"""""" صفحة رقم 176 """"""
الحوائج الأصلية فكان كالوصية ، وهذا إذا ماتت بعد العدة أو قبل الدخول ؛ فأما إذا ماتت
وهي في العدة فللزوج الأقل من الميراث ، ومن المهر إن كان يخرج من الثلث ، وإن لم
يخرج فله الأقل من ميراثها ومن الثلث .
فصل
إذا اختلعت المكاتبة لزمها المال بعد العتق لأنه تبرع ، وسواء كان بإذن المولى أو بغير
إذنه لأنها محجورة عن التبرعات ؛ ولو اختلعت الأمة وأم الولد بإذن المولى لزمهما للحال
وإذا خلع الأمة مولاها من زوجها الحر على رقبتها صح الخلع بغير شيء ؛ ولو كان الزوج
مكاتبا أو عبدا أو مدبرا جاز الخلع وصارت أمة للسيد ، والفرق أنها تصير مملوكة للمولى فلا
ينفسخ النكاح ، وفي الحر لو صارت مملوكة له بطل النكاح فيبطل الخلع .
أمتان تحت حر خلعهما المولى على رقبة إحداهما بعينها بطل الخلع فيها وصح في
الأخرى ويقسم الثمن على مهرهما ، فما أصاب مهر التي صح خلعها فهو للزوج من رقبة
الأخرى ، ولو خلع كل واحدة منهما على قربة الأخرى وقع الطلاقان بائنين بغير شيء ، لأنه
قارن وقوع الطلاق على كل واحدة وقوع الملك في رقبتها فتعذر إيجاب العوض ، ولو طلق
كل واحدة على رقبة صاحبتها يقع رجعيا .
باب الظهار
وهو في اللغة مشتق من لفظ الظهر ، يقال : ظاهر يظاهر ظهارا ، وأصله قول الرجل
لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم انتقل إلى غيره من الأعضاء ، وإلى غيرها من المحرمات
( وهو أن يشبه امرأته أو عضوا يعبر به عن بدنها ) كالرأس والوجه ( أو جزءا شائعا منها )
كالثلث والربع ( بعضو لا يحل النظر إليه ) كالظهر والفخذ والبطن والفرج ، لأن الكل في معنى
الظهر في الحرمة ( من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد ) كأمه وبنته وجدته وعمته
وخالته وأخته وغيرهن من المحرمات على التأبيد ، لأن الكل كالأم في تأبيد الحرمة .
( وحكمه : حرمة الجماع ودواعيه حتى يكفر ) تحرزا عن الوقوع فيه كما في الإحرام ،
بخلاف الحيض فإنه يكثر وقوعه فيحرج ولا كذلك الظهار ، وكان في الجاهلية طلاقا فجعله
الشرع موجبا حرمة متناهية بالكفارة . والأصل فيه حديث خولة بنت ثعلبة ، وقيل بنت خويلد
كانت تحت أوس بن الصامت وكانا من الأنصار فأرادها فأبت عليه ، فقال : أنت عليّ كظهر(3/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
أمي فكان أول ظهار في الإسلام ، ثم ندم وكان الظهار طلاقا في الجاهلية ، فقال : ما أظنك
إلا قد حرمت عليّ ، فقالت : والله ما ذاك بطلاق ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أوسا
تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبرت
سني ظاهر مني وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ؟ فقال عليه الصلاة
والسلام : ' حرمت عليه ' فجعلت تراجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا قال لها : ' حرمت عليه ' هتفت
وقالت : أشكوا إلى الله فاقتي وشدة حالي ، وأن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ،
وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، وجعلت تقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان
نبيك ، فتغشى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي كما كان يتغشاه ، فلما سرّي عنه قال : ' يا خولة قد أنزل
الله فيك وفي أوس قرآنا وتلا ) قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ( [ المجادلة : 1 ]
الآيات ، والظهار جائز ممن يجوز طلاقه من المسلمين لأن كل واحد منهما يوجب حرمة
الزوجة ، ولا يكون من المطلقة بائنا لأنها حرام عليه .
قال : ( فإن جامع قبل التكفير استغفر الله تعالى ) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن
رجلا ظاهر من امرأته فرأى خلخالها في القمر فوقع عليها ، ثم جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر
ذلك ، فقال له : ' استغفر الله تعالى ولا تعد حتى تكفر ' ، ولأنه فعل فعلا محرما والأفعال
المحرمة توجب الاستغفار ولا شيء عليه غيره ، لأنه لو كان لبينه عليه الصلاة والسلام ، ولا
يحل قربانها بعد زوج آخر ولا بملك اليمين حتى يكفر لقوله تعالى : ) فتحرير رقبة من قبل
أن يتماسا ( [ المجادلة : 3 ] .
قال : ( والعود الذي تجب به الكفارة أن يعزم على وطئها ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' ولا تعد حتى تكفر ' نهى عن الوطء إلى غاية التكفير فتنتهي حرمة الوطء بالتكفير ( وينبغي
لها أن تمنع نفسها منه لأنه حرام وتطالبه بالكفارة ويجبره القاضي عليها ) إيفاء لحقها ، وكل ما
لا يصدقه القاضي فيه لا يسع المرأة أن تصدقه فيه ، فلو قال أردت الإخبار عما مضى بكذب
لم يصدق قضاء وصدق ديانة ؛ ولو قال : أنا منك مظاهر ، أو ظاهرت منك يصير مظاهرا لأنه
صريح فيه ؛ ولو شبهها بامرأة زنى بها أبوه أو ابنه أو بابنة مزنيته فهو مظاهر عند أبي يوسف
خلافا لمحمد بناء على أن القاضي إذا قضى بجواز نكاحها ينفذ عند محمد خلافا لأبي
يوسف . وسئل محمد عن المرأة تقول لزوجها : أنت علي كظهر أمي ؟ قال : ليس بشيء ،(3/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
لأن المرأة لا تملك التحريم كالطلاق . وسئل أبو يوسف فقال : عليها الكفارة ، لأن الظهار
تحريم يرتفع بالكفارة وهي من أهل الكفارة فصح أن توجبها على نفسها . وسئل الحسن بن
زياد فقال : هما شيخا الفقه أخطئا ، عليها كفارة يمين ، لأن الظهار يقتضي التحريم فكأنها
قالت لزوجها : أنت عليّ حرام ، فيجب عليها كفارة يمين إذا وطئها .
( ولو قال : أنت عليّ مثل أمي أو كأمي ) فهو كناية يرجع إلى نيته ( فإن أراد الكرامة
صدق ) لأن ذلك من محتملات كلامه وهو مشهور بين الناس ( وإن أراد الظهار فظهار ) لأنه
شبهها بجميعها ، وفي ذلك تشبيه بالعضو المحرم فيصح عند نيته ( وإن أراد الطلاق فواحدة
بائنة ) ويصير تشبيها لها في الحرمة كأنه قال : أنت عليّ حرام ( وإن لم يكن له نية فليس
بشيء ) لأنه كناية يحتمل وجوها فلا يتعين أحدهما إلا بمرجع . وقال محمد : هو ظهار لأنه
تشبيه حقيقة والتشبيه بالعضو ظهار ، فالتشبيه بالكل أولى . وعن أبي يوسف إن كان في حالة
الغضب فهو ظهار ، وإن عنى به التحريم فهو إيلاء إثباتا لأدنى الحرمتين . وعند محمد ظهار ،
وقيل ظهار بالإجماع . وإن نوى الكذب قال محمد في نوادر هشام : يدين إلا أن يكون في
حالة الغضب فهو يمين ؛ وإن قال : أنت عليّ حرام كأمي ونوى ظهارا فظهار للتشبيه ، وإن
نوى طلاقا فطلاق للتحريم ، وإن نوى التحريم فظهار ، وإن لم يكن له نية فإيلاء . وعند
محمد ظهار وقد مر وجهها .
( ولو قال لنسائه : أنتن علي كظهر أمي فعليه لكل واحدة كفارة ) لأنه يصير مظاهرا من
كل واحدة منهن بإضافة الظهار إليهن ، كما إذا قال : أنتن طوالق تطلق كل واحدة منهن ، وإذا
كان مظاهرا من كل واحدة منهن تثبت الحرمة في كل واحدة والكفارة لإنهاء الحرمة فتتعدد
بتعدد الحرمة ( وإن ظاهر منها مرارا في مجلس واحد أو في مجالس فعليه لكل ظهار كفارة )
كما في تكرار اليمين . وروى الحسن عن أبي حنيفة : إذا قال لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي
مائة مرة وجبت عليه مائة كفارة وهو حالف مائة مرة .
فصل
( والكفارة عتق رقبة ) قبل المسيس للنص ( يجزئ فيها مطلق الرقبة السليمة ) فينطلق
على المسلم والكافر والذكر والأنثى والصغير والكبير عملا بالإطلاق ، وهو قوله تعالى :(3/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
) فتحرير رقبة ( [ البقرة : 226 ] والرقبة عبارة عن الذات المرقوقة المملوكة من كل وجه ،
وعند الإطلاق ينصرف إلى السليمة ، فمن قيدها بوصف زائد فقد زاد على النص فيرد
عليه .
قال : ( ولا يجزئ المدبر وأم الولد ) لأن الرق فيهم ناقص لاستحقاقهم العتق بجهة
أخرى ، ( و ) لا ( المكاتب الذي أدى بعض كتابته ) لأنه يشبه العتق ببدل ، ويجوز المكاتب
الذي لم يؤد شيئا ، لأن الرق قائم به ، قال عليه الصلاة والسلام : ' المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم ' وما ذكرناه من المعنى فيمن أدى البعض منتف ، على أنه روي عن أبي حنيفة أنه
يجوز من أدى البعض أيضا لأنه عبد بالحديث حتى لو فسخت الكتابة عاد رقيقا ، بخلاف أم
الولد والمدبر فإن ذلك لا يفسخ أصلا .
قال : ( ولا مقطوع اليدين أو إبهاميهما أو الرجلين ، ولا الأعمى ولا الأصم ولا الأخرس
ولا المجنون المطبق ) لأن جنس المنفعة تفوت في هؤلاء ، وهو البطش والسعي والسمع
والبصر والانتفاع بالجوارح بالعقل والمجنون فائت المنفعة ، وبطش اليدين بالإبهامين فبغوتهما
تفوت جنس المنفعة وأنه مانع ؛ لأن قيام الرقبة قيام المنفعة وإذا فات جنس المنفعة صارت
الرقبة هالكة من وجه فكانت ناقصة فلا يتناولها الاسم ، أما إذا اختلت المنفعة فليس بمانع ،
لأن العيب القليل ليس بمانع لتعذر الاحتراز عنه ، وذلك كالأعور ومقطوع إحدى اليدين أو
إحدى الرجلين من خلاف ، ولا يجوز إذا قطعا من جانب واحد لفوات جنس منفعة الشيء ،
ولا يجوز المعتوه والمفلوج اليابس الشق لما بينا ، وثلاثة أصابع من اليد لها حكم الكل ،
ويجوز عتق الخصي والمجبوب لأن ذلك يزيد القيمة لا ينقصها ، ويجوز مقطوع الأذنين لأنه
لا ضرر فيه ، ويجوز مقطوع الشفتين إن كان يقدر على الأكل وإلا فلا ( ولا ) يجوز ( معتق
البعض ) لأنه ليس برقبة كاملة .
قال : ( وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي الكفارة أجزأه ) لأن شراء القريب إعتاق ، قال عليه
الصلاة والسلام : ' لن يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ' أخبر عليه
الصلاة والسلام أن الابن قادر على إعتاق الأب فيكون قادرا تصديقا له فيما أخبر ، ولا يقدر
على إعتاقه قبل الشراء لعدم الملك ولا بعد الشراء لأنه يعتق عليه بالشراء ، فيكون نفس(3/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
الشراء إعتاقا ، فإذا نوى بالشراء الكفارة يصير إعتاقا عن الكفارة فيصح ويجزئه ( وإن أعتق
نصف عبده ثم جامعها ثم أعتق باقيه لم يجزه ) عنده . وعندهما يجزئه بناء على تجزي
الإعتاق ، فعندهما لما أعتق نصفه كان إعتاقا للجميع ، وعنده لا فقد أعتق النصف قبل
المسيس والنصف بعده ، والشرط أن يكون الإعتاق قبل المسيس فلا يجزئه فيستأنف عتق رقبة
أخرى .
( وإن لم يجامع بين الإعتاقين أجزأه ) بالإجماع ، أما عندهما فظاهر ، وأما عنده فلأنه
أعتقه بكلامين ، وما حصل فيه من النقص حصل بسبب الإعتاق للكفارة وأنه غير مانع ، كما
إذا أصابت السكين عين شاة الأضحية وقد أضجعها للذبح ؛ وعلى هذا لو أعتق نصف عبد
مشترك لا يجزئه موسرا كان أو معسرا بناء على ما مر ، وعندهما إن كان موسرا أجزأه ، لأنه
يملك نصيب شريكه بالضمان وكان معتقا للكل ، وإن كان معسرا لا يجزئه ، لأن السعاية
وجبت للشريك في نصيبه فلم يوجد منه عتق الجميع .
قال : ( والعبد لا يجزئه في الظهار إلا الصوم ) لأنه عاجز عن الإعتاق والإطعام لأنه لا
يملك شيئا ، قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يملك العبد إلا الطلاق ' . قال : ( فإن لم يجد )
المظاهر ( ما يعتق صام شهرين متتابعين ) لقوله تعالى : ) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
من قبل أن يتماسا ( [ المجادلة : 4 ] . قال : ( ليس فيهما رمضان ويوما العيد وأيام التشريق ) أما
رمضان فلأنه يقع عن الفرض لتعينه على ما مر في الصوم فلا يقع عن غيره ؛ وأما الباقي
فلأن الصوم فيها حرام فكان ناقصا فلا يتأدى به الواجب . قال : ( فإن جامعها في الشهرين
ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بعذر أو بغير عذر استقبل ) لقوله تعالى : ) من قبل أن يتماسا (
وقال أبو يوسف : إن جامع ليلا عامدا أو نهارا ناسيا لم يستأنف لأن ذلك لا يمنع التتابع
حتى لا يفسد به الصوم . وجوابه أن النص شرطه كونه قبل المسيس وأنه ينعدم المسيس
فيستأنف ، ولو حاضت المرأة في كفارة الصوم لا تستقبل ، وإن أفطرت لمرض استقبلت ،
ولو حاضت في كفارة اليمن استقبلت ، لأن الحيض يتكرر في كل شهر ولا كذلك المرض .
وعن محمد لو صامت شهرا ثم حاضت ثم أيست استقبلت . وعن أبي يوسف : لو حبلت
في الشهر الثاني بنت ، ومن له دين ليس له غيره ولا يقدر على استخلاصه كفر بالصوم ؛ ولو(3/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
حنث موسرا ثم أعسر أو بالعكس فالمعتبر حالة التكفير ، ولو أيسر في خلال الصوم أعتق
كالمتيمم إذا وجد الماء في صلاته .
قال : ( فإن لم يستطع الصيام أطعم ستين مسكينا ) لقوله تعالى : ) فمن لم يستطع
فإطعام ستين مسكينا ( [ المجادلة : 4 ] ( ويطعم كما ذكرنا في صدقة الفطر ) لقوله عليه الصلاة
والسلام في حديث سهل بن صخر أو أوس بن الصامت ' لكل مسكين نصف صاع من بر '
ولأنه لحاجة المسكين في اليوم فاعتبرت بصدقة الفطر . قال : ( أو قيمة ذلك ) لما مر في دفع
القيم في الزكاة . قال : ( فإن غدّاهم وعشّاهم جاز ) قال تعالى : ) فإطعام ستين مسكينا ( وهو
التمكين من الطعم ( ولا بد من شبعهم في الأكلتين ) اعتبارا للعادة ( ولا بد من الإدام في خبز
الشعير دون الحنطة ) لأنه لا يتمكن من الشبع في خبز الشعير دون الإدام فإنه قلما ينساغ
دونه ، ولا كذلك خبز الحنطة . وعن أبي حنيفة رحمه الله : لو غدّاهم وعشّاهم خبزا وإداما أو
خبزا بغير إدام أو خبز الشعير أو سويقا أو تمرا جاز ، ولو غدّى ستين وعشى ستين غيرهم لم
يجزه إلا أن يعيد على ستين منهم غداء أو عشاء ؛ ويجوز غداءان أو عشاءان أو عشاء
وسحور ، وكذا لو غدّاهم يوما وعشّاهم يوما آخر لوجود أكلتين مشبعتين ، ولو عشّاهم في
رمضان لكل مسكين ليلتين أجزأه ، والمستحب غداء وعشاء ؛ ولو أطعم كل مسكين مدّا فعليه
أن يعطيه مدّا آخر ، ولا يجوز أن يعطيه غيرهم لأن الواجب شيئان : مراعاة عدد المساكين ،
والمقدار في الوظيفة لكل المسكين .
قال : ( ولو أطعم مسكينا ) واحدا ( ستين يوما أجزأه ) لأن المعتبر دفع حاجة المسكين
وأنها تتجدد بتجدد اليوم ( وإن أعطاه في يوم واحد عن الكل أجزأه عن يوم واحد ) لاندفاع
الحاجة بالمرة الأولى ، هذا لا خلاف فيه في الإباحة ، فأما التمليك منه في يوم واحد في
دفعات قيل لا يجزئه ، وقيل يجزئه لأن الحاجة إلى التمليك تتجدد في اليوم مرات ؛ ولو دفع
الكل إليه مرة واحدة لا يجوز لأن التفريق واجب بالنص . قال : ( فإن جامعها في خلال
الإطعام لم يستأنف ) لأن النص لم يشرط في الإطعام قبل المسيس ، إلا أنا أوجبناه قبل
المسيس لاحتمال القدرة على الإعتاق أو الصوم فيقعان بعد المسيس والمنع لمنع في غيره لا
ينافي المشروعية .(3/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
قال : ( ومن أعتق رقبتين ، أو صام أربعة أشهر ، أو أطعم مائة وعشرين مسكينا عن
كفارتي ظهار أجزأه عنهما وإن لم يعين ) لأن الجنس متحد فلا حاجة إلى التعيين . وقال زفر
رحمه الله : لا يجوز عن واحدة منهما ما لم يعتق عن كل واحدة واحدة لأنه لما أعتق عنهما
انقسم كل إعتاق عليهما فيقع العتق أشقاصا عن كل واحدة ، فلا يجوز كما إذا اختلف
الجنس . ولنا أن الواجب تكميل العدد دون التعيين ، إذ التعيين لا يفيد في الجنس الواحد
على ما عرف ، بخلاف اختلاف الجنس ، لأن التعيين مفيد فيه فيشترط ( وإن أطعم ستين
مسكينا كل مسكين صاعا من بر عن كفارتين لم يجزه إلا عن واحدة ) وقال محمد رحمه
الله : عنهما ، وإن أطعم ذلك عن ظهار وإفطار أجزأه عنهما بالإجماع ، وعليه قياس محمد
رحمه الله ، وهذا لأن بالمؤدى وفاء بهما ، والمصروف إليه محل لهما فيقع عنهما وصار كما
إذا فرق الدفع . ولهما أن النية تعتبر في الجنسين لا في جنس واحد ، وإذا لغت النية في
الجنس الواحد بقي أصل النية فيجزي عن الواحدة كما إذا قال عن كفارة ظهار ( وإن أعتق
وصام عن كفارتي ظهار فله أن يجعل ذلك عن أيهما شاء ) لأن النية معتبرة عند اختلاف
الجنس .
باب اللعان
وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة كقاتل يقاتل مقاتلة ، والملاعنة مفاعلة من اللعن ، ولا
يكون هذا الوزن إلا بين اثنين ، إلا ما شذ كراهقت الحلم وطارقت النعل وعاقبت اللص
ونحوه ، وهو لفظ عام . وفي الشرع هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص
بصفة مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ، وهو شهادات مؤكدات بالأيمان موثقة
باللعن والغضب من الله تعالى كما نطق به الكتاب ، وقد كان موجب القذف في الحد في
الأجنبية والزوجة بقوله تعالى : ) والذين يرمون المحصنات ( [ النور : 4 ] الآية فنسخ في
الزوجات إلى اللعان بقوله تعالى : ) والذين يرمون أزواجهم ( [ النور : 6 ] الآية ، وسبب ذلك
ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته خولة بشريك ابن السمحاء
عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فاشتد ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فقال سعد بن عبادة : الآن يضرب هلال وترد شهادته ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ' البينة(3/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
أو حد في ظهرك ' ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ،
فجعل ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ' البينة أو حد في ظهرك ' ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق
ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل ) والذين يرمون أزواجهم ( إلى قوله : ) إن كان
من الصادقين ( [ النور : 6 ] فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما ، وقال عند ذكر اللعنة
والغضب : آمين ، وقال القوم : آمين .
قال : ( ويجب بقذف الزوجة بالزنا ) لما تلونا ( أو بنفي الولد ) لأنه في معناه . قال : ( إذا
كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك ) لأن الركن فيه الشهادة . قال
تعالى : ) ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم ( [ النور : 6 ] . والشهادة لا تكون
معتبرة إلا إذا صدرت من أهلها ، فوجوب الشهادة عليهما اشتراط كونهما من أهل الشهادة ،
ولا بد من أن تكون ممن يحد قاذفها ، لأن اللعان في حقها كحد القذف لما أن اللعان
عقوبة ، فإن كان كاذبا التحق به كالحد حتى لا نقبل شهادته بعد اللعان أبدا ، وهو في حقها
كحد الزنا لأن الغضب في حقها من الله تعالى عقوبة شديدة يلتحق بها إن كانت كاذبة فقام
مقام حد الزنا ، ولهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة ، ولا بكتاب القاضي ، ولا بشهادة
النساء كالحدود ، ولا بد من طلبها لها لأن الحق كما في حد القذف . وشرط اللعان قيام
الزوجية بينهما بنكاح صحيح دون الفاسد ، لأن مطلق الزوجية ينصرف إلى الصحيح .
قال : ( فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن ) لأنه حد وجب عليه فيحبس فيه لقدرته عليه
( أو يكذب نفسه فيحد ) لأنه إذا أكذب نفسه سقط اللعان ، وإذا سقط اللعان وجب عليه
الحد ، لأن القذف لا يخلو عن موجب ، فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف ، إذ هو
الأصل ( فإذا لاعن وجب عليها اللعان ) بالنص ( وتحبس حتى تلاعن ) لما بينا ( أو تصدقه ) فلا
حاجة إلى اللعان ولا يجب عليها حد الزنا ، لأن من شرطه الأقارير الأربعة عندنا على ما
يأتي بيانه ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله تحد لأن الزاني يحد عنده بالإقرار مرة واحدة ،
ويبتدى في اللعان بالزوج لأنه هو المدعي ، ولأنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالزوج ، فلما
التعنا فرق بينهما ، فإن التعنت المرأة أولا ثم الزوج أعادت ليكون على الترتيب المشروع ،
فإن فرق بينهما قبل الإعادة جاز لأن المقصود تلاعنهما وقد وجد .
قال : ( وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة ) بأن كان عبدا أو محدودا في قذف أو كافرا(3/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
( فعليه الحد ) لأن اللعان امتنع لمعنى من جهته فيرجع إلى الموجب الأصلي ( وإن كان من
أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها ) بأن كانت أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو صبية
أو مجنونة أو زانية ( فلا حد عليه ولا لعان ) لأن المانع من جهتها فصار كما إذا صدقته
( ويعزر ) لأنه آذاها وألحق الشين بها ولم يجب الحد فيجب التعزير حسما لهذا الباب ، ولو
كانا محدودين في قذف حد لأن اللعان امتنع من جهته لأنه يبدأ به وهو ليس من أهل
الشهادة ، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : ' أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم : اليهودية
والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك ' وفي رواية
' والمسلم تحته كافرة ، والكافر تحته مسلمة ' وصورته : إذا كانا كافرين فأسلمت قفذفها قبل
عرض الإسلام عليه .
( وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد
بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان
من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا ؛ وإن كان القذف بولد يقول : فيما رميتك به من نفي
الولد ، وإن كان بهما يقول : فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد ) لأنه المقصود باليمين
( ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من
الزنا ، وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا ،
وفي نفي الولد تذكرة ) كما تقدم .
( فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما ) ولا تقع الفرقة قبل الحكم حتى لو مات أحدهما قبل
التفريق ورثه الآخر . وقال زفر : تقع الفرقة بينهما بالتلاعن لوقوع الحرمة المؤبدة بينهما(3/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
بالنص وهو المقصود من الفرقة . ولنا ما روي ' أن النبي عليه الصلاة والسلام لما لاعن بينهما
قال الزوج : كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا ' . قال الراوي : ففارقها قبل أن يأمره
رسول الله بفراقها ، فأمضى عليه ذلك فصار سنة المتلاعنين ، ولو وقعت الفرقة بتلاعنهما لم
يقع الطلاق ولما أمضاه عليه الصلاة والسلام ولبين له بطلان اعتقاده في وقوع الطلاق ، ولأن ،
حرمة الاستمتاع تثبت باللعان ، لأن اللعن والغضب نزل بأحدهما بيقين وأثره بطلان النعمة ،
وحل الاستمتاع نعمة والزوجية نعمة ، وحل الاستمتاع أقلهما فيحرم ، وهذه الحرمة جاءت من
قبله لأنها بسبب قذفه فقد فوّت عليها الإمساك بالمعروف فيجب عليه التسريح بالإحسان ،
فإذا لم يشرحها وهو قادر عليه كان ظالما لها فينوب القاضي منابه دفعا للظلم .
( فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة ) لأنه كفعل الزوج كما في الجب والعنة . وقال أبو
يوسف : هو تحريم مؤبد ، وثمرته إذا أكذب نفسه حده القاضي وعاد خاطبا ، وعنده لا لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ' ولنا أنه إذا أكذب نفسه لم يصيرا
متلاعنين ولا يبقى حكمه ، ولهذا وجب عليه الحد بالإكذاب ، ولأن اللعان شهادة وهي تبطل
بتكذيب الشاهد نفسه فلم يبقيا متلاعنين لا حقيقة ولا حكما فلم يتناولهما النص .
قال : ( فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ) لأنه عليه الصلاة والسلام
نفى ولد امرأة هلال وألحقه بأمه . وإذا قذف الأعمى امرأته العمياء أو الفاسق امرأته يجب
اللعان لأنهما من أهل الشهادة ؛ ولو كان أحدهما أخرس لا حد ولا لعان لأنه ليس من أهل
الشهادة ؛ ولو خرس أحدهما أو ارتد أو أكذب نفسه أو قذف أحدهما إنسانا فحد للقذف ، أو
وطئت حراما بعد اللعان قبل التفريق بطل اللعان ولا حد ولا تفريق ، لأن ما منع الوجوب
مع الإمضاء لوجود الشبهة ؛ ولو وطئت بشبهة قفذفها زوجها لا لعان عليه ولا حد على
قاذفها . وعن أبي يوسف أنه رجع وقال : يجب اللعان والحد لأنه وطء يجب فيه المهر
ويثبت النسب . وجه الظاهر أنه وطء في غير ملك فأشبه الزنا وصار شبهة في إسقاط الحد
عن القاذف ؛ ولو قذفها ثم وطئت حراما لا لعان بينهما لما بينا ، ولو لم يفرق الحاكم بينهما
حتى عزل أو مات فالحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما . وقال محمد : لا يستقبل لأن اللعان
قائم مقام الحد فصار كإقامة الحد حقيقة ، وذلك لا يؤثر فيه عزل الحاكم وموته . ولهما أن
تمام الإمضاء في التفريق والإنهاء فلا يتناهى قبله فيجب الاستقبال ؛ ولو طلقها بعد القذف
ثلاثا أو بائنا فلا حد ولا لعان ، ولو كان رجعيا لا عن لقيام الزوجية ؛ ولو تزوجها بعد الطلاق
البائن فلا لعان ولا حد بذلك القذف .(3/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
ولو قال : أنت طالق ثلاثا يا زانية فعليه الحد دون اللعان لأنه قذف أجنبية ؛ ولو قال :
يا زانية أنت طالق ثلاثا فلا حد ولا لعان ، لأنه طلقها ثلاثا بعد وجوب اللعان فسقط
بالبينونة ؛ ولو قذف أربع نسوة لاعن مع كل واحدة منهن ؛ ولو قذف أربع أجنبيات حد لهن
حدا واحدا ، والفرق أن المقصود في الثانية الزجر ، وهو يحصل بحد واحد ، أما الأول
فالمقصود باللعان دفع العار عن المرأة وإبطال نكاحها عليه وذلك لا يحصل بلعان واحد .
قال : ( وإذا قال : ليس حملك مني فلا لعان ) وقالا : إن ولدت لأقل من ستة أشهر من
يوم القذف يجب اللعان لأنا تيقنا بقيام الحمل يومئذ ، وله أنه يومئذ لم يتيقن بقيام الحمل فلم
يصر قاذفا وإذا لم يكن قاذفا في الحال يصير كأنه قال : إن كان بك حمل فليس مني ولا
يثبت حكم القذف إذا كان معلقا بالشرط ، وأجمعوا أنه لا ينتفي نسب الحمل قبل الولادة لأنه
حكم عليه ولا حكم على الجنين قبل الولادة كالإرث والوصية ؛ ولو نفى ولد زوجته الحرة
فصدقته فلا حد ولا لعان وهو ابنهما لا يصدقان على نفيه ، لأن النسب حق الولد والأم لا
تملك إسقاط حق ولده فلا ينتفي تصديقها ؛ وإنما لم يجب الحد واللعان لتصديقها لأنه لا
يجوز لها أن تشهد أنه لمن الكاذبين وقد قالت إنه لصادق ، وإذا تعذر اللعان لا ينتفي
النسب .
قال : ( ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه
القاضي وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن ) وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بسبعة أيام لأن
أثر الولادة والتهنئة فيها اعتبارا بالعقيقة ، وقالا : يصح نفيه في مدة النفاس لأنه أثر الولادة ،
وله أن الزوج لو نفاه عقيب الولادة انتفى بالإجماع ، ولو لم ينفه حتى طالت المدة لم يكن
له نفيه بالإجماع فلا بد من حد فاصل ، ومعلوم أن الإنسان لا يشهد عليه بنسب ولده ، وإنما
يستدل علي ذلك بقبوله التهنئة وابتياع متاع الولادة وقبول هدية الأصدقاء ، فإذا فعل ذلك أو
مضى مدة يفعل فيه ذلك عادة وهو ممسك كان اعترافا ظاهرا فلا يصح نفيه بعده .
قال : ( وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه ) معناه : أنه يصح نفيه عندهما في
مدة النفاس بعد العلم . عنده مدة التهنئة على ما بينا ، لأنه لا يجوز أن يلزمه النسب مع
عدم علمه فصار حال علمه كحالة الولادة على الأصلين . وعن أبي يوسف إن علم قبل
الفصال فهو مقدر بمدة النفاس وبعده ليس له أن ينفيه ، لأن قبل الفصال كمدة النفاس
حيث لم ينتقل عن غذائه الأول وبعده ينتقل ويخرج عن حالة الصغر فيقبح نفيه كما لو
بقي شيخا . قال : ( ومن ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت(3/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
نسبهما ولاعن ، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد ) أما ثبوت النسب
فلأنهما توأمان خلقا من ماء واحد ، فمتى ثبت نسب أحدهما باعترافه ثبت نسب الآخر
ضرورة . وأما اللعان في الأولى والحد في الثانية فلأنه لما نفى الثاني لم يكن مكذبا نفسه
فيلاعن ، وفي الثانية لما نفى الأول صار مكذبا نفسه باعترافه الثاني فيحد ، ولو قال في
المسألة الثانية : هما ابناي لا يحد ولا يكون تكذيبا لأنه صادق لأنهما لزماه من طريق
الحكم فكان مخبرا عما ثبت بالحكم .
باب العدة
وهو مصدر عده يعده ، وسئل عليه الصلاة والسلام : متى تكون القيامة ؟ قال : ' إذا
تكاملت العدتان ' أي عدة أهل الجنة وعدة أهل النار : أي عددهم ، وسمي الزمان الذي
تتربص فيه المرأة عقيب الطلاق والموت عدة لأنها تعد الأيام المضروبة عليها وتنتظر أوان
الفرج الموعود لها . والأصل في وجوبها قوله تعالى : ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء ( [ البقرة : 228 ] وقوله تعالى : ) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا ( [ البقرة : 234 ] وقوله : ) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن
ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن (
[ الطلاق : 4 ] وقوله تعالى : ) فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ( [ الطلاق : 1 ] وهي ثلاثة
أنواع : الحيض ، والشهور ، ووضع الحمل ، وبكل ذلك نطق الكتاب . وتجب بثلاثة أشياء :
بالطلاق ، وبالوفاة ، وبالوطء على ما نبينه إن شاء الله تعالى .
قال : ( عدة الحرة التي تحيض في الطلاق والفسخ بعد الدخول ثلاث حيض ، والصغيرة
والآيسة ثلاثة أشهر ؛ وعدتهن في الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام ) لما تلونا من الآيات ؛ والفرقة
بالفسخ كالطلاق ، لأن العدة للتعرف عن براءة الرحم وأنه يشملهما ( وعدة الأمة في الطلاق
حيضتان ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان '(3/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
( وفي الصغر والإياس شهر ونصف ) لأن الرق منصف إلا أن الحيضة لا تتجزئ فكملت
احتياطا ، وقد قال عمر رضي الله عنه : لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا . أما الشهر
فيتجزئ فجعلناه شهرا ونصفا ( وعدتها في الوفاة شهران وخمسة أيام ) لما بينا ( وعدة الكل
في الحمل وضعه ) لعموم قوله تعالى : ) وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن (
[ الطلاق : 4 ] ولأن المقصود التعرف عن براءة الرحم ولا براءة مع وجود الحمل ولا شغل
بعد وضعه ، وإليه الإشارة بقول عمر رضي الله عنه : لو وضعت وزوجها على سريره
لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : من شاء باهلته أن
سورة النساء القصرى : يعني سورة الطلاق قوله تعالى : ) وأولات الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن ( نزلت بعد التي في سورة البقرة : يعني ) والذين يتوفون منكم ويذرون (
[ البقرة : 234 ] الآية ؛ وإن أسقطت سقطا استبان بعض خلقه انقضت العدة وإلا فلا لأنه إذا
استبان فهو ولد ، وإذا لم يستبن جاز أن يكون ولدا وغير ولد فلا تنقضي العدة بالشك .
قال : ( ولا عدة في الطلاق قبل الدخول ) لقوله تعالى فيه : ) فما لكم عليهن من عدة
تعتدونها ( [ الأحزاب : 49 ] .
قال : ( ولا على الذمية ) وقد مر في النكاح ، ولا عدة في نكاح الفضولي قبل
الإجازة ، لأن النسب لا يثبت فيه لأنه موقوف فلم ينعقد في حق حكمه فلا يورث شبهة
الملك والحل ، والعدة وجبت صيانة للماء المحترم عن الخلط واحترازا عن اشتباه
الأنساب .
قال : ( وعدة أم الولد من يموت سيدها والإعتاق ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر ) إن كانت
ممن لا تحيض لما روي أن مارية القبطية أم ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام اعتدت بعد
وفاته بثلاثة أقراء ولم ينكر عليها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، فأما أنها نقلته عن
النبي عليه الصلاة والسلام ، وإما أن يكون إجماعا منهم ، وكل ذلك حجة . وعن عمر رضي
الله عنه أنه قال : عدة أم الولد ثلاث حيض ، ولو زوجها المولى ثم مات فلا عدة عليها
لأن الفراش انتقل إلى الزوج ، فإن طلقها الزوج وانقضت عدتها ثم مات المولى فعليها العدة
لأن الفراش عاد إليه وقد زال بالموت .(3/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
قال : ( والعدة تفي النكاح الفاسد والوطء بشبهة بالحيض في الموت والفرقة ) لأنه
للتعرف عن براءة الرحم ولا تجب عدة الوفاة لأنها ليست بزوجة ، قال : ( وعدة امرأة الفار
أبعد الأجلين في البائن وبعدة الوفاة في الرجعي ) وهي إذا طلقها وهو مريض فورثت وهي في
العدة . وقال أبو يوسف : عدتها ثلاث حيض في البائن لأن النكاح انقطع بالطلاق ولزمتها
العدة بالحيض إلا أنه بقي أثره في الإرث لما بينا لا في تغيير العدة وبخلاف الرجعي لأن
النكاح باق من كل وجه . ولهما أنه بقي في حق الإرث فلأن يبقى في حق العدة أولى ، لأن
العدة مما يحتاط فيها فيجب أبعد الأجلين .
قال : ( ولو أعتقت الأمة في العدة من طلاق رجعي انتقلت عدتها إلى عدة الحرائر ، وفي
البائن لا ) لأن النكاح قائم من كل وجه في الرجعي دون البائن ، وموته كالبينونة . قال : ( ولو
اعتدت الآيسة بالأشهر ثم رأت الدم بعد ذلك أو الصغيرة ثم رأته في خلال الشهر استأنفت
بالحيض ) أما الآيسة فلأن بالعود علمنا أنها غير آيسة وأن عدتها الحيض وصارت كالممتد
طهرها فتستأنف ، وأما الصغيرة فلأن الجمع في عدة واحدة بين الحيض والأشهر ممتنع ، لما
فيه من الجمع بين البدل والمبدل ، ولأنه لم يرد به أثر ولم يقل به بشر ، وقد تعذر الاعتداد
بالأشهر فتعين الحيض ؛ أو نقول الأشهر خلف عن الحيض وقد قدرت على الأصل قبل
حصول المقصود بالخلف فيجب عليها كالمتيمم إذا وجد الماء في صلاته ( ولو اعتدت
بحيضة أو حيضتين ثم أيست استأنفت بالشهور ) لما بينا .
فصل
الأقراء : الحيض ، وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي
الدرداء وابن الصامت وجماعة من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين . وقال زيد بن ثابت
وعبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم : إنها الأطهار ، وحاصله أن اسم القرء يقع
على الحيض والطهر جميعا لغة حقيقة ، يقال : أقرأت المرأة إذا حاضت ، وأقرأت إذا
طهرت ، وأصله الوقت لمجيء الشيء وذهابه ، يقال : رجع فلان لقرئه : أي لوقته الذي
يرجع فيه ، وثمرة الخلاف تظهر في انقضاء العدة ؛ فمن قال إنها الحيض يقول : لا
تنقضي إلا باستكمال ثلاث حيض ، ومن قال إنها الأطهار يقول : إذا شرعت في الحيضة
الثالثة انقضت العدة ، والحمل على الحيض أولى بالنص والمعقول . أما النص فقوله عليه(3/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
الصلاة والسلام للمستحاضة : ' دعي الصلاة أيام أقرائك ' وإنما تترك الصلاة أيام الحيض
بالإجماع .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ' عدة الأمة حيضتان ' والمعقول أنه ذكره بلفظ الجمع ؛
فمن قال إنه للحيض قال : لا بد من ثلاث حيض فيتحقق الجمع ، ومن قال إنه الأطهار لا
يتحقق الجمع على قوله ، لأن الطلاق لو وقع في آخر الطهر انقضت العدة بطهرين آخرين
وبالشروع في الثالث فلا يوجد الجمع ، والعمل بما يوافق لفظ النص أولى .
قال : ( وابتداء عدة الطلاق عقيبه والوفاة عقيبها وتنقضي بمضي المدة وإن لم تعلم بهما )
لأن الطلاق والوفاة هو السبب فيعتبر ابتداؤها من وقت وجود السبب ، وإن أقرانه طلق امرأته
من وقت كذا فكذبته أو قالت لا أدري وجبت العدة من وقت إقرار ويجعل هذا إنشاء
احتياطا ، وإن صدقته فمن وقت الطلاق واختيار المشايخ أنه يجب من وقت الإقرار تحرزا
عن المواضعة وزجرا له عن كتمان طلاقها لأنه يصير مسببا لوقوعها في المحرم ولا تجب لها
نفقة العدة ، ولها أن تأخذ منه مهرا ثانيا إن وجد الدخول من وقت الطلاق إلى وقت الإقرار
لأنه أقر بذلك وقد صدقته .
قال : ( وابتداء عدة النكاح الفاسد عقيب التفريق أو عزمه على ترك الوطء ) وقال زفر :
من آخر الوطئات لأن الوطء هو الموجب للعدة . ولنا أن التمكين من الوطء على وجه الشبهة
أقيم مقام حقيقة الوطء لخفائه فيجعل واطئا حكما إلى حالة التفريق أو عزم الترك فتجب
العدة من حين انقطاع الوطء حقيقة وشرعا أخذا بالاحتياط . قال : ( وإذا وطئت المعتدة بشبهة
فعليها عدة أخرى ) لوجود السبب ( ويتداخلان ، فإن حاضت حيضة ثم وطئت كملتها بثلاث
أخر ) وتحسب حيضتان من العدتين وتكمل الأولى والثالثة تتمة للثانية ، لأن المقصود من
العدة التعرف عن براءة الرحم ، وأنه حاصل بالعدة الواحدة لأنه لا بد من ثلاث حيض بعد
الوطء الثاني وبه تتعرف براءة الرحم ، وللثاني أن يتزوجها بعد استكمال الأولى لأنها في
عدته ؛ ولو وطئت المعتدة عن وفاة تممتها ، وما تراه من الحيض فيها يحتسب من الثانية ،
فإن استكملت فبها ثلاث حيض فقد انقضتا معا وإلا تممت الثانية بما بقي من حيضها لما
بينا .(3/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
قال : ( وأقل مدة العدة شهران ) أي مدة تنقضي فيها ثلاث حيض . وقالا : أقلها تسعة
وثلاثون يوما وثلاث ساعات لأنهما يعتبران أقل مدة الحيض وهي ثلاثة أيام ، وأقل الطهر
وهو خمسة عشر يوما ، ثم يقدر أن وقوع الطلاق قبل أوان الحيض بساعة فثلاثة أيام حيض ،
وخمسة عشر طهر ، ثم ثلاثة حيض ، ثم خمسة عشر طهر ، ثم ثلاثة حيض فكملت العدة .
وأبو حنيفة يخرجه من طريقين : أحدهما يعتبر أكثر الحيض احتياطا ، فيبدأ بالحيض عشرة ،
ثم خمسة عشر طهر ، ثم عشرة حيض ، ثم خمسة عشر طهر ، ثم عشرة حيض فذلك ستون
يوما ، وهذه رواية محمد ، والآخر وهو رواية الحسن بن زياد أنه يعتبر الوسط من الحيض
وهو خمسة أيام ، ويجعل مبدأ الطلاق في أول الطهر عملا بالسنة ؛ فخمسة عشر يوما طهر
وخمسة حيض ، هكذا ثلاث مرات يكون ستين يوما ؛ والأمة تصدق عندهما في أحد وعشرين
يوما ، ستة أيام حيضتان ، وخمسة عشر يوم طهر بينهما .
وعند أبي حنيفة على رواية الحسن أربعين يوما ، وعلى رواية محمد خمسة وثلاثين ،
ولو كانت حاملا وقد علق طلاقها بالولادة ، فعلى قياس رواية محمد عن أبي حنيفة لا يصدق
في أقل من خمسة وثمانين يوما ، وعلى قياس رواية الحسن مائة يوم ، وعلى قياس قول أبي
يوسف خمسة وستون ، وفي الأمة على رواية محمد خمسة وستون ، ورواية الحسن خمسة
وسبعون ، وعن أبي يوسف سبعة وأربعون ، وعن محمد ستة وثلاثون وثلاث ساعات ،
ويعرف ذلك لمن يتأمله بتوفيق الله تعالى . ثم إن وقع الطلاق للآيسة والصغيرة أو الموت
غرة الشهر اعتبرت الشهور بالأهلة بالإجماع وإن نقص عددها ، وإن وقع ذلك في وسط
الشهر تعتبر بالأيام فتعتد في الطلاق بتسعين يوما ، وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما وهو رواية
عن أبي يوسف .
وروي عنه وهو قول محمد تعتد بقية الشهر بالأيام وتكمله من الشهر الرابع ، وتعتد
فيما بينهما بالأهلة ، لأن الأصل اعتبار الشهور بالأهلة إلا عند التعذر ، وقد تعذر في الأول
فيعمل فيه بالأيام لأنها كالبدل عن الأهلة ، ويعمل في الباقي بالأصل . ولأبي حنيفة أنه لا(3/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
يدخل الشهر الثاني ولا يعد إلا بعد انقضاء الأول ، ولا انقضاء للأول إلا بعد استكماله
فيكمل الأول من الثاني ، وهكذا الثاني مع الثالث فتعذر اعتبار الأهلة في الكل ، وعلى هذا
مدة الإيلاء واليمين إذا حلف لا يفعل كذا سنة والإجارات ونحوها .
وإذا قالت : انقضت عدتي صدقت لأنها أمينة فإن كذبها الزوج حلف كالمودع .
واختلف أصحابنا في حد الإياس ، قال بعضهم : يعتبر بأقرانها من قرابتها ، وقيل يعتبر بتركيبها
أنه يختلف بالسمن والهزال . وعن محمد أنه قدره بستين سنة . وعنه في الروميات بخمس
وخمسين ، وفي المولدات ستين ، وقيل خمسين سنة ، والفتوى على خمس وخمسين من غير
فصل وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ، وعنه أيضا ما بين خمس وخمسين إلى ستين .
وذكر محمد في نوادر الصلاة : العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض
إذا لم يكن عن آفة . وقال محمد بن مقاتل الرازي : هذا إذا لم يحكم بإياسها ، فأما إذا حكم
بإياسها ثم رأت الدم لا يكون حيضا وهو الصحيح . والمرأة إذا لم تحض أبدا حتى بلغت
مبلغا لا يحيض فيه أمثالها غالبا حكم بإياسها . وذكر في الجامع الصغير : إذا بلغت ثلاثين
سنة ولم تحض حكم بإياسها .
قال : ( ولا ينبغي أن تخطب المعتدة ) لقوله تعالى : ) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به
من خطبة النساء ( [ البقرة : 235 ] المراد به المعتدات بالإجماع ، لأن الله تعالى نفى الجناح
في التعريض وأنه يدل على أن تركه أولى فيلزم كراهة التصريح بطريق الأولى ( ولا بأس
بالتعريض ) لأنه تعالى نفى الجناح فإنه دليل الإباحة . وروي أنه عليه الصلاة والسلام دخل
على أم سلمة وهي في العدة فذكر منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر
الحصير على يده من شدة تحامله عليها وأنه تعريض ، والتعريض مثل أن يقول : إني فيك
لراغب ، وأود أن أتزوجك ، وإن تزوجتك لأحسنن إليك ، ومثلك من يرغب فيه ويصلح
للرجال ونحوه .
وعن النخعي لا بأس بأن يهدي إليها ويقوم بشغلها في العدة إن كانت من شأنه ،
والتصريح قوله : أنكحك ، وأتزوج بك ونحوه وأنه مكروه ، قال تعالى : ) ولكن لا تواعدوهن
سرا ( [ البقرة : 235 ] قال عليه الصلاة والسلام : ' السر النكاح ' وهذا كله في المبتوتة
والمتوفى عنها زوجها . أما المطلقة الرجعية فلا يجوز التصريح ولا التلويح لأن نكاح الأول
قائم على ما بينا .(3/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
فصل
( وعلى المعتدة من نكاح صحيح عن وفاة أو طلاق بائن إذا كانت بالغة مسلمة حرة أو
أمة الحداد ) ويقال الإحداد . والأصل فيه ما روي أن امرأة مات عنها زوجها فجاءت إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تستأذنه في الانتقال فقال : ' كانت إحداكن تمكث في أشر أحلاسها إلى
الحول ، أفلا أربعة أشهر وعشرا ؟ ' فدل أنه يلزمها أن تقيم في شر أحلاسها أربعة أشهر
وعشرا .
وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت
ثلاثة أيام فما فوقها إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا ' وروي أنه عليه الصلاة والسلام
نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال : ' الحناء طيب ' وأنه عام في كل معتدة ، ولأنه لما
حرم عليها النكاح في العدة أمرت بتجنب الزينة حتى لا تكون بصفة الملتمسة للأزواج وأنه
يعم الفصلين ، ولأنها وجبت إظهارا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذي كان سبب مؤونتها
وكفايتها من النفقة والسكنى وغير ذلك ، وأنه موجود في المبتوتة والمتوفى عنها .
قال : ( وهو ترك الطيب والزينة والكحل والدهن والحناء إلا من عذر ) لنهيه عليه الصلاة
والسلام عن الحناء ، وقوله : ' الحناء طيب ' فدل على أن الطيب محظور عليها ، ويدخل فيه
الثوب المطيب والمعصفر والمزعفر حتى قالوا : لو كان غسيلا لا ينقض جاز لأنه لم يبق له
رائحة ، فإن لم يكن لها إلا ثوب واحد مصبوغ لا بأس به لأنه عذر ، ولا تمتشط لأنه زينة ،
فإن كان فالأسنان المنفرجة دون المضمومة ، ولا تلبس حليا لأنه زينة ، ولا تلبس قصبا ولا
خزانة لأنه زينة . وعن أبي يوسف لا بأس بالقصب والخز الأحمر .
فالحاصل أن ذلك يلبس للحاجة ويلبس للزينة فيعتبر القصد في لبسه ، وقد صح ' أن
النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن للمبتوتة في الاكتحال ، بخلاف حالة التداوي لأنه عذر ،
فكان ضرورة دين التزين ؛ وكذا إذا خافت من ترك الدهن والكحل حدوث مرض بأن كانت
معتادة لذلك يباح لها ذلك . ولا إحداد على صغيرة ولا مجنونة لعدم الخطاب ولأنها عبادة
حتى لا تجب على الكافرة ؛ بخلاف الأمة لأنها أهل للعبادات وليس فيها إبطال حق المولى ،
وليس في عدة النكاح الفاسد إحداد لأنه لا يتأسف على زواله لأنه واجب الزوال ولأنه نقمة
فزواله نعمة .(3/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
قال : ( ولا تخرج المبتوتة من بيتها ليلا ولا نهارا ) لقوله تعالى : ) لا تخرجوهن من
بيوتهن ولا يخرجن ( [ الطلاق : 1 ] ولأن نفقتها واجبة على الزوج فلا حاجة لها إلى
الخروج كالزوجة ، حتى لو اختلعت على أن لا نفقة لها قيل تخرج نهارا لمعاشها ، وقيل
لا وهو الأصح ، لأنها اختارت إسقاط نفقتها فلا يؤثر في إبطال حق المختلعة عليها على
أن لا سكنى لها لا يجوز لها الخروج .
قال : ( والمعتدة عن وفاة تخرج نهارا وبعض الليل وتبيت في منزلها ) لأنه لا نفقة لها
فتضطر إلى الخروج لإصلاح معاشها وربما امتد ذلك إلى الليل . وعن محمد لا بأس بأن
تبيت في غير منزلها أقل من نصف الليل لما بينا ( والأمة تخرج لحاجة المولى في العدتين في
الوقتين جميعا ) لما في المنع من إبطال حقه ، وحق العبد مقدم على حق الله تعالى ، وإن كان
المولى بوّأها لم تخرج ما دامت على ذلك إلا أن يخرجها المولى ، وكذلك المكاتبة والكتابية
تخرج إلا إذا منعها الزوج لصيانة مائه ، والمجنونة والمعتوهة كالذمية ، والصبية تخرج لأنها لا
يلزمها العبادات ، ولا حق للزوج لأنه لحفظ الولد ، ولا ولد إلا في الطلاق الرجعي ، فلا
تخرج إلا بإذن الزوج لبقاء الزوجية على ما مر .
( وتعتد في البيت الذي كانت تسكنه حال وقوع الفرقة ) لأنه البيت المضاف إليه بقوله
تعالى : ) من بيوتهن ( لأنه هو الذي تسكنه ، وقال عليه الصلاة والسلام للتي قتل زوجها :
' اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ' .
قال : ( إلا أن ينهدم أو تخرج منه أو لا تقدر على أجرته فتنتقل ) لما يلحقها من
الضرر في ذلك . أما إذا انهدم فلأن السكنى في الخربة لا تأمن على نفسها ومالها ، ثم
قيل تنتقل حيث شاءت إلا أن تكون مبتوتة فتنتقل إلى حيث شاء الرجل لأنه المخاطب
بقوله تعالى : ) أسكنوهن ( [ الطلاق : 6 ] وإذا حولها الورثة أو صاحب المنزل فهي
معذورة في ذلك . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه نقل ابنته أم كلثوم
لما قتل عمر رضي الله عنه لأنها كانت في دار الإمارة وعائشة رضي الله عنها نقلت
أختها لما قتل طلحة رضي الله عنه ، ولو طلب منها أكثر من أجرة المثل فلما يلحقها من
الضرر ، وصار كثمن الماء للمسافر يجوز له التيمم إذا كان بأكثر من ثمن المثل ، ولو
أبانها والمنزل واحد يجعل بينه وبينها سترة ، وكذلك الورثة في الوفاة ، فإن لم يجعلوا
انتقلت تحررا عن الفتنة ، وإذا كان المطلق غائبا وطلب أهل المنزل الأجرة أعطتهم بإذن
القاضي ويصير دينا على الزوج .(3/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
فصل
( أقل مدة الحمل ستة أشهر ) لما روي أن رجلا تزوج امرأة فجاءت بولد لستة أشهر فهم
عثمان برجمها ، فقال ابن عباس : لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم ، فإن الله تعالى يقول :
) وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ( [ الأحقاف : 15 ] وقال : ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين ( [ البقرة : 233 ] فبقي لمدة الحمل ستة أشهر . قال : ( وأكثرها سنتان ) لما روي
عن عائشة أنها قالت : لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفركة مغزل ، وذلك
لا يعرف إلا توقيفا إذ ليس للعقل فيه مجال ، فكأنها روته عن النبي عليه الصلاة والسلام .
قال : ( وإذا أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه ) لأنه ظهر
كذبها بيقين فصار كأنها لم تقر به ( و ) إن جاءت به ( لستة أشهر لا ) يثبت ، لأنه لم يظهر
كذبها فيكون من حمل حادث بعده فلا يثبت نسبه . قال : ( ويثبت نسب ولد المطلقة
الرجعية ، وإن جاءت به لأكثر من سنتين ما لم تقر بانقضاء العدة ) لاحتمال الوطء والعلوق
في العدة لجواز أن تكون ممتدة الطهر ( فإن جاءت به لأقل من سنتين بانت ) لانقضاء العدة
( ويثبت النسب ) لوجود العلوق في النكاح أو في العدة ( ولا يصير مراجعا ) لأنه يحتمل
العلوق قبل الطلاق ، ويحتمل بعده فلا يصير مراجعا بالشك ( وإن جاءت به لسنتين أو أكثر
كان رجعة ) لأن العلوق بعد الطلاق ، والظاهر أنه منه وأنه وطئها في العدة حملا لحالهما
على الأحسن والأصلح .
قال : ( ويثبت نسب ولد المبتوتة والمتوفى عنها زوجها لأقل من سنتين ) لاحتمال أن
الحمل كان قائما وقت الطلاق فلا يكون الفراش زائلا بيقين فيثبت النسب احتياطا ( ولا يثبت
لأكثر من ذلك إلا أن يدعيه ) لأنا تيقنا بحدوث الحمل بعد الطلاق فلا يكون منه إلا أن يدعيه
فيجعل كأنه وطئها بشبهة العدة . وقال زفر : في عدة الوفاة إذا جاءت به بعد انقضائها لستة
أشهر لا يثبت ، لأن الشرع حكم بانقضائها بالأشهر فصار كإقرارها . وجوابه أنه لانقضاء العدة(3/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
وجه آخر وهو وضع الحمل ، بخلاف الصغيرة لأن الأصل عدم الحمل فيها لعدم المحلية
فوق الشك في البلوغ .
قال : ( ولا يثبت نسب ولد المعتدة إلا بشهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين ، أو حبل
ظاهر ، أو اعتراف الزوج ، أو تصديق الورثة ) وقالا : يثبت بشهادة امرأة واحدة لأن الفراش
قائم لقيام العدة ، وهو ملزم للنسب كقيام النكاح . ولأبي حنيفة أنها لو أقرت بوضع الحمل
انقضت العدة ، والمنقضي لا يكون حجة فيحتاج إلى إثبات النسب فلا بد من حجة كاملة .
أما إذا ظهر الحبل أو اعترف به الزوج فالنسب ثابت قبل الولادة والحاجة إلى التعيين وأنه
يثبت بشهادتها ، وكذا إذا اعترف به الورثة بعد الموت . وهذا في حق الإرث ظاهر لأنه
حقهم . وأما النسب فإن كانوا من أهل الشهادة ثبت بشهادتهم ، ولا يثبت في حقهم باعترافهم
ويثبت في حق غيرهم تبعا للثبوت في حقهم .
قال : ( ولا يثبت نسب ولد المطلقة الصغيرة رجعية كانت أو مبتوتة إلا أن تأتي به لأقل
من تسعة أشهر ، وفي عدة الوفاة لأقل من عشرة أشهر وعشرة أيام بساعة ) وقال أبو يوسف في
المبتوتة : يثبت إلى سنتين لأنها معتدة لم تقر بانقضاء العدة ، ويحتمل أن تكون حاملا
وصارت كالبالغة . ولهما أنه تعين لانقضاء عدتها جهة واحدة وهي الأشهر ، فإذا مضت حكم
الشرع بانقضائها وهو أقوى من الإقرار لاحتمال الخلف في الإقرار دونه . وأما الرجعي ، قال
أبو يوسف : يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا لأنه يجعل واطئا في آخر العدة وهي ثلاثة أشهر
ثم تأتي به لأكثر مدة الحمل وهي سنتان ؛ ولو ادعت الصغيرة الحبل في العدة فهي كالكبيرة
في الحكم لأنه ثبت بلوغها بإقرارها ( ولو قال لها : إن ولدت فأنت طالق فشهدت امرأة
بالولادة لم تطلق ) وقالا : تطلق لقوله عليه الصلاة والسلام : ' شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع
عليه الرجال ' فكانت شهادتها حجة في الولادة ، فتكون حجة فيما يبتني عليه وهو الطلاق .
ولأبي حنيفة أنها ادعت على زوجها الحنث فلا يثبت إلا ببينة كاملة ، وشهادتها ضرورية في
الولادة فلا تتعدى إلى الطلاق لأنه ينفك عنه . قال : ( وإن اعترف بالحبل تطلق بمجرد قولها )(3/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
وقالا : لا بد من شهادة امرأة تشهد بالولادة لأنها ادعت فلا بد من حجة . وله أنه أقر بالحبل
فيكون إقرارا بالولادة لأنه يفضي إليه ، ولأنه أقر بكونها أمينة فيقبل قولها في رد الأمانة .
قال : ( ولو قال لأمته : إن كان في بطنك ولد فهو مني فشهدت امرأة بالولادة فهي أم
ولده ) لأن الحاجة إلى تعيين الولد ، وإنه يثبت بالقابلة إجماعا .
تم الجزء الثالث من ' الاختيار لتعليل المختار ' .
ويليه : الجزء الرابع ، وأوله : باب النفقة .(3/197)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
باب النفقة
الأصل في وجوبها قوله تعالى : ) أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا
تضاروهن لتضيقوا عليهن ( [ الطلاق : 6 ] ثم قال : ) لينفق ذو سعة من سعته ( [ الطلاق : 7 ]
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ' أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم '
وقراءته كروايته عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال تعالى : ) وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف ( [ البقرة : 233 ] وقال تعالى : ) الرجال قوامون على النساء ( [ النساء : 34 ] ثم
قال : ) وبما أنفقوا من أموالهم ( [ النساء : 34 ] وروى أبو حمزة الرقاشي عن عمه قال : كنت
آخذ بزمام ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أوسط أيام التشريق إذ ودعه الناس فقال : ' اتقوا الله في النساء '
وذكر الحديث إلى أن قال : ' ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ' وقال عليه الصلاة
والسلام لهند امرأة أبي سفيان : ' خذي من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالمعروف ' ولولا
وجوبها عليه لما أمرها بذلك . وسبب وجوبها احتباسها عند الزوج إذا كان يتهيأ له الاستمتاع
وطئا أو دواعيه أو التحصين لمائه بعد زوال النكاح لأنها لما صارت محبوسة عنده في حقه
عجزت عن الاكتساب والإنفاق على نفسها ، فلو لم تستحق النفقة عليه لماتت جوعا .(4/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
قال : وتجب للزوجة على زوجها إذا سلمت إليه نفسها في منزله نفقتها وكسوتها
وسكناها ) لما مر من الدلائل ( تعتبر بقدر حاله ) لقوله تعالى : ) لينفق ذو سعة من سعته ومن
قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ( [ الطلاق : 7 ] كذا اختاره الكرخي ، واختار الخصاف
الاعتبار بحالهما ، فإن كانا موسرين لها نفقة الموسر ، وإن كانا معسرين فنفقة المعسر ، وإن
كانت موسرة وهو معسر فلها فوق نفقة المعسرة ، وإن كان بالعكس فدون نفقة الموسرة وإن
كان أحدهما مفرطا في اليسار والآخر مفرطا في الإعسار يقضي عليه بنفقة الوسط ، والقول
قوله في إعساره في حق النفقة لأنه منكر والبينة بينتها لأنها مدعية .
قال : ( وهو مقدر بكفايتها بلا تقتير ولا إسراف ) لما تقدم من حديث هند ، وليس فيها
تقدير لازم لاختلاف ذلك باختلاف الأوقات والطباع والرخص والغلاء والوسط خبز البر
والإدام بقدر كفايتها ( ويفرض لها نفقة كل شهر وتسلم إليها ) لأنه يتعذر القضاء بها كل
ساعة ، ويتعذر لجميع المدة فقدرناه بالشهر لأنه الوسط وهو أقرب الآجال ( والكسوة كل ستة
أشهر ) لأنه يحتاج إليها في كل ستة أشهر باختلاف الحر والبرد . وللزوج أن يلي الإنفاق
بنفسه ، إلا أن يظهر عند القاضي أنه لا ينفق عليها فيفرض لها كل شهر على ما بينا ، ويقدر
النفقة بقدر الغلاء والرخص في كل وقت ، ولا يقدر بالدراهم والدنانير ؛ ولو صالحته من
النفقة على ما لا يكفيها كملها القاضي إن طلبت ذلك ، وإن كان الرجل صاحب مائدة لا
يفرض عليه النفقة ويفرض الكسوة .
قال : ( ويفرض لها نفقة خادم واحد ) وليس له أن يعطيها من خدمه من يخدمها بغير
رضاها . وقال أبو يوسف : يفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لداخل البيت والآخر
لخارجه . لهما أن الواحد يكفي لذلك فلا حاجة إلى اثنين حتى قيل لو كفاها بنفسه لم
يلزمه نفقة خادم ؛ وقيل إن كانت من بنات الأشراف فلها نفقة خادمين أحدهما للخدمة
والآخر للرسالة وأمور خارج البيت . وروى الحسن عن أبي حنيفة : إن كان الزوج معسرا
لا يفرض لها نفقة خادم أصلا ، وإن لم يكن لها خادم لا يفرض لها نفقة خادم ، وكذا إذا
كانت فقيرة وتخدم نفسها ، رواه الحسن عن أبي حنيفة ؛ وكسوة الصيف قميص ومقنعة
وملحفة ؛ وفي الشتاء مع ذلك جبة وسراويل على قدر حاله ؛ وعلى الموسر درع سابوري
وخمار إبريسم وملحفة كتان ، وتزاد في الشتاء جبة ولحافا ، وإن طلبت فراشا تنام عليه لها
ذلك ، لأن النوم على الأرض ربما يؤذيها ويمرضها ، وما تغطي به دفعا للحر والبرد
ويختلف ذلك باختلاف العادات والبقاع ، ولخادمها قميص كرباس وإزار في الصيف ، وفي(4/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
الشتاء قميص وإزار وجبة وكساء وخفان ، فإن امتنعت الخادمة عن الخدمة لا نفقة لها .
لأنها مقابلة بالخدمة ، بخلاف الزوجة لأنها مقابلة بالحبس لا غير ؛ ولا تجبر المرأة على
الطبخ والخبز إذا امتنعت ، ويأتيها بمن يخبز ويطبخ ، لأن الواجب عليه الطعام ، قالوا :
وهذا إذا كانت لا تقدر على ذلك ، أو كانت من بنات الأشراف ، وإن كانت تقدر وتخدم
نفسها تجبر عليه لأنها متعنتة .
قال : ( فإن نشزت المرأة فلا نفقة لها ) لما روي ' أن فاطمة بنت قيس نشزت على
أحمائها فنقلها عليه الصلاة والسلام إلى بيت ابن أم مكتوم ولم يجعل لها نفقة ولا
سكنى ' ولأن الموجب للنفقة الاحتباس وقد زال ، بخلاف ما إذا امتنعت من التمكين
لأنه لا يفوت الاحتباس وهو يقدر عليه كرها ، فإن عادت إلى منزله عادت النفقة لعود
الاحتباس ( وإن منعت نفسها حتى يوفيها مهرها فلها النفقة ) لأن لها الامتناع لتستوفي
حقها ، فلو سقطت النفقة تتضرر ، والضرر يجب إلحاقه بالزوج الظالم الممتنع عن إيفاء
حقها ، ولأن المنع بسبب من جهته فصار كالعدم ، وسواء كان قبل الدخول أو بعده ،
وقالا : إن كان بعد الدخول فلا نفقة لها لأنها سلمت المعوّض فليس لها أن تمنعه لقبض
العوض كالبائع إذا سلم المبيع . ولأبي حنيفة أنها سلمت بعض المعوض لأن المهر مقابل
بجميع الوطئات على ما تقرر في كتاب النكاح ، فالبائع إذا سلم بعض المبيع له حبس
الباقي كذا هذا .
( ولو كانت كبيرة والزوج صغيرة فلها النفقة ، وبالعكس لا ) أما الأول فلأنها سلمت
نفسها والعجز من جهته فصار كالمجبوب والعنين ، وأما الثاني فالمرأة صغيرة لا يستمتع بها
لأن المراد من الاحتباس ما يكون وسيلة إلى المقصود من النكاح وأنه ممتنع بسبب منها
فصار كالعدم ( ولو كانا صغيرين فلا نفقة لها ) لما مر ، ولو سكن دارا غصبا فامتنعت أن
تسكن معه فليست بناشزة لأنها امتنعت بحق ؛ وإن كانت ساكنة في دارها فمنعته من دخولها
وقالت : حولني إلى منزلك أو اكتر لي دارا فلها النفقة لما بينا . قال : ( ولو حجت أو حبست
بدين أو غصبها غاصب فذهب بها فلا نفقة لها ) لزوال الاحتباس لا من جهته . وعن أبي
يوسف أن الحج الفرض لا يسقط النفقة ذكره في الأمالي لأنه عذر ، لكن تجب نفقة الحضر
لأنها المستحقة فيعطيها نفقة شهر والباقي إذا رجعت ( وإن حج معها فلها نفقة الحضر ) لأنها
كالمقيمة في منزله ولا يجب عليه الكراء .(4/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
( وإن مرضت في منزله فلها النفقة ) وكذلك إذا جاءت إليه مريضة لأن الاحتباس موجود
فإنه يستأنس بها وتحفظ متاعه ويستمتع بها لمسا وغيره ، ومنع الوطء لعارض كالحيض
والنفاس ، والقياس أن لا نفقة لها إذا كان مرضا يمنع الجماع كالصغيرة . وعن أبي يوسف إن
مرضت عنده لها النفقة لأنه صح التسليم ، ولو سلمت إليه مريضة لا نفقة لها لأن التسليم ما
صح ، وقوله مرضت في منزله إشارة إليه وإذا طالبته بالنفقة قبل أن يحولها إلى منزله وهي
بالغة فلها النفقة إذا لم يطالبها بالنقلة ، لأن النقلة حقه والنفقة حقها ، فلا يسقط حقها بتركه
حقه ، فإن طالبها بالنقلة فامتنعت فلا نفقة لها إلا أن يكون بحق على ما بينا .
قال : ( وللأمة والمدبرة وأم الولد النفقة إن بوأها مولاها بيت الزوج ) لوجود
الاحتباس ( وإلا فلا ) لعدمه ( فإن بوأها ثم استخدمها سقطت ) النفقة لفوات الاحتباس .
قال : ( ومن أعسر بالنفقة لم يفرق بينهما وتؤمر بالاستدانة ) لتحيل عليه لأن في التفريق
إبطال حقه وفي الاستدانة تأخير حقها والإبطال أضر فكان دفعه أولى ، فإذا فرض لها
القاضي وأمرها بالاستدانة صارت دينا عليه فيتمكن من الإحالة عليه والرجوع في تركته لو
مات ، ولو استدانت بغير أمر القاضي تكون المطالبة عليها ولا يمكنها الإحالة عليه ولا
ترجع في تركته لأنها لا ولاية لها عليه ، فلهذا قال : تؤمر بالاستدانة عليه ، ومعنى
الاستدانة أن تشتري بالدين . قال : ( وإذا قضي لها بنفقة الإعسار ثم أيسر تمم لها نفقة
الموسر ) لأنها تختلف باختلاف الأحوال ، وما فرض تقدير لنفقة لم تجب بعد ، فإذا
تبدلت حاله لها المطالبة بقدرها ، وكذلك لو قضى بنفقة اليسار ثم أعسر فرض لها نفقة
المعسر لما بينا .
قال : ( وإذا مضت مدة لم ينفق عليها سقطت إلا أن يكون قضي بها أو صالحته على
مقدارها ) فيقضي لها بنفقة ما مضى لأن النفقة لم تجب عوضا عن البضع ، لأن المهر
وجب عوضا عنه ، والعقد الواحد لا يوجب عوضين عن شيء واحد ولا عوضا عن
الاستمتاع ، لأن الاستمتاع تصرف في ملكه ، والإنسان لا يجب عليه شيء بالتصرف في
ملكه ، فبقي وجوبه جزاء عن الاحتباس صلة ورزقا لا عوضا ، لأن الله تعالى سماه رزقا
بقوله : ) وعلى المولود له رزقهن ( [ البقرة : 233 ] والرزق اسم لما يذكر صلة ، والصلاة لا
تملك إلا بالتسليم حقيقة أو بقضاء القاضي كما في الهبة أو بالتزامه بالتراضي ، لأنه لما لزمه
بقضاء القاضي فلأن يلزمه بالتزامه كان أولى ، لأن ولايته على نفسه أقوى . قال : ( فإن مات(4/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
أحدهما بعد القضاء أو الاصطلاح قبل القبض سقطت ) لما بينا أنها صلة ، والصلة تسقط
بالموت كالهبة قبل القبض . قال : ( وإن أسلفها النفقة أو الكسوة ثم مات أحدهما لم يرجع
بشيء ) وقال محمد : يحتسب لها نفقة ما مضى وما بقي للزوج لأنها استعجلت عوضا عما
تستحقه عليه بالاحتباس ، وقد بطل استحقاقها بالموت فيبطل من العوض بقدره . ولهما ما بينا
أنها صلة ، وقد اتصل القبض بها فيبطل الرجوع بالموت كما في الهبة ، ألا ترى أنها لو
هلكت من غير استهلاك لا يرجع بشيء بالإجماع .
قال : ( وإذا كان للغائب مال حاضر في منزله أو وديعة أو مضاربة أو دين علم
القاضي به وبالنكاح أو اعترف بهما من المال في يده يفرض فيه نفقة زوجته ووالديه وولده
الصغير ) لأن الذي في يده المال أو عليه لما أقر بالزوجية فقد أقر بثبوت حقها فيه ، لأن
لها أن تأخذ من مال زوجها حقا من غير رضاه ، وإقرار صاحب اليد في حق نفسه صحيح
فيقضي القاضي عليه باعترافه ، فيقع القضاء عليه أولا ثم يسري إلى الغائب ، بخلاف ما إذا
جحد أحد الأمرين لأنه إن جحد الزوجية لا تسمع البينة عليه لأنه ليس بخصم في
الزوجية ، وإن جحد المال فهي ليست خصما في إثباته ، وعلم القاضي حجة يجوز له
القضاء به في محل ولايته على ما عرف . ونفقة الوالدين والولد الصغير كنفقة الزوجة لأنها
تجب بغير قضاء ، بخلاف غيرهم من الأقارب حيث لا تجب نفقتهم إلا بالقضاء لما أن
وجوبها مختلف فيه .
قال : ( وهذا إذا كان المال من جنس النفقة ) كالدراهم والدنانير والطعام والكسوة لأن
لها أن تأخذه بغير رضاه ؛ أما إذا كان من خلاف جنسها لا يفرض فيه النفقة لأنه يحتاج إلى
بيعه ولا بيع على الغائب . أما عند أبي حنيفة فلأنه لا يباع على الحاضر فكذا على الغائب .
وأما عندهما فلأنه إنما يباع على الحاضر لظهور ظلمه بامتناعه ولا كذلك في الغائب . قال :
( ويحلفها أنها ما أخذتها ويأخذ منها كفيلا بها ) نظرا للغائب واحتياطا له لاحتمال حضوره
فيقيم البينة على الطلاق أو على أن أسلفها ( وإن لم يعلم القاضي بذلك وأنكر من في يده
المال الزوجية أو المال لم تقبل بينتها عليه ) لما بينا ، وإن لم يكن له مال ، وأرادت أن تقيم
البينة على الزوجية ليفرض لها القاضي النفقة ويأمرها بالاستدانة عليه لا تقبل لأنه قضاء على(4/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
الغائب . وقال زفر : تقبل ويقضي بالنفقة ، واستحسنوا ذلك للحاجة ، وعليه القضاة اليوم وهو
مجتهد فيه فينفذ .
قال : ( وعليه أن يسكنها دارا مفردة ليس فيها أحد من أهله ) أما وجوب السكنى فلأنها
من الحوائج الأصلية وهي من الكفاية فتجب كالطعام والشراب ، وقد قال تعالى :
) أسكنوهن ( [ الطلاق : 6 ] فكان واجبا حقا لها ، وتكون بين قوم صالحين ليعينوها على
مصالح دنياها ويمنعونه من ظلمها لو أراد ، وليس له أن يشرك معها غيرها ، لأنه قد لا تأمن
على متاعها ولا تتخلى لاستمتاعها إلا أن تختار ذلك لأنها رضيت بنقص حقها ؛ ولو كان في
الدار بيوت وأبت أن تسكن مع ضرتها أو مع أحد من أهله إن أخلى لها بيتا منها وجعل له
مرافق وغلقا على حدة ليس لها أن تطلب بيتا آخر ، وإن لم يكن إلا بيت واحد فلها ذلك .
قال : ( وله أن يمنع أهلها وولدها من غيره الدخول عليها ) لأن المنزل ملكه ( لا يمنعهم
كلامها والنظر إليها ) أي وقت شاء لما فيه من قطيعة الرحم ولا ضرر فيه إنما الضرر في
المقام . وقيل لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين ، وقيل يمنع ( ولا يمنعهما من الدخول إليها
كل جمعة وغيرهم من الأقارب كل سنة ) وهو المختار .
فصل
( وللمطلقة النفقة والسكنى في عدتها بائنا كان أو رجعيا ) أما الرجعي فلما تقدم أن
النكاح قائم بينهما حتى يحل له الوطء وغيره . وأما البائن فلأنها محبوسة في حقه ، وهو
صيانة الولد بحفظ الماء عن الاختلاط ، والحبس لحقه موجب للنفقة كما تقدم . وأما حديث
فاطمة بنت قيس أنها قالت : طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله سكنى ولا نفقة
رده عمر وزيد بن ثابت وجابر وعائشة ، قال عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا
ندري أصدقت أم كذبت ، حفظت أم نسيت ، سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول :
' للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة ' ويروى ' المبتوتة لها النفقة والسكنى '
ولأنه ورد مخالفا قوله تعالى : ) أسكنوهن ( [ الطلاق : 6 ] ومخالفا للإجماع في السكنى ، فإن
ادعت أنها حامل أنفق عليها إلى سنتين منذ طلقها احتياطا للعدة ، فإن قالت : كنت أتوهم أني
حامل ولم أحض إلى هذه الغاية : يعني أنها ممتدة الطهر وطلبت النفقة ، فلها النفقة ما لم
تدخل في حد الإياس لأنها معتدة ، فإذا دخلت في حد الإياس استأنفت العدة ثلاثة أشهر .
قال : ( ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها ) لأنها محبوسة لحق الشرع لا للزوج فلا يجب عليه ،(4/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
ألا يرى أنه لا يشترط فيها الحيض الذي تعرف به براءة الرحم والحمل الذي هو حقه ، ولأن
المال انتقل إلى الورثة فلا تجب في مالهم .
قال : ( وكل فرقة جاءت من قبل المرأة بمعصية كالردة وتقبيل ابن الزوج فلا نفقة لها ،
وإن جاءت بغير معصية كخيار العتق والبلوغ وعدم الكفاءة فلها النفقة ، وإن كانت ) الفرقة
( من جهة الزوج فلها النفقة بكل حال ) لأن النفقة صلة على ما مر ، وبعصيان الزوج لا تحرم
من النفقة وتحرم بعصيانها مجازاة وعقوبة ، ولأنها حبست نفسها بغير حق فصارت كالناشزة ،
بخلاف ما إذا كان بغير معصية لأنها حبست نفسها بحق وذلك لا يسقط النفقة لما تقدم
وكذلك إن وقعت الفرقة باللعان أو الإيلاء أو بالجب والعنة بعد الدخول أو الخلوة لها النفقة
لما بينا ؛ وإذا طلقت الأمة المبوأة لها نفقة العدة ، فإن استخدمها المولى سقطت ، وكل امرأة
لا نفقة لها يوم الطلاق لا نفقة لها في العدة كالمعتدة من نكاح فاسد ؛ والأمة إذا لم يبوئها
المولى بيتا إلا الناشزة لأنها محبوسة في حقه ؛ والمطلقة إذا لم تطلب نفقتها حتى انقضت
عدتها سقطت كالمنكوحة .
( وإن طلقها ثلاثا ثم ارتدت سقطت النفقة ) لأنها صارت محبوسة في حق الشرع ،
وهذا إذا خرجت من بيت الزوج للحبس ، وما لم تخرج من بيته فلها النفقة ( وإن مكنت
ابن زوجها لم تسقط ) لأن الفرقة تثبت بالطلاق الثلاث ولا أثر للتمكين في ذلك وهي
معتدة محبوسة في حقه فتجب النفقة ؛ ولو كان الطلاق رجعيا فلا نفقة لها لأن الفرقه
جاءت من قبلها بالتمكين وهو معصية فلا تستحق النفقة لما بينا ؛ ولو صالح امرأته على
نفقة العدة إن كانت بالشهور جاز لأنها معلومة ، وإن كانت بالحيض لا يجوز لأنها مجهولة
المدة فتكون النفقة مجهولة .
فصل
( ونفقة الأولاد الصغار على الأب إذا كانوا فقراء ) لقوله تعالى : ) وعلى المولود له
رزقهن وكسوتهن بالمعروف ( [ البقرة : 233 ] ( وليس على الأم إرضاع الصبي ) لأن أجرة(4/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الإرضاع من نفقته وهي على الأب . قال : ( إلا إذا تعينت ) بأن لم يجد غيرها أو لا يأخذ
من لبن غيرها ( فيجب عليها ) حينئذ صيانة للصغير عن الهلاك . قال : ( ويستأجر الأب من
ترضعه عندها ) لأن الأجرة عليه والحضانة لها ( فإن استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها
لم يجز ) لأن الإرضاع مستحق عليها بالأصل ، لقوله تعالى : ) والوالدات يرضعن أولادهن (
[ البقرة : 233 ] فإذا امتنعت حملناه على العجز فجعلناه عذرا ، فإذا أقدمت عليه بالأجر
علمنا قدرتها فكان واجبا عليها فلا يحل لها أخذ الأجر على فعل وجب عليها ، ولا خلاف
في المعتدة الرجعية . وأما المبتوتة فكذلك في رواية لأن النكاح قائم من وجه ؛ وقيل يجوز
لأن النكاح قد زال بينهما فصارت أجنبية . وذكر الخصاف إذا لم يكن للصبي ولا لأبيه مال
أجبرت الأم على الإرضاع وهو الصحيح لأنها ذات يسار في اللبن ، فإن طلبت من القاضي
أن يقضي لها بنفقة الإرضاع حتى ترجع بها على الأب إذا أيسر فعل كما لو كان معسرا
وهي موسرة تجبر على الإنفاق على الصغير ثم ترجع على الأب إذا أيسر ، وإن كان
للصبي مال روي عن محمد أنه يفرض لها نفقة الإرضاع في مال الصبي .
قال : ( وبعد انقضاء العدة هي أولى من الأجنبية ) فإنها أشفق وفي ذلك نظر للصغير ( إلا
أن تطلب زيادة أجرة ) لما فيه من ضرر الأب ، وقيل في قوله تعالى : ) لا تضار والدة
بولدها ( [ البقرة : 233 ] وهو أن ترضى بأجرة المثل فلا يدفع إليها ) ولا مولود له بولده (
[ البقرة : 233 ] أن يؤخذ منه أكثر من أجر المثل . قال : ( ونفقة الآباء والأجداد إذا كانوا فقراء
على الأولاد الذكور والإناث ) قال تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( [ الإسراء : 23 ] . نهاه عن
الإضرار بهما بهذا القدر وترك الإنفاق عليهما عند حاجتهما أكثر إضرارا من ذلك . وقال عليه
الصلاة والسلام : ' أنت ومالك لأبيك ' وقال : ' إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن
ولده من كسبه ، فكلوا من كسب أولادكم ' فإذا كان مال الابن يضاف إلى الأب بأنه كسبه
صار غنيا به فتجب نفقته فيه ، وقال تعالى : ) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ( [ العنكبوت : 8 ]
أي يحسن إليهما ، وليس إحسانا تركهما محتاجين مع قدرته على دفع حاجتهما ، وقال تعالى
في حق الوالدين الكافرين ) وصاحبهما في الدنيا معروفا ( [ لقمان : 15 ] وليس من المعروف
تركهما جائعين وهو قادر على إشباعهما ، وهو على الذكور والإناث على السواء في رواية ،
وهو المختار لاستوائهما في العلة والخطاب ، وقيل على قدر الإرث لقوله تعالى : ) وعلى(4/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
الوارث مثل ذلك ( [ البقرة : 233 ] ويشترط فقرهم لأن إيجاب نفقة الغني في ماله أولى .
رجل معسر له أولاد صغار محاويج وله ابن كبير موسر يجبر على نفقتهم .
قال : ( ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة وقرابة الولاد أعلى وأسفل )
لإطلاق النصوص ، ولأن نفقة الزوجة جزاء الاحتباس كما مر أو بالعقد كالمهر ، وذلك لا
يختلف باختلاف الدين ، ولهذا تجب مع يسارها : وأما قرابة الولاد فلمكان الجزئية ، إذ
الجزئية في معنى النفس ، ونفقة النفس تجب مع الكفر فكذا الجزء ، وهذا إذا كانوا ذمة ، فإن
كانوا حربا لا تجب وإن كانوا مستأمنين لقوله تعالى : ) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في
الدين ( [ الممتحنة : 9 ] الآية ، بخلاف غيرهم من ذوي الأرحام ، لأن الإرث منقطع فيما
بينهم ولا بد من اعتباره بالنص .
قال : ( ونفقة ذي الرحم سوى الوالدين والولد تجب على قدر الميراث ) كالإخوة
والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ، ولا تجب لرحم ليس بمحرم ، والأصل
فيه قوله تعالى : ) وعلى الوارث مثل ذلك ( وفي قراءة ابن مسعود ' وعلى الوارث ذي الرحم
المحرم مثل ذلك ' فذكره الوارث إشارة إلى اعتبار قدر الميراث وليكون الغرم بالغنم ( وإنما
تجب إذا كان فقيرا به زمانة لا يقدر على الكسب ) أما الفقر فلما مر ، وأما العجز عن الكسب
فلأنه يكون غنيا بكسبه ، ولا كذلك الوالدان حيث تجب نفقتهما مع القدرة على الكسب لما
يلحقهما فيه من التعب والنصب ، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما ، فيجب عليه أن يدفع
عنهما ضرر الاكتساب وذلك بالإنفاق عليهما .
قال : ( أو تكون أنثى فقيرة ) لأنه أمارة الحاجة ( وكذا من لا يحسن لخرقه أو
لكونه من البيوتات أو طالب علم ) لأن العجز عن الاكتساب في حق هؤلاء ثابت ، لأن شرط
وجوب نفقة الكبير العجز عن الكسب حقيقة كالزمن والأعمى ونحوهما ، أو معنى كمن به
خرق ونحوه ( ونفقة زوجة الأب على ابنه ) رواه هشام عن أبي يوسف ( ونفقة زوجة الابن على
أبيه إن كان صغيرا فقيرا أو زمنا ) لأنه من كفاية الصغير . وذكر في المبسوط لا يجبر الأب
على نفقة زوجة الابن ، ويجب على الابن نفقة خادم الأب إذا احتاج إليه لأن خدمة الأب(4/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
مستحقة على الابن فكذا نفقة من يخدمه ولا كذلك زوجة الابن . قال : ( ولا تجب النفقة على
فقير إلا للزوجة والولد الصغير ) لقوله تعالى : ) ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله (
[ الطلاق : 7 ] .
وقال : ) وعلى المولود له رزقهن ( [ البقرة : 233 ] ولأن نفقة الزوجة مجازاة وذلك
يجب مع الفقر ، ولا يجب لغيرهم مع الفقر لأنها صلة ، فلو وجبت للفقير على الفقير لم
يكن إيجابها عليه أولى من إيجابها له ( والمعتبر الغنى المحرم للصدقة ) هو المختار ، وعن أبي
يوسف أنه قدره بالنصاب . وعن محمد إذا فضل عن نفقة شهر له ولعياله يجب عليه نفقة
أقاربه وإن لم يكن له شيء ويكتسب كل يوم درهما يكفيه أربعة دوانيق فإنه ينفق الفضل على
أقربائه ، ومن له مسكن وخادم وهو محتاج تحل له الصدقة وتجب نفقته على أقاربه ، فإن كان
في مسكنه فضل يكفيه بعضه يؤمر ببيع البعض وينفق على نفسه ، وكذا إذا كانت له دابة
نفيسة يؤمر ببيعها ويشتري الأوكس وينفق الفضل ؛ ومن كان يأكل من الناس تسقط نفقته عن
القريب ، وإن أعطوه قدر نصف كفايته يسقط نصف النفقة . وقال أبو يوسف : إذا كان الابن
فقيرا كسوبا والأب زمن شاركه في القوت بالمعروف ، ومن لم يقدر على الكسب للزمانة أو
كان مقعدا يتكفف الناس فنفقته ونفقة ولده في بيت المال ؛ ولو كان الأب معسرا والأم
موسرة تؤمر الأم بالنفقة على الولد ثم ترجع على الأب إذا أيسر ؛ وكذلك إذا كان للأب
المعسر أخ موسر يؤمر بالإنفاق على الصغير ثم يرجع على الأب ، وكذلك المرأة المعسرة إذا
كان زوجها معسرا ولها ابن من غيره موسر أو أخ موسر فنفقتها على زوجها ويؤمر الابن أو
الأخ بالإنفاق عليها وترجع على زوجها إذا أيسر ، ويحبس الابن أو الأخ إذا امتنع لأن هذا
من المعروف ، وإذا كان للفقير أب غني وابن غني فالنفقة على الابن لأن شبهته في مال الابن
أكثر .
قال عليه الصلاة والسلام : ' أنت ومالك لأبيك ' ويعتبر في نفقة قرابة الولاد الأقرب
فالأقرب دون الإرث ، لأن الله أوجب النفقة على المولود له وأنه مشتق من الولاد وهو
الجزئية والبعضية باعتبار التولد والتفرع عنه ، وفي نفقة ذي الحرم المحرم يعتبر كونه أهل
الإرث ، ويجب بقدر الميراث عند الاجتماع لأنه تعالى أوجبها باسم الوراثة ، فقير له ابن
وبنت فنفقته عليهما نصفان ، ولو كان له بنت وأخ فنفقته على بنته لأنها أقرب . له بنت وابن
ابن موسران فنفقته على البنت لأنها أقرب ، ولو كان له بنت بنت وابن بنت وأخ موسرون
فنفقته على أولاد أولاده دون الأخ لما بينا .(4/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
فقير له أخ وأخت لأب وأم فالنفقة عليهما بقدر ميراثهما ، ولو كان له أخت وعم
فعليهما نصفان ، ولو كان له أم وجد فعليهما أثلاثا . وروى الحسن عن أبي حنيفة كلها
على الجد ، ولو كان له أم وجد وأخ فالثلث على الأم والباقي على الجد ، وعندهما الباقي
على الأخ والجد نصفان . له عم وخال النفقة على العم . له خال وابن عم النفقة على
الخال والميراث لابن العم ، وفي العمة والخالة ثلثان وثلث . قال : ( وإذا باع الأب متاع ابنه
في نفقته جاز ) وقالا : لا يجوز ، وفي العقار لا يجوز بالإجماع ( ولو أنفق من مال له في
يده جاز ) بالإجتماع لأنه ظفر بجنس حقه فله أن يأخذه لأن نفقته واجبة قبل القضاء لما بينا
والأم في هذا كالأب . لهما أن البلوغ انقطعت ولايته عنه وعن ماله حتى لا يملك ذلك
في حضرته ولا في دين غير النفقة وصار كالأم . وله وهو الاستحسان أن للأب أن يحفظ
مال ابنه الغائب كالوصي ، وبل أولى لأنه أوفر شفقة وبيع النقلى من باب الحفظ ، فإذا باعه
فالثمن من جنس حقه وهو نفقته فيأخذ منه حقه ، ولا كذلك العقار فإنه محفوظ بنفسه
وبخلاف الأم وغيرها من الأقارب لأنه لا ولاية لهم حال صغره ، ولا ولاية الحفظ حالة
الغيبة مع الكبر فافترقا .
قال : ( وإذا قضى القاضي بالنفقة ثم مضت مدة سقطت ) لأنها إنما وجبت دفعا للحاجة
وقد اندفعت ، بخلاف الزوجة إذا قضي لها لأنها وجبت مع اليسار لا لدفع الحاجة فلا تسقط
بحصول الاستغناء . قال : ( إلا أن يكون القاضي أمر بالاستدانة عليه ) لأن ولاية القاضي عامة ،
فكأن الغائب أمره بذلك فتصير دينا في ذمته فلا تسقط . قال : ( وعلى المولى أن ينفق على
رقيقه ) لقوله عليه الصلاة والسلام في حقهم : ' أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما
تلبسون ، ولا تعذبوا عباد الله ' ولأنهم مشغولون بخدمتهم محبوسون في ملكهم فيجب عليهم
الإنفاق عليهم لئلا يهلكوا جوعا ( فإن امتنع اكتسبوا وأنفقوا ) لأن فيه رعاية للجانبين : جانبه
ببقاء ملكه ، وجانبهم بدفع حاجتهم ( وإن لم يكن لهم كسب ) كالزمن والأعمى والجارية
المستحسنة التي لا تؤجر .
( أجبر على بيعهم ) لأن الرقيق من أهل الاستحقاق وفي بيعهم إيفاء حقهم وإيفاء حق
المولى بنقله إلى الخلف ، ولا يلزم على هذا الإعسار بنفقة الزوجة ، لأن نفقتها تصير دينا
عليه فتتمكن من مطالبته وحبسه ، ولا دين للعبد على مولاه ، ولأنه يفوت ملكه في النكاح لا
إلى خلف ، وههنا يفوت إلى الثمن ، على أن البيع هنا يقع باختياره وعقده والفسخ لا بفعله .
قال : ( وسائر الحيوانات يجبر فيما بينه وبين الله تعالى ) لما فيه من إضاعة المال وتعذيب(4/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
الحيوان ، وقد ورد النهي عنهما ، وليست من أهل الاستحقاق ليقضي لها بجبر المولى على
نفقتها أو بيعها .
فصل في الحضانة
وهي من الحضن ، وهو ما دون الإبط إلى الكشح ، وحضنا الشيء : جانباه ، وحضن
الطائر بيضه يحضنه : إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحه ، فكأن المربي للولد يتخذه في حضنه
وإلى جنبه ، ولما كان الصغير عاجزا عن النظر في مصالح نفسه جعل الله تعالى ذلك إلى من
يلي عليهم ، ففوض الولاية في المال والعقود إلى الرجال ، لأنهم بذلك أقوم وعليه أقدر ،
وفوض التربية إلى النساء لأنهن أشفق وأحنى وأقدر على التربية من الرجال وأقوى .
قال : ( وإذا اختصم الزوجان في الولد قبل الفرقة أو بعدها فالأم أحق ) لما روي أن
امرأة أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني
له وعاء ، وحجري له حواء ، وثديي له سقاء ، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني ، فقال عليه
الصلاة والسلام : ' أنت أحق به ما لم تنكحي ' . وروى سعيد بن المسيب أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه طلق زوجته أم ابنه عاصم ، فتنازعا وارتفعا إلى أبي بكر الصديق
رضي الله عنه ، فقال له أبو بكر : ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر ، ودفعه إليها
والصحابة حاضرون متكاثرون ، ولأنها أقوم بالتربية وأقدر عليها من الأب فكان الدفع إليها
أنظر للصبي ، وكل من له حضانة لا يدفع إليه الولد ما لم يطلبه فعساه يعجز عنه ، بخلاف
الأب إذا امتنع عن أخذه بعد الاستغناء عن الحضانة حيث يجبر على أخذه إذا امتنع ، لأن
الصيانة عليه .
قال : ( ثم أمها ثم أم الأب ثم الأخت لأبوين ثم لأم ثم لأب ، ثم الخالات كذلك ، ثم
العمات كذلك أيضا ، وبنات الأخت أولى من بنات الأخ ، وهن أولى من العمات ) والأصل
في ذلك أن هذه الولاية تستفاد من قبل الأمهات لما قدمناه ، فكانت جهة الأم مقدمة على
جهة الأب ، ولأن الجدات أقرب من الأخوات ، والأخوات أقرب من الخالات والعمات .
وروى محمد عن أبي حنيفة أن الخالة مقدمة على الأخت لأب . لأن الخالة بمنزلة الأم ، قال(4/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
عليه الصلاة والسلام : ' الخالة والدة ' والخالات مساويات للعمات في القرب ، وإنما تقدم
الخالات لأن قرابتهن من جهة الأم ، وتقدم من كانت لأب وأم لأنها تدلي بجهتين فتكون
أولى ثم من الأم ثم من الأب ترجيحا لقرابة الأم ، ولا حق لمن لهن رحم غير محرم كبنات
الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات .
قال : ( ومن لها الحضانة إذا تزوجت بأجنبي سقط حقها ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' أنت أحق به ما لم تنكحي ' وفي رواية ' ما لم تتزوجي ' وفي حديث أبي بكر ' أمه أولى
به ما لم يشب أو تتزوج ' ولأن الصبي يلحقه من زوج أمه جفاء فيسقط حقها للمضرة ،
لأن حقها إنما يثبت في الحضانة لشفقتها نظرا له ، فإذا زالت زال ، بخلاف ما إذا تزوجت
بذي رحم محرم من الصبي حيث لا تسقط لشفقته عليه كما إذا تزوجت الأم بعمه والجدة
بالجد لأنه لا يلحقه جفاء من جده وعمه . قال : ( فإن فارقته عاد حقها ) لأن المانع قد زال
( والقول قول المرأة في نفي الزوج ) لأنها تنكر بطلان حقها في الحضانة . قال : ( ويكون الغلام
عندهن حتى يستغني عن الخدمة ) فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ويستنجي وحده ،
وقدره أبو بكر الرازي بتسع سنين ، والخصاف بسبع اعتبارا للغالب ، وإليه الإشارة بقول
الصديق رضي الله عنه : هي أحق به حتى يشب ، ولأنه إذا استغنى يحتاج إلى التأدب بآداب
الرجال والتخلق بأخلاقهم وتعليم القرآن والعلم والحرف ، والأب على ذلك أقدر فكان أولى
وأجدر .
قال : ( وتكون الجارية عند الأم والجدة حتى تحيض وعند غيرهما حتى تستغني ) وقيل
حتى تشتهي ، لأن الجارية بعد الاستغناء تحتاج إلى التأدب بآداب النساء وتعلم أشغالهن ،
والأم أقدر على ذلك ، فإذا بلغت احتاجت إلى الحفظ والصيانة ، والأب على ذلك أقدر ؛
وأما غير الأم والجدة فلأنها لا تقدر على استخدامها فلا يحصل التأدب ، ولا كذلك الأم
والجدة . وعن محمد إذا بلغت حدا تشتهي يأخذها الأب من الأم للحاجة إلى الحفظ . وسئل
محمد : إذا اجتمع النساء ولهن أزواج ؟ قال : يضعه القاضي حيث شاء لأنه لا حق لهن كمن
لا قرابة له .(4/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
قال : ( وإذا لم يكن للصغير امرأة أخذه الرجال ) صونا له ( وأولاهم أقربهم تعصيبا ) لأن
الولاية عليه بالقرب . وكذلك إذا استغنى عن الحضانة ، فالأولى بالحفظ أقربهم تعصيبا . قال :
( ولا تدفع الصبية إلى غير محرم ) كابن العم ومولى العتاقة خوفا من الوقوع في المعصية ( ولا
إلى محرم ماجن فاسق ) لأنه لا يؤمن فسقه فإن لم يكن لها إلا ابن عم فإن شاء القاضي ضمها
إليه إن كان أصلح ، وإلا وضعها عند أمينة ؛ ولو كان الأخ مخوفا عليها يضعها القاضي عند
امرأة ثقة . الثيّب المأمونة لها حق التفرد بالسكنى ، فإن لم تكن مأمونة فالأب يضمها إليه ،
وليس للبكر حتى التفرد ، فإن دخلت في السن وكان لها رأي فلها أن تنفرد . قال : ( وإذا اجتمع
مستحقو الحضانة في درجة واحدة فأورعهم أولى ثم أكبرهم ، ولا حق للأمة وأم الولد في
الحضانة ) لأنها من باب الولاية وليستا من أهلها ، فإذا أعتقتا فهما كالحرة ( والذمية أحق بولدها
المسلم ما لم يخف عليه الكفر ) لأن النظر له في حضانتها قبل ذلك وبعده عليه فيه الضرر .
قال : ( وليس للأب أن يخرج بولده من بلده حتى يبلغ حد الاستغناء ) لما فيه من إبطال
حق الأم من الحضانة ( وليس للأم ذلك إلى أن تخرجه إلى وطنها وقد وقع العقد فيه ) لأن
التزوج فيه دليل المقام فيه ظاهرا فقد التزم المقام في بلدها ، وإنما لزمها اتباعه بحكم
الزوجية ، فإذا زالت الزوجية جاز لها أن تعود إليه لأنه رضي بذلك ( إلا أن يكون تزوجها في
دار الحرب وهو وطنها ) لأنه ضرر بالصبي لأنه يتعود أخلاق الكفار وربما يألفهم ، وإذا أرادت
أن تخرجه إلى بلدها ولم يقع العقد فيه ليس لها ذلك ، لأنه لم يلتزم ذلك لأنه لم يلتزم لها
المقام فيه فلا يجوز لها التفريق بينه وبين الولد من غير التزامه . وعن شريح : إذا تفرقت الدار
فالعصبة أحق بالولد ، وإن كان العقد في غير وطنها فأرادت أن تنقله إليه ليس لها ذلك ، لأنه
دار غربة كالبلد الذي فيه الزوج ، وإذا تساويا لم يجز لها نقله ، وقيل لها ذلك لأن العقد
وجد فيه فيوجب أحكامه فيه فلا بد في النقلة من الوطن ووقوع العقد فيه ، وهذا إذا كان بين
المصرين مسافة ، أما إذا كان بينهما ما يمكن الأب الاطلاع عليه ويبيت في منزله فلا بأس
به ، لأنه لا يلحقه بذلك ضرر ، وصار كالنقلة من محلة إلى أخرى في المصر المتباعد
الأطراف ، والقريتان كالمصرين ، وكذا لو انتقلت من القرية إلى المصر ، لأن فيه نظرا للصغير
حيث يتخلق بأخلاق أهل المصر ، وبالعكس لا ، لأن أخلاق أهل السواد أجفى فكان فيه
ضرر بالصبي فلا يجوز .(4/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
كتاب العتق
وهو في اللغة : القوة ، يقال : عتق الطائر إذا قوي على الطيران ، وعتاق الطير : كواسبها
لقوتها على الكسب ، واعتقت الخمر : قويت واشتدت ، ويستعمل للجمال ، يقال : فرس
عتيق : أي رائع جميل ، وسمي الصديق عتيقا لجماله ، ويستعمل للكرم ، ومنه البيت العتيق :
أي الكريم ، ويستعمل للسعة والجودة ، ومنه رزق عاتق : أي جيد واسع . وفي الشرع : زوال
الرق عن المملوك وفيه هذه المعاني اللغوية فإنه بالعتق يقوى على ما لم يكن قادرا عليه قبله
من الأقوال والأفعال ، ويورثه جمالا وكرامة بين الناس ويزول عنه ما كان فيه من ضيق
الحجر والعبودية فيتسع رزقه بسبب القدرة على الكسب . والحرية : الخلاص ، والحر :
الخالص ، ومنه طين حر : خالص لا رمل فيه ، وأرض حرة : خالصة من الخراج والنوائب .
والتحرير : إثبات الحرية وهو الخلوص في الذات عن شائبة الرق . والرق في اللغة :
الضعف ، ومنه ثوب رقيق ، وصوت رقيق : أي ضعيف .
وفي الشرع : ضعف معنوي ، وهو العجز عما يقدر عليه الحر من الولايات والشهادات
والخروج إلى الحج والجهاد وصلاة الجمعة والجنائز وغيرها من العبادات ، وبالإعتاق
والتحرير تثبت له القوة على هذه الأفعال وتخلصه عن شوائب الرق والإذلال . وقال القدوري
رحمه الله : العتق إسقاط الحق عن الرق ، والحقوق تسقط بالإسقاط ، فإسقاط الحق عن الرق
عتق ، وعن استباحة البضع طلاق ، وعن الديون براءة ، فإنه إذا أسقط حقه عن هذه الأشياء
لم يبق شيء يحتاج إلى النقل فيسقط ، ولا كذلك الأعيان فإنه لا يصح إسقاط الحق عنها ،
لأن العين بعد الإسقاط تبقى غير منتقلة فلا يسقط حقه وهو قضية مشروعة وقربة مندوبة . أما(4/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
شرعيتها فلقوله تعالى : ) فتحرير رقبة ( [ النساء : 92 ] وقال : ) فتحرير رقبة مؤمنة ( كلفنا
بتحرير الرقبة ، ولولا شرعيته لما كلفناه ، إذ تكليف ما ليس بمشروع قبيح .
والنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أعتقوا ، والإجماع على شرعيته ، وأما الندبية
فلقوله تعالى : ) فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة ( [ البلد : 13 ] والندبية تدل على
المشروعية أيضا . وروى ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' أيما مؤمن أعتق مؤمنا في الدنيا أعتق
الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ' وسأل أعرابي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ' علمني عملا
يدخلني الجنة ، فقال : لئن أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة ،
قال : أليسا واحدا ؟ قال : لا ، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها '
ثم العتق قد يقع قربة ومباحا ومعصية ، فإن أعتقه لوجه الله تعالى أو عن كفارة فهو قربة ،
وإن أعتقه من غير نية أو أعتقه لفلان فهو مباح وليس بقربة ، وإن أعتقه للصنم أو للشيطان
فهو معصية . ويستحب أن يكتب له كتابا بالعتق ويشهد عليه به توثقا وخوفا من التجاحد .
( ولا يقع إلا من مالك قادر على التبرعات ) أما الملك فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا
عتق فيما لا يملكه ابن آدم ' ، وكذلك إذا أضافه إلى ملكه كما مر في الطلاق ، وأما كونه
قادرا على التبرعات فلأنه تبرع . قال : ( وألفاظه : صريح وكناية ، فالصريح يقع بغير نية ) كما
قلنا في الطلاق ( وهو قوله : أنت حر ، أو محرر ، أو عتيق ، أو معتق ) وإن نوى به الخلوص
والقدم صدّق ديانة لا قضاء ، لأنه خلاف الظاهر وهو يحتمله ( و ) قوله : ( أعتقتك ، أو
حررتك ) صريح أيضا ( و ) كذلك ( هذا مولاي ، أو يا مولاي ، أو هذه مولاتي ) لأنه يستعمل
في المعتق والمعتق فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ضرورة ، ولو نوى النصرة والمحبة صدق
ديانة لا قضاء لما بينا ، ولو قال : أنت حر من هذا العمل ، أو أنت حر اليوم من هذا العمل
عتق قضاء لأنه متى صار حرا في شيء صار حرا في كل الأشياء لأن الحرية لا تتجزأ ( ويا
حر ، ويا عتيق ) صريح أيضا .
( إلا أن يجعل ذلك اسما له فلا يعتق ) إلا أن يريد به الإنشاء . قال : ( وكذلك إضافة
الحرية إلى ما يعبر به عن البدن ) وهو كالطلاق في التفصيل والحكم والخلاف والعلة ، ولو(4/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
أعتق جزءا شائعا كالثلث والربع عتق ذلك الجزء عند أبي حنيفة ويسعى العبد في الباقي ،
وعندهما يعتق كله على ما نبينه ؛ ولو قال : بعضك حر أو جزؤك عتق كله عندهما . وعند
أبي حنيفة يؤمر بالبيان . ولو قال : دمك حر فيه روايتان . وعن أبي يوسف لو قال لأمته :
فرجك حر من الجماع عتقت ، ولو قال لعبده : فرجك حر يعتق ؛ وقيل لا يعتق لأن فرج
المرأة يعبر به عن جميع البدن لا فرج الرجل ، قال عليه الصلاة والسلام : ' لعن الله الفروج
على السروج ' والمراد النساء ، وفي الإست والدبر الأصح أنه لا يعتق لأنه لا يعبر به عن
البدن ؛ وفي العنق روايتان . ومما يلحق بالصريح قوله لعبده : وهبت لك نفسك ، أو بعتك
نفسك فإنه يعتق بغير نية قبل العبد أو لم يقبل ، لأن ذلك يقتضي زوال الملك إلى العبد
فيزول ملكه بإزالته صريحا ، فلم يكن صريحا في العتق لأنه ليس بموضوع لغة ، لكنه ملحق
بالصريح من حيث إنه يقع بغير نية ، وإنما يملك العبد النفسية دون المالية لأنه بغير عوض
فيكون إعتاقا فلا يحتاج إلى القبول ، حتى لو قال له : بعت منك نفسك بكذا افتقر إلى القبول
لمكان العوض .
( والكنايات تحتاج إلى النية ) لاحتمال اللفظ العتق وغيره فلا يتعين أحدهما إلا بالنية
كما قلنا في الطلاق ( وذلك مثل قوله : لا ملك لي عليك ، ولا سبيل لي عليك ، ولا رق ،
وخرجت من ملكي ) لأنه يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك أو وهبتك ، ويحتمل لأني
أعتقتك ، وكذا سائرها فاحتاج إلى النية ، وكذا خليت سبيلك ، لا سبيل لي عليك ، لأن نفي
السبيل يكون بالبيع ويكون بالكتابة ويكون بالعتق فلا يتعين إلا بالنية ( وكذا لو قال لأمته :
أطلقتك ) لأنه بمعنى خليت سبيلك .
( ولو قال : طلقتك لا تعتق وإن نوى ) وكذلك سائر ألفاظ صريح الطلاق وكناياته ، لأن
ملك اليمين أقوى من ملك النكاح ، وما يزل الأقوى يزل الأضعف بطريق الأولى ، أما ما
يكون مزيلا للأضعف لا يلزم أن يكون مزيلا للأقوى ، ولأن العتق إثبات للقوة على ما
قدمناه ، والطلاق رفع القيد ، وبين الإثبات والرفع تضاد ، ولأن صريح الطلاق وكناياته
مستعملة لحرمة الوطء ، وحرمة الوطء تنافي النكاح ولا تنافي المملوكية فلا يقع كناية عنه ،
ولو قال لأمته : أنت حر أو لعبده : أنت حرة لا تعتق إلا بالنية ، لأنه ليس صريحا فيه ، ولو
قال : لا حق لي عليك يعتق إذا نوى ، وروي ذلك عن أبي حنيفة ومحمد ، لأن الحق عبارة(4/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
عن الملك فكأنه قال : لا ملك لي عليك ؛ ولو قال : أنت لله ، أو جعلتك خالصا لله ، روي
عن أبي حنيفة أنه لا يعتق لأن الأشياء كلها لله تعالى بحكم التخليق . وعنهما أنه يعتق لأن
الخلوص لله تعالى لا يتحقق إلا بالعتق .
قال : ( وإن قال هذا ابني أو أبي أو أمي عتق ) وكذلك قوله : هذا عمي أو خالي ؛ ثم إن
كان العبد يصلح والدا أو ولدا وهو مجهول النسب يثبت نسبه أيضا ، لأن له ولاية الدعوة
والعبد محتاج إلى النسب فيثبت ويعتق بالإجماع ، وإن كان لا يصلح والدا في قوله هذا أبي
بأن كان أصغر منه ، ولا ولدا في قوله هذا ابني بأن كان أكبر منه ، أو مقارنة عتق أيضا عملا
بمجاز اللفظ وهو الحرية عليه من حين ملكه ولا يثبت النسب لتعذره . وقال أبو يوسف
ومحمد : لا يعتق لأنه كذب ، فصار كقوله أعتقتك قبل أن أخلق . ولأبي حنيفة أنه إن تعذر
العمل بحقيقته أمكن العمل بمجازه ، لأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والملازمة من
طريق المجاز تحرزا عن إلغاء كلام العاقل ، بخلاف ما ذكر لأنه لا وجه للمجاز فيه فتعين
الإلغاء ، ثم قيل لا يشترط تصديق العبد لأن إقرار المالك على مملوكه يصح من غير
تصديقه ، وقيل يشترط التصديق فيما سوى دعوة البنوة ، لأن غير البنوة حمل النسب على
غيره فيكون دعوى على العبد يلزمه بعد الحرية فيشترط تصديقه ، وإن كان العبد معروف
النسب لا يثبت نسبه منه للتعذر ، ويعتق عملا بما ذكرنا من المجاز
( ولو قال : هذا أخي لم يعتق ) في ظاهر الرواية لأنه يراد به الأخ في الدين عرفا
وشرعا ، قال تعالى : ) إنما المؤمنون إخوة ( [ الحجرات : 10 ] وروى الحسن عن أبي حنيفة
أنه يعتق لأن ملك الأخ موجب للعتق ، والإخوة عند الإطلاق تنصرف إلى النسب ( ولو قال :
يا ابني أو يا أخي لم يعتق ) في ظاهر الرواية . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يعتق
بالنداء إلا بخمسة ألفاظ : يا ابني ، يا بنتي ، يا عتيق ، يا حر ، يا مولاي . وقال محمد في
النوادر : لا يعتق إلا بالثلاثة الأخيرة ، لأن النداء وضع لإعلام المنادى لا لتحقيق معنى النداء
في المنادي حتى يقال للبصير يا أعمى ، وللأبيض يا أسود ، إلا فيما تعارف الناس إثبات
العتق به وهي الألفاظ الثلاثة ، ولأبي حنيفة أنه تعذر جعله إعلاما لأن المذكور ليس باسم له
وضعا فجعلناه لإثبات معنى النداء في المنادى وهو الحرية صونا لكلامه عن الإلغاء ؛ ولو قال
لعبده : هذه بنتي ، أو لأمته : هذا ابني عتق عند أبي حنيفة عملا بالإشارة ، وقيل لا يعتق لأن
الإشارة والتسمية اجتمعا في جنسين فكانت العبرة للتسمية والمسمى معدوم .
( ولو قال : أنت مثل الحر لم يعتق ) لأن هذا اللفظ يراد به المشاركة في بعض المعاني
عرفا وقد وجد فلا يعتق بالشك . وقال بعض المشايخ : يعتق إذا نوى كقوله لامرأته : أنت(4/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
مثل امرأة فلان وفلان قد آلى من امرأته إن نوى الإيلاء يصير موليا ( ولو قال : ما أنت إلا حر
عتق ) لأن هذا إثبات من النفي فهو أبلغ في التأكيد كلفظة الشهادة ( ولو قال : لا سلطان لي
عليك لم يعتق وإن نوى ) لأن السلطان عبارة عن اليد ، فصار كأنه قال : لا يد لي عليك
ونوى لا يعتق ، لأن نفي اليد المفردة بالكتابة لا بالعتق ( وعتق المكره والسكران واقع ) لما مر
في الطلاق .
فصل
( ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه ولو كان المالك صبيا أو مجنونا ) لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' من ملك ذا حرم محرم منه فهو حر ' وفي رواية ' عتق
عليه ' فينتظم الصغير والكبير والعاقل والمجنون والمسلم والكافر عملا بعموم كلمة
' من ' ولأنه تعلق به حق العباد وهم الأقرباء ، فيدخل فيه الصغير والمجنون كالنفقات
وضمان المتلفات ، ويدخل فيه كل ذي رحم محرم ولاد وغيره كالإخوة وبنيهم
والأعمام والعمات والأخوال والخالات عملا بالإطلاق ، وذو الرحم المحرم كل
شخصين يدليان إلى أصل واحد بلا واسطة كالأخوين أو أحدهما بواسطة والآخر بغير
واسطة كالعم وابن الأخ إلى الجد ؛ ولا يعتق بالملك ذو رحم غير محرم ، كبني
الأعمام والأخوال وبني العمات والخالات ، ولا محرم غير ذي رحم كالمحرمات
بالصهرية والرضاع ، لأن العتق بدون الإعتاق ضرر إلا أنا خالفناه في الرحم المحرم
بالنص فبقي الباقي على الأصل .
قال : ( والمكاتب يتكاتب عليه قرابة الولاد لا غير ) وقالا : يتكاتب عليه الأخ ومن في
معناه وهو رواية عن أبي حنيفة ، لأنه لو كان حرا عتق عليه ، فإذا كان مكاتبا يتكاتب عليه
كقرابة الولاد . وله أن ملك المكاتب ناقص حتى لا يقدر على الإعتاق والوجوب عند القدرة
وقرابة الولاد العتق فيهم من مقاصد الكتابة ، فامتنع البيع تحصيلا لمقصود الكتابة . أما حرية
الأخ والعم ليست من مقصود الكتابة فلا يظهر فيهما . قال : ( ومن أعتق عبده للصنم أو(4/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
للشيطان عتق وكان عاصيا ) لصدور الإعتاق من أهله مضافا إلى محله عن ولاية ، ولأن قوله :
أنت حر صريح في العتق فيقع ، ويلغو قوله للصنم أو للشيطان ويكون عاصيا ، لأن ذلك من
فعل الكفرة وعبدة الأصنام . قال : ( ومن أعتق حاملا عتق حملها معها ) لأنه متصل بها فصار
كبعض أجزائها ، وليس القبض والتسليم فيه شرطا فيصح ، بخلاف البيع والهبة حيث لا يصح
لاشتراط القبض أو القدرة عليه ( وإن أعتق حملها عتق خاصة ) لأن العتق لم يرد عليها لتعتق
أصالة ولا تعتق تبعا لأنها أصل ، ولو أعتقه على مال عتق وبطل المال ، لأن المال لا يلزم
الحمل لأنه لا ولاية له ولا عليه ، ولا يلزم الأم لعدم التزامها ، ثم إنما يعرف قيام الحمل
وقت العتق إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم العتق لما عرف .
قال : ( والولد يتبع الأم في الحرية والرق في التدبير ) لأن جانب الأم راجح اعتبارا
للحضانة ( وولد الأمة من مولاها حر ) لأنه انخلق من مائه وقد انعلق على ملكه فيعتق عليه
( وولد المغرور حر بالقيمة ) وهو ما إذا تزوج حر امرأة على أنها حرة فإذا هي أمة ، فأولاده
منها أحرار وعليه قيمتهم لمولاها على ذلك إجماع الصحابة ؛ ولو كان المغرور مكاتبا أو
مدبرا أو عبدا فكذلك عند محمد ، لأن ما نقل من إجماع الصحابة لا يفصل ، وقال :
أولادهم أرقاء لحصولهم بين رقيقين فلا وجه إلى حريتهم ، بخلاف الأب الحر فإنه أمكن
جعل الولد حرا تبعا لأبيه ، وإجماع الصحابة لم يرد قولا بل حكموا بذلك في صورة كان
الأب حرا فلا يقاس عليه ، ولأن العبد لا يعير بكون ولده عبدا والحر يعير فافترقا .
