين النفاس والطهر ثم تترك عشرة بيقين لأنها في هذه العشرة إما حائض أو نفساء فبلغ الحساب خمسة وثلاثين ثم تغتسل وتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل لتمام الأربعين لأنه وقت خروجها من النفاس إن كان السقط مستبين الخلق ثم تصلي خمسة عشر يوما بالوضوء بيقين لأنه طهرها فبلغ الحساب خمسة وخمسين ثم تصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين أول الحيض إن لم يكن السقط مستبين الخلق وبين آخر الطهر إن كان السقط مستبين الخلق فبلغ الحساب ستين ثم تترك خمسة لأنها تتيقن بأن هذه الخمسة إما أول حيضها أو آخر حيضها ثم تغتسل وتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل مرة أخرى لأن هذا آخرحيضها إن كان السقط مستبين الخلق ثم تصلي خمسة عشر يوما بالوضوء بيقين وهكذا دأبها أن تترك في كل مرة الصلاة في كل خمسة فيها يقين الحيض وأن تغتسل في كل وقت تتوهم أنه وقت خروجها من الحيض.(3/392)
وإن ولدت ولدا أو أسقطت سقطا مستبين الخلق واستمر بها الدم وشكت في حيضها أو طهرها فهذه المسألة على ثلاثة أوجه إما أن شكت في حيضها أنه خمسة أو عشرة وتيقنت بأن طهرها عشرون أو شكت في طهرها أنه خمسة عشر أو عشرون وعلمت أن حيضها عشرة أو شكت فيهما جميعا.
فإن شكت في الحيض أنه خمسة أو عشرة ولم تشك في الطهر فإنها بعد الأربعين التي هي نفاسها تغتسل وتصلي عشرين يوما باليقين لأنها عالمة بمدة طهرها ثم تدع خمسة بيقين لأنها حائض فيها ثم تغتسل فبلغ الحساب خمسة وعشرين ولها حسابان الأقصر والأطول.
ففي الحساب الأقصر استقبلها طهر عشرين وفي الحساب الأطول بقي من حيضها خمسة فتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل وتصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين(3/393)
ص -199- ... الطهر فبلغ الحساب خمسة وأربعين وفي الحساب الأقصر استقبلها الحيض خمسة وفي الأطول بقي من طهرها خمسة فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب خمسين ثم تغتسل وفي الحساب الأقصر استقبلها الطهر عشرون وفي الأطول الحيض عشرة فتصلي عشرة بالوضوء بالشك ثم تغتسل فبلغ الحساب ستين ثم في الحساب الأقصر بقي من طهرها عشرة وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي عشرة بيقين فبلغ الحساب سبعين ثم في الحساب الأقصر استقبلها الحيض خمسة وفي الأطول بقي من طهرها عشرة فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب خمسة وسبعين فتغتسل ثم في الحساب الأقصر استقبلها طهر عشرين وفي الأطول بقي من طهرها خمسة فتصلي خمسة بالوضوء بيقين فبلغ الحساب ثمانين ثم في الحساب الأقصر بقي من طهرها خمسة عشر وفي الأطول استقبلها الحيض عشرة فتصلي عشرة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب تسعين فتغتسل ثم في الحساب الأقصر بقي من طهرها خمسة وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي بالوضوء بيقين خمسة فبلغ خمسة وتسعين ثم في الأقصر استقبلها الحيض خمسة وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل فبلغ الحساب مائة ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين وفي الأطول بقي من طهرها عشرة فتصلي عشرة بيقين فبلغ الحساب مائة وعشرة ثم في الأقصر بقي من طهرها عشرة وفي الأطول استقبلها الحيض عشرة فتصلي عشرة بالشك ثم تغتسل فبلغ الحساب مائة وعشرين ثم في الأقصر استقبلها الحيض خمسة وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب مائة وخمسة وعشرين ثم في الأقصر استقبلها الطهر عشرين وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين فبلغ الحساب مائة وأربعين ثم في الأقصر بقي من طهرها خمسة وفي الأطول استقبلها الحيض عشرة فتصلي خمسة بالضوء بالشك بلغ الحساب مائة وخمسة وأربعين ثم في الأطول بقي من حيضها خمسة وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة فتترك(3/394)
هذه الخمسة بيقين ثم تغتسل فبلغ الحساب مائة وخمسين واستقام دورها في ذلك.
وعلى هذا النحو يخرج ما إذا كان الشك في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون واستقام دورها فيه أيضا في مائة وخمسين.
ثم تخرج على هذا النحو ما إذا شكت فيهما في الحيض أنه خمسة أو عشرة وفي الطهر أنه خمسة عشرة أو عشرون وإنما يستقيم دورها في هذا الفصل في ثلاثمائة يوم.
قال: امرأة ولدت وانقطع دمها بعد يوم أو يومين أو ثلاثة انتظرت إلى آخر الوقت ثم اغتسلت وصلت فالانتظار لتوهم أن يعاودها الدم والاغتسال في آخر الوقت لأنها طاهرة ظاهرا وقد بينا نظيره في الحيض.(3/395)
ص -200- ... فإن كانت طلقت حين ولدت صدقت على انقضاء العدة في أربعة وخمسين يوما وزيادة ما في قول محمد رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوما وفي قول أبي حنيفة في رواية محمد رحمهما الله تعالى لا تصدق في أقل من خمسة وثمانين يوما وفي رواية الحسن رحمه الله تعالى لا تصدق في أقل من مائة يوم وذكر أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى في كتاب الحيض رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنها لا تصدق في أقل من مائة وخمسة عشر يوما وهذه المسألة تنبني على فصلين:
أحدهما: ما بينا أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان الدم محيطا بطرفي الأربعين فالطهر المتخلل لا يكون فاصلا وإن طال.
والثاني: أن المطلقة إذا كانت تعتد بالأقراء في كم تصدق إذا أخبرت بانقضاء العدة فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا تصدق في أقل من ستين يوما وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تصدق في تسعة وثلاثين يوما وتخريج قولهما أنه يجعل كأنه طلقها في آخر جزء من أجزاء الحيض وحيضها أقل الحيض ثلاثة وطهرها أقل الطهر خمسة عشر فثلاث مرات ثلاثة يكون تسعة وطهران كل واحد منهما خمسة عشر يكون ثلاثين فلهذا صدقت في تسعة وثلاثين يوما لأنها أمينة فإذا أخبرت بما هو محتمل يجب قبول خبرها.
وقيل:على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى: ينبغي أن تصدق في سبعة وثلاثين يوما ونصف وأربع ساعات لأنا قد بينا أن أقل الحيض عنده يومان والأكثر من اليوم الثالث فيجعل كل حيضة يومان ونصف وساعة فذلك سبعة ونصف وثلاث ساعات وساعة الإخبار والاغتسال فتصدق في سبعة وثلاثين يوما ونصف وأربع ساعات للاحتمال.(3/396)
فأما تخريج قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فعلى ما ذكره محمد رحمه الله تعالى يجعل كأنه طلقها من أول الطهر تحرزا عن إيقاع الطلاق في الطهر بعد الجماع وطهرها خمسة عشر لأنه لا غاية لأكثر الطهر فيقدر بأقله وحيضها خمسة لأن من النادر أن يكون حيضها أقل أو يمتد إلى أكثر الحيض فيعتبر الوسط من ذلك وذلك خمسة فثلاثة أطهار كل طهر خمسة عشر يكون خمسة وأربعين وثلاث حيض كل حيضة خمسة يكون خمسة عشر فذلك ستون يوما.
وعلى ما رواه الحسن رحمه الله تعالى: يجعل كأنه طلقها في آخر جزء من الطهر لأن التحرز عن تطويل العدة واجب وإيقاع الطلاق في آخر الطهر أقرب إلى التحرز عن تطويل العدة ثم الحيض لها عشرة لأنا لما قدرنا طهرها بأقل المدة نظرا إليها يقدر حيضها بأكثر الحيض نظرا للزوج فثلاث حيض كل حيضة عشرة يكون ثلاثين وطهران كل طهر خمسة عشر يوما يكون ثلاثين فذلك ستون.
قال:ولا معنى لما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه لا احتمال(3/397)
ص -201- ... لتصديقها في تلك المدة إلا بعد أمور كلها نادرة منها أن يكون الإيقاع في آخر جزء من أجزاء الطهر
ومنها أن يكون حيضها أقل مدة الحيض ومنها أن يكون طهرها أقل مدة الطهر ومنها أن لا تؤخر الإخبار عن ساعة الانقضاء والأمين إذا أخبر بما لا يمكن تصديقه فيه إلا بأمور هي نادرة لا يصدق كالوصي إذا قال أنفقت على الصبي في يوم مائة درهم لا يصدق وما قاله محتمل بأن يشتري له نفقة فتسرق ثم مثلها فتحرق ثم مثلها فتتلف فلا يصدق لكون هذه الأمور نادرة فكذلك هنا.
فإن كانت المطلقة أمة فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تصدق في أحد وعشرين يوما لأن حيضها ثلاثة وطهرها خمسة عشر فحيضتان تكون ستة وطهرها بينهما يكون خمسة عشر فذلك أحد وعشرون يوما وعند أبي حنيفة في رواية محمد رحمهما الله تعالى تصدق في أربعين يوما ويجعل كأنه طلقها في أول الطهر فطهران كل واحد منهما خمسة عشر يكون ثلاثين وحيضتان كل واحدة منهما خمسة يكون عشرة فذلك أربعون وعلى رواية الحسن رحمه الله تعالى تصدق في خمسة وثلاثين يوما ويجعل كأنه طلقها في آخر الطهر فحيضتان كل واحدة منهما عشرة وطهرها خمسة عشر بينهما يكون خمسة وثلاثين يوما إذا عرفنا هذا جئنا إلى بيان مسألة الكتاب إذا قال لامرأته الحامل إذا ولدت فأنت طالق.
فأما تخريج قول أبي حنيفة على رواية محمد رحمهما الله تعالى أن يجعل نفاسها خمسة وعشرين يوما تحرزا عن معاودة الدم بعد الطهر قبل كمال الأربعين وطهرها خمسة عشر فذلك أربعون ثم حيضها خمسة وطهرها خمسة عشر فثلاث حيض كل حيضة خمسة وطهران بينها كل واحد منهما خمسة عشر يكون خمسة وأربعين فإذا ضممته إلى الأربعين يكون خمسة وثمانين فتصدق في هذا القدر.(3/398)
وعلى رواية الحسن رحمه الله تعالى: التخريج هكذا إلا أن حيضها بعد الأربعين عشرة فثلاث حيض كل حيضة عشرة وطهران بينها يكون ستين يوما إذا ضممتها إلى الأربعين يكون مائة يوم وعلى رواية أبي سهل الفرائضي رحمه الله تعالى قال يجعل نفاسها أربعين يوما لأن أكثر مدة النفاس معلوم كأكثر مدة الحيض وكما قدرنا حيضها بأكثر المدة كذلك قدرنا نفاسها بأكثر المدة ثم بعد النفاس طهر خمسة عشر فذلك خمسة وخمسون إذا ضممت إليه ستين يوما كما بينا كان مائة يوم وخمسة عشر يوما فلهذا لا تصدق فيما دون هذا القدر.
فأما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى: يجعل نفاسها أحد عشر يوما لأن أدنى مدة النفاس هذا وذلك لأن العادة أن مدة النفاس تزيد على مدة الحيض والساعات لا يمكن ضبطها وكذلك الأيام لا غاية لأكثرها فقدرنا الزيادة بيوم واحد فكان نفاسها أحد عشر(3/399)
ص -202- ... يوما وعابه محمد رحمه الله تعالى في ذلك فقال هو يقول إذا انقطع عن النفساء دمها في أقل من أحد عشر يوما اغتسلت وصلت فهذا ينقض قوله في المعتدة ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى في هذا الحرف اعتبر العادة دون الاحتمال ثم طهرها خمسة عشر فذلك ستة وعشرون ثم بعده تسعة وثلاثون يوما لثلاث حيض كما بينا فذلك خمسة وستون يوما فلهذا صدقها في هذا القدر وعلى قول محمد رحمه الله تعالى تصدق في أربعة وخمسين يوما وزيادة لأنه لا غاية لأقل النفاس فإذا قالت كان ساعة وجب تصديقها للاحتمال والطهر بعده خمسة عشر ثم تسعة وثلاثون يوما لثلاث حيض فذلك أربعة وخمسون يوما وساعة فصدقت في هذا المقدار للاحتمال.
فإن كانت المرأة أمة والمسألة بحالها فعلى تخريج محمد لقول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى: تصدق في خمسة وستين يوما نفاسها خمسة وعشرون وطهرها خمسة عشر وحيضها خمسة فحيضتان بعد الأربعين وطهر بينهما يكون خمسة وعشرين إذا ضممته إلى الأربعين يكون خمسة وستين يوما.
وعلى رواية الحسن رحمه الله تعالى: تصدق في خمسة وسبعين لأنه يجعل حيضها عشرة فحيضتان بعد الأربعين وطهر بينهما يكون خمسة وثلاثين يوما إذا ضممتها إلى الأربعين يكون خمسة وسبعين.
وعلى رواية أبي سهل الفرائضي رحمه الله تعالى تصدق في تسعين يوما نفاسها أربعون وحيضها عشرة فطهران وحيضتان يكون خمسين يوما إذا ضممته إلى الأربعين يكون تسعين.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تصدق في سبعة وأربعين يوما نفاسها أحد عشر والطهر بعده خمسة عشر فذلك ستة وعشرون إذا ضممته إلى أحد وعشرين كما بينا يكون سبعة وأربعين.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى:تصدق في ستة وثلاثين يوما وساعة لأنه يجعل نفاسها ساعة وطهرها خمسة عشر ثم بعد ذلك أحد وعشرون كما بينا من قوله فذلك ستة وثلاثون يوما وساعة تصدق في هذا المقدار إذا أخبرت بانقضاء العدة للاحتمال والله أعلم بالصواب.
تم الحزء الثالث من المبسوط.(3/400)
ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب المناسك.(3/401)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الرابع
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(4/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين.
كتاب المناسك
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم أن الحج في اللغة القصد ومنه قول القائل:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يقصدون له معظمين إياه.
وفي الشريعة: عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم لأداء ركن من أركان الدين عظيم ولا يتوصل إلى ذلك إلا بقصد وعزيمة وقطع مسافة بعيدة فالاسم شرعي فيه معنى اللغة والمناسك جمع النسك والنسك اسم لكل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ومنه سمي العابد ناسكا ولكنه في لسان الشرع عبارة عن أركان الحج. قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}[البقرة: 200] وفرضية الحج ثابتة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97] وآكد ما يكون من ألفاظ الإلزام كلمة على وأما السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج حتى مات فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا", وفي رواية: "فليمت على أي ملة شاء سوى ملة الإسلام", وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
وسبب وجوب الحج ما أشار الله تعالى إليه في قوله: {حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] فالواجبات تضاف إلى أسبابها ولهذا لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لأن سببه وهو البيت غير متكرر.(4/2)
والأصل فيه حديث الأقرع بن حابس رضي الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة فقال صلى الله عليه وسلم: "بل مرة فما زاد فتطوع". والوقت فيه شرط الأداء وليس بسبب ولهذا لا يتكرر بتكرر الوقت إلا أن أركان هذه العبادة متفرقة على الأمكنة والأزمنة فلا يجوز إلا بمراعاة الترتيب فيها ولهذا لا يتأدى طواف الزيارة قبل الوقوف كما لا يتأدى السجود في فصل الصلاة قبل الركوع والمال شرط يتوصل به إلى الأداء ولهذا لا يتحقق الأداء من فقير لا مال له فرضا وأركان هذه العبادة الأفعال والمال ليس بسبب فيه ولكنه معتبر ليتيسر به الوصول إلى مواضع إداء أركانه.(4/3)
ص -4- ... ثم بدأ الكتاب فقال: إذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء الله اقتد بكتاب الله تعالى في ذكر الاستثناء في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}[الفتح: 27] وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى خاطب أبا يوسف رحمه الله تعالى والواحد يشك في حاله أنه يحج أو لا يحج فقيد بالاستثناء وتفرس فيه أنه يحج فما أخطأت فراسته.
قال: فاغتسل أو توضأ والغسل فيه أفضل هكذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله فاغتسل رواه خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهذا الاغتسال ليس بواجب لما روي أن أبا بكر رضى الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أسماء قد نفست قال: "مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج". ومعلوم أن الاغتسال الواجب مع النفاس والحيض لا يتأدى فعرفنا أن هذا الاغتسال لمعنى النظافة وما كان لهذا المقصود فالوضوء يقوم مقامه كما في العيدين والجمعة ولكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أكمل ثم ألبس ثوبين إزارا ورداء جديدين أو غسيلين هكذا ذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ائتزر وارتدى عند إحرامه ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط ولا بد له من ستر العورة فتعين للستر الارتداء والائتزار والجديد والغسيل في هذا المقصود سواء غير أن الجديد أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "تزين لعبادة ربك".(4/4)
قال: وادهن بأي دهن شئت وهو الظاهر من المذهب عندنا أنه لا بأس بأن يتطيب ويدهن قبل إحرامه بما شاء وروي عن محمد رحمه الله تعالى قال كنت لا أرى بذلك بأسا حتى رأيت أقواما يحضرون طيبا كثيرا ويصنعون شيئا شنعا فكرهت ذلك وهو قول مالك رحمه الله تعالى وقد نقل عن عمر وعثمان رضي الله عنهما كراهة ذلك وحجة هذا القول حديث الأعرابي حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة متضمخة أي متلطخة بالخلوق فسأله عن العمرة فلم يجبه حتى نزل عليه الوحي فلما سرى عنه قال "أين السائل عن العمرة؟" فقال الأعرابي: ها أنا ذا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "أما جبتك فانزعها وأما الخلوق فاغسله واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك", فقد أمره بإزالة الطيب عن نفسه عند الإحرام.
ولنا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يزور البيت وفي رواية كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إحرامه فتطيبوا وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمخا جباهنا بالمسك ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ولا يكرهه.
وتأويل حديث الإعرابي أنه كره الخلوق له لكونه بمنزلة الثوب المورس والمزعفر ومعنى كراهة محمد رحمه الله تعالى لاستعمال الطيب الكثير أنه بعد الإحرام ربما ينتقل على بدنه من موضع إلى موضع فيكون ذلك بمنزلة التطيب ابتداء بعد الإحرام في الموضع الثاني ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا تلزمه الكفارة بهذا ولو كان بهذه المنزلة لوجب عليه الكفارة.(4/5)
ص -5- ... واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا تطيب بعد إحرامه وكفر ثم تحول الطيب مع عرقه من موضع إلى موضع.
فمنهم من يقول: لا تلزمه كفارة جديدة لأن أصل فعله قد انقطع بالتكفير فلا معتبر بأثره كما لو فعله قبل الإحرام.
ومنهم من قال: تلزمه كفارة أخرى هنا لأن أصل فعله كان محظورا فتحوله من موضع إلى موضع يكون جناية أيضا في حكم الكفارة بخلاف ما قبل الإحرام فإن أصل فعله لم يكن محظورا ثم لا معتبر ببقاء الأثر بعد الإحرام إذا كان أصل فعله قبل الإحرام كالحلق.
ثم قال وصلى ركعتين لحديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا".
وفيما ذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه ثم قال: "وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني" لأنه محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة ويبقي في ذلك أياما فيطلب التيسير من الله تعالى إذ لا يتيسر للعبد إلا ما يسره الله تعالى ويسأل القبول كما فعله الخليل وإسماعيل صلوات الله عليهما في قولهما ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ولم يأمر بمثل هذا الدعاء لمن يريد افتتاح الصلاة لأن أداءها يسير عادة ولا تطول في أدائها المدة.
فأما أركان الحج متفرقة على الأمكنة والأزمنة ولا يؤمن فيها اعتراض الموانع عادة فلهذا أمر بتقديم سؤال التيسير قال ثم لب في دبر صلواتك تلك فإن شئت بعد ما يستوي بك بعيرك والكلام فيه في فصول:
أحدها: في اشتقاق التلبية لغة فقيل هو مشتق من قولهم ألب الرجل إذا أقام في مكان فمعنى قول القائل لبيك أنا مقيم على طاعتك وقيل هو مشتق من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها فمعنى قوله لبيك اتجاهي لك يا رب وقيل هو مشتق من قولهم امرأة لبة أي محبة لزوجها فمعناه محبتي لك يارب.(4/6)
والثاني: أن المختار عندنا أن يلبي من دبر صلواته وهذا قول بن عباس رضي الله عنه وكان بن عمر رضي الله عنه يقول يلبي حين تستوي به راحلته وذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حين علا البيداء إلا أن بن عمر رضي الله عنه رد هذا فقال: إن بيداءكم هذه تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال قلت لابن عباس رضي الله عنه كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حج إلا مرة واحدة؟ قال لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلواته فسمع ذلك قوم من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فنقلوه وكانوا القوم يأتونه أرسالا فلبى حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا(4/7)
ص -6- ... ذلك ثم لبى حين علا البيداء فسمعه آخرون فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ذلك وأيم الله ما أوجبها إلا في مصلاه.
والثالث: أنه لا خلاف أن التلبية جواب الدعاء والكلام في أن الداعي من هو؟ فقيل: الداعي هو الله تعالى كما قال تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}[ابراهيم: 10] وقيل: الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلوات الله عليه إن سيدا بنى دارا واتخذ فيها مأدبة وبعث داعيا وأراد بالداعي نفسه والأظهر أن الداعي هو الخليل صلوات الله عليه على ما روي أنه لما فرغ من بناء البيت أمر بأن يدعو الناس إلى الحج فصعد بأبي قبيس وقال ألا إن الله تعالى أمر ببناء بيت له وقد بنى ألا فحجوه فبلغ الله صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم فمنهم من أجاب مرة ومنهم من أجاب مرتين وأكثر من ذلك وعلى حسب جوابهم يحجون وبيان هذا في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج: 27] الآية فالتلبية إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه وسلامه.
ثم صفة التلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك هكذا رواه بن عمر وبن مسعود رضي الله عنهما في صفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل اللغة من اختار نصب الألف في قوله إن الحمد ومعناه لأن الحمد أو بأن الحمد فأما المختار عندنا الكسر وهو المروي عن محمد رحمه الله تعالى ووافقه الفراء لأن بكسر الألف يكون ابتداء الثناء وبنصب الألف يكون وصفا لما تقدم وابتداء الثناء أولى ولا بأس عندنا في الزيادة على هذه التلبية وبين العلماء اختلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.(4/8)
فظاهر المذهب عندنا أن غير هذا اللفظ من الثناء والتسبيح يقوم مقامه في حق من يحسن التلبية أو لا يحسن وكذلك لو أتي به بالفارسية فهو والعربية سواء أما على قول أبي حنيفة فظاهر لأنا قد بينا مذهبه في التكبير عند افتتاح الصلوات أن المعتبر ذكر الله تعالى على سبيل التعظيم وأن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء فكذلك هنا ومحمد رحمه الله تعالى هناك يقول لا يتأدى بالفارسية ممن يحسن العربية وهنا يتأدى لأن غير الذكر هنا يقوم مقام الذكر وهو تقليد الهدي فكذلك غير العربية يقوم مقام العربية بخلاف الصلوات وبهذا يفرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين التلبية والتكبير عند افتتاح الصلوات وقد روى الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن غير التلبية من الأذكار لا يقوم مقام التلبية هنا كما في الصلوات على قوله ولا يصير محرما بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية أو ما يقوم مقامها خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال: والمستحب رفع الصوت بالتلبية هكذا روى خلاد بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرني جبريل عليه السلام أن آمر أمتي أو من معي بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية", وقال صلى الله عليه وسلم:(4/9)
ص -7- ... "أفضل الحج العج والثج". فالعج: رفع الصوت بالتلبية, والثج: إراقة الدم. والمستحب عندنا في الأذكار والدعاء الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود كالأذان للإعلام والخطبة للوعظ وتكبيرات الصلوات لإعلام التحرم والانتقال والقراءة لإسماع المؤتم فالتلبية للشروع فيما هو من إعلام الدين فلهذا كان المستحب رفع الصوت به.
قال: فإذا لبيت فقد أحرمت يعني إذا نويت ولبيت إلا أنه لم يذكر النية لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج قال فاتق ما نهى الله عنه من قتل الصيد والرفث والفسوق والجدال.
أما قتل الصيد فالمحرم منهي عنه في قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] والصيد محرم عليه ما دام محرما لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96] وأما الرفث والفسوق والجدال فالنهي عنها في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197] فهو نهي بصيغة النفي وهذا آكد ما يكون من النهي.
وفي تفسير الرفث قولان:
أحدهما: الجماع, بيانه في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ}[البقرة: 187] والثاني: الكلام الفاحش إلا أن بن عباس رضي الله عنه كان يقول إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في إحرامه:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
لميس اسم جاريته فقيل له أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث بحضرة النساء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه كنا ننشد الأشعار في حالة الإحرام فقيل له: مثل ماذا؟ فقال: مثل قول القائل:
قامت تريك رهبة إن تصر ما ... ساقا بحناء وكعبا أدرما
ذكر في كفاية المتحفظ.
وأما الفسوق فهو اسم للمعاصي وذلك منهي عنه في الإحرام وغير الإحرام إلا أن الحظر في الإحرام أشد لحرمة العبادة.
وفي تفسير الجدال قولان:
أحدهما: أن يجادل رفيقه في الطريق.(4/10)
والثاني: أن المراد مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره وذلك هو النسيء الذي قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}[التوبة: 37] الآية وذلك منفي بعد الإسلام.
قال: ولا يشير إلى صيد ولا يدل عليه لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضوان الله عليهم وكانوا محرمين: "هل أشرتم هل أعنتم هل دللتم" فقالوا: لا فقال: "إذن فكلوا". ولأن المحرم على المحرم التعرض للصيد بما يزيل الأمن عنه وذلك(4/11)
ص -8- ... يحصل بالدلالة والإشارة وربما يتطرق به إلى القتل وما يكون محرم العين فهو محرم بدواعيه كالزنا.
قال: ولا تغط رأسك ولا وجهك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس للرجل بأن يغطي وجهه ولا يغطي رأسه والمرأة تغطي رأسها لا وجهها واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها".
ولنا حديث الأعرابي حين وقصت به ناقته في أخافيق جردان وهو محرم فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تخمروا رأسه ووجهه", وفي هذا تنصيص على أن المحرم لا يغطي رأسه ووجهه ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه حين اشتكت عينه في حال الإحرام أن يغطي وجهه فتخصيصه حالة الضرورة بالرخصة دليل على أن المحرم منهي عن تغطية الوجه ولأن المرأة لا تغطى وجهها بالإجماع مع أنها عورة مستورة فإن في كشف الوجه منها خوف لفتنة فلأن لا يغطي الرجل وجهه لأجل الإحرام أولى وتأويل الحديث بيان الفرق بين الرجل والمرأة في تغطية الرأس.
قال: ولا تلبس قباء ولا قميصا ولا سراويل ولا قلنسوة لحديث بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس المحرم القباء ولا القميص ولا السراويل ولا القلنسوة ولا الخفين إلا أن يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تتنقب المرأة الحرام".(4/12)
قال: ولا تلبس ثوبا مصبوغا بالعصفر ولا بالزعفران ولا بالورس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران أو ورس", وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا بعد إحرامه علاه بالدرة فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنما هو بمشق فقال نعم ولكن من ينظر إليك من بعد لا يعرف ذلك فيرجع إلى قبيلته ويقول رأيت على طلحة في إحرامه ثوبا مصبوغا فيعيرك الناس بذلك فإن كان قد غسل حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه لأن المنهي نفس الطيب لا لونه وبعد الغسل بهذه الصفة لا يبقى من عين الطيب فيه شيء.
قال: ولا تمس طيبا بعد إحرامك ولا تدهن لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحاج الشعث التفل" واستعمال الدهن والطيب يزيل هذه الصفة فيكون محرما بعد الإحرام.
قال: وإذا حككت رأسك فارفق بحكه حتى لا يتناثر الشعر فإن إزالة ما ينمو من البدن حرام على المحرم لأن أوان قضاء التفث عند التحلل من الإحرام كما قال الله تعالى بعد ذبح الهدي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29].
قال: ولا تغسل رأسك ولحيتك بالخطمى لأن الخطمى تقتل هوام الرأس وتزيل الشعث الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الحاج وهو من نوع قضاء التفث أيضا.
قال: ولا تقص أظفارك لأنه إزالة ما ينمو من البدن فكان من نوع قضاء التفث.(4/13)
ص -9- ... قال وأكثر من التلبية في دبر كل صلاة وكلما لقيت ركبا وكلما علوت شرفا وكلما هبطت واديا وبالأسحار هكذا نقل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يلبون في هذه الأحوال ثم تلبية المحرم في أدبار الصلوات كتكبير غير المحرم في أيام الحج في أدبار الصلوات فكما يؤتى بالتكبير بعد السلام فكذلك بالتلبية وكما أن المصلي يكبر عند الانتقال من ركن إلى ركن فكذلك لمحرم يلبي عند الانتقال من حال إلى حال وروى الأعمش عن خثعمة قال كانوا يستحبون التلبية عند ست في أدبار الصلوات وإذا استعطف الرجل براحلته وإذا صعد شرفا وإذا هبط واديا وإذا لقي بعضهم بعضا وبالأسحار.
قال: وإذا قدمت مكة فلا يضرك ليلا دخلتها أو نهارا لأن هذا دخول بلدة فيستوي فيه الليل والنهار كسائر البلدان والرواة اختلفوا في وقت دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فروى جابر رضي الله عنه أنه صلى العشاء بذي طوى ثم هجع هجعة ثم دخل مكة فطاف ليلا وروى بن عمر رضي الله عنه أنه بات بذي طوى فلما أصبح دخل مكة نهارا والذي روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى الناس عن دخول مكة ليلا كان ذلك للإشفاق مخافة السرق ليرى الإنسان أين ينزل ويضع رحله وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حين قدم مكة معتمرا في رمضان وجد الناس يصلون التراويح فصلى معهم وعن عائشة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أنهم كانوا يدخلون مكة ليلا.(4/14)
قال: فادخل المسجد لأنه قصد زيارة البيت والبيت في المسجد وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة دخل المسجد فلما وقع بصره على البيت قال: "اللهم زد بيتك تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة", ولم يذكر في الكتاب تعيين شيء من الأدعية في مشاهد الحج لما قال محمد رحمه الله تعالى التوقيت في الدعاء يذهب رقة القلب فاستحبوا أن يدعو كل واحد بما يحضره ليكون أقرب إلى الخشوع وإن تبرك بما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن وكان بن عمر رضي الله عنه يقول إذا لقي البيت بسم الله والله أكبر وعن عطاء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي البيت يقول: "أعوذ برب البيت من الدين والفقر ومن ضيق الصدر وعذاب القبر".
قال: ثم ابدأ بالحجر الأسود فاستلمه هكذا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالحجر الأسود فاستلمه وعن عمر رضي الله عنه أنه استلم الحجر الأسود وقال رأيت أبا القاسم بك حفيا وعن بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع شفتيه عليه وبكى طويلا ثم نظر فإذا هو بعمر رضي الله عنه فقال: "يا عمر هنا تسكب العبرات". وإن عمر رضي الله عنه في خلافته لما أتى الحجر الأسود وقف فقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك فبلغت مقالته عليا رضي الله عنه فقال: أما إن الحجر ينفع فقال له عمر رضي الله عنه وما منفعته يا(4/15)
ص -10- ... ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى لما أخذ الذرية من ظهر آدم عليه السلام وقررهم بقوله: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أودع إقرارهم الحجر", فمن يستلم الحجر فهو يجدد العهد بذلك الإقرار والحجر يشهد له يوم القيامة واستلام الحجر للطواف بمنزلة التكبير للصلوات فيبدأ به طوافه.
قال: إن استطعت من غير أن تؤذي مسلما لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر وهلل"، ولأن استلام الحجر سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب فلا ينبغي له أن يؤذي مسلما لإقامة السنة ولكن إن استطاع تقبيله فعل وإلا مس الحجر بيده وقبل يده وإن لم يستطع ذلك أمس الحجر شيئا من عرجون أو غيره ثم قبل ذلك الشيء جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن لم يستطع شيئا من ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا استقبال مستحب غير واجب لأن استقبال البيت عند الطواف لو كان واجبا كان في جميعه كاستقبال القبلة في الصلوات ولكنه مستحب لحديث بن عباس رضي الله عنهما قال إن الحجر يبعث يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به فيشهد بالحق لمن استلمه أو استقبله.
قال: ثم خذ عن يمينك على باب البيت فطف سبعة أشواط هكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على يمينه من باب الكعبة فطاف سبعة أشواط ومقادير العبادة تعرف بالتوقيف لا بالرأي.(4/16)
قال: يرمل في الثلاثة الأول في كل شوط منها من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود فالحاصل أن كل طواف بعده سعي فالرمل في الثلاثة الأول منها سنة وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه والرمل هو الاضطباع وهز الكتفين وهو أن يدخل أحد جانبي ردائه تحت إبطه ويلقيه على المنكب الآخر ويهز الكتفين في مشيه كالمبارز الذي يتبختر بين الصفين وكان بن عباس رضي الله عنه يقول لا رمل في الطواف وإنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهارا للجلادة للمشركين على ما روي أن في عمرة القضاء لما أخلوا له البيت ثلاثة أيام وصعدوا الجبل طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فسمع بعض المشركين يقول لبعض أضناهم حمى يثرب فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فرمل فقال لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: "رحم الله امرأ أرى من نفسه قوة وجلدا". فإذا كان ذلك لإظهار الجلادة يومئذ وقد انعدم ذلك المعنى الآن فلا معنى للرمل. والمذهب عندنا أن الرمل سنة لحديث جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر في حجة الوداع فرمل في الثلاثة الأول ولم يبق المشركون بمكة عام حجة الوداع وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد الرمل في طوافه فقال علام أهز(4/17)
ص -11- ... كتفي وليس هنا أحد أرائيه ولكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فأفعله اتباعا له وأكثر ما فيه أن سببه ما ذكره بن عباس رضي الله عنه ولكنه صار سنة بذلك السبب فيبقى بعد زواله كرمى الجمار سببه رمي الخليل صلوات الله عليه الشيطان ثم بقي بعد زوال ذلك السبب والرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود عندنا.
وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه لا رمل بين الركن اليماني والحجر وإنما الرمل من الحجر إلى الركن اليماني وروي في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لأن المشركين كانوا يطلعون عليه فإذا تحول إلى الجانب الآخر حال البيت بينه وبينهم فكان لا يرمل وبهذا أخذ سعيد بن جبير وعطاء رحمهما الله تعالى ولكنا نأخذ بحديث جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر.
قال: وإن زحمك الناس في رملك فقم فإذا وجدت مسلكا فارمل لأنه تعذر عليه إقامة السنة في الطواف للزحام فليصبر حتى يتمكن من إقامة السنة كالمزحوم يوم الجمعة يصبر حتى يتمكن من السجود وتطوف الأربعة الأشواط الأخر مشيا على هينتك على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما مررت بالحجر الأسود في طوافك هذا فاستلمه إن استطعت من غير أن تؤذي مسلما فإن لم تستطع فاستقبله وكبر وهلل لأن أشواط الطواف كركعات الصلوات فكما تفتتح كل ركعة تقوم إليها بالتكبير فكذلك تفتتح كل شوط باستلام الحجر وإن أفتتحت به الطواف وختمت به أجزأك كما في الصلوات فترك تكبيرات الانتقال لا يمنع الجواز فكذلك لا بأس بترك استلام الحجر عند افتتاح كل شوط فإذا كان افتتاحه للطواف باستلام الحجر وختمه بذلك ففيما بين ذلك يجعل كالمستلم حكما.(4/18)
قال: وليكن طوافك في كل شوط وراء الحطيم والحطيم اسم لموضع بينه وبين البيت فرجة يسمى ذلك الموضع حطيما وحجرا فتسميته بالحجر على معنى أنه حجر من البيت أي منع منه وتسميته بالحطيم على معنى أنه محطوم من البيت أي مكسور منه فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى مقتول وقيل بل فعيل بمعنى فاعل أي حاطم كالعليم بمعنى عالم وبيانه فيما جاء في الحديث "من دعى على من ظلمه فيه حطمه الله تعالى" فينبغي لمن يطوف أن لا يدخل في تلك الفرجة في طوافه ولكنه يطوف وراء الحطيم كما يطوف وراء البيت لأن الحطيم من البيت.
وهكذا روي أن عائشة رضي الله عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت ركعتين فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم وقال: "صلي هنا فإن الحطيم من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة وأظهرت قواعد الخليل صلوات الله عليه وأدخلت الحطيم في البيت والصقت العتبة بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ولئن عشت إلى قابل(4/19)
ص -12- ... لأفعلن ذلك". فلم يعش صلى الله عليه وسلم ولم يتفرغ لذلك أحد من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم حتى كان زمن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وكان سمع الحديث فيها ففعل ذلك وأظهر قواعد الخليل صلوات الله عليه وبنى البيت على قواعد الخليل صلوات الله عليه بمحضر من الناس وأدخل الحطيم في البيت فلما قتل كره الحجاج أن يكون بناء البيت على ما فعله بن الزبير فنقض بناء الكعبة وأعاده على ما كان عليه في الجاهلية.
فإذا ثبت أن الحطيم من البيت فالطواف بالبيت كما قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 29] ينبغي له أن يطوف من وراء الحطيم ولا يقال لو استقبل الحطيم في الصلاة لا تجوز صلاته ولو كان الحطيم من البيت لجازت لأن كون الحطيم من البيت إنما يثبت بخبر الواحد وفرضية استقبال القبلة بالنص فلا يتأدى بما ثبت بخبر الواحد والحاصل أنه يحتاط في الطواف والصلاة جميعا لأن خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين.
قال: ثم إئت المقام فصل عنده ركعتين أو حيثما تيسر عليك من المسجد هكذا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى المقام وصلى ركعتين وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله لو صليت في مقام إبراهيم فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}[البقرة: 125] فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المقام ركعتين وهاتان الركعتان عند الفراغ من الطواف واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين"، والأمر للوجوب ولأن عمر رضي الله عنه نسي ركعتي الطواف حين خرج من مكة فلما كان بذي طوى صلاهما وقال ركعتان مكان ركعتين وقال: "أو حيث تيسر عليك من المسجد"، ومراده أن الزحام يكثر عند المقام فلا ينبغي أن يتحمل المشقة لذلك ولكن المسجد كله موضع الصلاة فيصلي حيث تيسر عليه.(4/20)
قال: فإذا فرغت منها فعد إلى الحجر فاستلمه فإن لم تستطع فاستقبل وهلل وكبر والأصل أن كان كل طواف بعده سعي يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الفراغ من الصلاة وكل طواف ليس بعده سعي لا يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الصلاة لأن الطواف الذي ليس بعده سعي عبادة قد تم فراغه منها حين فرغ من الركعتين فلا معنى للعود إلى ما به بدء الطواف فأما الطواف الذي بعده سعي فكما يفتتح طوافه باستلام الحجر فكذلك السعي يفتتح باستلام الحجر فلهذا يعود إلى الحجر فيستلمه.
قال: ثم أخرج إلى الصفا فمن أي باب شاء خرج إلا أن جابرا رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من باب بني مخزوم وليس ذلك بسنة بل إنما فعله لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا فهو الذي يسمى الآن باب الصفا فإذا خرج بدأ بالصفا لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيهما نبدأ قال: "ابدؤا بما بدأ الله تعالى به"، يريد قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة: 158].(4/21)
ص -13- ... قال: وقم عليها مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتكبر وتهلل وتلبي وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتدعو الله تعالى بحاجتك لما روي عن بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل البيت يدعو وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا استقبل البيت وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم قرأ مقدار خمسة وعشرين آية من سورة البقرة ثم نزل وجعل يمشي نحو المروة فلما انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى التوى إزاره بساقيه وهو يقول: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم"، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط.
ثم الصعود على الصفا ليصير البيت بمرأى العين منه فإنما يصعد بقدر ما يحصل به هذا المقصود وهذا المقصود كان ليستقبل البيت فينبغي أن يستقبله فيأتي بالتحميد والثناء والتكبير والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصده أن يسأل حاجته من الله تعالى فيجعل الثناء مقدمة دعائه وبعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعله الداعي عند ختم القرآن وغير ذلك ثم ذكر الدعاء هنا ولم يذكره عند استلام الحجر لأن تلك الحالة حال ابتداء العبادة وهذا حال ختم العبادة فإن ختم الطواف بالسعي يكون والدعاء عند الفراغ من العبادة لا عند ابتدائها كما في فصل الصلاة.(4/22)
قال: ثم اهبط منها نحو المروة وامش على هينتك مشيا حتى تأتي بطن الوادي فاسع في بطن الوادي سعيا فإذا خرجت منه تمشي على هينتك مشيا حتى تأتي المروة فتصعد عليها وتقوم مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتهلل وتكبر وتلبي وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو الله تعالى بحاجتك وللناس في أصل السعي في بطن الوادي كلام فقد قيل بأن أصله من فعل أم إسماعيل هاجر حين كانت في طلب الماء كلما صار الجبل حائلا بينها وبين النظر إلى ولدها كانت تسعى حتى تنظر إلى ولدها شفقة منها على الولد فصار ذلك سنة والأصح أن يقال فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسكه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أن يفعلوا ذلك فنفعله اتباعا له ولا نشتغل بطلب المعنى فيه كما لا نشتغل بطلب المعنى في تقدير الطواف والسعي بسبعة أشواط.
قال: فطف بينهما هكذا سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة وتسعى في بطن الوادي في كل شوط وظاهر ما قال في الكتاب أن ذهابه به من الصفا إلى المروة شوط ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر وإليه أشار في قوله يبدأ بالصفا ويختم بالمروة وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه يطوف بينهما سبعة أشواط من الصفا إلى الصفا وهو لا يعتبر رجوعه ولا يجعل ذلك شوطا آخر والأصح ما ذكر في الكتاب لأن رواة نسك رسول(4/23)
ص -14- ... الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على أنه طاف بينهما سبعة أشواط وعلى ما قاله الطحاوي رحمه الله تعالى يصير أربعة عشر شوطا.
قال: ثم تقيم بمكة حراما لا تحل منه بشيء وهذا لأنه أحرم بالحج فلا يتحلل ما لم يأت بأفعال الحج.
قال: وتطوف بالبيت كلما بدا لك وتصلي لكل أسبوع ركعتين فإن الطواف بالبيت مشبه بالصلوات قال صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة"، إلا أن الله تعالى أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر وكذلك الطواف ولكنه لا يسعى عقيب سائر الأطوفة في هذه المدة لأن السعي الواحد من الواجبات للحج وقد أتى به فلو سعى بعد ذلك كان متنفلا به والتنفل بالسعي غير مشروع.
قال: حتى تروح مع الناس إلى منى يوم التروية فتبيت بها ليلة عرفة وتصلي بها الغداة يوم عرفة هكذا روى جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يوم عرفة ثم راح إلى عرفات.
قال: ثم تغدو إلى عرفات لحديث بن عمر رضي الله عنه أن جبرائيل صلوات الله عليه أتى إبراهيم يوم التروية فأمره فراح إلى منى وبات بها ثم غدا به إلى عرفات.
قال: وتنزل بها مع الناس لأنه من الناس فينزل حيث ينزلون ومراده أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم.(4/24)
قال: فإن صليت الظهر والعصر مع الإمام فحسن والحاصل أنه كما زالت الشمس يوم عرفة يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر بعرفات هكذا روى جابر رضي الله عنه في حديثه قال لما زالت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر والعصر بأذان وإقامتين وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن لا يخالف بن عمر رضي الله عنه في شيء من أمر المناسك فلما زالت الشمس أتى بن عمر رضي الله عنه سرادقه فقال: أين هذا؟ فخرج الحجاج فقال: إن أردت السنة فالساعة فقال: انتظرني حتى أغتسل فانتظره فاغتسل وراح إلى المصلى والاغتسال في هذا الوقت بعرفات سنة فإن اكتفى بالوضوء أجزأه وإن اغتسل فهو أفضل كما عند الإحرام وكما في العيدين والجمعة ثم يخطب قبل الصلاة خطبتين بينهما جلسة كما في الجمعة والعيدين هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن المقصود تعليم الناس المناسك والجمع بين الصلاتين من المناسك فيقدم الخطبة عليه لتعليم الناس ولأنهم بعد الفراغ من الصلاة يتفرقون في الموقف ولا يجتمعون لاستماع الخطبة.
وفي ظاهر المذهب إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذن كما في الجمعة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يؤذن قبل خروج الإمام لأن هذا الأذان لأداء الظهر كما في(4/25)
ص -15- ... سائر الأيام وهذا قوله الأول فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذن وصلى الإمام بالناس الظهر ركعتين إذا كان مسافرا ثم يقوم المؤذن فيقوم ثانية فيصلي بهم العصر من غير أن يتنفل بين الصلاتين هكذا رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صفة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن تقديم العصر على وقته ليتوصل إلى الوقوف المقصود ولئلا ينقطع وقوفه فلأن لا يشتغل بالنافلة بين الصلاتين ليحصل هذا المقصود أولى وإنما يعيد الإقامة للعصر لأنه معجل على وقته المعهود فيعيد الإقامة له إعلاما للناس وإن اشتغل بالتطوع بين الصلاتين أعاد الأذان للعصر إلا في رواية بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال ما دام في وقت الظهر لا يعيد الأذان للعصر فأما في ظاهر الرواية فاشتغاله بالنفل أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول فيعيد الأذان للعصر.
قال: وإن لم يدرك الجمع مع الإمام وأراد أن يصلي وحده صلى كل صلاة لوقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يجمع بينهما كما يفعل مع الإمام قال في الكتاب بلغنا ذلك عن عائشة وبن عمر رضي الله عنهم وعلل فقال لأن العصر إنما قدمت لأجل الوقت.
ومعنى هذا الكلام: أن الجمع بين الصلاتين إنما جاز لحاجته إلى امتداد الوقوف فإن الموقف هبوط وصعود لا يمكن تسوية الصفوف فيها فيحتاجون إلى الخروج منها والاجتماع لصلاة العصر فينقطع وقوفهم وامتداد الوقوف إلى غروب الشمس واجب فللحاجة إلى ذلك جوز له الجمع بين الصلاتين وفي هذا المنفرد والذي يصلي مع الإمام سواء وقاس هذا الجمع بالجمع الثاني بالمزدلفة فإن الإمام فيه ليس بشرط بالاتفاق وهذا النسك معتبر بسائر المناسك في أنه لا يشترط فيه الإمام وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}[النساء: 103]أي فرضا مؤقتا.(4/26)
فالمحافظة على الوقت في الصلاة فرض بيقين فلا يجوز تركه إلا بيقين وهو الموضوع الذي ورد النص به وإنما ورد النص بجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين والخلفاء من بعده فلا يجوز الجمع إلا بتلك الصفة وكأن المعنى فيه أن هذا الجمع مختص بمكان وزمان ومثله لا يجوز إلا بإمام كإقامة الخطبة مقام ركعتين في الجمعة لما كان مختصا بمكان وزمان كان الإمام شرطا فيه بخلاف الجمع الثاني فإنه أداء المغرب في وقت العشاء وذلك غير مختص بمكان وزمان فأما هذا تعجيل العصر على وقته وذلك لا يجوز إلا في هذا المكان وهذا الزمان.
ثم يسلم أن هذا الجمع لأجل الوقوف ولكن الحاجة إلى الجمع للجماعة لا للمفرد لأن المنفرد يمكنه أن يصلي العصر في وقته في موضع وقوفه فإن المصلي واقف فلا ينقطع وقوفه بالاشتغال بالصلاة وإنما يحتاجون إلى الخروج لتسوية الصفوف إذا أدوها بالجماعة ولأنه يشق عليهم الاجتماع فإنهم بعد الفراغ من الصلاة يتفرقون في الموقف فيختار كل(4/27)
ص -16- ... واحد منهم موضعا خاليا يناجي فيه ربه عز وجل وهذا المعنى ينعدم في حق المنفرد لأنه يمكنه أداء العصر في وقته في موضع خلوته وحديث عائشة وبن عمر رضي الله تعالى عنهم محمول على الإمام الأجل وهو الخليفة أنه ليس بشرط ثم يعارضه قول بن مسعود رضي الله تعالى عنه يصلي المنفرد كل صلاة لوقتها.
قال: ولو فاته الظهر مع الإمام وأدرك العصر معه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يجمع بينهما أيضا وعند زفر رحمه الله تعالى يجمع بينهما لأن التغيير إنما وقع في العصر فإنها معجلة على وقتها واشتراط الإمام لوقوع التغيير فيقتصر على ما وقع فيه التغيير.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العصر في هذا اليوم كالتبع للظهر لأنهما صلاتان أديتا في وقت واحد والثانية منهما مرتبة على الأولى فكان بمنزلة العشاء مع الوتر فكما أن الوتر تبع للعشاء فكذلك العصر تبع للظهر هنا ولما جعل الإمام شرطا في التبع كان شرطا في الأصل بطريق الأولى ودليل التبعية أنه لا يجوز العصر في هذا اليوم إلا بعد صحة أداء الظهر حتى لو تبين في يوم الغيم إنهم صلوا الظهر قبل الزوال والعصر بعده لزمهم إعادة الصلاتين وكذلك لو جدد الوضوء بين الصلاتين ثم تبين أنه صلى الظهر بغير وضوء لزمه إعادة الصلاتين بخلاف سائر الأيام.
وعلى هذا الإحرام بالحج شرط لأداء هاتين الصلاتين حتى أن الحلال إذا صلى الظهر مع الإمام ثم أحرم بالحج فصلى العصر والمحرم بالعمرة صلى الظهر مع الإمام ثم أحرم بالحج فصلى العصر معه لم يجزه العصر إلا في وقتها وعند زفر رحمه الله تعالى يجزيه وفي إحدى الروايتين يشترط لهذا الجمع أن يكون محرما بالحج قبل زوال الشمس لأن بزوال الشمس يدخل وقت الجمع ويختص بهذا الجمع المحرم بالحج فيشترط تقديم الإحرام بالحج على الزوال.(4/28)
وفي الرواية الأخرى وإن أحرم بالحج بعد الزوال فله أن يجمع بين الصلاتين لأن اشتراط الإحرام بالحج لأجل الصلاة لا لأجل الوقت فإذا صلى العصر راح إلى الموقف فوقف به ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبي ويدعو الله تعالى بحاجته والحاصل فيه أنه يقف في أي موضع شاء من الموقف والأفضل أن يقف بالقرب من الإمام لأن الإمام يعلم الناس ما يحتاجون إليه ويدعو فمن كان أقرب إليه كان أقرب إلى الاستماع والتأمين على دعائه فيكون أفضل.
قال: وينبغي أن يقف مستقبل القبلة إن شاء راكبا وإن شاء على قدميه وقد ذكر جابر رضي الله عنه في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على راحلته وجعل نحرها إلى بطن المحراب فوقف عليها مستقبل القبلة يدعو وفي الحديث: "خير المواقف ما استقبلت به القبلة"، وإن اختار بوقوفه موضعا آخر بالبعد من الإمام جاز لحديث عطاء رحمه الله تعالى،(4/29)
ص -17- ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف وفجاج مكة كلها منحر". وفي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن وادي محسر وفي وقوفه يدعو"، هكذا رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري"، حديث فيه طول وقد بينا أنه يختار من الدعاء ما يشاء واجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم.
قال: ويلبي في هذا الموقف عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى الحاج يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن إجابته باللسان إلى أن يحضر وقد تم حضوره فإن معظم أركان الحج الوقوف بعرفة قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لبى عشية عرفة فقال له رجل يا شيخ ليس هذا موضع التلبية فقال بن مسعود رضي الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد؟ لبيك عدد التراب لبيك حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية في هذه العبادة كالتكبير في الصلوات وكما يأتي بالتكبير إلى آخر الصلاة فكذلك يأتي بالتلبية هنا إلى وقت الخروج من الإحرام وذلك عند الرمي يكون.(4/30)
قال: وإذا غربت الشمس دفع على هينته على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف بعرفة حتى إذا غربت الشمس دفع منها وروي أنه خطب عشية عرفة فقال: "أيها الناس إن أهل الجاهلية والأوثان يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس إذا تعممت بها رؤوس الجبال كعمائم الرجال في وجوههم وإن هدينا ليس كهديهم فادفعوا بعد غروب الشمس". فقد باشر ذلك وأمر به إظهارا لمخالفة المشركين فليس لأحد أن يخالف ذلك إلا أنه إن خاف الزحام فتعجل قبل الإمام فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفة قبل غروب الشمس وكذلك إن مكث قليلا بعد غروب الشمس وذهاب الإمام مع الناس لخوف الزحام فلا بأس به بعد أن لا يطوله لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت.
قال: ويمشى على هينته في الطريق هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل عليكم بالسكينة والوقار". وروى جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي على راحلته في الطريق على هينته حتى إذا كان في بطن الوادي أوضع راحلته وجعل يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... مفارقا دين النصاري دينها
معترضا في بطنها جنينها(4/31)
ص -18- ... فزعم بعض الناس أن الإيضاع في هذا الموضع سنة ولسنا نقول به وتأويله أن راحلته كلت في هذا الموضع فبعثها فانبعثت كما هو عادة الدواب لا أن يكون قصده الإيضاع.
قال: ولا يصلي المغرب في الطريق حتى يأتي المزدلفة لما روي أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق من المزدلفة فقال: الصلاة يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: "الصلاة أمامك"، ومراده من هذا اللفظ إما الوقت أو المكان ولم يصل حتى انتهى إلى المزدلفة فكان ذلك دليلا ظاهرا على أنه لا يشتغل بالصلاة قبل الإتيان إلى المزدلفة فإذا أتى المزدلفة نزل بها مع الناس وإنما ينزل عن يمين الطريق أو عن يساره ويتحرز عن النزول على الطريق كيلا يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم فيصلي المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة وقال زفر رحمه الله تعالى بأذان وإقامتين هكذا رواه بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر جابر رضي عنه يروي أنه جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة والمراد بحديث بن عمر رضي الله عنه هذا أيضا إلا أنه سمى الأذان إقامة وكل واحد منهما يسمى باسم صاحبه قال صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء", يريد بين الأذان والإقامة ثم العشاء هنا مؤداة في وقتها المعهود فلا تقع الحاجة إلى إفراد الإقامة لها بخلاف العصر بعرفات فإنها معجلة على وقتها وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الإقامة فتأويله أنه اشتغل بين الصلاتين بنفل أو شغل آخر وعندنا في مثل هذا الموضع تفرد الإقامة للعشاء وقد ذكر في بعض روايات بن عمر رضي الله عنه أنه تعشى بعد المغرب ثم أفرد الإقامة للعشاء.(4/32)
قال: ثم يبيت بها فإذا انشق الفجر صلى الفجر بغلس هكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى العشاء بالمزدلفة بسط له شيء فبات عليه فلما طلع الفجر صلى الفجر وقال بن مسعود رضي الله عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل ميقاتها إلا صلاة الفجر صبيحة الجمع فإنه صلاها يومئذ بغلس ولأن الأسفار بالفجر وإن كان أفضل في سائر المواضع ففي هذا الموضع التغليس أفضل لحاجته إلى الوقوف بعده وفي الأسفار بعض التأخير في الوقوف فإذا كان يجوز تعجيل العصر على وقتها للحاجة إلى الوقوف بعدها فلأن يجوز التغليس بالفجر كان أولى.
قال: ثم يقف بالمشعر الحرام مع الناس يحمد الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويلبي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله تعالى بحاجته وهذا الوقوف منصوص عليه في القرآن والوقوف بعرفات مشار إليه في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}[البقرة: 198]. وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع يدعو حتى قال بن عباس رضي الله عنه رأيت يديه عند نحره بالمشعر الحرام وهو يدعو كالمستطعم المسكين وإنما تم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف فإنه دعا لأمته فاستجيب له في الدماء والمظالم أيضا(4/33)
ص -19- ... والناس في الجاهلية كانوا متفقين على هذا الموقف مختلفين في الوقوف بعرفة فإن الحمس كانوا لا يقفون بعرفة ويقولون لا يعظم غير الحرم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف بعرفة جعل الناس يتعجبون ويقولون فيما بينهم هذا من الحمس فما باله خرج من الحرم فعرفنا أنه ينبغي أن لا يترك الوقوف بالمشعر الحرام حتى إذا أسفر جدا دفع قبل أن تطلع الشمس هكذا رواه جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام حتى إذا كادت الشمس أن تطلع دفع إلى منى وإن أهل الجاهلية كانوا لا يدفعون من هذا الموقف حتى تطلع الشمس فإذا طلعت وصارت كالعمائم على رؤوس الجبال دفعوا وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع قبل طلوع الشمس فيجب الأخذ بفعله لما فيه من إظهار مخالفة المشركين كما في الدفع من عرفات.
فإذا أتى منى يأتي جمرة العقبة ويرميها من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى منى يوم النحر لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة وقال: "أول نسكنا هنا بمنى أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق"، ويرميها من بطن الوادي لما روي أن بن مسعود رضي الله عنه وقف في بطن الوادي فرمى سبع حصيات فقيل له إن ناسا يرمونها من فوقها فقال: أجهل الناس أم نسوا هذا؟ والله الذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.(4/34)
وهكذا نقل عن بن عمر رضي الله عنهما أنه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي وقال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يرمي مثل حصى الخذف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بن عباس رضى الله عنهما أن يناوله سبع حصيات فأخذهن بيده وجعل يقول للناس: "بمثل هذا فارموا" وفي رواية: "عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضا"، والمقصود اتباع سنة الخليل عليه السلام وبهذا القدر يحصل المقصود فلو رمى بأكبر من حصى الخذف ربما يصيب إنسانا فيؤذيه ويكبر مع كل حصاة ويقطع التلبية عند أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة.
أما قطع التلبية عند الرمي فقد رواه بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة وأما التكبير عند كل حصاة فقد رواه بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سالم بن عبد الله أنه لما أراد الرمي وقف في بطن الوادي وجعل يقول عند رمي كل حصاة: "بسم الله والله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا"، ثم قال: هكذا حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند كل حصاة مثل ما قلت.
قال: وابتداء وقت الرمي عندنا من وقت طلوع الفجر من يوم النحر وعلى قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى من وقت طلوع الشمس وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز الرمي بعد النصف الأول من ليلة النحر واستدل الثوري رحمه الله تعالى بحديث ابن(4/35)
ص -20- ... عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من المزدلفة وجعل يلظخ أفخاذهم ويقول: "أغيلمة بني عبد المطلب لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". وحجتنا في ذلك ما روي أنه لما قدم ضعفة أهله قال:"أي بني لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين"، فنعمل بالحديثين جميعا فنقول بعد الصبح يجوز وتأخيره إلى ما بعد طلوع الشمس أولى واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا.
وتأويل ذلك عندنا في الليلة الثانية والثالثة دون الأولى والمعنى فيه أن دخول وقت الرمي بخروج وقت الوقوف إذ لا يجتمع الرمي والوقوف في وقت واحد ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر فوقت الرمي يكون بعده أو وقت الرمي هو وقت التضحية وإنما يدخل وقت التضحية بطلوع الفجر الثاني فكذلك وقت الرمي.
قال: ولا يرمي يومئذ من الجمار غيرها لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم في اليوم الأول إلا جمرة العقبة.(4/36)
قال: ولا يقوم عندها لأنه قد بقي عليه أعمال يحتاج إلى أدائها في هذا اليوم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عند جمرة العقبة ولكنه يأتي منزله فيحلق أو يقصر والحلق أفضل لأنه جاء أوان التحلل عن الإحرام والتحلل بالحلق أو بالتقصير كما أشار الله عز وجل إليه في قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29] وقضاء التفث بالحلق يكون وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح هداياه دعى بالحلاق فأهوى إليه الشق الأيمن من رأسه فحلقه وقسم شعره على أصحابه رضي الله تعالى عنهم ثم حلق الشق الأيسر وأعطى شعره أم سليم رضي الله تعالى عنها ولم يذكر الذبح هنا لأنه من حكم المفرد بالحج وليس عليه هدي وهو مسافر أيضا لا تلزمه التضحية ولكنه لو تطوع بذبح الهدي فهو حسن يذبحه بعد الرمي قبل الحلق لما روينا أن أول نسكنا أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق والحلق أفضل من التقصير لأن الله تعالى بدأ به في كتابه في قوله:{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27] وقال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] فهذا بيان أنه ينبغي أن يتحلل بالحلق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين", فقيل والمقصرين؟ فقال: "رحم الله المحلقين", حتى قال في الرابعة: "والمقصرين" فقد ظاهر في هذا الدعاء ثلاث مرات للمحلقين فدل أنه أفضل.(4/37)
قال: ثم قد حل له كل شيء إلا النساء فالحاصل أن في الحج إحلالين أحدهما بالحلق والثاني بالطواف فبالحلق يحل له كل شيء كان حراما على المحرم إلا النساء وقال مالك رحمه الله تعالى إلا النساء والطيب وقال الليث رحمه الله تعالى إلا النساء وقتل الصيد لأنهما محرمان بنص القرآن فلا ترتفع حرمتهما إلا بتمام الإحلال ولكنا نقول قتل الصيد ليس نظير الجماع ألا يرى أن الإحرام يفسد بالجماع وقتل الصيد لا يفسده فكان هو نظير سائر المحظورات يرتفع بالحلق ومالك رحمه الله تعالى يقول: استعمال الطيب من(4/38)
ص -21- ... دواعي الجماع فلا يحل إلا بالطواف كنفس الجماع وحجتنا حديث عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت واستعمال الطيب لا يفسد الإحرام بحال بخلاف النساء فكان قياس سائر المحظورات ولهذا الأصل قال الشافعي رحمه الله تعالى حرمة الجماع فيما دون الفرج ترتفع بالحلق أيضا لأنه لا يفسد الإحرام بحال ولكنا نقول ما يقصد منه قضاء الشهوة بالنساء فحله مؤخر إلى تمام الإحلال بالطواف شرعا وفي ذلك الجماع في الفرج وفيما دون الفرج سواء.
قال: ثم يزور من يومه ذلك البيت إن استطاع أو من الغد أو من بعد الغد ولا يؤخره إلى ما بعد ذلك فيطوف به أسبوعا ويصلي ركعتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى وفي بعض الروايات أنه أتى بمكة ليلا فطاف ووجه التوفيق أنه في أيام منى كان يأتي مكة بالليل مستترا فيطوف فمن رأى ذلك منه ظن أن طوافه ذلك للزيارة فنقل كما وقع عنده وإنما طاف للزيارة قبل الظهر وطواف الزيارة ركن الحج وهو الحج الأكبر في تأويل قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] ووقته أيام النحر فلا ينبغي أن يؤخره عن أيام النحر والأفضل أداؤه في أول أيام النحر كالتضحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها".(4/39)
ثم لم يذكر السعي عقيب هذا الطواف لأنه قد سعى عقيب طواف التحية وليس عليه في الحج إلا سعي واحد فإن قيل السعي واجب أو ركن وطواف التحية سنة فكيف يترتب ما هو واجب على ما هو سنة قلنا نعم لكن الشرع جوز له أداء هذا الواجب عقيب طواف هو سنة للتيسير فإن الطواف الذي هو ركن لا يجوز قبل يوم النحر وفي يوم النحر على الحاج أعمال كثيرة ولو وجب عليه أداء السعي في هذا اليوم لحقته المشقة فللتيسير جوز له أداء السعي عقيب طواف التحية فلا يعيده يوم النحر.
وكذلك لا يرمل في طوافه يوم النحر لأن الرمل سنة أول طواف يأتي به في الحج فقد أتى به في طواف التحية فلا يعيده في طواف الزيارة لكنه يصلى ركعتين عقيب الطواف لأن ختم كل طواف يكون بركعتين واجبا كان الطواف أو نفلا ثم قد حل له النساء لأنه تم إحلاله ثم يرجع إلى منى فإذا كان الغد من يوم النحر رمي الجمار الثلاث بعد زوال الشمس يبدأ بالتي تلي المسجد فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس فيقوم فيه فيحمد الله جلت قدرته ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بحاجته ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات كذلك ثم يقوم حيث يقوم الناس فيصنع في قيامه كما صنع في الأول ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ولا يقيم عندها هكذا رواه جابر رضي الله عنه مفسرا فيما نقل من نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/40)
ص -22- ... والحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: عند افتتاح الصلاة وعند القنوت في الوتر وفي العيدين وعند استلام الحجر وعلى الصفا والمروة وبعرفات وبجمع عند المقامين عند الجمرتين", وهذا دليل على أنه إنما يقيم عند الجمرتين الأولى والوسطى ولا يقيم عند جمرة العقبة والمراد من رفع اليدين الرفع للدعاء دل على أن الدعاء عند المقامين وينبغي للحاج أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في دعائه في هذا الموقف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج". والحاصل أن كل رمي بعده رمي فحال الفراغ منه حال وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمي فبالفراغ منه قد فرغ من العبادة فلا يقيم بعده للدعاء ولم يذكر في الكتاب أن الرمي ماشيا أفضل أم راكبا.
وحكي عن إبراهيم الجراح قال دخلت على أبي يوسف رحمه الله تعالى في مرضه الذي مات فيه ففتح عينيه وقال الرمي راكبا أفضل أم ماشيا فقلت ماشيا فقال أخطأت فقلت راكبا فقال أخطأت ثم قال كل رمي كان بعده وقوف فالرمي فيه ماشيا أفضل وما ليس بعده وقوف فالرمي راكبا أفضل فقمت من عنده فما انتهيت إلى باب الدار حتى سمعت الصراخ لموته فتعجبت من حرصه على العلم في مثل تلك الحالة.
والذي رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار كلها راكبا إنما فعله ليكون أشهر للناس حتى يقتدوا به فيما يشاهدون منه ألا ترى أنه قال: "خذوا عني مناسككم فلا أدري لعلي لا أحج بعد هذا العام؟" فإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث حين تزول الشمس كذلك ثم ينفر إن أحب من يومه فإن أقام إلى الغد وهو آخر أيام التشريق فعل كما فعل بالأمس لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 203].(4/41)
قال: وقد كان يكره له أن ينفر قبل أن يقدم ثقله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع الناس منه ويؤدب عليه ولأنه شغل قلبه بهم إذ قدمهم قبله وربما يمنعه شغل القلب من إتمام سنة الرمي ولا يأمن أن يضيع شيء من أمتعتهم فلهذا كره له أن يقدم ثقله.
قال: ثم يأتي الأبطح فينزل به ساعة وهذا اسم موضع قد نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من منى إلى مكة يسمى المحصب والأبطح وكان بن عباس رضي الله عنهما يقول ليس النزول فيه بسنة ولكنه موضع نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقا والأصح عندنا أنه سنة وإنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا على ما روي أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم بمنى: "إنا نازلون غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم", يريد به الإشارة إلى عهد المشركين في ذلك الموضع على هجران بني هاشم فعرفنا أنه نزوله إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به فيكون النزول فيه سنة بمنزلة الرمل في الطواف.(4/42)
ص -23- ... قال ثم يطوف طواف الصدر ويصلي ركعتين لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"، ورخص للنساء الحيض ويسمى هذا الطواف طواف الوداع وطواف الصدر لأنه يودع به البيت ويصدر به عن البيت.
قال: ثم يرجع إلى أهله وقد قال شيخنا الإمام رحمه الله تعالى يستحب له أن يأتي الباب ويقبل العتبة ويأتي الملتزم فيلتزمه ساعة يبكي ويتشبث بأستار الكعبة ويلصق جسده بالجدار إن تمكن ثم يأتي زمزم فيشرب من مائه ثم يصب منه على بدنه ثم ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فوات البيت حتى يخرج من المسجد فهذا بيان تمام الحج الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
قال: وإن كان الذي أتى مكة لطواف الزيارة بات بها فنام متعمدا أو في الطريق فقد أساء وليس عليه شيء إلا الإساءة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يؤدب الناس على ترك المقام بمنى في ليالي الرمي ولكن ليس عليه شيء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن ترك البيتوتة ليلة فعليه مد وإن ترك ليلتين فعليه مدان وإن ترك ثلاث ليال فعليه دم.
وقاس ترك البيتوتة في وجوب الجزاء به بترك الرمي ولكنا نستدل بحديث العباس رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيتوتة بمكة في ليالي الرمي لأجل السقاية فأذن له في ذلك ولو كان ذلك واجبا ما رخص له في تركه لأجل السقاية ولأن هذه البيتوتة غير مقصودة بل هي تبع للرمي في هذه الأيام فتركها لا يوجب إلا الإساءة كالبيتوتة بمزدلفة ليلة يوم النحر والله أعلم.
باب القران
قال رضي الله عنه ومن أراد القران فعل مثل ذلك والكلام هنا في فصول:(4/43)
أحدها: في تفسير القران والتمتع والإفراد فالقران هو الجمع بين الحج والعمرة بأن يحرم بهما أو يحرم بالحج بعد إحرام العمرة قبل أداء الأعمال من قولهم قرن الشيء إلى الشيء إذا جمع بينهما والتمتع هو الترفق بأداء النسكين في سفر واحد من غير أن يلم بينهما بأهله إلماما صحيحا والإفراد بالحج أن يحج أولا ثم يعتمر بعد الفراغ من الحج أو يؤدي كل نسك في سفر على حدة أو يكون أداء العمرة في غير أشهر الحج.
والفصل الثاني: في بيان الأفضل فعندنا الأفضل هو القران ثم بعده التمتع وعلى رواية بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع وعن محمد رحمه الله تعالى قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من القران وعلى قول مالك رحمه الله تعالى:(4/44)
ص -24- ... التمتع أفضل من القران فالشافعي استدل بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج وأنا ممن كنت أفرد وهكذا روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج وإنما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مرة فما كان يترك ما هو الأفضل فيما يؤديه مرة واحدة.
ولأن القران رخصة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إنما أجرك على قدر تعبك ونصبك وإنما القران رخصة والإفراد عزيمة والتمسك بالعزيمة خير من التمسك بالرخصة".
ولأن في الإفراد زيادة الإحرام والسعي والحلق فإن القارن يؤدي النسكين بسفر واحد ويلبي لهما تلبية واحدة ويحلق لهما حلقا واحدا ولأجل هذا النقصان يجب عليه الدم جبرا والمفرد يؤدي كل نسك بصفة الكمال وأداء النسك بصفة الكمال يكون أفضل من إدخال النقصان والجبر فيها ومالك رحمه الله تعالى استدل بحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وعلماؤنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث علي وبن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين.(4/45)
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها ولعابها يسيل على كتفي وهو يقول: "لبيك بحجة وعمرة معا". وأهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا فعشرة منهم تروي أنه كان قارنا وعشرة أنه كان مفردا وعشرة أنه كان متمتعا فنوفق بين هذه الروايات فنقول لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالعمرة فسمعه بعض الناس ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا أنه كان متمتعا فنقلوا كما وقع عندهم ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم آخرون فظنوا أنه كان مفردا بالحج ثم لبى بهما فسمعه قوم آخرون فعلموا أنه كان قارنا وكل نقل ما وقع عنده وهو نظير ما روينا من توفيق بن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لما وقع الاختلاف في فعله نصير إلى قوله وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا". وقال صلى الله عليه وسلم: "يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا"، ولأن في القران معنى الوصل والتتابع في العبادة ومعنى الجمع بين العبادتين وهو أفضل من إفراد كل واحد منهما كالجمع بين الصوم والاعتكاف والجمع بين الحراسة في سبيل الله تعالى مع صلوات الليل ولأن في القران زيادة نسك وهو إراقة دم الهدي وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الحج العج والثج"، والثج إراقة الدم.
والكلام في الحقيقة ينبني على هذا الحرف فإن دم القران عنده دم جبر حتى لا يباح التناول منه وعندنا هو دم نسك يباح التناول منه والدليل على أنه دم نسك أنه يتوقف بأيام النحر(4/46)
ص -25- ... كالأضحية ودم الجبر لا يتوقت به وإن سببه مباح محض ودم الجبر يستدعي سببا محظورا لأن النقصان إنما يتمكن بارتكاب ما لا يحل.
وقد تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداياه على ما روي أنه ساق مائة بدنة فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ثم أمر أن يؤخذ من كل واحدة قطعة فتطبخ له فأكل من لحمها وحسا من مرقها وقد صح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا فدل أن دم القران يباح التناول منه وإذا ثبت أنه دم نسك فما يكون فيه زيادة نسك فهو أفضل ولهذا جعل التمتع أفضل من الإفراد في ظاهر الرواية لأن فيه زيادة نسك إلا أن القران أفضل منه لما فيه من زيادة التعجيل بالإحرام بالحج واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما وفي حق المتمتع العمرة ميقاتية والحجة مكية.
وعلى رواية بن شجاع رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع لهذا المعنى أن حجة المتمتع مكية يحرم بها من الحرم والمفرد يحرم بكل واحد منهما من الحل ولهذا جعل محمد رحمه الله تعالى الإفراد بكل واحد منهما من الكوفة أفضل لأنه ينشئ سفرا مقصودا لكل واحد منهما وقد صح أن عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة فقال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي الناس عنهما متعة النساء ومتعة الحج وتأويله أنه كره أن يخلو البيت عن الزوار في غير أشهر الحج فأمرهم أن يعتمروا بسفر مقصود في غير أشهر الحج كيلا يخلو البيت من الزوار في شيء من الأوقات لا أن يكون التمتع مكروها عنده بدليل حديث الصبي بن معبد قال كنت امرأ نصرانيا فأسلمت فوجدت الحج والعمرة واجبتين علي فقرنت بينهما فلقيت نفرا من الصحابة فيهم زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة رضي الله عنهما فقال أحدهما لصاحبه هو أضل من بعيره فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته بذلك فقال ما قالا ليس بشيء هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.(4/47)
إذا عرفنا هذا فنقول من أراد القران فتأهبه للإحرام كتأهب المفرد على ما بينا إلا أنه في دعائه بعد الفراغ من الركعتين يقول اللهم إني أريد العمرة والحج وكذلك يلبي بهما ويقول لبيك بعمرة وحجة معا وإنما يقدم ذكر العمرة لأن الله تعالى قدمها في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196] ولأنه في أداء الأفعال يبدأ بالعمرة فكذلك في الإحرام يبدأ في التلبية بذكر العمرة وإن اكتفى بالنية ولم يذكرهما في التلبية اجزأه على قياس الصلاة إذا نوى بقلبه الصلاة وكبر.
قال: ثم يبدأ إذا دخل مكة بطواف العمرة بالبيت وسعى بين الصفا والمروة على نحو ما وصفنا في الحج ثم يطوف للحج بالبيت ويسعى له بين الصفا والمروة وهذا عندنا أن القارن يطوف طوافين ويسعي سعيين وعند الشافعي رحمه الله تعالى يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لحجته وعمرته طوافا(4/48)
ص -26- ... واحدا وسعى سعيا واحدا هكذا رواه الشافعي وهو منه تناقض بين فإنه روى عن عائشة رضي الله عنها في المسألة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا ثم روى في هذه المسألة أنه كان قارنا وطاف لهما طوافا واحدا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "طوافك بالبيت يكفيك لحجك ولعمرتك". وقال صلى الله عليه وسلم "دخلت العمرة في الحجة إلى يوم القيامة", والمعنى فيه: أن مبنى القران على التداخل ألا ترى أنه يكتفي لهما بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك يثبت التداخل في الأركان.
ولأن العمرة تبع للحج فهي من الحج بمنزلة الوضوء مع الاغتسال فكما يدخل الوضوء في الاغتسال فكذلك العمرة في الحج وحجتنا حديث علي رضي الله عنه وبن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف لهما طوافين وسعى سعيين وحديث الصبي بن معبد أنه قرن وطاف طوافين وسعى سعيين فقال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.(4/49)
وفي الكتاب ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين والمعنى فيه أن القران ضم الشيء إلى الشيء وإنما يتحقق ذلك لأداء عمل كل نسك بكماله ولأن كل واحد منهما عبادة محضة ولا تداخل في أعمال العبادات إنما التداخل فيما يندرى ء بالشبهات ألا ترى أنه لا يتداخل أشواط طواف واحد وسعي واحد ومعنى الدخول المذكور في الحديث الوقت أي دخل وقت العمرة في وقت الحج على معنى أنه يؤديهما في وقت واحد والسفر والتلبية والحلق غير مقصودة إنما السفر للتوصل إلى أداء النسك والتلبية للتحرم والحلق للتحلل فلا تكون مقصودة وإنما المقصود أركان العبادة ألا ترى أن أداء شفعين من التطوع بتكبيرة واحدة وتسليمة واحدة يجوز ولا يدخل أحد الشفعين في الآخر والوضوء مع الاغتسال غير مقصود بل المقصود تطهير البدن ليقوم إلى المناجاة طاهرا وقد حصل ذلك بالاغتسال وهنا كل نسك مقصود فيلزمه أداء أعمال كل واحد منهما والحديث الذي رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: "طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك"، لا يكاد يصح فإنها قد رفضت العمرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاضت بسرف على ما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: ثم يأنى بالأعمال حتى إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر ذبح هدى القران وتجزئه الشاة لقوله تعالى:
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] قال بن عباس رضي الله تعالى عنه ما استيسر من الهدي شاة وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال اشتركنا حين كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقرة سبعة وفي البدنة سبعة وفي الشاة واحد والبقرة أفضل من الشاة والجزور أفضل من البقرة لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}[الحج: 32] فما كان أقرب في التعظيم فذلك أفضل وقد نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة في حجة الوداع ولو كان ساق هداياه(4/50)
ص -27- ... مع نفسه كان أفضل من ذلك كله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق الهدايا مع نفسه وقلدها هكذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلدها بيده وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل منهما جميعا". وفي رواية: "فلا أحل حتى أنحر". ولهذه الرواية قال الشافعي رحمه الله تعالى تحلل القارن بالذبح لا بالحلق ولكنا نقول التحلل يحصل بالحلق كما في حق المفرد وتأويل الحديث حتى أنحر ثم أحلق بعده على ما روينا أنه حلق رأسه بعد ذبح الهدايا ولأن التحلل من العبادة بما لا يحل في أثنائها كالسلام في الصلاة وذلك بالحلق أو التقصير دون الذبح.
قال: وإذا طاف الرجل بعد طواف الزيارة طوافا ينوي به التطوع أو طواف الصدر وذلك بعد ما حل النفر فهو طواف الصدر لأنه أتى به في وقته فيكون عنه وإن نوى غيره كمن نوى بطواف الزيارة يوم النحر التطوع يكون للزيارة بل أولى لأن ذلك ركن وهذا واجب.(4/51)
قال: ولا بأس بأن يقيم بعد ذلك ما شاء ثم يخرج ولكن الأفضل أن يكون طوافه حين يخرج وعن أبي يوسف والحسن رحمهما الله تعالى قالا إذا اشتغل بعمل مكة بعد طواف الصدر يعيد طواف الصدر لأنه كاسمه يكون للصدر فإنما يحتسب به إذا أداه حين يصدر وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "وليكن آخر عهده الطواف بالبيت"، يشهد لهذا ولكنا نقول ما قدم مكة إلا لأداء النسك فعندما تم فراغه منها جاء أوان الصدر فطوافه بعد ذلك يكون للصدر وتأويل الحديث أن آخر نسكه طواف الصدر لا آخر عمله بمكة وأما العمرة المفردة إذا أرادها يتأهب لها مثل ما وصفناه في الحج إذا أراد الإحرام بها عند الميقات وكذلك إن كان بمكة وأراد أن يعتمر خرج من الحرم إلى الحل من أي جانب شاء وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها وسبب ذلك أنها قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا بنسك واحد فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم مكان عمرتها يعني مكان العمرة التي رفضتها على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك الوقت عرف الناس موضع إحرام العمرة فيخرجون إليه إذا أرادوا الإحرام بالعمرة وهو من جملة ما قيل ما نزل بعائشة رضي الله عنها أمر تكرهه إلا كان للمسلمين فيه فرج ثم بعد إحرامه يتقي ما يتقيه في إحرام الحج على ما ذكرنا حتى يقدم مكة ويدخل المسجد فيبدأ بالحجر فيستلمه ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يحلق أو يقصر وقد فرغ من عمرته وحل له كل شيء هكذا فعل رسول الله في عمرة القضاء حين اعتمر من الجعرانة. والاختلاف في فصول:
أحدها: أن عندنا يقطع التلبية في العمرة حين يستلم الحجر الأسود عند أول شوط من الطواف بالبيت وعند مالك رحمه الله تعالى كما وقع بصره على البيت يقطع التلبية لأن العمرة زيارة البيت وقد تم حضوره بوقوع بصره على البيت ولأن هذا الطواف هو الركن في(4/52)
ص -28- ... العمرة بمنزلة طواف الزيارة في الحج فكما يقدم قطع التلبية هناك على الاشتغال بالطواف فهنا يقدم قطع التلبية على الاشتغال بالطواف ولكنا نستدل بحديث بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر الأسود والمعنى فيه أن قطع التلبية هنا عند الطواف بالاتفاق لأن مالكا رحمه الله تعالى اعتبر وقوع بصره على البيت ورؤية البيت غير مقصودة إنما المقصود الطواف فينبغي أن يكون القطع مع افتتاح الطواف وذلك عند استلام الحجر كما قلنا في الحج أن قطع التلبية عند الرمي وذلك مع أول حصاة يرمي بها.