قال : ( ومن أعتق عبده على مال فقبل عتق ولزمه المال ) مثل أن يقول : أنت حر بألف ،
أو على ألف ، أو على أن لي عليك ألفا ، أو على أن تعطيني ألفا ؛ أو على أن تؤدي إليّ
ألفا ؛ وإنما شرط قبوله لأنه معاوضة ، ومن شرطها ثبوت الحكم بقبول العوض في الحال
كالبيع ، ولهذا قلنا يعتق إذا قبل لأنه علق العتق بالقبول لا بالأداء ، وقوله لزمه المال معناه
يصير دينا عليه حتى تصح به الكفالة ، واللفظ بإطلاقه ينتظم جميع أنواع المال : النقود
والعروض والحيوان ، وإن كان بغير عينه لأنه معاوضة مال بغير مال كالنكاح وأخواته ،
ويتعلق بقبوله في المجلس إن حضره وإن غاب على مجلس علمه ، وإن كان التعليق بإذا فهو
كالتعليق بمني لا يتوقف بالمجلس وقد عرف في الطلاق .
قال : ( وإن قال : إن أديت إليّ ألفا فأنت حر صار مأذونا ويعتق بالتخلية بينه وبين
الألف ، وله أن يبيعه قبل أداء المال ) أما صيرورته مأذونا فلأن المولى لما طلب منه أداء المال(4/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وطريقة الاكتساب بالتجارة غالبا ، فقد أذن له في التجارة دلالة . وأما جواز البيع قبل أداء
المال لأنه علق عتقه بأداء جميع المال ، فما لم يؤده لم يوجد شرطه فلا يعتق وليس بمكاتب
فله بيعه ، وأما عتقه بالتخلية فمذهبنا . وقال زفر : لا يعتق إلا بالأداء إليه لأنه الشرط فلا يعتق
قبله . ولنا أن هذا تعليق لفظا ومعاوضة مقصودا لأن الألف يصلح عوضا عن العتق حتى لو
نص على المعاوضة يصير عوضا فينعقد معاوضة بين الألف والعتق تحصيلا لمقصوده ،
فباعتبار المعاوضة ينزل المولى قابلا للبدل متى وصل إليه لئلا يتضرر العبد به ، وقد رضي
المولى بنزول العتق عند وصوله الألف إليه ، وبالتخلية قد وصلت إليه فجعلناه تعليقا ابتداء
عملا باللفظ دفعا للضرر عن المولى لئلا يخرج من ملكه ولا يسري إلى الولد قبل الأداء
معاوضة عند الأداء دفعا للضرر عن العبد حتى يعتق بالأداء على ما بينا ونظيره الهبة بعوض
هبة ابتداء بيع انتهاء ، ولو أدى البعض أجبر المولى على قبوله ولا يعتق لما قلنا . فإن أدى
ألفا اكتسبها قبل التعليق عتق لوجود الشرط ويرجع عليه المولى بمثلها لأنه أداها من مال
المولى ، وإن أداها من مال اكتسبه بعد التعليق عتق ولا يرجع عليه لأنه مأذون في الأداء منه
على ما بينا .
فصل
( ومن أعتق بعض عبده عتق وسعى في بقية قيمته لمولاه ) وقالا : يعتق كله لأن الإعتاق
لا يتجزى عندهما ، فإضافة العتق إلى بعضه كإضافته إلى كله كما في الطلاق ، وعند أبي
حنيفة يتجزى فيقتصر على ما أعتق . لهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' من أعتق شركا له في
عبد فقد عتق كله ليس لله فيه شريك ' ولأن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية والقوة لا
تتجزى ، إذ لا يكون بعضه قويا وبعضه ضعيفا ، أو نقول : هو إزالة الرق الذي هو ضعف
حكمي ، وكل واحد منهما لا يتجزى فصار كالعفو عن القصاص . وله ما روى نافع عن ابن
عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ' من أعتق شقصا من عبد فعليه عتق كله ' وفي
رواية ' كلف عتق ما بقي ' وفي رواية ' وجب عليه أن يعتق ما بقي ' ولو عتق بنفس الإعتاق
لما وجب عليه إعتاقه ولما كلف ذلك ، لأن إعتاق المعتق محال . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة عدل وأعطى
شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق ' .(4/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وروى سعيد بن المسيب عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا : إذا كان العبد بين رجلين
فأعتقه أحدهما فإنه يقوّم عليه بأعلى القيمة ثم يغرم ثمنه ثم يعتق العبد ، وعائشة ترفعه إلى
النبي عليه الصلاة والسلام ، ولأن الإعتاق إزالة ملكه ، والمتصرف إنما يتصرف فيما يدخل
تحت ولايته وهو إزالة ملكه فيتقدر به . والأصل أن التصرف يقتصر على موضع الإضافة
والتعدي في الطلاق والقصاص لعدم التجزي ، أما الملك فلأنه متجز كما في البيع والهبة ،
ويسمى إعتاقا مجازا لأنه يصير إلى العتق فيحمل حديثهما على ذلك توفيقا بين الأحاديث ،
وتجب السعاية في الباقي على العبد ، لأن مالية الباقي صارت محتبسة عند العبد ، ولأن ما
بقي منه على ملكه ، ووجب إخراجه إلى الحرية بما روينا ، ولا يلزمه إزالته بغير عوض فكان
له أن يستسعيه ، وله أن يعتقه لأنه ملكه لما روينا كالمكاتب .
قال : ( والمستسعى كالمكاتب ) عند أبي حنيفة حتى يؤدي السعاية لأنه تعلق عتقه بأداء
المال فلا تقبل شهادته ، ولا يرث ولا يورث ولا يتزوج ، ويفارق المكاتب في خصلة ، وهو
أنه لا يرد في الرق لو عجز ، لأن الذي أوجب السعاية وقوع الحرية في بعضه وهو موجود
بعد العجز ؛ وقالا : هو حر مديون ، لأن العتق وقع في جميعه بناء على ما تقدم من الأصل
في التجزي فهو كسائر الأحرار عندهما ، وهذا كما إذا أعتق بعض عبده ، أو أعتق بعض
الشركاء نصيبه أو بعض الورثة أو الغرماء أو المريض ولم يخرج من الثلث . أما العبد الرهن
إذا أعتقه الراهن وهو معسر وسعى العبد فهو حر بالإجماع ، لأن الدين على الراهن لا في
رقبة العبد ، ولهذا يرجع العبد على الراهن بما سعى .
قال : ( ولو أعتق أحد الشريكين نصيبه عتق ، فإن كان قادرا على قيمة نصيب
شريكه فاضلا عن ملبوسه وقوت يومه وعياله ، فشريكه إن شاء أعتق ، وإن شاء دبر ، وإن
شاء كاتب ، وإن شاء ضمن المعتق ، وإن شاء استسعى العبد ؛ وإن كان معسرا فكذلك إلا
أنه لا يضمن ) وقالا : ليس له إلا الضمان مع اليسار والسعاية مع الإعسار . والكلام في
هذه المسألة في مواضع : أحدها الضمان في حالة اليسار ، والدليل عليه ما روي من
الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب الضمان على المعتق الموسر فيجب عليه ،
ولأنه أتلف نصيب الساكت حيث أعجزه عن التصرف فيه بالتمليك فله أن يضمنه ، فإذا
ضمنه فالمعتق إن شاء أعتق لأنه ملكه بالضمان ، وإن شاء استسعى العبد لأنه انتقل إليه
بما كان لشريكه من الحقوق ، والولاء له في ذلك كله ، لأنه هو الذي أعتقه أو عتق على(4/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
ملكه ويرجع بما أدى على العبد ، لأنه لما أدى صار كالشريك الساكت ، للساكت ذلك
بالسعاية فكذا هذا . والثاني للساكت ولاية الإعتاق لما تقدم أنه على ملكه فله أن يعتق
تسوية بينه وبين شريكه ، فإذا أعتق كان ولاء نصيبه له . والثالث للساكت أن يستسعي
العبد لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من أعتق شقصا من مملوك فعليه أن
يعتقه كله إن كان له مال ' .
وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه ، ولأن نصيبه باق على ملكه فله
أن يأخذه من العبد لما بينا ، فإذا استسعى فولاء نصيبه له أيضا لأنه عتق على ملكه . والرابع
له أن يدبر أو يكاتب لأنه لما ثبت أن ملكه باق فيه كان قابلا للتدبير والكتابة ، ولأن التدبير
نوع إعتاق والكتابة استسعاء منجم ويكون الولاء له أيضا ؛ وفي حالة الإعسار إن شاء الساكت
أعتق أو دبر أو كاتب أو استسعى لما بينا والولاء له في الوجوه كلها لأنه عتق على ملكه ،
وهذه المسألة تبتني على تجزي الإعتاق ، فلما كان يتجزى عنده تفرعت هذه الأحكام عليه ،
ولما لم يتجز عندهما عتق كله ، فإن كان موسرا يتعين الضمان لأنه أتلف عليه نصيبه وهو
موسر ، وإن كان معسرا تعذر ضمانه فيستسعي العبد لأن ماليته محتبسة عنده ، فله أن يستسعيه
كغاصب الغاصب ونحوه ، ولا يرجع العبد بما يؤدي بإجماع بيننا ، لأن منفعته حصلت للعبد
بغير رضى المولى فكان ضمانا بعوض حصل له ، ولأنه يسعى لفكاك رقبته لا لقضاء دين
على المعتق لأنه معسر لم يلحقه شيء .
ولهما أيضا قوله عليه الصلاة والسلام : ' من أعتق نصيبه من عبد مشترك إن كان غنيا
ضمن وإن كان فقيرا يسعى العبد ' قسم والقسمة تنافي الشركة ، ويعتبر الإعسار واليسار يوم
الإعتاق ، حتى لو أعتق وهو موسر فأعسر لا يبطل التضمين ، وإن كان معسرا فأيسر لا يثبت
له حق التضمين لأنه حق ثبت بنفس العتق فلا يتغير وإن اختلفا في ذلك يحكم الحال ، إلا
أن يكون بين الخصومة والعتق مدة تختلف فيها الأحوال ، فالقول للمعتق لأنه منكر ؛ ولو
اختلفا في قيمة العبد يوم العتق ، فإن كان قائما يقوّم للحال ، وإن كان هالكا فالقول للمعتق
أيضا ، وإن كان الإعتاق سابقا على الاختلاف فالقول له أيضا لأنه منكر للزيادة ؛ ولو اختلفا
في القيمة ووقت الإعتاق يحكم بالعتق للحال ، وعلى هذا التفصيل لو اختلف العبد والساكت
في القيمة ؛ ولو مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئا ليس له إلا التضمين ، لأن العتق
والسعاية فاتا بالموت .(4/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
فإذا ضمن رجع المعتق على كسب العبد إن كان له كسب ، ولو كان المعتق معسرا
فللساكت أن يرجع في أكسابه لأن السعاية تجب بنفس العتق ؛ ولو مات المعتق يؤخذ
الضمان من ماله إن كان العتق في الصحة ، وإن كان في المرض فلا شيء في تركته .
وعن محمد يؤخذ من تركته ، وهو رواية عن أبي يوسف ، لأن ضمان التمليك لا يختلف
بالصحة والمرض ؛ ولو مات الساكت فللورثة أحد الاختيارات ، فإن اختار بعضهم العتق
وبعضهم الضمان فلهم ذلك . وروى الحسن عن أبي حنيفة ليس لهم إلا الاجتماع على
أحدهما . أعتق نصيبه وهو موسر وشريكه عبد مأذون إن كان مديونا فله خيار التضمين
أو السعاية .
وإن لم يكن مديونا فالخيار للمولى ، وإن كان شريكه صبيا فإن كان له ولي أو وصي
إن شاء ضمن وإن شاء استسعى ، وإن لم يكن له ولي ينتظر بلوغه أو ينصب له القاضي
وليا ، وهذا أصل كبير يبتني عليه كثير من مسائل العتق وغيره .
قال : ( وإذا اشتريا ابن أحدهما عتق نصيب الأب وشريكه إن شاء أعتق وإن شاء
استسعى علم أو لم يعلم ) وكذا إذا ملكاه بهبة أو صدقة أو وصية ، وقالا : يضمن الأب نصف
قيمته إن كان موسرا ، وإن كان معسرا يسعى الابن في نصف قيمته لشريك أبيه ، وعلى هذا
إذا اشترياه وقد حلف أحدهما بعتقه إن اشترى نصفه ، وإن ملكاه بالإرث فكما قال أبو حنيفة
بالإجماع . لهما أن شراء القريب إعتاق على أصلنا ، فقد أفسد نصيب الشريك بالإعتاق فصار
كعبد بين اثنين أعتق أحدهما نصيبه . ولأبي حنيفة أن شراء القريب إعتاق كما قالا وقد شاركه
فيه فقد شاركه في علة الإعتاق فيكون راضيا بإفساد نصيبه فلا يضمن ، كما إذا أذن له
بالقول ، ولا فرق بين العلم وعدمه ، لأن الحكم يدار على السبب وهو الشراء ، كما إذا أمر
رجلا بأكل طعام مملوك للآمر ولم يعلم به ؛ ولو اشترى الأجنبي نصفه أولا ثم اشترى الأب
النصف الآخر وهو موسر ، فالأجنبي إن شاء ضمنه لأنه ما رضي بإفساد نصيبه ، وإن شاء
استسعى العبد في نصيبه لاحتباس ماليته عنده ، وقالا : يضمن الأب نصف قيمته لا غير لما
عرف ، ولو اشترى نصف ابنه وهو موسر ممن يملك جميعه لم يضمن للبائع شيئا ، وقالا :
يضمن والأصل ما مر .
قال : ( ولو قال لعبديه : أحدكما حر ثم باع أحدهما أو عرضه على البيع أو دبره أو
مات عتق الآخر ) لأنه خرج بالموت عن محلية العتق ، وبالبيع عن محلية العتق من جهته ،
وبالعرض قصد الوصول إلى الثمن وأنه ينافي الحرية وذلك بالبيع ، وإذا خرج عن محلية(4/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
العتق تعين الآخر ، وبالتدبير قصد بقاء الانتفاع به إلى حين موته ، وأنه ينافي العتق المنجز
فيتعين الآخر .
قال : ( وكذا إذا استولد إحدى الجاريتين ) لأن الاستيلاد كالتدبير فيما ذكرنا وبل أقوى ؛
ولو قال لعبديه : أحدكما حر ثم قال لواحد بعينه : أنت حر ، أو أعتقتك ، فإن نوى البيان
صدّق ديانة والآخر عبد ، وإن لم يكن له نية عتقا ؛ ولو قال لعبديه : أحدكما حر ، فقيل له :
أيهما نويت ؟ فقال : لم أعن هذا عتق الآخر فإن قال بعد ذلك : لم أعن هذا عتق الأول
أيضا ؛ وكذلك طلاق أحدى المرأتين ، بخلاف ما إذا قال لأحد هذين عليّ ألف ، فقيل له :
هو هذا ؟ فقال : لا ، لا يجب للآخر شيء ، والفرق أن التعيين واجب عليه في الطلاق
والعتاق ، فإذا نفاه عن أحدهما تعين الآخر إقامة للواجب ؛ أما الإقرار لا يجب عليه البيان
فيه ، لأن الإقرار للمجهول لا يلزم حتى لا يجبر عليه ، فلم يكن نفي أحدهما تعيينا للآخر ،
ولو أعتق أحدهما في الصحة ثم بيّن في المرض يعتق من جميع المال لأنه أنشأ عتقا مستحقا
عليه فيعتبر من جميع المال كالكفارة . ولو مات قبل البيان عتق من كل واحد نصفه لعدم
الأولوية ، ولا يقوم الوارث مقامه في البيان .
( ولو قال لأمتيه : إحداكما حرة ثم وطئ إحداهما لا تعتق الأخرى ) وقالا : تعتق لأن
الوطء لا يحل إلا في الملك ، وإحداهما حرة فكان بالوطء مستبقيا للملك في الموطوءة
فتتعين الأخرى كما في طلاق إحدى المرأتين . ولأبي حنيفة أن الإيقاع في المنكرة والوطء
في المعينة وهما متغايران فلا يجعل بيانا ؛ ثم قيل العتق غير نازل قبل البيان لتعلقه به ، ولهذا
يملك المولى كسبهما وعقرهما وأرشهما ، ويحل له وطؤهما عنده ولا يفتي به ، وينزل العتق
في إحداهما عند البيان ، وما دام الخيار للمولى فيهما فهما كأمتين . وقيل إنه نازل في المنكرة
وإنما يظهر في حق حكم يقبله والوطء يقع في المعينة فلا تتعين الأخرى ، بخلاف الطلاق ،
لأن المقصود الأصلي من النكاح الولد ، فبالوطء قصد الولد ، فدل على استبقاء الملك في
الموطوءة صيانة للولد ، والمقصود من الأمة قضاء الشهوة دون الولد ، فلا يدل على
الاستبقاء ، ولو وطئ وطئا معلقا فهو بيان ، ولو استخدم طوعا أو كرها لا يكون بيانا
بالإجماع .
( ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه أو إحدى أمتيه فهي باطلة ) وقالا : تقبل ويجبر على(4/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
إيقاعه على أحدهما ، وفي طلاق إحدى امرأتيه تقبل بالإجماع ، ويجبر على أن يطلق
إحداهما ، وهذا بناء على أن دعوى العبد شرط لقبول الشهادة على عتقه عنده خلافا لهما ،
ولا يشترط دعوى الأمة والمرأة لقبول الشهادة على حريتها وطلاقها بالإجماع . لهما أن هذه
شهادة تعلق بها حق الله تعالى ، لأن حقوق الله تعالى تعلق بالحرية من أداء الجمعة الحج
والزكاة وغير ذلك ، فلا يشترط لها الدعوى كالأمة والحرة ، وله أنها شهادة قامت على حقوق
العباد فيشترط لها الدعوى كسائر حقوقهم ، وهذا لأن معظم المقصود من العتق ونفعه يقع
للعبد لأنه يتأهل به للولايات والقضاء والشهادات ، ويرتفع عنه بذلك ذل المليكة ويصير مالكا
إلى غير ذلك من المنافع ، بخلاف الأمة والزوجة فإنه يتضمن تحريم الفرج وأنه حق الله
تعالى حتى لو لم يتضمن تحريم الفرج لا يقبل بأن كانت الشهادة على عتق إحدى الأمتين
بغير عينها فافترقا .
فإذا كانت الدعوى شرطا لقبول الشهادة عنده وهذا الشرط لم يوجد هنا لا تقبل ، لأن
المشهود له مجهول والدعوى من المجهول لا تتحقق ، ولما لم تكن شرطا عندهما قبلت
الشهادة من غير دعوى فيجبره القاضي على التعيين . وأما الشهادة على عتق إحدى الأمتين
فلأن الدعوى وإن لم تكن شرطا في عتق الأمة فإنما لم تقبل لأنها لا تقتضي تحريم الفرج
فصارت كالشهادة على أحد العبدين ، وهذا إذا شهد عليه في صحته ؛ أما إذا شهد أنه أعتق
أحد عبديه في مرض موته أو دبره وأديا الشهادة في مرضه أو بعد موته قبلت استحسانا ، لأن
العتق في المرض وصية ، وكذلك التدبير وصية والخصم معلوم ، لأن العتق يشيع بالموت
فيهما فصار كل واحد منهما متعينا .(4/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
باب التدبير
وهو العتق الواقع عن دبر الإنسان : أي بعده ، وهو مأخوذ منه ؛ وحقيقته أن يعلق عتق
مملوكه بموته على الإطلاق . والأصل في جوازه أنه عتق معلق بشرط فصار كالمعلق بدخول
الدار ، ولأنه وصية للعبد برقبته فصار كغيره من الوصايا ، وهو إيجاب العتق للحال ، وتأخير
ثبوته إلى ما بعد الموت ، لأن ثبوته بعد الموت يستدعي إعتاقا ، والميت ليس أهلا له ،
فلا بد من أن ينعقد التدبير سببا للحرية في الحال ليستفاد منه الحرية في المآل بخلاف المدبر
المقيد لأنه ينعقد سببا للحرية في آخر جزء من أجزاء حياته ، لأن عتقه معلق بموت موصوف
بصفة وأنه مشكوك فيه فلا يفضي إلى الموت قطعا فتعذر اعتباره سببا . أما الموت المطلق
كائن لا محالة فكان مفضيا إلى الموت فأمكن اعتباره سببا للحال .(4/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
قال : ( وإذا قال لعبده : إذا مت فأنت حر ، أو أنت حر عن دبر مني ، أو أنت مدبر ، أو
قد دبرتك ، أو أنت حر مع موتي ، أو عند موتي ، أو في موتي ، أو أوصيت لك بنفسك ، أو
برقبتك ، أو بثلث مالي ، فقد صار مدبرا ) أما لفظ التدبير فهو صريح فيه كلفظ العتق في
الإعتاق ؛ وأما تعليق الحرية بالموت فلأنه معنى التدبير ؛ وأما مع موتي فلأنها للقران
والشروط لا بد من تقديمها ، فكأنه قال : بعد موتي وأنه تدبير ، وعند موتي تعليق العتق
بالموت ، ولا بد من وجوده أولا وفي موتي ، لأن حرف الظرف إذا دخل على الفعل جعله
شرطا ، وكذلك إذا ذكر مكان الموت الوفاة أو الهلاك لأن المعنى واحد .
وأما الوصية بالرقبة ونحوها فلأن العبد لا يملك رقبة نفسه ، والوصية تقتضي زوال
ملك الموصي وانتقاله إلى الموصى له ، وأنه في حق العبد حرية مثل قوله : بعت نفسك
منك ، أو وهبتها لك . وأما الوصية بالثلث ونحوه فلأنه يقتضي ملكه ثلث جميع ماله ورقبته
من ماله فيملكها فيعتق ، وكذلك بسهم من ماله لأنه عبارة عن السدس ؛ ولو قال ؛ بجزء
من ماله لا يكون تدبيرا ، لأنه عبارة عن جزء مبهم والتعيين إلى الورثة فلا تكون رقبته
داخلة في الوصية لا محالة . وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا قال : إذا مت ودفنت أو
غسلت أو كفنت فأنت حر ليس بتدبير لأنه علق العتق بالموت وبمعنى آخر ، والقياس أن
لا يعتق بالموت ، لأن التدبير تعليق بالموت على الإطلاق وهذا تعليق بالموت ، ومعنى آخر
فصار كما إذا قال : إذا مت ودخلت الدار ، لكن استحسن أن يعتق من الثلث لأنه علق
العتق بالموت وبصفة توجد عند الموت قبل استقرار ملك الورثة ، فصار كما إذا علقه
بالموت بصفة ، بخلاف دخول الدار ، لأنه لا تعلق له بالموت فصارت يمينا فتبطل بالموت
كسائر الأيمان ، وفي اختلاف زفر ويعقوب إذا قال : أنت حر إن مت أو قتلت . قال أبو
يوسف : ليس بمدبر .
وقال زفر : هو مدبر لأنه علقه بالموت لا محالة . ولأبي يوسف أنه علق العتق بأحد
أمرين فصار كقوله : إن مت أو مات زيد ، وإذا صح التدبير لا يجوز له إخراجه عن ملكه إلا
بالعتق ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من
الثلث ' ولأنه سبب للحرية في الحال على ما بينا ، وأنه كائن لا محالة ، وفي الهبة والبيع
إبطاله فلا يجوز ، ولأنه أوجب له حقا في الحرية فيمنع البيع كالكتابة والاستيلاد ، وإذا ثبت
هذا فنقول : كل تصرف يجوز أن يقع في الحر يجوز في المدبر كالاستخدام والإجارة
والوطء ، لأن حق الحرية لا يكون أكثر من الحرية ، وكل تصرف لا يجوز في الحر لا يجوز(4/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
في المدبر إلا الكتابة على ما نبينه كالبيع والهبة والرهن . أما البيع والهبة فلما بينا ؛ وأما
الرهن فلأن المقصود منه الاستيفاء ، وما لا يجوز بيعه لا يمكن الاستيفاء منه .
قال : ( وتجوز كتابته ) لأنها تعجيل الحرية المؤجلة ، وله ذلك كما لو نجز العتق ( وإذا
ولدت المدبرة من مولاها صارت أم ولد له وسقط عنها التدبير ) لأنه خير لها فإنه زيادة وصف
وتأكيد ، لأنه تثبت به الحرية بعد الموت بالإجماع ( ولا تسعى في شيء أصلا ، وله استخدامها
وإجارتها ووطؤها ) لأن ملكه ثابت فيها فتنفذ هذه التصرفات ولما بيناه آنفا ( وكسبها وأرشها
للمولى ) لأنها باقية على ملكه ، وإنما تستحق الحرية عند وجود الشرط وقبله هي كالأمة ،
وللمولى تزويجها بغير رضاها لأنه يملك منافع بضعها ، ويملك وطأها وذلك جائز في الحرة
أيضا ، وولد المدبرة مدبر بإجماع الصحابة ، ولأنه وصف لازم فيها فيتبعها فيه كالكتابة . قال :
( وإذا مات المولى عتق من ثلث ماله ) لما روينا من الحديث . ولأنه علق عتقه بالموت فكان
وصية ، والوصية تعتبر من الثلث ( فإن لم يخرج ) من الثلث ( فبحسابه ) معناه : يحسب ثلث
ماله فيعتق منه بقدره ويسعى في باقيه ( وإن كان على المولى دين سعى في كل قيمته ) لما بينا
أنه وصية والدين مقدم على الوصية ، والمراد دين يحيط بالتركة ، والحرية لا يمكن ردها
فوجب عليه السعاية رعاية للجانبين .
قال : ( ولو دبر أحد الشريكين وضمن نصف شريكه ثم مات عتق نصفه بالتدبير وسعى
في نصفه ) لأن نصفه على ملكه عنده من غير تدبير ، وعندهما يعتق جميعه بالتدبير ، لأن
تدبير بعضه تدبير الجميع وهو فرع تجزي الإعتاق ( وإن قال له : إن مت من مرضي هذا أو
في سفري هذا ، أو إن مت إلى عشرين سنة فهو تعليق ) وهو التدبير المقيد ( يجوز بيعه ) لما
بينا أنه ليس بسبب للحال فلا يكون البيع والتصرفات إبطالا للسبب ، ولأنه لم يستحق حق
الحرية لا محالة فلا يكون البيع إبطالا لحق الحرية فيجوز بخلاف المدبر المطلق ( فإن مات
على تلك الصفة عتق ) لوجود الشرط من الثلث لما بينا . وذكر أبو الليث في النوازل ،
والحاكم في المنتقى لو قال لعبده : إن مت إلى مائتي سنة فأنت حر ، فهو مدبر مقيد ، وهو
قول أبي يوسف فيجوز بيعه . وقال الحسن بن زياد : هو مدبر مطلق لا يجوز بيعه ، والمختار
أنه متى ذكر مدة لا يعيش إليها غالبا فهو مدبر مطلق لأنه كالكائن لا محالة .(4/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
باب الاستيلاد
وهو في اللغة : طلب الولد مطلقا ، فإن الاستفعال طلب الفعل . وفي الشرع : طلب
الولد من الأمة ، وكل مملوكة ثبت نسب ولدها من مالك لها أو لبعضها فهي أم ولد له لأن
الاستيلاد فرع لثبوت الولد ، فإذا ثبت الأصل ثبت فرعه . قال : ( لا يثبت نسب ولد الأمة من
مولاها إلا بدعواه ) لأنه لا فراش لها ، فإن غالب المقصود من وطء الأمة قضاء الشهوة دون
الولد ، فإن أشراف الناس يمتنعون من وطء الإماء تحرزا عن الولد لئلا يعير ولده بكونه ولد
أمة ، فيشترط لثبوته دعواه لهذا المعنى ، ولهذا جاز له العزل في الأمة دون الزوجة ، لأن
المراد من وطء الزوجة طلب الولد غالبا .
قال عليه الصلاة والسلام : ' تناكحوا تكثروا ' إشارة إلى أن المراد من شرعية النكاح
التوالد والتناسل ، ثم إن كان يطؤها ولا يعزل عنها لا يحل له نفيه فيما بينه وبين الله تعالى ،
ويلزمه أن يعترف به لأن الظاهر أنه منه ، وإن كان يعزل عنها ولم يحصنها جاز له النفي
لتعارض الظاهرين وقال أبو يوسف : إن كان يطؤها ولم يحصنها أحب إليّ أن يدعيه . وقال
محمد : أحب إليّ أن يعتق ولدها ويستمتع بها فإذا مات أعتقها . لأبي يوسف أنه يجوز أن
يكون منه فلا ينفيه بالشك . ولمحمد أنه يجوز أن يكون منه ويجوز أن لا يكون منه فلا
يجوز التزامه بالشك . أما العتق فيحتمل أن يكون عبدا ويحتمل أن يكون حرا فلا يسترقّه
بالشك ، ويستمتع بالأم لأنه مباح له وإن ثبت نسبه ، فإذا مات أعتقها حتى لاتسترق بالشك .(4/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
( فإذا اعترف به صارت أم ولده ، فإذا ولدت منه بعد ذلك ثبت بغير دعوة ) لأنه لما
ادعى الأول وثبت نسبه تبين أنه قصد الولد فصارت فراشا فيثبت بغير دعوة كالمنكوحة
( وينتفي بمجرد نفيه بغير لعان ) لأن فراشها ضعيف حتى يقدر على إبطاله بالتزويج وبالعتق
فينفرد بنفيه ، بخلاف النكاح فإن فراشه قوي لا يملك إبطاله فلا ينتفي ولده إلا باللعان ؛ ولو
أقر أن أمته حبلى منه ثم جاءت بولد لستة أشهر ثبت نسبه منه وصارت أم ولد له ، ولأكثر
من ستة أشهر لا ، وسواء كان الولد حيا أو ميتا أو سقطا قد استبان خلقه أو بعض خلقه إذا
أقر به وهو بمنزلة الكل لأن السقط تتعلق به أحكام الولادة على ما مر ، وإن لم يستبن شيء
من خلقه وألقته مضغة أو علقة فادعاه لم تصر أم ولد له ، رواه الحسن عن أبي حنيفة لأنه
يحتمل أن يكون دما أو لحما فلا يثبت الاستيلاد بالشك ، ولو حرم وطؤها عليه بعد ذلك
بوطء أبيه أو ابنه ، أو بوطئه أمها أو بنتها لم يثبت نسب ما تلده بعد ذلك إلا بالدعوة لأن
فراشها انقطع ؛ وإذا ولدت الأمة من رجل ولدا لم يثبت نسبه منه بأن زنى بها ثم ملكها
وولدها عتق الولد وجاز له بيع الأم . وقال زفر : لا يجوز لأن الحرية تثبت للولد بالولادة
فيثبت لأمه الاستيلاد كالثابت النسب . ولنا أن الاستيلاد يتبع النسب ولهذا يضاف إليه ، فيقال
أم ولده ، وهو الذي يثبت لها الحرية ، قال عليه الصلاة والسلام : ' أعتقها ولدها ' ولم
يثبت النسب فلا يثبت التبع . وأما حرية الولد فلأنها تثبت بحكم الجزئية ، وصار كما لو أعتقه
بالعتق .
قال : ( ولا يجوز إخراجها من ملكه إلا بالعتق ) فلا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها
بوجه ما . والأصل في ذلك ما روى محمد بن الحسن بإسناده أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعتق أمهات
الأولاد من جميع المال ، وقال : ' لا يعرن ولا يبعن ' وعن عمر رضي الله عنه أنه كان
ينادي على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ، ولا رق عليها بعد موت
مولاها ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فحل محل الإجماع . وعن ابن عباس أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال حين ولدت أم إبراهيم : ' أعتقها ولدها ' . وعن سعيد بن المسيب ' أن
النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعتق أمهات الأولاد ، ولا يسعين في الدين ، ولا يجعلن من
الثلث ' . وروى عبيدة السلماني قال : قال علي بن أبي طالب : اجتمع رأيي ورأي عمر في
نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عتق أمهات الأولاد ، ثم رأيت بعد أن يبعن في الدين ،
فقال عبيدة السلماني : رأيك ورأي عمر في جماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة ، قال علي(4/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
رضي الله عنه : إن السلماني لفقيه ، ورجع عن ذلك . قال : ( وله وطؤها واستخدامها وإجارتها
وكتابتها ) لأن الملك قائم فيها كالمدبرة ، فإن كل واحد منهما عتق معلق بالموت ، والكتابة
تعجيل العتق على ما بيناه في المدبر ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفارق مارية بعد ما
ولدت .
قال : ( وتعتق بعد موته من جميع المال ، ولا تسعى في ديونه ) لما تقدم من الأحاديث
( وحكم ولدها من غيره بعد الاستيلاد حكمها ) لما تقدم أن الحكم المستقر في الأم يسري إلى
الولد . قال : ( وإذا أسلمت أم ولد النصراني سعت في قيمتها وهي كالمكاتبة ) لا تعتق حتى
تؤدي . وقال زفر : تعتق للحال والسعاية دين عليها ، لأن زوال رقه عنها واجب بالإسلام إما
بالبيع أو بالإعتاق ، وقد تعذر البيع بالاستيلاد فتعين العتق . ولنا أن ما قلناه نظر لهما ، لأن
ذل الرق يندفع عنها بجعلها مكاتبة لأنها تصير حرة يدا ، ويندفع الضرر عن الذمي فتسعى في
الأداء لتنال الحرية ، ولو قلنا بعتقها في الحال وهي معسرة تتوانى عن الاكتساب والأداء إلى
الذمي فيتضرر ، وهي وإن لم تكن متقومة فهي محترمة وهو يكفي للضمان ، كما إذا عفا أحد
الشركاء عن القصاص يجب المال للباقين ، وهذا إنما يجب عليها إذا عرض عليه الإسلام
فأبى حتى يجب زوال ملكه عنها ؛ أما إذا أسلم فهي أم ولده على حالها كما قلنا في النكاح :
( ولو مات سيدها عتقت بلا سعاية ) لأنها أم ولد . قال : ( ولو تزوج أمة غيره فجاءت
بولد ثم ملكها صارت أم ولد له ) وكذا لو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم عادت إلى
ملكه فهي أم ولد له ، لأن نسب الولد ثابت منه فتثبت أمية الولد لأنها تتبعه على ما مر ،
ولأن الاستيلاد حرية تتعلق بثبوت النسب ، فإذا جاز أن يثبت النسب في غير الملك جاز أن
يثبت ما يتعلق به أيضا تبعا له ، بخلاف ما إذا ولدت منه من زنا على ما بينا .
قال : ( ولو وطئ جارية ابنه فولدت وادعاه ثبت نسبه وصارت أم ولد له ، وعليه قيمتها
دون عقرها وقيمة ولدها ) لأن للأب أن يتملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء للمأكل والمشرب ،
فله أن يتملك جاريته للحاجة إلى صيانة مائه وبقاء نسله ، لأن كفاية الأب على ابنه لما مر في
النفقات ، إلا أن حاجته إلى صيانة مائه وبقاء نسله دون حاجته إلى بقاء نفسه ، فلهذا قلنا
يتملك الجارية بقيمتها ، والطعام بغير قيمة ، ويثبت له هذا الملك قبيل الاستيلاد ليثبت
الاستيلاد ، ولأن المصحح للاسيتلاد إما حقيقة الملك أو حقه ، ولا بد من ثبوته قبل العلوق(4/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
ليلاقي ملكه فيصح الاستيلاد ، وإذا صح في ملكه لا عقر عليه ولا قيمة الولد لما أن العلوق
حدث على ملكه ؛ ولو أن الابن زوجها من الأب فولدت منه لم تصر أم ولد لأن ماءه صار
مصونا بالنكاح فلا حاجة إلى الملك ولا قيمة عليه لأنه لم يملكها ، وعليه المهر لأنه التزمه
بالنكاح وولدها حر لأنه ملكه أخوه فيعتق عليه لما بيناه ؛ وأصله أن هذا النكاح صحيح لأنه
لا ملك للأب فيها ، لأن الابن يملك فيها جميع التصرفات وطئا وبيعا وإجارة وعتقا وكتابة
وغير ذلك ، والأب لا يملك شيئا من ذلك ، وأنه دليل انتفاء ملك الأب وعدم وجوب الحد
على الأب بوطئها للشبهة ، وإذا انتفى ملك الأب جاز نكاحه كما إذا تزوج الابن جارية
الأب . قال : ( والجد كالأب عند انقطاع ولايته ) لأنه يقوم مقامه ومع ولايته لا ولاية للجد ،
والولاية تنقطع بالكفر والرق والردة واللحاق والموت .
قال : ( جارية بين اثنين ولدت فادعاه أحدهما ثبت نسبه ) لأنه لما ثبت النسب في نصفه
لمصادفته ملكه ثبت في الباقي لأنه لا يتجزى ، لأن سببه وهو العلوق لا يتجزى ، فإن الولد
الفرد لا ينعلق من ماء رجلين وصارت أم ولد له وهذا عندهما ظاهر ، لأن الاستيلاد لا
يتجزى ، وأما عنده فنصيبه يصير أم ولد ويتملك نصيب صاحبه لأنه قابل للملك فيكمل له
فيصير الكل أم ولد ( وعليه نصف قيمتها ) لأنه تملكه ( و ) عليه ( نصف عقرها ) لوطئه جارية
مشتركة لأن الملك يتعقب الاستيلاد حكما له ( ولا شيء عليه من قيمة ولدها ) لأن النسب
يثبت مستندا إلى وقت العلوق ولم ينعلق شيء منه على ملك شريكه .
قال : ( وإن ادعياه معا صارت أم ولد لهما ) لصحة دعوى كل واحد منهما في نصيبه في
الولد ، والاستيلاد يتبع الولد ( ويثبت نسبه منهما ) لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى
شريح في هذه الحادثة : لبسا فلبس عليهما ، ولو بينا لبين لهما ، هو ابنهما يرثهما ويرثانه ،
وهو للباقي منهما ، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا ، ومثله عن
علي رضي الله عنه أيضا ، ولأنهما مستويان في سبب الاستحقاق وهو الملك فيستويان في
الاستحقاق . وما روي من حديث المدلجي وأسامة بن زيد وفرح النبي عليه الصلاة
والسلام . قلنا : لم يثبت ذلك عنده عليه الصلاة والسلام بقول القائف ، فإنه عليه الصلاة
والسلام كان يعلم ذلك ولكن المشركون كانوا يطعنون في نسب أسامة ، فكان قول القائف(4/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
قاطعا لطعنهم ، لأنهم كانوا يعتقدونه في الجاهلية لا أنه حكم شرعي ، فلذلك فرح
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما كون النسب لا يتجزأ فتعلق به أحكام متجزئة ، فما لا يتجزأ يثبت في حق
كل واحد منهما كملا ، وما يقبله يثبت في حقهما متجزئا عملا بالدلائل بقدر الإمكان .
( وعلى كل واحد منهما نصف عقرها ) ويسقط قصاصا بما له على الآخر ، إذ لا فائدة
في قبضه وإعطائه ( ويرث من كل واحد منهما كابن ) لأنه لما أقر أنه ابنه فقد أقر له بميراث
ابن ( ويرثان منه كأب واحد ) لاستوائهما في الاستحقاق كما إذا أقاما البينة ، فإن كانت الجارية
بين أب وابن فهو للأب ترجيحا لجانبه لما له من الحق في نصيب الابن كما تقدم ، وإن
كانت بين مسلم وذمي فهو للمسلم ترجيحا للإسلام . وقال زفر : هما سواء في المسألتين
لاستوائهما في الملك الموجب . قلنا دعوة الأب راجحة بدليل أنه لو ادعى نسب ولد جارية
الابن يصح وبالعكس لا ، والمسلم راجح بالإسلام ولأنه أنفع للصغير .(4/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
كتاب المكاتب
الكتابة مستحبة مندوبة ، قال تعالى : ) فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ( [ النور : 33 ]
والمراد الندب ، لأن الإيجاب غير مراد بالإجماع ، ولو حملناه على الجواز يلزم ترك العمل
بالشرط لأنها جائزة بدونه بالإجماع ، وقوله : ) إن علمتم فيهم خيرا ( خرج مخرج العادة ، أو
نقول : إن لم يعلم فيه خيرا فالأفضل أن لا يكاتبه ، ولما فيها من السعي في حصول الحرية
ومصالحها ، وهي مشروعة بما تلونا من الكتاب وبالسنة ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام :
' من كاتب عبدا على مائة أوقية فأداها كلها إلا عشرة أواق فهو عبده ' قال عليه الصلاة
والسلام : ' المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ' وعلى جوازها الإجماع .
قال : ( ومن كاتب عبده على مال فقبل صار مكاتبا ) أما الجواز فلما بينا ، وأما شرط
القبول فلأنه مال يلزمه فلا بد من التزامه وذلك بالقبول ، ولا يعتق إلا بأداء جميع البدل لما
روينا من الحديث ، فإذا أداه عتق ، وإن لم يقل له المولى إن أديته فأنت حر لأنه موجب
العقد فيثبت من غير شرط كما في البيع .
( والصغير الذي يعقل كالكبير ) وهي فريعة الإذن للصبي العاقل . قال : ( وسواء شرطه
حالا أو مؤجلا أو منجما ) لإطلاق النصوص ؛ وقيد التأجيل زيادة على النص فيرد كما في(4/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
سائر المعاوضات ؛ بخلاف السلم لأن المسلم فيه معقود عليه وهو بيع المفاليس على ما بيناه
في السلم ، فلا بد من زمان يقدر على تحصيله ، أما هنا البدل معقود به فلا يشترط قدرته
عليه كالثمن في البيع إذا كان المشتري مفلسا أو أفلس بعد الشراء ، ويجوز أن يقترض البدل
ويوفيه في الحال ؛ أما المسلم فيه لو قدر عليه بأن كان له أو اقترضه لما باعه بأوكس الثمنين
ولباعه فيمن يزيد بقيمة الوقت ، وإذا كاتبه حالا فكما امتنع من الأداء يرد في الرق لأنه عجز ،
وعجز المكاتب يوجب رده إلى الرق .
قال : ( وإذا صحت الكتابة يخرج عن يد المولى دون ملكه ) حتى يصير أحق بمنافعه
وأكسابه ، لأن المطلوب من الكتابة وصول المولى إلى البدل ووصول العبد إلى الحرية بأداء
بدلها ، ولا يتحقق ذلك إلا بفك الحجر عنه وثبوت حرية اليد حتى يتجر ويكتسب ويؤدي
البدل ، فإذا أدى عتق هو وأولاده بعتقه وخرج عن ملك المولى أيضا عملا بمقتضى العقد
كما مر . قال : ( وإذا أتلف المولى ماله غرمه ) لما بينا أن أكسابه له ، فيكون المولى فيها
كالأجنبي ، ولأنه لو لم يضمنه لتسلط على إتلافه فلا يقدر على أداء الكتابة فلا يحصل
المقصود بالعقد ( وإن وطئ المكاتبة فعليه عقرها ) لأنه من أجزائها وهي أخص بها تحقيقا
للمقصود وهو وصولها إلى الأداء ، ولهذا لو وطئت بشبهة أو جنى عليها كان عقرها وأرش
الجناية لها . قال : ( ولو جنى عليها أو على ولدها لزمه الأرش ) لما بينا قال : ( وإن أعتق
المولى المكاتب نفذ عتقه ) لبقائه على ملكه رقبة ( وسقط عنه مال الكتابة ) لحصول المقصود
بدونه وهو العتق ، وكذلك لو أبرأه عن البدل أو وهبه منه فإنه يعتق قبل أو لم يقبل لأنه أتى
بمعنى العتق وهو إبراؤه من البدل وإسقاطه عنه ، إلا أنه إذا قال لا أقبل عتق وبقي البدل دينا
عليه لأن هبة الدين ترتد بالرد والعتق لا .
قال : ( وهو كالمأذون في جميع التصرفات ) ويمنع من التبرعات إلا ما جرت به
العادة كما عرف ثم ، لأن مقتضاها إطلاق تصرفه في التجارات للاكتساب كالمأذون ( إلا
أنه لا يمتنع بمنع المولى ) لأن ذلك يؤدي إلى فسخ الكتابة ، والمولى لا يملك فسخ
الكتابة لأنه من جانبه تعليق العتق فلا يملك فسخه والرجوع عنه . قال : ( وله أن يسافر )
لأنه من باب التجارة والاكتساب ، وإن شرط المولى أن لا يخرج من بلده فله السفر
استحسانا لأنه شرط يخالف موجب العقد ، وهو حرية اليد والتفرد بالتصرف فيبطل ، إلا أنه
لا يفسد العقد لأنه لم يتمكن في صلبه ، ومثله لا يفسد الكتابة ( ويزوج الأمة ) لأنه من(4/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
الاكتساب فإنه يوجب لها النفقة والمهر ، بخلاف العبد فإنه يوجبهما في رقبته قال : ( ويكاتب
عبده ) لأنه من أنواع الاكتساب فصار كالبيع بل هو أنفع لأنه لا يزول ملكه عنه إلا بعد
وصول البدل إليه ، وفي البيع يزول الملك بالعقد ؛ والقياس أنه لا يجوز لأن مآله إلى العتق
فصار كالإعتاق على مال ، وجوابه ما قلنا ، بخلاف العتق على مال ، فإنه بالعتق يخرج عن
ملكه ، وقد لا يصل إلى البدل لإفلاس العبد وعجزه عن الاكتساب ، ولأنه يوجب للمعتق
أكثر ما وجب له ، والشيء لا يتضمن ما هو فوقه ، بخلاف الكتابة فإنه يثبت للثاني مثل ما
ثبت له وفيه احتياط .
قال : ( فإن أدى قبله فولاؤه للمولى ) معناه : إذا أدى المكاتب الثاني قبل الأول ، لأن
للمولى فيه نوع ملك فيصح إضافة الإعتاق إليه لأنه مسبب عند تعذر إضافتها إلى المباشر
كالوكيل ، فإذا أدى الأول بعد ذلك وعتق لم ينتقل إليه الولاء ، لأن المولى جعل معتقا بسبب
صحيح فلا ينتقل عنه ( وإن أدى الأول قبله فولاؤه له ) لأنه إذا أدى الأول عتق وصار أهلا
فيضاف إليه لأنه الأصل . قال : ( وإن ولد له من أمته ولد فحكمه كحكمه وكسبه له ) لأنه لو
كان حرا عتق عليه ، فإذا كان مكاتبا يتكاتب عليه تحقيقا للصلة بقدر الإمكان ، وإذا دخل في
كتابته كان كسبه له ، لأن كسب ولده كسب كسبه . قال : ( وكذلك ولد المكاتبة معها ) لأنه
ثبت فيها صفة امتناع البيع فيسري إلى الولد كالتدبير ونحوه .
قال : ( ولو زوج أمته من عبده ثم كاتبهما فولدت دخل في كتابة الأم ) لرجحان جانب
الأم كما مر في الحرية والرق . قال : ( وإن ولدت من مولاها إن شاءت مضت على الكتابة
وإن شاءت صارت أم ولد له وعجزت نفسها ) لأنه صار لها جهتا حرية : عاجل ببدل الكتابة
وآجل بغير بدل وهي أمية الولد فتختار أيهما شاءت ، وولدها ثابت النسب من المولى لأن
ملكه ثابت في الأم وهو كاف للاستيلاد وهو حر ، لأن المولى يملك إعتاق ولدها ، فإن
عجزت نفسها وصارت أم ولد فحكمها ما تقدم ، وإن مضت على الكتابة فلها أخذ العقر لما
قدمناه ، فإن مات المولى بعد ذلك عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة ، وإن ماتت قبله
وتركت مالا يؤدى منه بدل الكتابة ، وما بقي يرثه ابنها كما عرف ، وإن لم يترك وفاء فلا
سعاية على الولد لأنه حر ، فإن ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى إلا بدعوة لحرمة وطئها
عليه ، فإن لم يدعه حتى ماتت من غير وفاء سعى الولد الثاني لأنه مكاتب تبعا لها ، فلو مات
المولى بعدها عتق وبطلت عنه السعاية لأنه في حكم أم الولد . قال : ( وإن كاتب أم ولده(4/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
جاز ) لما مر في الاستيلاد ( فإذا مات سقط عنها مال الكتابة ) لأنها عتقت بالاستيلاد ، والبدل
وجب لتحصيل العتق وقد حصل ، ويسلم لها الأولاد والأكساب لما بينا ، وإن أدت قبل موت
المولى عتقت بمقتضى عقد الكتابة ( وإن كانت مدبرة جاز ) لما مر في التدبير .
( فإن مات المولى ولا مال له إن شاء سعى في ثلثي قيمته أو جميع بدل الكتابة ) وقال
أبو يوسف : يسعى في الأقل منهما . وقال محمد : يسعى في الأقل من ثلثي قيمته وثلثي بدل
الكتابة ، فالتخيير مذهب أبي حنيفة وحده ، ومحمد وحده خالف في المقدار ، فخلافهم في
التخيير بناء على اختلافهم في تجزي الإعتاق ؛ فعند أبي حنيفة لما تجزى عتق ثلثه بالموت
وبقي ثلثاه فقد توجه له وجها عتق : معجل وهو السعاية بالتدبير ، ومؤجل ببدل الكتابة فيختار
أيهما شاء ؛ وعندهما عتق كله لما عتق بعضه ، وقد وجب عليه أحد المالين فيؤدي أقلهما
لأنه يختار الأقل لا محالة ؛ ولمحمد في المقدار أن البدل مقابل بالكل ، وقد سلم له الثلث
بالتدبير فيسقط بقدره ، لأنه ما أوجب البدل في مقابلة الثلثين ، ألا ترى أنه لو خرج من الثلث
سقط عنه جميع البدل ، فإذا خرج ثلثه سقط الثلث وصار كما إذا دبر مكاتبه ومات فإنه يسعى
في الأقل من ثلثي القيمة وثلثي البدل كذا هذا . ولهما أنه قابل جميع البدل بثلثي رقبته فلا
يسقط منه شيء ، وهذا لأنه بالتدبير استحق حرية الثلث ظاهرا ، والعاقل لا يلتزم المال بمقابلة
ما يستحقه من حريته وصار كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كانت الألف
مقابلة بالواحدة الباقية لدلالة الإرادة كذا هذا ، بخلاف ما إذا دبر مكاتبه لأن البدل مقابل
بالجميع إذ لا استحقاق له في شيء بالكتابة فافترقا .
فصل
( وإذا كاتب المسلم عبده على خمر ، أو خنزير ، أو على قيمة العبد ، أو على ألف
على أن يرد إليه عبدا بغير عينه فهو فاسد ) لأن الخمر والخنزير ليسا بمال في حق
المسلم فلم يصلحا بدلا ، والقيمة مجهولة القدر والجنس والصفة ، فصار كالكتابة على
ثوب أو دابة فإنه لا يجوز لتفاحش الجهالة كذا هذا . وأما الثالثة فمذهب بأبي حنيفة(4/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
ومحمد . قال أبو يوسف : هي جائزة ويقسم الألف على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد
وسط فيبطل منها حصة العبد ويصير مكاتبا بالباقي ، لأنه لو كاتبه على عبد صح وانصرف
إلى عبد وسط فكذا يصح استثناؤه منه . ولهما أن المستثني مجهول فيوجب جهالة المستثنى
منه ، ولأن العبد لا يصح مستثنى من الألف ، وإنما المستثنى قيمته ، والقيمة لا تصلح بدلا
فلا تصلح مستثنى .
قال : ( فإن أدى الخمر عتق ) باعتبار التعليق ، وإن لم ينص على التعليق ، لأن الفاسد
معتبر بالجائز كالبيع . وقال زفر : لا يعتق إلا بأداء قيمة الخمر ، لأن القيمة هي البدل . وقال
أبو يوسف : يعتق بأداء كل واحد منهما ، أما الخمر فلأنه بدل صورة ، وأما البدل فبدل
معنى . وعن أبي حنيفة إنما يعتق بأداء عين الخمر إذا قال : إن أديتها فأنت حر للتنصيص
على التعليق ، وفي ظاهر الرواية لم يفصل على ما مر .
قال : ( وإذا عتق بأداء الخمر فعليه قيمة نفسه ) كما قلنا في البيع الفاسد إذا هلك المبيع
( لا ينقص عن المسمى ويزاد عليه ) لأنه عقد فاسد فتجب القيمة عند الهلاك بالغة ما بلغت
كالمبيع فاسدا ، ولأن المولى ما رضي بالنقصان والعبد رضي بالزيادة خوفا من بطلان العتق
فتجب الزيادة .
قال : ( وفيما إذا كاتبه على قيمته يعتق بأداء القيمة ) لأنه هو البدل فيعتق كالخمر ، وأثر
الجهالة في الفساد ، بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب حيث لا يعتق بأداء ثوب لفحش الجهالة
فإنه لا يدري أي ثوب أراد المولى ، ولا يثبت العتق بدون إرادته .
قال : ( والكتابة على الدم والميتة باطلة ) لأنهما ليسا بمال أصلا ولا موجب لها ، ولو
علق العتق بأدائهما عتق بالأداء لوجود الشرط ولا شيء عليه لعدم المالية .
قال : ( و ) الكتابة ( على الحيوان والثوب كالنكاح ) إن عين النوع صح ، وإن أطلق لا
يصح وتمامه عرف في النكاح ، ولو علق عتقه بأداء ثوب أو دابة أو حيوان فأدى لا يعتق
الجهالة الفاحشة على ما بيناه ، وإن كاتبه على حيوان موصوف فأدى القيمة أجبر على قبولها
كما قلنا في المهر .
قال : ( ولو كاتب الذمي عبده على خمر جاز ) إذا ذكر قدرا معلوما ، وكذلك إذا
كاتبه على خنزير لأنه مال في حقهم ( وأيهما أسلم فللمولى قيمة الخمر ) لأنه إن كان
العبد هو المسلم فهو ممنوع من تمليكها ، وإن كان المولى فهو ممنوع من تملكها
فوجبت القيمة ، وأيهما أدى عتق ، لأن القيمة تصلح بدلا كالكتابة على حيوان موصوف
فيعتق بأيهما كان .(4/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
فصل
( ولو كاتب عبديه كتابة واحدة إن أديا عتقا ، وإن عجزا ردا إلى الرق ولا يعتقان إلا
بأداء الجميع ) لأن الكتابة واحدة وشرطه فيها معتبر ( ولا يعتق أحدهما بأداء نصيبه ) لما قلنا
( فإن عجز أحدهما فرد إلى الرق ) إما بتصالحهما أو رده القاضي ولم يعلم الآخر بذلك ( ثم
أدى الآخر جميع الكتابة عتقا ) لأنهما كشخص واحد ؛ ألا ترى أنهما لا يعتقان إلا بأداء
الجميع ، فكذا لا يردان إلا بعجزهما ، ولأن الغائب يتضرر بهذا القضاء لأنه لو نفذ تسقط
حصته من البدل ولا يعتق بأداء حصته ، والحاضر ليس بخصم عنه فيما يضره ، وكذا لو سعى
بعد ذلك وأدى نجما أو نجمين ثم عجز ورد في الرق فهو باطل ، لأن رده الأول لما لم
يصح صار كالعدم فلا يتحقق العجز لاحتمال قدرة الأول .
قال : ( ولو كانا لرجلين فكاتباهما كذلك فكل واحد منهما مكاتب بحصته يعتق بأدائها )
لأن كل واحد منهما إنما استوجب البدل على مملوكه ، ويعتبر شرطه في مملوكه لا في
مملوك غيره ، بخلاف المسألة الأولى لأن شرطه معتبر في حقهما لأنهما مملوكاه . قال : ( وإن
كاتبهما على أن كل واحد منهما ضامن عن الآخر جاز ) استحسانا ، ويجعل كل واحد منهما
أصيلا في وجوب الألف عليه ويكون عتقهما معلقا بأدائه ويجعل كفيلا بالألف في حق
صاحبه تصحيحا لتصرفهم لحاجتهم إلى الخروج عن الرق ، وإذا كان كذلك .
( فأيهما أدى عتقا ) لوجود الشرط ( ويرجع على شريكه بنصف ما أدى ) لأنه قضى دينا
عليه بأمره فيرجع عليه تحقيقا للمساواة بينهما ، ولو لم يرجع بشيء أو رجع بالجميع لا
تحصل المساواة بينهما ، ولو أعتق المولى أحدهما قبل الأداء عتق لما بينا وسقطت حصته لما
تقدم ويبقى على الآخر النصف لأن البدل مقابل برقبتيهما على الحقيقة ، وإنما جعلناه على
كل واحد منهما احتيالا لصحة الكفالة وبعتق أحدهما استغنيا عن ذلك ، وإذا كان مقابلا
بالرقبتين تنصف وللمولى أن يأخذ بالنصف الباقي أيهما شاء المعتق بالكفالة وصاحبه
بالأصالة ؛ ولو كاتب نصف عبده جاز وصار نصفه مكاتبا ، وعندهما يصير كله مكاتبا بناء
على تجزي الإعتاق وعدمه ، فيصير نصفه مكاتبا ونصفه مأذونا في التجارة ، لأن الإذن لا
يتجزى ، ونصف أكسابه له ونصفها للمولى ، فإذا أدى عتق نصفه وسعى في نصف قيمته ، ولا
حق للمولى في أكسابه بعد العتق لأنه مستسعى وهو كالمكاتب عنده ، ولا حق للمولى في
أكساب المكاتب .(4/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
فصل
( وإذا مات المكاتب وترك وفاء أديت مكاتبته وحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء
حياته ويعتق أولاده ، فإن فضل شيء فلورثته ) روي ذلك عن علي وابن مسعود ، ولأنه عقد
معاوضة لا ينفسخ بموت أحدهما وهو المولى فلا ينفسخ بموت الآخر تسوية بينهما كما في
البيع ، ولأن البدل كان في ذمته ولم تبق صالحة لذلك بالموت ، ولهذا حل به الأجل فينتقل
إلى التركة كسائر الديون فخلت الذمة ، وخلو الذمة يوجب العتق ، إلا أنه لا يحكم بالعتق
حتى يصل المال إلى المولى مراعاة لحقه ، وليتحقق خلو ذمته لاحتمال هلاك تركته قبل
الأداء ، فإذا وصل حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فيموت حر ويعتق أولاده تبعا
له على ما قدمناه ، فإن فضل شيء فلورثته لأنه حر وهم أحرار .
( فإن لم يترك وفاء وترك ولدا في الكتابة سعى كالأب ) معناه على نجومه ، فإذا أدى
حكم بعتق ابنه قبل موته وعتق الولد لأنه داخل في كتابة أبيه ، لأنه وقت العقد كان من أجزاء
الأب متصلا به فورد العقد عليه فدخل في كتابته وكسبه ككسبه فيخلفه في الأداء وصار كما
إذا ترك وفاء . قال : ( وإن ترك ولدا مشترى فإن أدى الكتابة حالا وإلا رد في الرق ) وقالا : هو
كالمولود في الكتابة لأنه يتكاتب عليه تبعا له فاستويا . ولأبي حنيفة أن المشتري لم يدخل
تحت العقد لأن العقد لم يضف إليه لانفصاله عن الأب وقت العقد فلا يسري إليه حكمه ،
بخلاف المولود في الكتابة ، لأنه متصل به حالة العقد فسرى العقد إليه ودخل في حكمه
فسعى في نجومه ، إلا أن المشتري إذا أدى في الحال يصير كأن المكاتب مات عن وفاء
فيحكم بعتقه آخر عمره فيعتق ولده تبعا على ما بينا .
قال : ( وإذا مات المولى أدى الكتابة إلى ورثته على نجومه ) لأنهم يخلفونه في الاستيفاء
( وإن أعتقه أحدهم لم يعتق ) لعدم الملك فإنه لا يملك بسائر أسباب الملك فكذا بالإرث
( وإن أعتقوه جميعا عتق ) لأنه يصير إبراء عن بدل الكتابة ، لأن الإرث يجري في البدل ،(4/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
والإبراء عنه موجب للعتق كما لو أبرأه المولى إلا أن إعتاق البعض لا يوجب إسقاط نصيب
من البدل ، لأنه لا يمكن جعله إبراء مقتضي للعتق ولا عتق ، فإنه لو أعتقه البعض لا يعتق ،
ولا يمكن أن يجعله إبراء عن الكل لتعلق حق الغير به . قال : ( وإذا عجز المكاتب عن نجم
نظر الحاكم ، فإن كان له مال يرجو وصوله أنظره يومين أو ثلاثة ولا يزاد عليها ) لأن في ذلك
نظرا للجانبين ، والثلاث مدة تضرب لإبلاء الأعذار كما في إمهال المديون للقضاء ونحوه .
( وإن لم يكن له جهة عجزه وعاد إلى أحكام الرق ) وقال أبو يوسف : لا يعجزه حتى
يتوالى عليه نجمان وهو مأثور عن علي رضي الله عنه . ولهما أن العجز سبب للفسخ وقد
تحقق ، فإن من عجز عن نجم كان عن نجمين أعجز ، ولأنه فات مقصود المولى وهو
وصول المال إليه عند حلول النجم فلم يكن راضيا فيفسخ ، واليومان والثلاثة لا بد منهما
لإمكان الأداء وليس بتأخير ، والأثر معارض بما روي ' أن ابن عمر رضي الله عنهما عجز
مكاتبة له حين عجزت عن نجم واحد وردها إلى الرق فتعارضا ' فإن عجز عن نجم عند غير
القاضي فرده مولاه برضاه جاز ، لأن الفسخ بالتراضي يجوز من غير عذر فبعذر أولى ، وإن
أبى العبد ذلك فلا بد من القضاء بالفسخ لأنه عقد لازم فلا بد في فسخه من القاضي أو
الرضى كسائر العقود ، وإذا فسخه عاد إلى أحكام الرق ، لأن بالفسخ تصير الكتابة كأن لم
تكن ، وما في يده من أكسابه لمولاه لأنها كسب عبده ، والله أعلم .(4/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
كتاب الولاء
( وهو نوعان : ولاء عتاقة ) ويسمى ولاء نعمة ( وولاء موالاة ؛ وسبب ولاء العتاقة
الإعتاق ) لإضافته إليه ، والحكم يضاف إلى سببه ، وسواء كان ببدل أو بغير بدل أو للكفارة أو
لليمين أو بالنذر ( وعتق القريب بالشراء ، والمكاتب بالأداء ، والمدبر ، وأم الولد بالموت
إعتاق ) لأن جميع ذلك يضاف إليه فيكون من جهته فيدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام :
' الولاء لمن أعتق ' والمقصود من الولاء بنوعيه التناصر ، وكانت الجاهلية يتناصرون بأشياء :
منها الحلف وغيره ، فقرر ( صلى الله عليه وسلم ) تناصرهم بنوعي الولاء فقال : ' مولى القوم منهم ' وقال :
' حليف القوم منهم ' والمراد بالحليف مولى الموالاة فإنهم كانوا إذا عقدوا عقد الولاء
أكدوها بالحلف .(4/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
قال : ( ويثبت للمعتق ذكرا كان أو أنثى ، وإن شرطه لغيره أو سائبة ) لإطلاق ما روينا
( ولا ينتقل عنه أبدا ) لأنه عتق على ملكه وتأكد السبب من جهته فلا ينتقل عنه ( فإذا مات فهو
لأقرب عصبته فيكون لابنه دون أبيه إذا اجتمعا ) وفيه اختلاف ذكرته ودلائله في الفرائض من
هذا الكتاب بعون الله تعالى . قال : ( وإن استووا في القرب فهم سواء ) لاستوائهم في العلة
وهي القرابة والعصوبة .
قال : ( وليس للنساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتق من أعتقن أو جر ولاء
معتقهن ) لأنهن لسن بعصبة ، أو لأن السبب النصرة ولسن من أهلها ، ولقوله عليه الصلاة
والسلام : ' ليس للنساء من الولاء إلا من أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من
كاتبن أو جر ولاء معتقهن أو معتق معتقهن ' وهذا دليل على ثبوت الولاء لهن إذا أعتقن أو
كن سببا في الإعتاق ، وينفي ثبوت الولاء لهن بعد ذلك ، ويؤيد هذا حديث ابن حمزة وقد
ذكر في الفرائض أيضا ، ولأنها ساوت الرجل في السبب وهو الإعتاق ، فإذا استحقت ميراث
معتقها فكذا معتق معتقها لأنها تسببت إلى عتقه ، ولأن معتقه ينسب إليها بالولاء ، وصورة جر
ولاء معتقهن .
( بأن زوجت عبدها معتقة الغير فولدت فولاؤه لموالي الزوجة ) لأن الأب عبد لا ولاء
له ، فإذا أعتق جر ولاء ابنه إلى مواليه ، وصورة معتق معتقهن إذا أعتقت عبدا فاشترى عبدا
وزوجه معتقة الغير فولدت منه فولاء أولادها لمواليها لما بينا ، فإذا أعتق معتق المرأة العبد
جر ولاء أولاده إليه ، ويكون ذلك الولاء لمعتقه ، فذلك جر ولاء معتق معتقها ، ولو أعتقت
الأم وهي حامل فولدت لا ينتقل الولاء عن مواليها أبدا لأن العتق ورد على الولد لأنه كان
موجودا متصلا بها وقت العتق فلا ينتقل ولاؤه كما إذا أعتقه قصدا ، ويعرف ذلك إذا ولدته
لأقل من ستة أشهر من يوم العتق على ما عرف ، وكذا إذا ودلت ولدين أحدهما لأقل من
ستة أشهر لأنهما خلقا من ماء واحد ، والأصل في جر الولاء قوله عليه الصلاة والسلام :
' الولاء لحمة كلحمة النسب ' والنسب إلى الآباء فكذا الولاء ، فإذا امتنع إثباته إلى الأب
المانع ، فإذا زال المانع عاد الولاء إلى الأب عملا بالأصل كولد الملاعنة ينسب إلى أمه ،
فإذا أكذب الأب نفسه ثبت نسبه منه .(4/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وروي أن الزبير بن العوام رأى بخيبر فتية لعسا أعجبه ظرفهم وأمهم مولاة لرافع بن
خديج وأبوهم عبد لبعض جهينة أو لبعض أشجع فاشترى أباهم فأعتقه وقال لهم انتسبوا
إليّ ، فقال رافع : بل هم موالي ، فاختصما إلى عثمان فقضى بالولاء للزبير من غير مخالفة
من غيره . ولو أعتق الجد لا يجر الولاء ، ولا يكون الصغير مسلما بإسلام جده ، فإن
المسلمين لم يجعلوا الصغار مسلمين بإسلام آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام وهما جدان .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يكون مسلما تبعا للجد ، ويجر الجد ولاءه لأن الجد بمنزلة
الأب عند عدمه . قال : ( وسبب ولاء الموالاة العقد ) والمطلوب منه التناصر ، وله ثلاثة
شرائط : أن لا يكون له معتق لأن ولاء العتاقة أقوى فيمنع ثبوت الأضعف . الثاني أن لا
يكون عربيا لأن العرب لا يسترقّون فلا يكون عليهم ولاء العتاقة فولاء الموالاة أولى .
والثالث أن لا ينتسب إلى أحد ولا يكون له نسب معروف ، وهو عقد مشروع لقوله عليه
الصلاة والسلام لما سئل عمن أسلم على يدي رجل فقال : ' هو أحق الناس به محياه ومماته
إن والاه ' أي بميراثه لا بشخصه . وروي أن رجلا أسلم على يد تميم الداري ووالاه ،
فقال له عليه الصلاة والسلام : ' هو أخوك ومولاك تعقل عنه وترثه ' .
( وصورته : إذا أسلم على يد رجل ووالاه على أن يرثه ويعقل عنه فقال : أنت مولاي
ترثني إذا مت ، وتعقل عني إذا جنيت فيقبل الآخر فذلك صحيح ) وكذا إذا أسلم على يد
رجل ووالى غيره صح ( فإذا مات ولا وارث له ورثه ) لما روينا وتمامه يعرف في الفرائض ،
ويدخل في عقد الولاء الأولاد الصغار للتبعية والولاية ، وكذا كل من يولد له بعد ذلك ،
ولأنهم يتبعونه في النسب فكذا في الولاء ، فإن أسلم له ابن كبير على يد آخر ووالاه صح
لانقطاع ولايته عنه ، ومن شرطه أن يكون الموالي عاقلا بالغا حرا حتى لا يصح موالاة
الصبي والعبد والمجنون ؛ ولو والى الصبي بإذن الأب أو الوصي جاز والولاء للصبي ، وإن
والى العبد بإذن مولاه جاز وكان وكيلا عن مولاه ، ويقع الولاء للمولى ، لأن الصبي من أهل
الولاء والعبد لا ، لأن حكم الولاء العقل والإرث والعبد ليس أهلا لذلك فيثبت الولاء لأقرب
الناس منه وهو المولى .(4/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
قال : ( وله أن يفسخ عقد الولاء بالقول والفعل ) لأنه عقد غير لازم لأن الأعلى متبرع
بالقيام بنصرته وعقل جنايته ، والأسفل متبرع بجعله خليفته في ماله والتبرع غير لازم ما لم
يحصل به القبض أو العوض كالهبة . وله أن يفسخ بالقول بحضرة الآخر وبالفعل مع غيبته
بأن يوالي غيره كعزل الوكيل بالقول يشترط علمه لأنه عزل قصدا وبالفعل لا يشترط لأنه عزل
حكما . قال : ( فإن عقل عنه أو عن ولده ليس له ذلك ) لحصول العوض كالهبة ، وكذا إذا كبر
أحد أولاده فليس له أن يرجع عنه بعد ما عقل لما ذكرنا أنه دخل في عقده وولائه قال : لا
( وإذا أسلمت المرأة ووالت أو أقرت بالولاء وفي يدها ابن صغير تبعها في الولاء ) وقالا : لا
يتبعها لأنه لا ولاية لها على ماله فعلى نفسه أولى ، وله أنه بمنزلة النسب وهو نفع محض
فيملكه عليه كقبض الهبة ، والله أعلم .(4/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
كتاب الأيمان
وهو جمع يمين ، واليمين في اللغة : القوة ، قال تعالى : ) لأخذنا منه باليمين (
[ الحاقة : 45 ] أي بالقوة والقدرة منا ، وقيل في قوله تعالى : ) إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (
[ الصافات : 28 ] أي تتقوون علينا ، وقال :
إذا ما راية رفعت المجد
تلقاها عرابة باليمين
وهي الجارحة أيضا ، وهي مطلق الحلف بأي شيء كان من غير تخصيص ، وقوله
تعالى : ) فراغ عليهم ضربا باليمين ( [ الصافات : 93 ] يحتمل الوجوه الثلاثة : أي بيده اليمنى
أو بقوته أو بحلفه ، وهو قوله : ) وتالله لأكيدن أصنامكم ( [ الأنبياء : 57 ] . وفي الشرع
نوعان : أحدهما القسم ، وهو ما يقتضي تعظيم المقسم به ، فلهذا قلنا لا يجوز إلا بالله
تعالى ، قال عليه الصلاة والسلام : ' من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر ' وفيها المعنى
اللغوي ، لأن فيها الحلف ، وفيها معنى القوة لأنهم يقوون كلامهم ويوثقونه بالقسم بالله
تعالى ، وكانوا إذا تحالفوا أو تعاهدوا يأخذون باليمين التي هي الجارحة . الثاني الشرط
والجزاء ، وهو تعليق الجزاء بالشرط على وجه ينزل الجزاء عند وجود الشرط كقوله : إن لم(4/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
آتك غدا فعبدي حر ، وهذا النوع ثبت بالاصطلاح الشرعي ولم ينقل عن أهل اللغة وفيه
معنى القوة والتوثق أيضا ، لأن اليمين تعقد للحمل على فعل المحلوف عليه أو للمنع عن
فعله ، فإن الإنسان يعلم كون الفعل مصلحة ولا يفعله لنفور الطبع عنه ، ويعلم كونه مفسدة
ولا يمتنع عنه لميله إليه وغلبة شهوته ، فاحتاج في تأكيد عزمه على الفعل أو الترك إلى
اليمين ، وكما أن اليمين بالله تعالى تحمله أو تمنعه لما يلازمها من الإثم بهتك الاسم المعظم
والكفارة ، فكذلك الشرط والجزاء يحمله ويمنعه لما يلازمه من زوال ملك النكاح وملك
الرقبة وغير ذلك فيحصل المنع والحمل بكل واحدة من اليمينين فألحقناها بها لاشتراكهما في
المعنى .
واليمين مشروعة في المعاهدات والخصومات توكيدا وتوثيقا للقول ، قال تعالى :
) ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( [ المائدة : 89 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا تحلفوا
بآبائكم ، ولا بالطواغيت ، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر ' والأفضل أن يقلل الحلف
بالله تعالى ، والحلف بغير الله تعالى قيل يكره لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ملعون من حلف
بالطلاق وحلف به ' وقيل إن أضيف إلى المستقبل لا يكره وإلى الماضي يكره ، وهذا حسن
لأنها مستعملة في العهود والمواثيق بين المسلمين من غير نكير ، والحديث محمول على
الإضافة إلى الماضي بالإجماع ، وهي من أيمان السفلة .
قال : ( اليمين بالله تعالى ثلاثة : غموس ، وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد
فيها الكذب فلا كفارة فيها . ولغو : وهي الحلف على أمر يظنه كما قال وهو بخلافه ، فنرجو
أن لا يؤاخذه الله بها . ومنعقدة : وهي الحلف على أمر في المستقبل ليفعله أو يتركه ) فإذا
حنث فيها فعليه الكفارة ، وبيان ذلك أن اليمين إما أن تكون على الماضي أو على الحال أو
على المستقبل ، فإن كانت على الماضي أو على الحال ، فإما أن يتعمد الكذب فيها وهي
الأولى ، أو لم يتعمد وهي الثانية ، وإن كانت على المستقبل فهي الثالثة ، سواء كان عمدا أو
ناسيا مكرها أو طائعا على ما نبينه إن شاء الله تعالى . أما الغموس فليست يمينا حقيقة ، لأن
اليمين عقد مشروع على ما بينا وهذه كثيرة فلا تكون مشروعة . وتسميتها يمينا مجاز لوجود
صورة اليمين كما نهى ( صلى الله عليه وسلم ) عن بيع الحر سماه بيعا مجازا ، قالوا : وسميت غموسا لأنها(4/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
تغمس صاحبها في نار جهنم ، ولهذا قلنا لا كفارة فيها ، واليمين على الماضي مثل قوله :
والله ما فعلت كذا وهو يعلم أنه فعله ، أو والله لقد فعلت كذا وهو يعلم أنه لم يفعله ،
والحال أن يقول : والله ما لهذا عليّ دين وهو يعلم أن له عليه ، فهذه اليمين لا تنعقد ولا
كفارة فيها وإنما التوبة والاستغفار وأمره إلى الله تعالى ، قال عليه الصلاة والسلام : ' خمس
من الكبائر لا كفارة فيهن الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وبهت المسلم والفرار من
الزحف ، واليمين الغموس ' .
وقال عليه الصلاة والسلام : ' اليمين الغموس تدع الديار بلاقع ' ولم يذكر فيها
الكفارة ، ولو وجبت لذكرها تعليما ، أو نقول : لو كان لها كفارة لما دعت الديار بلاقع لأن
الكفارة اسم لما يستر الذنب فترفع إثمه وعقوبته كغيرها من الذنوب ولأنها كبيرة بالحديث ،
والكفارة عبادة لأنها تتأدى بالصوم ويشترط فيها النية فلا يتعلق بها ، ولأن الله تعالى أوجب
الكفارة بقوله : ) بما عقدتم الأيمان فكفارته ( [ المائدة : 89 ] والعقد ما يتصور فيه الحل
والعقد ، وذلك لا يتصور في الماضي . وأما اللغو كقوله : والله ما دخلت الدار ، أو ما كلمت
زيدا يظنه كذلك وهو بخلافه ويكون في الحال أيضا كقوله : والله إن المقبل لزيد فإذا هو
عبد الله ، والأصل فيه قوله تعالى : ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( [ المائدة : 89 ] .
وحكى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قوله : لا والله وبلى
والله ، وعن عائشة مثله موقوفا ومرفوعا ، وعن ابن عباس هو الحلف على يمين كاذبة وهو
يرى أنه صادق ، فإن قيل كيف يقول محمد بن الحسن نرجو أن لا يؤاخذه الله بها ، والله
تعالى نفى المؤاخذة قطعا ، فالجواب من وجهين : أحدهما أن العلماء اختلفوا في تفسير
اللغو ، فقال محمد : نرجو أن لا يؤاخذه الله تعالى باليمين على الوجه الذي فسره لاحتمال
أنها غيره . والثاني أن الرجاء على وجهين : رجاء طمع ، ورجاء تواضع ، فجاز أن محمدا ذكر
ذلك على سبيل التواضع . وروى ابن رستم عن محمد : لا يكون اللغو إلا في اليمين بالله .
وقد عبر عنه الكرخي فقال : ما كان المحلوف به هو الذي يلزمه بالحنث فلا لغو فيه ، وذلك
لأن من حلف بالله على أمر يظنه كما قال وليس كذلك لغا المحلوف عليه وتبقى قوله والله
فلا يلزمه شيء ، واليمين بغير الله تعالى يلغو المحلوف عليه وبقي قوله امرأته طالق أو عبده
حر أو عليه الحج فيلزمه . ( و ) أما المنعقدة ف ( هي أنواع : منها ما يجب فيه البر كفعل
الفرائض ومنع المعاصي ) لأن ذلك فرض عليه فيتأكد باليمين .(4/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
( ونوع يجب فيه الحنث كفعل المعاصي وترك الواجبات ) قال عليه الصلاة والسلام :
' من حلف أن يطيع الله فليطعه ، ومن حلف أن يعصيه فلا يعصه ' ( ونوع الحنث فيه خير
من البر كهجران المسلم ونحوه ) قال عليه الصلاة والسلام : ' من حلف على يمين ورأى
غيرها خيرا منها فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه ' ولأن الحنث ينجبر بالكفارة ولا
جابر للمعصية ( ونوعهما على السواء ، فحفظ اليمين فيه أولى ) قال تعالى : ) واحفظوا
أيمانكم ( [ المائدة : 89 ] أي عن الحنث . قال : ( وإذا حنث ) يعني في الأيمان المستقبلة
( فعليه الكفارة ) لقوله تعالى : ) ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( [ المائدة : 89 ] .
قال : ( وإن شاء أعتق رقبة ، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم ، فإن لم يجد
صام ثلاثة أيام متتابعات ) قال تعالى : ) فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما
تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ( [ المائدة : 89 ] خير فيكون الواجب أحدها ،
ثم قال : ) فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ( [ المائدة : 89 ] . قرأ ابن مسعود رضي الله
عنه : ثلاثة أيام متتابعات وقراءته مشهورة فكانت كالخبر المشهور ، والكلام في الرقبة
والطعام والتفصيل في ذلك مر في الظهار . وأما الكسوة فهو اسم لما يكتسى به ،
والمقصود منها رد العري ، وكل ثوب يصير به مكتسيا يسمى كسوة وإلا فلا ، فإذا اختار
الحانث الكسوة كسا عشرة مساكين كل مسكين ما ينطلق عليه اسم الكسوة . وروي عن أبي
حنيفة وأبي يوسف أن أدناه ما يستر عامة بدنه فلا يجوز السراويل لأن لابسه يسمى عريانا
عرفا . وعن محمد أدناه ما تجوز فيه الصلاة فلا يجوز الخف ولا القلنسوة لأن لابسهما لا
يسمى مكتسيا ولهذا لا تجوز فيها الصلاة ، وقيل لكل مسكين إزار ورداء وقميص ، وقيل
كساء وقيل ملحفة ، وقيل يجوز الإزار إن كان يتوشح به ، وإن كان يستر عورته دون البدن
لا يجوز كالسراويل .
وعلى قول محمد يجوز لأنه يجوز فيه الصلاة . وعن أبي حنيفة في العمامة إن
كانت سابغة قدر الإزار السابغ أو ما يقطع منه قميص يجوز وإلا فلا ، وما لا يجزيه في(4/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
الكسوة يجزيه عن الإطعام باعتبار القيمة إذا نواه ، ولا تتأدى الكفارة إلا بفعل يزيل ملكه
عن العين ليكون زاجرا ورادعا له فيتحقق معنى العقوبة فلا بد فيه من التمليك ، ولو
أعاره لا يجوز لأنه لا يزول ملكه عن العين ، بخلاف الطعام حيث يجوز فيه الإباحة ،
لأن ملكه يزول عن الطعام بالإباحة كما يزول بالتمليك ، ولو كفر عنه غيره بأمره جاز ،
وبغير أمره لا يجوز كما في الزكاة لأنها عبادة أو عقوبة ، فلا بد من الإتيان بنفسه أو
نائبه وذلك بالإذن لينتقل فعله إليه .
قال : ( ولا يجوز التكفير قبل الحنث ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من حلف على
يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه ' وروي ' ثم ليكفر
يمينه ' أمر وأنه يقتضي الوجوب ولا وجوب قبل الحنث ، أو نقول : إذا حنث يجب عليه
أن يكفر بالأمر ، ولأن الكفارة ساترة والستر يعتمد ذنبا أو جناية ولم يوجد قبل الحنث لأن
الجناية هي الحنث لما يتعلق به من هتك حرمة اسم الله تعالى واليمين مانعة من ذلك فلا
تكون سببا مفضيا إلى الحنث ، بخلاف ما إذا كفر بعد الجرح قبل زهوق الروح ، لأن الجرح
سبب مفض إلى الزهوق غالبا ، وبخلاف ما إذا أدى الزكاة بعد النصاب قبل الحول لأن
السبب المال .
قال : ( والقاصد والمكره والناسي في اليمين سواء ) قال عليه الصلاة والسلام : ' ثلاث
جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والأيمان ' .
وعن عمر رضي الله عنه : أربعة لا رديدى فيهن وعد منها الأيمان .
وروي ' أن المشركين استحلفوا حذيفة وأباه أن لا يعينا رسول الله عليه الصلاة
والسلام ، فقيل لرسول الله فقال : يفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم ' فحكم بصحة
اليمين مع الإكراه ، والكلام في الإكراه مضى في بابه ، ولأن شرط الحنث هو الفعل ، ووجود
الفعل حقيقة لا يعدمه الإكراه والنسيان ، ولا يصح يمين الصبي والمجنون والنائم لما مر في
الطلاق .(4/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
فصل
( وحروف القسم : الباء والواو ، والتاء ) هو المعهود المتوارث ، وقد ورد بها القرآن ،
قال تعالى : ) والله ربنا ( [ الأنعام : 23 ] وقال : ) يحلفون بالله ( [ النساء : 62 ] وقال : ) تالله
لقد أرسلنا ( [ النحل : 63 ] ، ولله يمين أيضا لأن اللام تبدل من الباء ، قال تعالى : ) آمنتم
به ( [ البقرة : 137 ] و ) آمنتم له ( [ طه : 71 ] ، والأصل فيه أن حرف الباء للإلصاق وضعا
والواو بدل عنه فإنه للجمع ، وفي الإلصاق معنى الجمع ، والتاء بدل من الواو ، وكقولهم :
تراث ، وتجاه ؛ فلما كانت الباء أصلا صلحت للقسم في اسم الله وسائر الأسماء ؛ وفي
الكناية كقولهم : بك لأفلعن كذا ، وكون الواو بدلا عنها نقصت عنها فصلحت في الأسماء
الصريحة دون الكناية ، وكون التاء بدل البدل اختصت باسم الله وحده ، ولم تصلح في غيره
من الأسماء ولا في الكناية .
قال : ( وتضمر الحروف فتقول : الله لا أفعل كذا ) ثم قد ينصب لنزع الخافض ، وقد
يخفض دلالة عليه وهو خلاف بين البصريين والكوفيين والنبي عليه الصلاة والسلام حلف
الذي طلق امرأته البتة ' الله ما أردت بالبتة إلا واحدة ' والحذف من عادة العرب تخفيفا ؛
والحلف في الإثبات أن يقول : والله لقد فعلت كذا ، أو والله لأفعلن كذا مقرونا بالتأكيد ، وهو
اللام والنون ، حتى لو قال : والله لأفعل كذا اليوم فلم يفعله لا تلزمه الكفارة ، لأن الحلف
في الإثبات لا يكون إلا بحرف التأكيد لغة ؛ أما في النفي يقول : والله لا أفعل كذا ، أو والله
ما فعلت كذا .
قال : ( واليمين بالله تعالى وبأسمائه ) لأنه يجب تعظيمه ولا يجوز هتك حرمة اسمه
أصلا ، ولأنه متعاهد متعارف ، والأيمان مبنية على العرف ، فما تعارف الناس الحلف به يكون
يمينا وما لا فلا ، لأن قصدهم ونيتهم تنصرف إلى الحقيقة العرفية كما ينصرف عند عدم
العرف إلى الحقيقة اللغوية ، لأن الحقيقة العرفية قاضية على اللغوية لسبق الفهم إليها . قال :
( ولا يحتاج إلى نية إلا فيما يسمى به غيره كالحكيم والعليم ) فيحتاج إلى النية ، وقيل لا
يحتاج في جميع أسمائه ويكون حالفا ، لأن الحلف بغير الله تعالى لا يجوز ، والظاهر أنه
قصد يمينا صحيحة فيحمل عليه فيكون حالفا ، إلا أن ينوي غير الله تعالى لأنه نوى محتمل
كلامه . وعن محمد : وأمانة الله يمين ، فلما سئل عن معناه قال : لا أدري كأنه وجد العرب(4/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
يحلفون بذلك عادة فجعله يمينا . وعن أبي يوسف ليس بيمين لاحتمال أنه أراد الفرائض ،
ذكره الطحاوي .
قال : ( وبصفات ذاته كعزة الله وجلاله ، إلا وعلم الله فلا يكون يمينا ، وكذلك ورحمة
الله وسخطه وغضبه ) ليس بيمين . اعلم أن الصفات ضربان : صفات الذات ، وصفات الفعل ،
والفرق بينهما أن كل ما يوصف به الله تعالى ، ولا يجوز أن يوصف بضده فهو من صفات
ذاته ، كالقدرة والعزة والعلم والعظمة ، وكل ما يجوز أن يوصف به وبضده فهو من صفات
الفعل كالرحمة والرأفة والسخط والغضب ؛ فما كان من صفات الذات إذا حلف به يكون
يمينا إلا وعلم الله ، لأن صفات الله تعالى قديمة كذاته ، فما تعارف الناس الحلف به صار
ملحقا بالاسم والذات فيكون يمينا وإلا فلا ، وعلم الله ليس بمتعارف حتى قال عامة
المشايخ : لا يكون يمينا وإن نواه لعدم التعارف ، وعند بعضهم يكون يمينا كغيرها من
الصفات ، ولأن صفات الذات لما لم يكن لها معنى غير الذات كان ذكرها كذكر الذات فكان
قوله : وقدرة الله كقوله : والله القادر ، وهو القياس في العلم لأنه من صفات الذات إلا أنه
جرت العادة أن العلم يذكر ويراد به المعلوم ، ومعلوم الله تعالى غيره .
قال النسفي : وهذا لا يستقيم على مذهب أهل الحق ، والصحيح أن كلها صفات الله
تعالى قائمة بذاته والحلف بها حلف بالله ، والفرق الصحيح ما قاله محمد إن هذه الأشياء يراد
بها غير الصفة ، فلهذا لم يصر به حالفا بالشك ، فالرحمة تذكر ويراد بها المطر والنعمة ويراد
بها الجنة ، قال تعالى : ) ففي رحمة الله هم فيها خالدون ( [ آل عمران : 107 ] . والسخط
والغضب يراد بهما ما يقع من العذاب في النار ، والرضى يراد به ما يقع من الثواب في الجنة
فصار حالفا بغير الله من هذا الوجه .
قال : ( والحلف بغير الله تعالى ليس بيمين كالنبي والقرآن والكعبة ، والبراءة منه يمين )
والأصل في هذا أن الحلف بغير الله تعالى لا يجوز لما روينا ، وروي أنه عليه الصلاة
والسلام سمع عمر يحلف بأبيه فقال : ' إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفا
فليحلف بالله أو فليصمت ' وروي ' من حلف بغير الله فقد أشرك ' ولأن الحلف تعظيم
المحلوف به ولا يستحقه إلا الله تعالى ، وإذا لم يجز الحلف بغير الله تعالى لا يلزمه به كفارة
لأنه ليس بيمين ، ولم يهتك حرمة منع من هتكها على التأبيد ويدخل في ذلك ما ذكرنا ؛ أما(4/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
النبي والكعبة فظاهر ؛ وأما القرآن فهو المجموع المكتوب في المصحف بالعربية لأنه من القرء
وهو الجمع وأنه يقتضي الضم والتركيب وذلك من صفات الحادث فيكون غير الله تعالى
وغير صفاته ، لأن صفاته قائمة بذاته أزلية كهو ، حتى لو حلف بكلام الله كان يمينا لأن كلامه
صفة قائمة بذاته لا يوصف بشيء من اللغات ، لأن اللغات كلها محدثة مخلوقة أو اصطلاحية
على الاختلاف فلا يجوز أن تكون قديمة ، بل هي عبارة عن القديم الذي هو كلام الله تعالى
هذا مذهب أهل السنة والجماعة من أصحابنا ، وكذلك دين الله وطاعة الله وشرائعه وأنبيائه
وملائكته وعرشه وحدوده والصلاة والصوم والحج والبيت والكعبة والصفا والمروة والحجر
الأسود والقبر والمنبر لأن جميع ذلك غير الله تعالى .
قال عليه الصلاة والسلام : ' لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت ولا بحد من حدود الله
ولا تحلفوا إلا بالله ' قال أبو حنيفة : لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص . وأما
البراءة من ذلك فيمين كقوله : إن فعلت كذا فأنا بريء من القرآن أو من الكعبة أو من هذه
القبلة أو من النبي ، لأن البراءة من هذه الأشياء كفر ؛ وكذا إذا قال : أنا بريء مما في
المصحف أو من صوم رمضان أو من الصلاة أو من الحج ، وأصله أن كل ما يكون اعتقاده
كفرا ولا تحله الشريعة ففيه الكفارة إذا حنث ، لأن الكفر لا تجوز استباحته على التأبيد لحق
الله تعالى فصار كحرمة اسمه ، ومن هذا أنا أعبد الصليب أو أعبد من دون الله إن فعلت كذا ؛
ولو قال الطالب الغالب : إن فعلت كذا فهو يمين للعرف .
ولو قال : ( وحق الله ليس بيمين ) وروي عن أبي يوسف أنه يمين ، لأن الحق من
صفات الله تعالى وهو حقيقة كأنه قال : والله الحق ، ولأن الحلف به معتاد وهو المختار
اعتبارا للعرف ، ولهما ما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سئل عن حق الله تعالى
على عباده ؟ فقال : ' أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ' فصار كقوله والطاعات والعبادات ، ولو
قال كذلك ليس بيمين . قال : ( والحق يمين ) لأنه من أسماء الله تعالى ، ولو قال حقا لا يكون
يمينا لأنه يراد به تأكيد الكلام وتحقيق الوعد . وقال الطحاوي : حقا كقوله واجبا عليّ فهو
يمين . قال : ( ولو قال : إن فعلت كذا فعليه لعنة الله أو هو زان أو شارب خمر فليس بيمين )
وكذلك غضب الله وسخط الله عليه لأنه غير متعارف في الأيمان .
( ولو قال : هو يهودي أو نصراني فهو يمين ) لقول ابن عباس : من حلف باليهودية
والنصرانية فهو يمين ، ولأنه لما جعل الشرط دليلا على الكفر فقد اعتقد الشرط واجب(4/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
الامتناع ، وقد أمكن جعله واجبا لغيره بجعله يمينا كما قلنا في تحريم الحلال ، ولو قال ذلك
لشيء فعله فهو غموس ، ثم قيل لا يكفر اعتبارا بالمستقبل ، وقيل يكفر كأنه قال هو يهودي
إذ التعليق بالماضي باطل ؛ والصحيح أنه إن علم أنه يمين لا يكفر فيها وإن كان يعتقد أن
يكفر بالحنث يكفر فيهما ، لأنه لما أقدم على الحنث فقد رضي بالكفر وعلى هذا هو
مجوسي أو كافر ونحوه .
قال : ( ولو قال : لعمر الله ، أو وأيم الله ، أو وعهد الله ، أو وميثاقه أو علي نذر ، أو نذر
الله فهو يمين ) أما عمر الله فهو بقاء والبقاء من صفات الله ، ولأن الله تعالى أقسم به فقال :
) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( [ الحجر : 72 ] وأما وأيم الله فمعناه أيمن الله وهو جمع
يمين وأنه متعارف ، وأما عهد الله فلقوله تعالى : ) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ( [ النحل :
91 ] ثم قال : ) ولا تنقضوا الأيمان ( [ النحل : 91 ] سمي العهد يمينا ، والميثاق هو العهد
عرفا والنذر يمين . قال عليه الصلاة والسلام : ' النذر يمين وكفارته كفارة يمين ' . وقال
عليه الصلاة والسلام : ' من نذر نذرا وسماه فعليه الوفاء به ، ومن نذر ولم يسم فعليه كفارة
يمين ' قال : ( ولو قال : أحلف ، أو أقسم ، أو أشهد ، أو زاد فيها ذكر الله تعالى فهو يمين )
وكذا قوله أعزم ، أو أعزم بالله ، أو على يمين ، أو يمين الله . وعن محمد : إذا قال أعزم أو
أعزم بالله لا أعرفه عن أبي حنيفة . وقال زفر : أحلف وأقسم وأشهد لا يكون يمينا إلا أن
يذكر اسم الله تعالى لأنه احتمل الحلف والقسم بالله ، ويحتمل بغيره فلا يكون يمينا بالشك
ولنا قوله تعالى : ) يحلفون لكم لترضوا عنهم ( [ التوبة : 96 ] وقال : ) قالوا نشهد إنك
لرسول الله ( [ المنافقون : 1 ] ثم قال : ) اتخذوا أيمانهم جنة ( [ المجادلة : 16 ] وقال : ) إذا
أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ( [ القلم : 17 ] قال محمد : لا يكون الاستثناء في
اليمين ، ولأن حذف بعض الكلام جائز عند العرب تخفيفا ، ولأن ذلك كالمعلوم لأن الحلف
لا يكون إلا بالله فكأنهم ذكروه ، وأما أعزم أو أعزم بالله فالعزم هو الإيجاب ، قال تعالى :
) وإن عزموا الطلاق ( [ البقرة : 227 ] والإيجاب هو اليمين . وقول محمد لا أعرفه عن أبي
حنيفة فقد رواه عنه الحسن ؛ وأما علي يمين أو يمين الله فلأنه تصريح بإيجاب اليمين عليه ،
واليمين لا يكون إلا بالله وهو معتاد عند العرب . قال :
فقالت يمين الله ما لك حيلة
ووجه الله يمين ، رواه ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه يذكر(4/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
ويراد به الذات ، قال تعالى : ) ويبقى وجه ربك ( [ الرحمن : 27 ] وقال : ) كل شيء هالك
إلا وجهه ( [ القصص : 88 ] . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس بيمين لعدم العرف بذلك
ولأنه يذكر ويراد به غير الله تعالى ، يقال : فعله ابتغاء وجه الله تعالى : أي وبابه فلا يكون
يمينا بالشك . وروى ابن شجاع عند أبي حنيفة رحمه الله أنها من أيمان السفلة : يعني أنهم
يقصدون الجارحة فيكون يمينا بغير الله تعالى .
قال : ( ومن حرّم على نفسه ما يملكه فإن استباحه أو شيئا منه لزمته الكفارة ) وذلك مثل
قوله : مالي عليّ حرام أو ثوبي أو جاريتي فلانة أو ركوب هذه الدابة ونحوه ، قال عليه
الصلاة والسلام : ' تحريم الحلال يمين وكفارته كفارة يمين ' ولأنه أخبر عن حرمته عليه فقد
منع نفسه عنه وأمكن جعله حراما لغيره بإثبات موجب اليمين ، لأن اليمين أيضا يمنعه عنه
فيجعل كذلك تحرزا عن إلغاء كلامه ، وهذا أولى من الحرمة المؤبدة ، لأن له نظيرا في
الشرع وهو أرفق ، ثم الحرمة تتناول الكل جزءا جزءا ، فأي جزء استباح منه حنث ، كقوله :
لا أشرب الماء ، ولو وهبه أو تصدق به لا حنث عليه ، لأن المراد بالتحريم حرمة الاستمتاع
عرفا لا حرمة الصدقة والهبة .
قال : ( ولو قال : كل حلال عليّ حرام فهو على الطعام والشراب إلا أن ينوي غيرهما )
وقال زفر : يحنث كما فرغ لأنه باشر فعلا حلالا وهو التنفس . ولنا أن المقصود البر ولا
يحصل على اعتبار العموم فيسقط العموم فينصرف إلى الطعام والشراب لأنه يستعمل فيما
يتناول عادة ، ولو نوى امرأته دخلت مع المأكول والمشروب وصار موليا ، وإن نوى امرأته
وحدها صدّق ولا يحنث بالأكل والشرب . قال مشايخنا هذا في عرفهم ، أما في عرفنا يكون
طلاقا عرفا ، ويقع بغير نية لأنهم تعارفوه فصار كالصريح وعليه الفتوى ؛ ولو قال : مال فلان
عليّ حرام فأكله أو أنفقه حنث إلا أن ينوي أنه لا يحل لي لأنه حرام فلا حنث عليه ؛ ولو
حلف لا يرتكب حراما فهو على الزنا ، وإن كان مجبوبا فعلى القبلة الحرام وأشباهها ؛ ولو
حلف لا يطأ حراما فوطئ امرأته حالة الحيض والظهار لم يحنث إلا أن ينويه ، لأن الحرمة
لعارض لا أن الوطء حرام في نفسه .
قال : ( ومن حلف حالة الكفر لا كفارة في حنثه ) لأن الكافر ليس بأهل لليمين لأنها
تعظيم الله تعالى ولا تعظيم مع الكفر وليس أهلا للكفارة لأنها عبادة حتى تتأدى بالصوم
وليس من أهلها وتبطل اليمين بالردة ، فلو أسلم بعدها لا يلزمه حكمها لأن الردة تبطل
الأعمال . قال : ( ومن قال : إن شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث عليه ) وقد مر في الطلاق ،(4/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
ولا بد من الاتصال لأن بالسكوت يتم الكلام فالاستثناء بعده يكون رجوعا ولا رجوع في
اليمين .
فصل
الخروج : هو الانفصال من الداخل إلى الخارج ؛ والدخول : الانفصال من الخارج إلى
الداخل ، فعلى أي وصف وجد كان خروجا ، سواء كان راكبا أو ماشيا من الباب أو من
السطح أو من ثقب في الحائط أو تسوّر الحائط ، إلا أن يقول من باب الدار فلا يحنث إلا
بالخروج من الباب . قال : ( حلف لا يخرج فأمر رجلا فأخرجه حنث ) لأن الفعل مضاف إليه
بالأمر كما إذا ركب دابة فخرت به ( وإن أخرجه مكرها لا يحنث ) لعدم إضافة الفعل إليه
لعدم الأمر وهو مخرج وليس بخارج . وقيل إن قدر على الامتناع حنث عند محمد لأنه لما
لم يمتنع مع القدرة صار كأنه فعل الدخول كركوب الدابة . وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا
يحنث وهو الصحيح لأنه ليس بداخل . وروى محمد عن أبي يوسف لو حمله برضاه لا بأمره
لا يحنث لأنه ليس بفاعل للدخول ، واليمين منعقدة على الفعل دون الرضا والإرادة أو نقول
الفعل إنما يضاف إليه بأمره . وقيل يحنث والحلف على الدخول على هذه الوجوه .
قال : ( حلف لا يخرج إلا إلى جنازة فخرج إليها ثم أتى حاجة أخرى لم يحنث ) لأنه
لم يوجد الخروج لغير ما حلف عليه ، وإنما خرج إلى الجنازة وأنه مستثنى من اليمين ،
والإتيان بعد ذلك ليس بخروج ( حلف لا يخرج إلى مكة فخرج يريدها ثم رجع حنث )
لوجود الخروج قاصدا إليها . قال : ( وكذلك الذهاب في الأصح ) لأنه عبارة عن الانتقال
والذهاب من موضعه ، قال تعالى : ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت (
[ الأحزاب : 33 ] أي يزيله عنكم فأشبه الخروج ( وفي الإتيان لا يحنث حتى يدخلها ) لأن
الإتيان الوصول ، قال تعالى : ) فأتيا فرعون ( [ الشعراء : 16 ] والمراد الوصول إليه ، ويقال
في العرف : خرجت إلى بلد كذا ولم آته : أي قصدته بالخروج ولم أصل إليه ، والذهاب
كالخروج في الاستعمال أيضا . حلف لا يخرج من هذا البيات فأخرج يديه وقدميه وهو قاعد
لم يحنث لأنه لا يسمى خارجا ؛ ولو كان مستلقيا على ظهره أو بطنه أو على جنبه يحنث
بخروج أكثر جسده إقامة للأكثر مقام الكل . وعن أبي يوسف فيمن حلف لا يخرج من دار(4/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
كهذا فهو على الخروج ببدنه ؛ ولو قال : من هذه الدار فهو على النقلة ببدنه وأهله هذا هو
العرف ؛ ولو حلف على امرأته أن لا تخرج في غير حق فهو ما يعده الناس حقا في
استعمالهم دون الواجب كزيارة الوالدين وذوي الأرحام وأعراسهم وعيادتهم ونحوه . وعن
أبي يوسف حلف لا تخرج إلا إلى أهلها فأبواها لا غير ، فإن عدما فكل ذي رحم محرم منها
وأمها المطلقة أهلها ، فإن كان أبوها متزوجا بغير أمها وأمها كذلك فأهل منزل أبيها لا منزل
أمها . حلف لا يخرج إلا بغداد فخرج من بيته لا يحنث ما لم يجاوز العمران قاصدا بغداد ،
بخلاف الخروج إلى الجنازة حيث يحنث بنفس الخروج ، لأن الخروج إلى بغداد سفر ، ولا
سفر حتى يجاوز العمران ، ولا كذلك الخروج إلى الجنازة .
( حلف لا تدخل امرأته إلا بإذنه فلا بد من الإذن في كل مرة ) لأن النهي يتناول عموم
الدخلات إلا دخلة مقرونة بإذنه فصار كقوله : إلا راكبة ، وإلا منتقبة فإنه يشترط ذلك في كل
مرة كذا هذا ، ولو نوى الإذن مرة صدق لأنه محتمل كلامه . وعن أبي يوسف أنه لا يصدق
قضاء لأنه خلاف الظاهر ، وكذلك اليمين على الخروج ؛ ولو قال : كلما أردت فخرجت مرة
بعد أخرى لا يحنث ، وإن نهاها بعد ذلك فخرجت حنث ( ولو قال : إلا أن آذن لك يكفيه
إذن واحد ) وكذلك حتى آذن لك لأنه جعل الإذن غاية ليمينه لأنها كلمة الغاية فانتهت اليمين
لوجود الغاية ؛ ولو أذن لها وهي نائمة صح كما لو كانت صماء ، وقيل لا يصح لعدم حصول
العلم ؛ ولو أذن لها ولم تعلم فدخلت حنث قال أبو يوسف : لا يحنث لأن الإذن إطلاق وإنه
يتم بالإذن كالرضى . ولهما أن الإذن هو الإعلام ولم يوجد لأنه لا يتحقق الإعلام بدون
العلم والإفهام ، بخلاف الرضى فيما إذا قال إلا برضاي ، ثم قال رضيت ولم تسمع ، لأن
الرضى إزالة الكراهة وأنه يتحقق بدون السماع والعلم لأنه فعل القلب ؛ ولو قال : إلا بأمري
فأمرها ولم تسمع فدخلت حنث بالإجماع ، لأن الأمر إلزام المأمور فلا بد من السماع كأوامر
الشرع . حلف لا تخرج بغير علمه فخرجت وهو يراها فلم يمنعها لم يحنث ، فإن أذن لها
بالخروج فخرجت بغير علمه . قال محمد : لا يحنث لأنه لما أذن لها فقد علم أنها تخرج
فكان الخروج بعلمه .
قال : ( حلف لا يدخل هذه الدار فصارت صحراء ودخلها حنث ؛ ولو قال دارا لم
يحنث ، وفي البيت لا يحنث في الوجهين ) لأن الدار اسم للعرصة حقيقة وعرفا ، والبناء صفة
فيها ، لأن قوام البناء بالعرصة ، ولهذا ينطلق اسم الدار عليها بعد ذهاب البناء ، وفي أشعار
العرب في ندبهم الدور الدارسة أقوى شاهد ، غير أن الوصف معتبر في الغائب وهو منكر(4/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
لغو في الحاضر لحصول التعريف بالإشارة على ما عرف ؛ وأما البيت فهو اسم لما يبات فيه ،
والعرصة إنما تصير صالحة للبيتوتة بالبناء وأنه لا يبقى بعد زواله حتى قالوا : لو خرب
السقف وبقيت الحيطان يحنث لإمكان البيتوتة فيه ؛ ولو بنى البيت بعد ما انهدم لم يحنث
بدخوله وفي الدار يحنث لزوال اسم البيت بعد الانهدام وبقاء اسم الدار على ما بينا ؛ ولو
جعلت الدار بستانا أو حماما أو مسجدا أو بيتا فدخله لم يحنث لتبدل الاسم والصفة
باعتراض اسم آخر وصفة أخرى ، وكذا لو صارت بحرا أو نهرا ، وكذا لو بنيت دارا أخرى
بعد البستان والحمام لا يحنث لما بينا .
قال : ( حلف لا يدخل بيتا لم يحنث بالكعبة والمسجد والبيعة والكنيسة ) لعدم إطلاق
اسم البيت عليها عرفا ، ولما بينا أنه اسم لما يبات فيه وأعد للبيتوتة ، وهذا المعنى معدوم
فيها . حلف لا يدخل دار فلان وهما في سفر على الخيمة والفسطاط والقبة في كل منزل ،
فإن نوى أحد هذه الأشياء صدق ديانة لا قضاء . قال : ( حلف لا يدخل هذه الدار فقام على
سطحها حنث ) لأنه من الدار كسطح المسجد في حق المعتكف ، وكل موضع إذا أغلق الباب
لا يمكنه الخروج فهو من الدار ( ولو دخل دهليزها إن كان لو أغلق الباب كان داخلا حنث )
لأنه من الدار ( وإلا فلا ) لأنه ليس من الدار ، ولو أدخل أحد رجليه دون الأخرى إن استوى
الجانبان أو كان لجانب الآخر أسفل لا يحنث ، وإن كان الجانب الداخل أسفل حنث ، لأن
اعتماد جميع بدنه يكون على رجله الداخلة فيكون داخلا .
( ولو كان في الدار لم يحنث بالقعود ) لأنه لم يوجد منه الدخول على ما ذكرنا بعد
اليمين . حلف لا يدخل بيت فلان ولا نية له فدخل بيتا هو ساكنه حنث ، سواء كان ملكه أو
لم يكن لأنه يضاف إليه عرفا ، بخلاف ما إذا حلف لا يركب دابة فلان أو لا يستخدم عبده
حيث لا يحنث بالعبد والدابة المستأجرين فإنه لايضاف إليه عادة . ولو دخل دارا هي ملك
فلان يسكنها غيره في رواية لا يحنث لأن الإضافة بالسكنى ، وعن محمد أنه يحنث لأنها
مضافة إلى المالك بملك الرقبة وإلى المستأجر بملك المنفعة وكلاهما حقيقة . حلف لا
يدخل دار فلان فدخل دارا مشتركة بينه وبين فلان وفلان سكانها لا يحنث ؛ وإن حلف لا
يزرع أرضه فزرع أرضا مشتركة حنث لأن كل جزء من الأرض أرض وليس بعض الدار دارا
تسمية وعرفا . وحلف لا يدخل دار فلانة فدخل دارها وزوجها يسكنها لا يحنث لأن الدار
تنسب إلى الساكن . حلف لا يدخل دار فلان وله دار يسكنها ودار غلة فدخل دار الغلة لا
يحنث . حلف لا يدخل دار فدخل بستانا في تلك الدار ، إن كان متصلا بها لم يحنث ، وإن
كان في وسطها حنث .(4/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
فصل
( حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فنزعه للحال لم يحنث ، وإن لبث ساعة حنث ،
وكذلك ركوب الدابة وسكنى الدار ) وقال زفر يحنث في الوجهين لوجود المحلوف عليه
وإن قل . ولنا أن زمان تحقق البر مستثنى لأن اليمين تعقد للبر ، بخلاف ما إذا لبث على
تلك الحالة لأنه يسمى لابسا وراكبا وساكنا فيتحقق الشرط فيحنث ( حلف لا يسكن هذه الدار
فلا بد من خروجه بأهله ومتاعه أجمع ) لأن السكنى الكون في المكان على طريق الاستقرار ،
حتى أن من جلس في مسجد أو خان أو بات فيهما لا يعد ساكنا ، والسكنى على وجه
الاستقرار إنما تكون بالأهل والمتاع والأثاث ، فإن الرجل يعد ساكنا في الدار باعتبار أهله ،
يقال فلان يسكن في محله كذا أو سكة كذا أو دار كذا وأكثر نهاره في السوق فمهما بقي في
الدار شيء من ذلك فالسكنى باقية ، لأن السكنى تثبت بجميع ذلك فلا تنتفي إلا بنفي الكل
حتى قال أبو حنيفة : لو بقي وتد حنث لما قلنا ؛ وعنه لو بقي ما لا يعتد به كالمكنسة والوتد
لم يحنث لانتفاء اسم السكنى بذلك . وأبو يوسف اعتبر الأكثر إقامة له مقام الكل ، ولأنه قد
يتعذر نقل الكل .
ومحمد اعتبر نقل ما لا بد منه في البيت من آلات الاستعمال دون ما لا حاجة إليه
في الاستعمال ، وقد استحسنوا ذلك لأنه أرفق بالناس ؛ ولو كان غنيا فأخذ في نقل الأمتعة
من حين حلف حتى بقي على ذلك شهرا لم يحنث هكذا روي عن محمد ؛ وكذلك لو
كان في طلب مسكن آخر أياما حتى وجده لم يحنث إذا لم يترك الطلب في هذه الأيام
وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير ، ولو انتقل إلى السكة أو إلى المسجد قيل يبر
كما في منزل آخر ، وقيل يحنث لأنه لما لم يتخذ وطنا آخر بقي وطنه الأول كالمسافر إذا
خرج بعياله من مصره ، فما لم يتخذ وطنا آخر حتى مر بمصره أتم الصلاة لأن وطنه لم
يتغير كذا هذا .
وذكر أبو الليث : لو انتقل إلى السكة وسلم الدار إلى صاحبها أو آجرها وسلمها بر في
يمينه ، وإن لم يتخذ دارا أخرى لأنه لم يبق ساكنا . ولو حلف لا يسكن في هذا المصر
فانتقل بنفسه وترك أهله ومتاعه لم يحنث ، لأن الرجل يكون أهله في مصر وهو ساكن في
مصر آخر ، والقرية بمنزلة الدار ، والمختار أنها بمنزلة المصر .(4/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
( قال له : اجلس فتغد عندي ، فقال : إن تغديت فعبدي حر ، فرجع وتغدى في بيته لم
يحنث ، ولو أرادت الخروج فقال لها : إن خرجت فأنت طالق ، فجلست ثم خرجت لم تطلق )
وكذا لو أراد ضرب عبده فقال له آخر : إن ضربته فعبدي حر ، فتركه ثم ضربه لم يعتق ؛
وهذه تسمى يمين الفور ، وأول من أظهرها أبو حنيفة ، ووجهه أن المقصود هو الامتناع عن
الغداء المدعو إليه وهو الغداء عنده ، لأن الجواب يطابق السؤال ، وكذلك قصده منعها عن
الخروج الذي همت به والضرب الذي هم وبذلك يشهد العرف والعادة . وعن محمد : لو
قال : إن ضربتني فلم أضربك ، أو إن لقيتك فلم أسلم عليك ، أو إن كلمتني فلم أجبك ، أو
إن استعرت دابتك فلم تعرني ، أو إن دخلت الدار فلم أقعد ، أو إن ركبت دابتك فلم أعطك
دابتي فهو على الفور اعتبارا للعرف ، وهكذا الحكم في نظائره . ولو أراد أن يجامع امرأته فلم
تطاوعه فقال : إن لم تدخلي معي البيت فأنت طالق ، فدخلت بعدما سكنت شهوته طلقت ،
لأن مقصوده الدخول لقضاء الشهوة وقد فات فصار شرط الحنث عدم الدخول لقضاء الشهوة
وقد وجد .
قال : ( ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبده المأذون لم يحنث مديونا كان أو
غير مديون ) عند أبي حنيفة ، أما إذا كان مستغرقا بالديون فلأن عنده لا ملك للمولى فيه على
ما عرف في بابه ؛ وأما إذا لم يكن مستغرقا أو لم يكن عليه دين فإن الملك وإن كان للمولى
فإنه يضاف إلى العبد فلا يحنث إلى أن ينويه لاختلال الإضافة إلى المولى . وقال أبو يوسف :
يحنث في جميع ذلك إذا نواه . وعند محمد يحنث بدون النية لأن الملك عندهما للمولى
وإن كان مديونا ، إلا أن أبا يوسف يقول : الإضافة إلى المولى اختلت فاحتاج إلى النية .
حلف لا يأكل من كسب فلان فهو ماله صنع في اكتسابه وذلك فيما ملكه بفعله كالقبول في
العقود كالبيع والشراء أو الإجارة والهبة والصدقة والوصية ونحوها وأخذ المباحات . فأما
الميراث فيدخل في ملكه بغير فعله فلا يكون كسبه . ولو مات المحلوف عليه وانتقل كسبه
إلى وارثه فأكله الحالف حنث لأنه كسبه ولم يعترض عليه كسب ، ولو انتقل إلى غيره بغير
الميراث لم يحنث لأنه صار كسب الثاني ؛ وكذلك لو قال : لا آكل مما تملك أو مما ملكت أو
من ملكك ، فإذا خرج من ملك المحلوف عليه إلى ملك غيره فأكل منه الحالف لم يحنث ، لأن
الملك إذا تجدد على عين بطلت الإضافة الأولى وصار ملكا للثاني ؛ وكذا لو حلف لا يأكل من
ميراث فلان فمات فأكل من ميراثه حنث ؛ وإن مات وارثه فانتقل إلى وارثه لم يحنث ، لأن
الميراث الآخر نسخ الميراث الأول فبطلت الإضافة إلى الأول .(4/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
قال : ( حلف لا يتكلم فقرأ القرآن أو سبح أو هلل لم يحنث ) لأن مبنى الأيمان على
العرف ، يقال : ما تكلم وإنما قرأ أو سبح ، والقياس أن يحنث فيهما لأنه كلام لأن الكلام ما
ينافي الخرس والسكوت ، وجوابه ما قلنا ؛ وقيل لا يحنث في الصلاة ويحنث خارجها ، لأن
الكلام في الصلاة مفسد فلم يجعل كلاما ضرورة ، ولا ضرورة خارج الصلاة . قال أبو
الليث : إن حلف بالعربية فكذلك ، وإن حلف بالفارسية لا يحنث فيهما لأنه لا يسمى
متكلما .
قال : ( حلف لا يكلمه شهرا فمن حين حلف ) لأنه لو يذكر الشهر تأبدت اليمين ،
فلما ذكر الشهر خرج ما وراءه عن اليمين وبقي الشهر ، وكذلك الإجارة ، بخلاف الصوم لأنه
لو لم يذكر الشهر لا يتأبد فكان التعيين إليه .
قال : ( حلف لا يكلمه فكلمه بحيث يسمع إلا أنه نائم حنث ) وكذا لو كان أصم لأنه
كلمه ووصل إلى سمعه وعدم فهمه لنومه وصممه ، فصار كما إذا كان متغافلا أو مجنونا .
وفي رواية : اشترط أن يوقظه ، لأنه إذا أيقظه فقد أسمعه ، ولو ناداه من حيث لا يسمع في
مثله الصمت لا يحنث ، وكذلك إن كان بعيدا لو أصغى إليه لا يسمع لا يحنث ، لأن
المكالمة عبارة عن الاستماع إلا أنه باطن فأقيم السبب المفضي إلى السماع مقامه ، وهو ما لو
أصغى إليه سمع ؛ ولو دخل دارا ليس فيها غير المحلوف عليه فقال : من وضع هذا ؟ أو من
أين هذا ؟ حنث لأنه كلام له بطريق الاستفهام ؛ ولو قال : ليت شعري من وضع هذا ؟ لا
يحنث لأنه مخاطب لنفسه ، ولو كان في الدار آخر لا يحنث في المسألتين ( ولو كلم غيره
وقصد أن يسمع لم يحنث ) لأنه لم يكلمه حقيقة . ( ولو سلم على جماعة هو فيهم حنث ) لأن
السلام كلام للجميع ( وإن نواهم دونه لم يحنث ) ديانة لعدم القصد ولا يصدق قضاء ، لأن
الظاهر أنه للجماعة ، والنية لا يطلع عليها الحاكم ؛ ولو كتب إليه أو أشار أو أرسل إليه لم
يحنث لأنه ليس بكلام ، لأن الكلام اسم لحروف منظومة مفهومة بأصوات مسموعة ولم
توجد ، ولو كان الحالف إماما فسلم والمحلوف عليه خلفه لا يحنث بالتسليمتين لأنهما من
أفعال الصلاة وليس بكلام ، ولو كان الحالف هو المؤتم فكذلك . وعن محمد يحنث لأنه
يصير خارجا عن صلاة الإمام بسلامه خلافا لهما ؛ ولو سبح به في الصلاة أو فتح عليه لم
يحنث وخارج الصلاة يحنث ؛ ولو قرع المحلوف عليه الباب ، فقال الحالف : من هذا ؟ ذكر
القدوري أنه يحنث . وقال أبو الليث : إن قال بالفارسية : كيست لا يحنث لأنه ليس(4/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
بخطاب له ، وإن قال : كي تو يحنث لأنه خطاب له وهو المختار ؛ ولو قال ليلا : لا أكلم
فلانا يوما فهو من حين حلف إلى غروب الشمس من الغد .