والثاني: أن في العمرة بعد الطواف والسعي يحلق عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي فقط وحجتنا قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27] وهو بشرى لهم بما عاينوه في عمرة القضاء وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق وحلق رأسه في عمرة القضاء ولأن التحرم للإحرام بالتلبية والتحلل بالحلق فكما سوى بين إحرام العمرة وإحرام الحج في التحرم فكذلك في التحلل ألا ترى أن في باب الصلاة سوى بين المكتوبة والنافلة في التحرم بالتكبير والتحلل بالتسليم فكذلك هذا.(4/53)
قال: وكذا إن أراد التمتع ولم يسق هديا ويقيم بمكة بعد الفراغ من العمرة حلالا وقد بينا صورة التمتع وهو أن يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن أتى بالعمرة قبل أشهر الحج ولم يتحلل من إحرام العمرة حتى دخلت أشهر الحج فهو متمتع وقال الشافعي رحمه الله إذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا وإن كان أداء أعمال العمرة في أشهر الحج فعنده المعتبر وقت الإحرام بالعمرة وعند مالك رحمه الله تعالى وقت التحلل من الإحرام ونحن نقول إن كان أداء الأعمال قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا لأن إحرامه في غير أشهر الحج صار بحيث لا يفسد بالجماع فهو بمنزلة ما لو لم يحل منه وإن لم يأت بالأعمال حتى دخلت أشهر الحج فإحرامه للعمرة في أشهر الحج بحيث يفسد بالجماع فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج لأنه مترفق بأداء النسكين في أشهر الحج ثم هو على ثلاثة أوجه:
إما أن يصبر بمكة بعد الفراغ من العمرة حتى يؤدي الحج فيكون متمتعا بالاتفاق.
وإما أن يعود إلى أهله بعد ما حل من عمرته ثم حج من عامه ذلك فلا يكون متمتعا بإجماع بين أصحابنا.
وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى يكون متمتعا ويقول لا أعرف ذلك الإلمام ماذا يكون فهو بناء على أصله في أن المكي له المتعة والقران ويأتي بيان هذا في موضعه إن شاء الله تعالى واعتمادنا فيه على حديث بن عباس رضي الله عنه قال إذا ألم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا فهو متمتع وهكذا روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما وكان(4/54)
ص -29- ... المعنى فيه وهو أنه أنشأ لكل نسك سفرا من أهله والمتمتع من يترفق بأداء النسكين في سفر واحد فأما إذا جاوز الميقات بعد الفراغ من العمرة فأتى بلدة أخرى غير بلدته بأن يكون كوفيا فأتى البصرة ثم عاد وحج من عامه ذلك كان متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يكن متمتعا في قولهما ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه.
وجه قولهما: أن صورة المتمتع أن تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية وهذا حجته وعمرته ميقاتيتان لأنه بعد ما جاوز الميقات حلالا إذا عاد يلزمه الإحرام من الميقات فهو والذي ألم بأهله سواء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث بن عباس رضي الله عنه فإن قوما سألوه فقال واعتمرنا في أشهر الحج ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون ولأنه مترفق بأداء النسكين في سفر واحد لأنه ماض على سفره ما لم يعد إلى أهله فهو بمنزلة ما لو لم يخرج من الميقات حتى حج وعاد فيكون متمتعا.
قال: وإذا كان يوم التروية وهو بمكة فأراد الرواح إلى منى لبس الإزار والرداء ولبي بالحج إن شاء من المسجد أو من الأبطح أو من أي موضع من الحرم شاء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين فسخوا إحرام الحج بالعمرة أن يحرموا بالحج يوم التروية من المسجد الحرام وفي حديث جابر رضي الله عنه قال فخرجنا من مكة فلما جعلناها بظهر أحرمنا بالحج والحاصل أن من بمكة حلال إذا أراد الإحرام بالحج يحرم من الحرم وإذا أراد الإحرام بالعمرة يحرم من الحل لأن موضع أداء الأفعال غير موضع الإحرام وركن العمرة الطواف وهو مؤدى في الحرم فالإحرام بها يكون في الحل ومعظم الركن في الحج الوقوف وهو في الحل فالإحرام به يكون في الحرم.(4/55)
قال: وإن شاء أحرم بالحج قبل يوم التروية وما قدم إحرامه بالحج فهو أفضل لأن فيه إظهار المسارعة والرغبة في العبادة ولأنه أشق على البدن وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إنما أجرك على قدر نصبك". ولما سئل عن أفضل الأعمال قال: "أحمزها".
قال: ويروح مع الناس إلى منى فيبيت بها ليلة عرفة ويعمل على ما وصفناه في الحج في حق المفرد غير أن عليه دم المتعة يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] ثم يحلق بعد الذبح ويزور البيت فيطوف به أسبوعا يرمل في الثلاثة الأول ويمشي في الأربعة الأواخر على هينته ويصلي ركعتين ويسعى بين الصفا والمروة على قياس ما بيناه في الحج لأن هذا أول طواف يأتي به في الحج.
وقد بينا أن الرمل في أول طواف الحج سنة والسعي عقيب أول طواف في الحج وهذا بخلاف المفرد لأنه طاف للقدوم في الحج هناك وسعى بعده فلهذا لا يرمل في طواف يوم النحر ولا يسعى بعده ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة يوم النحر ولم يطف بين الصفا والمروة أيضا لأنه قد أتى(4/56)
ص -30- ... بذلك في الحج مرة وإن كان حين اعتمر في أشهر الحج ساق هديا للمتعة فينبغي له أن يقلد هديه لقوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] ولكن السنة أن يقلد الهدي بعد ما يحرم بالعمرة لأنه لو قلد الهدي قبل الإحرام وساقه بنية الإحرام صار محرما هكذا روي عن بن عباس رضي الله عنهما وفي سياق الآية ما يدل عليه لأنه بعد ذكر القلائد قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] فدل أنه بالتقليد يصير محرما والأولى أن يحرم بالتلبية فلهذا كان الأفضل أن يلبي أولا ثم يقلد هديه.
فإذا طاف للعمرة وسعى أقام حراما لأن سوق هدي المتعة يمنعه من التحلل بين النسكين على ما قال صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها". وقال في حديث آخر أما إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر فإذا كانت عشية التروية أحرم بالحج وإن أحب أن يقدم الإحرام ويطوف بالبيت والصفا والمروة لحجته فعل كما بينا في المتمتع الذي لم يسق الهدي إلا أنه إن لم يطف بعد الإحرام بالحج رمل في طواف يوم النحر وإن كان طاف بعد الإحرام بالحج وسعى لم يرمل في طواف يوم النحر ولم يطف بين الصفا والمروة.
قال: ولا يدع الحلق في جميع ذلك ملبدا أو مضفرا أو عاقصا والتلبيد أن يجمع شعر رأسه على هامته ويشده بصمغ أو غيره حتى يصير كاللبد والتضفير أن يجعل شعره ضفائر والعقص هو الإحكام وهو أن يشد شعره حول رأسه وقد بينا أن الحلق أفضل ولا يدع ما هو الأفضل بشيء من هذه الأسباب وقد لبد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما روينا من قوله: "ولبدت رأسي"، ومع ذلك حلق.(4/57)
قال: والمرأة بمنزلة الرجل في جميع ما وصفناه لأنها مخاطبة كالرجل ألا ترى أن أم سلمة رضي الله عنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال من الجنابة وصف لها حال نفسه في الاغتسال؟ فدل أن حال الرجل والمرأة سواء غير أنها تلبس ما بدا لها من الدروع والقمصان والخمار والخف والقفازين لأنها عورة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة مستورة". وفي لبس الإزار والرداء ينكشف بعض البدن عادة وهي مأمورة بأداء العبادة على أستر الوجوه كما بينا في الصلاة فلهذا تلبس المخيط والخفين وتغطي رأسها ولا تغطي وجهها لأن الرأس منها عورة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها"، فعرفنا أنها لا تغطي وجهها إلا أن لها أن تسدل على وجهها إذا أرادت ذلك على وجه تجافي عن وجهها هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا في الإحرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكشف وجوهنا فإذا استقبلنا قوم أسدلنا من غير أن نصيب وجوهنا.
ولا تلبس المصبوغ بورس ولا زعفران ولا عصفر إلا أن يكون قد غسل لأن ما حل في حقها من اللبس كان للضرورة ولا ضرورة في لبس المصبوغ وهي في ذلك بمنزلة الرجل.(4/58)
ص -31- ... ولأن هذا تزين وهي من دواعي الجماع وهي ممنوعة من ذلك في الإحرام كالرجل ولا حلق عليها إنما عليها التقصير هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير عند الخروج من الإحرام ولأن الحلق في حقها مثلة والمثلة حرام وشعر الرأس زينة لها كاللحية للرجل فكما لا يحلق الرجل لحيته عند الخروج من الإحرام لا تحلق هي رأسها.
ولا رمل عليها في الطواف بالبيت ولا بين الصفا والمروة لأن الرمل لإظهار التجلد والقوة والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلادة من نفسها ولا يؤمن أن يبدو شيء من عورتها في رملها وسعيها أو تسقط لضعف بنيتها فلهذا تمنع من ذلك وتؤمر بأن تمشي مشيا فهذا القدر ذكره في الكتاب في الفرق وقد قال مشايخنا أنها لا ترفع صوتها بالتلبية أيضا لما في رفع صوتها من الفتنة وكذلك لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال والزحمة معهم فلا تستلم الحجر إلا إذا وجدت ذلك الموضع خاليا عن الرجال والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الطواف
اعلم بأن الطواف أربعة ثلاثة في الحج وواحد في العمرة.(4/59)
أما أحد الأطوفة في الحج فهو طواف التحية ويسمى طواف القدوم وطواف اللقاء وذلك عند ابتداء وصوله إلى البيت وهو سنة عندنا. وقال مالك رحمه الله تعالى هو واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى به ثم قال لأصحابه رضي الله عنهم "خذوا عني مناسككم" فهذا أمر والأمر على الوجوب ولأن المقصود زيارة البيت للتعظيم فالنسك الذي يكون عند ابتداء الزيارة يكون واجبا بمنزلة الذكر عند افتتاح الصلاة وهو التكبير وحجتنا في ذلك أن الله عز وجل أمر بالطواف والأمر المطلق لا يقتضي التكرار وبالإجماع طواف يوم النحر واجب فعرفنا أن ما تقدم ليس بواجب ولأنه ثبت بالإجماع أن الطواف الذي هو ركن في الحج مؤقت بيوم النحر حتى لا يجوز قبله فما يؤتى به قبل يوم النحر لا يكون واجبا لأنه يؤتى به في الإحرام ولا يتكرر ركن واحد في الإحرام واجبا كالوقوف بعرفة فجعلناه سنة لهذا بخلاف طواف الصدر فإنه يؤتى به بعد تمام التحلل فلو جعلناه واجبا لا يؤدي إلى تكرار الطواف واجبا في الإحرام والطواف في الحج بمنزلة ثناء الافتتاح في الصلاة لأن التلبية عند الإحرام هنا كالتكبير هناك وكما أن ثناء الافتتاح الذي يؤتى به عقيب التكبير سنة فكذلك الطواف الذي يؤتى به عقيب الإحرام سنة ومما يحتج به مالك رحمه الله تعالى أن السعي الذي بعد هذا الطواف واجب ولا يكون الواجب بناء على ما ليس بواجب وقد بينا العذر عن هذا فيما مضى.
والطواف الثاني طواف الزيارة وهو ركن الحج ثبت بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ(4/60)
ص -32- ... الْعَتِيقِ}[الحج: 29] وبقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] والمراد به طواف الزيارة.
والطواف الثالث طواف الصدر وهو واجب عندنا سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى قال لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منهما يأتي به الآفاقي دون المكي وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء.
ولنا: في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"، ورخص للنساء الحيض والأمر دليل الوجوب وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضا وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل عن إحرام الحج فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر ويسمى هذا طواف الوداع فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه.
فأما الطواف الرابع فهو طواف العمرة وهو الركن في العمرة وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في العمرة طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج ولكنا نقول أن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر كالوقوف في الحج لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك ولأن ما هو معظم الركن مقصود وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا.(4/61)
قال: وإذا قدم القارن مكة فلم يطف حتى وقف بعرفات كان رافضا لعمرته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رافضا لعمرته وهو بناء على ما سبق فإن عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج فلا يلزمه طواف مقصود للعمرة وعندنا لا يدخل طواف العمرة في طواف الحج بل عليه أن يأتي بطواف كل واحد منهما ويقدم العمرة في الأداء على الحج وهذا يفوته بالوقوف لأن معظم أركان الحج الوقوف ويصير به مؤديا للحج على وجه يأمن الفوت فلو بقيت عمرته لكان يأتي بأعمالها فيصير بانيا أعمال العمرة على الحج وهذا ليس بصفة القران فجعلناه رافضا للعمرة لهذا والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بسرف وهي تبكي قال: "ما يبكيك لعلك نفست؟" فقالت: نعم ،فقال: "هذا شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم فدعي عنك العمرة"، أو قال: "ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي واصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت",(4/62)
ص -33- ... فقد أمرها برفض العمرة لما تعذر عليها الطواف فلولا أنها بالوقوف تصير رافضة لعمرتها لما أمرها برفض العمرة.
فإن توجه إلى عرفات بعد ما دخل وقت الوقوف فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان في ذلك في الكتاب يقول لا يصير رافضا حتى إذا عاد من الطريق إلى مكة وطاف للعمرة فهو قارن والحسن يروي عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يصير رافضا للعمرة بالتوجه إلى عرفات وهذا هو القياس على مذهبه كما جعل التوجه إلى الجمعة قبل فراغ الإمام بمنزلة الشروع في الجمعة في ارتفاض الظهر والذي ذكره في الكتاب استحسان والفرق بينه وبين تلك المسألة أنه هناك مأمور بالسعي إلى الجمعة فيتقوى السعي بمشيه وهنا هو منهي عن التوجه إلى عرفات قبل طواف العمرة ولأن الموجب هنا للارتفاض صيرورة ركن الحج مؤدى حتى يكون ما بعده بناء العمرة على الحج وهذا بنفس التوجه لا يحصل وهناك الموجب لرفض الظهر المنافاة بينه وبين الجمعة والسعي من خصائص الجمعة فأقيم مقام الشروع في ارتفاض الظهر به.
فلو طاف للعمرة ثلاثة أشواط ثم ذهب فوقف بعرفات فهو رافض للعمرة أيضا لأن ركن العمرة الطواف فإذا بقي أكثره غير مؤدى جعل كأنه لم يؤد منه شيئا.
ولو كان طاف أربعة أشواط ثم وقف بعرفات لم يكن رافضا للعمرة لأنه قد أدى أكثر الطواف فيكون ذلك كأداء الكل ولهذا قلنا أن بعد أداء أربعة أشواط من طواف العمرة يأمن فسادها بالجماع وبعد أداء ثلاثة أشواط لا يأمن من ذلك وهذا لأن المؤدى إذا كان أكثر فالأقل في مقابلته كالعدم فكان جانب الأداء راجحا فإذا ترجح جانب الأداء فهو بالوقوف بعد ذلك وإن صار مؤديا للحج فإنما يصير مؤديا بعد أداء العمرة.(4/63)
وإذا كان طاف ثلاثة أشواط فلم يصر رافضا بالوقوف كان مؤديا للعمرة بأداء الأشواط الأربعة بعد الوقوف فيكون بانيا للعمرة على الحج وكما يأمن الفساد في العمرة بطواف أربعة أشواط يأمن ارتفاضها بالوقوف وبعد ما طاف ثلاثة أشواط لا يأمن فسادها بالجماع فلا يأمن ارتفاضها بالوقوف وفي الموضع الذي صار رافضا لها عليه دم لرفضها لأنه خرج منها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال فيلزمه دم اعتبارا بالمحصر وعليه قضاء العمرة لخروجه منها بعد صحة الشروع فيها والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم مكان عمرتها التي فاتتها ويسقط عنه دم القران لأنه وجب بالجمع بين النسكين في الأداء وقد انعدم وفي الموضع الذي لم يصر رافضا للعمرة يتم بقية طوافها وسعيها يوم النحر وعليه دم القران لأنه تحقق الجمع بينهما أداء.
وإن لم يطف لعمرته حين قدم مكة ولكنه طاف وسعى لحجته ثم وقف بعرفة لم يكن رافضا لعمرته وكان طوافه وسعيه للعمرة دون الحج لأن المستحق عليه البداية بطواف(4/64)
ص -34- ... العمرة، فلا تعتبر نيته بخلاف ذلك لأن الأصل أن كل طواف مستحق عليه في وقت بجهة فأداؤه يقع عن تلك الجهة.
وإن نوى جهة أخرى كطواف الزيارة يوم النحر وهذا لاعتبار الطواف بالوقوف فإنه لو وجد منه الوقوف في وقته ونوى شيئا آخر سوى الوقوف للحج يتأدى به ركن الحج ولا تعتبر نيته بخلاف ذلك فكذلك في الطواف إلا أن في الطواف أصل النية شرط حتى لو عدا خلف غريم له حول البيت لا يتأدى به طوافه بخلاف الوقوف فإنه يتأدى بغير النية لأن الوقوف ركن عبادة وليس بعبادة مقصودة ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل تلك العبادة يغني عن اشتراط النية في ركنها والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية فيه ويسقط اعتبار نية الجهة لتعينه كما قلنا في صوم رمضان.
ولأن الوقوف يؤدى في إحرام مطلق فأما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الإحرام بالحلق فوجود النية في الإحرام لا يغني عن النية في الطواف ولكن هذا الفرق الثاني يتأتى في طواف الزيارة دون طواف العمرة والفرق الأول يعم الفصلين فإذا ثبت أن طوافه وسعيه للعمرة فهذا رجل لم يطف لحجته وترك طواف التحية لا يضره فعليه أن يرمل في طواف يوم النحر ويسعى بين الصفا والمروة.(4/65)
وإن كان طاف للحج وسعى أولا ثم طاف للعمرة وسعى فليس عليه شيء وطوافه الأول للعمرة كما هو المستحق عليه ونيته بخلاف ذلك لغو فلا يلزمه به شيء وإن طاف طوافين لهما ثم سعى سعيين فقد أساء بتقديمه طواف التحية على سعي العمرة ولا شيء عليه أما عندهما فظاهر لأن من أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجب بتقديم النسك وتأخيره شيء سوى الإساءة وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقديم نسك على نسك يوجب الدم عليه على ما نبينه إن شاء الله تعالى ولكن في هذا الموضع لا يلزمه دم لأن تقديم طواف التحية على سعي العمرة لا يكون أعلى من طواف التحية أصلا واشتغاله بطواف التحية قبل سعي العمرة لا يكون أكثر تأثيرا من اشتغاله بأكل أو نوم ولو أنه بين طواف العمرة وسعيها اشتغل بنوم أو أكل لم يلزمه دم فكذا إذا اشتغل بطواف التحية.
قال: وإن طاف لعمرته على غير وضوء وللتحية كذلك ثم سعى يوم النحر فعليه دم من أجل طواف العمرة من غير وضوء والحاصل أنه يبني المسائل بعد هذا على أصل وهو أن طواف المحدث معتد به عندنا ولكن الأفضل أن يعيده وإن لم يعده فعليه دم وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد بطواف المحدث أصلا لأن الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة من حيث أنها عبادة متعلقة بالبيت ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة فقال: "الطواف بالبيت صلاة فأقلوا فيه الكلام".
ثم الطهارة في الصلاة شرط الاعتداد به فكذلك الطهارة في الطواف وحجتنا في ذلك(4/66)
ص -35- ... أن المأمور به بالنص هو الطواف قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا}[الحج: 29] وهو اسم للدوران حول البيت وذلك يتحقق من المحدث والطاهر فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص فأما الوجوب يثبت بخبر الواحد لأنه يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين فأصل الطواف ركن ثابت بالنص والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد فيكون موجب العمل دون العلم فلم تصر الطهارة ركنا ولكنها واجبة والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج وهو الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة وكان بن شجاع رحمه الله تعالى يقول إنه سنة وفي إيجاب الدم عند تركه دليل على وجوبه ثم المراد تشبيه الطواف بالصلاة في حق الثواب دون الحكم ألا ترى أن الكلام الذي هو مفسد للصلاة غير مؤثر في الطواف وأن الطواف يتأدى بالمشي والمشي مفسد للصلاة؟.
ولأن الطواف من حيث أنه ركن الحج لا يستدعي الطهارة كسائر الأركان ومن حيث أنه متعلق بالبيت يستدعي الطهارة كالصلاة وما يتردد بين أصلين فيوفر حظه عليهما فلشبهه بالصلاة تكون الطهارة فيه واجبة ولكونه ركنا من أركان الحج يعتد به إذا حصل بغير طهارة والأفضل فيه الإعادة ليحصل الجبر بما هو من جنسه وإن لم يعد فعليه دم للنقصان المتمكن فيه بترك الواجب فإن نقائص الحج تجبر بالدم وعلى هذا لو طاف للزيارة جنبا يعتد بهذا الطواف في حكم التحلل عن الإحرام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد به ثم عليه الإعادة عندنا وإن لم يعد حتى رجع إلى أهله فعليه بدنة لأن النقصان بسبب الجنابة أعظم من النقصان بسبب الحدث.(4/67)
ألا ترى أن المحدث لا يمنع من قرءاة القرآن والجنب يمنع من ذلك ولأن المنع من الجنابة من وجهين من حيث الطواف ومن حيث دخول المسجد ومنع المحدث من وجه واحد فلتفاحش النقصان هنا قلنا يلزمه الجبر بالبدنة وهو مروي عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال البدنة في الحج تجب في شيئين على من طاف جنبا وعلى من جامع بعد الوقوف وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى أن المعتبر طوافه الثاني أم الأول وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول المعتبر هو الأول والثاني جبر للأول وكان يستدل على هذا بما قال في الكتاب إنه لو طاف لعمرته جنبا في رمضان ثم أعاد طوافه في أشهر الحج وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا فلو كان المعتبر هو الطواف الثاني كان متمتعا.
ووجه هذا القول أن المعتد به ما يتحلل به من الإحرام والتحلل حصل بالطواف الأول فهو المعتد به والثاني جبر للنقصان المتمكن فيه كالبدنة وكما لو كان محدثا في الطواف الأول كان هو المعتد به والثاني جبرا للنقصان والأصح أن المعتد به هو الثاني وأن(4/68)
ص -36- ... الأول ينفسخ بالثاني ألا ترى أنه قال في الكتاب لو طاف للزيارة جنبا في أيام النحر ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتأخير طواف الزيارة عن وقته ولو كان المعتد به هو الأول لم يلزمه دم التأخير لأن الأول مؤدى في وقته.
وأما مسألة التمتع فلأنه بما أدى من الطواف في رمضان وقع له إلا من عن فساد العمرة فإذا أمن فسادها قبل دخول وقت الحج لا يكون بها متمتعا وهذا لأن الأول كان حكمه مراعى لتفاحش النقصان فإن أعاده انفسخ الأول وصار المعتد به هو الثاني وإن لم يعد كان معتدا به في التحلل كمن قام في صلاته ولم يقرأ حتى ركع كان قيامه وركوعه مراعى على سبيل التوقف فإن عاد فقرأ ثم ركع انفسخ الأول حتى أن من أدرك معه الركوع الثاني كان مدركا للركعة وإن لم يعد وقرأ في الركعتين الأخريين كان الأول معتدا به وهذا بخلاف المحدث لأن النقصان هناك يسير فلا يتوقف به حكم الطواف الأول بل بقي معتدا به على الإطلاق فكان الثاني جابرا للنقصان المتمكن فيه.
وعلى هذا لو طافت المرأة للزيارة حائضا فهذا والطواف جنبا سواء ولو طاف للزيارة وفي ثوبه نجاسة كان مسيئا ولا يلزمه شيء لأن حكم النجاسة في الثوب أخف ألا ترى أن الصلاة مع قليل النجاسة في الثوب تجوز وكذلك مع النجاسة الكثيرة في حالة الضرورة فلا يتمكن بنجاسة الثوب نقصان في طوافه وهذا بخلاف ما إذا طاف عريانا فإنه يؤمر بالإعادة وإن لم يعد فعليه الدم لأن ستر العورة من واجبات الطواف والكشف محرم لأجل الطواف على ما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يطوفن بالبيت بعد العام مشرك ولا عريان". فبسبب الكشف يتمكن نقصان في الطواف.(4/69)
فأما اشتراط طهارة الثوب ليس لأجل الطواف على الخصوص فلا يتمكن بتركه نقصان في الطواف ولو كان طاف للعمرة جنبا ففي القياس عليه بدنة أيضا كما في طواف الزيارة لأن كل واحد منهما ركن ولكنه ترك القياس هنا وقال عليه الدم فقط لأنه لا مدخل للبدنة في العمرة ألا ترى أن بالجماع لا تجب البدنة في إحرام العمرة بخلاف الحج ولأن الدم يقوم مقام العمرة فإن فات الحج يتحلل بأفعال العمرة ثم الدم في حق المحصر يقوم مقام أفعال العمرة للتحلل فلأن يقوم الدم مقام النقصان المتمكن في طواف العمرة بسبب الجنابة كان أولى فأما الدم لا يقوم مقام طواف الزيارة والبدنة قد تقوم مقامه حتى إذا مات بعد الوقوف وأوصى بالإتمام عنه تجب بدنة لطواف الزيارة فكذلك البدنة تقوم مقام النقصان المتمكن بسبب الجنابة في طواف الزيارة.
إذا عرفنا هذا فنقول: القارن إذا طاف حين قدم مكة طوافين محدثا ثم وقف بعرفات فعليه دم للنقصان المتمكن بسبب الحدث في طواف العمرة ولا شيء عليه بطواف التحية مع الحدث لأن ذلك لا يكون أعلى من ترك طواف التحية أصلا ولكنه يرمل في طواف الحج(4/70)
ص -37- ... في يوم النحر ويسعى بين الصفا والمروة استحسانا وإن لم يفعل لم يضره ولا شيء عليه لأن طوافه الأول للتحية معتد به مع الحدث فالسعي بعده معتد به أيضا والطهارة في السعي ليست بشرط ولكن المستحب إعادة ذلك الطواف فكذلك يستحب إعادة ذلك الرمل والسعي يوم النحر وإن لم يفعل لم يضره ولا شيء عليه.
قال: وقال محمد رحمه الله تعالى ليس عليه أن يعيد طواف العمرة وإن أعاد فهو أفضل والدم عليه على كل حال لأنه لا يمكن أن يجعل المعتد به الطواف الثاني لأنه حصل بعد الوقوف ولا يجوز طواف العمرة بعد الوقوف على ما بينا فالمعتبر هو الأول لا محالة وهو ناقص فعليه دم ولم يذكر قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقيل على قولهما ينبغي أن يسقط عنه الدم بالإعادة لأن رفع النقصان عن طواف العمرة بعد الوقوف صحيح كما لو طاف للعمرة قبل الوقوف أربعة أشواط ثم أتم طوافه يوم النحر كان صحيحا فكذا هذا وإذا ارتفع النقصان بالإعادة لا يلزمه الدم وإن طافهما جنبا فعليه دم لطواف العمرة ويعيد السعي للحج لأنه أداه عقيب طواف التحية جنبا فعليه إعادته بعد طواف الزيارة قال فإن لم يعد فعليه دم وهذا دليل على أن طواف الجنب للتحية غير معتبر أصلا فإنه جعله كمن ترك السعي حين أوجب عليه الدم فدل أن الصحيح أن الجنب إذا أعاد الطواف كان المعتد به الثاني دون الأول.(4/71)
مفرد أو قارن طاف للزيارة محدثا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فعليه دمان أحدهما للحدث في طواف الزيارة والآخر لترك طواف الصدر وإن كان طاف للصدر فعليه دم واحد لترك الطهارة في طواف الزيارة ولا يجعل طوافه للصدر إعادة منه لطواف الزيارة لأن إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة غير مفيد في حقه فإنه إذا جعل هذا إعادة لطواف الزيارة صار تاركا لطواف الصدر فيلزمه الدم لأجله وإذا لم يكن مفيدا لا يشتغل به وإن كان طاف للزيارة جنبا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فإنه يعود إلى مكة ليطوف طواف الزيارة وإذا عاد فعليه إحرام جديد لأن طوافه الأول معتد به في حق التحلل وليس له أن يدخل مكة بغير إحرام فيلزمه إحرام جديد لدخول مكة ثم يلزمه دم لتأخيره طواف الزيارة عن وقته وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو أخر الطواف حتى مضت أيام التشريق وسنبين هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وهذه المسألة تدل على أن المعتبر هو الطواف الثاني وإن لم يرجع إلى مكة فعليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لترك طواف الصدر وعلى الحائض مثل ذلك للزيارة وليس عليها لترك طواف الصدر شيء لأن للحائض رخصة في ترك طواف الصدر والأصل فيه حديث صفية رضي الله عنها فإنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام النحر أنها حاضت فقال صلى الله عليه وسلم: "عقري حلقي أحابستنا هي"؟ فقيل: إنها قد طافت قال: "فلتنفر إذن" فهذا دليل على أن الحائض ممنوعة(4/72)
ص -38- ... عن طواف الزيارة وأنه ليس عليها طواف الصدر لأنه لما أخبر أنها طافت للزيارة أمرها بأن تنفر معهم وإن طاف للزيارة جنبا وطاف للصدر طاهرا في آخر أيام التشريق كان طواف الصدر مكان طواف الزيارة لأن الإعادة مستحقة عليه فيقع عما هو المستحق وإن نواه عن غيره وفي إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة فائدة وهي إسقاط البدنة عنه ثم يجب عليه دمان أحدهما لترك طواف الصدر عندهم جميعا والآخر لتأخير طواف الزيارة إلى آخر أيام التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك الجواب في الحائض إذا طافت للزيارة ثم طهرت فطافت للصدر في آخر أيام التشريق.
والحاصل أن طواف الزيارة مؤقت بأيام النحر فتأخيره عن أيام النحر يوجب الدم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يوجب الدم في قولهما وعلى هذا من قدم نسكا على نسك كأن حلق قبل الرمي أو نحر القارن قبل الرمي أو حلق قبل الذبح فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يلزمه الدم بالتقديم والتأخير وحجتهما في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر حلقت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" وقال آخر حلقت قبل أن أذبح فقال: " اذبح ولا حرج", وما سئل عن شيء يومئذ قدم أو أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" فدل أن التقديم والتأخير لا يوجب شيئا.(4/73)
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث بن مسعود رضي الله عنه قال من قدم نسكا على نسك فعليه دم وتأويل الحديث المرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم في ذلك الوقت لقرب عهدهم بتعلم الترتيب وما يلحقهم من المشقة في مراعاة ذلك ومعنى قوله: "افعل ولا حرج": أي لا حرج فيما تأتي به وبه يقول وإنما الدم عليه بما قدمه على وقته والمعنى فيه أن توقت النسك بزمان كتوقته بالمكان لأنه لا يتأدى النسك إلا بمكان وزمان ثم ما كان مؤقتا بالمكان إذا أخره عن ذلك المكان يلزمه الدم كالإحرام المؤقت بالميقات إذا أخره عنه بأن جاوز الميقات حلالا ثم أحرم فكذلك ما كان مؤقتا بالزمان وهو طواف الزيارة الذي هو مؤقت بأيام النحر بالنص إذا أخره قلنا يلزمه الدم وهذا لأن مراعاة الوقت في الأركان واجب كمراعاة المكان ألا ترى أن الوقوف لا يجوز في غير وقته كما لا يجوز في غير مكانه فبتأخر الطواف عن وقته يصير تاركا لما هو واجب وترك الواجب في الحج يوجب الجبر بالدم.
ثم الأصل بعد هذا أن أكثر أشواط الطواف بمنزلة الكل في حكم التحلل به عن الإحرام عندنا وكذلك في حكم الطهارة وغيرها من الأحكام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقوم الأكثر مقام الكمال بناء على أصله في اعتبار الطواف بالصلاة فكما أن أكثر عدد ركعات الصلاة لا يقوم مقام الكمال فكذلك أشواط الطواف لا تقوم مقام الكمال وهذا لأن تقدير الطواف بسبعة أشواط ثابت بالنصوص المتواترة فكان كالمنصوص عليه في القرآن وما يقدر شرعا بقدر لا يكون لما دون ذلك القدر حكم ذلك القدر كما في الحدود وغيرها(4/74)
ص -39- ... ولنا أن المنصوص عليه في القرآن الطواف بالبيت وهو عبارة عن الدوران حوله ولا يقتضي ظاهره التكرار إلا أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا تقدير كمال الطواف بسبعة أشواط فيحتمل أن يكون ذلك التقدير للإتمام ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت منه القدر المتيقن وهو أن يجعل ذلك شرط الإتمام ولئن كان شرط الاعتداد يقام الأكثر فيه مقام الكمال لترجح جانب الوجود على جانب العدم إذا أتى بالأكثر منه ومثله صحيح في الشرع كمن أدرك الإمام في الركوع يجعل اقتداؤه في أكثر الركعة كالاقتداء في جميع الركعة في الاعتداد به والمتطوع بالصوم إذا نوى قبل الزوال يجعل وجود النية في أكثر اليوم كوجودها في جميع اليوم وكذلك في صوم رمضان عندنا.
ومن أصحابنا من يقول: الطواف من أسباب التحلل وفي أسباب التحلل يقام البعض مقام الكل كما في الحلق إلا أنا اعتبرنا هنا الأكثر ليترجح جانب الوجود فإن الطواف عبادة مقصودة والحلق ليس بعبادة مقصودة فيقام الربع مقام الكل هناك إذا عرفنا هذا فنقول إذا طاف للزيارة أربعة أشواط يتحلل به من الإحرام عندنا حتى لو جامع بعد ذلك لا يلزمه شيء بخلاف ما لو طاف ثلاثة أشواط وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يتحلل ما بقي عليه خطوة من شوط.(4/75)
ولو طاف ثلاثة أشواط للزيارة ولم يطف للصدر ورجع إلى أهله فعليه أن يعود بالإحرام الأول ويقضي بقية طواف الزيارة لأن الأكثر باق عليه فكان إحرامه في حق النساء باقيا ولا يحتاج هذا إلى إحرام جديد عند العود ولا يقوم الدم مقام ما بقي عليه ولكن يلزمه العود إلى مكة لبقية الطواف عليه ثم يريق دما لتأخيره عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن تأخير أكثر الأشواط عن أيام النحر كتأخير الكل ويطوف للصدر وإن كان طاف أربعة أشواط أجزأه أن لا يعود ولكن يبعث بشاتين أحداهما لما بقي عليه من أشواط الطواف لأن ما بقي أقل وشرط الطواف الكمال فيقوم الدم مقامه والدم الآخر لطواف الصدر وإن اختار العود إلى مكة يلزمه إحرام جديد لأن التحلل قد حصل له من الإحرام الأول فإذا عاد بإحرام جديد وأعاد ما بقي من طواف الزيارة وطاف للصدر أجزأه وكان عليه لتأخير كل شوط من أشواط طواف الزيارة صدقة لأن تأخير الكل لما كان يوجب الدم عنه فتأخير الأقل لا يوجب الدم ولكن يوجب الصدقة وفي كل موضع يقول تلزمه صدقة فالمراد طعام مسكين مدين من حنطة إلا أن يبلغ قيمة ذلك قيمة شاة فحينئذ ينقص منه ما أحب.
قال: وإن طاف الأقل من طواف الزيارة وطاف للصدر في آخر أيام التشريق يكمل طواف الزيارة من طواف الصدر لأن استحقاق الزيارة عليه أقوى فما أتى به مصروف إلى إكماله وإن نواه عن غيره وعليه لتأخير ذلك دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم قد بقي من طوافه للصدر ثلاثة أشواط فصار تاركا للأكثر من طواف الصدر وذلك ينزل منزلة ترك(4/76)
ص -40- ... الكل فعليه دم لذلك وإن كان المتروك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط أكمل ذلك من طواف الصدر كما بينا وعليه لكل شوط منه صدقة بسبب التأخير عن وقته لأنه لا يجب في تأخير الأقل ما يجب في تأخير الكل ثم قد بقي من طواف الصدر أربعة أشواط فإنما ترك الأقل منها فيكفيه لكل شوط صدقة لأن الدم يقوم مقام جميع طواف الصدر فلا يجب في ترك أقله ما يجب في ترك كله.
ولو طاف للصدر جنبا فعليه دم لتفاحش النقصان بسبب الجنابة ويكون هو كالتارك لطواف الصدر أصلا ولو طاف للصدر وهو محدث فعليه صدقة لقلة النقصان بسبب الحدث وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى سوى بين الحدث والجنابة في ذلك لأن طواف الجنب معتد به ألا ترى أن التحلل من الإحرام يحصل به في طواف الزيارة فلا يجب بسبب هذا النقصان ما يجب بتركه أصلا.
قال: ولو طاف بالبيت منكوسا بأن استلم الحجر ثم أخذ على يسار الكعبة وطاف كذلك سبعة أشواط عندنا يعتد بطوافه في حكم التحلل وعليه الإعادة ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد بطوافه بناء على أصله أن الطواف بمنزلة الصلاة فكما أنه لو صلى منكوسا بأن بدأ بالتشهد لا يجزيه فكذلك الطواف ولنا الأصل الذي قلنا أن الثابت بالنص الدوران حول البيت وذلك حاصل من أي جانب أخذ ولكن بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم حين أخذ على يمينه على باب الكعبة تبين أن الواجب هذا فكانت هذه صفة واجبة في هذا الركن بمنزلة شرط الطهارة عندنا فتركه لا يمنع الاعتداد به ولكن يمكن فيه نقصانا يجبر بالدم وهذا لأن المعنى فيه معقول وهو تعظيم البقعة وذلك حاصل من أي جانب أخذ فعرفنا أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية بالجانب الأيمن لبيان صفة الإتمام لا لبيان صفة الركنية بخلاف أركان الصلاة.(4/77)
واستدل الشافعي رحمه الله تعالى علينا بما لو بدأ بالمروة في السعي حيث لا يعتد به لما أنه أداه منكوسا فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال يعتد به ولكن يكون مكروها والأصح أنه لا يعتد بالشوط الأول لا لكونه منكوسا ولكن لأن الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات والمروة ثلاث مرات فإذا بدأ بالمروة فإنما صعد الصفا ثلاث مرات فعليه أن يصعد الصفا مرة أخرى ولا يمكن أن يأمر بذلك إلا بإعادة شوط واحد من الطواف بين الصفا والمروة فأما هنا ما ترك شيئا من أصل الواجب عليه فقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان طوافه معتدا به.
قال: وإن طاف راكبا أو محمولا فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا وعلى قول الشافعي رضي الله عنه لا شيء عليه لأنه صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على(4/78)
ص -41- ... ناقته واستلم الأركان بمحجنه ولكنا نقول التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا وعلى هذا على قول من يجعله كالصلاة الدم لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر ولكنا نقول المشي شرط الكمال فيه فتركه من غير عذر يوجب الدم لما بينا.
فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله تعالى أنه طاف راكبا لوجع أصابه وهو أنه وثبت رجله فلهذا طاف راكبا وذكر بن الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف راكبا ليشاهده الناس فيسألوه عن حوادثهم وقيل إنما طاف راكبا لكبر سنه وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا.
قال: وإذا طاف المعتمر أربعة أشواط من طواف العمرة في أشهر الحج بأن كان أحرم للعمرة في رمضان فطاف ثلاثة أشواط ثم دخل شوال فأتم طوافه وحج من عامه ذلك كان متمتعا وإن كان طاف لأكثر في رمضان لم يكن متمتعا لما بينا أن الأكثر يقوم مقام الكل وعلى هذا لو جامع المعتمر بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لم تفسد عمرته ويمضى فيها وعليه دم وإن جامع بعد ما طاف لها ثلاثة أشواط فسدت عمرته فيمضى في الفاسد حتى يتمها وعليه دم للجماع وعمرة مكانها لما ذكرنا أن الأكثر يقوم مقام الكمال وجماعه بعد إكمال طواف العمرة غير مفسد لأنها صارت مؤداة بأداء ركنها فكذلك بعد أداء الأكثر من الطواف.
قال: وإن طاف للعمرة في رمضان جنبا أو على غير وضوء لم يكن متمتعا إن أعاده في شوال أو لم يعده وبهذه المسألة استدل الكرخي رحمه الله تعالى وقد بينا العذر فيه أنه إنما لا يكون متمتعا لوقوع الأمن له من الفساد بما أداه في رمضان ولو كان ذلك موقوفا لبطل بالإعادة في شوال.(4/79)
قال: كوفي اعتمر في أشهر الحج فطاف لعمرته ثلاثة أشواط ورجع إلى الكوفة ثم ذكر بعد ذلك فرجع إلى مكة فقضى ما بقي عليه من عمرته من الطواف والسعي وحج من عامه ذلك كان متمتعا لأنه لما أتى بأكثر الأشواط بعد ما رجع ثانيا فكأنه أتى بالكل بعد رجوعه ولو كان طاف أولا أربعة أشواط لم يكن متمتعا كما لو أكمل الطواف وهذا لوجود الإلمام بأهله بين النسكين وأنشائه السفر لأداء كل نسك من بيته.
قال: وترك الرمل في طواف الحج والعمرة والسعي في بطن الوادي بين الصفا والمروة لا يوجب عليه شيئا غير أنه مسيء إذا كان لغير عذر وكذلك ترك استلام الحجر فالرمل واستلام الحجر وهذه الخلال من آداب الطواف أو من السنن وترك ما هو سنة أو أدب لا يوجب شيئا إلا الإساءة إذا تعمد.(4/80)
ص -42- ... قال: وإذا طاف الطواف الواجب في الحج والعمرة في جوف الحطيم قضى ما ترك منه إن كان بمكة وإن كان رجع إلى أهله فعليه دم لأن المتروك هو الأقل فإنه إنما ترك الطواف على الحطيم فقط وقد بينا أنه لو ترك الأقل من أشواط الطواف فعليه إعادة المتروك وإن لم يعد فعليه الدم عندنا فهذا مثله ثم الأفضل عندنا أن يعيد الطواف من الأصل ليكون مراعيا للترتيب المسنون وإن أعاده على الحطيم فقط أجزأه لأنه أتى بما هو المتروك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إعادة الطواف من الأصل بناء على أصله في أن مراعاة الترتيب في الطواف واجب كما هو في الصلاة فإذا ترك لم يكن طوافه معتدا به وعندنا الواجب هو الدوران حول البيت وذلك يتم بإعادة المتروك فقط ولكن الترتيب سنة الإعادة من الأصل أفضل ويلزمون علينا بما لو ابتدأ الطواف من غير موضع الحجر لا يعتد بذلك القدر حتى ينتهي إلى الحجر ولو لم يكن الترتيب واجبا لكان ذلك القدر معتدا به.
ومن أصحابنا من يقول بأنه معتد به عندنا ولكنه مكروه ولكن ذكر محمد رحمه الله تعالى في الرقيات أنه لا يعتبر طوافه إلى الحجر لا لترك الترتيب ولكن لأن مفتاح الطواف من الحجر الأسود على ما روي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قال لإسماعيل عليه السلام ائتني بحجر أجعله علامة افتتاح الطواف فأتاه بحجر فألقاه ثم بالثاني ثم بالثالث فناداه قد أتاني بالحجر من أغناني عن حجرك ووجد الحجر الأسود في موضعه فعرفنا أن افتتاح الطواف منه فما أداه قبل الافتتاح لا يكون معتدا به.(4/81)
قال: فإن طاف لعمرته ثلاثة أشواط وسعى بين الصفا والمروة ثم طاف لحجته كذلك ثم وقف بعرفة فالأشواط التي طافها للحج محسوبة عن طواف العمرة لأنه هو المستحق عليه قبل طواف التحية فإذا جعلنا ذلك من طواف العمرة كان الباقي عليه شوطا واحدا حين وقف بعرفة فيكون قارنا ويعيد طواف الصفا والمروة لعمرته ولحجته لأن ما أدى من السعي بين الصفا والمروة لعمرته كان عقيب أقل الأشواط فلا يكون معتدا به فيجب أن يعيده مع السعي للحج ومع الشوط الواحد عن طواف العمرة وإن رجع إلى الكوفة قبل أن يفعل ذلك فعليه دم لترك ذلك الشوط ودم لترك سعي الحج ولا يلزمه شيء لسعي العمرة لأنه قد سعى لعمرته عقيب ستة أشواط لأن موضوع المسألة فيما إذا كان سعي للحج وذلك يقع عن سعي العمرة وإن لم يكن سعي أصلا فعليه دم لترك السعي في كل نسك قال الحاكم رحمه الله تعالى قوله يعيد الطواف لعمرته غير سديد إلا أن يريد به الاستحباب يريد به بيان أن موضوع المسألة فيما إذا كان سعي بعد طواف التحية ثلاثة أشواط فكان ذلك سعيا معتدا به للعمرة فلا يلزمه إعادته وإن كان يستحب له إعادة ذلك بعد ما أكمل طواف العمرة بالشوط المتروك.
قال: ويكره أن يجمع بين أسبوعين من الطواف قبل أن يصلي في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بذلك إذا انصرف(4/82)
ص -43- ... على وتر ثلاثة أسابيع أو خمسة أسابيع لحديث عائشة رضي الله عنها أنها طافت ثلاثة أسابيع ثم صلت لكل أسبوع ركعتين ولأن مبنى الطواف على الوتر في عدد الأشواط فإذا انصرف على وتر لم يخالف انصرافه مبنى الطواف واشتغاله بأسبوع آخر قبل الصلاة كاشتغاله بأكل أو نوم وذلك لا يوجب الكراهة فكذا هنا إذا انصرف على ما هو مبني الطواف بخلاف ما إذا انصرف على شفع لأن الكراهة هناك لانصرافه على ما هو خلاف مبنى الطواف لا لتأخيره الصلاة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا إتمام كل أسبوع من الطواف بركعتين فيكره له الاشتغال بالأسبوع الثاني قبل إكمال الأول كما أن إكمال كل شفع من التطوع لما كان بالتشهد يكره له الاشتغال بالشفع الثاني قبل إكمال الأول.
قال: وإذا طاف قبل طلوع الشمس لم يصل حتى تطلع الشمس وقد بينا في كتاب الصلاة أن ركعتي الطواف سنة أو واجب بسبب من جهته كالمنذور وذلك لا يؤدى عندنا بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس ولا بعد العصر قبل غروب الشمس وقد روي أن عمر رضي الله عنه طاف قبل طلوع الشمس ثم خرج من مكة حتى إذا كان بذي طوى وارتفعت الشمس صلى ركعتين ثم قال ركعتان مكان ركعتين وكذلك بعد غروب الشمس يبدأ بالمغرب لأن أداء ما ليس بمكتوبة قبل صلاة المغرب مكروه ولا تجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف لأنه واجب كالمنذور أو سنة كسنن الصلاة فالمكتوبة لا تنوب عنه.
قال: ويكره له أن ينشد الشعر في طوافه أو يتحدث أو يبيع أو يشتري فإن فعله لم يفسد عليه طوافه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير", وقد بينا أن المراد تشبيه الطواف بالصلاة في الثواب لا في الأحكام فلا يكون الكلام فيه مفسدا للطواف.(4/83)
قال: ويكره له أن يرفع صوته بقراءة القرآن فيه لأن الناس يشتغلون فيه بالذكر والثناء فقل ما يستمعون لقراءته وترك الاستماع عند رفع الصوت بالقراءة من الجفاء فلا يرفع صوته بذلك صيانة للناس عن هذا الجفاء ولا بأس بقراءته في نفسه هكذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان في طوافه يقرأ القرآن في نفسه ولأن المستحب له الاشتغال بالذكر في الطواف وأشرف الأذكار قراءة القرآن.
قال: وإن طافت المرأة مع الرجل لم تفسد عليه طوافه يريد به بسبب المحاذاة لأن الطواف في الأحكام ليس كالصلاة ومحاذاة المرأة الرجل إنما يوجب فساد الصلاة إذا كانا يشتركان في الصلاة فأما إذا لم يشتركا في الصلاة فلا وهنا لا شركة بينهما في الطواف.
قال: وإذا خرج الطائف من طوافه لصلاة مكتوبة أو جنازة أو تجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه لما بينا أنه ليس كالصلاة في الأحكام فالاشتغال في خلاله بعمل لا يمنع البناء عليه وروي عن بن عباس رضي الله عنه أنه خرج لجنازة ثم عاد فبنى على الطواف.(4/84)
ص -44- ... قال: وإن أخر الطائف ركعتين حتى خرج من مكة لم يضره لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه.
قال: والصلاة لأهل مكة أحب إلى وللغرباء الطواف فإن التطوع من الصلاة عبادة بجميع البدن تشتمل على أركان مختلفة فالاشتغال بهذا أفضل من الاشتغال بطواف التطوع إلا أن في حق الغرباء الطواف يفوته والصلاة لا تفوته لأنه يتمكن من الصلاة إذا رجع إلى أهله ولا يتمكن من الطواف إلا في هذا المكان والاشتغال في هذا المكان بما يفوته أولى كالاشتغال بالحراسة في سبيل الله أولى من صلاة الليل إذا تعذر عليه الجمع بينهما فأما المكي لا يفوته الطواف ولا الصلاة فكان الاشتغال بالصلاة في حقه أولى لما بينا.
قال: رجل طاف أسبوعا وشوطا أو شوطين من أسبوع آخر ثم ذكر له أنه لا ينبغي أن يجمع بين أسبوعين قال يتم الأسبوع الذي دخل فيه وعليه لكل أسبوع ركعتان لأنه صار شارعا في الأسبوع الثاني مؤكدا له بشوط أو شوطين فعليه أن يتمه كمن قام إلى الركعة الثالثة قبل التشهد وقيد الركعة بالسجدة كان عليه إتمام الشفع الثاني ثم كل أسبوع سبب التزام ركعتين بمنزلة النذر فعليه لكل أسبوع ركعتان.
قال: ولا بأس بأن يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرين وإنما أورد هذا ردا على المتشفعة فإنهم يقولون لا يطوف إلا حافيا وإذا كان يجوز الصلاة مع الخفين أو النعلين إذا كانا طاهرين فالطواف أولى.(4/85)
قال: واستلام الركن اليماني حسن وتركه لا يضره وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه يستلمه ولا يتركه وقال الشافعي رحمه الله تعالى يستلمه ويقبل يده ولا يقبل الركن هكذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ولم يقبله. وابن عباس رضي الله عنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ووضع خده عليه وابن عمر رضي الله عنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين يعني الحجر الأسود واليماني فهو دليل لمحمد رحمه الله تعالى ووجه ظاهر الرواية أن كل ركن يكون استلامه مسنونا فتقبيله كذلك مسنون كالحجر الأسود وبالاتفاق هنا التقبيل ليس بمسنون فكذا الاستلام.
قال: ولا يستلم الركنين الآخرين إلا على قول معاوية رضي الله عنه فإنه استلم الأركان الأربعة فقال له بن عباس رضي الله عنهما لا تستلم الركنين فقال ليس شيء منه بمهجور ولكنا نقول القياس ينفي استلام الركن لأن ذلك ليس من تعظيم البقعة كسائر المواضع من البيت ولكنا تركنا القياس في الحجر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي ما سواه على أصل القياس ثم الركنان الآخران ليسا من أركان البيت لأن أهل الجاهلية قصروا البيت عن قواعد الخليل صلوات الله عليه على ما بينا فلا يستلمهما.(4/86)
ص -45- ... قال: وإن رمل في طوافه كله لم يكن عليه شيء لأن المشي على هينته في الأشواط الأربعة من الآداب وبترك الآداب لا يلزمه شيء.
قال: وإن مشى في الثلاثة الأول أو في بعضها ثم ذكر ذلك لم يرمل فيما بقي لأن الرمل في الأشواط الثلاثة سنة فإذا فاتت من موضعها لا تقضى والمشي على هينته في الأربعة الأخر من آداب الطواف أو من السنن فإن ترك في الثلاثة الأول ما هو سنتها لا يترك في الأربعة الأخر ما هو سنتها.
قال: وإن جعل لله عليه أن يطوف زحفا فعليه أن يطوف ماشيا لأنه إنما يلتزم بالنذر ما يتنفل به أو ما يكون قربة في نفسه وأصل الطواف قربة فأما الزحف من أفعال أهل الجاهلية وليس بقربة في شريعتنا فلا تلزمه هذه الصفة بالنذر وإن طاف كذلك زحفا فعليه الإعادة ما دام بمكة وإن رجع إلى أهله فعليه دم بمنزلة ما لو طاف محمولا أو راكبا على ما بينا.
قال: وإن طاف بالبيت من وراء زمزم أو قريبا من ظلة المسجد أجزأه عن ذلك لأنه إذا كان في المسجد فطوافه يكون بالبيت فيصير به ممتثلا للأمر فأما إذا طاف من وراء المسجد فكانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه لأنه طاف بالمسجد لا بالبيت والواجب عليه الطواف بالبيت أرأيت لو طاف بمكة كان يجزئه وإن كان البيت في مكة أرأيت لو طاف في الدنيا أكان يجزئه من الطواف بالبيت لا يجزئه شيء من ذلك فهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب السعي بين الصفا والمروة(4/87)
قال رضي الله عنه: وإذا سعى بين الصفا والمروة ورمل في سعيه كله من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا فقد أساء ولا شيء عليه وكذلك إن مشى في جميع ذلك لأن الواجب عليه الطواف بينهما قال الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158]. فأما السعي في بطن الوادي والمشي فيما سوى ذلك أدب أو سنة فتركه لا يوجب إلا الإساءة كترك الرمل في الطواف. قال: وإن بدأ بالمروة وختم بالصفا حتى فرغ أعاد شوطا واحدا لأن الذي بدأ بالمروة فيه ثم أقبل منها إلى الصفا لا يعتد به ومعنى هذا أن افتتاح هذا الطواف مشروع من الصفا على ما روينا أنه لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيهما نبدأ فقال: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى به". وإذا افتتح من غير موضع الافتتاح لا يعتد بطوافه حتى يصل إلى موضع الافتتاح ثم المعتد به يبقى بعد ذلك فعليه إتمامه بشوط آخر كما لو افتتح الطواف من غير الحجر.
قال: وإن ترك السعي فيما بين الصفا والمروة رأسا في حج أو عمرة فعليه دم عندنا وهذا لأن السعي واجب وليس بركن عندنا الحج والعمرة في ذلك سواء وترك الواجب يوجب الدم وعند الشافعي رحمه الله تعالى السعي ركن لا يتم لأحد حج ولا عمرة إلا به،(4/88)
ص -46- ... واحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه رضي الله عنهم "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا" والمكتوب ركن وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أتم الله تعالى لامرى ء حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة"، وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158] ومثل هذا اللفظ للإباحة لا للإيجاب فيقتضي ظاهر الآية أن لا يكون واجبا ولكنا تركنا هذا الظاهر في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره.
وإنما ذكر هذا اللفظ والله أعلم لأصحابه لأنهم كانوا يتحرزون عن الطواف بهما لمكان الصنمين عليهما في الجاهلية إساف ونائلة فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم بين في الآية أن المقصود حج البيت بقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ}[البقرة: 158] فكان ذلك دليلا على أن ما لا يتصل بالبيت من الطواف يكون تبعا لما هو متصل بالبيت ولا تبلغ درجة التبع درجة الأصل فتثبت فيه صفة الوجوب لا الركنية فكان السعي مع الطواف بالبيت نظير الوقوف بالمشعر الحرام مع الوقوف بعرفة وذلك واجب لا ركن فهذا مثله وهو نظير رمي الجمار من حيث أنه مقدر بعدد السبع غير مختص بالبيت ولا يصح استدلاله بظاهر الحديث الذي رواه لأن في ظاهره ما يدل على أن السعي مكتوب وبالاتفاق عين السعي غير مكتوب فإنه لو مشى في طوافه بينهما أجزأه.(4/89)
وفي الحديث الآخر ما يدل على الوجوب دون الركينة لأنه علق التمام بالسعي وأداء أصل العبادة يكون بأركانها فصفة التمام بالواجب فيها وكذلك لو ترك منها أربعة أشواط فهو كترك الكل في أنه يجب عليه الدم به لأن الأكثر يقوم مقام الكمال وإن ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط مسكينا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء وهو نظير طواف الصدر في ذلك وكذلك إن فعله راكبا فإن كان لعذر فلا شيء عليه وإن كان لغير عذر فعليه الدم في الأكثر والصدقة في الأقل لما بينا.
قال: ويجوز سعي الجنب والحائض لأنه غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه كالوقوف وغيره من المناسك وإنما اشتراط الطهارة في الطواف خاصة لاختصاصه بالبيت.
قال: ولا يجوز السعي قبل الطواف لأنه إنما عرف قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الطواف وهكذا توارثه الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو في المعنى متمم للطواف فلا يكون معتدا به قبله كالسجود في الصلاة أو شرط الاعتداد به تقدم الطواف فإذا انعدم هذا الشرط لا يعتد به كالسجود لما كان شرط الاعتداد به تقدم الركوع فإذا سبق الركوع لا يعتد به.
قال: ويجوز السعي بعد أن يطوف الأكثر من الطواف لأن الأكثر يقوم مقام الكل.(4/90)
ص -47- ... قال ويكره له ترك الصعود على الصفا والمروة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صعد عليهما وأمرنا بالاقتداء به بقوله: "خذوا عني مناسككم". وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم توارثوا الصعود على الصفا والمروة بقدر ما يصير البيت بمرأى العين منهم فهو سنة متبعة يكره تركها وروي أن عمر رضي الله عنه في نزوله من الصفا كان يقول اللهم استعملني بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتوفني على ملته واعذني من معضلات الفتن أو من معضلات يوم القيامة ولا يلزمه بترك الصعود شيء لأن الواجب عليه الطواف بينهما وقد أتى بذلك.
قال: وإن طاف لحجته وواقع النساء ثم سعى بعد ذلك أجزأه لأن تمام التحلل بالطواف بالبيت يحصل على ما جاء في الحديث فإذا طاف بالبيت حل له النساء فاشتغاله بالجماع بعد الطواف قبل السعي كاشتغاله بعمل آخر من نوم أو أكل فلا يمنع صحة أداء السعي بعده وإن أخر السعي حتى رجع إلى أهله فعليه دم لتركه كما بينا وأن أراد أن يرجع إلى مكة ليأتي بالسعي يرجع بإحرام جديد لأن تحلله بالطواف قد تم وليس له أن يدخل مكة إلا بإحرام.
قال: والدم أحب إلي من الرجوع لأنه إذا رجع كان مؤديا السعي في إحرام آخر غير الإحرام الذي أدى به الحج وإن أراق دما انجبر به النقصان الواقع في الحج ولأن في إراقة الدم توفير منفعة اللحم على المساكين فهو أولى من الرجوع للسعي وإن رجع وسعى أو كان بمكة وسعى بعد أيام النحر فليس عليه شيء لأن السعي غير مؤقت بايام النحر إنما التوقيت في الطواف بالنص فلا يلزمه بتأخير السعي شيء.(4/91)
قال: ولا ينبغي له في العمرة أن يحل حتى يسعى بين الصفا والمروة لأن الأثر جاء فيها أنه إذا طاف وسعى وحلق أو قصر حل وإنما أراد به الفرق بين سعي العمرة وسعي الحج فإن أداء سعي الحج بعد تمام التحلل بالطواف صحيح ولا يؤدي سعي العمرة إلا في حال بقاء الإحرام لأن الأثر في كل واحد منهما ورد بهذه الصفة وفي مثله علينا الاتباع إذ لا يعقل فيه معنى ثم من واجبات الحج ما هو مؤدى بعد تمام التحلل كالرمي فيجوز السعي أيضا بعد تمام التحلل وليس من أعمال العمرة ما يكون مؤدى بعد تمام التحلل والسعي من أعمال العمرة فعليه أن يأتي به قبل التحلل بالحلق والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الخروج إلى منى
قال: ويستحب للحاج أن يصلي الظهر يوم التروية بمنى ويقيم بها إلى صبيحة عرفة هكذا علم جبرائيل عليه السلام إبراهيم صلوات الله عليه حين وقفه على المناسك فإنه خرج به يوم التروية إلى منى فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم عرفة بمنى وإنما سمي يوم التروية لأن الحاج يروون فيه بمنى أو لأنهم يروون ظهورهم فيه بمنى ففي هذه التسمية ما يدل على أنه ينبغي لهم أن يكونوا بمنى يوم التروية وإن صلى الظهر بمكة ثم راح إلى منى لم يضره لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم نسك مقصود فلا(4/92)
ص -48- ... يضره تأخير إتيانه وإن بات بمكة ليلة عرفة وصلى بها الفجر ثم غدا منها إلى عرفات ومر بمنى أجزأه لما بينا وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أقام بمنى يوم التروية كما رواه جابر رضي الله عنه مفسرا.
قال: ثم ينزل حيث أحب من عرفات ويصعد الإمام المنبر بعد الزوال ويؤذن المؤذن وهو عليه فإذا فرغ قام الإمام يخطب فحمد الله وأثنى عليه ولبى وهلل وكبر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ودعى الله تعالى بحاجته وقد بينا هذا فيما سبق.
والحاصل أن في الحج عندنا ثلاث خطب إحداها قبل التروية بيوم والثانية يوم عرفة بعرفات والثالثة في الغد من يوم النحر بمنى.
فيخطب بمكة قبل التروية بيوم يعلمهم كيف يحرمون بالحج وكيف يخرجون منها إلى منى وكيف يتوجهون إلى عرفات وكيف ينزلون بها ثم يمهلهم يوم التروية حتى يعملوا بما علمهم.
ثم يخطب يوم عرفة خطبة يعلمهم فيها ما يحتاجون إليه في هذا اليوم وفي يوم النحر ثم يمهلهم يوم النحر ليعملوا بما علمهم.
ثم يخطب في اليوم الثاني من أيام النحر خطبة يعلمهم فيها بقية ما يحتاجون إليه من أمور المناسك.
وعن زفر رحمه الله تعالى قال يخطب يوم التروية بمنى ويوم عرفة بعرفات ويوم النحر بمنى لأنه يوم التروية يحرم بالحج ويوم عرفة يقف ويوم النحر يطوف بالبيت.
وأركان الحج هذه الأشياء الثلاثة فيخطب في كل يوم يأتي فيه بذلك الركن. ثم بين في الكتاب كيفية الجمع بين الصلاتين بعرفة واشتراط الإمام فيها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد تقدم بيان هذا الفصل بتمامه.
قال: ومن أدرك مع الإمام شيئا من كل صلاة فهو كإدراك جميع الصلاة في أنه يجوز له الجمع بينهما على قياس الجمعة إذا أدرك الإمام في التشهد منها كان مدركا الجمعة.(4/93)
قال: وإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلي بهم الظهر والعصر لأن الإمام أقامه مقام نفسه فيما كان عليه أداؤه وكان عليه أداء الصلاتين فيقوم خليفته مقامه في ذلك.
قال: فإن رجع الإمام فأدرك معه جزء من صلاة العصر جمع بين الصلاتين لأنه مدرك لأول الظهر ومدرك لآخر العصر وإن لم يرجع حتى فرغ خليفته من العصر فإن الإمام لا يصلي العصر ما لم يدخل وقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وهذه المسألة تدل على أن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الجماعة شرط في الجمع بين الصلاتين هنا كالإمام وإنه بمنزلة الجمعة في هذا وقد ذكر بعد هذا أنه إذا نفر(4/94)
ص -49- ... الناس عنه فصلى وحده الصلاتين أجزأه فهو دليل على أن الجماعة فيه ليس بشرط وقيل ما ذكر بعد هذا قولهما لأنه أطلق الجواب وهنا نص على قول أبي حنيفة وقيل بل فيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين جعلها كالجمعة في اشتراط الجماعة فيها وفي الرواية الأخرى فرق بينهما فقال اشتراط الجماعة هناك لتسمية تلك الصلاة جمعة وفي هذا الموضع إنما سمى هاتين الصلاتين الظهر والعصر وليس في هذا الاسم ما يدل على اشتراط الجماعة ومعنى الجمع هنا منصرف إلى الصلاتين لا إلى المؤدين لهما فلا تشترط الجماعة فيهما.
قال: وليس في هاتين الصلاتين القراءة جهرا إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول يجهر بالقراءة فيها لأنها صلاة مؤداة بجمع عظيم فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين ولكنا نقول أن رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا أنه جهر في هاتين الصلاتين بالقراءة وهما يؤديان في هذا المكان كما يؤديان في غيره من الأمكنة وفي غير هذا اليوم فلا يجهر بالقراءة فيهما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عجماء"، أي ليس فيها قراءة مسموعة.
قال: وإن خطب قبل الزوال أو ترك الخطبة وصلى الصلاتين معا أجزأه وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الخطبة ليس من شرائط هذا الجمع بخلاف الجمعة وقد بينا ذلك فهذه خطبة وعظ وتذكير وتعليم لبعض ما يحتاج إليه في الوقت فتركها لا يوجب إلا الإساءة كترك الخطبة في العيدين.(4/95)
قال: وإن كان يوم غيم فاستبان أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعده فالقياس أنه يعيد الظهر وحدها لأن العصر مؤداة في وقتها وحين أدى العصر ما كان ذاكرا للظهر فيكون في معنى الناسي والترتيب يسقط بالنسيان ولكن استحسن أن يعيد الخطبة والصلاتين جميعا لأن شرط صحة العصر في هذا اليوم تقديم الظهر عليه على وجه الصحة فإن العصر معجل على وقته وهذا التعجيل للجمع فإنما يحصل الجمع بأداء العصر إذا تقدم أداء الظهر بصفة الصحة فإذا تبين أن الظهر لم يكن صحيحا كان عليه إعادة الصلاتين جميعا.
قال: وإن أحدث الإمام بعد الخطبة قبل أن يدخل في الصلاة فأمر رجلا قد شهد الخطبة أو لم يشهد أن يصلي بهم أجزأهم لأن الخطبة ليست من شرائط هذا الجمع.
قال: وإن تقدم رجل من الناس بغير أمر الإمام فصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجزهم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن هذا الإمام شرط هذا الجمع عنده.
قال: وإن مات الإمام فصلى بهم خليفته أو ذو سلطان أجزأهم لأن خليفته قائم مقامه فهو بمنزلة ما لو صلى الإمام بنفسه وإن لم يكن فيهم ذو سلطان صلى كل صلاة لوقتها بمنزلة الجمعة.
قال: ولا جمعة بعرفة يعني إذا كان الناس يوم الجمعة بعرفات لا يصلون الجمعة بها لأن المصر من شرائط الجمعة وعرفات ليس في حكم المصر إذ ليس لها أبنية إنما هي(4/96)
ص -50- ... فضاء وليست من فناء مكة لأنها من الحل بخلاف منى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف لأنها من فناء مكة ولأنها بمنزلة المصر في هذه الأيام لما فيها من الأبنية والأسواق المركبة وقد بينا هذا في الصلاة.
قال: ومن وقف بعرفة قبل الزوال لم يجزه ومن وقف بعد زوال الشمس أو ليلة النحر قبل انشقاق الفجر أو مر بها مجتازا وهو يعرفها أو لا يعرفها أجزأه فالحاصل أن ابتداء وقت الوقوف بعد الزوال عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى من طلوع الشمس لأن هذا اليوم مسمى بأنه يوم عرفة فإنما يصير اليوم مطلقا من وقت طلوع الفجر فتبين أن وقت الوقوف من ذلك الوقت واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه". والنهار اسم للوقت من طلوع الشمس سمي نهارا لجريان الشمس فيه كالنهر يسمى نهرا لجريان الماء فيه وحجتنا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال فكان مبينا وقت الوقوف بفعله فدل أن ابتداء الوقوف بعد الزوال.
والدليل عليه ما روينا من حديث بن عمر رضي الله عنه أنه قال للحجاج بعد الزوال إن أردت السنة فالساعة ولا يبعد أن يسمى اليوم بهذا الاسم وإن كان وقت الوقوف بعد الزوال كيوم الجمعة صار وقتا لأداء الجمعة بعد الزوال مع أن اليوم مسمى بهذا الاسم.
ثم الأصل فيما قلنا حديث عروة بن مضرس بن أوس الطائي رحمه الله تعالى أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الجمع وهو بالمشعر الحرام فقال: أكللت راحلتي وأجهدت نفسي وما مررت بجبل من الجبال إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال صلى الله عليه وسلم: "من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه".(4/97)
قال: ومن وقف بعرفة بعد الزوال ثم أفاض من ساعته أو أفاض قبل غروب الشمس أو صلى بها الصلاتين ولم يقف وأفاض أجزأه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل وذلك بأن تكون إفاضته بعد غروب الشمس واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج".
ولكنا نقول: هذه الزيادة غير مشهورة وإنما المشهور ما رواه في الكتاب: "ومن فاته عرفة فقد فاته الحج"، وفيما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ساعة من ليل أو نهار" دليل على أن بنفس الوقوف في وقته يصير مدركا للحج وإن لم يستدم الوقوف إلى وقت غروب الشمس.
ثم يجب عليه الدم إذا أفاض قبل غروب الشمس لأن نفس الوقوف ركن واستدامته إلى غروب الشمس واجبة لما فيها من إظهار مخالفة المشركين فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به وترك الواجب يوجب الجبر بالدم فإن رجع ووقف بها بعد ما غابت الشمس لم يسقط الدم إلا في رواية بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فإنه يقول يسقط عنه الدم قال:(4/98)
ص -51- ... لأنه استدرك ما فاته وأتى بما عليه لأن الواجب عليه الإفاضة بعد غروب الشمس وقد أتى به فيسقط عنه الدم كمن جاوز الميقات حلالا ثم عاد إلى الميقات وأحرم.
وفي ظاهر الرواية: لا يسقط عنه الدم لأن الواجب على من وصل إلى عرفات بعد الزوال استدامة الوقوف إلى غروب الشمس ولم يتدارك ذلك بالانصراف بعد الشمس فلا يسقط عنه الدم وإن عاد قبل غروب الشمس حتى أفاض مع الإمام فذكر الكرخي في مختصره أن الدم يسقط عنه لأن الواجب عليه الإفاضة مع الإمام بعد غروب الشمس وقد تدارك ذلك في وقته ومن أصحابنا من يقول لا يسقط الدم هنا أيضا لأن استدامة الوقوف قد انقطعت بذهابه فبرجوعه لا يصير وقوفه مستداما بل ما فات منه لا يمكنه تداركه فلا يسقط عنه الدم.
قال: وإذا أغمي على المحرم فوقف به أصحابه بعرفات أجزأه ذلك لأنه تأدى الوقوف بحصوله في الموقف في وقت الوقوف ألا ترى أنه لو مر بعرفات مار وهو لا يعلم بها في وقت الوقوف أجزأه ولا يبعد أن يتأدى ركن العبادة من المغمى عليه كما يتأدى ركن الصوم وهو الإمساك بعد النية من المغمى عليه.
قال: ووقوف الجنب والحائض ومن صلى صلاتين ومن لم يصل جائز لأن الوقوف غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه وفرضية الصلاة عليه غير متصل بالوقوف فتركها لا يؤثر في الوقوف كما لا يؤثر في الصوم.(4/99)
قال: وإن وقف القارن بعرفة قبل أن يطوف للعمرة فهو رافض لها إن نوى الرفض وإن لم ينو لأن المعنى المعتبر تعذر أداء العمرة بعد الوقوف وهذا متحقق نوى الرفض أو لم ينو ولم يذكر في الكتاب ما إذا اشتبه يوم عرفة على الناس بأن لم يروا هلال ذي الحجة وهو مروي عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نحروا ووقفوا بعرفة في يوم فإن تبين أنهم وقفوا في يوم التروية لا يجزيهم وإن تبين أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم استحسانا وفي القياس لا يجزيهم لأن الوقوف مؤقت بوقت مخصوص فلا يجوز بعد ذلك الوقت كصلاة الجمعة ولكنه استحسن لقوله صلى الله عليه وسلم: "عرفتكم يوم تعرفون"، وفي رواية: "حجكم يوم تحجون".
والحاصل أنهم بعد ما وقفوا بيوم إذا جاء الشهود ليشهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك لا ينبغي للقاضي أن يستمع إلى هذه الشهادة ولكنه يقول قد تم للناس حجهم ولا مقصود في شهادتهم سوى ابتغاء الفتنة فإن جاؤوا فشهدوا عشية عرفة فإن كان بحيث يتمكن فيه الناس من الخروج إلى عرفات قبل طلوع الفجر قبل شهادتهم وأمر الناس بالخروج ليقفوا في وقت الوقوف وإن كان بحيث لا يتمكن من ذلك لا يستمع إلى شهادتهم ويقف الناس في اليوم الثاني ويجزئهم.(4/100)
ص -52- ... قال وإن جامع القارن بعرفة قبل زوال الشمس وقد طاف لعمرته فعليه دمان ويفرغ من حجته وعمرته وعليه قضاء الحج وهنا فصول:
أحدها: في المفرد بالحج إذا جامع قبل الوقوف يفسد حجه لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197] فهو دليل على المنافاة بين الحج والجماع فإذا وجد الجماع فسد الحج وعليه المضي في الفاسد والقضاء من قابل على هذا اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من شرع في الإحرام لا يصير خارجا عنه إلا بأداء الأعمال فاسدا كان أو صحيحا وعليه دم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى عليه بدنة بمنزلة ما لو جامع بعد الوقوف ولكنا نقول هذا الدم لتعجيل هذا الإحلال والشاة تكفي فيه كما في المحصر وجزاء فعله هنا وجوب القضاء عليه لأنه أهم ما يجب في الحج فلا يجب معه كفارة أخرى.
فأما إذا جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجه عندنا ولكن يلزمه بدنة ويتم حجه.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا جامع قبل الرمي يفسد حجه لأن إحرامه قبل الرمي مطلق ألا ترى أنه لا يحل له شيء مما هو حرام على المحرم والجماع في الإحرام المطلق مفسد للنسك كما قبل الوقوف بعرفة بخلاف ما بعد الرمي فقد جاء أوان التحلل وحل له الحلق الذي كان حراما قبل على المحرم والحجة لنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله تعالى عنه قال إذا جامع قبل الوقوف فسد نسكه وعليه بدنة وإذا جامع بعد الوقوف فحجته تامة وعليه دم.(4/101)
وقال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه"، وبالاتفاق لم يرد التمام من حيث أداء الأفعال فقد بقي عليه بعض الأركان وإنما أراد به الإتمام من حيث أنه يأمن الفساد بعده وهو المعنى الفقهي أن بالوقوف تأكد حجه ألا ترى أنه يأمن الفوات بعد الوقوف فكما يثبت حكم التأكد في الأمن من الفوات فكذلك في الأمن من الفساد فأما قبل الوقوف حجه غير متأكد ألا ترى أنه يفوته بمضي وقت الوقوف فكذلك يفسد بالجماع وهذا لأن الجماع محظور كسائر المحظورات وارتكاب محظورات الحج غير مفسد له فكان ينبغي أن لا يكون الجماع مفسدا.
تركنا هذا الأصل فيما إذا حصل الجماع قبل تأكد الإحرام بدليل الإجماع وما بعد التأكد ليس في معنى ما قبله فيبقى على أصل القياس وهذا على أصله أظهر فإنه يقول إذا بلغ الصبي قبل الوقوف جاز حجه عن الفرض بخلاف ما بعد الوقوف توضيحه أن عنده لو جامع قبل الرمي يفسد الحج وإذا جامع بعده لا يفسد والجماع قبل الرمي لا يكون أكثر تأثيرا من ترك الرمي وترك الرمي غير مفسد للحج فكيف يكون الجماع قبله مفسدا.
والفصل الثاني: المفرد بالعمرة إذا جامع قبل أن يطوف أكثر الأشواط فسدت عمرته(4/102)
ص -53- ... وعليه دم وإن جامع بعد ما طاف أكثر الأشواط لا تفسد عمرته لأن ركن العمرة هو الطواف فيتأكد إحرامه بأداء أكثر الأشواط كما يتأكد إحرام الحج بالوقوف ولكن عليه دم عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى في الوجهين جميعا تفسد عمرته وعليه بدنة لأن الجماع محظور كل واحد من النسكين فكما أن في الحج تجب البدنة بالجماع فكذلك بالعمرة وعندنا لا مدخل للبدنة في العمرة بخلاف الحج على ما بينا في طواف الحج ففي الحقيقة إنما ينبني هذا على الخلاف المعروف بيننا وبينهم في العمرة عندنا العمرة سنة وعلى قوله فريضة كفريضة الحج واحتج بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] فقد قرن بينهما في الأمر بالإتمام فدل على فرضيتهما.
وفي حديث بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة فريضة الحج". وقال صبي بن معبد فوجدت الحج والعمرة واجبين علي وقال صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "حجي عن أبيك واعتمري"، وحقيقة الأمر للوجوب.
ولنا: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع". وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا وأن تعتمر خير لك". ولأن العمرة لا تتوقت بوقت معلوم في السنة وإنما باين النفل الفرض بهذا فإن الفرض يتوقت بوقت والنفل لا يتوقت ولأنه يتأدى بنية غيره فإن عنده المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالعمرة وبالإجماع فائت الحج يتحلل بأعمال العمرة والفرض إنما باين النفل بهذا فإن النفل يتأدى بنية الفرض والفرض الذي هو غير معين لا يتأدى بنية النفل.(4/103)
فأما الآية فقد قرئت بالنصب وبالرفع والعمرة لله فالقراءة بالرفع ابتداء خبر العمرة لله والنوافل لله تعالى كالفرائض ثم هذا أمر بالإتمام بعد الشروع ولا خلاف فيه وما عرفنا ابتداء فرضية الحج بهذه الآية بل عرفناه بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] وبهذا تبين أن المقصود زيارة البيت وهذا المقصود حاصل بفرضية نسك واحد فلا تثبت صفة الفرضية في عدد منه ولهذا لا تتكرر فرضية الحج.
ومعنى قوله: فريضة أي مقدرة بأعمال كالحج فإن الفرض هو التقدير وبه نقول أنها مقدرة فأكثر ما في الباب أن الآثار قد اشتبهت فيه ولكن صفة الفرضية مع اشتباه الأدلة لا تثبت فإذا ثبت عندنا أن أصله ليس بفرض بل هو تبع للحج لا يكون وجوب البدنة بالجماع في الحج دليلا على وجوبها في العمرة وعنده لما كان فرضا وجب بالجماع فيه ما يجب في الحج.
والفصل الثالث: القارن إذا جامع قبل الزوال وقد طاف لعمرته فإنما جامع بعد تأكد إحرام العمرة فلا تفسد عمرته بهذا الجماع وعليه دم لأجله وجامع قبل تأكد إحرام الحج فيفسد حجه وعليه دم لتعجيل الإحلال وقضاء الحج وقد سقط عنه دم القران بفساد(4/104)
ص -54- ... أحد النسكين وإن جامع بعد الوقوف فعليه للعمرة دم وللحج جزور وعليه دم القران لأنه لم يفسد واحد من النسكين بهذا الجماع.