وكذلك لو قال نهارا : لا أكلمه ليلة فمن حين حلف إلى طلوع الفجر من الغد ، لأن
اليمين إذا تعلقت بوقت مطلق فابتداؤها عقيب اليمين كالإيلاء ، ولأن كل حكم تعلق بمدة لا
على طريق القربة اختص بعقيب السبب كالإجارة ؛ ولو حلف في بعض اليوم لا يكلمه يوما
فهو على بقية اليوم والليلة إلى مثل تلك الساعة من الغد ؛ وكذلك لو حلف في بعض الليل
لا يكلمه ليلة فمن حين حلف إلى مثل تلك الساعة من الليلة المقبلة ، لأنه حلف على يوم
منكر فلا بد من تمامه ، وذلك من اليوم الذي يليه فتدخل الليلة ضرورة تبعا ؛ ولو قال في
بعض اليوم : لا أكلمه اليوم فعلى باقي اليوم ، وكذا في الليلة لأنه حلف على زمان معين
فتعلق بما بقي منه ، إذ هو المراد ظاهرا وعرفا ، لأن ما مضى منه خرج عن الإرادة ضرورة .
قال : ( حلف لا يكلم عبد فلان يعتبر ملكه يوم الحنث لا يوم الحلف ، وكذا الثوب
والدار ) لأن اليمين عقدت على ملك مضاف إلى فلان ، فإذا وجدت الإضافة حنث وإلا فلا ،
ولأن اليمين للمنع عن الحنث فيعتبر وقع الحنث ( ولو قال : عبد فلان هذا أو داره هذه لا
يحنث بعد البيع ) لانقطاع الإضافة ولا تعادي لذاتها لسقوط عبرتها إلا أن ينوي عينها للتشاؤم
على ما ورد به الحديث ( وفي الصديق والزوج والزوجة يحنث بعد المعاداة والفراق ) لأن
الزوجة والصديق يقصدان بالهجرة لأذى من جهتهما ، فكانت الإضافة للتعريف وكانت
الإشارة أولى . وقال محمد : يحنث في العبد أيضا إذا كان معينا ، لأن المنع قد يكون لعينه
وقد يكون لمالكه فيتعلق اليمين بهما ؛ وإن أطلق اليمين في الزوجة والصديق لم يحنث عند
أبي حنيفة وحنث عند محمد لأن المانع أذى من جهتهما . ولأبي حنيفة أن هذه الإضافة
تحتمل التعريف دون الهجران ، ولهذا لم يعينه فلا يحنث ، ويحتمل الهجران فيحنث ، فلا
يحنث بالشك ، ولو لم يكن له امرأة ولا صديق فاستحدث ثم كلمه حنث خلافا لمحمد .
حلف لا يكلمه اليوم شهرا أو اليوم سنة ، فهو على ذلك اليوم من جميع ذلك الشهر وتلك
السنة ، لأن اليوم الواحد لا يكون شهرا ولا سنة ، فعلمنا أن مراده أنه لا يكلمه في مثل ذلك
اليوم شهرا أو سنة ؛ ولو قال : لا أكلمك يوم السبت عشرة أيام وهو في يوم السبت فهو على(4/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
سبتين ، لأن يوم السبت لا يدور في عشرة أيام أكثر من مرتين ، وكذلك لا أكلمك يوم
السبت يومين كان على سبتين لأن السبت لا يكون يومين فكان مراده سبتين ، وكذلك لو قال
ثلاثة أيام كانت كلها يوم السبت لما بينا .
حلف لا يتزوج بنت فلان فولدت له بنت أخرى لم يحنث بتزويجها ، لأن اليمين
انصرفت إلى الموجود في الحال : ولو قال : بنتا لفلان ، أو بنتا من بنات فلان ، فعن أبي
حنيفة روايتان . حلف لا يكلم إخوة فلان فهو على الموجودين وقت اليمين لا غير ، فإن كان
له إخوة كثير لا يحنث ما لم يكلم كلهم ؛ ولو قال : لا يكلم عبيد فلان ، أو لا يركب دواب
فلان ، أو لا يلبس ثياب فلان حنث بفعل ثلاثة مما سمى إلا إذا نوى الكل ، والفرق أن
الأول إضافة تعريف فتعلقت اليمين بأعيانهم ، فما لم يكلم الكل لا يحنث ؛ وفي الثانية إضافة
ملك لأنها لا تقصد بالهجران لكونها حمادا أو لخسة العبد ، وإنما المقصود المالك فتناولت
اليمين أعيانا منسوبة إليه وقت الحنث ، وقد ذكر النسبة بلفظ الجمع وأقله ثلاثة . وروى
المعلى عن أبي يوسف كل شيء سوى بني آدم فهو على واحد ، وإذا كانت يمينه على بني
آدم فهو على ثلاثة .
فصل
( الحين والزمان : ستة أشهر في التعريف والتنكير ) منقول عن ابن عباس وسعيد بن
المسيب ، ولأنه الوسط مما فسر به الحين فكان أولى ؛ والزمان كالحين لأنه يستعمل استعماله
يقال : ما رأيتك منذ حين ومنذ زمان بمعنى واحد ، وإن نوى شيئا فعلى ما نوى لأنه يحتمله ،
وقيل يصدق في الحين في الوقت اليسير دون الزمان لأنه استعمل في الحين ، قال الله تعالى :
) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( [ الروم : 117 ] . والمراد صلاة الفجر وصلاة
العصر ، ولا عرف في الزمان . وعن أبي يوسف : لا يدين في القضاء في أقل من ستة أشهر .
قال : ( و الدهر : الأبد ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا صيام لمن صام الدهر ) يعني جميع
العمر ( ودهرا ، قال أبو حنيفة : لا أدري ما هو ) وعندهما هو كالزمان لأنه يستعمل استعماله . وله
أنه لا عرف فيه فيتبع ، واللغات لا تعرف قياسا والدلائل فيه متعارضة فتوقف فيه . وروى أبو
يوسف عن أبي حنيفة أن دهرا والدهر سواء ، وهذا عند عدم النية ، وإن كان له نية فعلى ما
نوى ، قال : ( والأيام والشهور والسنون عشرة ) وكذا الأزمنة . ( و ) الجمع ( في المنكر ثلاثة )(4/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
وقالا في الأيام سبعة ، والشهور اثنا عشر وغيرهما جميع العمر ، لأن اللام للمعهود : وهي أيام
الأسبوع وشهور السنة ، ولأن الأيام تنتهي بالسبعة والأشهر بالاثني عشر ثم تعود ، ولا معهود
في غيرهما فتناولت العمر . ولأبي حنيفة أن الجمع المعرف بهذا اللفظ أكثره عشرة ، وما زاد
يتغير لفظه فلا يزاد على العشرة . أما المنكر يتناول الأقل وهو ثلاثة بالإجماع ؛ وفي رواية :
المبسوط عشرة عند أبي حنيفة ، والمختار ما ذكرنا . حلف لا يكلمه إلى كذا فعلى ما نوى ، فإن
لم ينو فيوم واحد لأنه أقل العدد ، وإن قال ؛ كذا وكذا ولا نية له فيوم وليلة . حلف لا يكلمه
إلى الحصاد فحصد أول الناس بر ، وكذلك إلى قدوم الحجاج فقدم واحد انتهت اليمين . حلف
لا يكلمه قريبا من ستة فهو على ستة أشهر ويوم ؛ ولو قال : لا يكلمه قريبا فهو أقل من شهر
بيوم ؛ ولو قال إلى بعيد فأكثر من شهر . وعن أبي يوسف هو مثل الحين ؛ وآجلا أكثر من
شهر ، وعاجلا أقل من شهر لأن الشهر أدنى الأجل ؛ ولو قال بضعا فثلاثة ، لأن البضع من
ثلاثة إلى تسعة فيحمل على الأقل عند عدم النية .
فصل
( حلف لا يأكل من هذه الحنطة لا يحنث ما لم يقضمها ) ولو أكل من خبزها أو سويقها
لم يحنث ، وقالا : يحنث بالخبز للعرف . وله أن الحقيقة مستعملة فإنه يقلى ويسلق ويؤكل
بعده قضما ، والحقيقة المستعملة قاضية على المجاز . قال : ( ومن هذا الدقيق يحنث بخبزه
دون سفه ) لأنه غير معتاد فانصرف إلى ما يتخذ منه وهو الخبز ؛ وكذا إن أكل من عصيدته أو
اتخذه خبيصا أو قطايف حنث ، إلا إذا نوى أكل عينه لأنه نوى حقيقة كلامه ، وكذلك ما لا
يؤكل عادة تقع اليمين على ما يتخذ منه ، لأن المجاز المتعارف راجح على الحقيقة
المهجورة .
قال : ( والخبز ما اعتاده أهل البلد ) لأن اليمين مبناها على العادة ، والمنع إنما يقع على
المعتاد ليتحقق معنى اليمين ، ولو حلف لا يأكل خبزا فأكل ثريدا . قال أبو الليث : لا يحنث
للعرف والطعام حقيقة ما يطعم ويؤكل ، وفي العرف يختص ببعض الأشياء ، ألا ترى أن
الأدوية لا تسمى طعاما ، وإن كانت تؤكل ويتغذى بها كمعجون الورد ونحوه ؛ والخل والزيت
والملح طعام لجريان العادة بأكله مع الخبز إداما له ، والنبيذ شراب عند أبي يوسف طعام عند
محمد ، والفاكهة طعام . حلف لا يشتري طعاما لا يحنث إلا بشراء الحنطة والدقيق والخبز
استحسانا للعرف ، وفي عرفنا يحنث بالشعير والذرة ونحوهما أيضا . قال : ( والشواء من
اللحم ) خاصة لأنه المتعارف عند الإطلاق ، ألا ترى أن الشواء اسم لبائع المشوي من اللحم
دون غيره ، ويصح قولهم : لم يأكل الشواء وإن أكل الباذنجان والسمك المشوي وغيره ما لم(4/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
يأكل الشواء من اللحم ، وإن نوى كل شيء يشوى صحت نيته وهو القياس ، لأن الشواء ما
يجعل في النار ليسهل أكله وهو موجود في كل شيء إلا أن العرف اختص باللحم على ما
بينا .
قال : ( والطبيخ ما يطبخ من اللحم بالماء ) للعرف ، وإن نوى كل ما يطبخ صدق لأنه
شدد على نفسه ( ويحنث بأكل مرقه ) لأن فيه أجزاء اللحم ؛ وفي النوادر ؛ حلف لا يأكل
طبيخا فأكل قلية يابسة لا مرق فيها لا يحنث ، لأنه بدون المرق لا يسمى طبيخا ، فإنه يقال
لحم مقلي ولا يقال مطبوخ إلا لما طبخ في الماء . ولو أكل سمكا مطبوخا لم يحنث ، لأن
الاسم لا يتناوله عند الإطلاق . وعن ابن سماعة : الطبيخ يكون على الشحم ، فإن طبخ عدسا
أو أرزا بودك فهو طبيخ ، وإن كان بسمن أو زيت فليس بطبيخ ، والمعتبر العرف ، والطابخ :
هو الذي يوقد النار دون الذي ينصب القدر ويصب الماء واللحم وحوائجه فيه ؛ والخابز :
الذي يضرب الخبز في التنور دون من عجنه وبسطه . ولو حلف لا يأكل من طبيخ فلان
فطبخ هو وآخر وأكل الحالف منه حنث ، لأن كل جزء منه يسمى طبيخا ، وكذلك من خبز
فلان فخبز هو وآخر ، وكذلك من رمان اشتراه فلان فاشترى هو وآخر ؛ وكذا لا ألبس من
نسج فلان فنسج هو وآخر ؛ ولو قال : من قدر طبخها فلان فأكل ما طبخاه لم يحنث ، لأن
كل جزء من القدر ليس بقدر ، وكذلك من قرص يخبزه فلان ، أو رمانة يشتريها فلان ، أو
ثوبا ينسجه فلان لما بينا ؛ ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة ، فلا بد أن يكون جميعه
من غزلها ، حتى لو كان فيه جزء من ألف جزء من غزل غيرها لم يحنث ، رواه هشام عن
محمد . حلف لا يأكل من هذا الطعام ما دام في ملكه ، فباع بعضه وأكل الباقي لا يحنث ،
ذكره الحسن . حلف لا يأكل من مال فلان فتناهد وأكل لا يحنث لأنه أكل مال نفسه عرفا
رواه المعلى عن أبي يوسف . حلف لا يأكل من فلان وبينهما دراهم فأخذ منها درهما
فاشترى به شيئا وأكل لم يحنث . حلف لا يأكل من طعام شريكه فأكل من طعام مشترك
بينهما لم يحنث ، لأنه إنما أكل حصته ؛ ألا ترى أن له أن يأخذه من حصته .
قال : ( والرؤوس ما يكبس في التنانير ويباع في السوق ) جريا على العرف . وعن أبي
حنيفة أنه يدخل في اليمين رؤوس البقر والجزور ، وعندهما يختص برؤوس الغنم وهو
اختلاف عادة وعصرة .
قال : ( والرطب والعنب والرمان والخيار والقثاء ليس بفاكهة ) وقالا : الرطب والرمان(4/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
والعنب فاكهة ، لأنه يتفكه بها عادة كسائر الفاكهة حتى يسمى بائعها فاكهاني ، ولأبي حنيفة
قوله تعالى : ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( [ الرحمن : 68 ] . ولذلك عطف الفاكهة على
العنب في آية أخرى والمعطوف يغاير المعطوف عليه لغة ، ولأنه ذكر في معرض الامتنان
والكريم الحكيم لا يعيد المنة بالشيء مرتين ، ولأن الفاكهة ما يتفكه به قبل الطعام ، وبعده ،
ويتفكه برطبه ويابسه دون الشبع ، والعنب والرطب يستعملان للغذاء والشبع ، والرمان يستعمل
للأدوية فكان معنى الفاكهة قاصرا عنها ، فلا يتناولها الاسم عند الإطلاق حتى لو نواها
صحت نيته لأنه تشديد عليه ، والتمر والزبيب وحب الرمان إدام وليس بفاكهة بالإجماع ،
والتفاح والسفرجل والكمثرى والإجاص والمشمش والخوخ والتين فاكهة لأنها تؤكل للتفكه
دون الشبع ، والبطيخ فاكهة ، واليابس من أثمار الشجر فاكهة ، ويابس البطيخ ليس بفاكهة لأنه
غير معتاد ، والقثاء والخيار والجزر والباقلاء الرطب يقول .
قال محمد : التوت فاكهة لأنه يستعمل استعمال الفاكهة . قال محمد : قصب السكر
والبسر الأحمر فاكهة ، والجوز في عرفنا ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به . وروى المعلى عن
محمد : الجوز اليابس ليس بفاكهة لأنه يؤكل مع الخبز غالبا ، فأما رطبه لا يؤكل إلا للتفكه .
وعن أبي يوسف : اللوز والعناب فاكهة ، رطبه من الفاكهة الرطبة ، ويابسه من يابسها ، وعن
محمد : لو حلف لا يأكل فاكهة العام أو من ثمره العامّ إن كان زمان الرطبة فهي على
الرطبة ، ولا يحنث بأكل اليابس ، وإن كان في غير زمانها فهي على اليابس للتعارف ، وكان
ينبغي أن يحنث باليابس والرطب إذا كان في زمان الرطبة ، لأن اسم الفاكهة يتناولهما إلا أنه
استحسن ذلك ، لأن العادة في قولهم فاكهة العام إذا كان زمان الرطبة يريدونها دون اليابس ،
فإذا لم تكن رطبة تعينت اليابسة فحملت عليه .
قال : ( والإدام ما يصطبغ به كالخل والزيت والملح ) وأصله من المؤادمة وهي الموافقة
وهي بالملازقة فيصيران كشيء واحد ، أما المجاورة فليست بموافقة حقيقة ، يقال : وأدم الله
بينكما : أي وفّق بينكما ، قال عليه الصلاة والسلام للمغيرة وقد تزوج امرأة ' لو نظرت إليها
كان أحرى أن يودم بينكما ' فكل ما احتاج في أكله إلى موافقة غيره فهو إدام ، وما أمكن
إفراده بالأكل فليس بإدام ؛ وإن أكل مع الخبز كما لو أكل الخبز مع الخبز ، فالخل والزيت
واللبن والعسل والمرق إدام لما بينا ، وكذلك الملح لأنه لا يؤكل منفردا ولأنه يذوب فيختلط
بالخبز ويصير تبعا : واللحم والشواء والبيض والجبن ليس بإدام لأنها تفرد بالأكل ولا تمتزج(4/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
بالخبز . وعن محمد : كل ما يؤكل بالخبز عادة فهو إدام ، وهو المختار عملا بالعرف . وعن
أبي يوسف : الجوز اليابس إدام . وقال محمد وهو رواية عن أبي يوسف : التمر والجوز
والعنب والبطيخ والبقول وسائر الفواكه ليس بإدام ، لأنها تفرّد بالأكل ولا تكون تبعا للخبز
حتى لو كان موضعا تؤكل تبعا للخبز معتادا يكون إداما عندهم اعتبارا للعرف وهو الأصل في
الباب .
قال : ( والغداء من طلوع الفجر إلى الظهر ) لأنه عبارة عن أكل الغدوة ، وما بعد نصف
النهار لا يكون غدوة ( والعشاء : من الظهر إلى نصف الليل ) لأنه مأخوذ من أكل العشاء وأوله
بعد الزوال . وروي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين ' يريد به الظهر أو العصر
( والسحور : من نصف الليل إلى طلوع الفجر ) لأنه مأخوذ من السحر فينطلق إلى ما يقرب
منه ، ثم الغداء والعشاء عبارة عن الأكل الذي يقصد به الشبع عادة ، فلو أكل لقمة أو لقمتين
فليس بشيء حتى يزيد على نصف الشبع فإنه يقال لم أتغد وإنما أكلت لقمة أو لقمتين ،
ويعتبر في كل بلدة عادتهم ؛ فلو حلف لا يتغدى فشرب اللبن إن كان حضريا لا يحنث ، وإن
كان بدويا يحنث اعتبارا للعادة . قال الكرخي : إذا حلف لا يتغدى فأكل تمرا أو أرزا أو غيره
حتى شبع لا يحنث ، ولا يكون غداء حتى يأكل الخبز ، وكذلك إن أكل لحما بغير خبز
اعتبارا للعرف .
قال : ( والشرب من النهر : الكرع منه ) فلو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات
لا يحنث حتى يكرع منها كرعا يباشر الماء بفيه ، فإن شرب منه بيده أو بإناء لم يحنث ،
وقالا : يحنث في جميع ذلك . أصله أنه متى كان لليمين حقيقة مستعملة ومجاز مستعمل ،
فعند أبي حنيفة : العبرة للحقيقة خاصة لأنه لا يجوز إهدار الحقيقة إلا عند الضرورة ،
وذلك بأن تكون مهجورة مهملة كما قلنا في سف الدقيق . وعندهما العبرة للمجاز والحقيقة
جمعا لمكان الاستعمال والعرف ؛ فأبو حنيفة يقول : الكرع حقيقة مستعملة ، ولهذا يحنث به
بالإجماع ، وهما يقولان : استعمال المجاز أكثر فيعتبر أيضا ، لأن الكرع إنما يستعمل عادة
عند عدم الأواني فيعتبر كل واحد منهما . ومن أصحابنا من قال : إن أبا حنيفة شاهد
العرب بالكوفة يكرعون ظاهرا معتادا فحمل اليمين عليه ، وهما شاهدا الناس بعد ذلك لا
يفعلونه إلا نادرا فلم يخصا اليمين به ؛ ولو شرب من نهر يأخذ من دجلة أو من الفرات لم
يحنث بالإجماع ، لأن الإضافة قد زالت بالانتقال إلى غيره ، فصار كما إذا حلف لا يشرب(4/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
من هذا الكوز فصب في كوز آخر ، وهذه المسألة تشهد لأبي حنيفة لاختصاص اليمين
عندهم بدجلة دون ما انتقل إليه ماؤها وهذا إذا لم يذكر الماء ، وأما إذا قال : من ماء دجلة
فإنه يحنث بالكرع وبالإناء وبالغرف ومن نهر آخر ، لأن اليمين عقدت على الماء دون النهر
وقد وجد .
قال : ( ولو حلف لا يشرب من الحب أو البئر يحنث بالإناء ) وهذا في البئر ظاهر لأنه
لا يمكن الشرب منها إلا بإناء حتى قالوا : لو نزل البئر وكرع لا يحنث ، لأن الحقيقة
والمجاز لا يجتمعان تحت لفظ واحد والحقيقة مهجورة ؛ وأما الحب إن كان ملآنا يمكن
الشرب منه لا يحنث بالاعتراف والإناء لتعينه . ولو حلف لا يشرب من هذا الإناء فهو عن
الشرب بعينه لأنه المتعارف فيه .
قال : ( والسمك والألية ليسا بلحم ) فإن حلف لا يأكل لحما فأي لحم أكل من جميع
الحيوان غير السمك حنث سواء أكله طبيخا أو مشويا أو قديدا وسواء كان حلالا أو حراما :
كالميتة ولحم الخنزير والآدمي ، ومتروك التسمية وذبيحة المجوسي وصيد الحرم ، لأن اسم
اللحم يتناول الجميع ولا يختلف باختلاف صفة اللحم وصفة الذابح . فأما السمك وما يعيش
في الماء لا يحنث به لأنه لا يدخل تحت إطلاق اسم اللحم ، ألا ترى أنهم يقولون : ما
أكلت لحما وقد أكل السمك ، والمعتبر في ذلك الحقيقة دون لفظ القرآن ، ألا ترى أنه لو
حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وإن سماه الله تعالى دابة في قوله : ) إن شر
الدواب عند الله الذين كفروا ( [ الأنفال : 55 ] وكذا لو خرب بيت العنكبوت لا يحنث في
يمينه لا يخرب بيتا ، وكذا لا يحنث بالقعود في الشمس لو حلف لا يقعد في السراج إلى
غير ذلك ، وإنما المعتبر في ذلك المتعارف ، وكذلك الألية وشحم البطن ليسا بلحم لأنهما لا
يستعملان استعمال اللحم ولا يتخذ منهما ما يتخذ من اللحم ولا يسميان لحما عرفا ، وإن
نواه أو نوى السمك يحنث لأنه تشديد على نفسه .
قال : ( والكرش والكبد و الرئة والفؤاد والكلية والرأس والأكارع والأمعاء والطحال لحم )
لأنها تباع مع اللحم ، وهذا في عرفهم على ما رواه أبو حنيفة في زمنه بالكوفة . وأما البلاد
التي لا تباع فيها مع اللحم فلا يحنث اعتبارا للعرف في كل بلدة وكل زمان . وأما شحم
الظهر فهو لحم ، ويقال له لحم سمين ، ويستعمل فيها يستعمل فيه اللحم . قال : ( والشحم
شحم البطن ) فلو حلف لا يأكل شحما فأكل شحم الظهر لا يحنث لأنه من اللحم ويقال له
لحم سمين كما قدمنا ، وقالا : يحنث لأن اسم الشحم يتناوله وهذا في عرفهم ، وفي عرفنا :(4/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
اسم الشحم لا يقع على شحم الظهر بحال . وعن محمد فيمن أمر غيره أن يشتري له شحما
فاشترى شحم الظهر بحال . وعن محمد فيمن أمر غيره أن يشتري له شحما
فاشترى شحم الظهر لا يلزم الآمر ، وهذا يؤيد مذهب أبي حنيفة أن مطلق اسم الشحم لا
يتناوله . حلف لا يأكل لحم شاة فأكل لحم عنز حنث ، لأن اسم الشاة يتناول العنز وغيره .
وذكر الفقيه أبو الليث أنه لا يحنث لأن العرف يفرق بينهما وهو المختار ؛ وكذا لا يدخل
لحم الجاموس في يمين البقر . قال : ( حلف لا يأكل من هذا البسر فأكله رطبا لم يحنث ،
وكذا الرطب إذا صار تمرا واللبن شيرازا ) لأن هذه الصفات داعية إلى اليمين فتتقيد به ، أو
نقول : اللبن ما يؤكل عينه فلا ينصرف إلى ما يتخذ منه .
قال : ( حلف لا يأكل من هذا الحمل فصار كبشا فأكله حنث ) لأن صفة الحملية ليست
داعية إلى اليمين ، لأن الامتناع عن لحمه أقل من الامتناع عن لحم الكبش ، وإذا امتنع أن
تكون صفة داعية تعينت الذات وأنها موجودة . قال : ( حلف لا يأكل من هذه النخلة فهو على
ثمرتها ودبسها غير المطبوخ ) يقال له سيلان ، لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى
ما يخرج منه لأنه سبب له فيصلح مجازا ، ويحنث بالجمار لأنه منها ولا يحنث بما يتغير
بالصنعة : كالنبيذ والخل والدبس المطبوخ لأنه ليس بخارج منها حقيقة ، فإن الخارج منها ما
يوجد كذلك متصلا بها ، بخلاف غير المطبوخ وعصير العنب لأنه كذلك متصل بها إلا أنه
منكتم فزال الانكتام بالعصير ؛ ولو أكل من عين النخلة لا يحنث لأنها حقيقة مهجورة .
( و ) لو حلف لا يأكل ( من هذه الشاة فعلى اللحم واللبن والزبد ) لما مر ، وفي الاستحسان
على اللحم خاصة ، لأن عين الشاة مأكول فانصرفت اليمين إلى اللحم خاصة ، ولا يحنث
باللبن والزبد والسمن .
قال : ( ولا يدخل بيض السمك في البيض ) للعرف ، فإن اسم البيض عرفا يتناول بيض
الطير كالدجاج والأوز مما له قشر ، فلا يدخل بيض السمك إلا بنية لأنه بيض حقيقة وفيه
تشديد على نفسه ( والشراء كالأكل ) فاليمين على الشراء كاليمين على الأكل . حلف لا يأكل
حراما فاضطر إلى الميتة والخمر فأكل ، روي عن أبي يوسف أنه يحنث لأنه حرام ، إلا أنه
مرفوع الإثم عن المضطر كفعل الصبي والمعتوه ، والحرام لا يوصف بأنه حلال لهما وإن
وضع الإثم عنهما . وروي عنه أنه لا يحنث . وعن محمد ما يدل عليه فإنه قال في الإكراه :
إن الله تعالى أحل الميتة حالة الضرورة ، فإذا امتنع عن الأكل حالة الإكراه أثم ، ولو أكل
طعاما مغصوبا حنث ، ولو اشترى بدرهم مغصوب لا يحنث .(4/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
فصل
( حلف ليصعدن السماء أو ليطيرن في الهواء انعقدت يمينه وحنث للحال ) وقال زفر :
لا ينعقد لأنه مستحيل عادة فصار كالمستحيل حقيقة . ولنا أن اليمين عقد من العقود فتنعقد
إذا كان المعقود عليه موجودا أو متوهما ، وإذا لم يكن موجودا ولا متوهما لم ينعقد ، ألا
ترى أن بيع الأعيان المباحة منعقد ، لأن المعقود عليه موجود ، وبيع المدبر منعقد لأنه
متوهم دخوله تحت العقد بالحكم وإن كان بغير فعل العاقد ، وبيع الحر ليس بمنعقد لأنه
غير داخل في العقد ولا متوهم الدخول فكذلك اليمين ينعقد على الفعل المقدور والموهوم
ولا ينعقد على غير المقدور والموهوم ، وما نحن فيه مقدور موهوم يدخل تحت قدرة
قادر ، ألا ترى أن من الأنبياء صلوات الله عليهم من صعد السماء والملائكة يصعدون في
كل وقت وينزلون ، وإذا كان متوهما انعقدت اليمين ثم يحنث في الحال حكما للعجز
الثابت عادة كموت الحالف ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائل كثيرة من هذا الجنس لمن
يتأملها .
قال : ( حلف ليأتينه إن استطاع فهي على استطاعة الصحة ) معناه : إذا لم يعرض له أمر
يمنعه من مرض أو سلطان أو نحوه ولم يأته حنث ، لأن الاستطاعة في العرف الاستطاعة من
حيث سلامة الآلة وعدم الموانع ، وإن عين استطاعة القضاء والقدر صدق ديانة لأنه خلاف
الظاهر ، وفي رواية تصح قضاء أيضا لأنه حقيقة ، لأن الاستطاعة الآلية تقوم بالاستطاعة
التقديرية على المذهب الصحيح . قال : ( حلف ليأتينه فلم يأته حتى مات حنث في آخر
حياته ) لأن الحنث إنما يتحقق بالموت إذ البر مرجو قبله . حلف ليأتينه فهو على أن يأتي
منزله أو حانوته لقيه أو لم يلقه ، لأن الإتيان الوصول إلى مكانه دون ملاقاته ، وعن محمد :
لأوافينك غدا فهو على اللقاء ، فإن أتاه فلم يلقه حنث . حلف لا تأتي زوجته العرس فذهبت
قبل العرس وأقامت حتى مضى العرس لا يحنث ، لأن العرس أتاها لا أتته . وعن محمد :
لأعودن فلانا غدا فعاده ولم يؤذن له بر ، وكذلك الإتيان إذا أتاه فلم يؤذن له . حلف لا
تذهب زوجته إلى بيت والدها فذهبت إلى باب الدار ولم تدخل لم يحنث . وعن أبي
يوسف : حلف لا أرافق فلانا فهو على الاجتماع في الطعام أو شيء يجتمعان عليه بأن كان
مقامهما في مكان واحد ، وإن كان في سفينة وطعامهما ليس بمجتمع ولا يأكلان على خوان
واحد فليس بمرافقة . وعن محمد : إن كان معه في محمل أو كان كراهما واحدا أو قطارهما
واحدا فهي مرافقة ، وإن كان كراهما مختلفا والمسير واحد فليس بمرافقة .(4/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
قال : ( ولو قال : إن أكلت أو شربت ، أو لبست ، أو كلمت ، أو تزوجت ، أو
خرجت ونوى شيئا بعينه لم يصدق ؛ ولو قال : إن أكلت طعاما أو شربت شرابا أو لبست
ثوبا ونحو ذلك ونوى شيئا دون شيء صدق ديانة خاصة ) والأصل فيه أن من ذكر لفظا
عاما ونوى تخصيص ما في لفظه صدق فيما بينه وبين الله تعالى ولم يصدق في القضاء ،
لأن المتكلم بالعموم قد يريد الخصوص ، فإذا نوى صارت نيته دلالة على التخصيص
كالدلالة الشرعية على تخصيص العموم ، إلا أن الظاهر من اللفظ العموم فلا يصدق في
القضاء لأنه خلاف الظاهر ؛ فأما إذا نوى تخصيص ما ليس في لفظه لا يصدق أصلا ، لأن
الخصوص يتبع الألفاظ دون المعاني ، فما ليس في لفظه لا يصح تخصيصه ، ففي الفصل
الأول الطعام والثوب ونحوهما ليس مذكورا فقد نوى تخصيص ما ليس في لفظه فلا
يصدق ، الفصل الثاني : إذا قال : عنيت الخبز أو اللحم فقد نوى تخصيص ما في لفظه
فيصدق ديانة لا قضاء لما بينا ؛ ولو قال : لا أشرب الماء ولا أتزوج النساء حنث بشرب
قطرة من الماء وتزويج امرأة واحدة لأنه لا يمكن استيعاب الجنس فيحمل على الأدنى ،
ولو نوى الجنس صدق لأنه نوى حقيقة كلامه وإن كان خلاف الظاهر ، لأن الحقيقة أحد
الظاهرين فيصدق فيها إذا نواها .
قال : ( والريحان اسم لما لا ساق له ) لغة ( فلا يحنث بالياسمين والورد ) وقيل يحنث في
عرفنا ، فإن الريحان اسم لما له رائحة طيبة من النبات عرفا فيحنث بهما وبالشاهسبرم ،
والعنبر والآس لا يسمى ريحانا عرفا . قال : ( والورد والبنفسج هو الورق ) عرفا ، وأصحابنا
قالوا : لو حلف لا يشتري بنفسجا فاشترى دهنه حنث ، ولو اشترى ورقه لا يحنث ، وكذا
كان عرف أهل الكوفة ، أما عرفنا فكما ذكرت ؛ ولو حلف لا يشم طيبا فدهن لحيته بدهن
طيب لا يحنث لأنه لا يعد شما عرفا . قال : ( والخاتم النقرة ليس بحلي ، والذهب حلي )
فلو حلف لا يلبس حليا لا يحنث بخاتم النقرة ، لأن النقرة تلبس لإقامة السنة وللختم لا
للتزين ، والحلي ما يتزين به ، ولا كذلك الذهب فإنه يتزين به ، ولو كان الخاتم مما يلبسه
النساء من الحجر أو الفضة قيل يحنث لأنه للزينة ، وقيل لا يحنث لأنه يحل للرجال ولا
يحل لهم التزين بالحلي .(4/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
قال : ( والعقد اللؤلؤ ليس بحلي حتى يكون مرصعا ) والمعتبر في اليمين العرف لا
الحقيقة ، لفظ القرآن كما تقدم . وقال أبو يوسف ومحمد : هو حلي وإن لم يكن مرصعا
لأنه حلي حقيقة بدليل تسمية القرآن وعليه الفتوى لأنه صار معتادا فهو اختلاف عادة وزمان ،
فعلى قول أبي حنيفة ينغبي أن يجوز للرجل لبس العقد الغير المرصع لأنه ليس بحلي ؛ ولو
علقت المرأة في عنقها ذهبا غير مصنوع لا يحنث ، والمنطقة المفضضة والسيف المحلى
ليس بحلي لما مر .
قال : ( حلف لا ينام على فراش فجعل عليه فراشا آخر ونام لم يحنث ، وإن جعل عليه
قراما فنام حنث ) لأن القرام تبع للفراش ، ألا ترى أنه لو كان القرام ثوبا طبريا والفراش
ديباجا ، يقال نام على فراش ديباج ، ولو كان الأعلى ديباجا والأسفل خزا يقال : نام على
الديباج . وعن أبي يوسف في الأمالي أنه يحنث في الفراش أيضا لأنه نائم على الفراشين
حقيقة ، وصار كما إذا حلف لا يكلم رجلا فكلمه وآخر بخطاب واحد . جوابه أن الشيء لا
يستتبع مثله ، وفي العرف لا ينسب إلا إلى الأعلى ، وفي الكلام هو مخاطب لكل واحد
منهما حقيقة وعرفا وشرعا والسرير والدكان والسطح كالفراش إن جعل عليه سريرا آخر وبنى
على السطح سطحا آخر فنام على الأعلى لا يحنث لما بينا ؛ وإن جعل على السرير أو
السطح أو الدكان بساطا أو فراشا أو نحوه ونام عليه حنث لأنه يعد نائما على السطح والسرير
والدكان ، ومتى جلس على ما يحول بينه وبين الأرض فليس بجالس عليها لأنه لا يسمى
جالسا على الأرض إلا أن يجلس على ثيابه فتحول بينه وبين الأرض لأنها تبع له فلا يعد
حائلا ، ولهذا يقال هو جالس على الأرض .
قال : ( والضرب والكلام والكسوة والدخول عليه يتقيد بحال الحياة ) لأن الضرب هو
الفعل المؤلم ولا يتحقق في الميت والمراد ، بالكلام الإفهام وأنه يختص بالحي . والمراد
بالكسوة عند الإطلاق التمليك كما في الكفارة ولا تمليك من الميت ، وإن نوى به الستر صح
لأنه محتمل كلامه ، وأما الدخول عليه فلأنه يراد به الزيارة عرفا في موضع يجلس فيه للزيارة
والتعظيم حتى لو لم يقصده بالدخول بأن دخل على غيره أو لحاجة أخرى ، أو دخل عليه
في موضع لا يجلس فيه للزيارة لا يكون دخولا عليه ، ولو دخل عليه في المسجد والظلة
والدهليز لا يكون دخولا عليه إلا أن اعتادوا الجلوس فيه للزيارة . وذكر الكرخي عن ابن(4/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
سماعة ضد هذا فقال : لو حلف لا يدخل على فلان فدخل على قوم هو فيهم حنث وإن لم
يعلم لأنه دخل على المحلوف عليه والعلم ليس بشرط ، كما لو حلف لا يكلمه فكلمه وهو
لا يعرفه والمذهب الأول . رجلان حلف كل واحد منهما لا يدخل على صاحبه فدخلا في
المنزل معا لا يحنثان . ولو قال : إن غسلتك فعبدي حر فإنه يتناول حالتي الحياة والموت ،
لأنه عبارة عن الإسالة للتطهير وذلك يوجد في الحي والميت .
قال : ( حلف ليضربنه حتى يموت أو حتى يقتله فهو على أشد الضرب ) لأنه المراد في
العرف ؛ ولو قال : حتى يغشى عليه أو حتى يبكي أو يبول أو يستغيث فلا بد من وجود هذه
الأشياء حقيقة ؛ ولو قال : لأضربنك بالسياط حتى تموت فهو على المبالغة ؛ ولو قال :
لأضربنك بالسيف حتى تموت فهو على الموت حقيقة . وعن أبي يوسف فيمن قال لامرأته :
إن لم أضربك حتى أتركك لا حية ولا ميتة فهو أن يضربها ضربا يوجعها ( حلف لا يضرب
امرأتة فخنقها أو مد شعرها أو عضها حنث ) لأن الضرب اسم لفعل مؤلم .
فصل
( حلف لا يصوم فنوى وصام ساعة حنث ) لأن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع
النية وقد وجد ( وإن قال صوما لم حنث إلا بتمام اليوم ) لأنه يراد به الصوم التام ، وذلك
صوم اليوم لأن ما دونه ناقص . قال : ( حلف لا يصلي فقام وقرأ وركع لم يحنث ما لم
يسجد ) لأن الصلاة عبارة عن الأركان ، فما لم يأت بها لا تسمى صلاة ، بخلاف الصوم لأنه
عبارة عن الإمساك وأنه موجود في أول جزء من اليوم وفي الجزء الثاني يتكرر ( ولو قال
صلاة لا يحنث إلا بتمام ركعتين ) لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعا وأقل ذلك ركعتان .
قال : ( ومن قال لأمته : إن ولدت ولدا فأنت حرة ، فولدت ولدا ميتا عتقت ، وكذلك الطلاق )
لوجود الشرط وهو ولادة الولد ، ألا يرى أنه يقاتل : ولدت ولدا حيا ، وولدت ولدا ميتا ( ولو
قال : فهو حر فولدت ميتا ثم حيا عتق الحي ) عند أبي حنيفة رحمه الله . وقالا : لا يعتق لأن
اليمين انحلت بوجود الشرط وهو ولادة الولد الميت لا إلى جزاء لأن الميت ليس بمحل
للحرية . وله أن الشرط ولادة الحي لأنه وصفه بالحرية ، ومن ضرورتها الحياة فصار كقوله :(4/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
إذا ولدت ولدا حيا فهو حر ، ولو قال كذلك عتق الحي فكذا هنا ، بخلاف حرية الأم
والطلاق لأنه لم يقيده بالحياة فافترقا .
قال : ( ومن قال : من بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشره جماعة متفرقون عتق الأول ،
وإن بشروه جميعا عتقوا ، ولو قال : من أخبرني عتقوا في الوجهين ) لأن البشارة عرفا اسم
لخبر سار صدق ليس عند المبشر علمه لأنه مأخوذ من تغير بشرة الوجه من الفرح عادة ،
والسرور إنما يحصل بالصدق لا بالكذب وبخبر ليس عنده علمه ، والخبر اسم لمطلق الخبر
سواء كان عنده علمه أو لم يكن ويقع على الصدق والكذب ، ففي المسألة الأولى البشارة
حصلت بالأول لما بينا فعتق ولم تحصل بالباقي لأنه قد علم به فلم تكن بشارة ، وفي الثانية
حصلت بأخبار الكل فيعتقون ؛ أما الخبر فإنه وجد من الكل سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين
فيعتقون في الحالين ، والإعلام كالبشارة يعتق الأول لا غير لأنه ما يحصل به العلم وإنما
يحصل بالأول والبشارة ، والخبر يكون بالكتابة والمراسلة كما يكون بالمشافهة ، والمحادثة
بالمشافهة لا غير ، ولهذا يقال : أخبرنا الله تعالى ولا يقال حدثنا ، فإذا قال : أي غلام بشرني
بقدوم فلان فهو حر فكتب إليه غلامه بذلك عتق ؛ ولو أن عبدا له أرسل عبدا له آخر بالبشارة
فجاء الرسول وقال للمولى : إن فلانا يقول لك : قد قدم فلان عتق المرسل دون الرسول وهو
بمنزلة الكتاب ؛ ولو قال الرسول : إن فلانا قدم ولم يقل له أرسلني فلان عتق الرسول
خاصة .
( قال : إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت ، ولو اشتراها
وتسرى بها لم تعتق ) والفرق أن في المسألة الأولى تناولتها اليمين لكونها في ملكه ، وفي
المسألة الثانية لم تكن في ملكه فلم يتناولها اليمين . وقال زفر رحمه الله : تعتق في الوجهين
لأن ذكر التسري ذكر للملك ، لأن التسري لا يصح إلا في الملك . قلنا الملك يصير مذكورا
ضرورة صحة التسري فيتقدر بقدره ولا يظهر في حق الحرية وهو الجزاء ، لأن الثابت
بالضرورة يتقدر بقدرها .
قال : ( حلف لا يتزوج فزوجه غيره بغير أمره ، فإن أجاز بالقول حنث ) لأن الإجازة في
الانتهاء كالإذن في الابتداء على ما عرف في تصرفات الفضولي ( وإن أجاز بالفعل ) كإعطاء
المهر ونحوه المختار أنه ( لا يحنث ) لأن العقود تختص بالأقوال فلا يكون فعله عقدا وإنما
يكون رضا ، وشرط الحنث العقد لا الرضا . وروي عن محمد أنه لا يحنث في الوجهين ،(4/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
وأفتى به بعض المشايخ ، لأن الإجازة ليست بإنشاء للعقد حقيقة ، وإنما هو تنفيذ لحكم العقد
بالرضا به ( ولو أمر غيره أن يزوجه حنث ) لأن الوكيل في النكاح سفير ومعبر على ما عرف
في موضعه . ولو قال : عنيت أن لا أتكلم به صدق ديانة لأنه يحتمله لا قضاء لأنه خلاف
الظاهر ( وكذلك ) الحكم في ( الطلاق والعتاق ) وكل عقد لا ترجع حقوقه إلى الوكيل كالكتابة
والخلع والهبة والصدقة والوديعة والعارية والقرض والاستقراض ، وكذلك كل فعل ليس له
حقوق كالضرب والقتل والذبح والكسوة والقضاء والاقتضاء والخصومة والشركة فإنه يحنث
بفعله وبالأمر .
وفي الصلح روايتان بمنزلة البيع والنكاح ( حلف لا يزوج عبده أو أمته يحنث بالتوكيل
والإجازة ) لأن ذلك مضاف إليه متوقف على إرادته لملكه وولايته ( وكذلك ابنه وابنته
الصغيرين ) لولايته عليهما ( وفي الكبيرين لا يحنث إلا بالمباشرة ) لعدم ولايته عليهما فهو
كالأجنبي عنهما فيتعلق بحقيقة الفعل . قال : ( حلف لا يضرب عبده فوكل به حنث ) لأن
منفعة ذلك ترجع إلى المالك فيجعل مباشرا لأنه لا حقوق له ترجع إلى الوكيل .
( وإن نوى أن لا يباشره بنفسه صدق قضاء ) لأنه فعل حسي ، فإذا نوى الفعل بنفسه فقد
نوى الحقيقة فيصدق قضاء وديانة ، بخلاف ما تقدم من النكاح وأخواته لأنه تكلم بكلام
يفضي إلى النكاح والطلاق والأمر بذلك مثل التكلم به ، فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخاص
من العام فيصدق ديانة لا قضاء . قال : ( ولو حلف لا يضرب ولده فأمر به لم يحنث ) لأن
منفعته عائدة إلى الولد وهو التثقيف والتأديب فلا ينسب إلى الآمر ، بخلاف ضرب العبد على
ما تقدم ( وذبح الشاة كضرب العبد ) حلف لا يضرب حرا فأمر غيره فضربه لا يحنث لأنه لا
يملك ضرب الحر إلا أن يكون سلطانا أو قاضيا فيحنث لأنه يملك ضربا حدا وتعزيرا فيصح
الأمر به .
قال : ( حلف لا يبيع فوكل به لم يحنث ، وكذا سائر المعاوضات المالية ) لأن العقد
يوجد من العاقد حتى ترجع الحقوق إليه على ما مر في البيوع فلم يوجد الشرط وهو العقد
من الحالف إلا أن ينوي ذلك لأن فيه تشديدا عليه ، أو يكون الحالف ممن لا يباشر العقود
كالسلطان والمخدرة ، لأنه إنما يمنع نفسه عما يعتاد ، ولو كان الحالف يباشر مرة ويوكل
أخرى تعتبر الغلبة .(4/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
قال : ( حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري لا يحنث ، وكذلك الإجارة والصرف
والسلم والرهن والنكاح والخلع ، ولو وهب أو تصدق أو أعار فلم يقبل حنث ) لأن المعاوضة
تمليك من الجانبين فيكون القبول ركنا لتحقيق المعاوضة ، وفي غير المعاوضة تمليك من
جانب المملك وحده . وقال زفر : لا يحنث في الهبة والصدقة أيضا لأن تمامها بالقبول فصار
كالبيع . قلنا الهبة تمليك فتتم بالمملك والقبول شرط لثبوت الملك دون وجود الهبة ، فصار
كالوصية ، والإقرار بخلاف البيع لأنه تمليك وتملك على ما بينا . وعن أبي حنيفة رحمه الله :
في القرض روايتان ، ويحنث بالبيع الفاسد والهبة الفاسدة . وعن أبي يوسف أنه لا يحنث .
وقال زفر : لا يحنث فيه إلا بالقبض ، لأن المقصود الملك وهو بالقبض . قلنا هو بيع حقيقة
لوجود الإيجاب والقبول وعلى هذا البيع بشرط الخيار .
قال : ( حلف ليقضين دينه إلى قريب فما دون الشهر ، وبعيد أكثر من الشهر ) لأن ما
دون الشهر يعد قريبا ، والشهر وما زاد يعد بعيدا والعبرة للمعتاد ( وإن قال : ليقضينه اليوم
ففعل وبعضها زيوف ، أو نبهرجة ، أو مستحقة لم يحنث ) لأنها دراهم إلا أنها معيبة والعيب
لا يعدم الجنس ، ألا يرى أنه لو تجوز بها في الصرف والسلم جاز ، والمستحقة دراهم
وقبضها صحيح ، وبردّها لا ينتقض القبض الأول المستحق باليمين ( ولو كان رصاصا أو
ستوقة حنث ) لأنهما ليسا بدراهم حتى لو تجوز بهما لا يجوز ، وهذا إذا كان الأكثر ستوقا ،
أما إذا كان الأكثر فضة لا يحنث . حلف ليقضين من فلان حقه فأخذه من وكيله أو كفيل عنه
بأمره أو محتال عليه بأمر المطلوب بر ، وإن كانت الكفالة والحوالة بغير أمر المطلوب حنث ،
لأن القبض ليس من المحلوف عليه ، ألا يرى أن الدافع لا يرجع عليه ، وفي الفصل الأول
الأخذ من وكيله أخذ منه ، لما بينا أن حقوق القضاء لا ترجع إلى المأمور وكذا كفيله بأمره
كالوكيل ، ولهذا يرجع بما أدى عليه ، وكذا لو حلف ليعطين فلانا حقه فأمر غيره بالأداء أو
أحاله فقبض بر ، ولو باعه شيئا وقبضه بر أيضا ، لأن بالبيع صار الثمن دينا في ذمته فيتقاصان
وهو طريق قضاء الديون ؛ ولو أبرأه أو وهبه حنث لأنه إسقاط محض من جهة الطالب وليس
بقضاء من الحالف ، بخلاف البيع على ما بينا . حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه
فهرب من الغريم لم يحنث .
قال : ( حلف لا يقبض دينه متفرقا فقبض بعضه لا يحنث حتى يقبض باقيه ) لأن
الشرط قبض جميع دينه متفرقا ولم يوجد شرط الحنث ، ألا يرى أنه لو أبرأه من الباقي(4/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
أو وهبه لا يكون قابضا للكل ( وإن قبضه في وزنتين متعاقبا لم يحنث ) لأنه قد يتعذر
وزن الكل دفعة واحدة فيكون هذا القدر مستثنى من اليمين فلا يحنث به ، وإن اشتغل
بين وزنين بعمل آخر حنث لأنه تبدل المجلس فاختلف الدفع . قال : ( حلف لا يفعل كذا
تركه أبدا ) لأنه نفي مطلقا فيعم ( وإن قال : لأفعلنه بر بواحدة ) لأنه في معرض الإثبات
فيبر بأي فعل فعله ، وإنما يحنث بموته أو بهلاك محل الفعل إذا أيس من الفعل . قال :
( استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل مفسد فهو على حال ولايته خاصة ) لأن المقصود من
ذلك رفع الفساد ودفع الشر بالمنع والزجر ، وذلك في حال سلطنته وولايته فيتقيد بها ،
وزوالها بالموت والعزل ( حلف ليهبنه ففعل ولم يقبل بر ، وكذلك القرض والعارية
والصدقة ) وقد مر الوجه فيه .
فصل
النذر قربة مشروعة ، أما كونه قربة فلما يلازمه من القرب كالصوم والصلاة والحج
والعتق والصدقة ونحوها . وأما شرعيته فللأوامر الواردة بإيفائه ، قال تعالى : ) وليوفوا
نذورهم ( [ الحج : 29 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ف بنذرك ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من نذر
وسمى فعليه الوفاء بما سمى ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من نذر أن يطيع الله فليطعه '
إلى غيرها من النصوص ، وعلى شرعيته الإجماع ، ولا يصح إلا بقربة لله تعالى من جنسها
واجب كالقرب المذكورة ، ولا يصح بما ليس لله تعالى من جنسها واجب كالتسبيح والتحميد
وعيادة المرضى وتكفين الميت وتشييع الجنازة وبناء المساجد ونحوها . والأصل فيه أن
إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى ، إذ لا ولاية له على الإيجاب ابتداء ، وإنما صححنا
إيجابه في مثل ما أوجبه الله تعالى تحصيلا للمصلحة المتعلقة بالنذر ، ولا يصح النذر
بمعصية . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا نذر في معصية الله تعالى ' .(4/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
قال : ( ولو نذر نذرا مطلقا ) أي بغير شرط ولا تعليق كقوله : عليّ صوم شهر أو نحوه
( فعليه الوفاء به ) لما تقدم ( وكذلك إن علقه بشرط فوجد ) لأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده ،
ولأن النذر موجود نظرا إلى الجزاء ، والجزاء هو الأصل والشرط تبع ، واعتبار الأصل أولى
فصار كالمنجز .
( وعن أبي حنيفة رحمه الله آخرا ؛ أنه يجزئه كفارة يمين إذا كان شرطا لا يريد وجوده )
كقوله : إن كلمت فلانا أو دخلت الدار فعلي صوم سنة أو صدقة ما أملكه ، وهو قول محمد
رحمه الله ، واختاره بعض المشايخ للبلوى والضرورة ، ولو أدى ما التزمه يخرج عن العهدة
أيضا لأن فيه معنى اليمين وهو المنع ، وهو نذر لفظا فيختار أي الجهتين شاء ؛ ولو كان
شرطا يريد وجوده كقوله : إن شفى الله مريضي أو قضى ديني أو قدمت من سفري لا يجزيه
إلا الوفاء بما سمى لأنه نذر بصيغته وليس فيه معنى اليمين ؛ ولو قال : إن فعلت كذا فألف
درهم من مالي صدقة ففعل وليس في ملكه إلا مائة درهم لا يلزمه غيرها ، لأن النذر بما لا
يملك لا يصح ؛ ولو نذر صوم الأبد فضعف لاشتغاله بالمعيشة أفطر لئلا تختل فرائضه
ويفدي كالشيخ الفاني في شهر رمضان ؛ ولو نذر عددا من الحج يعلم أنه لا يمكنه لا يأمر
غيره بالحج عنه لأنه لا يعرف قدر الفائت ، بخلاف الصوم . قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو
قال لله علي إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين لا يجزئه إلا ما يجزئ في كفارة
اليمين لما تقدم أنه معتبر بإيجاب الله تعالى ؛ وقوله : لله علي طعام مساكين ، كقوله إطعام ،
لأن الطعام اسم عين وإنما يصح إيجاب الفعل . وقال أبو يوسف : لو قال : لله علي طعام
أطعم ما شاء ولو لقمة .
ولو قال : علي نذر ونوى الصوم أو الصدقة دون العدد لزمه في الصوم ثلاثة أيام ، وفي
الصدقة إطعام عشرة مساكين اعتبارا بالواجب في كفارة اليمين إذ هو الأقل فكان متيقنا ؛ ولو
نذرت صوم أيام حيضها أو قالت : لله علي أن أصوم غدا فحاضت فهو باطل عند محمد
وزفر رحمهما الله ، لأنها أضافت الصوم إلى وقت لا يتصور فيه . وقال أبو يوسف رحمه
الله : يقضي في المسألة الثانية ، لأن الإيجاب صدر صحيحا في حال لا ينافي الصوم ولا
إضافته إلى زمان ينافيه ، إذ الصوم متصور فيه والعجز بعارض محتمل كالمرض فتقضيه وصار
كما إذا نذرت صوم شهر يلزمها قضاء أيام حيضها لأنه لا يجوز خلو الشهر عن الحيض
فصح الإيجاب ؛ ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم ليلا لا شيء عليه ، وكذا لو
قدم بعد الزوال أو قبله وقد أكل عند محمد ، لأن المعلق بالشرط كالمتكلم به عند وجوده .
وقال أبو يوسف : يقضي في الفصلين الآخرين كما إذا نذرت صوم غد فحاضت ؛ ولو قدم
في رمضان أو في يوم الفطر قضاه ولا يجزئه صومه ، لأن الإيجاب خرج صحيحا ؛ ولو نذر(4/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
صلاة ركعة أو صوم نصف يوم صلى ركعتين وصام يوما ، لأن الركعة صلاة وقربة في الجملة
لاشتمالها على ذكر الله تعالى ، و القراءة وغيرها كالوتر عند بعضهم ، وصوم نصف يوم قربة
كإمساك غداة الأضحى فصح التزامه ثم يلزمه حفظه وإتمامه ضرورة عدم التجزي شرعا ، ولو
نذر ثلاث ركعات لزمه أربع عند أبي يوسف وركعتان عند زفر ؛ ولو نذر أن يصلي بغير
وضوء فليس بشيء .
وعن أبي يوسف يلزمه بوضوء لأن إيجاب أصل الصلاة صحيح وذكر الوصف باطل ؛
ولو نذر أن يصلي بغير قراءة أو عريانا صح خلافا لزفر ولزمته بقراءة مستورا ، لأن الصلاة
كما ذكر قربة في الجملة كالأمي ومن لا يقدر على ثوب فصح الإيجاب .
قال : ( ولو نذر ذبح ولده أو نحره لزمه ذبح شاة ) عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ،
وكذا النذر بذبح نفسه أو عبده عند محمد ؛ وفي الوالد والوالدة عن أبي حنيفة روايتان الأصح
عدم الصحة . وقال أبو يوسف وزفر : لا يصح شيء من ذلك لأنه معصية فلا يصح . ولهما
في الولد مذهب جماعة من الصحابة كعلي وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم ، ومثله لا
يعرف قياسا فيكون سماعا ، ولأن إيجاب ذبح الولد عبارة عن إيجاب ذبح الشاة ، حتى لو
نذر ذبحه بمكة يجب عليه ذبح الشاة بالحرم . بيانه قصة الذبيح عليه السلام ، فإن الله تعالى
أوجب على الخليل عليه السلام ذبح ولده بقوله : ) افعل ما تؤمر ( [ الصافات : 102 ] وأمره
بذبح الشاة حيث قال : ) قد صدقت الرؤيا ( [ الصافات : 105 ] فيكون كذلك في شريعتنا ،
إما لقوله تعالى : ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ( [ النحل : 123 ] أو لأن شريعة
من قبلنا تلزمنا حتى يثبت النسخ ، وله نظائر : منها إيجاب الشيء إلى بيت الله تعالى عبارة
عن حج أو عمرة ، وإيجاب الهدي عبارة عن إيجاب شاة ومثله كثير ، وإذا كان نذر ذبح
الولد عبارة عن ذبح شاة لا يكون معصية بل قربة حتى قال الإسبيجابي وغيره من المشايخ :
إن أراد عين الذبح وعرف أنه معصية لا يصح ونظيره الصوم في حق الشيخ الفاني معصية
لإفضائه إلى إهلاكه ، ويصح نذره بالصوم وعليه الفدية ، وجعل ذلك التزاما للفدية كذا هذا .
ولمحمد في النفس والعبد أن ولايته عليهما فوق ولايته على ولده فكان أولى بالجواز .
ولأبي حنيفة أن وجوب الشاة على خلاف القياس عرفناه استدلالا بقصة الخليل عليه السلام ،
وإنما وردت في الولد فيقتصر عليه ، ولو نذر بلفظ القتل لا يلزمه شيء بالإجماع ، لأن النص
ورد بلفظ الذبح والنحر مثله ، ولا كذلك القتل ، ولأن الذبح والنحر وردا في القرآن على
وجه القربة والتعبد ، والقتل لم يرد إلا على وجه العقوبة والانتقام والنهي ، ولأنه لو نذر ذبح
الشاة بلفظ القتل لا يصح فهذا أولى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .(4/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
كتاب الحدود
وهو جمع حد ، وهو في اللغة : المنع ، ومنه الحداد للبوّاب لمنعه الناس من الدخول ،
وحدود العقار : موانع من وقوع الاشتراك ، وأحدت المعتدة : إذا منعت نفسها من الملاذّ
والتنعم على ما عرف ، واللفظ الجامع المانع حد ، لأنه يجمع معاني الشيء ويمنع دخول
غيره فيه . وحدود الشرع : موانع وزواجر عن ارتكاب أسبابها .
( و ) في الشرع ( هي عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى ) وفيها معنى اللغة على ما بينا ،
والقصاص لا يسمى حدا لأنه حق العباد ، وكذا التعزير لأنه ليس بمقدر ثبتت شرعيته بالكتاب
والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : ) الزانية والزاني ( [ النور : 2 ] الآية ، وقوله تعالى :
) والسارق والسارقة ( [ المائدة : 38 ] الآية ، وقوله : ) والذين يرمون المحصنات ( [ النور : 4 ]
الآية ، وآية المحاربة وغير ذلك . والسنة حديث ماعز والغامدية والعسيف وغيرها من
الأحاديث المشهورة على ما يأتي في أثناء الأبواب إن شاء الله تعالى . والمعقول ، وهو أن
الطباع البشرية والشهوة النفسانية مائلة إلى قضاء الشهوة واقتناص الملاذ وتحصيل مقصودها
ومحبوبها من الشرب والزنا والتشفي بالقتل وأخذ مال الغير والاستطالة على الغير بالشتم
والضرب خصوصا من القوي على الضعيف ، ومن العالي على الدنيء ، فاقتضت الحكمة
شرع هذه الحدود حسما لهذا الفساد ، وزجرا عن ارتكابه ليبقى العالم على نظم الاستقامة ،
فإن إخلاء العالم عن إقامة الزاجر يؤدي إلى انخرامه ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، وإليه
الإشارة بقوله تعالى : ) ولكم في القصاص حياة ( [ البقرة : 179 ] . ومن كلام حكماء
العرب : القتل أنفى للقتل .(4/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
قال : ( والزنا : وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته ) أما الأول فلعموم
موارد استعمال اسم الزنا ؛ فإنه متى قيل فلان زنى ، يعلم أنه وطئ امرأة في قبلها وطئا
حراما ؛ ألا يرى أن ماعزا لما فسر الزنا بالوطء في القبل حراما كالميل في المكحلة حده
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وأما كونه في غير الملك فلأن الملك سبب الإباحة فلا يكون زنا ؛ وأما عدم
الشبهة فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' ادرؤوا الحدود بالشبهات ' ولا بد فيه من مجاوزة
الختان ، لأن المخالطة بذلك تتحقق وما دون ذلك ملامسة لا يتعلق بها أحكام الوطء عن
غسل وكفارة وصوم وفساد حج .
قال : ( ويثبت بالبينة والإقرار ) لأنهما حجج الشرع ، وبهما تثبت الأحكام على ما مر في
الدعاوى ، وقوله تعالى : ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم (
[ النور : 4 ] دليل على أن الزنا الذي رموهم به يثبت إذا أتوا بأربعة شهداء حتى يسقط عنهم
حد القذف وهي البينة . وأما الإقرار فالصدق فيه راجح لأنه إقرار على نفسه وفيه مضرة على
نفسه ، وبه رجم عليه الصلاة والسلام ماعزا ، والعلم القطعي متعذر في حقنا فيكتفي بالظاهر
الراجح ( والبينة : أن يشهد أربعة على رجل وامرأة بالزنا ) لما تلونا ، ولقوله تعالى : ) واللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ( [ النساء : 15 ] شرط الأربعة
للحديث الذي تقدم في اللعان ( فإذا شهدوا يسألهم القاضي عن ماهيته وكيفيته ومكانه وزمانه
والمزني بها ) لأن في ذلك احتيالا للدرء المندوب إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : ' ادرؤوا
الحدود ما استطعتم ' . أما السؤال عن ماهيته وكيفيته فلاحتمال أنه اشتبه عليه فظن غير الزنا
زنا ، فإن ما دون الزنا يسمى زنا مجازا ، قال عليه الصلاة والسلام : ' العينان تزنيان ، اليدان
تزنيان ، والرجلان تزنيان ، ويحقق ذلك الفرج ' . وأما السؤال عن المكان والزمان فلاحتمال
أنه زنا في دار الحرب أو في زمان الصبا ، أو في المتقادم من الزمان فيسقط الحد على ما
يأتي إن شاء الله تعالى . وأما السؤال عن المزني بها لاحتمال أنها ممن تحل له أو له فيها
شبهة لا يعرفها الشهود ، فإن سألهم فقالوا : لا نزيد على هذا لا يحدون لأنهم شهدوا بالزنا
وهم أربعة وما قذفوا .(4/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
قال : ( فإذا بينوا ذلك وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه ، وشهدوا به كالميل في
المكحلة وعدلوا في السر والعلانية حكم به ) لثبوته بالبينة ، وكيفية التعديل ذكرناه في
الشهادات ، ولم يكتف أبو حنيفة رحمه الله بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء المندوب
إليه ( فإن نقصوا عن أربعة فهم قذفة ) يحدون للقذف إذا طلب المشهود عليه لأنه تعالى
أوجب الحد عند عدم شهادة الأربع ، وكذلك إن جاءوا متفرقين إلا أن يكون في مجلس
واحد في ساعة واحدة ، لأن قولهم احتمل أن يكون شهادة ، واحتمل أن يكون قذفا ، وإنما
تتميز الشهادة عن القذف إذا وقعت جملة ، ولا يمكن ذلك دفعة واحدة منهم فاعتبرنا اتحاد
المجلس وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لقيام الشبهة لاحتمال أنها زوجته أو
أمته .
قال : ( وإن رجعوا قبل الرجم سقط وحدوا ) أما سقوط الحد فلبطلان الشهادة بالرجوع ؛
وأما وجوب الحد عليهم فلأنهم قذفة ( وإن رجعوا بعد الرجم يضمنون الدية ) لأنهم تسببوا
إلى قتله ، والمتسبب تجب عليه الدية كحافر البئر ( وإن رجع واحدا فربعها ) لأنه تلف بشهادته
ربع النفس ؛ أو نقول : بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التالف بشهادته ربع
الحق ، ولا وجه إلى وجوب القصاص لأنه متسبب ولا قصاص على المتسبب ، ويحد حد
القذف مع الدية خلافا لزفر لأنه قذف حيا ومات فبطل ؛ وإن كان قذف ميتا فقد رجم بقضاء
فأورث شبهة .
ولنا أن الشهادة إنما تصير قذفا بالرجوع فيجعل قاذفا للميت حالة الرجوع فقد بطلت
الحجة فبطل القضاء الذي يبتني عليها فلا يورث شبهة ؛ وإن رجعوا بعد الجلد فالحد لما مر
ولا يضمنون أرش السياط ، وكذلك إن مات من الجلد ، وقالا : يضمنون ، وإن رجع واحد
فعليه ربع الأرش ، وإن مات فربع الدية لأنه من الجلد وقد حصل بسبب الشهادة ، فكان
الشاهد هو الموجب كما في الرجم . ولأبي حنيفة أن أثر الضرب والموت ليس موجب
الشهادة ، لأن الجلد قد يؤثر ولا يؤثر ، وقد يموت منه ولا يموت ، ولو كان موجب الشهادة
لما انفك عنها كما في الرجم ، وإذا لم يكن موجب الشهادة لا يلزم الشاهد ضمانه ، ولأنه لو
وجب إما أن يجب على الشاهد ولا وجه له لما بينا . أو على الجلاد ولا وجه له أيضا لأنه
مأذون في فعله لا على وجه البدل ، ولم يتعمد تجاوز ما أمر به كمعين القصار ، ولأنا لو
أوجبناه عليه لامتنع الناس من ذلك وفيه ضرر جلي ، أو على بيت المال ، ولا وجه له ، لأن
الحكم غير موجب له لأنه ينفك عنه غالبا فلا يجب كما قلنا في الشاهد .(4/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
قال : ( وإن شهدوا بزنا متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل ) لما روي
أن عمر رضي الله عنه خطب فقال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم
شهود ضغن لا تقبل شهادتهم ، ولأنها شهادة تمكنت فيها تهمة فتبطل . بيانه أن الشهود إذا
عاينوا الفاحشة فهم بالخيار إن شاؤوا شهدوا به حسبة لإقامة الحد ، وإن شاؤوا ستروا على
المسلم حسبة أيضا ، فإن اختاروا الأداء حرم عليهم التأخير ، لأن تأخير الحد حرام ، فيحمل
تأخيرهم على الستر حسبة حملا لهم على الأحسن ، فإذا أخروا ثم شهدوا اتهموا أنهم إنما
شهدوا لضغينة حملتهم على ذلك كما قال عمر رضي الله عنه ، وإن كان تأخيرهم لا لحسبة
الستر ثبت فسقهم وردت شهادتهم ، بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فلا يتهم ؛ ثم
التقادم في الحدود الخالصة لله تعالى يمنع قبول الشهادة إلا إذا كان التأخير لعذر كبعد
المسافة أو مرض ونحو ذلك ؛ فحد الزنا والشرب والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح
رجوع المقر عنها فيكون التقادم فيها مانعا ؛ وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار
عنه ، ولهذا توقف على دعواه ولا يصح الرجوع عنه ، فالتقادم فيه لا يمنع قبول الشهادة لأن
الدعوى فيه شرط ، فاحتمل أن تأخيرهم لتأخير الدعوى فلا يتهمون في ذلك ؛ ولا يلزم حد
السرقة لأن الدعوى شرط للمال لا للحد ، لأن الحد خالص حق الله ، ولأن السرقة تكون في
السر والخفية من المالك فيجب على الشاهد إعلامه ، فبالتأخير يفسق أيضا . وأما حد التقادم
فأبو حنيفة لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي الإمام كما هو دأبه .
وروى المعلى عن أبي يوسف قال : جهدنا بأبي حنيفة أن يوقّت في التقادم شيئا فأبى ،
لأن التقادم يختلف باختلاف الأحوال والأعذار ورده إلى اجتهاد الحاكم . وروى الحسن
ومحمد عن أبي حنيفة أنهم إذا شهدوا بعد سنة لم تقبل شهادتهم ، وهذا لا ينافي الأول لأنه
جعل السنة تقادما ولم يمنع ما دونها . وقال أبو يوسف ومحمد : إذا شهدوا بعد مضي شهر
فهو تقادم لأنه في حكم البعيد وما دونه في حكم القريب ، فوجب أن يقدر التقادم به إذا لم
يكن عذرا . وعن الطحاوي ستة أشهر .
( ويثبت بالإقرار ، وهو أن يقر العاقل البالغ أربع مرات في أربع مجالس يرده القاضي في
كل مرة حتى لا يراه ثم يسأله كما يسأل الشهود إلا عن الزمان ، فإذا بين ذلك لزمه الحد ) أما
اشتراط العقل والبلوغ فلأنهما شرط للتكاليف ، وأما اشتراط الأربع فلما روي أن ماعز بن
مالك أقر عند النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه ، فعاد فأقر فأعرض عنه ، فعاد الثالثة
فأقر فأعرض عنه ، فعاد الرابعة فأقر ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' الآن أقررت أربعا(4/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
فبمن ؟ ' ' وفي رواية ' فأعرض عنه حتى خرج من المسجد ثم عاد ' والتمسك به من
وجوه : أحدها أن الحد لو وجب بالمرة الواحدة لم يؤخره إلى الرابعة لأنه لا يجوز تأخير
الحد إذا وجب ، قال عليه الصلاة والسلام : ' ما ينبغي لوالي حد أتى في حد من حدود الله
تعالى إلا إقامته ' . الثاني أن قوله عليه الصلاة والسلام : ' الآن أمرت أربعا ' دليل على أن
الموجب هو الإقرار أربعا ، هذا هو المفهوم من فحوى هذا الكلام .
الثالث ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما أقر الثالثة قال له : إن أقررت الرابعة
رجمك رسول الله ، وهذا دليل على أنهم علموا أن الرابعة شرط لوجوب الرجم ، ومثل
هذا لا يعلم إلا توقيفا . وكذلك روي عن أبي بريدة أنه قال : ' كنا نتحدث بين يدي رسول
الله عليه الصلاة والسلام أن ماعزا لو قعد في بيته بعد المرة الثالثة ولم يقر لم يرجمه ( صلى الله عليه وسلم ) '
وهذا دليل على أنهم عرفوه شريعة قبل رجم ماعز ؛ ولأن الزنا اختص بزيادة تأكيد لم يجب
في غيره من الحدود إعظاما لأمره وتحقيقا لمعنى الستر كزيادة عدد الشهور والسؤال عن حال
المقر ، فيناسب أن يختص بزيادة العدد في الأقارير أيضا واشتراط اختلاف المجالس لما
روينا ، ولأن اتحاد المجلس يؤثر في جميع المتفرقات فتثبت شبهة الاتحاد في الإقرار ،
والمعتبر اختلاف مجلس المقر لأن الإقرار قائم به دون القاضي ، فإذا أقر أربعا على ما
وصفنا يسأل القاضي عن حاله ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لماعز : ' أبك داء ؟
أبك خبل ؟ أبك جنون ؟ ' فقال : لا ، وبعث إلى قومه فسألهم هل تنكرون من حاله شيئا ؟
قالوا : لا ، فأمر به فرجم ' فإذا عرف صحة عقله سأله عن الزنا لما تقدم في الشهود ،
ولاحتمال أنه وطئها فيما دون الفرج واعتقده زنا ، ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لماعز : ' لعلك لمست ،
لعلك قبّلت ، لعلك باشرت ؟ ' فلما ذكر ماعز النون والكاف قبل إقراره ' ويسأله عن المزني
بها لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لماعز : ' فبمن ؟ ' ولجواز أنه وطئ من لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن
والجارية المشتركة ونحوهما وهو لا يعلم ذلك ، ويسأله عن المكان لما بينا ولا يسأله عن
الزمان ، لأن التقادم لا يمنع قبول الإقرار لما بينا ، وقيل يسأله لجواز أنه زنى حالة الصغر ،
فإذا بين ذلك لزمه الحد لتمام الحجة ولما روينا .
قال : ( وإذا رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلي سبيله ) لأن رجوعه إخبار
يحتمل الصدق كالإقرار ولا مكذب له . فتحققت الشبهة لتعارض الإقرار بالرجوع ، بخلاف(4/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
القصاص وحد القذف لأنه حق العبد فإنه يكذبه فلا معارض للإقرار الأول . ' وروي أن ماعزا
لما مسه حر الحجارة هرب ، فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' خلا خليتم سبيله ' ' فجعل
الهرب الدال على الرجوع مسقطا للحد فلأن يسقط بصريح الرجوع أولى .
( ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع كقوله له : لعلك وطئت بشبهة ، أو قبلت ، أو
لمست ) لما روينا واحتيالا للدرء . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أتي بسارق فقال له : ' إما إخالك سرقت '
وفيه دليل على جواز التلقين وعلى سقوط الحد بالرجوع وإلا لما أفاد التلقين . وإذا أقر
الخصي بالزنا يحد لأنه قادر على الإيلاج لسلامة آلته ، ولو أقر المجبوب لا يحد لكذبه
قطعا ، وكذلك الشهادة عليهما ، ولا يحد الأخرس بالإقرار إشارة للشبهة ، وإذا أقر أنه زنى
بامرأة غائبة أقيم عليه الحد استحسانا ، والقياس أن لا يحدا حتى تحضر لجواز أنها تدعي
شبهة لسقوط الحد . وجه الاستحسان أن ماعزا أقر بالزنا بامرأة غائبة فرجمه ( صلى الله عليه وسلم ) قبل
إحضارها . المقضى برجمه إذا قتله إنسان أو فقأ عينه لا شيء عليه ، ولو قتله قبل القضاء
يجب القصاص في العمد والدية في الخطأ لأنه إنما يصير مباح الدم بالقضاء .
فصل
( وحد الزاني إن كان محصنا الرجم بالحجارة حتى يموت ) لحديث ماعز أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رجمه
وكان محصنا . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث ' وذكر منها ' أو زنا بعد
إحصان ' والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجم الغامدية . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : مما أنزل الله آية
الرجم ' الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ' وهذا مما قالوا إنه قرآن نسخ لفظه وبقي
معناه ، وعلى ذلك إجماع العلماء .
قال : ( يخرج إلى أرض فضاء ) كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بماعز أمر برجمه ولم يحفر له قال :
( فإن كان ثبت بالبينة يبتدئ الشهود ثم الإمام ثم الناس ) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه(4/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
بدأ برجم الهمدانية لما أقرت عنده بالزنا وقال : الرجم رجمان : رجم سر ، ورجم علانية ،
فالعلانية أن يشهد على المرأة ما في بطنها ، والسر أن يشهد الشهود فترجم الشهود ثم الإمام
ثم الناس ، ولأن البداءة بالشهود ضرب احتيال للدرء ؛ لأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء
وتتعاظم المباشرة حرمة للنفس فيرجع عن الشهادة . قال : ( فإذا امتنع الشهود أو بعضهم لا
يرجم ) لأنه دليل رجوعهم ، وكذا إذا غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط ، وكذا إذا ماتوا أو
مات بعضهم ، وكذا إذا جنوا أو فسقوا أو قذفوا فحدوا أو حد أحدهم أو عمي أو خرس أو
ارتد ، لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء كما في رجوع المقر فصار
كأنهم شهدوا وهم بهذه الصفة فلا يحد . وعن أبي يوسف : إذا غاب الشهود رجم ولم
ينتظروا ، وكذا إذا امتنعوا أو امتنع بعضهم لأنه حد فلا يشترط فيه مباشرة الشهود كالجلد .
قلنا الجلد لا يحسنه كل أحد فربما وقع مهلكا ، ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف . وعن محمد :
إذا كانوا مرضى أو مقطوعي الأيدي يبتدئ الإمام ثم الناس لأن الامتناع إذا كان بعذر ظاهر
زالت التهمة ، ولا كذلك لو ماتوا لاحتمال الرجوع أو الامتناع فكان ذلك شبهة ؛ ولا بأس
لكل من رمى أن يتعمد مقتله لأنه واجب القتل إلا أن يكون ذا رحم منه ، فالأولى أن لا
يتعمد مقتله ويولى ذلك غيره لأنه نوع من قطيعة الرحم من غير حاجة .
قال : ( وإن ثبت بالإقرار ابتدأ الإمام ثم الناس ) لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حفر للغامدية حفرة إلى
صدرها وأخذ حصاة مثل الحمصة فرماها بها وقال : ' ارموا واتقوا الوجه ' فلما طعنت
أخرجها وصلى عليها وقال : ' لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الحجاز لوسعتهم '
ولحديث عليه رضي الله عنه ، ولا ينبغي أن يربط المرجوم ولا يمسك ولا يحفر للرجل لكنه
يقام قائما ثم يرجم لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يفعل شيئا من ذلك بماعز ، وما نقل أنه هرب دليل عليه ،
ويغسل ويكفن ويصلى عليه لما مر من حديث الغامدية . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) في ماعز : ' اصنعوا به ما
تصنعون بموتاكم ، فقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس غفر له ، ولقد رأيته ينغمس في أنهار
الجنة ' ولأنه مقتول بحق فصار كالمقتول قصاصا . قال : ( وإن لم يكن محصنا فحده الجلد
مائة للحر وخمسون للعبد ) قال تعالى : ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (
[ النور : 2 ] وقال تعالى في حق الإماء : ) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب ( [ النساء : 25 ] .(4/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
قال : ( يضرب بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا يفرقه على أعضائه إلا رأسه ووجهه
وفرجه ) لأن عليا رضي الله عنه كرس ثمرة السوط لما أراد إقامة الحد به والمتوسط من
الضرب بين المتلف وغير المؤلم ليحصل المقصود ، وهو الانزجار بدون الهلاك . وأما
التفريق على الأعضاء لأنه إذا جمع الضرب في مكان واحد ربما أدى إلى التلف ، والحد غير
متلف ، وليدخل الألم على كل عضو كما وصلت اللذة إليه ، إلا أنه يتقي الأعضاء التي لا
يؤمن فيها التلف ، أو تلف ما ليس بمستحق ، إذ التلف ليس بمستحق فالرأس والفرج مقتل ،
والوجه مكان البصر والشم . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال للجلاد : اتق الرأس والوجه .
وعن أبي يوسف أنه يضرب الرأس ، فقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : اضربوا
الرأس فإن الشيطان فيه ، ولأنه لا يخشى التلف بسوط وسوطين ، وجوابه ما مر ، وأثر
الصديق ورد في حربي كان راعيا وهو مستحق القتل . قال : ( ويجرد عن ثيابه إلا الإزار )
هكذا نقل عن علي رضي الله عنه ، ولأنه أبلغ في إيصال الألم إليه ، وحد الزنا مبناه على
شدة الضرب فيقع أبلغ في الزجر ، ونزع الإزار يؤدي إلى كشف العورة فلا ينزع .
قال : ( ولا تجرد المرأة إلا عن الفرو والحشو ) لأن مبنى حالهن على الستر ، وفي نزع
ثيابها كشف عورتها ، والستر يحصل بدون الحشو والفرو ، وفيهما منع من وصول الألم
فينزعان وتضرب جالسة لأنه أستر لها . وعن علي رضي الله عنها : يضرب الرجال في الحدود
قياما والنساء قعودا ( وإن حفر لها في الرجم جاز ) لما روينا من حديث الغامدية ، وعلي رضي
الله عنه حفر للهمدانية ، وإن تركه لا يضر لأنه غير مأمور به ( ويضرب الرجل قائما في
جميع الحدود ) لحديث علي رضي الله عنه ، ولا يمد ولا يشد لأنه زيادة عقوبة غير مستحقة
عليه . قال : ( ولا يجمع على المحصن الجلد والرجم ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) رجم ماعزا ولم يجلده ، ولأنه
لا فائدة في الجلد ، لأن المراد من الحد الزجر وهو لا ينزجر بعد هلاكه ، وزجر غيره
يحصل بالرجم إذ القتل أبلغ العقوبات ، وهو مذهب عامة العلماء .
قال : ( ولا يجمع على غير المحصن الجلد والنفي ) لقوله تعالى : ) الزانية والزاني
فاجلدوا ( [ النور : 2 ] الآية ، وأنه بيان لجميع الحكم لأنه كل المذكور ، أو لأنه ذكره بحرف(4/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
الفاء وهو الجزاء ، فلا يزاد عليه إلا بدليل يساويه أو يترجح عليه ، إذ الزيادة على النص
نسخ ، ولأن النفي يفتح عليها باب الزنا لقلة استحيائها من عشيرتها وفيه قطع المادة عنها
فربما اتخذت ذلك مكسبا وفيه من الفساد ما لا يخفى ، وإليه الإشارة بقول عليه رضي الله
عنه : كفى بالتغريب فتنة . وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ' قلنا الآية
متأخرة عنه فنسخته . بيانه أن الجلد في الأصل كان الإيذاء لقوله تعالى : ) فآذوهما (
[ النساء : 16 ] ثم نسخ بالحبس بقوله تعالى : ) فأمسكوهن في البيوت ( [ النساء : 15 ] إلى
قوله : ) أو يجعل الله لهن سبيلا ( [ النساء : 15 ] ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا ' الحديث فكان بيانا للسبيل الموعود في الآية ، وذلك قبل نزول آية الجلد ، فكانت
ناسخة للكل ، أو نقول : هو حديث آحاد فلا يزاد به على الكتاب لما بينا .
قال : ( إلا أن يراه الإمام مصلحة فيفعله بما يراه ) فيكون سياسة وتعزيرا لا حدا ، وهو
تأويل ما روي من التغريب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإنه روي
عن عمر أنه نفى رجلا فلحق بالروم فقال : لا أنفي بعدها أحدا ؛ ولو كان النفي حدا لم يجز
تركه ، قال تعالى : ) ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (
[ النور : 2 ] فدل أنه كان سياسة وتعزيرا ، ولأنه لو كان حدا لاشتهر بين الصحابة كسائر
الحدود ، ولو اشتهر لما اختلفوا فيه ؛ وقد اختلفوا لما تقدم من قول علي ورجوع عمر فدل
على أنه ليس بحد ، ولا يقام الحد في مسجد . وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا تقام الحدود في المساجد ' وروى حكيم بن حزام قال : ' نهى رسول
الله أن يستقاد في المساجد أو ينشد فيها الشعر أو يقام فيها الحدود ' ولأنه عساه ينفصل منه
ما ينجس المسجد ، وللإمام أن يخرجه إلى باب المسجد ويأمر من يجلده وهو يشاهده ،
ويجوز له أن يبعث بأمين ويأمره بإقامة الحد . قال ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث العسيف : ' واغد يا أنيس
إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ' .
قال : ( ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام ) لأن الحد حق الله تعالى فلا
يستوفيه إلا نائبه ، وهو الإمام أو نائبه ؛ بخلاف التعزير لأنه حق العبد حتى جاز تعزير(4/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
الصبي ، وحقوق الشرع موضوعة عنه ، ويؤيد ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أربع إلى الولاة ' وعد منها
إقامة الحدود ، ولأن المولى متهم في إقامة الحد على عبده لأنه يخاف نقصان ماليته فلا
يضرب الضرب المشروع فلا تحصل مصلحة الزجر فلا يكون له ذلك . قال : ( وإذا كان
الزاني مريضا فإن كان محصنا رجم ) لأن الإتلاف مستحق عليه فلا معنى للتأخير . قال : وإلا
لا يجلد حتى يبرأ ) لأنه ربما أفضى إلى الهلاك وليس مشروعا ، ولهذا أمر ( صلى الله عليه وسلم ) بحسم يد
السارق ، ولهذا لا يقطع في البرد الشديد و الحر الشديد .
قال : ( والمرأة الحامل لا تحد حتى تضع حملها ) لأنه يخاف من الحد هلاك ولدها
البريء عن الجناية . وروي أن عمر رضي الله عنه همّ برجم حامل ، فقال له علي رضي الله
عنه : إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فخلي عنها ، فإذا ولدت ( فإن
كان حدها الجلد فحتى تتعالى من نفاسها ) لأنها مريضة ضعيفة ( وإن كان الرجم فعقيب
الولاة ) لأن التأخير كان بسبب الولد وقد انفصل عنها ( وإن لم يكن للصغير من يربيه فحتى
يستغني عنها ) لأن في ذلك صيانة الولد عن الهلاك . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال للغامدية لما أقرت
بالزنا وهي حامل : ' اذهبي حتى تضعي ' ، فلما وضعت جاءت ، فقال لها : ' ارجعي حتى
يستغني ولدك ' ، فجاءت وفي يده خبز فقالت : يا رسول الله هذا ولدي وقد استغنى ، فأمر بها
فرجمت ' ويحبس المريض حتى يبرأ والحامل حتى تضع إن ثبت بالبينة مخافة أن تهرب ،
وإن ثبت بالإقرار لا يحبس لأن الرجوع عنه صحيح فلا فائدة في الحبس ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم
يحبس الغامدية ؛ ولو قالت الزانية : أنا حبلى يريها النساء ، فإن قلن هي حبلى حبسها سنتين
ثم رجمها ، وهذا التقادم لا يمنع الإقامة لأنه بعذر ؛ ولو كان من عليه الحد ضعيف الخلقة
يخاف عليه الهلاك لو ضرب شديدا يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب .
قال : ( وإحصان الرجم : الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والدخول ، وهو الإيلاج في
القبل في نكاح صحيح وهما بصفة الإحصان ) أما الحرية فلقوله تعالى : ) فعليهن نصف ما(4/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
على المحصنات من العذاب ) ^ [ النساء : 25 ] أوجب عليهن عقوبة تنتصف والرجم لا تتنصف
فلا يجب على الإماء ، وأما العقل والبلوغ فلأنه لا خطاب بدونهما ، وأما الإسلام
فلقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من أشرك بالله فليس بمحصن ' وما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رجم يهوديين فإنما رجمهما
بحكم التوراة والقصة مشهورة . وأما النكاح الصحيح والدخول فلقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' البكر بالبكر جلد
مائة ' والبكر اسم لمن لم يتزوج ولأن به يتوصل إلى الوطء الحلال ، وإنما يشترط الدخول
لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ' والثيب هو الواطئ في النكاح
الحلال في القبل ، ولأن هذه نعم متوافرة متكاملة صادة له عن الفاحشة فكانت جنايته عند
وجودها متغلظة ، فإن الجناية والمعصية عند تكامل نعم المنعم أقبح وأفحش فيناسب تغليظ
العقوبة في حقه .
وأما كونهما على صفة الإحصان فلأن كل وطء لا يوجب إحصان أحد الواطئين لا
يوجب إحصان الآخر كالمملوكين والمجنونين . وصورته : لو تزوج بأمة أو صبية أو مجنونة
أو كافرة ودخل بها لم يصر محصنا ، وكذا لو كانت حرة عاقلة بالغة وهو عبد أو صبي أو
مجنون لا تصير محصنة إلا إذا دخل بها بعد الإسلام والعتق والبلوغ والإفاقة ، فحينئذ يصير
محصنا بهذه الإصابة لا بما قبلها ، لأن نعم الزوجية لا تتكامل مع هؤلاء ، لأن هذه المعاني
تنفر الطباع إما لعداوة الدين أو لذل الرق أو لعدم العقل أو لنقصانه وعدم ميل الصبية إليه فلا
تتغلظ جنايته .
وعن أبي يوسف أنه لا يشترط الدخول على صفة الإحصان ، وعنه أن الوطء إذا حصل
قبل العتق ثم أعتقا صارا محصنين بالوطء الأول . والجواب عن الأول أن كل وطء لا يوجب
إحصان أحدهم لا يوجب إحصان الآخر كما بينا . وعن الأخرى أن كل وطء لا يوجب
الإحصان عند وجوده لا يوجبه في الثاني من الزمان كوطء المولى . وعن أبي يوسف إذا
دخل بامرأته ثم جن أو صار معتوها ثم أفاق لا يكون محصنا حتى يدخل بها بعد الإفاقة ،
لأن الإحصان الأول بطل فلا يثبت إحصان مستأنف إلا بدخول مستأنف .
قال ( ويثبت الإحصان بالإقرار ) لأنه غير متهم في حق نفسه ( أو بشهادة رجلين ، أو
رجل وامرأتين ) لأن الإحصان ليس علة لوجوب الرجم لأنه عبارة عن خصال حميدة
وأوصاف جميلة وذلك لا أثر له في العقوبة فلا يشترط لثبوته ما يشترط لوجوب الرجم ،(4/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
وإنما الإحصان شرط محض ( وكذلك إن كان بينهما ولد معروف ) لأنه دليل ظاهر على
الدخول في النكاح الصحيح وذلك يثبت به الإحصان ؛ ويكفي في الإحصان أن يقول الشهود
دخل بها . وقال محمد : لا بد أن يقولوا باضعها أو جامعها ، لأن الدخول مشترك فلا يثبت
الإحصان بالشك . ولهما أن الدخول متى أضيف إلى المرأة بحرف الباء لا يراد به إلا
الجماع . قال تعالى : ) فإن لم تكونوا دخلتم بهن ( [ النساء : 23 ] والمراد الجماع ، ولو دخل
بامرأة ثم طلقها وقال وطئها وأنكرت صار محصنا ولا تكون محصنة لجحودها ، وكذا لو
قالت بعد الطلاق : كنت نصرانية ، وقال : كنت حرة مسلمة ، وإذا كان أحدهما محصنا دون
الآخر خص كل واحد بحده ، لأن جناية أحدهما أخف والآخر أغلظ ، فإذا اختلفا في الجناية
اختلفا في موجبها ضرورة .
فصل
( ومن وطئ جارية ولده وإن سفل وقال : علمت أنها عليّ حرام ، أو وطئ جارية أبيه
وإن علا أو أمه أو زوجته أو سيده أو معتدته عن ثلاث وقال : ظننت أنها حلال لم يحد ؛ ولو
قال : علمت أنها حرام حد ؛ وفي جارية الأخ والعم يحد بكل حال ) والأصل في ذلك
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ادرؤوا الحدود بالشبهات ' .
ثم الشبهة أنواع : شبهة في المحل ، وشبهة في الفعل ، وهي شبهة الاشتباه ، وشبهة في
العقد . أما الشبهة في المحل فهو أن يطأ جارية ابنه أو عبده المأذون المديون أو مكاتبه ، أو
وطئ البائع الجارية المبيعة بيعا فاسدا قبل القبض وبعده ، أو كان بشرط الخيار ، أو وطئ
الجارية التي جعلها صداقا قبل التسليم ، أو وطئ المبانة بالكنايات في عدتها ، أو وطئ
الجارية المشتركة فإنه لا يجب الحد في جميع هذه الصور . وإن قال : علمت أنها حرام لأن
الشبهة في الملك وهو المحل موجودة سواء علم بالتحريم أو لم يعلم . وأما شبهة الفعل
ففيما إذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو جارية زوجته والمطلقة ثلاثا أو على مال في العدة أو أم
ولده بعد العتق في العدة أو جارية مولاه ، والمرتهن يطأ جارية الرهن في إحدى الروايتين ،
وفي رواية يجب الحد .(4/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
فإن قال ظننت أنها حلال لا حد عليه ، وإن قال : علمت أنها حرام حد لأنه ظن أن
الفعل مباح له كما يباح له الانتفاع بماله ، أو له نوع حق في المحل ببقاء العدة فظن أن ذلك
يبيح وطأها فكان ظنه مستندا إلى دليل فكان شبهة في درء الحد إذا ادّعى الحل ، وبدون
الدعوى انعدمت الشبهة ولا يثبت النسب وإن ادّعاه لأنه زنا محض ، لأن سقوط الحد لاشتباه
الأمر عليه لا للشبهة في نفس الأمر ، فإن حضرا فقال أحدهما : ظننت أنه حلال لا حد على
واحد منهما حتى يقرا جميعا بالحرمة ، لأن أحدهما إذا ادّعى الشبهة خرج فعله عن أن يكون
زنا فخرج فعل الآخر فسقط الحد عنهما ، ولو وطئ الجارية المستأجرة أو المستعارة أو
جارية أخيه أو عمه أو ذي رحم محرم غير الولاد حد في الوجهين جميعا لأنه لم يستند ظنه
إلى شبهة صحيحة لأنه لا يحل له الانتفاع بمال هؤلاء ، وملك المنفعة لا يكون سببا لملك
المتعة بحال .
وأما شبهة العقد بأن وطئ امرأة تزوجها بغير شهود أو أمة بغير إذن مولاها أو
تزوج العبد بغير إذن مولاه ، أو أمة على حرة لا حد عليه ؛ ولو تزوج مجوسية أو خمسة
في عقدة ، أو جمع بين أختين أو تزوج بمحارمه فوطئها فإنه لا يحد عند أبي حنيفة
رحمه الله ، وإن قال علمت أنها عليّ حرام . وعندهما يحد إذا كان عالما بالحرمة لأنه
عقد لم يصادف محله ، لأن محله ما يثبت فيه حكمه ، وحكمه الحل وهو غير ثابت
بالإجماع فصار كإضافة العقد إلى الذكر . ولأبي حنيفة أنه عقد صادف محله ، لأن محله
ما هو صالح لحصول المقصود ، والمقصود من النكاح التوالد والتناسل والأنثى من
الآدميات قابلة لذلك ، وقضيته ثبوت الحل أيضا إلا أنه تقاعد عنه فأورث شبهة وأنها
تكفي لسقوط الحد إلا أنه يجب عليه التعزير ويوجع عقوبة لأنه ارتكب جناية ليس فيها
حد مقدر فيعزر .
قال : ( ولو استأجر امرأة ليزني بها وزنى بها أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج ، أو
لاط فلا حد عليه ويعزر ) وقالا : يحد في المسائل كلها . لهما في الإجارة أن منافع
البضع لا تملك بالإجارة فصار وجود الإجارة وعدمها سواء ، فصار كأنه وطئها من غير
شرط . وله ما روي أن امرأة استسقت راعيا لبنا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها
ففعلت ، ثم رفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه ، فدرأ الحد عنهما وقال ذلك مهرها ،
ولأن الإجارة تمليك المنافع ، ومنافع البضع منافع فأورث شبهة وصار كالمتعة . ولهما في
اللواطة أنها كالزنا لأنها قضاء الشهوة في محل مشتهى على وجه الكمال وقد تمحض
حراما فيجب الحد كالزنا ، والصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وجوب الحد فيها ،
لكن اختلفوا فيه .(4/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
قال أبو بكر : يحرق بالنار . وقال علي : عليه حد الزنا . وقال بعضهم : يحبسان في
أنتن موضع حتى يموتا . وقال بعضهم : يهدم عليهما جدار .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ينكس من مكان مرتفع . وله أنه لا يسمى زنا لغة
ولا شرعا ، لأن كل واحد منهما اختص باسم ، وأنه ينفي الاشتراك كاسم الحمار والفرس فلا
يكون زنا فلا يلحق بالزنا في الحد ، إذ الحدود لا تثبت قياسا ، ولأنه لا يوجب المال بحال
ما فلا يتعلق به الحد كما إذا فعل فيما دون السبيلين ، ولأنه لو كان زنا لما اختلفت الصحابة
رضي الله عنهم في حده ، فإن حد الزنا منصوص عليه في محكم القرآن ومتواتر السنة ،
وليس هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد ولا اشتباه الأنساب فلا يلحق به .
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اقتلوا الفاعل والمفعول به ' محمول على الاستحلال أو السياسة لوجوب القتل
مطلقا من غير اشتراط الإحصان ، ويجب التعزير عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا ، ويسجن
زيادة في العقوبة لغلظ الجناية . وأما وطء الأجنبية فيما دون الفرج ، فإن كان في الدبر فهو
كاللواطة حكما واختلافا وتعليلا ، وإن كان فيما دون السبيلين فإنه يعزر بالإجماع . قال : ( ولو
زفّت إليه غير امرأته فوطئها لا يحد وعليه المهر ) بذلك حكم عمر رضي الله عنه ، ولأن
الرجل لا يعرف امرأته أول مرة إلا بأخبار النساء فقد اعتمد دليلا ، لأن الملك ثابت من حيث
الظاهر بأخبارهن ، ولا يحد قاذفه لأن الملك معدوم حقيقة .
قال : ( ولو وجد على فراشه امرأة فوطئها حد ) لأنه يمكنه معرفة زوجته بكلامها وصوتها
وجسها وحركتها ومسها ، فإذا لم يتفحص عن ذلك لم يعذر بخلاف ما تقدم ، وكذلك
الأعمى إلا إذا دعاها فقالت أنا زوجتك لأنه اعتمد إخبارها وهو دليل ، ولو أجابته ولم تقل
أنا فلانة حد ، لأنه يمكنه التفحص بالسؤال وغيره ، لأن الجواب قد يكون من غير من ناداها
فيجب عليه التفحص عن حالها . قال : ( والزنا في دار الحرب والبغي لا يوجب الحد ) إذ
المقصود هو الانزجار وهو غير حاصل لانقطاع الولاية ، لأنه إذا لم ينعقد موجبا لا ينقلب
موجبا ، حتى لو غزا الإمام أو من له ولاية الإقامة فإنه يقيم الحد عليهم لأنهم تحت ولايته .
قال : ( وواطئ البهيمة يعزر ) لأنه ليس بزنا ولا معناه فلا يجب الحد فيعزر لما بينا . وذكر
ابن سماعة عن أصحابنا رحمهم الله أن كل ما لا يؤكل لحمه يحرق بالنار ، لما روى أبو
يوسف بإسناده إلى عمر رضي الله عنه أنه أتى برجل وقع على بهيمة فعزره وأمر بالبهيمة
فذبحت وأحرقت بالنار ، وإن كان مما يؤكل تذبح وتؤكل ولا تحرق ، وقالا : يحرق أيضا(4/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
هذا إذا كانت البهيمة للفاعل ، فإن كانت لغيره يطالب صاحبها أن يدفعها إليه بقيمتها ثم
يذبحها ، وهذا إنما يعرف سماعا لا قياسا . قال : ( ولو زنى بصبية أو مجنونة حد ) خاصة ( ولو
طاوعت العاقلة البالغة صبيا أو مجنونا لا يحد ) والفرق أن الحد يجب على الرجل بفعل
الزنا ، وعلى المرأة بالتمكين من الزنا ، والمأخوذ في حد الزنا الحرمة المحضة . وذلك غير
موجود في فعل الصبي لعدم المخاطبة نحوه ، فلا يكون فعلها تمكينا من الزنا فلا يجب
الحد ، وفعل العاقل البالغ تمحض حراما فوجب عليه الحد ، ولم يجب على الصبية
والمجنونة لعدم التكليف .
قال : ( وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطا ، وأقله ثلاثة ) وقيل ما يراه الإمام ، وقيل بقدر
الجناية ؛ والأصل أن يعزره بما ينزجر به في أكبر رأيه لاختلاف طباع الناس في ذلك ، وإن
رأى الإمام أن يضم الحبس إلى التعزير فعل ، لأنه يصلح زاجرا حتى يكتفي به وقد ورد
الشرع به . وقال أبو يوسف : أكثره خمسة وسبعون سوطا ، وفي رواية تسعة وسبعون ،
والأصل في ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ' فهما اعتبرا أدنى
الحد ، وهو حد العبد في الشرب والقذف وهو أربعون فنقصا منه سوطا ، وأبو يوسف اعتبر
الأقل من حد الأحرار وهو ثمانون فنقص عنه خمسة في رواية ، وهو مأثور عن علي رضي
الله عنه ، وفي رواية سوطا ، وهو قول زفر ، وهو القياس ، لأنه نقصان حقيقة ، وتعزير العبد
أكثره خمسة وثلاثون عند أبي يوسف فلا يبلغ في تعزيره حد العبيد ، ولا في تعزير الحر حد
الأحرار . قال : ( والتعزير أشد الضرب ) لأنه خفف من جهة العدد فيثقل من جهة الوصف
كيلا يفوت المقصود وهو الانزجار ، ولهذا قلنا لا يفرق على الأعضاء . قال : ( ثم حد الزنا )
لأنه ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب ، ولأنه أعظم جريمة حتى وجب فيه الرجم . قال :
( ثم حد الشرب ) لأن سببه متيقن به . قال : ( ثم حد القذف ) لأن سببه محتمل ، لأنه يحتمل
صدق القاذف ، والله أعلم .(4/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
باب حد القاذف
القذف في اللغة : الرمي مطلقا ، ومنه القذافة والقذيفة : للمقلاع الذي يرمي به ، وقولهم
بين قاذف وحاذف : أي رام بالحصى وحاذف بالعصى ، والتقاذف : الترامي ، ومنه الحديث
' كان عند عائشة رضي الله عنها قينتان تغنيان بما تقاذف فيه الأنصار من الأشعار يوم بعاث '
أي تشاتمت ، وفيه معنى الرمي ، لأن الشتم رمي بما يعيبه ويشينه ، وهو في الشرع : رمي
مخصوص ، وهو الرمي بالزنا ، ومنه الحديث : إن هلال بن أمية قذف زوجته : أي رماها
بالزنى وقد تكرر في الحديث وفيه الحد .
( وهو ثمانون سوطا للحر ، وأربعون للعبد ؛ ويجب بقذف المحصن بصريح الزنا ) لقوله
تعالى : ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة (
[ النور : 4 ] . والمراد بالرمي القذف بالزنا إجماعا ، ويتنصف في العبد لما مر ( وتجب إقامته
بطلب المقذوف ) لما فيه من حقه وهو دفع العار عنه : وصريح الزنا قوله : يا زاني أو زنيت ،
أو يا ابن الزانية ؛ ولو قال : يا ابن الزنى فهو قذف معناه : أنت متولد من الزنا ، ويجب الحد
بأي لسان قذفه ، ويجب عند عجز القاذف عن إقامة أربعة شهود على صدق مقالته فيضرب
ثمانين وترد شهادته أبدا لما تلونا من صريح النص . قال : ( ويفرّق عليه ) لما مر في الزنا ( ولا
ينزع عنه إلا الفرو والحشو ) لأن سببه غير مقطوع به ، وإنما ينزع عنه الفرو والحشو لأنه يمنع(4/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
إيصال الألم إليه . قال : ( ويثبت بإقراره مرة واحدة وبشهادة رجلين ) كما في سائر الحقوق
على ما مر في الشهادات ( ولا يبطل بالتقادم والرجوع ) لتعلق حق العبد به لما مر في حد
الزنا .
قال : ( وإحصان القذف : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنا ) أما الحرية
والإسلام فلما مر في حد الزنا ، وأما العقل والبلوغ فلأن الصبي والمجنون لا يلحقهما
العار لعدم تحقق فعل الزنا منهما ، وأما العفة فلأن غير العفيف لا يلحقه العار ، ولأن حد
القذف يجب جزاء على الكذب والقاذف لغير العفيف صادق . قال : ( ومن قال لغيره : يا
ابن الزانية ، أو لست لأبيك حد ) لأنه صريح في القذف ، لأن قوله ليست لأبيك كقوله يا
ابن الزانية ، ولو نفاه عن جده أو نسبه إليه أو إلى خاله أو عمه أو زوج أمه ، أو قال يا
ابن ماء السماء لم يحد ، لأن نفيه عن جده صدق ونسبته إليه وإلى هؤلاء مجاز عادة
وشرعا . قال الله تعالى : ) وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل ( [ البقرة : 133 ] وإبراهيم جده
وإسماعيل عمه ، وقوله يا ابن ماء السماء يراد به التشبيه في السماحة والصفاء وطهارة
الأصل ، حتى لو كان رجلا اسمه ماء السماء وأراد نسبته إليه فهو قذف ؛ ومن قال لغيره :
لست بابن فلان ، إن كان في حالة الغضب حد لأنه يراد به السب ، وإن لم يكن في حالة
الغضب لا يحد ، لأنه يراد به المعاتبة عادة لنفي شبهه لأبيه في الكرم والمروءة ؛ ولو قال
لامرأة : زنيت بحمار أو بثور لا يحد ؛ ولو قال : زنيت بدراهم وبثوب أو بناقة حد ؛ لأن
معناه زنيت وأخذت هذا ، وفي الرجل لا يحد في جميع ذلك لأن الرجل لا يأخذ المال
على الزنا عرفا ، ولو قال لأجنبية : يا زانية ، فقالت : زنيت بك لا يحد الرجل لتصديقها
وتحد المرأة لقذفها الرجل .
قال : ( ولا يطالب بقذف الميت إلا من يقع القدح بقذفه في نسبه ) لأن العار يلحقهم
للجزئية ، ويحد بقذف أصوله دون فروعه فيثبت للولد وولد الولد وإن كان كافرا أو عبدا ،
لأن الشرط إحصان الذي ينسب إلى الزنا حتى يقع تعييرا كاملا ثم يرجع هذا التعيير إلى
ولده ، والرق والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق ، بخلاف ما إذا وقع القذف ابتداء للكافر
والعبد ، لأنه لم يوجد التعيير كاملا على ما بينا . وعن محمد ليس لولد البنت طلب الحد
بقذف جده أبي أمه ، لأن نسبته إلى غيره ، وجوابه أن العار يلحقه كما يلحق ولد الابن فكانوا
سواء . ومن قذف امرأة ميتة فصدقه بعض الورثة يحد للباقين ، لأن قذف الأم تناول الكل
فكان بمنزلة ما لو قذف الكل فصدقه البعض دون البعض فإنه يحد لمن لم يصدقه .(4/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
قال : ( وليس للابن والعبد أن يطالب أباه أو سيده بقذف أمه الحرة ) لأن الأب لا يعاقب
بسبب ابنه ولا السيد بسبب عبده حتى لا يقتلان بهما . قال : ( ومن وطئ وطئا حراما في غير
ملكه والملاعنة بولد لا يحد قاذفهما ) لفوات العفة ، وكذا إذا قذف امرأة معها أولاد لا يعرف
لهم أب لأن ذلك أمارة الزنا ( وإن لاعنت بغير ولد حد ) لعدم أمارة الزنا .
اعلم أنه إن وطئ وطئا حراما فلا يخلو إما إن كان حراما لعينه أو لغيره ؛ أما إن كان
حراما لعينه سقط إحصانه لأنه زنا ولا يحد قاذفه ، وإن كان حراما لغيره لا يسقط إحصانه
ويحد قاذفه لأنه ليس بزنا ، فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا
الوطء في ملكه والحرمة مؤبدة ، وإن كانت مؤقتة فالحرمة لغيره . وعند أبي حنيفة يشترط
للحرمة المؤبدة الإجماع أو الحديث المشهور . بيان ذلك في صور المسائل وهي : الوطء
بالنكاح الفاسد والأمة المستحقة والإكراه على الزنا والمجنون والمطاوعة والمحرمة بالمصاهرة
بالوطء ووطء الأب جارية ابنه ، ففي هذه المسائل يسقط الإحصان ولا يحد قاذفه لأنه حرام
لعينه وإن لم يأثم إما للجهل أو للإكراه ، بخلاف ثبوت المصاهرة بالتقبيل والمس لأن كثيرا
من الفقهاء لا يرون ذلك محرما ، ولا نص في إثبات الحرمة ، بل هو نوع احتياط إقامة
للسبب مقام المسبب فلا يسقط الإحصان الثابت بيقين بالشك . وذكر في المحيط عن أبي
يوسف ومحمد يسقط إحصانه لأنها حرمة مؤبدة عندهما ، وجوابه ما مر بخلاف الوطء لأن
فيه نصا ، وهو قوله تعالى : ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف (
[ النساء : 22 ] وقد قام الدليل على أن النكاح حقيقة في الوطء ولا اعتبار للاختلاف مع
صريح النص .
وأما الحرمة المؤبدة في الملك الأخت من الرضاع والجارية المشتركة فإنما يسقط
الإحصان لأنه ينافي ملك المتعة فيكون الوطء واقعا في غير الملك فيصير له شبه بالزنا .
والحرمة المؤقتة كالمجوسية والحائض والمظاهر منها والحرمة باليمين والأمة المنكوحة
والمعتدة من غيره ووطء الأختين بملك اليمين والمكاتبة والمشتراة شراء فاسدا فلا يسقط
الإحصان ، لأن مع قيام الملك في المحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه والحرمة على
شرف الزوال . ومن قذف كافرا زنى في حالة الكفر لا يحد لأن زناه في الكفر حرام ؛ ولو
قذف مكاتبا مات عن وفاء لا يحد لوقوع الاختلاف في حريته .
ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ودخل عليها ثم أسلم حد عند أبي حنيفة خلافا لهما
بناء على أن له حكم الصحة عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح . قال : ( والمستأمن يحد
بالقذف ) لما فيه من حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد . وكان أبو حنيفة يقول أولا :(4/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
لا يحد لغلبة حق الله تعالى والمختار الأول ، ولا يحد في الخمر بالإجماع لأنه يرى حله .
وأما حد الزنا والسرقة ، قال أبو يوسف : يحد فيهما كالذمي ، ولهذا يقتص منه بالإجماع
ولا يحد فيهما عندهما لأنه لا يلزمه إلا ما التزم وهو إنما التزم حقوق العباد ضرورة
التمكن من المعاوضات والرجوع إلى بلده ، ولم يلتزم حقوق الله تعالى ، بخلاف القصاص
فإنه حق العباد .
قال : ( وإذا مات المقذوف بطل الحد ) ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل
الباقي ( ولا يورث ، ولا يصح العفو عنه ولا الاعتياض ) ولذلك يجري فيه التداخل ، وهذا
بناء على أن الغالب فيه حق الشرع ، ولا خلاف أن فيه حق العبد والشرع ، لأنه شرع
لدفع العار عن المقذوف وهو المنتفع به وفيه معنى الزجر ولأجله يسمى حدا ؛ والمراد
بالزجر إخلاء العالم عن الفساد ، وهذا آية حق الشرع ، ثم اختلفوا في الغالب فيهما ،
فأصحابنا غلبوا حق الشرع ، لأن حق العبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مستوفى ضمنا
لحق المولى ، ولا كذلك بالعكس ، إذ لا ولاية للعبد على استيفاء حق الشرع إلا بطريق
النيابة .
فصل
( ومن قال لمسلم : يا فاسق ، أو يا خبيث ، أو يا كافر ، أو يا سارق ، أو يا مخنث
عزّر ) لأنه آذاه بذلك وألحق به الشين ، والحدود لا تثبت قياسا فوجب التعزير لينزجر عن
ذلك ويعتبر غيره . وفي المجرد عن أبي حنيفة : يا شارب الخمر ، يا خائن يعزر ؛ وكذلك لو
قال : أنت تأوي اللصوص ، أو تأوي الزواني لما بينا ( وكذلك يا حمار يا خنزير إن كان فقهيا
أو علويا ) وكذلك يا ثور يا كلب لأنه يلحقه بذلك الأذى دون الجاهل العامي . وقيل : يعزر
في حق الكل في عرفنا لأنهم صاروا يعدونه سبا . وقيل لا يعزر في حق الكل لأنا تيقنا بنفيه
فما لحقه به شين ، وإنما لحق القاذف شين الكذب ، ولأنه إنما يشبه بهذه الأشياء لسوء خلقه
أو قبح خلقه وليس ذلك بمعصية . رجل زنا بامرأة ميتة يعزر .
قال ( ومن حده الإمام أو عزره فمات فهو هدر ) لأنه مأمور من جهة الشرع فلا يتقيد
بالسلامة كالفصاد ، أو نقول : استوفى حق الله تعالى بأمره فكأن الله تعالى أماته بغير واسطة
فلا يجب الضمان .(4/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
قال : ( وللزوج أن يعزر زوجته على ترك الزينة ) إذا أرادها ( وترك إجابته إلى فراشه ،
وترك غسل الجنابة ، وعلى الخروج من المنزل ) لأنه يجب عليها طاعته وطاعة الله تعالى فتعزر
على المخالفة .
قال : ( ومن سرق ، أو زنى ، أو شرب غير مرة فحد فهو للكل ) لأن المقصود الانزجار
وأنه يحتمل حصوله بالأول فيتمكن في الثاني شبهة عدم المقصود فلا يجب ؛ أما لو زنى
وشرب وسرق فإنه يجب لكل واحد حد على حدة ، لأنه لو ضرب لأحدهما ربما اعتقد أنه
لا حد في الباقي فلا ينزجر عنها ، ولا كذلك إذا اتحدت الجناية ؛ ولو أقيم على القاذف حق
الشرع ، ولأن المقصود إظهار كذبه ليندفع به العار عن المقذوف ، وذلك يحصل في حقهما
بالسوط الواحد . وإذا اجتمع حد الزنا والسرقة والشرب والقذف وفقء العين ، يبدأ بالفقء
لكونه خالص حق العبد ، وحق العبد مقدم لحاجته واستغناء الله تعالى ، ويحبس حتى يبرأ ،
فإذا برأ يحد للقذف لما فيه من حق العبد ، ويحبس حتى يبرأ ، لأنه لو جمع بين حدين ربما
تلف ، والتلف ليس بواجب ؛ فإذا برأ فللإمام إن شاء بدأ بالقطع ، وإن شاء بحد الزنا
لاستوائها في الثبوت ، وآخرها حد الشرب لأنه ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فكان
دون ما ثبت بالكتاب ؛ وإن كان محصنا بدأ بالفقء ، ثم حد القذف ، ثم الرجم ، ويسقط
الباقي لأن القتل يأتي على النفس فيؤدي إلى إسقاط بعض الحدود وقد أمرنا بذلك ، وإن كان
مع ذلك قتل ضرب للقذف ثم يضمن بالسرقة ثم قتل وسقط عنه الباقي ، نقل ذلك عن ابن
مسعود وابن عباس رضي الله عنهم .(4/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
باب حد الشرب
الأصل في وجوبه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه ' ( وهو
كحد الزنا كيفية ، وحد القذف كمية وثبوتا ) فيجرد من ثيابه كما في حد الزنا ، ويفرّق على
أعضائه لما مر . وعن محمد أنه لا يجرد تخفيفا عن حد الزنا . قلنا : ثبت التخفيف في العدد
فلا يخفف ثانيا ، وعدده ثمانون سوطا في الحر بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وأربعون
في العبد لأن الرق منصف ، ويثبت بإقراره مرة واحدة وبشهادة رجلين كحد القذف ( غير أنه
يبطل بالرجوع والتقادم في البينة والإقرار ) وعن أبي يوسف يشترط الإقرار مرتين على ما يأتي
في السرقة .
قال : ( والتقادم بذهاب السكر والرائحة ) فلو أقر بعد ذهاب ريحها أو شهد عليه بعد
السكر وذهاب الرائحة لم يحد . وقال محمد : يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالإجماع ،(4/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
غير أن محمدا قدّره بالزمان كالزنا ، لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة مشتبهة ،
وعندهما مقدر بزوال الرائحة ، لأن حد الشرب إنما ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ،
ولا إجماع بدون رأي ابن مسعود رضي الله عنه ، فإنه شرط وجود الرائحة ، لما روي أن
رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود فاعترف عنده بشرب الخمر ، فقال له ابن
مسعود : بئس وليّ اليتيم أنت لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا ؟ تلتلوه ومزمزوه ثم
استنكهوه ، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ، شرط وجود الرائحة فيكون شرطا ( فلو أخذ
وريحها توجد منه فلما وصل إلى الإمام انقطعت لبعد المسافة حد ) في قولهم جميعا لأنه عذر
فلا يعد تقادما كما قلنا في حد الزنا ، ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال
الكذب فتمكنت الشبهة ، ويسقط بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد ، والسكران فيه
كالصاحي كسائر تصرفاته عقوبة له .