قال: وكذلك لو جامع بعد الحلق قبل أن يطوف بالبيت يريد به في وجوب الجزور عليه لأن إحرامه للحج في حق النساء باق حتى يطوف بالبيت ولكن لا يلزمه دم العمرة هنا لأن تحلله للعمرة قد تم بالحلق.
قال: ومن جامع ليلة عرفة قبل أن يأتي عرفة فسد حجه وعليه شاة لأن إحرامه لا يتأكد بدخول وقت الوقوف وإنما يتأكد بفعل الوقوف ألا ترى أن الأمن من الفوات لا يحصل بدخول وقته وإنما يحصل بالوقوف؟ فكان هذا وما لو جامع قبل دخول وقت الوقوف سواء.
قال: وإذا وقف القارن بعرفة قبل طواف العمرة ثم جامع فقد بينا أن إحرامه للعمرة قد ارتفض بالوقوف ولزمه دم لرفض العمرة وعليه جزور للجماع لأن جماعه صادف إحرام الحج بعد ما تأكد فيتم حجه وعليه قضاء العمرة بعد أيام التشريق.
قال: ومن دخل مكة بغير إحرام فخاف الفوت إن رجع إلى الميقات فأحرم ووقف أجزأه وعليه دم لترك الوقت هكذا نقل عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا إذا جاوز الميقات بغير إحرام فعليه دم لترك الوقت وكان المعنى فيه أن الشرع عين الميقات للإحرام فبتأخيره الإحرام عن الميقات يتمكن فيه النقصان ونقائص الحج تجبر بالدم ولما ابتلي ببليتين يختار أهونهما والتزام الدم أهون من الرجوع إلى الميقات لتفويته الحج.(4/105)
قال: وإذا وقف الحاج بعرفة ثم أهل وهو واقف بحجة أخرى فإنه يرفضها وعليه دم لرفضها وحجة وعمرة مكانها ويمضي في التي هو فيها وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد فإحرامه باطل بمنزلة اختلافهم فيمن أحرم بحجتين على ما نبينه وإنما يرفضها لأنه لو لم يرفضها ووقف لها لبقاء وقت الوقوف يصير مؤديا حجتين في سنة واحدة ولا يجوز أن يؤدي في سنة أكثر من حجة واحدة وإذا رفضها فعليه الدم لرفضها لأنه خرج من الإحرام بعد صحة الشروع. قبل أداء الأفعال فلزمه الدم كالمحصر وعليه قضاء حجة وعمرة مكانها بمنزلة المحصر بالحج إذا تحلل وهذا لأنه في معنى فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة وهذا لم يأت بأعمال العمرة فكان عليه قضاؤها مع قضاء الحج.
قال: وكذلك إن أهل بعمرة أيضا يرفضها لأن وقوفه لو طرأ على عمرة صحيحة أوجب رفضها على ما بينا في القارن إذا وقف قبل أن يطوف لعمرته فكذلك إذا اقترن بوقوفه إحرام العمرة وهذا لأنه لو لم يرفضها أدى أفعالها فيكون بانيا أعمال العمرة على أعمال الحج فلهذا يرفضها وعليه دم وقضاؤها لخروجه منها بعد صحة الشروع.(4/106)
ص -55- ... قال: وكذلك لو كان أهل بالحج ليلة المزدلفة بالمزدلفة فهو رافض ساعة أهل لأنه لو لم يرفضها عاد إلى عرفات فوقف فيصير مؤديا حجتين في سنة واحدة وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين فإن هناك إذا عجل في عمل أحدهما لا يصير رافضا للأخر وهنا هو مشغول بعمل أحدهما بل هو مؤد له فلهذا يرتفض الآخر في الحال فكذلك إن أهل بعمرة ليلة المزدلفة فهو رافض لها وفي الكتاب أضاف هذا القول إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يخالفهما في هذا لما قلنا أنه لو لم يصر رافضا كان بانيا أعمال العمرة على أعمال الحج.
فأما إذا أهل بحجة أخرى بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يرفضها لأن وقت الوقوف قد فات فلو بقي إحرامه هذا لا يكون مؤديا حجتين في سنة واحدة ولكنه يتم أعمال الحجة الأولى ويمكث حراما إلى أن يحج في السنة الثانية إلا أنه إن حلق للحجة الأولى يلزمه دم لجنايته على الإحرام الثاني بذلك الحلق وإن لم يحلق فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لتأخير الحلق في الحجة الأولى عن وقته وعندهما بهذا التأخير لا يلزمه دم.
وأصل المسألة: أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالحج عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون محرما بالعمرة وهكذا روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى.(4/107)
وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى جميع ذي الحجة استدلالا بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة: 197]. وأقل الجمع المتفق عليه ثلاثة ولكنا نستدل بقول بن عباس وبن مسعود وبن عمر وبن الزبير رضي الله عنهم أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فأقاموا أكثر الثلاثة مقام الكمال في معنى الآية لمعنى وهو أن بالاتفاق يفوت الحج بطلوع الفجر من يوم النحر وفوات العبادة يكون بمضي وقتها فأما مع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى أن من ذي الحجة عشر ليال وتسعة أيام فأما اليوم العاشر ليس بوقت الحج لأن الفوات يتحقق بطلوع الفجر من اليوم العاشر وهو يوم النحر وفي ظاهر المذهب اليوم العاشر من وقت الحج لأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا وعشر من ذي الحجة وذكر أحد العددين من الإيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر ولأن الله تعالى سمى هذا اليوم يوم الحج الأكبر قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] والمراد يوم النحر لا وقت الحج لأداء الطواف فيه دون الوقوف فلهذا يتحقق الفوات بطلوع الفجر منه لفوات ركن الوقوف.
فأما الشافعي رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "المهل بالحج في غير أشهر الحج مهل بالعمرة" ولأن الإحرام بالحج كالتكبير للصلاة فكما لا يجوز الشروع في الفريضة قبل(4/108)
ص -56- ... دخول وقت الصلاة في الصلاة فكذلك في الحج والإحرام أحد أركان الحج فلا يتأدى في غير وقت الحج كسائر الأركان وإذا لم يصح إحرامه بالحج كان محرما بالعمرة لأن الوقت وقت العمرة ألا ترى أنه لو فات حجه بمضي الوقت يبقى إحرامه للعمرة فكذلك إذا حصل ابتداء إحرامه في غير أشهر الحج.
ولنا: أن الإحرام للحج بمنزلة الطهارة للصلاة فإنه من الشرائط لا من الأركان حتى يكون مستداما إلى الفراغ منه وهذا حد شرط العبادة لأحد ركن العبادة ولأنه لا يتصل به أداء الأفعال فالإحرام يكون عند الميقات وأداء الأفعال بمكة ولو أحرم في أول يوم من أشهر الحج يصح وأداء الأفعال بعد ذلك بزمان فعرفنا أنه بمنزلة الشرط فلا يستدعي صحة الوقت بخلاف الصلاة فإن أداء الأركان هناك يتصل بالتكبير فإذا حصل قبل دخول الوقت لا يتصل أداء الأركان به.
والحديث في الباب شاذ جدا فلا يعتمد على مثله ولكن يكره له أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول الكراهة لمعنى أن الإحرام من وجه بمنزلة الأركان ولهذا لو حصل قبل العتق لا يتأدى به فرض الحج بعد العتق وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلشبهه بالشرائط يجوز قبل الوقت ولشبهه بالأركان يكون مكروها وقيل بل الكراهة لأنه لا يأمن من مواقعة المحظور إذا طال مكثه في الإحرام.
قال: ويجمع الإمام بين صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة بآذان وإقامة فإن تطوع بينهما أقام للعشاء إقامة أخرى وقال زفر رحمه الله تعالى إذا تطوع بينهما آذن وأقام للعشاء لأن الفصل بينهما قد تحقق بالاشتغال بالتطوع فهو بمنزلة من يؤدي كل صلاة في وقتها فعليه الآذان والإقامة لكل صلاة ولكنا نقول الجمع بينهما لا ينقطع بهذا الفصل كما لا ينقطع إذا اشتغل بالأكل ولكنه يحتاج إلى إعلام الناس أنه يصلي العشاء وبالإقامة يتم هذا الإعلام والأصل فيه حديث بن عمر رضي الله عنه فإنه صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء.(4/109)
فإن صلى المغرب بعرفات بعد غروب الشمس أو صلاها في طريق المزدلفة قبل غيبوبة الشفق أو بعده فعليه أن يعيدها بمزدلفة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يكره ما صنع ولا يلزمه الإعادة لأنه أدى الفرض في وقته فإن ما بعد غروب الشمس وقت المغرب بالنصوص الظاهرة وأداء الصلاة في وقتها صحيح ألا ترى أنه لو لم يعد حتى طلع الفجر لم يلزمه الإعادة ولو لم يقع ما أدى موقع الجواز لما سقطت عنه الإعادة بطلوع الفجر.
ولكنا نستدل بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه فإنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق المزدلفة فلما غربت الشمس قال الصلاة يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة أمامك"، ولم يرد بهذا فعل الصلاة لأن فعل الصلاة حركات المصلي وهو معه فأما إن أراد به الوقت(4/110)
ص -57- ... أو المكان فإن كان المراد به المكان فقد بين بهذا النص اختصاص أداء الصلاة بمكان وهو المزدلفة فلا يجوز في غيرها وإن كان المراد به الوقت فقد تبين أن وقت المغرب في حق الحاج لا يدخل بغروب الشمس.
وأداء الصلاة قبل الوقت لا يجوز والدليل عليه أنه مأمور بالتأخير لا لأن في الاشتغال بالصلاة انقطاع سيرة فإن أداء الصلاة في وقتها فريضة فلا يسقط بهذا العذر ولكن الأمر بالتأخير للجمع بينهما بالمزدلفة وهذا المعنى يفوت بأداء المغرب في طريق المزدلفة فعليه الإعادة بعد الوصول إلى المزدلفة ليصير جمعا بين الصلاتين كما هو المشروع نسكا ولهذا سقطت عنه الإعادة بطلوع الفجر لأن وجوب الإعادة لمكان إدراك فضيلة الجمع بينهما وهذا يفوت بفوات وقت العشاء ولهذا قلنا إذا بقي في الطريق حتى صار بحيث يعلم أنه لا يصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر يصلي المغرب ولا يؤخرها بعد ذلك.
قال: ويغلس بصلاة الفجر بالمزدلفة حين ينشق له الفجر الثاني لحديث بن مسعود رضي الله عنه كما بينا ثم يغفي حتى إذا أسفر دفع قبل طلوع الشمس وهذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى إذا تركه لغير علة يلزمه دم وحجه تام وعلى قول الليث بن سعد رحمه الله تعالى هذا الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به لأنه مأمور به في كتاب الله تعالى قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[البقرة: 198] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس رحمه الله تعالى: "من وقف معنا هذا الموقف فقد تم حجة". علق تمام حجه بهذا الوقوف فعرفنا أنه لا يتم إلا به.(4/111)
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه". ولأنه يجوز ترك هذا الوقوف بعذر فإن ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها كانت شاكية فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصير إلى منى ليلة المزدلفة فأذن لها وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من المزدلفة بليل ولو كان ركنا لم يجز تركه لعذر وبهذا تبين أن هذا الوقوف مع الوقوف بعرفة بمنزلة طواف الزيارة مع طواف الصدر ثم طواف الصدر واجب وليس بركن ويجوز تركه بعذر الحيض فكذا هذا والمزدلفة كلها موقف إلا حسر وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وقد بينا الأثر المروي في هذا الباب فيما سبق.
قال: وأحب إلي أن يكون وقوفه بمزدلفة عند الجبل الذي يقال له قزح من وراء الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لوقوفه ذلك الموضع وقد بينا في الوقوف بعرفة أن الأفضل أن يقف من وراء الإمام قريبا منه ليؤمن على دعائه فكذلك في الوقوف بمزدلفة فإن تعجل من المزدلفة بليل فإن كان لعذر من مرض أو امرأة خافت الزحام فلا شيء عليه لما روينا وإن كان لغير عذر فعليه دم لتركه واجبا من واجبات الحج فإن أفاض منها بعد طلوع الفجر قبل أن يصلي مع الناس فلا شيء عليه لأنه أتى بأصل الوقوف في وقته ولكنه مسيء فيما صنع لتركه امتداد الوقوف.(4/112)
ص -58- ... قال: فإن مر بالمشعر الحرام مرا بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه لأن وقوفه تأدى بهذا المقدار وكذا إن كان مر بها نائما أو مغمى عليه فلم يقف مع الناس حتى أفاضوا لأن حصوله في موضع الوقوف في وقته يكون بمنزلة وقوفه وقد بينا هذا في الوقوف بعرفة فكذلك في الوقوف بالمشعر الحرام وإن لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر بأن نام في الطريق فلا شيء عليه لأن البيتوتة بالمزدلفة ليست بنسك مقصود ولكن المقصود الوقوف بالمشعر الحرام بعد طلوع الفجر وقد أتى بما هو المقصود فلا يلزمه بترك ما ليس بمقصود شيء كما بينا في ترك البيتوتة بها في ليالي الرمي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب رمي الجمار
قال رضي الله تعالى عنه: ويبدأ إذا وافى منى برمي جمرة العقبة ثم بالذبح إن كان قارنا أو متمتعا ثم بالحلق لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول نسكنا في هذا اليوم أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق". ولأن الذبح والحلق من أسباب التحلل ألا ترى أن تحلل المحصر بالذبح فيقدم الرمي عليهما ثم الذبح في معنى التحلل دون الحلق فإن الحلق محظور الإحرام والذبح لا فكان الذبح مقدما على الحلق وقد بينا اختلاف العلماء في وقت ابتداء الرمي في هذا اليوم وكذلك يختلفون في آخر وقته نفى ظاهر المذهب وقته إلى غروب الشمس ولكنه لو رمى بالليل لا يلزمه شيء وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى وقته إلى زوال الشمس وما بعد الزوال يكون قضاء وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان.
في أحد القولين:؛ إنما يرمي ذلك إلى غروب الشمس فإذا غربت تعين عليه الفدية بفوات الوقت في هذا الرمي وما عرف الرمي قربة إلا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت فيتحقق فواته بفوات الوقت كالوقوف بعرفة.(4/113)
وفي القول الآخر يقول: يمتد وقته إلى آخر أيام التشريق حتى يأتي بما ترك من الرمي في آخر أيام التشريق ولا شيء عليه لأن الرمي كله في حكم نسك واحد وإن اختلف مكانه وزمانه فلا يتحقق الفوات فيه إلا بفوات وقته وذلك بمضى آخر أيام التشريق وقاس بالتكبيرات فإن من ترك شيئا من الصلوات في هذه الأيام يقضيها بالتكبيرات إلى آخر أيام التشريق وحجتنا في ذلك أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر بالنص.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن أول نسكنا في هذا اليوم وذهاب تمام اليوم بغروب الشمس". إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقيس الرمي في هذا اليوم بالرمي في اليوم الثاني فيقول كما أن في اليوم الثاني وقت الرمي نصف اليوم وهو ما بعد الزوال فكذا في هذا اليوم وقت الرمي نصف اليوم وذلك إلى زوال الشمس إلا أنه رمى بالليل لم يغرم شيئا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا ولأن اليوم لما كان وقتا للرمي فالليل يتبعه في ذلك كليلة النحر تجعل(4/114)
ص -59- ... تبعا ليوم عرفة في حكم الوقوف فإن لم يرمها حتى يصبح من الغد رماها لبقاء وقت جنس الرمي ولكن عليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا دم عليه عندهما وهو نظير ما بينا في تأخير طواف الزيارة عن أيام النحر.
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى هنا جعل تأخير الرمي عن وقته بمنزلة تركه ورمي جمرة العقبة يوم النحر نسك تام.
فكما إن تركه يوجب الدم فكذلك تأخيره عن وقته وكذلك إن ترك الأكثر منها لأن الأكثر بمنزلة الكل وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغد رماها وتصدق لكل حصاة بنصف صاع من حنطة على مسكين إلا أن يبلغ دما فحينئذ ينقص منه ما شاء لأن المتروك قل فتكفيه الصدقة وقد بينا نظيره في تأخير طواف الزيارة وإن ترك رمي إحدى الجمار في اليوم الثاني فعليه صدقة لأن رمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني نسك واحد فإذا ترك أحدها كان المتروك أقل فتكفيه الصدقة إلا أن المتروك أكثر من النصف فحينئذ يلزمه الدم وجعل ترك الأكثر كترك الكل.(4/115)
قال: وإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أيام الرمي رماها على التأليف لأن وقت الرمي باق فعليه أن يتدارك المتروك ما بقي وقته كالأضحية إذا أخرها إلى آخر أيام النحر وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا دم عليه في قولهما فإن تركها حتى غابت الشمس من آخر أيام الرمي سقط عنه الرمي بفوات الوقت لأن معنى القربة في الرمي غير معقول وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إنما رمى في هذه الأيام فلا يكون الرمي قربة بعد مضي وقتها كما لا يكون إراقة الدم قربة بعد مضي أيام النحر وإذا لم يكن قربة كان عبثا فلا يشتغل به وعليه دم واحد عندهم جميعا لأن الرمي كله نسك واحد وهو واجب فتركه يوجب الجبر بالدم كما هو مذهبنا في ترك السعي بين الصفا والمروة ولا يبعد أن يكون ترك البعض موجبا للدم ثم لا يجب بترك الكل إلا دم واحد كما إن حلق ربع الرأس في غير أوانه يوجب الدم ثم حلق جميع الرأس لا يوجب إلا دما واحدا وقص أظافر يد واحدة يوجب الدم ثم قص الأظافر كلها لا يوجب إلا دما واحدا.
قال: وإن بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي المسجد ثم ذكر ذلك في يومه قال يعيد على الجمرة الوسطى وجمرة العقبة لأنه نسك شرع مرتبا في هذا اليوم فما سبق أوانه لا يعتد به فكان رمي الجمرة الأولى بمنزلة الافتتاح للجمرة الوسطى والوسطى بمنزلة الافتتاح لجمرة العقبة فما أدى قبل وجود مفتاحه لا يكون معتدا به كمن سجد قبل الركوع أو سعى قبل الطواف بالبيت فالمعتد من رميه هنا الجمرة الأولى فلهذا يعيد على الوسطى وعلى جمرة العقبة.
قال: وإن رمى من كل جمرة ثلاث حصيات ثم ذكر بعد ذلك فإنه يبدأ من الأولى(4/116)
ص -60- ... بأربع حصيات ليتمها ثم يعيد على الوسطى بسبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة ولا يعتد بما رمى من الوسطى وجمرة العقبة لأن ذلك سبق أوانه فإنه حصل قبل أن يأتي بأكثر الرمي عند الجمرة الأولى فكأنه لم يرم منهما شيئا.
قال: وإن رمى من كل واحدة بأربع أربع فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات لأن رمي أكثر الجمرة الأولى بمنزلة كماله في الاعتداد برمي الجمرة الوسطى كما أن أكثر أشواط الطواف ككماله في الاعتداد بالسعي بعده وإذا كان ما رمى من كل جمرة معتدا به فعليه إكمال رمي كل جمرة بثلاث حصيات فإن استقبل رميها فهو أفضل لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم فإنه ما اشتغل بالثانية إلا بعد إكمال الأولى.
قال: وإن رمى جمرة العقبة من فوق العقبة أجزأه وقد بينا أن الأفضل أن يرميها من بطن الوادي ولكن ما حول ذلك الموضع كله موضع الرمي فإذا رماها من فوق العقبة فقد أقام النسك في موضعه فجاز.
قال: وكذلك لو لم يكبر مع كل حصاة أو جعل مكان التكبيرات تسبيحا أجزأه لأن المقصود ذكر الله تعالى عند كل حصاة وذلك يحصل بالتسبيح كما يحصل بالتكبير ثم هو من آداب الرمي فتركه لا يوجب شيئا.
قال: وإن رماها بحجارة أو بطين يابس جاز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز إلا بالحجر اتباعا لما ورد به الأثر فإن فيما لا يعقل المعنى فيه إنما يحصل الامتثال بعين المنصوص ولكنا نقول المنصوص عليه فعل الرمي وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر والأصل فيه فعل الخليل صلوات الله عليه ولم يكن له في الحجر بعينه مقصود إنما مقصوده فعل الرمي إما لإعادة الكبش أو لطرد الشيطان على حسب ما اختلف فيه الرواة فقلنا بأي شيء حصل فعل الرمي أجزأه بمنزلة أحجار الاستنجاء فكما يحصل الاستنجاء بالحجر يحصل الاستنجاء بالطين وغيره.(4/117)
وبعض المتشفعة يقولون: إن رمى بالبعرة أجزأه وإن رمى بالفضة أو الذهب أو اللؤلؤ والجواهر لا يجوز لأن المقصود إهانة الشيطان وذلك يحصل بالبعر دون الذهب والفضة والجواهر ولسنا نقول بهذا ولكن نقول الرمي بالفضة الذهب يسمى في الناس نثارا لا رميا والواجب عليه الرمي فعليه أن يرمي بكل ما يسمى به راميا.
قال: فإن رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة فهذه واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأعمال لا عين الحصيات فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة كما لو أطعم كفارة اليمين مسكينا واحدا مكان إطعام عشرة مساكين جملة لم يجزه إلا عن إطعام مسكين واحدا.
قال: وإن رماها بأكثر من سبع حصيات لم تضره تلك الزيادة لأنه أتى بما هو الواجب عليه فلا يضره الزيادة عليه بعد ذلك.(4/118)
ص -61- ... قال: وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة واحدة أخذا بالاحتياط في باب العبادة كما لو ترك سجدة من صلاة من الصلوات الخمس ولا يدري من أيها ترك فعليه قضاء الصلوات الخمس.
قال: وإن قام عند الجمرة ووضع الحصاة عندها وضعا لم يجزه لأن الواجب عليه فعل الرمي والواضع غير رام وإن طرحها طرحا أجزأه وقد أساء لأن الطارح رام إلا أن الرمي تارة يكون أمامه وتارة يكون عند قدميه بالطرح ولكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفا.
قال: فإن رماها من بعيد فلم تقع الحصاة عند الجمرة فإن وقعت قريبا منها أجزأه لأن هذا القدر مما لا يتأتى التحرز عنه خصوصا عند كثرة الزحام وإن وقعت بعيدا منها لم يجزه لأن الرمي قربة في مكان مخصوص ففي غير ذلك المكان لا يكون قربة.
قال: وإن رماها بحصاة أخذها من عند الجمرة أجزأه وقد أساء لأن ما عند الجمرة من الحصى مردود فيتشاءم به ولا يتبرك به وبيانه في حديث سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنه ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل صلاة الله عليه ولم تصر هضابا تسد الأفق فقال أما علمت أن من يقبل حجه رفع حصاه ومن لم يقبل حجه ترك حصاه حتى قال مجاهد لما سمعت هذا من بن عباس رضي الله عنه جعلت على حصياتي علامة ثم توسطت الجمرة فرميت من كل جانب ثم طلبت فلم أجد بتلك العلامة شيئا من الحصا فهذا معنى قولنا أن ما بقي في موضع الرمي مردود ولكن مع هذا يجزئه لوجود فعل الرمي ومالك رحمه الله تعالى يقول لا يجزئه وهذا عجب من مذهبه فإنه يجوز التوضؤ بالماء المستعمل ولا يجوز الرمي بما قد رمى به من الأحجار ومعلوم أن فعل الرمي لا يغير صفة الحجارة.
قال: فإن لم يقم عند الجمرتين اللتين يقوم الناس عندهما لم يلزمه شيء لأن القيام عند الجمرتين سنة فتركه لا يوجب إلا الإساءة.(4/119)
قال: وإن كان أقام أيام منى بمكة غير أنه يأتي منى في كل يوم فيرمي الجمار فقد أساء ولا شيء عليه لأنه ما ترك إلا السنة وهي البيتوتة بمنى في ليالي الرمي وقد بينا أن العباس رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لأجل السقاية فأذن له فدل أنه ليس بواجب.
قال: فإن رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس أجزأه قال بلغنا ذلك عن عطاء رحمه الله تعالى والمروي عنه أنه قال يجعل منى عن يمينه والكعبة عن يساره ويرمي جمرة العقبة بسبع حصيات والأفضل أن يرميها بعد طلوع الشمس وإن رماها قبل طلوع الشمس أجزأه وإن رماها في اليوم الثاني من أيام النحر قبل الزوال لم يجزه لأن وقت الرمي في هذا اليوم بعد الزوال عرف بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجزئه قبله وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى في المنتقى: أن ما قبل الزوال يوم النحر وقت الرمي حتى لو رمى أجزأه.(4/120)
ص -62- ... قال: وكذلك في اليوم الثالث من يوم النحر وهو اليوم الثاني من أيام التشريق وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إن كان من قصده أن يتعجل النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال وإن رمى بعد الزوال فهو أفضل وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال لأنه إذا كان من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل إلى مكة إلا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمي قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع نزوله فيرخص له في ذلك والأفضل ما هو العزيمة وهو الرمي بعد الزوال وفي ظاهر الرواية يقول هذا اليوم نظير اليوم الثاني فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيه بعد الزوال فلا يجزئه الرمي فيه قبل الزوال.
قال: فإن رمى في اليوم الثالث يخير بين النفر وبين المقام إلى أن يرمي في اليوم الرابع لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 203].وخياره هذا يمتد إلى طلوع الفجر من اليوم الرابع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى إلى غروب الشمس من اليوم الثالث لأن المنصوص عليه الخيار في اليوم وامتداد اليوم إلى غروب الشمس ولكنا نقول الليل ليس بوقت لرمي اليوم الرابع فيكون خياره في النفر باقيا قبل غروب الشمس من اليوم الثالث بخلاف ما بعد طلوع الفجر من اليوم الرابع فإنه وقت الرمي على ما نبينه إن شاء الله تعالى فلا يبقى خياره بعد ذلك وقد بينا أن الليالي هنا تابعة للأيام الماضية فكما كان خياره ثابتا في اليوم الثالث فكذلك في الليلة التي بعده.(4/121)
قال: وإن صبر إلى اليوم الرابع جاز له أن يرمي الجمار فيه قبل الزوال استحسانا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يجزئه بمنزلة اليوم الثاني والثالث لأنه يوم ترمى فيه الجمار الثلاث فلا يجوز إلا بعد الزوال بخلاف يوم النحر وأبو حنيفة احتج بحديث بن عباس رضي الله تعالى عنه إذا انتفح النهار في آخر أيام التشريق فارموا يقال انتفح النهار إذا علا واعتبر آخر الأيام بأول الأيام فكما يجوز الرمي في اليوم الأول قبل زوال الشمس فكذا في اليوم الآخر وهذا لأن الرمي في اليوم الرابع يجوز تركه أصلا فمن هذا الوجه يشبه النوافل والتوقيت في النفل لا يكون عزيمة فلهذا جوز الرمي فيه قبل الزوال ليصل إلى مكة قبل الليل.
قال: وأحب إلي أن يرمي الجمار مثل حصاة الخذف هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فإنه جعل طرف إحدى سبابتيه عند الأخرى فرمى بمثل حصى الخذف وقال: "هكذا فارموا". وإن رمى بأكبر من ذلك أجزأه ولكن لا ينبغي أن يرمي الكبار من الأحجار لأنه ربما يصيب أحدا فيتأذى به وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بحصى الخذف وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
قال: وليس في القيام عند الجمرتين دعاء مؤقت لما بينا أن التوقيت في الدعاء يذهب(4/122)
ص -63- ... برقة القلب ويرفع يديه عندهما حذاء منكبيه للحديث: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وفي المقامين عند الجمرتين".
قال: والرجل والمرأة في رمي الجمار سواء كما في سائر المناسك وإن رماها راكبا أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة.
قال: وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة قال والمريض الذي لا يستطيع رمي الجمار يوضع الحصى في كفه حتى يرمي به لأنه فيما يعجز عنه يستعين بغيره وإن رمى عنه أجزأه بمنزلة المغمى عليه فإن النيابة تجري في النسك كما في الذبح.
قال: والصبي الذي يحج به أبوه يقضي المناسك ويرمي الجمار لأنه يأتي به للتخلق حتى يتيسر له بعد البلوغ فيؤمر به بمثل ما يؤمر به البالغ وإن ترك الرمي لم يكن عليه شيء.
وكذلك المجنون يحرم عنه أبوه لأن فعلهما للتخلق فلا يكون واجبا إذ ليس للأب عليهما ولاية الإيجاب فيما لا منفعة لهما فيه عاجلا ولهذا لا يجب الدم بترك الرمي عليهما وهو معتبر بالكفارات لا يجب شيء منها على الصبي والمجنون عندنا والأصل في جواز الرمي هكذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة رفعت صبيا من هودجها إليه فقالت: ألهذا حج؟ فقال: "نعم ولك أجره" فدل ذلك على أنه يجوز للأب أن يحرم عن ولده الصغير والمجنون بمنزلة الصغير والله أعلم بالصواب.
باب الحلق(4/123)
قال رضي الله عنه الحلق أفضل من التقصير لما روينا من الأثر فيه ولأن المأمور به بعد الذبح قضاء التفث قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29] وهو في الحلق أتم والتقصير فيه بعض الحلق فلهذا كان الحلق أفضل والتقصير يجزئ وهو أن يأخذ شيئا من أطراف شعره ورواه في الكتاب عن بن عمر رضي الله عنه أنه سئل: كم تقصر المرأة؟ فقال: مثل هذه يعني مثل الأنملة وهذا لأنه لو لم يكن على رأسه من الشعر إلا ذلك القدر كان يتم تحلله بأخذه فكذلك إذا كان على رأسه من الشعر أكثر من ذلك يتم تحلله بأخذ ذلك المقدار.
والتقصير قائم مقام الحلق في حكم التحلل فإذا فعل ذلك في أحد جانبي رأسه أجزأه بمنزلة ما لو حلق نصف رأسه وكذلك أن فعله في أقل من النصف وكان بقدر الثلث أو الربع فكذلك يجزئه لأن كل حكم تعلق بالرأس فالربع منه ينزل منزلة الكمال كالمسح بالرأس ولكنه مسيء في الاكتفاء بهذا المقدار لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه وأمرنا بالاقتداء به فما كان أقرب إلى موافقة فعله فهو أفضل ولأنه إنما يفعل هذا ضنة منه بشعره وفيما هو نسك تكره الضنة فيه بالمال والنفس فكيف بالشعر؟(4/124)
ص -64- ... قال: وإذا جاء يوم النحر وليس على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه تشبها بمن يحلق لأنه وسع مثله والتكليف بحسب الوسع ألا ترى أن الأخرس يؤمر بتحريك الشفتين عند التكبير والقراءة في الصلاة فينزل ذلك منه منزلة قراءة الناطق فهذا مثله.
قال: وإن حلق رأسه بالنورة أجزأه لأن قضاء التفث فيه يحصل والموسى أحب إلى لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأكره له أن يؤخر الحلق حتى تذهب أيام النحر والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الحلق للتحلل في الحج مؤقت بالزمان وهو أيام النحر وبالمكان وهو الحرم وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يتوقت بالزمان ولا بالمكان وعند محمد رحمه الله تعالى يتوقت بالمكان دون الزمان وعند زفر رحمه الله تعالى يتوقت بالزمان دون المكان فزفر رحمه الله تعالى يقول التحلل عن الإحرام معتبر بابتداء الإحرام وابتداء الإحرام مؤقت بالزمان غير مؤقت بالمكان حتى يكره له أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج ولا يكره له أن يحرم بالحج في أي مكان شاء قبل أن يصل إلى الميقات فكذلك التحلل عنه بالحلق يتوقت من حيث الزمان دون المكان حتى إذا أخره عن أيام النحر يلزمه الدم وإذا خرج من الحرم ثم حلق لا يلزمه شيء.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: ما كان للتحلل في الحج يتوقت بالزمان والمكان جميعا كالطواف الذي يتم به التحلل لا يكون إلا في المسجد ويتوقت بأيام النحر فكما أنه لو أخر الطواف عن وقته يلزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك إذا أخر الحلق عن وقته.(4/125)
وعلى هذا كان ينبغي أن لا يعتد بحلقه خارج الحرم كما لا يعتد بطوافه ولكن جعلناه معتدا به لأن محل فعله الرأس دون الحرم فيحصل به التحلل ولكنه جان بتأخيره عن مكانه فيلزمه دم بالتأخير عن المكان كما يلزمه بتأخيره عن وقته وهذا لأن الحلق لا يعقل فيه معنى القربة وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حلق للحج إلا في الحرم يوم النحر فما وجد بهذه الصفة يكون قربة وما خالف هذا لا يتحقق فيه معنى القربة فيلزمه الجبر فيه بالدم.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الحلق الذي هو نسك في أوانه بمنزلة الحلق الذي هو جناية قبل أوانه فكما أن ذلك لا يختص بزمان ولا مكان فكذلك هذا لا يختص بزمان ولا مكان لأنه لو اختص بزمان ومكان لم يكن معتدا به في غير ذلك المكان ولا في غير ذلك الزمان كالوقوف بعرفة فسواء أخره عن أيام النحر أو خرج من الحرم فحلق لا يلزمه شيء ومحمد رحمه الله تعالى يقول تعلق المناسك بالمكان آكد من تعلقها بالزمان ألا ترى أن الطواف المختص بمكان لا يعتد به في غير ذلك المكان والمؤقت من الطواف بزمان يكون معتدا به في غير ذلك الزمان فعرفنا أن تعلقه بالمكان أشد فالحلق الذي هو مختص(4/126)
ص -65- ... بالحرم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى به خارج الحرم يتمكن فيه النقصان فيلزمه الجبر بالدم وبتأخيره عن أيام النحر لا يتمكن فيه كثير نقصان فلا يلزمه الجبر بالدم.
فأما في العمرة فلا يتوقت الحلق بزمان حتى لو أخر الحلق فيه شهرا لا يلزمه شيء لأن أصل العمرة لا يتوقت بالزمان وما هو الركن وهو الطواف فيه أيضا لا يتوقت من حيث الزمان فكذلك الحلق فيه لا يتوقت بخلاف الحج ولكنه يتوقت بالحرم حتى لو حلق للعمرة خارج الحرم فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى كما في الحج وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا شيء عليه.
قال: وليس على المحصر حلق إذا حل وإن حلق أو قصر فحسن وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى عليه الحلق وإن لم يفعل فلا شيء عليه واحتج أبو يوسف رحمه الله تعالى بالحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية مع أصحابه فأمرهم بالحلق بعد بلوغ الهدايا محلها وكره لهم تأخير ذلك حتى ذكر ذلك لأم سلمة رضي الله عنها فقالت ابدأ بنفسك يا رسول الله فإنهم يظنون أن في نفسك رجاء الوصول إلى البيت للحال فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه. فلما رأوا ذلك منه بادروا إلى الحلق ولأنه لو لم يحصر لكان يتحلل بالحلق عند أداء الأعمال فكذلك بعد الإحصار ينبغي أن يتحلل بالحلق لقدرته على أن يأتي به وإن عجز عن سائر الأفعال.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الحلق إنما يكون نسكا بعد أداء الأفعال فأما قبل أداء الأفعال فهو جناية فإذا تحقق عجزه عن ترتيب الحلق على سائر الأفعال لا يلزمه أن يأتي به وإنما تحلله بالهدي هنا والدليل عليه أن الله تعالى نهى المحصر عن الحلق حتى يبلغ الهدي محله بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] فذلك دليل الإباحة بعد بلوغ الهدي محله لا دليل الوجوب.(4/127)
فأما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فقد ذكر أبو بكر الرازي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم يحلق لأن الحلق عندهما مؤقت بالحرم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان محصرا بالحديبية وبعض الحديبية من الحرم على ما روي أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم وبه نقول على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالحلق ليحقق به عزمهم على الانصراف ويأمن المشركون من جانبهم ولا يشتغلون بمكيدة أخرى بعد الصلح.
قال: وليس على الحاج إذا قصر أن يأخذ شيئا من لحيته أو شاربه أو أظفاره أو يتنور لأن التقصير قائم مقام الحلق.
ولو أراد الحلق لم يكن عليه ذلك في لحيته ولا في شاربه فكذلك التقصير وإن فعل لم يضره لأنه جاء أوان التحلل وهذا كله مما يحصل به التحلل لأنه من جملة قضاء التفث.(4/128)
ص -66- ... قال: وإن حلق المحرم رأس حلال تصدق بشيء عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه لا شيء عليه لأن المحرم ممنوع عن أزالة ما ينمو من البدن عن نفسه لما فيه من معنى الراحة والزينة له ولا يحصل شيء من ذلك بحلق رأس الحلال فلا يلزمه به شيء ألا ترى أن الحلال لو حلق بنفسه لم يلزمه شيء ولكنا نقول أن إزالة ما ينمو من بدن الآدمي من محظورات الإحرام فيكون المحرم ممنوعا عن مباشرة ذلك من بدن غيره كما يكون ممنوعا من مباشرته في نفسه بمنزلة قتل الصيد فإنه جان في قتل صيد غيره كما يكون جانيا في قتل صيد نفسه إلا أن كمال جنايته بانضمام معنى الراحة والزينة إلى فعله فإذا فعل ذلك في نفسه تكاملت جنايته فلزمه الدم وإذا فعله بغيره لا تتكامل جنايته فتكفيه الصدقة.
قال: وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر فإن فعله بأمره فعلى المحلوق دم لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه ومعنى الراحة والزينة له متحقق فيلزمه دم وعلى الحالق رأسه صدقة لما بينا أنه جان في أصل فعله وإن حلق بغير أمره بأن كان المحرم نائما فجاء وحلق رأسه أو أكرهه على ذلك فعلى المحلوق رأسه دم عندنا ولا شيء عليه عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ من الإكراه لأن الإكراه يفسد قصده وبالنوم ينعدم القصد أصلا وعندنا بسبب الإكراه والنوم ينتفي عنه الإثم ولكن لا ينتفي حكم الفعل إذا تقرر سببه.
والسبب هنا ما نال من الراحة والزينة بإزالة التفث عن بدنه وذلك حصل له فيلزمه الدم.(4/129)
ولا يتخير هنا بين أجناس الكفارات الثلاث بخلاف المضطر لأن هناك العذر سماوي وجد ممن له الحق وهنا العذر كان بسبب وجد من جهة العباد فيؤثر في إسقاط الذنب ولا يخرج به الدم من أن يكون متعينا عليه ثم لا يرجع المحلوق رأسه بهذا الدم على الحالق وقال بعض العلماء يرجع به لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة وألزمه هذا الغرم ولكنا نقول إنما لزمه ذلك لمعنى الراحة والزينة وهو حاصل له فلا يرجع به على غيره كما لا يرجع المغرور بالعقر لأنه بمقابلة اللذة الحاصلة له بالوطء والجواب في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق.
قال: وإذا أخذ المحرم من شاربه أو من رأسه شيئا أو من مس من لحيته فانتثر منها شعر فعليه في ذلك كله صدقة لوجود أصل الجناية بما أزاله من بدنه ولكن لم تتم جنايته حين فعله لأنه لم يكن مقصودا لتحصيل الراحة والزينة فتكفيه الصدقة.
قال: وإن أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته فعليه دم ولم يذكر الربع في الكتاب والجواب في الربع كذلك لما بينا أن ما يتعلق بالرأس فالربع فيه بمنزلة الكمال كما في الحلق عند التحلل وهذا لأن حلق بعض الرأس لمعنى الراحة والزينة معتاد فإن الأتراك يحلقون أوساط رؤوسهم وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لابتغاء الراحة والزينة فتتكامل الجناية بهذا المقدار،(4/130)
ص -67- ... والجناية المتكاملة توجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا أنه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق من بدنه قبل أوان التحلل فعليه دم وإن حلق ما ليس بمقصود فعليه الصدقة ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر أو الساق ومما هو مقصود حلق الرأس أو الإبطين فإن حلق أحدهما أو نتف أو طلى بنورة فعليه الدم أيضا لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لمعنى الراحة.
وفيما ذكر إشارة إلى أن السنة في الإبطين النتف دون الحلق فإنه قال نتف إبطيه أو أحدهما ولم يذكر الحلق فإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما عليه صدقة لأن ذلك الموضع غير مقصود بالحلق وإنما يحلق للتمكن من الحجامة فهو بمنزلة حلق شعر الصدر والساق وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وما كان يرتكب في إحرامه الجناية المتكاملة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنه حلق مقصود لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فتتكامل الجناية ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق موضع المحاجم إنما نقل عنه الحجامة وليس من ضرورته الحلق فإن الحجام إذا كان حاذقا يشرط طولا فلا يحتاج إلى الحلق وكذلك إذا لم يكن المحجوم أشعر البدن ولم ينقل في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشعر البدن والدليل عليه أنه كان يتحرز عن الجناية الموجبة للصدقة كما كان يتحرز عن الجناية الموجبة للدم وعندهما هذه جناية موجبة للصدقة.(4/131)
قال: فإن حلق الرقبة كلها فعليه دم لأنه حلق مقصود للراحة والزينة فإن العلوية يفعلون ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه إنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم والأصح أنه لا يلزمه الدم لأنه طرف من أطراف اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد وإن كانت السنة قص الشارب وإعفاء اللحى وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه.
قال: وعلى القارن في ذلك كله كفارتان لأنه محرم بإحرامين ففعله جناية على كل واحد منهما فيلزمه جزآن عندنا على ما نبينه في باب جزاء الصيد إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أصاب المحرم أذى في رأسه فحلق قبل يوم النحر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء والأصل فيه حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتهافت على وجهي وأنا أوقد تحت قدر لي فقال: " أتؤذيك هوام رأسك؟" فقلت: نعم.
فأنزل الله عز وجل قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196] فقلت: ما الصيام يا رسول الله؟ فقال: "ثلاثة أيام" فقلت: وما الصدقة؟ قال: "ثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين" فقلت: وما النسك؟ قال: "شاة" وفي الآية دليل على أنه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة لأنها ذكرت بحرف أو وذلك يوجب التخيير كما في كفارة اليمين.(4/132)
ص -68- ... ولو لم يرد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير الصوم بثلاثة أيام لكنا نقدره بستة أيام لأنه لما تقدر الطعام بطعام ستة مساكين وصوم يوم بمنزلة طعام مسكين فينبغي أن يلزمه صوم ستة أيام ولكن ثبت بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصوم ثلاثة أيام فسقط اعتبار كل قياس بمقابلته وكذلك الجواب في كل ما اضطر إليه مما لو فعله غير مضطر لزمه الدم فإذا فعله المضطر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لأنه في معنى المنصوص عليه من كل وجه فيكون ملحقا به.
فإن اختار الصيام يصوم في أي موضع شاء من الحرم أو غير الحرم لأن الصوم عبادة في كل مكان وإن اختار الطعام يجزئه ذلك أيضا في الحرم وغير الحرم عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزئه ذلك إلا في الحرم لأن المقصود به رفق فقراء الحرم ووصول المنفعة إليهم ولكنا نقول التصدق بالطعام قربة في أي مكان كان فهو بمنزلة الصيام وإن اختار النسك كان مختصا بالحرم بالاتفاق لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص وهو أيام النحر أو مكان مخصوص وهو الحرم وهذا الدم غير مؤقت بالزمان فيكون مختصا بالمكان وهو الحرم ليتحقق معنى القربة فيه فيكون كفارة لفعله.(4/133)
قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114] ولأن الله تعالى قال في جزاء الصيد {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] وذلك واجب بطريق الكفارة فصار أصلا في كل هدي وجب بطريق الكفارة في اختصاصه بالحرم ولأنه بعد ذكر الهدايا قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] والمراد به الحرم ومعلوم أنه ليس المراد من الاختصاص بالحرم عين إراقة الدم لأن فيه تلويث الحرم إنما المقصود التصدق باللحم بعد الذبح فعليه أن يتصدق بلحمه وكذلك كل دم وجب عليه بطريق الكفارة في شيء من أمر الحج أو العمرة فإنه لا يجزئه ذبحه إلا في الحرم وعليه التصدق بلحمه بعد الذبح على فقراء الحرم وإن تصدق على غيرهم من الفقراء أجزأه عندنا لأن الصدقة على كل فقير قربة.
قال: وإن سرق المذبوح لم يكن عليه شيء لأن بالذبح قد بلغ محله ووجوب التصدق كان متعلقا بالعين فيسقط بهلاك العين كما إذا هلك مال الزكاة سقطت عنه الزكاة.
قال: وإن سرق قبل الذبح فعليه بدله لأنه ما بلغ محله بعد وهو نظير الأضحية الواجبة إذا سرقت قبل الذبح فعلى صاحبها مثلها ولا خلاف أن دماء الكفارات لا يختص بيوم النحر وأن دم المتعة والقران مختص بيوم النحر لأنه نسك يباح التناول منه كالأضحية وهو من أسباب التحلل في أوانه كالحلق فأما دم الإحصار لا يتوقت بيوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما يختص بيوم النحر لأنه مشروع للتحلل فكان بمنزلة دم المتعة والقران وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنه في معنى دماء الكفارات بدليل أنه لا يباح التناول منه إلا للفقراء بخلاف دم المتعة والقران فإنه يباح التناول منه للأغنياء ثم وجوب هذا الدم للتحلل قبل أوانه فإن أوان التحلل ما بعد أداء الأفعال والمحصر يتحلل قبل أداء(4/134)
ص -69- ... الأفعال فكان في فعله معنى الجناية وإن أبيح له ذلك للعذر فالدم الواجب عليه يكون كفارة لا يتوقت بيوم النحر كالدم في حق من كان برأسه أذى.
فأما التطوعات من الدماء يجوز ذبحها قبل يوم النحر وذبحها في يوم النحر أفضل لأن التطوعات هدايا والواجب في الهدايا تبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك يجوز ذبحها في غير أيام النحر وفي أيام النحر أفضل لأن معنى القربة في إراقة الدم في هذه الأيام أظهر.
قال: ويباح التناول من هدي المتعة والقران والتطوع بمنزلة الأضحية والجواب في الأضحية معلوم وهو أن الواجب يتأدى بإراقة الدم فإنه يباح التناول منه للمضحي ولمن شاء المضحي من غني أو فقير فإن أكل المضحي كلها لم يكن عليه شيء والأفضل له أن يتصدق بالثلث ويأكل الثلثين فكذلك فيما هو في معنى الأضحية من الهدايا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم تناول من هداياه حتى أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعة فتطبخ له ولو كان الواجب التصدق بها على الفقراء لما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئا فكما يباح له تناول لحوم هذه الهدايا يباح له الانتفاع بجلودها أيضا ولا ينتفع بجلود غيرها من دماء الكفارات بل يتصدق بذلك كله كما يتصدق بلحمها هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لناجية حين بعث بالهدايا على يديه وقال: "تصدق بجلالها وخطمها"، فذلك دليل على وجوب التصدق بجلودها بطريق الأولى.
قال: ولا يعطي أجرة الجزار منها ولا من غيرها شيئا لأن ما يأخذه الجزار إنما يأخذه عوضا عن عمله فيكون ذلك بمنزلة البيع.
قال: ولا ينبغي له أن يبيع شيئا من لحوم الهدايا بثمن لأنها صارت لله تعالى خالصا فلا ينبغي له أن يشتغل بالتجارة فيها ولولا الإذن من قبل من له الحق لما أبيح له تناول بعضها وليس من ضرورة الإذن في التناول الإذن في التجارة والمنصوص عليه الإذن في التناول بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج: 28].(4/135)
قال: وإذا باع شيئا من لحمها بثمن أو أعطى الجزار أجره عمله من اللحم فعليه أن يتصدق بقيمة ذلك لأنه متلف حق الفقراء في ذلك القدر بصرفه إلى قضاء ما هو مستحق عليه أو بتحصيل عوضه لنفسه وهو الثمن فيلزمه التصدق بقيمته كمن قضى بنصاب الزكاة دينا عليه.
قال: وإذا لم يبق على المحرم غير التقصير فبدأ بقص أظفاره فعليه كفارة ذلك لأن إحرامه باق ما لم يحلق أو يقصر ففعله في قص الأظفار يكون جناية على الإحرام وعلى قول الشافعي لا يلزمه شيء بناء على مذهبه أن تحلل الحاج يكون بالرمي فقص الأظفار بعد الرمي لا يكون جناية منه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب كفارة قص الأظفار
قال رضي الله عنه: وإذا قص المحرم أظفار يديه ورجليه فعليه دم عندنا وقال عطاء(4/136)
ص -70- ... رضي الله عنه لا شيء عليه لأن قص الأظفار من الفطرة ولم يصح حديث في النهي عنه بسبب الإحرام فكان نظير الختان ولا بأس بالختان في الإحرام فكذلك قص الأظفار.
ومذهبنا مروي عن بن عباس رضي الله عنه ولأن قص الأظفار من قضاء التفث فإنه إزالة ما ينمو من البدن لمعنى الزينة والراحة كحلق الرأس فيكون مؤخرا إلى ما بعد التحلل ومباشرته قبل ذلك جناية على الإحرام فيوجب الجبر بالدم وإن قص ظفرا واحدا أو ظفرين فعليه لكل ظفر صدقة إلا أن يبلغ دما فينقص عنه ما شاء وعن محمد رحمه الله تعالى قال في كل ظفر خمس الدم لأنه لما وجب الدم في قص خمسة أظافر ففي كل ظفر بحساب ذلك ولكنا نقول إن جنايته لم تتكامل لأن معنى الراحة والزينة لا يحصل بقص ظفر أو ظفرين والجناية الناقصة في الإحرام توجب الجبر بالصدقة.
قال: وإن قص ثلاثة أظافر فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول استحسانا وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفي قوله الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه لكل ظفر صدقة. وجه قوله الأول: أن قص أظافر يد واحدة يوجب الدم بالاتفاق والأكثر منها ينزل منزلة الكمال فالثلاث أكثر الأظافر من اليد الواحدة ولكنه رجع عن هذا فقال الدم في الأصل إنما يجب بقص أظافر اليدين والرجلين واليد الواحدة ربع ذلك فتجعل بمنزلة الكمال كربع الرأس في الحلق فكان هذا أدنى ما يتعلق به الدم فلا يمكنه أن يقام الأكثر فيه مقام الكمال إذ لو فعل أدى إلى ما لا يتناهى فيقال إذا قص الظفرين فقد قص أكثر الثلاثة ثم إذا قص ظفرا ونصفا فقد قص أكثر الظفرين ولكن يقال ما كان أدنى المقدار شرعا لا يتعلق بما دونه الحكم المتعلق به.(4/137)
قال: ولو قص خمسة أظافر متفرقة من اليدين والرجلين يلزمه لكل ظفر صدقة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يلزمه الدم لأن المقصوص خمسة أظافر فلا فرق بين أن يكون من عضو واحد أو عضوين أو من أعضاء متفرقة كما في الحلق لأنه لا فرق بين أن يحلق ربع الرأس من جانب واحد أو من جوانب متفرقة في إيجاب الدم وكما في حكم الأرش لا فرق في إيجاب دية اليدين بين قطع خمسة أصابع من يد واحدة أو من يدين فهذا مثله وهما يقولان جنايته لم تتكامل لأن معنى الزينة والراحة لا يحصل بقص بعض الأظفار من كل عضو لأنه لا يحسن في النظر أن يكون بعض الأظافر مقصوصا دون البعض فيزداد به شغل قلبه لا أن ينال به الراحة فإذا لم تتكامل الجناية كان عليه لكل ظفر صدقة حتى قالوا لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء بخلاف الحلق فإن تفريق الحلق من جوانب الرأس عادة فيتم به معنى الراحة.
قال: وإذا انكسر ظفر المحرم فانقطع منه شظية فقلعه لم يكن عليه شيء لأن ذلك(4/138)
ص -71- ... المنكسر لا ينمو من البدن فقلعه لا يكون جناية بمنزلة ما لو تكسر من شجر الحرم ويبس إذا أخذه إنسان لا يجب فيه شيء لانعدام معنى النمو.
قال: وإن قص الأظافر كلها في مجالس متفرقة فإن كان حين قص أظافر يد واحدة كفر ثم قص أظافر يد أخرى فعليه كفارة أخرى لأن الجناية الأولى قد ارتفعت بالتكفير ففعله الثاني يكون جناية مبتدأة فيوجب كفارة أخرى وإن لم يكفر حتى قص الأظافر كلها فعليه دم واحد في قول محمد رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو قص الأظافر كلها في مجلس واحد لأن هذه الجنايات تستند إلى سبب واحد فلا توجب إلا كفارة واحدة كما في حلق جميع الرأس لا فرق بين أن يكون في مجالس متفرقة أو في مجلس واحد وهذا لأن مبنى الواجب على التداخل وفيما ينبني على التداخل المجلس الواحد والمجالس المتفرقة فيه سواء كما في كفارة الفطر وكما في الحدود.
وفي قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى عليه أربعة دماء باعتبار كل عضو في مجلس دم لأن هذه الأفعال في محال مختلفة وكل واحد منها جناية متكاملة فتوجب الدم وكان بمنزلة ما لو حلق في مجلس وقص الأظافر في مجلس آخر وهذا لأن كفارات الإحرام يغلب فيها معنى العبادة ولا يجري التداخل في العبادة إلا أنه إذا كان في مجلس واحد فالمقصود واحد والمحال مختلفة فرجحنا جانب اتحاد المقصود بسبب اتحاد المجلس.(4/139)
وأما إذا اختلفت المجالس يترجح جانب اختلاف المحال فيوجب بكل فعل دما بمنزلة من تلا آية السجدة مرارا فإن كان في مجلس واحد فعليه سجدة واحدة وإن كان في مجالس متفرقة فعليه بكل تلاوة سجدة وبه فارق الحلق فإن محل الفعل هناك واحد والمقصود واحد وعلى هذا الاختلاف لو جامع مرة بعد أخرى امرأة واحدة أو نسوة إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى قالوا في الجماع بعد الوقوف في المرة الأولى عليه بدنة وفي المرة الثانية عليه شاة لأنه قد دخل فيه نقصان بالجناية الأولى فالجناية الثانية صادفت إحراما ناقصا فيجب الدم ويكون قياس الجماع في إحرام العمرة وإن أصابه أذى في أظفاره حتى قصها فعليه أي الكفارات الثلاث شاء للأصل الذي تقدم بيانه أن ما يكون موجبا للدم إذا فعله لعذر تخير فيه المعذور بين الكفارات الثلاث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب جزاء الصيد
قال رضي الله عنه محرم دل محرما أو حلالا على صيد فقتله المدلول فعلى الدال الجزاء عندنا استحسانا وفي القياس لا جزاء على الدال وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى قال لأن الجزاء واجب بقتل الصيد بالنص قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}[المائدة: 95] والدلالة ليست في معنى القتل لأن القتل فعل متصل من القاتل بالمقتول فأما الدلالة والإشارة غير متصل بالمحل وهو الصيد والحكم الثابت بالنص لا يجوز إثباته فيما(4/140)
ص -72- ... ليس في معنى المنصوص والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال ولا يجب على الدال إذا كان حلالا بالاتفاق للمعنى الذي قلنا والدليل عليه أن حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من حرمة مال المسلم ونفسه ولا يضمن الدال على مال المسلم ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة فكذلك هنا إلا أنا تركنا القياس باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ماذا ترى عليه؟ فقال: أرى عليه شاة فقال عمر رضي الله عنه وأنا أرى عليه ذلك وإن عليا وبن عباس رضي الله تعالى عنه سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول عليه فشواه فقالا: على الدال جزاؤه.والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم.
وما نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا أظن بهم أنهم قالوا جزافا والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق إلا السماع ثم ثبت باتفاقهم أن الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام وذلك ثابت بالنص أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم في صيد أخذه أبو قتادة وكانوا محرمين "هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم" فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا أنه من محظورات الإحرام وذلك يوجب الجزاء وبه فارق صيد الحرم فإن الموجب للحظر هناك معنى في الحل وهو أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جناية في إزالة الأمن عن المحل وهنا الحظر بسبب معنى في الفاعل وهو أنه محرم فكان فعله محظورا لإحرام وإن لم يتصل بالمحل ولهذا كان معنى الجزاء هنا راجحا ومعنى غرامة المحل هناك راجح على ما نبينه إن شاء الله تعالى.(4/141)
ثم الإحرام عقد خاص وقد ضمن له ترك التعرض بعقده فإذا تعرض له بالدلالة فقد باشر بخلاف ما التزمه فكان قياس المودع يدل سارقا على سرقة الوديعة بخلاف الدلالة على مال المسلم ونفسه فإنه ما التزم ترك التعرض لذلك بعقد خاص ثم الواجب هناك ضمان الحيوان فيكون بمقابلة المحل فيجب على من اتصل فعله بالمحل والدلالة المعتبرة لإيجاب الجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد فأما إذا كان المدلول عالما به فلا جزاء على الدال لأن المدلول ما تمكن من قتله بدلالته.
وعلى هذا لو أعار المحرم سكينا من غيره ليقتل صيدا فإن لم يكن مع ذلك الغير ما يقتل به الصيد فعلى المعير الجزاء وإن كان معه ما يقتل به الصيد فلا شيء على المعير لأن تمكنه من قتله لم يكن بإعارة السكين وإنما يجب على الدال الجزاء إذا صدقه المدلول في دلالته فأما إذا كذبه ولم يتبع الصيد بدلالته حتى دله عليه آخر فصدقه وقتل الصيد فالجزاء على الدال الثاني إذا كان محرما دون الأول.(4/142)
ص -73- ... ليس في معنى المنصوص والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال ولا يجب على الدال إذا كان حلالا بالاتفاق للمعنى الذي قلنا والدليل عليه أن حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من حرمة مال المسلم ونفسه ولا يضمن الدال على مال المسلم ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة فكذلك هنا إلا أنا تركنا القياس باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ماذا ترى عليه؟ فقال: أرى عليه شاة فقال عمر رضي الله عنه وأنا أرى عليه ذلك وإن عليا وبن عباس رضي الله تعالى عنه سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول عليه فشواه فقالا: على الدال جزاؤه.والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم.
وما نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا أظن بهم أنهم قالوا جزافا والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق إلا السماع ثم ثبت باتفاقهم أن الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام وذلك ثابت بالنص أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم في صيد أخذه أبو قتادة وكانوا محرمين "هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم" فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا أنه من محظورات الإحرام وذلك يوجب الجزاء وبه فارق صيد الحرم فإن الموجب للحظر هناك معنى في الحل وهو أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جناية في إزالة الأمن عن المحل وهنا الحظر بسبب معنى في الفاعل وهو أنه محرم فكان فعله محظورا لإحرام وإن لم يتصل بالمحل ولهذا كان معنى الجزاء هنا راجحا ومعنى غرامة المحل هناك راجح على ما نبينه إن شاء الله تعالى.(4/143)
ثم الإحرام عقد خاص وقد ضمن له ترك التعرض بعقده فإذا تعرض له بالدلالة فقد باشر بخلاف ما التزمه فكان قياس المودع يدل سارقا على سرقة الوديعة بخلاف الدلالة على مال المسلم ونفسه فإنه ما التزم ترك التعرض لذلك بعقد خاص ثم الواجب هناك ضمان الحيوان فيكون بمقابلة المحل فيجب على من اتصل فعله بالمحل والدلالة المعتبرة لإيجاب الجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد فأما إذا كان المدلول عالما به فلا جزاء على الدال لأن المدلول ما تمكن من قتله بدلالته.
وعلى هذا لو أعار المحرم سكينا من غيره ليقتل صيدا فإن لم يكن مع ذلك الغير ما يقتل به الصيد فعلى المعير الجزاء وإن كان معه ما يقتل به الصيد فلا شيء على المعير لأن تمكنه من قتله لم يكن بإعارة السكين وإنما يجب على الدال الجزاء إذا صدقه المدلول في دلالته فأما إذا كذبه ولم يتبع الصيد بدلالته حتى دله عليه آخر فصدقه وقتل الصيد فالجزاء على الدال الثاني إذا كان محرما دون الأول.(4/144)
ص -74- ... تبعا لا يظهر مع الأصل كحرمة الحرم مع حرمة الإحرام فإن المحرم إذا قتل صيدا في الحرم لا يلزمه إلا جزاء واحد وقيل إن حرمة الحرم تبع لحرمة الإحرام فلا يظهر تأثيره مع الإحرام ولكنا نقول كل واحد من الإحرامين أصل مثل صاحبه لأن كل واحد منهما يعم البقاع كلها فلا يكون أحدهما تبعا للآخر بل يعتبر كل واحد منهما في إيجاب موجبه كأنه ليس معه صاحبه.
كما أن حرمة الجماع بسبب حرمة الصوم وعدم الملك إذا اجتمعا بأن زني الصائم في رمضان يجب عليه الحد والكفارة جميعا وكذلك حرمة الخمر ثابتة لعينها فيثبت باليمين إذا حلف لا يشربها حرمة أخرى ثم عند الشرب يلزمه الحد والكفارة جميعا وهذا بخلاف حرمة الحرم فإنها دون حرمة الإحرام ألا ترى أنه لا يعم البقاع كلها وأنه لا بد من اعتباره في حق المحرم فإن المحرم لا يستغني عن دخول الحرم وإذا كان في حكم التبع لم يعتبر في حق المحرم ولأنه لا مقصود هناك سوى وجوب ترك التعرض للصيد وذلك حاصل في حق المحرم بإحرامه فلا يزداد بالحرم في حقه فأما هنا العمرة بعقد مقصود يحوي ترك التعرض للصيد فوجب اعتباره في حق المحرم بالحج كما يجب اعتباره في حق غير المحرم بالحج.
قال: فإن قتل حلالان صيدا في الحرم بضربة واحدة فعلى كل واحد منهما نصف جزاء كامل بخلاف ما إذا ضربه كل واحد منهما ضربة فإنه يجب على كل واحد منهما ما تقتضيه ضربته ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته مضروبا بضربتين لأن عند اتحاد فعلهما جميع الصيد صار متلفا بفعلهما فيضمن كل واحد منهما نصف الجزاء وعند اختلاف محل الفعل الجزء الذي تلف بضربة كل واحد منهما كان هو المختص بإتلافه فعليه جزاؤه والباقي متلفا بفعلهما فضمانه عليهما وقد قررنا هذا الفرق فيما أمليناه من شرح الجامع.(4/145)
قال: وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشترى في ذلك الموضع مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى فيما له نظير ينظر إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة حتى يجب في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الحمامة شاة وهو قول بن أبي ليلى وزعم أن بينهما مشابهة من حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر وفيما لا نظير له تعتبر القيمة واحتجا في ذلك بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] وحقيقة المثل ما يماثل الشيء صورة ومعنى ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة والنظير مثل صورة ومعنى والقيمة مثل معنى لا صورة. وفي قوله: {مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95](4/146)
ص -75- ... تنصيص على أن المعتبر هو المثل صورة وعلى هذا اتفقت الصحابة رضي الله تعالى عنهم نقل ذلك عن علي وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم أوجبوا ما سمينا من النظائر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى أخذا بقول بن عباس رضي الله تعالى عنه فإنه فسر المثل بالقيمة والمعنى الفقهي يشهد له فإن الحيوان لا مثل له من جنسه ألا ترى أن في حق حقوق العباد يكون الحيوان مضمونا بالقيمة دون المثل فكذلك في حقوق الله تعالى.
وكما أن المثل منصوص عليه هنا فكذلك في حقوق العباد في قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194] يوضحه أن المماثلة بين الشيئين عند اتحاد الجنس أبلغ منه عند اختلاف الجنس فإذا لم تكن النعامة مثلا للنعامة كيف تكون البدنة مثلا للنعامة والمثل من الأسماء المشتركة فمن ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له ثم لا تكون النعامة مثلا للبدنة عند الإتلاف فكذلك لا تكون البدنة مثلا للنعامة وإذا تعذر اعتبار المماثلة صورة وجب اعتبارها بالمعنى وهو القيمة فأما قوله: {مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] فقد قيل فيه تقديم وتأخير ومعناه: فجزاء مثل ما قتل يحكم به ذو عدل منكم من النعم هديا بالع الكعبة
ثم ذكر الأصمعي وأبو عبيدة أن اسم النعم يتناول الأهلي والوحشي جميعا ومعناه فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي وحمله على هذا أولى لأن قوله: {فَجَزَاءٌ}[المائدة: 95] مصدر وما ذكر بعده وصف فإنما يكون وصفا للمذكور وذلك إذا حمل على ما بينا وإيجاب الصحابة رضي الله عنهم لهذه النظائر لا باعتبار أعيانها بل باعتبار القيمة إلا أنهم كانوا أرباب المواشي فكان ذلك أيسر عليهم من النقود وهو نظير ما قال علي رضي الله عنه في ولد المغرور يفك الغلام بالغلام والجارية بالجارية المراد القيمة والاختلاف في هذه المسألة في فصول:
أحدها: ما بينا.(4/147)
والثاني: أن الذي أتي الحكمين يقوم الصيد. فإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى المحرم بين التكفير بالهدي والإطعام والصيام في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى الخيار إلى الحكمين فإذا عينا نوعا عليه يلزمه التكفير به بعينه فأما اعتبار الحكمين بالنص وهو قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}[المائدة: 95]. وعلى طريقة القياس يكفي الواحد للتقويم وإن كان المثنى أحوط ولكن يعتبر المثنى بالنص وبيانه في حديث عمر رضي الله عنه فإن رجلين أتياه فقال أحدهما إن صاحبي هذا كان محرما وأنه رمى إلى ظبي وأصاب أحشاءه فماذا يجب عليه فسار عمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما بشيء ثم قال عليه شاة فقاما من عنده وجعل السائل يقول لصاحبه أن(4/148)
ص -76- ... فتوى أمير المؤمنين لا تغني عنك شيئا ألا ترى أنه لم يعرفه حتى سأل غيره فأرى أن تنحر راحلتك هذه وتعظم شعائر الله فسمع ذلك عمر رضي الله عنه فدعاه وعلاه بالدرة فقال يا أمير المؤمنين أني لا أحل لك من نفسي شيئا حرم الله عليك فانظر لنفسك فقال عمر رضي الله عنه أراك حسن اللهجة والبيان أما سمعت الله يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً}[المائدة: 95] فأنا ذو عدل وعبد الرحمن ذو عدل ومن يعمل بكتاب الله تعالى يسمى جاهلا فيكم؟ فتاب الرجل عن مقالته.
ثم احتج محمد رحمه الله تعالى بظاهر الآية فإنه قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فذكر الهدي منصوبا على أنه تفسير لقوله: {يَحْكُمُ}[المائدة: 95] أو مفعول حكم الحكم فهو تنصيص على أن التعيين إلى الحاكم وفي تسمية الله تعالى فعلهما حكما دليل ظاهر على أن الإلزام إليهما وليس إليهما الزام أصل الواجب فعرفنا أن إليهما التعيين.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا الحاجة إلى الحكمين لإظهار قيمة الصيد فبعد ما ظهرت القيمة فهي كفارة واجبة على المحرم فإليه التعيين لما يؤدي به الواجب كما في كفارة اليمين وكما في ضمان قيم المتلفات فإن تعيين ما يؤدي به الضمان إليه دون المقومين فكذا في هذا الموضع فإن اختار التكفير بالهدى فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فالهدي اسم لما يهدي إلى موضع معين وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة وإن اختار الصيام يصوم مكان طعام كل مسكين يوما وإن كان الواجب دون طعام مسكين فأما أن يطعم قدر الواجب وأما أن يصوم يوما كاملا فالصوم لا يكون أقل من يوم.(4/149)
وعندنا يجوز له أن يختار الصوم مع القدرة على الهدي والإطعام لقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}[المائدة: 95] وحرف {أَوْ}[المائدة: 95] للتخيير وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يجوز له الصيام مع القدرة على التكفير بالمال وقاس بكفارة اليمين وهدي المتعة والقران وقال حرف {ِأَوْ}[المائدة: 95] لا ينفي الترتيب في الواجب كما في حق قطاع الطريق في قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}[المائدة: 33] الآية ولكن هذا خلاف الحقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز وقياس المنصوص على المنصوص باطل.
وإذا اختار الطعام فالمعتبر قيمة الصيد يشترى به الطعام عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى المعتبر قيمة النظير وهو قول محمد رحمه الله تعالى بناء على أصلهما أن الواجب هو النظير فإنما يحوله إلى الطعام باختياره فتعتبر قيمة الواجب وهو النظير كمن أتلف شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس فإنه يجب قيمة المثل.
وعندنا الواجب قيمة الصيد، والأصل كما بينا فإذا اختار أداء الواجب بالطعام تعتبر قيمة الصيد لأنه هو الواجب الأصلي وإن اختار الصيام صام مكان كل نصف صاع يوما عندنا,(4/150)
ص -77- ... وعند الشافعي رحمه الله تعالى يصوم مكان كل مد يوما وهذا بناء على الاختلاف في طعام الكفارة لكل مسكين عندنا يتقدر بنصف صاع وعنده بمد ومذهبه في هذا مروي عن بن عباس رضي الله عنه.
قال: فإن أخرج الحلال صيد الحرم ولم يقتله فعليه جزاء استحسانا وإن أرسله في الحل ما لم يعلم عوده إلى الحرم لأنه بالحرم كان آمنا وقد زال هذا الأمن بإخراجه فيكون كالمتلف له إلا أن يعلم عوده إلى الحرم فحينئذ يعود إليه الأمن على ما كان وهو كالمحرم يأخذ صيدا فيموت في يده لزمه جزاؤه لأنه متلف معنى الصيدية فإن معنى الصيدية في نفره وبعده عن الأيدي.
قال: وإذا رمى الحلال صيدا من الحل في الحرم أو من الحرم في الحل فعليه جزاؤه هكذا روي عن جابر وبن عمر رضي الله عنهما وهذا لأنه إذا كان الصيد في الحرم فهو آمن بالحرم وإن كان الرامي في الحرم فهو منهي عن الرمي إلى الصيد من الحرم قال الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] يقال أحرم إذا عقد عقد الإحرام وأحرم إذا دخل الحرم كما يقال أشأم إذا دخل الشام فكان في الوجهين مرتكبا للنهي فيلزمه الجزاء إلا أن يكون الصيد والرامي في الحل فرماه ثم دخل الصيد الحرم فيصيبه فيه فحينئذ لا يلزمه الجزاء لأنه في الرمي غير مرتكب للنهي ولكن لا يحل تناول ذلك الصيد وهذه هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن عنده المعتبر حالة الرمي إلا في هذه المسألة خاصة فإنه اعتبر في حل التناول حالة الإصابة احتياطا لأن الحل بالذكاة يحصل وإنما يكون ذلك عند الإصابة فإن كان عند الإصابة الصيد صيد الحرم لم يحل تناوله وعلى هذا إرسال الكلب.(4/151)
قال: ولا يحل تناول ما ذبحه المحرم لأحد من الناس وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحل للمحرم القاتل تناوله ويحل لغيره من الناس وحجته في ذلك أن معنى الذكاة في تسييل الدم النجس من الحيوان وشرط الحل التسمية ندبا أو واجبا على اختلاف الأصلين وذلك يتحقق من المحرم كما يتحقق من الحلال إلا أن الشرع حرم التناول على المحرم القاتل بطريق العقوبة ليكون زجرا له وهذا لا يدل على حرمة التناول في حق غيره كما يجعل المقتول ظلما حيا في حق القاتل حتى لا يرثه وهو ميت في حق غيره وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] والفعل الموجب للحل مسمي باسم الذكاة شرعا فلما سماه قتلا هنا عرفنا أن هذا الفعل غير موجب للحل أصلا والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله تعالى عنهم:
"هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم؟" فقالوا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: " إذن فكلوا".
فإذا ثبت بالأثر أن الإعانة من المحرم توجب الحرمة فمباشرة القتل هنا أولى فإن(4/152)
ص -78- ... قيل: كيف يصح هذا الاستدلال وعندكم الصيد لا يحرم تناوله بإشارة المحرم ودلالته قلنا فيه روايتان وقد بينا هما في الزيادات ومن ضرورة حرمة التناول عند الإشارة حرمة التناول عند مباشرة القتل فإن قام هذا الدليل على انتساخ هذا الحكم عند الإشارة فذلك لا يدل على انتساخه عند المباشرة والمعنى فيه أن هذا الاصطياد محرم لمعنى الدين ولهذا حرم التناول عليه فيكون نظير اصطياد المجوسي وذلك موجب للحرمة في حق الكل فهذا مثله.
قال: فإن أدى المحرم جزاءه ثم أكل فعليه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كان قتله غيره لم يكن عليه شيء فيما أكل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يلزمه شيء آخر سوى الاستغفار وحجتهما أن صيد المحرم كالميتة أو كذبيحة المجوسي وتناول الميتة لا يوجب إلا الاستغفار ألا ترى أنه إذا أكل منه حلال أو محرم آخر لم يلزمه إلا الاستغفار فكذا إذا أكل هو منه والدليل عليه أن الحلال إذا ذبح صيدا في الحرم فأدى جزاءه ثم أكل منه لا يلزمه شيء آخر وكذلك المحرم إذا كسر بيض صيد فأدى جزاءه ثم شواه فأكله لا يلزمه شيء آخر كذا هذا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تناول محظور إحرامه فيلزمه الجزاء كسائر المحظورات وبيانه أن قتل هذا الصيد من محظورات إحرامه والقتل غير مقصود لعينه بل للتناول منه.(4/153)
فإذا كان ما ليس بمقصود محظور إحرامه حتى يلزمه الجزاء به فما هو المقصود بذلك أولى بخلاف محرم آخر فإن هذا التناول ليس من محظورات إحرامه وبخلاف الحلال في الحرم لأن وجوب الجزاء هناك باعتبار الأمن الثابت بسبب الحرم وذلك للصيد لا للحم وكذلك البيض وجوب الجزاء فيه باعتبار أنه أصل الصيد وبعد الكسر انعدم هذا المعنى يقرره أن المقتول بغير حق في حق القاتل كالحي من وجه حتى لا يرث وكالميت من وجه حتى تعتق أم الولد إذا قتلت مولاها ففيما ينبني أمره على الاحتياط جعلناه كالحي في حق القاتل وهو جزاء الإحرام فيلزمه بالتناول جزاء آخر وأما جزاء صيد الحرم غير مبني على الاحتياط في الإيجاب فلهذا اعتبرنا معنى اللحمية فلا يوجب فيه الجزاء.
قال: وإذا أصاب الحلال صيدا في الحل فذبحه فلا بأس بأن يأكل المحرم منه وهو قول عثمان وبن عباس رضي الله عنهما وكان بن عمر رضي الله عنه يكره ذلك حتى روي أن عثمان رضي الله عنه دعاه إلى طعام وكان محرما فرأى اليعاقيب في القصعة فقام فقيل لعثمان رضي الله عنه إنما قام كراهة لطعامك فبلغ ذلك بن عمر رضي الله عنه فقال ما كرهت طعامه ولكن كنت محرما فمن أخذ بقوله استدل بما روي أن رجلا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فرده فرأى الكراهة في وجهه فقال صلى الله عليه وسلم: "ما بنا رد لهديتك ولكنا حرم".
ولنا: في ذلك حديث طلحة رضي الله عنه قال: تذاكرنا لحم الصيد في حق المحرم,(4/154)
ص -79- ... فارتفعت أصواتنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته فخرج إلينا فقال: "فيم كنتم؟" فذكرنا ذلك له فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس به". وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين وهم محرمون فرأى حمار وحش عقيرا وفيه سهم ثابت فأراد أصحابه رضي الله عنهم أخذه فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوه حتى يأتي صاحبه". فجاء رجل من بهز فقال يا رسول الله هذه رميتي فهي لك فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمها بين الرفاق.
والحديث الذي روي أنه رده تصحيف وقع من الراوي والصحيح أنه أهدى إليه حمار وحش ولئن صح فليس المراد بالرجل القطعة من اللحم بل هو العدد من حمار الوحش كما يقال رجل جراد للجماعة منه وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن اصطاد الحلال لأجل المحرم فليس للمحرم أن يتناول منه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمحرمين: "صيد البر حلال لكم إلا ما اصطدتموه" أو "صيد لكم". ولكنا نقول: هذه اللام لام التمليك فإنما يتناول ما كان مملوكا للمحرم صيدا وسواء اصطاد الحلال لنفسه أو لمحرم فهو لم يصر مملوكا للمحرم صيدا وإنما يصير مملوكا للمحرم حين يهديه إليه بعد الذبح وهو عند ذلك لحم لا صيد فيه فلهذا حل تناوله.(4/155)
قال: محرم كسر بيض صيد فعليه قيمته وقال بن أبي ليلى رضي الله عنه عليه درهم ومذهبنا مروى عن علي وبن عباس رضي الله عنهم والمعنى فيه وهو أن البيض أصل الصيد فإنه معد ليكون صيدا ما لم يفسد فيعطى له حكم الصيد في إيجاب الجزاء على المحرم بإفساده كما أن الماء في الرحم جعل بمنزلة الولد في حكم العتق والوصية ولأنه منع حدوث معنى الصيدية فيه فيجعل كالمتلف بعد الحدوث بمنزلة المغرور يضمن قيمة الولد لأنه منع حدوث الرق فيه فإن كان فيه فرخ ميت فعليه قيمة الفرخ حيا وهذا استحسان وفي القياس لا يغرم إلا قيمة البيضة لأنه لم تعلم حياة الفرخ قبل كسره ولكنه استحسن فقال: البيض ما لم يفسد فهو معد ليخرج منه فرخ حي والتمسك بهذا الأصل واجب حتى يظهر خلافه ولأن كسر البيضة سبب لموت الفرخ إذا حصل قبل أوانه فإذا ظهر الموت عقيب هذا السبب يحال به عليه.
وكذلك لوضرب بطن ظبية فطرحت جنينا ميتا ثم ماتت فعليه جزاؤهما جميعا أخذا فيه بالثقة لأن الضرب سبب صالح لموتهما وقد ظهر الموت عقيبه وإنما أراد بقوله أخذا بالثقة الإشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب لحق العباد فإن من ضرب بطن جارية فألقت جنينا ميتا وماتت لما وجب هناك ضمان الأصل لم يجب ضمان الجنين لأن الجنين في حكم الجزء من وجه وفي حكم النفس من وجه والضمان الواجب لحق العباد غير مبني على الاحتياط فلا يجب في موضع الشك فأما جزاء الصيد مبني على الاحتياط فلهذا رجح شبه النفس في الجنين فاوجب عليه جزاءهما.
قال: وإذا عطب الصيد بفسطاط المحرم أو بحفيرة حفرها للماء فلا شيء عليه بخلاف(4/156)
ص -80- ... ما إذا نصب شبكة أو حفر حفيرة لأخذ الصيد لأنه متسبب في الموضعين إلا أن التسبب إذا كان تعديا يكون موجبا للضمان كحفر البئر على الطريق وإذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان كحفر البئر في ملك نفسه ونصب الشبكة من المحرم تعد لأنه قصد به الاصطياد فأما ضرب الفسطاط ليس بتعد إذ لم يقصد به الاصطياد ألا ترى أن الحلال لو نصب شبكة فتعقل بها صيد ملكه حتى لو أخذه غيره كان له أن يسترده منه بخلاف ما إذا ضرب فسطاطا وعلى هذا إذا فزع منه الصيد فاشتد فانكسر لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا أفزعه هو أو حركه فإنه وجد بسبب هو فيه متعد فيكون هو ضامنا.
قال: محرم اصطاد صيدا فأرسله محرم آخر من يده فلا شيء عليه لأن الصيد محرم العين على المحرم بالنص قال الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96], فلم يملكه بالأخذ كمن اشترى خمرا لا يملكها لأنها محرمة العين فإذا لم يملكه لم يكن المرسل من يده متلفا عليه شيئا ولأنه فعل عين ما يحق عليه فعله شرعا فهو كمن أراق الخمر على المسلم.