قال : ( ويحد بشرب قطرة من الخمر ، وبالسكر من النبيذ ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' حرمت الخمر
لعينها والسكر من كل شراب ' ولإطلاق قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من شرب الخمر فاجلدوه ' وعليه
إجماع الصحابة رضي الله عنهم ( والسكران من لا يعرف الرجل من المرأة والأرض من
السماء ) وقالا : هو الذي يخلط كلامه ويهذي لأنه المتعارف بين الناس وهو اختيار أكثر
المشايخ ، وأبو حنيفة يأخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد ، وأقصاه الغلبة على العقل
حتى لا يميز بين الأشياء ، لأنه متى ميّز فذلك دلالة الصحو أو بعضه وأنه ضد السكر ، فمتى
ثبت أحدهما أو شيء منه لا يثبت الآخر ( ولا يحد حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه
طوعا ) لأن السكر يكون من المباحات كالبنج ولبن الرماك وغيرهما وذلك لا يوجب الحد ،
وكذلك الشرب مكرها لا يوجب الحد فلذلك شرط ذلك . قال : ( ولا يحد حتى يزول عنه
السكر ) ليتألم بالضرب فيحصل مصلحة الزجر . قال : ( ولا يحد من وجد منه رائحة الخمر أو
تقيأها ) لأن الرائحة مشتبهة واحتمال أنه شربها مكرها ثابت الحدود لا تجب بالشك ، والله
أعلم .(4/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
كتاب الأشربة
وهي جمع شراب ، وهو كل مائع رقيق يشرب ولا يتأتى فيه المضغ محرما كان أو
حلالا ، وهي تستخرج من العنب والزبيب والتمر والحبوب ، ومنها حرام ومنها حلال ،
ف ( المحرم منها الخمر ، وهي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ) وعندهما لا
يشترط القذف بالزبد لأنه يسمى خمرا بدونه ، ولأن المؤثر في فساد العقل وتغطيته هو
الاشتداد . ولأبي حنيفة أن السكون أصل في العصير ، وما بقي شيء من آثاره فالحكم له ،
وأحكام الشرع قطعية فلا يحكم بكونه خمرا مع وجود شيء من آثار العصير للمغايرة بينهما ،
ولأن الثابت لا يزول إلا بيقين ، فما بقي شيء من آثار العصير لا يتيقن بالخمرية . وأما
حرمتها فبالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقوله تعالى : ) إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس (
[ المائدة : 90 ] والرجس : الحرام لعينه . والسنة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' حرمت الخمر لعينها ' وقد
تواتر تحريمها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه إجماع الأمة ؛ ويتعلق بها أحكام أخر : منها أنه يكفر
مستحلها لثبوت حرمتها بدليل مقطوع به ، ومنها أن نجاستها مغلظة لثبوتها بالدليل القطعي ،
ومنها أنها لا قيمة لها في حق المسلم حتى لا يجوز بيعها ولا يضمن غاصبها ولا متلفها لأن
ذلك دليل عزتها ، وتحريمها دليل إهانتها . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل
ثمنها ' ومنها حرمة الانتفاع بها لنجاستها ، ولأن في الانتفاع بها تقريبها ، والله تعالى يقول :(4/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
) فاجتنبوه ( [ المائدة : 90 ] ، ومنها أنه يحد بشرب القليل منها على ما بينا في بابها ، ومنها
أن الطبخ لا يحلها ، لأن الطبخ في العصير يمنع الحرمة ولا يرفعها . ومنها جواز تخليلها
على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
( الثاني العصير إذا طبخ فذهب أقل من ثلثه وهو الطلاء ) وقيل إذا ذهب ثلثه فهو الطلاء
( وإن ذهب نصفه فالمنصف ) وإن طبخ أدنى طبخة فالباذق والكل حرام إذا غلا واشتد وقذف
بالزبد على الاختلاف لأنه رقيق لذيذ مطرب يجتمع الفسّاق عليه فيحرم شربه دفعا لما يتعلق
به من الفساد .
( الثالث السكر ، وهو النيء من ماء الرطب إذا غلا كذلك ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الخمر من هاتين
الشجرتين وأشار إلى الكرم والنخلة ' وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
( الرابع نقيع الزبيب ، وهو النيء من ماء الزبيب إذا غلا واشتد كذلك ) على الخلاف
حرام أيضا لما روينا وبينا ( وحرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر ) لأن حرمة الخمر قطعية
على ما مرّ ، وحرمة هذه اجتهادية ( فيجوز بيعها وتضمن بالإتلاف ) خلافا لهما لأنها حرام فلا
يجوز بيعها كالخمر . وعن أبي يوسف : أنه يجوز بيعها وتضمن بالإتلاف إذا ذهب بالطبخ
أكثر من ثلثه . ولأبي حنيفة أنه مال متقوّم ، وما دل الدليل على سقوط تقوّمها بخلاف
الخمر ، ثم يجب بالإتلاف عنده القيمة دون المثل لأنه ممنوع من الانتفاع بها للحرمة ( ولا
يحد شاربها حتى يسكر ولا يكفر مستحلها ) لما بينا . وعن أبي يوسف : ما كان من الأشربة
يبقى بعد ما بلغ : أي اشتد عشرة أيام لا يفسد ، أي لا يحمض فإني أكرهه ، لأن بقاءه هذه
المدة دليل قوته وشدته فكان آية حرمته ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم رجع
إلى قول أبي حنيفة .
قال : ( ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة حلال ، وإن اشتد إذا شرب ما لم يسكر
من غير لهو ) ولا طرب ( و ) كذلك ( عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه حلال ، وإن اشتد إذا(4/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
قصد به التقوي ، وإن قصد التلهي فحرام ) وقال محمد : حرام ، وعنه مثل قولهما ، وعنه
التوقف فيه . له قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كل مسكر حرام ' وقوله : ' ما أسكر كثيره فقليله حرام '
وقياسا على الخمر . لهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها ،
والسكر من كل شراب ' خص السكر من غير الخمر بالتحريم ، فمن عمم بالتحريم السكر
وغيره فقد خالف النص ، وما رواه من الأحاديث طعن فيه يحيى بن معين ، ذكره عبد الغني
المقدسي في كتابه ، ولأن عامة الصحابة رضي الله عنهم خالفوه ، فدل على عدم صحته ، أو
هو محمول على الشرب المسكر والتلهي ، أو نقول : المسكر هو القدح الأخير فنقول
بالموجب ، ولأن حرمة قليل الخمر يدعو إلى كثيره لرقته ولطافته فأعطي حكمه ، وليس
كذلك المثلث لأن قليله لا يدعو إلى كثيره وهو غذاء فلا يحرم . وروى الطحاوي بإسناده إلى
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتي بنبيذ فشمه فقطب وجهه لشدته ، ثم دعا بماء
فصبه عليه وشرب منه وقال : ' إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متونها بالماء ' .
وفي رواية أنه لما قطب قال رجل : أحرام هو ؟ قال : ' لا ' وهذا نص في الباب . وعن ابن
أبي ليلى قال : أشهد على البدريين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا يشربون النبيذ في
الجرار الخضر ، وقد نقل ذلك عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم ومشاهيرهم قولا وفعلا حتى
قال أبو حنيفة : إنه مما يجب اعتقاد حله لئلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة رضي الله عنهم ؛
والمثلث إذا صب عليه الماء حتى رق ثم طبخ لا يتغير حكمه ، لأن صب الماء يزيده ضعفا ،
بخلاف ما إذا صب الماء على العصير حتى ذهب ثلثا الجميع ، لأن الماء يذهب أولا
للطافته أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي العصير .
قال : ( ونبيذ العسل والتين والحنطة والشعير والذرة حلال طبخ أو لا ) إذا لم يشرب
للهو والطرب ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الخمر من هاتين الشجرتين ' والمراد بيان الحكم ، ولأن قليله
لا يدعو إلى كثيره . وعن محمد أنه حرام ، ويقع طلاق السكران منه كغيره من الأشربة(4/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
المحرمة ، وجوابه ما مر ( وفي حد السكران منه روايتان ) والأصح أنه يحد ، لأن في بعض
البلاد يجتمع الفساق عليه اجتماعهم على الخمر وفوقه ، وعلى هذا المتخذ من الألبان ؛ ثم
قيل : يجب أن لا يحل لبن الرماك عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمها ، إذ هو متولد منه ، وجوابه
أن كراهة اللحم لاحترامه ، أو لما في إباحته من تقليل آلة الجهاد فلا يتعدى إلى لبنه .
قال : ( ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به ) لأنه من أجزاء الخمر ، ولا يحد شاربه
ما لم يسكر لأنه ناقص ، إذ الطباع السليمة تكرهه وتنبو عنه ، وقليله لا يدعو إلى كثيره فصار
كغير الخمر . قال : ( ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كنت
نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ، ألا فانتبذوا فيها واشربوا في كل
ظرف ، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ، ولا تشربوا المسكر ' .
قال : ( وخل الخمر حلال سواء تخللت أو خللت ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' نعم الإدام الخل '
مطلقا ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خير خلكم خل خمركم ' ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد ويثبت
وصف الصلاحية لأن فيه مصلحة قمع الصفراء والتغذي ومصالح كثيرة ، وإذا زال المفسد
الموجب للحرمة حلت كما إذا تخللت بنفسها ، وإذا تخللت طهر الإناء أيضا ، لأن جميع ما
فيه من أجزاء الجمر يتخلل إلا ما كان منه خاليا عن الخل فقيل يطهر تبعا ، وقيل يغسل
بالخل ليطهر لأنه يتخلل من ساعته ، وكذا لو صب منه الخل ، فما خلا طهر من ساعته ؛
ومن خاف على نفسه الهلاك من العطش ولم يجد إلا خمرا فله أن يشرب منها ما يأمن به
من الموت ثم يكف ، لأن الله تعالى أباح للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، والخمر
مثلها في التحريم فتكون مثلها في الإباحة عند الاضطرار ، فإذا أمن على نفسه زالت الضرورة
وهو خوف الهلاك عاد التحريم ، وإذا وجدت الخمر في دار إنسان وعليها قوم جلسوا
مجالس من يشربها ولم يرهم أحد يشربونها عزروا ، لأنهم ارتكبوا أمرا محظورا وجلسوا
مجلسا منكرا ، وكذلك من وجد معه آنية خمر عزر لأنه ارتكب محظورا .(4/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
كتاب السرقة
( وهي ) في اللغة : أخذ الشيء على سبيل الخفية والاستسرار بغير إذن المالك ، سواء
كان المأخوذ مالا أو غير مال ، ومنه استراقّ السمع ، قال الله تعالى : ) إلا من استرق
السمع فأتبعه ( [ الحجر : 18 ] وسرقة الشاعر المعنى وسرقة الصنعة ونحوه . وفي الشرع
( أخذ العاقل البالغ نصابا محرزا ، أو ما قيمته نصابا ملكا للغير لا شبهة له فيه على وجه
الخفية ) والمعنى اللغوي مراعى فيه ابتداء وانتهاء ، أو ابتداء في بعض الصور كما إذا نقب
البيت خفية وأخذ المال مكابرة وذلك يكون ليلا ، لأنه ربما أحسوا به فكابر وأخذ ولا
غوث بالليل فيقطع ؛ أما النهار لو فعل ذلك لا يقطع لأنه يلحقهم الغوث فلا يمكنه
ذلك ، فيشترط الخفية ليلا ونهارا فهي مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه ؛ وفي قطع
الطريق وهي السرقة الكبرى مسارقة عين الإمام وأعوانه لأنه المتصدي لحفظ الطريق
بأعوانه ، لأن الأموال إنما تصير مصونة محرزة بحفظ الإمام وحمايته . والأصل في
وجوب القطع قوله تعالى : ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( [ المائدة : 38 ] . وقرأ
ابن مسعود رضي الله عنه : فاقطعوا أيمانهما ، وقوله تعالى : ) إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ( [ المائدة : 64 ] الآية ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من سرق
قطعناه ' ورفع إليه ( صلى الله عليه وسلم ) سارق فقطعه .
وإجماع الأمة على وجوب القطع وإن اختلفوا في مقدار النصاب ، ولأن المال محبوب
إلى النفوس تميل إليه الطباع البشرية خصوصا عند الحاجة والضرورة ، ومن الناس من لا(4/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
يردعه عقل ، ولا يمنعه نقل ، ولا تزجرهم الديانة ، ولا تردهم المروءة والأمانة ، فلولا
الزواجر الشرعية من القطع والصلب ونحوهما لبادروا إلى أخذ الأموال مكابرة على وجه
المجاهرة ، أو خفية على وجه الاستسرار ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، فناسب شروع هذه
الزواجر في حق المستسر والمكابر في سرقتي الصغرى والكبرى حسما لباب الفساد وإصلاحا
لأحوال العباد ، والعبد والحر في القطع سواء لإطلاق النصوص ، ولأن القطع لا يتنصف
فيكمل في العبد صيانة لأموال الناس ؛ ولا بد من العقل والبلوغ لأن القطع شرع زاجرا عن
الجناية ، ولا جناية من الصبي والمجنون . وأما اشتراط النصاب فلما روي أن اليد كانت لا
تقطع على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا في ثمن المجنّ .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
الشيء التافه ، ولأنه لا بد من اعتبار مال له خطر لتتحقق الرغبة فيه فيجب الزجر عنه ؛ أما
الحقير لا تتحقق الرغبة فيه فلا حاجة إلى الزجر عنه ، ولا بد أن يكون محرزا لأنه عليه
الصلاة والسلام لم يوجب القطع في حريسة الجبل . أي ما يحرس بالجبل لعدم الحرز ؛
ولا بد أن يكون غير مأذون له بالدخول فيها ، لأن بالإذن يخرج من أن يكون حرزا في حقه ؛
ويشترط أن يكون ملكا للغير لا شبهة له فيه ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات على ما مرّ ، وتكون
على سبيل الخفية لأن السرقة لا تكون على الجهر على ما مرّ .
قال : ( والنصاب دينار أو عشرة دراهم مضروبة من النقرة ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا قطع في أقل
من عشرة دراهم ' وما روي أن القطع كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن إلا في ثمن
المجن ، فقد نقل عن ابن عباس وابن أم أيمن قالا : كانت قيمة المجن الذي قطع فيه على
عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة دراهم ، ونقل أقل من عشرة دراهم ؛ والأخذ بالأكثر أولى
احتيالا للدرء ، وفي الأقل شبهة عدم الجناية . وروي عن أبي يوسف ومحمد : أنه لا يقطع
في عشرة دراهم تبر ما لم تكن مضروبة . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر قيمته
بنقد البلد . وروى الحسن عنه : إذا سرق عشرة دراهم مما يروج بين الناس قطع ، فعلى هذا
إذا كان التبر رائجا بين الناس قطع . وروى الحسن عنه أيضا : لو سرق أحد عشر درهما لا
تروج ، فإن كانت تساوي عشرة رائجة قطع ، وإلا فلا ؛ وقوله أو ما قيمته عشرة دراهم ، دليل
على أن غير الدراهم تعتبر قيمته بالدراهم وإن كان ذهبا . وروى بشر عن محمد : لو سرق
نصف دينار قيمته عشرة دراهم ، قطعته ، وإن سرق دينارا قيمته أقل من عشرة دراهم لا(4/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
أقطعه ، ثم حرز كل شيء على حسب ما يليق به . قال عليه الصلاة والسلام : ' فإذا آواه
الجرين يعني البيدر ففيه القطع ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا قطع في حريسة
الجبل ، وما آواه المراح ففيه القطع ' أي موضع يروحون منه .
قال : ( والحرز يكون بالحافظ وبالمكان ) لأن الحرز ما يصير به المال محرزا عن
أيدي اللصوص وذلك بما ذكرنا ، فالحافظ كمن جلس في الصحراء أو في المسجد أو في
الطريق وعنده متاعه فهو محرز به ، وسواء كان نائما أو مستيقظا ؛ أما إذا كان مستيقظا
فظاهر ؛ وأما إذا كان نائما فلما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان من
تحت رأسه وهو نائم في المسجد ' وسواء كان المتاع تحته أو عنده ، لأنه يعد حافظا له
في ذلك كله عرفا ؛ والحرز بالمكان هو ما أعد للحفظ ( كالدور والبيوت والحانوت )
والصندوق ونحوه ( ولا يعتبر فيه الحافظ ) لأنه محرز بدونه ، وهو المكان الذي أعد
للحفظ ، إلا أن القطع لا يجب بالأخذ من الحرز بالمكان إلا بالإخراج منه ، لأن يد
المالك قائمة ما لم يخرجه ، والمحرز بالحافظ يجب القطع كما أخذه ، لأن يد المالك
زالت بمجرد الأخذ فتمت السرقة . ولو كان باب الدار مفتوحا فدخل نهارا وأخذ متاعا لم
يقطع ، لأنه مكابرة وليس بسرقة لعدم الاستسرار على ما بينا ؛ وإن دخل ليلا قطع لأنه حرز
لأنه بنى للحرز ؛ ولو دخل بين العشاء والعتمة والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار ؛ ولو
علم صاحب الدار باللص واللص لا يعلم به أو بالعكس قطع لأنه مستخف ؛ وإن علم كل
واحد بالآخر لا يقطع لأنه مكابر .
قال : ( وإذا سرق من الحمام ليلا قطع ، وبالنهار لا وإن كان صاحبه عنده ) لأنه مأذون
له بالدخول فيه نهارا فاختل الحرز ، ويقطع ليلا لأنه بنى للحرز ، وما اعتاد الناس من دخول
الحمام بعض الليل فهو كالنهار لوجود الإذن ، وعلى هذا كل حرز أذن بالدخول فيه كالخانات
وحوانيت التجار والضيف ونحوهم . قال : ( والمسجد والصحراء حرز بالحافظ ) لأن الصحراء
ليس بحرز ، والمسجد ما بني للحفظ والإحراز ، فلو سرق منه وصاحبه عنده يحفظه قطع(4/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
لوجود السرقة ، بخلاف الحمام والحرز الذي أذن بالدخول فيه حيث لا يقطع وإن كان
صاحبه عنده ، لأنه بنى الإحراز فلا يعتبر فيه الحافظ لما مر .
قال : ( والجوالق والفسطاط كالبيت ) لأنه عمل للحفظ ( فإن سرق الفسطاط
والجوالق لا يقطع ) لأنهما ليسا في حرز وإن كان حرزا لما فيهما ( إلا أن يكون لهما حافظ )
فيقطع لوجود الحرز ، وقال أصحابنا : ما كان حرزا لنوع فهو حرز لجميع الأنواع حتى جعلوا
شريجة البقال حرزا للجواهر لأنه يحرز خلفها الدراهم والدنانير ( ولهذا قالوا : لا يقطع
النباش ) لأن القبر ليس بحرز لغير الكفن فلا يكون حرزا للكفن .
قال : ( وتثبت السرقة بما يثبت به القذف ) يعني بالإقرار مرة وبشهادة شاهدين كسائر
الحقوق وقد تقدم . وقال أبو يوسف : لا بد من إقراره مرتين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر فيها
التثنية كالأخرى وهي البينة كما في الزنا وحد الشرب على هذا الخلاف . ولهما أن السرقة
والشرب ثبت بالمرة الواحدة فلا حاجة إلى الأخرى كالقصاص ، وحد القذف والتثنية في
الشهادة منصوص عليه ، ولأنه يفيد تقليل تهمة الكذب ، ولا كذلك الإقرار لأنه لا تهمة فيه
واشتراط الزيادة في الزنا على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص ؛ وينبغي أن يلقن المقر
الرجوع احتيالا للدرء ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فقال له : ' أسرقت ؟ ما
إخاله سرق ' وإذا رجع عن الإقرار صح في القطع لأنه خالص حق الله تعالى ولا مكذّب
له فيه ، ولا يصح في المال لأن صاحبه يكذبه .
قال : ( ويسأل الشهود عن كيفيتها وزمانها ومكانها وماهيتها ) لأنه يلتبس على كثير
من الناس فيسأل عنه احتياطا في الحدود . قال : ( ولا بد من حضور المسروق منه عند
الإقرار والشهادة والقطع ) حتى لا يقطع ما لم يصدقه ، لأن حقه متعلق بالسرقة حتى لا
يثبت بدون دعواه ، ولاحتمال أن يهبه المسروق أو يملكه فيسقط القطع ، فإذا حضر انتفى
هذا الاحتمال . قال : ( وإذا دخل جماعة الحرز وتولى بعضهم الأخذ قطعوا إن أصاب(4/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
كل واحد نصاب ) لوجود السرقة من كل واحد منهم ، لأن الأخذ وجد من الكل معنى
للمعاونة كما في قطع الطريق وصار كالردء والمعين ، وإن كان أقل من نصاب لم يقطع ، لأن
القطع يجب على كل واحد بجنايته فيعتبر كمالها في حقه .
قال : ( وإن نقب فأدخل يده وأخرج المتاع ، أو دخل فناول المتاع آخر من خارج لم
يقطع ) أما الأولى فلأنه لم يوجد الهتك على وجه الكمال وهو الدخول فصار فيه شبهة
العدم فلا يجب الحد . وأما الثانية فلأن الداخل لم يخرج المتاع لاعتراض يد معتبرة عليه
قبل إخراجه ، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد منهما .
وعن أبي يوسف : القطع في الأولى لأن المقصود من السرقة إخراج المال من الحرز
وقد وجد ، فصار كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي وأخرج الدراهم عنه ؛ وفي
المسألة الثانية إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج قطع الداخل ، وإن أدخل الخارج يده
فتناولها من الداخل قطعا وهي بناء على الأولى . وجوابه أن كمال هتك حرمة الحرز
بالدخول فيه وهو ممكن معتاد ، ولم يوجد بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال يده
فيه دون دخوله .
قال : ( وإن ألقاه في الطريق ثم أخذه قطع ) وقال زفر : لا يقطع : لأن الإلقاء لا
يوجب القطع كما لو لم يأخذه ، وبالأخذ من الطريق لا يقطع كما لو أخذه غيره . ولنا أنه
لم يعترض عليه فعل آخر فاعتبر الكل فعلا واحدا ، ولأن ذلك عادة اللصوص ، لأنه يتعذر
خروجهم بالمتاع فيفعلوا ذلك أو يفعلونه ليتفرغوا للدفع لو ظهر عليهم أو للهرب فكان من
تمام السرقة ، بخلاف ما إذا ألقاه ولم يأخذه لأنه مضيع لا سارق ( و ) كذلك ( لو حمله
على حمار وساقه قطع ) لأن مشيه مضاف إليه ، ولو خرج قبل الحمار ثم خرج الحمار بعده
وجاء إلى منزله لم يقطع ولو علق على طائر له وتركه في المنزل فطار بعد ذلك إلى
منزله لم يقطع لأنه مختار في ذلك ؛ ولو طرح المتاع في نهر في الدار فذهب به الماء
وأخرجه لا قطع عليه لأن الماء أخرجه بقوته حتى لو لم يكن له قوة وحركة هو حتى
أخرجه قطع لأنه مضاف إلى فعله . قال : ( وإن أدخل يده في صندوق الصيرفي أو كمّ
غيره وأخذ قطع ) لأنه حرز ، أما الصندوق فحرز بنفسه على ما بينا ، وأما الكم فحرز
بالحافظ فيقطع .(4/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
فصل
( ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام : كالحطب والسمك والصيد والطير
والنورة والزرنيخ ونحوها ) لحديث عائشة رضي الله عنها ' إن اليد كانت لا تقطع على عهد
رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه ' وهو الحقير ، وهو مباح في الأصل
بصورته ، حقير لقلة الرغبات فيه ، ولهذا لا يجري فيه الشح والضنة ، وما كان كذلك لا يؤخذ
على كره من المالك عادة فلا حاجة إلى الزاجر كما قلنا فيما دون النصاب ، وما فيه من
الشركة العامة في الأصل يوجب الشبهة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا قطع في الطير '
ويعم جميع الطيور حتى الدجاج والبط ، ويدخل في السمك الملح والطري .
قال : ( ولا ما يتسارع إليه الفساد : كالفواكه الرطبة واللبن واللحم ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا قطع في الطعام ' قالوا : معناه ما يتسارع إليه الفساد لأنه يقطع في الحبوب
والسكر إجماعا . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا قطع في ثمر ولا كثر ' قال محمد : الثمر
ما كان على رؤوس النخل ، والكثر : الجمار . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا قطع في
الثمار ' وما آواه الجرين ففيه القطع وهو موضع تجمع فيه الثمار إذا صرمت ، والذي يجمع
عادة هو اليابس . قال : ( ولا ما يتأوّل فيه الإنكار : كالأشربة المطربة ، وآلات اللهو والنرد
والشطرنج ، وصليب الذهب ) لأنه يصدّق دعواه في تأويله الإنكار لأنه ظاهر حال المسلم ،
بل يجب عليه ذلك لأنه نهى عن المنكر .
قال : ( ولا في سرقة المصحف المحلى ) وعن أبي يوسف أنه يقطع إذا بلغت الحلية
نصابا لأنها ليست من المصحف فاعتبرت بانفرادها . ولنا أنه يتأول فيه القراءة ، ولأن الإحراز
لأجل المكتوب ولا مالية له وما وراءه تبع كالجلد والورق والحلية ولا عبرة بالتبع ، والأصل
أنه متى اجتمع ما يجب فيه القطع وما لا يجب لا يقطع كالشراب وماء الورد في إناء ذهب
أو فضة ، لأنه اجتمع دليلا القطع وعدمه فأورث شبهة ، حتى لو شرب ما في الإناء في الدار
ثم أخرج الإناء من الدار فارغا قطع ، لأن المقصود حينئذ هو الإناء ، رواه هشام عن محمد(4/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
( و ) كذلك ( الصبي الحر المحلي ) وعن أبي يوسف : أنه يقطع لأن الحلي غيره فكان
مقصودا . ولنا أن الحلي تبع له وهو ليس بمال ، ولأنه يتأول في أخذه خوف الهلاك ورده
على أهله ، ولو كان قصده الحلي لأخذه دون الصبي ؛ وكذا لو سرق كلبا عليه قلائد فضة
لأنها تبع له ولا قطع في الأصل فكذا في التبع . قال : ( ولا في سرقة العبد ) صغيرا كان أو
كبيرا عند أبي يوسف لأنه آدمي من وجه مال من وجه ، وقالا : يقطع في العبد الصغير لأنه
مال لكونه منتفعا به ، أو بعرضية الانتفاع لأنه خداع أو غصب وليس سرقة ، وإذا كان يعبر
عن نفسه ويعقل فهو كالكبير .
قال : ( ولا في سرقة الزرع قبل حصاده والثمرة على الشجر ) لعدم الحرز وللحديث
المتقدم . قال : ( ولا في كتب العلم ) لأنه يتأول قراءتها ، ولأن المقصود ما فيها وليس
بمال ، ويقطع في دفاتر الحساب لأن ما فيها غير مقصود ، وإنما المقصود الكاغد ؛ ولو
سرق الجلد والكواغد قبل الكتابة قطع ، وفي كتب الأدب روايتان . قال : ( ويقطع في الساج
والقنا والأبنوس والصندل والعود والياقوت والزبرجد والفصوص كلها ) لأنها من أنفس
الأموال وأعزها مرغوب فيها ، ولا توجد مباحة في دار الإسلام لصورتها فصارت كالذهب
والفضة . ( و ) يقطع في ( الأواني المتخذة من الخشب ) لأنها التحقت بالأموال النفيسة
بالصنعة ، ولا قطع في العاج ما لم يعمل ، فإذا عمل منه شيء قطع فيه ، ولا قطع في
الزجاج لأن المكسور منه تافه ، والمصنوع يتسارع إليه الفساد . وقيل يقطع في المصنوع
لأنه مال نفيس لا يتسارع إليه الفساد . قال محمد : لو سرق جلود السباع المدبوغة وقيمتها
مائة لا يقطع ، ولو جعلت مصلاة أو بساطا قطع ، لأنها خرجت من أن تكون جلود السباع
لتغير اسمها ومعناها .
قال : ( ولا قطع على خائن ، ولا نباش ، ولا منتهب ، ولا مختلس ) قال عليه الصلاة
والسلام : ' لا قطع على خائن ولا منتهب ولا مختلس ' ولأن الحرز قاصر في حق الخائن
لأن المال غير محرز عنه ، والمنتهب والمختلس مجاهر فلا يكون سارقا . وسئل علي رضي
الله عنه عن المختلس والمنتهب ؟ فقال : تلك دعابة لا شيء فيها ، ولأن اسم السارق لا(4/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
يتناوله فلا يدخل تحت النص . وأما النباش فيقطع عند أبي يوسف لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' من نبش قطعناه ' ولأنه سرق مالا متقوّما من حرز مثله فيقطع . ولهما ما روى
الزهري أن نباشا أخذ في زمن مروان بالمدينة والصحابة متوافرون يومئذ فأجمعوا أن لا قطع
عليه ، ولأن اسم السارق لا يتناوله ، ألا ترى أن العرب أفردوا له اسما ؟ والقطع وجب على
السارق نصا ؛ فلو أوجبناه عليه كان إلحاقا له به فيكون إيجاب الحدود بالقياس فلا يجوز ،
ولأنه ليس ملكا للميت لانقطاع ملكه عنه بالموت ، ولا ملكا للورثة لعدم جواز تصرفهم فيه ،
فلم يكن له مالك معين فلا يقطع كمال بيت المال ، وما رواه محمول على السياسة . وقيل
هو موقوف وليس بمرفوع .
قال : ( ولا من سرق ذي رحم محرم ، أو من سيده ، أو من امرأة سيده ، أو زوج
سيدته ، أو زوجته ، أو مكاتبه ، أو من بيت المال ، أو من الغنيمة ، أو من مال له فيه شركة )
لوقوع الخلل في الحرز لوجود الإذن في الدخول في البعض وبسوطة في البعض في مال
الآخر ، ولأن له حقا في أكساب المكاتب وله نصيب في بيت المال والمغنم ، وهو مروي
عن علي رضي الله عنه ، وكذا إذا سرق المكاتب من مولاه لا يقطع ، ولا يقطع بالسرقة من
غريمه مثل ماله عليه لأنه استوفى حقه ، والحال والمؤجل سواء ، لأن الحق ثابت والتأجيل
لتأخير المطالبة ، وكذا لو سرق أكثر من حقه لأنه يصير شريكا بمقدار حقه ؛ وكذا إذا أخذ
أجود من دراهمه أو أردأ ، لأن الجنس متحد ؛ ويقطع بسرقة خلاف جنس ما عليه ، لأنه ليس
له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا إلا إذا قال : أخذته رهنا بحقي أو قضاء به فلا يقطع لأنه
مختلف فيه فقد ظن في موضعه .
قوم سرقوا وفيهم صبي أو مجنون لا قطع عليهم وإن تولى ذلك الكبير لأنه فعل واحد
لم يوجب القطع على البعض فلا يجب على الباقين للشبهة ، وكذا شريك ذي الرحم
المحرم .
وقال أبو يوسف : ادرإ الحد عن الصبي والمحرم ، واقطع الآخر اعتبارا لحالة الاجتماع
بحالة الانفراد ، إذ فعل كل واحد منهما معتبر بانفراده ، وشريك الأخرس كشريك الصبي في
الخلاف لأنه لا حد على الأخرس لاحتمال أنه لو نطق ادعى شبهة الشركة ونحوها . قال أبو
حنيفة : لا يقطع الأعمى إذا سرق لجهله بمال غيره وحرز غيره .(4/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
فصل
( وتقطع يمين السارق من الزند وتحسم ) أما القطع فللقراءة المشهورة ، وأما اليمين
فلقراءة ابن مسعود وعليه الإجماع . وأما من الزند لأن الآية مجملة ، فإن اليد تتناول إلى
الإبط وتتناول إلى الزند وإلى المرفق ، وقد وردت السنة مفسرة لها بما ذكرنا ، فإن النبي عليه
الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند . وأما الحسم فلقوله عليه الصلاة والسلام :
' فاقطعوه واحسموه ' ولأنه إذا لم تحسم يؤدي إلى التلف ، لأن الدم لا ينقطع إلا به ،
والحد زاجر غير متلف ، ولهذا لا يقطع في الحر الشديد والبرد الشديد .
( فإن عاد قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد لم يقطع ويحبس حتى يتوب ) والأصل أن
حد السرقة شرع زاجرا لا متلفا ، لأن الحدود شرعت للزجر عن ارتكاب الكبائر لا متلفة
للنفوس المحترمة ، فكل حد يتضمن إتلاف النفس من كل وجه أو من وجه لم يشرع
حدا ، وكل قطع يؤدي إلى إتلاف جنس المنفعة كان إتلافا للنفس من وجه فلا يشرع ،
وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى يؤدي إلى إتلاف جنس منفعة البطش والمشي فلا يشرع
حدا ، وإليه الإشارة بقول علي رضي الله عنه : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا
يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها ، وبهذا حاج بقية الصحابة فحجهم فانعقد
إجماعا . وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل أقطع اليد والرجل وقد سرق يقال له
' سدوم ' فأراد أن يقطعه ، فقال له علي رضي الله عنه : إنما عليه قطع يد ورجل ، فحبسه
عمر رضي الله عنه ولم يقطعه ، ففتوى علي ورجوع عمر رضي الله عنهما إليه من غير
نكير ولا مخالفة من غيرهما دليل على إجماعهم عليه ، أو أنه كان شريعة عرفوها من
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفي جبرا لحقه . وما روي من
الحديث في قطع أربعة السارق طعن فيه الطحاوي ، أو نقول : لو صح لاحتج به الصحابة
على علي رضي الله عنه ولرجع إليهم ، وحيث حجهم ورجعوا إلى قوله دل على عدم
صحته ، فإن كانت يده اليمنى ذاهبة أو مقطوعة تقطع رجله اليسرى من المفصل ، وإن
كانت رجله اليسرى مقطوعة فلا قطع عليه لما فيه من الاستهلاك على ما بينا ، ويضمن
السرقة ويحبس حتى يتوب .
قال : ( فإن كان أقطع اليد اليسرى أو أشلّها أو إبهامها أو أصبعين سواها ،(4/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
وفي رواية ثلاث أصابع أو أقطع الرجل اليمنى أو أشلها أو بها عرج يمنع المشي عليها لم
تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى ) وجملته أنه متى كان بحال لو قطعت يده اليمنى لا ينتفع
بيده اليسرى ، أو لا ينتفع برجله اليمنى لآفة كانت قبل القطع لا يقطع ، لأن فيه تفويت جنس
المنفعة بطشا أو مشيا وقوام اليد بالإبهام ، فعدمها أو شللها كشلل جميع اليد ، ولو كانت
أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع ، لأن فوات الواحدة لا يوجب نقصا ظاهرا
في البطش ، بخلاف الأصبعين لأنهما كالإبهام في البطش ؛ ولو كانت اليد اليمنى شلاء أو
ناقصة الأصابع يقطع في ظاهر الرواية ، لأن المستحق بالنص قطع يده اليمنى دون اليسرى
واستيفاء الناقص عند تعذر استيفاء الكامل جائز . وعن أبي يوسف : لا يقطع لأن مطلق
الاسم يتناول الكامل ذكره في اختلاف زفر ويعقوب ، ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة
الأصابع ، فإن كان يستطيع المشي عليها قطعت يده اليمنى ، وإلا فلا لما بينا ؛ فإن سرق في
الثالثة بعد ما قطعت يده ورجله حبس وضرب ، لأن القطع لما سقط لم يبق إلا الزجر
بالحبس والضرب لحديث عمر رضي الله عنه .
قال : ( وإن اشترى السارق المسروق أو وهب له أو ادّعاه لم يقطع ) وقال زفر : إن كان
بعد القضاء بالقطع قطع ، وهو رواية عن أبي يوسف لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا ،
وبالشراء والهبة لم يتبين قيام الملك وقت السرقة فلم تثبت الشبهة . ولنا أن الإمضاء في
الحدود من باب القضاء للاستغناء عن القضاء بالاستيفاء ، لأن القضاء للظهور وهو حق الله
تعالى وهو ظاهر عنده ، وإذا ثبت ذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء فصار كما إذا
ملكها قبل القضاء ، ولأن الشبهة دارئة وأنها تتحقق بمجرد الدعوى لاحتمال صدقه .
قال : ( وإذا قطع والعين قائمة في يده ردها ) لأنه ملكه ، قال عليه الصلاة والسلام :
' من وجد عين ماله فهو أحق به ' والنبي عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان وردّ
الرداء على صفوان ، وكذلك إن كان ملكها غيره بأي طريق كان وهي قائمة بعينها لما قلنا :
( وإن كانت هالكة لم يضمنها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا غرم على السارق بعد ما
قطعت يمينه ' وفي رواية ابن عوف عنه عليه الصلاة والسلام : ' إذا قطع السارق فلا غرم
عليه ' ولأنه لو ضمنها لملكها من وقت الأخذ على ما عرف في الغصب فيكون القطع واقعا(4/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
على أخذ ملكه ولا يجوز . وروى ابن سماعة عن محمد إني آمره برد قيمة ما استهلكه ، وإن
كنت لا أقضي عليه بذلك لأن القضاء يؤدي إلى إيجاب ما ينافي القطع لكن يفتي بالرد لأنه
أتلف مالا محظورا بغير حق ، وكذلك قطاع الطريق ، فإن سقط القطع لشبهة ضمن ، لأن أخذ
مال الغير موجب للضمان وإنما سقط بالقطع على ما بينا ، فإذا سقط القطع عاد الضمان
بحاله .
قال : ( ومن قطع في سرقة ثم سرقها وهي بحالها لم يقطع ) والقياس أن يقطع وهو
رواية الحسن عن أبي يوسف لأنه إذا ردها صارت كعين أخرى في حق الضمان ، فكذا في
حق القطع ؛ وجه الاستحسان أنها صارت غير متقومة في حقه ، ألا ترى أنه لو استهلكها لا
ضمان عليه ، وما ليس بمتقوّم في حقه لا قطع عليه في سرقته وبالرد إلى المالك إن عادت
حقيقة العصمة فشبهة السقوط باقية نظرا إلى اتحاد الملك والمحل . قال : ( وإن تغير حالها
كما إذا كان غزلا فنسج قطع ) لتبدل العين اسما وصورة ومعنى حتى يملكه الغاصب به ، وإذا
تبدلت العين انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع فيه فيقطع ؛ ولو سرق عينا فقطع
فيها ، ثم إن المسروق منه باعها من آخر ثم اشتراها ثم عاد وسرقها ، قال مشايخ العراق لا
يقطع لأن العين قائمة حقيقة لكن تبدل سبب الملك فيه فكان شهبة سقوط العصمة قائمة .
وقال مشايخ خراسان : يقطع لأن العصمة سقطت في حق الأول ضرورة وجوب القطع ،
وهذه الضرورة انعدمت في حق المشتري ، فقد وجد دليل العصمة وفقد دليل سقوطها فبقيت
معصومة ، فإذا عادت إلى البائع عادت معصومة متقوّمة كما كانت ؛ وكذلك لو سرق قطنا
فقطع فيه ثم غزل فسرقه قطع لما بينا ؛ ولو سرق ثوب خز أو صوف فقطع فيه ثم نقض
الثوب فسرقه ثانيا لم يقطع ، لأن العين والملك لم يتبدل ، وحضور المالك أو من يقوم مقامه
شرط لصحة القضاء بالسرقة ، لأن القضاء بالسرقة قضاء بالملك له .
ولو غاب بعد القضاء قبل الاستيفاء لا يقطع لأن للاستيفاء شبها بالقضاء ولهذا رجوع
الشهود وجرحهم بعد القضاء يمنع الاستيفاء ، وغيبة الشهود وموتهم بعد القضاء لا يمنع
الإمضاء في الحقوق كلها ، لأن الحدود لا تدرأ بشبهة تتوهم مثل رجوع الشهود وجرحهم ،
لأن هذا التوهم لا ينقطع ، فلو اعتبر لم يقم حد أبدا ، ولو فسقوا أو عموا أو جنوا أو ارتدوا
بعد القضاء يمنع الإمضاء في الحدود والقصاص دون الأموال ، لأن القضاء إنما يظهر ولاية
الاستيفاء للقاضي ، لأن الحق ظاهر لصاحبه وهو الله تعالى ، والحاجة إلى القضاء لظهور
ولاية الاستيفاء ، فكان الاستيفاء قضاء معنى ، فكانت هذه العوارض حادثة قبل القضاء معنى
بخلاف الأموال ، لأن الحق إذا ظهر بالقضاء فولاية الاستيفاء ثبتت لصاحب الحق بالملك
السابق لا بالقضاء ؛ ولو سرقت من أجنبي أو سرق من أجنبية ثم تزوجا سقط القطع ، لأن(4/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
اعتراض الزوجية بعد القضاء يمنع الاستيفاء فيمنع القضاء أولى ، ويقطع السارق بخصومة
المودع والمستعير والغاصب والمضارب والمستأجر والمرتهن والأب والوصي .
اعلم أن اليد ضربان : صحيحة ، وغير صحيحة . فالسرقة من اليد الصحيحة يتعلق بها
القطع ، يد مالك كانت أو غير مالك ، ومن غير الصحيحة لا يتعلق بها القطع ؛ واليد
الصحيحة يد ملك ويد أمانة ويد ضمان ، والتي ليست بصحيحة يد السارق ، أما السرقة من
يد المالك فلما مر ، وأما من يد الأمانة فإنها كيد المالك ، لأن يد المودع يد مودعة ويد
الضمان يد صحيحة كالمرتهن والقابض على سوم الشراء والغاصب لأن لهم ولاية الأخذ
والأخذ دفعا للضمان عنهم فأشبهت يد المالك ، ويقطع بخصومة المالك أيضا إذا سرق من
هؤلاء إلا الراهن ، لأنه لا حق له في قبض العين مع قيام الرهن ، فإذا قضي الدين بطل
الرهن فكان له ولاية الخصومة فيقطع بخصومته أيضا .
وقال زفر : لا يقطع إلا بخصومة المالك والأب والوصي ، لأن ولاية الخصومة للباقين
إنما تثبت ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع . ولنا أن السرقة تثبت لحجة شرعية عقيب
خصومة معتبرة لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع كالسرقة من المالك فلا تعتبر شبهة
موهومة الاعتراض ، واليد التي ليست يد السارق فلا قطع على من سرق منه لأنها ليست يد
ملك ولا أمانة ولا ضمان فصار كأنه أخذه من الطريق أو أخذ المال الضائع ، ولا يقطع
بخصومة المالك أيضا ، لأن السارق الثاني لم يزل عن المالك يدا صحيحة فصار كأخذه من
الطريق . وكل ما يحدثه السارق في العين المسروقة على وجهين ، إما أن يكون نقصا أو
زيادة ، فإن كان نقصا قطع ولا ضمان عليه وردت العين ، لأن نقصان العين ليس بأكثر من
هلاكها ؛ وإن كانت زيادة فإما أن يسقط حق المالك عن العين كقطع الثوب وخياطته قباء أو
جبة أو نحو ذلك قطع السارق ولا سبيل للمالك على العين ولا ضمان ، لأن العين زالت عن
ملك المسروق منه فتعذر الضمان بالقطع فصار كالاستهلاك ، وإن كانت الزيادة لا تقطع حق
المسروق منه كالصبغ .
قال أبو حنيفة : يقطع السارق ولا سبيل للمسروق منه على العين ، وقالا : يأخذه
ويعطي ما زاد على الصبغ فيه ، لأن المالك مخيّر بين تضمين الثوب وبين أخذه وضمان
الزيادة ، وقد تعذر التضمين بالقطع فتعين أخذه ، وضمان الزيادة لأن المخير بين الشيئين إذا
تعذر أحدهما تعين الآخر . ولأبي حنيفة أنه لا يجوز تضمين الثوب بعد القطع لما مر . ولو
رد الثوب يصير السارق شريكا فيه بسبب متقدم على القطع ، وسرقة العين المشتركة تسقط
القطع ابتداء ، فإذا وجد القطع لم يجز إثبات ما ينافيه ، وليس كذلك إذا صبغه بعد القطع لأن
الشركة بعد القطع لا تسقط القطع كما لو باع المالك بعض الثوب من السارق ؛ ولو سرق(4/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
ذهبا أو فضة فضربه دراهم أو دنانير قطع ورد الدراهم والدنانير عند أبي حنيفة . وقالا : لا
سبيل للمسروق منه عليها ، وهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له ، وقد عرف في الغصب ،
وفي الحديد والرصاص والصفر إن جعله أواني ، فإن كان يباع عددا فهو للسارق بالإجماع ،
وإن كان يباع وزنا فهو على اختلافهم في الذهب والفضة وبهذا الأصل يعرف جميع مسائل
ما يحدثه السارق في المسروق لمن يتأمله .
فصل
( إذا خرج جماعة لقطع الطريق أو واحد فأخذوا قبل ذلك حبسهم الإمام حتى يتوبوا ،
وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي وأصاب كل واحد منهم نصاب السرقة قطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف ، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم ولا يلتفت إلى عفو الأولياء ) لأنه إنما يقتلهم حدا
حقا لله تعالى ، ولا يصح العفو عن حقوق الله تعالى ( وإن قتلوا وأخذوا المال قطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم ، أو قتلهم ) يعني من غير قطع ( أو صلبهم ) من غير
قطع . والأصل في ذلك قوله تعالى : ) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض (
[ المائدة : 64 ] قيل معناه : الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله لاستحالة محاربة الله تعالى
بطريق حذف المضاف . وقيل المراد أنهم في حكم المحاربين لأنهم لما امتنعوا على نائب الله
الإمام وجماعة المسلمين وتظاهروا بمخالفة أوامر الله تعالى كانوا في حكم المحاربين ، وهذا
توسع في الكلام ومجاز كقوله تعالى : ) ومن يشاقّ الله ( [ الحشر : 4 ] .
والمحاربون المذكورون في الآية هم القوم يجتمعون لهم منعة بأنفسهم يحمي بعضهم
بعضا ، ويتناصرون على ما قصدوا إليه ويتعاضدون عليه ، وسواء كان امتناعهم بحديد أو
خشب أو حجارة ، ويكون قطعهم على المسافرين في دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة
دون غيرهم ، هذا عند أبي حنيفة وأصحابه . قال أصحابنا : الآية مرتبة على ما ذكرنا من
الأحوال الأربعة ، وروي ذلك عن علي وابن عباس والنخعي وابن جبير رضي الله عنهم ،
ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال ، فاللائق تغلظ الحكم بتغلظها ، فإذا أخافوا السبيل ولم
يقتلوا ولم يأخذوا مالا حبسوا ، وهو المراد من النفي من الأرض .(4/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
وقيل هو أن الإمام لا يزال يطلبهم حتى يخرجوا من دار الإسلام ، وإن أخذوا مالا
على الوصف المذكور قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى ،
ويشترط أن يكون المال معصوما عصمة مؤبدة ، فلهذا قال مال مسلم أو ذمي ، حتى لو قطع
على مستأمن لا يقطع ، لأن خطره مؤقت فلا يجب فيه حد كالسرقة الصغرى ، ولا بد أن
يصيب كل واحد نصاب لما مر في السرقة ، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم حدا على ما
بينا ، وإن قتلوا وأخذوا المال فالإمام فيهم بالخيار على الوجه الذي بينا ، وهذا لأن أخذ
المال موجب للقطع في السرقة الصغرى ، وتغلظت الكبرى بقطع الطريق والقتل موجب للقتل
في غير قطع الطريق ، ويغلظ هنا بأن يقتل ولا يلتفت إلى عفو الولي وصلحه ، وهو معنى
قولنا يقتلهم حدا ، فإذا جمع بين القتل والسرقة يجمع عليه بين موجبهما ، وهكذا نزل جبريل
عليه السلام بالحد فيهم ، وتكون ' أو ' في الآية بمعنى الواو .
وقال أبو يوسف : لا يترك الصلب لأنه منصوص عليه كالقتل والقطع ، ولأنه أبلغ في
التشهير وهو المقصود ليعتبر به ، والجواب أن التشهير حصل بالقتل والصلب مبالغة فيخير
فيه . وقال محمد : يقتل أو يصلب ولا يقطع ، لأن النفس وما دونها إذا اجتمعا لحق الله
تعالى دخل ما دون النفس في النفس كالمحصن إذا زنا وسرق . قلنا هذا حد واحد وجب
لمعنى واحد ، وهو إخافة الطريق على وجه الكمال بالقتل وأخذ المال ، والحد الواحد لا
يدخل بعضه بعضا ، ألا ترى أن قطع اليد والرجل حد واحد في أخذ المال في الكبرى حدان
في الصغرى ، والتداخل في الحدود لا في حد واحد . واختلفوا في صلبه . قال الطحاوي :
يقتل ثم يصلب . وقال الكرخي : يصلب حيا .
( ويطعن تحت ثندوته اليسرى حتى يموت ) لأنه أبلغ في زجر غيره . قال : ( ولا
يصلب أكثر من ثلاثة أيام ) ثم يخلي بينه وبين أهله ليدفنوه لأنه يتغير بعد ذلك فيستضر الناس
برائحته ، ولأن المقصود يحصل بذلك وهو الزجر والاشتهار . وعن أبي يوسف يترك على
الخشبة حتى يتقطع فيسقط ليعتبر به غيره ، والحكم في قطع اليد والرجل ما بيناه في الصغرى
من شلل أيديهم وذهاب بعض الأعضاء لما ذكرنا . قال : ( وإن باشر القتل واحد منهم أجري
الحد على الكل ) لأن المحاربة تتحقق بالكل ، لأنهم إنما أقدموا على ذلك اعتمادا عليهم
حتى لو غلبوا أو هزموا انحازوا إليهم فكانوا عونا لهم ، ولهذا المعنى كان الردء في الغنيمة
كالمقاتل ، ولأن الردء ساع في الأرض فسادا ، لأنه إنما وقف ليقتل إذا قتل فيقتل كأهل
البغي .(4/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
قال : ( وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليهم صار القتل
للأولياء ) معناه : أنه سقط الحد ، فلو عفا الولي أو صالح سقط القصاص ، وهذا لأن الجناية
واحدة قامت بالكل ، فإذا لم يكن فعل بعضهم موجبا صار فعل الباقين بعض العلة فلا يترتب
عليه الحكم . أما الصبي والمجنون فلما مر في السرقة . وأما ذو الرحم المحرم فلأن القافلة
كالحرز ، فقد حصل الخلل في الحرز في حقهم فيسقط الحد فيصير القتل إلى الأولياء ، ولهذا
لو قطع بعض القافلة على البعض لا يجب الحد لأن الحرز واحد فصارت كدار واحدة ، ولو
كان في المقطوع عليهم مستأمن قطعوا ، لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وذلك
يخصه ، وخلل الحرز يعم الكل ، ثم شرائط قطع الطريق في ظاهر الرواية أن يكون قوم لهم
منعة على ما تقدم ينقطع بهم الطريق ، ولا يكون في مصر ولا بين قريتين ولا بين مدينتين ،
ويكون بينهم وبين المصر مسيرة السفر ، لأن قطع الطريق بانقطاع المارة والسابلة ، ولا
يمتنعون عن المشي في هذه المواضع فيلحقهم الغوث ساعة بعد ساعة من المسلمين أو من
جهة الإمام .
وروي عن أبي يوسف : لو كان في المصر ليلا ، أو بينهم وبين المصر أقل من مسيرة
سفر فهم قطاع الطريق وعليه الفتوى نظرا لمصلحة الناس بدفع شر المتغلبة المفسدين ، وأبو
حنيفة أجاب على ما شاهد في زمانه ، فإن أهل الأمصار كانوا يحملون السلاح فلا يتمكن
قاطع الطريق من مغالبتهم ؛ فأما إذا تركوا هذه العادة وأمكن أن يتغلب عليهم قطاع الطريق
أجرى عليهم الحد ، ولهذا قال : لا يثبت قطع الطريق بين الحيرة والكوفة ، لأن الغوث في
زمانه كان يلحق ذلك الموضع لاتصال المصرين ، أما الآن فهي برية يجري فيها قطع الطريق
ويستوي فيه الامتناع بالخشب والسلاح ، لأن المعنى يوجد بهما ، ولا بد أن يكون في دار
الإسلام لأن الحد إذا وجد سببه في دار الحرب لا يستوفي في دار الإسلام لما مر في
الحدود ؛ وإذا تاب قطاع الطريق قبل أن يؤخذوا سقط عنهم الحد وبقي حق العباد في المال
والقصاص ، لقوله تعالى : ) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ( [ المائدة : 34 ] فيقتضي
خروجه عن الجملة عملا بالاستثناء ، وفي السرقة إذا تاب ولم يرد المال يقطع لأن قوله
تعالى : ) فمن تاب من بعد ظلمه ( [ المائدة : 39 ] ليس استثناء ، فلا يقتضي خروج التائب
من الجملة السابقة ، وهو كلام مبتدأ يستغني عن غيره فيحمل على الابتداء لأنه أولى ، أما
الاستثناء يفتقر في صحته إلى ما قبله فافترقا .(4/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
كتاب السير
وهي جمع سيرة ، وهي الطريقة خيرا كانت أو شرا ، ومنه سيرة العمرين : أي
طريقتهما ؛ ويقال : فلان محمود السيرة ، وفلان مذموم السيرة : يعني الطريقة ، وسمي هذا
الكتاب بذلك لأنه يجمع سير النبي عليه الصلاة والسلام ، وطريقته في مغازيه ، وسيرة
أصحابه وما نقل عنهم في ذلك ؛ والجهاد فريضة محكمة يكفر جاحدها ، ثبتت فرضيته
بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . أما الكتاب فقوله تعالى : ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ( [ التوبة : 29 ] إلى غيرها من الآيات في الأمر بقتال الكفار . والسنة قوله عليه
الصلاة والسلام : ' أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ' وقال عليه الصلاة
والسلام : ' الجهاد ماض : أي فرض منذ بعثني الله تعالى إلى يوم القيامة ، حتى يقاتل عصابة
من أمتي الدجال ' وعليه إجماع الأمة . وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا بعث جيشا
أو سرية أوصى صاحبهم : أي أميرهم بتقوى الله تعالى وقال : ' اغزوا باسم الله في سبيل الله ،
قاتلوا من كفر بالله ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيتم عدوكم
من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال إلى الإسلام ، فإن أسلموا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم ،
وإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أبوا فانبذوا إليهم : أي أعلموهم بالقتال ، وإذا
حاصرتم حصنا أو مدينة فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم ، فإنكم لا(4/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
تدرون ما حكم الله فيهم ، ولكن أنزلوهم على حكمكم ، ثم اقضوا فيهم ما رأيتم ، وإذا
أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسول الله فلا تعطوهم ذلك ، ولكن أعطوهم ذمتكم وذمة
آبائكم ، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة آبائكم أهون من ذمة الله وذمة رسوله ' وإخفار
الذمة : نقضها .
قال : ( الجهاد فرض عين عند النفير العام وكفاية عند عدمه ) أما الأول فلقوله تعالى :
) نفروا خفافا وثقالا ( [ التوبة : 41 ] الآية ، والنفير العام : أن يحتاج إلى جميع المسلمين فلا
يحصل المقصود وهو إعزاز الدين وقهر المشركين إلا بالجميع ، فيصير عليهم فرض عين
كالصلاة ، وإذا لم يكن كذلك فهو فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين كرد
السلام ونحوه ، لأن المراد والمقصود منه دفع شر الكفر وكسر شوكتهم ، وإطفاء ثائرتهم
وإعلاء كلمة السلام ، فإذا حصل المقصود بالبعض فلا حاجة إلى غيرهم ، والنبي عليه
الصلاة والسلام كان يخرج إلى الجهاد ولا يخرج جميع أهل المدينة ، ولأنه أمر بالمعروف
ونهى عن المنكر فيكون على الكفاية ، ولأنه لو وجب على جميع الناس تعطلت مصالح
المسلمين من الزراعات والصنائع ، وانقطعت مادة الجهاد من الكراع والسلاح فلا يقدر
المجاهدون على الإقامة على الجهاد فيؤدي إلى تعطيله ، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس
بتركه كسائر فروض الكفاية .
قال : ( وقتال الكفار واجب على كل رجل عاقل صحيح حر قادر ) لأن المرأة والعبد
مشغولان بخدمة السيد والزوج ، وحق العبد مقدم ، والصبي والمجنون غير داخلين في
الخطاب ، وأما غير القادر فلأن تكليف العاجز قبيح كالمريض والأعمى والمقعد ونحوهم ،
وفيه نزل قوله تعالى : ) ليس على الأعمى حرج ( [ النور : 61 ] الآية التي في سورة الفتح .
قال : ( وإذا هجم العدو وجب على جميع الناس الدفع ، تخرج المرأة والعبد بغير إذن الزوج
والسيد ) لأنه يصير فرض عين ، وحق الزوج والسيد لا يظهر في مقابلة فرض الأعيان كالصلاة
والصوم .
قال : ( ولا بأس بالجعل إذا كان بالمسلمين حاجة ) لأنه دفع الضرر الأعلى باحتمال
الأدنى ، والحاجة أن لا يكون في بيت مال المسلمين شيء ويحتاج المسلمون إلى الميرة(4/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
ومواد الجهاد ولا شيء لهم ؛ وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من
صفوان ، وكان عمر رضي الله عنه يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ، ويعطي الشاخص فرس
القاعد . قال : ( وإذا حاصر المسلمون أهل الحرب في مدينة أو حصن دعوهم إلى الإسلام )
لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام ، ولما تقدم من
الحديث ، ولأنهم ربما أسلموا فيحصل المقصود بأهون الشرين ( فإن أسلموا كفوا عن قتالهم )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أمرت أن أقاتل الناس ' الحديث ، ولما سبق من الحديث ،
ولأن المقصود إسلامهم وقد حصل . قال : ( فإن لم يسلموا دعاهم إلى أداء الجزية ) لما سبق
من الحديث ( إن كانوا من أهلها وبينوا لهم كميتها ، ومتى تجب ) على ما يعرف في بابه ، أما
إذا لم يكونوا من أهلها لا يدعوهم ، لأنه لا فائدة فيه ، إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام أو
السيف ويعرفهم قدرها لتنقطع المنازعة بعد ذلك ، ولأن القتال ينتهي بالجزية ، قال تعالى :
) حتى يعطوا الجزية عن يد ( [ التوبة : 29 ] أي حتى يقبلوها .
قال : ( فإن قبلوها فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ) قال عليه الصلاة والسلام : ' فإذا قبلوها
فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ' . وقال علي رضي الله عنه : إنما
بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا . والمراد بالبذل القبول إجماعا . قال :
( ويجب أن يدعو من لم تبلغه الدعوة ) لما تقدم وليعلموا ما يقاتلهم عليه فربما أجابوا فنكفي مؤنة
القتال ، فإن قاتلهم بغير دعوة قيل يجوز ، لأن الدعوى إلى الإسلام قد انتشرت في دار الحرب
فقام الشيوع مقام البلوغ ، وقيل لا يجوز وهو آثم للنهي أو لمخالفة الأمر على ما مر ، ولأن
الشيوع في بعض البلاد لا يعتبر شيوعا في الكل . قال : ( ويستحب ذلك لمن بلغته ) الدعوة
أيضا مبالغة في الإنذار وهو غير واجب ، لأنه عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق
وهم غازون . وعن أسامة بن زيد ' أن النبي عليه الصلاة والسلام عهد إليه أن يغير على
بني الأصفر صباحا ثم يحرق نخلهم ' والغارة لا تكون عن دعوة . قال : ( فإن أبوا ) يعني(4/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
عن الإسلام والجزية ( استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم ) لما بينا ، ولقوله عليه الصلاة
والسلام : ' فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم ' ولأنه أعذر إليهم فأقاموا على
عداوتهم فوجبت مناجزتهم ، وأن يستعان بالله تعالى عليهم ، لأنه الناصر لأوليائه المذلّ
لأعدائه فيستعان به .
قال : ( ونصبوا عليهم المجانيق ، وأفسدوا زروعهم وأشجارهم ، وحرقوهم ورموهم ،
وإن تترسوا بالمسلمين ويقصدون به الكفار ) لأن في ذلك غيظا وكبتا للكفار وهو المقصود ،
وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام حاصر أهل الطائف فرماهم بالمنجنيق وكان فيهم
المسلمون ، ولأن بلادهم لا تخلو عن المسلمين الأسرى والتجار والأطفال ، فلو امتنع
القتال باعتبار ذلك لامتنع أصلا ، ولا يقصدون بالرمي المسلمين تحرزا عن قتلهم بقدر
الإمكان ' ولما مر ( صلى الله عليه وسلم ) يريد الطائف بدا له قصر عمر بن مالك النضري فأمر بتحريقه ، فلما
انتهى إلى الكروم أمر بقطعها ' .
قال الزهري : وقطع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نخل بني النضير وحرق البيوت ؛ ولما تحصن
بنو النضير من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بقطع نخلهم وتحريقه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت ترضى
بالفساد ، فأنزل الله تعالى : ) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله
وليخزي الفاسقين ( [ الحشر : 5 ] فبين أنه لم يكن فسادا ، وقد قال تعالى : ) ولا يطؤون
موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم ( [ التوبة : 120 ] .
قال : ( وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ، ولا يغلوا ، ولا يمثلوا ) لما روينا من الحديث أول
الباب ؛ والغلول : الخيانة والسرقة من المغنم ؛ والغدر : نقض العهد فلا يجوز بعد الأمان ،
ولا بأس به قبله وهو حيلة وخدعة ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الحرب خدعة ' والمثلة
المنهية بعد الظفر بهم ، ولا بأس بها قبله لأنه أبلغ في كبتهم وأضر بهم . قال : ( ولا يقتلوا(4/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
مجنونا ولا امرأة ، ولا صبيا ، ولا أعمى ، ولا مقعدا ، ولا مقطوع اليمين ، ولا شيخا فانيا ،
إلا أن يكون أحد هؤلاء ملكا ، أو ممن يقدر على القتال ، أو يحرض عليه ، أو له رأي في
الحرب أو مال يحث به ، أو يكون الشيخ ممن يحتال ) لنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل
الصبيان والذراري ، ورأى عليه الصلاة والسلام امرأة مقتولة فقال : ' هاه ما لها قتلت وما
كانت تقاتل ؟ ' ولأن الموجب للقتل هو الحِراب بإشارة هذا النص وهؤلاء لا يقاتلون
والمجنون غير مخاطب ، وكذلك مقطوع اليد والرجل من خلاف ، ويابس الشق لما بينا ، فإذا
كان أحد هؤلاء ملكا ، أو يقدر على القتال ، أو له مال يعين به ، أو رأي لا يؤمن شره فصار
كالمقاتل ' والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل دريد بن الصمة وكان له مائة وعشرون سنة لأنه كان صاحب
رأي ' ويقتل الرهابين وأهل الصوامع الذين يخالطون الناس أو يدلون على عورات
المسلمين لما مر ، فإن كانوا لا يخالطون الناس أو حبسوا أنفسهم في جبل أو صومعة ونحوه
لا يقتلون لما بينا .
فصل
( وإذا كان للمسلمين قوة لا ينبغي لهم موادعة أهل الحرب ) لأنه لا مصلحة في ذلك
لما فيه من ترك الجهاد صورة ومعنى أو تأخيره ، لأن الموادعة طلب الأمان وترك القتال ،
قال تعالى : ) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ( [ محمد : 35 ] ( وإن لم يكن لهم
قوة فلا بأس به ) لأنه خير للمسلمين ، قال تعالى : ) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (
[ الأنفال : 61 ] أي إن مالوا إلى المصالحة فمل إليهم وصالحهم ، والمعتبر في ذلك مصلحة
الإسلام والمسلمين ، فيجوز عند وجود المصلحة دون عدمها ، ولأن عليهم حفظ أنفسهم
بالموادعة ، ألا يرى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب عشر
سنين ، ولأن الموادعة إذا كانت مصلحة المسلمين كان جهادا معنى ، لأن المقصود دفع(4/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
الشر وقد حصل ، وتجوز الموادعة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة ،
لأن تحقيق المصلحة والخير لا يتوقت بمدة دون مدة .
قال : ( فإن وادعهم ، ثم رأى القتال أصلح نبذ إلى ملكهم ) وقاتلهم ، قال تعالى : ) فانبذ
إليهم على سواء ( [ الأنفال : 58 ] والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ،
ولأن المعتبر المصلحة على ما بينا ، فإذا تبدلت يصير النبذ جهادا ، وتركه ترك الجهاد صورة
ومعنى ، ولا بد من النبذ تحرزا عن الغدر المنهي عنه ، ويكتفي بعلم الملك لأنه صاحب
أمرهم ويعلمهم بذلك ، ويشترط مدة يبلغ خبر النبذ إلى جماعتهم ، فإذا مضت مدة يمكن
الملك إعلامهم جاز مقاتلتهم وإن لم يعلمهم ، لأن التقصير من ملكهم فلا يكون غدرا ، ولو
آمنهم ولم ينزلوا من حصنهم فلا بأس بقتالهم بعد الإعلام ، وإن نزلوا إلى عسكر المسلمين
فهم على أمانهم حتى يعودوا إلى حصنهم لأنهم نزلوا بسبب الأمان ، فلا يزالون على حكمه
حتى يعودوا إليه .
قال : ( وإن بدؤوا بخيانة وعلم ملكهم بها قاتلهم من غير نبذ ) لأنهم قد نقضوا العهد
لما كان باختيار ملكهم ؛ أما لو دخل منهم جماعة دارنا وقطعوا الطريق بغير أمر الملك لا
يكون نقضا في حق الجميع لأنه بغير إذن الملك ، ويكون نقضا في حقهم خاصة فيقتلون .
قال : ( ويجوز أن يوادعهم بمال وبغيره ) إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ، ولهم حاجة إلى
المال لما مر ( وما أخذوه قبل محاصرتهم ) بأن أرسل إليهم رسولا ( فهو كالجزية ) لا يخمس
لأنه مال أهل الحرب حصل لنا بغير قتال ( و ) ما أخذوه ( بعدها ) أي محاصرتهم يخمس
( كالغنيمة ) ويقسم الباقي لأنه حصل بقوة الجيش . قال : ( وإن دفع إليهم مالا ليوادعوه جاز
عند الضرورة ) وهو خوف الهلاك ، لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق كان ، فإنه إذا لم يكن
بالمسلمين قوة ظهر عليهم عدوهم فأخذ الأنفس والأموال ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
' اجعل مالك دون نفسك ' وإن لم يكن ضرورة لا يجوز لما فيه من إلحاق الذلة بالمسلمين
وإعطاء الدنيئة : أي الخسة في الدين .
قال : ( والمرتدون إذا غلبوا على مدينة ، وأهل الذمة إذا نقضوا العهد كالمشركين في
الموادعة ) أما المرتدون فلأن الإسلام مرجو منهم فيوادعهم لينظروا في أمورهم فربما(4/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
عادوا إلى الإسلام ، إلا أنه لا يأخذ منهم مالا لأنه بمنزلة الجزية ، ولا جزية عليهم لأنه
لا يجوز تأخير قتلهم بمال يؤخذ منهم لما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولو أخذه لا يرده
لعدم العصمة ، ولو غلبوا فقد صارت دارهم دار حرب وأموالهم غنيمة ، فكذا أهل الذمة
لأنهم لما نقضوا العهد صاروا كغيرهم من أهل الحرب ، ويجوز أخذ المال منهم لأنه لا
يجوز تركهم بالجزية ، بخلاف المرتدين وعبدة الأوثان من العرب كالمرتدين في
الموادعة ، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وكذلك أهل البغي في الموادعة ،
لكن إن أخذ منهم مالا يرده عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها لأنهم مسلمون لو أصيب
مالهم بالقتال يرد عليهم ، ويكره لأمير الجيش أو قائد من قواد المسلمين أن يقبل هدية
أهل الحرب فيختص بها ، بل يجعلها فيئا للمسلمين لأنه إنما أهدى إليه بمنعة المسلمين
لا بنفسه .
قال : ( ويكره بيع السلاح والكراع من أهل الحرب وتجهيزه إليهم قبل الموادعة
وبعدها ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ذلك ، ولما فيه من تقويتهم على المسلمين لأنه معصية ،
وكذلك الحديد وكل ما هو أصل في آلات الحرب ، وهو القياس في الطعام والشراب ،
إلا أنا جوزناه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر ثمامة بأن يمير أهل مكة وكانوا
حربا علينا ، ولأنا نحتاج إلى بعض ما في بلادهم من الأدوية ، فلو منعنا عنهم الميرة
لمنعوها عنا ، ولا يكره إدخال ذلك على أهل الذمة لأنهم التحقوا بالمسلمين في
الأحكام ، ولا يمكن الحربي أن ينقل إلى دار الحرب السلاح والكراع والحديد والدقيق
إذا اشتراه في دار الإسلام مسلما كان أو كافرا ، ولا يمنع أن يرجع بما جاء به من هذه
الأشياء لأنه تناوله عقد الأمان ، فإن أسلم بعض عبيده منع من إدخاله دار الحرب لأن
المسلم يمنع من ذلك ، ولا بأس بإدخال المصحف أرض الحرب لقراءة القرآن مع جيش
عظيم أو تاجر دخل بأمان لأن الغالب السلامة ، ويكره ذلك مع سرية أو جريدة خيل
يخاف عليهم الانهزام لأنه ربما وقع في أيدي أهل الحرب فيستخفون به وكتب الفقه
بمنزلة المصحف .
فصل
( وإذا أمن رجل أو امرأة كافرا أو جماعة أو أهل مدينة صح ) أمانهم فلا يحل لأحد من
المسلمين قتالهم ؛ وشرط صحة الأمان أن يكون المؤمّن ممتنعا مجاهدا يخاف منه الكفار ،
لأن الأمن إنما يكون بعد الخوف ، والخوف إنما يتحقق من الممتنع ، والواحد يقوم مقام
الأكل في الأمان لتعذر اجتماع الكل ، قال عليه الصلاة والسلام : ' المسلمون تتكافأ دماؤهم(4/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
يسعى بذمتهم أدناهم ' أي أن الواحد يسعى بذمة جميعهم . وروي ' أن زينب بنت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّنت زوجها ، فأجاز ( صلى الله عليه وسلم ) أمانها ، وأجارت أم هانئ رجلين من المشركين ، فأراد
علي أن يقتلهما وقال لها : أتجيرين المشركين على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقالت : والله لا تقتلهما
حتى تقتلني دونهما ، ثم أغلقت دونه الباب وجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته
بذلك ، فقال : ' ما كان له ذلك فقد أجرنا من أجرت وأمّنّا من أمّنت ' فعلم أن أمان الواحد
جائز ؛ وإذا جاز أمانه لا يجوز لأحد التعرض له بقتل ولا أخذ مال كما لو آمنه الإمام .
قال : ( فإن كان فيه مفسدة أدّبه الإمام ) لافتياته على رأيه ، بخلاف ما إذا كان فيه
مصلحة ، لأنه ربما يفوت بالتأخير فيعذر . قال : ( ونبذ إليهم ) لأن الإمام إذا أمّنهم أو
صالحهم ثم رأى النبذ أصلح نبذ إليهم فهذا أولى ، وينبغي للإمام إذا جاؤوه بالأمان أن
يدعوهم إلى الإسلام أو إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوه إلى الإسلام فبها ونعمت ، وإن أبوا
وأجابوا إلى الجزية قبلت منهم وصاروا ذمة ، وإن أبوا ردهم إلى مأمنهم وقاتلهم ، قال
تعالى : ) ثم أبلغه مأمنه ( [ التوبة : 6 ] ولأنه لا يجوز التعرض لهم مع الأمان ، ولا يجوز
تركهم على الكفر من غير جزية فيعرض عليهم الإسلام أو الجزية التي يستحق معها الأمان ،
فإن أبوا لم يجز تركهم فيردهم ثم يقاتلوهم كما لو خرجوا إلينا بأمان .
قال : ( ولا يصح أمان ذمي ولا أسير ، ولا تاجر فهيم ، ولا من أسلم عندهم وهو فيهم )
لأن الذمي متهم ولا ولاية له على المسلمين ، والباقون مقهورون عندهم فلا يخافونهم فلا
يكونون من أهل البيان على ما بينا ، ولأنه لو انفتح هذا الباب لانسد باب الفتح ، لأنهم كلما
اشتد الأمر عليهم لا يخلون عن أسير أو تاجر فيتخلصون به وفيه ضرر ظاهر .
قال : ( ولا أمان عبد محجور عن القتال ) وقال محمد : يصح ، وقول أبي يوسف
مضطرب . لمحمد قوله عليه الصلاة والسلام : ' يسعى بذمتهم أدناهم ' وقياسا على المأذون
له في القتال ، ولأبي حنيفة أنهم آمنون منه ، فلا يصح أمانه كالأسير والتاجر ، ولأنه إنما لم
يملك العقود لما فيها من إسقاط حق المولى ، فلا يملك ما فيه إسقاط حق المولى وسائر
المسلمين ، وهو الأمان بطريق الأولى ، بخلاف المأذون ، لأنه لما أذن له في القتال فقد جعل
إليه الرأي في القتال ، وتارة يكون الرأي في القتال ، وتارة في الكف عنه ، فلذلك جاز أمانه ،(4/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
ولأن الخطأ من المحجور ظاهر لعدم علمه بعدم المباشرة ، وخطأ المأذون نادر لمباشرته
القتال . قال : ( ولا أمان للمراهق ) وقال محمد : إن كان يعقل الأمان ويصفه يجوز أمانه لأنه
يصير مسلما بنفسه ومن لا يعقل الإسلام إنما يحكم بإسلامه تبعا فلا يعتد به ، ولأن المراهق
من أهل القتال كالبالغ ، ولأبي حنيفة أنه لا يملك العقود والأمان عقد ، ومن لا يملك أن
يعقد في حق نفسه ففي حق غيره أولى ، وإن كان مأذونا له في القتال ، قيل يصح أمانه ،
وعامة المشايخ أنه لا يصح لأن المصلحة والخيرية خفية لا يهتدي إليها إلا من له كثرة تجربة
وممارسة وذلك بعد البلوغ .
فصل
( وإذا فتح الإمام بلدة عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين ) كما فعل النبي عليه الصلاة
والسلام بخيبر وسعد رضي الله عنه ببني قريظة ( وإن شاء أقر أهلها عليها ووضع عليهم
الجزية وعلى أراضيهم الخراج ) كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بإجماع الصحابة ،
وكل ذلك قدوة فيتخير . قالوا الأول أولى عند حاجة الغانمين ، والثاني عند عدمها ليكون
ذخيرة لهم في الثاني من الزمان ، فإنهم يعملون للمسلمين وهم يعلمون وجوه الزراعات ،
ولهذا قالوا : يعطيهم من المنقول ما لا بد لهم منه في العمل ليتهيأ لهم ذلك ، ولأن المنّ
برقابهم لا غير ولهم أراض أو برقابهم وأموالهم لا يجوز لأنه إبطال حق الغانمين لأن الرقاب
لا تدوم بل تنقطع بالموت والإسلام ، وإنما يجوز تبعا للأراضي نظرا للغانمين لئلا يشتغلوا
بالزراعة فيتقاعدوا عن الجهاد ، وفيه مصلحة لمن يجيء بعدهم كما قاله عمر رضي الله عنه ،
فإنه لما وضع الخراج على أرض العراق طلبوا منه قسمتها ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ) ما
أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( [ الحشر : 7 ] الآية ، وبقوله تعالى : ) للفقراء
المهاجرين ( [ الحشر : 8 ] الآية ، فاحتج عليهم بقول الله تعالى : ) والذين جاؤوا من بعدهم (
[ الحشر : 10 ] . وقال : لو قسمتها عليكم لم يبق لمن بعدكم شيء ، فأطاعوه ورجعوا إلى
قوله : وإنما يملك إبطال حقهم بالقتل دفعا لشرهم فلا يتمحض ضررا ؛ أما المنّ ضرر محض
يجعلهم عونا للكفرة وهذا في العقار ؛ وأما المنقول لا يرده عليهم لأنه لم يرد به الشرع .
قال : ( وإن شاء قتل الأسرى ) لأنه عليه الصلاة والسلام قتل ، وفيه تقليل مادة الكفر
والفساد ، وقتل ( صلى الله عليه وسلم ) عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن شميل بعد ما حصل في يده ، وقتل بني
قريظة بعد ثبوت اليد عليهم ( أو ) إن شاء ( استرقهم ) لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة(4/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
للمسلمين ( أو ) إن شاء ( تركهم ذمة للمسلمين ) لما تقدم إلا المرتدين ومشركي العرب على ما
يأتي في الجزية ، ولا يجوز ردهم إلى دار الحرب لأن فيه تقوية للكفرة على المسلمين ، ولو
أسلموا بعد الأخذ لا نقتلهم لاندفاع الشر ، ويجوز استرقاقهم لانعقاد سبب الملك ، بخلاف
ما لو أسلموا قبل الأخذ حيث لا يجوز استرقاقهم لأنه لم ينعقد سبب الملك .
قال : ( ولا يفادون بأسرى المسلمين ) وقالا : يفادون بهم لأن في عود المسلمين إلينا
عونا لنا ، ولأن تخليص المسلم أولى من قتل الكفار ، وقد قال تعالى : ) فإما منا بعد وإما
فداء ( [ محمد : 4 ] ولأبي حنيفة قوله تعالى : ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (
[ التوبة : 5 ] وقوله تعالى : ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( [ البقرة : 193 ] فيجب قتلهم
وذلك يمنع ردهم ، ولأن الكافر يصير حربا علينا ، ودفع شر حرابهم خير من تخليص
المسلم منهم ، لأن كون المسلم في أيديهم ابتلاء من الله تعالى غير مضاف إلينا ، وإعانتهم
بدفع الأسير إليهم مضاف إلينا . وذكر الكرخي ، قال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى
قبل القسمة ولا تجوز بعدها وقال محمد : يجوز على كل حال .
قال : ( ولا بالمال إلا عند الحاجة إليه ) لما بينا ، ومفاداة النبي عليه الصلاة والسلام يوم
بدر عاتبه الله تعالى عليها بقوله : ) لولا كتاب من الله سبق ( [ الأنفال : 68 ] الآية ،
فجلس ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر يبكيان . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لو نزل من السماء عذاب لما
نجا منه إلا عمر ' لأنه أشار بقتلهم دون الفداء ، والقصة معروفة ؛ ويجوز عند الحاجة
للاستعداد للجهاد ، لأن المعتبر المصلحة وهي فيما ذكرنا . قال محمد : لا بأس بأن يفادى
بالشيخ الفاني والعجوز الفانية بالمال إذا كان لا يرجى منه الولد لأنه لا معونة لهم فيه ،
بخلاف الصبيان والنساء لأن في الرد عليهم معونة لهم ، ولا يجوز المنّ على الأسرى لما فيه
من إبطال حق الغانمين بغير عوض فإن حقهم ثبت فيهم بالأسر فلا يبطل ، ولأن النصوص
الواردة في قتال المشركين وقتلهم تنفي ذلك .
قال : ( وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش يعجز عن نقلها ذبحها وحرقها ) لكيلا ينتفعوا
باللحم ولا يعقرها لأنه مثلة ، وذبح الشاة جائز لغرض صحيح ، وكسر شوكة الأعداء غرض
صحيح وصار كقطع الشجر وتخريب البناء ، أما الحرق قبل الذبح منهي عنه لما فيه من
تعذيب الحيوان ( ويحرق الأسلحة ) والأمتعة أيضا ، وما لا يحترق منها يدفن في موضع لا(4/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
يقدر الكفار عليه إبطالا للمنفعة عليهم ؛ أما الأسارى يمشون إلى دار الإسلام ، فإن عجزوا
قتل الرجال وترك النساء والصبيان في أرض مضيعة حتى يموتوا جوعا وعطشا ، لأنا لا نقتلهم
للنهي ، ولو تركوا في العمران عادوا حربا علينا ، فالنساء يحصل منهن النسل ، والصبيان
يكبرون فيصيرون حربا علينا فتعين ما قلناه . ولهذا قالوا : إذا وجد المسلمون في دار الحرب
حيات وعقارب ينزعون حمة العقرب وأنياب الحية دفعا لضررها عنهم ولا يقتلونها لئلا
ينقطع نسلهم وفيه منفعة الكفار ، وقد أمرنا بضده .
فصل
الغنيمة : اسم لما يؤخذ من أموال الكفار على وجه القهر والغلبة ، وما يؤخذ منهم
هدية أو سرقة أو خلسة أو هبة فليس بغنيمة ، وهو للآخذ خاصة .
قال : ( ولا تقسم غنيمة في دار الحرب ) لكن يخرجها إلى دار الإسلام فيقسمها .
وقال أبو يوسف : إن قسمت في دار الحرب جاز ، وأحب إلي أن تقسم في دار الإسلام
( ولا يجوز بيعها قبل القسمة ) ولا في دار الحرب ( ومن مات من الغانمين في دار الحرب
فلا سهم له ، وإن مات بعد إحرازها بدارنا فنصيبه لورثته ) وإذا لحقهم المدد في دار الحرب
شاركوهم فيها ، ولا تضمن بالإتلاف ، وأصله أن الغنائم لا تملك بالإصابة ويثبت فيها
الحق ، وهو اليد الناقلة المتصرفة ويتأكد الحق بالإحراز ويثبت بالقسمة ، فلو أسلم الأسير
بعد الأخذ قبل الإحراز لا يكون حرا ، ولو أسلم قبل الأخذ يكون حرا ؛ والدليل أنه عليه
الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب ، والقسمة بيع معنى فيدخل تحت
النهي ، ولأنه عليه الصلاة والسلام قسم غنائم بدر بالمدينة ، ولو جاز قسمتها قبل ذلك لم
يؤخرها ، لأن تأخير الحق عن مستحقه لا يجوز مع حاجته إليه إلا بإذنه ، ولأن فيه ضررا
بالمسلمين ، لأن المدد يقطع طمعهم عنها فلا يلحقونهم فلا تؤمن كرة الكفار عليهم ، وربما
كان سببا لرجوع الكرة عليهم ، لاشتغال كل منهم بحمل نصيبه والدخول إلى وطنه ، وما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم غنائم خيبر فيها ، وغنائم بني المصطلق فيها ، فإنه
فتحها وصارت دار الإسلام ، ولو قسمها في دار الحرب جاز بالإجماع لأنه قضى في
مجتهد فيه .(4/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
قال : ( والردء والمقاتل في الغنيمة سواء ) لاستوائهم في السبب وهو المجاورة أو شهود
الوقعة على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولأن إرهاب العدو يحصل بالردء مثل المقاتل أو أكثر
فقد شاركوا المقاتلة في السبب فيشاركونهم في الاستحقاق .
قال : ( وإذا لحقهم مدد في دار الحرب شاركوهم فيها ) لما مر . وبذلك كتب عمر
رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص ، وإنما تنقطع شركتهم إما بالإحراز بدرا الإسلام ، أو
بالقسمة في دار الحرب ، أو ببيع الإمام الغنيمة في دار الحرب ، فإذا وجد أحد هذه المعاني
الثلاثة انقطعت الشركة ، لأن الملك يستقر به ، واستقلال الملك يقطع الشركة . ولو فتح
العسكر بلدا من دار الحرب واستظهروا عليه ثم لحقهم مدد لم يشاركوهم لأنه صار من بلد
الإسلام فصارت الغنيمة محرزة بدار الإسلام فلا يشاركونهم .
قال : ( وليس للسوقة سهم إلا أن يقاتلوا ) لعدم السبب في حقهم ، وهو المجاوزة بقصد
القتال فيعتبر السبب الآخر وهو حقيقة القتال ، ويعتبر حاله عند القتال فارسا أو راجلا ،
وكذلك التاجر لما بينا . قال : ( فإذا لم يكن للإمام ما يحمل عليه الغنائم أودعها الغانمين
ليخرجوها إلى دار الإسلام ثم يقسمها ) لما مر أن القسمة لا تجوز في دار الحرب ، ولا بد
من الحمل إلى دار الإسلام ، فإن كان في الغنيمة حمولة حمل عليها ، لأن المحمول
والحمولة لهم ؛ وكذا إن كان مع الإمام فضل حمولة في بيت المال حمل عليها لأنه مال
المسلمين ، وإن لم يكن معه فمن كان من الغانمين معه فضل حمولة يحمل عليها بالأجر
بطيبة نفسه ، وإن لم يطب لا يحمل لأنه لا يحل الانتفاع بمال المسلم إلا بطيبة من نفسه ،
هذه رواية السير الصغير .
وذكر في السير الكبير أنه يحتمل على كره منه بأجر المثل لأنه ضرورة وحالة
الضرورة مستثناة كما إذا انقضت مدة الإجارة في المفازة أو في البحر أو في الزرع لقل
تنعقد مدة أخرى بأجرة المثل فكذا هذا ، فإذا لم يجد حمولة أصلا ذبح وأحرق وقتل
على ما بينا .(4/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
قال : ( ويجوز للعسكر أن يعلفوا في دار الحرب ، ويأكلوا الطعام ، ويدهنوا بالدهن
ويقاتلوا بالسلاح ، ويركبوا الدواب ، ويلبسوا الثياب إذا احتاجوا إلى ذلك ) لما روى عمر
رضي الله عنه أن جيشا غنموا في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طعاما وعسلا فلم يأخذ منهم
الخمس . وعن أوفى بن أبي أوفى أن الطعام يوم خيبر لم يخمس ، وكان الرجل إذا
احتاج إلى شيء ذهب فأخذه .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير الجيش بالشام : مر العسكر فليأكلوا وليعلفوا ولا
يبيعوا بذهب ولا فضة ، فمن باع بذهب أو فضة ففيه الخمس ، ولأنه يتعذر عليهم
حمل الطعام أو العلف إلى دار الحرب والميرة منقطعة عنهم ، فإن أهل الحرب لا
يبيعونهم فلو لم نجز لهم ذلك ضاق عليهم الأمر ، أو نقول الطعام والعلف لا يمكن
حمله إلى دار الإسلام غالبا فلا تجري فيه الممانعة فلذلك جاز ، ولا يجوز أن يبيعوا
شيئا من ذلك بذهب ولا فضة ولا عروض ، لأنه إنما أبيح لهم ذلك للحاجة فلا يجوز
لهم البيع كمن أباح طعامه لغيره ويردون الثمن إلى الغنيمة لأنه صار مالا يجري فيه
التمانع كغيره من الأموال .
( فإذا خرجوا إلى دار الإسلام لم يجز لهم شيء من ذلك ) لأن الحاجة زالت ، ولأنه
استقر حق الغانمين بالحيازة فلا ينتفع بعضهم بغير إذن الباقين . قال : ( ويردون ما فضل معهم
قبل القسمة ويتصدقون بها بعدها ) ليقسم على مستحقيه ، فإن وقعت القسامة يتصدقون به ، يعني
إن كانوا أغنياء ، وإن كانوا محتاجين انتفعوا به لأنه لا يمكن قسمة ذلك بين جماعة الجيش
فصار كمال لا يمكن إيصاله إلى مستحقيه وحكمه ما ذكرنا كاللقطة ، وإن انتفعوا به بعد
خروجهم إلى دار الإسلام إن كان غنيا تصدق بقيمته بعد القسمة لما بينا ويرده إلى الغنيمة
قبل القسمة إيصالا للحق إلى مستحقه ، وإن كان فقيرا رد قيمته قبل القسمة ولا شيء عليه
بعدها على ما بينا ، فإذا ذبحوا البقر أو الغنم ردوا الجلود إلى الغنيمة إذ لا حاجة لهم إليها ،
ولا ينتفع بما ذكرنا من الأشياء إلا من له سهم من الغنيمة أو يرضخ له غنيا كان أو فقيرا ،
ويطعم من معه من النساء والأولاد والمماليك ولا يطعم الأجير ، وكذلك المدد ، ولو أهداه
إلى تاجر لا ينبغي أن يأكل منه إلا أن يكون خبز الحنطة أو طبيخ اللحم فلا بأس بالأكل منه
لأنه ملكه بالاستهلاك .(4/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
فصل
( ينبغي للإمام أو نائبه أن يعرض الجيش عند دخوله دار الحرب ليعلم الفارس من
الراجل ) ليقسم بينهم بقدر استحقاقهم ( فمن ) دخل فارسا ثم ( مات فرسه بعد ذلك فله سهم
فارس ) وكذا لو أخذه العدو قبل حصول الغنيمة أو بعدها ، لأن الفارس من أوجف على بلاد
العدو بفرس فدخل فارسا ، لأن المقصود إرهاب العدو دون القتال عليها ، حتى أن من دخل
فارسا وقاتل راجلا استحق سهم فارس ، وإرهاب العدو إنما يحصل بالدخول لأن عنده ينتشر
الخبر ويصل إليهم أنه دخل كذا كذا فارسا ، وكذا كذا راجلا ويتعذر الوقوف عليهم عند
القتال لأنه وقت التقاء الصفين وتعبئة الجيوش وترتيب الصفوف ، والوقت حينئذ يضيق عن
اعتبار الفارس من الراجل ومعرفتهم وكتبهم ، وقد تقع الحاجة إلى القتال راجلا في المضايق
وأبواب الحصون وبين الشجر ونحو ذلك ، فوجب أن يعتبر السبب الظاهر وهو المجاوزة
لحصول المقصود به على ما بينا ، ولأن الله تعالى جعل الدخول في أرض العدو كإصابة
العدو بقوله : ) ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم (
التوبة : 120 ] .
قال : ( وإن باعه ) أي فرسه ( أو وهبه أو رهنه أو كان مهرا أو كبيرا أو مريضا لا يستطيع
القتال عليه فله سهم راجل ) لأن إقدامه على هذه التصرفات ومجاوزته بفرس لا يقدر عليه
القتال دليل أنه لم يكن من قصده المجاوزة للقتال فارسا . وروى الحسن عن أبي حنيفة : له
سهم فارس اعتبارا للمجاوزة وصار كموته ، ولو باعه بعد القتال فله سهم فارس لحصول
المقصود .
قال : ( ومن جاوز راجلا ثم اشترى فرسا فله سهم راجل ) لأن العبرة للمجاوزة لما بينا .
وعن الحسن : إذا دخل وهو راجل فاشترى فرسا أو وهب له أو استأجره أو استعاره وقاتل
عليه فله سهم فارس ، فصار عن أبي حنيفة في شهود الوقعة روايتان ؛ وجه هذه الرواية أن
الانتفاع بالفرس حالة القتال أكثر منها حالة المجاوزة ، فإذا استحق سهم فارس بالدخول فلأن
يستحقه بالقتال أولى . وإذا غزا المسلمون في السفن فأصابوا غنائم فهم ومن في البر سواء ،
ويعتبر فيهم حالة المجاوزة للفارس والراجل والنبي عليه الصلاة والسلام أسهم للخيل(4/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
بخيبر وكانت حصونا ، لم يقاتلوا على الخيل وإنما قاتلوا رجالة ، ولأن من في السفن
يحتاج إلى الخيل إذا وصلوا جزيرة أو ساحلا فصار كما في البر .
قال : ( وتقسم الغنيمة أخماسا : أربعة منها للغانمين ، للفارس سهمان ، وللراجل سهم )
والأصل فيه قوله تعالى : ) واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ( [ الأنفال : 41 ]
الآية ، ذكر الخمس لهؤلاء ، بقيت الأربعة الأخماس للغانمين بدلالة قوله : غنمتم ، فإنه يشعر
باستجقاقهم لها بالاستيلاء ، وقالا : للفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه ' أن
النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما ' ولأن الفرس يحتاج
إلى من يخدمه فصاروا ثلاثة . ولأبي حنيفة يأبى استحقاق الفرس لأنه آلة كالسلاح تركناه
بالنص والنصوص مختلفة ، فروي أنه أعطى للفارس ثلاثة وروي سهمين ، وهو ما روي عن
المقداد ' أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم له سهما ولفرسه سهما ' وروى محمد بن
يعقوب بن مجمع عن أبيه عن جده قال : ' شهت خيبر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت غنيمة
خيبر على ثمانية عشر سهما ، كانت الخيل ثلاثمائة فرس والرجالة ألفا ومائتين ، فأعطى النبي
عليه الصلاة والسلام للراجل سهما ولفرسه سهما ' فلما اختلفت النصوص ، فأبو حنيفة أثبت
المتفق عليه وحمل الباقي على الأصل ولأن الانتفاع بالفارس أعظم من الفرس ألا يرى أن
الفارس يقاتل بانفراده ولا تأثير للفرس بانفراده ؛ فلا يجوز أن يستحق الفرس أكثر من
صاحبه ، ولأنه لا يجوز تفضيل البهيمة على الآدمي . وقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله
عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل مذهب أبي حنيفة فتعارضت روايتاه فكان ما وافق غيره أولى .
قال : ( ولا سهم لبغل ولا راحلة ) لأنه لا يصلح للكر والفر فصار كالراجل ( ولا يسهم
إلا لفرس واحد ) وقال أبو يوسف : يسهم لفرسين لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام أسهم
لفرسين ' ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر ، ولهما ما روي ' أن الزبير بن العوام
حضر خيبر بأفراس فلم يسهم النبي عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد ' ولأن القتال على
فرسين غير ممكن ، والحاجة تندفع بالواحد فصار الثاني كالثالث . وجوابه أن القياس يمنع
الإسهام للخيل إلى آخر ما ذكرنا ، والعتيق من الخيل والمقرف والهجين والبرذون
سواء ، لأن اسم الخيل ينطلق على الكل ، ولأن العتيق إن اختص بزيادة القوة في الطلب(4/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
والهرب ، فالبرذون اختص بزيادة الثبات على حمل السلاح وكثرة الانعطاف فتساويا في
المنفعة فيستويان في سبب الاستحقاق .
قال : ( والمملوك والصبي والمكاتب يرضخ لهم دون سهم إذا قاتلوا ، وللمرأة إن داوت
الجرحى ، وللذمي إن أعان المسلمين أو دلهم على عورات الكفار والطريق ) والأصل أن كل
من لا يلزمه القتال في غير حالة الضرورة لا يسهم له لأنه ليس من أهله ، ومن يلزمه القتال
يسهم له لأنه من أهله لأنا لو أسهمنا للكل لسوينا بينهم ولا يجوز ، والدليل عليه ما روى أبو
هريرة أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للعبيد والنساء والصبيان . وعن ابن عباس أنه
يرضخ لهم . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا تجعلوهم كأهل الجهاد ' واستعان عليه الصلاة
والسلام باليهود على اليهود فلم يسهم لهم ؛ والمرأة عاجزة عن القتال طبعا فتقوم مداواة
الجرحى منها مقام القتال لما فيه من منفعة المسلمين . والأجير إذا قاتل . قال محمد : إن ترك
خدمة صاحبه وقاتل استحق السهم وإلا لا شيء له ، ولا يجتمع له أجر ونصيب في الغنيمة .
وجملته أن من دخل للقتال استحق السهم قاتل أو لم يقاتل ومن دخل لغير القتال لا يستحقه
إلا أن يقاتل إذا كان من أهل القتال ، فالسوقي والتاجر دخلا للمعاش والتجارة ولم يدخلا
للقتال ، فإن قاتلا صارا بالفعل كمن دخل للقتال والأجير إنما دخل لخدمة المستأجر لا
للقتال ، فإذا ترك الخدمة وقاتل صار كأهل العسكر .
قال : ( والخمس الآخر يقسم ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، ومن كان
من أهل القربى بصفتهم يقدم عليهم ) لما تلونا من الآية ، إلا أن ذكر اسم الله تعالى للتبرك في
افتتاح الكلام ، إذ الدنيا والآخرة لله تعالى ، ولأن الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين لم
يفردوا هذا السهم ولم ينقل عنهم ، ولما لم يفعلوه دل على ما ذكرناه ؛ وأما سهم النبي عليه
الصلاة والسلام فكان يستحقه بالرسالة ، كما كان يستحق الصفي من المغنم ، وهو ما كان
يختاره من درع أو سيف أو جارية لنفسه فسقطا بموته جميعا إذ لا رسول بعده .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم '
وكذلك الأئمة المهديون لم يفردوه بعده عليه الصلاة والسلام ، ولو بقي بعده أو استحقه(4/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
غيره لصرفوه إليه . وأما سهم ذوي القربى فإنهم كانوا يستحقونه في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنصرة
وبعده بالفقر لما روي ' أن جبير بن مطعم وعثمان بن عفان رضي الله عنهما جاءا إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالا : يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم الذي وضعك
الله فيهم أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك بمنزلة فقال : إنهم لم
يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ' وهذا يدل على أن الاستحقاق بغير القرابة وإنما بكونهم
معه ينصرونه ، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بني المطلب وحرم بني أمية وهم
إليه أقرب ، لأن أمية كان أخا هاشم لأبيه وأمه والمطلب أخوه لأبيه ، فلو كان الاستحقاق
بالقرابة لكان بنو أمية أولى ، وبهذا تبين أن المراد قرب النصرة لا قرب النسب ، ولأن أبا
بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة كما قلنا وكفى بهم قدوة ، وإنما
يعطي من كان منهم على صفة الأصناف الثلاثة لقوله عليه الصلاة والسلام : ' يا بني هاشم
إن الله تعالى كره لكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس الخمس ' والصدقة إنما حرمت
على فقرائهم لأنها كانت محرمة على أغنيائهم وأغنياء غيرهم ، فيكون خمس الخمس لمن
حرمت الصدقة عليه .
وما روي أن عمر رضي الله عنه كان ينكح منه أيمهم ويقضي منه غارمهم ، ويخدم منه
عائلهم ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير ، وإذا ثبت أنه لا سهم لله تعالى
وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط ، وسهم ذوي القربى يستحقونه بالفقر ، لم يبق إلا
الأصناف الثلاثة التي ذكرناها فوجب أن يقسم عليهم ، ويدخل ذوو القربى فيهم إذا كانوا
بصفتهم . قال : ( وإذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فأخذوا شيئا خمس وإلا فلا ) .
اعلم أن الداخل دار الحرب لا يخلو إما إن كان لهم منعة أو لا ، ولا يخلو إما إن كان
بإذن الإمام أو لا ، فإن كان لهم منعة فما أخذوه يخمس ، سواء كان بإذن الإمام أو لم يكن
لأنهم إنما أخذوا بقوة المسلمين ، وقد أخذوا قهرا وغلبة فكان غنيمة ؛ ولهذا يجب على
الإمام أن ينصرهم ، لأن في خذلهم وهنا للمسلمين فكالمأخوذ بقوة المسلمين فيخمس .
وإن لم يكن لهم منعة فإن كان بإذن الإمام خمس ، لأن الإمام لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم
بإمدادهم بالعسكر فكان المأخوذ بقوة المسلمين فيخمس ؛ وروي أنه لا يخمس لأنهم لا
يقدرون على مغالبة الكفار فلا يكون غنيمة وإنما هو تلصص ، وإن كان بغير إذن الإمام لا
يخمس لأنه ليس بغنيمة لأنه لم يؤخذ بقوة المسلمين ، ولا يلزم الإمام نصرتهم لأنه لم(4/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
يأمرهم ولا وهن على الإسلام في ترك نصرتهم فلا يخمس كالذي يأخذه التاجر واللص ،
وإذا لم يكن غنيمة فما أخذه كل واحد فهو له خاصة لأنه مأخوذ على أصل الإباحة
كالحشيش والصيد لما مر في الشركة .
قال : ( ويجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وقبل أن تضع الحرب أوزارها ، فيقول الإمام :
من قتل قتيلا فلم سلبه ، أو من أصاب شيئا فله ربعه ) ونحو ذلك ( وبعد الإحراز ينفل من
الخمس ) .
اعلم أن النفل في اللغة اسم للغنيمة وفي الشريعة : اسم لما خصه الإمام لبعض الغزاة
تحريضا لهم على القتال لزيادة قوة وجرأة منهم ، ويجوز ذلك لما روي أنه عليه الصلاة
والسلام نفل يوم بدر فقال : ' من قتل قتيلا فله سلبه ' وعن مالك أنه قال ذلك يوم خيبر ،
ولما فيه من التحريض على القتال المندوب إليه بقوله تعالى : ) يا أيها النبي حرض المؤمنين
على القتال ( [ الأنفال : 65 ] ولأن الشجعان يرغبون في النفل فيخاطرون بأنفسهم ويقدمون
على القتال ، ولهذا قلنا إنها تجوز قبل الإحراز لأنها حينئذ تفيد التحريض والحث على
القتال ؛ أما إذا أحرزت فقد استقر حق الغانمين فيها فلا يجوز التنفيل لما فيه من إسقاط حق
البعض ولأنه لا يفيد فائدة التحريض بل إقعاد عن القتال لما فيه من إبطال حق الغانمين عن
بعض الغنيمة . قال محمد : وما روي أنه عليه الصلاة والسلام نفل بعد الإحراز إنما كان
من الخمس أو من الصفي فغلط قوم فظنوا أن النفل يجوز بعد إحراز الغنيمة ، وما قاله محمد
صحيح لأنه لا يجوز تصرف الإمام بعد الإحراز إلا في الخمس لما بينا ، ويجوز من الخمس
لأنه لا حق للغانمين فيه .
قال : ( وسلب المقتول : سلاحه وثيابه وفرسه وآلته وما عليه ومعه من قماش ومال ) أما
ما كان مع غلامه أو على فرس آخر من أمواله فهو غنيمة للكل ، وإذا جعل الإمام السلب
للقاتل انقطع حق الباقين عنه ، إلا أنه يثبت ملكه بالإحراز على ما بينا ، ولا يخمس السلب
إلا أن يقول فله سلبه بعد الخمس فإنه يخمس ، وكذلك إن جعل لهم الربع أو النصف أو
الثلث مطلقا لم يخمس ، فإن قال لكم الربع بعد الخمس فإنه يخمس ، ولا ينبغي للإمام أن
ينفل بجميع المأخوذ ، لأن الغنيمة حق العسكر ، فإذا نفل الجميع قطع حق الضعفاء عنها(4/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وأبطل السهام التي جعلها الله تعالى في الغنيمة ، قالوا هذا هو الأولى ، فإن فعله مع سرية
جاز لجواز أن تكون المصلحة في ذلك ، ( وإذا لم ينفل بالسلب فهو من جملة الغنيمة ) لا
يستحقه القاتل ، قال عليه الصلاة والسلام : ' ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه ' .
فصل
( وإذا استولى الكفار على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملكوها ، فإن ظهرنا عليهم فمن وجد
ملكه قيل القسمة أخذه بغير شيء وبعدها بالقيمة إن شاء ، وإن دخل تاجر واشتراه فمالكه إن
شاء أخذه بثمنه ، وإن شاء ترك وإن وهب له أخذه بالقيمة ) لما روى ابن عباس أن رجلا وجد
بعيرا له في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل ذلك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن وجدته
قبل القسمة فهو لك بغير شيء ، وإن وجدته بعد ما قسم أخذته بالقيمة إن شئت ' ولو لم
يملكوه لما أوجب القيمة . وعن تميم بن طرفة أن العدو غلب على ناقة أو بعير لرجل ،
فاشتراه رجل من العدو ، فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' خذه بالثمن إن شئت وإلا فهم لهم '
وهذا يدل على صحة ملك أهل الحرب إذ لولا ذلك لم يلزمه الثمن .
وعن عمر وابنه وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم مثل مذهبنا .
وعن علي رضي الله عنه أنه قال : من اشترى ما أحرزه العدو فهو جائز ، ولأنه يجب على
جميع المسلمين حق الرد عليه ، لأنه يجب عليهم استنقاذه من أيدي الكفار قلعا لهم عن
العود إلى مثله وقبل القسمة قد حصل لهم بغير عوض والرد مستحق عليهم فلزمهم الدفع
إليه . أما بعد القسمة فقد حصل له بعوض وهو نصيبه من الغنيمة الذي سلم لسائر الغانمين
ولم يستحق عليه بذل المال في الرد ، فلذلك وجب أن يغرم له العوض الذي ليس بمستحق ،
وكذلك المشتري منهم حصل له بعوض ليس بمستحق عليه فلذلك رجع بالثمن . وأما
الموهوب له فلأنه ملكه بعقد فصار كالبيع ، وليس فيه عوض مسمى فيأخذه بالقيمة كما بعد
القسمة ، فإن أسلموا عليها أو صاروا ذمة أو اشتراه حربي فأسلم أو دخل إلينا بأمان فهو
لهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من أسلم على مال فهو له ' وإن أسلموا قبل الإحراز(4/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
بدارهم ردوه على المالك الأول لعدم ثبوت ملكهم لبقاء العصمة . وأما النقود والمكيل
والموزون إن وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء كما قلنا ، وبعد القسمة لا سبيل له عليها ،
لأنه لو أخذها بمثلها ولا فائدة فيه .
قال : ( وإن غلب بعض أهل الحرب بعضا وأخذوا أموالهم ملكوها ) لاستيلائهم على
مال مباح ، فإذا ظهرنا عليها فأخذناها ملكناها كسائر أموالهم . قال : ( ولا يملكون علينا
مكاتبينا ومدبرينا وأمهات أولادنا وأحرارنا ) لأن الأصل في الآدمي الحرية ، والحرية مقتضى
قوله تعالى : ) ولقد كرمنا بني آدم ( [ الإسراء : 70 ] إلا أن الشرع جعله محلا للتمليك جزاء
عن استنكافه عن طاعة الله تعالى ، وذلك في حق الكافر دون المسلم ، لأن الملك في الرقاب
بناء على الرق ولا رق علينا ، وفي المال بناء على المالية والكل فيه سواء .
قال : ( وإن أبق إليهم عبد لم يملكوه ) عند أبي حنيفة : وقالا : يملكونه كما إذا أخذوه
من دارنا أو في الوقعة . وله أنه لما خرج من دارنا زالت يد المولى عنه وظهرت يده على
نفسه ، لأن سقوط يده باعتبار يد المولى ليتمكن من الانتفاع به فصار معصوما بنفسه فلم يبق
محلا للملك فلا يثبت لهم فيه ملك ، وبعد ذلك إن ظهرنا عليهم أخذه المالك القديم قبل
القسمة وبعدها ، ويؤدي عوضه عن بيت المال لتعذر إعادة القسمة بعد تفريق الغانمين ، ولا
جعل على المالك لأن الغانم إنما عمل لنفسه لأنه يزعمه ملكه ، وكذلك إن كان مشتري أو
موهوبا يأخذه بغير شيء لأنه لم يملكه فلم يصح تصرفه فيه .
قال : ( وإذا خرج عبيدهم إلينا مسلمين فهم أحرار ، وكذلك إن ظهرنا عليهم وقد
أسلموا ) لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بعتق عبيد خرجوا من الطائف وقد أسلموا وقال :
' هم عتقاء الله ' ولأنه أحرز نفسه بالتحاقه بمنعة المسلمين ويده أسبق من يد المسلمين
فكانت أولى . قال : ( وإذا اشترى المستأمن عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عليه ) وقالا :
لا يعتق لأنه يجب عليه إزالته عن ملكه بأن يجبر على ذلك ولا جبر فبقي على حاله . ولأبي
حنيفة أن خلاص المسلم عن رق الكافر واجب ما أمكن ، وقد تعذر جبره على ذلك ، فأقمنا
تباين الدارين مقام الإعتاق ، كما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب أقمنا مضي ثلاث
حيض مقام التفريق .(4/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
قال : ( وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان لا يتعرض لشيء من دمائهم وأموالهم ) لأن
فيه غدرا بهم وأنه منهي عنه ( فإن أخذ شيئا وأخرجه تصدق به ) لأنه ملكه بأمر محظور
وهو الغدر والخيانة وسبيله التصدق به لأنه ملك خبيث ، بخلاف الأسير لأنه غير مستأمن ،
ولم يلتزم ترك التعرض لهم فيباح له التعرض وإن أطلقوه . ولو دخل مسلم دار الحرب
فأدانه حربي أو أدان حربيا أو غصب أحدهما صاحبه ثم خرج المسلم أو استأمن الحربي
لم يقض بينهما بشيء من ذلك . أما الغصب فلأنه صار ملكا للذي أخذه لاستيلائه على
مال مباح . وأما المداينة فلأنه لا ولاية لنا عليهما وقت الإدانة والقضاء يعتمد الولاية ، ولا
على المستأمن وقت القضاء لأنه ما التزم أحكامنا في الماضي ، وكذلك الحربيان إذا فعلا
ذلك ثم خرجا مستأمنين لما بينا ، ولو خرجا مسلمين قضى بينهما بالديون دون الغصب لما
مر ؛ أما الغصب لما مر ، وأما الدين فلوقوعه صحيحا عن تراض ، والولاية ثابتة لالتزامهما
أحكامنا وقتئذ .
فصل
( وإذا دخل الحربي دارنا بأمان يقول له الإمام : إن أقمت سنة وضعت عليك الجزية )
وأصله أن الحربي لا يمكن الإقامة في دارنا دائما إلا بأحد معنيين : إما الاسترقاق ، أو
الذمة ، لأنه ربما يطلع على عورات المسلمين فيدل عليها ولا يمنع من المدة اليسيرة ،
لقوله تعالى : ) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ( - إلى قوله : - ) ثم أبلغه مأمنه (
[ التوبة : 6 ] وفي منعهم قطع الجلب والميرة وسد باب التجارة ، وربما منعوا تجارنا عن
الدخول إليهم وفيه من الفساد ما لا يخفى ، وإذا كان لا يجوز المقام الكثير ويجوز القليل ،
فلا بد من الحد الفاصل فقدرناه بالسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة
الجزية . قال : ( فإن أقام ) يعني سنة ( صار ذميا ) لالتزامه الجزية بشرط الإمام فتوضع عليه
الجزية ( ولا يمكن من العود إلى دار الحرب ) لأن عقد الذمة لا ينتقض ، ولأن فيه مضرة
المسلمين بجعل ولده حربا علينا وبانقطاع الجزية . قال : ( وكذلك إن وقت الإمام دون السنة
فأقام ) لأنه يصير ملتزما . قال : ( وكذلك إذا اشترى أرض خراج فأدى خراجها ) لأن خراج(4/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
الأرض كخراج الرأس لأنه إذا أداه فقد التزم المقام في دارنا ولا يصير ذميا بمجرد
الشراء لاحتمال الشراء للتجارة ؛ ولو أجرها من مسلم وأخذ الإمام الخراج من المستأجر
ورأى ذلك على الزارع لم يصر ذميا ، لأن الإمام لم يوجب عليه الخراج فلم يصر ذميا
بملك الأرض ، ويصير ذميا حين وجب عليه الخراج ، فتؤخذ منه الجزية بعد سنة من يوم
وجب عليه الخراج لأنه حينئذ صار ذميا قال : ( وإذا تزوجت الحربية بذمي صارت ذمية .
ولو تزوج حربي بذمية لا يصير ذميا ) لأنها التزمت المقام معه ولم يلتزم هو لأنه يطلقها
ويعود .
قال : ( والجزية ضربان : ما يوضع بالتراضي فلا يتعدى عنها ) لأنها وجبت بالرضى ، فلا
يجب غير ما رضي به ، ولأن فيه ترك الوفاء بالعقد ، وقد صالح عليه الصلاة والسلام نصارى
نجران على ألف ومائتي حلة وكانت جزية بالصلح ( وجزية يضعها الإمام إذا غلب الكفار
وأقرهم على ملكهم ، فيضع على الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما ، وعلى
المتوسط أربعة وعشرين درهما ، وعلى الفقير اثني عشر درهما ، وتجب في أول الحول ،
وتؤخذ في كل شهر بقسطه ) هكذا روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من غير نكير
من غيرهم فكان إجماعا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ : ' خذ من كل حالم
وحالمة دينارا أو عدله معافر ' فهو محمول على الصلح ، ألا ترى أنه قال وحالمة ، ولا
جزية على النساء إلا في المصالحة كما صالح عمر رضي الله عنه نصارى بني تغلب على ما
قررناه في الزكاة .
واختلفوا في حد الغني والمتوسط والفقير ، والمختار أن ينظر في كل بلد إلى حال أهله
وما يعتبرونه في ذلك ، فإن عادة البلاد في ذلك مختلفة ، وإنما قلنا إنها تجب في أول الحول
لأنها وجبت لإسقاط القتل فتجب للحال كالواجب بالصلح عن دم العمد ، ولأن المعوض قد
سلم لهم فوجب أن يستحق العوض عليهم كالثمن وقسطناها على الأشهر تخفيفا وليمكنه
الأداء .(4/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
قال : ( وتوضع على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم ) أما أهل الكتاب
فلقوله تعالى : ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ( [ التوبة : 29 ] إلى أن قال : ) من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ( [ التوبة : 29 ] . وأما المجوس فلما روي أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال : ما أصنع بهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله
عليه الصلاة والسلام يقول : ' سنة بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي
ذبائحهم ' فوضع عليهم الجزية . وأما عبدة الأوثان من العجم فلأنه يجوز استرقاقهم فيجوز
أخذ الجزية من رجالهم كالكتابي والمجوسي ، أو لأنه لما جاز إبقاؤهم على الكفر بأحد
الشيئين وهو الرق جاز بالآخر وهو الجزية .
( ولا يجوز ) أخذها من عبدة الأوثان ( من العرب و ) لا من ( المرتدين ) لأنه لا يجوز
إبقاؤهم على الكفر بالرق فكذا بالجزية ، لأن كفرهم أقبح وأغلظ . أما العرب فإنهم بالغوا في
أذاه ( صلى الله عليه وسلم ) بالتكذيب وإخراجه من وطنه ، فتغلظت عقوبتهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو
السيف . وقال عليه الصلاة والسلام يوم حنين : ' لو كان يجري على عربي رق لكان اليوم ،
وإنما الإسلام أو السيف ' . وأما المرتد فلأنه كفر بعد إسلامه واطلاعه على محاسن الإسلام .
وقال عليه الصلاة والسلام : ' من بدل دينه فاقتلوه ' ويسترق نساء العرب ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
استرقهم كما استرق أهل الكتاب ، ولا يجبرون على الإسلام . وأما المرتدة فتجبر على ما
يأتي إن شاء الله تعالى .
قال : ( ولا جزية على صبي ، ولا امرأة ، ولا مجنون ، ولا عبد ، ولا مكاتب ، ولا زمن ،
ولا أعمى ، ولا مقعد ، ولا شيخ كبير ) وأصله أن الجزية شرعت جزاء عن الكفر وحملا له
على الإسلام فتجري مجرى القتل ، فمن لا يعاقب بالقتل لا يؤاخذ بالجزية ، فإذا حصل
الزاجر في حق المقاتلة وهم الأصل انزجر التبع ، أو نقول : وجبت لإسقاط القتل ، فمن لا
يجب قتله لا توضع عليه الجزية ، وهؤلاء لا يجوز قتلهم فلا جزية عليهم ، ولأن عمر رضي
الله عنه لم يضع على النساء جزية . وعن أبي يوسف أنها تجب على الزمن والأعمى
والشيخ الكبير إذا كان لهم مال ، ولأنها وجبت على الفقير المعتمل ، ووجود المال أكثر من(4/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
العمل ، ولأنه يجوز قتل من كان له رأي في الحرب وكان له مال يعين به فتجب عليه الجزية
كذلك قال :
( ولا ) على ( الرهابين المنعزلين ، ولا فقير غير معتمل ) والمراد الرهابين الذين لا
يقدرون على العمل والسياحين ونحوهم . أما إذا كانوا يقدرون على العمل فيجب عليهم وإن
اعتزلوا وتركوا العمل لأنهم يقدرون على العمل فصاروا كالمعتملين إذا تركوا العمل فتؤخذ
منهم الجزية كتعطيل أرض الخراج . وأما الفقير الغير المعتمل ، فلأن عمر رضي الله عنه
شرط كونه معتملا وأنه دليل عدم وجوبها على غير المعتمل ، ولأنه غير مطيق للأداء فيعتبر
بالأرض التي لا تصلح للزراعة اعتبارا لخراج الرأس بخراج الأرض ؛ ولا جزية على الفقير
التغلبي لما سبق في الزكاة من صلحهم أنه يؤخذه منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين ، ولا
شيء على الفقير المسلم ؛ ولو مرض الذمي جميع السنة لا جزية عليه ، لأنها تجب على
الصحيح المعتمل لما بينا ؛ ولو مرض أكثر السنة سقطت أيضا إقامة للأكثر مقام الكل ،
وكذلك لو مرض نصف السنة لأنها عقوبة فيترجح المسقط ؛ ولو أدرك الصبي وأفاق المجنون
وعتق العبد وبرئ المريض قبل وضع الإمام الجزية وضع عليهم ، وبعد وضع الجزية لا
يوضع عليهم ، لأن المعتبر أهليتهم دون الوضع ، لأن الإمام يخرج في تعرف حالهم في كل
وقت ولم يكونوا أهلا وقت الوضع ، بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث يوضع عليهم ،
لأن الفقير أهل للجزية ، وإنما سقطت عنه للعجز وقد زال .
قال : ( وتسقط بالموت والإسلام ) لأنها شرعت للزجر عن الكفر وحملا على الإسلام ،
ولا حاجة إلى ذلك بعد الموت والإسلام لما بينا أنها بدل عن القتل ، وقد سقط القتل عنهما
ولأنها وجبت على وجه الصغار ، وقد تعذر ذلك بالموت والإسلام . قال : ( وإذا اجتمعت
حولان تداخلت ) فلا تجب إلا واحدة ، وقالا : تؤخذ لجميع ما مضى ، لأن مضي المدة لا
تأثير له في إسقاط الواجب كالديون . ولأبي حنيفة أنها عقوبة على الكفر ، والأصل في
العقوبات التداخل كالحدود ، أو لأنها للزجر ، والزجر عن الماضي محال ( وينبغي أن تؤخذ
الجزية على وصف الذل والصغار ) كما قال تعالى : ) حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون ( [ التوبة : 29 ] فيكون الآخذ قاعدا والذمي قائما بين يديه ويؤخذ بتلبيبه ويهزه هزا
( ويقول له : أعط الجزية يا عدو الله ) ولا تجري فيها النيابة لأنها عقوبة ، وعندهما تجوز النيابة(4/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
لأنها للزجر بتنقيص المال ، وتنقيص المال يحصل به وبنائبه ، ويجوز تعجيل الجزية لسنتين
وأكثر كالخراج ؛ فلو عجل لسنتين ثم أسلم رد خراج سنة واحدة لأنه أداه قبل الوجوب ، ولا
يرد خراج السنة الأولى إذا مات أو أسلم بعد دخولها لأنه أداه بعد الوجوب .