قال: ولو قتله في يده فعلى كل واحد منهما جزاؤه أما القاتل فلأنه جنى على إحرامه بقتل الصيد وأما الآخذ فلأنه كان متلفا لمعنى الصيدية فيه حكما بإثبات يده ثم يرجع الآخذ بما ضمن من الجزاء على القاتل عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجع عليه بشيء لأن الآخذ لم يملك الصيد ولا كانت له فيه يد محترمة ووجوب الضمان له على القاتل باعتبار أحد هذين المعنيين ولأنه بالقتل لزمته كفارة يفتي بها ويخرج بالصوم منها فلو رجع عليه إنما يرجع بضمان المالية ويطالب به ويحبس به ولا يجوز له أن يرجع عليه بأكثر مما لزمه.(4/157)
وحجتنا في ذلك أن اليد على هذا الصيد كانت يدا معتبرة لحق الآخذ لأنه يتمكن به من الإرسال وإسقاط الجزاء به عن نفسه والقاتل يصير مفوتا عليه هذه اليد فيكون ضامنا له وإن لم يملكه الآخذ كغاصب المدبر إذا قتله إنسان في يده يدل عليه أنه قرر عليه ما كان على شرف السقوط وذلك سبب مثبت للرجوع عليه كشهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول.
والذي قال: يفتي به ويخرج عنه بالصوم فذلك ليس لمعنى راجع إلى نفس الحق بل لمعنى ممن له الحق فإن حقوق الله تعالى على عباده بطريق الفتوى والخروج عنه بالصوم لأن الله تعالى غني عن مال عباده إنما يطلب منهم التعظيم لأمره ومثل هذا التفاوت لا يمنع الرجوع كالأب إذا غصب مدبر ابنه فغصبه منه آخر ثم أن الابن ضمن أباه رجع الأب على الغاصب منه وإن كان هو لا يحبس فيما لزمه لابنه ويكون له أن يحبس الغاصب منه فيما يطالبه به.
قال: ولو أحرم وفي يده ظبي فعليه أن يرسله لأن استدامة اليد عليه بعد الإحرام بمنزلة الإنشاء فإن اليد مستدامة وكما أن إنشاء اليد متلف معنى الصيدية فيه فالاستدامة كذلك.
قال: فإن أرسله إنسان من يده فعلى المرسل قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى،(4/158)
ص -81- ... لذي اليد وهو القياس. وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا شيء عليه استحسانا وهو نظير اختلافهم فيمن أتلف على غيره شيئا من المعازف فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا فعله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر لأنه مأمور شرعا بإرساله فإذا كان ذلك مما يلزمه شرعا ففعل ذلك غيره لا يكون مستوجبا للضمان كمن أراق خمر مسلم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الصيد قبل الإحرام كان ملكا له متقوما ولم يبطل ذلك بالإحرام ألا ترى أن الصيد لو كان في بيته بقي مملوكا متقوما على حاله فالذي أرسله من يده أتلف عليه ملكا متقوما فيضمن له بخلاف إراقة الخمر على المسلم ثم الواجب عليه رفع يده ولو رفع بنفسه يرفعه على وجه لا يفوت ملكه بعد ما يحل من إحرامه.
فإذا فوت هذا المرسل ملكه فقد زاد على ما يحق عليه فعله فيكون ضامنا له وهذا طريقه أيضا في إتلاف المعازف وفرق بين هذا وبين ما إذا أخذ الصيد وهو محرم فقال هناك لم يملكه بالأخذ فالمرسل لا يكون مفوتا عليه ملكا متقوما وهنا بالإحرام لم يبطل ملكه على ما قررنا والدليل في الفرق أن المحرم إذا أخذ صيدا ثم أرسله فأخذه غيره ثم وجده المحرم في يده بعد ما حل فليس له أن يسترده منه ولو أحرم وفي يده صيد فأرسله ثم وجده بعد ما حل في يد غيره كان له أن يسترده منه فدل على الفرق بين الفصلين.
قال: محرم قتل سبعا فإن كان السبع هو الذي ابتدأه فآذاه فلا شيء عليه والحاصل أن نقول: ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤذيات بقوله: "خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم". وفي حديث آخر: "يقتل المحرم الحية والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور"، فلا شيء على المحرم ولا على الحلال في الحرم بقتل هذه الخمس لأن قتل هذه الأشياء مباح مطلقا وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم كالملحق بنص القرآن فلا يكون موجبا للجزاء.(4/159)
والمراد من الكلب العقور الذئب. فأما ما سوى الخمس من السباع التي لا يؤكل لحمها إذا قتل المحرم منها شيئا ابتداء فعليه جزاؤه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استثنى الخمس لأن من طبعها الأذي فكل ما يكون من طبعه الأذى فهو بمنزلة الخمس مستثنى من نص التحريم فصار كأن الله تعالى قال لا تقتلوا من الصيود غير المؤذي ولو كان النص بهذه الصفة لم يتناول إلا ما هو مأكول اللحم غير الموذي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استثني الكلب العقور وهذا يتناول الأسد ألا ترى أنه حين دعا على عتبة بن أبي لهب قال: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك"؟ فافترسه أسد بدعائه صلى الله عليه وسلم.
ولأن الثابت بالنص حرمة ممتدة إلى غاية وهو الخروج من الإحرام لأن الله تعالى قال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96], وهذا يتناول مأكول اللحم فأما غير مأكول اللحم محرم التناول على الإطلاق فلا يتناوله هذا النص وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95]، واسم الصيد يعم الكل لأنه يسمى به لتنفره واستيحاشه(4/160)
ص -82- ... وبعده عن أيدي الناس وذلك موجود فيما لا يؤكل لحمه والدليل عليه أن لفظة الاصطياد بهذا المعنى تطلق على أخذ الرجال قال القائل:
صيد الملوك ثعالب وأرانب ... وإذا ركبت فصيدى الأبطال
ثم النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن المستثنى من النص خمس فهو دليل على أن ما سوى الخمس فحكم النص فيه ثابت والدليل عليه وهو أنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان هذا تعليلا مبطلا للنص ثم ما سوى الخمس في معنى الأذى دون الخمس لأن الخمس من طبعها البداءة بالأذى وما سواها لا يؤذى إلا أن يؤذي فلم يكن في معنى المنصوص ليلحق به.
والذي قال: الحرمة ثابتة بالنص إلى غاية فحرمة الاصطياد هكذا لأن النص يثبت حرمة الاصطياد لا حرمة التناول وحرمة الاصطياد بهذه الصفة تثبت في غير مأكول اللحم كما تثبت في مأكول اللحم ثم لا اختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن الجزاء يجب بقتل الضبع على المحرم لأن عنده الضبع مأكول اللحم وعندنا هو من السباع التي لم يتناولها الاستثناء وفيه حديث جابر رضي الله عنه حين سئل عن الضبع: أصيد هو؟ فقال: نعم. فقيل: أعلى المحرم الجزاء فيه؟ قال: نعم. فقيل له: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولكن السبع إن كان هو الذي ابتدأ المحرم فلا شيء عليه في قتله عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه الجزاء لأن فعل الصيد هدر قال صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار" من غير ذكر الجرح أي جرح العجماء جبار فوجوده كعدمه فيما يجب من الجزاء بقتله على المحرم.(4/161)
ألا ترى أن في الضمان الواجب لحق العباد إذا كان السبع مملوكا لا فرق بين أن تكون البداءة منه أو من السبع فكذلك فيما يجب لحق الله تعالى وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه قتل ضبعا في الإحرام فأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه ففي هذه التعليل بيان أن البداءة إذا كانت من السبع لا يوجب شيئا ولأن صاحب الشرع جعل الخمس مستثناة لتوهم الأذى منها غالبا وتحقق الأذى يكون أبلغ من توهمه فتبين بالنص أن الشرع حرم عليه قتل الصيد وما ألزمه تحمل الأذى من الصيد فإذا جاء الأذى من الصيد صار مأذونا في دفع أذاه مطلقا فلا يكون فعله موجبا للضمان عليه وبهذا فارق ضمان العباد فإن الضمان يجب لحق العباد ولم يوجد الإذن ممن له الحق في إتلافه مطلقا حتى يسقط به الضمان بخلاف ما نحن فيه.
ولا يدخل على ما ذكرنا قتل المحرم القمل فإنه يوجب الجزاء عليه وإن كان يؤذيه لأن المحرم إذا قتل قملة وجدها على الطريق لم يضمن شيئا لأنها مؤذية ولكن إذا قتل القمل على نفسه إنما يضمن لمعنى قضاء التفث بإزالة ما ينمو من بدنه عن نفسه وهذا بخلاف المحرم إذا كان مضطرا فقتل صيدا لأن الإذن ممن له الحق هناك مقيد وليس بمطلق فإن(4/162)
ص -83- ... الإذن في حق المضطر في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ}[البقرة: 196] والإذن عند الأذى ثابت بالنص مطلقا في حق الصيد فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما إذا كان هو الذي ابتدأ السبع يلزمه قيمته بقتله لا يجاوز بقيمته شاة عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تجب قيمته بالغة ما بلغت على قياس ما يؤكل لحمه من الصيود هكذا ذكر أصحابنا هذا الخلاف.
وذكر بن شجاع رحمه الله تعالى في شرح اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر فيما هو مأكول اللحم لا يجاوز بقيمته شاة والحاصل أن زفر رحمه الله تعالى يقول بأن الضمان الواجب لحق الله تعالى معتبر بالواجب لحق العباد وهناك لا فرق بين مأكول اللحم وبين غير مأكول اللحم فهنا لا فرق بينهما أيضا فأما أن يقال تجب القيمة بالغة ما بلغت في الموضعين جميعا أو لا يجاوز بالقيمة شاة في الموضعين جميعا وحجتنا في ذلك أن فيما لا يؤكل لحمه وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فقط لا باعتبار عينه فإنه غير مأكول وباعتبار معنى الصيدية يكون مرتكبا محظور إحرامه فلا يلزمه أكثر من شاة كسائر محظورات الإحرام.
فأما في مأكول اللحم وجوب الجزاء باعتبار عينه لأنه مفسد للحمه بفعله فتجب قيمته بالغة ما بلغت وكذلك في حقوق العباد وجوب الضمان باعتبار ملك العين فيتقدر بقيمة العين وهذا لأن زيادة القيمة في الفهد والنمر والأسد لمعنى تفاخر الملوك به لا لمعنى الصيدية وذلك غير معتبر في حق المحرم فلهذا لا يلزمه أكثر من شاة إن كان مفردا بالحج أو العمرة وإن كان قارنا لا يجاوز بما يجب عليه شاتين لأنه محرم بإحرامين.(4/163)
قال: وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير في هذا الحكم سواء على ما بينا وذكر في بعض الروايات في الحديث المستثنى مكان الحدأة الغراب والمراد به الأبقع الذي يأكل الجيف ويخلط فإنه يبتدئ بالأذى فأما العقعق يجب الجزاء بقتله على المحرم لأنه لا يبتدئ بالأذى غالبا والخنزير والقرد يجب الجزاء بقتلهما على المحرم في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال زفر رضي الله تعالى عنه لا يجب لأن الخنزير بمنزلة الكلب العقور مؤذ بطبعه وقد ندب الشرع إلى قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت لكسر الصليب وقتل الخنزير". ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول بأنه متوحش لا يبتدئ بالأذى غالبا فيكون نص التحريم متناولا له.
وكذلك السمور والدلق يجب الجزاء بقتلهما على المحرم والفيل كذلك إذا كان وحشيا فأما الفأرة مستثناة في الحديث وحشيها وأهليها سواء والسنور كذلك في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب الجزاء بقتله أهليا كان أو وحشيا وفي رواية هشام عن محمد رحمهما الله تعالى ما كان منه بريا فهو متوحش كالصيود يجب الجزاء بقتله على المحرم فأما الضب فليس في معنى الخمسة المستثناة لأنه لا يبتدئ بالأذى(4/164)
ص -84- ... فيجب الجزاء على المحرم بقتله. وكذلك الأرنب واليربوع يجب بقتلهما القيمة على المحرم فأما ما كان من هوام الأرض فلا شيء على المحرم في قتله غير أن في القنفذ روايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى:
في إحدى الروايتين قال هو نوع من الفأرة وفي رواية جعله كاليربوع.
فإذا بلغت قيمة شيء من هذه الحيوانات حملا أو عناقا لم يجزه الحمل ولا العناق من الهدي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأدنى ما يجزى في ذلك الجذع العظيم من الضأن أو الثني من غيرها فإن كان الواجب دون ذلك كفر بالإطعام أو الصيام وجعل هذا قياس الأضحية فكما لا يجزى هناك التقرب بإراقة دم الحمل والعناق مقصودا فكذلك هنا ولأن الواجب بالنص هنا الهدي قال الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فهو بمنزلة هدي المتعة والقران فكما لا يجزئ الحمل والعناق في هدي المتعة والقران لا يجزئ هنا وأبو يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله تعالى جوزوا ذلك في جزاء الصيد استحسانا بالآثار التى جاءت به فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ولأن الرجل قد يسمي الدراهم والثوب هديا.
ألا ترى أن الرجل لو قال: لله علي أن أهدي هذه الدراهم يلزمه أن يفعل ذلك؟ فالحمل والعناق أولى في ذلك ولا يستقيم قياسه على هدي المتعة لأنه قياس المنصوص بالمنصوص ولأن الهدي قد يكون عناقا وفصيلا وجديا ألا ترى أنه لو أهدى ناقة فنتجت كان ولدها هديا معها ينحر ولو كان غير هدي لكان يتصدق به كذلك قبل النحر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أجوزه هديا تبعا لا مقصودا كما يجوز به التضحية تبعا لا مقصودا إذا نتجت الأضحية.
قال: وفي بيض النعامة على المحرم القيمة وفي الكتاب رواه عن عمر وبن مسعود رضي الله عنهما أنهما أوجبا في بيض النعامة القيمة.(4/165)
قال: ولو أن المحرم رمى صيدا فجرحه ثم كفر عنه ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه كفارة أخرى لأنه صيد على حاله بعد الجرح الأول وقد انتهى حكم ذلك الجرح بالتكفير فقتله الآن جناية أخرى مبتدأة فيلزمه به كفارة أخرى وإن لم يكفر عنه في الأولى لم يضره ولم يكن عليه في ذلك شيء إذا كفر في هذه الأخيرة إلا ما نقصه الجرح الأول يريد به إذا كفر بقيمة صيد مجروح فأما إذا كفر بقيمة صيد صحيح فليس عليه شيء آخر لأن الفعلين منه جناية في إحرام واحد على محل واحد فيكون بمنزلة فعل واحد فلهذا لا يجب عليه إلا كفارة واحدة وهذا لأن حكم الفعل الأول قبل التكفير باق فيجعل الثاني إتماما له فأما بعد التكفير قد انتهى حكم الفعل الأول فيكون الفعل الثاني جناية بمبتدأة.
قال: محرم جرح صيدا ثم كفر عنه قبل أن يموت ثم مات أجزأته الكفارة التى(4/166)
ص -85- ... أداها لأن سبب الوجوب عليه جنايته على الإحرام بجرح الصيد فإنما أدى الواجب بعد ما تقرر سبب الوجوب فإذا تم الوجوب بذلك السبب جاز المؤدى كما لو جرح مسلما ثم كفر ثم مات المجروح.
قال: وإذا أحرم الرجل وله في منزله صيد لم يكن عليه إرساله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إرساله لأنه متعرض للصيد بامساكه في ملكه وذلك حرام عليه بسبب الإحرام فيلزمه إرساله كما لو كان الصيد في يده بحضرته ولكنا نستدل عليه بالعادة الظاهرة لأن الناس يحرمون ولهم في بيوتهم بروج الحمامات وغيرها ولم يتكلف أحد لإرسال ذلك قبل الإحرام ولا أمر بذلك وهذا لأن المستحق عليه ترك التعرض للصيد لإزالة الصيد عن ملكه وتعرضه إنما يتحقق إذا كان الصيد في يده بحضرته فأما إذا كان الصيد غائبا عنه في بيته لا يكون هو متعرضا له فلا يلزمه إرساله
ألا ترى أنه كما يحرم عليه التعرض للصيد يحرم عليه التطيب ولبس المخيط ولا يلزمه إخراج شيء من ذلك من ملكه قال وللمحرم أن يذبح الشاة والدجاجة لأن هذا ليس من الصيود فإن الصيد اسم لما يكون ممتنعا متوحشا فما لا يكون جنسه ممتنعا متوحشا لا يكون صيدا.
قال: وكذلك البط الذي يكون عند الناس والمراد منه الكسكري الذي يكون في الحياض هو كالدجاج مستأنس بجنسه فأما البط الذي يطير فهو صيد يجب الجزاء فيه على المحرم والحمام أصله صيد يجب على المحرم الجزاء في كل نوع منه وقال مالك رحمه الله تعالى ليس في المسرول من الحمام شيء على المحرم لأنه مستأنس لا يفر من الناس ولكنا نقول الحمام بجنسه ممتنع متوحش فكان صيدا وإن كان بعضه قد استأنس كالنعامة وحمار الوحش وغيرهما.(4/167)
قال: والذي يرخص للمحرم من صيد البحر هو السمك خاصة فأما طير البحر لا يرخص فيه للمحرم ويجب الجزاء بقتله وهذا لأن الله تعالى أباح صيد البحر مطلقا بقوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}[المائدة: 96]الآية فالمحرم والحلال فيه سواء ولأن المحرم بالنص قتل الصيد على المحرم والقتل في صيد البحر لا يتحقق ولأن صيد البحر ما يكون بحري الأصل والمعاش كالسمك فأما الطير فهو بري الأصل بحري المعاش لأن توالده يكون في البر دون الماء فيكون من صيد البر ألا ترى أن ما يكون مائي الأصل وإن كان قد يعيش في البر كالضفدع جعل مائيا باعتبار أصله حتى لا يجب على المحرم بقتله شيء فكذلك ما يكون بري الأصل لا يرخص للمحرم فيه.
قال: محرم اصطاد ظبية فولدت عنده قبل أن يحل أو بعد ما حل ثم ذبحها وولدها في الحل أو في الحرم فعليه جزاؤهما جميعا لأنه حين أخذ الظبية وجب عليه أرسالها لإزالة جنايته وذلك حق مستحق عليه في الحل شرعا فيسري إلى الولد ويجب عليه إرسال ولدها(4/168)
ص -86- ... معها وما كان من الحق المستحق عليه في العين أو في المعنى لا يرتفع بخروجه عن الإحرام فإذا ذبحهما فقد فوت الحق المستحق فيهما شرعا فلهذا وجب عليه جزاؤهما جميعا ألا ترى أنه لو كان الصيد مملوكا لغيره لكان الرد فيهما مستحقا عليه لحق المالك فبذبحهما يلزمه قيمتهما فهذا مثله أو أولى.
قال: وأكره للمحرم أن يشتري الصيد وأنهاه عنه لأن الصيد في حقه محرم العين فلا يكون مالا متقوما كالخمر فلهذا لا يجوز شراؤه أصلا وإن اشتراه من محرم أو حلال فعليه أن يخلي سبيله بمنزلة ما لو أخذه فإن عطب في يده فعليه جزاؤه لجنايته على الصيد بإثبات يده عليه وأنه إتلاف لمعنى الصيدية فيه ويجب على البائع جزاؤه أيضا إن كان محرما لأنه جان على الصيد بتسليمه إلى المشتري مفوت لما كان مستحقا عليه من تخلية سبيله فكان ضامنا للجزاء.
قال: وإن اصطاد المحرم صيدا فحبسه عنده حتى مات فعليه جزاؤه وإن لم يقتله لأنه متلف معنى الصيدية فيه معنى بإثبات يده عليه والإتلاف الحكمي بمنزلة الإتلاف الحقيقي في إيجاب الضمان عليه كما لو قطع إحدى قوائم الظبي.
قال: محرم أو حلال أخرج صيدا من الحرم فإنه يؤمر برده على الحرم لأنه كان بالحرم آمنا صيدا وقد أزال ذلك الأمن عنه بإخراجه فعليه إعادة أمنه بأن يرده إلى الحرم فيرسله فيه وهذا لأن كل فعل هو متعد في فعله فعليه نسخ ذلك الفعل قال صلى الله عليه وسلم: "علي اليد ما أخذت حتى ترد", ونسخ فعله بأن يعيده كما كان.
قال: فإن أرسله في الحل فعليه جزاؤه لأنه ما أعاده آمنا كما كان فإن الأمن كان ثابتا بسبب الحرم فما لم يصل إلى الحرم لا يعود إليه ذلك الأمن ولا يخرج الجاني عن عهدة فعله بمنزلة الغاصب إذا رده على غير المغصوب منه إلا أن يحيط العلم بأنه وصل إلى الحرم سالما فحينئذ يبرأ عن جزائه كما إذا وصل المغصوب إلى يد المغصوب منه.(4/169)
قال: وكل شيء صنعه المحرم بالصيد مما يتلفه أو يعرضه للتلف فعليه جزاؤه إلا أن يحيط علمه بأنه سلم منه فحينئذ يتم انتساخ حكم فعله وذلك بأن يجرحه فتندمل الجراحة بحيث لا يبقى لها أثر أو ينتف ريشه فينبت مكانه آخر أو يقلع سنه فينبت مكانه آخر فحينئذ لا يلزمه شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقاسا هذا بالضمان الواجب في حق العباد فإن ذلك يسقط إذا لم يبق للفعل أثر في المحل فكذا هنا وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يلزمه صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد لأن باندمال الجراحة لم يتبين أن الألم لم يصل إليه وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى اعتبار الألم أيضا في الجناية على حقوق العباد حتى أوجب على الجاني ثمن الدواء وأجرة الطبيب إلى أن تندمل الجراحة.
قال: ولا ينبغي للحلال أن يعين المحرم على قتل الصيد لأن فعل المحرم معصية والإعانة على المعصية معصية فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المعين شريكا. ولأن الواجب عليه أن(4/170)
ص -87- ... يأمره بالمعروف وينهاه عن التعرض للصيد فإذا اشتغل بالإعانة فقد أتى بضد ما هو واجب عليه فكان عاصيا فيه ولكن ليس عليه شيء سوى الاستغفار لأن الاصطياد ليس بحرام عليه إنما المحرم عليه الإعانة على المعصية وذلك موجب للتوبة.
قال: وكذلك لا ينبغي له أن يشتريه منه لأن بيعه حرام على المحرم ولأن في امتناعه عن الشراء زجرا للمحرم عن اصطياده فإنه تقل رغبته في الاصطياد إذا علم أنه لا يشترى منه الصيد وسواء أصاب المحرم الصيد عمدا أو خطأ فعليه الجزاء عندنا وهو قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم وقال بن عباس رضي الله عنهما ليس على المحرم في قتل الصيد خطأ جزاء لظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] فالتقييد بالعمدية لإيجاب الجزاء يمنع وجوبه على المخطى ء ولكنا نقول هذا ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف فيستوي فيه العامد والخاطى ء كغرامات الأموال وهذه كفارة تجب جزاء للفعل فيكون واجبا على المخطى ء كالكفارة بقتل المسلم وهذا لأن الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقا وارتكاب ما هو محرم بسبب الإحرام موجب للجزاء عمدا كان أو خطأ.
فأما تقييده بالعمد في الآية فليس لأجل الجزاء بل لأجل الوعيد المذكور في آخر الآية بقوله عز وجل: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}[المائدة: 95) وهذا الوعيد على العامد دون المخطى ء ثم ذكر العمد هنا للتنبيه لأن الدلالة قد قامت على أن صفة العمدية في القتل مانعة من وجوب الكفارة لتمحض الحظرية فذكره الله هنا حتى يعلم أنه لما وجبت الكفارة هنا إذا كان الفعل عمدا وجب إذا كان خطأ بطريق الأولى.(4/171)
وكذلك إن كان هذا القتل أول ما أصاب أو أصاب قبله شيئا فعليه الجزاء في الوجهين جميعا وكان بن عباس رضي الله عنه يقول يجب الجزاء على المبتدئ بقتل الصيد فأما العائد إليه لا يلزمه الجزاء ولكن يقال له اذهب فينتقم الله منك لظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}[المائدة: 95] ولكنا نقول بأن الإتلاف لا يختلف بين الابتداء والعود إليه وجزاء الجناية يجب عند العود إليها بطريق الأولى لأن جناية العائد أظهر من جناية المبتدئ بالفعل مرة فأما الآية فالمراد من عاد بعد العلم بالحرمة كما في قوله تعالى في آية الربا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}[البقرة: 275] يعنى من عاد إلى المباشرة بعد العلم بالحرمة لا أن يكون المراد العود إلى القتل بعد القتل.
قال: وإذا قتل الحلال الصيد في الحرم فعليه قيمته إلا على قول أصحاب الظواهر وهذا قول غير معتد به لكونه مخالفا للكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] يقال في اللغة إحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى(4/172)
ص -88- ... خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها". فإذا ثبت أمن صيد الحرم بهذه النصوص كان القاتل جانيا بإتلافه محلا محترما متقوما فيلزمه جزاؤه والجزاء قيمة الصيد كما في حق المحرم إلا أن المذهب عندنا أن جزاء صيد الحرم يتأدى بإطعام المساكين ولا يتأدى بالصوم.
وفي التأدي بالهدي روايتان وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتأدى بالصوم أيضا والمذهب عنده أن الواجب هنا الكفارة كالواجب على المحرم لأن الوجوب لمحض حق الله تعالى فيكون الواجب جزاء الفعل بطريق الكفارة بمنزلة ما يجب على المحرم فكما أن ذلك يتأدى بالصوم إذا لم يجد المال عنده فكذلك هنا والمذهب عند الشافعي رحمه الله تعالى أن معنى الغرامة والمقابلة بالمحل يغلب في الفصلين جميعا لأن الواجب مثل المتلف بالنص أما من حيث الصورة أو من حيث القيمة ومثل الشيء إنما يجب في الأصل ليقوم مقامه فكان جانب المحل هو المراعى في الفصلين جميعا.
وقد ثبت في حق المحرم أن الواجب يتأدى بالصوم بالنص فكذلك في صيد الحرم وأما عندنا الواجب على المحرم بطريق الكفارة فالمعتبر فيه معنى جزاء الفعل لأنه لا حرمة في المحل إنما المحرم في المباشر وهو إحرامه ألا ترى أنه بعد ما حل من إحرامه يجوز له الاصطياد وإن لم يتبدل وصف المحل وجزاء الفعل يجب بطريق الكفارة فأما في صيد الحرم وجوب الجزاء باعتبار وصف ثابت في المحل وهو صفة الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم ألا ترى أنه إنما يتغير هذا الحكم بتغير وصف المحل بخروجه من الحرم إلى الحل ألا ترى أنه كما يجب ضمان الصيد بسبب الحرم يجب ضمان النامي من الأشجار النامية في الحرم لما فيها من حياة مثلها وثبوت الأمن لها بسبب الحرم ولا شك أن ما يجب بقطع الأشجار يكون غرم المحل فكذلك ما يجب بقتل صيد الحرم يكون غرم المحل فكان هذا بغرامات المالية أشبه.(4/173)
فكما لا مدخل للصوم في غرامات الأموال وإن كان وجوبها لحق الله تعالى كإتلاف مال الزكاة والعشر فكذلك لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم يقرره وهو أنه لما أزال الأمن عن محل أمن لحق الله تعالى فيلزمه بمقابلته إثبات صفة الأمن عن الجوع للمسكين حقا لله تعالى وذلك بالإطعام يحصل دون الصيام فأما في صيد الإحرام لما كان الواجب لارتكابه فعلا محرما حقا لله تعالى يتأدى ذلك بفعل ما هو مأمور به حقا لله تعالى وهو الصيام وفي الهدي روايتان هنا.
في إحدى الروايتين يقول: لا يتأدى الواجب بإراقة الدم بل بالتصدق باللحم حتى يشترط أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد فإن كان دون ذلك لا يتأدى الواجب به وكذلك إن سرق المذبوح لأنه لا مدخل لإراقة الدم في الغرامات وإنما المعتبر فيه التمليك من المحتاج وذلك يحصل في اللحم.
وفي الرواية الأخرى يقول: يتأدى الواجب بإراقة الدم حتى إذا سرق المذبوح لا يلزمه(4/174)
ص -89- ... شيء ويشترط أن تكون قيمته قبل الذبح مثل قيمة الصيد لأن الهدي مال يجب لله تعالى وإراقة الدم طريق صالح لجعل المال خالصا لله تعالى بمنزلة التصدق ألا ترى أن المضحي يجعل الأضحية خالصا لله تعالى بإراقة دمها؟ فكذلك هنا.
قال: ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس عليه إرساله لأن الأمن بسبب الحرم يثبت لحق الشرع فإنما يثبت في المباح دون المملوك كالأشجار فإن ما ينبته الناس في الحرم لا يثبت فيه حرمة الحرم وقاس هذا بالاسترقاق فإن الإسلام يمنع الاسترقاق لحق الشرع ثم لا يزيل الرق الثابت قبله فكذا هذا ولكنا نقول حرمة الحرم في حق الصيد كحرمة الإحرام فكما أن الحرمة بسبب الإحرام تثبت في حق الصيد المملوك حتى يجب إرساله فكذلك الحرمة بسبب الحرم وليس هذا نظير الأشجار لأن ما ينبته الناس ليس بمحل لحرمة الحرم أصلا بمنزلة الأهلي من الحيوانات كالإبل والبقر والغنم فأما الصيد مملوكا كان أو غير مملوك فهو محل لثبوت الأمن له بسبب الحرم فإن باع الصيد بعد ما أدخله الحرم كان البيع فاسدا يرد إن كان الصيد قائما وإن كان فائتا فعليه جزاؤه لأن حرمة الحرم في الصيد مانعة من بيعه كحرمة الإحرام.
قال: رجل أدخل الحرم بازيا أو صقرا فعليه إرساله لأنه صيد ممتنع فيثبت فيه الأمن بسبب الحرم فعليه إرساله كما لو أخذه في الحرم فإن أرسله فجعل يقتل حمامات الحرم لم يكن عليه في ذلك شيء لأنه بالإرسال ما قصد الاصطياد وإنما قصد مباشرة ما هو مستحق عليه وهو رفع اليد عن الصيد الآمن فلا يكون عليه عهدة ما يفعله الصيد بعد ذلك كمن أعتق عبدا عن كفارته فجعل العبد يرتكب الكبائر لا يكون على المعتق شيء من ذلك فهذا مثله.(4/175)
قال: ولا خير فيما يرخص فيه أهل مكة من الحجل واليعاقيب ولا يدخل الحرم شيئا منها لحديث بن عمر رضي الله عنه أن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أهدى إليه بمكة بيض نعام وظبيين حيين فلم يقبلهما وقال أهديتهما إلي آمنين ما كانا أي ما داما يريد به أنهما صارا آمنين بإدخالهما في الحرم حيين والحجل واليعاقيب من الصيود فبإدخال الحرم إياهما حيين يثبت الأمن فيهما فلا يحل تناول شيء منهما وذلك مروي عن عائشة والحسين بن علي رضي الله تعالى عنه وعادة أهل مكة في هذا الترخيص بخلاف النص فيكون ساقط الاعتبار فإن ذبحهما قبل أن يدخلهما الحرم فلا بأس بتناولهما في الحرم لأنه إنما أدخل اللحم في الحرم واللحم ليس بصيد.
قال: وإن رمى صيدا بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فعليه جزاؤه لأن جزاء صيد الحرم مبني على الاحتياط ولأنه إذا اجتمع المعني الموجب للحظر والموجب للإباحة في شيء واحد يغلب الموجب للحظر لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال"، فلا يحل تناول هذا الصيد لهذا المعنى أيضا.(4/176)
ص -90- ... قال: وإن كان الرامي في الحرم والصيد في الحل فقد بينا أن الاصطياد محرم على من كان في الحرم كما هو محرم على المحرم فهذا وما لو كان الصيد في الحرم سواء وإن كان الرامي في الحل والصيد في الحل إلا أن بينهما قطعة من الحرم فمر فيها السهم فلا شيء عليه ولا بأس بأكله لأنا إن اعتبرنا الرامي فهو حلال في الحل وإن اعتبرنا جانب الصيد فهو صيد الحل وبمرور السهم في هواء الحرم لا تثبت حرمة الحرم في حق الصيد ولا في حق الرامي والسهم ليس بمحل حرمة الحرم فلهذا لا يجب على الرامي شيء ولا بأس بأكله.
قال: وإن جرح صيدا في الحل وهو حلال فدخل الحرم ثم مات فيه لم يكن عليه جزاؤه لأن فعله في وقت الجرح كان مباحا والسراية أثر الفعل فإذا لم يكن أصل فعله موجبا للجزاء لا يكون أثره موجبا كمن جرح مرتدا فأسلم ثم مات وفي القياس لا بأس بأكل هذا الصيد لأن فعله كان مذكيا له موجبا للحل حتى لو مات منه في الحل حل تناوله ولكنه كره أكله استحسانا لما بينا أن حل التناول حكم يثبت عند زهوق الروح عنه وعند ذلك هو صيد الحرم فاعتبار هذا الجانب يحرم التناول واعتبار جانب الجرح يبيح تناوله فيترجح الموجب للحرمة على الموجب للحل.
قال: وإذا ذبح الهدي في جزاء الصيد بالكوفة وتصدق به لم يجزه من الهدي لأن إراقة الدم لا يكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص وهو الحرم كيف وقد نص الله تعالى على التبليغ إلى الحرم هنا بقوله عز وجل: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95]؟ ولكن إن كانت قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد أجزأه من الطعام إذا أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع على قياس كفارة اليمين إذا كسى عشرة مساكين ثوبا واحدا أجزأه من الطعام دون الكسوة إن كانت قيمة ما أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع من حنطة أو أكثر.(4/177)
قال: وإذا أراد الصوم بالكوفة فذلك جائز في حق المحرم لأن الصوم قربة في أي موضع كان فأما صيد الحرم في حق الحلال فقد بينا أنه لا مدخل للصوم فيه إلا أن يكون محرما أصاب الصيد في الحرم فحينئذ تتأدى كفارته بالصوم لأن في حق المحرم لا يظهر حرمة الحرم فالواجب عليه كفارة ألا ترى أنها لا تتجزى فلهذا يتأدى بالصوم وعلى هذا لو دل محرم على صيد في الحرم وجب عليه الجزاء بخلاف الحلال إذا دل على صيد في الحرم لا يلزمه الجزاء كالمحرم بناء على أصله أن الواجب عليه كفارة حتى تتأدى بالصوم فيكون الدال فيه كالمباشر وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا الفصل مثل قول زفر رحمه الله تعالى.
قال: وإذا أكل المحرم من جزاء الصيد فعليه قيمة ما أكل لأن حق الله تعالى بالتصدق تعلق بالمذبوح فإذا صرفه إلى حاجته صار ضامنا قيمته للمساكين وكذلك إن أكله بعد ما ذبحه بمكة فعليه قيمته مذبوحا بخلاف ما إذا سرق فإن الهدي قد بلغ محله حين ذبحه بمكة(4/178)
ص -91- ... وبقي وجوب التصدق معلقا بعين المذبوح فإذا هلك من غير صنعه لا يلزمه شيء وإذا استهلكه بالأكل فعليه ضمان قيمته للفقراء بمنزلة مال الزكاة فإذا تصدق بهذه القيمة على مسكين واحد أجزأه بمنزلة اللحم إذا تصدق به على مسكين بخلاف ما إذا اختار التكفير بالإطعام فإنه لا يجزيه لا أن يطعم كل مسكين نصف صاع لأن طعام الكفارة في حق كل مسكين مقدر بنصف صاع كما في كفارة اليمين.
فأما في الهدي التكفير يحصل بإراقة الدم دون التصدق باللحم ثم التصدق بعد ذلك يلزمه باعتبار أنه صار لله تعالى خالصا فهو بمنزلة الزكاة فإن شاء صرف الكل إلى مسكين واحد وإن شاء فرقه على المساكين وفي التكفير بالطعام إذا أعطى كل مسكين نصف صاع ففضل مد تصدق به على مسكين واحد بمنزلة ما لو كان الواجب هذا المقدار يتصدق به على مسكين واحد وإن اختار الصوم يصوم باعتبار هذا المد يوما كاملا أو يطعم لأن الصوم لا يكون أقل من يوم وله أن يفرق الصوم في جزاء الصيد لأنه مطلق في كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}[المائدة: 95] فإن شاء تابع وإن شاء فرق.
قال: وإذا قتل المحرم الجراد فعليه فيه القيمة لأن الجراد من صيد البر وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال تمرة خير من جرادة وقصة هذا الحديث أن أهل حمص أصابوا جرادا كثيرا في إحرامهم فجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال عمر رضي الله عنه أرى دراهمكم كثيرة يا أهل حمص تمرة خير من جرادة.(4/179)
قال: وليس على المحرم في قتل البعوض والذباب والنمل والحلمة والقراد شيء لأن هذه الأشياء ليست من الصيود فإنها لا تنفر من بني آدم ولو كانت من الصيود كانت مؤذية بطبعها فلا شيء على المحرم فيها وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بعيره في إحرامه وقال بن عباس رضي الله عنه لعكرمة مولاه قم فقرد البعير فقال أنا محرم فقال لو أمرتك بنحره هل كنت تنحره قال نعم فقال كم من قراد وحمنانة تقتل بالنحر بين أنه ليس على المحرم في القراد والحمنانة شيء ويكره له قتل القملة لا لأنه صيد ولكن لأنه ينمو من بدنه فيكون قتله من قضاء التفث والمحرم ممنوع من ذلك بمنزلة إزالة الشعر فإن قتلها فما تصدق به فهو خير من القملة إذ لا خير في القمل كما قال علي رضي الله عنه القملة ضالة لا تلتمس فلهذا يخرج عن الواجب بما يتصدق به من قليل أو كثير.
قال: ولا بأس للمحرم أن يغتسل فإن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم وإنما أورد هذا لأن من الناس من كره ذلك ويقول إن الماء يقتل هوام الرأس وليس كذلك بل الماء لا يزيده إلا شعثا.
قال: ولو أن حلالا أصاب بيضا من بيض الصيد فأعطاه محرما فشواه فعلى المحرم جزاؤه لأن البيض أصل الصيد وقد أفسده المحرم بفعله فعليه جزاؤه ولا بأس بأكله(4/180)
ص -92- ... بخلاف الصيد إذا قتله المحرم لأنه إنما يحرم بفعل المحرم ما يحتاج في حله إلى الذكاة ولا حاجة إلى الذكاة في حل تناول البيض ألا ترى أن المسلم والمجوسي فيه سواء فكذا المحرم والحلال ووجوب الجزاء على المحرم لا يوجب الحرمة كما لو دل حلالا على صيد يلزمه الجزاء ولا يحرم به تناول الصيد.
قال: محرم أصاب صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليه جزاء كل صيد لأنه مرتكب محظور الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاؤه كما لو لم يقصد رفض الإحرام وهذا لأن قصده هذا ليس بشيء لأن إحرامه لا يرتفض بقتل الصيد فكان وجود هذا القصد كعدمه وهو بناء على أصله أن في وجوب الجزاء العبرة للمحل دون الفعل فلا معتبر بقصده إلى الرفض بفعله ولكنا نقول أن قتل الصيد من محظورات الإحرام وارتكاب محظورات العبادة يوجب ارتفاضها كالصوم والصلاة إلا أن الشرع جعل الإحرام لازما لا يخرج منه إلا بأداء الأعمال.
ألا ترى أنه حين لم يكن لازما في الابتداء كان يرتفض بارتكاب المحظور وكذلك الأمة إذا أحرمت بغير إذن مولاها أو المرأة إذا أحرمت بغير إذن زوجها بحجة التطوع لما لم يكن ذلك لازما في حق الزوج كان له أن يحللها بفعل شيء من المحظورات بها فكان هو في قتل الصيود هنا قاصدا إلى تعجيل الإحلال لا إلى الجناية على الإحرام وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في حق المحصر بخلاف ما إذا لم يكن على قصد رفض الإحرام لأنه قصد الجناية على الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاء كل صيد وقد بينا أن حكم جزاء الصيد في حق المحرم ينبني على قصده حتى أن ضارب الفسطاط لا يكون ضامنا للجزاء بخلاف ناصب الشبكة.(4/181)
قال: ولا يتصدق من جزاء الصيد على والده وولده بمنزلة الزكاة وصدقة الفطر فإنه مال وجب التصدق به لحق الله تعالى وإن أعطى منه ذميا أجزأه إلا أن في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى حيث كل صدقة واجبة لا يجوز صرفها إلى فقراء أهل الذمة وقد بينا هذه الفصول في كتاب الصوم فهو على ما ذكرناه ثمة.
قال: وإذا بلغ جزاء الصيد جزورا فهو أحب إلي من أن يشتري بقيمته أغناما لأن المندوب إليه التعظيم في الهدايا قال الله تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32] فما كان أقرب إلى التعظيم فهو أولى وإن اشترى أغناما فذبحها وتصدق بها أجزأه على قياس سائر الهدايا نحو هدي الإحصار وهدي المتعة.
قال: وليس عليه أن يعرف بالجزور في جزاء الصيد ولا أن يقلده لأن سنة التقليد والتعريف فيما يكون نسكا وهذا دم كفارة فلا يسن فيه التعريف والتقليد وإن كان لو فعل ذلك لا يضره وعلى هذا هدي الأحصار والكفارات وكان المعنى فيه أن ما يكون نسكا فالتشهير فيه أولى ليكون باعثا لغيره على أن يفعل مثل ما فعله فأما ما يكون كفارة فسببه(4/182)
ص -93- ... ارتكاب المحظور فالستر على نفسه في مثله أولى من التشهير قال صلى الله عليه وسلم: "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر يستر الله تعالى عليه".
قال: وإذا رمى الصيد وهو حلال ثم أحرم فليس عليه في ذلك شيء لأن فعله في الرمي كان مباحا مطلقا ولأن الجناية على الإحرام بما يتعقبه لا بما يسبقه.
قال: وإذا رمى طائرا على غصن شجرة أصلها في الحرم أو في الحل لم ينظر إلى أصلها ولكن ينظر إلى موضع الطائر فإن كان ذلك الغصن في الحل فلا جزاء عليه وإن كان في الحرم فعليه فيه الجزاء لأن قوام الصيد ليس بالغصن قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}[النحل: 79] فكان المعتبر فيه موضع الصيد فإن كان ذلك الموضع من هواء الحرم فالصيد صيد الحرم وإن كان من هواء الحل فالصيد صيد الحل.
فأما في قطع الغصن فينظر إلى أصل الشجرة فإن كان في الحل فله أن يقطعه وإن كان في الحرم فليس له أن يقطعه لأن قوام الأغصان بالشجرة فينظر إلى أصل الشجرة فيجعل حكم الأغصان حكم أصلها وإن كان بعض الأصل في الحرم وبعضه في الحل فهو من شجر الحرم أيضا لأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحظر والموجب للحل فهو بمنزلة صيد قائم بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم يكون من صيد الحرم بخلاف ما إذا كانت قوائم الصيد في الحل ورأسه في الحرم فإن قوامه بقوائمه دون رأسه إلا أن يكون نائما ورأسه في الحرم فحينئذ قوامه بجميع بدنه فإذا كان جزء منه في الحرم فهو بمنزلة صيد الحرم.
ثم الأصل في حرمة أشجار الحرم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها".
قال هشام: سألت محمدا رحمه الله تعالى عن معنى هذا اللفظ فقال: كل مالا يقوم على ساق.(4/183)
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قطع دوحة كانت في موضع الطواف تؤذي الطائفين فتصدق بقيمتها وحرمة أشجار الحرم كحرمة صيد الحرم فإن صيد الحرم يأوي إلى أشجار الحرم ويستظل بظلها ويتخذ الأوكار على أغصانها فكما تجب القيمة في صيد الحرم على من أتلفه فكذلك تجب القيمة على من قطعه.
وشجر الحرم ما ينبت بنفسه لا ما ينبته الناس فأما ما ينبته الناس عادة ليس له حرمة الحرم سواء أنبته إنسان أو نبت بنفسه لأن الناس يزرعون ويحصدون في الحرم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر فأما ما لا ينبته الناس عادة إذا أنبته إنسان فلا شيء عليه في قطعه أيضا لأنه ملكه والتحق فعله بما ينبته الناس عادة فأما إذا نبت بنفسه فله حرمة الحرم وإن كان مملوكا لإنسان بأن نبت في ملكه حتى قالوا لو نبت في ملك رجل أم غيلان فقطعه إنسان فعليه قيمته لمالكه وعليه قيمة لحق الشرع بمنزلة ما لو قتل صيدا مملوكا في الحرم.(4/184)
ص -94- ... قال: وإن قطع رجلان شجرة من شجر الحرم فعليهما قيمة واحدة على قياس صيد الحرم إذا قتله رجلان إلا أن هنا يستوي إن كانا محرمين أو حلالين بخلاف صيد الحرم لأن حرمة الصيد في حق المحرم بسبب الإحرام فيتكامل على كل واحد منهما فأما حرمة الشجرة بسبب الحرم لأن الإحرام لا يمنع قطع الشجرة فلهذا كان المحرم والحلال في ذلك سواء ويكون الواجب على كل واحد منهما نصف القيمة ولا يجزئ فيه الصيام إنما يهدى أو يطعم على قياس ما بينا في صيد الحرم في حق الحلال.
قال: ولا أحب له أن ينتفع بتلك الشجرة التي أدى قيمتها لأنه لو أبيح له ذلك لتطرق الناس إلى مثله فلا تبقى أشجار الحرم وفي ذلك إيحاش صيد الحرم ولكنه لو انتفع بها فلا شيء عليه لأن المقطوع صار مملوكا له بما غرم من القيمة وليس للمقطوع حرمة الحرم بعد القطع فلا شيء عليه في الانتفاع ألا ترى أنه لو ذبح صيد الحرم ثم تناوله بعد ما أدى الجزاء لم يلزمه بالتناول شيء فهذا مثله فإن غرسها فنبتت فله أن يقطعها ويصنع بها ما شاء لأن المقطوع ملكه وهو الذي أنبته وقد بينا أن ما ينبته الناس لا يثبت فيه حرمة الحرم.
قال: وما تكسر من شجر الحرم ويبس حتى سقط فلا بأس بالانتفاع به لأن ثبوت الحرمة بسبب الحرم بما يكون ناميا فيه حياة مثله والمتكسر وما يبس ليس فيه معنى النمو فلا بأس بالانتفاع به.
قال: ولا يختلي حشيش الحرم ولا يقطع إلا الأذخر فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيه وإنما أراد به ما روي أن العباس رضي الله عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها" قال إلا الأذخر يا رسول الله فإنها لقبورهم وبيوتهم أو لبيوتهم وقبورهم فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا الأذخر" وتأويل هذا أنه كان من قصده صلى الله عليه وسلم أن يستثني إلا أن العباس سبقه لذلك أو كان أوحى إليه أن يرخص فيما يستثنيه العباس رضي الله عنه.(4/185)
وكما لا يرخص في قطع الحشيش في الحرم بالمنجل فكذلك لا يرخص في رعي الدواب في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بالرعي لأن الذين يدخلون الحرم للحج أو العمرة يكونون على الدواب ولا يمكنهم منع الدواب من رعي الحشيش ففي ذلك من الحرج ما لا يخفى فيرخص فيه لدفع الحرج وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا بأس بأن يحتش ويرعى لأجل البلوى والضرورة فيه فإنه يشق على الناس حمل علف الدواب من خارج الحرم ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها".
وفي الاحتشاش ارتكاب النهي وكذلك في رعي الدواب لأن مشافر الدواب كالمناجل وإنما تعتبر البلوى فيما ليس فيه نص بخلافه فأما مع وجود النص لا معتبر به.
قال: ولا بأس بأخذ الكمأة في الحرم لأنه ليس من نبات الأرض بل هو مودع فيه.(4/186)
ص -95- ... وكذلك لا بأس بأخذ حجارة الحرم وقد نقل عن بن عباس وبن عمر رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك ولكنا نأخذ بالعادة الجارية الظاهرة فيما بين الناس بإخراج القدور ونحوها من الحرم ولأن الانتفاع بالحجر في الحرم مباح وما يجوز الانتفاع به في الحرم يجوز إخراجه من الحرم أيضا ثم حرمة الحرم خاصة بمكة عندنا وليس للمدينة حرمة الحرم في حق الصيود والأشجار ونحوها.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى للمدينة حرمة الحرم حتى أن من قتل صيدا فيها فعليه الجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها"، يعنى المدينة وقال: "من رأيتموه يصطاد في المدينة فخذوا ثيابه"، وحجتنا في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الصبيان بالمدينة طائرا فطار من يده فجعل يتأسف على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، اسم ذلك الطير وهو طير صغير مثل العصفور ولو كان للصيد في المدينة حرمة الحرم لما ناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا ولأن هذه بقعة يجوز دخولها بغير إحرام فتكون قياس سائر البلدان بخلاف الحرم فإنه ليس لأحد أن يدخلها إلا محرما.(4/187)
قال: وإذا قتل المحرم البازي المعلم فعليه فيه الكفارة غير قيمته معلما لأن وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فكونه معلما صفة عارضة ليست من الصيدية في شيء لأن معنى الصيدية في تنفره وبكونه معلما ينتقص ذلك ولا يزداد لأن توحشه من الناس يقل إذا كان معلما فلا يجوز أن يكون ذلك زائدا في الجزاء بخلاف ما إذا كان مملوكا لإنسان فإن متلفه يغرم قيمته معلما لأن وجوب القيمة هناك باعتبار المالية وماليته بكونه منتفعا به وذلك يزداد بكونه معلما وكذلك الحمامة إذا كانت تجيء من موضع كذا ففي ضمان قيمتها على المحرم لا يعتبر ذلك المعنى وفي ضمان قيمتها للعباد يعتبر فأما إذا كانت تصوت فتزداد قيمتها لذلك ففي اعتبار ذلك في الجزاء روايتان في إحدى الروايتين لا يعتبر لأنه ليس من معنى الصيدية في شيء وفي رواية أخرى يعتبر لأنه وصف ثابت بأصل الخلقة بمنزلة الحمام إذا كان مطوقا.
قال: وإذا اضطر المحرم إلى قتل الصيد فلا بأس بأن يقتله ليأكل من لحمه ويؤدي الجزاء وقد بينا هذا فيما سبق أورد في كتاب اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أنه إذا اضطر إلى ميتة أو صيد فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يتناول من هذا الصيد ويؤدي الجزاء وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتناول من الميتة لأنه لو قتل الصيد صار ميتة فيكون جامعا بين أكل الميتة وقتل الصيد وله عن أحدهما غنية بأن يتناول الميتة ولكنا نقول حرمة الميتة أغلظ. ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام وحرمة الميتة لا فعليه أن يتحرز عن أغلظ الحرمتين بالإقدام على أهونهما وقتل الصيد وإن(4/188)
ص -96- ... كان محظور الإحرام ولكنه عند الضرورة لا بأس به كالحلق عند الأذى فلهذا يقتل الصيد ويتناول من لحمه ويؤدي الجزاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب المحصر
قال رضي الله عنه الأصل في حكم الإحصار قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196] أي منعتم من إتمامهما {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ثم تحلقون لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196].
فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشتري له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه وهذا قول علمائنا رحمهم الله تعالى أن هدي الإحصار مختص بالحرم.
وعلى قول الشافعي رضي الله عنه: لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه وحجته في ذلك حديث بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي في الموضع الذي أحصر فيه ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن أن لا يفي المبعوث على يده أو يهلك الهدي في الطريق وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] بعد ما ذكر الهدايا.(4/189)
ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو أيام النحر ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث أنه تحلل به عن الإحرام وذلك يختص بالحرم فكذا هذا وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر.
فروي أنه بعث الهدايا على يدي ناجية لينحرها في الحرم حتى قال ناجية ماذا أصنع فيما يعطب منها؟ قال: "انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحة سنامها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا" وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح: 25].
فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل ونصفها من الحرم ومضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه كان في الحرم فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم فلا يكون للخصم فيه حجة وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم.(4/190)
ص -97- ... قال: ثم إذا بعث بالهدي إلى الحرم فذبح عنه فليس عليه حلق ولا تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا وقال الشافعي رحمه الله تعالى الحلق نسك فعلى المحصر أن يأتي به ثم عليه عمرة وحجة هكذا روي عن بن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهما أما قضاء الحج فإن كان محرما بحجة الإسلام فقد بقيت عليه حين لم تصر مؤداة وإن كان محرما بحجة التطوع فعليه قضاؤها عندنا لأنه صار خارجا منها بعد صحة الشروع قبل أدائها وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب عليه القضاء وهو نظير الشارع في صوم التطوع إذا أفسده وقد بيناه في كتاب الصوم وأما قضاء العمرة فلأنه صار في معنى فائت الحج حين كان خروجه بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال وعلى فائت الحج أعمال العمرة فإذا لم يأت بها كان عليه قضاء العمرة أيضا.
قال: وإذا بعث بالهدي فإن شاء أقام مكانه وإن شاء رجع لأنه لما صار ممنوعا من الذهاب يخير بين المقام والانصراف وهذا إذا كان محصرا بعدو وفإن كان محصرا بمرض أصابه فعندنا هو والمحصر بالعدو سواء يتحلل ببعث الهدي وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمريض أن يتحلل إلا أن يكون شرط ذلك عند إحرامه ولكنه يصبر إلى أن يبرأ فإن هذا حكم ثابت بالنص من الكتاب والسنة والآية في الإحصار بالعدو بدليل قوله تعالى في آخر الآية: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196].(4/191)
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محصرا بالعدو ففيما لم يرد فيه النص يتمسك بالأصل وهو لزوم الإحرام إلى أن يؤدي الأفعال إلا أن يشترط ذلك عند الإحرام فحينئذ يصير التحلل له حقا بالشرط لما روي أن ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها كانت شاكية فقال لها: "أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبست". فلو كان لها أن تتحلل من غير شرط لما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرط والمعنى فيه أن ما ابتلى به لا يزول بالتحلل فلا يكون له أن يتحلل كالذي ضل الطريق أو أخطأ العدد أو سرقت نفقته بخلاف المحصر بالعدو فإن ما ابتلي به هناك يزول بالتحلل لأنه يرجع إلى أهله فيندفع شر العدو عنه.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196]. فإن أهل اللغة يقولون إن الإحصار لا يكون إلا في المرض ففي العدو يقال حصر فهو محصر وفي المرض يقال أحصر فهو محصر وقال الفراء رحمه الله تعالى يقال في العدو والمرض جميعا أحصر وحصر في العدو خاصة فقد اتفقوا على أن لفظة الإحصار تتناول المرض وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}[البقرة: 196] لا يمنع من حمله على المرض ومعناه: إذا برئتم قال صلى الله عليه وسلم: "الزكام أمان من الجذام والدمامل أمان من الطاعون"، فعرفنا أن لفظة الأمن تطلق في المرض.
وفي الحديث عن الحجاج بن عمر رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل", فذكر ذلك لابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقالا: صدق.(4/192)
ص -98- ... وعن الأسود بن يزيد قال خرجنا من البصرة عمارا أي معتمرين فلدغ صاحب لنا فأعرضنا الطريق لنسأل من نجده فإذا نحن بركب فيهم بن مسعود رضي الله تعالى عنه فسألناه عن ذلك فقال ليبعث صاحبكم بدم ويواعد المبعوث على يديه أي يوم شاء فإذا ذبح عنه حل والمعنى فيه أن المعنى الذي لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود هنا وهو زيادة مدة الإحرام عليه لأنه إنما التزم إلى أن يؤدي أعمال الحج وبتعذر الأداء تزداد مدة الإحرام عليه ويلحقه في ذلك ضرب مشقة فأثبت له الشرع حق التحلل وهذا المعنى موجود هنا فقد يزداد عليه مدة الإحرام بسبب المرض والمشقة عليه في المكث محرما مع المرض أكثر فيثبت له حق التحلل بطريق الأولى.
والدليل على أن المعنى هذا لا ما قال إن العدو إذا أحاطوا به من الجوانب الأربعة أو حبسوه في موضع لا يزول ما به بالتحلل بأن إن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله مع ذلك يثبت له حق التحلل عرفنا أن المعنى ما قلنا فأما الذي ضل الطريق عندنا فليس محصرا لأنه إن وجد من يبعث بالهدي على يده فذلك الرجل يهديه إلى الطريق فلا حاجة به إلى التحلل وإن لم يجد من يبعث بالهدي على يديه فإنما يتحلل لعجزه عن تبليغ الهدي محله والذي أخطأ العدد فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة.
فأما إذا سرقت نفقته فذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إن كان يقدر على المشي فليس له أن يتحلل بالهدي وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر يتحلل بالهدي وهكذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إلا أنه قال إن كان يعلم أنه يقدر على المشي إلى البيت يلزمه المشي وإلا فلا ولا يبعد أن لا يلزمه المشي في الابتداء ويلزمه بعد الشروع كما لا يلزمه حجة التطوع ابتداء ويلزمه الإتمام إذا شرع فيها والفقير لا يلزمه حجة الإسلام ويلزمه الاتمام إذا شرع فيها.(4/193)
قال: وإذا كان محرما بعمرة فأحصر يتحلل بالهدي إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول حكم الإحصار لمن يخاف الفوت والمعتمر لا يخاف الفوت ولكنا نقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر بالحديبية كان محرما بالعمرة وقد بينا حديث بن مسعود رضي الله عنه في الملدوغ والمعنى فيه زيادة مدة الإحرام عليه والمعتمر في هذا كالحاج فيتحلل بالهدي إلا أنه إذا بعث بالهدي هنا يواعد صاحبه يوما أي يوم شاء لأن عمل العمرة لا يختص بوقت فكذا الهدي الذي يتحلل به عن إحرام العمرة بخلاف المحصر بالحج على قولهما لأن أعمال الحج مختصة بوقت الحج فكذلك الهدي الذي به يتحلل مؤقت بيوم النحر وإذا حل من عمرته فعليه عمرة مكانها لأن الشروع فيها قد صح.
قال: والقارن يبعث بهديين لأنه محرم بإحرامين وتحلله عن كل واحد منهما يحصل قبل أداء الأعمال فلهذا يبعث بهديين وإذا تحلل بهما فعليه عمرتان وحجة يقضيهما بقران أو(4/194)
ص -99- ... إفراد لما بينا أن إحدى العمرتين تلزمه للتحلل عن العمرة بعد الشروع فيها والأخرى للتحلل عن إحرام الحج وقد بينا في المفرد بالحج أن عليه عمرة وحجة إذا تحلل بالهدي.
قال: وإن بعث القارن بهدي واحد ليتحلل به من أحد الإحرامين لا يصح ذلك ولا يتحلل به لأن أوان التحلل من الإحرامين في حق القارن واحد كما قال صلى الله عليه وسلم: "فلا أحل منهما" وبالهدي الواحد لا يتحلل منهما فلا يكون له أن يتحلل أصلا.
قال: وإذا بعث بهديين فلا يحتاج إلى أن يعين الذي للعمرة منهما والذي للحج لأن هذا التعيين غير مفيد فلا يعتبر أصلا ثم المذهب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن دم الإحصار لا يختص بيوم النحر حتى لو واعد المبعوث على يده بأن يذبح عنه في أول أيام العشر جاز وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يختص بيوم النحر فالإهداء دم يتحلل به من إحرام الحج فيختص بيوم النحر كهدي المتعة والقران.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن الله تعالى نص في هدي الإحصار على مكان بقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196]. فالتقيد بالزمان يكون زيادة عليه فلا يثبت بالرأي ثم هذا بمنزلة دماء الكفارات فإنه يجب للإحلال قبل أوانه ولهذا لا يباح التناول منه ودماء الكفارات تختص بالحرم ولا تختص بيوم النحر بخلاف دم المتعة والقران فإنه نسك يباح التناول منه بمنزلة الأضحية إذا عرفنا هذا فنقول إذا بعث بالهدي ثم زال الإحصار فالمسئلة على ثلاثة أوجه.
إن كان يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا فعليه أن يتوجه لأداء الحج وليس له أن يتحلل بالهدي لأن ذلك كان للعجز عن أداء الحج فكان في حكم البدل وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فسقط اعتبار البدل ويلزمه أن يتوجه فإذا أدرك هديه صنع به ما شاء لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود وقد استغنى عنه.(4/195)
وإن كان لا يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا لا يلزمه التوجه لأن العجز عن أداء الأعمال لم ينعدم بزوال الإحصار فكان له أن يتحلل بالهدي وإن توجه ليتحلل بأعمال العمرة فله ذلك لأنه فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة وله في هذا التوجه غرض وهو أن لا يلزمه قضاء العمرة.
وأما إذا قدر على إدراك الحج ولم يقدر على إدراك الهدي وإنما يتصور هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا عندهما لأن عندهما هذا الهدي يختص بيوم النحر فلا يتصور إدراك الحج دون الهدى ثم في القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه أن يتوجه وليس له أن يتحلل بالهدي وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن العجز عن أداء الأعمال قد ارتفع بزوال الإحصار وقد بينا أن حكم البدل يسقط اعتباره إذا قدر على الأصل فيلزمه أن يتوجه ولكنه استحسن فقال له أن يتحلل بالهدي لأنه لو توجه ضاع ما له فإن(4/196)
ص -100- ... الهدي ملكه جعله لمقصود وهو التحلل فإن كان لا يدركه ولا يتحلل به يضيع ماله وحرمة المال كحرمة النفس فكما كان الخوف على نفسه عذرا له في التحلل فكذلك الخوف على ماله والأفضل له أن يتوجه لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد وهو أداء ما شرع فيه.
قال: وكذلك المرأة تحرم بالحج وليس لها محرم ولا زوج يخرج معها فهي بمنزلة المحصر وهذا بناء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج لسفر الحج إلا مع محرم أو زوج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا وجدت رفقة نساء ثقات فلها أن تخرج وإن لم تجد محرما واحتج في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة فاشتراط المحرم يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة تعدل عندكم النسخ ثم هذا سفر لإقامة الفرض فلا يشترط فيه المحرم كسفر الهجرة فإن التي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دار الإسلام بغير محرم وهذا لأن شرائط إقامة الفرض ما يكون في وسع المرء عادة ولا ولاية لها على المحرم في إحرامه ولا يجب على المحرم الخروج معها وليس عليها أن تتزوج لأجل هذا الخروج بالاتفاق فعرفنا أن المحرم ليس بشرط إلا أن عليها أن تتحرز عن الفتنة وفي اختلاطها بالرجال فتنة وهي تستوحش بالوحدة فتخرج مع رفقة نسوة ثقات لتسأنس بهن ولا تحتاج إلى مخالطة الرجال.(4/197)
وحجتنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها". فقام رجل فقال: إني أريد الخروج في غزوة كذا وإن امرأتي تريد الحج فماذا أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أخرج معها لا تفارقها", ففي هذا دليل على أنهم فهموا من السفر الذي ذكره سفر الحج حتى قال السائل ما قال وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوج بأن يترك الغزو ويخرج معها دليل على أنه ليس لها أن تخرج إلا مع زوج أو محرم والمعنى في ذلك أنها تنشئ سفرا عن اختيار فلا يحل لها ذلك إلا مع زوج أو محرم كسائر الأسفار بخلاف المهاجرة فإنها لا تنشئ سفرا ولكنها تقصد النجاة.
ألا ترى أنه لو وصلت إلى جيش من المسلمين في دار الحرب حتى صارت آمنة لم يكن لها أن تسافر بعد ذلك من غير محرم ولأنها مضطرة هناك لخوفها على نفسها ألا ترى أن العدة هناك لا تمنعها من الخروج وهنا لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج وتأثير فقد المحرم في المنع من السفر كتأثير العدة فإذا منعت من الخروج لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقد المحرم وهذا لأن المرأة عرضة للفتنة وباجتماع النساء تزداد الفتنة ولا ترتفع إنما ترتفع بحافظ يحفظها ولا يطمع فيها وذلك المحرم وتفسيره من لا يحل له نكاحها على التأبيد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة ألا ترى أنه يجوز له أن يخلو بها لأنه لا يطمع فيها إذا علم أنها محرمة عليه أبدا فكذلك يسافر بها.(4/198)
ص -101- ... قال: ويستوي أن يكون المحرم حرا أو مملوكا مسلما أو كافرا لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه إلا أن يكون مجوسيا فحينئذ لا تخرج معه لأنه يعتقد إباحتها له فلا ينقطع طمعه عنها فلهذا لا تسافر معه ولا يخلو بها إذا عرفنا هذا فنقول إذا لم تجد المحرم وقد أحرمت بحجة الإسلام فهي ممنوعة من الخروج شرعا فصارت كالمحصر تبعث بالهدي فتتحلل به.
وإن كانت ذات زوج وأرادت أن تخرج لحجة الإسلام مع المحرم فليس للزوج أن يمنعها من الخروج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى له أن يمنعها من الخروج لأنها صارت كالمملوكة له بعقد النكاح وثبت له حق الاستمتاع بها فهي بهذا الخروج تحول بين الزوج وبين حقه أو تلزمه مشقة السفر فكان له أن يمنعها من ذلك كما يمنعها من الخروج لزيارة الأقارب وكما يمنعها من الخروج لحجة التطوع.
لكنا نقول: فرض الحج يتوجه عليها باستجماع الشرائط فكان ذلك مستثنى من حق الزوج وبسبب عقد النكاح لا يثبت عليها للزوج ولاية المنع من أداء الفرائض ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام شهر رمضان والمولى لا يمنع مملوكه من أداء الصلاة لأن ذلك مستثنى من حقه فهذا مثله بخلاف ما إذا لم تجد محرما فإن هناك الفرض لم يتوجه عليها لانعدام شرائطه حتى لو كانت لا تحتاج إلى سفر بأن كان بينها وبين مكة دون مسيرة ثلاثة أيام فليس للزوج أن يمنعها وإن لم تجد محرما لأن اشتراط المحرم للسفر لا لما دونه.(4/199)
وأما حج التطوع فالخروج لأجله لم يصر مستثنى من حق الزوج لأن ذلك ليس بفرض عليها فإذا أحرمت بحجة التطوع كان للزوج أن يمنعها ويحللها إلا أن هنا لا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي ولكن يحللها من ساعته وعليها هدي لتعجيل الإحلال وعمرة وحجة لصحة شروعها في الحج بخلاف حجة الإسلام لأن هناك لا تتحلل إلا بالهدي لأن هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت محرما وإنما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم فلا تتحلل إلا بالهدي وهنا تعذر الخروج لحق الزوج وكما لا يكون لها أن تبطل حق الزوج لا يكون لها أن تؤخر حق الزوج فكان له أن يحللها من ساعته وتحليله لها أن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها في الإحرام من قص ظفر ونحوه ولا يكون التحليل بالنهي ولا بقوله حللتك لأن عقد الإحرام قد صح فلا يصح الخروج إلا بارتكاب محظوره وذلك لا يحصل بقوله حللتك وهو نظير الصوم إذا صح الشروع فيه لا يصير خارجا إلا بارتكاب محظوره حتى أن الزوج لو نهاها عن صوم التطوع لا تصير خارجة عن الصوم بمجرد نهيه وكذلك المملوك يهل بغير إذن مولاه فللمولى أن يحلله لقيام حقه في خدمته ومنافعه والمملوك في هذا كالزوجة في حجة التطوع على ما بينا.
قال: والمحصر بالحج إذا بعث بهديين حل بأولهما لأنه ما لزمه للتحلل إلا هدي واحد والأول منهما معين لأداء الفرض والثاني يكون تطوعا والإحلال لا يتوقف على هدي التطوع.(4/200)
ص -102- ... قال: وإن حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم لإحلاله لأنه حل قبل أوانه كما قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه لأن ذبح الهدي متعين للتحلل فلا يحل بغيره كطواف الزيارة لما كان متعينا للإحلال به في حق النساء لا يحصل الإحلال بغيره.
قال: وإن كان المحصر معسرا لم يحل أبدا إلا بدم لأن الدم متعين لإحلاله بالنص كما أن طواف الزيارة متعين لإحلاله في حق النساء فكما لا يحصل الإحلال بغيره هناك فكذلك هذا وكان عطاء رحمه الله تعالى يقول إذا عجز عن الهدي نظر إلى قيمة الهدي فجعل ذلك طعاما يطعم به المساكين كل مسكين نصف صاع أو يصوم مكان طعام كل مسكين يوما فيتحلل به بمنزلة الهدي في جزاء الصيد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي وهذا أحب إلي وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان أحدهما هكذا والثاني أنه إذا عجز عن الهدي صام مكانه عشرة أيام على قياس هدي المتعة لكنا نقول هذا كله قياس المنصوص على المنصوص ولا يجوز ذلك بل المرجع في كل موضع إلى ما وقع التنصيص عليه ولا يجوز العدول عنه إلى غيره.
قال: وكل شيء صنعه المحصر قبل أن يحل فهو بمنزلة المحرم الذي ليس بمحصر وكذلك إن ذبح عن المحصر هديه في غير الحرم فإنه يبقى حراما على حاله حتى يبعث بهدي فيذبح عنه في الحرم وإن كان قد حل قبل ذلك فعليه دم لإحلاله سواء كان عالما به أو لم يكن عالما.(4/201)
قال: ويجزئه في هدي الإحصار الجذع العظيم من الضأن والثني من غيرها لما روي عن بن عباس رضي الله عنه قال ما استيسر من الهدي شاة وعن جابر رضي الله عنه قال أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سبعة من الصحابة في بدنة عام الحديبية فتبين بهذا أن الواجب هنا ما يجزى في الضحايا والذي يجزى في الضحايا ما سمينا فكذا هنا وإن سرق الهدي بعد ما ذبح عنه فليس عليه شيء لأنه بلغ محله فإن أكل منه الذي ذبحه بعد ما ذبح فهو ضامن لقيمة ما أكل يتصدق به عن المحصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمبعوث على يده: "لا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا" ولأنه قد لزمه التصدق بجميع اللحم عن المحصر فإذا أكل منه شيئا كان ضامنا بدله وحكم البدل حكم المبدل فعليه أن يتصدق ببدله عن المحصر أيضا.
قال: وإن قدم مكة قارنا فطاف وسعى لعمرته وحجته ثم خرج إلى بعض الآفاق قبل أن يقف بعرفة فأحصر فإنه يبعث بالهدي ويحل به وعليه حجة وعمرة مكان حجته وليس عليه عمرة مكان عمرته لأنه فرغ من عمرته حين طاف لها وسعى وإنما بقى عليه للعمرة الحلق أو التقصير فلهذا لا يبعث بهدي لأجل العمرة وإنما يبعث بالهدي للتحلل عن إحرام الحج.
فإن قيل: أليس أنه طاف وسعى لحجته فينبغي أن يكفيه ذلك للتحلل كما في فائت الحج؟(4/202)
ص -103- ... قلنا: ما أتى به من الطواف لم يكن واجبا بل كان ذلك طواف التحية ولا يجوز أن يتحلل بمثله فلهذا يبعث بالهدي للتحلل من الإحرام للحج ولهذا كان عليه قضاء عمرة لأن ذلك الطواف والسعي صار وجوده كعدمه في حكم الإحصار فعليه عمرة وحجة وعليه دم لتقصيره في غير الحرم وهذا الدم إنما يلزمه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن عندهما الحلق للعمرة يتوقت بالحرم خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا.
قال: فإذا وقف بعرفة ثم أحصر لم يكن محصرا لأن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196] أي منعتم عن إتمام الحج والعمرة وقال صلى الله عليه وسلم: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، فإنما منع هذا بعد الإتمام فلهذا لا يكون محصرا ولأن حكم الإحصار إنما يثبت عند خوف الفوت وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت فلا يكون محصرا ولكنه يبقى محرما إلى أن يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة وطواف الصدر ويحلق أو يقصر وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار دم ولتأخير الطواف دم ولتأخير الحلق دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شيء وقد تقدم بيان هذه الفصول.
فإن قيل: أليس أنكم قلتم إذا ازدادت عليه مدة الإحرام يثبت حكم الإحصار في حقه وقد ازدادت مدة الإحرام هنا فلماذا لا يثبت حكم الإحصار في حقه.
قلنا لا كذلك فإنه يتمكن من التحلل بالحلق إلا من النساء وإن كان يلزمه بعض الدماء فلا يتحقق العذر الموجب للتحلل هنا.(4/203)
قال: وإذا قدم مكة فأحصر بها لم يكن محصرا وذكر علي بن الجعد عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن المحرم يحصر في الحرم فقال لا يكون محصرا فقلت: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية وهي من الحرم؟ فقال: إن مكة يومئذ كانت دار الحرب فأما اليوم فهي دار الإسلام فلا يتحقق الإحصار فيها قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وإنما أنا أقول إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر والأصح أن يقول إذا كان محرما بالحج فإن منع من الوقوف وطواف الزيارة جميعا فهو محصر وإن لم يمنع من أحدهما لا يكون محصرا لأنه إن لم يكن ممنوعا من الطواف يمكنه أن يصبر حتى يفوته الحج فيتحلل بالطواف والسعي وإن لم يكن ممنوعا من الوقوف يمكنه أن يقف بعرفة ليتم حجه وإن كان ممنوعا منهما فقد تعذر عليه الإتمام والتحلل بالطواف فيكون محصرا كما لو أحصر في الحل.
قال: رجل أهل بعمرتين معا فسار إلى مكة ليقضيهما ثم أحصر قال يبعث بالهدي لواحد والأصل في هذه المسألة أن نقول من أحرم بعمرتين معا أو بحجتين معا انعقد إحرامه بهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي(4/204)
ص -104- ... رحمهما الله تعالى: ينعقد إحرامه بأحدهما لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء الأفعال به ولا يتصور أداء حجتين في سنة واحدة ولا أداء عمرتين في وقت واحد والعقد إذا خلا عن مقصوده لا يكون منعقدا أصلا فإذا خلا أحد العقدين هنا عما هو مقصود لم ينعقد الإحرام إلا بأحدهما.
وقاسا بالصوم والصلاة فإن من شرع في صومين في يوم واحد وفي صلاتين بتكبيرة واحدة لا يصير شارعا إلا في أحدهما وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى واضح لأن عنده الإحرام من الأركان ولهذا لا ينعقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عنده وعند محمد رحمه الله تعالى وإن كان الإحرام من الشرائط ففي بعض الأحكام جعل من الأركان ألا ترى أن فائت الحج ليس له أن يستديم الإحرام إلى أن يؤدي الحج به في السنة القابلة ولو كان من الشرائط لكان له ذلك كما في الطهارة للصلاة فإذا كان من الأركان فهو بمنزلة سائر الأعمال لا يتصور اجتماع المثنى منه في وقت واحد كالوقوف لحجتين والطواف لعمرتين.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا: لا تنافي بين العقدين بدليل أنه يثبت أحدهما وهما متساويان والأصل أنه إذا كان منافاة بين العقدين المتساويين أن لا يثبت أحدهما كنكاح الأختين معا وإذا ثبت أنه لا منافاة انعقد الإحرام.
ثم أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام والتنافي بينهما في أداء الأفعال وإذا كان أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام لا يمنع انعقاد الإحرام بهما بخلاف الصوم والصلاة فالشروع هناك من الأداء ويتصل به الأداء والوقت معيار الصوم فلا يتصور أداء الصومين في وقت واحد.
ثم الإحرام سبب لالتزام الأداء من غير أن يتصل به الأداء فيكون بمنزلة النذر والنذر بالعمرتين صحيح وقد بينا فيما سبق أن الإحرام من جملة الشرائط ابتداء وإن أعطى له حكم الأركان انتهاء فكان بمنزلة الطهارة للصلاة فلا تتحقق المنافاة فيه كمن تطهر لأداء الصلاتين.(4/205)
إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى من عقد إحرامه بهما يصير رافضا لأحدهما لأنه كما فرغ من الإحرام جاء أو إن أداء الأعمال والمنافاة متحققة فيصير رافضا لأحدهما وعليه دم لرفضها ويمضي في الآخر فإن كان أحرم بعمرتين فعليه قضاء العمرة التي رفضها وإن كان إحرامه بحجتين فعليه قضاء عمرة وحجة لرفض أحدهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يشتغل بالعمل للآخر.
ففي ظاهر الرواية: كما يسير إلى مكة لأداء الأعمال يصير رافضا لأحدهما وفي الرواية الأخرى ما لم يأخذ في الطواف لا يصير رافضا لأحدهما لأنه لما لم يتناف الإحرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء بل البقاء أسهل من الابتداء وإنما المنافاة في الأعمال فما لم يشتغل بعمل أحدهما لا يصير رافضا للآخر.(4/206)
ص -105- ... وفائدة هذا الاختلاف إنما تظهر فيما إذا أحصر قبل أن يسير إلى مكة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث بهديين للتحلل لأنه محرم بإحرامين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما فإنما أحصر وهو حرام بإحرام واحد وعند محمد رحمه الله تعالى لم ينعقد إلا إحرام واحد فلا يبعث إلا بهدي واحد وإن كان سار إلى مكة ثم أحصر فإنما يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار في عمل الآخر فعليه دم للرفض ودم آخر للتحلل فأما حكم القضاء فإن كان أهل بعمرتين فعليه قضاء عمرتين وإن كان أهل بحجتين فعليه قضاء حجتين وعمرتين.
قال: رجل أهل بشيء واحد لا ينوي حجة ولا عمرة ينعقد إحرامه مع الإبهام لما روي أن عليا وأبا موسى رضي الله عنهما لما قدما من اليمن قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم أهللتما؟" قالا: أهللنا بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم إحرامهما مع الإبهام وقد بينا أن الإحرام بمنزلة الشرط للنسك ابتداء والإبهام فيه لا يمنع صحته كالطهارة للصلاة وبعد ما انعقد الإحرام مبهما فللخروج منه طريقان شرعا إما الحج أو أعمال العمرة فيتخير بينهما إن شاء خرج عنه بأعمال العمرة وإن شاء بأعمال الحج وكان تعيينه في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء فإن أحصر قبل أن يعين شيئا فعليه أن يبعث بهدي واحد لأنه محرم بإحرام واحد فالتحلل عن إحرام واحد وعليه قضاء عمرة استحسانا وفي القياس عليه قضاء حجة وعمرة لأن إحرامه إن كان للحج فعليه قضاء حجة وعمرة والأخذ بالاحتياط في قضاء العبادات واجب ولكنه استحسن فقال المتيقن به يصير دينا في ذمته فقط والمتيقن العمرة ولما كان متمكنا من الخروج عن عهدة هذا الإحرام قبل الإحصار بأداء العمرة فكذلك بعد الإحصار يتمكن من الخروج عن هذه العهدة بأداء العمرة.(4/207)
قال: وإن لم يحصر فهو على خياره ما لم يطف بالبيت فإن طاف بالبيت قبل أن ينوي شيئا فهي عمرة لأن طواف العمرة واجب والتحية في الحج ليس بواجب فلا تتحقق المعارضة بين الواجب وبين ما ليس بواجب فلهذا جعلنا طوافه للعمرة ويحصل التعيين به.
قال: وكذلك إذا جامع قبل التعيين فعليه دم الجماع والمضي في أعمال العمرة وقضاء عمرة لأنه لا يلزمه إلا المتيقن به إذا آل الأمر إلى أن يصير دينا والمتيقن هو العمرة فلهذا تعين إحرامه للعمرة ولأنه لو تعين للحج وقد أفسدها بالجماع في هذه السنة فيفوته الحج بصفة الصحة أصلا في هذه السنة وإذا تعين للعمرة لا يفوته شيء فلهذا تعين إحرامه للعمرة.
قال: ولو أهل بشيء واحد كما بينا وسمى ثم نسيه وأحصر بعث بهدي واحد لما بينا أنه محرم بإحرام واحد.
قال: وإذا تحلل بالهدي فعليه عمرة وحجة وهذا احتياط وأخذ بالثقة لجواز أن يكون حين أحرم نوى الحج فيلزمه قضاء عمرة وحجة بخلاف الأول فإن هناك يتيقن أنه لم ينو(4/208)
ص -106- ... الحج عند إحرامه ووجوب القضاء عليه باعتبار نية الحج فإذا تيقن هناك أنه لم ينو الحج لا يكون للأمر بالاحتياط معنى وهنا هو غير متيقن فمن الجائز أنه حين أحرم نوى الحج فكان هذا أوان الأخذ بالاحتياط فلهذا يحتاط ويقضي عمرة وحجة.
والفرق بين ما إذا لم يعين في الابتداء وبين ما إذا عين ثم نسي ظاهر في المسائل ألا ترى أن من أعتق إحدى أمتيه بغير عينها لا يجب عليه أن يجتنبهما وبمثله لو أعتق إحداهما بعينها ثم نسي فعليه أن يجتنبهما إلا أن يتذكر وكذا إن لم يحصر في هذا الفصل ولكنه وصل إلى البيت فعليه أن يؤدي عمرة وحجة ويلزمه ما يلزم القارن لأنه يحتمل أنه نوى إحرام الحج ويحتمل أنه نوى إحرام العمرة فيجمع بينهما أخذا بالاحتياط في العبادة ألا ترى أن من نسي صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرفها يلزمه قضاء صلاة يوم وليلة استحسانا؟ فكذلك هنا.