قال : ( ولا ينتقض عهدهم إلا باللحاق بدار الحرب ، أو إن تغلبوا على موضع
فيحاربوننا فتصير أحكامهم كالمرتدين ، إلا أنه إذا ظفرنا بهم نسترقهم ولا نجبرهم على
الإسلام ) لأنهم إذا صاروا حربا علينا فلا فائدة في عقد الذمة فيصيرون كالمرتدين ومالهم
كمالهم إلا أنهم يسترقون ولا يجبرون على قبول الذمة ، لأن المقصود أن يصيروا من أهل
دارنا سلما لنا وأنه يحصل بالاسترقاق ؛ والمقصود من المرتدة العود إلى الإسلام ولا تحصل
إلا بالجبر ، فإن عادوا إلى الذمة أخذوا بحقوق العباد التي كانت عليهم قبل النقض كما في
الردة ، ولا يؤاخذون بما أصابوا في المحاربة .
قال : ( ويؤخذ أهل الجزية بما يتميزون به عن المسلمين في ملابسهم ومراكبهم ) قال أبو
حنيفة : ينبغي أن لا يترك أحد من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في لباسه ومركبه ولا في
هيئته . والأصل في ذلك أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يأمروا أهل
الذمة أن يختموا رقابهم بالرصاص وأن يظهروا مناطقهم وأن يحلقوا نواصيهم ولا يتشبهوا
بالمسلمين في أثوابهم . وروي أنه صالح أهل الذمة على أن يشدوا في أوساطهم الزنار ،
وكان بحضرة من الصحابة من غير نكير ، ولأن المسلم يجب تعظيمه وموالاته وبدايته بالسلام
والتوسعة عليه في الطريق والمجالس ، والكافر يعامل بضد ذلك . قال عليه الصلاة والسلام :
' لا تبدؤوهم بالسلام وألجئوهم إلى أضيق الطرق ' فإذا لم يتميزوا عن المسلمين فيما ذكرنا
ربما عظمنا الكافر وواليناه وبدأناه بالسلام ظنا منا أنه مسلم وذلك لا يجوز ، فوجب تمييزهم
بما ذكرنا احترازا عن ذلك ، ولأن السماء يستدل بها على حال الإنسان ، قال تعالى :
) تعرفهم بسيماهم ( [ البقرة : 273 ] .
وقالت الفقهاء : من رأينا عليه زي الفقر جاز لنا دفع الزكاة إليه ، ويؤخذ كل واحد أن
يجعل في وسطه كستيجا مثل الخيط الغليظ من الشعر أو الصوف ويكون غليظا ليظهر
للرائي ، ولا يلبسوا العمائم ويلبسوا قميصا خشنا جيوبهم على صدورهم ، وأن يلبسوا(4/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
القلانس الطوال المضربة ، وأن يركبوا السروج التي على قربوسه مثل الرمانة . وفي الجامع
الصغير كهيئة الأكف ، وأن يجعلوا شراك نعالهم مثلنا ولا يحذوها مثل المسلمين ، ولا يلبسوا
طيالسة ولا أردية مثل المسلمين ( ولا يركبون الخيل إلا لضرورة ) فإن دعت يركبون على ما
وصفنا ، وينزلون في مجامع المسلمين ( ولا يحملون السلاح ) لأنهم أعداء المسلمين ،
ويمنعون من لباس يختص به أهل الشرف والعلم والدين ، ويجب أن تميز نساؤهم من نساء
المسلمين حال المشي في الطرق والحمامات ، فيجعل في أعناقهن طوق الحديد ، ويخالف
إزارهن إزار المسلمات ، ويكون على دورهم علامات تميز بها عن دور المسلمين لئلا يقف
عليهم السائل فيدعو لهم بالمغفرة . فالحاصل أنه يجب تمييزهم بما يشعر بذلهم وصغارهم
وقهرهم بما يتعارفه كل بلدة وزمان .
قال : ( ولا تحدث كنيسة ولا صومعة ولا بيعة في دار الإسلام ) قال عليه الصلاة
والسلام ' لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة ' والمراد إحداث الكنيسة في دار الإسلام . وقوله :
' لا خصاء ' هو الاعتزال عن النساء كما يفعله الرهبان فكأنه خصاء معنى ( وإذا انهدمت القديمة
أعادوها ) لأنهم أقروا عليها ، والبناء لا يتأبد ، ولا بد من خرابه ، فلما أقرهم عليها فقد التزم
لهم إعادتها ، وليس لهم أن يحولوها لأنه إحداث لا إعادة ، ثم قيل إنما يمنعون في
الأمصار ، أما القرى التي لا تقام فيها الجمع والحدود لا يمنعون من ذلك ولا من بيع الخمر
والخنزير فيها ، وهذا في القرى التي أكثرها ذمة ، أما قرى المسلمين فلا يجوز ذلك .
وأما أرض العرب فيمنعون من ذلك في المصر والقرى . قال محمد : لا ينبغي أن يترك
في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ، ولا يباع فيها خمر وخنزير مصرا كانت أو قرية ، ويمنع
المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكنا أو وطنا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يجتمع
دينان في أرض العرب ' ويمنعون من إظهار الفواحش والربا والمزامير والطنابير والغناء وكل
لهو محرم في دينهم ، لأن هذه الأشياء كبائر في جميع الأديان لم يقروا عليها بالأمان ، وإن
حضر لهم عيد لا يخرجون فيه صلبانهم ، وليصنعوا ذلك في كنائسهم ولا يخرجوه من
الكنائس حتى يظهر في المصر لأنه معصية وفي إظهاره إعزاز للكفر ، وأما الكنائس فلا
يمنعون منه كما لا يمنعون من إظهار الكفر فيها ، وعلى هذا ضرب الناقوس يفعلونه في
الكنائس لما قلنا ، ولا يمكنون من إظهار بيع الخمر والخنزير في أمصار المسلمين لأنه
معصية فينمع منه كسائر المعاصي ، وكذلك في قرى المسلمين لما بينا .(4/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
قال : ( ويؤخذ من نصارى بني تغلب ضعف زكاة المسلمين ، ويؤخذ من نسائهم ،
ويضعف عليهم العشر ) لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن يأخذ منهم ضعف زكاة
المسلمين على ما قررناه في الزكاة ، فلهذا يؤخذ من نسائهم دون صبيانهم ، لأن الزكاة
تجب على نساء المسلمين دون صبيانهم . قال : ( ومولاهم في الجزية والخراج كمولى
القرشي ) لأن الصلح وقع مع التغلبي تخفيفا فلا يلحق به المولى ، ألا ترى أن الجزية توضع
على مولى المسلم إذا كان نصرانيا . قال : ( وتصرف الجزية والخراج وما يؤخذ من بني تغلب
ومن الأراضي التي أجلى أهلها عنها وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام في مصالح المسلمين )
لأنه مال وصل إلى المسلمين بغير قتال فيكون لبيت مالهم معدا لمصالحهم ، وذلك ( مثل
أرزاق المقاتلة وذراريهم ، وسد الثغور ، وبناء القناطر والجسور ، وإعطاء القضاة والمدرسين
والعلماء والمفتين والعمال قدر كفايتهم ) أما سد الثغور وبناء القناطر والجسور فمصلحة عامة ؛
وأما أرزاق من ذكر فلأنهم يعملون للمسلمين فيجب كفايتهم عليهم ؛ والمقاتلة يقاتلون لنصرة
الإسلام والمسلمين وإعزاز كلمة الدين ولتكون كلمة الله هي العليا ، فيجب على الإمام
والمسلمين كفايتهم وكفاية ذريتهم ، إذ لو لم يكفوا لاشتغلوا بالاكتساب للكفاية فلا يتخلون
للقتال . وأما القضاة والباقون فقد حبسوا أنفسهم لمصالح المسلمين لفصل خصوماتهم وبيان
محاكماتهم وتعليمهم أحكام شريعتهم وما يأتونه ويذرونه في أقوالهم وأفعالهم ، وما يتعلق به
من مصالح دينهم ودنياهم ، وذلك من أهم مصالحهم وأعمها ، فكانت كفايتهم عليهم لقيام
مصالحهم أصله القاضي والزوجة على ما عرف .
فصل
( أرض العرب أرض عشر ، وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد(4/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
الشام ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين لم يضعوا الخراج على أرض العرب
ولأن من شرط الخراج أن يقر أهلها على الكفر ، ومشركو العرب لا يقرون على الكفر على
ما قدمنا . قال : ( والسواد أرض خراج ، وهي ما بين العذيب إلى عقبة حلوان ، ومن العلث أو
الثعلبية إلى عبادان ) لأنه يجوز إقرارهم على الكفر فقد وجد شرط الخراج ، ولأن عمر رضي
الله عنه فتح سواد العراق ووضع عليه الخراج بمحضر من الصحابة ، وأجمعت الصحابة على
وضع الخراج على الشام ، وكذلك وضع عمر رضي الله عنه على مصر الخراج حين فتحها
عمرو بن العاص .
قال : ( وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز تصرفهم فيها ) لما بينا أن الإمام إذا فتح
بلدة قهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليهم الخراج ، فإذا أقرهم عليها بقيت مملوكة لهم
فيجوز تصرفهم فيها بيعا وشراء وإجارة وغير ذلك كسائر الملاك والأملاك . قال : ( وكل
أرض أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهو عشرية ) لأن وضع العشر
على المسلم ابتداء أليق به من الخراج لما فيه من معنى العبادة على ما بيناه في الزكاة ،
ولأنه أخف لأنه يتعلق بالخارج ، فإن أخرجت الأرض شيئا وجب عشرة وإلا فلا ( وما فتح
عنوة وأقر أهلها عليها أو صالحهم فهي خراجية سوى مكة شرفها الله تعالى ) لأن وظيفة
الأرض في الأصل الخراج ، وإنما صرنا إلى العشر في حق المسلم تخفيفا عليه وتكرمة له
وفيما عدا ذلك تبقى خراجية ، ولأن وضع الخراج على الكافر ابتداء أليق به ؛ وأما مكة
فالنبي عليه الصلاة والسلام خصها ، وذلك لأنه حيث افتتحها عنوة تركها ولم يضع عليها
الخراج .
قال : ( ومن أحيا مواتا بغير بحيزها ) فإن كانت تقرب من أرض العشر فعشرية ، وإن
كانت تقرب من أرض الخراج فخراجية ، وهذا عند أبي يوسف ، لأن ما يقرب من الشيء
يعطى حكمه : كفناء الدار وحريم البئر والشجرة ونحو ذلك ؛ والقياس في البصرة الخراج
لأنها من حيز أرضه ، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وظفوا عليها العشر فترك القياس
لذلك . وقال محمد : إن أحياها بماء العشر فعشرية ، وإن أحياها بماء الخراج فخراجية ،
لأن الخراج لا يوظف على المسلم إلا بالتزامه ، فإذا ساق إليها ماء الخراج فقد التزم
الخراج ، وإلا فلا ؛ وكل أرض خراج انقطع عنها ماء الخراج فسقيت بماء العشر فهي(4/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
عشرية ، وكل أرض عشرية انقطع عنها ماء العشر فسقيت بماء الخراج فخراجية اعتبارا
بالماء إذ هو سبب النماء .
قال : ( ولا يجتمع عشر وخراج في أرض واحدة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا
يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم ' ولم ينقل عن أحد من أئمة العدل والجور ذلك
فكفى بهم حجة ، ولأن العشر يجب في أرض فتحت قهرا ، والخراج في أرض أقر أهلها
عليها وأنهما متنافيان . قال : ( ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج والعشر يتكرر ) لأن عمر رضي
الله عنه لم يوظف الخراج مكررا ، ولأن الخراج للأرض كالأجرة ، فإذا أداها فله أن ينتفع بها
ما شاء ويزرعها مرارا . أما العشر فمعناه أن يأخذ عشر الخارج ولا يتحقق ذلك إلا بوجوبه
في كل خارج . قال : ( وإذا غلب الماء على أرض الخراج أو انقطع عنها أو أصاب الزرع آفة
فلا خراج ) وكذلك إن منعه إنسان من الزراعة ، لأن المعتبر في الخراج النماء التقديري وهو
التمكين من الزراعة كما في الأرض المستأجرة ، وفي العشر حقيقة الخارج ، وفيما إذا أصاب
الزرع آفة فات النماء التقديري في بعض السنة ، وكونه ناميا في جميع السنة شرط كما في
الزكاة ، وإن أخرجت الأرض مثلي الخراج فصاعدا يؤخذ منه جميع الخراج ، وإن أخرجت
قدر الخراج يؤخذ نصفه تحرزا عن الإجحاف بأحد الجانبين .
قال : ( وإن عطلها مالكها فعليه خراجها ) لأن الخراج متعلق بالتمكين من الزراعة لا
بحقيقة الخارج والتمكين ثابت وهو الذي فوّته ، ولو انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر
فعليه خراج الأعلى . قالوا : ولا يفتي بهذا كيلا تتجرى الظلمة على أموال الناس .
واعلم أن الخراج كان وظيفة مشروعة في الجاهلية كفاية للمقاتلة وكانت رسم
كسرى ، فصارت شريعة لنا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وهو ما روي أن عمر رضي
الله عنه لما فتح سواد العراق تركها على أربابها وبعث عثمان بن حنيف ليمسح الأراضي
وجعل عليها حذيفة بن اليمان مشرفا فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب فوظف على
كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة درهما وقفيزا مما يزرع ، وعلى كل جريب رطبة
خمسة دراهم وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير
فكان إجماعا .(4/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
قال : ( والخراج ) نوعان ( مقاسمة فيتعلق بالخارج كالعشر ) وهو أن يمنّ الأمام على أهل
بلدة فتحها فتجعل على أراضيهم مقدار ربع الخارج أو ثلثه أو نصفه ، ولا يزيد على النصف
لأن التقدير ورد بالنصف وهو ماروي أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى خيبر لأهلها
معاملة بالنصف ، وحكمه حكم العشر إلا أنه يوضع موضع الخراج لأنه خراج حقيقة
( و ) خراج ( وظيفة ولا يزاد على ما وظفه عمر رضي الله عنه ، وهو على كل جريب يبلغه
الماء صاع ودرهم ، وجريب الرطبة خمسة دراهم ، والكرم والنخل المتصل عشرة دراهم ) على
ما روينا ، ولأن المؤن متفاوتة ، والوظيفة تتفاوت بتفاوت المؤنة ، ألا ترى أن الواجب فيما
سقته السماء العشر ، وما سقي بالدولاب نصف العشر ، والكرم خفيف المؤن ، والمزارع
أكثر ، والرطبة بينهما ، فوظف على كل نوع بقدره كما تقدم .
( وما لم يوظفه عمر رضي الله عنه يوضع عليه بحسب الطاقة ) كالزعفران وغيره
( ونهاية الطاقة نصف الخارج فلا يزاد عليه ، وينقص منه عند العجز ) .
قال عمر رضي الله عنه : لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق ؛ قالا : لا ولو زدنا
لأطاقت ، وأنه دليل جواز النقصان ، ولا تجوز الزيادة على ما وظفه عمر رضي الله عنه في
سواد العراق لأنه خلاف إجماع الصحابة ، وما وظفه إمام آخر في أرض كتوظيف عمر رضي
الله عنه باجتهاد فلا ينقص باجتهاد مثله ؛ ولو وظف على أرض ابتداء تجوز الزيادة على ما
وظفه عمر رضي الله عنه بقدر الطاقة عند محمد ، لأنه إنشاء حكم باجتهاد وليس فيه نقض
حكم ، ولا يجوز عند أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة ، لأن الخراج مقدر شرعا ، واتباع
إجماع الصحابة واجب لأن المقادير لا تعرف إلا توقيفا ، والتقدير يمنع الزيادة لأن النقصان
يمتنع ، فتعين منع الزيادة لئلا يخلو التقدير عن الفائدة ، والجريب الذي فيه أشجار مثمرة
ملتفة لا يمكن زراعتها .
قال محمد : يوضع عليه بقدر ما يطيق لأنه لم يرد عن عمر في البستان تقدير فكان
مفوضا إلى الإمام ، وقال أبو يوسف لا يزاد على الكرم لأن البستان بمعنى الكرم فالوارد في(4/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
الكرم وارد فيه دلالة ، وإن كان فيه أشجار متفرقة فهي تابعة للأرض ، ألا يرى أنه يتبعها في
البيع من غير تسمية .
وعن محمد أن الخراج يجب عند بلوغ الغلة على اختلاف البلدان لأنه كالبدل عن
الخارج ، وله أن يحول بينه وبين غلته حتى يستوفي الخراج بقدر ما يستوفي رب الأرض
الخارج تحقيقا للمساواة .
قال : ( وإذا اشترى المسلم أرض خراج ، أو أسلم الذمي أخذ منه الخراج ) لأنه وظيفة
الأرض فلا يتغير بتغير المالك لما مر في الزكاة ؛ ومن عجز عن زرع أرض وعن الخراج
تؤجر أرضه ويؤخذ الخراج من الأجرة فإن لم يكن من يستأجرها باعها الإمام وأخذ الخراج
ورد عليه الباقي بالإجماع ، لأن فيه ضررا خاصا لنفع عام فيجوز .
وعن أبي حنيفة في النوادر : لو هرب أهل الخراج إن شاء الإمام عمرها من بيت المال
والغلة للمسلمين ، وإن شاء دفعها إلى قوم على شيء وكان ما يأخذه للمسلمين لأن فيه حفظ
الخراج على المسلمين والملك على صاحبه ، فإن لم يجد من يزرعها باعها على ما بينا .
ومن أدى العشر والخراج إلا مستحقه بنفسه فللإمام أخذه منه ثانيا لأن حق الأخذ له ؛ ولو
لم يطلب الإمام الخراج يتصدق به على الفقراء ، لأنه إذا لم يطلبه تعذر الأداء إليه فبقي
طريقه التصدق ليخرج عن العهدة ؛ ولو ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل جاز في
الخراج دون العشر عند أبي يوسف .
وقال محمد : لا يجوز فيهما لأنهما فيء لجماعة المسلمين .
ولأبي يوسف أن له حقا في الخراج فصح تركه وهو صلة منه ، والعشر حق الفقراء
على الخلوص فلا يجوز تركه ، وعليه الفتوى . الصاع : أربعة أمنان . والمنّ : مائتان وستون
درهما . والدرهم من أجود النقود . والجريب : ستون ذراعا في ستين بذراع الملك كسرى ،
وأنه يزيد على ذراع العامة بقبضة . وقيل هذا جريب سواد العراق ؛ فأما جريب أرض كل بلدة
ما هو المتعارف عندهم .
فصل
( وإذا ارتد المسلم والعياذ بالله ) عن الإسلام ( يحبس ويعرض عليه الإسلام وتكشف(4/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
شبهته ، فإن أسلم وإلا قتل ) أما حبسه وعرض الإسلام عليه فليس بواجب لأنه بلغته الدعوة ؛
والكافر إذا بلغته الدعوة لا تجب أن تعاد عليه فهذا أولى ، لكن يستحب ذلك ، لأن الظاهر
إنما ارتد لشبهة دخلت عليه أو ضيم أصابه فيكشف ذلك عنه ليعود إلى الإسلام وهو أهون
من القتل . وروي مثل ذلك عن عمر ، وقيل إن طلب التأجيل أجّل ثلاثة أيام وإلا قتل
للحال لأنه متعنت . وأما وجوب قتله فلقوله تعالى : ) تقاتلونهم أو يسلمون ( [ الفتح : 16 ]
والمراد أهل الردة نقلا عن ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقال عليه الصلاة والسلام :
' من بدّل دينه فاقتلوه ' وقال : ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث '
الحديث ، والحر والعبد سواء لإطلاق ما ذكرنا .
قال : ( فإن قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه ) لأنه مستحق للقتل بالكفر فلا ضمان
عليه ، ويكره له ذلك لما فيه من ترك الغرض المستحب ، ولما فيه من الافتيات على الإمام .
قال : ( وإسلامه أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ عن جميع الأديان سوى دين الإسلام أو عما انتقل
إليه ) لحصول المقصود بذلك ، فإن عاد فارتد فحكمه كذلك وهكذا أبدا ، لأنا إنما نحكم
بالظاهر ، قال عليه الصلاة والسلام : ' هلا شققت عن قلبه ' وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقبل من المنافقين
ظاهر الإسلام ، ولأن توبته قبلت أول مرة بإظهار الإسلام وأنه موجود فيما بعد فتقبل . قال :
( ويزول ملكه عن أمواله زوالا مراعى ، فإن أسلم عادت إلى حالها ) وقالا : هي على ملكه لأنه
مكلف محتاج فيبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص ، وله أنه كافر مقهور تحت
أيدينا مباح الدم ، وأنه يوجب زوال الملك والمالكية ، إلا أنه يرتجى إسلامه وهو مدعوّ إليه
فيوقف أمره فإن عاد صار كأن لم يزل مسلما وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب استقر
كفره فعمل السبب عمله .
اعلم أن تصرفات المرتد أربعة أقسام : نافذ بالاتفاق كالطلاق والاستيلاد وقبول الهبة
وتسليم الشفعة والحجر على عبده المأذون لأنه لا يفتقر إلى تمام الولاية ولا إلى حقيقة
الملك . وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة للمرتد . وموقوف
بالإجماع كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة ، فإن أسلم حصلت المساواة وإلا(4/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
بطلت فيقوف لذلك . ومختلف فيه كالبيع والشراء والعتق والتدبير والكتابة والهبة والوصية
وقبض الديون فهي موقوفة عند أبي حنيفة إن أسلم نفذت ، وإن مات أو قتل لحق بدار
الحرب بطلت . وعندهما هي جائزة ، وهو بناء على اختلافهم في ملكه على ما بينا . لهما ، أنه
أهل للتصرفات لكونه مخاطبا وملكه ثابت لما بينا فيصح تصرفه إلا عند أبي يوسف يجوز
كما يجوز من الصحيح ، لأن الظاهر عوده إلى الإسلام بزوال شبهته .
وعند محمد يجوز من المريض من الثلث ، لأن ردته تفضي إلى القتل غالبا ، لأن من
انتحل نحلة قلما يتركها سيما وقد أعرض عما نشأ عليه وألفه ، وله أن ملكه موقوف على ما
تقدم ، وتصرفه بناء عليه فيتوقف ، وإباحة ملكه توجب خللا في الأهلية فلذلك توقف
تصرفاته .
قال : ( وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده
وحلت الديون التي عليه ونقلت أكسابه في الإسلام إلى ورثته المسلمين ، وأكساب الردة
فيء ) .
اعلم أن باللحاق بدار الحرب يصير من أهل الحرب ، وهم أموات في حق أحكام
الإسلام لانقطاع الولاية وعدم الإلزام كما انقطعت عن الميت الحقيقي ، إلا أنه لا يستقر
اللحاق إلا بالقضاء لاحتمال العود ، ولأن انقطاع الحقوق باللحاق مختلف فيه فيتوقف حكمه
على القضاء كغيره من المجتهدات ، فإذا قضى به ثبت موته الحكمي فيترتب عليه أحكام
الموت وهي ما ذكرنا كالموت الحقيقي ، ومكاتبه يؤدي بدل الكتابة إلى ورثته كما إذا مات
حقيقة . وأما الميراث فكسب الإسلام لورثته المسلمين بإجماع الصحابة هكذا قضى عليّ
رضي الله عنه في مال المستورد والعجلي حين قتله مرتدا من غير نكير من أحد من
الصحابة . وعن ابن مسعود مثله ، وكسب الردة فيء .
وقالا : لهم أيضا بناء على أنه ملكه ثابت عندهما في الكسبين ، ويستند إلى ما قبل
الردة حتى يكون توريث المسلم من المسلم ، لأن الردة سبب الموت . وله أن الاستناد ممكن
في كسب الإسلام لا في كسب الردة لأنه وجد بعدها فلا يتصور إسناده إلى ما قبلها ولأنه
كسب مباح الدم فيكون فيئا كالحربي ، ثم في رواية عن أبي حنيفة ، وهو قول زفر يعتبر ورثته
يوم ارتد لأنه سبب الموت ، وعنه وهو قول محمد وهو ظاهر الرواية يوم الموت أو اللحاق
لأنه سبب الإرث والقضاء لتقريره لقطع الاحتمال ، وفي رواية وهو قول أبي يوسف يوم(4/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
القضاء ، لأنه به يتقرر الاستحقاق وبه يصير اللحاق موتا وتبطل وصاياه عند أبي حنيفة ، لأن
ردته كالرجوع عنها . وقالا : تبطل وصاياه في القرب لا غير .
قال : ( وتقضى ديون الإسلام من كسب الإسلام ، وديون الردة من كسبها ) وقالا : تقضى
ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه عندهما . وله أنه يقضى كل دين مما اكتسبه في تلك
الحالة ليكون الغرم بالغنم . قال : ( فإن عاد مسلما فما وجده في يد وارثه من ماله أخذه ) لأنه
إذا عاد مسلما فقد عاد حيا فعادت الحاجة والخلافة إنما تثبت للوارث لاستغنائه ، فإذا عادت
حاجته تقدم على الوارث وجميع ما فعله القاضي إلا ما ذكرنا ولأنه ملكه بغير عوض فجاز
أن يثبت له حق الرجوع ما دام على ملكه كالهبة ، ولا رجوع له في شيء زال عن ملك
الوارث كالموهوب ، وسواء زال بما يلحقه الفسخ كالبيع ونحوه ، أو ما لا يلحقه الفسخ
كالعتق ؛ وكذا لا سبيل له على من حكم الحاكم بعتقه لأنه لا يلحقه الفسخ ؛ وكذا المكاتب
إذا عتق بالأداء إلى الورثة ويأخذ البدل من الورثة إن كان قائما كغيره من الأموال ، ولو لم
يقضِ القاضي بشيء حتى رجع مسلما لا يثبت شيء مما ذكرنا لأنه ما لم يتصل القضاء
باللحاق لا يحكم بموته .
قال : ( وإسلام الصبي العاقل وارتداده صحيح ، ويجبر على الإسلام ولا يقتل ) وكذا إذا
بلغ يجبر ولا يقتل . وجملته أن إسلام الصبي الذي يعقل الإسلام وردّته صحيحان . وقال أبو
يوسف : إسلامه صحيح وردته لا تصح . وقال زفر : لا يصحان لأن طريقهما الأقوال ،
وأقواله غير صحيحة لا يتعلق بها حكم كالطلاق والعتاق والإقرار والعقود . ولأبي يوسف أن
الإسلام فيه نفعه والكفر فيه ضرره ، ويجوز تصرفه النافع كقبول الهبة ولا يجوز الضار
كالهبة ، ولهذا قلنا إن الولي يجيز تصرفه النافع دون الضار . ولهما أن عليا رضي الله عنه
أسلم وهو صبي ، وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخر به فقل :
سبقتكمو إلى الإسلام طرا
صغيرا ما بلغت أوان حلم
ولأن الإسلام يتعلق به كمال العقل دون البلوغ ، بدليل أن من بلغ غير عاقل لم
يصح إسلامه ، والعقل يوجد من الصغير كما يوجد من الكبير ، ولأنه أتى بحقيقة الإسلام
وهو التصديق مع الإقرار ، لأن الإقرار طائعا دليل الإعتقاد والحقائق لا ترد ، وإذا صار
مسلما فإذا ارتد تصح كالبالغ ، ولأن الإسلام عقد والردة حله ، وكل من ملك عقدا ملك
حله كسائر العقود ، ولأن من كان بيده الإعتقاد تصور منه تبديله ، فإذا اقترن به الاعتراف(4/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
دل على تبديل الإعتقاد كالإسلام ؛ وإذا ثبتت ردته ترتب عليه أحكام الردة لا يرث ولا
يورث وتبين امرأته ، ولا يصلى عليه لو مات مرتدا ويجبر على الإسلام ، لأنا لما حكمنا
بإسلامه لا يترك على الكفر كالبالغ ، ولأن بالجبر يندفع عنه مضرة حرمان الإرث وبينونة
الزوجة وغير ذلك ، وإنما لا يقتل لأن كل من لا يباح قتله بالكفر الأصلي لا يباح بالردة
لأن إباحة القتل بناء على أهلية الحراب على ما عرف ولأن القتل عقوبة وهو ليس من
أهلها ولأن القتل لا يتعلق بفعل الصبي كالقصاص . وإذا كان الصبي لا يعقل لا يصح
إسلامه ولا ارتداده وكذلك المجنون لأن الإسلام والكفر يتبعان العقل على ما بينا ،
وكذلك من غلب على عقله بوجه من الوجوه كالمبرسم والمعتوه ومن سقي شيئا فزال
عقله لما بينا ، ومن يجنّ ويفيق ففي حال جنونه له أحكام المجانين .
وفي حال إفاقته أحكام العقلاء ، وردة السكران ليست بشيء استحسانا ، وإسلامه
صحيح لأنه يحتمل أن يكون عن اعتقاد أو لا ، والإسلام يحتال في إثباته والكفر في نفيه
فافترقا ، والقياس أن تبين امرأة السكران لأن الكفر سبب للفرقة كالطلاق . وجه الاستحسان
أن الردة ليست بفرقة ، وإنما تقع الفرقة لاختلاف الدين وردته ليست بصحيحة فلا يختلف
الدين .
وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في صبي أبواه مسلمان كبر كافرا ولم يسمع
منه الإقرار بالإسلام بعد ما بلغ ، قال : لا يقتل ويجبر على الإسلام ، وإنما يقتل من أقر
بالإسلام بعد ما بلغ ثم كفر ، لأن الأول لم تجب عليه الحدود لأنه لم يصر مسلما بفعله
وإنما بالتبعية وحكم أكسابه كالمرأة .
قال : ( والمرتدة لا تقتل ، وتحبس وتضرب في كل الأيام حتى تسلم ) ومعناه يعرض
عليها الإسلام ، فإن أبت ضربها أسواطا ثم يعرض عليها الإسلام فإن أبت حبسها . وفي رواية
تخرج كل يوم وتضرب على ما وصفنا ، لأنه لم يجز قتلها وقد ارتكبت جريمة عظيمة ولا
حد فيها فتعزر ، والتعزير الضرب والحبس ، وإنما لا تقتل لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن
قتل النساء مطلقا ، ولأن كفرها الأصلي لا يبيح دمها لأنها ليست من أهل القتال فكذلك
الكفر الطارئ . وقد بينا في أول السير أن السبب الموجب للقتل أهليته للقتال ، وأن النبي
عليه الصلاة والسلام نبه على أنه السبب بقوله : ' ما لها قتلت ولم تقاتل ؟ ' وحديث ' من(4/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
بدل دينه فاقتلوه ' رواه ابن عباس ، ومذهبه أن المرتدة لا تقتل فدل على تقييده بالرجال .
قال : ( ولو قتلها إنسان لا شيء عليه ) لأنه اعتمد إطلاق النص وهو مذهب جماعة من العلماء
لكن يؤدب ( ويعزر ) إن كانت في دار الإسلام لافتياته على الإمام .
قال : ( وتصرفها في مالها جائز ) إن كانت في دار الإسلام ، لأنها تصرفت في خالص
حقها ، لأن عصمة المال تتبع عصمة النفس ، وعصمة نفسها لم تزل ، وبعد اللحاق زالت
عصمة نفسها ، ولهذا لا تسترق ما دامت في دار الإسلام ، لأن دار الإسلام ليست بدار
استرقاق ، وإن لحقت ثم سبيت استرقت وأجبرت على الإسلام ، لأن الصحابة استرقوا نساء
بني حنيفة بعد ما ارتدوا وأم محمد بن الحنفية منهم ، ولا تقتل كالأصلية ( فإن لحقت أو
ماتت ) في الحبس ( فكسبها لورثتها ) إذ ملكها ثابت فيهما لما بينا فينتقلان إلى ورثتها ، ولا
ميراث لزوجها لأنها بانت بالردة ولم تصر مشرفة على الهلاك فلا تكون فارة ، وله أن يتزوج
أختها عقيب لحاقها ، لأنه لا عدة عليها كالميتة ، فإن عادت مسلمة أو سبيت لم ينتقض نكاح
الأخت ، لأن نكاحها لا يعود بعد ما سقط ، ولها أن تتزوج من ساعتئذ لعدم العدة ؛ وإن
ولدت بأرض الحرب لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه من الزوج وهو مسلم تبع لأبيه ؛ وإن
ولدت لستة أشهر فصاعدا من حين اللحاق ثم سبيا معا كانا فيئا ، لأن النسب غير ثابت من
الزوج لعدم العدة فيكون الولد كافرا تبعا لها ، والمملوكة تحبس فإن كان مولاها محتاجا إلى
خدمتها دفعت إليه ويؤمر أن يجبرها على الإسلام ، ويرسل القاضي إليها كل يوم من يجلدها
على الإسلام جمعا بين المصلحتين .
فصل فيما يصير به الكافر مسلما
والأصل فيه أن الكافر إذا أقر بخلاف ما اعتقده حكم بإسلامه ، فمن ينكر الوحدانية
كالثنوية وعبدة الأوثان والمشركين ، والمانوية إذا قال : لا إله إلا الله ، أو قال : أشهد أن
محمدا رسول الله ، أو قال : أسلمت أو آمنت بالله ، أو أنا على دين الإسلام أو على الحنيفية
فهذا كله إسلام . وكل من آمن بالوحدانية وينكر رسالة محمد كاليهود والنصارى لا يصير
مسلما بشهادة التوحيد حتى يشهد أن محمدا رسول الله ؛ وطائفة بالعراق يزعمون أن محمدا
مرسل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل فلا يكون مسلما بالشهادتين حتى يتبرأ من دينه . ولو(4/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
قال : دخلت في الإسلام ، قال بعضهم : يحكم بإسلامه لأنه دليل على دخول حادث في
الإسلام وذلك غير ما كان عليه فدل على خروجه مما كان عليه ، هكذا ذكره الكرخي في
مختصره ؛ ولو قال : أنا مسلم كان أبو حنيفة يقول : لا يكون مسلما حتى يتبرأ ، ثم رجع
وقال ذلك إسلام منه .
قال : ( والكافر إذا صلى بجماعة أو أذّن في مسجد ، أو قال : أنا معتقد حقيقة الصلاة
في جماعة يكون مسلما ) لأنه أتى بما هو من خاصية الإسلام ، كما أن الإتيان بخاصية الكفر
يدل على الكفر ، فإن من سجد لصنم أو تزيّا بزنار أو لبس قلنسوة المجوس يحكم بكفره .
وعن محمد إذا صلى وحده واستقبل قبلتنا كان مسلما ، ولو لبى وأحرم وشهد المناسك مع
المسلمين كان مسلما . أكره الذمي على الإسلام فأسلم يصح إسلامه ، ولو رجع لا يقتل ،
ولكن يحبس حتى يرجع إلى الإسلام .
فصل
الخوارج والبغاة مسلمون ، قال تعالى : ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
بينهما ( [ الحجرات : 9 ] وقال علي رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ، وكل بدعة تخالف
دليلا يوجب العلم والعمل به قطعا فهو كفر ، وكل بدعة لا تخالف ذلك وإنما تخالف دليلا
يوجب العمل ظاهرا فهو بدعة وضلال وليس بكفر . واتفقت الأمة على تضليل أهل البدع
أجمع وتخطئتهم . وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل ، فإن عليا رضي
الله عنه لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله ، وأهل البغي كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون
ويقاتلون أهل العدل بتأويل ويقولون الحق معنا ويدعون الولاية ، وإن تغلب قوم من
اللصوص على مدينة فقتلوا وأخذوا المال وهم غير متأولين أخذوا بأجمعهم وليسوا ببغاة ،
لأن المنعة إن وجدت فالتأويل لم يوجد .(4/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
قال : ( وإذا خرج قوم من المسلمين عن طاعة الإمام وتغلبوا على بلد دعاهم إلى
الجماعة وكشف شبهتهم ) لأن عليا رضي الله عنه بعث ابن عباس يدعو أهل حروراء وناظرهم
قبل قتالهم ، ويستحب ذلك لأنه أهون الأمرين فلعلهم أن يرجعوا به . قال : ( ولا يبدؤهم
بقتال ) لأنهم مسلمون ( فإن بدؤوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم ) قال تعالى : ) فإن بغت إحداهما
على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ( [ الحجرات : 9 ] الآية ، ولأن عليا رضي الله عنه قاتلهم
بحضرة الصحابة ، ولأنهم ارتكبوا معصية بمخالفة الجماعة فيجب صدهم عنها ، ويجوز
رميهم بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار على النبات ليلا لأنه من آلة القتال . وما روي
عن عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة من القعود عن الفتنة فيجوز أنهم كانوا عاجزين
عن ذلك ، ومن لا قدرة له لا يلزمه . وما روي عن أبي حنيفة أنه قال : ينبغي أن يعتزل
الفتنة ، ولا يخرج من بيته إذا لم يكن هناك إمام يدعوه إلى القتال ، فأما إذا دعاه الإمام وعنده
غنى وقدرة لم يسعه التخلف .
قال : ( فإن اجتمعوا وتعسكروا بدأهم ) دفعا لشرهم لأن في تركهم تقوية لهم وتمكينا من
أذى المسلمين والغلبة على بلادهم . وكان أبو حنيفة يقول : ينبغي للإمام إذا بلغه أن الخوارج
يشترون السلاح ويتأهبون للخروج أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويتوبوا ، لأن
العزم على الخروج معصية فيزجرهم عنها ، وفي حبسهم قطعهم عن ذلك ، ويكتفي المسلمون
مؤونتهم .
قال : ( فإذا قاتلهم فإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم ) لأن الواجب
أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى الحق ، قال تعالى : ) حتى تفيء إلى أمر الله ( [ الحجرات : 9 ]
فإذا كان لهم فئة ينحازون إليها لا يزول بغيهم لأنهم ينحازون إلى فئة ممتنعة من البغاة
فيعودون إلى القتال ؛ وأما الأسير فإن رأى قتله قتله لأن بغيه لم يزل ، وإن رأى أن يخلي
عنه فعل ، فإن عليا رضي الله عنه كان إذا أخذ أسيرا استحلفه أن لا يعين عليه وخلاه ،
وإن رأى أن يحبسه حتى يتوب أهل البغي فعل وهو الأحسن ، لأنه يؤمن شره من غير
قتل . وأما إذا لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم ولا يقتل أسيرهم ،
هكذا فعل رضي الله عنه بأهل البصرة ، وقال : لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية ،
وقال يوم الجمل : لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تذففوا على جريح : أي لا يتم
قتله ، ولا يكشف ستر ، ولا يؤخذ مال ، وهو القدوة في الباب ، ولأن المقصود دفع شرهم
وإزالة بغيهم وقد حصل(4/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
قال : ( ولا تسبى لهم ذرية ولا يغنم لهم مال ويحبسها حتى يتوبوا فيردها عليهم ) لما
تقدم من حديث علي رضي الله عنه ، ولأنهم مسلمون والإسلام عاصم ، وإنما يحبسها عنهم
تقليلا عليهم ، وفيه مصلحة المسلمين ، فإذا تابوا ردت عليهم لزوال الموجب للحبس .
قال : ( ولا بأس بالقتال بسلاحهم وكراعهم عند الحاجة إليه ) معناه إذا كان لهم فئة
فيقسم على أهل العدل ليستعينوا به على قتالهم ، ولأنه يجوز للإمام أن يأخذ سلاح المسلمين
عند الحاجة فهذا أولى ، وهو مأثور عن علي رضي الله عنه أيضا يوم البصرة ، فإذا استغنوا
عنه حبسه لهم ولا يدفعه إليهم لئلا يستعينوا به على المسلمين فيحبس السلاح ويبيع الكراع
ويمسك ثمنه لأن ذلك أنفع وأيسر ، فإذا زال بغيهم يرده إليهم كسائر أموالهم . وما أصاب
كل واحد من الفريقين من الآخر من دم أو جراحة أو استهلاك مال فهو موضوع لا دية فيه
ولا ضمان ولا قصاص ، وما كان قائما في يد كل واحد من الفريقين للآخر فهو لصاحبه لما
روى الزهري .
قال : وقعت الفتنة فأجمعت الصحابة وهم متوافرون أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو
هدر ، وكل ما أتلف بتأويل القرآن فلا ضمان فيه ، وكل فرج استبيح بتأويل القرآن فلا حد
فيه ، وما كان قائما بعينه رد . قال محمد : إذا تابوا أفتيهم أن يغرموا ولا أجبرهم على ذلك
لأنهم أتلفوه بغير حق ، فسقوط المطالبة لا يسقط الضمان فيما بينه وبين الله تعالى . وقال
أصحابنا : ما فعلوه قبل التحيز والخروج وبعد تفرق جمعهم يؤخذون به ، لأنهم من أهل
دارنا ، ولا منعة لهم فيهم كغيرهم من المسلمين ، أما ما فعلوه بعد التحيز لا ضمان فيه لما
بينا ، ولا يقتل من معهم من النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والعميان لأنهم لا يقتلون إذا
كانوا مع الكفار فهذا أولى وليسوا من أهل القتال ، فإن قاتلت المرأة مع الرجال لا بأس
بقتلها حالة القتال ، ولا تقتل إذا أسرت وتحبس اعتبارا بالحربية .
قال : ( وإذا قتل العادل الباغي ورثه وكذلك إن قتله الباغي وقال : أنا على حق ، وإن
قال : أنا على الباطل لم يرثه ) لأنه قتله بغير حق ولا تأويل . وقال أبو يوسف : لا يرث
الباغي العادل في الوجهين لأنه قتل بغير حق . ولنا ما روينا من إجماع الصحابة ، ويكره
حمل رؤوسهم وإنفاذها إلى الآفاق لأنه مثلة ، ولم ينقل عن علي رضي الله عنه . وروي أنه
حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس فأنكر حمله ، فقيل له : إن فارس والروم يفعلون
ذلك ، فقال : أستنان بفارس والروم ؟ . وقد قال أصحابنا : إن كان ذلك رهنا لهم فلا بأس
به ، لأن ابن مسعود حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينكر عليه ، والله أعلم .(4/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
كتاب الكراهية
وفيه بيان ما يكره من الأفعال وما لا يكره ، وسمي بالكراهية لأن بيان المكروه أهم
لوجوب الاحتراز عنه ، والقدوري سماه في مختصره وشرحه : الحظر والإباحة ، وهو صحيح
لأن الحظر المنع ، والإباحة الإطلاق ، وفيه بيان ما منع منه الشرع وما أباحه ؛ وسماه
بعضهم : الاستحسان ، لأن فيه بيان ما حسنه الشرع وقبحه ، ولفظة الاستحسان أحسن ، أو
لأن أكثر مسائله استحسان لا مجال للقياس فيها ؛ وبعضهم يسميه : كتاب الزهد والورع لأن
فيه كثيرا من المسائل أطلقها الشرع والزهد والورع تركها .
قال : ( المكروه عند محمد حرام ) إلا أنه لما لم يجد فيه نصا لم يطلق عليه الحرمة
( وعندهما هو إلى الحرام أقرب ) لتعارض الأدلة فيه وتغليب جانب الحرمة لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' ما اجتمع الحرام والحلال إلا وقد غلب الحرام الحلال ' قالوا : معناه دليل الحل
ودليل الحرمة .
قال : ( والنظر إلى العورة حرام إلا عند الضرورة كالطبيب والخاتن والخافضة والقابلة ،
وقد بينا العورة في ) كتاب ( الصلاة ) والأصل في ذلك قوله تعالى : ) قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم ( [ النور : 31 ] وقوله تعالى : ) وقل للمؤمنات ( [ النور : 31 ]
الآية ، معناه يسترونها من الانكشاف لئلا ينظر إليها الغير نقلا عن المفسرين ، وقال عليه
الصلاة والسلام : ' ملعون من نظر إلى سوءة أخيه ' فأما حالة الضرورة فالضرورات تبيح
المحظورات ، ألا ترى أن الله أباح شرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ومال الغير حالة(4/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
المخمصة وما إذا غص ، وهذا لأن أحوال الضرورات مستثناة ، قال تعالى : ) وما جعل عليكم
في الدين من حرج ( [ الحج : 78 ] وقال : ) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( [ البقرة : 286 ]
وفي اعتبار حالة الضرورة حرج وتكليف ما ليس في الوسع ، ولأن هذه الأفعال مأمور بها ،
فعند بعضهم هي واجبة ، وعند البعض سنة مؤكدة ، ولا يمكن فعلها إلا بالنظر إلى محالها ،
فكان الأمر بها أمرا بالنظر إلى محالها ويلزم منه الإباحة ضرورة ، وينبغي للطبيب أن يعلّم
امرأة مداواتها ، لأن نظر المرأة إلى المرأة أخف من نظر الرجل إليها لأنها أبعد من الفتنة ،
فإذا لم يكن منه بد فليغض بصره ما استطاع تحرزا عن النظر بقدر الإمكان ، وكذلك تفعل
المرأة عند النظر إلى الفرج عند الولادة وتعرّف البكارة ، ألا يرى أنه يجوز النظر إليه لتحمل
الشهادة على الزنا ولا ضرورة فهذا أولى ، والعورة في الركبة أخف فكاشفها ينكر عليه برفق ،
ثم الفخذ وكاشفه يعنف على ذلك ؛ ثم السوأة فيؤدب كاشفها .
قال : ( وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا العورة ) لأن المنهي عنه النظر إلى
العورة دون غيرها وعليه الإجماع ، وقد قبّل أبو هريرة سرة الحسن بن علي رضي الله عنهما
وقال : هذا موضع قبلّه رسول الله عليه الصلاة والسلام ولأن الرجال يمشون في الطرق
بإزار في جميع الأزمان من غير نكير ، فدل على جواز النظر إلى الأبدان .
قال : ( وتنظر المرأة من المرأة والرجل إلى ما ينظر الرجل من الرجل ) أما المرأة إلى
المرأة فلانعدام الشهوة وللضرورة في الحمامات وغيرها ، وأما نظرها إلى الرجل فلاستوائهما
في إباحة النظر إلى ما ليس بعورة ، ولأن الرجال يمشون بين الناس بإزار واحد ، فإذا خافت
الشهوة أو غلب على ظنها لا تنظر احترازا عن الفتنة ، وكل ما جاز النظر إليه جاز مسه
لاستوائهما في الحكم إلا إذا خافت الشهوة .
قال : ( وينظر من زوجته وأمته التي تحل له إلى جميع بدنها ) وكذا يحل له مسها
والاستمتاع بها في الفرج وما دونه ، قال تعالى : ) والذين هم لفروجهم حافطون (
[ المؤمنون : 5 ] إلى قوله سبحانه : ) فإنهم غير ملومين ( [ المؤمنون : 6 ] وقال عليه الصلاة
والسلام : ' غض بصرك إلا عن زوجتك ' ولا يحل له الاستمتاع بها في الدبر ولا في الفرج
حالة الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا(4/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
وصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ' ونظره إلى فرجها ونظرها إلى فرجه
مباح . وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النظر أبلغ في تحصيل اللذة ، وقيل الأولى أن لا ينظر
لأنه يورث النسيان ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' إذا أتى أحدكم أهل فليستتر ما استطاع ولا
يتجردان تجرد العير ' .
قال : ( وينظر من ذوات محارمه وأمة الغير إلى الوجه والرأس والصدر والساقين
والعضدين والشعر ) والأصل فيه قوله تعالى : ) ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ( [ النور : 31 ]
الآية ، والمراد موضع الزينة ، لأن النظر إلى نفس الثياب والحلي والكحل وأنواع الزينة
حلال للأجانب والأقارب ، فكان المراد مواضع الزينة بطريق حذف المضاف وإقامة
المضاف إليه مقامه ، ومواضع الزينة ما ذكرنا ، فالرأس موضع الإكليل ، والشعر موضع
العقاص ، والأذن موضع القرط ، والعنق موضع القلائد ، والصدر موضع الوشاح ،
والعضدان موضع الدملج ، والذراع موضع السوار ، والساق موضع الخلخال . وعن الحسن
والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط ، ويستوي في
ذلك المحرمية بالنسب والرضاع والمصاهرة لأن الحرمة مؤبدة في الكل فيستوين في إباحة
النظر والمس .
قال : ( ولا بأس بأن يمس ما يجوز النظر إليه إذا أمن الشهوة ) لأن المسافرة معهن
حلال بالنص ويحتاج في السفر إلى مسهن في الإركاب والإنزال ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان
إذا قدم من مغازيه قبّل رأس فاطمة . وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قبّل رأس عائشة
ومحمد ابن الحنفية كان يقبّل رأس أمه ، ولأن المرحم لما كان لا يشتهي عادة حلت معه
محل الرجال ، ولا ينبغي أن يفعل شيئا من ذلك إذا خاف الشهوة أو غلبت على ظنه ، بل
ينبغي أن يغض بصره ، فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ' ولا يجوز النظر من هؤلاء إلى ما بين السترة
حتى يجاوز الركبة لأنه عورة ولا إلى الظهر والبطن ، لأن حكم الظهار إنما ثبت لتشبيهه بظهر(4/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
الأم ، فلولا حرمة ظهرها لما ثبتت حرمة الزوجية كما إذا شبهها بيدها ورجلها ، وإذا ثبتت
حرمة الظهر فالبطن أولى ، لأن الشهوة فيها أكثر فكانت أولى بالتحريم ، ولأن ذلك ليس
موضع الزينة ، فإن سافر معهن فلا بأس أن يحملهن وينزلهن يأخذ بالبطن والظهر ، لأن
اللمس من فوق الثياب لا يوجب الشهوة فصار كالنظر حتى لو كانت متجردة أو عليها ثياب
رقيقة يجد حرارتها من فوقه لا يمسها تحرزا عن الوقوع في الفتنة ؛ وأما أمة الغير فلأنها
تحتاج إلى الخروج وقضاء الحوائج والأخذ والإعطاء فيقع النظر إليها ضرورة ومس بعض
أعضائها كما في المحارم .
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى أمة متخمرة ألقى خمارها وقال لها : يا
لكاع لا تتشبهين بالحرائر . ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها لأنه محل الشهوة ، ولأنه لما حرم من
المحارم مع عدم الشهوة فيهن عادة فلأن يحرم من الإماء كان أولى ، وإنما يباح ذلك عند
عدم الشهوة لما بينا ، إلا إذا أراد الشراء فإنه يباح له النظر مع الشهوة دون المس ، لأن المس
بشهوة استمتاع بأمة الغير وأنه حرام ، أما النظر فليس باستمتاع ، وإنما حرم لإفضائه إلى
الاستمتاع وهو الوطء . والمسافرة بأمة الغير قيل تحل كالمحارم وقيل لا وهو المختار ، لأن
الشهوة إلى أمة الغير كثيرة ، ولا كذلك في المحارم ، ولأنه لا ضرورة إلى المسافرة والخلوة
معها ، وفي المحارم ضرورة لما بينا ، وكذا يحل للأمة النظر من الأجنبي إلى جميع بدنه
ومسه وغمزه ما خلا العورة بشرط عدم الشهوة ، لأن العادة أن جارية المرأة تخدم زوجها
وتغمزه وتدهنه فدل على الجواز .
قال : ( ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة ) وعن
أبي حنيفة أنه زاد القدم ، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة
مع الأجانب لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها . والأصل فيه قوله تعالى :
) ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ( [ النور : 31 ] قال عامة الصحابة : الكحل والخاتم ،
والمراد موضعهما لما بينا ، وموضعهما الوجه واليد ، وأما القدم فروي أنه ليس بعورة مطلقا
لأنه تحتاج إلى المشي فتبدو ؛ ولأن الشهوة في الوجه واليد أكثر ، فلأن يحل النظر إلى
القدم كان أولى ؛ وفي رواية القدم عورة في حق النظر دون الصلاة .
قال : ( فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ) لما فيه من الضرورة إلى
معرفتها لتحمل الشهادة والحكم وكما يجوز له النظر إلى العورة لإقامة الشهادة على الزنا .
قال : ( ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة ) لأن المس أغلظ من النظر ، فإن الشهوة
بالمس أكثر ، فإن كانت عجوزا لا تشتهى أو كان شيخا لا يشتهى فلا بأس بمصافحتها ،(4/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصافح العجائز ، وعبد الله بن الزبير استأجر
عجوزا تمرّضه فكانت تغمزه وتفلي رأسه ، والصغيرة التي لا تشتهى لا بأس بمسها والنظر
إليها لعدم خوف الفتنة . ومن أراد أن يتزوج امرأة يجوز له النظر إليها وإن خاف أن يشتهي
لقوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة وقد أراد أن يتزوج امرأة : ' انظر إليها فإنه أحرى أن
يؤدم بينكما ' .
قال : ( والعبد مع سيدته كالأجنبي ) لأن خوف الفتنة منه مثلها من الأجنبي ، وبل أكثر
لكثرة الاجتماع والنصوص المحرمة مطلقة ، والمراد من قوله تعالى : ) أو ما ملكت أيمانهن (
[ النور : 31 ] الإماء دون العبيد قاله الحسن وابن جبير . قال : ( والفحل والخصي والمجبوب
سواء ) لأن الآية تعم الكل ، والطفل الصغير مستثنى بالنص ، ولأن الخصي يجامع والمجبوب
يساحق فلا تؤمن الفتنة كالفحل .
وقال : ( ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو شيئا منه أو يعانقه ) وعن أبي يوسف لا بأس
به ، وعن بعض المشايخ لا بأس به إذا قصد به الإكرام والمبرة ولم يخف الشهوة ، لما روي
' أنه عليه الصلاة والسلام عانق جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه
وكان يوم فتح خيبر وقال : لا أدري بأي الأمرين أسر ؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ' وجه
الظاهر نهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن المكاغمة والمكامعة ، والأول التقبيل والثاني المعانقة ، وما رواه محمول
على الابتداء قبل النهي .
قال : ( ولا بأس بالمصافحة ) فإنها سنة قديمة متوارثة بين المسلمين من لدن الصدر
الأول إلى يومنا هذا .
قال : ( ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل ) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا
يقبلون أطراف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن سفيان بن عيينة أنه قال : تقبيل يد العالم والسلطان
العادل سنة ، فقام عبد الله بن المبارك وقبل رأسه ، وتقبيل الأرض بين يدي السلطان أو بعض
أصحابه ليس بكفر لأنه تحية وليس بعبادة ، ومن أكره على أن يسجد للملك الأفضل أن لا
يسجد لأنه كفر ، ولو سجد عند السلطان على وجه التحية لا يصير كافرا .(4/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
فصل
( ويحل للنساء لبس الحرير ، ولا يحل للرجال إلا مقدار أربع أصابع كالعلم ) لما روي
عن علي رضي الله عنه ' أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ حريرة بشماله وذهبا بيمينه ثم رفع بهما يديه
وقال : إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها ' وعن عمر رضي الله عنه أنه قال :
' حرم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبس الحرير على الرجال إلا ما كان هكذا وهكذا ، وذكر أصبعين وثلاثا
وأربعا ' وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو
أربعة ' وأراد به الإعلام وأهدى المقوقس ملك الإسكندرية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جبة أطرافها من
ديباج فلبسها ولأن الناس اعتادوا لبس الثياب وعليها الأعلام في سائر الأزمان ، والمعنى فيه
أنه تبع للثوب فلا حكم له .
قال : ( ولا بأس بتوسده وافتراشه ) وكذا ستر الحرير وتعليقه على الباب ، وقالا : يكره
لعموم النهي ولأنه من زي الأعاجم وقد نهى عنه . وله أن النهي ورد في اللبس وهذا دونه
فلا يلحق به ، ولأن القليل من اللبس حلال وهو العلم فكذا القليل من الاستعمال حتى لا
يجوز جعله دثارا بالإجماع . وعن ابن عباس أنه كان له مرفقة حرير على بساطه ، ولأن
افتراشه استخفاف به فصار كالتصاوير على البساط فإنه يجوز الجلوس عليه ولا يجوز لبس
التصاوير . قال : ( ولا بأس بلبس ما سداه إبريسم ولحمته قطن أو خز ) لأن الثوب بالنسج
والنسج باللحمة ، فتعتبر اللحمة دون السدا ، فما كان ساده حريرا ولحمته غيره يجوز لبسه في
الحرب وغيره بالإجماع ، وما كان بالعكس يجوز في الحرب خاصة بالإجماع أيضا للضرورة
لأنه أهيب وأدفع لمضرة السلاح .
وقال أبو يوسف ومحمد : لبس الحرير في الحرب جائز لما روى الشعبي أن النبي عليه
الصلاة والسلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب ، ولأنه أدفع لمضرة السلاح
وأهيب في عين العدو فمست الحاجة إليه . وقال أبو حنيفة : لا يجوز لعموم النهي ، والحرام
لا يحل إلا للضرورة وقد اندفعت بالمخلوط فإن الخالص إن اختص بمزية الخلوص
فالمخلوط اختص بزيادة الثخانة والقوة فاستويا فيتجزأ به ، ولو كان الثوب رقيقا ولا يحصل(4/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
به الإرهاب لا يجوز بالإجماع . وفي نوادر هشام عن محمد يكره لبنة الحرير : أي القب
وتكة الديباج والإبريسم لأنه استعمال تام ، وما كان سداه ظاهرا كالعتابي ، قيل يكره لأن
لابسه في منظر العين لابس حرير وفيه خيلاء ، وقيل لا يكره اعتبارا للحمة كما مر ، وتكره
الخرقة التي يمسح بها العرق ويمتخط بها لأنه ضرب كبر ، وإن كانت لإزالة الأذى والقذر
لا بأس بها ، ولا بأس بالخرقة يمسح بها الوضوء لتوارث المسلمين ذلك ، وقيل إن فعله
تكبرا يكره كالتربع في الاتكاء إن فعل تكبرا يكره وللحاجة له .
قال : ( ويجوز للنساء التحلي بالذهب والفضة ولا يجوز للرجال ) لما سبق من
الحديث ( إلا الخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة وكتابة الثوب من ذهب أو فضة وشد
الأسنان بالفضة ) أما الخاتم والمنطقة وحلية السيف فبالإجماع ، والنبي عليه الصلاة والسلام
كان له خاتم من فضة نقشه محمد رسول الله ، ونهى عليه الصلاة والسلام عن التختم
بالذهب ، ثم التختم سنة لمن يحتاج إليه كالسلطان والقاضي ومن في معناهما ومن لا
حاجة له إليه فتركه أفضل . والسنة أن يكون قدر مثقال فما دونه ويجعل فصه إلى باطن
كفه ، بخلاف النساء لأنه للزينة في حقهن دون الرجال ، ويجوز أن يجعل فصه عقيقا أو
فيروزجا أو ياقوتا أو نحوه ، ويجوز أن ينقش عليه اسمه أو اسما من أسماء الله تعالى
لتعامل الناس ذلك من غير نكير ولا بأس بسد ثقب الفص بمسمار الذهب لأنه قليل فأشبه
العلم ، ويكره التختم بالحديد والصفر للرجال والنساء لأنه حلية أهل النار وقد نهي عنه .
وروي أنه كان قبضة سيفه عليه الصلاة والسلام من فضة . وأما كتابة الثوب كما بينا في
العلم الحرير ، وكرهه أبو يوسف بناء على اختلافهم في الإناء المفضض . وأما شد الأسنان
فمذهب أبي حنيفة ، وقالا : يجوز بالذهب أيضا قياسا على الأنف ، فإنه روي أن عرفجة
أصيب أنفه يوم كلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن ، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يتخذ(4/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
أنفا من ذهب وكان ضرورة فيجوز . وله أن الضرورة في الأسنان تندفع بالأدنى وهو
الفضة ، ولا كذلك في الأنف فافترقا .
قال : ( ويكره أن يلبس الصبي الذهب والحرير ) لئلا يعتاده ألا ترى أنه يؤمر بالصوم
والصلاة وينهى عن شرب الخمر ليعتاد فعل الخير ويألف ترك المحرمات فكذلك هذا ،
والإثم على من ألبسه لإضافة الفعل إليه . قال : ( ولا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ) قال
عليه الصلاة والسلام : ' من شرب في إناء ذهب وفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم '
وعلى هذا المجمرة والملعقة والمدهن والميل والمكحلة والمرآة ونحو ذلك ، والنصوص وإن
وردت في الشرب فالباقي في معناه لاستوائهم في الاستعمال ، والجامع أنه زي المتكبرين
وتنعم المترفين ، وأنه منهي عنه فيعم الكل ( ويستوي فيه الرجال والنساء ) لعموم النهي ، وعليه
الإجماع .
قال : ( ولا بأس بآنية العقيق والبلور والزجاج والرصاص ) لأنه لا تفاخر في ذلك فلم
يكن في معناه . قال : ( ويجوز الشرب في الإناء المفضض والجلوس على السرير المفضض
إذا كان يتقي موضع الفضة ) أي يتقي فمه ذلك ، وقيل يتقي أخذه باليد . وقال أبو يوسف :
يكره ، وقول محمد مضطرب ، وعلى هذا الاختلاف والتفصيل السرج المفضض والكرسي ،
والإناء المضبب بالذهب والفضة . لأبي يوسف أنه إذا استعمل جزءا من الإناء فقد استعمل
كله فيكون مستعملا للذهب والفضة . ولأبي حنيفة أن الفضة في هذه الأشياء تابعة والعبرة
للمتبوع لا للتبع ، وصار كالعلم في الثوب ومسمار الذهب في فص الخاتم ، وعلى هذا
اللجام المفضض والركاب والثفر ، أما اللجام من الفضة والركاب فحرام لأنه استعمل
الفضة بعينها فلا يجوز ، ولا بأس بالانتفاع بالأواني المموهة بالذهب والفضة بالإجماع ، لأن
الذهب والفضة مستهلك فيه لا يخلص فصار كالعدم ، والأشنان والدهن يكون في إناء فضة
أو ذهب يصب منه على اليد . قال محمد : أكره ولا أكره ذلك في الغالية لأنه يدخل يده أو
عودا فيخرجها إلى الكف ثم يستعملها من الكف فلا يكون مستعملا للإناء ، ولا كذلك
الدهن والأشنان فإنه يكون مستعملا به بالصب منه .(4/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
فصل في الاحتكار
وهو مصدر احتكرت الشيء إذا جمعته وحبسته ، والاسم الحكرة بضم الحاء . قال :
( ويكره في أقوات الآدميين والبهائم في موضع يضر بأهله ) والأصل في ذلك قوله تعالى :
) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( [ الحج : 25 ] قال عمر رضي الله عنه : لا
تحتكروا الطعام بمكة فإنه إلحاد ، وما روى ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
قال : ' الجالب مرزوق والمحتكر محروم ' وفي رواية ' ملعون ' وعنه عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه قال : ' من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه ' وروى
أبو أمامة الباهلي ' أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يحتكر الطعام ' وروى عمر عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ' من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام
والإفلاس ' ولأن فيه تضييقا على الناس فلا يجوز . والاحتكار أن يبتاع طعاما من المصر أو
من مكان يجلب طعامه إلى المصر ويحبسه إلى وقت الغلاء ، وشرطه أن يكون مصرا يضر به
الاحتكار لأنه تعلق به حق العامة ، وشرط بعضهم الشراء في وقت الغلاء وينتظر زيادة الغلاء
والكل مكروه .
والحاصل أن يكون يضر بأهل تلك المدينة حتى لو كان مصرا كبيرا لا يضر بأهله
فليس بمحتكر لأنه حبس ملكه ولا ضرر فيه بغيره ، وعلى هذا التفصيل تلقى الجلب ، لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عنه .
قال : ( ولا احتكار في غلة ضيعته وما جلبه ) أي من مكان بعيد من المصر أو ما زرعه ،
لأن له أن لا يجلب ولا يزرع فله أن لا يبيع . وقال أبو يوسف : يكره فيما جلبه أيضا لعموم
النهي . وقال محمد : يكره إذا اشتراه من موضع يجلب منه إلى المصر في الغالب لتعلق حق
العامة به ، وما لا فلا . قال : ( وإذا رفع إلى القاضي حال المحتكر يأمره ببيع ما يفضل عن
قوته وعياله ، فإن امتنع باع عليه ) لأنه في مقدار قوته وعياله غير محتكر ويترك قوتهم على(4/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
اعتبار السعة ؛ وقيل إذا رفع إليه أول مرة نهاه عن الاحتكار ، فإن رفع إليه ثانيا حبسه وعزره
بما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس . قال محمد : أجبر المحتكرين على بيع ما احتكروا
ولا أسعر ، ويقال له : بع كما يبيع الناس وبزيادة يتغابن في مثلها ولا أتركه يبيع بأكثر .
والأصل في ذلك ما روي ' أن السعر غلا بالمدينة فقالوا : يا رسول الله لو سعرت ؟ فقال : إن
الله هو المسعر ' ولأن التسعير تقدير الثمن وإنه نوع حجر . وقول محمد : أجبرهم على
البيع يحتمل وجهين : إما لما فيه من المصلحة العامة أو بناء على قولهما في الحجر .
قال : ( ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس ) لما بينا . قال : ( إلا أن يتعدى أرباب
الطعام تعديا فاحشا في القيمة فلا بأس بذلك بمشورة أهل الخبرة به ) لأن فيه صيانة حقوق
المسلمين عن الضياع ، وقد قال أصحابنا : إذا خاف الإمام على أهل مصر الضياع والهلاك
أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه عليهم فإذا وجدوا ردوا مثله ، وليس هذا حجرا وإنما هو
للضرورة كما في المخمصة ، ولو سعر السلطان على الخبازين الخبز فاشترى رجل منهم
بذلك السعر والخباز يخاف إن نقصه ضربه السلطان لا يحل أكله لأنه في معنى المكره ،
وينبغي أن يقول له : بعني بما تحب ليصح البيع ؛ ولو اتفق أهل بلد على سعر الخبز واللحم
وشاع بينهم فدفع رجل إلى رجل منهم درهما ليعطيه فأعطاه أقل من ذلك والمشتري لا يعلم
رجع عليه بالنقصان من الثمن ، لأنه ما رضي إلا بسعر البلد . وقال أبو يوسف : الاحتكار في
كل ما يضر بالعامة نظرا إلى أصل الضرر . وقال محمد : الاحتكار في أقوات الآدميين كالتمر
والحنطة والشعير ، وأقوات البهائم كالقت نظرا إلى الضرر المقصود . واختلفوا في مدة
الاحتكار ، قيل أقلها أربعون يوما كما ورد في الحديث وما دون ذلك فليس باحتكار لعدم
الضرر بالمدة القصيرة ؛ وقيل أقله شهر لأن ما دونه عاجل ، ثم قيل يأثم بنفس الاحتكار وإن
قلت المدة ، وإنما بيان المدة لبيان أحكام الدنيا .
فالحاصل أن التجارة في الطعام مكروه فإنه يوجب المقت في الدنيا والإثم في الآخرة .
قال : ( ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا ) لأن المعصية لا تقوم بعينه بل بعد
تغيره . قال : ( ومن حمل خمرا لذمي طاب له الأجر ) وقالا : يكره لأنه أعانه على المعصية .
وفي الحديث ' لعن الله في الخمر عشرا ' وعد منهم حاملها . وله أن المعصية شربها ،(4/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وليس من ضرورات الحمل وهو فعل فاعل مختار ، ومحمل الحديث الحمل لقصد المعصية
حتى لو حملها ليريقها أو ليخللها جاز ، وعلى هذا الخلاف إذا آجر بيتا ليتخذه بيت نار أو
بيعة أو كنيسة في السواد . لهما أنه أعانه على المعصية ، وله أن العقد ورد على منفعة البيت
حتى وجبت الأجرة بالتسليم وليس بمعصية ، والمعصية فعل المستأجر وهو مختار في ذلك .
قال : ( ولا بأس ببيع السرقين ) لأنه منتفع به يلقى في الأراضي طلبا لكثرة الريع ، ويجري فيه
الشح والضنة وتبذل الأعواض في مقابلته فكان مالا فيجوز بيعه كسائر الأموال ، بخلاف
العذرة فإنه لا ينتفع بها إلا بعد الخلط ، وبعد الخلط يجوز بيعها وهو المختار ، ويجوز
الانتفاع بعد الخلط بها كزيت وقعت فيه نجاسة .
قال : ( ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها ) وكذا الإجارة . وروى الحسن
عن أبي حنيفة أنه يجوز بيع دور مكة وفيها الشفعة ، ويكره إجارتها في الموسم ، وقالا :
لا بأس ببيع أرضها لأنها مملوكة لهم لاختصاصهم بها الاختصاص الشرعي فيجوز كالبناء .
وله ما روى ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ' مكة حرام وبيع رباعها حرام '
وروى الدارقطني بإسناده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ' مكة مباح لا تباع رباعها ولا
تؤاجر بيوتها ' قال الدارقطني : وكانت تدعى على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي بكر وعمر
السوائب ، من شاء سكن ومن استغنى أسكن ، ولأنها من الحرم يحرم صيدها ، ولا يحل
دخولها لناسك إلا بإحرام فيحرم بيعها كالكعبة والصفا والمروة والمسعى ، وإنما جاز بيع
البناء لأن البقعة محرمة ، وقفها إبراهيم صلوات الله عليه ، والبناء ملك لمن أحدثه فيجوز
تصرفه فيه ، والطين وإن كان من الأرض وهو من جملة الوقف ، لكن من أخذ طين الوقف
فعمله لبناء ملكه وصار كسائر أملاكه . ووجه رواية الحسن أن الناس يتبايعونها في سائر
الأعصار من غير إنكار .
قال : ( ويقبل في المعاملات قول الفاسق ) لأنها يكثر وجودها من الناس ، فلو شرطنا
العدالة حرج الناس في ذلك ، وما في الدين من حرج ، فيقبل قول الواحد عدلا كان أو
فاسقا ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، مسلما أو كافرا دفعا للحرج .
قال : ( ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ) لأن
الصدق فيه راجح باعتبار عقله ودينه ، سيما فيما لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضررا ، ولهذا(4/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
قبلت رواية الواحد العدل للأخبار النبوية ، وإنما اشترطنا العدالة لأنها مما لا يكثر وقوعها
كثرة المعاملات ، ولأن الفاسق متهم والكافر غير ملتزم لها فلا يلزم المسلم بقوله ، بخلاف
المعاملات فإنه لا مقام له في دارنا إلا بالمعاملة ، ولا معاملة إلا بقبول قوله ، ولا كذلك
الديانات والمعاملات كالإخبار بالذبيحة والوكالة والهبة والهدية والإذن ونحو ذلك ، والديانات
كالإخبار بجهة القبلة وطهارة الماء ، فلو أخبره ذمي بنجاسة الماء لم يقبل قوله ، لأن الظاهر
كذبه إضرارا بالمسلم للعداوة الدينية ولا يتحرى ، فإن وقع في قلبه صدقه لا يتيمم ما لم يرق
الماء ، وإن توضأ به جاز ؛ ولو أخبره بذلك فاسق أو من لا تعرف عدالته ، فإن غلب على
ظنه صدقه سمع قوله وإلا فلا ، والأحوط أن يريقه ويتيمم . قال : ( ويقبل في الهدية والإذن
قول الصبي والعبد والأمة ) للحاجة إلى ذلك ، وعليه الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا .
فصل في مسائل مختلفة
قال : ( ويعزل عن أمته بغير إذنها ، وعن زوجته بإذنها ) لأن للزوجة حقا في الوطء
لقضاء الشهوة وتحصيل الولد حتى يثبت لها الخيار في الجب والعنة ولا حق للأمة ، وقد
نهى عليه الصلاة والسلام عن العزل عن الحرة إلا بإذنها ، وقال لمولى الأمة : ' اعزل عنها
إن شئت ' . قال : ( ويكره استخدام الخصيان ) لأنه تحريض على الخصاء المنهي عنه لكونه
مثله . قال : ( ويكره اللعب بالنرد والشطرنج وكل لهو ) قال عليه الصلاة والسلام : ' كل لعب
ابن آدم حرام إلا ثلاثا : ملاعبة الرجل مع امرأته ، ورميه عن قوسه ، وتأديبه فرسه ' ولأنه
إن قامر عليه فهو ميسر وإلا فهو عبث والكل حرام ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' لست من
دد ولا الدد مني ' أي اللعب ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' ما ألهاك عن ذكر الله فهو
ميسر ' وهذا اللعب مما يلهي عن الجمع والجماعات فيكون حراما . وعن علي رضي الله عنه
أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فلم يسلم عليهم وقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عاكفون ؟ . وعن ابن عمر مثله . ولم ير أبو حنيفة بأسا بالسلام عليهم ليشغلهم عن اللعب ،(4/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
وكرها ذلك استحقارا بهم وإهانة لهم . والجوز الذي يلعب به الصبيان يوم العيد يؤكل إن لم
يكن على سبيل المقامرة ، لما روي أن ابن عمر كان يشتري الجوز لصبيانه يوم الفطر يلعبون
به وكان يأكل منه ، فإن قامروا به حرم .
قال : ( ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام ) سواء كان شعرها أو شعر غيرها لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والموشرة
والنامصة والمتنمصة ' فالواصلة : التي تصل الشعر بشعير الغير ، أو التي توصل شعرها بشعر
آخر زورا ؛ والمستوصلة : التي توصل لها ذلك بطلبها ؛ والواشمة : التي تشم في الوجه
والذراع ، وهو أن تغرز الجلد إبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق ؛ والمستوشمة التي يفعل
بها ذلك ؛ والواشرة التي تفلج أسنانها : أي تحددها وترقق أطرافها تفعله العجوز تتشبه
بالشواب ؛ والموشرة : التي يفعل بها بأمرها ؛ والنامصة التي تنتف الشعر من الوجه ؛
والمتنمصة : التي يفعل بها ذلك .
قال : ( ويكره أن يدعو الله إلا به ) فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك
ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق ( أو يقول في دعائه : أسألك بمقعد العز من
عرشك ) وعن أبي يوسف أنه يجوز ، فقد جاء في الأثر : اللهم إني أسألك بمقعد العز من
عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك ، وباسمك الأعظم وكلماتك التامة . ووجه الظاهر أنه يوهم
تعلق عزه بالعرش ، وصفات الله تعالى جميعها قديمة بقدمه ، فكان الاحتياط في الإمساك
عنه ، وما رواه خبر آحاد لا يترك به الاحتياط .
( ورد السلام فريضة على كل من سمع السلام إذا قام به بعض القوم سقط عن الباقين ،
والتسليم سنة ) والرد فريضة لأن الامتناع عن الرد إهانة بالمسلم واستخفاف به وأنه حرام
( وثواب المسلم أكثر ) قال عليه الصلاة والسلام : ' للبادي من الثواب عشرة ، وللرد واحدة '
ولا يصح الرد حتى يسمعه المسلم ، لأنه إنما يكون جوابا إذا سمعه المخاطب إلا أن يكون
أصم فينبغي أن يرد عليه بتحريك شفته ؛ وكذلك تشميت العاطس ؛ ولو سلم على جماعة
فيهم صبي فرد الصبي إن كان لا يعقل لا يصح ، وإن كان يعقل هل يصح ؟ فيه اختلاف ،
ويجب على المرأة رد سلام الرجل ولا ترفع صوتها لأنه عورة ، وإن سلمت عليه ؛ فإن كانت
عجوزا رد عليها ، وإن كانت شابة رد في نفسه ؛ وعلى هذا التفصيل تشميت الرجل المرأة(4/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
وبالعكس ؛ ولا يجب رد سلام السائل لأنه ليس للتحية بل شعار السؤال ؛ ومن بلغ غيره
سلام غائب ينبغي أن يرد عليهما .
وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : يا رسول الله إن أبي يسلم عليك .
قال : عليك وعلى أبيك السلام ' ولا ينبغي أن يسلم على من يقرأ القرآن لأنه يشغله عن
قراءته ، فإن سلم عليه يجب عليه الرد لأنه فرض والقراءة لا . وذكر الرازي في أدب القضاء
أن من دخل على القاضي في مجلس حكمه وسعه أن يترك السلام عليه هيبة له واحتشاما .
وبهذا جرى الرسم أن الولاة والأمراء إذا دخلوا عليهم لا يسلمون . وإليه مال الخصاف .
وعلى الأمير أن يسلم ولا يترك السنة لتقليد العمل . وإن جلس ناحية من المسجد للحكم لا
يسلم على الخصوم ولا يسلمون عليه ، لأنه جلس للحكم والسلام تحية الزائرين ، فينبغي أن
يشتغل بما جلس لأجله كالذي يقرأ القرآن ، وإن سلموا لا يجب عليه الرد ، وعلى هذا من
جلس يفقه تلامذته ويقرئهم القرآن فدخل عليه داخل فسلم وسعه أن لا يرد ، لأنه إنما جلس
للتعليم لا لرد السلام .
قال : ( ويكره السلام على أهل الذمة ) لما فيه من تعظيمهم وهو مكروه ، وإذا اجتمع
المسلمون والكفار يسلم عليهم وينوي المسلمين ، ولو قال : السلام على من اتبع الهدى
يجوز ( ولا بأس برد السلام على أهل الذمة ) لأن الامتناع عنه يؤذيهم والرد إحسان وإيذاؤهم
مكروه والإحسان بهم مندوب ، ولا يزيد في الرد على قوله : وعليكم ، فقد قيل إنهم
يقولون : السام عليكم ، فيجابون بقوله وعليكم ، وهكذا نقل عليه الصلاة والسلام أنه رد
عليهم ، ولا بأس بعيادتهم اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأن فيه برهم وما نهينا عنه ؛ ولو
قال للذمي : أطال الله بقاءك ، إن نوى أنه يطيله ليسلم أو ليؤدي الجزية جاز لأنه دعاء
بالإسلام ، وإلا لا يجوز ( ومن دعاه السلطان أو الأمير ليسأله عن أشياء لا ينبغي أن يتكلم
بغير الحق ) قال عليه الصلاة والسلام : ' من تكلم عند ظالم بما يرضيه بغير حق يغير الله قلب
الظالم عليه ويسلطه عليه ' أما إذا خاف القتل أو تلف بعض جسده أو أن يأخذ ماله ، فحينئذ
يسعه ذلك لأنه مكره .(4/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
قال : ( واستماع الملاهي حرام ) كالضرب بالقضيب والدف والمزمار وغير ذلك . قال
عليه الصلاة والسلام : ' استماع صوت الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها من
الكفر ' الحديث خرج مخرج التشديد وتغليظ الذنب ، فإن سمعه بغتة يكون معذورا ، ويجب
أن يجتهد أن لا يسمعه لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام أدخل أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع
صوت الشبابة ' . وعن الحسن بن زياد : لا بأس بالدف في العرس ليشتهر ويعلن
النكاح . وسئل أبو يوسف أيكره الدف في غير العرس تضربه المرأة للصبي في غير فسق ؟
قال : لا ، فأما الذي يجيء منه الفاحش للغناء فإني أكرهه . وقال أبو يوسف : في دار يسمع
منها صوت المزامير والمعازف أدخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض ، ولو لم
يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة هذا الفرض . رجل أظهر الفسق في داره ينبغي
للإمام أن يتقدم عليه ، فإن كف عنه وإلا إن شاء حبسه أو ضربه سياطا ، وإن شاء أزعجه من
داره . ومن رأى منكرا وهو ممن يرتكبه يلزمه أن ينهى عنه ، لأنه يجب عليه ترك المنكر
والنهي عنه ، فإذا ترك أحدهما لا يسقط عنه الآخر ؛ والمغني والقوّال والنائحة أن أخذ المال
بغير شرط يباح له ، وإن كان بشرط لا يباح لأنه أجر على معصية .
قال : ( ويكره تعشير المصحف ونقطه ) لقول ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله
عنهم : جردوا المصاحف ، ويروى : جردوا القرآن ، والنقط والتعشير ليس من القرآن فيكون
منهيا عنه . قال : ( ولا بأس بتحليته ) لأنه تعظيم له ( ولا بأس بنقش المسجد ) وقيل هو قربة
حسنة ، وقيل مكروه والأول أصح لأنه تعظيم له . وأما التجصيص فحسن لأنه إحكام للبناء ،
ويكره للزينة على المحراب لما فيه من شغل قلب المصلي بالنظر إليه ، إذا جعل البياض فوق
السواد أو بالعكس للنقش لا بأس به إذا فعله من مال نفسه ولا يستحسن من مال الوقف لأنه
تضييع ، وتكره الخياطة وكل عمل من أعمال الدنيا في المسجد لأنه ما بني لذلك ولا وقف
له ، قال تعالى : ) في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ( [ النور : 6 ] والجلوس فيه
ثلاثة أيام للتعزية مكروه ، وقد رخص ذلك في غير المسجد ، ولو جلس للعلم أو الناسخ
يكتب في المسجد لا بأس به إن كان حسبة ، ويكره بالأجر إلا عند الضرورة بأن لا يجد
مكانا آخر وكانوا يكرهون غلق باب المسجد ولا بأس به في زماننا في غير أوقات الصلاة
لفساد أهل الزمان فإنه لا يؤمن على متاع المسجد .
قال : ( ولا بأس بدخول الذمي المسجد الحرام أو غيره من المساجد ) لما روي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم )(4/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا كفارا وقال : ليس على الأرض من نجسهم شيء '
وتأويل الآية أنهم لا يدخلون مستولين أو طائفين عراة كما كانت عادتهم .
فصل
( والسنة : تقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة والشارب ، وقصه أحسن ) وهذه من
سنن الخليل صلوات الله عليه ، وفعلها نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر بها ، وقيل أول من قص الشارب
واختتن وقلم الأظفار ورأى الشيب إبراهيم عليه السلام . قال الطحاوي في شرح الآثار : قص
الشارب حسن ، وهو أن تأخذ حتى ينتقص عن الإطار وهو الطرف الأعلى من الشفة العليا .
قال : والحلق سنة وهو أحسن من القص وهو قول أصحابنا . قال عليه الصلاة والسلام :
' أحفوا الشارب وأعفوا اللحى ' والإحفاء الاستئصال ، وإعفاء اللحى ، قال محمد عن أبي
حنيفة : تركها حتى تكثّ وتكثر والتقصير فيها سنة ، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد على
قبضته قطعه لأن اللحية زينة وكثرتها من كمال الزينة وطولها الفاحش خلاف للسنة ؛ والسنة
النتف في الإبط ولا بأس بالحلق ، ويبتدئ في حلق العانة من تحت السرة ؛ وإذا قص
أظفاره أو حلق شعره ينبغي أن يدفنه ، قال تعالى : ) ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا (
[ المرسلات : 25 و 26 ] وإن ألقاه فلا بأس به ، ويكره إلقاؤه في الكنيف والمغتسل ، قالوا :
لأنه يورث المرض .
وتوفير الأظفار والشارب مندوب إليه في دار الحرب ليكون أهيب في عين العدو ،
والأظافير سلاح عند عدم السلاح ، والختان للرجال سنة وهو من الفطرة ، وهو للنساء
مكرمة ، فلو اجتمع أهل مصر على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام
وخصائصه . واختلفوا في وقته ، قيل حتى يبلغ ، وقيل إذا بلغ تسع سنين ، وقيل عشرا ، وقيل
متى كان يطيق ألم الختان ختن وإلا فلا ، ولو ولد وهو يشبه المختون لا يقطع منه شيء حتى
يكون ما يواري الحشفة ، ولا بأس بثقب أذن البنات الأطفال لأنه إيلام لمنفعة الزينة وإيصال
الألم إلى الحيوان لمصلحة تعود إليه جائز كالختان والحجامة وبط القرحة وقد فعل ذلك
في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينكر عليهم . امرأة حامل اعترض الولد في بطنها ولا يمكن(4/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
استخراجه إلا بأن يقطع ويخاف على الأم ، إن كان ميتا لا بأس به ، وإن كان حيا لا يجوز .
امرأة ماتت وهي حامل فاضطرب الولد في بطنها ، فإن كان أكبر الرأي أنه حي يشق بطنها من
الجانب الأيسر ، لأنه تسبيب إلى إحياء نفس محترمة . عن محمد رجل ابتلع درة أو دنانير
لرجل ومات ولم يترك مالا لا يشق بطنه وعليه قيمته لأنه لا يجوز إبطال حرمة الآدمي لصيانة
المال . وروى الجرجاني عن أصحابنا أنه يشق لأن حق العبد مقدم على حق الله تعالى ومقدم
على حق الظالم المتعدي . امرأة عالجت في إسقاط ولدها لا تأثم ما لم يستبن شيء من
خلفه . شاة دخل قرنها في قدر وتعذر إخراجه ينظر أيهما أكثر قيمة يؤخر بدفع قيمة الآخر
فيملكه ثم يتلف أيهما شاء . ويكره تعليم البازي وغيره من الجوارح بالطير الحي يأخذه
فيعذبه ، ولا بأس بتعليمه بالمذبوح .
قال : ( ولا بأس بدخول الحمام للرجال والنساء إذا اتزر وغض بصره ) لما فيها من معنى
النظافة والزينة وتوارث الناس ذلك من غير نكير . وغمز الأعضاء في الحمام مكروه لأنه عادة
المترفين والمتكبرين إلا من عذر ألم أو تعب فلا بأس به ؛ ويكره القعود على القبور لورود
النهي عنه ؛ ويكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيته لأنه من عادة الجاهلية كانوا يفعلونه
تعظيما له . أما إذا أشار إليه ليريه صاحبه فلا بأس به ، ولا يحمل الخمر إلى الخل ويحمل
الخل إليها ، ولا تحمل الجيفة إلى الهرة وتحمل الهرة إليها ، ولا يحمل سراج المسجد إلى
بيته ، ولا بأس بحملها من البيت إلى المسجد ، ولا يقود أباه النصراني إلى البيعة ويقوده من
البيعة إلى البيت ؛ وتستحب القيلولة وذلك بن المنجلين ، قال عليه الصلاة والسلام : ' قيلوا
فإن الشيطان لا يقيل ' . رجل يختلف إلى أهل الظلم والشر ليدفع عنه ظلمه وشره إن كان
مشهورا ممن يقتدي به كره له ذلك ، لأن الناس يظنون أنه يرضى بأمره ، فيكون مذلة لأهل
الحق ؛ وإن لم يكن مشهورا لا بأس به إن شاء الله تعالى .
فصل
( تجوز المسابقة على الأقدام والخيل والبغال والحمير والإبل وبالرمي ) والأصل فيه(4/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ' لا سبق إلا في خف أو نصل أو
حافر ' والمراد بالخف الإبل ، وبالنصل الرمي ، وبالحافر الفرس والبغل والحمار . وعن
الزهري قال : كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الخيل والركاب
والأرجل ، ولأنه مما يحتاج إليه في الجهاد للكر والفر ، وكل ما هو من أسباب الجهاد فتعلمه
مندوب إليه وكانت العضباء ناقة رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تسبق ، فجاء أعرابي على
قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' ما رفع الله شيئا إلا
وضعه ' وفي الحديث ' تسابق رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر فسبق رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصلى أبو بكر وثلث عمر ' وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' لا تحضر الملائكة شيئا من الملاهي
سوى النصال والرهان ' أي الرمي والمسابقة .
قال : ( فإن شرط فيه جعل من أحد الجانبين أو من ثالث لأسبقهما فهو جائز ) وذلك
مثل أن يقول أحدهما لصاحبه : إن سبقتني أعطيتك كذا ، وإن سبقتك لا آخذ منك شيئا ، أو
يقول الأمير لجماعة فرسان من سبق منكم فله كذا ، وإن سبق فلا شيء عليه ؛ أو يقول
لجماعة الرماة : من أصاب الهدف فله كذا ، وإنما جاز في هذين الوجهين لأنه تحريض على
تعليم آلة الحرب والجهاد ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' المؤمنون عند شروطهم ' وفي
القياس لا يجوز لأنه تعليق المال بالخطر .
قال : ( وإن شرط من الجانبين فهو قمار ) وأنه حرام ( إلا أن يكون بينهما محلل بفرس
كفء لفرسيهما يتوهم سبقه لهما ، إن سبقهما أخذ منهما ، وإن سبقاه لم يعطهما ، وفيما
بينهما أيهما سبق أخذ من صاحبه ) وإنما جاز ذلك لأنه بالمحلل خرج عن أن يكون قمارا
فيجوز لما ذكرنا ، وقيل في المحلل أن يكون إن سبقاه أعطاهما ، وإن سبقهما لم يأخذ منهما
وهو جائز أيضا لما ذكرنا ، ولو لم يكن فرس المحلل مثلهما لا يجوز لأنه لا فائدة في
إدخاله بينهما فلا يخرج من أن يكون قمارا .(4/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
قال : ( وعلى هذا التفصيل إذا اختلف فقيهان في مسألة وأرادا الرجوع إلى شيخ وجعلا
على ذلك جعلا ) لأنه لما جاز في الأفراس لمعنى يجع إلى الجهاد يجوز هنا للحث على
الجهد في طلب العلم ، لأن الدين يقوم بالعلم كما يقوم بالجهاد ، والمسابقة بالخيل للرياضة
ما لم يتعبهما مندوب إليه ، وكذلك على الأقدام والرمي ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله
تعالى يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة : صانعه ومنبله والرامي به ' رواه عقبة بن عامر
الجهني ؛ ونخس الدابة وركضها للجهاد وغيره من غرض صحيح لا بأس به ، وللتلهي
مكروه ، وركض الدابة بتكلف للعرض على المشتري مكروه لأنه يغر بالمشتري . وفي
الحديث ' تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار ' فإن العثار يكون من سوء إمساك
الراكب للجام ؛ والنفار من سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك . وعن عمر رضي الله عنه أنه
كتب إلى سعد بن أبي وقاص : لا تخصين فرسا ولا تجرين فرسا ، ومعناه أن صهيل
الفرس يرهب العدو ، والخصي يمنعه لا أنه حرام لأنهم تعارفوه من لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى
يومنا من غير نكير ، ويجوز شراء الخصي من الخيل وركوبه بالاتفاق ؛ ومعنى النهي الثاني
إجراء الفرس فوق ما يحتمله .
فصل في الكسب
قال محمد بن سماعة : سمعت محمد بن الحسن يقول : طلب الكسب فريضة كما أن
طلب العلم فريضة ، وهذا صحيح لما روى ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
' طلب الكسب فريضة على كل مسلم ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' طلب الكسب بعد
الصلاة المكتوبة ' أي الفريضة بعد الفريضة ، ولأنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به فكان
فرضا لأنه لا يتمكن من أداء العبادات إلا بقوة بدنه وقوة بدنه بالقوت عادة وخلقة . قال
تعالى : ) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون ( [ الأنبياء : 8 ] وتحصيل القوت بالكسب ولأنه
يحتاج في الطهارة إلى آلة الاستقاء والآنية ، ويحتاج في الصلاة إلى ما يستر عورته ، وكل
ذلك إنما يحصل عادة بالاكتساب والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يكتسبون ، فآدم زرع(4/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
الحنطة وسقاها وحصدها وداسها وطحنها وعجنها وخبزها وأكلها ؛ ونوح كان نجارا ،
وإبراهيم كان بزازا ، وداود كان يصنع الدروع ، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص ،
وزكريا كان نجارا ، ونبينا رعي الغنم ، وكانوا يأكلون من كسبهم ، وكان الصديق رضي الله
عنه بزازا ، وعمر يعمل في الأديم ، وعثمان كان تاجرا يجلب الطعام فيبيعه ، وعلي كان
يكتسب فقد صح أنه كان يؤاجر نفسه ، ولا تلتفت إلى جماعة أنكروا ذلك وقعدوا في
المساجد أعينهم طامحة وأيديهم مادة إلى ما في أيدي الناس يسمون أنفسهم المتوكلة ،
وليسوا كذلك ، يتمسكون بقوله تعالى : ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( [ الذاريات : 22 ]
وهم بمعناه وتأويله جاهلون ، فإن المراد به المطر الذي هو سبب إنبات الرزق ، ولو كان
الرزق ينزل علينا من السماء لما أمرنا بالاكتساب والسعي في الأسباب ، قال تعالى : ) فامشوا
في مناكبها وكلوا من رزقه ( [ الملك : 15 ] وقال تعالى : ) أنفقوا من طيبات ما كسبتم (
[ البقرة : 267 ] .
وفي الحديث ' إن الله تعالى يقول : يا عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق ' وقال
تعالى : ) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( [ مريم : 25 ] وكان تعالى قادرا
أن يرزقها من غير هز منها ، لكن أمرها ليعلم العباد أن لا يتركوا اكتساب الأسباب ، فإن الله
تعالى هو الرزاق ونظير هذا خلق الإنسان ، فإن الله تعالى قادر على خلقه لا من سبب ولا
في سبب كآدم عليه السلام ، ويخلق من سبب لا في سبب كحواء ، وقد يخلق في سبب لا
من سبب كعيسى ، وقد يخلق من سبب في سبب كسائر بني آدم ؛ فطلب العبد الولد بالنكاح
لا ينفي كون الخالق هو الله تعالى ، فكذلك طلبه الرزق بأسبابه لا ينفي كون الرازق هو الله
تعالى ، والدلائل على ذلك كثيرة والأحاديث الواردة فيه متوافرة ، وكتابنا هذا يضيق عن
استيعابها ، وفي هذا بلاغ ومقنع .
وطلب العلم فريضة ، قال عليه الصلاة والسلام : ' طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة ' وهو أقسام : فرض ، وهو مقدار ما يحتاج إليه لإقامة الفرائض ومعرفة الحق من
الباطل ، والحلال من الحرام ، وهو محمل الحديث ؛ ومستحب وقربة كتعليم ما لا يحتاج إليه
ليعلم من يحتاج إليه كالفقير يتعلم أحكام الزكاة والحج ليعلمها من وجبا عليه ، وكذلك تعلم
الفضائل والسنن كالأذان والإقامة والجماعة وسنة الختان ونحوها ، ومباح وهو الزيادة على
ذلك للزينة والكمال ؛ ومكروه وهو التعلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ، قال عليه
الصلاة والسلام : ' من تعلم علما ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ألجم بلجام من نار يوم(4/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
القيامة ' ولذلك كره أبو حنيفة تعلم الكلام والمناظرة فيه وراء قدر الحاجة . والتعليم بقدر
ما يحتاج إليه لإقامة الفرض فرض أيضا .
قال عليه الصلاة والسلام : ' من سئل عن علم عنده احتاج الناس إليه فكتمه ألجم يوم
القيامة بلجام من نار ' حتى قالوا : يجب على المولى أن يعلم عبده من القرآن والعلم بقدر
ما يحتاج إليه لأداء الفرائض ، ويفترض العلماء تعليمه إلى أن يفهم المتعلم ويحفظه ويضبطه ،
لأنه لا يتمكن من إقامة الفرائض إلا بالحفظ ؛ ولا يجب على الفقيه أن يجيب عن كل ما
يسأل إذا كان هناك من يجيب غيره ، فإن لم يكن يلزم الجواب ، لأن الفتوى والتعليم فرض
كفاية .
قال : ( وأفضل أسباب الكسب : الجهاد ) لأن فيه الجمع بين حصول الكسب وإعزاز
الدين وقهر عدو الله تعالى ( ثم التجارة ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث عليها فقال :
' التاجر الصدوق مع الكرام البررة ' وقال : ' إن الله يحب التاجر الصدوق ' ( ثم الزراعة )
وأول من فعله آدم عليه السلام ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' الزارع يتاجر به ' وقال :
' اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض ' ( ثم الصناعة ) لأنه عليه الصلاة والسلام حرض عليها
فقال : الحرفة أمان من الفقر ' ومنهم من فضل الزرع على التجارة لأنه أعم نفعا ، قال عليه
الصلاة والسلام : ' ما زرع أو غرس مسلم شجرة فتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت
له صدقة ' .
( ثم هو ) أنواع : ( فرض ، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ) لما بينا
أنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به وهو قضاء الدين ونفقة من يجب عليه نفقته ، فإن ترك
الاكتساب بعد ذلك وسعه . قال عليه الصلاة والسلام : ' من أصبح آمنا في سربه معافى في
جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ' وإن اكتسب ما يدخره لنفسه
وعياله فهو في سعة ، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام ادخر قوت عياله سنة .
( ومستحب ، وهو الزيادة على ذلك ليواسي به فقيرا ، أو يجازي به قريبا ) فإنه أفضل من(4/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
التخلي لنفل العبادة ، لأن منفعة النفل تخصه ومنفعة الكسب له ولغيره ، وقال عليه الصلاة
والسلام : ' خير الناس من ينفع الناس ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' تباهت العبادات فقالت
الصدقة أنا أفضلها ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' الناس عيال الله في الأرض وأحبهم إليه
أنفعهم لعياله ' .
( ومباح ، وهو الزيادة للتجمل والتنعم ) قال عليه الصلاة والسلام : ' نعم المال الصالح
للرجل الصالح ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى
ووجهه كالقمر ليلة البدر ' . ( ومكروه ، وهو الجمع للتفاخر والتكاثر والبطر والأشر وإن كان
من حل ) فقد قال عليه الصلاة والسلام : ' من طلب الدنيا مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو
عليه غضبان ' .
ثم اعلم أن الله تعالى خلق بني آدم خلقا لا قوام له إلا بالأكل والشرب واللباس ، وكل
منها ينقسم إلى : مباح ، ومحظور وغيرهما ، وأنا أبينه بتوفيق الله تعالى ( أما الأكل فعلى
مراتب : فرض ، وهو ما يندفع به الهلاك ) لأنه لإبقاء البينة ، إذ لا بقاء لها بدونه وبه يتمكن
من أداء الفرائض على ما مر ويؤجر على ذلك ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله ليؤجر في
كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه ' فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى ،
لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة ، وأنه منهي عنه في محكم التنزيل . قال : ( ومأجور عليه ،
وهو ما زاد عليه ليتمكن من الصلاة قائما ويسهل عليه الصوم ) قال عليه الصلاة والسلام :
' المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ' ولأن الاشتغال بما يتقوى به
على الطاعة طاعة . وسئل أبو ذر رضي الله عنه عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة وأكل الخبز
إشارة إلى ما قلنا .
قال : ( ومباح ، وهو ما زاد على ذلك إلى الشبع لتزداد قوة البدن ) ولا أجر فيه ولا
وزر ، ويحاسب عليه حسابا يسيرا إن كان من حل ، فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام
أتي بعرق فيه تمر ورطب فقال : ' إنكم لتحاسبون في هذا ' فرفعه عمر ورفضه وقال : أفي هذا(4/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
نحاسب ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ' إي والله والذي نفسي بيده إنكم لتحاسبون يوم القيامة
في الماء البارد والماء الحار إلا خرقة تستر بها عورتك ، وكسرة خبز ترد بها جوعتك ، وشربة
ماء تطفئ بها عطشك ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه
ولا يلام على كفاف ' .
قال : ( وحرام ، وهو الأكل فوق الشبع ) لأنه إضاعة للمال وإمراض للنفس ولأنه تبذير
وإسراف وقال عليه الصلاة والسلام : ' ما ملأ ابن أدم وعاء أشر من البطن ، فإن كان لا بد
فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس ' وتجشأ رجل في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فغضب
عليه وقال : ' نح عنا جشاك ، أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في
الدنيا ؟ ' وقيل لعمر : ألا تتخذ جوارشا ؟ فقال : وما يكون الجوارش ؟ قالوا : هاضوما يهضم
الطعام ، قال : سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع ؟ . قال : ( إلا إذا قصد التقوي على صوم
الغد ) لأن فيه فائدة ( أو لئلا يستحي الضيف ) لأنه إذا أمسك والضيف لم يشبع ربما استحى
فلا يأكل حياء وخجلا ، فلا بأس بأكله فوق الشبع لئلا يكون ممن أساء القري وهو مذموم
عقلا وشرعا . قال : ( ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء الفرائض ) قال
عليه الصلاة والسلام : ' إن نفسك مطيتك فارفق بها ' وليس من الرفق أن يجيعها ويذيبها ،
ولأن ترك العبادة لا يجوز فكذا ما يفضي إليه ، فأما تجويع النفس على وجه لا يعجز عن
أداء العبادات فهو مباح وفيه رياضة النفس وبه يصير الطعام مشتهى بخلاف الأول فإنه إهلاك
للنفس ؛ وكذا الشاب الذي يخاف الشبق لا بأس بأن يمتنع عن الأكل ليكسر شهوته بالجوع
على وجه لا يعجز عن أداء العبادات على ما قال عليه الصلاة والسلام : ' فإنه له وجاء ' .
قال : ( ومن امتنع من أكل الميتة حالة المخمصة ، أو صام ولم يأكل حتى مات أثم )
لأنه أتلف نفسه لما بينا أنه لا بقاء له إلا بأكل ، والميتة حالة المخمصة إما حلال أو مرفوع
الإثم فلا يجوز الامتناع عنه إذا تعين لإحياء النفس . وروي ذلك عن مسروق وجماعة من
العلماء والتابعين ، وإذا كان يأثم بترك أكل الميتة فما ظنك بترك الذبيحة وغيرها من الحالات(4/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
حتى يموت جوعا . قال : ( ومن امتنع من التداوي حتى مات لم يأثم ) لأنه لا يقين بأن هذا
الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج . قال : ( ولا بأس بالتفكه بأنواع الفواكه ) لقوله تعالى :
) كلوا من طيبات ما رزقناكم ( [ البقرة : 57 ] وفيه نزل قوله تعالى : ) لا تحرموا طيبات ما
أحل الله لكم ( [ المائدة : 87 ] . قال : ( وتركه أفضل ) لئلا تنقص درجته ، ويدخل تحت قوله
تعالى : ) أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ( [ الأحقاف : 20 ] .
قال : ( واتخاذ ألوان الأطعمة والباجات ، ووضع الخبز على المائدة أكثر من الحاجة
سرف ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام عده من أشراط الساعة . وعن عائشة : أن النبي عليه
الصلاة والسلام نهى عن ذلك إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم حتى
يأتوا على آخره لأن فيه فائدة . ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه ، أو يأكل ما
انتفخ منه ويترك الباقي لأن فيه نوع تجبر إلا أن يكون غيره يتناوله فلا بأس به كما إذا اختار
رغيفا دون رغيف .
قال : ( ووضع المملحة على الخبز ، ومسح الأصابع والسكين به مكروه ولكن يترك
الملح على الخبز ) لأن غيره يستقذر ذلك وفيه إهانة بالخبز وقد أمرنا بإكرامه . وقال عليه
الصلاة والسلام : ' أكرموا الخبز فإنه من بركات السموات والأرض ' . قال عليه الصلاة
والسلام : ' ما استخف قوم بالخبز إلا ابتلاهم الله بالجوع ' . ومن إكرام الخبز أن لا ينتظروا
الإدام إذا حضر . ومن الإسراف إذا سقطت من يده لقمة أن يتركها . قال عليه الصلاة
والسلام : ' ألق عنها الأذى ثم كلها ' .
قال : ( وسنن الطعام : البسملة في أوله والحمدلة في آخره ) فإن نسي البسملة في أوله
فليقل إذا ذكر : بسم الله على أوله وآخره ، بجميع ذلك ورد الأثر ، وهو شكر المؤمن إذا
رزق ، قال عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى يرضى من عبده المؤمن إذا قدم إليه طعام أن(4/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
يسمي الله في أوله ويحمد الله في آخره ' قال : ( وغسل اليدين قبله وبعده ) قال عليه الصلاة
والسلام : ' الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ' والمراد بالوضوء هنا غسل
اليدين ، والأدب أن يبدأ بالشباب قبله وبالشيوخ بعده ، ولا يمسح يده قبل الطعام بالمنديل
ليكون أثر الغسيل باقيا وقت الأكل ، ويمسحها بعده ليزول أثر الطعام بالكلية . قال :
( ويستحب اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى البيوت ) لحاجة الوضوء والشرب للنساء لأنهن عورة
وقد نهين عن الخروج ، قال تعالى : ) وقرن في بيوتكن ( [ الأحزاب : 33 ] فيلزم الزوج ذلك
كسائر حاجاتها .
وقال : ( واتخاذها من الخزف أفضل ) إذ لا سرف فيه ولا مخيلة . وفي الحديث ' من
اتخذ أواني بيته خزفا زارته الملائكة ' ويجوز اتخاذها من نحاس أو رصاص أو شبه أو أدم ،
ولا يجوز من الذهب والفضة لما مر . قال : ( وينفق على نفسه وعياله بلا سرف ولا تقتير )
ولا يتكلف لتحصيل جميع شهواتهم ، ولا يمنعهم جميعها ويتوسط ، قال تعالى : ) والذين إذا
أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( [ الفرقان : 67 ] ولا يستديم الشبع ، قال
عليه الصلاة والسلام : ' أجوع يوما وأشبع يوما ' .
فالحاصل أنه يحرم على المسلم الإفساد لما اكتسبه والسرف والمخيلة فيه ، قال الله
تعالى : ) ولا تبغ الفساد في الأرض ( [ القصص : 77 ] وقال : ) والله لا يحب الفساد (
[ البقرة : 205 ] . وقال : ) ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( [ الأعراف : 31 ] وقال : ) ولا
تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ( [ الإسراء : 27 ] . قال : ( ومن اشتد جوعه
حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه )
صونا له عن الهلاك ، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو ' . وقال عليه الصلاة والسلام :
' أيما رجل مات ضياعا بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ' وإن أطعمه
واحد سقط عن الباقين ، وكذا إذا رأى لقيطا أشرف على الهلاك أو أعمى كاد أن يتردى في
البئر وصار هذا كإنجاء الغريق .(4/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
قال : ( فإن قدر على الكسب يلزمه أن يكتسب ) لما بينا ( وإن عجز عنه لزمه
السؤال ) فإنه نوع اكتساب لكن لا يحل إلا عند العجز ، قال عليه الصلاة والسلام :
' السؤال آخر كسب العبد ' ( فإن ترك السؤال حتى مات أثم ) لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة ،
فإن السؤال يوصله إلى ما يقوّم به نفسه في هذه الحالة كالكسب ، ولا ذل في السؤال
في هذه الحالة ، فقد أخبر الله تعالى عن موسى وصاحبه أنهما أتيا أهل قرية استطعما
أهلها . وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه : ' هل عندك شيء فآكله ؟ ' . قال :
( ومن كان له قوت يومه لا يحل له السؤال ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من سأل الناس
وهو غني عما يسأل جاء يوم القيامة ومسألته خدوش أو خموش أو كدوح في وجهه '
ولأنه أذل نفسه من غير ضرورة وأنه حرام . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يحل للمسلم
أن يذل نفسه ' .
قال : ( ويكره إعطاء سؤّال المساجد ) فقد جاء في الأثر : ينادى يوم القيامة ليقم بغيض
الله ، فيقوم سؤّال المساجد . ( وإن كان لا يتخطى الناس ولا يمشي بين يدي المصلين لا يكره )
وهو المختار ، فقد روي أنهم كانوا يسألون في المسجد على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى روي
أن عليا رضي الله عنه تصدق بخاتمه في الصلاة فمدحه الله تعالى بقوله : ) ويؤتون الزكاة
وهم راكعون ( [ المائدة : 55 ] وإن كان يمر بين يدي المصلي ويتخطى رقاب الناس يكره ،
لأنه إعانة على أذى الناس حتى قيل : هذا فلس يكفره سبعون فلسا .
قال : ( ولا يجوز قبول هدية أمراء الجور ) لأن الغالب في مالهم الحرمة . قال : ( إلا إذا
علم أن أكثر ماله حلال ) بأن كان صاحب تجارة أو زرع فلا بأس به ، لأن أموال الناس لا
تخلو عن قليل حرام والمعتبر الغالب ، وكذلك أكل طعامهم .
قال : ( ووليمة العرس سنة ) قديمة وفيها مثوبة عظيمة ، قال عليه الصلاة والسلام : ' أو لم
ولو بشاة ' وهي إذا بنى الرجل بامرأته أن يدعو الجيران والأقرباء والأصدقاء ويذبح لهم(4/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
ويصنع لهم طعاما ( وينبغي لمن دعي أن يجيب ، فإن لم يفعل أثم ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ' فإن كان صائما أجاب ودعا ، وإن
لم يكن صائما أكل ودعا ، وإن لم يأكل أثم وجفا لأنه استهزأ بالمضيف ، وقال عليه الصلاة
والسلام : ' لو دعيت إلى كراع لأجبت ' .
قال : ( ولا يرفع منها شيئا ولا يعطى سائلا إلا بإذن صاحبها ) لأنه إنما أذن له في الأكل
دون الرفع والإعطاء . قال : ( ومن دعي إلى وليمة عليها لهو إن علم به لا يجيب ) لأنه لم
يلزمه حق الإجابة . ( وإن لم يعلم حتى حضر إن كان يقدر على منعهم فعل ) لأنه نهي عن
منكر ( وإن لم يقدر فإن كان اللهو على المائدة لا يقعد ) لأن استماع اللهو حرام والإجابة
سنة ، والامتناع عن الحرام أولى من الإتيان بالسنة ( وإن لم يكن على المائدة ، فإن كان مقتدى
به لا يقعد ) لأن فيه شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين ، وما روي عن أبي حنيفة
أنه قال : ابتليت بهذا مرة فصبرت كان قبل أن يصير مقتدى به ( وإن لم يكن مقتدى به
فلا بأس بالقعود ) وصار كتشييع الجنازة إذا كان معها نياحة لا يترك التشييع والصلاة عليها لما
عندها من النياحة كذا هنا .
فصل
( الكسوة : منها فرض ، وهو ما يستر العورة ويدفع الحر والبرد ) قال تعالى : ) خذوا
زينتكم عند كل مسجد ( [ الأعراف : 31 ] أي : ما يستر عوراتكم عند الصلاة ، ولأنه لا
يقدر على أداء الصلاة إلا بستر العورة وخلقه لا يحتمل الحر والبرد فيحتاج إلى دفع
ذلك بالكسوة فصار نظير الطعام والشراب فكان فرضا ( وينبغي أن يكون من القطن(4/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
أو الكتان ) هو المأثور وهو أبعد عن الخيلاء ، وينبغي أن يكون ( بين النفيس والدنيء ) لئلا
يحتقر في الدنيء ، ويأخذه الخيلاء في النفيس . وعن النبي عليه الصلاة والسلام ' أنه نهى عن
الشهرتين ' وهو ما كان في نهاية النفاسة ، وما كان في نهاية الخساسة ، وخير الأمور
أوساطها ؛ وينبغي أن يلبس الغسيل في عامة الأوقات ولا يتكلف الجديد . قال عليه الصلاة
والسلام : ' البذاذة من الإيمان ' وهي رثاثة الهيئة ، ومراده التواضع في اللباس وترك التبجح
به .
( ومستحب : وهو ستر العورة وأخذ الزينة ) قال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله يحب
أن يرى أثر نعمه على عبده ' . ( ومباح : وهو الثوب الجميل للتزين به في الجمع والأعياد
ومجامع الناس ) فقد روي ' أنه عليه الصلاة والسلام كان له جبة فنك يلبسها يوم
عيد ' ، وأهدى له المقوقس قباء مكفوفا بالحرير كان يلبسه للجمع والأعياد ولقاء الوفود '
إلا أن في تكلف ذلك في جميع الأوقات صلفا ومشقة ، وربما يغيظ المحتاجين فالتحرز
عنه أولى .
( ومكروه : وهو اللبس للتكبر والخيلاء ) لما بينا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام
للمقداد بن معد يكرب : ' كل والبس واشرب من غير مخيلة ' . ( ويستحب الأبيض من
الثياب ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' خير ثيابكم البيض ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن
الله تعالى يحب الثياب البيض ، وأنه خلق الجنة بيضاء ' . ( ويكره الأحمر والمعصفر ) ولا
يظاهر بين جبتين أو أكثر في الشتاء إذا وقع الاكتفاء بدون ذلك لأنه يغيظ المحتاجين ، وفيه
تجبر . وكان عمر رضي الله عنه لا يلبس إلا الخشن ؛ واختيار الخشن أولى في الشتاء لأنه
أدفع للبرد ، واللين في الصيف فإنه أنشف للعرق ؛ وإن لبس اللين في الوقتين لا بأس به ،
قال تعالى : ) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ( [ الأعراف : 32 ] . ( والسنة : إرخاء(4/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
طرف العمامة بين كتفيه ) هكذا فعله عليه الصلاة والسلام ، ثم قيل قدر شبر ، وقيل إلى وسط
الظهر ، وقيل إلى موضع الجلوس ( وإذا أراد أن يجدد لفها نقضها كما لفها ) ولا يلقيها على
الأرض دفعة واحدة ، هكذا نقل من فعله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فصل
( الكلام : منه ما يوجب أجرا كالتسبيح والتحميد وقراءة القرآن والأحاديث النبوية وعمل
الفقه ) قال تعالى : ) والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (
[ الأحزاب : 35 ] والآيات والأحاديث كثيرة في ذلك ( وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق
وهو يعمله ) لما فيه من الاستهزاء والمخالفة لموجبه ( وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار ،
وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن ) وكذا من سبح في السوق بنية أن الناس غافلون
مشتغلون بأمور الدنيا وهو مشتغل بالتسبيح ، وهو أفضل من تسبيحه وحده في غير السوق ،
قال عليه الصلاة والسلام : ' ذاكر الله في الغافلين كالمجاهد في سبيل الله ' .
قال : ( ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه ) وكذلك الفقاعي عند فتح الفقاع يقول : لا
إله إلا الله صلى الله على محمد فإنه يأثم بذلك لأنه يأخذ لذلك ثمنا ، بخلاف الغازي أو
العالم إذا كبر عند المبارزة وفي مجلس العلم لأنه يقصد به التفخيم والتعظيم وإشعار شعائر
الدين .
قال : ( ويكره الترجيع بقراءة القرآن والاستماع إليه ) لأنه تشبه بفعل الفسقة حال فسقهم
وهو التغني ولم يكن هذا في الابتداء ، ولهذا كره في الأذان ، وقيل لا بأس به لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' زينوا القرآن بأصواتكم ' وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كره رفع
الصوت عند قراءة القرآن والجنازة والزحف والتذكير ' أي الوعظ ، فما ظنك به عند استماع(4/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
الغناء المحرم الذي يسمونه وجدا ؟ . وكره أبو حنيفة قراءة القرآن عند القبور لأنه لم يصح
عنده في ذلك شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا يكرهه محمد ، وبه نأخذ لما فيه من
النفع للميت لورود الآثار بقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والفاتحة وغير ذلك عند
القبور . . ومذهب أهل السنة والجماعة أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ويصل لحديث
الخثعمية وقد مر في الحج ، ولما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين
أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ' أي جعل ثوابه عن أمته . وروي أن رجلا قال : يا
رسول الله إن أمي افتلتت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : ' نعم ولك ' .
ورفعت امرأة صبيها وقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : ' نعم ولك أجر ' والآثار فيه
كثيرة ، ومنع بعضهم من ذلك وقال : لا يصل متمسكا بقوله تعالى : ) وأن ليس للإنسان إلا
ما سعى ( [ النجم : 39 ] وبقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
ثلاث ' الحديث .
الجواب عن الآية من وجوه : أحدها : أنها سيقت على قوله : ) أم لم ينبأ بما في
صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ( [ النجم : 39 ] فيكون إخبارا عما في شريعتهما فلا
يلزمنا ، كيف وقد روينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلافه ؟ . قال علي رضي الله عنه : هذا
لقوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة لهم ما سعوا وسعى لهم . الثاني أنها منسوخة بقوله
تعالى : ) ألحقنا بهم ذريتهم ( [ الطور : 21 ] أدخل الذرية الجنة بصلاح الآباء ، قاله ابن
عباس . الثالث قال الربيع بن أنس : المراد بالإنسان هنا الكافر ، أما المؤمن له أجر ما سعى
وسعى له . الرابع تجعل اللام بمعنى على وأنه جائز . قال : فخر صريعا لليدين وللفم ، فيصير
كأنه قال : وأن ليس على الإنسان إلا ما سعى فيحمل عليه توفيقا بين الآية والأحاديث ، ولأنه
معنى صحيح لا خلاف فيه ولا يدخله التخصيص . الخامس أنه سعى في جعل ثواب عمله
لغيره فيكون ما سعى عملا بالآية . السادس أن السعي أنواع : منها بفعله وقوله ، ومنها
بسبب قرابته ، ومنها بصديق سعى في خلته ، ومنها بما يسعى فيه من أعمال الخير والصلاح
وأمور الدين التي يحبه الناس بسببها فيدعون له ويجعلون له ثواب عملهم وكل ذلك بسبب
سعيه ، فقد قلنا بموجب الآية فلا يكون حجة علينا . وأما الحديث فإنه يقتضي انقطاع عمله
ولا كلام فيه إنما الكلام في وصول ثواب عمل غيره إليه ، والحديث لا ينفيه ، على أن الناس
عن آخرهم قد استحسنوا ذلك فيكون حسنا بالحديث .