قال: ولو جامع قبل أن يصل إلى البيت فعليه هدي واحد للجماع لأنه يتيقن أنه محرم بإحرام واحد ولكن عليه إتمام عمرة وحجة لأن الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن قبل الإفساد عليه عمرة وحجة فكذلك بعد الإفساد عليه المضي في عمرة وحجة لأنه لا يخرج من الإحرام بالإفساد قبل أداء الأعمال والفاسد معتبر بالصحيح وليس عليه دم القران لأن دم القران إنما يلزمه عند صحة النسكين.
قال: ولو جامع بعد ما نوى أن يجعلها عمرة وحجة ولبى بهما فعليه دمان لأنه يتيقن بعد ما لبى بهما أنه محرم بإحرامين بطريقة إضافة أحد الإحرامين إلى الآخر فعليه دمان للجماع وحكمه في القضاء مثل الأول كما بينا.(4/209)
قال: ولو أهل بشيئين ثم نسيهما فأحصر بعث بهديين لأنه متيقن أنه محرم بإحرامين فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة استحسانا وفي القياس عليه حجتان وعمرتان لأن من الجائز أنه نوى عند إحرامه حجتين فعليه قضاء عمرتين وحجتين احتياطا ولكنه استحسن فقال فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن وعلى ما هو الأفضل فلا يحمل على الفساد إلا بعد تعذر حمله على الصحة فلو جعلنا إحرامه بحجة وعمرة كان فيه حمل أمره على الصحة وعلى ما هو الأفضل وهو القران ولو جعلنا إحرامه بحجتين كان فيه حمل أمره على الفساد لأنه يتعذر عليه الجمع بينهما أداء فلهذا جعلناه كالمحرم بالحج والعمرة.
فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة بمنزلة القارن وإن لم يحصر ووصل إلى البيت فكذلك الجواب يجعل إحرامه عمرة وحجة كما يعمل القارن استحسانا وكان القياس أن يقضي عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران وعليه دم آخر وحجة وعمرة لأن من الجائز أنه كان أحرم بحجتين فعليه دم لرفض إحداهما وقضاء وحجة وعمرة ومن الجائز أنه أحرم بعمرة وحجة فعليه دم القران فقلنا إنه يحتاط من كل جانب فيقضي عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران لاحتمال أحد الجانبين ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة لاحتمال الجانب الآخر.(4/210)
ص -107- ... وإن كان قد أهل بعمرتين فقد أتى بأعمال إحداهما وقضى الأخرى مع قضاء الحج فيصير خارجا مما عليه بيقين هذا هو القياس ولكنه استحسن فجعله قارنا حملا لأمره على الصحة وعلى ما يفعله الناس ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة وكذلك لو جامع فيهما وهو بمنزلة القارن إذا جامع استحسانا لأن الفاسد معتبر بالصحيح والله أعلم بالصواب.
باب الجماع
قال: وإذا جامع الرجل امرأته وهما مهلان بالحج قبل أن يقفا بعرفة فعلى كل واحد منهما شاة ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال: "يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل". وهكذا روي عن الصحابة عمر وعلي وبن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم قالوا إذا رجعا للقضاء يفترقان معناه أن يأخذ كل واحد منهما في طريق غير طريق صاحبه ومالك رحمه الله تعالى أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال: كما خرجا من بيتهما فعليهما أن يفترقا ولكن هذا بعيد من الفقه فإن له أن يواقعها ما لم يحرما والافتراق للتحرز عن المواقعة فلا معنى للأمر بالافتراق في وقت تحل المواقعة بينهما فيه وزفر رحمه الله تعالى يقول يفترقان من وقت الإحرام لأن الافتراق نسك بقول الصحابة رضي الله عنهم وأوان أداء ما هو نسك بعد الإحرام وهذا ليس بقوي فإن الافتراق ليس بنسك في الأداء فلا يكون نسكا في القضاء لأن القضاء بصفة الأداء.(4/211)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا قربا من الموضع الذي جامعها فيه يفترقان لأنهما لا يأمنان إذا وصلا إلى ذلك الموضع أن تهيج بهما الشهوة فيواقعها فيفترقان للتحرز عن هذا وهذا ليس بصحيح أيضا لأنه إنما واقعها في السنة الأولى بسبب النكاح القائم بينهما فلو وجب الافتراق إنما يجب عن النكاح وأحد لا يأمر بهذا ثم إذا بلغا إلى ذلك الموضع فتأملا فيما لحقهما من المشقة بسبب لذة يسيرة ازدادا ندما وتحرزا عن ذلك ثانيا لكيلا يصيبهما الآن مثل ما أصابهما في المرة الأولى ولكنا نقول مراد الصحابة رضي الله عنهم أنهما يفترقان على سبيل الندب إن خافا على أنفسهما الفتنة لا أن يكون ذلك واجبا عليهما كما يندب الشاب إلى الامتناع عن التقبيل في حالة الصيام إذا كان لا يأمن على نفسه ما سوى ذلك.
قال: وإن كانا قارنين فعلى كل واحد منهما شاتان لأن كل واحد منهما محرم بإحرامين وعلى كل واحد منهما قضاء عمرة وحجة إن لم يكن طاف بالبيت قبل المواقعة وقد سقط دم القران عنهما لفساد نسكهما وإن لزمهما المضي في الفاسد لأن هذا دم نسك فلا يجب إلا على من جمع بين الحج والعمرة بصفة الصحة وإن كان طاف بالبيت قبل الجماع فكذلك الجواب في أنه يجب عليه دمان لأن بالطواف لم يتحلل عن إحرام العمرة ما لم يحلق ولكن ليس عليه قضاء العمرة هنا لأنه إنما جامع بعد ما أدى عمرته لأن ركن(4/212)
ص -108- ... العمرة هو الطواف فلم تفسد عمرته بهذا وإنما فسد حجه فعليه قضاؤه وقد سقط عنه دم القران بفساد أحد النسكين وإن جامع بعد ما وقف بعرفة لم يفسد واحد من النسكين عندنا وقد بينا هذا ولكن عليه جزور لجماعه بعد الوقوف في إحرام الحج وشاة لجنايته على إحرام العمرة وعليه دم القران لأنه أدى النسكين بصفة الصحة.
قال: وإذا جامع الحاج بعد ما وقف بعرفة فأهدى جزورا ثم جامع بعد ذلك فعليه شاة لأنه دخل إحرامه نقصان بالجماع الأول فالجماع الثاني صادف إحراما ناقصا فيكفيه شاة بخلاف الجماع في المرة الأولى فإن هناك صادف إحراما تاما فكان عليه جزور.
قال: وإن طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة بعد ما حلق أو قصر ثم جامع فليس عليه شيء لأن أكثر أشواط الطواف في حكم التحلل كجميع الطواف فكما أنه لو أتم الطواف تحلل في حق النساء فكذلك إذا أتى بأكثر أشواط الطواف.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا طاف جنبا ثم جامع بعد قبل الإعادة في القياس لا شيء عليه كما لو طاف محدثا لأن التحلل يحصل بطواف الجنب وفي الاستحسان عليه دم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين ذلك والفرق ما بينا أن طواف الجنب غير معتد به إلا في حكم التحلل ولهذا لو أعاده انفسخ الأول بالثاني في أصح الطريقين فصار في المعنى كالجماع قبل الطواف وهنا ما أتى به من أكثر أشواط الطواف معتد به على الإطلاق توضيحه أن ما بقي هنا يقوم الدم مقامه فيكون هذا نظير النقصان في طواف المحدث ولو طاف محدثا ثم جامع لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا طاف جنبا فإن الواجب هناك لا يجب بمقابلة أصل الطواف عند فوت أدائه وهي البدنة فجماعه في تلك الحالة كجماعه قبل الطواف وإن لم يكن حلق قبل الطواف حتى جامع بعد ما طاف أربعة أشواط فعليه دم لارتكاب محظور الإحرام فإن التحلل بالطواف لا يحصل إذا لم يحلق.(4/213)
قال: والمس والتقبيل عن شهوة والجماع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل لا يفسد الإحرام وللشافعي رحمه الله تعالى قول إنه إذا اتصل به الإنزال يفسد به الإحرام على قياس الصوم فإنه يفسد بالتقبيل إذا اتصل به الإنزال.
ولكنا نقول فساد الإحرام حكم متعلق بعين الجماع ألا ترى أن بارتكاب سائر المحظورات لا يفسد وما تعلق بعين الجماع من العقوبة لا يتعلق بالجماع فيما دون الفرج كالحد ثم ما يجب هنا أبلغ مما يجب هناك وهو القضاء فيكون قياس الكفارة في الصوم ولا يجب بالجماع فيما دون الفرج الكفارة هناك فكذلك لا يجب هنا القضاء ولكن عليه دم أما إذا أنزل فغير مشكل وكذلك إذا لم ينزل عندنا وللشافعي رحمه الله تعالى قول إنه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل على قياس الصوم فإنه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل بالتقبيل فكذلك في الحج(4/214)
ص -109- ... ولكنا نقول: الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الإحرام وبالإقدام عليه يصير مرتكبا محظور إحرامه فيلزمه الدم وهكذا ينبغي في الصوم إلا أن الشرع ورد بالرخصة في التقبيل هناك ثم المحرم هناك قضاء الشهوة ولا يحصل ذلك بالتقبيل بدون الإنزال وهنا المحرم الجماع بدواعيه والتقبيل من جملتها ألا ترى أن التطيب محرم هنا ولا يحرم هناك؟
قال: والنظر لا يوجب على المحرم شيئا وإن أنزل لأن النظر بمنزلة التفكر إذا لم يتصل منه صنع بالمحل ولو تفكر فأمنى لا يلزمه شيء فكذلك إذا نظر.
قال: وحكم الجماع في الحج والعمرة واحد إذا كان عن نسيان أو عمد أو في حال نوم أو إكراه أو طوع إلا في الإثم أما الناسي عندنا يفسد نسكه بالجماع ويلزمه ما يلزم العامد إلا أنه لا يأثم بعذر النسيان وللشافعي رضي الله عنه قول إنه لا يفسد النسك بجماع الناسي على قياس الصوم ولكنا نقول هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبسبب النسيان لا ينعدم عين الجماع وهذا لأنه قد اقترن بحالة ما يذكره وهو هيئة المحرمين فلا يعذر بالنسيان كما في الصلاة إذا أكل أو شرب بخلاف الصوم فإنه لم يقترن بحالة ما يذكره فجعل النسيان فيه عذرا في المنع من إفساد الصوم بخلاف القياس.(4/215)
قال: وإن كانت نائمة أو مكرهة يفسد حجها عندنا ولا يفسد عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله أن الإكراه متى أباح الإقدام أعدم أصل الفعل من المكره في الإحكام والنوم يعدم أصل الفعل من النائم ولهذا قال لا يفسد الصوم بهذا الفعل في حالة الإكراه أو النوم فكذلك الإحرام وعندنا تأثير الإكراه والنوم في دفع المأثم لا في إعدام أصل الفعل ألا ترى أنه يلزمه الاغتسال ويثبت به حرمة المصاهرة فكذلك يتعلق به فساد النسك ويستوي إن كان الزوج محرما أو حلالا بالغا أو صغيرا عاقلا أو مجنونا أو تكون المرأة مجنونة أو صغيرة لأن فساد النسك متعلق بعين الجماع وذلك لا ينعدم بالجنون والصغر إذا كان يجامع مثله وإنما قلنا إنه يتعلق بعين الجماع لأن المنهي عنه في الإحرام الرفث والرفث اسم الجماع.
قال: رجل أهل بعمرة وجامع فيها ثم أحرم بأخرى ينوي قضاءها قال هي هي لأنه بالجماع وإن فسد نسكه فقد لزمه المضي في الفاسد ولا يخرج من الإحرام إلا بأداء الأعمال فنيته في الإحرام بالإهلال الثاني لغو لأنه ينوي إيجاد الموجود ونية القضاء كذلك.
فإن الإحرام الواحد لا يتسع للقضاء والأداء فكان عليه دم للجماع ويفرغ منها وعليه عمرة وكذلك هذا الحكم لو كان مهلا بالحجة.
قال: وإن جامع في العمرة قبل الطواف ثم أضاف إليها حجة يقضيهما جميعا لأن إضافة الحج إلى العمرة الصحيحة جائز فإلى العمرة الفاسدة أولى وليس عليه دم القران لفساد أحد النسكين وكذلك يسقط عنه دم ترك الوقت إذا أفسد بعد ما أحرم به يعني إذا(4/216)
ص -110- ... جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بعمرة أو حجة فعليه دم لترك الإحرام من الميقات فإن أفسدها بالجماع سقط عنه هذا الدم لأنه وجب عليه قضاء النسك فيعود فيحرم من الميقات ولأن الدم إنما يلزمه بترك الإحرام من الميقات لأنه يؤدي النسك بهذا الإحرام ولم يتأد نسكه بهذا الإحرام حين أفسده ولهذا لزمه قضاؤه.
قال: المحرم بالعمرة إذا جامع النساء ورفض إحرامه وأقام حلالا يصنع ما يصنع الحلال من الطيب والصيد وغيره فعليه أن يعود حراما كما كان لأن بإفساد الإحرام لم يصر خارجا منه قبل أداء الأعمال وكذلك بنية الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله إلا أن عليه بجميع ما صنع دم واحد لما بينا أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الإحلال فيكفيه لذلك دم واحد وعليه عمرة مكان عمرته لأنها لزمته بالشروع والأداء بصفة الفساد لا ينوب عما لزمه بصفة الصحة فعليه قضاؤها والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الدهن والطيب
اعلم بأن المحرم ممنوع من استعمال الدهن والطيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج الشعث التفل"، وقال: "يأتون شعثا غبرا من كل فج عميق". واستعمال الدهن والطيب يزيل هذا الوصف وما يكون صفة العبادة يكره إزالته إلا أن في ظاهر الرواية قال إن استعمل الطيب في عضو كامل يلزمه الدم وقد فسره هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال كالفخذ والساق ونحوهما وإن استعمله فيما دون ذلك فعليه الصدقة وعلى قول محمد رحمه الله تعالى عليه بحصته من الدم وقال الشعبي رحمه الله تعالى القليل والكثير من الطيب سواء في وجوب الدم به لأن رائحة الطيب توجد منه سواء استعمل القليل أو الكثير.(4/217)
ولكنا نقول: الجزاء إنما يجب بحسب الجناية وإنما تتكامل الجناية بما هو مقصود من قضاء التفث والمعتاد استعمال الطيب في عضو كامل فتم به جنايته وفيما دون ذلك في جنايته نقصان فتكفيه الصدقة ومحمد رحمه الله تعالى يوجب بحصنه من الدم اعتبارا للجزء بالكل كما هو أصله وذكر في المنتقى إذا طيب شاربه أو طرفا من أطراف لحيته دون الربع فعليه الصدقة وإن استعمل الطيب في ربع رأسه فعليه الدم وكذلك في ربع عضو آخر وجعل الربع بمنزلة الكمال على قياس الحلق.
ثم الدهن إذا كان مطيبا كدهن البان والبنفسج والزنبق فهو طيب يجب باستعماله الدم وكذلك إذا كان الدهن قد طبخ وجعل فيه طيب فأما إذا أدهن بزيت أو بخل غير مطبوخ فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة وقال الشافعي رحمه الله تعالى لو استعمله في الشعر فعليه دم وإن استعمله في غيره لم يلزمه شيء لأن استعمال الدهن في الشعر يزيل الشعث فيكون من قضاء التفث وأما في غير الشعر ليس فيه معنى قضاء التفث ولا معنى استعمال الطيب لأن الدهن مأكول وليس(4/218)
ص -111- ... بطيب فيكون قياس الشحم والسمن وبهذا يحتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولكنهما قالا استعمال الدهن يقتل الهوام فيكون فيه بعض الجناية فيلزمه الصدقة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الدهن أصل الطيب فإن الروائح تلقى في الدهن فيصير تاما فيجب باستعمال أصل الطيب ما يجب باستعمال الطيب كما إذا كسر المحرم بيض الصيد يلزمه الجزاء كما يجب بقتل الصيد.
قال: وإذا دهن شقاق رجله بزيت أو شحم أو سمن لم يكن عليه شيء لأن قصده التداوي والتداوي غير ممنوع منه في حال الإحرام ولأنه لو أكله لم يلزمه شيء فإن دهن به شقاق رجله أولى.
قال: ويكره للمحرم أن يشم الطيب والزعفران هكذا روي عن عمر وجابر رضي الله عنهما وكان بن عباس رضي الله عنه لا يرى به بأسا لأنه إنما يحرم عليه مس الطيب وهو لم يمسه وإن شم رائحته كمن اجتاز في سوق العطارين لم يكره له ذلك وإن كان محرما مع أن الريحان من جملة نبات الأرض لا من الطيب فهو كالتفاح والبطيخ ونحوهما ولكنا نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لأن في الطيب معنى الرائحة واستعمال عين الطيب غير مقصود بل المقصود من الطيب رائحته فما يوجد منه رائحة الطيب يكره للمحرم أن يشمه لأن ذلك من قضاء التفث.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في التفاح هكذا ومن فرق فقال المقصود هناك الأكل فأما الريحان فليس فيه مقصود سوى رائحته فيمنع منه في حالة الإحرام ولكن لا يجب عليه شيء لأن الاستمتاع لا يتم بمجرد اشتمام الرائحة بمنزلة الجلوس عند العطار ونحوه وذكر حمران عن إبان عن عثمان رضي الله تعالى عنهم أنه سئل عن المحرم أيدخل البستان قال نعم ويشم الريحان فهو دليل لمن أخذ بقول بن عباس رضي الله تعالى عنه.(4/219)
قال: فإن كان تطيب أو ادهن قبل الإحرام ثم وجد ريحه بعد الإحرام لم يضره وكذلك إن أجمر ثيابه قبل أن يحرم ثم لبسها بعد الإحرام فلا شيء عليه وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أن المحرم إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فطال مكثه حتى علق ثوبه لا يلزمه شيء ولو أجمر ثيابه بعد الإحرام فعليه الجزاء لأن الإجمار إذا كان في البيت فعين الطيب لم يتصل بثوبه ولا ببدنه إنما نال رائحته فقط بخلاف ما إذا أجمر ثيابه فإن عين الطيب قد علق بثيابه فإذا كان الإجمار قبل الإحرام لم يكن ممنوعا عن استعمال عين الطيب يومئذ وإنما بقي مع المحرم رائحته فلا يلزمه شيء.
قال: ولا بأس بأن يأكل الطعام الذي فيه الزعفران أو الطيب هكذا روي عن بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأكل السكباج الأصفر في إحرامه ولأن قصده بهذا الطعام(4/220)
ص -112- ... التغذي لا التطيب وإن أكل الزعفران من غير أن يكون في الطعام فعليه دم إن كان كثيرا لأن الزعفران لا يتغذى به كما هو وإنما يجعل تبعا للطعام.
ومن أكل الزعفران كما هو يضحك حتى يموت فكان هو بالأكل مطيبا فمه بالزعفران وهو عضو فيلزمه الدم فأما إذا جعل في الطعام فقد صار مستهلكا فيه إن كان في طعام قد مسته النار وإن كان في طعام لم تمسه النار مثل الملح وغيره فلا بأس به أيضا لأنه صار مغلوبا فيه والمغلوب كالمستهلك إلا أن يكون الزعفران غالبا على الملح فحينئذ هو والزعفران البحت سواء.
وإن مس طيبا فإن لزق بيديه تصدق بصدقة إلا أن يكون ما لزق بيديه كثيرا فحينئذ يلزمه الدم وقد بينا حد الكثير فيه وإن لم يلتزق به شيء فلا شيء عليه بمنزلة ما لو اجتاز في سوق العطارين وإن استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوق كثير فعليه دم وإن كان قليلا فعليه صدقة إذ لا فرق بين أن يكون الخلوق التزق به من الركن أو من موضع آخر.
قال ولا بأس بأن يكتحل المحرم بكحل ليس فيه طيب فإن كان فيه طيب فعليه صدقة إلا أن يكون كثيرا فعليه الدم لأن الكحل ليس بطيب فلا يمنع من استعماله وإن كان فيه طيب فتتفاوت الجناية باستعماله من حيث القلة والكثرة كما في سائر الأعضاء وإن كان من أذى فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لما بينا أن فيما يجب فيه الدم على المحرم إذا لم يكن معذورا فإن كان عن عذر وضرورة يتخير بين الكفارات الثلاثة.
وكذلك لو تداوى بدواء فيه طيب فألزقه بجراحة أو شرب شرابا لأن التداوي يكون عن ضرورة وإن داوى قرحة بدواء فيه طيب فألزقه بجراحه ثم خرجت به قرحة أخرى والأولى على حالها فداوى الثانية مع الأولى فليس عليه إلا كفارة واحدة فكأنه فعل الكل دفعة واحدة إذا لم تبرأ الأولى لأن الجنايات استندت إلى سبب واحد.(4/221)
قال: وللمحرم أن يبط القرحة ويجبر الكسر ويعصب عليه وينزع ضرسه إذا اشتكى ويحتجم ويغتسل ويدخل الحمام لأن هذا كله من باب المعالجة فالمحرم والحلال فيه سواء ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة ودخل عمر رضي الله تعالى عنه الحمام بالجحفة وهو محرم.
قال: وإن غسل رأسه ولحيته بالخطمى فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة لأن الخطمى ليس بطيب بل هو كالأشنان يغسل به رأسه ولكنه يقتل الهوام فلذلك يلزمه الصدقة وروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال لا يلزمه شيء قالوا وتأويل تلك الرواية أنه إذا غسل رأسه بالخطمى بعد الرمي يوم النحر فأما قبل ذلك يلزمه الصدقة عنده وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول:(4/222)
ص -113- ... الخطمى من الطيب فإن له رائحة وإن لم تكن زكية وهو يقتل الهوام أيضا فتتكامل الجناية باعتبار المعنيين فلهذا يلزمه الدم.
قال: وإن خضبت المحرمة بالحناء يدها فعليها دم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال: "الحناء طيب" ولأن له رائحة مستلذة وإن لم تكن زكية وإن خضب رأسه بالوسمة رجل أو امرأة فلا دم عليه لأن الوسمة ليست بطيب إنما تغير لون الشعر إلا أنه روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا خضب رأسه بالوسمة فعليه دم لا للإخضاب ولكن لتغطية الرأس به وهذا هو الصحيح. قال: وإن خضب لحيته به فليس عليه دم ولكن إن خاف أن يقتل الهوام أطعم شيئا لأن فيه معنى الجناية من هذا الوجه ولكنه غير متكامل فتلزمه الصدقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ما يلبسه المحرم من الثياب
قال: ولا بأس بأن يلبس المحرم القباء ويدخل فيه منكبيه دون يديه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأن القباء مخيط فإذا أدخل فيه منكبيه صار لابسا للمخيط فإن القباء يلبس هكذا عادة ولكنا نقول لبس القباء إنما يحصل بإدخال اليدين في الكمين فإذا لم يفعل ذلك كان واضعا القباء على منكبيه لا لابسا وهذا لأنه في معنى لبس الرداء لأنه يحتاج إلى تكلف حفظه على منكبيه عند اشتغاله بعمل كما يحتاج إليه لابس الرداء أما إذا أدخل يديه في كميه فلا يحتاج في حفظه على نفسه عند الاشتغال بالعمل فيكون لابسا للمخيط وكذلك إن زره عليه كان لابسا لأنه لا يحتاج إلى تكلف حفظه عليه بعد ما زره فإن فعل ذلك يوما أو أكثر فعليه دم وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا لبس المخيط لزمته الكفارة وإن كان في ساعة واحدة لأن لبس المخيط محظور الإحرام فيصير هو مرتكبا محظور الإحرام فيلزمه الدم وإن فعله في ساعة واحدة كالتطيب.(4/223)
ولكنا نقول: إنما تتم جنايته بلبس مقصود واللبس المقصود في الناس عادة يكون في يوم كامل فإن من أصبح يلبس الثياب ثم لا ينزعها إلى الليل فإذا لبس في هذه المدة تكاملت الجناية باستمتاع مقصود وفيما دون ذلك لم تتكامل جنايته باستمتاع مقصود فتكفيه صدقة إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول أولا قد يرجع المرء إلى بيته قبل الليل فينزع ثيابه التي لبسها للناس فكان للبس في أكثر اليوم استمتاعا مقصودا عادة والأكثر ينزل منزلة الكمال.
قال: ولا بأس بأن يلبس الخز والبرود إذا لم يكن مخيطا كما كان يفعله في غير الإحرام إلا أنه لا يلبس البرد المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس فقد روى ابن عمر،(4/224)
ص -114- ... رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المزعفر والمورس في حالة الإحرام وكذلك المصبوغ بالعصفر عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس به لما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى على عبد الله بن جعفر رضي الله عنه رداء معصفرا في إحرامه فأنكر عليه ذلك فقال علي رضي الله عنه ما أرى أحدا يعلمنا السنة ولأن العصفر ليس بطيب فهو قياس ثوب هروي ولا بأس للمحرم أن يلبسه ولكنا نستدل بحديث عائشة رضي الله عنها فإنها كرهت لبس المعصفر في الإحرام وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنكر على طلحة الرداء المعصفر حتى قال لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنه ممشق ولأن العصفر له رائحة وإن لم تكن زكية فكان بمنزلة الورس والزعفران.
وتأويل حديث عبد الله رضي الله عنه أنه كان قد غسل وصار بحيث لا ينفض قد عرف عبد الله بن جعفر ذلك ولم يعرفه عثمان رضي الله عنه أو كان ذلك مصبوغا بمدر على لون العصفر وقد عرف ذلك علي رضي الله عنه ولم يعرفه عثمان فلهذا قال ما قال فأما المصبوغ على لون الهروي وهو أدمي اللون ليس له رائحة فكان قياس المعصفر إذا غسل حتى صار بحيث لا ينفض وقد بينا هناك أنه لا يلزمه شيء فهذا مثله ثم التقدير في إيجاب الدم عند لبس المصبوغ بنحو ما بينا في لبس القباء.(4/225)
وكذلك لو لبس قميصا أو سراويل أو قلنسوة يوما إلى الليل فعليه دم وإن كان فيما دون ذلك فعليه صدقة كما بينا وإنما أراد بهذا إذا لبسه على الوجه المعتاد أما إذا ائتزر بالسراويل أو ارتدى بالقميص أو اتشح به فلا شيء عليه لأنه يحتاج إلى تكلف حفظه على نفسه عند اشتغاله العمل فلا يكون لابسا للمخيط وأما في القلنسوة فلتغطية الرأس بها يلزمه الجزاء وقد بينا أن المحرم ممنوع عن تغطية الرأس وقد ذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا لم يجد الأزار ففتق لسراويل إلا موضع التكة فلا بأس حينئذ بلبسه بمنزلة المئزر وهو نظير ما ورد به الأثر فيما إذا لم يجد لمحرم نعلين قطع خفيه أسفل من الكعبين ليصير في معنى النعلين وفسر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى الكعب في هذا الموضع بالمفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك وعلى هذا قال المتأخرون من مشايخنا لا بأس للمحرم بأن يلبس المشك لأنه لا يستر الكعب فهو بمنزلة النعلين.
فإن لبس القميص والقلنسوة والقباء والسراويل يوما إلى الليل فعليه دم واحد لأن جنس الجناية واحد والمقصود واحد وهو الاستمتاع بلبس المخيط فعليه دم واحد كما لو حلق رأسه كله وكذلك إن غطى وجهه يوما فعليه دم وقد بينا فيما سبق أنه ليس للمحرم أن يغطي وجهه ولا رأسه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد ورد الأثر بالنهي عن تغطية اللحية في الإحرام لأنه من الوجه فعرفنا أنه لا يغطي وجهه.
قال: ولا بأس بأن يلبس الهميان والمنطقة يشد بها حقويه فيها نفقته هكذا روي عن(4/226)
ص -115- ... عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل يلبس المحرم الهميان؟ فقالت: استوثق من نفقتك بما شئت وفي حديث بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لم ير للمحرم بأسا بأن يعقد الهميان على وسطه وفيه نفقته" وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن كان فيه نفقته فلا بأس وإن كان فيه نفقة غيره كرهت له ذلك لأنه لا حاجة إلى حمل نفقة غيره ولكنا نقول جواز لبس الهميان والمنطقة باعتبار أنه ليس في معنى لبس المخيط وفي هذا يستوي نفقته ونفقة غيره وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره للمحرم لبس المنطقة المتخذة من الإبريسم فقيل لأنه في معنى المخيط وقيل هو بناء على أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في كراهة ما قل من الحرير وكثر للرجال.
قال: ويتوشح المحرم بالثياب ولا يعقد على عنقه لأنه إذا عقده لا يحتاج في حفظه على نفسه إلى تكلف فكان في معنى لبس المخيط وكذلك قالوا إذا ائتزر فلا ينبغي له أن يعقد إزاره على نفسه بحبل أو غيره فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شد فوق إزاره حبلا فقال: "ألق ذلك الحبل ويلك". وكذلك يكره له أن يخل رداءه بخلال لأنه لا يحتاج إلى تكلف في حفظه على نفسه ولكنه مع هذا لو فعل لا شيء عليه لأن المحظور عليه الاستمتاع بلبس المخيط ولم يوجد ذلك.
قال: ويكره له أن يعصب رأسه فإن فعل يوما إلى الليل فعليه صدقة لأنه غطى بعض رأسه بالعصابة وهو ممنوع من تغطية الرأس إلا أن ما غطى به جزء يسير من رأسه فتكفيه الصدقة لعدم تمام جنايته وإن عصب شيئا من جسده من علة أو غير علة فلا شيء عليه لأنه غير ممنوع عن تغطية سائر الجسد سوى الرأس والوجه ولكن يكره له أن يفعل ذلك من غير علة كما يكره شد الإزار وشد الرداء على ما بينا.(4/227)
قال: وإن غطى المحرم ربع رأسه أو وجهه يوما فعليه دم وإن كان دون ذلك فعليه صدقة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن غطى أكثر رأسه فعليه دم وإلا فعليه صدقة لأن القليل من تغطية الرأس لا تتم به الجناية والقلة والكثرة إنما تظهر بالمقابلة وهذا أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في المسائل وفي ظاهر الرواية الجواب قال ما يتعلق بالرأس من الجناية فللربع فيه حكم الكمال كالحلق وهذا لأن تغطية بعض الرأس استمتاع مقصود يفعله الأتراك وغيرهم عادة بمنزلة حلق بعض الرأس فأما المحرمة تغطي كل شيء منها إلا وجهها وتلبس كل شيء من المخيط وغيره إلا الثوب المصبوغ فإن فيما لا حاجة بها إلى لبسه فهي بمنزلة الرجل وفيما تحتاج إلى لبسه وستره يخالف حالها حال الرجل وقد بيناه.
قال: ولا بأس لها أن تلبس القفازين هكذا روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يلبس بناته القفازين في الإحرام ولها أن تلبس الحرير والحلي وعن عطاء رحمه الله تعالى أنه يكره للنساء لبس الحلي في الإحرام والصحيح أنه لا بأس به. وقد روي(4/228)
ص -116- ... عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس نساءه الحلي في حالة الإحرام ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتين تطوفان بالبيت وعليهما سواران من ذهب الحديث فدل أنه لا بأس بذلك.
قال: وكل ما يحل للمرأة أن تلبسه في غير حالة الإحرام فكذلك يحل في حالة الإحرام إلا المصبوغ على ما بينا.
قال: ولا بأس بأن تسدل الخمار على وجهها من فوق رأسها على وجه لا يصيب وجهها وقد بينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها لأن تغطية الوجه إنما يحصل بما يماس وجهها دون ما لا يماسه فيكون هذا في معنى دخولها تحت سقف ويكره لها أن تلبس البرقع لأن ذلك يماس وجهها فإن لبس المحرم ما لا يحل له من الثياب أو الخفاف يوما أو أكثر من ذلك لضرورة فعليه أي الكفارات شاء وقد بينا فيما سبق أن ما يجب الدم بلبسه في غير موضع الضرورة إذا لبسه لأجل الضرورة يتخير فيه بين الكفارات ما شاء وذكر في الرقيات عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين فعليه أي الكفارات شاء وإذا اضطر إلى لبس قميص فلبس معه عمامة أو قلنسوة فعليه دم في لبس القلنسوة ويتخير في الكفارات أيها شاء في لبس القميص لأن في الفصل الأول زيادة في موضع الضرورة فلا تكون جناية مبتدأة كما لو اضطر إلى لبس قميص فلبس جبة وفي الفصل الثاني الزيادة في غير موضع الضرورة فكانت جناية مبتدأة فتعلق بها ما هو موجبها قال فإن لبس المخيط للضرورة أياما وكان ينزع بالليل للنوم لا للاستغناء عن ذلك فهذه كلها جناية واحدة بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة ثم اضطر إليه بعد ذلك فلبس فإنه يلزمه كفارة أخرى لأن حكم الضرورة الأولى قد انتهى بالبرء وهو نظير ما تقدم فيمن يداوي القرحة بدواء فيه طيب مرارا أن عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ فإذا بريء ثم خرجت به قرحة أخرى فداواها بالطيب فهذه جناية أخرى ولو كان به حمى غب فكان يلبسه يوم الحمى ولا يلبسه في غير ذلك فهذه كلها جناية واحدة لا يجب بها إلا(4/229)
كفارة واحدة لأن العلة المحوجة إلى اللبس قائمة.
أرأيت لو جلس في الشمس فاستغنى عن لبس المخيط فلما ذهبت الشمس احتاج إلى المخيط فأعاد اللبس أكانت هذه جناية أخرى بل الكل جناية واحدة ما دامت العلة قائمة فعليه أي الكفارات شاء فإن اختار الإطعام فدعى المساكين فغداهم وعشاهم أجزأه ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يجزه في قول محمد رحمه الله تعالى فأبو يوسف رضي الله تعالى عنه اعتبر المقصود فقال هذا طعام كفارة فيتأدى بالتغدية والتعشية كسائر الكفارات ومحمد رحمه الله تعالى يعتبر المنصوص عليه فيقول المنصوص عليه الصدقة هنا لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196]، وما ورد بلفظة الصدقة لا يتأدى بطعام الإباحة كالزكاة وصدقة الفطر.(4/230)
ص -117- ... قال: فإن لبس المحرم قميصه ولم يزرره فعليه الجزاء لأن استمتاعه بلبس المخيط قد تم فإنه يستغني عن التكلف لحفظ القميص على نفسه وإن لم يزره.
قال: ولا بأس للمحرم بلبس الطيلسان فإنه بمنزلة الرداء ولكنه يكره له أن يزره عليه وهذا قول بن عمر رضي الله عنه وكان بن عباس رضي الله عنه يقول لا بأس بذلك لأن الطيلسان ليس بمخيط ولكنا أخذنا بقول بن عمر رضي الله عنه لأن الازار محيط عليه ولأنه إذا زره لا يحتاج إلى التكلف لحفظه على نفسه فكان بمنزلة لبس المخيط.
قال: ولا يلبس المحرم الجوربين كما لا يلبس الخفين وقد بينا هذا.
قال: ولا بأس بأن يضرب المحرم فسطاطا ليستظل فيه عندنا وكان مالك رحمه الله تعالى يكره ذلك وهذا مروي عن بن عباس رضي الله عنه ولكنا نأخذ بما روي أن عثمان رضي الله عنه كان يضرب له فسطاط في إحرامه وأن عمار بن ياسر رضي الله عنه كان إذا آذاه الحر ألقى ثوبه على شجرة واستظل تحته ولأنه لا بأس بأن يستظل بسقف البيت لأن ذلك لا يماس بدنه فكذلك الفسطاط.
قال: وإن دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان الستر يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لتغطية الرأس والوجه به وإن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا بأس به ولا شيء عليه لأن التغطية إنما تحصل بما يماس بدنه وعلى هذا لو حمل المحرم شيئا على رأسه فإن كان شيئا من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست والإجانة ونحوها فلا شيء عليه وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب فعليه الجزاء لأن ما لا يغطى به الرأس يكون هو حاملا لا مستعملا ألا ترى أن الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامنا؟
قال: فإن كان المحرم نائما فغطى رجل وجهه ورأسه بثوب يوما كاملا فعليه دم لأن ما فعله به غيره كفعله في الجزاء وإن كانا يفترقان في المأثم وقد بيناه في حلق الرأس والجماع ونحوه وعذر النوم لا يمنع إيجاب الجزاء عليه كما لو انقلب على صيد في حال نومه فقتله.(4/231)
قال: صبي أحرم عنه أبوه وجنبه ما يجنب المحرم فلبس ثوبا أو أصاب طيبا أو صيدا فليس عليه شيء عندنا والشافعي رحمه الله تعالى يوجب الكفارة المالية على الصبي كالبالغ بناء على أصله في إيجاب الزكاة عليه ويأمر الولي بأدائه من ماله وعندنا المالي والبدني سواء في أن وجوب ذلك ينبني على الخطاب والصبي غير مخاطب ثم إحرام الصبي للتخلق فلا تتحقق جنايته في الإحرام بهذه الأفعال وهذا لأنه ليس للأب عليه ولاية الإلزام فيما يضره ولو جعلنا إحرامه ملزما إياه في الاجتناب عن المحظورات وموجبا للكفارة عليه لم يكن تصرف الأب في الإحرام واقعا بصفة النظر له فلهذا جعلناه تخلقا غير ملزم إياه فلا يلزمه الجزاء بارتكاب المحظور غير أن الأب يمنعه من ذلك لتحقيق معنى التخلق والاعتياد.(4/232)
ص -118- ... باب النذر
قال: وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن الالتزام بالنذر إنما يصح فيما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشي فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من الحج والعمرة أولى ولكنا تركنا القياس بحديث علي رضي الله عنه قال فيمن نذر المشي إلى بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه ولأنه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى إلا بالإحرام فكأنه التزم الإحرام بهذا اللفظ والإحرام لأداء أحد النسكين أما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا اللفظ ما يخرج به عن الإحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشي فيها كما التزم فإذا ركب أراق دما لحديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما" ولأن الحج ماشيا أفضل فإن الله تعالى قدم المشاة على الركبان فقال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}[الحج: 27] ولهذا كان بن عباس رضي الله تعالى عنه بعد ما كف بصره يتأسف على تركه الحج ماشيا والحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان يمشي في طريق الحج والجنائب تقاد بجنبه فقيل له ألا تركب؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم". قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: "الواحدة بسبعمائة ضعف". فإذا ثبت أن المشي أفضل قلنا: إذا ركب فقد أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم.(4/233)
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى المشي في طريق الحج؟
قلنا: لا كذلك وإنما كره الجمع بين الصوم والمشي وقال إذا جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه والجدال منهي عنه فإن اختار المشي فالصحيح من المذهب أنه يلزمه المشي من بيته.
وقال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى: يلزمه المشي من الميقات لأنه التزم المشي في النسك وذلك عند إحرامه من الميقات ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا اللفظ يقصدون المشي من بيوتهم وقد قال علي وبن مسعود رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196]، قال إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الإحرام منزله ولكن يرخص له في تأخير الإحرام إلى الميقات ولو أحرم من بيته لا إشكال أنه يمشي من بيته فكذلك إذا أخر الإحرام قلنا يمشي من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن(4/234)
ص -119- ... يطوف طواف الزيارة لأن تمام الخروج من الإحرام به يحصل فإن تمام التحلل في حق النساء إنما يحصل بالطواف وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فإن قرن بهذه العمرة حجة الإسلام أجزأه لأن القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة الإسلام وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك وإن كان ركب فعليه دم لركوبه مع دم القران.
قال: وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر قد وجبت عليهم الدماء فيها ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جوز ذلك في كل سبعة من أصحابه عام الحديبية ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الإحصار وجزاء الصيد فذلك جائز بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم لأن الواجب إراقة دم هو قربة وإراقة الدم في كونه قربة لا يتجزأ فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة فقصد كل واحد منهم معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به ولو كان كله جنسا واحدا كان أحب إلي لأن دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للأغنياء كدماء الكفارات وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز.
قال: فإذا نذر المشي إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجدا آخر فلا شيء عليه أما صحة نيته فلأنها مطابقة للفظه والمساجد كلها بيوت الله تعالى قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}[النور: 36] وإذا عملت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شيء لأن سائر المساجد يباح دخولها بغير إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام.(4/235)
وعلى هذا لو قال: أنا أمشي إلى بيت الله تعالى قال فإن نوى به العدة فلا شيء عليه لأن المواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد وإن نوى به النذر كان نذرا وكذلك إن لم يكن له نية فهو نذر وكذلك إن لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فإن الناس إذا أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة.
وعلى هذا لو قال: علي المشي إلى مكة أو إلى الكعبة فهو وقوله إلى بيت الله سواء وقوله وإن قال علي المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شيء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أخذا بالقياس فيه لأن الناس لا يطلقون هذا اللفظ عادة لإرادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الألفاظ الثلاثة.
ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء للكعبة والحرم بمنزلة الفناء لمكة فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الأصل في النذر بل يجعل هذا بمنزلة ما لو قال لله علي المشي إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه فلا يلزمه شيء. وأبو يوسف ومحمد(4/236)
ص -120- ... رحمهما الله تعالى قالا نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في هذين الفصلين أيضا لأنه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام إلا بالإحرام فصار بهما ملتزما للإحرام.
قال: ولو قال: على السفر إلى مكة أو الذهاب أو الاتيان إلى مكة أو الركوب فلا شيء عليه والقياس في الألفاظ كلها واحد ولكن فيما تعارف الناس التزام النسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس فإن قال إن كلمت فلانا فلله علي حجة يوم أكلمه ينوي أنه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عليه حجة يقضيها متى شاء ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال علي حجة اليوم كانت واجبة عليه يحرم بها متى شاء لأنه التزمها في ذمته.
والشروع في الأداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر العبادات فإن من قال لله علي أن أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره والإحرام شروع في الأداء فلا يثبت بالالتزام ولأن ما يوجب على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما بمجرد ما قال وإن وصل الاستثناء بنذره لم يلزمه شيء لأن الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بطلاق أو عتاق واستثني فلا حنث عليه".(4/237)
ولو قال لآخر: علي حجة إن شئت فقال قد شئت فهو عليه لأن تعليق النذر بالشرط صحيح فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كأنه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق وقوله علي حجة مثل قوله لله علي حجة لأن الحج لا يكون إلا لله تعالى والالتزام بقوله علي ولو قال إن فعلت كذا فأنا أحرم فإن نوى به العدة فلا شيء عليه وإن نوى به الايجاب لزمه إذا فعل ذلك إما حجة أو عمرة وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شيء لأن ظاهر لفظه عدة وفي الاستحسان يلزمه لأن في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال ألا ترى أن المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والشاهد يقول بين يدي القاضي أشهد ويريد به التحقيق لا العدة وقوله أنا أهدي بمنزلة قوله أنا أحرم.
قال: وإن قال: إن فعلت كذا فأنا أحج بفلان فحنث فإن كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به وإن نوى أن يحججه فعليه أن يحججه كما نوى لأن الباء للالصاق فقد ألصق فلانا بحجة وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطي فلانا ما يحج به من المال والتزام الأول بالنذر غير صحيح والتزام الثاني صحيح لأن الحج يؤدي بالمال عند اليأس عن الأداء بالبدن فكان هذا في حكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل.
فإن نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه به شيء وإنما عليه أن يحج بنفسه فقط.(4/238)
ص -121- ... وإن نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه بالنذر فيلزمه ذلك وإذا لزمه ذلك فإما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء بالنذر فإن لم يكن له نية فعليه أن يحج وليس عليه أن يحجج فلانا لأن لفظه في حق فلان محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل وإن كان قال فعلي أن أحجج فلانا فهذا محكم غير محتمل فإنه تصريح الالتزام بإحجاج فلان وذلك صحيح بالنذر.
ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شيء عليه لأن النذر بالهدي لا يصح إلا في الملك وهو قد نذر هدي ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه إلا أن يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الولد.
قال: ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه لأنه التزم أن يهدي ما هو مملوك له والهدي قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح كما لو نذر أن يتصدق به ثم الإهداء يكون إلى مكان وذلك المكان وإن لم يكن في لفظه حقيقة ولكن صار معلوما بالعرف أنه مكة فإن الله تعالى قال في الهدايا {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] فإذا تعين المكان بهذا المعنى فإن كان ذلك الشيء مما يتقرب بإراقة دمه فعليه أن يذبحه بمكة وإن كان لا يتقرب بإراقة دمه وإنما يتقرب بالتصدق به فإنه يتصدق به على مساكين مكة وإن كان ذلك الشيء لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والأرض فعليه أن يهديه بقيمته لأن التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى فإذا كانت العين لا تحول من مكان إلى مكان عرفنا أن مراده التزام التصدق بماليته فعليه أن يهدي قيمته يتصدق به على مساكين مكة وإن أعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء لأنهم بمنزلة غيرهم من المساكين.(4/239)
قال: وكذلك إن قال فثوبي هذا ستر البيت أو قال أنا أضرب به حطيم البيت فعليه أن يهديه استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى وفي الاستحسان إنما يراد بهذا اللفظ الاهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه لأن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتباره في نفسه حقيقة.
قال: وإن قال مالي هدى فعليه أن يهدي ماله كله قال بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته فإذا أفاد ما لا يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال مالي صدقة فقال في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفي الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف أما إذا قال جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال ما ذكر هنا جواب القياس لأن(4/240)
ص -122- ... التزام الهدي في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال والأصح أن يفرق بينهما فيقال في لفظة الصدقة إنما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهنا إنما أوجب الهدي وما أوجب الله تعالى من الهدي لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ ولكنه يمسك مقدار قوته لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره فإذا أفاد مالا تصدق بمثل ما أمسك لتعلق حق المساكين به.
ثم قال وكذلك إن قال كل مالي صدقة في المساكين فهذا مثل الأول في قول إبراهيم رحمه الله تعالى وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس فإن القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة وإن قال إن فعلت كذا فغلامي هذا هدي فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شيء لأن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنشأ ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شيء لأن العبد ليس في ملكه فكذلك إذا وجد الشرط وكذلك إن كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك لأن اليمين بالنذر في محل معين لا يصح إلا باعتبار الملك أو الإضافة إلى الملك ولم يوجد الملك ولا الإضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا.
قال: وإن قال إن كلمت فلانا فهذا المملوك هدي ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الإضافة إلى الملك ثم عند وجود الشرط وهو الكلام يصير كأنه أرسل النذر وإنما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء سبقه.
قال: وإن قال فهذه الشاة هدي إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة أو إلى الكعبة وهو يملكها فعليه أن يهديها لأنه لو أطلق التزام الهدي صح نذره باعتبار هذا المكان فإذا صرح به كان أولى.(4/241)
قال: وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن يهديهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما كذكر مكة ولم يجعل كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك هنا فإن قيل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يلزمه هنا لأن ذكره الحرم والمسجد الحرام غير ملزم فكأنه لم يذكر ولكنه قال هذه الشاة هدي فتلزمه بخلاف المشي فإن هناك لو قال علي مشي لا يلزمه شيء قلنا هذا غير صحيح لأنه إذا قال هذه الشاة هدي إنما يلزمه باعتبار أن ذكر مكة يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر مكة مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شيء عنده.(4/242)
ص -123- ... قال: وكل شيء يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فإنما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين أهل مكة وإن تصدق به بالكوفة أجزأه وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزيه لأنه التزم الهدي والهدي لا يكون إلا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين مساكين أهل مكة للتصدق عليهم ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال والفعل الذي هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء مكة لأن معنى القربة في التصدق إنما يحصل بسد خلة المحتاج وفي هذا فقراء مكة وفقراء الكوفة سواء.
قال: وكل هدى جعله على نفسه من الإبل والبقر والغنم فعليه أن يذبحه بمكة لأن فعل القربة في هذه المحال بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر وفي لفظه ما ينبئ عن المكان دون الزمان ولهذا كان عليه أن يذبحه بمكة وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا فالسبيل أن يتصدق بلحمه والأولى أن يتصدق به على مساكين مكة وإن تصدق على غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الأول إن كان ذلك في أيام النحر فعليه أن ينحر بمنى كما هو السنة في الهدايا وإن كان في غير أيام النحر فعليه أن يذبح بمكة وهذا على سبيل بيان الأولى فأما في حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما قال صلى الله عليه وسلم: "منى منحر وفجاج مكة كلها منحر".(4/243)
قال: ولو قال إن فعلت كذا فعلي هدي ففعله كان عليه ما استيسر من الهدي شاة لأن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر والغنم فإن هذه الحيوانات يتقرب بإراقة دمها إلا أن عند الاطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة فإن نوى الإبل أو البقر كان عليه ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدي فيلزمه ما نوى ولا يذبحها إلا بمكة لتصريحه بالهدي فإن كان قال علي بدنة فإن كان نوى شيئا من البدن بعينه فعليه ما نوى لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور لأن اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم وذلك لا يتناول الشاة وإنما يتناول البقرة والجزور هكذا نقل عن علي وبن عباس رضي الله عنهما.
وعن بن مسعود وبن عمر رضي الله عنهما أن لفظة البدنة لا تتناول إلا الجزور فإن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله عنه أن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزى البقرة؟ فقال: مم صاحبكم؟ فقال: من بني رباح فقال: ومتى اقتنت بنو رباح البقر؟ وإنما وهم صاحبكم الإبل.
ثم إن كان نوى أن ينحرها بمكة فليس له أن ينحرها إلا بمكة كما نوى لأن المنوي كالمصرح به وإن كان لم يكن له نية نحرها حيث شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزئه إلا أن ينحرها بمكة.(4/244)
ص -124- ... وجه قوله إنه التزم التقرب بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدي وهما قالا كما لا يختص بالزمان لأنه ليس في لفظه ما يدل عليه فكذلك لا يختص بالمكان لأنه ليس في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظة الهدي.
وإذا لم يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا أن مراده التزام التقرب والتصدق باللحم وذلك يحصل في أي موضع نحر وهو قياس ما لو قال لله علي جزور كان له أن ينحر في أي مكان شاء ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول لإعادة في استعمال لفظة الجزور في معنى الهدي بخلاف لفظة البدنة ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطلق إلا على ما هو معد للقربة كاسم الهدي بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور جميعا لأن كل واحد منهما يجزئ في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب بإراقة الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدي فكان مختصا بالحرم.
قال: ولا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع من الإبل والبقر دون الغنم والكلام في فصول:(4/245)
أحدها: أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد هداياه في حجة الوداع وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو قطعة أدم أو عروة مزادة قيل والمعنى فيه إعلام الناس أن هذا أعد للتطوع بإراقة دمه فيصير جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد المقصود به التشهير وقد بينا أن التشهير فيما هو نسك دون ما هو جبر ولهذا لا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع والمقصود أن لا يمنع من الماء والعلف إذا علم أنه هدي وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعي كالإبل والبقر دون الغنم فإن الغنم يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا لا يقلد الغنم وهذا عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يقلد الغنم أيضا لأن التقليد سنة في الهدايا والغنم من الهدايا وقد ورد فيه أثر ولكنه شاذ فلم نأخذ به وهذا لأن تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الإبل والبقر.
قال: والتجليل حسن لأن هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كانت مقلدة مجللة حيث قال لعلي رضي الله عنه: "تصدق بجلالها وخطامها" وإن ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلي من التجليل لأن للتقليد ذكرا في كتاب الله تعالى دون التجليل.
وأما الإشعار فهو مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو حسن في البدنة وإن ترك لم يضره وصفة الإشعار هو أن يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة(4/246)
ص -125- ... حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه سمى ذلك إشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له والإشعار هو الإعلام وكان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول الإشعار في الجانب الأيسر من السنام وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر البدن بيده وهو مروي عن الصحابة رضي الله عنهم ظاهر حتى قال الطحاوي رحمه الله تعالى ما كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أصل الإشعار وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار وإنما كره إشعار أهل زمانه لأنه رآهم يستقصون ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد.
فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى لأن المقصود من الإشعار والتقليد إعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود بالتقليد لا يتم لأن القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فإنما يتم بالإشعار لأنه لا يفارقه فكان الإشعار حسنا لهذا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول معنى الإعلام بالتقليد يحصل وهو لإكرام البدنة وليس في الإشعار معنى الإكرام بل ذلك يؤذي البدنة ولأن التجليل مندوب إليه وإنما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة والإشعار من جوالب الذباب فلهذا كرهه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.(4/247)
قال: ولا يصير بالإشعار والتجليل محرما وإنما يصير محرما بالتقليد وأصل هذا أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى ينعقد بمجرد النية وجعل الإحرام قياس الصوم من حيث إنه التزام الكف عن ارتكاب المحظورات ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم وعلى قولنا الإحرام قياس الصلاة لأن الإحرام لأداء الحج أو العمرة وذلك يشتمل على أركان مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في الإحرام بخلاف الصوم فإنه ليس للصوم إلا ركن واحد وهو الإمساك وذلك معلوم بزمانه فكان الوقت للصوم معيارا ولهذا لا يصح في كل زمان إلا صوم واحد فبعد وجود النية ودخول وقت الأداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الأداء فلهذا صار شارعا فيه بمجرد النية.
وهنا الزمان ليس بمعيار للحج ولهذا صح أداء النفل في الزمان الذي يؤدي فيه الفرض وإنما أداؤه بأفعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الأداء أيضا ولكن لو قلد البدنة بنية الإحرام أو أمر فقلد له وهو ينوي الإحرام صار محرما عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يصير محرما إلا بالتلبية على القول الذي يقول لا ينعقد الإحرام بمجرد النية وحجته في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحرم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية(4/248)
ص -126- ... الشروع في الصلاة لا يصير شارعا، ولا فرق بينهما، لأن الهدي نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة.
توضيحه: أن تقليد الهدي لا يكون أقوى من من إراقة دم الهدي وبإراقة دم الهدي على قصد الإحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] إلى أن قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] ولم يتقدم ذكر الإحرام.
ففي قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] إشارة إلى أن الإحرام يحصل بتقليد الهدي وذلك مروي عن الصحابة عمر وبن مسعود وبن عباس رضي الله تعالى عنهم حتى روي عن قيس بن سعد أنه كان يغسل رأسه فبعد ما غسل أحد شقي رأسه نظر فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر وقال: إما إن من قلدت هذه الهدايا له فقد أحرم.
والمعنى فيه: أن الحج يشبه الصلاة من وجه والصوم من وجه فمن حيث إنه ليس في إثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن حيث إنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم.(4/249)
فنقول: بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية وبشبهه بالصوم يصير شارعا فيه وإن لم يأت بالذكر إذا أتى بفعل يقوم مقام الذكر وهذا لأن المقصود بالتلبية إظهار إجابة الدعوة وبتقليد الهدي يحصل إظهار الإجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد فقال بالتجليل لا يصير محرما وإن نوى لأن التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الإجابة بخلاف التقليد بالصفة التي ذكرنا فإنه لا يكون إلا عند قصد التقرب فكان إظهارا للإجابة وكذلك بالإشعار لا يصير محرما أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا يشكل لأن الإشعار مكروه عنده فكيف يصير محرما به وعندهما الإشعار بمنزلة التجليل فإنه إخراج شيء من الدم من البدنة وذلك لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الإجابة فلهذا لا يصير محرما.
ثم إذا نوى عند التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى لأن التقليد بمنزلة التلبية وإن لم يكن له نية في حجة أو عمرة إنما نوى الإحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الإحرام مطلقا فإن شاء جعله حجا وإن شاء جعله عمرة وإن قلد الشاة بنية الإحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة ليس بقربة فلا يصير به محرما وإن قلد الهدي وبعث به وهو لا ينوي الإحرام ثم خرج في أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم فعرفنا أنه لا يصير محرما بمجرد التقليد والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل.(4/250)
ص -127- ... فمنهم من يقول: إذا قلدها صار محرما ومنهم من قال إذا توجه في أثرها صار محرما ومنهم من قال إذا أدركها فساقها صار محرما.
فأخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحالة إلا في بدنة المتعة فإنه لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها وإن لم يدركها استحسانا وفي القياس لا يصير محرما حتى يدركها فيسوقها كما في هدي التطوع ولكنه استحسن فقال لهدي المتعة نوع اختصاص لبقاء الإحرام بسببه فإن المتمتع إذا ساق الهدي فليس له أن يتحلل من النسكين بخلاف ما إذا لم يسق الهدي وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الإحرام فكذلك بابتداء الشروع في الإحرام لهدي المتعة نوع اختصاص وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه وإن لم يدرك الهدي بخلاف هدي التطوع.
قال: وإن اشترك قوم في هدي المتعة وهم يؤمون البيت فقلدها بعضهم بأمر أصحابه صاروا محرمين لأن فعله بأمر شركائه كفعلهم بأنفسهم وإن قلدها بغير أمرهم صار هو محرما دونهم لأن فعله بغير أمرهم لا يقوم مقام فعلهم وبدون فعل من جهتهم لا يصيرون محرمين ألا ترى أنه لو قلدها أجنبي بغير أمرهم لا يصيرون محرمين فكذلك إذا قلد بعضهم بغير أمر الشركاء يصير هو محرما دونهم.
قال: ويتصدق بجلال هديه إذا نحره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "تصدق بجلالها وخطامها".
قال: ولا يعطي شيئا من ذلك في أجر جزارته لا من جلده ولا من لحمه ولا من جلاله هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "ولا تعط الجزار منها شيئا"، وقال: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له".(4/251)
قال: ويستحب له أن يأكل من هدي المتعة والقران والتطوع فإن الله تعالى أمر به بقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج: 36]. وأدنى ما يثبت بالأمر الاستحباب فلذلك يستحب له ولا ينبغي له أن يتصدق بأقل من الثلث هكذا روي عن بن مسعود رضي الله عنه أنه بعث بهدي مع علقمة فأمره أن يتصدق بثلث وأن يأكل ثلثا وأن يبعث إلى آل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بثلث.
قال: وإن ساق بدنة لا ينوي بها الهدي قال إذا كان ساقها إلى مكة فهو هدي وإنما أراد بهذا إذا قلدها وساقها لأن هذا لا يفعل عادة إلا بالهدي فكان سوقها بعد إظهار علامة الهدي عليها بمنزلة جعله إياها بلسانه هديا.
قال: ولا يجزئ في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيما فما فوق ذلك،(4/252)
ص -128- ... أو الثني من المعز والإبل والبقر لقوله صلى الله عليه وسلم: "ضحوا بالثنيان ولا تضحوا بالجذعان". إلا أن الجذع من الضأن إذا كان عظيما يجزئ لما روي أن رجلا ساق جذعانا إلى منى فبادت عليه فقال: أبو هريرة رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن"، فانتهزوها.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم النحر: "من ضحى قبل الصلاة فليعد". قال أبو بردة بن نيار إني ذبحت نسكي لأطعم أهلي وجيراني فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم فأعد نسكك". فقال: عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله عليه: "يجزيك ولا يجزئ أحدا بعدك"، فدل أن ما دون الثني من المعز لا يجوز والجذع من الضأن عند الفقهاء ما أتى عليه سبعة أشهر وعند أهل اللغة ما تم له ستة أشهر والثني من الغنم عند الفقهاء ما أتى عليه سنة وطعن في الثانية وعند أهل اللغة ما تم له سنتان والثني من المعز والبقر ما تم له سنتان وطعن في الثالثة ومن الإبل الجذع ما تم له أربع سنين والثني ما تم له خمس سنين.
قال: ولا يجزئ في الهدايا العوراء أو المقطوعة الذنب أو الأذن اشتراها كذلك أو وجدت عنده بعد الشراء لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استشرفوا العين والأذن". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بالعوراء البين عورها والعجفاء التي لا تبقى والعرجاء التي لا تمشي إلى منسكها والحادث من هذه العيوب بعد الشراء بمنزلة الموجود وقت الشراء في المنع من الجواز وهكذا إن أضجعها ليذبحها فأصابها شيء من ذلك في القياس ولكن في الاستحسان هذا لا يمنع الجواز لأنها تضطرب عند الذبح فيصيبها شيء من ذلك ولا يمكن التحرز في هذه الحالة فجعل عفوا لهذا ولأنه أضجعها ليتلفها فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يؤثر في المنع من الجواز بخلاف ما قبله.(4/253)
قال: وإن كان الذاهب من العين أو الأذن أو الذنب بعضه فإن كان ما ذهب منه كثيرا يمنع الجواز أيضا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة فالشرقاء مشقوفة الأذن عرضا والخرقاء طولا والمقابلة التي ذهب قدام أذنها والمدابرة أن يكون الذاهب خلف أذنها إلا أن القليل لا يمكن التحرز عنه عادة فجعل عفوا والحد الفاصل بين القليل والكثير عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ظاهر الرواية أن يكون الذاهب أكثر من الثلث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث كثير"، ولكن جعله من الكثير الذي يجزى في الوصية بخلاف ما وراءه فعرفنا أن ما زاد على الثلث حكمه مخالف للثلث وما دونه.
وذكر بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أن الذاهب إذا كان بقدر الربع يمنع على قياس ما تقدم من المسائل أن الربع ينزل منزلة الكمال كما في المسح والحلق وعلى قولهما إذا كان الذاهب أكثر من الباقي لم يجز وإن كان الباقي أكثر من الذاهب أجزأه لأن(4/254)
ص -129- ... القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإنما يظهر عند المقابلة وإن كان الذاهب والباقي سواء لم يجز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن المانع من الجواز إذا استوى بالمجوز يترجح المانع وقال أبو يوسف أخبرت بقولي أبا حنيفة رحمه الله تعالى فقال قولي قولك أو مثل قولك قيل هذا رجوع من أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى قوله وقيل هو إشارة إلى التفاوت بين القولين.
قال: ويجزى في الهدي الخصي ومكسورة القرن لأن ما لا قرن له يجزى فمكسور القرن أولى وهذا لأنه لا منفعة للمساكين في قرن الهدي وأما جواز الخصي فلأنه أطيب لحما وقال الشعبي رحمه الله تعالى ما زاده الخصا في طيبة لحمه خير للمساكين مما فات من الخصيين والأصل فيه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوأين ينظران في سواد ويمشيان في سواد ويأكلان في سواد أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته.
قال: فإن اشترى هديا ثم ضل منه فاشترى مكانه آخر وقلده وأوجبه ثم وجد الأول فإن نحرهما فهو أفضل لأنه أتى بالواجب وزاد ولأنه كان وعد أن ينحر كل واحد منهما والوفاء بالوعد مندوب إليه وإن نحر الأول وباع الثاني جاز لأنه ما أوجب الثاني ليكون أصلا بنفسه وإنما أوجبه ليكون خلفا عن الأول قائما مقامه فإذا أوجد ما هو الأصل سقط اعتبار الخلف وإن باع الأول وذبح الآخر فإن كانت قيمتهما سواء أو كانت قيمة الثاني أكثر جاز لأنه مثل الأول أو أفضل منه وإن كانت قيمة الأول أكثر فعليه أن يتصدق بالفضل لأنه جعل الأول هديا أصلا فإنما يجوز إقامة الثاني مقام الأول بشرط أن لا يكون أنقص من الأول فإذا كان أنقص كان عليه أن يتصدق بقدر النقصان لأنه قصد أن يمنع شيئا مما جعله لله تعالى وليس له ذلك فيتصدق بالفضل ليتم جعل ذلك القدر من المالية لله تعالى.(4/255)
وهدي المتعة والتطوع في هذا سواء لأنهما صار لله تعالى إذا جعلهما هديا في الوجهين جميعا فإن عرف بهدي المتعة فهو حسن لأن هدي المتعة نسك فينبني أمره على الشهرة وإن ترك ذلك لم يضره لأن الواجب هو التقرب بإراقة الدم فالتعريف فيه ليس من الواجب في شيء وإن كان معه للمتعة هديان فنحر أحدهما حل لأن ما زاد على الواحد تطوع فلا يتوقف حكم التحلل عليه.
قال: وهدي التطوع إذا بلغ الحرم فعطب فنحر وتصدق به أجزأه بخلاف هدي المتعة فإن ذلك مختص بيوم النحر فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فأما هدي التطوع غير مختص بيوم النحر وإنما عليه تبليغه محله بأن يذبحه في الحرم وقد فعل ذلك.
قال: فإن اشترى بدنة لمتعته ثم اشترك ستة نفر فيها بعد ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه ذلك لأنه لما أوجبها لنفسه صار الكل لازما عليه فإن قدر ما يجزئ من هدي المتعة(4/256)
ص -130- ... كان واجبا عليه وما زاد على ذلك وجب بإيجابه فإشراكه الغير بعد ذلك مع نفسه يكون رجوعا عما أوجب في البعض وكما لا يجوز له أن يرجع في الكل فكذلك لا يجوز له أن يرجع في البعض ولأن إشراكه بيع للبعض منهم وليس له أن يبيع شيئا مما أوجبه هديا وإن فعل فعليه أن يتصدق بالثمن وإن كان نوى عند الشراء أن يشرك فيها ستة نفر أجزأه ذلك لأنه ما أوجب الكل على نفسه بمجرد الشراء فكان هذا وما لو اشتراه السبعة سواء فإن لم يكن له نية عند الشراء ولكن لم يوجبها حتى أشرك فيها ستة نفر أجزأه ولكن الأفضل أن يكون ابتداء الشراء منهم أو من أحدهم بأمر الباقين حتى تثبت الشركة منهم في الابتداء.
قال: وإذا ولدت البدنة بعد ما اشتراها لهديه ذبح ولدها معها لأنه جعلها لله تعالى خالصا والولد جزء منها فإن كان انفصاله بعد ما جعلها لله تعالى سرى حق الله تعالى إليه فعليه أن يذبحها والولد معها وإن باع الولد فعليه قيمته اعتبارا للجزء بالكل وإن اشترى بها هديا فحسن وإن تصدق بها فحسن اعتبارا للقيمة بالولد فإن الأفضل أن يذبح ولو تصدق به كذلك أجزأه فكذلك بقيمته.
قال: وإذا مات أحد الشركاء في البدنة أو الأضحية فرضي وارثه أن يذبحها معهم عن الميت أجزأهم وهو الاستحسان وفي القياس لا يجوز لأن الميت إذا لم يوص بأن يذبح عنه فقد انقطع حكم القربة عن نصيبه فصار ميراثا لوارثه والوارث لم يقصد التقرب بذبحه عن نفسه فخرج ذلك القدر من أن يكون قربة وهذا لأن التقرب بالذبح تقرب بطريق الإتلاف وذلك لا يجوز عن الميت بغير أمره كالعتق ولكنه استحسن فقال يجوز لأن المقصود هو التقرب وتقرب الوارث بالتصدق عن الميت صحيح وإن لم يوص به فكذلك تقربه بإيفاء ما قصد المورث في نصيبه بإراقة الدم فالتصدق به يكون صحيحا.(4/257)
قال: وإن كان أحد الشركاء في البدنة كافرا أو مسلما يريد به اللحم دون الهدي لم يجزهم أما إذا كان أحدهم كافرا فلا يتحقق معنى القربة في نفسه لوجود ما ينافي معنى القربة وهو كفره وإراقة الدم الواحد إذا اجتمع فيه ما ينافي معنى القربة مع الموجب لها يترجح المنافي وأما إذا كان مراد أحدهم اللحم فلا يجزئ الباقين عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجزيهم لأن المنافي لمعنى القربة لم يتحقق هنا ليكون معارضا ونصيب كل واحد منهم بمنزلة هدي على حدة ولكل واحد منهم ما نوى.
ولكننا نقول الذي نوى اللحم فكأنه نفى معنى القربة في نصيبه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ذبحه أبو بردة قبل الصلاة: "تلك شاة لحم"؟ فعرفنا أن هذه عبارة عما لا يكون قربة وما يمنع الجواز وإراقة الدم لا يتجزى فإذا اجتمع فيه المانع من الجواز مع المجوز يترجح المانع كما لو كان أحدهم كافرا فأما إذا نووا القربة ولكن اختلفت جهات قصدهم فعلى(4/258)
ص -131- ... قول زفر رحمه الله تعالى لا يجوز أيضا لأن إراقة الدم لا يتبعض فلا تسع فيها الجهات المختلفة ولكنا نقول قصد الكل التقرب فكانت الإراقة لله خالصا فلا يعتبر فيه اختلاف الجهات بعد ذلك ألا ترى أن الواحد إذا وجبت عليه دماء من جهات مختلفة فنحر بدنة ينوي عن ذلك كله أجزأه؟ فكذلك الشركاء.
قال: ولا يركب البدنة بعد ما أوجبها لأنه جعلها لله جلت قدرته خالصا فلا ينبغي له أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه قبل أن يبلغ محله إلا أن يحتاج إلى ركوبها فحينئذ لا بأس بذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" فقال: إنها بدنة يا رسول الله فقال: "اركبها ويلك" وإنما أمره بذلك لأنه رآه عاجزا عن المشي محتاجا إلى ركوبها فإذا ركبها وانتقص بركوبه شيء ضمن ما نقص ذلك لأنه صرف جزء منها إلى حاجته.
وكذلك لا يحلب لبنها لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه ولكن ينبغي أن ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص لبنها ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح فأما إذا كان بعيدا ينزل اللبن ثانيا وثالثا فيصير ذلك بالبدنة ضارا فيحلبها ويتصدق بلبنها وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثل ذلك أو بقيمته وأي الشركاء فيها نحرها يوم النحر أجزأهم لأن كل واحد يستعين بشركائه في نحرها في وقته دلالة فيجعل ذلك بمنزلة الأمر به إفصاحا.
قال: وإذا عطب الهدي في الطريق نحره صاحبه فإن كان واجبا فهو لصاحبه يصنع به ما شاء لأنه قصد بهذا إسقاط الواجب عن ذمته فإذا خرج من أن يكون صالحا لإسقاط الواجب به بقي الواجب في ذمته كما كان وهذا ملكه فيصنع به ما شاء وإن كان تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه ثم ضرب به صفحته ولم يأكل منه شيئا بل يتصدق به وذلك أفضل من أن يتركه للسباع هكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها.(4/259)
والأصل فيه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه وأمره أن يسلك بها الفجاج والأودية حتى يخرج بها إلى منى فقال ماذا أصنع بما عطب على يدي منها؟ فقال: "انحرها واصبغ نعلها بدمها" والمراد بالنعل قلادتها "واضرب بها صفحة سنامها ثم خل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من رفقتك منها شيئا". ومقصوده مما ذكر أن يجعل عليها علامة يعلم بتلك العلامة أنها هدي فيتناول منها الفقراء دون الأغنياء وإنما نهاه أن يتناول منها لأنه كان غنيا مع رفقته.
ثم المتطوع بالهدايا إنما يتناول بإذن من له الحق والإذن معلق بشرط بلوغه محله قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج: 36] فإذا لم تبلغ محلها لا يباح له التناول منها ولا أن يطعم غنيا بل يتصدق بها على الفقراء لأنه قصد بها التقرب إلى الله تعالى فإذا(4/260)
ص -132- ... فات معنى التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم يتعين التقرب إلى الله تعالى بالتصدق وذلك بالصرف إلى الفقراء دون الأغنياء فإن أعطى من ذلك غنيا ضمن قيمته ويتصدق بجلالها وخطمها أيضا كما يفعل ذلك إذا بلغت محلها.
قال: وإذا أخطأ الرجلان فنحر كل واحد منهما هدي صاحبه أو أضحيته عن نفسه أجزأه استحسانا وفي القياس لا يجزئ لأن كل واحد منها غير مأمور بما صنع في هدي صاحبه فكان متعديا ضامنا ولكنه استحسن فقال كل واحد منهما مأذون بما صنع من صاحبه دلالة لأن صاحب الهدي والأضحية يستعين بكل أحد أن ينوب عنه في الذبح في وقته دلالة والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كقرب ماء السقاية ونحوها ويأخذ كل واحد منهما هديه من صاحبه فيصنع به ما شاء بمنزلة ما لو فعله صاحبه بأمره.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى، قال لكل واحد منهما الخيار بين أن يأخذ من صاحبه هديه فيصنع به ما شاء كما لو ذبحه بنفسه وبين أن يضمن صاحبه قيمة هديه فيشتري بها هديا آخر ويذبحه في أيام النحر وإن كان بعد أيام النحر تصدق بالقيمة وإن نحر هديه قائما أو أضجعه فأي ذلك فعل فهو حسن وبلغنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينحرونها قياما معقولة الأيدي اليسرى وفي قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}[الحج: 36] ما يدل على أنه لا بأس بأن ينحرها قائمة لأن وجوب الجنب السقوط من القيام.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس هدايا أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فدل أنه ينحر قياما وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال نحرت بيدي بدنة قائمة معقولة فكدت أهلك قوما من الناس لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة أو أستعين بمن يكون أقوى عليه مني.(4/261)
قال: ولا أحب أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره نحو قوله اللهم تقبل من فلان لقوله صلى الله عليه وسلم: "جردوا التسمية" يعني ذكر اسم الله تعالى عند الذبح ويكفي في هذا أن ينويه بقلبه أو يذكره قبل ذكر التسمية ثم يقول بسم الله والله أكبر وينحر.
قال: ولا يذبح البقر والغنم قياما لأنه مندوب في كل نوع أن يذبحه على وجه يكون أيسر على المذبوح قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" الحديث.
قال: ويستحب له أن يذبح هديه أو أضحيته بيده لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه وفي هذا دليل على أن الأولى أن يذبح بنفسه فأما إذا لم يقدر على ذلك ولم يهتد لذلك فلا بأس بأن يستعين بغيره لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه.(4/262)
ص -133- ... قال: ولا أحب أن يذبحه يهودي أو نصراني لأن هذا من باب القربة فلا يستعان فيه بالكافر قال صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين في أمر ديننا بمن ليس على ديننا".
قال: وإن ذبح هديه يوم النحر بعد طلوع الفجر أجزأه ولا يجزيه قبل طلوع الفجر إن كان هدي المتعة لأنه مؤقت بيوم النحر وإنما يدخل يوم النحر بعد طلوع الفجر الثاني وإن جعل ثوبه هديا أجزأه أن يهدي قيمته لأنه جعله لله تعالى وفيما صار لله تعالى صرف العين والقيمة سواء كما في الزكاة وكذلك لو جعل شاة من غنمه هديا أجزأه أن يهدي قيمتها وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أجزأه أن يهدي مثلها قال ألا ترى أنه يعطي في الزكاة قيمة الشاة؟ فيجوز.
وذكر في الجامع الكبير إذا قال لله علي أن أهدي شاتين وسطين فأهدى شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين لا يجوز بخلاف الزكاة لأنه التزم إراقة دمين وإراقة دم واحد لا يقوم مقام إراقة دمين وما ذكر في هذا الموضع أنه لا يجزئه التصدق بالقيمة لأنه إنما التزم التقرب بإراقة الدم فلا يقوم التصدق بالقيمة مقامه حتى قيل في المسألة روايتان فعلى ما ذكر هنا يجب أن يجوز هناك أيضا.
وإن قال: لله علي أن أهدي شاة فأهدى جزورا يجزئه وهو محسن في ذلك لأنه أدى الواجب عليه وزيادة فإن الجزور قائم مقام سبع من الغنم حتى يجزئ عن سبعة نفر ففيه وفاء بالواجب وزيادة وإنما أورد هذا لإيضاح أنه إذا أهدى مثل ما عينه في نذره أو أفضل منه أو أهدى قيمته أجزأه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الحج عن الميت وغيره(4/263)
قال رضي الله عنه: رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت النفقة فأنفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فإن كان أكثر النفقة من مال الميت وكان ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز وإلا فهو ضامن يرده ويحج من حيث يبلغ لأن المعتبر في الحج عن الغير الإنفاق من ماله في الطريق والأكثر له حكم الكل والتحرز عن القليل غير ممكن فقد يضيفه إنسان يوما فلا ينفق من مال الميت وقد يستصحب مع نفسه زادا أو ثوبا من مال نفسه وقد يشرب الماء فيعطي السقاء شيئا من عند نفسه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فاعتبرنا الأكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال الميت فكأن الكل من مال الميت وإن كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما أنفق من مال الميت لأنه مخالف لأمره فإنه أمر بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه(4/264)
ص -134- ... وهذه المسألة تدل على أن الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره أن أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج من مال المحجوج عنه كإنفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه جاءت السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائله: "حجي عن أبيك واعتمري".
وقال رجل يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم" وحديث الخثعمية مشهور حيث قالت يا رسول الله إن فريضة الله الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال صلوات الله تعالى عليه: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك؟" قالت: نعم فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يقبل" فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه.
وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال: للمحجوج عنه ثواب النفقة فأما الحج يكون عن الحاج وهذا لأن الحج عبادة بدنية والعبادات البدنية لا تجري النيابة في أدائها لأن الواجب عليه إنفاق المال في الطريق وأداء الحج فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج في طريق الحج.
ولكن الأول أصح فإن فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج وكذلك في هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا لأن ذلك قد حصل للميت فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا أن الحج عن الميت.(4/265)
قال: وإن أنفق المدفوع إليه من مال نفسه وفي مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع إليه وجاز الحج عن الميت لأنه قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه في طريق الحج بأن لا يكون مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه إظهاره ولا فرق في حق الميت بين أن ينفق من ماله وبين أن ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم.
قال: فإن نوى الحاج عن الغير أن يقيم بمكة بعد النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت لأن بهذه النية صار مقيما بمكة وتوطنه بمكة لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت وإنما استحقاقه النفقة في مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا لأنه في ذلك عامل للميت وإن كان أقام دون خمسة عشر يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت.
وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا، رحمهم الله تعالى، يقول: إن أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت لأنه محتاج إلى هذا القدر من المقام للاستراحة وإن أقام أكثر من ذلك(4/266)
ص -135- ... فنفقته في مال نفسه ولكن هذا الجواب كان في زمانهم لأنه كان يقدر أن يخرج من مكة متى شاء فأما في زماننا لا يقدر على الخروج إلا مع الناس فإن كان مقامه بمكة لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر يوما أو أقل أو أكثر لأنه لا يقدر على الخروج إلا معهم فلم يكن هو متوطنا بمكة لحاجة نفسه وإن أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فإن بدا له بعد المقام أن يرجع فنفقته في مال الميت لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت وإنما كان ينفق من مال نفسه لتأخير الرجوع فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في بلدة أخرى ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فإن خرج مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال: لا تعود نفقته في مال الميت هنا لأن القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال الميت لأنه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان لعمل الميت فما بقي ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت وبالوصول لم يبق ذلك السفر ثم هو أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة في مال الميت ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى مكة قبل وقت الحج بزمان كيف يكون حاله في الإنفاق.
وقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه إذا قدم في الأيام العشر فنفقته في مال الميت وإن قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن تدخل أيام العشر ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك لأن العادة أن قدوم قوافل مكة يتقدم ويتأخر ولكنه في الأيام العشر موافق لما هو العادة فأما قدومه قبل أيام العشر مخالف لما هو العادة وهو في هذه الإقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه.(4/267)
قال: فإن أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل لأن الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية بالتصدق بمال مقدر وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير والتعجيل أفضل لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الموصي وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال.
قال: وإذا حج العبد بإذن مولاه فإن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا عتق وأيما صبي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا بلغ وأيما أعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا هاجر".(4/268)
ص -136- ... وإنما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب الحج ولا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب عن الفرض وهذا بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض لأن ملك المال ليس بشرط للوجوب إنما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الأداء ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال وفي حق الآفاقي لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الأداء وبعده فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل الفقير إلى ذلك الموضع وجب الأداء فإنما حصل أداؤه بعد الوجوب فكان فرضا.
فأما العتق من شرائط الوجوب. فإن العبد الذي هو بمكة لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا توضيحه أنه إنما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه فإذا أداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد لمولاه وبإذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فإنما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط ما هو فرض العمر عنه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر ومنافعه لأداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فإنما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز عنه بخلاف ما نحن فيه فإن هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الإسلام.