قال : ( ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك : قم واقعد وأكلت وشربت ونحوه ) لأنه(4/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
ليس بعبادة ولا معصية ، ثم قيل لا يكتب لأنه لا أجر عليه ولا عقاب . وعن محمد ما يدل
عليه ، فقد روي عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لا تكتب إلا ما
كان فيه أجر أو وزر ، وقيل يكتب لقوله تعالى : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( [ يس : 12 ]
الآية ، ثم يمحى ما لا جزاء فيه ويبقى ما فيه جزاء ، ثم قيل يمحى في كل اثنين وخميس
وفيهما تعرض الأعمال . والأكثرون على أنها تمحى يوم القيامة . قال : ( ومنه ما يوجب الإثم
كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة ) لأن كل ذلك معصية حرام بالنقل والعقل ( ثم الكذب
محظور إلا في القتال للخدعة ، وفي الصلح بين اثنين ، وفي إرضاء الرجل الأهل ، وفي دفع
الظالم عن الظلم ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : في الصلح
بين اثنين ، وفي القتال ، وفي إرضاء الرجل أهله ' ودفع الظالم عن الظلم من باب الصلح .
قال : ( ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة ) كقولك لرجل كل ، فيقول أكلت : يعني أمس
فلا بأس به لأنه صادق في قصده . وقيل يكره لأنه كذب في الظاهر .
قال : ( ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله ) قال عليه الصلاة والسلام : ' اذكروا
الفاجر بما فيه لكي تحذره الناس ' ( ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره ) لأنه من
باب النهي عن المنكر ومنع الظلم . قال : ( ولا غيبة إلا لمعلومين ، فلو اغتاب أهل قرية
فليس بغيبة ) لأن المراد مجهول فصار كالقذف ، وكره محمد إرخاء الستر على البيت لأنه
نوع تكبر وفيه زينة ، ولا بأس بستر حيطان البيت باللبود ونحوه لدفع البرد لأن فيه منفعة ،
ويكره للزينة وقد مر . قال : ( وإذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة
فلا بأس به ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام تسرّى مارية أم إبراهيم مع ما كان عنده من
الحرائر ، وعلي رضي الله عنه استولد محمد بن الحنفية مع ما كان عنده من الحرائر ؛
والأصل فيه قوله تعالى : ) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ( [ الأعراف : 32 ] الآية .
قال : ( ومن قنع بأدنى الكفاية وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى ) لأن ما عند
الله خير وأبقى .(4/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
واعلم أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذات
رخصة وقد قال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن
تؤتى عزائمه ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ولم أبعث
بالرهبانية الصعبة ' وفي الحديث ' لا يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة : عن
عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيماذا صرفه ؟ ' والذي
يجب على المسلم أن يتمسك بخصال : منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما
بطن ؛ ومنها المحافظة على أداء الفرائض في أوقاتها بواجباتها تامة كما مر بها ؛ ومنها التحرز
عن السحت واكتساب المال من غير حله ؛ ومنها التحرز عن ظلم كل مسلم أو معاهد ، وما
عدا ذلك فقد وسع الله تعالى علينا الأمر فيه ، فلا نضيقه علينا ولا على أحد من المسلمين .
وفي الحديث ' أن النبي عليه الصلاة والسلام وعظ الناس يوما وذكر القيامة ، فرقّ له
الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون ، وهم أبو بكر وعلي وابن مسعود
وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان
الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويلبسوا المسوح
ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا
النساء والطيب ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم : ' ألم أنبأ أنكم
اتفقتم على كذا وكذا ؟ ' قالوا : بلى وما أردنا إلا خيرا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' إني لم
آمر بذلك ' ، ثم قال : ' إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم
وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ' . ثم
خطب فقال : ' ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا ، أما إني
لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ
الصوامع ، فإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ،
وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ،
فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، ونزل قوله تعالى :
) يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( [ المائدة : 87 ] - إلى قوله : -
) واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( [ المائدة : 88 ] .
تم الجزء الرابع من ' الاختيار لتعليل الأخبار
ويليه : الجزء الخامس ، وأوله : كتاب الصيد .(4/194)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيد
وهو مصدر صاد يصيد وينطلق على المفعول ، يقال : صيد الأمير ، وصيد كثير ، ويراد
به المصيود ، وينشد :
صيد الملوك أرانب وثعالب
ومثله الخلق والعلم ينطلق على المخلوق والمعلوم . قال تعالى : ) هذا خلق الله (
[ لقمان : 11 ] أي مخلوقه ، ولهذا قلنا إذا قال : وعلم الله لا يكون يمينا لأن المراد معلومه .
قال : ( وهو جائز بالجوارح المعلّمة والسهام المحددة لما يحل أكله لأكله ، وما لا يحل
أكله لجلده وشعره ) أما الجواز فلقوله تعالى : ) وإذا حللتم فاصطادوا ( [ المائدة : 2 ] وقوله :
) أحل لكم صيد البحر ( [ المائدة : 96 ] الآية . وقوله : ) أحل لكم الطيبات وما علمتم من
الجوارح مكلبين ( [ المائدة : 4 ] . وقوله عليه الصلاة والسلام : ' الصيد لمن أخذه ' وقوله
لعدي بن حاتم : ' إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه فكل ، وإذا رميت سهمك
وذكرت اسم الله عليه فكل ' .(5/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
قال : ( والجوارح ذو ناب من السباع وذو مخلب من الطير ) وهو أن يكون يكتسب بنابه
أو مخلبه ويمتنع به ، لأن المراد من قوله من الجوارح التي تجرح ، وقيل الكواسب .
ومكلبين : أي مسلطين ، واسم الكلب لغة ينطلق على كل سبع حتى للأسد ، فيجوز الاصطياد
بكل ذي ناب من السباع لعموم الآية ، إلا ما كان نجس العين كالخنزير ، لأنه لا يحل الانتفاع
به . ولا يجوز الاصطياد بالأسد والذئب فإنهما لا يتعلمان ، وكذلك الدب حتى لو تعلموا
جاز . وعن أبي حنيفة في ابن عرس : إذا علّم فتعلم جاز .
قال : ( ولا بد فيه من الجرح وكون المرسل أو الرامي مسلما أو كتابيا ، وذكر اسم الله
تعالى عند الإرسال والرمي ، وأن يكون الصيد ممتنعا ، ولا يتوارى عن بصره ، ولا يقعد عن
طلبه ) أما الجرح ليتحقق اسم الجارح ولأنه لا بد من إراقة الدم كالذكاة الاختيارية ، فلو قتله
صدما أو جثما أو خنقا لم يؤكل لعدم الجرح ؛ وأما صفة المرسل فلأنه كالذبح ولا يجوز
ذبح غيرهما ؛ وأما ذكر اسم الله تعالى فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا أرسلت كلبك
وذكرت اسم الله فكل ' شرط التسمية لحل الأكل ؛ وأما كونه ممتنعا فلأن الصيد اسم
للممتنع ، ولأن الجرح إنما جعل ذكاة ضرورة العجز عن الذكاة الاختيارية ، والعجز إنما
يكون في الممتنع حتى لو رمى ظبيا مربوطا وهو يظن أنه صيد فأصاب ظبيا آخر لم يؤكل ،
لأن بالربط لم يبق صيدا ؛ ولو رمى بعيرا نادّا فأصاب صيدا آخر أكل لأنه لما ندّ صار صيدا ؛
وقوله لا يتوارى عن بصره ولا يقعد عن طلبه ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي
وقال : ' لعل هوام الأرض قتلته ' ولأن احتمال الموت بسبب آخر موجود فلا يحل به ،
والموهوم كالمتحقق لما مر ، إلا أنه سقط اعتباره إذا لم يقعد عن طلبه لأنه لا يمكنه الاحتراز
عنه . وفي الحديث ' كل ما أصميت ودع ما أنميت ' أصميت الصيد : إذا رميته فقتلته وأنت
تراه ، وقد صمى الصيد يصمى : إذا مات وأنت تراه ، ورميت الصيد فأنميته إذا غاب عنك ثم
مات ، هكذا فسره صاحب الصحاح .
قال : ( وتعليم ذي الناب كالكلب ونحوه ترك الأكل ، وذي المخلب كالبازي والصقر
ونحوهما الاتباع إذا أرسل والإجابة إذا دعي ) روي ذلك عن ابن عباس ، ولأن التعليم بترك(5/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
العادة الأصلية ، وعادة ذي المخلب النفار ، فإذا أجاب إذا دعي فقد ترك عادته وصار معلما ،
وعادة ذي الناب الافتراس والأكل ، فإذا ترك الأكل فقد ترك عادته فصار معلما ؛ ولأن التعليم
بترك الأكل إنما يكون بالضرب حالة الأكل وجثة الطير لا تحتمل الضرب ، أما الكلب يحتمله
فأمكن تعليمه بالضرب على ذلك ، والفهد ونحوه يحتمل الضرب وعادته الافتراس والنفار ،
فيشترط فيه ترك الأكل والإجابة جميعا .
قال : ( ويرجع في معرفة التعليم إلى أهل الخبرة بذلك ولا تأقيت فيه ) لأن المقادير لا
تعرف اجتهادا بل سماعا ولا سمع فيفوض إلى أهل الخبرة به ، ولأن ذلك يختلف باختلاف
طباعها ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال : لا تأكل أول ما يصيده ولا الثاني وكل
الثالث . وقال أبو يوسف ومحمد : إذا ترك الأكل ثلاث مرات صار معلما ولا يؤكل الثالث ،
لأن العلم لا يثبت بالترك مرة لاحتمال أنه تركه شبعا أو خوفا من الضرب فلا بد من المرات
وأقله ثلاثة لأنها لإبلاء الأعذار ، ولا يؤكل الثالث لأن بعدها حكمنا بكونه عالما ، وعلى
رواية الحسن يؤكل لأن بالثالثة علمنا أنه عالم فكان صيد جارحة معلّمة فيؤكل .
قال : ( فإن أكل أو ترك الإجابة بعد الحكم بتعليمه حكم بجهله وحرم ما بقي من صيده
قبل ذلك ) وقالا : لا يحرم إلا الذي أكل منه لأنا حكمنا بحل صيده قبل ذلك بالاجتهاد فلا
ينقض باجتهاد مثله . وله أن بالأكل علمنا جهله ، لأن الصيد حرفة قلما تنسى ، فلما أكل
علمنا أنه لم يكن عالما فيحرم جميع ما صاده قبل ذلك لأنه صيد كلب غير معلّم ، وتثبت
الحرمة فيما بقي من صيده ، لأن ما أكل لم يبق محلا للحكم ، والاجتهاد يترك بمثله قبل
حصول المقصود وهو الأكل كاجتهاد القاضي إذا تبدل قبل القضاء ، وما كان في المفازة من
صيد فحرام بالإجماع . قال : ( وإن ترك التسمية ناسيا حل ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان ' الحديث .
قال : ( ولو رمى بسهم واحد صيودا ، أو أرسل كلبه على صيود فأخذها أو أحدها ، أو
أرسله إلى صيد فأخذ غيره حل ما دام في جهة إرساله ) لأن المقصود به حصول الصيد
والذبح يقع بالإرسال وهو فعل واحد فيكتفي فيه بتسمية واحدة ، بخلاف من ذبح الشاتين
بتسمية واحدة ، لأن الثانية مذبوحة بفعل آخر فلا بد من تسمية أخرى حتى لو أضجع(5/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
إحداهما فوق الأخرى وذبحهما مرة واحدة أجزأه تسمية واحدة ، ولأن الأخذ مضاف إلى
الإرسال وفي تعيين المشار إليه نوع حرج فلا يعتبر تعيينه ، ولو أرسل الفهد فكمن حتى
استمكن من الصيد فوثب عليه فقتله حل لأن ذلك من عادته ليتمكن من أخذ الصيد ،
وكذا الكلب إذا تعوّد هذه العادة بمنزلة الفهد ، ولو عدل عن الصيد يمنة أو يسرة
وتشاغل في غير طلب الصيد وفتر عن سننه ثم أتبع صيدا فأخذه لم يؤكل لأنه غير
مرسل ، والإرسال شرط بقوله تعالى : ) مكلبين ( [ المائدة : 4 ] أي مسلطين ، فإن زجره
صاحبه فانزجر حل ، لأن الزجر كإرسال مستأنف ، ولو انفلت فصاح به وسمى ، فإن
انزجر بصياحه حل وإلا فلا .
قال : ( ولو أرسله ولم يسم ثم زجره وسمى ، أو أرسله مسلم فزجره مجوسي أو
بالعكس ، فالمعتبر حالة الإرسال ) وكذا لو أرسله مسلم فزجره مرتد أو محرم فانزجر ، وكذا
لو ترك التسمية عامدا ثم زجره مسلم وسمى لم يحل ، لأن الحكم مضاف إلى الإرسال
الأول وبه تسلط وتكلّب وما بعده تقوية للإرسال وتحريض للكلب فيعتبر حالة الإرسال ، فإذا
صدر صحيحا لا ينقلب فاسدا ، وإذا صدر فاسدا لا ينقلب صحيحا بالزجر ، ولو أرسل كلبه
المعلم فرد عليه الصيد كلب غير معلم وغير مرسل فأخذه الأول لم يؤكل ، ولو رده عليه
آدمي أو دابة أو طير أو مجوسي حل ، لأن أخذ الكلب ذبح حكما ولا يصلح أحد هؤلاء
مشاركا إياه في الذبح ، والكلب الجاهل يصلح مشاركا لأنه جارح بنفسه فاجتمع المبيح
والمحرم فيحرم كما لو مد القوس مسلم ومجوسي فأصابا صيدا فإنه يحرم ولو لم يرده عليه
ولكنه شد عليه واتبع أثر المرسل حتى قتله الأول أكل ، لأن الثاني محرض لا مشارك . قال :
( فإن أكل منه الكلب لم يؤكل ) لأنه غير معلم لما بينا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' فإن
أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ' ( ولو شرب دمه أكل ) لأن ذلك غاية التعليم
( ولو أخذ منه قطعة فرماها ثم أخذ الصيد وقتله ثم أكل ما ألقاه أكل ) لأنه لم يبق صيدا ،
حتى لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لا يضره فهذا أولى .
قال : ( فإن أكل منه البازي يؤكل ) وقد مر . قال : ( وإن أدركه حيا لا يحل إلا بالتذكية ،
وكذلك في الرمي ) لأنه قدر على الذكاة الاختيارية فلا تجزئ الاضطرارية لاندفاع الضرورة(5/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
وهذا إذا قدر على ذبحه ، فإن أدركه حيا ولم يتمكن من ذبحه إما لفقد آلة أو لضيق الوقت
وفيه من الحياة فوق حياة المذبوح لم يؤكل . وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يؤكل إذا لم
يقدر على الذكاة حقيقة فصار كالمتيمم إذا وجد الماء ولم يقدر على استعماله ؛ وجه الظاهر
أنه لما قدر عليه وبه حياة لم يبق له حل فلا يحل إلا بالذكاة الاختيارية وهذا إذا كان بحال
يتوهم حياته ؛ أما إذا بقي فيه من الحياة مثل المذبوح أو بقر بطنه وأخرج ما فيها ثم أخذه وبه
حياة فإنه يحل لأنه ميت حكما ، ولهذا لو وقع في هذه الحالة في الماء لا يحرم كما إذا وقع
وهو ميت . وعن أبي حنيفة أنه لا يؤكل أيضا لأنه أخذه حيا فلا يحل إلا بالذكاة الاختيارية ،
فلو أنه ذكّاه حل بالإجماع . قال تعالى : ) إلا ما ذكيتم ( [ المائدة : 3 ] من غير فصل ، وعلى
هذا المتردية والنطيحة والموقوذة والذي بقر الذئب بطنها وفيها حياة خفيفة أو ظاهرة وهو
المختار لما تلونا . وعن محمد إذا كان بحال يعيش فوق ما يعيش المذبوح حل وإلا فلا ، إذ
لا اعتبار بهذه الحياة . وعن أبي يوسف إذا كان بحل لا يعيش مثله لا يحل ، لأن موته لا
يحصل بالذبح .
قال : ( وإن شارك كلبه كلب لم يذكر عليه اسم الله ، أو كلب مجوسي ، أو غير
معلم لم يؤكل ) لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم : ' وإن شارك كلبك كلب آخر
فلا تأكل ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك ' ولأنه اجتمع
المحرم والمبيح فيغلب المحرم المبيح احتياطا . قال : ( ولو سمع حسا فظنه آدميا فرماه ، أو
أرسل عليه كلبه فإذا هو صيد أكل ) لأنه لا اعتبار بظنه مع كونه صيدا حقيقة ، وكذلك لو
ظنه حس صيد فتبين كذلك حل ، لأنه صيد وقد قصده فيحل . وعن أبي يوسف أنه استثنى
الخنزير لشدة حرمته ، حتى لا تثبت إباحة شيء منه ، وغيره من السباع تثبت الإباحة في
جلده ؛ ولو تبين أنه حس آدمي أو حيوان أهلي مما يأوي البيوت لم يؤكل المصاب لأنه
ليس بصيد .
قال : ( وإذا وقع الصيد في الماء ، أو على سطح أو جبل أو سنان رمح ، ثم تردى إلى
الأرض لم يؤكل ) لأنه متردية ، قال عليه الصلاة والسلام لعدي : ' وإن وقعت رميتك في الماء
فلا تأكل ، فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك ' ؟ فقد اجتمع دليلا الحل والحرمة ؛
وكذلك لو وقع على شجرة أو قصبة أو حرف آجرة لاحتمال موته بهذه الأشياء ( ولو وقع(5/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
ابتداء على الأرض أكل ) لأنه لا يمكن الاحتراز عنه ، فلو اعتبرناه محرما انسد باب الصيد ،
فما لا يمكن الاحتراز عنه كالعدم .
قال : ( وفي طير الماء إن أصاب الماء الجرح لم يؤكل ، وإلا أكل ) لإمكان الاحتراز
عن الأول دون الثاني . قال : ( ولا يؤكل ما قتلته البندقة والحجر والعصا والمعراض بعرضه )
لأن ذلك كله في معنى الموقوذة ( فإن خزق المعراض الجلد بحده أكل ) قال عليه الصلاة
والسلام فيه : ' ما أصاب بحده فكل ، وما أصاب بعرضه فلا تأكل ' وإن جرحته الحجر إن
كان ثقيلا لم يؤكل لاحتمال أنه قتله بثقله ، وإن كان خفيفا وبه حد لا يحل لأنه قتلته
بحدها ؛ ولو رماه بها فأبان رأسه أو قطع العروق لا يؤكل ، لأن العروق قد تنقطع بالثقل
فوقع الشك ، ولعله مات قبل قطع العروق ، ولو كان للعصا حد فجرحت يؤكل لأنها بمنزلة
المحدد . فالحاصل أن الموت إن كان بجرح بيقين حل ، وإن كان بالثقل لا يحل ، وكذا إن
وقع الشك احتياطا .
قال : ( وإن رماه بسيف أو سكين فأبان عضوا منه أكل الصيد ) لوجود الجرح في
الصيد وهو ذكاته ( ولا يؤكل العضو ) قال عليه الصلاة والسلام : ' ما أبين من الحي فهو
ميت ' . قال : ( وإن قطعه نصفين أكل ) لأن المبان منه ليس بحي ، إذ لا يتوهم بقاء
حياته . قال : ( وإن قطعه أثلاثا أكل الكل إن كان الأقل من جهة الرأس ) لما تقدم بخلاف
ما إذا كان الأقل مما يلي العجز ، لأنه يتوهم حياته فلا يؤكل ؛ وإن رماه بسيف أو بسكين
فإن جرحه بالحد حل ، وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السيف لا يحل لأنه وقذ لا
جرح ؛ ولو رماه فجرحه وأدماه حل ، وإن لم يدمه لا يحل لأن الإدماء شرط . قال عليه
الصلاة والسلام : ' ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل ' شرط الإنهار ، وقيل يحل لأن الدم
قد ينجس لغلظه وضيق المنفذ ، وعلى هذا إذا علقت الشاة بالعنّاب فذبحت ولم يسل منها(5/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
الدم . وقال بعضهم : إن كانت الجراحة كبيرة حل بدون الإدماء ، وإن كانت صغيرة لا بد
من الإدماء .
قال : ( ومن رمى صيدا فأثخنه ثم رماه آخر فقتله لم يؤكل ) لأن بالإثخان صارت ذكاته
اختيارية فصار بالجرح الثاني ميتة ، وهذا إذا كان بحال ينجو من الرمية الأولى ليكون موته
مضافا إلى الثانية ، وإن كان بحال لا يسلم من الأولى بأن قطع رأسه أو بقر بطنه ونحوه يحل
لأن وجود الثانية كعدمها . قال : ( ويضمن الثاني للأول قيمته غير نقصان جراحته ) لأنه أتلف
عليه صيدا مملوكا له ، لأنه ملكه حيث أثخنه فخرج عن حيز الامتناع فلا يطيق براحا وهو
معيب بالجراحة ، والقيمة تجب عند الإتلاف . قال : ( وإن لم يثخنه الأول أكل ) لأنه صيد
على حاله ( وهو للثاني ) لأنه هو الذي أخذه ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الصيد لمن أخذه ' .(5/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
كتاب الذبائح
وهو جمع ذبيحة ، والذبيحة : المذبوحة ، وكذلك الذبح ، قال الله تعالى : ) وفديناه
بذبح عظيم ( [ الصافات : 107 ] والذبح مصدر ذبح يذبح ، وهو الذكاة أيضا ، قال تعالى :
) إلا ما ذكيتم ( [ المائدة : 3 ] أي ذبحتم ( والذكاة ) نوعان ( اختيارية ، وهي الذبح في الحلق
واللبة ) قال عليه الصلاة والسلام : ' الذكاة ما بين اللبة واللحيين ' أي موضع الذكاة ، وهي قطع
عروق معلومة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى .
قال : ( واضطرارية : وهي الجرح في أي موضع اتفق ) وهي مشروعة حالة العجز عن
الاختيارية ، وذلك مثل الصيد والبعير الناد ، فلو رماه فقتله حل أكله لأن الجرح في غير
المذبح أقيم مقام الذبح عند تعذر الذبح للحاجة ، والبقر والبعير لو ندا في الصحراء أو
المصر بمنزلة الصيد ، وكذلك الشاة في الصحراء ، ولو ندت في المصر لا تحل بالعقر لأنه
يمكن أخذها ، أما البقر والبعير فربما عضه البعير ونطحه البقر فتحقق العجز فيها ؛ والمتردي
في بئر لا يقدر على ذكاته في العروق كالصيد إذ لا يتوهم موته بالماء .
قال : ( وشرطهما التسمية ، وكون الذابح مسلما أو كتابيا ) أما التسمية فلقوله تعالى :
) فاذكروا اسم الله عليها صوافّ ( [ الحج : 36 ] والمراد حالة النحر بدليل قوله : ) فإذا وجبت
جنوبها ( [ الحج : 36 ] أي سقطت بعد النحر ، وما مر من حديث عدي في الصيد وقوله فيه :
' فإنما سميت على كلبك ' فلو تركها عامدا لا تحل ، لقوله تعالى : ) ولا تأكلوا مما لم يذكر(5/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
اسم الله عليه وإنه لفسق ( [ الأنعام : 121 ] ولم ينقل في ذلك خلاف عن الصدر الأول ،
وإنما اختلفوا في متروك التسمية ناسيا ، فالقول بإباحة متروك التسمية عامدا مخالف للإجماع ،
ولهذا قال أصحابنا : إذا قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لأنه قول مخالف للكتاب
والإجماع ، والكتابي فيه كالمسلم ، ولأن ما ذكرنا من النصوص منها أمر بالتسمية ، ومنها
جعلها شرطا لحل الأكل ، وذلك يدل على حرمة المتروك عامدا ؛ وأما كون الذابح مسلما
لقوله تعالى : ) إلا ما ذكيتم ( [ المائدة : 3 ] خطاب للمسلمين ؛ وأما الذمي فلقوله تعالى في
طعام الذين أوتوا الكتاب : ) حل لكم وطعامكم حل لهم ( [ المائدة : 5 ] . وقال عليه الصلاة
والسلام في المجوس : ' سنة بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم '
فدل على حل ذبائح أهل الكتاب ، فإن سمى النصراني المسيح وسمعه المسلم لا يأكل منه ،
ولو قال بسم الله وهو يعني المسيح يأكل منه بناء على الظاهر ، ويشترط أن يكون يعقل
التسمية ويضبطها ويقدر على الذبح ، فتحل ذبيحة المرأة المسلمة والكتابية والصبي إذا قدر
على الذبح ، والمرتد لا ملة له فلا تجوز ذبيحته ، ويجوز صيد المجوسي والمرتد السمك
والجراد لأنه لا ذكاة له فحله غير منوط بالتسمية .
قال : ( فإن ترك التسمية ناسيا حل ) لأن في تحريمه حرجا عظيما ، لأن الإنسان قلما
يخلو عن النسيان فكان في اعتباره حرج . وسئل عليه الصلاة والسلام عمن نسي التسمية على
الذبيحة ، فقال : ' اسم الله على لسان كل مسلم ' ولأن الناسي غير مخاطب بما نسيه
بالحديث فلم يترك فرضا عليه عند الذبح بخلاف العامد .
قال : ( وإن أضجع شاة وسمى فذبح غيرها بتلك التسمية لم تؤكل ، وإن ذبح بشفرة
أخرى أكل ) ولو أخذ سهما وسمى ثم وضعه فأخذه غيره ولم يسم لا يحل ، ولو سمى على
سهم فأصاب صيدا آخر حل ؛ والفرق أن التسمية في الذبح مشروطة على الذبيحة ، قال
تعالى : ) فاذكروا اسم الله عليها صواف ( [ الحج : 36 ] فإذا تبدلت الذبيحة ارتفع حكم
التسمية عليها ؛ وفي الرمي والإرسال التسمية مشروطة على الآلة ، قال عليه الصلاة والسلام :
' إذا رميت سهمك وذكرت اسم الله عليه فكل ' وقال : ' فإنما سميت على كلبك ' فما لم
تتبدل الآلة فالتسمية باقية ، وإذا تبدلت ارتفع حكمها فاحتاج إلى تسمية أخرى .
قال : ( ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى اسم غيره ، وأن يقول : اللهم تقبل من فلان )(5/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
لأن الشرط هو الذكر الخالص ، لقول ابن مسعود : جردوا التسمية ، فإن ذكر اسم غير الله
تعالى مع اسم الله تعالى ؛ فإما إن ذكره موصولا به أو مفصولا ، فإن فصل فلا بأس بأن ذكره
قبل التسمية أو قبل الإضجاع أو بعد الذبيحة لأنه لا مدخل له في الذبيحة . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم )
قال بعد الذبح : ' اللهم تقبل هذه من أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ ' وإن
ذكره موصولا ، فأما إن كان معطوفا أو لم يكن ، فإن كان معطوفا حرمت ، لأنه أهلّ به لغير
الله بأن يقول : باسم الله واسم فلان ، أو باسم الله وفلان ، أو باسم الله ومحمد رسول الله
بكسر الدال ، ولو رفعها لا يحرم لأنه كلام مستأنف غير متعلق بالذبيحة ، وإن كان موصولا
غير معطوف بأن قال : باسم الله محمد رسول الله لا يحرم لأنه لما لم يعطف لم توجد
الشركة فيقع الذبح خالصا لله تعالى إلا أنه يكره لأنه لصورة المحرم من حيث القران في
الذكر ؛ ولو قال عند الذبح : اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء ، ولو قال : الحمد لله أو
سبحان الله ينوي التسمية حل ، والمنقول المتوارث من الذكر عند الذبح : بسم الله الله أكبر ،
وكذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ) فاذكروا اسم الله عليها صواف ( [ الحج : 36 ] .
قال : والسنة نحر الإبل وذبح البقر والغنم ، فإن عكس فذبح الإبل ونحر البقر والغنم
كره ويؤكل ) قال تعالى : ) فصل لربك وانحر ( [ الكوثر : 2 ] قالوا : المراد نحر الجزور .
وقال : ) إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ( [ البقرة : 67 ] وقال : ) وفديناه بذبح عظيم (
[ الصافات : 107 ] والذبح : ما يذبح وكان كبشا ، وهو المتوارث من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة
إلى يومنا هذا ؛ وإنما كره إذا عكس لمخالفته السنة ، ويؤكل لوجود شرط الحل وهو قطع
العروق وإنهار الدم .
قال : ( والعروق التي تقطع في الذكاة : الحلقوم والمريء والودجان ) وقال الكرخي :
الذكاة في الأوداج ، والأوداج أربعة : الحلقوم ، والمريء ، والعرقان اللذان بينهما ، وأصله
قوله عليه الصلاة والسلام : ' أفر الأوداج بما شئت ' وهو اسم جمع فيتناول ثلاثة ، وهو
المريء والودجان ، ولا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فثبت قطع الحلقوم اقتضاء
( فإن قطعها حل الأكل ) لوجود الذكاة ( وكذلك إذا قطع ثلاثة منها ) أي ثلاثة كانت . وقال أبو
يوسف : لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين . وعن محمد أنه يعتبر الأكثر من
كل عرق . وذكر القدوري قول محمد مع أبي يوسف ، وحمل الكرخي قول أبي حنيفة ، وإن(5/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
قطع أكثرها حل على ما قاله محمد والصحيح ما ذكرنا . لمحمد أن الأمر ورد بفري العروق ،
وكل واحد منفصل عن الباقين أصل بنفسه فلا يقوم غيره مقامه ، إلا أنه إذا قطع أكثره فكأنه
قطعة إقامة للأكثر مقام الكل ، ولأن المقصود يحصل بقطع الأكثر ؛ ألا يرى أنه يخرج به ما
يخرج بقطع جميعه ، ولأن الذبح قد يبقى اليسير من العروق فلا اعتبار به . ولأبي يوسف
رحمه الله أن كل واحد منهما يقصد بقطعة غير ما يقصد بقطع الآخر ، فإن الحلقوم مجرى
النفس ، والمريء مجرى الطعام ، والودجين مجرى الدم ، فإذا قطع أحد الودجين حصل
المقصود بقطعهما ، وإذا ترك الحلقوم أو المريء لا يحصل المقصود من قطعه بقطع ما
سواه . ولأبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل في الأصول ، فبقطع أي حادث كان حصل
قطع الأكثر ، ولأن المقصود يحصل بذلك ، وهو إنهار الدم والتسبيب إلى إزهاق الروح ، لأنه
لا يحيا بعد قطع مجرى النفس والطعام ، والدم يجري بقطع أحد الودجين فيكتفي به تحرزا
عن زيادة التعذيب .
قال : ( ويجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم ، إلا السن القائمة والظفر القائم )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أفر الأوداج بما شئت وكل ' وقوله : ' أنهر الدم بما شئت '
وقال عليه الصلاة والسلام : ' كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ، ما خلا السن والظفر فإنهما
مدى الحبشة ' والحبشة كانوا يذبحون بهما قائمين ، ولأن القتل بهما قائمين يحصل بقوة
الآدمي وثقله فأشبه المنخنقة ، ولو ذبح بهما منزوعين لا بأس بأكله ويكره . أما الكراهة
فلظاهر الحديث وأنه استعمال لجزء الآدمي وأنه حرام ، ولا بأس به لما ذكرنا من المعنى
ولحصول المقصود ، وهو إنهار الدم وقطع الأوداج . ونص محمد على أن المذبوح بهما
قائمين ميتة لأنه وجد فيه نصا ، وما لا يجد فيه نصا يتحرى فيقول في الحل لا بأس به ،
وفي الحرمة لا يؤكل أو يكره . قال : ( ويستحب أن يحد شفرته ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح
ذبيحته ' ' ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته ، فقال : هلا
حددتها قبل أن تضجعها ؟ ' .
قال : ( ويكره أن يبلغ بالسكين النخاع أو يقطع الرأس وتؤكل ) والنخاع عرق أبيض في(5/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
عظم الرقبة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ' نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت ' وفسروه بما ذكرنا .
وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة ويؤكل لوجود المقصود ، لأن هذه الكراهة
لمعنى زائد وهو زيادة الألم فلا يوجب التحريم . قال : ( ويكره سلخها قبل أن تبرد ) أي
يسكن اضطرابها ، وكذا يكره كسر عنقها قبل أن تبرد لما فيه من تألم الحيوان وبعد ذلك لا
ألم فلا يكره . وفي الحديث ' ألا لا تنخعوا الذبيحة حتى تجب ' أي لا تقطعوا رقبتها
وتفصلوها حتى تسكن حركتها ، وإن ذبح الشاة من قفاها إن ماتت قبل قطع العرق فهي
ميتة لوجود الموت بدون الذكاة ، وإن قطعت وهي حية حلت لأنها ماتت بالذكاة ، كما إذا
جرحها ثم ذبحها ، إلا أنه يكره فعله لما فيه من زيادة الألم من غير فائدة . قال : ( وما
استأنس من الصيد فذكاته اختيارية ) للقدرة عليها ( وما توحش من النعم فاضطرارية ) للعجز
عن الاختيارية .
قال : ( وإذا كان في بطن المذبوح جنين ميت لم يؤكل ) وقالا : إذا تم خلقه أكل وإلا
فلا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ذكاة الجنين ذكاة أمه ' ولأنه جزء الأم متصل بها
يتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها ويدخل في بيعها ويعتق بإعتاقها ، فيتذكى بذكاتها كسائر
أجزائها . ولأبي حنيفة أنه حيوان بانفراده حتى يتصور حياته بعد موتها فيفرد بالذكاة ، ولهذا
يعتق بإعتاق مفرد ، وتجب فيه الغرة وتصح الوصية به وله دونها ، ولأنه حيوان دموي لم
يخرج دمه فصار كالمنخنقة ، لأن بذكاة الأم لا يخرج دمه بخلاف الصيد ، لأن الجرح
موجب لخروج الدم ، ولأنه احتمل موته بذبح الأم واحتمل قبله فلا يحل بالشك ،
والحديث روي بالنصب بنزع الخافض فدل على تساويهما في الذكاة لقوله تعالى : ) ينظرون
إليك نظر المغشي عليه من الموت ( [ محمد : 20 ] وعلى رواية الرفع احتمل التشبيه أيضا
كقوله تعالى : ) وجنة عرضها السموات والأرض ( [ آل عمران : 133 ] فيحمل عليه توفيقا ،
ولهذا كره أبو حنيفة ذبح الشاة الحامل التي قربت ولادتها لما فيه من إضاعة الولد ،
وعندهما لا يكره لأنه يؤكل عندهما .
قال : ( وإن ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده ولحمه إلا الخنزير والآدمي ) فإن الذكاة لا
تعمل فيهما ، لأن الذكاة تزيل الرطوبات وتخرج الدماء السائلة ، وهي المنجسة لا ذات اللحم(5/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
والجلد فيطهر كما في الدباغ . أما الآدمي فلكرامته وحرمته ، والخنزير لنجاسته وإهانته فلا
تعمل الذكاة فيهما كما لا يعمل الدباغ في جلدهما وقد مر في الطهارة ؛ ولو ذبح شاة مريضة
فلم يتحرك منها شيء إلا فمها . قال محمد بن سلمة : إن فتحت فمها وعينها ومدت رجلها
ونام شعرها لم تؤكل ، وإن كان على العكس أكلت .
فصل
( ولا يحل أكل كل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب من الطير ) لأنه عليه الصلاة
والسلام ' نهى عن أكل كل ذي ناب من السبع ' وقوله عقيب النوعين من السباع ينصرف
إليهما فيثبت الحكم فيما له مخلب وناب من سباع الطير والبهائم دون غيرهما ، والسبع كل
جارح قتال منتهب متعد عادة كالأسد والنمر والفهد والذئب والثعلب والدب والفيل والقرد
واليربوع وابن عرس والسنور البري والأهلي ؛ وذو المخلب من الطير : الصقر والبازي والنسر
والعقاب والشاهين والحدأة . قال أبو حنيفة : الدلق والسنجاب والفنك والسمور
وما شابهه سبع ؛ ولا يؤكل ابن عرس لأنها ذات أنياب فدخلت تحت النص ، وفي الحديث
نهي عن أكل الخطفة والنهبة والمجثمة ، فالخطفة : التي تختطف في الهواء كالبازي ونحوه ،
والنهبة : الذي ينتهب على الأرض كالذئب والكلب ونحوه ، والمجثمة : فقد روي بالفتح
والكسر فبالفتح كل صيد جثم عليه الكلب حتى مات غما ، وبالكسر كل حيوان من عادته أن
يجثم على الصيد كالذئب والكلب ؛ ومعنى تحريم هذه الأشياء كرامة لبني آدم لئلا يتعدى
إليهم شيء من هذه الخصال الذميمة بالأكل ؛ وكل ما ليس له دم سائل حرام إلا الجراد ، مثل
الذباب والزنابير والعقارب ، وكذا سائر هوام الأرض وما يدب عليها وما يسكن تحتها ، وهي
الحشرات كالفأرة والوزغة واليربوع والقنفذ والحية ونحوها ، لأن جميع ذلك من الخبائث
فيحرم لقوله تعالى : ) ويحرم عليهم الخبائث ( [ الأعراف : 157 ] .
قال : ( ولا تحل الحمر الأهلية ولا البغال ولا الخيل ) لقوله تعالى : ) والخيل والبغال(5/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
والحمير لتركبوها وزينة ) ^ [ النحل : 8 ] خرجت في معرض الامتنان ، فلو جاز أكلها لذكره ،
لأن نعمة الأكل أعظم من نعمة الركوب . وعن علي وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
' نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن متعة النساء ' . وقال أبو يوسف ومحمد :
لحم الخيل حلال لما روي عن أنس قال : أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله عليه الصلاة
والسلام . وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في
الخيل ' . ولأبي حنيفة ما تلونا من الآية . وما روى خالد بن الوليد ' أن النبي عليه الصلاة
والسلام نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمر الأهلية ' وروى المقدام بن عدي أن
النبي عليه الصلاة والسلام قال : ' حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب
من السباع وكل ذي مخلب من الطير ' ولأن البغل وهو نتاجه لا يؤكل فلا يؤكل الفرس ،
لأن أكل النتاج معتبر بأمه ؛ ألا ترى أن الحمار الوحشي لو نزا على الأتان الأهلية لا يؤكل ؟
فكذا هذا . قال : ( ويكره الرخم والبغاث والغراب ) لأنها تأكل الجيف فكانت من الخبائث ،
إذ المراد الغراب الأسود وكذلك الغداف . قال : ( والضب ) لما روت عائشة رضي الله عنها
أنه أهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضب فامتنع من أكله ، فجاءت سائلة فأرادت عائشة
أن تطعمها ، فقال لها : ' أتطعمين ما لا تأكلين ؟ ' ولولا حرمته لما منعها عن التصدق كما في
شاة الأنصار .
قال : ( والسلحفاة ) لأنها من الفواسق ( والحشرات ) بدليل جواز قتلها للمحرم . قال :
( ويجوز غراب الزرع والعقعق والأرنب والجراد ) قال أبو يوسف غراب الزرع له هيئة مخالفة
للغراب في صغر جثته ، وأنه يدخر في المنازل ويؤلف كالحمام ويطير ويرجع ، والعقعق
يخلط في أكله فأشبه الدجاج والأرنب ، لما روى عمار بن ياسر قال : أهدي لرسول الله عليه
الصلاة والسلام أرنبة مشوية فقال لأصحابه : ' كلوا ' . قال أبو يوسف : أما الوبر فلا
أحفظ فيه شيئا عن أبي حنيفة وهو عندي كالأرنب وهو يعتلف البقول والنبت ، وهذا لأن
الأشياء على الإباحة إلا ما قام عليه دليل الحظر ، وأما الجراد فلقوله عليه الصلاة والسلام :(5/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
' أحلت لنا مييتان ودمان ؛ أما الميتتان : فالسمك والجراد ؛ وأما الدمان : فالكبد والطحال '
وسواء مات حتف أنفه أو أصابته آفة كالمطر ونحوه لإطلاق النص . قال : ( ولا يؤكل من
حيوان الماء إلا السمك ) لأنه ميتة فيحرم بالنص ، وإنما حل السمك بما روينا من الحديث
وأنه يشمل جميع أنواعه الجريث والمارماهي وغيرهما . وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
سئل عن الضفدع يجعل شحمه في الدواء فنهى عن قتل الضفدع وقال : ' خبيثة من
الخبائث ' .
قال : ( ولا يؤكل الطافي من السمك ) وهو ما مات حتف أنفه ، لما روى جابر رضي الله
عنه ' أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل الطافي ' . وعن علي رضي الله عنه : لا
تبيعوا في أسواقنا الطافي . وعن ابن عباس أنه قال : ما دسره البحر فكله ، وما وجدته مطفوّا
على الماء فلا تأكله . وما مات من الحر أو البرد أو كدر الماء روي أنه يؤكل لأنه مات
بسبب حادث كما لو ألقاه الماء على اليبس . وروي أنه لا يؤكل ، لأن الحر والبرد من صفات
الزمن وليسا من حوادث الموت عادة ؛ ولو ابتلعت سمكة سمكة تؤكل لأنه سبب حادث
للموت .
قال أبو يوسف عن أبي حنيفة : تحبس الجلالة ثلاثة أيام . وعن محمد لم يوقّت أبو
حنيفة فيه وقتا وقال : تحبس حتى تطيب والجلالة : التي تأكل العذرة ، فإن خلطت فليست
بجلالة ، ولذلك قالوا : الدجاجة لا تكون جلالة لأنها تخلط . وقال محمد : إذا أنتن وتغيّر
ووجد منه رائحة منتنة فهي جلالة لا يشرب لبنها ولا يؤكل لحمها ويجوز بيعها وهبتها ، وإذا
حبست زالت الكراهة لأن ما في جوفها يزول وهو الموجب للتغير والنتن ، ولم يوقّت أبو
حنيفة لأنه إذا توقف على زوال النتن وجب اعتبار هذا المعنى ، وفي رواية أبي يوسف قدره
بثلاثة أيام اعتبارا للغالب من حالها . وقد روي ' أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحبس
الدجاج ثلاثة أيام ثم يأكله ' وهذا على طريق التنزه فيجوز أن يكون رواية التقدير بالثلاثة
بناء على هذا الحديث .(5/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
كتاب الأضحية
وهو بضم الهمزة وكسرها : اسم لما يذبح أيام النحر بنية القربة لله تعالى ، وكذلك
الضحية بفتح الضاد وكسرها ، ويقال أيضا أضحاة . قال عليه الصلاة والسلام : ' على أهل كل
بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ' فالأضحاة ما يذبح أيام النحر ، والعتيرة شاة كانت تذبح
للصنم في رجب نسخت وبقيت الأضحية ، وهي من أضحى يضحي إذا دخل في الضحى
لأنها تذبح وقت الضحى فسمي الواجب باسم وقته كصدقة الفطر والصلوات الخمس .
قال : ( وهي واجبة على كل مسلم حر مقيم موسر ) أما الوجوب فمذهب أصحابنا .
وروي عن أبي يوسف أنها سنة ، وذكر الطحاوي أنها واجبة عند أبي حنيفة سنة عندهما
واختاره رضيّ الدين النيسابوري ، والدليل على كونها سنة قوله عليه الصلاة والسلام : ' ثلاث
كتبت عليّ ولم تكتب عليكم : الوتر والضحى والأضحى ' وفي رواية ' وهي لكم سنة '
وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يراها الناس واجبة ،
ولأنها لو وجبت لوجبت على المسافر كصدقة الفطر والزكاة ، إذ الواجبات المالية لا تأثير
للسفر فيها ؛ ودليل الوجوب قوله تعالى : ) فصل لربك وانحر ( [ الكوثر : 2 ] أمر بنحر مقرون
بالصلاة ولا ذلك إلا الأضحية ، فلئن قال : المراد أخذ اليد باليد على النحر في الصلاة . قلنا(5/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
هذا أمر وأنه يقتضي الوجوب ، ولا وجوب فيما ذكرتم بالإجماع فتعين ما ذكرنا ، وقوله عليه
الصلاة والسلام : ' ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم ' أمر وأنه للوجوب .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ' من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ' علق
الوعيد بترك الأضحية وأنه يدل على الوجوب ، ولأن إضافة اليوم إليه تدل على الوجوب لأنه
لا تصح الإضافة إليه إلا إذا وجدت فيه لا محالة ، ولا وجود إلا بالوجوب فيجب تصحيحا
للإضافة وكما في يوم الفطر وصدقته . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : ' ولم تكتب
عليكم ' قلنا نفي الكتابة نفي الفريضة ، لأن المراد من الكتابة الفرض ، قال الله تعالى : ) إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( [ النساء : 103 ] أي فرضا موقتا ، ولذلك تسمى
الصلوات المفروضات مكتوبة ، فكأن النص ينفي الفرضية ونحن نقول به إنما الكلام في نفي
الوجوب ، وقوله : ' وهي لكم سنة ' أي ثبت وجوبها بالسنة لما ذكرنا من التعارض في
تأويل الآية ، وما وجب بالسنة يطلق عليه اسم السنن وهو كثير النظير ، وأبو بكر وعمر كانا
فقيرين فخافا أن يظنها الناس واجبة على الفقراء على أنها مسألة مختلفة بين الصحابة ، ولا
احتجاج بقول البعض على البعض والترجيح لنا ، لأن ما ذكرناه موجب وما ذكروه ناف
والموجب راجح وتمامه عرف في الأصول ، وإنما لم تجب على المسافر لأنها اختصت
بأسباب شق على المسافر تحصيلها وتفوت بمضي الوقت فلم تجب كالجمعة ، بخلاف الفطر
والزكاة حيث لا تفوت بالوقت ، ويجوز فيهما التأخير ودفع القيم وغير ذلك .
وعن علي رضي الله عنه : ليس على المسافر جمعة ولا أضحية ، واختصاصها
بالمسلم لأنها عبادة وقربة ، وبالحر لأن العبد لا يملك شيئا وبالمقيم لما مر ، ويستوي فيه
المقيم بالأمصار والقرى والبوادي لأنه مقيم ، وبالغني لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا
صدقة إلا عن ظهر غنى ' . والمراد الغنى المشروط لوجوب صدقة الفطر . وأما أولاده
الصغار فروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب عليه أن يضحي عن أولاده الصغار كصدقة
الفطر ، وعنه لا تجب لأنها قربة محضة ، والقربة لا تتحمل بسبب الغير ، بخلاف صدقة
الفطر فإنها مؤونة وسببها رأس يمونه ويلي عليه ، وصاروا كالعبيد يؤدى عنهم صدقة الفطر
ولا يضحى عنهم ، ولو كان للصبي مال ضحى عنه أبواه أو وصيّه خلافا لمحمد وزفر ،(5/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
وهو نظير الاختلاف في صدقة الفطر . وقيل الأصح أنها لا تجب في مال الصبي بالإجماع
لأنها قربة فلا يخاطب بها ، بخلاف صدقة الفطر على ما بينا ، ولأن الواجب الإراقة
والتصدق بها ليس بواجب ، ولا يجوز ذلك في مال الصبي لأنه لا يقدر على أكل جميعها
عادة ولا يجوز بيعها فلا تجب .
وذكر القدوري في شرحه الصحيح أنها تجب ولا يتصدق بها لأنه تطوع ، ولكن يأكل
منها الصغير وعياله ويدخر له ما يمكنه ويبتاع له بالباقي ، وما ينتفع بعينه كما يجوز للبالغ
ذلك في الجلد ، والجد مع الحفدة كالأب عند عدمه .
( ويجب على كل واحد شاة ) لأنه أدنى الدم كما قلنا في الهدايا : قال : ( وإن اشترك
سبعة في بقرة أو بدنة جاز إن كانوا من أهل القرية ) يعني مسلمين ( ويريدونها ) يعني يريدون
القربة ، حتى لو كان أحدهم كافرا أو أراد اللحم لا القربة لا يجزي واحدا منهم لأن الدم
لا يتجزى ليكون بعضه قربة وبعضه لا ، فإذا خرج البعض عن أن يكون قربة خرج الباقي ،
والأصل في جواز الشركة ما روى جابر قال : ' نحرنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام
البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ' وتجزئ عن أقل من سبعة بطريق الأولى ، ولا
تجزئ عن أكثر ، لأن القياس أن لا تجزئ إلا عن واحد لأنه إراقة واحدة ، إلا أنا
تركنا القياس بما روينا وأنه مقيد بالسبعة فلا يزاد عليه . وتجوز البدنة بين اثنين نصفين ،
لأنه لما جاز ثلاثة أسباع فلأن يجوز ثلاثة ونصف أولى ، ولو كان لأحدهم أقل من
السبع لا يجزئه .
( ولو اشترى بقرة للأضحية ثم أشرك فيها ستة أجزأه ) استحسانا ، والقياس أن لا يجوز ،
لأنه أعدها للقربة فلا يجوز بيعها وفي الشركة بيعها . وجه الاستحسان أن الحاجة ماسة إلى
ذلك لأنه قد لا يجد إلا بقرة ولا يجد شركاء فيشتريها ثم يطلب الشركاء بعد ذلك فجوزناه
للحاجة ، والأحسن أن يطلب الشركاء قبل الشراء لئلا يكون راجعا عن القربة . وعن أبي
حنيفة أنه يكره ذلك بعد الشراء ، وقيل لو أراد الاشتراك وقت الشراء لا يكره . وقيل إن كان
فقيرا لا يجوز لأنه أوجبها بالشراء ، فإن أشرك جاز ويضمن حصة الشركاء ، وقيل الغني إذا
شارك يتصدق بالثمن ، لأن ما زاد على السبع غير واجب عليه وبالشراء قد أوجبه على نفسه
فيتصدق بثمنه .(5/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
قال : ( ويقتسمون لحمها بالوزن ) لأنه موزون ولا يتقاسمونه جزافا إلا أن يكون معه
الأكارع والجلد فيجوز كما قلنا في البيع ( وتختص بالإبل والبقر والغنم ) لما مر في الهدي ،
ولقول الصحابة : الضحايا من الإبل والبقر والغنم وذلك اسم للكبار دون الصغار . قال :
( ويجزئ فيها ما يجزئ في الهدي ) وهو الثني من الكل ، وهو من الغنم ما له سنة ، ومن
البقر سنتان ، ومن الإبل خمس سنين ؛ ولا يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز ، لما روى
أبو بردة قال : قلت : يا رسول الله ضحيت قبل الصلاة وعندي عتود خير من شاتي لحم
أفيجزئني أن أضحي به ؟ قال : ' يجزئك ولا يجزئ أحدا بعدك ' والعتود من المعز كالجذع
من الضأن ، وهو الذي أتى عليه أكثر الحول وهو القياس في الضأن أيضا ، إلا أنا تركناه بقوله
عليه الصلاة والسلام : ' نعم الأضحية الجذع من الضأن ' ثم الاسم يتناول السالم منها ولا
يجوز المعيب وقد بيناه ، والاختلاف فيه في باب الهدي بعون الله تعالى ، إلا أن القليل من
العيب عفو ، لأنه قلما يسلم الحيوان منه فكان في اعتباره حرج فينتفي والشق في الأذن
والوسم قليل لا اعتبار به ، ويتصدق بجلالها وخطامها ، ولا يعطي أجر الجزار منها وقد بيناه
في الهدي .
قال : ( وتختص بأيام النحر ، وهي ثلاثة : عاشر ذي الحجة وحادي عشرة وثاني عشرة ،
أفضلها أولها ) لما روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة رضي الله
عنهم أنهم قالوا : أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها ، وهذا لا يهتدي إليه العقل فكان طريقه
السمع فكأنهم قالوه عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وأفضلها أولها لما روينا ، لكونه
مسارعة إلى الخير والقربة ، وأدناها آخرها لما فيه من التأخير عن فعل الخير ، ويجوز ذبحها
في أيامها ولياليها لأن الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع ينتظم ما بإزائها من الليالي كما في النذر
لما عرف من قصة زكريا عليه السلام .
قال : ( فإن مضت ولم يذبح ، فإن كان فقيرا وقد اشتراها تصدق بها حية ) لأنها غير
واجبة على الفقير ، فإذا اشتراها بنية الأضحية تعينت للوجوب ، والإراقة إنما عرفت قربة في
وقت معلوم وقد فات فيتصدق بعينها ( وإن كان غنيا تصدق بثمنها اشتراها أو لا ) لأنها واجبة(5/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
عليه ، فإذا فات وقت القربة في الأضحية تصدق بالثمن إخراجا له عن العهدة كما قلنا في
الجمعة إذا فاتت تقضي الظهر والفدية عند العجز عن الصوم إخراجا له عن العهدة .
قال : ( ويدخل وقتها بطلوع الفجر أول أيام النحر ، إلا أن أهل المصر لا يضحون قبل
صلاة العيد ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته ، ومن ذبح بعد
الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن أول نسكنا
في هذا اليوم الصلاة ثم الأضحية ' وهذا الشرط في حق من تجب عليه الصلاة ؛ أما من لا
تجب عليه وهم أهل السواد فيجوز ذبحه بعد طلوع الفجر ، وهذا لأن العبادة لا يختلف وقتها
بالمصر وعدمه كسائر العبادات . أما شرطها يجوز أن يختلف ، ألا ترى أن الظهر يمنع من
فعلها يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا يمنع ذلك في السواد كذا هذا ؛ ولو ضحى بعد صلاة
أهل المسجد قبل صلاة أهل الجبّانة لا يجوز قياسا لأنه ضحّى قبل الصلاة المعتبرة ، وجاز
استحسانا لحصولها بعد صلاة معتبرة فإن الاكتفاء بها جائز ، ولو ضحى بها بعد أهل الجبانة
قبل أهل المساجد ، قال الكرخي : كذلك ، وقيل يجوز بكل وجه لأنها هي الأصل وصلاة
أهل المصر لعذر ، وقيل لا يجوز بكل وجه ، لأن صلاة أهل المصر هي الأصل كسائر
الصلوات ، وخروج الآخرين بعذر ضيق المسجد عنهم فإن لم يصل الإمام في اليوم الأول
لعذر لا يضحي حتى تزول الشمس ، وفي اليوم الثاني تجوز قبل صلاة العيد وبعدها ، رواه
القدوري عن محمد ، والمعتبر مكان الأضحية لإمكان المالك كما في الزكاة . وعن الحسن
أنه اعتبر مكان المالك كصدقة الفطر ، فلو كان بالمصر وأهله بالسواد جاز أن يضحوا عنه قبل
الصلاة وبالعكس لا ، وعند الحسن خلاف ذلك ، ويتأكد وجوبها آخر أيام النحر حتى لو افتقر
في أيام النحر سقطت عنه ، وإن افتقر بعدها لا تسقط ويتصدق بالثمن كما بينا ؛ وكذا لو مات
في أيام النحر سقطت وبعدها لا ، ويجب عليه أن يوصي بالتصدق بثمنها ولو اشترى الفقير
وضحى ثم أيسر في أيام النحر ؛ قيل يعيد لأن العبرة لآخر الوقت ، وقيل لا لأن الوجوب
بطلوع الفجر أول الأيام .
قال : ( ويأكل من لحمها ، ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر ) لقوله تعالى : ) فكلوا
منها وأطعموا البائس الفقير ( [ الحج : 28 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' كنت نهيتكم عن
زيارة القبور ألا فزوروها ، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا(5/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وادخروا ' وإنما يجوز أن يطعم الأغنياء لأنه يجوز له الأكل وهو غني فكذا غيره ؛
ويستحب أن لا تنقص الصدقة عن الثلث لأن النصوص قسمتها بين الأكل والتصدق والادخار
فيكون لكل واحد الثلث وينتفع بجلدها فيما يفرش وينام عليه ، أو يعمل منه آلة تستعمل
كالقربة والدلو والسفرة لما روي عن عائشة اتخذت من جلد أضحيتها سقاء ، أو يشتري به آلة
كالمنخل والغربال ولا يشتري به ما لا ينتفع به إلا بالاستهلاك كالأباريز ونحوها ، لأن
المأثور أن ينتفع به أو ببدله مع بقاء عينه ، ولا يبيعه لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من باع
جلد أضحيته فلا أضحية له ' فإن باعه شيء من النقود يتصدق به لأن وقت القربة قد فات
فيتصدق به ، كذا رواه محمد .
قال : ( ويكره أن يذبحها الكتابي ) لأنها عبادة ، وإن ذبحها جاز لأنه من أهل التذكية ؛
والأولى أن يذبحها بنفسه إن كان يحسن الذبح لأنها عبادة ، فإن فعلها بنفسه كان أفضل كما
في سائر العبادات ، والنبي عليه الصلاة والسلام ' ضحى بكبشين أملحين بذبح ويكبر
ويسمي ' رواه أنس . وروى جابر ' أنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين وقال حين
وجههما : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما ، اللهم منك ولك ، عن
محمد وأمته بسم الله الله أكبر ' وإن كان لا يحسن الذبح فالأولى أن يوليها غيره ، ويستحب
أن يحضرها إن لم يذبحها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' يا فاطمة بنت محمد قومي فاشهدي
أضحيتك ، فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها إلى الأرض كل ذنب ، أما إنه يجاء بدمها
ولحمها فيوضع في ميزانك وسبعون ضعفا ، قال أبو سعيد الخدري : يا نبي الله هذا لآل
محمد خاصة فإنهم أهل لما خصوا به من الخير ، أم لآل محمد وللمسلمين عامة ؟ قال : لآل
محمد وللمسلمين عامة ' .
قال : ( ولو ذبح أضحية غيره بغير أمره جاز ) استحسانا ولا يجوز قياسا ، وهو قول
زفر ، لأنه ذبح شاة غيره بغير أمره فيضمن ، كما إذا ذبح شاة قصاب ، وإذا ضمن لا يجزيه
عن الأضحية . وجه الاستحسان أنه لما اشتراها للأضحية فقد تعينت للذبح أضحية حتى
وجب عليه أن يضحي بها فصار مستعينا بكل من كان أهلا للذبح على ذبحها آذنا له دلالة ،
لأنه ربما يعجز عن إقامتها لعارض يعرض له فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها(5/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
ليذبحها ، وإن كان تفوته المباشرة وحضورها ، لكن يحصل له تعجيل البر وحصول مقصوده
بالتضحية بما عينه فيرضى به ظاهرا .
قال : ( ولو غلطا فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر جاز ) وفيه قياس واستحسان كما
تقدم ( ويأخذ كل واحد منهما أضحيته من صاحبه مذبوحة ومسلوخة ولا يضمنه ) لأنه وكيله
دلالة كما مر ( فإن أكلاها ثم علما فليتحللا ويجزيهما ) لأنه لو أطعم كل واحد منهما صاحبه
ابتداء جاز ( وإن تشاجرا ضمن كل لصاحبه قيمة لحمه ) لأن التضحية لما وقعت لصاحبه كان
اللحم له ، ومن أتلف لحم أضحية غيره ضمنه ، ثم يتصدق كل واحد منهما بما أخذ من
القيمة لأنه بدل لحم الأضحية ، فصار كما لو باع أضحيته . فقير اشترى أضحية فضاعت
فاشترى أخرى ثم وجد الأولى فعليه أن يضحي بهما ، لأن الواجب على الفقير بالشراء بينة
الأضحية بمنزلة النذر عرفا ، والشراء قد تعدد ، بخلاف الغني لأن الوجوب عليه بإيجاب
الشرع ، والشرع لم يوجب عليه إلا مرة واحدة . وذكر الزعفراني : إن أوجب الثانية إيجابا
مستأنفا فعليه أن يضحي بهما ، وإن أوجبها بدلا عن الأولى فله أن يذبح أيهما شاء ، لأن
الإيجاب متحد فاتحد الواجب ، والله أعلم .(5/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
كتاب الجنايات
وهو جمع جناية ، والجناية : كل فعل محظور يتضمن ضررا ، ويكون تارة على نفسه ،
وتارة على غيره ، يقال : جنى على نفسه وجنى على غيره ؛ فالجناية على غيره تكون على
النفس وعلى الطرف وعلى العرض وعلى المال ؛ والجناية على النفس تسمى قتلا أو صلبا أو
حرقا ؛ والجناية على الطرف تسمى قطعا أو كسرا أو شجا ، وهذا الباب لبيان هاتين الجنايتين
وما يجب بهما . والجناية على العرض نوعان : قذف وموجبه الحد وقد بيناه . وغيبة وموجبها
الإثم ، وهو من أحكام الآخرة . والجناية على المال تسمى غصبا أو خيانة أو سرقة وقد بيناها
وموجبها في كتابي السرقة والغصب بعون الله تعالى . ثم القصاص مشروع ثبتت شرعيته
بالكتاب والسنة إجماع الأمة .
أما الكتاب فقوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ( [ البقرة : 178 ]
الآية . وقوله : ) ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ( [ الإسراء : 33 ] أي أثبتنا لوليه
سلطنة القتل . والسنة قوله عليه الصلاة والسلام : ' من قتل قتلناه ' وقوله عليه الصلاة
والسلام : ' كتاب الله القصاص ' وعليه الإجماع والعقل ، والحكمة تقتضي شرعيته أيضا ،
فإن الطباع البشرية والأنفس الشريرة تميل إلى الظلم والاعتداء وترغب في استيفاء الزائد على(5/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
الابتداء سيما سكان البوادي وأهل الجهل العادلين عن سنن العقل والعدل كما نقل من
عادتهم في الجاهلية ، فلو لم تشرع الأجزية الزاجرة عن التعدي والقصاص من غير زيادة ولا
انتقاص لتجرأ ذوو الجهل والحمية والأنفس الأبية على القتل والفتك في الابتداء وإضعاف ما
جنى عليهم في الاستيفاء ، فيؤدي ذلك إلى التفاني ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ؛ فاقتضت
الحكمة شرع العقوبات الزاجرة عن الابتداء في القتل والقصاص المانع من استيفاء الزائد على
المثل فورد الشرع بذلك لهذه الحكمة حسما عن مادة هذا الباب فقال : ) ولكم في القصاص
حياة يا أولي الألباب ( [ البقرة : 179 ] .
قال : ( القتل المتعلق بالأحكام خمسة : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى
الخطأ ، والقتل بسبب ) ومعناه القتل الواقع ابتداء بغير حق الذي يتعلق به القصاص أو الدية
والكفارة هذه الخمسة ، وبيان الحصر أن القتل لا يخلو إما إن كان مباشرة أو لا ، فإن لم
يكن مباشرة فهو القتل بسبب ؛ وإن كان مباشرة ، فإما إن كان عمدا أو خطأ ، فإن كان
عمدا فإما إن كان بسلاح وما شابهه في تفريق الأجزاء أو بغير ذلك ؛ فإن كان فهو العمد ،
وإن كان بغيره فهو شبه العمد ، وإن كان خطأ ، فإما إن كان حالة اليقظة أو حالة النوم ،
فإن كان حالة اليقظة فهو الخطأ ، وإن كان حالة النوم فهو الذي أجري مجراه ، ولئن قيل
قتل المكره ليس مباشرة من المكره وقد جعلتموه عمدا حتى أوجبتم عليه القصاص . قلنا
لما كان المكره مطلوب الاختيار لم يضف الفعل إليه فجعلناه كالآلة في يد المكره وانتقل
فعله إليه ، فكأن المكره قتله بآلة أخرى فصار مباشرة تقديرا وشرعا ، وتمامه يعرف في
الإكراه .
قال : ( فالعمد أن يتعمد الضرب بما يفرق الأجزاء كالسيف والليطة والمروة والنار )
لأن العمد فعل القلب لأنه القصد ، وذلك لا يتوقف عليه إلا بدليله وهو مباشرة الآلة
الوجبة للقتل عادة ، وأنه موجود فيما ذكرناه فكان عمدا ، ولو قتله بحديد أو صفر غير
محدد كالعمود والسنجة ونحوهما فيه روايتان في ظاهر الرواية هو عمد نظرا إلى أنه أصل
الآلة ، وفي رواية الطحاوي ليس بعمد لأنه لا يفرّق الأجزاء ؛ ولو طعنه برمح لا سنان له
فجرحه فهو عمد لأنه إذا فرّق الأجزاء فهو كالسيف . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة
فيمن ضرب رجلا بإبرة وما يشبهه عمدا فمات لا قود فيه ؛ وفي المسلّة ونحوها القود لأن
الإبرة لا يقصد بها القتل عادة ويقصد بالمسلة ، وفي رواية أخرى إن غرز بالإبرة في المقتل
قتل وإلا فلا .(5/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
قال : ( وحكم المأثم والقود ) أما المأثم فبالإجماع ، ولقوله تعالى : ) ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ( [ النساء : 93 ] وقال عليه الصلاة
والسلام : ' الآدمي بنيان الرب ملعون من هدمه ' والنصوص فيه كثيرة . وأما القود فلقوله
تعالى : ) كتب عليكم القصاص في القتلى ( [ البقرة : 178 ] والمراد به العمد لأنه لا قصاص
في غيره ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' العمد قود ' أي حكمه وموجبه .
قال : ( إلا أن يعفو الأولياء ) لأن الحق لهم . قال : ( أو وجوب المال عند المصالحة
برضى القاتل في ماله ) لأن الحق له ، فإذا صالح عنه بعوض ورضي غريمه قليلا كان أو كثيرا
جاز كما في سائر الحقوق ، ويجب في مال القاتل لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تعقل
العاقلة عمدا ولا صلحا ' وهذا عمد وصلح فلا تتحمله العاقلة فيجب في ماله على ما شرطا
من التأجيل والتعجيل والتنجيم ، قال عليه الصلاة والسلام : ' المؤمنون عند شروطهم ' فإن
لم يذكرا شيئا فهو حال كسائر المعاوضات عند الإطلاق ، والأصل فيه قوله تعالى : ) فمن
عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ( [ البقرة : 178 ] والمراد به
الصلح ، وهذا لأن موجب العمد القود عينا فلا يجب المال إلا بالصلح برضا القاتل ، بيانه
قوله تعالى : ) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( [ المائدة : 45 ] فلو وجب المال أو
أحدهما لا يكون النفس بالنفس ، وشريعة من تقدمنا تلزمنا إلا أن يثبت النسخ ، وجميع
أحاديث التخيير بين القصاص والدية أخبار آحاد لا ينسخ بها الكتاب ، وقوله تعالى : ) كتب
عليكم القصاص ( [ البقرة : 178 ] وهو المماثلة لغة ، والمماثلة بين النفس والنفس لا بينها
وبين المال ؛ أو نقول ذكر القصاص ولم يذكر الدية ، فلو ثبت التخيير أو الدية لثبت بخبر
الواحد وأنه زيادة على الكتاب ، والزيادة نسخ والكتاب لا ينسخ به . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' العمد قود ' وقال : ' كتاب الله القصاص ' وقد مر التمسك به .
قال : ( أو صلح بعضهم أو عفوه ، فتجب بقية الدية على العاقلة ) لأنه حق مشترك بين
الورثة ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ، ورّث امرأة أشيم الضباني من عقله ، وإذا كان مشتركا
بينهم فلكل منهم العفو عن نصيبه ؛ والصلح عنه كغيره من الحقوق ، فإذا صالح البعض أو
عفا تعذر القصاص لأنه لا يتجزأ وقد سقط البعض فيسقط الباقي ضرورة ، وإذا سقط انقلب(5/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
نصيب القاضي مالا لئلا يسقط لا إلى عوض ، ولا يجب على القاتل لأن الشرع ما أوجبه
عليه كما مر ولا التزمه فيجب على العاقلة لأنه وجب بغير قصد من القاتل فصار كالخطأ ،
وليس للعافي منه شيء لسقوط حقه بعفوه . قال : ( أو عند تعذر استيفائه لشبهة كقتل الأب
ابنه فتجب الدية في ماله في ثلاث سنين ) وهذا لأن الأب لا يقتل بابنه ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' لا يقاد والد بولده ' ولأنه جزؤه ، فأورث شبهة في القصاص فسقط ، وإذا
سقط القصاص تجب الدية في ماله لأنه عمد ، وتجب في ثلاث سنين لما يأتي إن شاء الله
تعالى .
قال : ( ولا كفارة في العمد ) لأن الله تعالى لم يوجبها فيه حيث لم يذكرها ولو وجبت
لذكرها كما ذكرها في الخطأ ولأنه كبيرة . وفي الكفارة معنى العبادة فلا يتعلق بها ولا يقاس
على الخطأ فإن جناية العمد أعظم ، فلا يلزم من رفعها للأدنى رفعها للأعلى .
قال : ( وشبه العمد : أن يتعمد الضرب بما لا يفرق الأجزاء كالحجر والعصا واليد )
وقالا : إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة عظيمة فهو عمد ؛ وشبه العمد عندهما أن يتعمد
الضرب بما لا يقتل غالبا كالسوط والعصا الصغيرة . لأن معنى العمدية قاصرة فيهما لما أنه لا
يقتل عادة ، ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه فكان شبه العمد ؛ أما الذي لا يلبث ولا
يتقاصر عن عمل السيف في إزهاق الروح فيكون عمدا . وروي أن يهوديا رضخ رأس جارية
بالحجر ، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام :
' ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا ، وفيه مائة من الإبل ' من غير فصل بين عصا
وعصا . وروى النعمان بن بشير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ' كل شيء خطأ إلا
السيف ، وفي كل خطأ أرش ' وعن علي رضي الله عنه أنه قال : شبه العمد : الحذفة
بالعصا والقذفة بالحجر ، فالنبي عليه الصلاة والسلام سماه خطأ العمد لأنه عمد من جهة
الفعل خطأ من جهة الحكم ، لأن آلته ليست آلة العمد ، ولأن معنى العمدية فيه قاصر لكونه
آلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه ، وهذا لأنه لا يمكن قتله بها على غرة منه فيمكنه
الاحتراز منه ، بخلاف السيف وأخواته فإنها تستعمل على غرة من المقتول فكان شبه العمد(5/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
كالعصا والسوط الصغيرين ، ولأن القتل إفساد الآدمي صورة ومعنى ؛ أما صورة فبنقض
التركيب ؛ وأما معنى فإفساد المنافع ، وقد وجد القتل ههنا معنى لا سورة ، فلو وجب
القصاص وأنه يجب بالسيف عملا بالحديث يكون قتلا صورة ومعنى فلا توجد المماثلة
الواجبة بالنصوص ؛ وأما اليهودي فالنبي عليه الصلاة والسلام قتله سياسة ، فإنه روي أنه كان
اعتاد ذلك ، وعندنا متى تكرر منه ذلك فللإمام أن يقتله سياسة .
قال : ( وموجبه الإثم ) لأنه قتل عن قصد ( والكفارة ) لشبهه بالخطأ ، وفيها معنى العبادة
فيحتاط في إيجابها ( والدية مغلظة على العاقلة ) لأن كل دية تجب بالقتل من غير صلح ولا
عفو لبعض فإنها تجب على العاقلة على ما يأتي في الديات ، وسنبين كيفية وجوبها والتغليظ
وقدرها ثم إن شاء الله تعالى . قال : ( وهو عمد فيما دون النفس ) لأن إتلاف النفس يختلف
باختلاف الآلة ، وما دونها لا يختص بآلة دون آلة ، فبقي المعتبر تعمد الضرب وقد وجد
فكان عمدا .
قال : ( والخطأ أن يرمي شخصا يظنه صيدا أو حربيا فإذا هو مسلم ) وهو خطأ في
القصد ( أو يرمي غرضا فيصيب آدميا ) وهو خطأ في الفعل ( وموجبه الكفارة والدية على
العاقلة ) لقوله تعالى : ) ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله (
[ النساء : 92 ] ( ولا إثم عليه ) قال عليه الصلاة والسلام : ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان '
الحديث ، وقيل المنفي إثم القتل ، وإنما يأثم من حيث ترك الاحتراز والتثبت حالة الرمي ،
ولهذا وجبت الكفارة .
قال : ( وما أجري مجرى الخطأ : مثل النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهو كالخطأ ) في
الحكم لأن النائم لا قصد له فلا يوصف فعله بالعمد ولا بالخطأ ، إلا أنه في حكم الخطأ
لحصول الموت بفعله كالخاطئ .
قال : ( والقتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه وفنائه فيعطب به إنسان ،(5/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وموجبه الدية على العاقلة لا غير ) لأنه متعد فيما وضعه وحفره فجعل دافعا موقعا فتجب الدية
على العاقلة ، ولا يأثم فيه لعدم القصد ، ولا كفارة عليه لأنه لم يقتل حقيقة ، وإنما ألحقناه
بالقاتل في حق الضمان فبقي ما وراءه على الأصل ، وسواء كان الواقع حرا أو عبدا أو دابة
فضمانه عليه ، بذلك قضى شريح بمحضر من الصحابة من غير نكير منهم ، ولو سقاه سما
فقتله فهو مسبب لأنه لم يقتله مباشرة ولا هو موضوع للقتل ، ولهذا يختلف باختلاف
الطبائع ، وإن دفعه إليه فشربه فلا شيء عليه ولا على عاقلته ، لأن الشارب هو الذي قتل
نفسه ، فصار كما إذا تعمد الوقوع في البئر . قال : ( وكل ذلك يوجب حرمان الإرث إلا القتل
بسبب ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا ميراث لقاتل ' والمسبب ليس بقاتل ولا متهم ، لأنه
لا يعلم أن مورثه يقع في البئر وهو متهم في الخطأ لاحتمال أنه قصد ذلك في الباطن .
قال : ( ولو مات في البئر غما أو جوعا فهو هدر ) وقال محمد : يضمن الحافر فيهما .
وقال أبو يوسف : يضمن في الغم دون الجوع ؛ لأن الغم بسبب البئر والوقوع فيها ، أما
الجوع بسبب فقد الطعام ولا مدخل للبئر في ذلك . ولمحمد أن الجوع أيضا بسبب الوقوع إذ
لولاه لكان الطعام قريبا منه . ولأبي حنيفة أنه لم يمت بالوقوع فلا يضمن ، وإنما مات لمعنى
في نفسه وهو الجوع والغم ، وذلك غير مضاف إلى الحافر فلا يكون مسببا . قال : ( والكفارة
عتق رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) لقوله تعالى : ) فدية مسلمة إلى أهله
وتحرير رقبة مؤمنة فلمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ( [ المجادلة : 4 ] ولا يجزي فيها الطعام
لأن الكفارات لا تعلم إلا نصا ولا نص فيه .
فصل
( ويقتل الحر بالحر وبالعبد ) أما الحر بالحر فلا خلاف فيه ، قال تعالى : ) الحر بالحر ((5/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
[ المائدة : 45 ] وأما الحر بالعبد فلقوله تعالى : ) النفس بالنفس ( [ المائدة : 45 ] وقال عليه
الصلاة والسلام : ' المسلمون تتكافأ دماؤهم ' ولأنهما تساويا في عصمة الدم فيجب
القصاص للمساواة ، وقوله تعالى : ) الحر بالحر ( [ المائدة : 45 ] لا يدل على عدم جواز قتل
الحر بالعبد لأنه تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما سواه ؛ ألا يرى أنه يقتل العبد بالحر
والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر فلا حجة فيه ونحن نعمل به وبقوله : ) النفس بالنفس (
وبالحديث فكان أولى من العمل به خاصة . قال : ( والرجل بالمرأة ، والصغير بالكبير ) لإطلاق
النصوص .
قال : ( والمسلم بالذمي ) لما روى جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قاد مسلما بذمي
وقال : ' أنا أحق من وفى بذمته ' ولاستوائهما في العصمة المؤبدة ، ولأن عدم القصاص
تنفير لهم عن قبول عقد الذمة وفيه من الفساد ما لا يخفى ، والمراد بقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا يقتل مسلم بكافر ' الحربي ، لأن الكافر متى أطلق ينصرف إلى الحربي عادة
وعرفا فينصرف إليه توفيقا بين الحديثين ( ولا يقتلان ) يعني المسلم والذمي ( بالمستأمن ) لعدم
التساوي فإنه غير محقون الدم على التأبيد وحرابه يوجب إباحة دمه ، فإنه على عزم العود
والمحاربة .
وعن أبي يوسف أنه يقتل به اعتبارا بالعهد وصار كالذمي وجوابه مر ( ويقتل المستأمن
بالمستأمن ) للمساواة . وقيل لا يقتل ، وهو الاستحسان لقيام المبيح . قال : ( ويقتل الصحيح
بالزمن والأعمى وبالمجنون وبناقص الأطراف ) لما تقدم من العمومات ، ولأنا لو اعتبرنا
التفاوت فيما وراء العصمة من الأطراف والأوصاف لامتنع القصاص وأدى ذلك إلى التقاتل
والتفاني .
قال : ( ولا يقتل الرجل بولده ، ولا بعبده ، ولا بعبد ولده ، ولا بمكاتبه ) قال عليه الصلاة
والسلام : ' لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده ' ولأن الإنسان لا يجب لنفسه على نفسه
قصاص ، ولا لولده عليه لما تقدم ، والمدبر وأم الولد كالعبد ، وكذا لا يقتل بعبد ملك
بعضه ، لأن القصاص لا يتجزأ . قال : ( ومن ورث قصاصا على أبيه سقط ) لأن الابن لا يثبت
له قصاص على الأب لما مر ( والأم والأجداد والجدات من أي جهة كانوا كالأب ) لما بينهما
من الجزئية ، ولأنهم كانوا السبب في إيجاده فصاروا كالأب .(5/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
قال : ( ومن جرح رجلا عمدا فمات فعليه القصاص ) معناه إذا مات منها بأن لم
يعرض له عارض آخر يضاف الموت إليه لأنه قتله عمدا فيجب القصاص . قال : ( ولا
يستوفى القصاص إلا بالسيف ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا قود إلا بالسيف ' والمراد
به السلاح .
قال : ( ولا قصاص على شريك الأب والمولى والخاطئ والصبي والمجنون وكل
من لا يجب القصاص بقتله ) لأنه قتل حصل بسببين : أحدهما غير موجب للقود وهو لا
يتجزى فلا يجب ، لأن الأصل في الدماء الحرمة ، والنصوص الموجبة للقصاص مختصة
بحالة الانفراد وموضع يمكن القصاص وهو غير ممكن هنا لعدم التجزي فلا يتناوله
النص ، ثم من يجب عليه القصاص لو انفرد عليه نصف الدية في ماله لأن فعله عمد ،
وإنما لم يجب القصاص لتعذر الاستيفاء ، والعاقلة لا تعقل العمد لما روينا ، ونصفها
الآخر على عاقلة الآخر إن كان صبيا أو مجنونا أو خطأ ، لأن الدية تجب فيه بنفس
القتل ، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ، قال علي رضي الله عنه ، وإن كان الأب ففي
ماله على ما تقدم .
قال : ( وإذا قتل عبد الرهن فلا قصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن ) لأنه تعلق به
حق كل واحد منهما ، فالمرتهن لا ملك له فيه فلا يليه ، والراهن ملكه لكن لو قتله بطل
حق المرتهن فاشترط اجتماعهما ليسقط حق المرتهن فلا يرجع على الراهن . قال : ( وإذا
قتل المكاتب عن وفاء وله ورثة غير المولى فلا قصاص أصلا ) لاشتباه الولي فإنه إن
مات عبدا فالمولى وليّه فإن مات حرا فالوارث وليّه ، والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي
الله عنهم فاشتبه الولي فتعذر الاستيفاء ( وإن لم يترك وفاء فالقصاص للمولى ) لأنه مات
عبدا بالإجماع ( وإن قتل عن وفاء ولا وارث له إلا المولى فله القصاص ) لأن حق
الاستيفاء له حرا مات أو عبدا ، والحكم واحد وهو القود ، واختلاف السبب لا يفضي
إلى المنازعة . وقال محمد : لا قصاص لاشتباه سبب الاستيفاء بالولاية أو بالرق ، وجوابه
ما مرّ .(5/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
قال : ( وإذا كان القصاص بين كبار وصغار فللكبار الاستيفاء ) وقالا : ليس للكبار ،
وذلك لأنه حق مشترك بينهم فلا ينفرد به أحدهم كالحضر مع الغائب وأحد الموليين . ولأبي
حنيفة أن القصاص لا يتجزى لأنه ثبت بسبب لا يتجزى وهي القرابة ، فثبت لكل واحد منهم
كملا كولاية الإنكاح والموليان على الخلاف ، والعفو من الصغير غير محتمل ، وفي انتظار
بلوغه تفويت الاستيفاء على سبيل الاحتمال ، بخلاف الكبيرين والغائب لأن احتمال العفو منه
ثابت فافترقا ، ولو كان الكل صغارا قيل يستوفي السلطان ، وقيل ينتظر بلوغ أحدهم ،
والمجنون والمعتوه كالصبي ، ولأن الصبي مولى عليه ، فإذا استوفاه الكبير كان بعضه أصاله
وبعضه نيابة . قال : ( وإذا قتل ولي الصبي والمعتوه فللأب أو القاضي أن يقتل أو يصالح
وليس له العفو ، والوصي يصالح لا غير ) أما الأب فله ولاية على النفس ، وهذا من بابه شرع
لأمر راجع إليها وهو التشفي فيثبت له التشفي بالقتل كولاية النكاح ؛ وإذا ثبت له ولاية القتل
ثبت له ولاية الصلح لأنه أنفع للصبي ، وليس له أن يعفو لأنه إبطال الحق بغير عوض ،
وعلى هذا قطع يد المعتوه عمدا ، وكذلك القاضي لأنه بمنزلة السلطان . ومن قتل ولا ولي له
فللسلطان أن يستوفي القصاص ، فكذلك القاضي ؛ وأما الوصي فلا يملك العفو لما ذكرنا ،
ولا القصاص لأنه لا ولاية له على النفس فتعين الصلح صيانة للحق عن البطلان .
قال : ( ولا قصاص في التخنيق والتغريق ) خلافا لهما ، وهي مسألة القتل بالمثقل ،
فإن تكرر منه ذلك فللإمام قتله سياسة لأنه سعى في الأرض الفساد . قال : ( وتقتل
الجماعة بالواحد ) لما مر من العمومات ، ولما روي أن سبعة من صنعاء قتلوا واحدا
فقتلهم عمر رضي الله عنه وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ، وذلك بمحضر
من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا ، وهذا بخلاف ما إذا اجتمعوا على قطع يد
حيث لا يقطعون ، لأن القصاص في النفس يجب بإزهاق الروح ولأنه لا يتبعض فيصير
كل واحد كالمنفرد في إتلافها . أما القطع يتبعّض ، فيكون الواحد متلفا بعض اليد ، ولأن
الاجتماع على القتل أكثر فكان شرع الزاجر فيه دفعا لأغلب الجنايتين وأعظمهما فلا يلزم
شرعه لدفع أدناهما .
قال : ( ويقتل الواحد بالجماعة اكتفاء ) وصورته : رجل قتل جماعة فإنه يقتل ولا يجب
عليه شيء آخر ، لأنهم إن اجتمعوا على قتله وزهوق الروح لا يتبعّض يصير كل واحد منهم(5/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
مستوفيا جميع حقه لما بينا ، فلا يجب له شيء من الأرش ( وإن قتله ولي أحدهم سقط حق
الباقين ) لأن حقهم في القصاص وقد فات ، وصار كما إذا مات القاتل فإنه يسقط القصاص
لفوات محله كذا هذا وصار كموت العبد الجاني . قال : ( ومن رمى إنسانا عمدا فنفذ منه إلى
آخر وماتا فالأول عمد ) لأنه تعمد رميه ، وفيه القصاص على ما بينا ( والثاني خطأ ) لأنه لم
يقصده فكان خطأ لما مر . ومن نهشته حية وعقره سبع وشجّ نفسه وشجّه آخر ، فعلى الشاجّ
ثلث الدية والباقي هدر لأنه تلف بثلاثة أنواع : جناية معتبرة في الدنيا والآخرة ، وهي فعل
الأجنبي ؛ وجناية هدر في الدنيا والآخرة ، وهي فعل السبع والحية ، وجناية معتبرة في الآخرة
هدر في الدنيا ، وهو فعله ، فيكون على الأجنبي ثلث دية النفس لأنه أتلف الثلث .
فصل
( ولا يجري القصاص في الأطراف إلا بين مستوى الدية إذا قطعت من المفصل
وتماثلت ) والأصل فيه قوله تعالى : ) والجروح قصاص ( [ المائدة : 45 ] وأنه يقتضي
المماثلة ، ولأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ، ولهذا لا يقطع الصحيح بالأشل والكامل
بالناقصة الأصابع لاختلافهما في القيمة ، بخلاف النفس على ما مر . وإذا كان كذلك تنتفي
المماثلة بانتفاء المساواة في المالية ، والمالية معلومة بتقدير الشرع فأمكن اعتبار التساوي فيها ،
ولا يمكن التساوي في القطع إلا إذا كان من المفصل . إذا ثبت هذا فنقول : لا يجري
القصاص في الأطراف بين الرجل والمرأة ، ولا بين الحر والعبد لاختلافهما في القيمة وهي
الدية ، ولا بين العبيد لأنهم إن تفاوتت قيمتهم فظاهر ، وإن تساوت فذلك مبني على الحزر
والظن فلا يثبت به القصاص . ونص محمد على جريان القصاص بين الرجل والمرأة في
الشجاج التي يجري فيها القصاص ، لأنه ليس في الشجاج تفويت منفعة وإنما هو إلحاق شين
وقد استويا فيه ، وفي الطرف تفويت المنفعة وقد اختلفا فيها ، ويجري بين المسلم والذمي
لتساويهما في الدية . ثم النقصان نوعان : نقص مشاهد كالشلل فيمنع من استيفاء الكامل
بالناقص ، ولا يمنع من استيفاء الناقص بالكامل . ونقص من طريق الحكم كاليمين مع اليسار ،
فيمنع استيفاء كل واحد من الطرفين بالآخر . وكذا الأصابع لا يقطع إلا بمثلها اليمين باليمين
واليسار باليسار ، وكذا العين اليمين باليمين واليسار باليسار ، والناب بالناب ، والثنية بالثنية ،(5/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
والضرس بالضرس ، ولا يؤخذ الأعلى بالأسفل ، لأن القصاص ينبئ عن المساواة ولا
مساواة إلا بالتساوي في المنفعة والقيمة والعضو ، وقس على هذا أمثاله ؛ فإذا قطع يده غيره
من المفصل قطعت يده لما مر ، ولا معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك
وكذلك كل عضو يقطع من المفصل كالرجل ومارن الأنف وهو ما لان منه ، والأذن بالأذن
لإمكان المماثلة بينهما في القطع . قال الله تعالى : ) والأنف بالأنف والأذن بالأذن (
[ المائدة : 45 ] .
قال : ( ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر إلا أن تقطع الحشفة ) لأن كل واحد منهما
ينقبض وينبسط فلا يمكن المماثلة بينهما في القطع فلا قصاص ، بخلاف ما إذا قطع الحشفة
فإنه معلوم كالمفصل ، ولو قطع بعضها وبعض الذكر فلا قصاص لتعذر المساواة . أما الأذن
لا تنقبض فيمكن المماثلة سواء قطعها أو بعضها . وأما الشفة إن قطعها جميعها وجب
القصاص لإمكان المساواة ، وإن قطع بعضها لا قصاص لتعذرها . قال : ( ولا قصاص في
عظم إلا السن ) روي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ، ولأن المماثلة متعذرة فيما
سواه من العظام ، لأنه إذا كسر موضع ينكسر موضع آخر لأنه أجوف كالقارورة ممكنة في
السن ، قال تعالى : ) والسن بالسن ( [ المائدة : 45 ] ( فإن قلع يقلع ) سنّه ( وإن كسر يبرد
بقدره ) تحقيقا للمساواة ، حتى لو كان السن بحال لا يمكن برده لا قصاص ، وتجب الدية في
ماله ، ولا اعتبار بالكبر والصغر لاستوائهما في المنفعة .
قال : ( ولا قصاص في العين ) لتعذر المساواة ( إلا أن يذهب ضوؤها وهي قائمة ) فيمكن
القصاص ( بأن يوضع على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة المحماة حتى يذهب ضوؤها )
روي ذلك عن علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة ، لأنه طريق إلى استيفاء القصاص
فيسلك . وعن أبي يوسف : لا قصاص في الأحول لأنه نقص في العين كالشلل في اليد .
قال : ( ولا تقطع الأيدي باليد ) وقد بيناه ( وتجب الدية ) لأنه متى تعذر القصاص تجب الدية
لئلا تخلو الجناية عن موجب . قال : ( ومن قطع يميني رجلين قطعا يمينه وأخذا منه دية
الأخرى بينهما ) لأنهما استويا في سبب الاستحقاق كالغرماء في التركة ( فإن قطعها أحدهما مع
غيبة الآخر فللآخر دية يده ) لأن الحاضر استوفى حقه وبقي حق الغائب وتعذر استيفاء
القصاص فيصار إلى الدية .(5/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
قال : ( وإذا كان القاطع أشل أو ناقص الأصابع ، فالمقطوع إن شاء قطع المعيبة ، وإن
شاء أخذ دية يده ) لأنه تعذر استيفاء حقه كملا ، فإن رضي بدون حقه أخذه ولا شيء له
غيره ، وإن شاء أخذ العوض وهو الأرش ، كمن غصب مثليا فأتلفه ثم انقطع عن أيدي
الناس ، فللمالك أن يأخذ القيمة كذا هذا ؛ ولو سقطت اليد المعيبة أو قطعت ظلما فلا
شيء عليه لتعين حقه في القصاص ، وإنما يصير مالا باختياره فيسقط بفوات محله ؛ ولو
قطعت في قصاص أو سرقة فعليه الأرش لأنه أوفى بها حقا مستحقا عليه فهي سالمة له
معنى ( وكذلك لو كان رأس الشاجّ أصغر ) لأنه تعذر استيفاء حقه كاملا لأنه إن أخذ بقدر
شجّته مساحة يتعدى إلى غير حقه ، لأنه إذا شجّ ما بين قرنيه وما بين قرني الشاجّ أقل
مساحة ، فإذا استوفى مقدرا شجته وهو إنما يستحق ما بين قرنيه فقد تعدى إلى غير حقه
فيتخير كما قلنا : ( ولو كان رأس الشاج أكبر فالمشجوج إن شاء أخذ بقدر شجته ، وإن شاء
أخذ أرشها ) لأنه لو أخذ ما بين قرني الشاج يزداد شين الشاج بطول الشجة ، وليس له ذلك
فيتخير لما مر ، وكذلك إذا استوعبت الشجة من جبهته إلى قفاه ، ولا يبلغ قفا الشاج يخير
كما قلنا .
قال : ( ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل البرء أو خطأ بعده ، أو قطع يده عمدا
ثم قتله خطأ أو عمدا بعد البرء أخذ بالأمرين ) والأصل فيه أنه متى أمكن الجمع بين
الجراحات تجمع ، لأن القتل غالبا إنما يقع بجراحات متعاقبة ، فلو اعتبرنا كل جراحة على
حدة أدى إلى الحرج ، وإذا لم يمكن يعطي كل جراحة حكمها ، وفي هذه المسائل تعذر
الجمع . أما الأول فلتغاير الفعلين وتغاير حكمهما ، وكذلك الثالثة . وأما الثانية والرابعة
فلتخلل البرء بينهما وأنه قاطع للسراية حتى لو لم يتخلل بينهما برء يجمع بينهما ، ويكتفي
بدية واحدة في الخطأين ، وكذلك عندهما في العمدين بأن قطع يده عمدا ، ثم قتله عمدا قبل
البرء يجمع بينهما ويقتل ولا يقطع ، لأن الفعل متحد ولم يتخلل البرء فيجمع بينهما كما في
الخطأ . وقال أبو حنيفة : إن شاء الإمام قال لهم : اقطعوه ثم اقتلوه ، وإن شاء قال لهم :
اقتلوه ، لأن الجمع متعذر لأن الواجب القود وهو يعتمد المساواة وذلك بأن يكون القطع
بالقطع والقتل بالقتل فتعذر الجمع ، أو لأن القتل يمنع إضافة السراية إلى القطع ، ألا ترى
أنهما لو وجدا من شخصين يجب القصاص على القاتل فصار كما إذا تخلل البرء ، بخلاف ما
إذا سرى القطع لأن الفعل واحد ، وبخلاف الخطأين لأن الواجب الدية ولا يعتبر فيها
المساواة .(5/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
قال : ( ومن قطع يد غيره فعفا عن القطع ثم مات فعلى القاطع الدية في ماله ، ولو
عفا عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النفس والشجة كالقطع ) وقالا : هو عفو عن
النفس في المسألتين جميعا ، لأن العفو عن القطع أو عن الشجة عفو عن موجبه ، وموجبه
القطع لو برأ ، والقتل لو سرى ، فكان عفوا عن أيهما تحقق وصار كما إذا عفا عن
الجناية ، فإنه يتناول الجناية المقتصرة والسارية كذا هذا . ولأبي حنيفة أنه قتل نفسا معصومة
عمدا ، فيجب القصاص قياسا ، والعفو وقع عن القطع لا عن القتل ، إلا أنا استحسنا وقلنا
تجب الدية في ماله لوجود صورة العفو ، وذلك يوجب شبهة وهي دارئة للقصاص ، بخلاف
العفو عن الجناية لأنه يعم اسم جنس ، وبخلاف قوله وما يحدث منه لأنه صريح في العفو
عن القتل ، ثم إن كان خطأ يعتبر عفوه من الثلث لأن موجبه المال وحق الورثة متعلق
بالمال ، وإن كان عمدا فمن جميع المال ، لأن موجبه القصاص ولم يتعلق به حق الورثة
لأنه ليس بمال .
قال : ( وإذا حضر أحد الوليين وأقام البينة على القتل ثم حضر الآخر فإنه يعيد البينة )
وقالا : لا إعادة عليه ولو كان القتل خطأ لا يعيدها بالإجماع ، وأجمعوا أن الحاضر لا
يقتص حتى يحضر الغائب لاحتمال العفو . لهما أن القصاص حق الميت بدليل صحة عفوه
حال حياته بعد الجرح ، ولو انقلب مالا يقضى منه يدونه وتنفذ وصاياه ويورث عنه فيقوم
الواحد مقام الجميع في إقامة البينة . ولأبي حنيفة أن القصاص حق المقتول من وجه لما
قالا ، وحق الورثة من وجه ، فإن الوارث لو عفا عن الجارح حال حياة المجروح صح
عفوه ، ولو لم يكن حقه لما صح كإبراء الغريم فكان الاحتياط في الإعادة ، بخلاف الخطأ
لأن الواجب المال وهو حق المقتول من كل وجه لأنه يصرف في حوائجه أولا ، وليس
مبناه على التغليظ حتى يثبت بشهادة النساء مع الرجال وبالشهادة على الشهادة ولا كذلك
العمد .
قال : ( ورجلان أقر كل واحد منهما بالقتل فقال الولي قتلتماه فله قتلهما ، ولو كان مكان
الإقرار شهادة فهو باطل ) وهو أن يشهد شاهدان أن زيدا قتله وآخران أن عمرا قتله ، فقال
الولي : قتلاه ، والفرق أنه كذّب الشهود حيث قال قتلاه ، وكذّب المقرين حيث قال قتلتماه ،
وتكذيب الشهود تفسيق لهم ، والفسق يمنع قبول الشهادة ، وتكذيب المقر في بعض ما أقر به
لا يبطل إقراره في الباقي فافترقا .(5/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
قال : ( ولو رمى مسلما فارتد والعياذ بالله ، ثم وقع السهم به ففيه الدية ، ولو كان مرتدا
فأسلم لا شيء فيه ؛ ولو رمى عبدا فأعتقه مولاه ففيه القيمة ) أما الأولى فمذهبه ، وقالا : لا
شيء فيه لأنهما يعتبران حالة الإصابة لأنها حالة التلف الموجبة للعقوبة ، وحالة التلف أسقط
عصمة نفسه بالردة ، فكأنه أبرأ الرامي فصار كما إذا أبرأه بعد الجرح قبل الموت ، وله أنه
صار قاتلا برميه وأنه متقوّم معصوم عند الرمي لوجوده قبل الردة . وقضيته وجوب القصاص
إلا أن باعتبار حالة القتل أورث شبهة لردته فسقط القصاص فتجب الدية . فأبو حنيفة يعتبر
حالة الرمي ، ألا ترى أنه لو رمى إلى صيد ثم ارتد ثم وقع به السهم حل ، وكذا إذا رمى إلى
صيد ثم مات ثم أصابه حل ويكون له ، ولو كفر بعد الرمي قبل الإصابة أجزأ عنه ، وذلك
دليل أن المعتبر حالة الرمي . وأما المسألة الثانية فبالإجماع لأن الرمي ما وقع سببا للضمان
لأن المرمي غير متقوّم فلا ينقلب سببا بعد ذلك ، وعلى هذا إذا رمى حربيا فأسلم ثم وقع به
السهم لا شيء عليه لما قلناه .
وأما المسألة الثالثة فقول أبو حنيفة وأبي يوسف وقال محمد : يجب فضل ما بين قيمته
مرميا إلى غير مرمي ، لأن العتق قاطع للسراية فبقي الرمى جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه
فيجب النقصان . ولهما ما بينا أن المعتبر حالة الرمي فيصير قاتلا من وقت الرمي وهو مملوك
فتجب قيمته ، وهذا بخلاف ما إذا قطع طرف عبد ثم أعتقه مولاه ثم مات العبد يجب عليه
أرش اليد مع النقصان الذي نقصه القطع إلى أن أعتق ، ولا يجب عليه قيمة النفس لأنه أتلف
بعض المحل وأنه يوجب الضمان للمولى ، ولو وجب بعد السراية شيء لوجب للعبد ، فتصير
نهاية الجناية مخالفة لابتدائها ، وهنا الرمي قبل الإصابة لا يجب به الضمان لأنه ليس بإتلاف
وإنما تقل به الرغبات فلا تختلف نهايته وبدايته .(5/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
كتاب الديات
الدية ما يؤدى ، ولما كان القتل يوجب ما لا يدفع إلى الأولياء سمي دية ، وإنما خص
بما يؤدى بدل النفس دون غيرها من المتلفات ، لأن الاسم يشتق للتعريف بالتخصيص ولا
يطردونه ، ووجوب الدية في القتل لحكمة بالغة ، وهي صون بنيان الآدمي عن الهدم ودمه عن
الهدر ، وجبت بالكتاب والسنة ، وهو قوله تعالى : ) ودية مسلمة إلى أهله ( [ النساء : 92 ]
وقوله عليه الصلاة والسلام : ' في النفس المؤمنة مائة من الإبل ' أي تجب بسبب قتل النفس
المؤمنة مائة من الإبل .
قال : ( الدية المغلظة خمس وعشرون بنت مخاض ومثلها بنت لبون وحقاق وجذاع )
وقال محمد : ثلاثون جذعة وثلاثون حقة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عام كلها خلفات
في بطونها أولادها لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في حجة الوداع : ' ألا إن
قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا ، وفيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها '
ودية شبه العمد أغلظ فتجب كما قلنا . ولهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' في النفس مائة عن
الإبل ' وروى الزهري أن الدية كانت على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أرباعا ،
ومعلوم أنه لا يراد به الخطأ ، فبقي المراد شبه العمد ، ولو أوجبنا الحوامل وجب الزيادة على(5/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
المائة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن التغليظ أرباع كما قلنا ولا يعرف ذلك إلا سماعا
فكان معارضا لما روي ، ولأن الصحابة اختلفوا في صفة التغليظ ، ولو كان ما رويناه ثابتا
لارتفع خصوصا وقد ورد على زعمكم في حجة الوداع مع تكاثر المسلمين فكان يشتهر ، ولو
اشتهر لاحتج به البعض على البعض ، ولو احتج لارتفع الخلاف ، ولما لم يرتفع دل على
عدم ثبوته ولأنه لا يجوز إيجاب الحامل فإنه لا يعلم الحمل حقيقة فيكون تكليف ما ليس في
الوسع .
قال : ( وغير المغلظة عشرون ابن مخاض ومثلها بنات مخاض وبنات لبون وحقاق
وجذاع ) فهي أخماس من كل صنف عشرون هكذا قاله ابن مسعود . وروي أن النبي عليه
الصلاة والسلام قضى في قتيل قتل خطأ بمائة من الإبل أخماسا كما قلنا ، ولأن الخطأ أخف
فناسب التخفيف في موجبه وذلك بما ذكرنا .
قال : ( أو ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم ) كل عشرة وزن سبعة مثاقيل لما روى
مرّار بن حارثة قال : ' قطعت يد على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقضي على القاطع بخمسة
آلاف درهم ' . وعن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية بعشرة آلاف درهم ومن
الدنانير بألف دينار . وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام قضى في قتيل بعشرة آلاف درهم '
وما روي أنه قضى باثني عشر ألف . قال محمد بن الحسن : كان وزن ستة فيحمل عليه
توفيقا ( ولا تجب الدية من شيء آخر ) وقالا : تجب من البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة
ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان إزار ورداء ، لما روى عبيدة السلماني أن عمر رضي
الله عنه قضى في الدية بعشرة آلاف درهم ، ومن الدنانير بألف دينار ، ومن الإبل بمائة ،
ومن البقر بمائتي بقرة ، ومن الغنم بألفي شاة ، ومن الحلل بمائتي حلة ، ومراده أنه قدّر
الدية بهذه المقادير ، لأن القضاء لم يقع في وقت واحد بجميع هذه الأجناس . ولأبي حنيفة
رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام : ' في النفس مائة من الإبل ' وقضيته أن لا يجب ما
سواها إلا ما دل الدليل عليه ، وإنما دل على الذهب والفضة هو ما تقدم من قضائه عليه
الصلاة والسلام .
ومن أصحابنا من روى عن أبي حنيفة مثل قولهما ، فإنه قال : إذا صالح الولي على
أكثر من مائتي بقرة أو مائتي حلة لم يجز ، وهذا آية التقدير . قال : ( ودية المرأة نصف ذلك )
هكذا روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت كذلك أيضا ولأنها(5/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
في الميراث ، والشهادة على النصف من الرجل فكذلك الدية . قال : ( ولا تغليظ إلا في الإبل )
لأنه لم يرد النص بالتغليظ إلا فيها ولا يعرف ذلك إلا نصا . قال : ( ودية المسلم والذمي
سواء ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار ' وقال الزهري :
قضى أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم في دية الذمي بمثل دية المسلم ، وقال عليه
الصلاة والسلام : ' إذا قبلوها فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين '
وللمسلمين إذا قتل قتيلهم ألف دينار فيكون لهم كذلك ، وكذلك دية المستأمن لما روى ابن
عباس أن مستأمنين جاءا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكساهما وحملهما وخرجا من عنده ، فلقيهما
عمرو بن أمية الضمري فقتلهما ولم يعلم بأمانهما ، فوداهما رسول الله عليه الصلاة والسلام
بديتي حرين مسلمين .
فصل
( وفي النفس الدية ) لما روينا ، والمراد نفس الحر ويستوي فيه الصغير والكبير والوضيع
والشريف والمسلم والذمي لاستوائهم في الحرمة والعصمة وكمال الأحوال في الأحكام
الدنيوية قال : ( وكذلك في الأنف والذكر والحشفة والعقل والشم والذوق والسمع والبصر
واللسان ، وبعضه إذا منع الكلام ، والصلب إذا منع الجماع ، أو انقطع ماؤه ، أو احدودب ،
وكذا إذا أفضاها فلم تستمسك البول ) والأصل في ذلك أنه متى أزال الجمال على وجه
الكمال أو أذهب جنس المنفعة أصلا تجب الدية كاملة ، لأن تفويت جنس المنفعة إتلاف
للنفس معنى في حق تلك المنفعة ، لأن قيام النفس معنى بقيام منافعها ، فكان تفويت جنس
المنفعة كتفويت الحياة ، والجمال مقصود في الحيوانات كالمنفعة ، ولهذا تزداد قيمة المملوك
بالجمال ، وتفويت جنس المنفعة إنما أوجب الدية تشريفا وتكريما للآدمي وشرفه بالجمال
كشرفه بالمنافع فيتعلق به كمال الدية ، ويؤيد ذلك ما روى سعيد بن المسيب أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال : ' في النفس الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الأنف
الدية ، وفي المارن الدية ' وهكذا كتب عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم ، إذا ثبت هذا(5/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
فنقول : إذا قطع الأنف أزال الجمال على الكمال ، وكذا المارن والأرنبة والكل عضو واحد ،
فلا يجب بقطع الكل إلا دية واحدة ؛ وفي قطع الذكر تفويت منفعة الوطء واستمساك البول
ورمي الماء ودفقه والإيلاج الذي هو طريق العلوق عادة .
وأما الحشفة فهي الأصل في منفعة الإيلاج والدفق والقصبة تبع له . وأما العقل فمنفعته
أعظم الأشياء وبه ينتفع لدنياه وآخرته ، ومنافعه أعظم من أن تحصى ، والشم والذوق والسمع
والبصر منافع مقصودة ، وعمر رضي الله عنه قضى في ضربة واحدة بأربع ديات حيث
ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر ، وفي قطع اللسان إزالة منفعة مقصودة وهي منفعة
النطق ، وكذلك إذا زالت بقطع البعض لوجود الموجب . ولو عجز عن النطق ببعض
الحروف ، فإن عجز عن الأكثر تجب كل الدية لأنه فات منفعة الكلام ، وإن قدر على أكثرها
فحكومة عدل لحصول الأفهام لكن مع خلل ؛ والجماع منفعة مقصودة يتعلق به مصالح جمة ،
فإذا فات وجب به دية كاملة ، وبانقطاع الماء يفوت جنس المنفعة ، وبالحدبة يزول الجمال
على وجه الكمال ، فلو زالت الحدبة لا يجب شيء لزوال الموجب ؛ واستمساك البول منفعة
مقصودة فتجب الدية بزوالها .
قال : ( ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله قبل البرء خطأ ففيه دية واحدة ) لاتحاد الجنس
وقد تقدم . قال : ( وما في البدن اثنان ففيهما الدية وفي أحدهما نصف الدية ) وهي الأذنان
والعينان إذا ذهب نورهما سواء ذهبت الشحمة أو بقيت ، لأن المنفعة بالنور لا بالشحمة ،
واللحيان والشفتان والحاجبان واليدان والرجلان وسمع الأذنين وثديا المرأة وحلمتاها ، لأن
اللبن لا يستمسك دونهما ، وبفواتهما تفوت منفعة الإرضاع ، والأنثيان والأليتان إذا استوصل
لحمهما حتى لا يبقى على الورك لحم ، والأصل فيه ما روى سعيد بن المسيب أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال : ' في العينين الدية ، وفي الأذنين الدية ، وفي اليدين الدية ، وفي الرجلين
الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الشفتين الدية ' وفي كتاب عمرو بن حزم ' وفي العينين
الدية ، وفي أحدهما نصف الدية ' ولأن المنفعة تفوت بفواتهما أو الجمال كاملا ، وبفوات
أحدهما يفوت النصف .
وإذا قطع الأنثيين مع الذكر ، أو قطع الذكر أولا ثم الأنثيين ففيهما ديتان ، لأن منفعة
الأنثيين بعد قطع الذكر قائمة وهي إمساك المني والبول ، فإن قطع الأنثيين ثم الذكر ففي(5/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
الأنثيين الدية ، وفي الذكر حكومة عدل ، لأن بقطع الأنثيين صار خصيا ، وفي ذكر الخصي
حكومة ولأنه اختلت منفعته بقطع الأنثيين وهي منفعة الإيلاد فصار كاليد الشلاء . قال : ( وما
فيه أربعة ففي أحدها ربع الدية ) وهي أشفار العينين وأهدابها ، لأنه يفوت به الجمال على
الكمال وجنس المنفعة ، وهو دفع القذى عن العين ، فإن قطع الأشفار وحدها وليس فيها
أهداب ففيها الدية وفي أحدها ربع الدية ، وكذلك الأهداب ، وإن قطعها معا فدية واحدة
لأنها كعضو واحد كالمارن مع الأنف .
قال : ( وفي كل أصبع عشر الدية ) يعني من أصابع اليدين والرجلين . قال عليه الصلاة
والسلام : ' في كل أصبع عشر من الإبل ' والأصابع كلها سواء ، وفي قطع الكل تفويت
جنس المنفعة فتجب دية كاملة وهي عشر فيقسم عليها ( وتقسم ) دية الأصبع ( على مفاصلها )
فما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف ديتها ، وما فيها ثلاث مفاصل ففي أحدها ثلثها اعتبارا
بانقسام دية اليد على أصابعها . قال : ( والكف تبع للأصابع ) لأن منفعة البطش بالأصابع والدية
وجبت بتفويت المنفعة . قال : ( وفي كل سن نصف عشر الدية ) قال عليه الصلاة والسلام :
' وفي كل سن خمس من الإبل ' والأسنان كلها سواء الثنايا والأنياب والأضراس لإطلاق
الحديث ، واسم السن يتناول الكل فيجب في الأسنان دية وثلاثة أخماس دية ، لأن الأسنان
اثنان وثلاثون سنا عشرون ضرسا وأربعة أنياب وأربع ضواحك وأربع ثنايا . وأسنان الكوسج
قالوا ثمانية وعشرون فيجب دية وخمسا دية ، وهذا غير جار على قياس الأعضاء إلا أن
المرجع فيها إلى النص .
قال : ( فإن قلعها فنبتت أخرى مكانها سقط الأرش ) لزوال سببه ، ولو أعاد المقلوعة إلى
مكانها فنبتت فعليه الأرش وكذلك الأذن لأنها لا تعود إلى الحالة الأولى في المنفعة
والجمال ، والمقلوع لا ينبت ثانيا لأنه لا يلتزق بالعروق والعصب فكان وجود هذا النبات
وعدمه سواء حتى لو قلعه إنسان لا شيء عليه ؛ ولو اسودت السن من الضربة أو احمرت أو
اخضرت ففيها الأرش كاملا لأنها تبطل منفعتها إذا اسودت فإنها تتناثر ويفوت بذلك الجمال
كاملا ، ولو اصفرت فعن أبي حنيفة حكومة عدل لأن الصفرة لا تذهب منفعتها بل توجب
نقصانها فتجب الحكومة ؛ ولو ضرب سنا فتحرك ينتظر به حولا لاحتمال أنها تشتد ، وإن(5/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
سقط أو حدث فيه صفة مما ذكرنا وجب فيها ما قلنا ، لأن الجنايات تعتبر فيها حال
الاستقرار ، قال عليه الصلاة والسلام : ' يستأنّ بالجراح حتى يبرأ ' ولأنها إذا لم تستقر لا
يعلم الواجب فلا يجوز القضاء .
قال : ( وفي شعر الرأس إذا حلق فلم ينبت الدية ، وكذلك اللحية والحاجبان
والأهداب ) أما الحاجبان والأهداب فلما مرّ ، وأما اللحية فلأن فيها جمالا كاملا لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' إن ملائكة سماء الدنيا تقول : سبحان من زيّن الرجال باللحى والنساء
بالذوائب ' وعن علي رضي الله عنه : أنه أوجب في شعر الرأس إذا حلق فلم ينبت دية
كاملة ، وكذلك قال في اللحية . وكان أبو جعفر الهنداوني يقول في اللحية : إنما تجب
الدية إذا كانت كاملة يتجمل بها ، أما إذا كانت طاقات متفرقة لا يتجمل بها فلا شيء فيها ،
وإن كانت غير متفرقة لا يتجمل بها وليست مما تشين ففيها حكومة عدل . قال : ( وفي اليد
إذا شلت والعين إذا ذهب ضوؤها الدية ) لأنها إذا عدمت المنفعة فقد عدمت معنى فتجب
الدية على ما بينا .
قال : ( وفي الشارب ولحية الكوسج وثدي الرجل وذكر الخصي والعنين ولسان الأخرس
واليد الشلاء والعين العوراء والرجل العرجاء والسن السوداء والأصبع الزائدة وعين الصبي
ولسانه وذكره إذا لم تعلم صحته حكومة عدل ) أما الشارب فهو تبع للحية ، وقد قيل السنة
فيها الحلق فلم يكن جمالا كاملا ، ولحية الكوسج ليست جمالا كاملا ، وكل ما يجب في
الشعر إنما يجب إذا فسد المنبت ، أما إذا عاد فنبت كما كان لا يجب شيء لعدم الوجب ،
وثدي الرجل لا منفعة فيه ولا جمال ، وذكر الخصي والعنين واليد الشلاء ولسان الأخرس
والعين العوراء والرجل العرجاء لعدم فوات المنفعة ، ولا جمال في السن السوداء ولا منفعة
في الأصبع الزائدة ، وإنما وجبت حكومة عدل تشريفا للآدمي لأنه جزء منه ، وأعضاء الصبي
إذا لم تعلم صحتها وسلامة منفعتها لا تجب الدية بالشك والسلامة وإن كانت ظاهرة فالظاهر
لا يصلح حجة للإلزام ، واستهلال الصبي ليس بكلام بل مجرد صوت وصحة اللسان تعرف
بالكلام ، والذكر بالحركة ، والعين بما يستدل به على النظر ، فإذا عرف صحة ذلك فهو(5/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
كالبالغ في العمد والخطأ ؛ وفي شعر بدن الإنسان حكومة لأنه لا منفعة فيه ولا جمال فإنه لا
يظهر ، ولو ضرب الأذن فيبست فيها حكومة ، وفي قلع الأظفار فلم تنبت حكومة لأنه لم يرد
فيها أرش مقدر .
قال : ( وإذا قطع اليد من نصف الساعد ففي الكف نصف الدية ) لما تقدم ( وفي الزائد
حكومة عدل ) لأنه لا منفعة فيه ولا جمال ، وكذلك إن قطعها من المرفق لما بينا . قال :
( ومن قطع أصبعا فشلت أخرى ، أو قطع يده اليمنى فشلت اليسرى فلا قصاص ) وقالا :
عليه القصاص في الأولى والأرش في الثانية ، وعلى هذا الخلاف إذا شجه موضحة فذهب
سمعه أو بصره ؛ وأجمعوا لو شجه موضحة فصارت منقلة ، أو كسر سنه فاسود الباقي ، أو
قطع الكف فشل الساعد ، أو قطع إصبعا فشل الكف ، أو قطع مفصلا من الأصبع فشل
باقيها لا قصاص عليه وعليه أرش الكل . لهما في الخلافيات أنه تعدد محل الجناية فلم
يلزم من سقوط القصاص في أحدهما سقوطه في الآخر ، كما إذا جنى على عضو عمدا
وعلى آخر خطأ . ولأبي حنيفة أن جنايته وقعت سارية بفعل واحد ، والمحل متحد من
حيث الاتصال فتعذر القصاص لأن القصاص ينبئ عن المماثلة وليس في وسعه القطع
بصفة السراية ، وإذا تعذر القصاص وجب المال كما في مواضع الإجماع ، بخلاف ما قاسا
عليه لأن أحدهما ليس بسراية للآخر ؛ ولو قطع كفا فيها أصبع أو أصبعان فعليه أرش
الأصابع ولا شيء في الكف وقالا : ينظر إلى أرش الأصبع والأصبعين وإلى حكومة العدل
في الكف ؛ فيدخل الأقل في الأكثر لأنهما جنايتان بفعل واحد في محل واحد فلا يجب
الأرشان ، ولا سبيل إلى إهدار أحدهما فرجحنا بالأكثر كالموضحة إذا أسقطت بعض شعر
الرأس .
وله أن الأصابع أصل والكف تبع ، لأن البطش يقوم بها ، ولأن قطع الأصابع
يوجب الدية كاملة ، ولا كذلك قطع الكف ، والأصل إن قل يستتبع التبع ، بخلاف ما
ذكر لأن أحدهما ليس تبعا للآخر ؛ ولو قطع الكف وفيه ثلاث أصابع وجب أرش
الأصابع بالإجماع لأن الأصابع هي الأصل لما بينا ، للأكثر حكم الكل . قال : ( وعمد
الصبي والمجنون خطأ ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' عمد الصبي خطأ ' وروي أن مجنونا
قتل رجلا بسيف فقضى علي رضي الله عنه بالدية على عاقلته من غير نكير ، ولأن
القصاص عقوبة ولا يستحقان العقوبة بفعلهما كالحدود ، وكذا من أحكام العمد المأثم ولا
إثم عليهما .(5/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
فصل
( الشجاج عشرة : الخارصة وهي التي تخرص الجلد ) أي تشقه أو تخدشه ولا يخرج
الدم ( ثم الدامعة التي تخرج ما يشبه الدمع ) وقيل التي تظهر الدم ولا تسيله كالدمع في العين
( ثم الدامية التي تخرج الدم ) وتسيله ( ثم الباضعة التي تبضع اللحم ) أي تقطعه ، وقيل تقطع
الجلد ( ثم المتلاحمة التي تأخذ في اللحم ) وعلى الوجه الأول تأخذ في اللحم أكثر من
الباضعة ( ثم السمحاق ، وهو جلدة فوق العظم تصل إليها الشجة ، ثم الموضحة التي توضح
العظم ) أي تكشفه ( ثم الهاشمة التي تهشم العظم ) أي تكسره ( ثم المنقلة التي تنقل العظم بعد
الكسر . ثم الآمة التي تصل إلى أم الدماغ ) وهي جلدة تحت العظم فيها الدماغ ، قالوا ثم
الدامغة ، وهي التي تخرق الجلد وتصل إلى أم الدماغ ولم يذكرها محمد إذ لا فائدة في
ذكرها فإنه لا يعيش معها وليس لها حكم ، ولم يذكر الخارصة والدامعة لأنها لا يبقى لها أثر
غالبا ، والشجة التي لا أثر لها لا حكم لها .
قال : ( ففي الموضحة القصاص إن كانت عمدا ) لقوله تعالى : ) والجروح قصاص (
[ المائدة : 45 ] وأنه ممكن فيها لأنه يمكن أن ينهي السكين إلى العظم فتتحقق المساواة ، وقد
قضى عليه الصلاة والسلام بالقصاص في الموضحة . قال : ( وفي التي قبلها حكومة عدل )
لأنه ليس فيها أرش مقدر ولا يمكن إهدارها فتجب الحكومة . قال عمر بن عبد العزيز : ما
دون الموضحة خدوش فيها حكومة عدل . وعن محمد في الأصل : فيما قبل الموضحة
القصاص دون ما بعدها لأنه يمكن اعتبار المساواة فيما قبلها بمعرفة قدر الجراحة بمسمار ثم
تؤخذ حديدة على قدرها وينفذ في اللحم إلى آخرها فيستوفي مثل ما فعل لقوله تعالى :
) والجروح قصاص ( [ المائدة : 45 ] ولا يمكن ذلك فيما بعدها ، لأن كسر العظم وتنقله لا
تمكّن المساواة فيه .(5/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
قال : ( وفي الموضحة الخطإ نصف عشر الدية ، وفي الهاشمة العشر ، وفي المنقلة عشر
ونصف ، وفي الآمّة الثلث ، وكذا الجائفة ، فإذا نفذت فثلثان ) لما روى عمرو بن حزم أن
النبي عليه الصلاة والسلام كتب له ' وفي الموضحة خمس من الإبل ، وفي الهاشمة عشر ،
وفي المنقلة خمس عشر ، وفي الآمة ثلث الدية ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' في الجائفة
ثلث الدية ' وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت بثلثي الدية ، لأنها إذا
نفذت فهي جائفتان . قال : ( والشجاج يختص بالوجه والرأس ) لغة كالخدين والذقن واللحيين
والجبهة ( والجائفة بالجوف والجنب والظهر وما سوى ذلك جراحات فيها حكومة عدل ) لأنها
غير مقدرة ولا مهدرة فتجب حكومة عدل . قال : ( وحكومة العدل أن يقوم المجروح عبدا
سالما وسليما ) أي صحيحا وجريحا ( فما نقصت الجراحة من القيمة يعتبر من الدية ) فإن
نقصت عشر القيمة تجب عشر الدية وعلى هذا ، وأراد بالسليم الجريح ، وإن كان موضوعا
للديغ استعارة لأنه في معناه ، وهذا عند الطحاوي لأن الحر لا يمكن تقويمه والقيمة للعبد
كالدية للحر ، فما أوجبت نقصا في أحدهما اعتبر بالآخر . وقال الكرخي : يؤخذ مقداره من
الشجة التي لها أرش مقدر بالحزر فينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدره من
نصف عشر الدية .
قال : ( ومن شج رجلا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل فيه أرش الموضحة ) لأن العقل
إذا فات منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا شجه فمات ؛ وأما الشعر فلأن أرش
الموضحة يجب لفوات بعض الشعر حتى لو نبتت سقط الأرش ، والدية تجب بفوات جميع
الشعر ، وقد تعلقا بفعل واحد فيدخل الجزء في الكل كما لو قطع أصبعه فشلت يده . قال :
( وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه لم تدخل ، ويجب أرش الموضحة مع ذلك ) لما روينا
عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في ضربة واحدة بأربع ديات ولأن منفعة كل عضو من هذه
الأعضاء مختصة به لا تتعدى إلى غيره فأشبه الأعضاء المختلفة بخلاف العقل فإن منفعته
تتعدى إلى جميع الأعضاء . وعن أبي يوسف أن الشجة تدخل في دية السمع والكلام دون(5/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
البصر ، لأن السمع والكلام أمر باطن فاعتبره بالعقل ؛ أما البصر أمر ظاهر فلا يلتحق به .
وطريق معرفة ذهاب هذه الأشياء وبقائها اعتراف الجاني أو تصديقه للمجني عليه أو بنكوله
عن اليمين كما في سائر الحقوق ويعرف البصر بأن ينظره عدلان من الأطباء لأنه ظاهر
يعرف ؛ ومن أصحابنا من قال : يستعلم البصر بأن يجعل بين يديه حية يختبر حاله بها . وأما
السمع فيستغفل المدعي ذهاب سمعه كما روي أن رجلا ضرب امرأة فادعت ذهاب سمعها ،
فاحتكما إلى القاضي إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة فتشاغل عنها ثم التفت إليها فقال :
غطي عورتك فجمعت ذيلها فعلم أنها كاذبة . وأما الكلام فيعرف بأن يستغفل حتى يسمع
كلامه أولا . وأما الشم فيختبر بالرائحة الكريهة فإن جمع منها وجهه علم أنه كاذب .
قال : ( ولا يقتص من الموضحة والطرف حتى تبرأ ) لما روي أن رجلا جرح حسان بن
ثابت فجاء الأنصار إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فطلبوا القصاص فقال : ' انتظروا ما
يكون من صاحبكم ' فأما الجراحة الخطأ فلا شبهة فيها لأنها إن اقتصرت فظاهر وإن سرت
فقد أخذ بعض الدية فيأخذ الباقي . قال : ( ولو شجه فالتحمت ونبت الشعر سقط الأرش
لزوال الموجب وهو الشين . وقال أبو يوسف : عليه أرش الألم ، لأن الشين وإن زال فالألم
الحاصل ما زال فيقوّم الألم . وقال محمد : عليه أجرة الطبيب لأنه لزمه بسبب فعله فكأنه
أخذه من ماله .
فصل
( ومن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة خمسون دينارا على العاقلة ذكرا كان
أو أنثى ) والقياس أن لا يجب فيه شيء لأنه لا يعلم حياته ، والظاهر لا يصلح للإلزام إلا أنا
تركنا القياس ، لما روي ' أن امرأة ضربت بطن ضرتها بعمود فسطاط فألقت جنينا ميتا ،(5/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
فاختصما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم على عاقلة الضاربة بالغرة عبدا أو أمة أو
قيمتها خمسمائة ' وفي رواية ' أو خمسمائة ' ولم يستفسر ذكرا كان أو أنثى ، ولأنه يتعذر
التمييز بين الذكر والأنثى في الجنين فيسقط اعتباره دفعا للحرج ، وفي رواية ' فألقت جنينا ميتا
وماتت ، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام على عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين ' رواه
المغيرة وقال : فقام عم الجنين فقال : إنه قد أشعر ، وقال والد الضاربة ، وفي رواية أخوها
عمران بن عويمر الأسلمي فقال : كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح ولا استهل ودم
مثل ذلك يطل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ' أسجع كسجع الكهّان فيه غرة عبد أو أمة '
وكذلك رواه محمد بن مسلمة .
قال : ( وإن ألقيه حيا ثم مات ففيه الدية على العاقلة وعليه الكفارة ) لأنه صار قاتلا
( وإن ألقته ميتا ثم ماتت ففيه ديتها والغرة ) لما روينا ( وإن ماتت ثم ألقته ميتا ففيها الدية
ولا شيء فيه ) لأن موتها سبب لموته لأنه يختنق بموتها فإنه إنما يتنفس بنفسها واحتمل
موته بالضربة فلا تجب الغرة بالشك ( وإن ماتت ثم خرج حيا ثم مات فديتان ) لأنه قتل
نفسين ( فإن ألقت جنينين ميتين ففيهما غرتان ) لأنه عليه الصلاة والسلام قضى في الجنين
بغرة فيكون في الجنينين غرتان ، ولأن من أتلف شخصين بضربة واحدة ضمن كل واحد
منهما كالكبيرين ( فإن ألقت أحدهما ميتا وبالآخر حيا ثم مات ففي الميت الغرة وفي الحي
دية كاملة ) اعتبارا لهما بحالة الانفراد ( وتجب الغرة في سنة واحدة ) هكذا روي عن النبي
عليه الصلاة والسلام .
( وإن استبان بعض خلقه ولم يتم ففيه الغرة ) لأنا نعلم أنه ولد فكان كالكامل ، والنبي
عليه الصلاة والسلام قضى في الجنين بالغرة ولم يفصل ولم يسأل . قال : ( ولا كفارة في
الجنين ) لأن القتل غير متحقق لجواز أن لا حياة فيه ، وقد بينا أن ما وجب فيه على خلاف
القياس بالنص ، ولأنه ورد في الغرة لا غير ، والكفارات طريقها التوقيف أو الاتفاق . قال :
( وما يجب فيه موروث عنه ) لأنه بدل عن نفسه فيورث كالدية ولا يرث الضارب منها لأنه
قاتل . قال : ( وفي جنين الأمة نصف عشر قيمته لو كان حيا إن كان ذكرا ، وعشر قيمته لو
كان أنثى ) لأن الواجب في جنين الحرة خمسمائة ، وهي نصف عشر الدية ، والدية من الحرة
كالقيمة من العبد فيعتبر به ، وغرة الجنين في مال الضارب ، لأن العاقلة لا تعقل العبيد . وفي(5/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
الفتاوى : معتدة حامل احتالت لانقضاء عدتها بإسقاط الحمل فعليها الغرة للزوج ولا ترث
منه ، وقد مر الوجه فيه .
فصل
( ومن أخرج إلى طريق العامة روشنا أو ميزابا أو كنيفا أو دكانا فلرجل من عرض الناس
أن ينتزعه ) لأن المرور في الطريق العام حق مشترك بين جميع الناس بأنفسهم ودوابهم ، فله
أن ينقضه كما في الملك المشترك إذا بنى فيه أحدهم شيئا كان لكل واحد منهم نقضه كذا
هذا قال : ( فإن سقط على إنسان فعطب فالدية على عاقلته ) لأنه تسبب إلى التلف وهو متعد
فيه بشغل طريق المسلمين وهواه بما ليس له حق الشغل ؛ ولو فعل ذلك بأمر السلطان لا
يضمن لأنه صار مباحا مطلقا لأنه نائب عن جماعة المسلمين ؛ ولو باع الدار بعد ذلك لا يبرأ
عن الضمان لأن الجناية وجدت منه وهي باقية .
قال : ( وإن أصابه طرف الميزاب الذي في الحائط فلا ضمان فيه ) لأنه غير متعد في
السبب ، لأن طرفه الداخل موضوع في ملكه ( وإن أصابه الطرف الخارج ضمن ) لأنه متعد
فيه . ( وإن أصابه الطرفان أو لا يعلم ضمن نصف الدية ) لأن إضافة الموت إلى أحدهما ليس
بأولى من الآخر فيضاف إليهما ( ثم إن كان لا يستضر به أحد جاز له الانتفاع به ) لأن له فيه
حق المرور ولا ضرر فيه فيجوز ( وإن كان يستضر به أحد يكره ) لأن الإضرار بالناس حرام
عقلا وشرعا . قال : ( وليس لأحد من أهل الدرب الغير النافذ أن يفعل ذلك إلا بأمرهم ) لأن
الطريق مشترك بينهم فصار كالدار المشتركة ؛ وإن كان مما جرت به عادة السكنى كوضع
المتاع ونحوه لم يضمن لأنه غير متعد نظرا إلى العادة .
قال : ( ولو وضع جمرا في الطريق ضمن ما أحرق في ذلك الموضع ( فإن حرّكته الريح
إلى موضع آخر لم يضمن ما أحرق في ذلك الموضع إلا أن يكون يوم ريح ؛ وكذا صب
الماء وربط الدابة ووضع الخشبة وإلقاء التراب واتخاذ الطين ووضع المتاع ؛ وكذا لو قعد في
الطريق ليستريح أو ضعف عن المشي لإعياء أو مرض فعثر به أحد فمات وجبت الدية لما(5/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
قلنا إنه متعد في السبب فصار كحافر البئر على ما مر ؛ وإن عثر بذلك رجل فوقع على آخر
ومات فالضمان على الواضع لا على العاثر لأنه هو المتعدي في السبب دون العاثر ، وإن
نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب به إنسان ضمن من نحاه وبرئ الأول ، لأن
بالتنحية شغل مكانا آخر وأزال أثر فعل الأول ، فكان الثاني هو الجاني فيضمن ، ولو رش
الطريق أو توضأ فيه ضمن ، قالوا : هذا إذا لم يعلم المار بالرش بأن كان أعمى أو ليلا ، وإن
علم لا يضمن لأنه خاطر بروحه لما تعمد المشي عليه فكان مباشرا للتلف فلا يكون على
المسبب ؛ وكذا لو تعمد المشي على الحجر والخشب الموضوعة فعثر به لا ضمان على
الواضع ، وقيل هذا إذا رشّ بعض الطريق ، أما إذا رشّ جميع الطريق فإنه يضمن الواضع لأنه
مضطر في المرور عليه لأنه لا يجد غيره ، ولا كفارة على واضع هذه الأشياء ، ولم يحرم به
الميراث لأنه مسبب كحافر البئر ، وقد مرّ .
قال : ( وإذا مال حائط إنسان إلى طريق العامة فطالبه بنقضه مسلم أو ذمي فلم
ينقضه في مدة أمكنه نقضه فيها حتى سقط ضمن ما تلف به ) والقياس أن لا يضمن ،
لأن الميلان وشغل الهواء ليس بفعله فلم يباشر القتل ولا سببه فلا ضمان عليه . وجه
الاستحسان أن الهواء صار مشغولا بحائطه والناس كلهم فيه شركاء على ما مر ، فإذا
طولب بتفريغه يجب عليه ، فإذا لم يفرغ مع الإمكان صار متعديا وقبل الطلب لم يصر
متعديا ، لأن الميل حصل في يده بغير صنعه وصار كثوب ألقته الريح في حجره فطلبه
صاحبه بالرد ، فإن لم يرده مع الإمكان فهلك ضمن ، وإن لم يطلبه لم يضمن ، وإن
اشتغل بهدمه من وقت الطلب فسقط لم يضمن لأنه لم يوجد التعدي من وقت الطلب ؛
ولو نقضه فعثر رجل بالنقض ضمن عند محمد وإن لم يطالب برفعه ، لأن الطريق صار
مشغولا بترابه ونقضه فوجب عليه تفريغه . وعن أبي يوسف أنه لا يضمن ما لم يطالب
برفعه كما في مسألة الثوب ، ولو باع الدار خرج من ضمانه ، ويطالب المشتري بالهدم
لأنه لم يبق له ولاية هدم الحائط ، والمطالبة إنما تصح ممن له ولاية الهدم حتى لا
تصح مطالبة المستأجر والمرتهن والمودع ، ويصح مطالبة الراهن لقدرته على ذلك بواسطة
فكاك الرهن ، وكذلك الأب والوصي والأم في حائط الصبي لقيام ولايتهم ، والضمان في
مال الصبي ، لأن فعل هؤلاء كفعله .
قال : ( وإن بناه مائلا ابتداء فسقط ضمن من غير طلب ) لأنه متعد بالبناء في هواء
مشترك على ما بينا . قال : ( ويضمن الراكب ما وطئت الدابة بيدها أو رجلها ) .(5/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
اعلم أن ركوب الدابة وسيرها إن كان في ملكه لا يضمن ما تولد من سيرها وحركاتها
إلا الوطء لأنه تصرّف في ملكه فلا يتقيد بشرط السلامة كحافر البئر في ملكه ، إلا أن الوطء
بمنزلة فعله لحصول الهلاك بثقله ، ولهذا وجبت عليه الكفارة في الوطء دون غيره ، وقد مرّ ،
وإن كان في ملك غيره فإنه يضمن ما جنت دابته واقفا كان أو سائرا وطئا ونفحا وكدما
لأنه متعد في السبب لأنه ليس له إيقافها في ملك غيره ، ولا تسييرها حتى لو كان مأذونا له
في ذلك ، فحكمه حكم ملكه وإن كان في طريق العامة وهي مسألة الكتاب فإنه يضمن ما
وطئت بيدها أو رجلها أو كدمت أو صدمت أو أصابت برأسها أو خبطت .
( ولا يضمن ما نفحت بذنبها أو رجلها ) والأصل فيه أن المرور في الطريق عام مباح
بشرط السلامة لأن له فيه حقا فكان مباحا وفيه حق العامة لكونه مشتركا بينهم فقيدناه بشرط
السلامة نظرا للجانبين ومراعاة للحقين ، والوطء وأخواته مما يمكن الاحتراز عنه لكونه بمرأى
من عينه فصح التقييد فيها ، والنفحة لا يمكنه الاحتراز عنها حالة السير لأنها من خلفه فلا
يتقيد بالسلامة ، فإن أوقفها ضمن النفحة أيضا لأنه يمكنه الاحتراز عنه بأن لا تقف ( وإن
راثت في الطريق وهي تسير أو أوقفها لذلك لا ضمان فيما تلف به ) لأنه لا يمكنه الاحتراز
عن ذلك ، أما حالة السير فظاهر ، وكذلك إذا أوقفها لأن من الدواب من لا يروث حتى
يقف .
قال : ( وإن أوقفها لغيره ضمن ) لأنه يمكنه الاحتراز عن ذلك بترك الإيقاف ، والرديف
كالراكب لأن السير مضاف إليهما ، وباب المسجد كالطريق في الإيقاف ؛ فلو جعل الإمام
للمسلمين موضعا لوقوف الدواب عند باب المسجد فلا ضمان فيما حدث بين الوقوف فيه ،
وكذلك من وقوف الدابة في سوق الدواب لأنه مأذون له من جهة السلطان ، وكذلك الفلاة
وطريق مكة إذا وقف في غير المحجة لأنه لا يضر بالناس فلا يحتاج إلى الإذن . أما المحجة
فهي كالطريق . قال : ( والقائد ضامن لما أصابت يدها دون رجلها ، وكذلك السائق ) مروي
ذلك عن شريح ، وقيل يضمن النفحة . أما القائد فلأنه يمكنه الاحتراز عن الوطء دون النفخة
كالراكب ؛ وأما السائق فإنه يمكنه الاحتراز من الوطء أيضا ؛ وأما النفحة قيل لا يضمن لأنه لا
يمكن التحرز عنه ؛ إذ ليس على رجلها ما يمنعها من النفح ، وقيل يضمن لأن النفحة تبين من(5/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
عينه فيمكن التحرز بإبعاد الناس عنها والتحذير ، ولا كذلك القائد ، وقائد القطار في الطريق
يضمن أوله وآخره لأن عليه ضبطه وصيانته عن الوطء والصدمة .
قال : ( وإذا وطئت دابة الراكب بيدها أو رجلها يتعلق به حرمان الميراث والوصية
وتجب الكفارة ) وقد بيناه في أول الجنايات . قال : ( ولو ركب دابة فنخسها آخر فأصابت
رجلا على الفور فالضمان على الناخس ) لأن من عادة الدابة النفحة والوثبة عند النخس فكان
مضافا إليه ، والراكب مضطر في ذلك فلم يصر سيرها مضافا إليه فصار الناخس هو المسبب ؛
ولو سقط الراكب فمات فالضمان على الناخس أيضا لما بينا ، ولو قتلت الدابة الناخس فهو
هدر كحافر البئر إذا وقع في البئر ، ولو أمره الراكب بالنخس ضمن الراكب لأنه صح أمره
فصار الفعل مضافا إليه ، ولو نفرت من حجر وضعه رجل في الطريق ، فالواضع كالناخس
ضامن لأن الوضع سبب لنفور الدابة أو وثبتها كالنخسة .
قال : ( وإن اجتمع السائق والقائد أو السائق والراكب فالضمان عليهما ) لأن أحدهما
سائق للكل ، والآخر قائد للكل بحكم الاتصال ، وقيل الضمان على الراكب لأنه مباشر على
ما قدمنا والسائق مسبب والإضافة إلى المباشر أولى ، وجميع هذه المسائل إن كان الهالك
آدميا فالدية على العاقلة لأنها تتحمل الدية في الخطأ تخفيفا على القاتل مخافة استئصالها له ،
وهذا دون الخطأ في الجناية فكان أولى بالتخفيف ، وإن كان غير آدمي كالدواب والعروض
ففي مال الجاني لأن العاقلة لا تعقل الأموال .
قال : ( وإذا اصطدم فارسان أو ماشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ) لأن
قتل كل واحد مضاف إلى فعل الآخر لا إلى فعلهما ، لأن القتل يضاف إلى سبب محظور ،
وفعل كل واحد منهما وهو المشي في الطريق مباح في حق نفسه محظور في حق صاحبه إذ
هو مقيد بشرط السلامة على ما بينا ، فسقط اعتبار فعله في حق نفسه لكونه مباحا فيضاف
قتله كله إلى فعل الآخر لكونه محظورا في حقه وصار كالماشي مع الحافر ، فإن التلف حصل
بفعلهما وهو الحفر والمشي ، ومع هذا فإن التلف إنما يضاف إلى فعل الحافر لأنه محظور لا
إلى فعل الماشي لأنه مباح ؛ ولو كانا عامدين في الاصطدام ضمن كل واجد منهما نصف
الدية ، لأن فعل كل واحد منهما محظور فأضيف التلف إلى فعلهما ؛ ولو كانا عبدين فهما
هدر . أما في الخطأ فلأن الجناية تعلقت برقبة كل واحد منهما دفعا أو فداء وقد فات بغير
فعل المولى لا إلى بدل فسقط ضرورة ؛ وأما العمد فلأن كل واحد منهما هلك بعد ما جنى(5/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
فسقط القصاص . في نوادر ابن رستم رجل سار على دابة فجاء راكب من خلفه فصدمه
فعطب المؤخر لا ضمان على المقدم ، وإن عطب المقدم فالضمان على المؤخر ، وكذا في
السفينتين . ولو كانا دابتين وعليهما راكبان قد استقبلتا واصطدمتا فعطبت إحداهما فالضمان
على الآخر .
قال : ( ولو تجاذبا حبلا فانقطع وماتا ، فإن وقعا على ظهريهما فهما هدر ) لأن موت كل
واحد منهما مضاف إلى فعله وقوة نفسه لا قوة صاحبه ( وإن سقطا على وجهيهما فعلى عاقلة
كل واحد دية الآخر ) لأنه سقط بقوة صاحبه وجذبه ( وإن اختلفا فدية الواقع على وجهه على
عاقلة الواقع على ظهره ) لأنه مات بقوة صاحبه ( وهدر دم الذي وقع على ظهره ) لأنه مات
بقوة نفسه ( وإن قطع آخر الحبل فماتا فديّتهما على عاقلته ) لأنه مضاف إلى فعله وهو القطع
فكان مسببا .
فصل
( إذا جنى العبد خطأ فمولاه إما أن يدفعه إلى ولي الجناية فيملكه أو يفديه بأرشها )
وسواء كانت الجناية على حر أو عبد في النفس أو فيما دونها قل أرشها أو كثر ، لما روي
عن ابن عباس أنه قال : إذا جنى العبد فمولاه بالخيار إن شاء دفعه وإن شاء فداه . وعن
عمر رضي الله عنه : عبيد الناس أموالهم وجنايتهم في رقبتهم . وعن علي رضي الله عنه
مثله ، ولأنها جناية يمكن استيفاؤها من الرقبة فتتعلق بها الجناية كجناية العمد . وإذا تعلقت
برقبته ، فإذا خلى المولى بينه وبين ولي الجناية سقطت المطالبة عنه كما في العمد ، ولأنه
إنما خوطب بالجناية لأجل ملكه ، فإذا سقط حقه زالت المطالبة كالوارث إذا خلّى بين التركة
وبين أرباب الديون ؛ فإذا اختار الفداء فحق ولي الجناية في الأرش ، فإذا استوفاه سقط حقه ،
إلا أن الواجب الأصلي هو الدفع حتى يسقط موجب الجناية بموت العبد لفوات محله ، إلا(5/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
أن له حق الفداء لما ذكرنا كدفع القيّم في الزكاة . ولو اختار المولى الفداء ثم مات العبد
فالفداء عليه ، لأن بالاختيار انتقل الحق من الرقبة إلى الذمة فلا يسقط بموت العبد كغيره من
الديون ، وليست جناية العبد كدينه في تعلقه برقبته ، لأن جناية الحر الخطأ يطالب بها غيره
وهم العاقلة ، وديونه لا يطالب بها غيره ، فكذلك العبد جنايته الخطأ يطالب بها غيره وهو
المولى ، وديون تتعلق به ، ولا يطالب بها غيره ، وإنما يملكه بالدفع لأنه عوض جنايته فيملكه
كسائر المعاوضات .
قال : ( وكذلك إن جنى ثانيا وثالثا ) معناه إذا جنى بعد الفداء من الأولى يخيّر المولى
كالأولى لأنه لما فداه فقد طهر عن الجناية وصارت كأن لم تكن فهذه تكون جناية مبتدأة ،
وكذا الثالثة والرابعة وغيرها . قال : ( وإن جنى جنايتين فإما أن يدفعه إليهما يقتسمانه بقدر ما
لكل واحد منهما من أرش جنايته أو يفديه بأرشهما ) وكذلك إن جنى على جماعة إما أن
يدفعه إليهم يقتسمونه بالحصص ، وإما أن يفديه بجميع أرشهم ، لأن تعلق الجناية برقبته لا
يمنع تعلق مثلها كما في الديون ، ولأن حق المولى لم يمنع تعلق الجناية برقبته ، فحق ولي
الجناية الأولى أولى أن لا يمنع . قال : ( وإن أعتقه المولى قبل العلم بالجناية ضمن الأقل من
قيمته ومن الأرض وبعد العلم يضمن جميع الأرش ) لأن حقه في أحدهما ، ففي الأولى خياره
باق فيختار الأقل ، وفي الثانية لما علم فقد اختار الفداء لأن بالعتق امتنع الدفع بسبب من
جهته فكان مختارا للفداء ، والبيع والهبة والتدبير والاستيلاد بمنزلة الإعتاق ، لأن كل ذلك
يمنع الدفع ، وكذلك لو باعه من المجني عليه كان اختيارا ، ولو وهبه لا لأن المستحق أخذه
بغير عوض وقد وجد في الهبة دون البيع .
قال : ( وفي المدبر وأم الولد يضمن الأقل من قيمتهما ومن الأرش ) لما روي أن
أبا عبيدة بن الجراح قضى بجناية المدبر على مولاه وهو أمير الشام بمحضر من
الصحابة من غير نكير ، ولأن المولى صار مانعا من تسليمه في الجناية بالتدبير والاستيلاد
من غير اختيار للفداء فصار كما إذا دبره وهو لا يعلم بالجناية ، وإنما لزمه الأقل لأن
الأرش إن كان أقل فلا حق لولي الجناية غير الأرش ، وإن كانت القيمة أقل فلم يتلف
بالتدبير إلا الرقبة . قال : ( وإن عاد فجنى وقد دفع القيمة بقضاء فلا شيء عليه ، ويشارك(5/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ولي الجناية الثانية الأول فيما أخذ ) لأن جنايات المدبر وإن تعددت لا توجب إلا قيمة
واحدة ، لأنه لم يمنع إلا رقبة واحدة والضمان متعلق بالمنع فصار كأنه دبره بعد
الجنايات ، ولأن دفع القيمة كدفع العبد ، ودفع العبد لا يتكرر فكذا القيمة ، ويتضاربون
بالحصص في القيمة كما مر .
قال : ( وإن دفع المولى القيمة بغير قضاء ، فإن شاء الثاني شارك الأول ، وإن شاء اتبع
المولى ، ثم يرجع المولى على الأول ) وقالا : لا شيء على المولى ، لأنه لما دفع لم تكن
الجناية الثانية موجودة فقد دفع الحق إلى مستحق وصار كما إذا دفعه بقضاء . ولأبي حنيفة أن
الجنايات استند ضمانها إلى التدبير الذي صار المولى به مانعا ، فكأنه دبر بعد الجنايات
فيتعلق حق جماعتهم بالقيمة ، فإذا دفعها بقضاء فقد زالت يده عنها بغير اختياره فلا يلزمه
ضمانها ، وإن دفعها بغير قضاء فقد سلم إلى الأول ما تعلق به حق الثاني ، فللثاني أن يضمن
أيهما شاء المولى ، لأنه جنى بالدفع إلى غير مستحقه ، والأول لأنه قبض حقه ظلما وصار
كالوصي إذا صرف التركة إلى الغرماء ثم ظهر غريم آخر ، فإن دفعه بقضاء شارك الغريم
الآخر الغرماء فيما قبضوه ، وإن دفع بغير قضاء ، إن شاء رجع على الوصي ، وإن شاء شارك
الغرماء كذا هذا ، فإن اتبع المولى رجع المولى على الأول لأنه سلم إليه غير حقه .
وإن شارك الأول لم يرجع على أحد ، لأن الحاصل الضمان عليه ؛ وتعتبر قيمة المدبر
لكل واحد منهم يوم جنى عليه ولا يعتبر التدبير لأن المولى صار مانعا من تسليمه في الحال
بالتدبير السابق فكأنه جنى ثم دبره ، فتعتبر قيمته حينئذ ؛ مثاله : قتل قتيلا خطأ وقيمته ألف
فازدادت خمسمائة ، ثم قتل آخر فولي الجناية الثانية يأخذ من المولى خمسمائة فضل القيمة
تحسب عليه من أرش جنايته ، فتقسم الألف على تسعة وثلاثين جزءا ، لأن ما زاد على القيمة
بعد الجناية الأولى لا حق لوليها فيه لأنها حدثت وقد تعلق حقه في الذمة فينفرد بها ولي
الجناية الثانية فيبقى له من الدية تسعة آلاف وخمسمائة وللأول دية كاملة عشرة آلاف ، فاجعل
كل خمسمائة بينهما للأول عشرون وللثاني تسعة عشر فاقسم الألف كذلك ؛ ولو جنى المدبر
خطأ ثم مات عقيبها بلا فصل لم تبطل القيمة على المولى لأنها وجبت في ذمته عقيب
الجناية ، فبقاء الرقبة وتلفها سواء ، وكذلك لو عمي بعد الجناية لا ينقص شيء من القيمة لما
بينا ؛ ولو أعتق المدبر المولى وقد جنى جنايات لم تلزمه إلا قيمة واحدة ، لأن الضمان إنما
وجب عليه بالمنع بالتدبير فكان الإعتاق بعده وعدمه سواء . وإذا أقر المدبر بجناية خطأ لم
يجز إقراره ولا يلزمه شيء عتق أو لم يعتق لأنها لازمة لمولاه ، وإقراره على المولى لا يتعلق
به حكم .(5/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
قال : ( ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا يزاد على عشرة آلاف درهم إلا عشرة ، وللأمة
خمسة آلاف إلا عشرة ، وإن كان أقل من ذلك فعليه قيمته ) وقال أبو يوسف : تجب قيمته
بالغة ما بلغت ؛ ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا فهلك في يده تجب قيمته بالإجماع . لأبي
يوسف أنها جناية على المال فتجب القيمة غير مقدرة كالبهائم ، وهذا لأن الواجب للمولى ،
والمولى إنما يملكه من حيث المالية فيكون الواجب بدل المالية . وعن علي وابن عمر رضي
الله عنهم مثل قوله . ولهما قوله تعالى : ) فدية مسلمة إلى أهله ( [ النساء : 92 ] مطلقا ،
والدية اسم للواجب بمقابلة الآدمية ، ولأنها جناية على نفس آدمي فلا يزيد على عشرة آلاف
كالحر ، ولأن المعاني التي في العبد موجودة في الحر ، وفي زيادة الحرية ، فإذا لم يجب فيه
أكثر من الدية فلأن لا يجب في العبد مع نقصانه أولى ، ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان
مكلفا ، وفي معنى المالية والجمع بينهما متعذر ، والآدمية أعلى فتعتبر ؛ ويسقط الأدنى
بخلاف البهائم لأنها مال محض ، وبخلاف الغصب لأن الغصب إنما يرد على المال فكان
الواجب بمقابلة المال .
وعن ابن مسعود مثل مذهبهما . وأما قليل القيمة فالواجب بمقابلة الآدمية أيضا ، إلا أنه
لا نص فيه فقدرناه بقيمته رأيا إذ هو الأعدل ، وفي كثير القيمة نص لأنه ورد في الحر بعشرة
آلاف ، إلا أنا نقصنا دية العبد من ذلك إظهارا لشرفه وانحطاطا لرتبة العبد عنه ، والتقدير
بعشرة مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولأنه أقل مال له خطر في الشرع لأن به
تستباح الفروج والأيدي فقدرناه به ، وكذلك الأمة على الخلاف والتعليل في كثير القيمة
وقليلها .
قال : ( وما هو مقدر من الدية مقدر من قيمة العبد ) ففي يد العبد خمسة آلاف إلا
خمسة إذا كان كثير القيمة ، لأن الواجب في نفسه عشرة آلاف إلا عشرة واليد نصف الآدمي
فيجب نصف ما في النفس ، وعلى هذا سائر الأعضاء .(5/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
باب القسامة
وهي مصدرة أقسم يقسم قسامة ، وهي الأيمان ، وخص هذا الباب بهذا الاسم لأن مبناه
على الأيمان في الدماء ، وهي مشروعة بالإجماع ، والأحاديث على ما يأتيك . قال : ( القتيل :
كل ميت به أثر ) أي أثر القتل ؛ لأنه إذا كان لم يكن به أثر فالظاهر أنه مات حتف أنفه وليس
بقتيل فلا يتعلق به يمين ولا ضمان ، وأثر القتل جرح أو أثر ضرب أو خنق أو خروج الدم
من عينه أو أذنه ، لأن الدم لا يخرج منها عادة إلا بفعل ، أما إذا خرج من فمه أو دبره أو
ذكره فليس بقتيل ، لأن الدم يخرج من هذا المواضع من غير فعل عادة ، وهذا لأن القتيل من
فاتت حياته بسبب يباشره غيره من الناس عرفا ، فإذا علمنا أنه قتيل .
( فإذا وجد في محلة لا يعرف قاتله ) لأنه إذا عرف قاتله لا قسامة ، فإذا لم يعرف
( وادعى وليه القتل على أهلها أو على بعضهم عمدا أو خطأ ولا بينة له يختار منهم خمسين
رجلا ) لأن الحق له فلا بد من دعواه ، وإذا كان له بينة فلا حاجة إلى القسم ، فإذا ادعى ولا
بينة له وجبت اليمين فيختار خمسين رجلا .
( يحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، ثم يقضي بالدية على أهل المحلة ) أي على
عاقلتهم . والأصل في ذلك ما روي ' أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في قليب في خيبر(5/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
فجاء أخوه عبد الرحمن وعماه حويصة ومحيصة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فذهب
عبد الرحمن يتكلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' الكبر الكبر ، فتكلم الكبير من عميه فقال :
يا رسول الله إنا وجدنا عبد الله قتيلا في قليب من قلب خيبر ، فقال عليه الصلاة والسلام :
' تبرؤكم اليهود بخمسين يمينا يحلفون أنهم ما قتلوه ؟ ' قالوا : كيف نرضى بأيمان اليهود وهم
مشركون ؟ فقال : ' فيقسم منكم خمسون رجلا أنهم قتلوه ؟ ' قالوا : كيف نقسم على ما لم
نره ؟ فوداه عليه الصلاة والسلام من عنده ، عن سعيد بن المسيب أن القسامة كانت في
الجاهلية ، وأقرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قتيل من الأنصار وجد في جب اليهود ، فأرسل رسول
الله عليه الصلاة والسلام إلى اليهود وكلفهم قسامة خمسين ، فقالت اليهود له : نحلف ، فقال
للأنصار : ' أتحلفون وتستحقون ؟ ' فقالت الأنصار : لن نحلف ، فألزم اليهود ديته لأنه قتل بين
أظهرهم . وروي أن رجلا جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله إني
وجدت أخي قتيلا في بني فلان ، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ' اجمع منهم خمسين
يحلفون بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا ' ، فقال : يا رسول الله ما لي من أخي إلا هذا ؟ قال :
' بلى مائة من الإبل ' .
فدلت هذه الأحاديث على وجوب الأيمان والدية على أهل المحلة ، وترد على من
يقول بوجوب البداءة بيمين الولي ، ولأن أهل المحلة يلزمهم نصرة محلتهم وحفظها وصيانتها
عن النوائب والقتل ، وصون الدم المعصوم عن السفك والهدر ، فالشرع ألحقهم بالقتلة لترك
صيانة المحلة في حق وجوب الدية صونا للآدمي المحترم المعصوم عن الإهدار ، ولأن
الظاهر أن القاتل منهم وإنما قتل بظهرهم فصاروا كالعاقلة . وأما قوله عليه الصلاة والسلام
للأنصار : ' أتحلفون وتستحقون ؟ ' فهو على طريق الإنكار عليهم لما قالوا : لا نرضى بيمين
اليهود ، ولهذا ثبت فيه النون ، ولو كان أمرا لقال : احلفوا تستحقوا دم صاحبكم .
وما روي ' تحلفون وتستحقون ' فمعناه أتحلفون كقوله تعالى : ) تريدون عرض الدنيا
والله يريد الآخرة ( [ الأنفال : 67 ] أي أتريدون ، ولأن البداءة بيمين الولي مخالف لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' البينة على المدعي واليمين على من أنكر ' ولأنه يدخل تحت قوله
تعالى : ) إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ( [ آل عمران : 77 ] الآية ، ويختار
الولي خمسين رجلا لأن اليمين حقه فيختار من يظهر حقه باختياره ، أما من اتهمه بالقتل أو
الصالحين منهم ليحترزوا عن اليمين الكاذبة فيظهر القاتل ، فإذا حلفوا قضى بالدية على(5/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
عاقلتهم لما روينا ، سواء ادعى القتل على جميع أهل المحلة أو على بعضهم معينين أو
مجهولين لإطلاق النصوص . وعن أبي يوسف إذا ادعى على بعض بأعيانهم تسقط القسامة
والدية عن الباقين ، فإن كان له بينة وإلا يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة كسائر الدعاوى .
قال : ( وكذلك إن وجد بدنه أو أكثره أو نصفه مع الرأس ) لأن النص ورد في البدن ،
وللأكثر حكم الكل تعظيما للآدمي ، وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو أقل من النصف ومعه
الراس ، أو وجد رأسه أو يده أو رجله أو عضو منه آخر فلا قسامة ولا دية ، لأن النص ورد
في البدن وهذا ليس في معناه ، ولأنه لو وجبت فيه القسامة لوجبت لو وجد عضو آخر أو
النصف الآخر فتتكرر القسامة أو الدية بسبب نفس واحدة ولم يرد بذلك نص . قال : ( فإن لم
يكن فيه خمسون كررت الأيمان عليهم لتتم خمسين ) لما روي أن رجلا قتل بين حيين
باليمن وادعة وأرحب ، فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه أنه وجد قتيل لا يدري من قتله ؛
فكتب عمر أن قس بين القريتين فأيهم كان أقرب فألزمهم ، فكان إلى وادعة فأتوا عمر رضي
الله عنه وكانوا تسعة وأربعين رجلا فأحلفهم وأعاد اليمين على رجل منهم حتى تموا خمسين
ثم ألزمهم الدية ، فقالوا : نعطي أموالنا وأيماننا ؟ فقال : نعم فيم يطل دم هذا ؟
قال : ( ومن أبى منهم حبس حتى يحلف ) لأن اليمين في القسامة نفس الحق ، ألا ترى
أنه يجمع بينها وبين الدية ؟ ويدل عليه ما تقدم من حديث عمر رضي الله عنه حين قالوا :
نبذل أموالنا وأيماننا ، أما تجزئ هذه عن هذه ؟ قال : لا ، وإذا كانت نفس الحق يحبس عليه
لأنه قادر على أدائه ، بخلاف الامتناع عن اليمين في الأموال ، لأن اليمين فيها بدل عن الحق
حتى يسقط ببذل المدعي ، فإذا نكل لزمه المال وهو حقه ، فلا معنى للحبس بما ليس بحق .
أما هنا لا يسقط اليمين ببذل الدية وكان الحبس بحق فافترقا . وعن أبي يوسف أنه تجب
الدية بالنكول كما في سائر الدعاوى ، وجوابه ما مر أنه مستحق عليه لنفسه .
قال : ( ولا يقضي بالدية بيمين الولي ) لأن اليمين شرّعت للدفع لا للاستحقاق ، ولأن
النبي عليه الصلاة والسلام أوجب اليمين على المنكر للدفع عنه بقوله : ' واليمين على
المنكر ' والولي يحتاج إلى الاستحقاق فلا يشرع في حقه ، ولأنه لا يستحق بيمينه المال
المبتذل المهان ، فلأن لا تستحق النفس المحترمة أولى . قال : ( ولا يدخل في القسامة صبي(5/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
ولا مجنون ) لأنهما ليسا من أهل اليمين ( ولا عبد ولا امرأة ) لأنهما ليسا من أهل النصرة ،
وإنما تجب على أهلها .
قال : ( وإن ادعى الولي القتل على غيرهم سقطت عنهم القسامة ولا تقبل شهادتهم
على المدعى عليه ) لأن اليمين إنما تلزم بالدعوى وكذلك الدية ولم يدّع عليهم ، ثم إن كان
له بينة على المدعى عليه وإلا يلزمه يمين واحدة كسائر الدعاوى فإن حلفه برئ وإن نكل
فعلى خلاف مر في الدعوى ، وإنما لا تقبل شهادتهم لأنهم تعينوا للخصومة حيث وجد
القتيل فيهم فصاروا كالوكيل بالخصومة ، والوصي إذا شهد بعد العزل والخروج عن
الوصية ، ولأنهم متهمون في شهادتهم لاحتمال أنه جعل ذلك وسيلة إلى قبول شهادتهم .
وقالا : تقبل لأنه لما ادعى على غيرهم سقطت عنهم القسامة فلا تهمة في شهادتهم وجوابه
ما مر . قال : ( وإن وجد على دابة يسوقها إنسان فالدية على عاقلة السائق ) لأن الدابة في
يده فكأنه وجده في داره ( وكذا القائد والراكب ) ولو اجتمعوا فالدية على عاقلتهم لأن الدابة
في أيديهم . قال : ( وإن وجد في دار إنسان فالقسامة عليه وعلى عاقلته إن كانوا حضورا )
وقال أبو يوسف : لا قسامة على العاقلة لأن رب الدار أخص بالدار من غيره فصار كأهل
المحلة لا يشاركهم في القسامة غيرهم . ولهما أن بالحضور تلزمهم نصرة البقعة كصاحب
الدار فيشاركونه في القسامة .
( وإن كانوا غيّبا كررت الأيمان عليه والدية على العاقلة ) لما تقدم ، وإن وجد في دار
مشتركة نصفها لرجل وعشرها لآخر وسدسها لآخر والباقي لآخر فالقسامة على عدد رؤوسهم
لأنهم يشتركون في التدبير فكانوا في الحفظ سواء ، والقسامة على أهل الخطة ، وهم الذين
خط لهم الإمام عند فتحها ولا يدخل معهم المشترون . وقال أبو يوسف : يشترك الكل في
ذلك لأنها وجبت بترك الحفظة ممن له ولاية الحفظ والولاية بالملك ، فيستوي أهل الخطة
والمشترون لاستوائهم في الملك . ولهما أن أهل الخطة أخص بنصرة البقعة ، والحكم يتعلق
بالأخص فكان المشتري معهم كالأجنبي ، ولأن العقل تعلق في الأصل بأهل الخطة فما بقي
منهم واحد لا ينتقل عنهم كموالي الأب إذا لزمهم العقل لا ينتقل إلى موالي الأم ما بقي
منهم واحد ، وقيل بأن أبا حنيفة شاهد الكوفة وأهل الخطة كانوا يدبرون أمر المحلة
وينصرونها دون المشتري ، فبني الأمر على ذلك ، فإذا لم يبق من أهل الخطة أحد وكان في
المحلة مشترون وسكان ، فالقسامة على الملاك دون السكان . وقال أبو يوسف : عليهم جميعا(5/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
لأن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب القسامة على يهود خيبر وكانوا سكانا ، ولأن الساكن
يلي التدبير كالمالك . ولهما أن المالك أخص بالبقعة ونصرتها ، ألا ترى أن السكان يكونون
في وقت وينتقلون في وقت فتجب القسامة على من هو أخص ، وأما أهل خيبر فالنبي عليه
الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم وكان يأخذ منهم الخراج .
قال : ( وإن وجد بين قريتين فعلى أقربهما ) لما روى أبو سعيد الخدري ' أن النبي عليه
الصلاة والسلام أمر في مثله بأن يذرع بين القريتين ' ولما مر من حديث عمر رضي الله
عنه ، وهذا ( إذا كانوا يسمعون الصوت ) لأنه يلحقه الغوث ، فأما إذا كانوا لا يسمعون الصوت
ولا يلحقه الغوث فلا شيء عليهم ، ولو كان يسمع الصوت أهل إحدى القريتين دون الأخرى
فالقسامة على الذين يسمعون لما قلنا ( ولو وجد في السفينة فالقسامة على الملاحين والركاب )
وهذا على قول أبي يوسف ظاهر لأنه يرى القسامة على الملاك والسكان . وأما على قولهما
فالسفينة تنقل وتحوّل فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة ، ولا كذلك الدار والمحلة فافترقا .
قال : ( وفي مسجد محلة على أهلها ) لأنهم أخص بنصرته والتصرف فيه فكأنه وجد في
محلتهم .
قال : ( وفي الجامع والشارع الأعظم الدية في بيت المال ولا قسامة ) وكذلك الجسور
العامة لأن ذلك لا يختص بالبعض بل يتعلق بجماعة المسلمين ، فما يجب لأجله يكون في
بيت مالهم ، ولأن اليمين للتهمة وذلك لا يوجد في جماعة المسلمين ، وكذلك ولو وجد في
السجن . وقال أبو يوسف : القسامة على أهل السجن والدية على عاقلتهم ، لأن الظاهر أن
القتل وجد منهم . ولهما أنهم مقهورون لا نصرة لهم فلا يجب عليهم ما يجب لأهل
النصرة ، ولأن منفعة السجن لجماعة المسلمين ، لأنه وضع لاستيفاء حقوقهم ولدفع الضرر
عنهم فكانت النصرة عليهم ، وهذه من فروع المالك والساكن لأن أهل السجن كالسكان فلا
يجب عليهم شيء خلافا لأبي يوسف ، وإن وجد في السوق إن كان مملوكا فعلى الملاك .
وعند أبي يوسف على السكان أيضا ، وإن كان غير مملوك أو هو للسلطان فهو كالشارع العام
الذي ثبت فيه حق جماعة المسلمين وسوق السلطان للمسلمين ، فما يجب فيه يكون في بيت
المال ويؤخذ في ثلاث سنين ، لأن حكم الدية التأجيل كما في العاقلة فكذلك غيرهم ، ألا(5/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
ترى أنها تؤخذ من مال المقر بقتل الخطأ في ثلاث سنين ؟ . قال : ( وإن وجد في برية أو في
وسط الفرات فهو هدر ) لأنه لا يد لأحد عليه ولا مملوكا لأحد ولا يسمع الصوت منه أهل
مصر ولا قرية فكان هدرا .
قال : ( وإن كان محتبسا بالشاطئ فعلى أقرب القرى منه إن كانوا يسمعون الصوت )
لأنهم أخص به من غيرهم ، ألا ترى أنهم يشربون منه ويوردون عليه دوابهم فكانوا أخص
بنصرته فيجب عليهم كأهل المحلة ؛ ولو وجد في نهر صغير خاص مما يقضي فيه بالشفعة
فعلى عاقلة أرباب النهر لأنه مملوك لهم ، فهم أخص به من غيرهم فيتعلق بهم ما يوجد فيه
كالدور والسوق والمملوك ؛ ومن وجد قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته ، وقالا : لا
شيء فيه لأن الدار في يده حالة الجرح فكأنه قتل نفسه ، ولو قتل نفسه كان هدرا كذا هذا .
ولأبي حنيفة أن القسامة وجبت لظهور القتل وحالة الظهور الدار ملك الورثة فتجب الدية على
عاقلتهم ، وهل تجب القسامة عليهم ؟ فيه اختلاف المشايخ ، وهذا بخلاف ما إذا وجد
المكاتب قتيلا في دار نفسه ، لأن الدار على ملكه حالة ظهور القتل ، فكأنه قتل نفسه فهدر .
رجلان في بيت لا ثالث معهما وجد أحدهما قتيلا يضمن الآخر الدية عند أبي
يوسف ، وقال محمد : لا شيء عليه لأنه احتمل أنه قتل نفسه وأنه قتله صاحبه فلا تجب
الدية بالشك . ولأبي يوسف أن الإنسان لا يقتل نفسه ظاهرا فسقط اعتباره كما إذا وجد في
محلة .(5/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
باب المعاقل
( وهي جمع معقلة وهي الدية ) وسميت الدية عقلا لوجهين : أحدهما أنها تعقل الدماء
من أن تراق . والثاني أن الدية كانت إذا أخذت من الإبل تجمع فتعقل ثم تساق إلى ولي
الجناية ( والعاقلة الذين يؤدونها ) والأصل في وجوب الدية على العاقلة ما تقدم من حديث
الجنين حيث قال عليه الصلاة والسلام لأولياء الضاربة : ' قوموا فدوه ' وروي ' أنه عليه
الصلاة والسلام جعل على كل بطن من الأنصار عقولة ' والمعقول أيضا يدل عليه ، وهو أن
الخاطئ معذور ، وعذره لا يعدم حرمة النفس بل يمنع وجوب العقوبة عليه فأوجب الشرع
الدية صيانة للنفس عن الإهدار ، ثم في إيجاب الكل عليه إجحاف واستئصال به فيكون عقوبة
له ، فتضم العاقلة إليه دفعا للعقوبة عنه . ولأن ذلك إنما يكون بظهر عشيرته وقوة يجدها في
نفسه بكثرتهم وقوة أنصاره منهم ، فكانوا كالمشاركين له في القتل فضمنوا إليه لذلك كالردء
والمعين لأنه يتحمل عنهم إذا قتلوا ويتحملون عنه إذا قتل فتكون من باب المعاونة كعادة
الناس في التعارف ؛ بخلاف المتلفات لأنها لا تكثر قيمتها فلا يحتاج إلى التخفيف ، والدية
مال كثير يجحف بالقاتل فاحتاج إلى التخفيف .
قال : ( ويجب عليهم كل دية وجبت بنفس القتل ) كالخطأ وشبه العمد ، وهذا احتراز(5/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
عما وجب بالصلح والاعتراف أو سقط القتل فيه بشبهة كالأب ، وإنما وجبت دية شبه
العمد على العاقلة لحديث الجينن ، ألا ترى أنها تعمدت ضربها بالعمود فقضى عليه الصلاة
والسلام بالدية على العاقلة ، ولأنه قتل أجري كالخطأ في باب الدية فكذلك في تحمل
العاقلة . وقضى عمر رضي الله عنه بالدية في الخطأ على العاقلة بحضرة الصحابة من غير
خلاف .
قال : ( فإن كان القاتل من أهل الديوان فهم عاقلته ) وهم الذين لهم رزق في بيت
المال ، وفي زماننا هم أهل العسكر لكل راية ديوان على حدة ، وذلك لأن العرب كانوا
يتناصرون بأسباب منها القرابة والولاء والحلف وغير ذلك ، وبقوا على ذلك إلى زمن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما جاء عمر ودوّن الدواوين صار التناصر بالدواوين ، فأهل كل ديوان
ينصر بعضهم بعضا وإن كانوا من قبائل متفرقة . وقد صح أن عمر رضي الله عنه فرض
العقل على أهل الديوان وكان قبل ذلك على عشيرة الرجل في أموالهم ، لأنه أول من
وضع الديوان فجعل العقل فيه ، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فكان إجماعا
منهم ، وهو على وفاق ما قضى به رسول الله عليه الصلاة والسلام معنى ، فإنهم علموا أن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قضى به على العشيرة باعتبار النصرة ثم الوجوب بطريق الصلة ، فإيجابه فيما
يصل إليهم صلة وهو العطاء أولى ، وأهل كل ديوان فيما يصل إليهم من ذلك كنفس
واحدة .
قال : ( ويؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين ) لما تقدم من حديث عمر وهو مروي
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أيضا وتعتبر الثلاث سنين من يوم القضاء لأن الدية تجب يوم القضاء ،
وسواء خرجت في أقل أو أكثر لأنه إنما وجبت في العطاء تخفيفا ، فإذا حصلت في أي
وقت حصل وجد المقصود فيؤخذ منه ، فإن تأخر خروج العطاء لم يطالبوا بشيء ، وإن
تعجل الثلاث سنين أخذ منها الجميع لما ذكرنا ؛ وإذا وجب جميع الدية في ثلاث سنين
كان كل ثلث في سنة فإذا وجب الثلث فما دونه كان في سنة ، وما زاد على الثلث إلى
الثلثين في سنتين ، وما زاد إلى تمام الدية في السنة الثالثة ، وإن كانت العاقلة أصحاب
الرزق أخذ من أرزاقهم في ثلاث سنين ، فإن خرجت أرزاقهم في كل سنة أخذ منها
الثلث ، وإن خرجت في كل ستة أشهر أخذ منها السدس في كل شهر بحصته ، وعلى
هذا فالحاصل أنه يؤخذ في كل سنة الثلث كيفما خرج ، لأن الأرزاق لهم كالأعطية
لأهلها ، وإن كان لهم أرزاق في كل شهر وأعطية في كل سنة أخذ من أعطيتهم لأنه
أسهل ، فإن الرزق يكون بقدر الكفاية لكل شهر أو لكل يوم فيشق عليهم الأخذ منه . أما
العطاء فيكون في كل سنة بقدر عنائه واختباره في الحروب لا بحاجته فكان الأخذ منه
أسهل .(5/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
قال : ( وإن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته ) وهم عصبته من النسب لما روي
' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أوجب الدية على عصبة القاتل ' ولأن تناصرهم بالقرب . قال : ( ولا يزاد الواحد على
أربعة دراهم أو ثلاثة وينقص منها ) يؤخذ منه كل سنة درهم وثلث أو درهم لأن الأصل فيها
التخفيف وتجب صلة ، فقدروه في كل سنة بالدرهم لأنه أقل المقدرات ، ويزاد ثلث درهم
وهو المختار ليكون الأكثر من الأقل وما لم يبلغ النصف فهو في حكمه . قال : ( فإن لم تتسع
القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا ) تحرزا عن الإجحاف وتحقيقا لمعنى التخفيف
فيضم إليهم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات لأن التناصر يقع بذلك ، وكذلك أهل
الديوان إذا لم يتسع الديوان للدية يضم إليهم أقرب الرايات إليهم نصرة إذا حزّ بهم أمر أو
دهمهم عدو ، وهو مفوّض إلى رأي الإمام إذ هو أعلم بذلك ، ومن لا عاقلة له في رواية
تجب في بيت المال ، لأنه لو مات ولا وارث له ورثه بيت المال ، فإذا جنى يكون عليه
ليكون المغنم بالغرم ، وفي رواية في مال الجاني لأن الأصل أن تجب عليه لأنه الجاني إلا أنا
أوجبناه على العاقلة لما ذكرنا فإذا لم تكن عاقلة عاد إلى الأصل .
قال : ( وإن كان ممن يتناصرون بالحرف فأهل حرفته ، وإن تناصروا بالحلف فأهله ) لما
بينا أن المعنى فيه هو التناصر ، ومن ليس له ديوان ولا عشيرة ، قيل يعتبر المحال والقرى
والأقرب فالأقرب ، وقيل تجب في ماله ، وقيل إن كان القاتل مسلما تجب في بيت المال ،
لأن الدية تجب باعتبار النصرة ، وجماعة المسلمين يتناصرون ويذب بعضهم عن بعض وعلى
هذا الخلاف اللقيط ، ولا تعقل مدينة عن مدينة وتعقل المدينة عن قراها لأن أهل المصر
يتناصرون بديوانهم وأهل سوادهم وقراهم ، ولا يتناصرون بأهل ديوان مص آخر ، والباديتان
إذا اختلفتا كمصرين . قال : ( ويؤدي القاتل كأحدهم ) لأنه إنما لم يجب عليه الكل مخافة
الإجحاف ، ولا إجحاف في هذا ولأنه الجاني فلا أقل من أن يكون كأحدهم ، ولأنها تجب
بالتناصر وهو أولى بنصرة نفسه .
قال : ( ولا عقل على الصبيان والنساء ) لقول عمر رضي الله عنه : لا يعقل مع العاقلة
صبي ولا امرأة ولأنهما ليسا من أهل النصرة ، ولأن الدية تؤدى على طريق الصلة والتبرع
والصبي ليس من أهلها ( ولا على عبد ومدبر ومكاتب ) لأن العرب لا تستنصر بهم . قال :
( ولا يعقل كافر عن مسلم ولا بالعكس ) لعدم التناصر ، والكفار يعقل بعضهم عن بعض ، لأن(5/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
الكفر كله ملة واحدة إلا أن يكون بينهم معاداة وحِراب فلا يتعاقلون لعدم التناصر . قال :
( وإذا كان للذمي عاقلة فالدية عليهم ) كالمسلم لالتزامهم أحكامنا في المعاملات ولوجود
التناصر بينهم ( وإن لم يكن له عاقلة فالدية في ماله في ثلاث سنين ) كما قلنا في المسلم ،
وهذا لأن الواجب عليه وإنما يتحول إلى العاقلة إذا وجدت فإذا لم يكن بقيت عليه ) .
قال : ( وعاقلة المعتق قبيلة مولاه ) قال عليه الصلاة والسلام : ' مولى القوم منهم '
ولأن نصرته بهم ( وعاقلة المولى الموالاة مولاه وقبيلته ) لأن عقد الموالاة عقد يتناصرون به .
قال : ( وولد الملاعنة تعقل عنه عاقلة أمه ) لأن نسبته إليهم فينصرونه ( فإن ادعاه الأب بعد ذلك
رجع عاقلة الأم على عاقلة الأب ) لأنه ظهر أن الدية كانت واجبة على عاقلة الأب حيث
أكذب نفسه وبطل اللعان وثبت نسبه منه ، فقوم الأم تحملوا مضطرين عن قوم الأب ما كان
عليهم فيرجعون به عليهم في ثلاث سنين من حيث قضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب . قال :
( وتتحمل العاقلة خمسين دينارا فصاعدا وما دونها في مال الجاني ) لما روينا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قضى
بالغرة على العاقلة وهي خمسون دينارا . وعن عمر مرفوعا وموقوفا ' لا تعقل العاقلة عمدا
ولا عبدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما دون أرش الموضحة ' وعن ابن عباس مثله ، ولأن
التحمل على العاقلة إنما كان تحرزا عن الإجحاف وهو في الكثير دون القليل ، والقدر
الفاصل بينهما ما ورد به الشرع وهو ما ذكرنا . قال : ( ولا تعقل العاقلة ما اعترف به الجاني
إلا أن يصدقوه ) لما روينا ، ولأنه لا يلزمهم إقراره عليهم ، إذ لا ولاية له عليهم ، فإذا صدقوه
فقد رضوا به فيلزمهم : ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضيا من قضاة المسلمين
حكم على العاقلة بالدية وكذبتهما العاقلة فلا شيء عليهم ، لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم ،
وليس على القاتل شيء في ماله ، لأن الدية تقررت على العاقلة لتصادقهم وهو حجة في
حقهما ، بخلاف الأول حيث تجب الدية في ماله باعترافه ، وتعذر إيجابها على العاقلة فتجب
عليه .
قال : ( وإذا جنى الحر على العبد خطأ فعلى عاقلته ) لأنها بدل النفس فتكون على العاقلة(5/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
كما في الحر . وروي عن أبي يوسف أنها في مال القاتل ، وحمل قوله عليه الصلاة والسلام :
' ولا عبدا ' فيما جنى عليه ، وجوابه أن المراد أنها لا تتحمل جناية العبد ، لأن المولى أقرب
إليه منهم . وروي عنه أيضا أن قدر الدية على العاقلة لأنها ضمان النفس ، وما زاد في مال
الجاني لأنه ضمان المال ، بناء على أن عنده تجب قيمته بالغة ما بلغت ، وقد تقدم .(5/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
كتاب الوصايا
وهي جمع وصية ، والوصية : طلب فعل يفعله الموصى إليه بعد غيبة الموصي أو بعد
موته فيما يرجع إلى مصالحه كقضاء ديونه والقيام بحوائجه ومصالح ورثته من بعده وتنفيذ
وصاياه وغير ذلك ، قال : فلان سافر فأوصى بكذا ، وفلان مات وأوصى بكذا ، والاستيصاء :
قبول الوصية ، يقال : فلان استوصى من فلان : إذا قبل وصيته . قال عليه الصلاة والسلام :
' استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ' أي اقبلوا وصيتي فيهن فإنهن أسرى عندكم .
( وهي ) قضية مشروعة وقربة ( مندوبة ) دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع . أما
الكتاب فقوله تعالى : ) من بعد وصية يوصى بها أو دين ( [ النساء : 11 ] وهذا دليل
شرعيتها . والسنة ما روي ' أن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة فعاده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد
ثلاث ، فقال : يا رسول الله إني لا أخلف إلا بنتا أفأوصي بجميع مالي ؟ قال : ' لا ' قال :
أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : ' لا ' ، قال : فبنصفه ؟ قال : ' لا ' ، قال : فبثلثه ؟ قال : ' الثلث(5/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
والثلث كثير ، لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ' أي يسألون
الناس كفايتهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر
أعماركم زيادة في أعمالكم تضعوه حيث شئتم ' وفي رواية ' حيث أحببتم ' وهذا يدل على
شرعيتها وينفي وجوبها ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر
له مال يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا وصيته تحت رأسه ' وهذا يدل على الندبية .
وأما الإجماع فإن الأئمة المهديين والسلف الصالح أوصوا ، وعليه الأمة إلى يومنا هذا ،
ولأن الإنسان لا يخلو من حقوق له وعليه ، وأنه مؤاخذ بذلك ، فإذا عجز بنفسه فعليه أن
يستنيب في ذلك غيره والوصي نائب عنه في ذلك ، فكان في الوصية احتياطا للخروج عن
عهدتها فيندب إليها وتشرع تحصيلا لهذه المصالح .
قال : ( وهي مؤخرة عن مؤونة الموصي وقضاء ديونه ) على ما يأتي في الفرائض إن شاء
الله تعالى ( وهي مقدرة بالثلث تصح للأجنبي مسلما كان أو كافرا بغير إجازة الورثة ) لما روينا
من حديث سعد وغيره وهي مطلقة لا تتقيد بالمسلم ولا بغيره . قال : ( وما زاد على الثلث
وللقاتل والوارث تصح بإجازة الورثة ) لأن الوصية بما زاد على الثلث لا تجوز لحديث سعد .
وفي الحديث ' الحيف في الوصية من الكبائر ' قيل معناه بما زاد على الثلث وللوارث ، وإنما
امتنع ذلك لحق الورثة ، لأن المريض مرض الموت قد استغنى عن المال وتعلق حقهم به ،
إلا أنه لم يظهر ذلك في الثلث بما سبق من الحديث ، ولحاجته إليه ليتدارك ما فرط منه
وقصر في عمله ، فإذا أجازت الورثة ذلك فقد رضوا بإسقاط حقهم فيصح .
( وتعتبر إجازتهم بعد موته ) لأنه عند ذلك ثبت حقهم فيه لا قبله ، وإنما يسقط الحق
بعد ثبوته ، فإذا أجازوه بعد الموت فقد أسقطوا حقهم بعد ثبوته فيصح ، وكذلك الوصية
للوارث إنما امتنعت لحق باقي الورثة ، لأن الوصية لا تجوز لوارث ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' لا وصية لوارث ولا إقرار بدين ' وفي رواية ' لا وصية لوارث إلا أن تجيزها
الورثة ' ولأنه حيف في الوصية لما مر ، ولأنه تعلق به حق الجميع على ما بينا ، فإذا خصّ
به البعض يتأذّى الباقي ويثير بينهم الحقد والضغائن ويفضي إلى قطيعة الرحم ، فإذا أجازه بقية
الورثة علمنا أنه لا حقد ولا ضغائن فيجوز ، فإن أجاز البعض وردّ البعض جاز في حق
المجيز بقدر نصيبه ، وبطل في الباقي لولايته على نفسه دون غيره . وأما الوصية للقاتل فلا(5/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
تجوز إذا وجد القتل مباشرة عمدا كان أو خطأ . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا وصية
لقاتل ' وكذا لو أوصى لرجل فقتله تبطل الوصية لما قلنا لأن نفاذ الوصية بعد الموت ، فإذا
أجازتها الورثة جازت . وقال أبو يوسف : لا تجوز عملا بإطلاق الحديث ، ولأنه إنما لم تجز
لجنايته وهي باقية . ولنا أن الامتناع لحق الورثة لأن بطلانها نفع يرجع إليهم كبطلانها للوارث
وبما زاد على الثلث ، فإذا أجازوا ذلك فقد أسقطوا حقهم فيسقط ، وكل ما توقف على إجازة
الورثة فأجازوه فالموصى له يملكه من جهة الموصي لأن السبب صدر منه ، والإجازة رفع
المانع كالمرتهن إذا أجاز بيع الرهن .
قال : ( ولا تصح إلا ممن تصح تبرعه ) فلا تصح من الصبي والمجنون والمكاتب
والمأذون ، لأن الوصية تبرع محض لا يقابله عمل مالي ولا نفع دنياوي فصار كالهبة وتنجيز
العتق ؛ وكذلك لو أوصى الصبي والمجنون ثم ماتا بعد البلوغ والإفاقة لعدم الأهلية حالة
المباشرة ؛ وكذلك لو قال : إن أدركت فثلثي لفلان وصية لا تصح لعدم أهلية التصرف ، فلا
يملكه تنجيزا ولا تعليقا كالعتاق والطلاق ؛ وأما العبد والمكاتب إذا أضافاها إلى ما بعد
عتقهما لا تصح لأنهما أهل لذلك ، وإنما امتنع في الحال لحق المولى ، فإذا زال حق المولى
زال المانع فتصح .
قال : ( ويستحب أن ينقص من الثلث ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' والثلث كثير ' أي
في الوصية ، وعن علي رضي الله عنه : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ،
ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ، ولأن فيه صلة القريب بتركه حقه لهم ،
ولا صلة فيما أوصى بالثلث تاما لأنه استوفى حقه فلا صلة . قال : ( وإن كانت الورثة فقراء لا
يستغنون بنصيبهم فتركها أفضل ) لما فيه من الصلة والصدقة عليهم : قال عليه الصلاة
والسلام : ' أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح ' وقال عليه الصلاة والسلام :
' لا صدقة وذو رحم محتاج ' وهو كما قال عليه الصلاة والسلام : ' صدقة وصلة ' لأنه
فقير فيكون صدقة وقريب فيكون صلة ، وإن كانوا أغنياء أو كانوا يستغنون بميراثهم ، قيل
الوصية أولى ، وقيل يخيّر لأن الوصية صدقة أو مبرة وتركها صلة والكل خير .(5/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
قال : ( وتصح للحمل به وبأمه دونه ) أما للحمل فلأن الوصية استخلاف للموصى له في
المال الموصى به ، والحمل أهل لذلك كما في الميراث والوصية أخته ، إلا أنها تبطل
بالرجوع ، لأن الملك إنما يثبت له بعد الموت ، بخلاف الهبة لأنه تمليك للحال ، وليس
لأحد نقل الملك عنه فلا ينتقل ؛ ثم إن كان الزوج ميتا ، فإن ولدت لأقل من سنتين وانفصل
حيا جازت ، وإن انفصل ميتا لم تجز ، لأنه يحال بالعلوق إلى أبعد الأوقات حملا لأمرها
على الصلاح ، ولهذا يثبت نسبه إلى سنتين ؛ وإن كان الزوج حيا فولدته لستة أشهر لا تصح
الوصية ، لأن في الوطء الحلال يحال بالعلوق إلى أقرب الأوقات لأنه لا يتيقن بوجود الحمل
وقت الوصية إلا إذا ولدته لأقل من ستة أشهر . وأما الوصية به فإنما تصح إذا جاءت به لأقل
من ستة أشهر حتى يكون موجودا وقت الوصية ، فإذا كان موجودا صحت الوصية به كالوصية
بسائر الموجودات ، ولأن الوصية تصح بالثمرة وهي غير موجودة فلأن تصح بالموجود أولى .
وأما الوصية بأمه دونه فلأنه لما صح إفراده عنها صح إفرادها عنه ، لأن ما صح إفراده بالعقد
يصح استثناؤه ، وما لا فلا كما في المبيع وغيره ، وهذا لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل
لكن عند الإطلاق يتبعها ضرورة الاتصال ، فإذا أفردها نصا صح لأن كل واحد منهما نفس
بانفراده في الأصل .
قال : ( ويعتبر في المال والورثة الموجود عند الموت ) حتى لو أوصى بثلث ماله ولا
مال له ثم اكتسب مالا ومات أو كان له فذهب أو نقص ، فإن المعتبر ماله حالة الموت ،
لأن وقتئذ تنفذ الوصية وينتقل المال إلى ملك الموصى له ، وكذلك الورثة لا اعتبار لمن
مات قبله لا بإجازته ولا برده لأن المال إنما ينتقل إليهم بعد الموت فلا اعتبار بغير
المالك .
قال : ( وقبول الوصية بعد الموت ) حتى لو أجازها قبله أو ردها فليس بشيء ، لأن
حكمه وهو ثبوت الملك إنما يثبت بعد الموت فلا اعتبار بما يوجد قبله كما إذا وجد قبل
العقد وهو إنما يملكه بالقبول لأنه تمليك بعقد فيتوقف على القبول كغيره من العقود ،
بخلاف الميراث لأنه خلافة عن الميت حتى يثبت للوارث خيار العيب دون الموصى له
ويثبت جبرا شرعا من غير قبول ، ولأنه لو ملك الموصى به من غير قبول كان للموصي
إلزامه الملك بغير اختياره ، ولا ذلك إلا لمن له عليه ولاية ، ولا ولاية له عليه ، ولأنه لو
جاز ذلك لأوصى له بما يضره مثل ما إذا علّق طلاقه بملكه وأنه لا يجوز وإذا كان القبول
شرطا لا يملكه الموصى له إلا بالقبول إلا أن يموت الموصى له بعد الموصي قبل القبول
فتملكها الورثة ، والقياس بطلان الوصية لما بينا ، إلا أنا استحسنا وقلنا يملكها الورثة ، لأن
الوصية تمت من جهة الموصي تماما لا يحلقه الفسخ من جهته ، والتوقف لحق الموصى له(5/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
دفعا لضرر لحوق المنة ولا يلحقه بعد الموت فنفذت الوصية ضرورة تعذر الرد كما إذا مات
المشتري والخيار له قبل الإجازة ، فإن المبيع يدخل في ملكه كذا هذا .
قال : ( وللموصي أن يرجع عن الوصية بالقول والفعل ، وفي الجحود خلاف ) أما جواز
الرجوع فلأنه تبرع لم يتم ، لأن تمامه بالموت والقبول على ما بينا ، فيجوز الرجوع قبل
التمام ، لأنه لو لزم قبل تمامه لم يكن تبرعا ، والرجوع بالقول قوله : رجعت عن الوصية أو
أبطلتها ونحو ذلك ، والرجوع بالفعل مثل أن يفعل فعلا يزيل ملكه عن الموصى به كالبيع
والهبة ، لأنه إذا زال ملكه بطلت الوصية ، لأن الوصية إنما تنفذ في ملكه ، وسواء عاد إلى
ملكه أو لا ، وكذا إذا فعل فعلا لو فعله الغاصب ينقطع به حق المالك كان رجوعا ، وكذلك
فعل يكون استهلاكا من كل وجه وقد عرف تمامه في الغصب ، وكذا إذا فعل ما يزيد به
العين الموصى بها كالبناء والصبغ والسمن في السويق والحشو بالقطن وخياطة الظهارة على
البطانة وبالعكس ونحوه لأنه لا يمكن تسليمه بدون الزيادة ، ولا سبيل إلى نقصانها لحصولها
بفعل المالك في ملكه ، وذبح الشاة رجوع لأنه لحاجته عادة فلا يبقى إلى وقت الموت . وأما
الجحود فهو رجوع عند أبي يوسف خلافا لمحمد ، لأن الجحود نفي في الماضي ، وانتفاؤه
في الحال للضرورة ، فإذا كان ثابتا في الحال كان الجحود لغوا .
ولأبي يوسف أن الرجوع نفي في الحال ، والجحود نفي في الماضي والحال فأولى أن
يكون رجوعا ، ومن الرجوع قوله : العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان آخر ، أو أوصيت
به لفلان ، لأن هذا يدل على قطع الشركة ، ولو كان فلان الآخر ميتا لا يكون رجوعا ، لأن
الأولى إنما بطلت ضرورة صحة الثانية ولم تصح ، ولو كان حيا ثم مات قبل الموصي بطلت
الأولى لصحة الثانية وبطلت الثانية بالموت ؛ ولو أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر فهو
بينهما ، وليس برجوع لأنه يحتمل الشركة ، واللفظ غير قاطع لها بل صالح فيثبت لهما .
قال : ( وإذا قبل الموصى له الوصية ثم ردها في وجه الموصي فهو رد ) لأنه ليس له
إلزامه بغير اختياره ( وإن ردها في غير وجهه فليس برد ) لما فيه من خيانة الميت وغروره ، فإن
الموصي مات معتمدا عليه واثقا بخلافته بعده في أموره وتركته فلا يجوز رده ، بخلاف
الوكيل حيث له الرجوع ، لأن الموكل حي يقدر على التصرف بنفسه ، وعلى أن يوكل غيره
فافترقا ، وإن لم يقبلها ولم يردها حتى مات الموصي فهو بالخيار إن شاء قبل ، وإن شاء لم
يقبل ، لأن الموصي ليس له إلزامه فيخير ، ثم القبول كما يكون بالقول يكون بالفعل لأنه
دلالة عليه ، وذلك مثل أن يبيع شيئا من التركة بعد موت الموصي وينفذ البيع لصدوره من
الأهل عن ولاية ، وكذا إذا اشترى شيئا يصلح للورثة أو قضى مالا أو اقتضاه لزمته الوصية ،(5/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
وسواء علم بالوصية أو لم يعلم لأنها خلافة ، ألا ترى أنها إنما تثبت حال انقطاع ولاية
الموصي فتنتقل الولاية إليه فلا يحتاج إلى العلم ولا يتوقف عليه كالإرث .
قال : ( فإن كان عاجزا ضم إليه القاضي آخر ، وإن كان عبدا أو كافرا أو فاسقا استبدل
به ) .
اعلم أن الأوصياء ثلاثة : أمين قادر على القيام بما أوصى إليه ، فإنه يقرر وليس للقاضي
عزله لأن مقصوده الموصي القيام بأموره وما أوصى إليه به ، فإذا حصل فتغييره إبطال لقصده
فلا يجوز . وأمين عاجز فالقاضي يضم إليه من يعينه ، لأن الوصية إليه صحيحة لا يجوز
إبطالها ، إلا أن في انفراده نوع خلل ببعض المقصود لعجزه فيضم إليه آخر تكميلا للمقصود .
وفاسق أو كافر أو عبد فيجب عزله وإقامة غيره لأنه لا تصح نيابته ، لأن الميت إنما أوصى
إليه معتمدا على رأيه وأمانته وكفايته في تصرفاته وهؤلاء ليسوا كذلك . أما الفاسق فلاتهامه
بالخيانة ، وأما الكافر فللعداوة الدينية الباعثة له على ترك النظر للمسلم ، وأما العبد فلتوقف
تصرفه على إجازة مولاه وتمكنه من حجره بعد ذلك فيخرجهم القاضي ويقيم من يقوم
بمصالح الميت ، لأن القاضي نصّب ناظرا للمسلمين ، ألا يرى أنه لو لم يوص إلى أحد
فللقاضي أن يقيم وصيا كذا هذا .
قال : ( وإن أوصى إلى عبده وفي الورثة كبار لم تصح ) لأن للكبير بيعه أو بيع نصيبه
فيعجز عن الوصية لأن المشتري يمنعه فلا تحصل فائدة الوصية ( وإن كانوا صغارا جازت )
وقالا : لا تجوز وهو القياس لأن الرق ينافي الولاية ، وفيه إثبات ولاية المملوك على
المالك ، وهو قلب المشروع وعكس الموضوع . ولأبي حنيفة أنه أهل للولاية مخاطب مستبد
بالتصرف فيكون أهلا للوصية ، ولا ولاية عليه لأنهم لا يملكون بيعه وإن كانوا ملاكا ، وليس
لهم منعه ولا منافاة وصار كالمكاتب ، وإن أوصى إلى صبي أو عبد أو كافر فلم يخرجهم
القاضي حتى بلغ أو أعتق أو أسلم ، فالوصية ماضية لزوال الموجب من العزل ، إلا أن يكون
غير أمين لما بينا ، وإن أوصى إلى مكاتبه جاز لوجود الأهلية والقدرة على إنفاذ الوصية ، فإن
أدى عتق وهو على وصيته ، وإن عجز رد في الرق فحكمه حكم العبد ، وقد بيناه .
قال : ( وليس لأحد الوصيين أن يتصرف دون صاحبه ) وقال أبو يوسف : لكل واحد
منهما أن ينفرد بالتصرف في جميع الأشياء ، لأن الوصية خلافة ، وذلك إنما يكون إذا ثبت
للخليفة مثل ما كان للمستخلف . ولهما أن الموصي ما رضي إلا برأيهما ، وهذا لأن الولاية
إنما تثبت بتفويضه فيراعي وصفه وهو الاجتماع ، وفي اجتماع رأيهما مصلحة فيتقيد به لأنه(5/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
شرط مفيد ، بخلاف الأشياء المستثناة لأنها ضروريات ، والضروريات مستثناة وهي تجهيز
الميت ومؤونة الصغار من طعامهم وكسوتهم والخصومة ورد الوديعة والمغصوب وقضاء
الديون وعتق عبد بعينه وتنفيذ وصية بعينها ؛ أما تجهيز الميت لأن في تأخيره فساده حتى كان
للجار فعله ، وكذا مؤونة الصغار لأنه يخاف عليهم جوعا وعريا ، والخصومة لا يمكن
الاجتماع عليها وباقي الصور الاجتماع والانفراد فيه سواء لأنها لا تحتاج إلى الرأي ، وكذا رد
المشتري شراء فاسدا وحفظ الأموال وقبول الهبة ، لأن في التأخير خوف الفتنة ، وكذلك
جميع الأموال الضائعة وقبول ما يخشى عليه التلف .
قال : ( ولو مات أحدهما أقام القاضي مكانه آخر ) أما عندهما فظاهر لأن الواحد لا
ينفرد بالتصرف عندهما . وأما عند أبي يوسف فلأن الواحد وإن كان يملك التصرف لكن
الموصي قصد أن يخلفه اثنان في حقوقه ، وقد أمكن تحقيق قصده بنصب وصي آخر
فينصب ، ولو أن الوصي الميت أوصى إلى الثاني فله التصرف وحده كما إذا أوصى إلى آخر
لأن رأيه باق حكما برأي وصيه ، ولهذا جاز أن يوكله حال حياته في التصرف في مال الميت
فكذا الوصية . وعن أبي حنيفة ليس له ذلك ، لأن الموصي ما رضي بتصرفه وحده ، بخلاف
ما إذا أوصى إلى آخر ، لأن مقصوده حصل برأي المثنى .
قال : ( وإذا أوصى الوصي إلى آخر فهو وصي في التركتين ) تركته وتركة الميت الأول
لأنه يتصرف بولاية مستقلة فيملك الإيصاء إلى غيره كالجد ، لأن الولاية كانت ثابتة للموصي
ثم انتقلت إلى الوصي في المال ، وإلى الجد في النفس ، والجد قام مقام الأب في ولاية
النفس فكذا الوصي في ولاية المال ، لأن الإيصاء إقامة غيره مقامه ، وعند الموت كانت
ولايته ثابتة في التركتين فكذا الوصي تحقيقا للاستخلاف ، وكذلك لو أوصى إلى رجل في
تركة نفسه وقد حضرته الوفاة يصير وصيا في التركتين في ظاهر الرواية ، لأن تركة موصيه
تركته لأن له ولاية التصرف فيها ، وروي عنهما أنه يقتصر على تركته لأنه نص عليها وجوابه
ما مر . قال : ( ويجوز للوصي أن يحتال بمال اليتيم إن كان أجود ) بأن كان أملأ أو أيسر
قضاء وأعجل وفاء لأنه أنظر لليتيم والولاية نظرية ولهذا لا يجوز بيعه وشراؤه بما لا يتغابن
إذ لا نظر له فيه ، بخلاف الغبن اليسير لأنه لا يمكن الاحتراز عنه ، ففي اعتباره سد باب
التصرفات .
قال : ( ويجوز بيعه وشراؤه لنفسه إن كان فيه نفع للصبي ) بأن اشترى بأكثر من القيمة أو
باعه بأقل منها ، وقالا : لا يجوز قياسا على الوكيل . وله أنه قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن(5/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
فيجوز بالنص وصار كالأب . قال : ( وليس للوصي أن يقترض مال اليتيم وللأب ذلك ) لأن
الأب يملك شراء مال الصبي بمثل قيمته ، ولا كذلك الوصي ، وكذلك الأب له أن يأخذ من
مال الصبي عند حاجته بقدر حاجته ، ولا كذلك الوصي ( وليس لهما إقراضه ، وللقاضي ذلك )
لأن القرض تبرع ابتداء معاوضة انتهاء ، فجعل معاوضة في القاضي لقدرته على الاستخلاص
بواسطة الحبس وغيره تبرعا في حق غيره لعجزه نظرا واحتياطا في مال اليتيم .
قال : ( والوصي أحق بمال اليتيم من الجد ) لأنه انتقلت إليه ولاية الأب بالإيصاء إليه ،
فكانت ولاية الأب قائمة حكما ، ولأن اختياره الوصي مع علمه بالجد دليل أن تصرفه أنظر
من تصرف الجد فكان أولى ؛ فإن لم يوص الأب فالولاية للجد لأنه أقرب إليه وأشفق على
بنيه فانتقلت الولاية إليه ، ولهذا ملك النكاح مع وجود الوصي ، وإنما يقدم الوصي في المال
لما بينا ، ووصي الجد كوصي الأب ، لأن الجد بمنزلة الأب عند عدمه فكذا وصيه . قال :
( وشهادة الوصي للميت لا تجوز ) لأنه ثبت لنفسه ولاية القبض ( وعلى الميت تجوز ) إذ لا
تهمة في ذلك .
( وتجوز للورثة إن كانوا كبارا ولا تجوز إن كانوا صغارا ) أما الشهادة للكبار ، قال أبو
حنيفة : إن كانت في مال الميت لا تجوز وفي غيره تجوز . وقالا : تجوز في الوجهين لأنه لا
ولاية لهما عليه فلا يثبتان لأنفسهما ولاية التصرف فلا تهمة ، بخلاف الصغار لأنهما يثبتان
لهما ولاية التصرف في المشهود به . ولأبي حنيفة أنهما يثبتان لهما ولاية الحفظ وولاية بيع
المنقول عند غيبة الوارث فتحققت التهمة بخلاف ما إذا شهدا في غير التركة لأنه لا ولاية
لهما في غيرها . وأما الشهادة للصغار فلا تجوز بحال للتهمة على ما بينا ، وإن أوصى إلى
رجل إلى أن يقدم فلان فإذا قدم فهو الوصي أو إلى أن يدرك ولدي فهو كما قال ، لأنها في
معنى الوكالة ، ولأن الوصية مؤقتة شرعا ببلوغ الأيتام أو إيناس الرشد ، فجاز أن تكون مؤقتة
شرطا ؛ ولو أوصى إلى رجل في ماله كان وصيا فيه وفي ولده ؛ والوصي في نوع يكون وصيا
في جميع الأنواع ، لأنه لولا ذلك لاحتجنا إلى نصب آخر ، والموصي قد اختار هذا وصيا في
بعض أموره فيجعله وصيا في الكل أولى من غيره لأنه رضي بتصرف هذا في البعض ولم
يرض بتصرف غيره في شيء أصلا ؛ وإذا ادعى الوصي دينا على الميت ولا بينة له أخرجه
القاضي من الوصية لأنه يستحل أخذ مال اليتيم ، وقيل إن ادعى شيئا بعينه أخرجه وإلا فلا ؛
والمختار أن يقول له القاضي : إما أن تقيم البينة وتستوفي أو تبرئه وإلا أخرجتك من الوصية ،
فإن أبرأه وإلا أخرجه وأقام غيره ؛ وللوصي أن يدفع المال مضاربة ، ويعمل فيه هو مضاربة ،(5/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
لأنه قائم مقام الأب ، وللأب هذه التصرفات فكذا الوصي ، فإن عمل بنفسه أشهد على ذلك ،
لأن له أن يتجر في مال الصغير .
قال عليه الصلاة والسلام : ' ابتغوا في مال اليتامى خيرا ' فإذا أراد أن يستوجب طائفة
من المال لنفسه بالمضاربة احتاج إلى الإشهاد نفيا للتهمة . وعن محمد إن لم يشهد فما عمله
للورثة لأنه هو الظاهر فلا يترك إلا بدليل وهو الإشهاد ، وللوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا
كان محتاجا ، ويركب دابته إذا ذهب في حاجته ، قال تعالى : ) ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف ( [ النساء : 6 ] . وروي عن أبي يوسف لو طمع السلطان في مال اليتيم فصالحه
الوصي من مال اليتيم على أقل مما طمع لم يضمن لأنه مأمور بحفظ مال اليتيم ما أمكنه وقد
أمكنه بهذا الطريق .
فصل
( وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره وبغلتهما أبدا ومدة معلومة ) لأن المنافع يصح
تمليكها حال الحياة بعوض وغير عوض ، فكذا بعد الممات للحاجة إلى ذلك كالأعيان ؛ ثم
إن الموصى له يتملكها على ملك الموصي كما قلنا في الوقف ، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في
الإعارة والإجارة لأنها تمليك . قال : ( فإن خرجا من الثلث استخدم وسكن واستغل ) لأن
الثلث حق الموصي فلا تزاحمه الورثة فيه ، وهذا لأن الوصية بالمنفعة تمليك الرقبة في حق
ملك المنفعة ، لأنه لا يمكنه الانتفاع بالعين إلا بصيرورته أخص بملك الرقبة كالإجارة فكانت
وصية بملك الرقبة في حق الانتفاع لا مطلقا ( وليس له أن يؤاجرهما ) لأنه ملك المنفعة بغير
عوض فلا يملك تمليكها بعوض كالعارية ، هذا لأن التمليك بعوض أقوى وألزم ، والأضعف
لا يتناول الأقوى .
قال : ( وإن لم يكن له مال غيرهما خدم الورثة يومين والموصى له يوما ) لأنه لا يمكنه
أن يخدمهم جملة واحدة ، فالمهايأة فيه تقع على الأيام كما ذكرنا لأن حقه في الثلث وحقهم
في الثلثين كالوصية بالعين ، وهذا لأنه لا يمكن منع الجميع عن الورثة كما لا يملك الوصية
بجميع العين ؛ وإذا تقررت الوصية بالثلث وجبت المهايأة بالحصص كما قلنا . قالوا :
والأعدل في الدار أن تقسم أثلاثا تسكن الورثة الثلثين والموصى له الثلث ، لأنه فيه التسوية(5/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
بينهما في الانتفاع زمانا وذاتا ، وفي المهايأة ذاتا لا زمانا بخلاف العبد فإنه لا يتجزى فلا
يمكن قسمته فتعينت المهايأة ، فإن كان له مال آخر لكن لا يخرج من الثلث فعلى هذا
الاعتبار يخدم الموصى له على قدر ثلث التركة والباقي للورثة مثاله : إذا كان العبد نصف
التركة فإنه يخدم الموصى له يومين والورثة يوما ، لأن ثلثي العبد ثلث التركة فصار الموصى
به ثلثي العبد وثلثه للورثة فيقسم كما ذكرنا ، وعلى هذا الاعتبار تخرّج بقية مسائله .
قال : ( فإن مات الموصى له عاد إلى الورثة ) لأن الموصى له استوفى ما أوصى له به
من المنافع على ملك الموصي كما بينا ، فلو انتقلت إلى ورثته كان ابتداء استحقاق من غير
رضي فلا يجوز ، وإذا كانت على ملك الموصي تنتقل إلى ورثته كسائر أمواله ؛ ولو أوصى
بغلتهما فاستخدم بنفسه وسكن ، قيل يجوز لاستواء الغلة والمنفعة في المقصود ، وقيل لا
يجوز وهو الأصح لأن الغلة دراهم أو دنانير والوصية بهما حصلت وهو استوفى المنافع ،
وهما غير متفاوتان في حق الورثة فإنه لو ظهر على الموصي دين أمكنهم استرداد الغلة وإيفاء
الدين ، ولا يمكنهم استرداد المنفعة بعد استيفائها فكان هذا أولى ، وليس للورثة بيع الثلثين .
وعن أبي يوسف جوازه لأنه خالص حقهم . وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى
الجميع لو ظهر له مال آخر تخرج الدار من الثلث وله حق المزاحمة في الثلثين لو خرب
الثلث الذي في يده ، والبيع يبطل ذلك فيمنعون عنه . ولو أوصى لرجل بخدمة عبده ولآخر
برقبته وهو يخرج من الثلث فهو كما أوصى لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما حيث
عطف أحدهما على الآخر فصار كحالة الانفراد وحكم الموصى له بالرقبة مع صاحب الخدمة
كالوارث مع صاحب الخدمة .
قال : ( ومن أوصى بثمرة بستانه فله الثمرة الموجودة عند موته ، وإن قال أبدا فله ثمرته
ما عاش ، ولو أوصى بغلة بستانه فله الحاضرة والمستقبلة ) لأن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا
ينتظم المعدوم إلا بدليل آخر ، وقوله أبدا صريح في إرادته فينتظمه ، إذ لو لم ينتظمه لم يبق
للتأبيد فائدة . أما الغلة فينتظم الموجود وما سيوجد مرة بعد أخرى عرفا ، يقال فلان يأكل من
غلة بستانه وأرضه وداره ، ويراد به الموجود وما سيوجد عرفا فافترقا .
قال : ( وإن أوصى بصوف غنمه أو بأولادها أو بلبنها فله الموجود عند موته ، قال : أبدا
أو لم يقل ) لأن الوصية تمليك عند الموت على ما عرف فيعتبر وجوده عند ذلك ، وهذا لأن
القياس يأبى تمليك المعدوم لعدم قبوله لذلك ، إلا أن الشرع ورد بورود العقد على الغلة(5/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
والثمرة المعدومة في المساقاة والإجارة فقلنا بجوازه في الوصية أيضا بالقياس ، وبل أولى لأن
باب الوصية أوسع ، أما الولد والصوف واللبن لم يرد فيها شيء في المعدوم وإنما ورد في
الموجود تبعا في عقد البيع ومقصودا في الخلع فكذا في الوصية يجوز في الموجود دون
المعدوم اتباعا لمورد الشرع ، ولو أوصى بغلة عبده وغلة داره في المسكين جاز ، وبسكنى
داره أو بخدمة عبده لهم لا يجوز إلا لواحد بعينه ، لأنه لا يمكن سكنى الدار واستخدام العبد
إلا بالمرمة والنفقة ، ولا يمكن القضاء على واحد منهم فتعذر تنفيذ الوصية فبطلت . أما الغلة
يمكن ترميم الدار والنفقة على العبد من الغلة فوجب تنفيذها .
قال : ( والعتق في المرض والهبة والمحاباة وصية ) تعتبر من الثلث لأنها تبرعات في
المرض بما تعلق به حق الورثة فتعتبر من الثلث لما بينا .
قال : ( والمحاباة إن تقدمت على العتق فهي أولى ، وإن تأخرت شاركته ) وقالا : العتق
أولى كيف كان . وصورة المحاباة : أن يبيع المريض ما يساوي مائة بخمسين ، أو يشتري ما
يساوي خمسين بمائة فالزائد على قيمة المثل في الشراء والناقص في البيع محاباة وهي كالهبة
في المرض فاعتبرت وصية . وفيه أربع مسائل : إحداها أن يحابي ثم يعتق . والثانية أن يعتق
ثم يحابي . والثالثة أن يعتق ثم يحابي ثم يعتق . والرابعة أن يحابي ثم يعتق ثم يحابي . فإن
خرج الكل من الثلث نفذت ولا كلام فيها ولا خلاف ، وإن لم يخرج من الثلث ، ففي
المسألة الأولى تنفذ المحاباة ، فإن فضل شيء فللعتق ، وقالا بالعكس ؛ وفي المسألة الثانية
يشتركان ، وقالا : ينفذ العتق فإن فضل شيء فللمحاباة ؛ وفي الثالثة يصرف نصف الثلث
للمحاباة لأنها تشارك العتق الأول عنده ، ثم ما أصاب العتق الأول قسم بينه وبين الآخر
نصفين ؛ وفي الرابعة الثلث بين المحاباتين لاستوائهما ، ثم ما أصاب الثانية قسم بينها وبين
العتق لتقدمه عليها فيشاركها ، وقالا : العتق أولى بكل حال . لهما أن العتق لا يلحقه الفسح
ويلحق بالمحاباة فكان أولى . والتقدم في الذكر لا يوجب التقدم في الثبوت فلا اعتبار به .
وفي أثر ابن عمر رضي الله عنهما إذا كان في الوصايا عتق بدئ به . ولأبي حنيفة أن
المحاباة أقوى لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا معنى لا صورة ، والإعتاق
تبرع صورة ومعنى ، والمعاوضات أقوى من التبرعات ، فإذا وجدت المحاباة أولا وهي أقوى
لا يزاحمه الأضعف بعدها لقوته وسبقه ، إلا أن العتق إذا تقدم وهو لا يقبل النقض تعارضا
فيستويان فيشتركان .
قال زفر : ما بدأ به الموصي منهما فهو أولى لأن بدايته دليل أن اهتمامه به أكثر فكان
غرضه تقدمه فيتبع غرضه ، وجوابه ما تقدم . ولو مات وترك عبدا فقال للوارث : أعتقني(5/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
أبوك ، وقال آخر : لي على أبيك ألف درهم ، فقال صدقتما سعى العبد في قيمته ؛ وقالا :
يعتق من غير سعاية ، لأن العتق والدين ظهرا معا في الصحة بتصديق الوارث بكلام واحد .
والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين . وله أن الدين أقوى لأنه
يعتبر من جميع المال ، والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من ثلث المال ، وكان ينبغي أن
يبطل العتق إلا أنه لا يبطل بعد وقوعه فأبطلناه معنى بإيجاب السعاية .
قال : ( ومن أوصى بحقوق الله تعالى قدّمت الفرائض ) لأنها أهم من النوافل ، لأن
الفرائض تخرجه عن العهدة ، والنوافل تحصل له زيادة الثواب ، والأوّل أولى ، فالظاهر أنه
أراد الأهم والأولى ( وإن تساوت ) بأن كان الكل فرائض ( قدم ما قدمه الموصي إن ضاق
الثلث عنها ) لأن الظاهر أنه بدأ بالأهم ، وقيل يبدأ بالحج ثم بالزكاة لأنه يؤدى بالمال
والنفس ، وقيل بالزكاة ثم بالحج لأنه تعلق بها حق العباد فكانت أولى ، ثم بعدهما الكفارات
لأنهما أقوى منها في الفرضية والوعيد على الترك ، ثم صدقة الفطر بعد الكفارات ، لأن
الكفارات عرف وجوبها بالقرآن وصدقة الفطر بالسنة ، ثم الأضحية لأن صدقة الفطر مجمع
على وجوبها والأضحية مختلف فيها ( وما ليس بواجب يقدم ما قدمه الموصي ) لما مر .
فصل
( ومن أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بسدسه فالثلث بينهما أثلاثا ) لأن الثلث ضعف
السدس ، فقد أوصى لأحدهما بسهمين وللآخر بسهم ( ولو أوصى له بثلثه ولآخر بثلثه أو
بنصفه أو بجميعه فالثلث بينهما نصفان ) وهذا كله إذا لم تجز الورثة . أما الأولى فبالإجماع
لاستوائهما في قدر الوصية والثلث لا يتسع لهما فيستويان فيه . وأما الثانية والثالثة فمذهب
أبي حنيفة ( ولا يضرب الموصى له وبما زاد على الثلث ) عنده ( إلا في المحاباة والسعاية
والدراهم المرسلة ) وقالا : يضرب لكل واحد بقدر ما أوصى له كما إذا أجازت الورثة ، فإنه
يقسم الكل على قدر ما أوصى لهما كذلك ههنا ، فيقسم الثلث عندهما في المسألة الثانية
على خمسة ، ثلثه للموصى له بالنصف ، وسهمان للموصى له بالثلث .
وفي المسألة الثالثة على أربعة : ثلاثة للموصى له بالجميع ، وسهم لصاحب الثلث ،
وهذا لأن الموصي قصد تفضيل البعض في الوصية فوجب اعتباره ما أمكن ، وقد أمكن(5/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
بطريق الضرب كما ذكرنا ، ولا ضرر على الورثة في ذلك فيصار إليه . وله أن الوصية فيما
زاد على الثلث باطلة في حق الاستحقاق عند عدم الإجازة لكونها وصية بما لا يستحقه
فبطل حق الضرب ضرورة عدم الاستحقاق ، وإنما قصد التفضيل بناء على الاستحقاق
والإجازة بدليل إضافته الوصية إلى جميع المال وقد بطل الاستحقاق والإجازة فيبطل
التفضيل ، كالمحاباة الثابتة في ضمن البيع إذا بطل البيع تبطل المحاباة ، بخلاف الفصول
الثلاثة ، لأن الوصية بالألف المرسلة والمحاباة لم تقع على حق الورثة قطعا لجواز نفاذها
بأن يظهر له مال فتخرج من ثلثه بدون الإجازة ، والوصية بالعتق وصية بالسعاية ، وهي
كالدراهم المرسلة ، بخلاف ما زاد على الثلث لأنه حق الورثة وإن كثرت التركة . ومن
أوصى لرجل بثلث ماله إلا شيئا أو إلا قليلا فله نصف الثلث بيقين وبيان الزيادة عليه إلى
الورثة لأنها مجهولة .
قال : ( وإن أوصى بسهم من ماله فله السدس ) عند أبي حنيفة في رواية الجامع الصغير
فإن قال فيه : له أخس سهام الورثة إلا أن ينقص من السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه
فكان حاصله أن له السدس . وعلى رواية كتاب الوصايا : له أخس سهام الورثة ما لم يزد
على السدس . وقالا : له أخس السهام إلا أن يزيد على الثلث فيكون له الثلث . لهما أن
السهم اسم لما يستحقه الورثة عرفا وشرعا ، وأقل السهام متيقن ، وما زاد عليه مشكوك ، ولا
يزاد على الثلث لأن الثلث موضع الوصية عند عدم الإجازة . وله ما روى ابن مسعود رضي
الله عنه أن رجلا أوصى بسهم من ماله ، فقضى رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك
بالسدس ، ولأن السهم يذكر ويراد به السدس لغة . قال إياس : السهم في اللغة السدس ،
ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى الأقل منهما احتياطا . فلو مات وترك امرأة وابنا
فللموصى له الثمن على رواية كتاب الوصايا فيزاد على ثمانية فيكون له تسع ، وفي رواية
الجامع له السدس . ولو ترك امرأة وأخا لأبوين فعنده السدس وعندهما الربع ويصير خمسا ؛
ولو ترك ابنين فعنده له السدس ، وعندهما الثلث ؛ ولو أوصى لرجل بسهم من ماله ثم مات
ولا وارث له فله النصف لأن بيت المال بمنزلة ابن فصار كأن له ابنين ولا مانع من الزيادة
على الثلث فصح .
قال أبو يوسف : لو أوصى لعبده بجزء أو بنصيب أو بطائفة من ماله لا يعتق ؛ ولو
أوصى بسهم من ماله عتق ، لأن السهم عبارة عن السدس أو عن أخس السهام ، وأنه معلوم
فتنفذ الوصية في جزء منه . أما الجزء والنصيب ليس بمعلوم فلا تنفذ فيه الوصية إلا بإعطاء
الورثة ما شاؤوا .
قال : ( ولو أوصى بجزء أعطاه الوارث ما شاء ) وكذلك النصيب والشقص والبعض
لأنه اسم لشيء مجهول ، والوارث قائم مقام الموصى فكان البيان إليه . قال :(5/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
( ولو أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث ) لأنه إذا أخذ الثلث كان مثل نصيب ابنه ،
ولو أخذ النصف كان أكثر ، ولو أوصى بنصيب ابنه فهي باطلة لأنه وصية بمال الغير لأن
نصيب الابن ما يصيبه بعد موت الأب ، بخلاف المثل لأن مثل الشيء غيره .
قال : ( ومن أوصى بثلث دراهمه أو ثلث غنمه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها وهي تخرج من
ثلثه فله جميعه ، وكذا المكيل والموزون والثياب من جنس واحد ، وإن كانت مختلفة فله ثلث
الباقي ، وكذلك العبيد والدور ) وقال زفر : له ثلث الباقي في الجميع لأن الكل مشترك بينهما ،
فما هلك يهلك على الحقين ، وما يبقى يبقى عليهما كسائر الأموال المشتركة وكما في
الأجناس المختلفة . ولنا أن الوصية تعلقت بالباقي لأنه يجوز أن يستحقه الموصى له بالقسمة
مع الورثة لو قسم قبل الهلاك لأنه مما تجري فيه القسمة جبرا وأنه إفراز فيه ، وكل ما تعلقت
به الوصية وهو يخرج من ثلث المال فهو للموصى له ولا التفات إلى ما هلك ، ألا ترى أنه
لو أوصى له بثلث شيء بعينه كالدابة والدار والعبد فاستحق ثلثاه كان له الثلث الباقي ، ولا
كذلك الأجناس المختلفة لأنه لا يجوز أن يستحق الموصى له الباقي بالقسمة ، فلم تكن
الوصية متعلقة به لأن القسمة لا تجري فيه جبرا ، ولو كانت تكون مبادلة فلا يكون له إلا
ثلث الباقي ضرورة المبادلة ، وهذا ظاهر في الأجناس المختلفة ، إذ لا خلاف في عدم قسمة
الجبر فيها ؛ وأما الدور المختلفة والرقيق فكذلك عند أبي حنيفة لأنها لا تقسم عنده ؛ وأما
على قولهما قالوا : ينبغي أن تكون كالثياب والغنم لأنها تقسم عندهما ، وقيل : لا . أما الدور
فإنها تقسم عندهما إذا رأى القاضي ذلك مصلحة فكان في معنى القسمة أضعف مما يقسم
بكل حال . وأما الرقيق فإنه وإن كان يقسم عندهما لكن التفاوت بينهما فاحش فصار
كجنسين .
قال : ( ومن أوصى بثلثه لزيد وعمرو وعمرو وميت فالثلث لزيد ) لأن عمرا إنما يزاحم لو
كان حيا ، أما الميت لا يزاحم فبقي الثلث لزيد بلا مزاحم بقوله : ثلث مالي لزيد ، ولغا قوله
وعمرو . وعن أبي يوسف إن علم بموت عمرو فكذلك لأنه علم أن ذكر عمرو لغو ، وإن لم
يعلم لزيد نصف الثلث ، لأن من زعمه أن الوصية بينهما وأنه إنما أوصى لزيد بنصف الثلث
فيكون كما زعم ، ( ولو قال : بين زيد وعمرو فنصفه لزيد ) لأن اللفظ يقتضي التنصيف
بينهما ، ألا يرى أنه لو قال : ثلث مالي لزيد وسكت كان جميع الثلث له ؟ ولو قال : بين زيد
وسكت لا يستحق جميعه .(5/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
قال : ( ومن أوصى لرجل بألف من ماله وله مال عين ودين ، والألف يخرج من ثلث
العين دفعت إليه ) لأنه أمكن تنفيذ الوصية من الثلث الذي هو محلها من غير إضرار بالورثة
فينفذ ( وإن لم يخرج من العين أخذ ثلث العين وثلث ما يحصل من الدين حتى يستوفيها ) لأن
التركة مشتركة بينهم فيشتركان في العين والدين بقدر حصصهما ، لأن العين خير من الدين ،
فلو اختص به أحدهما تضرر الآخر فكان العدل فيما ذكرنا .
قال : ( ومن أوصى بثلثه لفلان وللمساكين ، فنصفه لفلان ونصفه للمساكين ) وقال
محمد : ثلثاه للمساكين ، وأصله أن اسم المساكين عنده يتناول الاثنين فصاعدا ، لأن الوصية
أخت الميراث ، والجمع في باب الميراث يتناول الاثنين فصاعدا فكذا هذا . وعندهما يتناول
الواحد فصاعدا ، لأن الألف واللام تقتضي الجنس ، ومتى تعذر الصرف إلى الجنس يصرف
إلى الأدنى وهو واحد كاليمين في شرب الماء وتزويج النساء وكلام الناس فإنه يحنث بشرب
قطرة وتزويج امرأة وكلام واحد ، وههنا تعذر صرفه إلى الجنس لأنهم لا يحصون فيصرف
إلى الأدنى وهو الواحد ، وعلى هذا لو أوصى بثلثه للمساكين فعند محمد لا يجوز صرفه إلى
واحد . وعندهما يجوز لما مر . ولو أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين قال أبو
حنيفة رحمه الله : سهم لفلان وسهم للمساكين وسهم للفقراء ، لأن الفقراء والمساكين صنفان
فكأنه أوصى لثلاثة . وعند أبي يوسف رحمه الله : سهم لفلان وسهم للفقراء والمساكين
لأنهما صنف واحد من حيث المعنى ، إذ كل واحد من الاسمين ينبئ عن الحاجة . وعند
محمد رحمه الله : يقسم على خمسة أسهم : سهم لفلان ، ولكل صنف سهمان لما مر .
قال : ( ولو أوصى لرجلين كل واحد منهما بمائة ثم قال الآخر : أشركتك معهما فله
ثلث كل مائة ) تحقيقا للشركة ، إذ الشركة تقتضي المساواة . ولو أوصى لرجل بمائة ولآخر
بخمسين ثم قال لآخر : أشركتك معهما ، فله نصف ما لكل واحد ، لأنه تعذر المساواة بين
الكل لتفاوت المالين فحملناه على مساواة كل واحد منهما عملا بلفظ الشركة بقدر الإمكان .
قال : ( ولو قال لورثته : لفلان علي دين فصدقوه يصدق إلى الثلث ) أي إذا ادعى أكثر من ذلك
وكذبه الورثة لأنه إقرار بمجهول فلا يصح إلا بالبيان ، فعلمنا أنه قصد تقديمه على الورثة
فأمضينا قصده وجعلناه وصية فتكون مقدرة بالثلث . قال : ( وإن أوصى لأجنبي ووارث
فالنصف للأجنبي وبطل نصف الوارث ) لأنه أوصى بما يملك وما لا يملك فيصح فيما يملك(5/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
وتبطل في الآخر ، بخلاف الوصية للحي والميت لأن الميت ليس أهلا للتمليك فلا يكون
مزاحما . أما الوارث أهل حتى يصح بإجازة باقي الورثة فيصلح مزاحما .
فصل
( ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون ) عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله ، وهو القياس
لأنه من المجاورة ، وهي الملاصقة . قال عليه الصلاة والسلام : ' الجار أحق بصقبه '
والمراد الملازق لأن غيره لا يستحق الشفعة . وقالا : الملاصقون وغيرهم ممن يصلي في
مسجد تلك السكة ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله ، وهو الاستحسان لأنهم
يسمون جيرانا عرفا ، يقال : جار ملاصق وغير ملاصق ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ' لا
صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ' وفسر بكل من سمع النداء ولأن قصده البر ، وهو
فيما ذكرناه أعم إلا أنه لا بد من الاختلاط بينهم ، وذلك باتحاد المسجد والمالك والساكن
فيه سواء ، وكذلك الذكر والأنثى والصغير والكبير والمسلم والذمي ، لأن اسم الجار
يتناولهم .
قال : ( والأصهار : كل ذي رحم محرم من زوجته ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعتق
كل ذي رحم محرم من زوجته صفية ، وكانوا يسمون أصهار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويدخل فيه كل
ذي رحم محرم من زوجة كل ذي رحم محرم منه ، فلو مات بعد زوال النكاح بطلت
الوصية ، لأنه يشترط وجود الصهرية عند الموت وبقاؤها ببقاء النكاح . قال : ( والأختان : زوج
كل ذات رحم محرم منه ) ويدخل فيه الأقرب والأبعد والعبد والحر لتناول اللفظ الجميع .
ومن كلامهم : نعم الختن القبر . وعند أهل الللغة اختلاف في الأصهار والأختان غير ما
ذكرنا ، والعرف على ما ذكرنا والحكم به . قال : ( والأهل : الزوجة ) وعندهما كل من يعوله
وتجمعه نفقته ومنزله من الأحرار دون الرقيق ، وإن كان يعوله وليس في منزله لا يدخل عملا
بالعرف . قال تعالى : ) وأتوني بأهلكم أجمعين ( [ يوسف : 93 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أن
الحقيقة ما ذكرنا ، يقال : تأهّل فلان ببلد كذا إذا تزوج بها ، وانصراف الفهم إليه عند الإطلاق
دليل الحقيقة . وقال تعالى : ) قال لأهله امكثوا ( [ القصص : 29 ] أي لزوجته : وقال تعالى :
) فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ( [ القصص : 29 ] أي زوجته بنت شعيب عليه
السلام .(5/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
قال : ( والآل : أهل بيته ) لأن آل فلان قبيلته التي ينسب إليها . ولو أوصى لأهل بيت
فلان يدخل فيه أبوه وجده ، لأن الأب أصل البيت . قال : ( وأهل نسبه : من ينتسب إليه من
جهة الأب ) لأن النسب إلى الآباء . قال : ( وجنسه : أهل بيت أبيه ) لأن الشخص يتجنس
بأبيه ، فابن التركي تركي ، وابن الهندي هندي . فالحاصل أن أهل البيت والنسب والجنس
والآل أقرباؤه من قبل أبيه إلى أقصى جد يجمعهم في الإسلام ، ويدخل في الغني والفقير وإن
كانوا لا يحصون ، لأن اسم القرابة يتناولهما ، والوصية للغني القريب قربة لأنه صلة الرحم .
قال : ( وإن أوصى لأقربائه أو لذوي قرابته ، أو لأرحامه ، أو لذوي أرحامه ، أو لأنسابه
فهم اثنان فصاعدا من كل ذي رحم محرم منه ، غير الوالدين والمولدين ؛ وفي الجد روايتان )
وقال : يستحقه الواحد ويستوي فيه المحرم وغير المحرم والقريب والبعيد إلى كل من ينتسب
إلى أقصى أب له في الإسلام ، لأن القرابة تنتظم الكل لما روي أنه لما نزل قوله تعالى :
) وأنذر عشيرتك الأقربين ( [ الشعراء : 214 ] صعد النبي عليه الصلاة والسلام وقال : ' يا بني
فلان ، يا بني فلان ' حتى دعا قبائل قريش ، وقال لهم : ' إني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد ' فدل أن القرابة تتناول القريب والبعيد . وقولهما إلى أقصى أب له في الإسلام
كالعباسي والعلوي يدخل في وصيته كل من ينسب إلى العباس وإلى علي رضي الله عنهما ،
لأن الجد المسلم صار هو البيت وشرفوا به فلا اعتبار بمن تقدمه ممن لم يسلم . ولأبي
حنيفة أن قوله لذوي قرابتي اسم جمع ، والمثنى جمع من وجه لوجود الاجتماع ، ولأن
الوصية أخت الميراث ، وأقل الجمع في الميراث اثنان ، ولأن المقصود بها الصلة فتختص
بالرحم المحرم كالنفقة ، ويستوي فيه الرجال والنساء للإطلاق ، ولا يدخل فيه الوالد والولد .
قال تعالى : ) للوالدين والأقربين ( [ البقرة : 180 ] والمعطوف غير المعطوف عليه ،
وإذا لم يكن الوالد قريبا للولد لا يكون الولد قريبا له ، ولا يدخل الجد والجدة وولد الولد
من ذكر وأنثى لأنهم ليسوا أقرباء ، لأن القريب لغة : من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره ،
وتكون الجزئية بينهما منعدمة ، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره ، والجد والحفدة الجزئية
بينهما ثابتة ، ويشترط أن لا يكون وارثا لأن الوصية لا تصح للوارث .
قال : ( ويعتبر الأقرب فالأقرب ) عند أبي حنيفة أيضا ( فإن كان له عم وخالان فللعم(5/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
النصف وللخالين النصف ) وقالا : بينهم أثلاثا ( وفي عمين وخالين الكل للعمين ) وعندهما
بينهم أرباعا . لأبي حنيفة أن الوصية أخت الميراث فيعتبر الأقرب فالأقرب كما في الميراث ،
فلا يرث الخال مع العمين ، وفي المسألة الأولى للعم النصف لأنه لا بد من التثنية لما مر
عنده فبقي الباقي للخالين . ولهما ما تقدم أن اسم القريب يتناول القريب والبعيد على ما مر .
قال : ( ولو كان له عم واحد فله نصف الثلث ) عنده ، وعندهما جميعه ( وإن كان له عم وعمة
وخال فالوصية للعم والعمة سواء ) لاستوائهما في القرابة وهي أقوى من الخؤولة والعمة . وإن
لم تكن وارثة تستحق الوصية بلفظ القرابة ، كما إذا كان القريب عبدا أو كافرا .
قال : ( وإن قال لذي قرابته أو ذي نسبه فكذلك ) الخلاف ( إلا أن الواحد يستحق الكل )
بالإجماع ، لأن لفظ ذي فرد فيستحقه الواحد ، ففي مسألة العم والخالين يستحق العم الجميع
لما قلنا ؛ ولو قال لذوي قرابته أو لأنسابه فالأقرب فالأقرب يستحق الواحد الجميع إذا انفرد ،
لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيرا لما تقدم ، والأقرب اسم فرد ، ويدخل فيه ذو الرحم
المحرم وغيره ، لأن قوله الأقرب فالأقرب يتناول الكل ، ويثبت الاستحقاق للأبعد عند عدم
الأقرب ولا يأخذ معه عملا بقوله الأقرب فالأقرب .
قال : ( فإن لم يكن له ذو رحم محرم بطلت الوصية ) عند أبي حنيفة خلافا لهما ،
والأصل ما مر . قال : ( أوصى لبني فلان وهو أبو قبيلة كبني تميم فهي للذكر والأنثى والفقير
والغني وإن كانوا لا يحصون فهي باطلة ) والأصل فيه أن كل وصية يحصى عدد أهلها فهي
جائزة ، وهي بينهم بالسوية على عدد رؤوسهم الذكر والأنثى فهي سواء ، ويدخل فيها الغني
والفقير ، لأن الحق يجوز إثباته لمعين من بني آدم فإن التسليم إليه ممكن ، ولا دلالة على
التخصيص فصحت الوصية ، وإن كان لا يحصى عددهم فعلى ثلاثة أوجه : أحدها أن تكون
الوصية لا يدخل فيها غني كقوله : فقراء بني تميم أو مساكينهم فالوصية صحيحة ، وتكون
الوصية لمن قدر عليه منهم ، لأن الوصية وقعت لله تعالى والفقراء مصارفها . والثاني أن يكون
لفظ الوصية يقع للفقير والغني ولا يختص به أحدهما فهي باطلة ، كقوله بني تميم لأنها تثبت
للعباد ولا يمكن تنفيذها لجميع بني تميم لأنهم لا يحصون ، ولا يمكن تنفيذها للبعض لأنه
ليس بأولى من البعض الآخر فبطلت ، بخلاف الوجه الأول لأن الموصى له واحدا ، وهو الله
تعالى .(5/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
الوجه الثالث أن يكون اللفظ يتناول الفقير والغني ، لكن قد يستعمل اللفظ في ذوي
الحاجة كقوله : يتامى بني تميم ، أو عميان بني تميم ، أو زمنى بني تميم ، أو أرامل بني
تميم ، فإن كانوا يحصون فالاسم يقع على الفقير والغني وتكون الوصية لهما ، لأنهم معينون
يمكن التسليم إليهم فيجري اللفظ على إطلاقه ، وإن كانوا لا يحصون كان للفقراء منهم ، لأن
هذا اللفظ يذكر ويراد به غالبا أهل الحاجة ، فإن الله تعالى ذكر اليتامى في آية الخمس وأراد
الفقراء منهم فوجب تخصيص الوصية وحملها على أهل الحاجة منهم ، ولأن القرابة والثواب
فيهم أكثر وهو المقصود غالبا ، ويستوي فيه الذكر والأنثى ، لأن الاستحقاق بالعقد لا يتفضل
فيه الذكر والأنثى كالاستحقاق بالبيع ، ولو قال : لفقراء بني فلان وهو أبو قبيلة لا يحصون
دخل مواليهم في الوصية مولى الموالاة ومولى العتاقة وحلفاؤهم ، وإن كانوا بني أب ليس
بقبيلة يختص ببني فلان من العرب دون الموالي والحلفاء ، لأنهم إذا لم يحصوا فالمراد بها
النسبة وذلك موجود في الموالي والحلفاء وإذا ذكر البنوة ممن يحصون فالمراد الأولاد دون
النسبة .