قال: فإن أصاب صيدا فعليه الصيام لأنه صار جانيا على إحرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل التكفير بإراقة الدم ولا بالإطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر بالصوم.(4/269)
قال: وإن جامع مضى فيه حتى يفرغ منه لأن حجه وإن فسد لكن عليه المضي في الفاسد وإن إحرامه كان لازما فلا يخرج عنه إلا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا وعليه الهدي إذا عتق لتعجل الإحلال بالجماع وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه والأصل في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوي حجة الإسلام لأنه أفسدها بعد ما صح شروعه فيها فعليه قضاؤها.
وإن لم يجامع ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعي والحلق لأنه بعد صحة شروعه في الإحرام يتحلل بما يتحلل به الحر والحر إنما يتحلل بعد فوات الحج بأعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الإسلام لفوات ما شرع فيه وإن أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه لأنه لم يصر مالكا للطعام الذي يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فإن الرق ينافي الملك وبدون الملك فيما كفر به لا تسقط عنه الكفارة إلا في الإحصار خاصة فإن على مولاه أن يبعث بهدي عنه حتى يحل لأنه هو الذي أدخله في(4/270)
ص -137- ... هذه العهدة بإذنه بالإحرام فإنه لو أحرم بغير إذنه كان له أن يحلله بغير هدي فإذا أحرم بإذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه أن يحلله ولا يبعد أن يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده ثم على العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدي العبد إذا تحلل به.
قال: وإذا أراد الرجل أن يحج رجلا عن نفسه فأحب إلي أن يحج رجلا قد حج عن نفسه لأنه أبعد عن اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى ولأنه أهدى في إقامة أعمال الحج لصيرورتها معهودة عنده فإن أحج صرورة عن نفسه يجوز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز ويكون حج الصرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة، فقال عليه الصلاة والسلام: "من شبرمة"؟ فقال أخ لي أو صديق لي فقال عليه الصلاة والسلام: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة"، وحجتنا في ذلك حديث الخثعمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز لها أن تحج عن أبيها ولم يستفسر أنها حجت عن نفسها أو لا وفي الحديث الأخير تعارض فقد روي أنه سمع رجلا يلبي عن نبيشة فقال: "من نبيشة"؟ فقال: صديق لي. فقال: "إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك".
وتأويل الحديث الأخير أن ذلك الرجل لم يحرم بعد ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فأشار عليه عليه الصلاة والسلام بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول إن الأفضل أن يحج عن نفسه أولا.(4/271)
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الصرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجة يكون نفلا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون عن حجة الإسلام وحجته في ذلك أن نية النفل لغو لأنه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج وبمطلق النية يتأدى الفرض يدل عليه أن نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الإسلام والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقيا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية ويجوز أن تتأدى حجة الإسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى.
وحجتنا في ذلك أن وقت أداء الفرض في الحج يتسع لأداء النفل فلا يتأدى الفرض منه بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا ووقت أداء الصوم لا يتسع لأداء النفل وهذا لأن الحج عبادة معلومة بالأفعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا وفي مثله لا يتميز الفرض من النفل إلا بالتعيين وقوله يتأدى بمطلق النية قلنا عندنا لا يتأدى إلا بالتعيين غير أن التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف.
فالظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء النفل مع بقاء الفرض عليه.
والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد(4/272)
ص -138- ... بدلالة العرف وإنما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فإنه لا يلغي اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا في الإعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لأصحابه بطريق الدلالة في الإحرام عنه فينزل ذلك منزلة الإذن إفصاحا فإنما يتأدى له الحج بالنية وإن أراد أن يعين رجلا بماله للحج عن نفسه فالصرورة أولى بذلك ممن قد حج لأن الصرورة بماله يتوسل إلى أداء الفرض ومن قد حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الإعانة عليه بالمال أولى.
قال: والحج التطوع جائز عن الصحيح يريد به أن الصحيح البدن إذا أحج رجلا بماله على سبيل التطوع عنه فهو جائز لأن هذا انفاق المال في طريق الحج ولو فعله بنفسه كان طاعة عظيمة فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزا وكونه صحيحا لا يمنعه عن أداء التطوع بهذا الطريق وإن كان يمنعه عن أداء الفرض لأن في التطوع الأمر موسع عليه ألا ترى أن في الصلاة يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام وإن كان لا يجوز ذلك في الفرض فكذا هنا في حجة الإسلام.
والحاصل أن العبادات المالية المقصود منها صرف المال إلى سد خلة المحتاج وذلك يحصل نيابة فيجوز الإنابة فيها في حالة الاختيار والضرورة.
والعبادات البدنية المحضة المقصود منها إما التعظيم بالجوارح كالصلاة وإما إتعاب النفس الأمارة بالسوء ابتغاء مرضات الله تعالى وذلك لا يحصل بالنائب أصلا ولا تجري النيابة في أدائها.
والحج فيه المعنيان جميعا معنى التعظيم للبقعة وذلك بالنائب يحصل ومعنى تحمل المشقة للتوسل إلى أدائها وذلك بالنائب لا يحصل فلا تجزئ النيابة فيها عند القدرة على الأداء بنفسه لانعدام أحد المعنيين في الأداء بالنائب وتجزى النيابة فيها عند تحقق العجز عن الأداء بالبدن لحصول أحد المعنيين بالنائب.(4/273)
وفي العبادات البدنية المعتبر الوسع ولا يعتبر العجز للحال لأن الحج فرض العمر فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن فقلنا إن كان عجزه بمعنى لا يزول أصلا كالزمانة يجوز الأداء بالنائب مطلقا وإن كان عارضا يتوهم زواله بأن كان مريضا أو مسجونا فإذا أدى بالنائب كان ذلك مراعى فإن دام به العذر إلى أن مات تحقق اليأس عن الأداء بالبدن فوقع المؤدي موقع الجواز وإن بريء من مرضه تبين أنه لم يقع فيه اليأس عن الأداء بالبدن فكان عليه حجة الإسلام والمؤدي تطوع له والمال جعل خلفا عن القدرة على الأداء بالبدن في جواز الأداء به بعد تقرر الوجوب.(4/274)
ص -139- ... فأما في ثبوت حكم الوجوب بسببه ففيه اختلاف العلماء فالمذهب عندنا أن المعضوب والمقعد والزمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجب وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وحجته في ذلك حديث الخثعمية حيث قالت إن فريضة الله الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فقولها شيخا كبيرا نصب على الحال يعني لزمه الحج في هذه الحالة ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فدل أن الحج يجب على المعضوب والمقعد والزمن.
والمعنى فيه: أن شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب بالمال فإذا جاز أداء الواجب بالمال عند العجز عن الأداء بالبدن عرفنا أن شرط الوجوب يتم به وإذا جاز بقاء الواجب بعد وقوع اليأس عن الأداء بالبدن يؤدى بالمال فكذلك يثبت الوجوب بالبدن ابتداء بهذه الصفة كالصوم في حق الشيخ الفاني يجب باعتبار بدله وهو الفدية وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97] فإنما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى فلا يتناوله هذا الخطاب.
ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشرط ما لا يوصله إلى البيت بقوله: "من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى" وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى فصار وجوده كعدمه.(4/275)
ولأن المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة بالزيارة والمال شرط ليتوسل به إلى هذا المقصود وما هو المقصود فائت في حق المعضوب ولا يعتبر وجود الشرط لأن الشرط تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل في إثبات الحكم به ابتداء وإن كان يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد فإنه إذا افتقر بهلاك ماله بعد ما وجب الحج عليه يبقى واجبا ثم لا يجب ابتداء على الفقير وليس هذا نظير الفدية في حق الشيخ الفاني لأنه بدل عن أصل الصوم بالنص فيجوز أن يجب الأصل باعتبار البدل وهناك المال ليس ببدل عن أصل الحج ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال وإنما يتأدى بمباشرة النائب بالحج عنه فإذا لم يكن المال بدلا عن أصل الحج لا يثبت الوجوب باعتباره.
والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت هو شيخ كبير وهذا بيان أنه في الحال بهذه الصفة لا أنه في وقت الوجوب بهذه الصفة ثم مرادها أن تزول فريضة الحج عنه في حال كونه شيخا لا أنه وجب عليه.
ولظاهر هذا الحديث قال الشافعي رحمه الله تعالى المعضوب الذي لا مال له إذا بذل ولده له الطاعة ليحج عنه يلزمه فرض الحج وبطاعة غيره من القرابات لا يلزمه لأن الخثعمية لما بذلت الطاعة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج دينا على أبيها بقوله: "فدين الله أحق" ولم يستفسر أنه غني أو فقير فدل أن بذل الولد الطاعة يلزمه الحج وهذا لأن الولد كسبه فيكون بمنزلة ماله.(4/276)
ص -140- ... فكما أن القدرة على الأداء بالمال تكفي للايجاب عنده فكذلك القدرة بمنفعة الابن الذي هو كسبه وهذا لأنه ليس للولد في هذه الطاعة كثير منه على أبيه بخلاف سائر القرابات فإن ذلك لا يخلو عن منة وحجتنا في ذلك أن الولد متبرع في بذل هذه الطاعة كغيره فلا يجوز أن يكون تبرعه موجبا للحج على الأب ألا ترى أن الابن لو بذل المال لأبيه لا يلزمه قبوله ولا يجب الحج باعتبار هذا البذل فكذلك ببذل الطاعة بل أولى لأن هناك لم يكن للابن أن يرجع بعد ذلك ليتمكن الأب من مكافأته إذا استفاد مالا وهنا للابن أن يرجع عما بذل من الطاعة فإذا لم يجب الحج على الوالد ببذل الولد المال فببذله الطاعة أولى.
وعلى الأصل الذي قلنا إن المعتبر استطاعة توصله إلى البيت يتضح الكلام في هذه المسألة وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الأعمى لا يلزمه الحج وإن وجد مالا وقائدا وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
وجه قولهما: أن الأعمى متمكن من الأداء ببدنه ولكنه محتاج إلى قائد يهديه إلى ذلك فيكون بمنزلة الضال والذي ضل الطريق إذا وجد من يهديه إلى الطريق يلزمه الحج وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو عاجز عن الوصول إلى البيت بنفسه فكان بمنزلة المعضوب وهذا لأن ملك المال إنما يعتبر إذا كان يوصله إلى البيت والمال هنا لا يوصله إليه وبذل القائد الطاعة غير معتبر فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا لا يلزمه الحج.(4/277)
وأما إذا مات الرجل فأوصى أن يحج عنه فعلى الوصي أن يحج بماله لأن بموته تحقق العجز عن الأداء بالبدن والوصي قائم مقامه فكما أنه بعد وقوع اليأس يحج بماله في حياته فكذا وصيه تقوم مقامه بعد موته والأولى أن يحجج الوصي بماله رجلا فإن حجج امرأة جاز مع الكراهة لأن حج المرأة أنقص لأنه ليس فيه رمل ولا سعي في بطن الوادي ولا رفع الصوت بالتلبية ولا الحلق فكان إحجاج الرجل عنه أكمل من إحجاج المرأة.
قال: وإن أحج بماله رجلا فجامع ذلك الرجل في إحرامه قبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه وهو ضامن للنفقة لأنه أمر بإنفاق المال في سفر يؤدي به حجا صحيحا فبالإفساد يصير مخالفا فيكون ضامنا للنفقة وعليه المضي في الفاسد والدم وقضاء الحج وبهذا استدل محمد رحمه الله تعالى أن أصل الحج يكون للحاج حتى إن القضاء عليه عند الإفساد دون المحجوج عنه فأما على ظاهر الرواية إذا وافق فالحج عن المحجوج عنه ألا ترى أنه لا بد له من أن ينوي عن المحجوج عنه ولكن إذا خالف خرج من أن يكون بأمر المحجوج عنه فكان واقعا عن نفسه فعليه موجبه كالوكيل بالشراء إذا وافق كان مشتريا لأمره ولو خالف كان مشتريا لنفسه.
قال: ولو قرن مع الحج عمرة كان مخالفا ضامنا للنفقة عند أبي حنيفة رحمه الله(4/278)
ص -141- ... تعالى وعندهما لا يصير مخالفا استحسانا لأنه أتى بالمأمور به وزاد عليه ما يجانسه فلا يصير به مخالفا كالوكيل بالبيع إذا باع بأكثر مما سمى له من جنسه.
توضيحه: أن القران أفضل من الإفراد فهو بالقران زاد للميت خيرا فلا يكون مخالفا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو مأمور بإنفاق المال في سفر مجرد للحج وسفره هذا ما تفرد للحج بل للحج والعمرة جميعا فكان مخالفا كما لو تمتع ولأن العمرة التي زادها لا تقع عن الميت لأنه لم يأمره بذلك ولا ولاية عليه للحاج في أداء النسك عنه إلا بقدر ما أمره ألا ترى أنه لو لم يأمره بشيء لم يجز أداؤه عنه فكذلك إذا لم يأمره بالعمرة.
فإذا لم تكن عمرته عن الميت صار كأنه نوى العمرة عن نفسه وهناك يصير مخالفا فكذا هنا إلا أنه ذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه وإن نوى العمرة عن نفسه لا يصير مخالفا ولكن يرد من النفقة بقدر حصة العمرة التي أداها عن نفسه وذهب في ذلك إلى أنه مأمور بتحصيل الحج للميت بجميع النفقة فإذا ضم إليه عمرة نفسه فقد حصل الحج للميت ببعض النفقة وبهذا لا يكون مخالفا كالوكيل بشراء عبد بألف إذا اشتراه بخمسمائة ولكن هذا ليس بشيء فإنه مأمور بأن يجرد السفر للميت فإذا اعتمر لنفسه لم يجرد السفر للميت ثم الذي يحصل للميت ثواب النفقة فبقدر ما ينتقص به ينتقص من الثواب فكان هذا الخلاف ضررا عليه لا منفعة له.
ثم دم القران عندهما يكون على الحاج من مال نفسه وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان مأمورا بالقران من جهة الميت حتى لم يصر مخالفا لأن دم القران نسك وسائر المناسك عليه فكذلك هذا النسك ولأن لهذا الدم بدلا وهو الصوم ولو كان معسرا لم يشكل أن الصوم عليه دون المحجوج عنه فكذلك الهدي يكون عليه.(4/279)
قال: وكذلك لو أمر بالعمرة عن الميت فقرن معها حجة فهو على الخلاف الذي ذكرنا إلا أن على قولهما نفقة ما بقي من الحج بعد أداء العمرة يكون على الحاج خاصة لأنه في ذلك عامل لنفسه لا للميت فلا يستوجب النفقة في مال الميت وبهذا الفصل يتضح كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما بينا.
قال: وإذا كان أمر بالحج فبدأ واعتمر في أشهر الحج ثم حج من مكة كان مخالفا في قولهم جميعا لأنه مأمور بأن يحج عن الميت من الميقات والمتمتع يحج من جوف مكة فكان هذا غير ما أمر به ولأنه مأمور بالانفاق في سفر يعمل فيه للميت وإنما أنفق في سفر كان عاملا فيه لنفسه لأن سفره إنما كان للعمرة وهو في العمرة عامل لنفسه.
قال: وكل دم يلزم المجهز يعني الحاج عن الغير فهو عليه في ماله لأنه إن كان دم(4/280)
ص -142- ... نسك فإقامة المناسك عليه وإن كان دم كفارة فالجناية وجدت منه وإن كان دما وجب بترك واجب فهو الذي ترك ما كان واجبا عليه فلهذا كانت هذه الدماء عليه في ماله إلا دم الإحصار فإنه في مال المحجوج عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو على الحاج أيضا لأن وجوبه لتعجيل الإحلال فيكون قياس الدم الواجب بالجماع ولأنه في معنى دم القران لأنه مشروع للتحلل وهما احتجا وقالا دم الإحصار للخروج عن الإحرام وهو بمباشرة الإحرام كان عاملا للميت فكان الميت هو المدخل له في هذا حكما فعليه إخراجه كما بينا في العبد إذا أحرم بإذن مولاه ثم أحصر كان عليه إخراجه.
توضيحه أن دم الإحصار بمنزلة نفقة الرجوع ونفقة الرجوع في مال الميت وكان الحاج هو المنتفع به فكذلك دم الإحصار في ماله وإن كان الحاج هو المنتفع به ثم يرد ما بقي من المال على وصي الميت فيحج به إنسانا من حيث يبلغ ولا ضمان عليه فيما أنفق لأنه لم يكن مخالفا لأمر الميت فيما أنفق ألا ترى أنه لو مات في الطريق لم يضمن ما أنفق فكذلك إذا أحصر وقوله من حيث يبلغ يعني إذ كان ما بقي من المال لا يمكن أن يحج به من منزل الميت فيحج به من حيث يمكن وصار هذا كما لو لم يبلغ في الابتداء ثلث ماله إلا هذا القدر فيحج به بحسب الإمكان.
وأصل المسألة: أن من أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله فإنما يحج من منزله لأنه لو خرج للحج بنفسه كان يخرج من منزله فكذلك يحج عنه بعد موته من منزله فإن كان ثلث ماله لا يكفي للحج من منزله يحج عنه من حيث يبلغ استحسانا وفي القياس تبطل هذه الوصية لأنه عجز الوصي عن تنفيذ ما أمر به وهو الحج من منزله فكان هذا بمنزلة ما إذا أوصي بأن يشتري نسمة بألف درهم فتعتق عنه وكان ثلث ماله دون الألف درهم تبطل الوصية.(4/281)
وجه الاستحسان أن المقصود من الحج ابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل الثواب فيكون بمنزلة الوصية بالصدقة وذلك ينفذ بحسب الإمكان بخلاف الوصية بالعتق فإن العبد إن كان معينا فالوصية تقع له وكذلك إن لم يكن معينا فإنما أوصى بعبد يساوي ألفا فلا يجوز تنفيذه بعبد يساوي خمسمائة فلو وجدوا من يحج عن الميت من منزله بذلك المال ماشيا لا يجوز لهم أن يحجوا من منزله وإنما يجوز من حيث يبلغ راكبا حتى قال محمد رحمه الله تعالى في النوادر راكب البعير في ذلك أفضل من راكب الحمار وهذا لأنه لا يلزمه أن يحج بنفسه ماشيا وإن وجد النفقة فكذلك لا يحج عنه ماشيا لأن الحاصل للميت ثواب النفقة على ما بينا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال الخيار إلى الوصي إن شاء أحج عنه من حيث يبلغ راكبا وإن شاء من منزله ماشيا لأن في أحد الجانبين زيادة في المسافة(4/282)
ص -143- ... ونقصانا في النفقة وفي الجانب الآخر زيادة في النفقة ونقصان في المسافة وفي كل واحد منهما نيل الثواب فيختار الوصي أي الجانبين شاء.
فأما المحصر بعد ما تحلل فعليه قضاء الحج والعمرة بمنزلة ما لو كان أحرم عن نفسه فتحلل بالهدي وهذا شاهد لمحمد رحمه الله تعالى فإن المحصر غير مخالف ومع ذلك كان قضاء الحجة والعمرة عليه فدل أن أصل حجه عن نفسه وأن للميت ثواب النفقة فإن أمره رجلان كل واحد منهما بالحج فأهل بحجة عنهما كان ضامنا لهما جميعا لأن كل واحد منهما أمره بأن ينفق من ماله في سفر يخلص له وأن ينويه بعينه عند الإحرام وإذا لم يفعل صار مخالفا ولا يستطيع أن يجعل الحجة لواحد منهما لأنهما قد لزماه عن نفسه وهذا لأنه حين نواهما ولم يمكن تصحيح نيته عنهما لأن الحجة الواحدة لا تكون عن الاثنين وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت نيته عنهما فبقيت نية أصل الإحرام فكان محرما عن نفسه فلا يستطيع أن يحوله إلى غيره من بعد.
وهذا بخلاف من أحرم عن أبويه كان له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه متبرع وكان ذلك أمرا بينه وبين الله تعالى فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء بل يجعل التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء وهنا هو غير متبرع فيما صنع وهذا أمر بينه وبين العباد فبترك التعيين في الابتداء يصير مخالفا.
وإن أمره أحدهما بالحج والآخر بالعمرة ولم يأمراه بالجمع فجمع بينهما كان مخالفا أيضا لأنه ما أتي بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبا للنفقة في مال واحد منهما وإن أمراه بالجمع جاز لأن كل واحد منهما صرح أن مقصوده تحصيل النسك لا خلوص السفر له وقد حصل مقصود كل واحد منهما ولا ضمان عليه فيما أنفق من مالهما وهدي المتعة عليه في ماله وكذلك إن أمره بالقران رجل واحد لأن الهدي نسك وسائر المناسك على الحاج فكذا هذا النسك.(4/283)
قال: رجل استأجر رجلا ليحج عنه لم تجز الإجارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تجوز وأصل المسألة أن الاستئجار على الطاعات التي لا يجوز أداؤها من الكافر لا يجوز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه كل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزى فيه النيابة واستدل بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث رقى الملدوغ بفاتحة الكتاب فأعطي قطيعا من الغنم فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن أكل برقيه باطل: "لقد أكلت برقيه حق" والرقية بهذه الصفة طاعة ثم جوز أخذ البدل عليه والمعنى فيه أن الحج تجزى فيه النيابة في الأداء ولا يتعين على الأجير إقامته فيجوز استئجاره عليه كبناء الرباط والمسجد.(4/284)
ص -144- ... وبهذا الوصف تبين أن عمل الأجير وقع للمستأجر والدليل عليه أنه استوجب النفقة في ماله عندكم وإنما يستوجب النفقة في ماله إذا عمل له والدليل عليه أنه إذا خالف لا يستوجب النفقة عليه وإذا وقع عمله له استحق الأجر عليه بخلاف من استؤجر على الإمامة فإن عمله في الصلاة يقع له لا لغيره وكذلك من استؤجر على الجهاد فإن المجاهد يؤدي الفرض لنفسه فلا يكون عمله لغيره وحجتنا في ذلك حديث مرداس السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياك والخبز الرقاق" والشرط على كتاب الله وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه حين علم سورة من القرآن فأعطى قوسا فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحب أن يقوسك الله بقوس من النار؟" فقال: لا فقال صلوات الله عليه: "رد عليه قوسه".(4/285)
وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا". ولأن المباشر لعمل الطاعة عمله لله تعالى فلا يصير مسلما إلى المستأجر فلا يجب الأجر عليه بخلاف بناء الرباط والمسجد فالعمل هناك ليس بعبادة محضة بدليل أنه يصح من الكافر والدليل عليه أن المؤذن والمصلي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما كان يأخذ أجرا كما قال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}[الأنعام: 90] فكذلك الخليفة وأما حديث الرقية قلنا كان ذلك مالا أخذه من الحربي بطريق الغنيمة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضربوا لي فيها بسهم"، مع أن ذلك لم يكن مشروطا بعينه وعندنا ما ليس بمشروط يجوز أخذه. وإذا ثبت أن الاستئجار على الحج لا يجوز قلنا العقد الذي لا جواز له بحال يكون وجوده كعدمه وإذا سقط اعتبار العقد بقي أمره بالحج فيكون له نفقة مثله في ماله وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض ولكن يستحق كفايته لأنه فرغ نفسه لعمل ينتفع به المستأجر فيستحق الكفاية في ماله كالقاضي يستحق كفايته في بيت المال والعامل يستحق الكفاية في مال الصدقة والمرأة تستحق النفقة في مال الزوج لا بطريق العوض.
قال: ويجوز حجة الإسلام عن المحبوس إذا مات قبل أن يخرج لأنه قد تحقق اليأس عن الأداء بالبدن.
قال: والحاج عن غيره إن شاء قال لبيك عن فلان وإن شاء اكتفى بالنية بمنزلة الحاج عن نفسه إن شاء صرح بالحج عند الإحرام وإن شاء نوى واكتفى بالنية.
قال: وإن كان الميت أوصى بالقران فخرج المجهز يؤم البيت وساق هديا فقلده يكون محرما بهما جميعا لأن إحرامه عن غيره معتبر بإحرامه عن نفسه وقد بينا أن ذلك يحصل بسوق الهدي كما يحصل بالتلبية فكذلك إحرامه عن غيره وكذلك إن لم يكن الهدي لقرانه إنما هو من نذر كان عليه أو من جزاء صيد أو من جماع في إحرام قبل هذا أو(4/286)
ص -145- ... إحصار كان قبل هذا فساق معه لذلك هديا بدنة وقلدها فهو محرم على قياس ما لو نوى الإحرام عن نفسه فإنه يصير محرما بتقليد هذه الهدايا وسوقها فكذلك إذا نوى الإحرام عن غيره لأن هذه الهدايا عليه في ماله على كل حال.
قال: رجل أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما فأهل بحجة عن أحدهما لا ينوي عن واحد منهما قال له أن يصرفه إلى أيهما شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى ذلك عن نفسه وهو ضامن لنفقتهما وحجته في ذلك أنه مأمور من كل واحد منهما بتعيين النية له فإذا لم يفعل صار مخالفا كما إذا نوى عنهما جميعا بخلاف الحاج عن الأبوين فإنه غير مأمور به من جهتهما ألا ترى أنه يصح نيته عنهما فكذلك عن أحدهما بغير عينه وهذا لأن النية بمنزلة الركن في العبادات فإن قيمة العمل يكون بالنية فبتركه تعيين النية يكون مخالفا في حق كل واحد منهما وهما قالا الإبهام في الابتداء لا يمنع من انعقاد الإحرام صحيحا والتعيين في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء ألا ترى أنه لو أحرم لا ينوي حجة ولا عمرة بعينها كان له أن يعين في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء وهذا لأن الإحرام بمنزلة الشرط لأداء النسك ألا ترى أنه يصح في غير وقت الأداء ولا يتصل به الأداء فتركه نية التعيين فيه لا يجعله مخالفا.
وإذا عين قبل الاشتغال بعمل الأداء كان ذلك كالتعيين في الابتداء حتى أنه لو اشتغل بالطواف قبل التعيين لم يكن له أن يعين بعد ذلك عن واحد منهما لأنه لما اشتغل بالعمل تعين إحرامه عن نفسه فإن أداء العمل مع إبهام النسك لا يكون وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين إحرامه عن نفسه فلا يملك أن يجعله لغيره بعد ذلك.(4/287)
قال: وإذا أهل الرجل عن نفسه وعن ولده الصغير الذي معه ثم أصاب صيدا فعليه دم واحد ولا يجب عليه من جهة إهلاله عن ابنه شيء لأن عبارته في إهلاله عن ابنه كعبارة ابنه أن لو كان من أهله فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير الأب محرما عنه بقي للأب إحرام واحد فعليه جزاء واحد بخلاف القارن فهو محرم عن نفسه بإحرامين فكان عليه جزآن.
قال: وإذا أم الرجل البيت فأغمي عليه فأهل عنه أصحابه بالحج ووقفوا به في المواقف وقضوا له النسك كله قال يجزيه ذلك عن حجة الإسلام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزيه والقياس قولهما لأنه لم يأمر أصحابه بالإحرام عنه وليس للأصحاب عليه ولاية فلا يصير هو محرما بإحرامهم عنه لأن عقد الإحرام عقد لازم وإلزام العقد على الغير لا يكون إلا بولاية ولأن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما لأن نية الغير عنه بدون أمره لا تقوم مقام نيته والدليل عليه أن سائر المناسك لا تتأدى بأداء الأصحاب عنه فكذلك الإحرام.(4/288)
ص -146- ... وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وكمن نصب القدر على الكانون وجعل فيه اللحم وأوقد النار تحته فجاء إنسان وطبخه لم يكن ضامنا لوجود الإذن دلالة وإذا ثبت الإذن قامت نيتهم مقام نيته كما لو كان أمرهم بذلك نصا.
وأما سائر المناسك فالأصح أن نياتهم عنه في أدائها صحيح إلا أن الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقا ولو أدوا عنه جاز ومن أصحابنا من فرق فقال الإحرام بمنزلة الشرط فتجزى النيابة في الشروط وإن كان لا تجزى في الأعمال ألا ترى أن المحدث إذا غسل أعضاءه غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة وإن كانت النيابة لا تجزى في أعمال الصلاة.
توضيحه أن النيابة عند تحقق العجز ففي أصل الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه فأما في أداء الأعمال لم يتحقق العجز لأنهم إذا أحضروه المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا لعذر.
قال: فإن أصاب الذي أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من قبل إهلاله عن نفسه إن كان محرما وليس عليه من جهة إهلاله عن المغمى عليه شيء لما بينا أن بهذا الإهلال يصير المغمى عليه محرما كما لو كان أمره به إفصاحا فأما المهل بهذا الإهلال لا يصير محرما فلا يلزمه الجزاء باعتبار إحرامه.
قال: وإذا حج الرجل عن أبيه أو عن أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء الله تعالى.(4/289)
قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك؟" فقالت: نعم فقال صلوات الله عليه: "الله أحق أن يقبل". وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم للتي سألته أن تحج عن أبيها: "حجي واعتمري". وأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال يا رسول الله إن أمي قد توفيت وإنها كانت تحب الصدقة أفأ تصدق عنها؟ فقال: "نعم" فهذه الآثار تدل على أن الوارث يتبرع على مورثه بمثل هذه القرب.
فإن قيل: فلماذا قيد الجواب بالاستثناء بعد ما صح الحديث فيه؟
قلنا: لأن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين.
فإن قيل: فقد أطلق الجواب في كثير من الأحكام الثابتة بخبر الواحد.
قلنا: خبر الواحد موجب للعمل ففيما طريقه العمل أطلق الجواب فيه فأما سقوط(4/290)
ص -147- ... حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقه العلم فإنه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء.
قال: رجل أوصى بحجة فأحج الوصي عنه رجلا فهلكت النفقة من ذلك الرجل قال يحج عنه حجة أخرى من ثلث ما بقي من المال وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن بقي من ثلث مال الميت ما يمكن أن يحج به يحج عنه ثانيا وإلا فقد بطلت الوصية وعند محمد رحمه الله تعالى الوصية تبطل لأن الوصي قائم مقام الموصي في تعيين المال ولو عين الموصي مالا فهلك بطلت الوصية فكذلك إذا عين الوصي وأبو يوسف يقول محل الوصية الثلث فتعيين الوصي الثلث صحيح لأن به يتميز الثلث للوصية فأما تعيينه في الثلث غير صحيح لأن جميع الثلث محل الوصية فما بقي شيء يجب تنفيذ الوصية فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعيين المال ليس بمقصود وإنما المقصود به الحج عن
الميت فإذا لم يفد هذا التعيين ما هو المقصود صار كأن التعيين لم يوجد وما هلك من المال صار كأن لم يكن فلهذا يحج عنه بثلث ما بقي.
قال: وإن أوصى بحجة وعتق نسمة والثلث لا يسعهما يبدأ بالذي بدأ به الميت لأن البداية تدل على زيادة العناية وقد ثبت وجوب تنفيذ الوصية الأولى قبل ذكر الثانية فلا يتغير ذلك بذكر الوصية الثانية إذ ليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله إلا أن يكون الحج حجة الإسلام فحينئذ يبدأ بها وإن أخره الميت لأن الترجيح بالبداية بعد المساواة في القوة ولا مساواة بين الفرض والنفل في القوة ولأن الظاهر أن الموصي يقصد تقديم الفرض في الأداء وإن أخره في الذكر لأن إسقاط الفرض عن ذمته يترجح عنده على التبرع بما ليس عليه.
قال: وإن أوصى بأن يحج عنه بثلثه ولم يقل حجة حج عنه بجميع الثلث لأنه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده في جميع الثلث كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى.(4/291)
قال: وإن أوصى أن يحج عنه رجل حجة فأحجوه فلما قدم فضل معه كسوة ونفقة فإن ذلك لورثة الميت لأن الحاج عن الغير لا يتملك المال المدفوع إليه فإن التمليك يكون بطريق الاستئجار وقد بينا بطلان الاستئجار على الطاعة وإنما ينفق المال على ملك الموصي بطريق الإباحة لاستحقاقه الكفاية حين فرغ نفسه ليعمل له فما فضل من ذلك يكون باقيا على ملك الميت فيرد على ورثته.
قال: وإذا أوصى لرجل فقال: أحجوا فلانا حجة ولم يقل عني ولم يسم كم يعطي فإنه يعطي بقدر ما يحجه حجة وله أن لا يحج به إذا أخذه بل يصرفه إلى حاجة أخرى لأنه ما أمره بالحج عنه إنما جعل ذلك الحج عيارا لما أوصى له به من المال ثم أشار عليه بأن(4/292)
ص -148- ... يحج بذلك المال عن نفسه فكانت وصية صحيحة يجب تنفيذها بالدفع إليه ومشورته غير ملزمة فإن شاء حج به وإن شاء لم يحج.
قال: وإذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه أو بغير عينه وأوصى بوصايا لأناس بأكثر من الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب للحج فيه بأدنى ما يكون من نفقة الحج لأن الوصية بالحج وجب تنفيذها له بنفقة الموصي ووجب تنفيذ سائر الوصايا حقا للموصى لهم فعند اختلاف الحقوق تجري المزاحمة بينهم في الثلث لمراعاة حق كل مستحق بخلاف ما ذكرنا من الحج والعتق لأن تنفيذ الوصيتين هناك لحق الموصي فلهذا كانت البداية بما بدأ به الميت.
ثم ما خص الحج من الثلث هنا يحج به من حيث يبلغ لأنه هو الممكن من تحصيل مقصود الموصي بمنزلة ما لو لم يكن ثلث ماله إلا هذا وأوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من حيث يبلغ فإن أحجوا به من موضع فرجع الحاج بفضل نفقة وكسوة فقد تبين أنهم أخطأوا فكان الوصي ضامنا لما أنفقه فيضم ذلك إلى ما بقي ويحج به عن الميت من حيث يبلغ إلا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا فحينئذ هذا والأول سواء في القياس ولكن في الاستحسان تجزى الحجة عن الميت ولا يكون الوصي ضامنا لأن اليسير من التفاوت لا يمكن الاحتراز عنه فلا بد من أن يبقى بعد رجوعه كسرة أو جراب خلق أو ثوب خلق فلهذا جعل هذا القدر عفوا ولكن يرد على الورثة أو على الموصى له إن كان هناك موصى له بالثلث.(4/293)
قال: وإذا أهلت المرأة بحجة الإسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا كان معها محرم وإن لم يكن معها محرم كان له أن يمنعها وهي بمنزلة الحرة المحصرة وقد بينا فيما تقدم أن من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم لأن المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى يقول نفقة المحرم في ماله لأنه غير مجبر على الخروج فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها ولكن في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقة المحرم كما لا تتوسل إلا بنفقتها فكما يشترط لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذي يخرج معها يجعل ذلك شرطا وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق ولم يتعرض في شيء من المواضع لا من الطريق.
واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للأداء وكان بن أبي شجاع رحمه الله تعالى يقول هو شرط الوجوب لأن بدونه يتعذر الوصول إلى البيت إلا بمشقة عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة وكان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول هو شرط الأداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة ولا تجوز الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأي ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل(4/294)
ص -149- ... الشرك في ذلك الموضع ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الطريق فدل أن ذلك ليس من شرائط الوجوب إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجيء وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى مع ذلك زيادة نفقة شهر لأن الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب إلا بعد مدة فاستحسن اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه.
ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى يأثم بالتأخير عند أبي يوسف رواه عنه بشر بن المعلى وهكذا ذكره بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فذلك دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعن محمد رحمه الله تعالى يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يأثم بالتأخير وإن مات.
واستدل محمد بتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بعد نزول فرضيته فإنها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة عشر.
والمعنى فيه: أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع العمر أداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته ودليل صحة هذا الكلام أنه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل أن جميع العمر وقت أدائه.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج عليه فلا أن يموت يهوديا أو نصرانيا" الحديث. وقال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة ولم يحج فأحرق عليهم بيوتهم والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا.(4/295)
والمعنى فيه: أن السنة الأولى بعد ما تمت الاستطاعة متعينة لأداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها.
بيانه: وهو أن يمضي هذا الوقت يعجز عن الأداء بيقين وقدرته على الأداء بمجيء أشهر الحج من السنة الثانية موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقي مضي هذا الوقت تفويتا له.
توضيحه: أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا وهذه السنة متعينة لذلك لأن عدم التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة إلا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا طريق لأحد إلى معرفة ذلك ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا لأنه لما بقي إلى(4/296)
ص -150- ... السنة الثانية تحققت المعارضة فخرجت السنة الأولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما أدركها بمنزلة السنة الأولى.
فأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم فقد منع ذلك بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] وإنما نزلت هذه الآية في سنة عشر فأما النازل سنة ست فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] وهذا أمر بالإتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من التعريض للفوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمن من ذلك لأنه مبعوث لبيان الأحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله.
ولأن تأخيره كان لعذر وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا رضي الله تعالى عنه حتى قرأ عليهم سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ثم حج بنفسه ومن ذلك أنه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحاب يكونون معه ولم يكن متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية وقد بينا هذه الأعذار في الخلافيات.(4/297)
قال: وإن أهلت المرأة بغير حجة الإسلام فللزوج أن يمنعها من الخروج إن كان لها محرم أو لم يكن لأنها ممنوعة عن التطوع بغير إذن الزوج قال صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة: "لا تصومي تطوعا إلا بإذن زوجك". ولأنا لو مكناها من ذلك فوتت على الزوج حقه أصلا لأنها كما خرجت عن حجة أحرمت بأخرى وهي لا تملك تفويت حق الزوج عليه فلهذا كان له أن يمنعها وهي بمنزلة المحصرة إلا أن للزوج أن يحللها هنا قبل أن تبعث بالهدى ليوفر حقه عليه بخلاف ما إذا عدمت المحرم في حجة الإسلام وقد بينا هذا فيما سبق وكذلك المملوك إذا أهل بغير إذن المالك.
قال: وإذا أذن لعبده أو لأمته في الإحرام كرهت له أن يمنعه بعد ذلك ولو حلله جاز بخلاف الزوج وقد تقدم بيان هذا الفرق أيضا إعادة للفرق وهو أنه لما باع المملوك بعد الإذن له فللمشتري أن يحلله بغير كراهة عندنا لأن الكراهة في حق البائع كان لمعنى خلف الوعد وذلك غير موجود في حق المشتري وعلى قول زفر رحمه الله تعالى ليس للمشتري أن يحلله ويكون له أن يرده عليه بعيب الإحرام وجعله بمنزلة النكاح إذا زوج أمته ثم باعها لم يكن للمشتري أن يبطل ذلك النكاح لأنه سبق ملكه ولكن يجوز له أن يردها إذا لم يكن عالما به فكذلك هنا ولكنا نقول المشتري في ملك الرقبة قائم مقام البائع ولم يكن للبائع ولاية إبطال النكاح بعد صحته فلا يكون ذلك للمشتري أيضا وقد كان للبائع(4/298)
ص -151- ... ولاية التحليل من الإحرام قبل أن يبيعه فيكون ذلك للمشتري أيضا وإذا ثبت له ولاية التحليل لم يكن ذلك عيبا لازما.
توضيحه: أن النكاح حق العباد فيكون معارضا لحق المشتري فيترجح عليه بالسبق فأما الإحرام لزومه ليس لحق العباد وحق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى فلهذا كان للمشتري أن يحلله.
وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت المرأة ثم تزوجت كان للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير حجة الإسلام عندنا وعند زفر ليس له ذلك وإن أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فحللها ثم جامعها ثم بدا له أن يأذن لها في عامه ذلك فعليها أن تحج بإحرام مستقبل وعليها دم لأنها قد تحللت من الإحرام الأول بإحلال الزوج قبل أداء الأعمال فعليها الدم وقضاء الحج وليس عليها قضاء العمرة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليها ذلك بمنزلة ما لو أذن لها بعد تحول السنة وهذا لأن بالتحلل الأول وجب عليها قضاء حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر وصار ذلك دينا في ذمتها فلا فرق بين أن يأذن لها في عامه ذلك أو في عام آخر وحجتنا في ذلك أن وجوب العمرة على المحصر باعتبار فوت أداء الحج في هذه السنة بالقياس على فائت الحج فإن فائت الحج يلزمه أداء العمرة فإذا أذن لها فحجت في هذه السنة لم يتحقق سبب وجوب العمرة عليها فأما بعد تحول السنة فقد تحقق سبب وجوب العمرة عليها وهو فوات أداء الحج في السنة الأولى فلهذا فرقنا بينهما والله أعلم بالصواب.
باب المواقيت
قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام جحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق وهذا الحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها فأما بن عباس روى الحديث وذكر المواقيت الأربعة ولم يذكر ذات عرق لأهل العراق وبن عمر رضي الله عنه روى الحديث وذكر المواقيت الثلاث ولم يذكر ذات عرق ولا يلملم.(4/299)
وفي هذه الآثار دليل على أن كل من وصل إلى شيء من هذه المواقيت وهو يريد دخول مكة يلزمه الإحرام لأن توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن فائدة ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الإحرام بعد ما انتهى إلى هذه المواقيت فإن قبل ذلك كان يسعه التأخير بالاتفاق.
والشافعي رحمه الله تعالى لظاهر الحديث يقول: الأفضل أن يكون إحرامه عند الميقات وعلماؤنا رحمهم الله تعالى قالوا التأقيت لبيان أنه لا يسعه التأخير عنه فأما الأفضل أن يحرم قبل أن ينتهي إلى المواقيت لحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن(4/300)
ص -152- ... النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفرت له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ووجبت له الجنة" وقال علي وبن مسعود رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] أن إتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله.
قال وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقتنا له وقتا فهو له وقت ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج والعمرة" ففي هذا دليل أن كل من ينتهي إلى الميقات على قصد دخول مكة أن عليه أن يحرم من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن ألا ترى أن من دخل مكة من أهل الآفاق حلالا فأراد أن يحرم بالحج كان ميقاته للإحرام ميقات أهل مكة؟ فكذا هنا.
ثم أخذ الشافعي رحمه الله تعالى بظاهر هذا الحديث فقال إنما يجب الإحرام عند الميقات على من أراد دخول مكة للحج أو العمرة وأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الإحرام عنده قولا واحدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح بغير إحرام وإن أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فله فيه قولان:
في أحد قوليه: لا يلزمه الإحرام لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء النسك به وهذا الرجل غير قاصد أداء النسك فكان الحرم في حقه كسائر البقاع فكان له أن يدخلها بغير إحرام.(4/301)
فأما عندنا ليس لأحد ينتهي إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها إلا بإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة لحديث بن شريح الخزاعي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة". فقد ترخص للقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما أحلت لي ساعة" فلا تحل لأحد بعده فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وجاء رجل إلى بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: إني جاوزت الميقات من غير إحرام فقال: ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج لك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما" ولأن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء فليس لأحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا محرما فأما من كان وراء الميقات إلى مكة فله أن يدخلها لحاجته بغير إحرام عندنا.
وفي أحد قولي الشافعي، رحمه الله تعالى: ليس له ذلك فإنه لا يفرق على أحد(4/302)
ص -153- ... القولين بين أهل الميقات وأهل الآفاق في أنه لا يدخل أحد منهم مكة إلا محرما وحجتنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام والظاهر أنهم لا يجاوزون الميقات فدل أن كل من كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام.
وابن عمر رضي الله عنه خرج من مكة يريد المدينة فلما انتهى إلى قديد بلغته فتنة بالمدينة فرجع إلى مكة ودخلها بغير إحرام وكان المعنى فيه أن من كان داخل الميقات فهو بمنزلة أهل مكة لأنه محتاج إلى الدخول في كل وقت ولأن مصالحهم متعلقة بأهل مكة ومصالح أهل مكة متعلقة بهم فكما يجوز لأهل مكة أن يخرجوا لحوائجهم ثم يدخلوها بغير إحرام فكذا لأهل الميقات وهذا لأنا لو ألزمناهم الإحرام في كل وقت كان عليهم من الضرر ما لا يخفى فربما يحتاجون إليه في كل يوم فلهذا جوزنا لهم الدخول بغير إحرام إلا إذا أرادوا النسك فالنسك لا يتأدى إلا بإحرام وإرادة النسك لا تكون عند كل دخول.
وإذا أراد الإحرام وأهله في الوقت أو دون الوقت إلى مكة فوقته من أهله حتى لو أحرموا من الحرم أجزأهم وليس عليهم شيء لأن خارج الحرم كله بمنزلة مكان واحد في حقه والحرم حد في حقه بمنزلة الميقات في حق أهل الآفاق.
وكما أن ميقات الآفاقي للإحرام من دويرة أهله ويسعه التأخير إلى الميقات فكذا هنا يسعه التأخير إلى الحرم ولكن الشرط هناك أن لا يجاوز الميقات إلا محرما والشرط هنا أن لا يدخل الحرم إلا محرما لأن تعظيم الحرم بهذا يحصل.(4/303)
فإن دخل مكة قبل أن يحرم فأحرم منها فعليه أن يخرج من الحرم فيلبي فإن لم يفعل حتى يطوف بالبيت فعليه دم لأنه ترك الميقات المعهود في حقه للإحرام فهو بمنزلة الآفاقي يجاوز الميقات بغير إحرام ثم يحرم وراء الميقات وهناك يلزمه الدم إذا لم يعد لتأخير الإحرام عن مكانه فكذلك هنا يلزمه الدم إذا لم يعد إلى الحل وإن عاد فالخلاف فيه مثل الخلاف في الآفاقي إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم وراء الميقات على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أراد الكوفي بستان بني عامر لحاجة فله أن يجاوز الميقات غير محرم لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهذا لا يريد دخول مكة إنما يريد البستان وليس في تلك البقعة ما يوجب التعظيم لها فلهذا لا يلزمه الإحرام فإذا حصل بالبستان ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة له كان له أن يدخلها بغير إحرام لأنه لما حصل بالبستان حلالا كان مثل أهل البستان ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحوائجهم من غير إحرام فكذلك هذا الرجل وهذا هو الحيلة لمن يريد دخول مكة من أهل الآفاق بغير إحرام.(4/304)
ص -154- ... إلا أنه روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إن نوى الإقامة بالبستان خمسة عشر يوما كان له أن يدخل وإن نوى الإقامة بالبستان دون خمسة عشر يوما ليس له أن يدخل مكة إلا بإحرام لأن بنية الإقامة خمسة عشر يوما يصير متوطنا بالبستان فيصير بمنزلة أهل البستان وإن نوى المقام بها دون خمسة عشر يوما فهو ماض على سفره فلا يدخل مكة إلا بإحرام.
وجه ظاهر الرواية وهو أنه حصل بالبستان قبل قصده دخول مكة فإنما قصد دخول مكة بعد ما حصل بالبستان فكان حاله كحال أهل البستان.
قال: وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع وهم في ذلك بمنزلة أهل مكة أما المكي فلأنه ليس له أن يتمتع بالنص لأن الله تعالى قال في ذلك: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 196].
واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حاضري المسجد الحرام فقال مالك رحمه الله تعالى هم أهل مكة خاصة وقال الشافعي رحمه الله تعالى هم أهل مكة ومن يكون منزله من مكة على مسيرة لا يجوز فيها قصر الصلاة وقلنا أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة من حاضري المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة بدليل أنه يجوز لهم دخول مكة بغير إحرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا.
وكما لا يتمتع من هو من حاضر المسجد الحرام فكذلك لا يقرن بين الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز له القران من قبل أن القارن على قوله يترفه بإدخال عمل أحد النسكين في الآخر والمكي في هذا وغيره سواء وعندنا معنى الترفه بالقران والتمتع في أداء النسكين في سفر واحد لا في إدخال عمل أحدهما في الآخر ومن كان من حاضري المسجد الحرام فهو غير محتاج إلى السفر لأداء النسك ولا يلحقه بالسفر كثير مشقة فكما لا يكون له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج فكذلك لا يكون له أن يقرن بينهما عندنا.(4/305)
إلا أن المكي إذا كان بالكوفة فلما انتهى إلى الميقات قرن بين الحج والعمرة فأحرم لهما صح ويلزمه دم القران لأن صفة القارن أن تكون حجته وعمرته متقارنتين يحرم بهما جميعا معا وقد وجد هذا في حق المكي ولو اعتمر هذا المكي في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأن الآفاقي إنما يكون متمتعا إذا لم يلم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا والمكي هنا يلم بأهله بين النسكين حلالا إن لم يسق الهدي وكذلك إن ساق الهدي لا يكون متمتعا بخلاف الآفاقي إذا ساق الهدي ثم ألم بأهله محرما كان متمتعا لأن العود هناك مستحق عليه فيمنع ذلك صحة إلمامه بأهله وهنا العود غير مستحق عليه وإن ساق الهدي فكان إلمامه بأهله صحيحا فلهذا لم يكن متمتعا.(4/306)
ص -155- ... وعلى هذا روى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن المكي إذا خرج إلى الكوفة ثم مات وأوصى بأن يحج عنه من منزله وهو بمكة بمنزلة الآفاقي يخرج مسافرا فيوصي بأن يحج عنه ولو أوصى هذا المكي بأن يقرن عنه من الكوفة لأن القران لا يكون من مكة فعرفنا أن مراده أن يقرن عنه من حيث هو.
قال: والمكي إذا خرج من مكة لحاجة له فلم يجاوز الوقت فله أن يدخل مكة بغير إحرام وإن جاوز لم يكن له أن يدخل مكة إلا بإحرام لما بينا أن من قصد إلى موضع فحاله في حكم الإحرام كحال أهل ذلك الموضع.
قال: ووقت أهل مكة للإحرام بالحج الحرم وكذلك كل من حصل بمكة حلالا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه رضي الله تعالى عنهم بفسخ إحرام الحج والإحرام بالعمرة فحلوا منها فلما كان يوم التروية أمرهم بأن يحرموا بالحج من جوف مكة.
قال: وميقات إحرام أهل مكة للعمرة التنعيم أو غيره من الحل لأن موضع الإحرام غير موضع أداء النسك وأداء الحج يكون بالوقوف وهو في الحل فالإحرام به يكون في الحرم وأداء نسك العمرة بالطواف وهو في الحرم فالإحرام بها يكون في الحل.
قال: كوفي جاوز الميقات نحو مكة ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة جاز حجه وعليه دم لترك الوقت لأنه لما انتهى إلى الميقات وجب عليه الإحرام بالحج من الميقات لما روي عن بن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما فإذا جاوزه حلالا فقد ارتكب المنهي وأخر الإحرام عن الميقات"، فتمكن نقصان في حجه ونقصان الحج يجبر بالدم فإن رجع إلى الميقات ولبى إن رجع قبل أن يحرم وأحرم بالحج من الميقات فلا شيء عليه بالاتفاق لأنه تلافي المتروك في وقته ومكانه فصار في الحكم كأنه لم يجاوز الميقات إلا محرما فإن الواجب عليه أداء الحج بإحرام يباشره من الميقات وقد أتى بذلك.(4/307)
وإن كان أحرم بعد ما جاوز الميقات ثم عاد إلى الميقات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن لبى عند الميقات يسقط عنه الدم وإن لم يلب لم يسقط عنه الدم وعندهما يسقط عنه الدم في الحالين جميعا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يسقط عنه الدم في الوجهين لأن المستحق عليه إنشاء الإحرام بالحج من الميقات فإذا أحرم بعد ما جاوز الميقات فقد ترك ما هو المستحق عليه فلزمه الدم كما لو لم يعد وهذا لأن الواجب عليه إنشاء تلبية واجبة عند الميقات ووجوب التلبية عند الإحرام لا بعده فهو وإن لبى عند الميقات فإنما أتى بتلبية غير واجبة فلا يصير به متداركا لما فاته بخلاف ما إذا عاد فأحرم من الميقات.
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان الواجب عليه أن يكون محرما عند(4/308)
ص -156- ... الميقات لا أن ينشئ الإحرام عند الميقات ألا ترى أنه لو أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات ثم مر بالميقات محرما ولم يلب عند الميقات لا يلزمه شيء وكذلك إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم ولم يلب فقد تدارك ما هو واجب عليه وهو كونه محرما عند الميقات واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بقول بن عباس رضي الله عنهما أنه قال لذلك الرجل ارجع إلى الميقات وإلا فلا حج لك والمعنى فيه أنه لما انتهى إلى الميقات حلالا وجب عليه التلبية عند الميقات والإحرام فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتى أحرم وراء الميقات ثم عاد فإن لبى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه فيسقط عنه الدم وإن لم يلب فلم يأت بجميع ما استحق عليه وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات لأن ميقاته هناك موضع إحرامه وقد لبى عنده فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتا للإحرام في حقه فلهذا لا يضره ترك التلبية عنده بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
قال: فإن قرن هذا الكوفي بعد ما جاوز الميقات فأحرم بالحج والعمرة ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم واحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه دمان لأنه أخر الإحرامين جميعا عن الميقات فيلزمه لكل إحرام دم ألا ترى أن القارن إذا ارتكب سائر المحظورات يجب عليه ضعف ما يجب على المفرد فكذلك إذا أحرم وراء الميقات وعلماؤنا قالوا المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات ثم أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات كان جائزا ولا شيء عليه فعرفنا أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد فيجب عليه بتأخير ذلك الإحرام دم واحد بخلاف سائر المحظورات فإنه صار بجنايته مرتكبا محظور إحرامين، فكان عليه جزآن.(4/309)
وكذلك إن أهل بعمرة بعد ما جاوز الميقات ثم أهل بحجة بمكة فعليه دم واحد لتأخيره إحرام العمرة عن الميقات لأنه لما دخل مكة بإحرام العمرة فميقات إحرامه للحج الحرم وقد أحرم به في الحرم وإن كان أهل بالحجة بعد ما جاوز الميقات ثم دخل مكة فأهل بالعمرة أيضا كان عليه دمان لأنه أخر إحرام الحج عن ميقاته فوجب عليه دم ولما دخل مكة بإحرام الحجة فميقات إحرامه للعمرة الحل بمنزلة ميقات أهل مكة فحين أهل بالعمرة في الحرم فقد ترك ميقات إحرام العمرة أيضا فيلزمه لذلك دم آخر.
قال: كوفي دخل مكة بغير إحرام لحاجة له فقال عليه حجة أو عمرة أي ذلك شاء لأن دخول مكة سبب لوجوب الإحرام عليه فمباشرة ذلك السبب بمنزلة التزامه الإحرام بالنذر وفي نذر الإحرام يلزمه حجة أو عمرة فكذلك إذا لزمه الإحرام بدخول مكة فإن رجع إلى الميقات فأهل بحجة الإسلام أجزأه عن حجة الإسلام وعما لزمه بدخول مكة استحسانا عندنا وفي القياس لا يجزيه عما لزمه لدخول مكة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه بدخول مكة بغير إحرام وجب عليه حجة أو عمرة وصار ذلك دينا في ذمته. وحجة الإسلام(4/310)
ص -157- ... لا تنوب عما صارت نسكا دينا في ذمته ألا ترى أنه لو تحولت السنة ثم أحرم بالحج في السنة الثانية من الميقات لا ينوب هذا عما لزمه لدخول مكة فكذلك في السنة الأولى.
ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا لو كان حين انتهى إلى الميقات في الابتداء أحرم بحجة الإسلام ناب ذلك عما يلزمه لدخول مكة لأن الواجب عليه أن يكون محرما عند دخول مكة لا أن يكون إحرامه لدخول مكة كمن اعتكف في رمضان أجزأه لأن الواجب عليه أن يكون صائما في مدة الاعتكاف لا أن يكون صومه للاعتكاف.
فإذا عرفنا هذا فنقول: لو أحرم عند الميقات في الابتداء كان يؤدي حجة الإسلام بذلك الإحرام في تلك السنة وقد أداها حين عاد إلى الميقات فأحرم بحجة الإسلام فصار به متلافيا للمتروك فيسقط عنه ما لزمه لدخول مكة فأما بعد ما تحولت السنة لم يصر متلافيا للمتروك لأنه لو أحرم بالحج في السنة الأولى لم يكن له أن يؤدي الحج بذلك الإحرام في الثانية فعرفنا أنه لا يصير متلافيا للمتروك.
فإن قيل: أليس أنه لو عاد إلى الميقات وأحرم بعمرة منذورة لا يسقط عنه بهذا العود ما لزمه بدخول مكة وهو حين انتهى إلى الميقات لو أحرم بالعمرة المنذورة ودخل به مكة لا يلزمه شيء ثم لا يصير به متداركا لما هو الواجب؟.
قلنا: هو خارج على ما ذكرنا لأن العمرة وإن لم تكن مؤقتة فيكره أداؤها في خمسة أيام من السنة فلو أحرم بها في الابتداء لم يكن له أن يؤخرها إلى الوقت المكروه فلا يصير بالرجوع إلى الميقات والإحرام بالعمرة متداركا للمتروك.(4/311)
قال: وإذا جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بالحج ففاته الحج سقط عنه دم الوقت عندنا ولم يسقط عند زفر رحمه الله تعالى لأن الدم بمجاوزة الميقات صار واجبا عليه فلا يسقط بفوات الحج كما لو وجب عليه الدم بالتطيب أو لبس المخيط لا يسقط عنه ذلك بفوات الحج ولكنا نقول لما فاته الحج وجب عليه القضاء وهو للقضاء يحرم من الميقات فينعدم به المعنى الذي لأجله يلزمه الدم وهو أداء الحج بإحرام بعد مجاوزة الميقات بخلاف سائر الدماء لأن وجوب ذلك عليه بما ارتكب من المحظورات ولا ينعدم ذلك بفوات الحج وعلى هذا لو جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه سقط عنه دم الوقت عندنا لأن القضاء وجب عليه فإذا عاد للقضاء يحرم من الميقات فانعدم به المعنى الذي لأجله كان يلزمه الدم.
قال: وكذلك من جاوز الميقات غير محرم ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه ولا شيء عليه لأن إتيانه وقتا آخر بمنزلة رجوعه إلى الميقات والإحرام عنده للأصل الذي قلنا إن من حصل في ميقات فإحرامه يكون من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن فإنما أحرم بالحج من ميقاته فلهذا لا يلزمه الدم.(4/312)
ص -158- ... قال: عبد دخل مكة مع مولاه بغير إحرام ثم أذن له مولاه فأحرم بالحج فعليه إذا عتق دم لترك الوقت لأنه مخاطب فيتحقق منه السبب الموجب للدم وهو تأخير الإحرام بالحج من ميقاته ولكن ما يلزمه من الدم إذا لم يكن له مال يتأخر إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف النصراني يدخل مكة ثم يسلم ثم يحرم من مكة أو الصبي يدخل مكة بغير إحرام ثم يحتلم بمكة فيحرم بالحج فإن هناك لا يلزمه بترك الوقت شيء لأن النصراني لم يكن مخاطبا بالإحرام بالحج حين انتهى إلى الميقات فإن الخطاب بالإحرام إنما يتوجه على من يصح منه الإحرام وكذلك الصبي فلا يتحقق منهما تأخير الإحرام الواجب لأنه إنما لزمهما الإحرام عند الإسلام والبلوغ وعند ذلك هما بمكة وميقات إحرام الحج في حق من هو بمكة الحرم وقد أحرما منه بخلاف العبد على ما بينا.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن النصراني لو أسلم أو بلغ الصبي فمات قبل إدراك الوقت وأوصى كل واحد منهما بأن يحج عنه حجة الإسلام فوصيتهما باطلة عند زفر رحمه الله تعالى لأنه لم يلزمهما الحج قبل إدراك الوقت إذ لا يتصور الأداء قبل إدراك الوقت فلا تصح وصيتهما به وعلى قول أبي يوسف يصح لأن سبب الوجوب قد تقرر في حقهما والوقت شرط الأداء وانعدام شرط الأداء لا يمنع تقرر سبب الوجوب فتصح وصيتهما بالأداء في وقته.
قال: ولو أن الصبي أهل بالحج قبل أن يحتلم ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل أن يقف بعرفة لم يجزه عن حجة الإسلام عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجزئه وهو بناء على ما بينا في كتاب الصلاة إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره عنده يجزئه عن الفرض ويجعل كأنه بلغ قبل أداء الصلاة وهنا أيضا يجعل كأنه بلغ قبل مباشرة الإحرام فيجزئه ذلك عن حجة الإسلام قال وهذا على أصلكم أظهر لأن الإحرام عندكم من الشرائط دون الأركان ولهذا صح الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج.(4/313)
ولكنا نقول: حين أحرم هو لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد إحرامه لأداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو نظير الصرورة إذا أحرم بنية النفل عندنا لا يجزئه أداء الفرض به وعنده ينعقد إحرامه للفرض والإحرام وإن كان من الشرائط عندنا ولكن في بعض الأحكام هو بمنزلة الأركان ومع الشك لا يسقط الفرض الذي ثبت وجوبه بيقين فلهذا لا يجزئه حجة الإسلام بذلك الإحرام إلا أن يجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة فحينئذ يجزئه عن حجة الإسلام لأن ذلك الإحرام الذي باشره في حالة الصغر كان تخلقا ولم يكن لازما عليه فيتمكن من فسخه بتجديد الإحرام.
وهذا بخلاف العبد فإنه لو أعتقه المولى بعد ما أحرم لا يجزئه عن حجة الإسلام وإن(4/314)
ص -159- ... جدد الإحرام بعد العتق لأن إحرام العبد لازم في حقه لكونه مخاطبا فلا يتمكن بعد العتق من فسخ ذلك الإحرام وإنما طريق خروجه من ذلك الإحرام أداء الأفعال فسواء جدد التلبية أو لم يجدد فهو باق في ذلك الإحرام فلا يجزئه عن حجة الإسلام بخلاف الصبي على ذكرنا وإن أعتق العبد قبل أن يحرم ثم أحرم بحجة الإسلام أجزأه لأن شرط الوجوب تقرر في حقه بالعتق فلهذا يجزئه عن حجة الإسلام.
قال: وإذا دخل الرجل مكة بغير إحرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل بها بعد سنة في وقت غير وقته الأول هو أقرب منه قال يجزيه ولا شيء عليه لأنه في السنة الأولى لو أحرم من هذا الميقات أجزأه عما يلزمه لدخول مكة وجعل هذا كعوده إلى الميقات الأول فكذلك في السنة الثانية إذا جاء إلى هذا الميقات لأن من حصل عند ميقات فحكمه حكم أهل ذلك الميقات والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الذي يفوته الحج
قال رضي الله عنه: رجل أهل بحجة ففاته فإنه يحل بعمرة وعليه الحج من قابل قال وبلغنا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما.
والمراد بالحديث المرفوع ما رواه بن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج وليتحلل بالعمرة وعليه الحج من قابل".(4/315)
وأما حديث عمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ما رواه الأسود قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول من فاته الحج تحلل بعمرة عليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه بعد ذلك بثلاثين سنة فسمعته يقول مثل ذلك وكان المعنى فيه أن الإحرام بعد ما انعقد صحيحا فطريق الخروج عنه أداء أحد النسكين أما الحج أو العمرة كمن أحرم إحراما بهما وهنا تعذر عليه الخروج عنه بالحج حين فاته الحج فعليه الخروج بعمل العمرة ثم إن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أصل إحرامه باق بالحج ويتحلل بعمل العمرة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصير إحرامه إحرام عمرة وعند زفر رحمه الله تعالى ما يؤديه من الطواف والسعي بقايا أعمال الحج لأنه بالإحرام بالحج التزم أداء أفعال يفوت بعضها بمضي الوقت ولا يفوته البعض فيسقط عنه ما يفوت بمضي المدة ويلزمه ما لا يفوت وهو الطواف والسعي.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا: الطواف والسعي للحج إنما يتحلل بهما(4/316)
ص -160- ... من الإحرام بعد الوقوف فأما قبل الوقوف فلا وحاجته إلى التحلل هنا قبل الوقوف فإنما يأتي بطواف وسعي يتحلل بهما من الإحرام وذلك طواف العمرة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يصير أصل إحرامه للعمرة ضرورة لأن التحلل بطواف العمرة إنما يكون بإحرام العمرة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يمكن جعل إحرامه للعمرة إلا بفسخ إحرام الحج الذي كان شرع فيه ولا طريق لنا إلى ذلك والدليل عليه أن المكي إذا فاته الحج يتحلل بعمل العمرة من غير أن يخرج من الحرم ولو انقلب إحرامه للعمرة لكان يلزمه الخروج إلى الحرم لأنه ميقات إحرام العمرة في حق المكي.
قال: فإن كان أهل بحجة وعمرة فقدم مكة وقد فاته الحج فإنه يطوف بالبيت وبالصفا والمروة لحجه ويحل وعليه الحج من قابل ولا يجعل ما أتى به من الطواف والسعي قبل فوات الحج كافيا للتحلل عن إحرام الحج لأن ذلك كان طواف التحية وهو سنة فلا يحصل به التحلل فإن كان طاف لعمرته وسعى فقد أتى بهما وإن لم يكن طاف بعمرته يطوف لها الآن لأن العمرة لا تفوته ثم يطوف بعد ذلك لحجته ويسعى حتى يتحلل وهذا دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على أن أصل إحرامه لا ينقلب عمرة لأنه لو انقلب عمرة لصار جامعا بين إحرام عمرتين وأدائهما في وقت واحد وذلك لا يجوز ثم لا يجب عليه الدم بالقياس على المحصر وهذا فاسد لأن المحصر عاجز عن التحلل بالطواف والسعي وفائت الحج قادر على ذلك ثم فائت الحج يقطع التلبية حين يستلم الحجر في الطواف لما بينا أن هذا الطواف عمل العمرة وأوان قطع التلبية في حقه ما هو أوان قطع التلبية في حق المعتمر فإن كان قارنا فإنما يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الثاني لأن العمرة ما فاتته فيجعل كأنه طاف لها قبل الفوات فلا يقطع التلبية عندها وإنما يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف الذي يتحلل به عن الإحرام في الحج.(4/317)
قال: ولو فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا وهذا أيضا يدل على أن إحرامه لم ينقلب إحرام عمرة فإنه لو انقلب إحرام عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في رمضان فطاف لها في شوال ولكنه بعمل العمرة يتحلل من إحرام الحج في شوال وليس هذا صورة المتمتع.
قال: رجل أهل بحجة فجامع فيها ثم قدم وقد فاته الحج فعليه دم لجماعه ويحل بالطواف والسعي لأن الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن التحلل بالإحرام الصحيح بعد الفوات يكون بالطواف والسعي فكذلك عن الإحرام الفاسد ولو كان أصاب في حجه صيدا فعليه الكفارة لأن إحرامه بعد الفساد باق فيجب بارتكاب المحظور ما يلزمه بارتكابه في الإحرام الصحيح وهذا الذي أفسد الحج إنما يقطع التلبية بعد الفوات حين يأخذ في الطواف ألا ترى(4/318)
ص -161- ... أنه لو لم يفته كان أوان قطع التلبية في حقه حين يرمي جمرة العقبة اعتبارا بمن صح حجه؟ فكذلك بعد الفوات.
قال: رجل أهل بحجة فقدم مكة وقد فاته الحج فأقام حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الإحرام قال لا يجزئه عن حجته وبهذا يستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى على أن إحرامه صار للعمرة حيث لا يجوز أداء الحج به ولكنا نقول قد بقي أصل إحرامه للحج ولكنه تعين عليه الخروج بإعمال العمرة فلا يبطل هذا التعيين بتحول السنة مع أن إحرامه انعقد لأداء الحج في السنة الأولى فلو صح أداء الحج به في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله وليس إليه تغيير موجب عقد الإحرام.
وإن قدم وقد فاته الحج فأهل بحجة أخرى فإنه يطوف للذي قد فاته ويسعى ويرفض التي أهل بها وعليه فيها ما على الرافض وعليه قضاء الفائت أيضا لأن أصل إحرامه بعد الفوات تعين للحج فهو بالإهلال بحجة أخرى يصير جامعا بين حجتين فلهذا يرفض التي أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله وإن نوى بهذه التي أهل بها قضاء الفائت فهي هي يعني لا يلزمه بهذا الإهلال شيء لأنه نوى إيجاد الموجود فإن إحرامه بالحج باق بعد الفوات ونية الإيجاد فيما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعي وعليه قضاء الفائت فقط بخلاف الأول فقد نوى بالإهلال هناك حجة أخرى سوى الموجود.
قال: وإن أهل بعمرة بعد ما فاته الحج رفضها أيضا ومضى في عمل الفائتة لأنه لما لزمه التحلل عن الأول بعمل العمرة يصير جامعا بين العمرتين من حيث العمل وذلك لا يجوز فلهذا يرفض التي أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله.(4/319)
قال: رجل أهل بحجتين وقدم مكة وقد فاته الحج قال يحل بالطواف والسعي وعليه عمرة وحجتان ودم لأنه صار رافضا لإحدى الحجتين ولزمه دم لرفضها وقضاء حجة وعمرة ثم قد فاتته الأخرى فيتحلل منها بالطواف والسعي وعليه قضاؤها ولا يكون له أن يتحلل منهما بعمل عمرتين لأنهما لا يجتمعان عملا فكما أخذ في عمل إحداهما صار رافضا للأخرى ولزمه الدم بالرفض.
قال: وإذا ساق هديا للقران فقدم وقد فاته الحج قال يصنع بهديه ما شاء لأنه ملكه وقد أعده لمقصوده فإذا فاته ذلك المقصود صنع به ما أحب وكذلك إن لم يفته ولكنه جامع لأن بالجماع فسد حجه وخرج من أن يكون قارنا وإنما أعد هذا الهدي للقران فإذا فاته ذلك صنع به ما شاء.(4/320)
ص -162- ... فإن كان هديه قد نتج في الطريق ثم فاته الحج أو جامع أو أحصر صنع أيضا بالولد ما شاء لأنه جزء من الأم فكما يصنع بالأم ما شاء فكذلك بالولد وإن لم يكن شيء من هذه العوارض فعليه أن ينحر الأم والولد جميعا فإن نحر الأم ووهب الولد أو باعه فعليه قيمة الولد وكذلك إن ولد هذا الولد ولدا فعليه قيمة ذلك الولد أيضا لأن ما ثبت من الحق في الأصل سري إلى الولد لكونه جزءا من أجزائه.
وإن كان قد كفر عن الولد بعد ما وهبه أو باعه ثم حدث له ولد لم يكن عليه من قبل ولده شيء لأن بأداء الكفارة قد سقط عنه الحق في الولد لله تعالى فلا يلزمه فيما يلد هذا الولد بعد ذلك شيء بخلاف ما قبل التكفير فإن حق الله تعالى في الولد لازم إياه قبل التكفير فيسري إلى ما يتولد منه وهو نظير من أخرج ظبية من الحرم فكفر عنها ثم ولدت ثم ماتت لم يكن عليه فيها ولا في ولدها شيء وإن لم يكفر عنها كان عليه فيها وفي ولدها الكفارة.
قال: محرم بالحج قدم مكة وطاف بالبيت ثم خرج إلى الربذة فأحصر بها ثم قدم مكة بعد فوات الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه الطواف الأول لأن ذلك كان طواف التحية وليس لطواف التحية أثر في التحلل ولأن التحلل بالطواف يكون في يوم النحر أو بعده وذلك الطواف كان قبل يوم النحر فلا يكون معتبرا في التحلل وإن كان خروجه إلى الربذة بعد الوقت لم يفته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج" ثم قد تقدم بيان ما عليه من الدماء بعد هذا بسبب الترك والتأخير.
قال: فإن أهل بعمرة في أشهر الحج ثم قدم مكة بعد يوم النحر يقضي عمرته وليس عليه شيء لأن العمرة غير مؤقتة فلا يفوته عمل العمرة بمضي أيام النحر فلهذا لا يلزمه شيء والحاصل أن جميع السنة وقت العمرة عندنا ولكن يكره أداؤها في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة.(4/321)
ولأن الله تعالى سمى هذه الأيام أيام الحج فيقتضي أن تكون متعينة للحج الأكبر فلا يجوز الاشتغال فيها بغيرها وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا تكره العمرة في يوم عرفة قبل الزوال لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ولكن مع هذه الكراهة لو أدى العمرة في هذه الأيام صح فيبقى محرما في هذه الأيام بها وهو نظير بقاء حرمة الصلاة بعد دخول وقت الكراهة.
قال: وإذا أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى لزمته ويقضي ما بقي عليه من الأولى ويقيم حراما إلى أن يؤدي الحج بهذا الإحرام من قابل لأنه أحرم بعد مضي وقت الحج من السنة الماضية فينعقد إحرامه لأداء الحج به في السنة القابلة وعليه بجمعه بين الحجتين دم لأن إحرامه(4/322)
ص -163- ... للحج باق ما لم يتحلل بالحلق والطواف والجمع بين إحرام الحجتين ممنوع عنه فإذا فعل ذلك لزمه الدم بالجمع المنهي عنه وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين لأن الدم هناك يلزمه لرفض إحداهما لأن الجمع هناك لا يتحقق حين صار قاضيا لإحداهما وهنا يتحقق لأنه يؤدي ما بقي من أعمال الأولى من غير أن يصير رافضا للأخرى فلهذا لزمه للجمع بينهما دم.
وإن قدم الحاج مكة فأدرك الوقوف بمزدلفة لم يكن مدركا للحج لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج" ثم ذكر بعد هذا حكم الإهلال بحجتين أو بعمرتين وقد بينا ذلك ويستوي فيه إن أهل بهما معا أو بإحداهما ثم بالأخرى معا لأنه جامع بين الإحرامين في الحالين فإن رفض إحدى العمرتين ثم قضاها في العام القابل ومعها حجة فهو قارن لأن القران بالجمع بين الحجة والعمرة فكما أن كون الحج في ذمته لا يمنع تحقق القران فكذلك كون العمرة واجبة في ذمته.
وكذلك إن أتى بهذه العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فهو متمتع إن لم يكن ألم بأهله بين النسكين حلالا فإن ألم بأهله بين النسكين حلالا لم يكن متمتعا بلغنا ذلك عن بن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وهذا بخلاف القارن إن رجع إلى أهله بعد طواف العمرة لأنه إنما رجع محرما فلم يصح إلمامه بأهله فلهذا كان قارنا.
وقد بينا الفرق بين المتمتع الذي ساق الهدي وبين الذي لم يسق الهدي في حكم الإلمام بأهله وقد بينا الفرق أيضا في حكم المكي الذي قدم الكوفة وبينا القران والتمتع وروى بن سماعة عن محمد أن المكي إذا قدم الكوفة إنما يجوز له أن يقرن إذا كان خروجه من الميقات قبل دخول أشهر الحج فأما إذا دخلت أشهر الحج قبل خروجه من الميقات فقد حرم عليه القران والتمتع فلا يرتفع ذلك بالخروج عن الميقات بعد ذلك.(4/323)
قال: وإذا قدمت المرأة مكة محرمة بالحج حائضا مضت على حجتها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "واصنعي جميع ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" فإذا طهرت بعد مضي أيام النحر طافت للزيارة ولا شيء عليها بهذا التأخير لأنه كان بعذر الحيض وعليها طواف الصدر لأنها طاهرة وإن حاضت بعد ما طافت للزيارة يوم النحر فليس عليها طواف الصدر لما بينا من الرخصة الواردة للحائض في ذلك.
قال: وليس على أهل مكة ومن وراء الميقات طواف الصدر إنما ذلك على أهل الآفاق الذين يصدرون عن البيت بالرجوع إلى منازلهم فإن نوى الإقامة بمكة واتخذها دارا سقط عنه طواف الصدر إن كانت نيته قبل أن يحل النفر الأول لأن وقت الصدر بعد حل النفر الأول فإنما جاء وقت الصدر وهو من أهل مكة فلا يلزمه طواف الصدر.(4/324)
ص -164- ... وإن كانت نيته الإقامة بعد ما حل النفر الأول فعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن ذلك قد لزمه بمجيء وقت الصدر قبل نية الإقامة فلا يسقط عنه بنيته الإقامة بعد ذلك كالمرأة إذا حاضت بعد خروج وقت الصلاة لا تسقط عنها تلك الصلاة.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا نوى الإقامة قبل أن يأخذ في طواف الصدر سقط عنه طواف الصدر لأنه وإن دخل وقته فلا يصير طواف الصدر دينا عليه بدخول وقته فنيته الإقامة بعد دخول وقته وقبله سواء كالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة لا تلزمها تلك الصلاة.
فأما إذا نوى الإقامة بعد ما أخذ في طواف الصدر فعليه أن يأتي بذلك الطواف لأن بالشروع فيه لزم إتمامه فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك فإن بدا له الخروج من مكة بعد ما اتخذها دارا لا يلزمه طواف الصدر لأنه بمنزلة المكي يقصد الخروج من مكة وإن نوى أن يقيم بمكة أياما ثم يصدر لم يسقط عنه طواف الصدر وإن نوى الإقامة سنة أو أكثر لأن بهذه النية لم يصر كأهل مكة لأن المكي غير عازم على الصدر منها بعد مدة وهذا على الصدر منها بعد مدة فيبقى عليه طواف الصدر على حاله.
قال: وليس على فائت الحج طواف الصدر لأن العود للقضاء مستحق عليه ولأنه صار بمنزلة المعتمر المقيم في حق الأعمال وليس على المعتمر طواف الصدر.
قال: رجل قصد مكة للحج فدخلها بغير إحرام ووافاها يوم النحر وقد فاته الحج فأحرم بعمرة وقضاها أجزأه وعليه دم لترك الوقت لأنه لو أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات وقضاه كان عليه دم لترك الوقت فكذلك إذا أحرم بالوقت بالعمرة وقضاها لأن الواصل إلى الميقات يلزمه الإحرام حاجا كان أو معتمرا وإن لم يحرم بعمرة ولكنه أحرم بحجة فهو محرم حتى يحج مع الناس من قابل وقد بينا حكم الإحرام في غير أشهر الحج ولكنه ينبغي أن يرجع إلى الوقت فيلبي منه ليسقط عنه الدم فإن لم يرجع فعليه دم لتأخير الإحرام.(4/325)
قال: ومن فاته الحج لم يسعه أن يقيم في منزله حراما من غير عذر ويبعث بالهدي ولا يحل بالهدي إن بعث به لأن التحلل بالهدي للمحصر وهذا غير محصر بل هو فائت الحج وقد تعين عليه التحلل بالطواف والسعي شرعا فلا يتحلل بغير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الجمع بين الاحرامين
قال: والعمرة لا تضاف إلى الحج والحج يضاف إلى العمرة قبل أن يعمل منها شيئا وبعد أن يعمل هكذا نقل عن بن عباس رضي الله عنه وهذا لأن الله تعالى جعل العمرة بداية والحج نهاية بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196] فمن أضاف الحجة إلى(4/326)
ص -165- ... العمرة كان فعله موافقا لما في القرآن ومن أضاف العمرة إلى الحج كان فعله مخالفا لما في القرآن فكان مسيئا من هذا الوجه ولكن مع هذا هو قارن فإن القارن هو جامع بين العمرة والحج وهو جامع بينهما على كل حال إلا أنه إذا أضاف الحج إلى العمرة بأن أهل بالعمرة أولا ثم بالحج فهو جامع مصيب للسنة فيكون محسنا ومن أهل بالحج ثم بالعمرة فهو جامع مخالف للسنة فكان مسيئا لهذا ويلزمه في الوجهين جميعا ما أوجب الله تعالى على المتمتع المترفق بأداء النسكين في سفر واحد.
كما قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] وهو شاة في قول علي وبن عباس وبن مسعود رضي الله عنهم وفي قول بن عمر وعائشة رضي الله عنهما بدنة وأخذنا بالأول لحديث جابر رضي الله عنه قال تمتعنا بالعمرة إلى الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتركنا في البدنة عن سبعة فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج والأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لأن صوم اليوم بدل عن الهدي فالأولى أن يؤخره إلى آخر الوقت الذي يفوته بمضيه رجاء أن يجد الهدي.
قال: ولو صام هذه الأيام الثلاثة بعد إحرامه للعمرة قبل إحرام الحجة جاز عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وحجته ظاهر الآية قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 196] وحين صام قبل أن يحرم بالحج فصومه هذا ليس في الحج وحجتنا في ذلك أن نقول جعل الحج ظرفا للصوم وفعل الحج لا يصلح ظرفا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت كما قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة: 197] وهذا قد صام في وقت الحج بعد ما تقرر السبب وهو التمتع لأن معنى التمتع في أداء العمرة في سفر الحج في وقت الحج وقد وجد ذلك.(4/327)
وأداء العبادة البدنية بعد وجود سبب وجوبها جائز كالمسافر إذا صام شهر رمضان وإن لم يصم حتى جاء يوم النحر تعين عليه الهدي عندنا وهو قول عمر رضي الله تعالى عنه فإن رجلا أتاه يوم النحر فقال إني تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال اذبح شاة فقال ليس معي شيء فقال سل أقاربك فقال ليس هنا أحد منهم فقال لغلامه يا مغيث أعطه قيمة شاة وذلك لأن البدل كان مؤقتا بالنص فبعد فوات ذلك الوقت لا يكون بدلا فتعين عليه الهدي.
والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول في الابتداء يصوم أيام التشريق وهو مروي عن بن عمر وعائشة رضي الله عنهما ولكن هذا فاسد فقد صح النهي عن الصوم في هذه الأيام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أداء الواجب بها ولو وجد الهدي بعد صوم يومين من الثلاثة كان عليه الهدي لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف بخلاف ما إذا قدر على أصل الهدي بعد ما يحل يوم النحر لأن المقصود هو التحلل فإنما قدر على(4/328)
ص -166- ... الأصل بعد حصول المقصود بالبدل وهو كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة وأما صوم السبعة ليس ببدل فيما هو المقصود وهو التحلل ألا ترى أن أوان أدائها بعد التحلل ووجوب الهدي لا يمنع أداءها والمراد من الرجوع المذكور في قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}[البقرة: 196] مضي أيام التشريق حتى إذا صام بعد مضيها قبل أن يرجع إلى أهله جاز عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجوز الصوم.
قال: وإن أهل الآفاقي بالحج فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة رفضها وعليه قضاؤها ودم للرفض لأن إحرام الحج قد تأكد بما أتى به من الطواف فإن ذلك من عمل الحج ولو بقي إحرامه للعمرة كان بانيا عمل العمرة على أعمال الحج وذلك لا يجوز فلهذا يرفضها وإن كان أهل بالعمرة أولا فطاف لها شوطا ثم أهل بالحج مضى فيها لأنه يبني أعمال الحج على العمرة وذلك صحيح إلا أنه لو طاف للعمرة أقل الأشواط يكون قارنا وإن طاف لها أكثر الأشواط ثم أهل بالحج كان متمتعا لأن المتمتع من يحرم بالحج بعد عمل العمرة ولا كثر الطواف حكم الكل والقارن من يجمع بينهما وقد صار جامعا حين أحرم بالحج وقد بقي عليه أكثر طواف العمرة.
وقد بينا أن المكي لا يقرن بين الحج والعمرة ولا يضيف أحدهما إلى الآخر فإن قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج لأنه ممنوع من الجمع بينهما فلا بد من رفض أحدهما ورفض العمرة أيسر لأنها دون الحج في القوة ولأنه يمكنه أن يقضيها متى شاء وكذلك إن أحرم أولا بالعمرة ثم أحرم بالحج رفض العمرة لأن الترجيح بالبداءة بعد المساواة في القوة ولا مساواة هنا فيرفض العمرة على كل حال وإن مضى فيهما حتى قضاهما أجزأه لأن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه وهذا بخلاف الجامع بين الحجتين والعمرتين فإن الجمع بينهما عملا منفي هناك ومع النفي لا يتحقق الاجتماع فيكون رافضا لأحدهما على كل حال.(4/329)
وهنا الجمع بين الحج والعمرة في حق المكي منهي عنه ومع النهي يتحقق الجمع فيجب عليه الدم لجمعه بينهما ولكن هذا الدم ليس نظير الدم في حق الآفاقي إذا قرن بينهما فإن ذلك نسك يحل التناول منه وهذا جبر لا يحل التناول منه لأن وجوب هذا الدم بارتكاب ما هو منهي عنه فيكون واجبا بطريق الجبر للنقصان فلهذا لا يباح التناول منه.
وإن كان طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرفض العمرة لأنه أهل بالحج فأكثر أعمال العمرة باق عليه وللأكثر حكم الكل فكأنه أهل بالحجة قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة فيرفضها.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن إحرام العمرة قد تأكد بما أتى به من طواف(4/330)
ص -167- ... العمرة وإحرام الحج لم يتأكد بشيء من عمله والمتأكد بأداء العمل أقوى من غير المتأكد فلهذا يرفض الحجة.
والدليل على أن التأكد يحصل بشوط من الطواف ما بينا في الآفاقي إذا طاف للحج شوطا ثم أحرم للعمرة كان عليه رفضها لتأكد إحرام الحج بالعمل قبل الإهلال بالعمرة بخلاف ما لو أهل بالعمرة قبل أن يأتي بشيء من طواف الحج.
ولو كان المكي طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج فنقول إنما أحرم بالحج بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وللأكثر حكم الكل فكأنه أحرم بالحج بعد الفراغ من العمرة فلا يرفض شيئا ولكن يفرغ من عمرته ومن حجته وعليه دم لأنه صار كالمتمتع وهو منهي عن التمتع إلا أنه لا يحل التناول من هذا الدم لأنه دم جبر كما بينا.
ولو كان هذا الطواف منه للعمرة في غير أشهر الحج كان عليه الدم أيضا لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا كان عليه الدم ولو كان هذا آفاقيا لم يكن عليه هذا الدم لأنه غير ممنوع من الجمع بينهما قال في الأصل وعليه دم لترك الوقت في العمرة أيضا وإنما أراد به إذا كان أحرم للعمرة في الحرم فإن ميقات أهل مكة لإحرام العمرة هو الحل.(4/331)
قال: كوفي أهل بحجة وطاف لها ثم أهل بعمرة قال يرفض عمرته لأنه لو لم يرفضها كان بانيا للعمرة على الحجة هذا إذا أهل بعمرة بعرفة فإن أهل بها يوم النحر قبل أن يحل بحجته أو بعد ما حل قبل أن يطوف أمر أن يرفضها أيضا وإن لم يرفضها ومضى فيها أجزأه وعليه دم إن كان أهل بها قبل أن يحل بحجته وإن كان بعد ما حل من حجته فليس عليه شيء إن لم يترك الوقت فيها ولا يؤمر بأن يرفضها إذا أحرم بها بعد تمام الإحلال لأنه وإن كان منهيا عن الإحرام فبعد ما أحرم يجب عليه الإتمام لأنه غير جامع بينه وبين إحرام آخر فإذا أداها كان صحيحا بخلاف ما إذا أهل بها بعرفات فإن هناك قد صار رافضا للعمرة لتحقق المنافي على ما سبق ثم إن كان إهلاله بالعمرة قبل أن يحل من الحج فقد صار جامعا بين الإحرامين على وجه هو منهي عن ذلك فلزمه لذلك دم وإن كان بعد ما حل لم يصر جامعا بين الإحرامين فلا يلزمه شيء.
قال: مكي أهل بالحجة فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة قال يرفض العمرة لأن إحرامه للحج قد تأكد وقبل تأكده كان يؤمر برفض العمرة فبعد تأكده أولى فإن لم يرفضها وطاف لها وسعى أجزأه لما بينا أن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه ولكن عليه دم لإهلاله بها قبل أن يفرغ من حجته وقد صار جامعا بينهما وهو ممنوع من هذا الجمع.(4/332)
ص -168- ... قال: محرم بعمرة جامع ثم أضاف إليها عمرة أخرى قال يرفض هذه ويمضي في الأولى لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام ولو كانت الأولى صحيحة كان عليه أن يمضي فيها ويرفض الثانية فكذلك بعد فسادها وكذلك لو لم يجامع في الأولى ولكنه طاف لها شوطا ثم أحرم بالثانية يرفض الثانية لأن الأولى قد تأكدت لما طاف لها فتعينت الثانية للرفض وكذا هذا في حجتين.
قال: وإذا أهل بحجتين معا ثم جامع قبل أن يسير فعليه للجماع دمان في قول أبي حنيفة لأن من أصله أنه لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يأخذ في عمل الأخرى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه دم واحد للجماع لأنه كما فرغ من الإحرامين صار رافضا لأحدهما فجماعه جناية على إحرام واحد وإن كان ذلك الجماع منه بعد ما سار فعليه دم واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار إلى مكة فجماعه جناية على إحرام واحد ثم ما يلزمه بالرفض وبالإفساد من القضاء والدم قد بيناه فيما سبق فإن أحرم لا ينوي شيئا فطاف ثلاثة أشواط ثم أهل بعمرة فإنه يرفض هذه الثانية لأن الأولى قد تعينت عمرة حين أخذ في الطواف لما بينا أن الإبهام لا يبقى بعد الشروع في الأداء بل يبقى ما هو المتيقن وهو العمرة فحين أهل بعمرة أخرى فقد صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية.
قال: وإذا كان للكوفي أهل بالكوفة وأهل بمكة يقيم عند هؤلاء سنة وعند هؤلاء سنة فاعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا لأنه ملم بين النسكين بأهله إلماما صحيحا فإن لم يكن له أهل بمكة واعتمر من الكوفة في أشهر الحج وقضى عمرته ثم خرج إلى مصر ليس فيه أهله ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا ما لم يرجع إلى المصر الذي كان فيه أهله ثم قال بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما وإبراهيم رحمه الله تعالى.(4/333)
وقد بينا أن الطحاوي رحمه الله تعالى ذكر في هذا الفصل خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهما الله تعالى وهو الصحيح أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون متمتعا وحديث زيد الثقفي رضي الله عنه أنه سأل بن عباس رضي الله عنهما فقال أتينا عمارا فقضيناها ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه ما لم يصل إلى أهله فهو متمتع كمن لم يجاوز الميقات وعندهما من خرج من الميقات فهو كمن وصل إلى أهله في أنه لا يكون متمتعا بعد ذلك فإن كان له بالكوفة أهل وبالبصرة أهل فرجع إلى أهله بالبصرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا.
قال: وإن اعتمر الكوفي في أشهر الحج وساق هديا للمتعة وهو يريد الحج فطاف لعمرته(4/334)
ص -169- ... ولم يحلق ثم رجع إلى أهله ثم حج كان متمتعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولم يكن متمتعا في قول محمد رحمه الله تعالى إذا كان رجوعه إلى أهله بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وحجته وهو أنه ملم بأهله بين النسكين وهو إلمام صحيح فإن العود غير مستحق عليه حتى لو بعث بهديه لينحر عنه ولم يحج كان جائزا فهو بمنزلة المكي الذي اعتمر من الكوفة وساق الهدي لمتعته فهناك لا يكون متمتعا فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان إلمامه غير صحيح بأهله هنا لأنه محرم على حاله ما لم ينحر عنه الهدي فكان العود مستحقا عليه وذلك يمنع صحة إلمامه بأهله كالقارن إذا أتى بعمل العمرة ثم رجع إلى أهله ثم عاد فحج كان قارنا ولم يصح إلمامه بأهله محرما فكذا هذا وهذا بخلاف من لا هدي معه وقد حل هناك من إحرام العمرة فإنما لم بأهله حلالا فكان إلمامه صحيحا.
قال: رجل أهل بعمرة في أشهر الحج وساق هديا معه لمتعته ثم بدا له أن يحل وينحر هديه ويرجع إلى أهله ولا يحج كان له ذلك لأن بمجرد النية قبل الإحرام لا يلزمه أداء الحج في هذه السنة فإن فعل ذلك ثم حج من عامه فلا شيء عليه لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا فخرج من أن يكون متمتعا.
وإن أراد أن ينحر هديه ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك لأنه إذا لم يقصد الرجوع إلى أهله فهو قاصد إلى التمتع فكان هديه هدي المتعة فليس له أن ينحرها قبل يوم النحر لاختصاص هدي المتعة بيوم النحر ولأنه لما ساق الهدي وهو عازم على التمتع لزمه البقاء في الإحرام إلى أن يفرغ من عمل الحج وليس له أن يتعجل في الإحلال قبل وقته فإن فعل ذلك ثم رجع إلى أهله ثم حج فلا شيء عليه لأنه لما رجع إلى أهله فقد خرج من أن يكون متمتعا وإنما كان يلزمه تأخير الخروج عن إحرام العمرة لأجل التمتع فإذا خرج من أن يكون متمتعا تبين أن إحلاله كان في وقته فلا يلزمه شيء.(4/335)
وإن فرغ من عمرته وحل ونحر هديه ثم أقام بمكة حتى حج من عامه فعليه دمان لمتعته فإنه أتى بالنسكين في سفر واحد فكان متمتعا وما نحر من الهدي قبل يوم النحر فلا يجزئه عن هدي المتعة فلهذا لزمه دم المتعة ودم آخر لإحلاله قبل وقته لأنه لما كان متمتعا وقد ساق الهدي لم يكن له أن يحل قبل يوم النحر وهو قد حل من عمرته قبل يوم النحر فعليه دم لتعجيل الإحلال.
قال: رجل أهل بعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها بالجماع فلما فرغ منها أهل بأخرى ينوي قضاءها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا أما بالعمرة الأولى فلأنه أفسدها بالجماع والتمتع بالعمرة الفاسدة لا يكون وأما بالثانية فلأنه أحرم لها من غير الميقات والمتمتع من(4/336)
ص -170- ... تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ولأنه لما دخل مكة بالعمرة الفاسدة صار بمنزلة أهل مكة وإن كان حين فرغ من العمرة الفاسدة خرج من مكة حتى جاوز المواقيت ثم أهل بعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فإن كان جاوز الوقت قبل أشهر الحج كان متمتعا لأنه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة.
فإذا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فقد أتى بعمرة ميقاتية وحجة مكية فكان متمتعا وإن لم يجاوز الوقت إلا في أشهر الحج فليس بمتمتع لأن أشهر الحج لما دخلت وهو داخل الميقات حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة ومن هو داخل الميقات فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من الميقات بعد ذلك في حق المكي ومن هو داخل الميقات فإن كان دخوله الأول في أشهر الحج بعمرة فأفسدها وأتمها مع الفساد ثم رجع إلى أهله ثم عاد فقضاها وحج من عامه ذلك كان متمتعا لأن سفره الأول قد انقطع برجوعه إلى أهله فصار كأن لم يوجد فالمعتبر سفره الثاني وقد أدى النسكين في هذا السفر بصفة الصحة فكان متمتعا.
وإن رجع إلى بلدة أخرى ثم عاد فقضى عمرته وحج من عامه لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بناء على الأصل الذي قررنا أنه ما لم يصل إلى بلدته فهو في الحكم كأن لم يخرج من مكة فلا يكون متمتعا وعندهما يكون متمتعا لأن من أصلهما أن بخروجه من الميقات انقطع حكم ذلك السفر في حق التمتع بمنزلة ما لو رجع إلى بلدته فإذا عاد معتمرا وحج من عامه كان متمتعا لأداء النسكين في سفر واحد صحيحا وإن دخل بعمرة فاسدة في أشهر الحج فقضاها ثم خرج حتى جاوز الميقات ثم قرن عمرة وحجة كان قارنا لأن أكثر ما فيه أن حاله كحال المكي متى حصل بمكة بالعمرة الفاسدة وقد بينا أن المكي إذا خرج من الميقات ثم قرن حجة وعمرة كان قارنا فهذا مثله.(4/337)
ولو قضى عمرته الفاسدة ثم أهل من مكة بعمرة وبحجة فإنه يرفض العمرة لأنه متى حصل بمكة بعمرة فاسدة فهو بمنزلة مكي محرم بهما وقد بينا أن المكي يرفض العمرة إذا أحرم بهما كذلك هنا.
ولو كان أهل بعمرة في أشهر الحج فطاف لها شوطا ثم أهل بحجة فهو على الخلاف الذي ذكرناه في حق المكي أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يرفض الحج لتأكد إحرام العمرة بالطواف وعندهما يرفض العمرة على ما مر لأنه لما لم يطف لها أربعة أشواط فهو بمنزلة من لم يطف لها شيئا وإذا ترك المكي أو الكوفي ميقات الإحرام في العمرة وطاف لها شوطا ثم أراد أن يلبي من الوقت لم ينفعه ولم يسقط عنه الدم لأن إحرامه وراء الميقات قد تأكد بالطواف فهو وإن عاد إلى الميقات ولبى فلم يصر متداركا لما فاته في وقته فلا يسقط(4/338)
ص -171- ... عنه الدم ألا ترى أنه إذا عاد لا يمكن أن يجعل كالمنشى ء للإحرام الآن لأن ما تقدم من الطواف محسوب له وكيف يجعل كالمنشى ء الآن وطوافه قبل ذلك محسوب فلهذا لا يسقط عنه الدم والله أعلم بالصواب.
باب التلبية
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". اتفق على هذا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في نقل تلبيته فإن اقتصر عليه فحسن وإن زاد على هذا فحسن أيضا عندنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى يقولون يباح له الزيادة وأكثرهم على أن ذلك مكروه لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول في تلبيته لبيك ذي المعارج لبيك فقال له: ما كنا نلبي هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه ذكر منظوم فلا يزاد عليه كالأذان والتشهد وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في تلبيته "لبيك إله الحق لبيك".
وعن بن مسعود أنه خرج من مسجد الخيف يلبي فقال قائل لا يلبي هنا فقال بن مسعود رضي الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك وعن بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول في تلبيته لبيك مرهوب منك ومرغوب إليك والنعمى والفضل والحسن لك لبيك لبيك.
وتأويل حديث سعد رضي الله عنه أن ذلك الرجل كان ترك التلبية المعروفة واكتفى بذلك القدر فلهذا أنكر عليه وهكذا نقول إذا ترك التلبية المعروفة كان مكروها فأما إذا أتى بالمعروف ثم زاد كان ذلك حسنا لأن المقصود هو الثناء على الله تعالى وإظهار العبودية من نفسه.(4/339)
وقد نقل من طريق أهل البيت عليهم السلام تلبية طويلة من ذلك والجاريات في الفلك على مجاري من سلك ثم الحاج والقارن في قطع التلبية سواء لأنه لا يحل من النسكين قبل يوم النحر وقطع التلبية حين يرمي جمرة العقبة وقد بينا وقت قطع التلبية في حق فائت الحج والمحصر ومن أفسد حجه وإنما يصير محرما بالتلبية إذا نوى الإحرام فأما بدون النية لا يصير محرما وإن لبى كما لا يصير بالتكبير شارعا في الصلاة إذا لم ينو والتهليل والتسبيح بنية الإحرام به بمنزلة التلبية كما عند افتتاح الصلاة وقد بينا الفرق بينه وبين الصلاة لأبي يوسف رحمه الله تعالى.
وإذا توضأ الأخرس ولبس ثوبين وصلى ركعتين ثم نوى الإحرام بقلبه وحرك لسانه كان محرما لأنه أتى بما في وسعه وليس عليه فوق ذلك.كان إذا شرع في الصلاة بتحريك(4/340)
ص -172- ... اللسان مع النية يصح شروعه والمرأة بمنزلة الرجل في التلبية غير أنها لا ترفع صوتها لما بينا أن صوتها فتنة وإذا لم يلب القارن والمفرد بالحج والعمرة إلا مرة واحدة فقد أساء ولا شيء عليه لأن الشروع في الإحرام بالتلبية كما أن صحة الشروع في الصلاة بالتكبير ولو لم يأت المصلي إلا بتكبيرة الافتتاح جازت صلاته وكان مسيئا فكذلك إذا لم يأت المحرم بالتلبية إلا مرة واحدة جاز لأنه أتى بما هو الواجب وترك المسنون فيكون مسيئا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الصيد في الحرم
قال رضي الله عنه: رجل رمى صيدا في الحل وهو في الحل فأصابه في الحرم كان عليه الجزاء لأنه من جنايته وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم ومعنى هذا التعليل أن ذهاب السهم حتى وصل إلى الصيد كان بقوة الرامي وهو مباشر لذلك الفعل حتى يستوجب القصاص به إذا رمى إلى مسلم عمدا فقتله وإنما أصابه بعد ما صار صيد الحرم فكان هو قاتلا صيد الحرم بفعله فيلزمه الجزاء وهذا بخلاف ما لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرد الكلب الصيد حتى قتله في الحرم حيث لا يضمن قال لأن هذا ليس من جنايته ومعنى هذا أن طرد الكلب الصيد فعل أحدثه الكلب فلا يصير المرسل به جانيا على صيد الحرم.(4/341)
وحقيقة المعنى في الفرق أن الرامي مباشر لما يصيبه سهمه وفي مباشرة الفعل لا فرق بين أن يكون متعديا وبين أن يكون غير متعد فيما يلزمه من الجزاء ألا ترى أن من رمى سهما في ملك نفسه فأصاب مالا أو نفسا كان ضامنا له فأكثر ما في الباب هنا أنه في أصل الرمي لم يكن متعديا وهذا لا يمنع وجوب الجزاء عليه عند مباشرته فأما مرسل الكلب متسبب لإتلاف ما يأخذه الكلب لا مباشر حتى لا يلزمه القصاص بحال والمتسبب إذا كان متعديا في تسببه كان ضامنا وإذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا كمن حفر بئرا في ملك نفسه وهنا هو غير متعد في إرسال الكلب على صيد في الحل فلهذا لا يلزمه الجزاء.
قال: وإن زجر الكلب بعد ما دخل في الحرم فانزجر وأخذ الصيد فعليه جزاؤه استحسانا وفي القياس لا يلزمه شيء لأن الأخذ من الكلب يكون محالا على أصل الإرسال دون الزجر ألا ترى لو أن مسلما أرسل كلبه على صيد فزجره مجوسي فانزجر حتى أخذ الصيد حل تناوله وأصل الإرسال هنا لم يكن جناية فوجود الزجر بعد ذلك كعدمه.
وجه الاستحسان أنه في هذا الزجر متسبب لأخذ الصيد وهو متعد في هذا التسبب ثم أصل الإرسال هنا ما انعقد تعديا وكان ذلك في حكم الزجر كالمعدوم أصلا وهو نظير القياس والاستحسان الذي ذكره في كتاب الصيد أن الكلب المعلم إذا انبعث على أثر الصيد من غير(4/342)
ص -173- ... إرساله فزجره صاحبه فانزجر حتى أخذ الصيد إنما يحل تناوله استحسانا بخلاف ما إذا أرسله مجوسي ثم زجره مسلم لأن أصل الإرسال هناك كان معتبرا فيحال الحكم عليه دون الزجر.
قال: ولو أرسل كلبا في الحرم على ذئب فأصاب صيدا في الحرم لم يكن عليه شيء لأنه غير متعد في هذا التسبب فإن إرسال الكلب على الذئب مباح له فلهذا لا يوجب عليه الضمان وإن أخذ الكلب الصيد بخلاف ما إذا رمى إلى ذئب فأصاب صيدا لأنه مباشر فلا يعتبر فيه معنى التعدي ولكن قتل الصيد في الحرم خطأ موجب للضمان كقتله عمدا وكذلك لو أرسل حلال كلبا على صيد في الحل فذهب الكلب إلى صيد في الحرم فقتله لم يكن عليه جزاء كما لو دخل الصيد الذي أرسله عليه في الحرم فقتله فيه.
قال: ولو أرسل المجوسي كلبا على صيد في الحرم فزجره مسلم محرم فانزجر فقتل الصيد كان على المحرم جزاؤه لأن زجر المحرم لا يكون دون دلالته على الصيد والمحرم يضمن الصيد بالدلالة فبالزجر أولى ولا يؤكل ذلك الصيد لا لزجر المحرم فإن حرمة الصيد تثبت به كما تثبت بالدلالة ولكن لأن أخذه محال به على أصل الإرسال والمرسل كان مجوسيا.
قال: ولو نصب شبكة للصيد فأصاب الصيد فعليه جزاؤه لأنه متعد في هذا التسبب ولو نصبها لذئب أو سبع آذاه وابتدأه فوقع فيه صيد لم يكن عليه شيء لأنه غير متعد في هذا التسبب وهو قياس نصب الفسطاط من المحرم على ما سبق.
قال: محرم دل محرما على صيد وأمره بقتله وأمر المأمور ثانيا بقتله فقتله كان على كل واحد منهم جزاء كامل لأن كل واحد منهم جان على الصيد بما صنع القاتل بالمباشرة والآمر الثاني بدلالة القاتل عليه والآمر الأول بإعلامه الآمر الثاني بمكان الصيد حتى أمر به غيره فكانوا جميعا ضامنين وهذا لأن فعل المأمور الثاني كفعل آمره ولو قتل الآمر الثاني وجب الجزاء به على الآمر الأول فكذلك إذا أمر به غيره(4/343)
حتى قتله وجزاء الصيد في حق المحرم لا يتجزأ فلهذا كان على كل واحد من الثلاثة جزاء كامل.
قال: ولو أخبر محرم محرما بصيد فلم يره حتى أخبره به محرم آخر فلم يصدق الأول ولم يكذبه ولكن طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهم جزاؤه لأن كل واحد منهم جان فيما صنع وهذا بخلاف ما إذا أكذب الأول فإن هناك لا يلزمه الجزاء لأنه بتكذيبه إياه انتسخ حكم دلالته فلم يكن قتل الصيد بعد ذلك محالا به على دلالة الأول وإنما كان محالا به على دلالة الثاني فأما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لم ينتسخ حكم دلالته.
قال: محرم أرسل محرما إلى محرم فقال إن فلانا يقول لك إن في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله كان على المرسل والرسول والقاتل الجزاء لأن كل واحد منهم متعد(4/344)
ص -174- ... فيما صنع فإن القاتل إنما تمكن من قتل الصيد بإرسال المرسل وتبليغ الرسول فلهذا ضمن كل واحد منهم الجزاء.
قال: وإن دل محرم على صيد رجلا وهو يعلم به ويراه فقتله لم يكن على الدال شيء لأن تمكن القاتل من قتل الصيد لم يكن بدلالته فقد كان متمكنا منه قبل دلالته.
قال: محرم استعار من محرم سكينا ليذبح بها صيدا فأعاره إياه فذبح الصيد فلا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك أما الكراهة بالاعانة على المعصية بما أعطاه من الآلة وأما حكم الجزاء فأكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل بذلك السلاح الصيد فحينئذ لا يلزم الجزاء على من أعطي السكين لأنه وإن لم يعطه كان متمكنا من قتله فإذا لم يكن تمكنه بما أعطى لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب الجزاء على الدال إذا كان للمدلول علم بمكان الصيد فأما إذا لم يكن مع المحرم القاتل ما يقتل به الصيد ينبغي أن يجب الجزاء على هذا المعير لأن التمكن من قتل الصيد كان بإعارته السكين وإلى هذا أشار في السير الكبير والأصح عندي أنه لا يجب الجزاء على المعير للسكين على كل حال لوجهين.
أحدهما: أن الصيد مأخوذ المستعير قبل إعارة السكين منه وكان قد تلف معنى الصيدية بأخذ المستعير إياه حكما وبقتله حقيقة فأما إعارة السكين ليس بإتلاف معنى الصيدية عليه لا حقيقة ولا حكما بخلاف الدلالة فإنه إتلاف لمعنى الصيدية من وجه حين أعلم بمكانه من لا يقدر الصيد على الامتناع منه فإن امتناع الصيد ممن يقدر على الامتناع منه يكون بجناحه ومن لا يقدر على الامتناع منه يكون بتواريه عن عينه فإذا أعلمه بمكانه صار متلفا معنى الصيدية حكما.(4/345)
والثاني: أن الإعارة تتصل بالسكين لا بالصيد فإنها صحيحة وإن لم يكن هناك صيد ولا يتعين استعماله في حق قتل الصيد بخلاف الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ولا يتم ذلك إلا بصيد هناك فلهذا يتعلق وجوب الجزاء بها.
ولم يذكر في الكتاب مسألة نكاح المحرم وهي مسألة خلافية معروفة عندنا يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج وليته وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج ولو فعل لم ينعقد النكاح لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح". ولأن المقصود من النكاح الوطء وبسبب الإحرام يحرم عليه الوطء بدواعيه فيحرم العقد الذي لا يقصد به إلا هذا وهذا بخلاف شراء الأمة فإن الشراء غير مقصود للوطء بل للتجارة والمحرم غير ممنوع عنه ألا ترى أن المسلم لا يتزوج المجوسية ولا أخته من الرضاعة لأنه لما حرم عليه وطؤها حرم عليه العقد أيضا وله أن(4/346)
ص -175- ... يشتري هؤلاء وحجتنا حديث بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو محرم وهكذا روي عن عائشة رضي الله عنها.
واختلفت الروايات في حديث أبي رافع قال في بعض الروايات تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال وفي بعضها تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال وكنت أنا السفير فيما بينهما.
ويتبين بهذا الحديث أن المراد من حديث عثمان رضي الله عنه الوطء دون العقد فإنه للوطء حقيقة وإن كان مستعارا للعقد مجازا على ما نبينه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
ومن حيث المعنى: الكلام واضح في المسألة فإن النكاح عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع عن مباشرة المعاوضات كالشراء ونحوه ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به وهو الوطء لكان تأثيره في ايجاب الجزاء أو إفساد الإحرام به لا في بطلان عقد النكاح.
توضيحه: أن بعد الإحرام يبقى النكاح بينه وبين امرأته صحيحا ولو كان عقد الإحرام ينافي ابتداء النكاح لكان منافيا للبقاء كتمجسها والحرمة بسبب الرضاع ولما لم يناف بقاء النكاح فكذلك الابتداء وبهذا فارق شراء الصيد أيضا لأن الإحرام يمنع استدامة اليد على الصيد فيمنع إثبات اليد بالشراء ابتداء بخلاف النكاح والدليل عليه أنه لو راجعها وهو محرم كان صحيحا بالاتفاق.
وعلى أصل الشافعي رحمه الله تعالى الرجعة سبب يحل الوطء به ثم لم يكن المحرم ممنوعا عنه فكذلك النكاح وأصل كلامه يشكل بالظهار فإن الظهار يحرم الوطء بدواعيه ولا يمنع العقد ابتداء بأن ظاهر منها ثم فارقها ثم تزوجها ثم الشافعي رحمه الله تعالى يمنع المحرم من تزويج وليته وليس في هذا تطرق المحرم إلى استباحة الوطء فعرفنا أن كلامه من حيث المعنى ضعيف جدا والله أعلم.(4/347)
قال رحمه الله تعالى وغفر له هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات مصليا على سيد السادات محمد المبعوث بالرسالات وعلى أهله من المؤمنين والمؤمنات تم كتاب المناسك ولله المنة وله الحمد الدائم الذي لا يفنى أمده ولا ينقضي عدده.(4/348)
ص -176- ... كتاب النكاح
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السر خسي رحمهما الله تعالى، إملاء: اعلم بأن النكاح في اللغة عبارة عن الوطء تقول العرب تناكحت العرى أي تناتجت. ويقول أنكحنا العري فسنرى لأمر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد منه وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال أنكح الظئر ولدها أي ألزمه ويقال انكح الصبر أي الزمه وقال القائل:
إن القبور تنكح الأيامى ... والنسوة الأرامل اليتامى
أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا قال القائل:
كبكر تحب لذيذ النكاح
أي الجماع. وقال القائل:
التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشطى دجلة البقرا
أي الواطئين ثم يستعار للعقد مجازا إما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء أو لأن في العقد معنى الضم فإن أحدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة.
وزعم الشافعي رحمه الله تعالى أن اسم النكاح في الشريعة يتناول العقد فقط وليس كذلك فقد قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] يعني الاحتلام فإن المحتلم يرى في منامه صورة الوطء. وقال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}[النور: 3] والمراد الوطء وفي الموضع الذي حمل على العقد فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}[النور: 32] أو اشتراط إذن الأهل في قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}[النساء: 25].
ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق ومن ذلك صيانة النفس عن الزنى ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم.(4/349)
كما قال: "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" وسببه تعلق البقاء(4/350)
ص -177- ... المقدور به إلى وقته فإن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل يكون هذا البقاء وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح لأن في التغالب فسادا وفي الإقدام بغير ملك اشتباه الأنساب وهو سبب لضياع النسل لما بالإناث من بني آدم من العجز عن التكسب والإنفاق على الأولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يثبت إلا بطريق النكاح فهذا معنى قولنا إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته.
ثم هذا العقد مسنون مستحب في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعكاف بن خالد: "ألك امرأة؟" فقال: لا فقال صلى الله عليه وسلم: "تزوج فإنك من إخوان الشياطين" وفي رواية: "إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منا فتزوج فإن المهاجر من أمتي من مات وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات".
ولأن التحرز من الزنى فرض ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا وحجتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم من لم يتزوج ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والصحابة رضي الله عنهم فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنى يتوصل بالصوم إليه قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".(4/351)
وتأويل ما روي في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة لا يسعه ترك النكاح فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من سنن المرسلين النكاح والتعطر وحسن الخلق". وقال صلى الله عليه وسلم: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني", أي ليس على طريقتي ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل وقال الشافعي رحمه الله تعالى التخلي لعبادة الله تعالى أفضل إلا أن تتوق نفسه إلى النساء ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل بقوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً}[آل عمران: 39] فقد مدح يحيى صلى الله عليه وسلم بأنه كان حصورا والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان فدل أن ذلك أفضل.
ولأن النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر والمقصود به قضاء الشهوة وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه وفي الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لأجله قال الله تعالى:(4/352)
ص -178- ... {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56)] فكان هذا أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنى تحصين الدين والنفس عن الزنى كما قال عمر رضي الله عنه أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان على ديني ودين داود وسليمان عليهما السلام فليتزوج"، وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له.
ولا يجوز أن يقال إنما فعل ذلك لأن نفسه كان تواقة إلى النساء فإن هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة ولما لم يكتف بالواحدة دل أن النكاح أفضل.
والاستدلال بحال الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الاستدلال بحال يحيى عليه السلام مع أنه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة وفي شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا رهبانية في الإسلام" وقد بينا أن النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على ما اختاره الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الإمارة ففيها قضاء شهوة الجاه والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود إظهار الحق والعدل ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لأمره مع أن منفعة العبادة على العابد مقصورة ومنفعة النكاح لا تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل.(4/353)
قال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من ينفع الناس" إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ الكتاب فقال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في صحفتها فإن الله تعالى هو رازقها".
وهذا الحديث يرويه رجلان من الصحابة رضي الله عنهم بن عباس وجابر رضي الله عنهما وهو مشهور بلغة العلماء بالمقبول والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها لأن هذا النهي بصيغة الخير وهذا أبلغ ما يكون من النهي كما أن الأمر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}[البقرة: 228] وقال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}[البقرة: 233] والنهي يقتضي التحريم.
ثم ذكر هذا النهي من الجانبين إما للمبالغة في بيان التحريم أو لإزالة الإشكال فربما(4/354)
ص -179- ... يظن ظان أن نكاح بنت الأخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة على بنت الأخ يجوز لتفضيل العمة كما لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الأمة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوت هذه الحرمة من الجانبين وقوله: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، نهي بصيغة الخبر وله تأويلان:
إما أن يكون المراد به الأخت دينا بأن تكون امرأتان تحت رجل وهو يحسن إليهما فتجيء إلى الزوج إحداهما وتقول طلق صاحبتي ليتحول نصيبها إلي هذا منهي عنه لأنه سبب للتحاسد والتنافر وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا".
أو يكون المراد به الأخت نسبا بأن تأتي المرأة إلى زوج أختها وتقول فارقها وتزوجني فإني أوفق لك وهذا منهي عنه لأنه سبب لقطيعة الرحم بينهما وقطيعة الرحم من الملاعن وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات فقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن". ومعنى قوله: "لتكفئ ما في صحفتها" أي لتحول نصيبها إلى نفسها وروي لتكفئ وكلاهما لغة يقال كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها وفي بعض الروايات لتكف ما في صحفتها ومعناه لتقنع بما آتاها الله فإن الله تعالى هو رازقها والصحفة عبارة عن الحظ والنصيب.
وقد اشتمل الحديث على الحتم والوعظ والندب فإن قوله: "فإن الله هو رازقها" وعظ وقوله: "لا تسأل ندب" لأنها لو فعلت ذلك جاز ولكن لا ينبغي لها أن تفعله وقوله: "لا تنكح المرأة على عمتها" حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز النكاح عندنا وقال عثمان البتي رحمه الله تعالى يجوز في غير الأختين لأن المحرم بالنص الجمع بين الأختين وهذا ناسخ لما يتلى في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[النساء: 24].(4/355)
ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب وليس بناسخ لأن الحل في الكتاب مقيد بشرط مبهم وهو قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء: 24] وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مبينا قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: 44] أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة المذكورة في الكتاب فإن الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الأختين لأن بينهما رحما يفترض وصلها ويحرم قطعها وفي الجمع قطيعة لرحم على ما يكون بين الضرائر من التنافر فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل قرابة يفترض وصلها فهي في معنى الأختية في تحريم الجمع والتي بين العمة وبنت الأخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى صيانة للرحم.(4/356)
ص -180- ... وإذا ملكه عتق عليه تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكورة في القرآن لا أن يكون ناسخا.
قال: وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأمتعن النساء فروجهن إلا من الأكفاء وفي هذا دليل على أن للسلطان يدا في الأنكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه وذلك يكون بولاية السلطنة وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها.
قال: وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البكر تستأ مر في نفسها وإذنها صماتها والثيب تشاور". ومعنى قوله، "تستأ مر في نفسها" أي في أمر نفسها في النكاح فهو دليل على أنه ليس لأحد من الأولياء أن يزوجها من غير استئمارها أبا كان أو غيره وقيل معناه تستأ مر خالية لا في ملأ من الناس لكيلا يمنعها الحياء من الرد إذا كانت كارهة ولا تذهب حشمة الولي عنه بردها قوله: "وإذنها صماتها". وفي بعض الروايات: "سكوتها رضاها" وذلك دليل على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على الرضا فيكتفي به شرعا لما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إنها تستحي فتسكت فقال صلى الله عليه وسلم: "سكوتها رضاها" ومعنى هذا أنها تستحي من إظهار الرغبة في الرجال وإذا استؤمرت فلها جوابان نعم أو لا وسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب وهو الرضا دون الإباء إذ ليس في الإباء إظهار الرغبة في الرجال وقد يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته تصرف العبد عن الحجر عليه وقوله والثيب تشاور دليل على أنه لا يكتفي بسكوت الثيب فإن المشاورة على ميزان المفاعلة ولا يحصل ذلك إلا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث.(4/357)
قال: وبلغنا عن إبراهيم رحمه الله تعالى قال: "البكر تستأ مر في نفسها" فلعل بها داء لا يعلمه غيرها قيل معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها لا يحصل المقصود بالنكاح وينتهك سترها وقيل معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل قلبها مع غير هذا الذي تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج ووقعت في الفتنة لكون قلبها مع غيره وأي داء أدوى من العشق؟
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة" وفيه دليل على أن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا،(4/358)
ص -181- ... رضيت الحرة أو لم ترض وهو مذهبنا وقال مالك رحمه الله تعالى إذا رضيت الحرة جاز قال لأن المنع لحق الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الأمة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود فدل أن المنع لحق الحرة وهو أنه يغصها إدخال ناقصة الحال في فراشها وذلك ينعدم برضاها.
ولكنا نقول: المنع ليس لحقها بل لأنها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة وهي من المحللات منفردة عن الحرة فإن الحل برقها يتنصف كما ينتصف برق الرجل على ما نبينه إن شاء الله تعالى فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهي ليست من المحللات في هذه الحالة وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح والكلام فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في الحديث الأول.
ثم ذكر هذا اللفظ عن علي رضي الله عنه أيضا وزاد فيه وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث وبه نأخذ فإن القسم ينبني على الحل الذي ينبني عليه النكاح وحظ الأمة فيه على النصف من حظ الحرة
وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى أنه يسوى بينهما في القسم كما يسوى بينهما في النفقة للمساواة بينهما في الملك والحاجة ولكنا نقول لا يسوى بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والأمة لا تستحق النفقة إلا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها.
قال: وبلغنا عن بن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وأنزل الله تعالى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] وأن العرب في الجاهلية كانوا فريقين.(4/359)
فريق يعتقدون الإرث في منكوحة الأب ويقولون إن ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه في ملكه فيطأها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت وفيه نزل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}[النساء: 19].
وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره وفيه نزل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22].
وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذي يكون بينهما ولد المقت وإليه أشار الله تعالى في قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}[النساء: 22].
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}[النساء: 22] معناه: أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل معناه ولا ما قد سلف فإن(4/360)
ص -182- ... كلمة إلا قد تكون بمعنى ولا. قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[البقرة: 150] فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة لا يحل امساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكيلا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] ففيه بيان المحرمات.
والحاصل أن المحرمات أربعة عشر: سبع من جهة النسب، وسبع من جهة السبب.
أما من جهة النسب فالأمهات بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] فأما الرجل حرام عليه وكذلك جداته من قبل أبيه أو من قبل أمه فعلى قول من يقول إن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يقول حرمت الجدات بالنص لأن اسم الأمهات يتناولهن مجازا وعلى قول من يقول لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول حرمت الجدات بدليل الإجماع إذ الأمهات هن الأصول وهو حقيقة معنى هذا الاسم وذلك يجمع الكل إلا أن إطلاق الاسم في الأم الأدنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة.
والثاني: البنات فعلى القول الأول حرمة بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن ثابتة بالنص أيضا لأن الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الإجماع على ما بينا.
والثالث: الأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ}[النساء: 23] وهن أصناف ثلاثة الأخت لأب وأم والأخت لأب والأخت لأم وهن محرمات بالنص فالأختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث.
والرابع: العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك أخوات الأب لأب وأم أو لأب أو لأم.
والخامس: الخالات تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَخَالاتُكُمْ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك أخوات الأم لأب وأم أو لأب أو لأم.(4/361)
والسادس: بنات الأخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك بنات الأخ لأب وأم أو لأب أو لأم.
والسابع: بنات الأخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}[النساء: 23] ويستوي في ذلك بنات الأخت لأب وأم أو لأب أو لأم.
وأما السبع اللاتي من جهة السبب: الأمهات من الرضاعة والأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النساء: 23] والحاصل أنه(4/362)
ص -183- ... يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
والثالث: أم المرأة فإن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها ثبت بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا وكان بشر المريسي وبن شجاع رحمهما الله تعالى يقولان لا تثبت إلا بالدخول بالبنت وهو أحد قولى الشافعي رحمه الله تعالى ومذهبنا مذهب عمر وبن عباس رضي الله عنهم وإليه رجع بن مسعود رضي الله عنه حين ناظره عمر رضي الله عنه ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما واستدلوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] والأصل أن الشرط والإستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها إن دخل بها". وكان بن عباس رضي الله عنهما يقول أم المرأة مبهمة فأبهموا ما أبهم الله بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الأمهات وهذا هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوضة بالإضافة وفي قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوض بحرف من والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين وهو الأصل في اللغة أن المعمول الواحد لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ}[النساء: 23] عطفا لصار قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوضا بحرف من وبالإضافة جميعا وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله وربائبكم ابتداء بحرف الواو وأن أمهات النساء مبهمة كما قال بن عباس رضي الله عنهما فأما حرمة الربيبة وهي بنت المرأة لا تثبت الحرمة إلا بالدخول بالأم لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي(4/363)
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء: 23] ولأن الربائب ليس في معنى الأمهات فالظاهر من العبارة أن أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول وأما بنت المرأة لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالأم.
واختلفت الصحابة رضي الله عنهم أن الحجر هل ينتصب شرطا لهذه الحرمة أو لا فكان علي رضي الله عنه يقول الحجر شرط لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء: 23] ولما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما فقال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وآباها ثوبية". فأما عمر وبن مسعود رضي الله عنهما كانا يقولان الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى للحديث الذي رويناه.
وتفسير الحجر وهو أن البنت إذا زفت مع الأم إلى بيت زوج الأم فهذه كانت في حجره وإذا كانت مع أبيها لم تكن في حجر زوج الأم وإنما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فإن(4/364)
ص -184- ... بنت المرأة تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}[النور: 33] مذكور على وجه العادة لا على وجه الشرط ألا ترى أنه قال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}[النساء: 23] شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على أنه بعد ما دخل بالأم لا تحل له البنت قط سواء كانت في حجره أو لم تكن ولا يحل له أن يجمع بين الأم والبنت وإن لم يكن دخل بالأم لأن القرابة التي بينهما أقوى من القرابة التي بين المرأة وعمتها وقد بينا أن هناك لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى.
فأما إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له أن يتزوج البنت وكان زيد رحمه الله تعالى يفرق بين الطلاق والموت فيقول: بالموت ينتهي النكاح حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول ولكنا نقول هذه الحرمة تعلقت شرعا بشرط الدخول فلو أقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأي وكما لا يجوز نصب شرط بالرأي لا يجوز إقامة شرط مقام شرط بالرأي.(4/365)
فأما حليلة الابن على الأب حرام سواء دخل الابن بها أولم يدخل لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ}[النساء: 23] سميت حليلة لأنها تحل للابن من الحل أو هو مشتق من الحلول على معنى أنها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها وكما تحرم حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله أن لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد المذكور هنا بقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ}[النساء: 23] ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". والمراد بقوله تعالى: {مِنْ أَصْلابِكُمْ}[النساء: 23] بيان إباحة حليلة الابن من التبني فإن التبني انتسخ بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}[الأحزاب: 5] وكان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا: إنه تزوج حليلة ابنه وفيه نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40] فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين.
وكما تحرم حليلة الابن فكذلك حليلة بن الإبن وإن سفل لأن اسم الابن يتناوله مجازا.
فإن قيل ابن الابن لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقييد؟
قلنا: مثل هذا اللفظ يذكر باعتبار أن الأصل من صلبه كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ}[غافر: 67] والمخلوق من التراب هو الأصل.
وكذلك منكوحة الأب حرام على الابن, دخل بها الأب أو لم يدخل لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22] وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال والنساء جميعا لأن اسم الأب يتناول الكل مجازا.(4/366)
ص -185- ... فأما قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}[النساء: 23] معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين لأنه معطوف على أول الآية والجمع بين الأختين نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين وهو مذهب علي وبن مسعود وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم فإنه قال ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وحرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع.
وكان عثمان رضي الله عنه يقول أحلتهما آية وحرمتهما آية يريد بآية التحليل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء: 3] وبآية التحريم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}[النساء: 23] فكان يتوقف في ذلك ولكنا نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة ويتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين"، ولأن المراد من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا}[النساء: 23] حرمة الجمع فراشا.(4/367)
كما أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] يقتضي حرمة الاستفراش بأي سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطء بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما لأنه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فإن النكاح عقد تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء ولا بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا يمكن تصحيح نكاحهما لأن الجمع محرم بالنص فتعين البطلان وإن نكح إحداهما قبل الأخرى فنكاح الأولى جائز لأن بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد لأن بهذا العقد يصير جامعا بين الأختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما فإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها عليه وإن كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لأن الدخول حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته حكم ذلك مروي عن علي رضي الله عنه.
فأما وجوب الأقل من المسمى ومن مهر المثل فهو مذهبنا وعند زفر رحمه الله تعالى يجب مهر المثل بالغا ما بلغ لأن الواجب عند فساد العقد بدل المتلف ألا ترى أن المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت عند الإتلاف فكذلك المستوفي بالنكاح الفاسد ولكنا نقول المستوفي بالوطء ليس بمال فإنما يتقدر بالمال بالتسمية إلا أن المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية فإذا كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي على قدر المسمى بخلاف المبيع فإنه مال متقوم بنفسه فبدله يتقدر بالقيمة وإنما يتحول عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة.
ثم يعتزل عن امرأته حتى تنقضي عدة الأخرى سواء دخل بالأولى أو لم يدخل بها،(4/368)
ص -186- ... لأن رحم المعتدة مشغول بمائه حكما ولو وطى ء الأخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الأختين وذلك حرام شرعا ولكن أصل نكاح الأولى بهذا لا يبطل لأن اشتغال رحم الثانية عارض على شرف الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة لا يكون للزوج أن يطأها حتى تنقضي عدتها ولا يبطل نكاحها ولا تتزوج المرأة في عدة أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى: إن كانت تعتد منه من طلاق رجعي فليس له أن يتزوج أختها وإن كان من ثلاث أو خلع فله أن يتزوج أختها في عدتها وقد روي مثل مذهبه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى ذكر في الأمالي رجوع زيد رضي الله عنه عن هذا القول وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان شاور الصحابة رضي الله عنهم في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهما وخالفهم زيد ثم رجع إلى قولهم.
وقال عبيدة السلماني: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والمحافظة على الأربع قبل الظهر وذكر سلمان بن بشار عن علي وبن مسعود وبن عباس رضي الله عنهم المنع من نكاح الأخت المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول إن كانت حاملا فليس له أن يتزوج أختها وإن كانت حائلا فله أن يتزوجها وحجة الشافعي رحمه الله تعالى أن النكاح مرتفع بينهما بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة.(4/369)
ودليل الوصف أنه لو وطئها وقال علمت أنها علي حرام يلزمه الحد ولو جاءت بولد لأكثر من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب ولو بقيت بينهما علاقة من علائق النكاح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة أثر ماء محترم لأنها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر فيه توهم الدخول كعدة الوفاة وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الأولى علقة من علائق النكاح والمقصود من هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التي تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم وذلك لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة.
ولنا: أن هذه معتدة على الإطلاق فليس له أن يتزوج بأختها كالعدة من طلاق رجعي وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح ولا معنى لما قال إن وجوبها بماء محترم لأنه إن اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية ولا عدة وإن اعتبر الماء المحترم فاحترام الماء يكون بالنكاح والدليل عليه أن العدة تختلف(4/370)
ص -187- ... بالرق والحرية واشتغال الرحم بالماء لا يختلف وإنما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذي ينبني عليه النكاح فعرفنا أنه من حقوق النكاح ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه إنما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده بالموت أو بالدخول ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول وإذا ثبت أنه من حقوق النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في إثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته.
وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب لأنه في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق المنع من التزوج فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه إنما ندعي بقاء الحق وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فإن بالنكاح الفاسد أصل الملك لا يثبت ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت نفسها منه ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج أحدا من محارمها لأنهما في معنى الأختين في حرمة الجمع بينهما وكذلك لا يجوز له أن يتزوج أربعا سواها في عدتها لأن الجمع بين الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الأختين.(4/371)
قال: ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع لأن الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين أن في المنصوص لا يعتبر المعنى وإن المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فإنه ليس بين الأختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها ثم كان الجمع بينهما حراما فإن تزوجها فهو على ما بينا في الأختين نسبا زاد في التفريع هنا فقال إن تزوجهما في عقدة ودخل بهما فرق بينه وبينهما وعليهما العدة وإنما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت التفريق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد لأن وجوب العدة بسبب الوطء فيعتبر من آخر الوطآت ولكنا نقول الموجب للعدة شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق ألا ترى إن وطأها قبل التفريق لا يلزمه الحد وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة وذلك بالتفريق بينهما.
والدليل على أن المعتبر هو الشبهة أنه وإن وطئها مرارا لا يجب إلا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي عدة الأخرى لأن الأخرى في عدته وعدة الأخت تمنع نكاح الأخت فإن انقضت عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء وإن انقضت عدة إحداهما فليس له أن يتزوج التي انقضت عدتها لأن الأخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة لأن الأخرى منقضية العدة.(4/372)
ص -188- ... وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها إنما تمنع غيره من ذلك وكذلك لو كان دخل بإحداهما ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التي دخل بها دون الأخرى وله أن يتزوج المعتدة ولا يتزوج الأخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا.
قال: وإذا وطى ء الرجل امرأة بملك يمين أو نكاح أو فجور يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كان الوطء بنكاح أو ملك يمين فكذلك الجواب وإن كان بالزنى لا تثبت به الحرمة واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "الحرام لا يحرم الحلال", وهكذا رواه بن عباس رضي الله عنه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يبتغي من امرأة فجورا ثم يتزوج ابنتها فقال: "لا بأس لا يحرم الحرام الحلال" وقالت عائشة رضي الله عنها سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل يبتغي من امرأة حراما ثم يتزوج ابنتها فقال: "يجوز لا يحرم الحرام الحلال وإنما يحرم ما كان من قبل النكاح". وعلل الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه فقال النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فأنى يستويان ومعنى هذا أن ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فإن الله تعالى من به على عباده بقوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}[الفرقان: 54]وهو معقول فإن أمهاتها وبناتها يصرن كأمهاته وبناته حتى يخلو بهن ويسافر بهن وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لإيجاب العقوبة فلا يصلح سببا لإيجاب الحرمة والكرامة ألا ترى أنه لا يثبت به النسب والعدة فكذلك حرمة المصاهرة وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22].(4/373)
وقد بينا أن النكاح للوطء حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن فالتقييد بكون الوطء حلالا زيادة ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل عليه أن موطوءة الأب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطء لا العقد وقد نقل مثل مذهبنا عن بن مسعود وبن عباس وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة والمعنى فيه أنه وطء في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطء بالنكاح وملك اليمين.
وتفسير الوصف: أن الوطء في هذا المحل محرم لكونه مثبتا لأن هذا الفعل حرث والحرث لا يكون إلا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك وتأثيره أن ثبوت الحرمة بسبب هذا الوطء في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية لأن الولد الذي يتخلق من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها وإلى آبائه وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في إيجاب الحرمة وهذا المعنى لا(4/374)
ص -189- ... يختلف بالملك وعدم الملك لأن سبب البعضية حسي وإنما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة لأن البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير موضع الضرورة فأما في موضع الضرورة لا توجب ألا ترى أن حواء عليها السلام خلقت من آدم عليه السلام فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له فكذلك شبهة البعضية إنما توجب الحرمة في غير موضع الضرورة وفي حق الموطوءة ضرورة وهذا لأن العلل الشرعية إمارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذي جعلها الشرع علة وقد جعل الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام: 119].
فأما النسب فعندنا أحكام النسب تثبت ولكن الانتساب لا يثبت لأنه لمقصود الشرف به ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني والعدة إنما لا تجب لأن وجوبها في الأصل باعتبار حق النكاح أو الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة.(4/375)
وبعض أصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}(النساء: 160] وعلى هذا الطريق يقولون: المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها ولكن هذا التعليل فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص ولكن الصحيح أن نقول هذا الفعل زنا موجب للحد كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح أن يكون سببا لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي عليه وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لإنه زنا فكذا هنا.
فبهذا التقرير يتبين فساد استدلالهم بالحديث. فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما نثبت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك هنا.
ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنى بأن زني ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون حراما وله في البنت(4/376)
ص -190- ... الملاعنة التي لم يدخل بالأم قولان واستدل فقال نص التحريم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ}[النساء: 23] وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنى غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا ولو أثبتنا الحرمة فيها كان إثبات الحرمة بالزنى وبه فارق جانبها فإن الابن من الزنى يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23].
وتبين بهذا التفريق أن هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبني على ثبوت النسب شرعا والنسبة إلى الزاني غير ثابتة من كل وجه فكذا هنا وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه حتى لو أكذب نفسه يثبت النسب منه ولا يثبت من غيره وإن أعاده فيجوز إبقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا لانعدام الفراش ولا هو بعرض الثبوت منه.(4/377)
ولنا: إن ولد الزنى بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة وهذا لأن البعضية باعتبار الماء وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من الماءين يكون بعض كل واحد منهما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: " هي بضعة مني". والبعضية علة صالحة لإثبات الحرمة لأن الإنسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه إلا أن النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه لأن الزانية يأتيها غير واحد ولو أثبتنا النسب بالزنى ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه وذلك حرام بالنص حتى أن في جانبها لما كان لا يؤدي إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا ولأن قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنى فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنى يتحرز عن فعل الزنى وذلك يوجب إثبات الحرمة لأن معنى الزجر عن الزنى به يحصل فإنه إذا علم أنه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة وإن لم يثبت النسب هنا.
إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطء تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى أنه لو قبل أمته ثم أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ثم ماتت عنده يجوز له أن يتزوج ابنتها بناء على أصله إن حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في إثبات النسب والعدة وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في إثبات النسب والعدة فكذلك في إثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فإن التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في إيجاب المهر والعدة وكذلك في إيجاب الحل للزوج الأول فكذا هنا.
ولكنا نستدل بآثار الصحابة رضي الله عنهم فقد روي عن بن عمر رضي الله عنه،(4/378)
ص -191- ... أنه قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها وعن مسروق رحمه الله تعالى قال بيعوا جاريتي هذه أما أني لم أصب منها ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة ولأن المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطء فإنه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في إثبات الحرمة.
كما أن النكاح الذي هو سبب الوطء شرعا يقام مقامه في إثبات الحرمة. إلا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة وهذا لأن الحرمة تنبني على الاحتياط فيقام السبب الداعي فيه مقام الوطء احتياطا وإن لم يثبت به سائر الأحكام كما تقام شبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام.
ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا وفي القياس لا تثبت وهو قول بن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى لأن النظر كالتفكر إذ هو غير متصل بها.
إلا ترى أنه لا يفسد به الصوم وإن اتصل به الإنزال ولأن النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ولكنا تركنا القياس بحديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها". وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جرد جارية ثم نظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال: أما أنها لا تحل لك وفي الحديث: "ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها".(4/379)
ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع لأن النظر إلى المحل إما لجمال المحل أو للاستمتاع وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ولأن النظر إلى الفرج لا يحل إلا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر أن تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها فأما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر ألا ترى أن هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج وإنما يكون ذلك إذا كانت متكثة أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر.
ثم حرمة المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا وكذلك تتعدى إلى جداتها وإلى نوافلها لما بينا أن الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات والنوافل بمنزلة الأولاد فيما تنبني عليه الحرمة وذلك كله مروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى وعلى هذا إذا جامع الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب رضي الله عنه وكان المعني فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه(4/380)
ص -192- ... قال: رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز له أن يتزوج أخرى ما دامت في العدة لأن حرمة ما زاد على الأربع كحرمة الأختين فكما أن هناك العدة تعمل على حقيقة النكاح في المنع فكذا هنا.
فإن قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت فإن كان ذلك في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها إن أخبرت إلا أن تفسر بما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه وإن كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة أن صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله أن يتزوج أخرى أو أختها إن شاء ذلك وكذلك إن كذبته في قول علمائنا وعن زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأن عدتها باقية فإنها أمينة في الإخبار بما في رحمها وقد أخبرت ببقاء عدتها والزوج إنما أخبر عليها وهي تكذبه في ذلك فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الأصل إن أكذب شاهد الفرع أو راوي الأصل إن كذب الراوي عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها إن جاءت به لأقل من سنتين.(4/381)
وبالاتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها فكذلك إذا قضينا بنفقتها وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه عز وجل فكان أمينا مقبول القول فيه إذا احتمل كمن قال صمت أو صليت وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له ولا حق للمطلقة في ذلك فإن الحل والحرمة من حق الشرع وإنما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله ولا حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح أختها ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها ولو بطل ذلك الحق إنما يبطل بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في إبقاء حقها لا في إبطال حق ثابت للزوج والنفقة والسكنى حقها فيكون باقيا وأما نكاح الأخت لا حق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك لأن ثبوت الحكم بحسب الحجة وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد لأنه يندفع به تهمة الزنى عنها ويتشرف به الولد.
ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم بإستناد العلوق إلى ما قبل الطلاق فإذا أسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الأخت بخلاف القضاء بالنفقة فإنه يقتصر على الحال وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء العدة مطلقا فإن المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة.
توضيحه: أن من ضرورة القضاء بالنسب القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الأختين في الفراش وليس من ضرورة القضاء بالنفقة القضاء بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للأختين وذلك جائز كما في ملك اليمين.
قال: وإن مات لم يكن لها ميراث وكان الميراث للأخرى هكذا ذكر هنا وذكر في(4/382)
ص -193- ... كتاب الطلاق وقال: الميراث للأولى دون الثانية ولكن وضع المسألة فيما إذا كان مريضا حين قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت وإنما يتحقق اختلاف الروايات في حكم الميراث إذا كان الطلاق رجعيا فأما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا وكان في الصحة فلا ميراث للأولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في إبطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في الصحيح ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في إبطال إرثها.
توضيحه: أن بقوله أخبر أن الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها ولو أبانها في مرضه كان لها الميراث وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأن عندهما للزوج أن يجعل الرجعي بائنا خلافا لمحمد رحمه الله تعالى ومتى كان الميراث للأولى فلا ميراث للثانية لأن بين إرث الأختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الأولى ورثته الثانية.
قال: وإن ماتت في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له أن يتزوج أختها لأن لحوقها كموتها فلا تبقى معتدة بعد موتها فإن رجعت مسلمة قبل أن يتزوج أختها فله أن يتزوج أختها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن العدة بعد ما سقطت لا تعود إلا بتجدد سببها وعندهما ليس له أن يتزوج أختها لأنها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة ألا ترى أنه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها فتعود كما كانت وإن كان قد تزوج أختها قبل رجوعها ثم رجعت مسلمة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان في إحدى الروايتين يبطل نكاح الأخت وفي الرواية الأخرى لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الأمالي.(4/383)
قال: ولا بأس بأن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة: 5] وكان بن عمر رضي الله عنهما لا يجوز ذلك ويقول الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}[البقرة: 221] وكان يقول معنى الآية الثانية و اللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابي مطلقا.
ولو حملنا الآية الثانية على ما قال بن عمر رضي الله عنهما لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فإن غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها وقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه تزوج يهودية وكذلك كعب بن مالك رحمهما الله تعالى تزوج يهودية وكذلك إن تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز والقسم بينهما سواء كأن جواز النكاح ينبني على الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبني القسم والمسلمة والكتابية في ذلك سواء إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية وبعض من لا يعتبر قوله فصل بين الإسرائيلية وغيرها ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية.(4/384)
ص -194- ... وأما المجوسية لا يجوز نكاحها للمسلم لأنها ليست من أهل الكتاب وذكر بن إسحاق في تفسيره عن علي رضي الله عنه جواز نكاح المجوسية بناء على ما روي عنه أن المجوس أهل كتاب ولكن لما واقع ملكهم أخته ولم ينكروا عليه أسرى بكتابهم فنسوه وهو مخالف للنص فإن الله تعالى قال: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}[الأنعام: 156] وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث طوائف وقال صلى الله عليه وسلم: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولئن كان الأمر على ما قال علي رضي الله عنه ولكن بعد ما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب.
فأما نكاح الصابئة فإنه يجوز للمسلم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويكره ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك ذبائحهم وهذا الاختلاف بناء على أن الصابئين من هم فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم قوم من النصارى يقرؤون الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الأوثان وقالا إنهم يخالفون النصارى واليهود فيما يعتقدون فلا يكونون من جملتهم ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول مخالفتهم للنصارى في بعض الأشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبني تغلب فإنهم يخالفون النصارى في الخمور والخنازير ثم كانوا من جملة النصارى.(4/385)
قال: ولا بأس بأن يتزوج الرجل المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما لأنه لا قرابة بينهما وقال بن أبي ليلى لا يجوز ذلك لأن بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الأخرى لأنها منكوحة أبيه وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز كالأختين ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه فإنه جمع بين امرأة علي رضي الله تعالى عنه وابنته ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في الحرمة كالرضاع وذلك غير موجود هنا وما قاله بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إنما يعتبر إذا تصور من الجانبين كما في الأختين وذلك لا يتصور هنا فإن امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالأختين ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل واحد لأنه لا قرابة بينهما وكما جاز للأول أن يجمع بينهما فكذلك للثاني.
وكذلك لا بأس بأن يتزوج المرأة ويزوج ابنه أمها أو ابنتها فإن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه تزوج امرأة وزوج ابنتها من ابنه وهذا لأن بنكاح الأم تحرم الأم هي على ابنه فأما أمها وابنتها تحرم عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(4/386)
ص -195- ... باب نكاح الصغير والصغيرة
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة بنت ستة سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين وكانت عنده تسعا ففي الحديث دليل على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزويج الآباء بخلاف ما يقوله بن شبرمة وأبو بكر الأصم رحمهم الله تعالى أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ولا حاجة بهما إلى النكاح لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ وحجتنا قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}[الطلاق: 4] بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعا هو النكاح وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة والمراد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] الاحتلام.
ثم حديث عائشة رضي الله عنها نص فيه وكذلك سائر ما ذكرنا من الآثار فإن قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير رضي الله عنه يوم ولدت وقال إن مت فهي خير ورثتي وإن عشت فهي بنت الزبير وزوج بن عمر رضي الله عنه بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير رضي الله عنه وزوج عروة بن الزبير رضي الله عنه بنت أخيه بن أخته وهما صغيران ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله عنه وزوجت امرأة بن مسعود رضي الله عنه بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة فأجاز ذلك عبد الله رضي الله عنه.(4/387)
ولكن أبو بكر الأصم رحمه الله تعالى كان أصم لم يسمع هذه الأحاديث والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء والكفء لا يتفق في كل وقت فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي.
ثم في الحديث بيان أن الأب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخيرها ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها كما خير عند نزول آية التخيير حتى قال لعائشة: "إني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك" ثم تلا عليها قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}[الأحزاب: 28] فقالت أفي هذا(4/388)
ص -196- ... أستشير أبوي؟ أنا أختار الله تعالى ورسوله ولما لم يخيرها هنا دل أنه لا خيار للصغيرة إذا بلغت وقد زوجها أبوها وذكر ذلك في الكتاب عن إبراهيم وشريح رحمهما الله تعالى.
وابن سماعة رحمه الله تعالى ذكر فيه قياسا واستحسانا قال في القياس يثبت لها الخيار لأنه عقد عليها عقدا يلزمها تسليم النفس بحكم ذلك العقد بعد زوال ولاية الأب فيثبت لها الخيار كما لو زوجها أخوها ولكنا نقول تركنا القياس للحديث ولأن الأب وافر الشفقة ينظر لها فوق ما ينظر لنفسه ومع وفور الشفقة هو تام الولاية فإن ولايته تعم المال والنفس جميعا فلهذا لا يثبت لها الخيار في عقده.
وليس النكاح كالإجارة لأن إجارة النفس ليست من المصالح وضعا بل هو كد وتعب وإنما تثبت الولاية فيه على الصغير لحاجته إلى التأدب وتعلم الأعمال وذلك يزول بالبلوغ فلهذا أثبتنا لها الخيار قال وفي الحديث دليل فضيلة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين في بدء أمرها وقد أحرزت من الفضائل ما قال صلوات الله عليه: "تأخذون ثلثي دينكم من عائشة" وفيه دليل أن الصغيرة يجوز أن تزف إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال فإنها زفت إليه وهي بنت تسع سنين فكانت صغيرة في الظاهر وجاء في الحديث أنهم سمنوها فلما سمنت زفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/389)
قال: وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما وكذلك سائر الأولياء وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا: يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول مالك رحمه الله تعالى ليس لأحد سوى الأب تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول القياس أن لا يجوز تزويجهما إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه فبقي ما سواه على أصل القياس والشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأ مر". واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد الحلم" فقد نفي في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأ مر.
وفي الحديث أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من بن عمر رضي الله تعالى عنه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنها يتيمة وإنها لا تنكح حتى تستأمر" وهو المعنى في المسألة فنقول: هذه يتيمة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولي ولاية التصرف في مالها مع الحاجة إلى ذلك فلأن لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى وحجتنا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] معناه في نكاح اليتامى وإنما يتحقق هذا الكلام إذا كان يجوز نكاح اليتيمة.(4/390)
ص -197- ... وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها في تأويل الآية أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وقالت في تأويل قوله تعالى في يتامى النساء {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}[النساء: 127] أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ولا يرغب في نكاحها لدمامتها ولا يزوجها من غيره كيلا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة رضي الله عنه من عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وهي
غيرة والآثار في جواز ذلك مشهورة عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وبن عمر وأبي هريرة رضوان الله عليهم والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون وليا لها في حال الصغر كالأب والجد وهذا لأن تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال لأنه لا يستفيد الولاية بهذا السبب في المال بحال وكان المعنى فيه أن المال تجري فيه الجنايات الخفية وهذا الولي قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها فأما الجناية في النفس من حيث التقصير في المهر والكفاءة وذلك ظاهر يوقف عليه إن فعله يرد عليه تصرفه ولأنه لا حاجة إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فإن الوصي يتصرف في المال والأب متمكن من نصب الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها فأما التصرف في النفس لا يحتمل الإيصاء إلى الغير فلهذا يثبت للأولياء بطريق القيام مقام الآباء.(4/391)
والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}[النساء: 2] والمراد البالغين والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار وإنما تستأمر البالغة دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة رضي الله عنه أنها بلغت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها.
ألا ترى أنه روي عن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال والله لقد انتزعت مني بعد أن ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع وقال لا خيار لهما وهو قول عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال لأن هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الأب والجد وهذا لأن القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه وهو قائم مقام الأب في التصرف في النفس كالوصي في التصرف في المال فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه فكذلك عقد الولي.
وجه قولهما: إنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها، فإذا ملكت أمر نفسها كان لها(4/392)
ص -198- ... الخيار كالأمة إذا زوجها مولاها ثم أعتقها وهذا لأن أصل الشفقة موجود للولي ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين امتنع ثبوت الولاية في المال للأولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان الشفقة أثبتنا الخيار لأن ثبوت الولاية لكيلا يفوت الكفء الذي خطبها فيكون بمعنى النظر لها وإنما يتم النظر بإثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الأب فإنه وافر الشفقة تام الولاية فلا حاجة إلى إثبات الخيار في عقده وكذلك في عقد الجد لأنه بمنزلة الأب حتى تثبت ولايته في المال والنفس وأما القاضي إذا كان هو الذي زوج اليتيمة ففي ظاهر الرواية يثبت لها الخيار لأنه قال ولهما الخيار في نكاح غير الأب والجد إذا أدركا وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يثبت الخيار.
وجه تلك الرواية: أن للقاضي ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الأب ووجه ظاهر الرواية أن ولاية القاضي متأخرة عن ولاية العم والأخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الأخ والعم ففي تزويج القاضي أولى وهذا لأن شفقة القاضي إنما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين لا تكون الأمن المتقين بعد التكلف فيحتاج إلى إثبات الخيار لهما إذا أدركا فأما الأم إذا زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي إثبات الخيار لهما إذا أدركا عنه روايتان.(4/393)
في إحدى الروايتين لا يثبت لأن شفقتها وافرة كشفقة الأب أو أكثر والأصح أنه يثبت الخيار لأن بها قصور الرأي مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في المال وتمام النظر بوفور الرأي والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا فإن اختارا الفرقة عند الإدراك لم تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم لأن السبب مختلف فيه من العلماء من رأي ومنهم من أبي وهو غير متيقن به أيضا فإن السبب قصور الشفقة ولا يوقف على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضي وهذا بخلاف خيار الطلاق فإن المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لأن السبب هناك قوي في نفسه وهو كونها نائبة عن الزوج في إيقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج وهذا بخلاف خيار العتق فإن المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لأن السبب هناك قوي وهو زيادة ملك الزوج عليها فإن قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم بها فكذلك دفع زيادة الملك فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة إلا بالقضاء فالحاصل أن الفرق بين خيار البلوغ وخيار العتق في أربعة فصول:(4/394)
ص -199- ... أحدها: ما بينا.
والثاني: خيار المعتقة لا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس كخيار المخيرة وخيار البلوغ في جانبها يبطل بالسكوت لأن المعتقة إنما يثبت لها الخيار بتخيير الشرع حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختاري"، فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج فأما هنا الخيار يثبت للبكر لانعدام تمام الرضا منها ورضاء البكر يتم بسكوتها شرعا ألا ترى أنها لو زوجت بعد البلوغ فسكتت كان سكوتها رضا فكذلك إذا زوجت قبل البلوغ ولهذا قلنا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لو زوجت بعد البلوغ وكذلك الغلام لا يبطل خياره بالسكوت لأن السكوت في حقه لم يجعل رضا كما لو زوج بعد البلوغ.
والثالث: أن خيار العتق يثبت للأمة دون الغلام وخيار البلوغ يثبت لهما جميعا لأن ثبوت خيار العتق باعتبار زيادة الملك وذلك في عتق الأمة دون الغلام وثبوت خيار البلوغ لنقصان شفقة الولي وذلك موجود في حق الغلام والجارية ولأن في تزويج الغلام المولى ينظر له لا لنفسه وفي تزويج الأمة ينظر لنفسه باكتساب المهر وإسقاط النفقة عن نفسه فلهذا اختلفا في حكم الخيار وهنا لا يختلف معنى نظر الولي بالغلام والجارية فلهذا يثبت الخيار في الموضعين جميعا ولا يقال بأن الغلام هنا يتمكن من التخلص بالطلاق كما في المعتق لأنه لا يتمكن من التخلص عن المهر بالطلاق ولم يكن متمكنا من التخلص عند العقد بخلاف العبد فإنه كان عند العقد متمكنا من التخلص بالطلاق ووجوب المهر يومئذ كان في مالية المولى وباعتباره ملك المولى إجباره على النكاح فلهذا فرقنا بينهما.(4/395)
والرابع: أن المعتقة إذا علمت بالعتق ولم تعلم أن لها الخيار لا يسقط خيارها حتى تعلم به والتي بلغت إذا لم تعلم بالخيار وعلمت بالنكاح فسكتت سقط خيارها لأن سبب الخيار في العتق وهو زيادة الملك حكم لا يعلمه إلا الخواص من الناس فتعذر بالجهل وقد كانت مشغولة بخدمة المولى فعذرناها لذلك أما خيار البلوغ فظاهر يعرفه كل واحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في انكاح الأب أيضا فلهذا لا تعذر بالجهل ولأنها ما كانت مشغولة بشيء قبل البلوغ فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلهذا لا تعذر بالجهل.
قال: فإن اختار الصغير أو الصغيرة الفرقة بعد البلوغ فلم يفرق القاضي بينهما حتى مات أحدهما توارثا لأن أصل النكاح كان صحيحا والفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي فإذا مات أحدهما قبل القضاء كان انتهاء النكاح بينهما بالموت فيتوارثان بمنزلة ما لو وجد الإعتراض بعدم الكفاءة فمات أحدهما قبل قضاء القاضي وباعتبار هذا المعنى نقول يحل للزوج أن يطأها ما لم يفرق القاضي بينهما لأن أصل النكاح كان صحيحا بخلاف النكاح الفاسد فإن أصل الملك لم يكن ثابتا فلا يثبت حل الوطء والتوارث.(4/396)
ص -200- ... قال: وإذا مات زوج الصغيرة عنها بعد ما دخل بها أو طلقها وانقضت عدتها كان لأبيها أن يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للأب أن يزوج الثيب الصغيرة حتى تبلغ فيشاورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "والثيب تشاور" فقد علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فكان ذلك المعنى هو المعتبر في إثبات هذا الحكم كالزنا والسرقة لإيجاب الحد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها" والمراد بالأيم الثيب ألا ترى أنه قابلها بالبكر فقال البكر تستأمر في نفسها والمعنى فيه أنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها كالنائمة والمغمى عليها وتأثير هذا الوصف أن في الثيوبة معنى الاختبار وممارسة الرجال.
وفي النكاح في جانب النساء معنيان: معنى الضرر بإثبات الملك عليها ومعنى المنفعة بقضاء شهوتها فمن ترجح معنى قضاء الشهوة في جانبها تختار الزوج ومن ترجح معنى ضرر الملك تختار التأيم وإنما تتمكن من التمييز بالتجربة لأن لذة الجماع بالوصف لا تصير معلومة والتجربة إنما تحصل بالثيوبة فكانت صفة الثيوبة في حقها نظير البلوغ في حق الغلام وفي حق التصرف في المال ولهذا تزول ولاية الإفتيات عليها بالثيوبة لأن فيه تفويت ما يحدث لها في التأني من الرأي وهذا بخلاف المجنونة لأن الجنون لا يفقد شهوة الجماع ولو لم يزوجها وليها كان فيه إضرار بها في الحال والصغر يفقد شهوة الجماع فلا يكون في تأخير العقد إلا أن تبلغ معنى الإضرار بها ولأنه ليس لزوال الجنون غاية معلومة ولا يدري أيفيق أم لا وفي تأخير العقد لا إلى وقت معلوم إبطال حقها فأما الصغر لزواله غاية معلومة فلا يكون في تأخير العقد إلى بلوغها إبطال حقها.(4/397)
وحجتنا في ذلك أنه ولي من لا يلي نفسه وماله فيستبد بالعقد عليها كالبكر وتأثيره أن الشرع باعتبار صغرها أقام رأي الولي مقام رأيها كما في حق الغلام وكما في حق المال وبالثيوبة لا يزول الصغر وكذلك معنى الرأي لا يحصل لها بالثيوبة في حالة الصغر لأنها ما نضت شهوتها بهذا الفعل ولو ثبت لها رأي فهي عاجزة عن التصرف بحكم الرأي فيقام رأي الولي مقام رأيها كما أنها لما كانت عاجزة عن التصرف في ملكها أقيم تصرف الولي مقام تصرفها.
والمراد بالحديث البالغة لأنه علق به ما لا يتحقق إلا بعد البلوغ وهو المشاورة وكونها أحق بنفسها وذلك إنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة ولئن ثبت أن الصغيرة مراد فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستئمار أمهات البنات فقال وتؤامر النساء في إبضاع بناتهن وكان بطريق الندب فهذا مثله وكما يجوز للأب عندنا تزويج الثيب الصغيرة فكذلك يجوز لغير الأب والجد وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز لمعنيين: أحدهما أنها يتيمة, والثاني أنها ثيب.(4/398)
ص -201- ... قال: وإذا اجتمع في الصغيرة أخوان لأب وأم فأيهما زوجها جاز عندنا ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول لا يجوز ما لم يجتمعا عليه لأن هذا قام مقام الأب فيشترط اجتماعهما لنفوذ العقد كالموليين في حق العبد أو الأمة أو المعتقة ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق" وفي هذا تنصيص على أن كل واحد منهما ينفرد بالعقد والمعنى فيه أن سبب الولاية هو القرابة وهو غير محتمل للوصف بالتجزي والحكم الثابت أيضا غير متجز وهو النكاح فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به لثبوت صفة الكمال في حق كل واحد منهما بكمال السبب وكونه غير محتمل للتجزي كما في ولاية الأمان يثبت لكل واحد من المسلمين بهذا الطريق بخلاف الموليين فإن هناك السبب هو الملك أو الولاء وذلك متجز في نفسه فلم يتكامل في حق كل واحد منهما ألا ترى أن أحد الموليين لا يرث جميع المال بالولاء وإن تفرد به أحد الأخوين يرث جميع المال فلهذا فرقنا بينهما.(4/399)
وإن كان أحد الأخوين لأب وأم والآخر لأب فعندنا الأخ لأب وأم أولى بالتزويج وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يستويان لأن ولاية التزويج لقرابة الأب دون قرابة الأم فإن الولي إنما يقوم مقام الأب لقرابته منه وقد استويا في قرابة الأب ولكنا نستدل بحديث علي رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النكاح إلى العصبات"، والأخ لأب وأم في العصوبة مقدم وهو المعنى فإنه يدلي بقرابتين فيترجح على من يدلي بقرابة واحدة ويثبت الترجيح بقرابة الأم وإن كان لا يثبت به أصل الولاية كالعصوبة والأصل في ترتيب الأولياء قوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" والمولى عليها لا يخلو إما أن تكون صغيرة أو كبيرة معتوهة فإن كانت صغيرة فأولى الأولياء عليها أبوها ثم الجد بعد الأب قائم مقام الأب في ظاهر الرواية وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأخ والجد يستويان لأن من أصلهما أن الأخ يزاحم الجد في العصوبة حتى يشتركا في الميراث فكذا في الولاية وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجد مقدم في العصوبة فكذلك في الولاية والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن في الولاية معنى الشفقة معتبر وشفقة الجد فوق شفقة الأخ ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجد كما لا يثبت في عقد الأب بخلاف الأخ ويثبت للجد الولاية في المال والنفس جميعا ولا يثبت للأخ وكذلك في حكم الميراث حال الجد أعلى حتى لا ينقص نصيبه عن السدس بحال فلهذا كان في حكم الولاية بمنزلة الأب لا يزاحمه الأخوة ثم بعد الأجداد من قبل الآباء وإن علوا الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم بن الأخ لأب وأم ثم بن الأخ لأب ثم العم لأب وأم ثم العم لأب ثم بن العم لأب وأم ثم بن العم لأب على قياس ترتيب العصوبة.(4/400)
ص -202- ... فأما المجنونة إذا كان لها بن فللأبن عليها ولاية التزويج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للإبن ولاية تزويج الأم إلا أن يكون من عشيرتها بأن كان أبوه تزوج بنت عمه وهذا بناء على أصل يأتي بيانه من بعد إن شاء الله تعالى في أن المرأة لا ولاية لها على نفسها عنده والولد جزء منها فلا يثبت له الولاية عليها وعندنا تثبت لها الولاية على نفسها فكذلك تثبت لابنها وحجته في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه ولا يحصل ذلك بإثبات الولاية للابن لأنه يمتنع من تزويج أمه طبعا فلا ينظر لها في التزويج ولئن فعل ذلك يميل إلى قوم أبيه وربما لا يكون كفء لها إلا أن يكون من عشيرتها فحينئذ ينعدم هذا الضرر فأثبتنا له الولاية وحجتنا في ذلك الحديث النكاح إلى العصبات والابن يستحق العصوبة وهو المعنى الفقهي أن الوراثة نوع ولاية لأن الوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا والوراثة هي الخلافة في التصرفات وللوراثة أسباب الفريضة والعصوبة والقرابة ولكن أقوى الأسباب العصوبة لأن الإرث بها متفق عليه ويستحق بها جميع المال فلهذا رتبنا الولاية على أقوى أسباب الإرث وهو العصوبة ولا ينظر إلى امتناعه من تزويجها طبعا فإن ذلك موجود فيما إذا كان الابن من عشيرتها وهذا لأنه إذا خطبها كفء فلو لم يزوجها الابن حكم القاضي عليه بالعضل فيزوجها بنفسه كما في سائر الأولياء.
ثم اختلف أصحابنا رضي الله عنهم في الأب والابن أيهما أحق بالتزويج فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى الابن أحق لأنه مقدم في العصوبة ألا ترى أن الأب معه يستحق السدس بالفريضة فقط وقال محمد رحمه الله تعالى الأب أولى لأن ولاية الأب تعم المال والنفس فلا يثبت للابن الولاية في المال ولأن الأب ينظر لها عادة والابن ينظر لنفسه لا لها فكان الأب مقدما في الولاية وبعد هذا الترتيب في الأولياء لها كالترتيب في أولياء الصغيرة.(4/401)
قال: فإن زوجها الأبعد والأقرب حاضر توقف على إجازة الأقرب لأن الأبعد كالأجنبي عند حضرة الأقرب فيتوقف عقده على إجازة الولي فإن كان الأقرب غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يزوجها السلطان وقال زفر رحمه الله تعالى لا يزوجها أحد حتى يحضر الأقرب وحجتهم في ذلك أن الأبعد محجوب بولاية الأقرب وولايته باقية بعد الغيبة إذ لا تأثير للغيبة في قطع الولاية ألا ترى أنه لا ينقطع التوارث وأن الولاية من حق الولي ليطلب به الكفاءة فلا يبطل شيء من حقوقه بالغيبة.
والدليل عليه أنه لو زوجها حيث هو جاز النكاح فدل أن ولاية الأقرب باقية إذا ثبت هذا فالشافعي رحمه الله تعالى يقول تعذر عليها الوصول إلى حقها من جهة الأقرب مع بقاء ولايته فيزوجها السلطان كما لو عضلها الأقرب بخلاف ما إذا كان الأقرب صغيرا أو(4/402)
ص -203- ... مجنونا لأنه لا ولاية له عليها والأبعد محجوب بولاية الأقرب إلا بالغيبة وزفر رحمه الله تعالى يقول الأبعد لا يزوجها لبقاء ولاية الأقرب وكذلك السلطان لا يزوجها لأن ولاية السلطان متأخرة عن ولاية الأبعد فإذا لم تثبت الولاية للأبعد هنا فالسلطان أولى بخلاف ما إذا عضلها لأن هناك هو ظالم في الامتناع من إيفاء حق مستحق عليه فيقوم السلطان مقامه في دفع الظلم لأنه نصب لذلك وهنا الأقرب غير ظالم في سفره خصوصا إذا سافر للحج وهو غير ممتنع من إيفاء حق مستحق عليه ليقوم السلطان مقامه في الإيفاء فيتأخر إلى حضوره.
وحجتنا في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه حتى لا يثبت إلا على من هو عاجز عن النظر لنفسه وجعل الأقرب مقدما لأن نظره لها أكثر لزيادة القرب ثم النظر لها لا يحصل بمجرد رأي الأقرب بل رأى حاضر منتفع به وقد خرج رأيه من أن يكون منتفعا به في هذه الحال بهذه الغيبة فالتحق بمن لا رأي له أصلا كالصغير والمجنون ورأي الأبعد خلف عن رأي الأقرب وفي ثبوت الحكم للخلف لا فرق بين انعدام الأصل وبين كونه غير منتفع به ألا ترى أن التراب لما كان خلفا عن الماء في حكم الطهارة فمع وجود الماء النجس يكون التراب خلفا كما أن عند عدم الماء يكون التراب خلفا لأن الماء النجس غير منتفع به في حكم الطهارة فهو كالمعدوم أصلا ونظيره الحضانة والتربية يقدم فيه الأقرب فإذا تزوجت الأقرب حتى اشتغلت بزوجها كانت الولاية للأبعد وكذلك النفقة في مال الأقرب فإذا انقطع ذلك ببعد ماله وجبت النفقة في مال الأبعد فأما إذا زوجها الأقرب حيث هو فإنما يجوز لأنها انتفعت برأيه ولكن هذه المنفعة حصلت لها اتفاقا فلا يجوز بناء الحكم عليه فلهذا تثبت الولاية للأبعد.(4/403)
توضيحه: أن للأبعد قرب التدبير وبعد القرابة وللأقرب قرب القرابة وبعد التدبير وثبوت الولاية بهما جميعا فاستويا من هذا الوجه فكانا بمنزلة وليين في درجة واحدة فأيهما زوجها يجوز والولاية إنما تثبت للقاضي عند الحاجة ولا حاجة إلى ذلك لما ثبتت الولاية للأبعد بالطريق الذي قلنا.
ثم تكلموا في حد الغيبة المنقطعة فكان أبو عصمة سعد بن معاذ رحمه الله تعالى يقول أدنى مدة السفر تكفي لذلك وهو ثلاثة أيام ولياليها لأنه ليس لأقصى مدة السفر نهاية فيعتبر الأدنى وإليه يشير في الكتاب فيقول أرأيت لو كان في السواد ونحوه أما كان يستطلع رأيه فهذا دليل على أنه إذا جاوز السواد تثبت للأبعد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى فيه روايتان:
في إحدى الروايتين قال: من جابلقا إلى جابلتا وهما قريتان أحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب فقالوا هذا رجوع منه إلى قول زفر رحمه الله تعالى أن الولاية لا تثبت للأبعد وإنما ذكر هذا على طريق المثل.(4/404)
ص -204- ... وفي الرواية الأخرى قال: من بغداد إلى الري. وهكذا روي عن محمد رحمه الله تعالى.
وفي رواية قال: من الكوفة إلى الري ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من يقول حد الغيبة المنقطعة أن يكون جوالا من موضع إلى موضع فلا يوقف على أثره أو يكون مفقودا لا يعرف خبره وقيل إن كان في موضع يقطع الكري إلى ذلك الموضع فليست الغيبة بمنقطعة وإن كان إنما يقطع الكري إلى ذلك الموضع بدفعتين أو أكثر فالغيبة منقطعة وقيل إن كانت القوافل تنفر إلى ذلك الموضع في كل عام فالغيبة ليست بمنقطعة وإن كانت لا تنفر فالغيبة منقطعة والأصح أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر لها فالغيبة منقطعة وإن كان لا يفوت فالغيبة ليست بمنقطعة وبعد ما تثبت الولاية للأبعد إذا زوجها ثم حضر الأقرب فليس له أن يرد نكاحها لأن العقد عقد بولاية تامة.
قال: ولا يجوز لغير الولي تزويج الصغير والصغيرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" قال: والوصي ليس بولي عندنا في التزويج وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى للوصي ولاية التزويج لأن وصي الأب قائم مقام الأب فيما يرجع إلى النظر للمولى عليه ألا ترى أنه في التصرف في المال يقوم مقامه فكذلك في التصرف في النفس ومالك رحمه الله تعالى يقول إن نص في الوصاية على التزويج فله أن يزوجها كما لو وكل بذلك في حياته وإن لم ينص على ذلك فليس له أن يزوج ولكنا نستدل بما روينا "النكاح إلى العصبات" والوصي ليس بعصبة إذا لم يكن من قرابته فهو كسائر الأجانب في التزويج.(4/405)
وإن كان الوصي من القرابة بأن كان عما أو غيره فله ولاية التزويج بالقرابة لا بالوصاية ولهذا يثبت لهما الخيار إذا أدركا وإن حصل التزويج ممن له ولاية التصرف في المال والنفس جميعا لأن ولايته في المال بسبب الوصاية ولا تأثير للوصاية في ولاية التزويج فكان وجوده كعدمه وكذلك إن كانا في حجر رجل يعولهما فحال هذا الرجل دون حال الوصي فلا يثبت له ولاية التزويج ولأن من يعول الصغير إنما يملك عليه ما يتمحض منفعة للصغير كالحفظ وقبول الهبة والصدقة والنكاح ليس بهذه الصفة قال ومولى العتاقة تثبت له الولاية إذا لم يكن هناك أحد من القرابة لأن العصوبة تستحق بولاء العتاقة وعليه ينبني ولاية التزويج.
قال والرجل من عرض النسب إذا لم يكن أقرب منه يعني به العصبات فأما ذوو الأرحام كالأخوال والخالات والعمات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يثبت لهم ولاية التزويج عند عدم العصبات استحسانا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يثبت وهو القياس وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وقول أبي يوسف رحمه الله تعالى مضطرب فيه وذكر في كتاب النكاح قوله مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي كتاب الولاء ذكر في الأم(4/406)
ص -205- ... قوله مع محمد رحمه الله تعالى أن الأم إذا عقدت الولاء على ولدها لم يصح عندهما والخلاف في التزويج وعقد الولاء سواء وكذلك في الأم وعشيرتها من ذوي الأرحام.
وجه قولهما: الحديث "النكاح إلى العصبات" وإدخال الألف واللام دليل على أن جميع الولاية في باب النكاح إنما نثبت لمن هو عصبة دون من ليس بعصبة والدليل عليه أنه لا يثبت لغير العصبات ولاية التصرف في المال بحال وأن مولى العتاقة مقدم عليهم فلو كان لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدمين على مولى العتاقة إذ لا قرابة لمولى العتاقة.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث بن مسعود رضي الله عنه في إجازته تزويج امرأته ابنتها على ما روينا فإن الأصح أن ابنتها لم تكن من عبد الله فإنما جوز نكاحها بولاية الأمومة والمعنى فيه وهو أن استحقاق الولاية باعتبار الشفقة الموجودة بالقرابة وهذه الشفقة توجد في قرابة الأم كما توجد في قرابة الأب فيثبت لهم ولاية التزويج أيضا إلا إن قرابة الأب يقدمون باعتبار العصوبة وهذا لا ينفي ثبوته لهؤلاء عند عدم العصبات كاستحقاق الميراث يكون بسبب القرابة ويقدم في ذلك العصبات ثم يثبت بعد ذلك لذوي الأرحام وبه ينتقض قولهم أن مولى العتاقة في الولاية مقدم على ذوي الأرحام فإن في الإرث أيضا يقدم مولى العتاقة ولا يدل ذلك على أنه لا يثبت لذوي الأرحام أصلا فكذا هنا وعلى هذا الخلاف مولى الموالاة له ولاية التزويج على الصغير والصغيرة إذا لم يكن لهما قريب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس له ذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأنه مؤخر عن ذوى الأرحام.(4/407)
قال: ولا ولاية للأب الكافر والمملوك على الصغير والصغيرة إذا كان حرا مسلما لأن اختلاف الدين يقطع التوارث فكذلك يقطع ولاية التزويج قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا}[لأنفال: 72] نص على قطع الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة فكان ذلك تنصيصا على انقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الأولى وكذلك الرق ينفي الولاية حتى يقطع التوارث ولأنه ينفي ولايته عن نفسه فلأن ينفي ولايته عن غيره أولى وأما الكافر فثبت له ولاية التزويج على ولده الكافر كما تثبت للمسلم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[لأنفال: 73] والدليل عليه جريان التوارث فيما بينهم كما يجري فيما بين المسلمين.
قال: ولأنكحة الكفار فيما بينهم حكم الصحة إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول أنكحتهم باطلة لأن الجواز نعمة وكرامة ثابتة شرعا والكافر لا يجعل أهلا لمثله ولكنا نستدل بقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4] ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته وقال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" وهذه نعمة كما قال: "ولكن الأهلية لهذه النعمة باعتبار صفة الآدمية" وبالكفر لم يخرج من أن يكون من بني آدم فلا يخرج من أن يكون أهلا لهذه النعمة.(4/408)
ص -206- ... قال: ولو زوج الأب ابنته الصغيرة ممن لا يكافئها أو زوج ابنه الصغير امرأة ليست بكفء له جاز في قول أبي حنيفة استحسانا ولم يجز عندهما وهو القياس وكذلك لو زوج ابنته بأقل من صداق مثلها أو ابنه بأكثر من صداق مثلها بقدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز عندهما هكذا قال في الكتاب ولم يبين ماذا لا يجوز حتى ظن بعض أصحابنا أن الزيادة والنقصان لا يجوز فأما أصل النكاح صحيح لأن المانع هنا من قبل المسمى وفساد التسمية لا يمنع صحة النكاح كما لو ترك التسمية أصلا أو زوجها بخمر أو خنزير ولكن الأصح أن النكاح لا يجوز هكذا فسره في الجامع الصغير.
وجه قولهما: أن ولاية الأب مقيدة بشرط النظر ومعنى الضرر في هذا العقد ظاهر فلا يملكها الأب بولايته كما لا يملك البيع والشراء في ماله بالغبن الفاحش والدليل عليه أنه لو زوج أمتها بمثل هذا الصداق لا يجوز فإذا زوجها أولى وولايته عليها دون ولاية المرأة على نفسها ولو زوجت هي نفسها من غير كفء أو بدون صداق مثلها يثبت حق الاعتراض للأولياء فهذا أولى ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى ترك القياس بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها على صداق خمسمائة درهم زوجها منه أبو بكر رضي الله عنه وزوج فاطمة رضي الله عنها من علي رضي الله عنه على صداق أربعمائة درهم ومعلوم أن ذلك لم يكن صداق مثلهما لأنه إن كان صداق مثلهما هذا المقدار مع أنهما مجمع الفضائل فلا صداق في الدنيا يزيد على هذا المقدار.(4/409)
والمعنى فيه: أن النكاح يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه وإن كان هو في الظاهر يعطي مالا غير واجب وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره وهذا بخلاف ما إذا زوج أمتهما لأن سائر مقاصد النكاح لا تحصل للصغير والصغيرة هنا إنما يحصل للأمة ففي حق الصغير قد انعدم ما يكون جبرا للنقصان وبخلاف العم والأخ لأنه ليس لهما شفقة وافرة فيحمل تقصيرها في الكفاءة والمهر على معنى ترك النظر والميل إلى الرشوة لا لتحصيل سائر المقاصد وبخلاف المرأة في نكاح نفسها لأنها سريعة الانخداع ضعيفة الرأي متابعة للشهوة عادة فيكون تقصيرها في الكفاءة والصداق لمتابعة الهوى لا لتحصيل سائر المقاصد على أن سائر المقاصد تحصل لها دون الأولياء وبسبب عدم الكفاءة والنقصان في الصداق يتعير الأولياء وليس بإزاء هذا النقصان في حقهم ما يكون جابرا فلهذا يثبت لهم حق الاعتراض.(4/410)
ص -207- ... قال: وإذا أقر الولد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح لم يثبت النكاح بإقراره ما لم يشهد به شاهدان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النكاح بإقراره وإنما يتبين هذا الخلاف فيما إذا أقر الولي عليهما ثم أدركا وكذباه وأقام المدعى عليهما بعد البلوغ شاهدين بإقرار الولي بالنكاح في الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل من جهة الرجل والمرأة إذا أقر على موكله بالنكاح وكذلك المولى إذا أقر على عبده بالنكاح فهو على هذا الخلاف أيضا أما إذا أقر على أمته بالنكاح صح إقراره بالاتفاق فهما يقولان أقر بما يملك إنشاءه فيصح كالمولى إذا أقر على أمته وهذا لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإذا حصل بما لا يملك إنشاءه تتمكن التهمة في إخراج الكلام مخرج الإخبار وإذا حصل بما لا يملك انشاءه لا يكون متهما في إخراج الكلام مخرج الأخبار لتمكنه من تحصيل المقصود بطريق الإنشاء ألا ترى أن المطلق إذا قال قبل انقضاء العدة كنت راجعتها كان مصدقا بخلاف ما لو أقر بذلك بعد انقضاء العدة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا إقرار على الغير والإقرار على الغير لا يكون حجة لأنه شهادة وشهادة الفرد لا تثبت الحكم بقي كونه مالكا للإنشاء فنقول هو لا يملك إنشاء هذا العقد إلا بشاهدين كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بشهود"، فلا يملك الإقرار به إلا من الوجه الذي يملك الإنشاء وهكذا نقول إذا ساعده شاهدان على ذلك كان صحيحا اعتبارا للإقرار بالإنشاء وهذا بخلاف الأمة فإن المولى هناك يقر على نفسه لأن بضعها مملوك للمولى وإقرار الإنسان على نفسه صحيح مطلقا من غير أن يكون ذلك معتبرا بالإنشاء فأما في حق العبد الإقرار عليه لا على نفسه فلا يملك الأ من الوجه الذي يملك الإنشاء وأصل كلامهم يشكل بإقرار الوصي بالاستدانة على اليتيم فإنه لا يكون صحيحا وإن كان هو يملك إنشاء الاستدانة.(4/411)
قال: وإن كان للصغيرة وليان فزوجها كل واحد منهما رجلا فإن علم أيهما أول جاز نكاح الأول منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق"، وهذا لأن الأول صادف عقده محله وعقد الثاني لم يصادف محله لأنها بالعقد الأول صارت مشغولة وإن لم يعلم أيهما أول أو وقع العقدان معا بطلا جميعا لأنه لا وجه لتصحيحهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين جهة البطلان فيهما.
قال: وإذا تزوج الصغير امرأة فأجاز ذلك وليه جاز عندنا لأن الصبي العاقل من أهل العبارة عندنا ولكن يحتاج إلى انضمام رأي الولي إلى مباشرته ليحصل تمام النظر فإذا أجاز الولي جاز ذلك وكان ذلك كمباشرة الولي بنفسه حتى يثبت له الخيار إذا بلغ وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينفذ بإجازة الولي لأن من أصله أن عبارة الصبي غير معتبرة(4/412)
ص -208- ... في العقود وكذلك من أصله أن العقود لا تتوقف على الإجازة وعلى هذا لو زوجت الصغيرة نفسها فأجاز الولي ذلك جاز عندنا ولم يجز عند الشافعي رحمه الله تعالى لهذين المعنيين ومعنى ثالث أن عبارة النساء عنده لا تصلح لعقد النكاح وإن كان المجيز غير الأب والجد فلمعنى رابع على قوله أيضا وهو أن هذا المجيز لا يملك مباشرة التزويج وإن أبطل الولي عقدهما بطل وإن لم يتعرض له بالإجازة ولا بالإبطال حتى بلغا فالرأي إليهما أن أجازا ذلك العقد جاز كما لو أجاز الولي في صغرهما ولا ينفذ بمجرد بلوغهما إلا أن يجيز لأن النظر عند مباشرتهما ما تم لصغرهما ونفوذ هذا العقد يعتمد تمام النظر فلهذا يعتمد إجازتهما بعد البلوغ.
قال: وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن زوجها فهو جائر لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم بخلاف ما إذا باع مال ولده الصغير وضمن الثمن عن المشتري لا يصح الضمان لأن ثبوت حق قبض الثمن للأب هناك بحكم العقد لا بولايته عليه ألا ترى أن بعد بلوغه الأب هو الذي يقبض الثمن دون الصبي وفيما يكون وجوبه بحكم عقده فهو كالمستحق لأن حقوق ذلك العقد تتعلق بالعاقد ولهذا لو أبرأ المشتري عن الثمن كان صحيحا فإذا ضمن الثمن عن المشتري كان في معنى الضامن لنفسه فلا يصح.(4/413)
فأما ثبوت حق قبض الصداق للأب بولاية الأبوة لا بمباشرته عقد النكاح لأن حقوق العقد في النكاح لا تتعلق بالعاقد ألا ترى أنها لو بلغت كان القبض إليها دون الأب فكان الأب في هذا الضمان كسائر الأجانب ولو ضمن الصداق لها أجنبي آخر وقبل الأب ذلك كان الضمان صحيحا فكذلك إذا ضمنه الأب فإذا بلغت إن شاءت طالبت الزوج بالصداق بحكم النكاح وإن شاءت طالبت بحكم الضمان وإذا أداه الأب لم يرجع على الزوج لأنه ضمن بغير أمره وإن كان ضمن عن الزوج بأمره فحينئذ يكون له أن يرجع عليه إذا أدى فإن كان هذا الضمان في مرض الأب ومات منه فهو باطل لأنه قصد إيصال النفع إلى وارثه وتصرف المريض فيما يكون فيه إيصال النفع إلى وارثه باطل.
قال: وإذا زوج ابنه الصغير في صحته وضمن عنه المهر جاز يعني إذا قبلت المرأة الضمان ثم إذا أدى الأب لم يرجع بما أدى على الابن استحسانا وفي القياس يرجع عليه لأن غيره لو ضمن بأمر الأب وأدى كان له أن يرجع به في مال الابن فكذلك الأب إذا ضمن لأن قيام ولايته عليه في حالة الصغر بمنزلة أمره إياه بالضمان عنه بعد البلوغ ألا ترى أن الوصي لو كان هو الضامن بالمهر عن الصغير وأدى من مال نفسه يثبت له الرجوع في ماله؟ فكذلك الأب.
وجه الاستحسان: أن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا يتبرعون وفي الرجوع لا(4/414)
ص -209- ... يطمعون والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص فلا يرجع به إلا أن يكون شرط ذلك في أصل الضمان فحينئذ يرجع لأن العرف إنما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه كتقديم المائدة بين يدي الإنسان يكون إذنا له في التناول بطريق العرف فإن قال له لا تأكل لم يكن ذلك إذ ناله فهذا مثله بخلاف الوصي فإن عادة التبرع في مثل هذا غير موجودة في حق الأوصياء بل يكتفي من الوصي أن لا يطمع في مال اليتيم فلهذا ثبت له حق الرجوع إذا ضمن وأدى من مال نفسه وإن مات الأب قبل أن يؤدي فهذه صلة لم تتم لأن تمام الصلة يكون بالقبض ولم يوجد ولكنها بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت من تركة الأب بحكم الضمان لأن الاستحقاق كان ثابتا لها في حياة الأب بحكم الكفالة فلا يبطل ذلك بموته وإذا استوفت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجعون لأن أصل الكفالة انعقدت غير موجبة للرجوع عند الأداء بدليل أنه لو أداه في حياته لم يرجع عليه فبموته لا يصير موجبا للرجوع ولكنا نقول إنما لا يرجع في حياته إذا أدى لمعنى الصلة وقد بطل ذلك بموته قبل التسليم فكان هذا بمنزلة ما لو ضمن عنه بعد البلوغ بأمره واستوفاه من تركته بعد وفاته وإن كان هذا الضمان في مرض الأب الذي مات فيه فهو باطل لأنه تبرع منه على ولده بضمان الصداق منه وتبرع الوالد على ولده في مرضه باطل وكذلك كل من ضمن عن وارثه أو لوارثه ثم مات فضمانه باطل لما بينا.(4/415)
قال: والمجنون المغلوب بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصغير ويستوي إن كان جنونه أصليا أو طارئا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الجنون الأصلي كذلك الجواب بأن بلغ مجنونا فأما في الجنون الطارئ لا يكون للمولى عليه ولاية التزويج لأنه ثبت له الولاية على نفسه عند بلوغه والنكاح يعقد للعمر ولا تتجدد الحاجة إليه في كل وقت فبصيرورته من أهل النظر لنفسه يقع الاستغناء فيه عن نظر الولي بخلاف المال فإن الحاجة إليه تتجدد في كل وقت ولكنا نقول ثبوت الولاية لعجز المولى عليه عن النظر لنفسه والجنون الأصلي والعارض في هذا سواء فربما لم يتفق له كفء في حال إفاقته حتى جن أو ماتت زوجته بعد ما جن فتتحقق الحاجة في الجنون الطارى كما تتحقق في الجنون الأصلي والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الرا بع, ويليه الجزء الخامس
وأوله:باب نكاح البكر(4/416)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الخامس
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(5/1)
ص -3- ... باب نكاح البكر:
قال رضي الله عنه: وإذا زوج الرجل ابنته الكبيرة وهي بكر فبلغها فسكتت فهو رضاها, والنكاح جائز عليها, وإذا أبت وردت لم يجز العقد عندنا. وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى: يجوز العقد وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر" فتخصيص الثيب بالذكر عند نفي ولاية الاستبداد للولي بالتصرف دليل على أنه يستبد بتزويج البكر. ولأن هذه بكر, فيملك أبوها تزويجها كما لو كانت صغيرة وهذا لما بينا أن بالبلوغ لا يحدث لها رأى في باب النكاح. فإن طريق معرفة ذلك التجربة, فكان بلوغها مع صفة البكارة كبلوغها مجنونة, بخلاف المال والغلام, فإن الرأي هناك يحدث بالبلوغ عن عقل, والدليل عليه أن للأب أن يقبض صداقها بغير أمرها إذا كانت بكرا. فإذا جعل في حق قبض الصداق كأنها صغيرة حتى يستبد الأب بقبض صداقها, فكذا في تزويجها, وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة.
وفي حديث آخر قال في البكر: "يزوجها وليها فإن سكتت فقد رضيت وإن أبت لم تكره" وفي رواية: "فلا جواز عليها" والدليل عليه حديث الخنساء, فإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أن أبي زوجني من بن أخيه وأنا لذلك كارهة. فقال صلى الله عليه وسلم: "أجيزى ما صنع أبوك" فقالت: ما لي رغبة فيما صنع أبي. فقال صلى الله عليه وسلم: "أذهبي فلا نكاح لك انكحى من شئت" فقالت: أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء. ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتها, ولم يستفسر أنها بكر أو ثيب, فدل أن الحكم لا يختلف.(5/2)
وفي الحديث المعروف: "البكر تستأمر في نفسها وسكوتها رضاها" فدل أن أصل الرضا منها معتبر, والشافعي رحمه الله تعالى لا يعمل بهذا الحديث أصلا فإنه يقول: في حق الأب والجد لا يشترط رضاها, وفي تزويج غير الأب والجد لا يكتفي بسكوتها. وما علق في حديث آخر من الحق لها بصفة الثيوبة المراد به في حق الضم والتفرد بالسكني, يعني أن للولي أن يضم البكر إلى نفسه لأنه يخاف عليها أن تخدع, فإنها لم تمارس الرجال ولم تعرف كيدهم. وللثيب أن تنفرد بالسكني لأنها آمنة من ذلك, والمعني فيه إنها حرة مخاطبة, فلا يجوز تزويجها بغير(5/3)
ص -4- ... رضاها كالثيب وتأثيره أن الحرية والخطاب وصفان مؤثران في استبداد المرء بالتصرف وزوال ولاية الافتيات عليه كما في حق المال والغلام, وبقاء صفة البكارة تأثيره في عدم الاهتداء بسبب انعدام التجربة والامتحان ولهذا لا تثبت ولاية الافتيات عليه كما في المال.
فإن الظاهر إن من يبلغ لا يكون مهتديا إلى التصرفات قبل التجربة والامتحان, ولكن الاهتداء وعدم الاهتداء لا يوقف على حقيقته وتختلف فيه أحوال الناس. فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام حقيقة الاهتداء تيسيرا للأمر على الناس, وسقط اعتبار الاهتداء الذي يحصل قبل البلوغ بسبب التجربة, ويسقط اعتبار الجهل الذي يبقى بعد البلوغ لعدم التجربة.
ألا ترى أن البكر التي لا أب لها غير مهتدية كالتي لها أب؟ ثم اعتبار رضاها في تزويجها بالاتفاق وكذلك إقرارها بالنكاح يصح. فلو كان بقاء صفة البكارة في حقها كبقاء صفة الصغر لم يجز إقرارها بالنكاح. وإما قبض الصداق فعندنا لو نهت الأب عن قبض صداقها لم يكن له أن يقبض ولكنه عند عدم النهي له أن يقبض لوجود الأذن دلالة, فإن الظاهر أن البكر تستحي من قبض صداقها وأن الأب هو الذي يقبض لتجهيزها بذلك مع مال نفسه إلى بيت زوجها فكان له أن يقبض لهذا. وبعد الثيوبة لا توجد هذه العادة لأن التجهيز من الآباء بالإحسان مرة بعد مرة لا يكون فصار الأب في المرة الثانية كسائر الأولياء.(5/4)
قال: وإن سكتت حين بلغها عقد الأب, فالنكاح جائز عليها لأن الشرع جعل السكوت منها رضا لعلة الحياء, فإن ذلك يحول بينها وبين النطق فتكون بمنزلة الخرساء. فكما تقوم أشارة الخرساء مقام عبارتها فكذلك يقام سكوت البكر مقام رضاها وكان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول: إذا استأمرها قبل العقد فسكتت فهو رضا منها بالنص فأما إذا بلغها العقد فسكتت لا يتم العقد, لأن الحاجة إلى الإجازة هنا والسكوت لا يكون إجازة منها لأن هذا ليس في معنى المنصوص. فإن السكوت عند الاستئمار لا يكون ملزما وحين يبلغها العقد الرضا يكون ملزما فلا يثبت ذلك بمجرد السكوت. ولكنا نقول: هذا في معنى المنصوص لأن عند الاستئمار لها جوابان نعم أو لا فيكون
سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك وهو نعم لما فيه من إظهار الرغبة إلى الرجال. وكذلك إذا بلغها العقد فلها جوابان: أجزت أو رددت فيجعل السكوت دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك وهو الإجازة.
قال: وكذلك لو ضحكت لأن الضحك أدل علي الرضا بالتصرف من السكوت بخلاف ما إذا بكت فإن البكاء دليل السخط والكراهة. وقد قال بعض المتأخرين هذا إذا كان لبكائها صوت كالويل فأما إذا خرج الدمع من عينها من غير صوت البكاء لم يكن هذا ردا, بل هي تحزن علي مفارقة بيت أبويها وإنما يكون ذلك عند الإجازة وكذلك قالوا: إن ضحكت كالمستهزئة لما سمعت لا يكون رضا والضحك الذي يكون بطريق الاستهزاء معروف بين الناس.(5/5)
ص -5- ... قال: فإن قال قبل النكاح: أن فلانا يخطبك وأنا مزوجك إياه فسكتت ثم ذهب فزوجها جاز النكاح لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب إليه بنت من بناته دنا من خدرها وقال: "إن فلانا يخطب فلانة" ثم ذهب فزوجها إن سكتت وإن نكتت خدرها بإصبعها لم يزوجها وفي رواية أنه كان يقول إن فلانا يخطب فلانة فإن كرهتيه قولي لا فإنما طلب منها جواب الرد لا جواب الرضا فدل أن السكوت يكفي للرضا وفي الكتاب لم يشترط تسمية الصداق في الاستئمار وإنما اشترط تسمية الزوج لأن الظاهر إن اختلاف رغبتها يكون باختلاف الزوج وإن الأب لا يقف على مرادها في حق الزوج فأما في حق الصداق فالأب يعلم بمرادها في ذلك وهو صداق مثلها فلا حاجة إلى تسمية ذلك مع أن في أصل النكاح الشرط تسمية الزوجين لا المهر ففي الاستئمار أولى وبعض المتأخرين يقولون لا بد من تسمية المهر في الاستئمار لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق والقلة والكثرة والذي بيناه في الأب هو الحكم في سائر الأولياء فهذا دليل على أن الاستئمار إنما يكون معتبرا من الولي الذي يملك مباشرة العقد فأما الأجنبي إذا استأمرها فسكتت لم يكن له أن يزوجها لأن سكوتها لعدم الالتفات إلى إستئمار الأجنبي فكأنها قالت مالك وللاستئمار حين لم تكن بسبيل من العقد إلا أن يكون الذي استأمرها رسول الولي فحينئذ الرسول قائم مقام المرسل, وحكي عن الكرخي رحمه الله تعالى: أن سكوتها عند استئمار الأجنبي يكون رضا لأنها تستحي من الأجنبي أكثر مما تستحي من الولى.(5/6)
قال: وإذا قالت البكر: لم أرض حين بلغني وادعى الزوج رضاها, فالقول قولها عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى: القول قول الزوج لأنه متمسك بما هو الأصل وهو السكوت. والمرأة تدعى عارضا وهو الرد فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كالمشروط له الخيار مع صاحبه إذا اختلفا بعد مضي المدة فادعى المشروط له الخيار الرد وأنكره صاحبه, فالقول قوله لتمسكه بالأصل وهو السكوت. وكذلك الشفيع مع المشتري إذا اختلفا, فقال:الشفيع علمت بالبيع أمس فطلبت الشفعة وقال المشتري: بل سكت فالقول قول المشتري لتمسكه بما هو الأصل. ولكنا نقول: الزوج يدعى ملك بضعها وهذا ملك حادث وهي تنكر ثبوت ملكه عليها, فكانت هي المتمسكة بالأصل فكان القول قولها,كما لو ادعى أصل العقد وأنكرت هي. وهذا لأن ما قاله زفر رحمه الله تعالى نوع ظاهر, والظاهر يكفي لدفع الاستحقاق لا لأثبات الاستحقاق وحاجة الزوج هنا إلى اثبات الاستحقاق.
وفي الحقيقة, المسألة تنبنى على مسألة أخرى وهو أنه إذا قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال العبد:لم أدخل وقال المولى: قد دخلت عند زفر رحمه الله تعالى: القول قول العبد لتمسكه بما هو الأصل وعندنا: القول قول المولى لأن حاجة العبد إلى إثبات الاستحقاق والظاهر لهذا لا يكفي. ولأن عدم الدخول شرط للعتق ولا يكتفي بثبوت الشرط بطريق الظاهر, فكذا هنا رضاها شرط لثبوت النكاح, والظاهر لا يكفي لذلك.(5/7)
ص -6- ... فأما الشفيع إذا قال:طلبت الشفعة حين علمت فالقول قوله وأن قال:علمت أمس وطلبت الآن فالقول قول المشتري, لأن حاجة المشتري إلى دفع استحقاق الشفيع والظاهر يكفي للدفع. وكذلك في باب البيع فإن سبب لزوم العقد وهو مضى مدة الخيار قد ظهر فحاجة الآخر إلى دفع استحقاق مدعي الفسخ والظاهر يكفي لذلك. فإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: تستحلف فإن نكلت قضى عليها بالنكاح.
وأصل المسألة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا يستحلف في ستة أشياء: في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والنسب والولاء. وعندهما يستحلف في ذلك كله فيقضي بالنكول. وقد ذكر في الدعوى فصلا شائعا إذا ادعت الأمة على مولاها أنها أسقطت سقطا مستبين الخلق وصارت أم ولد له بذلك, وحجتهما في ذلك أن هذه الحقوق تثبت مع الشبهات, فيجوز القضاء فيها بالنكول كالأموال وهذا لأن النكول قائم مقام الإقرار, ولكن فيه نوع شبهة لأنه سكوت والسكوت محتمل فإنما يثبت به ما يثبت مع الشبهات ولهذا لا يثبت القصاص بالنكول لأنه يندرئ بالشبهات, وإنما يثبت بالنكول ما يثبت بالإبدال من الحجج نحو كتاب القاضي إلى القاضي, والشهادة على الشهادة. وهذه الحقوق تثبت بذلك فكذلك بالنكول لأنه بدل عن الإقرار.(5/8)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هذه الحقوق لا يجزى فيها البدل, فلا يقضي فيها بالنكول كالقصاص في النفس. وبيان الوصف ظاهر فإن المرأة لو قالت: لا نكاح بيني وبينك ولكن بذلت لك نفسي لا يعمل بذلها. وكذلك لو قال:لست بابن لك ولا مولى ولكن أبذل لك نفسي, أو قال:أنا حر الأصل ولكن أبذل لك نفسي لتسترقني, لا يعمل بذله أصلا بخلاف المال فإنه لو قال:هذا المال ليس لك ولكن أبذله لك لأتخلص من خصومتك, كان بذله صحيحا وتأثيره إن النكول بمنزلة البذل لا بمنزلة الإقرار, فإنا لو جعلناه بذلا يتوصل المدعي إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره, وإذا جعلناه إقرارا يجعل المدعى عليه مبطلا في إنكاره وذلك لا يجوز إلا بحجة. ولأن النكول سكوت فهو إلى ترك المنازعة أقرب منه إلى الإقرار فإنما يثبت به أدنى ما يثبت بترك المنازعة وهو البذل.
فرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين القصاص في النفس. فإن هناك يستحلف وإن كان لا يقضي بالنكول لأن اليمين في النفس مقصودة لعظم أمر الدم. ألا ترى أن الأيمان في القسامة شرعت مكررة؟ وفي هذه المسائل اليمين ليست بحق له مقصودا وإنما المقصود منه القضاء بالنكول فإذا لم يجز القضاء بالنكول لا حاجة إلى الاستحلاف لكونه غير مفيد وبأن كان يثبت بالإبدال من الحجج فذاك لا يدل على أنه يستحلف فيه, كتصديق المقذوف القاذف يثبت بالإبدال من الحجج ولا يجري فيه الاستحلاف.(5/9)
ص -7- ... قال: وإن كان الزوج قد دخل بها ثم قالت لم أرض لم تصدق على ذلك لأن تمكينها الزوج من نفسها أدل على الرضا من سكوتها إلا أن يكون دخل بها وهي مكرهة, فحينئذ القول قولها لظهور دليل السخط منها دون دليل الرضا. ولا يقبل عليها قول وليها بالرضا لأنه يقر عليها بثبوت الملك للزوج وإقراره عليها بالنكاح بعد بلوغها غير صحيح بالاتفاق وهذا لأنه لا يملك إلزام العقد عليها فلا يعتبر إقراره في لزوم العقد عليها أيضا.
قال: وإذا زوج ابنه الكبير فبلغه فسكت لم يكن رضا حتى يرضى بالكلام أو بفعل يكون دليل الرضا لأن في حق الأنثى السكوت جعل رضا لعلة الحياء, وذلك لا يوجد في الغلام, فإنه لا يستحي من الرغبة في النساء ولأن السكوت من البكر محبوب في الناس عادة وفي حق الغلام السكوت مذموم لأنه دليل على التخنث, فلهذا لا يقام سكوته مقام رضاه.
قال: وإذا مات زوج البكر قبل أن يدخل بها بعد ما خلا بها زوجها أبوها بعد انقضاء العدة كما تزوج البكر, لأن صفة البكارة قائمة والحياء الذي هو علة قائم. فإن بوجوب العدة والمهر لا يزول الحياء فلهذا يكتفي بسكوتها. وإن جومعت بشبهة أو نكاح فاسد لم يجز تزويجها بعد ذلك إلا برضاها ولا يكتفي بسكوتها. في هذا الموضع لأنها ثيب, لقوله صلى الله عليه وسلم: "والثيب تشاور" فأما إذا زنت يكتفى بسكوتها عند التزويج عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وعند أبي يوسف, ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى. لا يكتفي بسكوتها لأنها ثيب, لأن الثيب اسم لامرأة يكون مصيبها عائدا إليها مشتق من قولهم: ثاب, أي رجع والبكر اسم لامرأة مصيبها يكون أول مصيب لها, لأن البكارة عبارة عن أولية الشيء, ومنه يقال لأول النهار بكرة, وأول الثمار باكورة, والدليل عليه أنها تستحق من الوصية للثيب دون الوصية للأبكار.(5/10)
وإذا كانت ثيبا وجب مشورتها بالنص, ولا يجوز الاشتغال بالتعليل مع هذا لأنه يكون تعليلا لابطال حكم ثابت بالنص, ولأن الحياء بعد هذا يكون رعونة منها فإنها لما لم تستح من إظهار الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه, كيف تستحي من إظهار الرغبة على أحسن الوجوه؟ بخلاف حياء البكر لأنه حياء كرم الطبيعة وذلك أمر محمود. وهذه لو كان فيها حياء إنما هو استحياء من ظهور الفاحشة وذلك غير ما ورد فيه النص.
ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: صاحب الشرع إنما جعل سكوتها رضا لا للبكارة بل لعلة الحياء فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما أخبرت أنها تستحي فحينئذ قال:"سكوتها رضاها". وغلبة الحياء هنا موجودة فإنها وإن أبتليت بالزنى مرة لفرط الشبق أو أكرهت على الزنى لا ينعدم حياؤها بل يزداد لأن في الاستنطاق ظهور فاحشتها وهي تستحي من ذلك غاية الاستحياء وهذا الاستحياء محمود منها لأنها سترت ما على نفسها وقد أمرت بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله". وقبل هذا الفعل إنما كانت لا تستنطق لأن الاستنطاق دليل ظهور رغبتها في الرجال, فإذا سقط نطقها في موضع(5/11)
ص -8- ... يكون النطق دليل رغبتها في الرجال على أحسن الوجوه, فلأن يسقط نطقها في موضع يكون النطق دليل الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه كان أولى, بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو بنكاح فاسد لأن الشرع أظهر ذلك الفعل عليها حين ألزم المهر والعدة وأثبت النسب بذلك الفعل. وهنا الشرع ما أظهر ذلك عليها إذ لم يعلق به شيئا من الأحكام وأمرها بالستر على نفسها. فإن أخرجت وأقيم عليها الحد فالصحيح أنه لا يكتفي بسكوتها أيضا بعد ذلك وكذلك إذا صار الزنى عادة لها.
وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى يقول في هذين الفصلين يكتفي بسكوتها أيضا لأنها بكر شرعا. ألا ترى أنها تدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"؟ ولكن هذا ضعيف فإن في الموطؤة بالشبهة والنكاح الفاسد هذا موجود ولا يكتفي بسكوتها فعرفنا أن المعتبر بقاء صفة الحياء.
ولو زالت بكارتها بالوثبة أو الطفرة أو بطول التعنيس يكتفي بسكوتها عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى: هي بمنزلة الثيب استدلالا بالبيع فإنه لو باع جارية بشرط أنها بكر فوجدها المشتري بهذه الصفة كان له أن يردها, فدل أنها ليست ببكر بعد ما أصابها ما أصابها ولكنا نقول: هي بكر لأن مصيبها أول مصيب لها إلا أنها ليست بعذراء. والعادة بين الناس أنهم باشتراط البكارة في السرائر يريدون صفة العذرة فلهذا ثبت حق الرد فأما هذا الحكم تعلق بالحياء أو بصفة البكارة وهما قائمان. ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها لما افتخرت بالبكارة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أشارت إلى هذا المعنى فقالت: رأيت لو وردت واديين أحداهما رعاها أحد قبلك والأخرى لم يرعها أحد قبلك إلى أيهما تميل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إلى التي لم يرعها أحد قبلى" فقالت: أنا ذاك, فعرفنا أنها ما لم توطأ فهي بكر.(5/12)
قال: وإذا زوج البكر أبوها من رجل وأخوها من رجل آخر بعده, فأجازت نكاح الأخ جاز ذلك عليها ولم يجز نكاح الأب وهو بناء على أصلنا أن العقد لا يجوز إلا برضاها سواء كان المباشر أبا أو أخا فإنما وجد شرط نفوذ نكاح الأخ وهو رضاها بذلك. ومن ضرورة رضاها بنكاح الأخ رد نكاح الأب فلهذا يبطل نكاح الأب.
قال: وإذا زوجها وليها بغير أمرها فلم يبلغها حتى ماتت هي أو مات الزوج لم يتوارثا, لأن النكاح لا ينفذ عليها إلا برضاها والإرث حكم يختص بالنكاح الصحيح المنتهى بالموت ولم يوجد فهو بمنزلة النكاح الفاسد إذا مات فيه أحدهما لم يتوارثا.
قال: وإن زوجها أبوها وهو عبد أو كافر ورضيت به جاز, لأن العقد كان موقوفا على إجازتها. ألا ترى أنها لو أذنت في الابتداء نفذ عقده بإذنها؟ فكذلك إذا أجازت في الانتهاء. ولكن لا نقول: سكوتها رضا منها لأن العاقد لم يكن وليا لها والحاجة في عقد غير الولي إلى توكيلها لا إلى رضاها والتوكيل غير الرضا. فإن التوكيل إنابة والرضا إسقاط حق الرد,(5/13)
ص -9- ... فلهذا لا يثبت التوكيل بالسكوت. وهذا يبين لك ما قلنا: أن الصحيح في استئمار الأجنبي أنه لا يكتفي بسكوتها.
قال: وإذا زوج البكر وليها بأمرها وزوجت هي نفسها. فإن قالت: هو الأول فالقول قولها وهو الزوج لأنها أقرت بملك النكاح له على نفسها, وإقرارها حجة تامة عليها. وإن قالت لا أدري أيهما أول ولا يعلم ذلك فرق بينهما لأنه لا يمكن تصحيح نكاحهما فإن المرأة لا تحل لرجلين بالنكاح وليس أحدهما بأولى من الآخر, فيفرق بينها وبينهما لهذا, وكذلك لو زوجها وليان بأمرها والثيب والبكر في هذا سواء لما بينا.
قال: وإذا زوج البكر وليها فأخبرها بذلك فقالت لا أرضى, ثم قالت قد رضيت, فلا نكاح بينهما لأن العقد قد بطل بينهما بردها. فإنما رضيت بعد ذلك بالعقد المفسوخ وذلك باطل ولهذا جرى الرسم بتجديد العقد عند الزفاف, لأنها في المرة الأولى تظهر الرد, وغير ذلك لا يحمد منها ثم لا يزال بها أولياؤها يرغبونها حتى رضيت. فلو لم يتجدد العقد كانت تزف إلى أجنبي فلهذا استحسنا تجديد العقد عند الزفاف.
قال: وإذا استؤمرت في نكاح رجل خطبها فأبت, ثم زوجها الولى منه فسكتت فهو رضاها لأنها لما أبت بطل استئمارها, فكأنه زوجها من غير استئمار, فيكون سكوتها رضاها. وكان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول: هنا لا يجوز, ولا يكون سكوتها رضا لأنها قد صرحت بالسخط فكيف يكون سكوتها بعد ذلك دليل رضاها؟ ولكنا نقول: قد يسخط المرء الشيء في وقت ويرضى به في وقت آخر, فسخطها قبل العقد لا يمنعنا أن نجعل سكوتها رضا بعد العقد, والله أعلم بالصواب.
باب نكاح الثيب(5/14)
قال: قد بلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا زوج ابنته وهي كارهة وهي تريد عم صبيانها "ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين الذي زوجها منه أبوها ثم زوجها عم ولدها" وهذه المرأة كانت ثيبا لأن الراوي قال وهي تريد عم صبيانها فهذا دليل على أن نكاح الأب الثيب لا ينفذ بدون رضاها وهو مجمع عليه.
ولا يكون للشافعي في هذا الحديث حجة علينا في البكر لأن ضد هذا الحكم في حق البكر مفهوم والمفهوم عندنا ليس بحجة ولأنه خص الثيب بالذكر وتخصيص الثيب بالذكر لا يدل على أن الحكم في غيرها بخلافه.
ثم في هذا الحديث دليل على أن الولي إذا امتنع عن التزويج زوجها الإمام فإن الأب هنا امتنع من تزويجها ممن أرادت فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بولاية الإمامة وفيه دليل على أن اختيار الأزواج إليها لا إلى الولي لأنها هي التي تعاشر الأزواج فإنما تحسن العشرة مع من تختاره دون من يختاره الولي.(5/15)
ص -10- ... قال: وإذا زوج الثيب أبوها فبلغها فسكتت لم يكن سكوتها رضا بالنكاح لأن الأصل في السكوت أن لا يكون رضا لكونه محتملا في نفسه وإنما أقيم مقام الرضا في البكر لضرورة الحياء والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولا ضرورة في حق الثيب فلهذا لا يكتفي بسكوتها عند الاستئمار ولا إذا بلغها العقد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب النكاح بغير ولي
قال: رضي الله عنه بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح وفي هذا دليل على أن المرأة إذا زوجت نفسها أو أمرت غير الولي أن يزوجها فزوجها جاز النكاح وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى سواء كانت بكرا أوثيبا إذا زوجت نفسها جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء فالنكاح صحيح إلا أنه إذا لم يكن كفؤا لها فللأولياء حق الاعتراض.
وفي رواية الحسن رضي الله عنه أن كان الزوج كفؤا لها جاز النكاح وإن لم يكن كفؤا لها لا يجوز وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى أولا يقول لا يجوز تزويجها من كفء أو غير كفء إذا كان لها ولي ثم رجع وقال أن كان الزوج كفؤا جاز النكاح وإلا فلا ثم رجع فقال النكاح صحيح سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء لها وذكر الطحاوي قول أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الزوج أن كان كفؤا أمر القاضي الولي بإجازة العقد فإن أجازه جاز وإن أبي أن يجيزه لم ينفسخ ولكن القاضي يجيزه فيجوز.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يتوقف نكاحها على إجازة الولى سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء فإن أجازه الولي جاز وأن أبطله بطل إلا إنه إذا كان الزوج كفؤا لها ينبغي للقاضي أن يجدد العقد إذا أبي الولى أن يزوجها منه.(5/16)
وعلى قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى تزويجها نفسها منه باطل على كل حال ولا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا سواء زوجت نفسها أو بنتها أو أمتها أو توكلت بالنكاح عن الغير ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول إذا كانت غنية شريفة لم يجز تزويجها نفسها بغير رضا الولي وإن كانت فقيرة خسيسة يجوز لها أن تزوج نفسها من غير رضا الولي ومنهم من فصل بين البكر والثيب وهم أصحاب الظواهر أما من شرط الولى استدل بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232].
وقال الشافعي رحمه الله تعالى وهذه آبين آية في كتاب الله تعالى تدل على أن النكاح لا يجوز بغير ولي لأنه نهي الولي عن المنع وإنما يتحقق المنع منه إذا كان الممنوع في يده وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل(5/17)
ص -11- ... باطل باطل وإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها لاوكس ولا شطط فإن تشاجرا فالسلطان ولي من لا ولي له" وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي" وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها" وإنما الزانية هي التي تنكح نفسها وإن عائشة رضي الله عنها كانت تحضر النكاح وتخطب ثم تقول اعقدوا فإن النساء لا يعقدن والمعنى فيه أنها ناقصة بنقصان الأنوثة فلا تملك مباشرة عقد النكاح لنفسها كالصغيرة والمجنونة.
وهذا لأن النكاح عقد عظيم خطره كبير ومقاصده شريفة ولهذا أظهر الشرع خطره باشتراط الشاهدين فيه من بين سائر المعاوضات فلا ظهار خطره تجعل مباشرته مفوضة إلى أولى الرأى الكامل من الرجال لأن النساء ناقصات العقل والدين فكان نقصان عقلها بصفة الأنوثة بمنزلة نقصان عقلها بصفة الصغر ولهذا قال محمد رحمه الله تعالى أن عقدها يتوقف على إجازة الولي. كما أن عقد الصغيرة التي تعقل يتوقف على إجازة الولي.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينعقد العقد بعبارتها أصلا كما لا ينعقد التصرف بعبارة الصغيرة عنده والدليل عليه ثبوت حق الاعتراض للأولياء إذا وضعت نفسها في غير كفء ولو ثبتت لها ولاية الإستبداد بالمباشرة لم يثبت للأولياء حق الاعتراض كالرجل وكذلك تملك مطالبة الولى بالتزويج ولو كانت مالكة للعقد على نفسها لما كان لها أن تطالب الولي به والدليل على اعتبار نقصان عقلها أنه لم يجعل إليها من جانب رفع العقد شيء بل الزوج هو الذي يستبد بالطلاق.(5/18)
وأما من جوز النكاح بغير ولي استدل بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] وبقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدل أنها تملك المباشرة والمراد بالعضل المنع حسا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج وهذا خطاب للأزواج فإنه قال في أول الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] وبه نقول: أن من طلق امرأته وانقضت عدتها فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها" والأيم اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا وهذا هو الصحيح عند أهل اللغة وهو اختيار الكرخي رحمه الله تعالى قال الأيم من النساء كالأعزب من الرجال بخلاف ما ذكر محمد رحمه الله تعالى أن الأيم اسم للثيب وقد بينا هذا في شرح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر". وحديث الخنساء حيث قالت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكني أردت أن تعلم النساء ان ليس إلى الآباء من أمور بناتهم شيء.(5/19)
ص -12- ... ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها اعتذرت بأعذار من جملتها أن أولياءها غيب فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس في أوليائك من لا يرضي بي قم يا عمر فزوج أمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم". خاطب به عمر بن أبي سلمة وكان بن سبع سنين وعن عمر وعلي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم جواز النكاح بغير ولي وأن عائشة رضي الله تعالى عنها زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير وهو غائب فلما رجع قال أو مثلى بفتات عليه في بناته فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها أو ترغب عن المنذر والله لتملكنه أمرها.
وبهذا تبين أن مارووا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها غير صحيح فإن فتوي الراوي بخلاف الحديث دليل وهن الحديث ومدار ذلك الحديث على الزهري وأنكره الزهري وجوز النكاح بغير ولي ثم هو محمول على الأمة إذا زوجت نفسها بغير أذن مولاها أو على الصغيرة أو على المجنونة وكذلك سائر الأخبار التي رووا على هذا تحمل أو على بيان الندب أن المستحب أن لا تباشر المرأة العقد ولكن الولي هو الذي يزوجها والمعني فيه أنها تصرفت في خالص حقها ولم تلحق الضرر بغيرها فينعقد تصرفها كما لو تصرفت في مالها.(5/20)
وبيان الوصف أن النكاح من الكفء بمهر المثل خالص حقها بدليل أن لها أن تطالب الولي به ويجبر الولي على الإيفاء عند طلبها وهي من أهل استيفاء حقوق نفسها فإنما استوفت بالمباشرة حقها وكفت الولى مؤنة الإيفاء فهو نظير صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه فاستوفى كان استيفاؤه صحيحا فكذلك هنا والدليل عليه أن اختيار الأزواج إليها بالإتفاق والتفاوت في حق الإغراض والمقاصد إنما يقع باختيار الزوج لا بمباشرة العقد ولو كان لنقصان عقلها عبرة لما كان لها اختيار الأزواج وكذلك إقرارها بالنكاح صحيح على نفسها ولو كانت بمنزلة الصغيرة ما صح إقرارها بالنكاح وكذلك يعتبر رضاها في مباشرة الولي العقد ولو كانت بمنزلة الصغيرة لما اعتبر رضاها ويجب على الولي تزويجها عند طلبها ولو كانت كالصغيرة لما وجب الإيفاء بطلبها وإنما يثبت لها حق مطالبة الولي لنوع من المروءة وهو أنها تستحي من الخروج إلى محافل الرجال لتباشر العقد على نفسها ويعد هذا رعونة منها ووقاحة ولكن هذا لا يمنع صحة مباشرتها.
كما ورد الشرع بالنهي عن ان يخطب على خطبة غيره ولو فعل جاز لأن هذا النهي لنوع من المروءة فلا يمنع جواز المنهي عنه وإذا زوجت نفسها من غير كفء فقد ألحقت الضرر بالأولياء فيثبت لهم حق الاعتراض لدفع الضرر عن أنفسهم كما أن الشفيع يثبت له حق الأخذ بالشفعة لدفع الضرر عن نفسه ولأن طلب الكفاءة لحق الأولياء فلا تقدر على إسقاط حقهم وهذا لا يمنع وجود أصل عقدها في حق نفسها كأحد الشريكين إذا كاتب كان للآخر أن يفسخ دفعا للضرر عن نفسه وعلى رواية الحسن رحمه الله تعالى قال إذا زوجت نفسها من غير كفء لم يجز النكاح أصلا وهو أقرب إلى الاحتياط فليس كل ولي يحتسب في المرافعة(5/21)
ص -13- ... إلى القاضي ولا كل قاض يعدل فكان الأحوط سد باب التزويج من غير كفء عليها وبهذا الطريق قال أبو يوسف رحمه الله تعالى الأحوط أن يجعل عقدها موقوفا على إجازة الولي ليندفع الضرر عن الولي إلا أن الولي إذا قصد بالفسخ دفع الضرر عن نفسه بأن لم يكن كفؤا لها صح فسخه وإن قصد الإضرار بها بأن كان الزوج كفؤا لها لم يصح فسخه ولكن القاضي يقوم مقامه في الإجازة كما يقوم مقامه في العقد إذا عضلها ومحمد رحمه الله تعالى يقول لما توقف العقد على إجازة الولي لتمام الاحتياط فكما ينعقد بإجازته ينفسخ بفسخه وبعد ما يفسخ فليس للقاضي أن يجيزه ولكن يستقبل العقد إذا تحقق العضل من الولي.
وعلى هذا الأصل يقول إذا زوجت نفسها من كفء ثم مات أحدهما قبل المرافعة إلى القاضي توارثا إما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر وأما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فلأن تصرفها في حق نفسها صحيح ومعنى التوقف لدفع الضرر عن الولي ولهذا لا ينفسخ بفسخ الولي وإنما انتهى النكاح الصحيح بالموت فيجري التوارث بينهما وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يتوارثان لأن أصل العقد كان موقوفا وفي العقد الموقوف لا يجري التوارث.
وعلى هذا لو ظاهر منها أو آلى منها صح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى خلافا لمحمد رحمه الله تعالى وإن كانت قصرت في مهرها فزوجت نفسها بدون صداق مثلها كان للأولياء حق الاعتراض حتى يبلغ بها مهر مثلها أو يفرق بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يثبت للأولياء حق الاعتراض إلا أن قول محمد رحمه الله تعالى لا يتحقق في تزويجها نفسها وإنما يتحقق فيما قال في كتاب إلا كراه.(5/22)
وإذا أكرهت المرأة الولي على أن يزوجها بأقل من مهر مثلها فزوجها ثم زال إلا كراه فرضيت المرأة وأبي الولي أن يرضي فليس له ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها ألا ترى أن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أنها ألحقت الضرر بالأولياء فيكون لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء وبيان ذلك أن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها ويعيرون بنقصان مهرها فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة وفيه يقول القائل:
وما علي أن تكون جاريه ... تمشط رأسي وتكون فاليه
حتى ما إذا بلغت ثمانية ... زوجتها مروان أو معاويه
أختان صدق ومهور غاليه(5/23)
ص -14- ... ومع لحوق العار بالأولياء فيه الحاق الضرر بنساء العشيرة أيضا فإن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فعرفنا أن في ذلك ضررا عليهن وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها فكان لهم حق الاعتراض فأما بعد تسمية الصداق كاملا صار حق العشيرة مستوفي وبقاء المهر يخلص لها فإن شاءت استوفت وإن شاءت أبرأت وهونظير حق الشرع في تسمية أصل المهر في الإبتداء وإن كان البقاء يخلص لها وإن طلقها قبل أن يدخل بها كان لها نصف ما سمى لها لأن الطلاق قبل الدخول مسقط للصداق قياسا فإن المعقود عليه يعود إليها كما خرج عن ملكها وذلك سبب لسقوط البدل إلا أنا أوجبنا لها نصف المسمى بالنص وهو قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فلا تجب الزيادة على ذلك.
وأن فرق القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول بها فلا شيء عليه لأنه فسخ أصل النكاح بهذا التفريق فلا يجب لها شيء وإن ولت المرأة أمرها رجلا فزوجها كفؤا فهو بمنزلة تزويجها نفسها وفي قول محمد رحمه الله تعالى لا يجوز ذلك كما لا يجوز تزويجها نفسها زاد في نسخ أبي حفص رضي الله عنه وقال إلا أن يكون لها ولي فحينئذ يجوز وهذا شيء رواه أبو رجاء بن أبي رجاء عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال سألته عن النكاح بغير ولي فقال لا يجوز قلت فإن لم يكن لها ولي قال يرفع أمرها إلى الحاكم ليزوجها قلت فإن كانت في موضع لاحاكم في ذلك الموضع قال يفعل ما قال سفيان رحمه الله تعالى قلت وما فعل سفيان قال تولى أمرها رجلا ليزوجها ثم قد صح رجوع محمد إلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النكاح بغير ولي وعلى ذلك تنبني مسائل الجامع.(5/24)
يقول في الكتاب فإن طلقها ثلاثا قبل أن يجيز الحاكم أو الولي عقدها يكون هذا ردا للنكاح وهو قول محمد رحمه الله تعالى فإما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تصح التطليقات الثلاث ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعند محمد رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق ولكن هذا رد للنكاح إلا أنه يكره له أن يتزوجها ثانيا قبل أن تتزوج بزوج آخر لاختلاف العلماء واشتباه الأخبار في جواز النكاح بغير ولي ولأن ترك نكاح امرأة تحل له خير من أن يتزوج امرأة لا تحل له ولكنه لو تزوجها لم يفرق بينهما عنده لأن الطلاق لم يكن واقعا عليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الوكالة في النكاح
قال: وإذا خطب الرجل امرأة على رجل غائب لم يأمره فزوجت نفسها أو زوجها أبوها برضاها فقدم الغائب أو بلغه ذلك فأجاز النكاح فهو جائز عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو باطل بناء على أصله أن العقود لا تتوقف على الإجازة وهي مسألة في البيوع معروفة وعندنا تتوقف العقود على الإجازة وكلعقد لو سبق الإذن به ممن يقع له كان صحيحا فإنه يتوقف على إجازته فإذا أجازه في الانتهاء جعل ذلك كالإذن في الإبتداء ولو عقد(5/25)
ص -15- ... هذا العقد بإذنه في الإبتداء كان صحيحا فكذلك بإجازته في الانتهاء وهذا لأن ركن العقد هو الإيجاب والقبول وذلك من حق المتعاقدين وقد أضافه إلى محل قابل للعقد فيتم به الانعقاد إذ لا ضرر على الغائب في انعقاد العقد وإنما الضرر عليه في التزام العقد وقد يتراخى الالتزام عن أصل العقد فتثبت صفة الانعقاد لأنه حق المتعاقدين ويتوقف تمامه وثبوت حكمه على إجازة من وقع العقد له دفعا للضرر عنه ولو أن الغائب وكل هذا الحاضر بكتاب كتبه إليه حتى زوجها منه كان صحيحا وكذلك لو كتب إليها يخطبها فزوجت نفسها منه كان صحيحا.
والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي يخطب أم حبيبة رضي الله عنها فزوجها النجاشي منه وكان هو وليها بالسلطنة وروي أنه زوجها منه قبل أن يكتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه وكلاهما حجة لنا على أن النكاح تلحقه الإجازة وأن الخطبة بالكتاب تصح وهذا لأن الكتاب ممن نأى كالخطاب ممن دنى فإن الكتاب له حروف ومفهوم يؤدي عن معنى معلوم فهو بمنزلة الخطاب من الحاضر.(5/26)
وكان الحسن بن حي رحمه الله تعالى يقول لا ينعقد النكاح بالكتاب لعظم خطر أمر النكاح وهذا فاسد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67] وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان فإنه كتب إلى ملوك الأفاق يدعوهم إلى الدين وكان ذلك تبليغا تاما فكذلك في عقد النكاح الكتاب بمنزلة الخطاب إلا أنه إذا كتب إليها فبلغها الكتاب فقالت زوجت نفسي منه بغير محضر من الشهود لا ينعقد النكاح كما في حق الحاضر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بشهود". ولو قالت بين يدي الشهود زوجت نفسي منه لا ينعقد النكاح أيضا لأن سماع الشهود كلام المتعاقدين شرط لجواز النكاح وإنما سمعوا كلامها هنا لا كلامه لو كانت حين بلغها الكتاب قرأته على الشهود وقالت أن فلانا كتب إلي يخطبني فاشهدوا أني قد زوجت نفسي منه فهذا صحيح لأنهم سمعوا كلام الخاطب باسماعها إياهم إما بقراءة الكتاب أو العبارة عنه وسمعوا كلامها حيث أوجبت العقد بين أيديهم فلهذا تم النكاح.
وهذا بخلاف البيع فإن المكتوب إليه إذا قال هناك بعت هذه العين من فلان بكذا جاز وإن لم يكن بحضرة الشهود أو كان بحضرتهم ولم يقرأ الكتاب عليهم لأن البيع يصح بغير شهود كما في الحاضر إلا أنه ذكر في الكتاب في البيع أنه إذا كتب إليه أن بعني كذا بكذا فقال بعت يتم البيع وقد طعنوا في هذا فقالوا أن البيع لا ينعقد بهذا اللفظ من الحاضر فإن من قال لغيره بع عبدك منى بكذا فقال بعت لا ينعقد ما لم يقل الثاني اشتريت لأنه لا بد في البيع من لفظين هما عبارة عن الماضي بخلاف النكاح فإن النكاح ينعقد بلفظين أحدهما عبارة عن الماضي والآخر عن المستقبل والشافعي ومحمد رحمهما الله تعالى سويا بينهما والفرق لعلمائنا رحمهم الله تعالى أن البيع يقع بغتة وفلتة فقوله:(5/27)
ص -16- ... بعني يكون استياما عادة فلا بد من الإيجاب والقبول بعده فأما النكاح يتقدمه خطبة ومراودة فقلما يقع بغتة فقوله زوجني يكون أحد شطري العقد.
توضيح الفرق أن قوله زوجيني نفسك تفويض للعقد إليها وكلام الواحد في باب النكاح يصلح لا تمام العقد إذا كان الأمر مفوضا إليه من الجانبين فيمكن أن يجعل قولها زوجت نفسي عقدا تاما.
وفي باب البيع كلام الواحد لا يصلح لا تمام العقد من الجانبين وأن كان مفوضا إليه من الجانبين فكان قوله بعت منك شطر العقد فلا بد من أن ينضم إليه الشطر الثاني ليصح إذا عرفنا هذا فنقول مراد محمد رحمه الله تعالى هنا بيان الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود دون اللفظ الذي ينعقد به البيع أو نقول بعني قوله من الحاضر يكون إستياما عادة فأما من الغائب إذا كتب إليه فقوله بغي يكو أحد شطري العقد فإذا انضم إليه الشطر الثاني تم البيع.
فإن جاء الزوج بالكتاب مختوما إلى الشهود وقال هذا كتابي إلى فلانة فاشهدوا على ذلك لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى حتى يعلم الشهود ما في الكتاب وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال يجوز ولا يشترط اعلام الشهود بما في الكتاب وأصل الخلاف في كتاب القاضي إلى القاضي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تجوز الشهادة على الكتاب والختم وإن كان لا يعلم الشهود ما في الكتاب وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تجوز لأن المشهود به ما في الكتاب لا نفس الكتاب.(5/28)
ولكن استحسن أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال قد يشتمل الكتاب على شرط لا يعجبهم اعلام الشهود بذلك وإذا كان مختوما يؤمن من الزيادة والنقصان فيه فيكون صحيحا ثم في هذا الكتاب قال يجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى مختوما كان أو غير مختوم وذكر في الأمالي أن الكتاب إذا كان غير مختوم لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أصلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجوز إلا أن يعلم الشهود ما فيه وإذا كان مختوما فحينئذ هل يشترط إعلام الشهود ما فيه فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى فيه روايتان وكما ينعقد النكاح بالكتاب ينعقد البيع وسائر التصرفات للمعنى الذي قلنا.
قال: ويجوز للواحد أن ينفرد بالعقد عند الشهود على الاثنين إذا كان وليا لهما أو كيلا عنهما وعلى قول زفر رحمه الله تعالى أن كان وليهما جاز وأن كان وكيلا لا يجوز أما زفر رحمه الله تعالى يقول النكاح عقد معاوضة فلا يباشره الواحد من الجانبين كعقد البيع وهو قياس يوافقه الأثر وهو ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل" والشافعي رحمه الله تعالى بنحوه يستدل في الوكيل من الجانبين أنه لا يتم العقد بعبارته لأنه لا ضرورة في توكيل الواحد من الجانبين بخلاف ما(5/29)
ص -17- ... إذا كان وليا من الجانبين لأن في تنفيذ العقد بعبارته ضرورة لأن أكثر ما في الباب أن يأمر غيره من أحد الجانبين فيكون مأموره قائما مقامه وهو الولي من الجانبين شرعا فيملك مباشرة العقد وهو نظير ما قلتم في الأب إذا باع مال ولده من نفسه بمثل قيمته يجوز ولا يجوز بيعه من غيره.
ووجه قول علمائنا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] أي في نكاح اليتامى فهو دليل على أن للولي أن يزوج وليته من نفسه وكذا قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] ان تنكحوهن دليل على ان للولي ان يزوج وليته من نفسه وفي الحديث أن شرط علي رضي الله تعالى عنه أتوه بشيخ مع جارية فسأله عن قصتها فقال أنها ابنة عمي وإني خشيت أنها إذا بلغت ترغب عني فتزوجتها فقال خذ بيد امرأتك والمعنى فيه أن العاقد في باب النكاح سفير ومعبر والواحد كما يصلح أن يكون معبرا عن الواحد يصلح أن يكون معبرا عن اثنين ودليل الوصف أنه لا يستغني عن إضافة العقد إلى الزوجين وبه يظهر الفرق بينه وبين البيع فإنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره فكان مباشرا للعقد لا معبرا.
توضيحه أن حقوق العقد في باب البيع تتعلق بالعاقد فإذا باشر العقد من الجانبين يؤدي إلى تضاد الأحكام لأنه يكون مطالبا مطالبا مسلما مستلما مخاصما مخاصما.
وفي باب النكاح لا تتعلق الحقوق بالعاقد فلا يؤدي إلى تضاد الإحكام ولهذا قلنا يبيع الأب مال ولده من نصيبه لأنه في جانب الصغير يكون ملزما إياه حقوق العقد بولايته عليه حتى إذا بلغ كانت الخصومة في ذلك إليه دون الأب بخلاف بيعه من غيره فلا يؤدي إلى تضاد الإحكام.
توضيحه أن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فإذا تولاه من الجانبين كان مستزيدا مستنقصا وذلك لا يجوز والنكاح يصح من غير تسمية المهر فلا يؤدي إلى هذا المعنى إذا باشره الواحد من الجانبين.(5/30)
وعلى هذا روى إبن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى في الكتابة ان الواحد لا يباشره من الجانبين لأنه لا يصح إلا بتسمية البدل فأما على ظاهر الرواية يجوز لأن حقوق العقد في الكتابة لا تتعلق بالعاقد بل هو معتبر كما في النكاح ولا حجة لهم في هذا الحديث لأن هذا النكاح قد حضره أربعة معنى فإنه إذا اجتمع وصفان في واحد كان بمنزلة المثنى من حيث المعنى لاعتبار كل صفة على حدة فإن هذا الواحد إذا كان وليا أو وكيلا من أحد الجانبين دون الآخر وفضوليا من الجانب الآخر أو لم يكن وليا ولا وكيلا من الجانبين ولكنه فضولي باشر النكاح بمحضر من الشهود فبلغ الزوجين فاجازاه لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وجاز في قوله الآخر.(5/31)
ص -18- ... وكذلك لو قال الزوج بين يدي الشهود أشهدوا أني تزوجت فلانة ولم يخاطب عنها أحدا فبلغها فاجازت أو قالت المرأة أشهدوا أني قد زوجت نفسي من فلان ولم تخاطب عنه أحدا فبلغه فاجاز فهو على هذا الخلاف ولو قبل فضولي من جهة الغائب ينعقد موقوفا بالإتفاق حتى لو أجاز يجوز.
أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الإجازة في الانتهاء كالإذن في الإبتداء وإذا كان كلام الواحد في باب النكاح عقدا تاما باعتبار الاذن في الابتداء فكذلك باعتبار الاجازة في الانتهاء وجعل هذا قياس الطلاق والعتاق بمال فإن كلام الواحد فيه لما كان عقدا تاما عند الإذن كان عقدا موقوفا على إجازة الغائب عند عدم الإذن.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا النكاح عقد معاوضة محتمل للفسخ فكلام الواحد فيه يكون شطر العقد وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس كما في البيع بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه أصلا وتحقيقه أن قول الرجل طلقت فلانة بكذا أو أعتقت عبدي فلانا بكذا يكون تعليقا للطلاق والعتاق بالقبول لأن تعليقهما بالشرط صحيح فإذا بلغهما فقبلا وقع لوجود الشرط.(5/32)
وفي النكاح قوله: زوجت فلانة لا يمكن أن يجعل تعليقا لأن النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكان هذا شطر العقد ولا يدخل على هذا ما لو قال الزوج بمحضر منها طلقتك بكذا فقامت عن المجلس قبل القبول فإنه يبطل ذلك ولو كان تعليقا بالشرط لما بطل بقيامها عن المجلس لأن من التعليقات ما يقتصر على وجود الشرط في المجلس كقوله لها أنت طالق أن شئت يقتصر على وجود المشيئة في المجلس فهذا مثله وهذا بخلاف ما إذا كانمأمورا من الجانبين لأن هناك عبارته تنتقل إليهما فيصير قائما مقام عبارتهما فإنما يكون تمام العقد بالمثنى من حيث المعني وهنا لا تنتقل عبارته إلى الغير لأنه غير مأمور به فإذا بقى مقصورا عليه كان شطر العقد والدليل عليه أنه لو قال لها تزوجتك وهي حاضرة كان هذا شطر العقد حتى لا يتوقف على اجازتها بعد قيامها من ذلك المجلس فكذا إذا قال ذلك وهي غائبة يكون هذا شطر العقد.
ولو كان عقد النكاح بين فضوليين خاطب أحدهما عن الرجل والآخر عن المرأة فبلغهما فاجازا جاز ذلك العقد لأنه جرى بين اثنين ولو كانا وكيلين كان كلامهما عقدا تاما فكذلك إذا كانا فضوليين يكون كلامهما عقدا موقوفا.
قال: وليس على العاقد في باب النكاح وليا كان أو وكيلا حق قبض مهرها بدون أمرها لما بينا أنه معبر لا يتعلق به شيء من حقوق العقد وكما لا يتوجه عليه المطالبة بتسليم المعقود عليه لا يكون إليه قبض البدل وكذلك الوكيل من جانب الزوج لا يكون عليه من المهر شيء كما لا يكون إليه قبض المعقود عليه وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله:(5/33)
ص -19- ... الصداق على من أخذ الساق إلا الأب في حق ابنته البالغة فإنه يقبض مهرها فيجوز ذلك استحسانا وقد بيناه.
قال: وإذا أرسل إلى المرأة رسولا حرا أو عبدا صغيرا أو كبيرا فهو سواء لأن الرسالة تبليغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصلح أن يكون رسولا إلا ترى أن سليمان عليه السلام جعل الهدهد رسولا في تبليغ كتابه إلى بلقيس فالآدمى المميز أولى أن يصلح لذلك فإذا بلغ الرسالة فقال أن فلانا سألك أن تزوجيه نفسك فاشهدت أنها قد تزوجته كان ذلك جائزا إذا أقر الزوج بالرسالة أو أقامت عليه البينة لأن الرسول بلغها رسالة المرسل فكانه حضر بنفسه وعبر عن نفسه بين يدي الشهود وقد سمع الشهود كلامها أيضا فكان نكاحا بسماعهما كلام المتعاقدين وإذا أنكر الرسالة ولم تقم عليه البينة لها فالقول قوله ولا نكاح بينهما لأن الرسالة لما لم تثبت كان المخاطب فضوليا ولم يرض الزوج بما صنع فلا نكاح بينهما.
فإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها المهر وزوجها إياه وقال قد أمرني بذلك فالنكاح لازم للزوج أن أقر أو قامت عليه البينة بالأمر والضمان لازم للرسول ان كان من أهل الضمان لأنه جعل نفسه زعيما بالمهر والزعيم غارم وان جحد الزوج ولم يكن عليه بينة بالأمر فلا نكاح بينهما لما قلنا وللمرأة على الرسول نصف الصداق من قبل أنه مقر بأنه قد أمره وإن النكاح جائز وأن الضمان قد لزمه وإقراره على نفسه صحيح.(5/34)
وذكر في كتاب الوكالة أن على الرسول جميع المهر بحكم الضمان فقيل ما ذكر هنا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقول أبي يوسف الأول وما ذكر هناك قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله بناء على أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول فنفذ قضاؤه بالفرقة هنا قبل الدخول وسقط نصف الصداق عن الزوج فيسقط عن الكفيل أيضا وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى لا ينفذ قضاؤه باطنا فيبقى جميع المهر واجبا على الزوج ويكون الكفيل مطالبا به لاقراره وقيل بل فيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن الزوج منكر لاصل النكاح وإنكاره اصل النكاح لا يكون طلاقا فلا يسقط به شيء من الصداق بزعم الكفيل.
ووجه هذه الرواية أنه أنكر وجوب الصداق عليه وهو مالك لاسقاط نصف الصداق عن نفسه بسبب يكسبه فيجعل مسقطا فيما يمكنه اسقاطه ومن ضرورة سقوط نصف الصداق عن الأصيل سقوطه عن الكفيل فلهذا كان الكفيل ضامنا لنصف الصداق.
قال: فإن كان الرسول قال لم يأمرني ولكن أزوجه وأضمن عنه المهر ففعل ثم أجاز الزوج جاز عليه ولزم الزوج الضمان لأن الإجازة في الإنتهاء بمنزلة الأذن في الإبتداء وأن(5/35)
ص -20- ... أبي الزوج أن يجيز النكاح لم يكن على الرسول شيء من الضمان لأن أصل السبب انتفى برد الزوج النكاح فينتفي حكمه وهو وجوب الصداق وبراءة الأصيل حقيقة توجب براءة الكفيل.
قال: وأن أمره أن يزوجه امرأة بعينها على مهر قد سماه فزوجها إياه وزاد عليه في المهر فإن شاء الزوج أجازه وإن شاء رده لأنه أتى بخلاف ما أمر به فكان مبتدئا فيتوقف عقده على إجازته وإن لم يعلم الزوج بذلك حتى دخل بها فهو بالخيار أيضا لأن دخوله بها كان باعتبار أنه امتثل الوكيل أمره فلا يصير به راضيا بما خالف فيه الوكيل فإن الرضا بالشيء لا يتحقق قبل العلم به فكان على خياره إن شاء أقام معها بالمهر المسمى وأن شاء فارقها وكان لها الأقل من المسمى ومن مهر مثلها لأن الدخول بحكم النكاح الموقوف بمنزلة الدخول في النكاح الفاسد فيسقط به الحد للشبهة ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن عقوبة أو غرامة.
قال: فإن كان الرسول ضمن لها المهر ولم يدخل بها الزوج وأخبرهم أنه أمره بذلك ثم رد الزوج النكاح للزيادة في المهر فعلى الرسول نصف المسمى لاقراره على نفسه أنه أمره به وهذا لأن انكار الزوج الأمر بالزيادة بمنزلة انكاره الأمر بالعقد أصلا كما بيناه في الفصل الأول.
قال: فإن قال الرسول أنا أغرم المهر وألزمك النكاح لم يكن له ذلك إلا أن يشاء الزوج لأنه فيما باشر من العقد غير ممتثل أمره فكان بمنزلة الفضولي والفضولي ولا يملك أن يلزم عليه حكم العقد إلا برضاه وهذا لأنه وإن تبرع باداء الزيادة فلا بد من أن يجب على الزوج أولا لأن المسمي في العقد صداق والصداق مطلقا يجب على الزوج وقد تعذر الزام الزوج بذلك وانعدم منها الرضا بدونه.(5/36)