قال : ( وإن كان أبا صلب فالوصية للذكور خاصة ) عند أبي حنيفة رحمه الله ، وكان
يقول أولا : هم للذكور والإناث ، وهو قولهما لأنه متى اختلط الذكور والإناث فخطاب
الرجال يعم الجميع كقولهم : بنو آدم وبنو هاشم . ولأبي حنيفة رحمه الله أن حقيقة اللفظ
للذكر خاصة وما ذكره مجاز ، والعمل بالحقيقة أولى . وقال أبو حنيفة رحمه الله : لو لم يكن
لفلان ولد لصلبه يعطى ولد ولده من قبل الرجال دون الإناث ، ولا يشترك في هذا النساء مع
الرجال ، إنما هي للرجال خاصة ، بخلاف اسم الولد على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
قال : ( ولو أوصى لأيتام بني فلان أو عميانهم أو زمناهم أو أراملهم وهم يحصون فهي
للفقراء والأغنياء ، وإن كانوا لا يحصون فللفقراء خاصة ) وقد مر ، وكذلك إذا أوصى
لمجاوري مكة فهي كالوصية للأيتام ؛ واليتيم : كل من مات أبوه ولم يبلغ الحلم ، غنيا كان
أو فقيرا ؛ والأرملة : كل امرأة بالغة فقيرة فارقها زوجها أو مات عنها ، دخل بها أو لم يدخل
من قولهم : أرمل القوم : إذا فني زادهم ، ويسمى الذكر أرملا مجازا . قال :
كل الأرامل قد قضيت حاجتها
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر(5/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
والأيم : كل امرأة لا زوج لها وقد جومعت حراما أو حلالا بلغت أو لم تبلغ فقيرة أو
غنية ، هكذا ذكره محمد رحمه الله ، وقوله حجة في اللغة . الشاب والفتى من خمسة عشر
سنة إلى أن يصير كهلا ، لأنه من شب إذا نما وازداد وهو في النمو إلى أن يكتهل . والغلام :
ما لم يبلغ من الغلمة وهي السكرة والغفلة لأنه ما لم يبلغ كالسكران في لهوه وصباه .
والكهل : من ثلاثين سنة ، فإذا وخطه الشيب فهو شيخ قاله الجوهري . وعن أبي يوسف
ومحمد الكهل من أربعين إلى خمسين إلا إذا غلب الشيب فهو شيخ .
وعن أبي يوسف إذا بلغ ثلاثين وخالطه شيب فهو كهل ، وإن لم يخالطه فهو شاب ،
والعبرة للشيب والشمط فإن الناس تعارفوا ذلك وأطلقوا الاسم عند وجود العلامة .
والكهولة من الاكتهال وهو الاكتمال ، ومنه اكتهل الزرع إذا أدرك وابيضّ . والشيخ : من
خمسين إلى آخر العمر . قال أبو يوسف : إن كانوا لا يحصون إلا بكتاب وحساب فهم لا
يحصون . وقال محمد : إن كانوا أكثر من مائة لا يحصون ، والمختار أن يفوض الأمر إلى
القاضي وهو الأحوط .
قال : ( أوصى لورثة فلان للذكر مثل حظ الأنثيين ) اعتبارا بالميراث لأن اسم الورثة دل
عليه ( وإن قال لولد فلان الذكر والأنثى فيه سواء ) لأنه لا دلالة على التفضيل واللفظ يتناول
الكل لأن الولد اسم لجنس المولود ذكرا كان أو أنثى واحدا أو أكثر ، ويدخل فيه الحمل لأنه
ولد حتى ورث ( ولا يدخل أولاد الابن مع أولاد الصلب ) لأن الولد حقيقة يتناول ولد
الصلب ، ولو كان له بنات لصلبه وبنو ابن فالوصية للبنات عملا بالحقيقة ( ويدخل أولاد الابن
في الوصية عند عدم ولد الصلب ) لأن اسم الولد ينتظم ولد الصلب حقيقة وولد الولد
مجازا ، فإذا تعذرت الحقيقة صرف إلى المجاز تحرزا عن التعطيل ( ولا يدخل أولاد البنات )
وروى الخصاف عن محمد أنهم يدخلون ، وذكر في السير الكبير : إذا أخذ أمانا لنفسه ولولده
لم يدخل فيه ولد البنات ، وجه رواية الخصاف أن الولد ينسب إلى أبويه حقيقة وينسب إلى
جده مجازا ، فإذا نسب إلى جده أب أبيه بأنه ابنه مجازا ، فكذلك ينسب إلى أب أمه ، ولأن
عيسى عليه السلام يقال له ابن آدم ولا ينسب إليه إلا من أمه . وجه الظاهر أن أولاد البنات
ينسبون إلى أبيهم ، قال :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد(5/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وإذا نسبوا إلى آبائهم لم ينسبوا إلى أب الأم فلا يدخلون في الوصية له ، ومما يدل
عليه قوله تعالى : ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( [ الأحزاب : 40 ] ولو كان ولد
البنت ينسب إليه لكان أبا للحسن والحسين رضي الله عنهما .
قال : ( أوصى لمواليه فهي لمن أعتقه في الصحة والمرض ولأولادهم ) من الرجال
والنساء ، وسواء أعتقه قبل الوصية أو بعدها ، لأن الوصية تتعلق بالموت ، وكل واحد من
هؤلاء ثبت له الولاء عند الموت فاستحق الوصية لوجود الصفة فيه ، وأولادهم أيضا ينسبون
إليه بالولاء المعلق بالعتق فيدخلون معهم ، والمدبرون وأمهات الأولاد لا يدخلون . وعن أبي
يوسف أنهم يدخلون لأنهم استحقوا الحرية بسبب لا يلحقه الفسخ فنسبوا إلى الولاء
كالمعتق . وجه الظاهر أن الوصية تستحق بالموت وهؤلاء يعتقون عقيب الموت ، ويثبت لهم
الولاء بعده ، فحال نفوذ الوصية لم يكونوا موالي فلا يدخلون فيها . ولو قال لعبده : إن لم
أضربك فأنت حر فمات قبل ضربه دخل في الوصية لأنه يعتق عند عجزه عن الضرب ،
وذلك في آخر الجزء من أجزاء حياته فيستحق اسم الولاء عقيب الموت فيدخل في الوصية .
وأما موالي الموالاة قال أبو يوسف : إذا كان الموصي من العرب وله موالي عتاقة وموالي
موالاة ، فهم شركاء في الوصية ، لأن الاسم يشمل الكل . وقال محمد في الجامع الكبير :
الوصية لولاء العتاقة وأولادهم دون موالي الموالاة ، لأن ولاء العتاقة بالعتق ، وولاء الموالاة
بالعقد فهما معنيان متغايران فلا ينتظمهما لفظ واحد ، ومولى العتاقة ألزم فيحمل عليه ،
بخلاف الأولاد لأنهم ينسبون هم والآباء إليه بولاء واحد .
قال : ( ولا يدخل موالي الموالي إلا عند عدمهم ) لأنهم موالي غيره حقيقة ، وهم
بمنزلة ولد الولد مع ولد الصلب ، فإن الموالي حقيقة الذين أوقع عليهم العتق ، وموالي
الموالي ينسبون إليه مجازا ، فلا يتناولهم الاسم إلا عند عدم الموالي حقيقة لما مر ، فإن
كان له موليان فالثلث لهما ، لأن اسم الجمع في الوصايا يحمل على الاثنين فصاعدا لما
مرّ .
قال : ( فإن كان له مولى واحد ومولى موالاة فالنصف لمولاه والباقي لورثته ) لما بينا أن
اسم الجمع يتناول الاثنين فصاعدا ، فيستحق الواحد النصف ويسقط مولى الموالاة لتعذر
العمل بالحقيقة والمجاز فيصرف إلى الورثة ، ونظيره الوصية للولد وله ولد واحد وولد ولد ،
فللصبي نصف الثلث والباقي للورثة ، ولا شيء لولد الولد والعلة ما بينا .(5/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
قال : ( وإن كان له موال أعتقوه موال أعتقهم فهي باطلة ) لأن اسم الموالي يتناولهما
ومعناهما مختلف ، لأن أحدهما أنعم ولآخر أنعم عليه وليس أحدهما أولى من الآخر فتعذر
العمل بعموم اللفظ ، لأن الاسم المشترط لا ينتظم المعنيين المختلفين في حالة واحدة فبقي
الموصى له مجهولا ، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنها جائزة وتكون للفريقين لأن الاسم
ينتظمهما ولا يدخل موالي أبيه . وقال أبو يوسف : يدخلون لأنهم مواليه حكما حتى يرثهم
بالولاء فدخلوا تحت الاسم ، وجه الظاهر أنه لم يعتقهم فلا يكونون مواليه حقيقة ولم ينسبوا
إليه بالولاء ، بخلاف ابن المولى فإنه ينسب إليه بالولاء بواسطة أبيه وإنما يرثهم بالعصوبة لا
بالولاء ، بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء .
مسائل منثورة
وصي باع ضيعة لليتيم من مفلس يؤجل القاضي المشتري ثلاثة أيام ، فإن نقد الثمن
وإلا فسخ البيع نظرا لليتيم . أوصى إلى رجل بأن يضع ثلث ماله حيث أحب ، فله أن يجعله
في نفسه لأنه امتثل أمر الموصي فيجري على إطلاقه ؛ ولو قال أعطه من شئت لا يعطي
نفسه ، لأن الإعطاء لا يتحقق إلا بأخذ غيره ، والدفع والأخذ لا يتحقق من الواحد ، بخلاف
الوضع فإنه يتحقق عند نفسه ، ولو قال : تصدق عني بهذه العشرة على عشرة مساكين فتصدق
على مسكين واحد ؛ أو قال تصدق على مسكين واحد فتصدق على عشرة جاز ، لأن الصدقة
قربة لله تعالى والمساكين مصارف كالزكاة .
وروى الحسن عن أبي حنيفة وابن سماعة عن أبي يوسف أنه لا يجوز ، وعن محمد لو
أوصى أن يتصدق عنه بهذه الألف أو هذا الثوب أو بهذا العبد أو يهدي عنه هذه البدنة ليس
للوصي أن يتصدق بالقيمة ، والمختار أنه يجوز فيها دفع القيّم كما في الزكاة والصدقة ولو
أوصى بأن يتخذ طعاما للناس بعد وفاته ويطعم الذين يحضرون التعزية ثلاثة أيام ، قال الفقيه
أبو جعفر : يجوز من الثلث للذين يحضرون التعزية من مكان بعيد ويطول مقامهم عنده ،
والأغنياء والفقراء سواء ، ولا يجوز لمن لا يطول مقامه ، وإن فعل الوصي من الطعام شيئا
كثيرا يضمن ، وإن كان قليلا لا يضمن ؛ وقيل الوصية باطلة ، والوصية بالكفن والدفن وبالنقل
من موضع إلى موضع باطلة لأن ولايته في ماله قد انقطعت بالموت ، ولو أوصى بأن يطيّن
قبره أو تجعل عليه قبة أو يدفع شيئا إلى من يقرأ عند قبره القرآن فالوصية باطلة لأن عمارة
القبور للأحكام مكروه ، وأخذ الشيء للقراءة لا يجوز لأنه كالأجرة ، ووصية الذمي للبيعة
والكنيسة تجوز .
اعلم أن وصية الذمي إما إن كانت بقربة عندنا وعندهم أو عندهم أو عندنا ، أو لا
تكون قربة أصلا ؛ فالأول مثل الوصية لبيت المقدس في عمارته ودهن مصابيحه ، والوصية(5/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
للغزاة الذين يقاتلون من خالفهم من أهل الحرب ، فهذه صحيحة لأنها قربة في الحقيقة وفي
معتقدهم ؛ ومثال الثاني أن يوصي بداره لبيعة أو كنيسة ، أو لبناء بيعة أو كنيسة ، أو أوصى أن
تذبح خنازيره ويطعم المشركون فإنه يجوز .
وقال أبو يوسف ومحمد : لا يجوز لأن ذلك معصية ، وفي الجواز تقريرها فلا تجوز .
ولأبي حنيفة أن ذلك قربة في معتقدهم وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' اتركوهم وما يدينون ' أي يعتقدون فيجوز ذلك بناء على اعتقادهم . وأما قوله بأنه
تقرير المعصية فليس بشيء لأن ذلك لو منع لما جاز قبول الجزية لأنه تقرير لكفرهم وبقائهم
عليه ؛ ومثال الثالثة الوصية لمساجدنا بالعمارة والحج وغير ذلك فهي باطلة نظرا إلى
اعتقادهم ؛ ومثال الرابعة الوصية للنوائح والمغنيات فإنه لا يجوز لأنه معصية عندنا وعندهم
وفي جميع الأديان فلا وجه إلى الجواز ، ولو كان لقوم معلومين معينين جاز بطريق التمليك
لا بطريق الوصية والاستخلاف ، وكذلك الفصل الثالث .
حربي دخل دارنا بأمان فأوصى بجميع ماله لمسلم أو ذمي جاز ، لأن عدم الجواز بما
زاد على الثلث إنما كان لحق الورثة ، ألا ترى أنهم لو أجازوا جاز ، وليس للورثة حق محترم
لكونهم في دار الحرب إذ هم كالأموات في أحكامنا فصار كأن لا وارث له فيصح .(5/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
كتاب الفرائض
وهي جمع فريضة فعيلة من الفرض ، وهو في اللغة : التقدير والقطع والبيان . قال
تعالى : ) فنصف ما فرضتم ( [ البقرة : 237 ] أي قدرتم ، ويقال : فرض القاضي النفقة :
أي قدرها ، وقال تعالى : ) سورة أنزلناها وفرضناها ( [ النور : 1 ] أي بيناها ، ويقال :
فرضت الفأرة الثوب : إذا قطعته . والفرض في الشرع : ما ثبت بدليل مقطوع به كالكتاب
والسنة المتواترة والإجماع ، وسمي هذا النوع من الفقه فرائض لأنه سهام مقدرة مقطوعة
مبينة ثبتت بدليل مقطوع به فقد اشتمل على المعنى اللغوي أو الشرعي ، وإنما خص بهذا
الاسم لوجهين : أحدهما أن الله تعالى سماه به ، فقال بعد القسمة : ) فريضة من الله (
[ النساء : 11 ] .
والنبي عليه الصلاة والسلام أيضا سماه به فقال : ' تعلموا الفرائض ' والثاني أن الله
تعالى ذكر الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات مجملا ولم يبين مقاديرها ، وذكر الفرائض
وبين سهامها وقدرها تقديرا لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فخص هذا النوع بهذا الاسم لهذا
المعنى ، والإرث في اللغة البقاء ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إنكم على إرث من إرث أبيكم
إبراهيم ' أي على بقية من بقايا شريعته ، والوارث الباقي وهو من أسماء الله تعالى : أي
الباقي بعد فناء خلقه ، وسمي الوارث لبقائه بعد المورث . وفي الشرع : انتقال مال الغير إلى
الغير على سبيل الخلافة ، فكأن الوارث لبقائه انتقل إليه بقية مال الميت .(5/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
ومن شرف هذا العلم أن الله تولى بيانه وقسمته بنفسه وأوضحه وضوح النهار بشمسه
فقال : ) يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( [ النساء : 11 ] إلى آخر الآيتين ،
وقال سبحانه : ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( [ النساء : 176 ] إلى آخر الآية ، فبين
فيها أهم سهام الفرائض ومستحقيها ، والباقي يعرف بالاستنباط لمن تأمل فيها ، والنبي عليه
الصلاة والسلام أمر بتعليمها وخص عليه فقال : ' تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف
العلم ، وأنها أول علم يدرس ' وفي رواية ' أول علم ينتزع من أمتي ' والأحاديث والآثار
في فضله كثيرة .
قال : ( يبدأ من تركة الميت بتجهيزه ودفنه على قدرها ، ثم تقضى ديونه ، ثم تنفذ
وصاياه من ثلث ماله ، ثم يقسم الباقي بين ورثته ) فهذه الحقوق الأربعة تتعلق بتركة الميت
على هذا الترتيب .
أما البداية بتجهيزه ودفنه فلأن اللباس وستر العورة من الحوائج اللازمة الضرورية
وأنها مقدمة على الديون والنفقات وجميع الواجبات في حالة الحياة ، فكذا بعد الممات
وبالإجماع إلا حقا تعلق بعين كالرهن والعبد الجاني ، فإن المرتهن وولي الجناية أولى به
من تجهيزه ، لأنهما أحق بذلك في حالة الحياة من الحوائج الأصلية كستر العورة والطعام
والشراب ، فكذا بعد وفاته ، ويكفن في مثل ما كان يلبسه من الثياب الحلال حال حياته
على قدر التركة من غير تقتير ولا تبذير اعتبارا لإحدى الحالتين بالأخرى ، ويقدم على
الوصية ، لأن الوصية تبرع واللازم أولى ، وعلى الورثة لأن المال إنما ينتقل إليهم عند
غنائه ، ألا ترى أن حال حاجته وهي مدة حياته لا ينتقل إليهم ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
' ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ' ثم تقضى ديونه من جميع ما بقي من ماله لقوله تعالى :
) من بعد وصية يوصي بها أو دين ( [ النساء : 11 ] وأنه يقتضي تأخر القسمة عن الدين
والوصية ، ولا يقتضي تقدم أحدهما على الآخر ، فإن من قال : أعط زيدا بعد عمرو أو بكر
لا يقتضي تقدم أحدهما على الآخر لكن يقتضي تأخر زيد عنهما في الإعطاء فكانت الآية
مجملة ، وقد بلغنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قدم الدين على الوصية فكان بيانا لحكم
الآية ، رواه عنه علي رضي الله عنه ، ولأن الدين مستحق عليه ، والوصية تستحق من جهته ،
والمستحق عليه أولى لأنه مطالب به ، لأن فراغ ذمته من أهم حوائجه ، قال عليه الصلاة(5/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
والسلام : ' الدين حائل بينه وبين الجنة ' ولأن أداء الفرائض أولى من التبرعات ، ثم تنفذ
وصاياه من ثلث ماله بعد قضاء الدين ، فإن كانت الوصية بعين تعتبر من الثلث وتنفذ ، وإن
كانت بجزء شائع كالثلث والربع فالموصى له شريك الورثة يزداد نصيبه بزيادة التركة
وينقص بنقصانها فيحسب المال ويخرج نصيب الوصية كما يخرج نصيب الوارث وتقدم
على قسمة التركة بين الورثة لما تلونا ، فإن اللفظ يقتضي تأخر القسمة عن الدين والوصية
عملا بكلمة ' بعد ' ثم يقسم الباقي بين ورثته على فرائض الله تعالى للآيات الثلاث .
قال : ( ويستحق الإرث برحم ونكاح وولاء ) أما الرحم والنكاح فبالكتاب والإجماع ،
وأما الولاء فلما يأتي إن شاء الله تعالى ( والمستحقون للتركة عشرة أصناف مرتبة : ذوو
السهام ، ثم العصبات النسبية ، ثم السببية وهو المعتق ، ثم عصبته ، ثم الرد ، ثم ذوو الأرحام ،
ثم مولى الموالاة ، ثم المقر له بنسب لم يثبت ) وقد ذكر في الإقرار ( ثم الموصى له بما زاد
على الثلث ) وقد مر في الوصايا ( ثم بيت المال ) لأن المال متى خلا عن مستحق ومالك
فمصرفه بيت المال كاللقطة والضال ، وسنذكر لكل صنف فصلا نبين فيه حكمه إن شاء الله
تعالى . قال : ( والمانع من الإرث : الرق والقتل ، واختلاف الملتين ، واختلاف الدارين حكما )
على ما يأتيك بتوفيق الله تعالى .
فصل في ذوي السهام
وهم أصحاب الفروض ، وهم كل من كان له سهم مقدر في كتاب الله تعالى أو في
سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو بالإجماع ، ويبدأ بهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
' ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلأولي عصبة ذكر ' وهم اثنا عشر نفرا : عشرة من
النسب ، واثنان من السبب . أما العشرة من النسب : فثلاثة من الرجال ، وسبعة من النساء .
أما الرجال فالأول الأب ، وله ثلاثة أحوال : الفرض المحض ، وهو السدس مع الابن
وابن الابن وإن سفل ، قال الله تعالى : ) ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له(5/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
ولد ( [ النساء : 11 ] والتعصيب المحض ، وذلك عند عدم الولد وولد الابن ، قال تعالى :
) فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ( [ النساء : 11 ] فعلمنا أن الباقي للأب وهو آية
العصوبة والتعصيب والفرض ، وذلك مع البنت وبنت الابن فله السدس بالفرض ، والنصف
للبنت ، أو الثلثان للبنتين فصاعدا والباقي له بالتعصيب لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فما أبقت
فلأولي عصبة ذكر ' والثاني الجد .
والمراد الجد الصحيح وهو الذي لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى ، وهو بمنزلة
الأب عند عدمه على ما يذكر في بابه إن شاء الله تعالى ، ولأن اسم الأب ينطلق عليه ، قال
تعالى خبرا عن يوسف عليه السلام : ) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ( [ يوسف : 38 ]
وإسحق جده وإبراهيم جد أبيه . والثالث الأخ لأم وله السدس وللاثنين فصاعدا الثلث وإن
اجتمع الذكور والإناث استووا في الثلث ، قال تعالى : ) وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة
وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث (
[ النساء : 12 ] وقرأ أبيّ وسعد بن أبي وقاص - وله أخ أو أخت لأم - وقراءتهما كروايتهما
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فألحق بيانا له ، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
وأما النساء فالأولى البنت ولها النصف إذا انفردت ، وللبنتين فصاعدا الثلثان ، قال
تعالى : ) فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف (
[ النساء : 11 ] . قال عامة المفسرين : المراد الثنتان فصاعدا ، وفي الآية تقديم وتأخير
تقديره : وإن كن نساء اثنتين فما فوقهما ، ونظيره قوله تعالى : ) فاضربوا فوق الأعناق (
[ الأنفال : 12 ] أي الأعناق فما فوقها ، وقيل فوق زائدة في الآيتين ، وعلى ذلك عامة
العلماء ، إلا ما روي عن ابن عباس أنه قال : للواحدة النصف ، وللثنتين النصف ، وما زاد
فلهن الثلثان عملا بظاهر اللفظ ، وجوابه أنه احتمل أن يراد ما ذكر ، واحتمل ما ذكرنا فوقع
الشك فاحتجنا إلى مرجح من خارج وهو معنا في صريح السنة ، وهو ما روي أن سعد بن
الربيع استشهد يوم أحد وترك ابنتين وأخا وامرأة ، فأخذ أخوه المال وكان إذاك يرث
الرجال دون النساء ، فجاءت زوجته إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت : يا رسول الله
إن هاتين ابنتا سعد قتل يوم أحد وأخذ عمهما المال ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال عليه
الصلاة والسلام : ' ارجعي فلعل الله تعالى أن يقضي في ذلك ' فنزلت هذه الآية ، فبعث
عليه الصلاة والسلام إلى عمهما أن أعطهما ثلثي المال ولأمهما ثمنه والباقي لك فكانت
أول ميراث قسم في الإسلام ، ولأن البنت تستحق الثلث مع الابن وهو أقوى حالا منها(5/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
فلأن تستحقه مع البنت وهي مثلها في القوة والاستحقاق كان أولى ، ولأنا أجمعنا على أن
الأختين يستحقان الثلثين ، فلأن يستحقهما البنتان وهما أقرب وألزم كان أولى .
الثانية : بنت الابن وللواحدة النصف وللثنتين فصاعدا الثلثان ، فهن كالصلبيات عند عدم
ولد الصلب ، لأن اسم الولد ينطلق عليهن حقيقة وشرعا ، فإن كان السبب في توليدهن إلا أن
أولاد الابن يدلون إلى الميت بالابن وبسببه يرثون فيحجبون به كالجد مع الأب والجدات مع
الأم ، ولا يلزم أولاد الأم حيث يرثون مع الأم وإن كانوا يدلون بها ، لأن السبب مختلف فإن
الأم ترث بالأمومة وهي بالأخوة ولأنها تستحق جميع التركة ، وللواحدة فصاعدا من بنات
الابن السدس مع الصلبية تكملة الثلثين لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ' أن النبي
عليه الصلاة والسلام قضى في بنت وبنت ابن وأخت للبنت النصف ولبنت الابن السدس
تكملة الثلثين وللأخت الباقي ' وبنت ابن الابن مع بنت الابن كبنت الابن مع الصلبية ، وإذا
استكملت البنات الثلثين سقط بنات الابن ، لأن حق البنات في الثلثين بنص الكتاب ، وبنات
الابن يرثن بالبنتية عند عدم ولد الصلب ، فإذا استكملت الصلبيات الثلثين لم يبق لجهة البنتية
نصيب فسقط بنات الابن ، إلا أن يكون في درجتهن أو أسفل منهن ذكر فيعصبهن فيكون
الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ مثاله بنتان وبنت ابن للبنتين الثلثان ، ولا شيء لبنت
الابن ؛ وإن كان مع بنت الابن أخوها أو ابن عمها فللبنتين الثلثان ولبنت الابن وأخيها أو ابن
عمها الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين .
بنتان وبنت ابن وبنت ابن ابن وابن ابن ابن ، للبنتين الثلثان والباقي بين بنت الابن ومن
دونها للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ ولو ترك ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض وثلاث بنات
ابن ابن بعضهن أسفل من بعض ، وثلاث بنات ابن ابن ابن بعضهن أسفل من بعض ،
وصورته إذا كان لابن الميت ابن وبنت ، ولابن ابنه ابن وبنت ، ولابن ابن ابنه ابن وبنت ،
فمات البنون وبقي البنات ، وكذلك ثلاث بنات ابن ابن ابن ، وهذه صورتها :
ميت
ابن ابن ابن
ابن بنت ابن ابن
ابن بنت ابن بنت ابن
ابن بنت ابن بنت ابن بنت
ابن بنت ابن بنت
ابن بنت(5/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
فالعليا من الفريق الأول لا يوازيها أحد ، والوسطى من الفريق الأول توازيها العليا من
الفريق الثاني ، والسفلى من الفريق الأول توازيها الوسطى من الفريق الثاني ، والعليا من الفريق
الثالث والسفلى من الفريق الثاني توازيها الوسطى من الفريق الثالث ، والسفلى من الفريق
الثالث لا يوازيها أحد ، فللعليا من الفريق الأول النصف والسدس تكملة الثلثين للوسطى من
الفريق الأول ، والعليا من الفريق الثاني لاستوائهما في الدرجة ولا شيء للباقيات ، فإن كان
مع العليا من الفريق الأول غلام فالمال بينه وبينها للذكر مثل حظ الأنثيين وسقط الباقيات ،
وإن كان مع الوسطى من الفريق الأول غلام فالنصف للعليا من الفريق الأول ، والباقي بين
الغلام ومن في درجته للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإن كان مع السفلى من الفريق الأول
فالنصف للعليا من الفريق الأول والسدس للوسطى منه مع من يوازيها تكملة الثلثين والباقي
بين الغلام ومن يوازيه للذكر مثل حظ الأنثيين وسقط الباقيات وإن كان مع السفلى من الفريق
الثاني فالنصف للعليا من الفريق الأول ، والسدس تكملة الثلثين للوسطى منه ولمن يوازيها ،
والباقي بين الغلام ومن يوازيه ومن هو أعلى منه ممن لا فرض له للذكر مثل حظ الأنثيين
وسقط الباقيات وعلى هذا .
والأصل في هذا أن بنت الابن تصير عصبة بابن الابن سواء كان في درجتها أو أسفل
منها إذا لم تكن صاحبة فرض ، لأن الجارية التي توازي الغلام إنما ورثت بسبب الغلام
بعد استكمال الصلبيات الثلثين لأنها لولاه لما ورثت ، فلأن ترث بسبب جارية أقرب منه
إلى الميت كان أولى . وأما صاحبة الفرض فقد استقلت بالفرض فلا تصير تابعة لمن هو
أسفل منها في الاستحقاق ، وهذا الفصل يسمى التشبيب ، إما لأن التشبيب الوصف والبيان ،
ومنه التشبيب في الشعر لأنه ذكر وصف النساء وبيان صفاتهن ، أو لترتيب درجات بنات
الابن بنتا تحت بنت كأنجاش الشبابة ، وهذه نبذة منه ، والباقي يعرف بالتأمل ، والقياس
عليه .
والثالثة : الأم ، ولها ثلاثة أحوال : السدس مع الولد وولد الابن واثنين من الإخوة
والأخوات من أي جهة كانوا ، والثلث عند عدم هؤلاء ، قال تعالى : ) ولأبويه لكل واحد
منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان(5/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
له إخوة فلأمه السدس ( [ النساء : 11 ] وقال ابن عباس : إنما يحجبها من الثلث إلى السدس
ثلاثة من الإخوة فصاعدا نظرا إلى لفظ الجمع ، وجوابه أن الجمع يذكر بمعنى التثنية ، قال
تعالى : ) فقد صغت قلوبكما ( [ التحريم : 4 ] ولأن الجمع من الاجتماع وأنه يتحقق باجتماع
الاثنين . وروي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهما : إن الله تعالى حجب بالإخوة ،
والاثنان في اللسان ليسا بإخوة فقال : قد كان ذلك قبلي فلا أستطيع أن أدرأه ، فدل أنه كان
إجماعا . وثلث ما يبقى بعد فرض الزوج والزوجة في مسألتين : زوج وأبوان ، أو زوجة
وأبوان لها في المسألة الأولى السدس وفي الثانية الربع ، وتسميان العمريتين ، لأن عمر رضي
الله عنه أول من قضى فيهما .
وخالف ابن عباس فيهما جميع الصحابة فقال : لها الثلث نظرا إلى قوله تعالى : ) فلأمه
الثلث ( ولنا قوله تعالى : ) وورثه أبواه فلأمه الثلث ( [ النساء : 11 ] جعل لها ثلث ما يرثه
الأبوان ، وإنما يرثان في هاتين المسألتين الباقي بعد فرض الزوجين فيكون لها ثلثه وهو ما ذكرنا ،
ولأنا لو أعطيناه ثلث الكل أدى إلى تفضيل الأنثى على الذكر مع استوائهما في سبب الاستحقاق
والقرب وأنه خلاف الأصول ، ولو كان مكان الأب جد في المسألتين فلها الثلث كاملا ، وفيه
رواية أخرى تأتي في باب الجد إن شاء الله تعالى ، ووجهه أنها أقرب من الجد لأنها تدلي إلى
الميت بغير واسطة والجد يدلي بواسطة الأب ، والتفاضل يجوز عند اختلاف القرب كزوجة
وأخت لأبوين وأخ لأب ، للزوجة الربع ، وللأخت النصف ، وللأخ ما بقي وهو الربع .
والرابعة : الجدة الصحيحة كأم الأم وإن علت ، وأم الأب وإن علا وكل من يدخل في
نسبتها أب بين أمين فهي فاسدة ، وللواحدة الصحيحة السدس لما روي : أن جدة أم أم
جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه وطلبت ميراثها فقال : لا أجد لك في كتاب الله شيئا ولم
أسمع فيك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا فارجعي حتى أسأل لك أصحابي أو أرى فيك رأيي ،
فصلى الظهر ثم خطب فقال : هل سمع أحد منكم شيئا في الجدة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقام
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال : أشهد أني أشهد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قضى للجدة
السدس ، وفي رواية : أطعم الجدة السدس ، فقال : هل معك شاهد آخر ؟ فقال محمد بن
مسلمة : أنا أشهد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمثل ما شهد به المغيرة ، فقضى لها بالسدس . وجاءت
أم أب في زمن عمر رضي الله عنه فقضى لها بالسدس ، ولو اجتمعن وتحاذين فلهن السدس
أيضا ، لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام أطعم ثلاثة جدات السدس ' رواه الطحاوي ،
وتمامه يذكر في فصل الجدات إن شاء الله تعالى .
الخامسة : الأخوات لأب وأم ، للواحدة النصف ، وللثنتين فصاعدا الثلثان ، لقوله
تعالى : ) إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ( [ البقرة : 176 ] ثم قال :
' فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ' .(5/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
السادسة : الأخوات لأب ، وهن كالأخوات لأبوين عند عدمهن ، لأن اسم الأخت في
الآية يتناول الكل ، إلا أن الإخوة والأخوات لأبوين يقدمون لقوة القرابة لأنهم يدلون
بجهتين ، وعند عدمهم جرينا على قضية النص وللواحدة فصاعدا من الأخوات لأب السدس
مع الأخت لأبوين تكملة الثلثين ، وهن مع الأخوات لأبوين كبنات الابن مع الصلبيات
فيحجبون بالأخ من الأبوين وبالأخ والأخت ، ولا يحجبون بالأخت الواحدة كما تقدم ، وإذا
استكمل الأخوات من الأبوين الثلثين سقط الأخوات من الأب ، إلا أن يكون معهن أخ
فيعصبهن ، والوجه فيه ما مر في بنات الابن .
السابعة : الأخوات لأم ، فللواحدة السدس ، وللثنتين فصاعدا الثلث ، وتمامه مر في
الأخ لأم . وأما الاثنان من السبب فالزوج والزوجة ، فللزوج النصف عند عدم الولد وولد
الابن ، والربع مع الولد أو ولد الابن ، وللزوجة الربع عند عدمهما ، والثمن مع أحدهما
بذلك نطق صريح الكتاب ، والزوجات والواحدة يشتركن في الربع والثمن لقوله تعالى :
) فلهن ( [ النساء : 11 ] وهو اسم جمع وعليه الإجماع .
فصل
ومن اجتمع فيه قرابتان : لو تفرقتا في شخصين ورثا ورث بهما ويجعل كشخصين إذ
كل واحدة مستقلة في سبب الاستحقاق . مثاله : ماتت عن زوج وهو ابن عمها النصف له
بالزوجية والباقي بالعمومة . ماتت عن ابني عم أحدهما أخ لأم فللأخ السدس بالأخوة والباقي
بينهما بالعمومة ولو ماتت عن ابني عم أحدهما زوج فللزوج النصف والباقي بينهما بالعمومة .
مات عن أختين إحداهما معتقة ، فالثلثان بينهما بالأخوة والباقي للمعتقة وهذا بالإجماع .
أما الجدات ، قال أبو يوسف : يقسم بينهما باعترا الأبدان ، وعند محمد باعتبار
الجهات . مثاله : جدتان إحداهما لها قرابتان كأم أم الأم وهي أم أب أب ، والأخرى لها قرابة
واحدة كأم أم الأب فالسدس بينهما نصفان عند أبي يوسف وعند محمد أثلاثا . وصورته :
امرأة تزوج ابن ابنها بنت بنتها فأولدها ابنا فهذه أم أم أم هذا الابن وهي أم أب أبيه ؛ وكذا لو
تزوج ابن بنتها بنت بنت لها أخرى فأولدها ابنا كانت أم أم أمه وأم أم أبيه ، فإن تزوج هذا
الابن بنت بنت بنت لها أخرى فأولدها ابنا صارت أم أم أم أمه وأم أم أم أبيه ، فيكون لها
ثلاث جهات ؛ ولو تزوج هذا الابن بنت بنت بنت بنت لها أخرى فأولدها ابنا كانت جدة له
من أربع جهات ، وعلى هذا يمكن تكثير الجهات .
فصل
( والسهام المفروضة في كتاب الله تعالى : الثمن والسدس وتضعيفهما مرتين ) فتصير ستة(5/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
لأن تضعيف الثمن الربع ، وتضعيف الربع النصف ، وتضعيف السدس الثلث ، وتضعيف
الثلث الثلثان ( فالثمن ذكره الله تعالى في فرض الزوجة ، والربع في فرضها وفرض الزوج ،
والنصف في فرض الزوج والبنت والأخت ، والسدس في فرض الأم والأب والواحد من ولد
الأم ، والثلث في فرض الأم والإخوة لأم ، والثلثان للبنات والأخوات ) وأما الكل فإنه ذكره في
موضعين : أحدهما نصا ، وهو قوله تعالى : ) وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم
يكن لها ولد ( [ البقرة : 176 ] والثاني ذكره اقتضاء وهو قوله تعالى : ) وإن كانت واحدة فلها
النصف ( [ النساء : 11 ] فيكون للابن الكل ضرورة واقتضاء ، والثابت اقتضاء كالنص ، فهذه
سهام الفرائض لا تخرج عنها فريضة إلا عند العول والرد على ما يأتيك في موضعه ، وقد
ذكرنا المستحقين لهذه السهام وحالاتهم .
فصل في العصبات
وهم كل من ليس له سهم مقدر ويأخذ ما بقي من سهام ذوي الفروض ، وإذا انفرد
أخذ جميع المال ( وهم نوعان : عصبة بالنسب وعصبة بالسبب . أما النسبية فثلاثة أنواع :
عصبة بنفسه ، وهو كل ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى وأقربهم جزء الميت وهم
بنوه ) قال تعالى : ) ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ( [ النساء : 11 ]
قدم الابن في التعصيب على الأب فيكون مقدما على من بعده بطريق الأولى ( ثم بنوهم وإن
سفلوا ) لدخولهم في اسم الولد . روي عن أبي بكر وعلي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن
ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا : أقرب العصبات الابن ثم ابن الابن ، والأب وإن كان أقرب
من ابن الابن فهو صاحب فرض مع الابن وبنيه ، والمعتبر في الترجيح الاستحقاق بجهة
التعصيب لا بالفرض كابن الأخ لأب يرث مع الأخت لأبوين وإن كانت أقرب وأقوى جهة .
( ثم أصله وهو الأب ) لقوله تعالى : ) وورثه أبواه فلأمه الثلث ( [ النساء : 11 ] يعني
الباقي للأب فثبت أنه أحق بالتعصيب من الجد والإخوة ولأن من بعده يدلي به ( ثم الجد )(5/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
وفيه خلاف يأتي في بابه إن شاء الله تعالى ( ثم جزء أبيه ) وهم الإخوة لقوله تعالى : ) وهو
يرثها إن لم يكن لها ولد ( [ البقرة : 176 ] جعله أولى بجميع المال في الكلالة وهو الذي لا
ولد له ولا والد ( ثم بنوهم ، ثم جزء جده ) وهم الأعمام ( ثم بنوهم ، ثم أعمام الأب ، ثم
بنوهم ، ثم أعمام الجد ، ثم بنوهم وهكذا ) لأنهم في القرب والدرجة على هذا الترتيب ،
فيكونون في الميراث كذلك كما في ولاية الإنكاح ، وإذا اجتمعت العصبات فإنه يورّث
الأقرب فالأقرب لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فلأولي عصبة ذكر ' ولأن علة الاستحقاق
القرب والعيلة في الأقرب أكثر فتقدم كما في النكاح . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام ' أنه جعل المال للأخ لأب وأم ، ثم للأخ لأب ، ثم
لابن الأخ لأب وأم ، ثم لابن الأخ لأب وساق ذلك في العمومة ' ومن كان منهم لأبوين
أولى ممن كان لأب لأنه أقوى قرابة حيث يدلي بجهتين الأب والأم ، ولما تقدم من الحديث
ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' إن أعيان بني الأب والأم يتوارثون دون بني العلات ' وإذا
اجتمع جماعة من العصبة في درجة واحدة يقسم المال عليهم باعتبار أبدانهم لا باعتبار
أصولهم . مثله : ابن أخ وعشرة بني أخ آخر ، أو ابن عم وعشرة بني عم آخر ، المال بينهم
على أحد عشر سهما لكل واحد سهم .
( وعصبة بغيره وهم أربع من النساء يصرن عصبة بإخوتهن ، فالبنات بالابن وبنات
الابن بابن الابن ) لقوله تعالى : ) يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (
[ النساء : 11 ] ( والأخوات لأب وأم بأخيهن ، والأخوات لأب بأخيهن ) لقوله تعالى :
) وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ( [ النساء : 11 ] . ( وعصبة مع
غيره وهم الأخوات لأبوين أو لأب يصرن عصبة مع البنات وبنات الابن ) لما تقدم من
حديث ابن مسعود ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة ' .
مثاله : بنت وأخت لأبوين وأخ أو إخوة لأب فالنصف للبنت والنصف للأخت ولا
شيء للإخوة ، لأنها لما صارت عصبة صارت كالأخ من الأبوين ( وعصبة ولد الزنا
وولد الملاعنة موالي أمهما ) لأنه لا أب له ، والنبي عليه الصلاة والسلام ألحق ولد(5/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
الملاعنة بأمه فصار كشخص لا قرابة له من جهة الأب فيرثه قرابة أمه ويرثهم ، فلو ترك
بنتا وأما والملاعن ، فللبنت النصف وللأم السدس والباقي يرد عليهما كأن لم يكن له أب ،
وكذلك لو كان معهما زوج أو زوجة أخذ فرضه والباقي بينهما فرضا وردا ، ولو ترك أمه
وأخاه لأمه وابن الملاعن فلأمه الثلث ولأخيه لأمه السدس والباقي يرد عليهما ولا شيء لابن
الملاعن لأنه لا أخ له من جهة الأب ، ولو مات ولد ابن الملاعنة ورثه قوم أبيه وهم
الإخوة ولا يرثونه قوم جده وهم الأعمام وأولادهم ، وبهذا يعرف بقية مسائله ، وهكذا
ولد الزنا إلا أنهما لا يفترقان في مسألة واحدة وهو أن ولد الزنا يرث من توأمه ميراث
أخ لأم ، وولد الملاعنة يرث التوأم ميراث أخ لأب وأم .
( و ) أما العصبة بسبب ( المعتق ) وهو ( عصبة بنفسه ثم عصبته على ) ما ذكرنا من
( الترتيب وهو آخر العصبات ) لأن عصوبتهم حقيقية وعصوبته حكمية . قال عليه الصلاة
والسلام : ' الولاء لحمة كلحمة النسب ' ولأنه أحياه معنى بالإعتاق فأشبه الولادة وتمامه
يأتي في فصله إن شاء الله تعالى .
فصل الحجب
وهو نوعان : حجب نقصان ، وحجب حرمان ، فحجب النقصان هو الحجب من سهم
وقد تقدم . وأما حجب الحرمان فنقول : ( ستة لا يحجبون أصلا : الأب والابن والزوج والأم
والبنت والزوجة ) لأن فرضهم ثابت بكل حال لثبوته بدليل مقطوع به وهو ما تلونا من صريح
الكتاب ( ومن عدا هؤلاء فالأقرب يحجب الأبعد ) كالابن يحجب أولاد الابن والأخ لأبوين
يحجب الإخوة لأب ( ومن يدلي بشخص لا يرث معه إلا أولاد الأم ) وقد تقدم وجهه .
أمثلة ذلك : زوج وأخت لأبوين وأخت لأب ، للزوج النصف ، وللأخت لأبوين
النصف ، وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين ، أصلها من ستة تعول إلى سبعة ، فإن كان مع
الأخت لأب أخ عصبها فلا ترث شيئا فهذا الأخ المشؤوم . زوج وأبوان وبنت وبنت ابن
أصلها من اثني عشر وتعول إلى خمسة عشر للزوج الربع ثلاثة ، وللأبوين السدسان أربعة ،(5/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
وللبنت النصف ستة ، ولبنت الابن السدس سهمان ، ولو كان مع بنت الابن ابن عصبها
فسقطت وتعول إلى ثلاثة عشر ، وهذا أيضا أخ مشؤوم . أختان لأبوين وأخت لأب فالمال
للأختين فرضا وردا ، ولا شيء للأخت لأب ، فإن كان معها أبوها عصبها فلهما الباقي وهو
الثلث للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهذا الأخ المبارك .
( والمحروم لا يحجب كالكافر والقاتل والرقيق ) لا نقصانا ولا حرمانا ، لأنهم لا
يرثون لعدم الأهلية ، والعلة تنعدم لفقد الأهلية وتفوت بفوات شرط من شرائطها كبيع
المجنون ، وإذا انعدمت العلية في حقهم التحقوا بالعدم في باب الإرث . وعن ابن مسعود
رضي الله عنه : أنه يحجب حجب نقصان ويظهر ذلك في مسائل العول ( والمحجوب
يحجب كالإخوة ، والأخوات يحجبهم الأب ، ويحجبون الأم من الثلث إلى السدس ) لأن
علة الاستحقاق موجودة في حقهم ، لكن امتنع بالحاجب وهو الأب فجاز أن يظهر حجبها
في حق من يرث معها ( ويسقط بنو الأعيان ) وهم الإخوة لأبوين ( بالابن وابنه وبالأب ، وفي
الجد خلاف ) لأنهم أقرب ( ويسقط بنو العلات ) وهم الإخوة لأب ( بهم وبهؤلاء ) لما بينا
وبالحديث ( ويسقط بنو الأخياف ) وهم الإخوة لأم ( بالولد وولد الابن والأب والجد )
بالاتفاق ، لأن شرط توريثهم كون الميت يورث كلالة بقوله تعالى : ) وإن كان رجل يورث
كلالة ( [ النساء : 12 ] الآية ، والمراد أولاد الأم لما تقدم ، والكلالة من لا ولد له ولا
والد ، فلا يرث إلا عند عدم هؤلاء .
( وتسقط جميع الجدات ) الأبويات والأميات ( بالأم ) لما روي أن النبي عليه الصلاة
والسلام إنما أعطى الجدة السدس إذ لم يكن للميت أم ، ولأن الأمية تدلي إلى الميت
بالأم وترث بواسطتها فلا ترث معها لما تقدم أن الأقرب يحجب الأبعد فحجبها نصا وقياسا ،
أما الأبوية فحجبها نصا لا قياسا لأنها تدلي إلى الميت بالأب وترث فرضه . فالقياس أن لا
تحجبها الأم ( وتسقط الأبويات بالأب ) كالجد مع الأب ، وكذلك يسقطن بالجد إذا كن من
قبله ، ولا تسقط أم الأب بالجد لأنها ليست من قبله ؛ فلو ترك أبا وأم أب وأم أم فأم الأب
محجوبة بالأب . واختلفوا ماذا لأم الأب ، قيل لها السدس لأن أم الأب لما انحجبت لا
تحجب غيرها ، وقيل لها نصف السدس لأنها من أهل الاستحقاق فتحجب وإن حجبت(5/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
كالإخوة مع الأم ( والقربى تحجب البعدى وارثة كانت أو محجوبة ) أما إذا كانت وارثة فظاهر
لأنها تأخذ الفريضة فلا يبقى للبعدى شيء ، وأما إذا كانت محجوبة ، وصورتها ترك أبا وأم
أب وأم أم أم ، قيل الكل للأب لأنه حجب أمه وهي حجبت أم أم الأم لأنها أقرب منها ،
وقيل لها السدس لأن أم الأب محجوبة فلا تحجبها ، وقد تقدم الوجه فيهما .
فصل
( العول : هو زيادة السهام على الفريضة ، فتعول المسألة إلى سهام الفريضة ويدخل
النقصان عليهم بقدر حصصهم ) لعدم ترجيح البعض على البعض كالديون والوصايا إذا ضاقت
التركة عن إيفاء الكل يقسم عليهم على قدر حقوقهم ، ويدخل النقص على الكل كذا هذا ،
ولأن الله تعالى لما جمع هذه السهام في مال لا يتسع للكل علمنا أن المراد إلحاق النقص
بالكل عملا بإطلاق الجمع فكان ثابتا مقتضى جمع هذه السهام ، والثابت بمقتضى النص
كالثابت بالنص ، وعلى ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، إلا ابن عباس على ما نبينه إن
شاء الله تعالى .
( واعلم أن أصول المسائل سبعة : اثنان وثلاثة وأربعة وستة وثمانية واثنا عشر وأربعة
وعشرون ، فأربعة منها لا تعول : الاثنان والثلاثة والأربعة والثمانية ، وثلاثة تعول : الستة والاثنا
عشر والأربعة والعشرون ؛ فالستة تعول إلى عشرة وترا وشفعا ، واثنا عشر تعول إلى ثلاثة عشر
وخمسة عشر وسبعة عشر ، وأربعة وعشرون تعول إلى سبعة وعشرين لا غير ) أمثلة التي لا
تعول : زوج وأخت لأبوين ، للزوج النصف ، وللأخت النصف ، وكذلك زوج وأخت لأب ،
وتسمى اليتيمتين لأنه لا يورث المال بفريضتين متساويتين إلا في هاتين المسألتين بنت وعصبة
نصف وما بقي ، أصلها من ثنتين . أخوان لأم وأخ لأبوين ثلث وما بقي . أختان لأب وأم(5/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
وأخ لأب . ثلثان وما بقي أصلها من ثلاثة . أختان لأبوين وأختان لأم ثلثان وثلث . زوج
وبنت وعصبة ربع ونصف وما بقي أصلها من أربعة . زوجة وبنت وعصبة ثمن ونصف ، وما
بقي أصلها من ثمانية . زوجة وابن ثمن وما بقي من ثمانية .
أمثلة العائلة : جدة وأخت لأم وأخت لأبوين وأخت لأب ، أصلها من ستة وتصح منها
جدة وأختان لأم وأخت لأبوين وأخت لأب سدس وثلث ونصف وسدس ، أصلها من ستة
وتعول إلى سبعة . زوج وأم وأخوان لأم نصف وسدس وثلث من ستة ، وتسمى مسألة الإلزام
لأنها إلزام لابن عباس ، لأنه إن قال كما قلنا فقد حجب الأم بأخوين وهو خلاف مذهبه ،
وإن جعل للأم الثلث وللأخوين السدس فقد أدخل النقص على أولاد الأم وليس مذهبه ،
وهو خلاف صريح الكتاب ، وإن جعل لهما الثلث فقد قال بالعول . زوج وأم وأخت لأبوين
نصف وثلث ونصف ، أصلها من ستة وتعول إلى ثمانية .
وهي أول مسألة عالت في الإسلام ، وقعت في صدر خلافة عمر رضي الله عنه
فاستشار الصحابة فيه ، فأشار العباس أن يقسم عليهم بقدر سهامهم فصاروا إلى ذلك ، وفي
رواية أنه قال : لا أجد لكم فرضا في كتاب الله ولا أدري من قدّمه الله تعالى فأقدمه ، ولا من
أخّره فأؤخره ، ولكني رأيت رأيا فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ، أرى أن
أدخل النقص على الكل فقسم بالعول ولم يخالفه أحد في ذلك إلى أن انتهى الأمر إلى
عثمان ، فأظهر ابن عباس الخلاف وقال : لو قدموا من قدّمه الله وأخروا من أخره الله ما
عالت فريضة قط ، فقيل له : من قدمه الله ومن أخره الله ؟ قال : الزوج والزوجة والأم والجدة
ممن قدمه الله ، وأما من أخره الله فالبنات وبنات الابن والأخوات لأب وأم ، والأخوات
لأب ، فتارة يفرض لهن وتارة يكن عصبة ويدخل النقص على هؤلاء الأربع .
ثم قال : من شاء باهلته إن شاء الله تعالى ، وفي رواية : إن الذي أحصى رمل عالج
لم يجعل في المال نصفا ونصفا وثلثا ، فقيل له : هلا ذكرت ذلك في زمن عمر ؟ قال : كان
مهيبا فهبته ؛ وفي رواية : منعتني درته إذ لم يكن لي دليل قطعي ، وإنما امتنع لأنه اجتهاد فلم
يأمن أن يصير محجوجا ، ولو كان دليل ظاهر لما سكت ولما خالف عمر رضي الله عنه
وتسمى مسألة المباهلة . زوج وأم وأختان لأبوين ، أصلها من ستة وتعول إلى ثمانية ، زوج
وأم وثلاث أخوات متفرقات ، أصلها من ستة وتعول إلى تسعة ، للزوج ثلاثة ، وللأم سهم ،
وللأخت لأم سهم ، وللأخت لأبوين ثلاثة ، وللأخت لأب سهم السدس تكملة الثلثين . زوج
وأم وأختان لأم وأختان لأبوين نصف وثلث وسدس وثلثان ، أصلها من ستة وتعول إلى(5/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
عشرة ، وتسمى أم الفروخ لأنها أكثر المسائل عولا فشبهت الأربعة الزوائد بالفروخ ، وتسمى
أيضا الشريحية ، لأن شريحا أول من قضى فيها . زوجة وأختان لأبوين وأخ لأب ، أصلها من
اثني عشر وتصح منها . زوجة وجدة وأختان لأبوين ربع وسدس وثلثان ، أصلها من اثني عشر
وتعول إلى ثلاثة عشر . امرأة وأختان لأم وأختان لأبوين ربع وثلث وثلثان ، أصلها من اثني
عشر وتعول إلى خمسة عشر .
امرأة وأم وأختان لأم وأختان لأبوين ربع وسدس وثلث وثلثان ، أصلها من اثني عشر
وتعول إلى سبعة عشر . ثلاث نسوة وجدتان وأربع أخوات لأم وثماني أخوات لأبوين ،
أصلها من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر ، وتسمى أم الأرامل لأنه ليس فيها ذكر وهي من
المعاياة ، يقال : رجل مات وترك سبعة عشر دينارا وسبع عشرة امرأة أصاب كل امرأة دينارا .
امرأة وأبوان وابن ، أصلها من أربعة وعشرين وتصح منها . امرأة وأبوان وبنتان ثمن وسدسان
وثلثان ، أصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين ، وتسمى المنبرية لأن عليا رضي
الله عنه سئل عنها وهو على المنبر فقال على الفور : صار ثمنها تسعا ، ومر على خطبته ، ولو
كان مكان الأبوين جد وجدة أو أب وجدة فكذلك ، وكذا لو كان مكان البنتين بنت وبنت
ابن . زوجة وأم وأختان لأم وأختان لأبوين وابن كافر أو قاتل أو رقيق ، أصلها من اثني عشر
وتعول إلى سبعة عشر كما تقدم لأن المحروم وهو الابن لا يحجب . وعند ابن مسعود
يحجب الابن الزوجة من الربع إلى الثمن ، أصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى أحد وثلاثين
للزوجة الثمن ثلاثة ، وللأم السدس أربعة ، ولأولاد الأم الثلث ثمانية ، وللأختين لأبوين
الثلثان ستة عشر وتسمى ثلاثينية ابن مسعود .
واعلم أن الستة متى عالت إلى عشرة أو تسعة أو ثمانية فالميت امرأة قطعا ، وإن عالت
إلى سبعة احتمل واحتمل ؛ ومتى عالت الاثني عشر إلى سبعة عشر فالميت ذكر ، وإلى ثلاثة
عشر وخمسة عشر احتمل الأمرين ؛ والأربعة والعشرون إذا عالت إلى سبعة وعشرين أو إلى
أحد وثلاثين عند ابن مسعود فالميت ذكر .
فصل
( والرد ضد العول بأن تزيد الفريضة على السهام ولا عصبة هناك تستحقه فيرد على ذوي
السهام بقدر سهامهم إلا على الزوجين ) وهو مذهب عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس
رضي الله عنهم . وعن عثمان أنه يرد عن الزوجين ، قالوا : وهذا وهم من الراوي ، فإنه(5/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
إنما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه رد على الزوج لا غير ، وتأويله أنه كان ابن عم فأعطاه
الباقي بالعصوبة . أما الزوجة فلم ينقل عن أحد الرد عليها . وقال زيد بن ثابت يوضع الفاضل
في بيت المال ، وبه قال مالك والشافعي . لنا قوله عليه الصلاة والسلام : ' من ترك مالا أو
حقا فلورثته ' الحديث ، ولأن القرابة علة لاستحقاق الكل لأن الميت قد استغنى عن
المال ، فلو لم ينتقل إلى أحد يبقى سائبة ، والقريب أول الناس به فيستحقه بالقرابة صلة ، إلا
أنها تقاعدت عن استحقاق الكل عند الاجتماع للمزاحمة بالإجماع فبقيت مفيدة له عند
الانفراد ، فوجب أن يستحق صاحب السهم بقدر سهمه حالة المزاحمة ، والفاضل عن سهمه
حالة الانفراد ، أما الزوجان فقرابتهما قاصرة فلا يستحقان إلا سهمهما إظهارا لقصور
مرتبتهما ، ولأن الزوجية تزول بالموت فينتفي السبب ، وقضيته عدم الإرث أصلا إلا أنا
أعطيناهما فرضهما بصريح الكتاب فلا يزاد عليه .
واعلم أن جميع من يرد عليه سبعة : الأم والجدة والبنت وبنت الابن والأخوات من
الأبوين والأخوات لأب وأولاد الأم ( ويقع الرد على جنس واحد وعلى جنسين وعلى ثلاثة )
ولا يكون أكثر من ذلك ، والسهام المردود عليها أربعة : الاثنان والثلاثة والأربعة والخمسة
( ثم المسألة لا يخلو إما إن كان فيها من لا يرد عليه أو لم يكن ، فإن لم يكن فإما إن كان
جنسا واحدا أو أكثر ، فإن كان جنسا واحدا فاجعل المسألة من عدد رؤوسهم ، وإن كان
جنسين أو أكثر فمن سهامهم وأسقط الزائد ) .
أمثلة ذلك : جدة وأخت لأم ، للجدة السدس ، وللأخت السدس ، والباقي رد عليهما
بقدر سهامهما ، فاجعل المسألة من عددهم وهو اثنان لاستوائهما في الفرض ، أصل المسألة
من ستة عادت بالرد إلى اثنين ، جدة وأختان لأم ، للجدة السدس وللأختين الثلث ، فاجعل
المسألة من ثلاث وهو عدد رؤوسهم : بنت وأم ، للبنت النصف ثلاثة ، وللأم السدس سهم ،
اجعلها من أربعة عدد سهامهم . أربع بنات وأم ، للبنات الثلثان ، وللأم السدس ، اجعل
المسألة من خمسة عدد سهامهم ، وإن كان في المسألة من لا يرد عليه وهو الزوج والزوجة ،
فإن كان جنسا واحدا فأعط فرض من لا يرد عليه من أقل مخارجه ، ثم اقسم الباقي عن عدد
من يرد عليه إن استقام ، كزوج وثلاث بنات ، أعط الزوج فرضه الربع من أربعة ، والباقي(5/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
للبنات وهن ثلاثة يصح عليهن ؛ وإن لم يستقم عليهم ، فإن كان بين رؤوسهم وما بقي من
فرض من لا يرد عليه موافقة ، فاضرب وفق رؤوسهم في مخرج فرض من لا يرد عليه كزوج
وست بنات ، للزوج الربع ، يبقى ثلاثة لا تستقيم على البنات وبينهم وبين الباقي موافقة
بالثلث ، فاضرب وفق رؤوسهم وهو اثنان في مخرج فرض من لا يرد عليه وهو أربعة تكون
ثمانية ، للزوج الربع سهمان يبقى ستة تصح على البنات وإن لم يكن بينهما موافقة كزوج
وخمس بنات ، فاضرب كل رؤوسهم وهي خمسة في مخرج فرض من لا يرد عليه وهو
أربعة يكن عشرين منها تصح ؛ وإن كان من لا يرد عليه مع جنسين أو ثلاثة ممن يرد عليهم ،
فأعط فرض من لا يرد عليه ثم اقسم الباقي على مسألة من لا يرد عليه إن استقام ، وإلا
فاضرب جميع مسألة من يرد عليه في مخرج فرض من لا يرد عليه فما بلغ صحت منه
المسألة .
ثم اضرب سهام من لا يرد عليه في مسألة من يرد عليه ، وسهام من يرد فيما بقي من
مخرج فرض من لا يرد عليه . مثال الأول : زوجة وأربع جدات وست أخوات لأم ، للزوجة
الربع سهم ، يبقى ثلاثة وسهام من يرد عليه ثلاثة فقد استقام على سهامهم : ومثال الثاني :
أربع زوجات وتسع بنات وست جدات ، للزوجات الثمن سهم ، تبقى سبعة وسهام الرد
خمسة لا يستقيم عليها ولاموافقة ، فاضرب سهام الرد وهي خمسة في مخرج فرض من لا
يرد عليه وهي ثمانية تكن أربعين منها تصح ، ثم اضرب سهام من لا يرد عليه وهو واحد في
مسألة من يرد عليه وهو خمسة يكون خمسة ، وسهام من يرد عليه وهي خمسة فيما بقي من
مخرج فرض من لا يرد عليه وهو سبعة يكن خمسة وثلاثين ، للبنات أربعة أخماسه ثمانية
وعشرون ، وللجدات الخمس سبعة . مثال آخر : زوجة وبنت وبنت ابن وجدة ، للزوجة
الثمن ، يبقى سبعة وسهام الرد خمسة لا يستقيم ولا موافقة ، فاضرب سهام من يرد عليه وهي
خمسة في مخرج مسألة من لا يرد عليه وهو ثمانية يكن أربعين منها تصح ، وإذا أردت
التصحيح على الرؤوس فاعمل بالطريق المذكور ، والله أعلم .
فصل في مقاسمة الجد الإخوة
قال أكثر الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر وابن عباس وأبي بن كعب وعائشة :
الجد بمنزلة الأب عند عدمه يرث معه من يرث مع الأب ويسقط به من يسقط الأب ، وهو
قول أبي حنيفة ، فجعل الجد أب الأب بمنزلة الأب إلا في مسألتين : زوج وأبوان ، أو زوجة
وأبوان على ما تقدم ، وروى عنه الحسن بن زياد أنه بمنزلة الأب فيهما أيضا . وعن الصديق
أيضا روايتان في هاتين المسألتين . وقال علي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم :
الجد لا يسقط بني الأعيان والعلات ويرثون معه . واختلفوا في كيفية توريثهم معه ، وكتابنا(5/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
هذا يضيق عن استيعاب أقوالهم وما يتفرع منها ، لكن نذكر مذهب زيد بن ثابت لحاجتنا إلى
معرفة قول أبي يوسف ومحمد فإنهما أخذا بقوله . وعن ابن عباس أنه لما سمع قول زيد
قال : ألا يتقي الله زيد ؟ يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الأب أبا ؟
والمختار قول أبي بكر رضي الله عنه لأنه أبعد عن التردد والتوقف ولم تتعارض عنه
الروايات وتعارضت عن غيره . قال علي رضي الله عنه : من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم
فليقض في الجد والإخوة . وروى عبيد السلماني عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الجد
بمائة قضية يخالف بعضها بعضا . وعنه أنه جمع الصحابة رضي الله عنهم في بيت وقال لهم :
لا بد أن تتفقوا على شيء واحد في الجد ، فقام رجل فقال : أشهد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قضى
للجد بالسدس ، فقال : مع من ؟ فقال : لا أدري ، فقال : لا دريت ، فقام آخر فقال كذلك ،
ورد عليه كذلك ، فسقطت حية من السقف فتفرقوا قبل أن يجمعوا على شيء ، فقال عمر
رضي الله عنه : أبى الله تعالى أن يرتفع هذا الخلاف . وعن علي رضي الله عنه أنه كان
يقول : ألقوا علينا مسائل الفرائض واتركوا الجد ، لا حياه الله ولا بياه . وعن ابن المسيب
مثله .
واعلم أن الجد الصحيح الوارث لا يكون إلا واحدا لأنه لا يكون إلا من جهة الأب ،
والأقرب يسقط الأبعد . قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : إذا اجتمع الجد والإخوة كان الجد
كأحدهم يقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فإن نقصته فرض له الثلث والباقي بين
الإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين .
مثاله : جد وأخ المال بينهما نصفان لأن المقاسمة خير له . جد وأخوان المال بينهما
أثلاثا لأن المقاسمة والثلث سواء . جد وثلاثة إخوة يفرض له الثلث والباقي بين الإخوة لأن
المقاسمة تنقصه من الثلث فإن كان معهم صاحب فرض يعطى فرضه ثم ينظر في الباقي .
للجد ثلاثة أحوال : المقاسمة أو ثلث ما بقي أو سدس جميع المال فيعطي ما هو خير
له منها والباقي بين الإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين .
مثاله : زوج وجد وأخ للزوج النصف والباقي بين الجد والأخ لأن القسمة خير له ،
وكذلك مع الزوجة . جدة وجد وأخوان وأخت ، للجدة السدس ، وللجد ثلث ما بقي لأنه لا
خير له . جدة وبنت وجد وأخوان ، للجدة السدس ، وللبنت النصف ، وللجد السدس لأنه
خير له . زوج وأم وجد وأخ ، للزوج النصف ، وللأم الثلث ، والباقي وهو السدس للجد
ويسقط الأخ ، وبنو العلات مع الجد كبني الأعيان ، فإن اجتمعوا مع الجد ، قال زيد بن ثابت(5/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
رضي الله عنه : يعدون معهم على الجد ليظهر نصيبه وتسمى فصل المعادّة ، فإذا أخذ الجد
نصيبه يرد بنو العلات ما وقع لهم إلى بني الأعيان ويخرجون بغير شيء إلا إذا كان من بني
الأعيان أخت واحدة فتأخذ النصف بعد نصيب الجد ، فإن بقي شيء أخذه بنو العلات .
مثاله : جد وأخ لأب وأم وأخ لأب ، المال بينهم أثلاثا ، ثم يرد : الأخ لأب على الأخ
لأبوين نصيبه فيبقى للأخ من الأبوين الثلثان ؛ ولو كان معهم زوجة فلها الربع والباقي بينهم
أثلاثا ، ويرد الأخ لأب ما وقع له إلى الأخ لأبوين ؛ ولو كان مكان الزوجة زوج فله النصف
والباقي بنهم أثلاثا على الوجه الذي تقدم . جد وأخت لأبوين وأخت لأبوين وأخت لأب ، للجد النصف ،
وللأختين النصف وتأخذه الأخت لأبوين ؛ ولو كانت أختين لأب والمسألة بحالها فللجد
الخمسان ، وللأخت لأبوين الخمس ، وللأختين لأب الخمسان ثم يردان على الأخت لأبوين
تتمة النصف خمس ونصف ويبقى لهما نصف خمس . أصل المسألة من خمسة تضرب في
اثنين لحاجتنا إلى النصف تصير عشرة ، للجد أربعة ، وللأخت لأبوين سهمان ، وللأختين
لأب أربعة ، ثم يردان إلى الأخت لأبوين ثلثه تكملة النصف يبقى لهما سهم لا يستقيم
عليهما ، فاضرب اثنين في عشرة تكن عشرين منها تصح . جد وأخت لأبوين وأخ لأب المال
بينهم أخماسا ، ويرد الأخ على الأخت إلى تمام النصف يبقى معه نصف سهم وهو العشر ؛
ولو كان معه أخت ، فللجد سدسان ، وللأخت من الأبوين السدس ، وللأخ وأخته ثلثه فيردان
عليهما تتمة النصف يبقى معهما سدس .
جد وأختان لأبوين وأختان لأب ، للجد الثلث ولكل فريق الثلث ، ثم يرد أولاد الأب
ثلثهم على أولاد الأبوين . أم وجد وأخت لأبوين وأخوان وأخت لأب ، أصلها من ستة للأم
سهم وثلث الباقي خير للجد ، وليس للباقي ثلث صحيح ، فاضرب ثلاثة في ستة تكن ثمانية
عشر للأم ثلاثة ، وللجد خمسة ، وللأخت من الأبوين النصف تسعة ، يبقى سهم واحد لأولاد
الأب وهم خمسة ، فاضرب خمسة في ثمانية عشر تكون تسعين منها تصح وتسمى تسعينية
زيد . أم وجد وأخت لأبوين وأخ وأخت لأب ، أصلها من ستة ، للأم سهم يبقى خمسة لا
تستقيم على ستة ، فاضرب ستة في ستة تكن ستة وثلاثين ، للأم السدس ستة ، وللجد ثلث ما
بقي عشرة ، وللأخت من الأبوين نصف الجميع وهو ثمانية عشر ، بقي لأولاد لأب سهمان
وهم ثلاثة ، فاضرب ثلاثة في ستة وثلاثين يكن مائة وثمانية منها تصح ، إلا أن بين السهام
موافقة بالأنصاف فترجع إلى أربعة وخمسين .
ووجهه أن المقاسمة وثلث ما بقي واحد في حق الجد فأعط الأم نصيبها من ثمانية
عشر ثلاثة والجد ثلث ما بقي خمسة ، والأخت من الأبوين نصف الجميع تسعة ، يبقى سهم
لا يستقيم على أولاد الأب ، فاضرب ثلاثة في ثمانية عشر تكن أربعة وخمسين منها تصح(5/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وتمسى مختصرة زيد ، فحصل من أصل زيد أنه يقول بالمقاسمة ما لم ينقصه من الثلث ،
ومع صاحب الفرض ينظر له أصلح الأحوال الثلاثة ، ويعد ولد الأب على الجد إضرارا به ،
ولا يفرض للأخوات المنفردات مع الجد ويجعلهن عصبة ، ولا يقول بالعول بناء على أنهن
عصبة ، وقد خالف هذا الأصل في المسألة الأكدرية ، وهي زوج وأم وجد وأخت لأب أو
لأبوين ، للزوج النصف ، وللأم الثلث ، وللجد السدس ، وللأخت النصف ، ثم يضم الجد
نصيبه إلى نصيب الأخت فيقتسمان الذكر مثل حظ الأنثيين ، أصلها من ستة تعول إلى تسعة ،
للزوج ثلاثة ، وللأم سهمان ، وللأخت ثلاثة ، وللجد سهم ، وما في يد الجد والأخت أربعة
لا تستقيم على ثلاثة ، فاضرب ثلاثة في تسعة يكن سبعة وعشرين منها تصح ؛ ولو كان مكان
الأخت أخ فلا عول ولا أكدرية ، لأنه يكون للزوج النصف ، وللأم الثلث ، وللجد السدس ،
ويسقط الأخ ؛ وكذا لو كان مع الأخ أخت لأنها تصير عصبة بأخيها . سميت أكدرية لأنها
واقعة امرأة من بني أكدر ، أو لأنها كدرت على زيد مذهبه من ثلاثة أوجه : أعال بالجد ،
وفرض للأخت ، وجمع سهام الفرض وقسمها على التعصيب ، وإنما فرض لها ولم يجعلها
عصبة لأنه لم يبق لها شيء ، ولا وجه إلى القسمة لأنه ينقص نصيب الجد من السدس فصار
إلى ما ذكرنا ضرورة .
فصل الجدات
وقد سبق ذكر الجدة الصحيحة من الفاسدة وميراثها عند الانفراد والاجتماع وأحكام
الحجب بين الجدات ، وهذا الفصل لبيان مراتب الجدات ومعرفتها .
اعلم أن الجدات على مراتب : الأولى جدتا الميت وهما أم أمه وأم أبيه وهما وارثتان .
الثانية أربع جدات : جدتا أبيه ، وجدتا أمه ؛ فجدتا أبيه أم أب أبيه ، وأم أم أبيه . وجدتا أمه ،
أم أم أمه ، وأم أب أمه ، والكل وارثات إلا الأخيرة لأنها فاسدة فإنه دخل في نسبتها أب بين
أمين . الثالثة ثمان جدات ، جدتا أب أبيه وهما : أم أب أب أبيه ، وأم أم أب أبيه وهما
وارثتان ؛ وجدتا أم أبيه وهما : أم أم أم أبيه وهي وارثة ، وأم أب أم أبيه وهي ساقطة ؛ وجدتا
أب أمه وهما : أم أم أب أمه ، وأم أب أب أمه وهما ساقطتان ؛ وجدتا أم أمه وهما : أم أم أم
أمه وهي وارثة ، وأم أب أم أمه وهي ساقطة ، فإن كان لكل واحدة منهن جدتان يصرن ستة
عشر وهي المرتبة الرابعة ، وإن كان لكل واحدة من الستة عشر جدتان يصرن اثنين وثلاثين
وهكذا إلى ما لا يتناهى ، والجدات الثابتات على ضربين متحاذيات متساويات في الدرجة .
ومتفاوتات وطريق معرفة المتحاذيات الوارثات أن يلفظ بعددهن أمهات ثم تبدل الأم الأخيرة(5/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
أبا في كل مرة إلى أن لا تبقى إلا أم واحدة ، وتصور ذلك في خمس جدات متحاذيات وقس
عليه فنقول :
ميت
أم أم أم أم أم
أم أم أم أم أب
أم أم أم أب أب
أم أم أب أب أب
أم أب أب أب أب
وأما المتفاوتات في الدرجة فالقربى تحجب البعدى على ما مر في الحجب ، ولو
سألت عن عدد جدات وارثات كم بإزائهن ساقطات ، فخذ عدد المسؤول عنه بيمينك ، ثم
انقص منه اثنين وخذهما بيسارك ، ثم ضعّف ما في يسارك بعدد ما في يمينك فما بلغ فاطرح
المسؤول منه فما بقي فهي ساقطة .
مثاله : سئلت عن أربع جدات خذها بيمينك ثم انقص منه اثنين وخذهما بيسارك ، ثم
ضعّف ما في يسارك بعدد ما في يمينك يكن ثمانية ، اطرح منه عدد المسؤول وهو أربعة تبقى
أربعة فهي ساقطة ؛ ولو سئلت عن ثلاثة خذها بيمينك ثم انقص منه اثنين وخذهما بيسارك ثم
ضعّف ما في يسارك بعدد ما بقي في يمينك يكن أربعة اطرح منه عدد المسؤول عنه وهو
ثلاثة بقي واحدة ساقطة .
واعلم أنه لا يتصور الجدة الوارثة من قبل الأم إلا واحدة ، لأن الصحيحات منهن أن
لا يدخل بين أمين أب فكانت الوارثة أم الأم وإن علت . والقربى تحجب البعدى فلا ترث
إلا جدة واحدة كما ذكرنا في الجد .
وأما الأبويات فيتصور أن يرث الكثير منهن على ما صورت لك ، ولا يرث مع الأب
إلا جدة واحدة من قبل الأم ، لأن الأبويات يحجبن به ، ولا يرث مع الجد إلا جدتان :
إحداهما من قبل الأم والثانية أم الأب ، ولا يرث مع أب الجد إلا ثلاث وإحداهن من قبل
الأم ، والثانية أم أم الأب ، والثالثة أم أب الأب ، وعلى هذا كلما زاد في درجة الأجداد زاد
في درجة الجدات وارثة .
فصل في ذوي الأرحام
قال عامة الصحابة رضي الله عنهم بتوريث ذوي الأرحام وهو مذهبنا . وقال زيد بن
ثابت : لا ميراث لهم ويوضع في بيت المال ، وبه قال مالك والشافعي . لنا قوله تعالى :(5/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ( [ الأنفال : 75 ] أي أولى بميراث بعض بالنقل . وقال
عليه الصلاة والسلام : ' الخال وارث من لا وارث له ' . وروي أن ثابت بن الدحداح
مات ، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعاصم بن عدي : ' هل تعرفون له فيكم نسبا ؟ '
فقال : إنما كان آتيا فينا : أي غريبا ، فجعل ميراثه لابن أخته أبي لبابة بن عبد المنذر . ولأن
أصل القرابة سبب لاستحقاق الإرث على ما بيناه ، إلا أن هذه القرابة أبعد من سائر القرابات
فتأخرت عنها ، والمال متى كان له مستحق لا يجوز صرفه إلى بيت المال ، ولأن سائر
المسلمين يدلون إليه بالإسلام ، وهؤلاء يدلون به وبالقرابة ، والمدلي بجهتين أولى كبني
الأعيان مع بنات العلات ( وذوو الأرحام كل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة ، وهم
كالعصبة من انفرد منهم أخذ جميع المال ) لأنهم يدلون بالقرابة وليس لهم سهم مقدّر
فكانوا كالعصبات ( والأقرب يحجب الأبعد ) كالعصبات حتى من هو أقرب إلى الميت من أي
صنف كان فهو أولى .
مثاله : بنت بنت بنت وأب أم فهو أولى لأنه أقرب . أب أب أم وعمة أو خالة فهي
أولى لأنها أقرب . وذكر رضي الدين النيسابوري في فرائضه أنه لا يرث أحد من الصنف
الثاني وإن قرب وهناك واحد من الصنف الأول وإن بعد ، وكذا الثالث مع الثاني والرابع مع
الثالث ، قال : وهو المختار للفتوى ، والمعمول عليه من جهة مشايخنا تقديم الصنف الأول
مطلقا ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع . قال : وهكذا ذكره الأستاذ الصدر الكوفي في فرائضه ،
فعلى هذا بنت البنت وإن سفلت أولى من أب الأم ، وهم أربعة أصناف : صنف ينتمي إلى
الميت .
( وهم أولاد البنات ، وأولاد بنات الابن ) وصنف ينتمي إليهم الميت ( و ) هم ( الجد
الفاسد ، والجدات الفاسدات ) وصنف ينتمي إلى أبوي الميت ( و ) هم ( أولاد الأخوات كلهن ،
وبنات الإخوة كلهم ، وأولاد الإخوة لأم ) وصنف ينتمي إلى جدي الميت ( و ) هم ( الأخوال
والخالات والأعمام لأم ، والعمات وبنات الأعمام كلهم وأولاد هؤلاء ومن يدلي بهم ، وأولاهم
الصنف الأول ) لأن قرابة الولاد أقرب من غيرهم كما في الأصول ( ثم الصنف الثاني ) وقالا :(5/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
الصنف الثالث أولى من الثاني لأنهم أولاد عصبة أو ذي سهم ، والأصل في ذوي الأرحام إذا
استووا في الدرجة أن يقدم ولد وارث . ولأبي حنيفة رحمه الله أن الصنف الثاني له زيادة اتصال
باعتبار الجزئية لأنهم أصوله ، وزيادة القرب أولى مما ذكر ، لأن علة الاستحقاق القرب ، والعلة
تترجح بالزيادة من جنسها .
الصنف الأول : أقربهم إلى الميت أولى كبنت بنت وبنت بنت بنت ، المال للأولى
لأنها أقرب ، وإن استووا في القرب فمن كان له ولد وارث أولى ، لأن له زيادة في القرب
باعتبار أصله كبنت بنت بنت وبنت بنت ابن ، المال للثانية لأنها ولد صاحب سهم بنت بنت
أخ وبنت ابن أخ ، المال للثانية لأنها ولد عصبة وارث ؛ فإن كان أحدهما يدلي بوارث لا
بنفسه بل بواسطة فهما سواء .
مثاله : بنت بنت بنت بنت وبنت بنت بنت ابن ، هما سواء لأن كل واحد يدلي إلى
الميت بواسطة ، والعلة هي القرب فلا يترجح بالإدلاء ، وإن كان أحدهم أقرب والآخر أبعد
ولكنه يدلي بوارث فالأقرب أولى ، لأن العلة هي القرابة فتترجح بزيادة القرب كالعصيات إذا
استووا يطلب الترجيح بزيادة القرب كذا هنا .
مثاله : بنت بنت بنت وبنت بنت بنت ابن ، المال للأولى لأنها أقرب ؛ وكذلك خالة
وبنت عم ، الخالة أولى ؛ وإن استووا في القرب والإدلاء ، فإن اتفقت الآباء والأمهات فالمال
بينهما على السواء إن كانوا ذكورا أو إناثا ، وإن كانوا مختلطين فللذكر مثل حظ الأنثيين .
مثاله : بنت بنت ابن وبنت بنت ابن ، المال بينهما على السواء ؛ وكذلك ابن بنت
بنت وابن بنت بنت . بنت بنت بنت وابن بنت بنت ، المال بينهما أثلاثا . وإن اختلفت
الأمهات والآباء فعند أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة العبرة لأبدانهم لا لأصولهم .
وعن محمد وهو أشهر الروايتين عن أبي حنيفة العبرة لأصولهم فيقسم المال على أصولهم
ويعتبر الأصل الواحد متعددا بتعدد أولاده ، ثم يعطي لكل فرع ميراث أصله ، ويجعل كل
أنثى تدلي إلى الميت بذكر ذكرا ، وكل ذكر يدلي إلى الميت بأنثى أنثى ، سواء كان
إدلاؤهما بأب واحد أو بأكثر ، أو بأم واحدة أو بأكثر ، ثم يقسم سهام كل فريق بينهم
بالسوية إن اتفقت صفاتهم ، وإن اختلفت فللذكر مثل حظ الأنثيين . لمحمد أن الفروع إنما
تستحق الميراث بواسطة الأصول فيجب أن تكون العبرة للأصول . ولأبي يوسف أن ذوي
الأرحام إنما يرثون بالقرابة كالعصبات ، وكل واحد مستبد بنفسه في أصل الاستحقاق ،
فتعتبر الأبدان كالعصبات .
مثاله : بنت بنت ابن وابن بنت ابن ، المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين بالإجماع .
بنت بنت بنت وبنت ابن بنت ، المال بينهما نصفان عند أبي يوسف باعتبار الأبدان . وعند(5/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
محمد أثلاثا باعتبار الأصول كأنه مات عن بنت بنت وابن بنت ، ثم ينقل نصيب الابن إلى
ابنته ونصيب البنت إلى بنتها . بنت ابن بنت وابن بنت بنت ، عند أبي يوسف المال بينهما
للذكر مثل حظ الأنثيين ، وعند محمد للبنت سهمان وللابن سهم . بنتا ابن بنت وابن بنت
بنت ، عند أبي يوسف ظاهر ، وعند محمد للابن خمس المال ، وأربعة أخماسه للبنتين كأنه
مات عن ابني بنت وبنت بنت . بنت بنت بنت وابن بنت بنت وبنت ابن بنت وابن ابن بنت ،
عند أبي يوسف ظاهر .
وعند محمد يقسم على الآباء على ستة للأولين سهمان لإدلائهما إلى الميت بأنثى
فيكون بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، وللآخرين أربعة لإدلائهما إلى الميت بذكر فيكون
بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، فصار المال بين الفريقين أثلاثا فقد انكسر بالأثلاث ، فاضرب
ثلاثة في ثلاثة يكن تسعة منها تصح . وإن وقع الاختلاف في بطن أو أكثر فأبو يوسف مر
على أصله ؛ ومحمد يقسم المال على أول خلاف يقع ، فما أصاب الذكور ينقل إلى
فروعهم ، وما أصاب الإناث ينقل إلى فروعهن مع اعتبار الاختلاف في البطن الثاني على
الوجه الذي اعتبر في البطن الأول حتى ينتهي إلى الأولاد الأحياء ، فيقسم على اعتبار
أبدانهم . مثاله :
ميت
بنت بنت بنت بنت
بنت بنت ابن بنت
بنت ابن بنت بنت
ابن بنت بنت بنت
فعند أبي يوسف المال بينهم على خمسة : خمسان للابن ، ولكل بنت خمس . وعند
محمد على عشرة ، للأولى سهم ، وللثانية أربعة ، وللثالثة ثلاثة ، وللرابع سهمان ، لأنه يعتبر
الخلاف في أول بطن وقع وفيه ابن بنت وثلاث بنات بنت فيقسم عليهم ، ثم ما أصاب الابن
وهو خمسان يصيران إلى ابنته ، وما أصاب البنات وهو ثلاثة أخماس يصير إلى أولادهن ،
وهم ابن وبنتان للذكر مثل حظ الأنثيين ، فيكون للابن خمس ونصف ، وللبنتين خمس
ونصف ، ثم ينقل نصيب الابن إلى بنته ، ونصيب البنتين إلى ولديهما وهما ابن وبنت للذكر
مثل حظ الأنثيين ، فيكون للابن خمس ، وللبنت نصف خمس وهو عشر فيصح من عشرة ،
ومن له قرابة من جهتين من ذوي الأرحام فله سهمان ، ومن له قرابة واحدة فسهم عند محمد
اعتبارا بالأصول ، وعند أبي يوسف هما سواء لأنهم يرثون بالتعصيب وذلك لا يختلف
كالعصبات حقيقة .(5/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
مثاله : بنت بنت بنت وبنت بنت بنت هي بنت ابن بنت أخرى ؛ فعند أبي يوسف المال
بينهما نصفان ؛ وعن محمد لذي القرابة سهم ، ولذي القرابتين ثلاثة لما مر . ولو كان مكان
البنت من جهتين ابن ، فعند أبي يوسف للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وعند محمد لذات قرابة
سهم ، ولذي قرابتين ثلاثة سهمان من قبل أصله الذكر ويسلم له لتفرده بذلك الأصل ، وسهم
من قبل أصل الأنثى فيضمه إلى ما في يد ذات قرابة فيقسمان السهمين للذكر مثل حظ
الأنثيين لاتحاد أصلهما في هذين السهمين واختلاف أبدانهما على ثلاثة ، فاضرب ثلاث في
أربعة تكن اثني عشر منها تصح .
الصنف الثاني : وأولاهم أقربهم إلى الميت كأب أم ، وأب أم أم ، وأب أم أب ، المال
كله لأب أم ، فإن استووا في القرب فالإدلاء بوارث ليس بأولى في أصح الروايتين ، لأن
السبب للاستحقاق القرابة دون الإدلاء بوارث . مثاله : أب أم أم ، وأب أب أم هما سواء ؛ إن
كانوا ذكورا أو إناثا ، وإن اختلطوا فللذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وإن كانوا من جهتين فلقوم الأم
الثلث ، ولقوم الأب الثلثان .
مثاله : أب أم أب وأب أب أم ، للأول الثلثان ، وللثاني الثلث . وإذا كان لأب الميت
جدان من جهتين وكذلك لأمه ، فلقوم الأب الثلثان ، ولقوم الأم الثلث ، ثم ما أصاب قوم
الأب ثلثاه لقرابته من جهة أبيه ، وثلثه لقرابته من جهة أمه ، وكذلك ما أصاب قوم الأم .
وروى الحسن عن أبي حنيفة ما أصاب قوم الأب كله لقرابته من قبل أبيه ، وما أصاب قوم
الأم فلقرابتها من قبل أبيها أيضا .
مثاله : أب أم أب أب ، وأب أب أم أب ، وأب أم أب أم ، وأب أب أم أم ، فللأولين
الثلثان ، وللآخرين الثلث لما بيناه .
الصنف الثالث ، وهو ثلاثة أنواع : الأول بنات الإخوة وأولاد الأخوات لأب وأم
وأولادهم . والثاني بنات الإخوة وأولاد الأخوات لأب وأولادهم . والثالث أولاد الإخوة
والأخوات لأم وأولادهم . فإن كانوا من النوع الأول أو الثاني فهم كالصنف الأول في
تساوي الدرجة والقرب والإدلاء بوارث والقسمة . وإن اختلفا في ذلك ، فعند أبي يوسف
تعتبر الأبدان ، وعند محمد تعتبر الأبدان ووصف الأصول . وإن كانوا من النوع الثالث
فالمال بينهم بالسوية ذكرهم وأنثاهم فيه سواء اعتبارا بأصولهم ، ولا خلاف فيه إلا ما
روي شاذا عن أبي يوسف أنه يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين . وإن كانوا من الأنواع
وتساووا في الدرجة فالمدلي بوارث أولى ؛ ثم عند أبي يوسف من كان منهم لأب وأم
أولى ثم لأب ثم لأم ؛ وعند محمد يقسم المال على أصولهم وينقل نصيب كل أصل
إلى فروعه .(5/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
مثاله : ثلاث بنات أخوات متفرقات ، عند أبي يوسف المال كله لبنت الأخت لأبوين ؛
وعند محمد لها ثلاثة أخماس ، ولبنت الأخت من الأب خمس ، ولبنت الأخت لأم خمس
باعتبار الأصول فرضا وردا . ثلاث بنات إخوة متفرقين ، عند أبي يوسف كل المال لبنت الأخ
من الأبوين ؛ وعند محمد لبنت الأخ من الأم السدس ، والباقي لبنت الأخ من الأبوين . بنت
أخت لأب وبنت أخت لأم ، المال للأولى عند أبي يوسف لأنها أقوى ؛ وعند محمد لها
ثلاثة أرباع ، وللأخرى الربع فرضا وردا اعتبارا بالأصول . ابنا أخت لأبوين وبنت أخت لأم ،
عند أبي يوسف المال للابنين ؛ وعند محمد ابنا أخت كأختين ، فيقسم المال بينهم على
خمسة ، وأولاد هؤلاء كأصولهم المدلي بوارث أولى إذا استووا .
مثاله : ابن ابن أخ لأم ، وابن بنت أخ لأبوين ، وبنت ابن أخ لأب ، المال للبنت لأنها
تدلي بوارث .
الصنف الرابع : أقربهم إلى الميت أولاهم ، فعمة الأب أولى من عمة الجد ، وإن
استووا فمن كان لأب وأم أولى ، ثم من كان لأب ، ثم من كان لأم ؛ فالعمة لأبوين أولى من
العمة لأب ومن العمة لأم ، والعمة لأب أولى من العم والعمة لأم ، والخالات والأخوال
على هذا الترتيب . وإن تساووا في القرابة وهم من جنس واحد فالمال بينهم للذكر مثل حظ
الأنثيين . وإن اجتمع الجنسان العمومة والخؤولة ، فالثلثان لجانب العمومة والثلث لجانب
الخؤولة كيف كانوا في العدد والذكورة والأنوثة .
مثاله : عمه وعشرة أخوال ، للعمة الثلثان ، وللأخوال الثلث . عمه وخال أو خالة ،
للعمة الثلثان وللخالة الثلث ؛ والقياس أن لا يكون للخال والخالة شيء ، لأن قرابة الأب
أقوى كما لا شيء للعمة لأم مع العمة لأب ، إلا أنا تركنا القياس بإجماع الصحابة ، فإنهم
قالوا : للعمة الثلثان وللخالة الثلث ، ولأن العمة لما كانت جهة الأب فهي كالأب والخالة
كالأم ، فصار كأنه ترك أبا وأما فيقسم بينهما أثلاثا كذا هذا ، بخلاف ما ذكر لأن العمات
كلهن من جهة الأب ، والعمة لأب أقوى من العمة لأم فلا ترث معها كالأعمام ، وذو قرابتين
من أحد الجنسين لا يحجب ذا القرابة الواحدة من الجنس الآخر ، لأن الصحابة رضي الله
عنهم جعلوا الميراث بين الخالة والعمة أثلاثا مطلقا فيجري الإجماع على الإطلاق .
مثاله : عمة لأبوين وخالة لأب ، الثلثان للعمة ، والثلث للخالة . وروى ابن سماعة عن
أبي يوسف المال كله للعمة . خالة لأبوين وعمة لأب كذلك . وعن أبي يوسف المال كله
للخالة ؛ وإذا اجتمع الجنسان من جهة الأب والجنسان من جهة الأم فالثلثان لقرابتي الأب ،
والثلث لقرابتي الأم ، ثم ما أصاب قرابة الأب ثلثاه لقرابة أبيه ، وثلثه لقرابة أمه ، وما أصاب
قرابة الأم كذلك .(5/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
مثاله : عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها ، الثلثان للعمتين بينهما أثلاثا ، والثلث
للخالتين بينهما أثلاثا وقد انكسر بالأثلاث فاضرب ثلاثة في ثلاثة تكن تسعة منها تصح
وأولاد هذه الأصناف حكمهم حكم آبائهم في جميع ما ذكرنا عند عدم آبائهم ، والله الموفق .
فصل في الولاء
وهو نوعان : ولاء عتاقة وولاء موالاة ، وقد ذكرنا صورتهما وأحكامهما في كتاب
الولاء ، ونذكر في هذا الفصل ما يتعلق بالإرث ، فنبدأ بولاء العتاقة فنقول :
إذا مات المعتق ولا عصبة له من جهة النسب فالمولى المعتق عصبته ، لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' الولاء لمن أعتق ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' الولاء لُحمة كلُحمة
النسب ' ومات معتق لابنة حمزة رضي الله عنهما عنها وعن بنت ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
المال بينهما نصفين . وأعتق رجل عبدا له عند رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال عليه
الصلاة والسلام : ' إن شكرك فهو خير له وشر لك ، وإن كفّرك فهو شر له وخير لك ، وإن
مات ولم يدع وارثا كنت أنت عصبته ' ولا يرث الأسفل من الأعلى لأنه لا قرابة بينهما
وإنما ألحق الولاء بالنسب في حق الأعلى حيث أنعم على عبده بالإعتاق وتسبب إلى حياته
معنى ، فجوزي باستحقاق الإرث صلة له وكرامة ، وهذا المعنى معدوم من العبد فلا يقاس
عليه ، فلو مات المعتق عن صاحب فرض ، والمعتق أخذ صاحب الفرض فرضه والباقي
للمعتق لأنه عصبته لما روينا ، والولاء يورث به ولا يورث .
قال عليه الصلاة والسلام : ' الولاء لُحمة كلُحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا
يورث ' ويستحق بالعصوبة ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : ' كنت أنت
عصبته ' وليس للنساء من الولاء شيء بالإرث لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ليس للنساء من
الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كابتن أو كاتب من كاتبن ' وهو لأقرب عصبة
المعتق ، فلو مات عن ابن المعتق وأبيه فالولاء كله للابن ؛ وقال أبو يوسف : للأب السدس
والباقي للابن ، لأن الأب يكون عصبة حتى يحرز جميع المال لو انفرد . ولهما أنه صاحب(5/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
فرض مع الابن فصار كالزوج فلا يزاحم الابن العصبة ؛ ولو مات عن جد مولاه وأخيه فالكل
للجد ؛ وقالا : بينهما نصفان وقد عرف ؛ وعن عدة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا :
الولاء للكبر أي للأقرب إلى الميت نسبا ، وهذا لا يعرف إلا سماعا فصار كالمروي عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وصورته : إذا مات المعتق عن ابنين ، ثم مات أحدهما عن ابن ، ثم مات المعتق
فولاؤه لابن مولاه دون ابن ابنه لما روينا ولأنه أقرب نسبا وعصوبة ؛ ولو مات الابنان وترك
أحدهما ابنا والآخر ابنين فالولاء على عدد رؤوسهم لاستوائهم في العصوبة والقرب ، ولأن
الجد لو مات قسمت تركته على حفدته كذلك ، فكذلك ما ورثوه بسببه ؛ وأما مولى الموالاة
فإن الأعلى يرث الأسفل ويعقل عنه إذا جنى مقابلة للغنم بالغرم ، وهو مؤخر عن ذوي
الأرحام لأن ذوي الأرحام يرثون بالقرابة وهي أقوى وآكد من الولاء لأنها لا تقبل النقض
والولاء يقبله ، بخلاف الزوجين حيث يرث معهما لأنهما بعد الموت كالأجانب ، ولهذا لا
يرد عليهما ، فإذا أخذا حقهما صار الباقي خاليا عن الوارث فيكون لمولى الموالاة . ولو اتفقا
في عقد الموالاة على أن يرث كل واحد من الآخر صح ، وورث كل واحد منهما الآخر إذا
لم يكن عصبة ولا ذو سهم ولا ذو رحم ، والفرق بين ولاء العتاقة وولاء الموالاة أن السبب
في ولاء العتاقة العتق الذي هو إحياء معنى على ما بينا ، وأنه من الأعلى خاصة ، والسبب في
ولاء الموالاة العقد والشرط ، فيثبت على الوصف الذي عقدا وشرطا .
والأصل في الإرث بولاء الموالاة قوله تعالى : ) والذين عقدت أيمانكم فآتوهم
نصيبهم ( [ النساء : 33 ] وكان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالعقد والحلف دون النسب والرحم
حتى نزل قوله تعالى : ) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ( [ الأنفال : 75 ] فنسخ تقديمه
وصار مؤخرا عن ذوي الأرحام وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود
وعبد الله بن عباس وجماعة من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ، على أنا نقول بموجب
الآية فلا نوّرثه مع وجود ذوي الأرحام ، وإنما نوّرثه عند عدمهم فلا تكون الآية ناسخة وهو
مذهب أصحابنا ، ولأنه جعل ماله له بعقده ، ولا تعلق للوارث به فصار كالوصية بجميع المال
ولا وارث له ، أو كان لكنه أجاز الوصية فإنه يجوز كذا هذا ، فصار مستحقا للمال فلا يوضع
في بيت المال ، لأنه إنما يوضع في بيت المال عند عدم المستحق لا أنه مستحق وسئل عليه
الصلاة والسلام عن رجل أسلم على يد رجل ووالاه فقال : هو أحق الناس به محياه
ومماته ' يشير إلى العقل والإرث في هاتين الحالتين .(5/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
فصل
( الغرقى والهدمى إذا لم يعلم أيهم مات أولا ، فمال كل واحد للأحياء من ورثته )
وهكذا الحكم في كل جماعة ماتوا ولا يدري أيهم مات أولا كالقتلى والحرقى ونحوهم ،
وهو قول عامة الصحابة والعلماء . وعن علي وابن مسعود أنه يرث بعضهم بعضا إلا ما ورث
من صاحبه وهو قول أبي حنيفة أولا .
مثاله : أخوان غرقا ولكل واحد تسعون دينارا وخلف بنتا وأما وعما ، فعند عامة العلماء
تقسم تركة كل واحد بين الأحياء من ورثته البنت والأم والعم على ستة ، ولا يرث أحدهما
من الآخر . وعلى قول علي وابن مسعود يقسم التسعون للبنت النصف خمسة وأربعون دينارا
وللأم السدس خمسة عشر دينارا ، والباقي وهو ثلاثون للأخ ، ولا شيء للعم ، ثم يقسم
الثلاثون بين البنت والأم والعم أسداسا كما تقدم ، والصحيح قول العامة لأنه احتمل موتهما
معا واحتمل تقدم أحدهما واحتمل تأخره ، فوقع الشك في استحقاقه الميراث واستحقاق
الأحياء متيقن فلا يعارضه الشك ، ولأن أحدهما إن جعل حيا حتى ورث من الآخر كيف
يجعل ميتا حتى يرثه الآخر ؟ وإن علم موت أحدهما أولا ولا يدري أيهم هو أعطى كل واحد
اليقين ووقف المشكوك حتى يتبين أو يصطلحوا .
فصل
( المجوسي لا يرث بالأنكحة الباطلة ) لبطلانها ، ويرث بالقرابة لثبوتها ، كما لو مات
وترك امرأة هي أمه أو أخته ترث بالأمومة والأخوة دون الزوجية ( وإذا اجتمع فيه قرابتان لو
تفرقتا في شخصين ورثا بهما ورث بهما ) وهو مذهب عامة الصحابة . وقال زيد بن ثابت :
يرث بأثبتهما ، وهي التي يورث بها بكل حال ، وبه قال مالك والشافعي . والصحيح قول
العامة ، لأن كل واحدة من القرابتين بانفرادها علة صالحة لاستحقاق الإرث ، ويجوز أن
يستحق الواحد مالين بجهتين إذا وجد سببا استحقاق كابني عم أحدهما أخ لأم أو زوج على
ما تقدم ، ولا يلزم الأخت لأبوين حيث لا ترث بقرابتي الأبوة والأمومة ، لأن الشرع جعلهما
قرابة واحدة في التوريث نصا لا قياسا .
وصورته : مجوسي تزوج بنته فولدت منه بنتا ثم مات فقد مات عن بنتين فلهما الثلثان
والباقي لعصبته وسقط اعتبار الزوجية ، ولو ماتت بعده البنت التي كانت زوجة فقد ماتت عن(5/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
بنت هي أختها ، فلها جميع المال النصف بالبنتية والنصف بعصبة الأختية ؛ وعند زيد لها
النصف بالبنتية لا غير ؛ ولو ماتت بعده البنت المولودة فقد خلفت أما وهي أختها من الأب
فلها الثلث بالأمومة والنصف بالأختية والباقي للعصبة . وعند زيد لها الثلث بالأمومة لا غير
لأنها أثبتهما قرابة لأنها لا تحجب بحال ، وإذا ترافعوا إلينا قسمنا بينهم كالقسمة بين
المسلمين ، قال تعالى : ) فإن جاؤوك فاحكم بينهم ( [ المائدة : 42 ] وهو مروي عن عمر
وعلي وابن مسعود وابن عباس ، ورواية عن زيد رضي الله عنهم .
فصل
( والحمل يرث ويوقف نصيبه ) بإجماع الصحابة ، ولأنه يحتمل وجوده فيرث ، ويحتمل
عدمه فلا يرث فيوقف حتى يتبين بالولادة احتياطا ؛ فإن ولد إلى سنتين حيا ورث لأنه عرف
وجوده وإن احتمل حدوثه بعد الموت لكن جعل موجودا قبل الموت حكما حتى يثبت نسبه
لقيام الفراش في العدة ، وهذا إذا كان الحمل من الميت ؛ فأما إذا كان من غير الميت ، كما
إذا مات وأمه حامل من غير أبيه وزوجها حي ، فإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يرث
لاحتمال حدوثه بعد الموت فلا يرث بالشك إلا أن تقر الورثة بحملها يوم الموت ، وإن
جاءت به لأقل من ستة أشهر فإنه يرث لأنا تيقنا بوجوده عند موته ، ثم الحمل لا يخلو إما
أن يكون ممن يحجب حجب حرمان أو حجب نقصان أو يكون مشاركا لهم ؛ فإن كان
يحجب حجب حرمان ، فإن كان يحجب الجميع كالإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم توقف
جميع التركة إلى أن تلد لجواز أن يكون الحمل ابنا ، وإن كان يحجب البعض كالإخوة
والجدة تعطى الجدة السدس ويوقف الباقي ، وإن كان يحجب حجب نقصان كالزوج والزوجة
يعطون أقل النصيبين ويوقف الباقي .
وكذلك يعطى الأب السدس لاحتمال أنه ابن ، وإن كان لا يحجبهم كالجد والجدة
يعطون نصيبهم ويوقف الباقي ، وإن كان لا يحجبهم ولكن يشاركهم بأن ترك بنين أو بنات
وحملا ، روى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يوقف له نصيب أربعة من البنين أو البنات أيهما
أكثر لأنه قد وقع ذلك فيوقف ذلك احتياطا ، وكان شريك بن عبد الله ممن حملت به أمه مع
ثلاثة . وروى هشام عن أبي يوسف وهو قول محمد أنه يوقف نصيب ابنين لأنه كثير الوقوع
وما زاد عليه نادر فلا اعتبار به .
وروى الخصاف عن أبي يوسف وهو قوله أنه يوقف نصيب ابن واحد وعليه الفتوى
لأنه الغالب المعتاد وما فوقه محتمل ، والحكم مبني على الغالب دون المحتمل ، فإن ترك
ابنين وحملا ؛ فعلى قول ابن المبارك يوقف ثلثا المال ، وعلى قول محمد نصف المال وعلى
قول أبي يوسف ثلث المال ؛ وإن ولد ميتا لا حكم له ولا إرث ، وإنما تعرف حياته بأن(5/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
تنفس كما ولد أو استهل بأن سمع له صوت أو عطس أو تحرك عضو منه كعينيه أو شفتيه أو
يديه ، لأن بهذه الأشياء تعلم حياته ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إذا استهل الصبي ورث
وصلي عليه ' فإن خرج الأكثر حيا ثم مات ورث ، وبالعكس لا اعتبارا للأكثر ، فإن خرج
مستقيما فإذا خرج صدره ورث ، وإن خرج منكوسا يعتبر خروج سرته ، وإن مات بعد
الاستهلال ورث وورث عنه .
فصل المفقود
وقد ذكرنا أحكامه وما يتعلق به حال حياته ، ومتى يحكم بموته في بابه ، ونذكر هنا ما
يختص بالإرث فنقول : من مات في حال فقده ممن يرثه المفقود يوقف نصيب المفقود إلى
أن يتبين حاله لاحتمال بقائه ، فإذا مضت المدة التي تقدم ذكرها على ما فيها من الاختلاف
ولم يعلم حاله وحكمنا بموته قسمت أمواله بين الموجودين من ورثته كما بينا ؛ وأما الموقوف
من تركة غيره فإنه يرد على ورثة ذلك الغير ويقسم بينهم كأن المفقود لم يكن لأنا تيقنا
بكونهم وارثين وشككنا فيه ، فكان توريثهم أولى لأن الشك لا يعارض اليقين .
والأصل في ذلك إن كان معه وارث يحجب به لا يعطى شيئا ، وإن كان لا يحجب
ولكن ينقص يعطي أقل النصيبين ويوقف الباقي .
مثاله : مات عن بنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن ، يعطي البنتان النصف لأنه متيقن
ويوقف النصف الآخر ، ولا يعطي ولد الابن شيئا لأنهم يحجبون به فلا يعطون بالشك ، وإن
كان معه وارث لا يحجب كالجد والجدة يعطي كل نصيبه كما في الحمل .
فصل الخنثى
قد سبق في كتاب الخنثى صورته وأحكامه والاختلاف فيه والدليل على توريثه من
مثاله ، ونذكر الآن أحكام ميراثه . والأصل فيه أن أبا حنيفة رحمه الله يعطيه أخس النصيبين
في الميراث احتياطا ، فلو مات أبوه وتركه وابنا فللابن سهمان وله سهم ؛ ولو تركه وبنتا
فالمال بينهما نصفان فرضا وردا . أخت لأب وأم وخنثى لأب وعصبة ، للأخت النصف
وللخنثى السدس تكملة الثلثين كالأخت من الأب والباقي للعصبة . زوج وأم وخنثى لأبوين
للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للخنثى ويجعل ذكرا لأنه أقل . زوج وأخت لأبوين
وخنثى لأب سقط ويجعل عصبة لأنه أسوأ الحالين . وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله :
للخنثى نصف نصيب ذكر ونصف نصيب أنثى عملا بالشبهين ، وهو قول الشعبي . مثاله : ابن
وخنثى .(5/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
قال محمد على قول الشعبي : المال بينهما على اثني عشر سهما للابن سبعة وللخنثى
خمسة . وقال أبو يوسف رحمه الله : على سبعة ، للابن أربعة ، وللخنثى ثلاثة ، لأن الابن
عند الانفراد يستحق جميع المال ، والخنثى يستحق ثلاثة أرباعه ، فإذا اجتمعا يقسم بينهما
على قدر حقيهما فيضرب هذا بأربعة وهذا بثلاثة فيكون سبعة . ولمحمد رحمه الله أن
الخنثى لو كان ذكرا كان المال بينهما نصفين ، ولو كان أنثى كان أثلاثا فيحتاج إلى حساب
له نصف وثلث وأقله ستة ، فلو كان الخنثى ذكرا يكون له ثلاثة ، ولو كان أنثى فاثنان
فسهمان له بيقين ووقع الشك في سهم فينصف فيكون له سهمان ونصف فيضعف ليزول
الكسر فتصير اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة ، وعلى هذا تخريج جميع مسائل
الخنثى .
فصل
قد ذكرنا أن الموانع من الإرث : الرق ، والقتل ، واختلاف الملتين والدارين حكما . أما
الرق فلأن العبد لا ملك له وليس من أهل الملك والتملك ، وكذلك المكاتب . قال عليه
الصلاة والسلام : ' المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ' فلا يرث ولا يورث ولا يحجب ، فإن
مات وترك وفاء أدي عنه بدل الكتابة والباقي لورثته على ما عرف في بابه ، والمستسعي
كالمكاتب عنده ، وقد مر في العتق . وأما الكفر ، فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يتوارث
أهل ملتين شتى ' ، ' لا يرث كافر من مسلم ، ولا مسلم من كافر ' والكفر كله ملة واحدة
يرث بعضهم بعضا وإن اختلفت شرائعهم .
روى سعيد بن جبير عن عمر رضي الله عنه أنه قال : الكفر كله ملة واحدة ولأن الكفر
كله ضلال وهو ضد الإسلام فيجعل ملة واحدة ، ويتوارثون بما يتوارث به أهل الإسلام من
الأسباب إلا الأنكحة الباطلة ؛ واختلاف الدارين حقيقة أن يكون لكل دار ملك على حدة
ويرى كل واحد منهما قتال الآخر كالروم والصين ، لأن عند ذلك تكون الولاية منقطعة فيما
بينهم كدار الإسلام ودار الحرب .
أهل الذمة وأهل الحرب لا توارث بينهم ، سواء كان الحربي في دارهم أو مستأمنا
عندنا لا يرث الذمي ولا يرثه الذمي لانقطاع الولاية فيما بين أهل الدارين ، لأن الحربي باق
على حكم حربه فإنه لا يمنع من العود إلى داره ، وهذا معنى اختلاف الدارين حكما ؛ وإذا(5/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
مات المستأمن عندنا وترك مالا يجب أن نبعثه إلى ورثته وفاء بمقتضى الأمان ؛ ومن مات من
أهل الذمة ولا وارث له فماله لبيت المال لأنه لا مستحق له ، وميراث المرتد وأحكامه مر في
السير . وأما القتل فالقاتل مباشرة بغير حق لا يرث من مقتوله عمدا كان أو خطأ لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :
' لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة ' من غير فصل بين العمد والخطأ ، وقتل الصبي
والمجنون والمعتوه والمبرسم والموسوس لا يوجب حرمان الميراث لأن الحرمان ثبت جزاء
قتل محظور ، وفعل هؤلاء ليس بمحظور لقصور الخطاب عنهم فصار كالقتل بحق ،
والحديث خص عنه القتل بحق فتخص هذه الصور بظاهر آيات المواريث وظاهر الآيات
أقوى من ظاهر الحديث .
والتسبيب إلى القتل لا يحرم الميراث كحافر البئر وواضع الحجر وصب الماء في
الطريق ونحوه ، لأن حرمان الميراث يتعلق بالقتل حقيقة والتسبيب ليس قتلا حقيقة لأن القتل
ما يحل في الحي فيؤثر في انزهاق الروح والتسبيب ليس كذلك لأنه فعل في غيره تعدى أثره
إليه ، وصار كمن أوقد نارا في داره فأحرق دار جاره لا ضمان عليه ؛ وكل قتل أوجب
القصاص أو الكفارة كان مباشرة فيحرم به الميراث ، ومالا يوجب ذلك فهو تسبيب لا يحرّم
الميراث ، والراكب مباشر لأن ثقله وثقل الدابة اتصل بالمقتول فكأنهما وطئاه جميعا ، والنائم
ينقلب على مورثه فيقتله مباشرا ، والقائد والسائق مسبب لأنه لم يتصل ثقله بالمقتول فلا
يكون مباشرا ، وفي قتل الباغي العادل وعكسه تفصيل وخلاف عرف في السير بتوفيق الله
تعالى .
فصل المناسخات
( المناسخة : أن يموت بعض الورثة قبل القسمة . والأصل فيه أن تصحح فريضة الميت
الأول وتصحح فريضة الميت الثاني ، فإن انقسم نصيب الميت الثاني من فريضة الأول على
ورثته فقد صحت المسألتان ) .
مثاله : ابن وبنت مات الابن عن ابنين ، فريضة الأول من ثلاثة للابن سهمان وللبنت
سهم ، وفريضة الثاني من اثنين فيقسم نصيبه على ورثته ( وإن كان لا يستقيم ، فإن كان بين(5/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
سهامه ومسألته موافقة فاضرب وفق التصحيح الثاني في التصحيح الأول ، وإن لم يكن بينهما
موافقة فاضرب كل الثاني في الأول ، فالحاصل مخرج المسألتين . وطريق القسمة أن تضرب
سهام ورثة الميت الأول في المضروب ، وسهام ورثة الميت الثاني في كل ما في يده أو في
وفقه ) لأن تركة الثاني بعض فريضة الأول ، فإذا صار جميع الفريضة الأولى مضروبا في جميع
الثانية صار كل بعض منها مضروبا في جميع الثانية فتصير جميع الثانية مضروبا في بعض
الأولى وهو تركة الثاني ضرورة لأن الضرب يقوم بالطرفين .
( فإن مات ثالث فصحح المسألتين الأوليين ) على ما ذكرنا ( وانظر إلى سهام الثالث
معهما إن كان منهما أو من أحدهما ، فإن انقسمت على مسألته فقد صحت المسائل الثلاث ،
وإن لم تنقسم فاضرب مسألته أو وفقها فيما صحت منه الأوليان ، فمن له شيء من الأولى
والثانية مضروب في الثالثة أو في وفقها ، ومن له شيء في الثالثة مضروب في سهام الميت
الثالث أو في وفقها ، وكذا إن مات رابع وخامس ) .
مثاله : امرأة وأم وأخت من أم وعم ، مات العم وخلف ابنا وبنتا ، الأولى من اثني عشر
والثانية من ثلاثة وسهام العم ثلاثة تستقيم على مسألته فقد صحت المسألتان من اثني عشر .
آخر : زوجة وثلاثة أخوات متفرقات وعم ، ماتت الأخت من الأبوين وخلفت هؤلاء ، الأولى
من ثلاثة عشر للأخت من الأبوين ستة تنقسم على تركتها فصحت المسألتان من ثلاثة عشر ،
حصل للأخت من الأب خمسة : سهمان من الأولى ، وثلاثة من الثانية ، وللأخت من الأم
ثلاثة ، من الأولى سهمان ومن الثانية سهم ، وللعم سهمان من الثانية ، وللزوجة ثلاثة من
الأولى . آخر زوجة وثلاث أخوات متفرقات ، ماتت الأخت من الأبوين وخلفت زوجا وأختا
لأب وأختا لأم ، الأولى من ثلاثة عشر ، والثانية من سبعة ، وسهام الميت الثاني من التركة
الأولى ستة لا تستقيم على مسألتها وهي سبعة ولا موافقة ، فاضرب سبعة في ثلاثة عشر يكن
إحدى وتسعين منها تصح المسألتان .(5/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
آخر زوجة وثلاث أخوات متفرقات وأم وأخ لأم من سبعة عشر ، ماتت الأم وخلفت
أبا وأما وابنا وابنتين من ستة وسهامهما من الأولى اثنان لا تستقيم على مسألتها لكن توافق
بالنصف ، فاضرب وفق مسألتها وهو ثلاثة في سبعة عشر يكن إحدى وخمسين منها تصح
المسألتان ، فكل من له شيء من الأولى مضروب في ثلاثة ، ومن له شيء من الثانية مضروب
في واحد فيكون للمرأة تسعة وللأخت من الأبوين ثمانية عشر وللأخت من الأب ستة ،
وللأخت من الأم ستة ، وللأخ من الأم ستة ، ولكل واحد من الأبوين سهم واحد . آخر
ابنان مات أحدهما وترك بنتا وأخا ، ثم ماتت البنت وتركت زوجا وبنتا وعما هو ابن الميت
الأول ، الأولى من اثنين وكذلك الثانية ، والثالثة من أربعة ، اضرب أربعة في مبلغ الفريضتين
الأوليين وهي أربعة تكن ستة عشر منها تصح المسائل ، للعم من المسألتين الأوليين سهمان
من مسألة الأب ، وسهم من الأخ اضربها في أربعة يكن اثني عشر ، وكان للميت الثالث سهم
من أبيها مضروب في أربعة يستقيم على ورثتها ، للبنت سهمان ، وللزوج سهم ، والباقي للعم
وهو سهم فحصل له وهو ابن الميت الأول وأخ الثاني وعم الثالث ثلاثة عشر من المسائل ،
من الأولى ثمانية ، ومن الثانية أربعة ، ومن الثالثة سهم . آخر رجل مات وترك ابنين وبنتين ثم
مات أحد الابنين عن امرأة وبنت وعصبة ، الأولى من ستة والثانية من ثمانية ، وسهامه من
الأول اثنان لا يستقيم على مسألته لكن يوافق فريضة بالنصف فاضرب وفق فريضته وهو أربعة
في الفريضة الأولى وهي ستة تكن أربعة وعشرين منها تصح المسألتان ، كان للابن من الميت
الأول سهمان مضروبان في أربعة تكن ثمانية ، وللبنتين سهمان مضروبان في أربعة ثمانية ،
وللزوجة سهم مضروب في وفق فريضة وهو سهم يكون لها ، وللبنت أربعة مضروبة في سهم
هي لها ، وللعم ثلاثة في سهم هي له ؛ ولو ماتت البنت عن زوج وأم وعصبة تصح من ستة ،
وسهامها من المسألة الثانية أربعة ، وبينهما موافقة بالنصف فاضرب وفق فريضتها وهي ثلاثة
في مبلغ الفريضتين الأولتين وهو أربعة وعشرون تكن اثنين وسبعين منها تصح المسائل ؛
وعلى هذا تخرج جميع مسائل هذا الباب ، والذي يسهل ذلك المباشرة وكثرة العمل بتوفيق
الله تعالى .
حساب الفرائض
( اعلم أن الفروض نوعان : الأول النصف والربع والثمن . والثاني الثلث والثلثان
والسدس ) ومخرج كل كسر عدد ما في الواحد من أمثاله ومخرج الكسر المكرر مخرج الكسر(5/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
المفرد كالثلث والثلثين والسدس والسدسين ( فالنصف من اثنين ، والربع من أربعة ، والثمن من
ثمانية ، والثلثان والثلث من ثلاثة ، والسدس والسدسان من ستة ؛ فإذا اختلط النصف من النوع
الأول بكل النوع الثاني ) وهو الثلث والثلثان والسدس ( أو ببعضه ) أي بواحد منها ( أو باثنين
فهي من ستة ؛ وإن اختلط الربع بالكل أو ببعضه فمن اثني عشر ، وإن اختلط الثمن كذلك
فمن أربعة وعشرين ) وقد تقدم أمثلته في فصل العول .
( فإذا صحت الفريضة ، فإن انقسمت سهام كل فريق عليه فلا حاجة للضرب ، وإن
انكسرت فاضرب عدد رؤوس من انكسر عليه في أصل المسألة وعوّلها إن كانت عائلة فما
خرج صحت منه المسألة ) مثاله : امرأة وأخوان للمرأة الربع سهم يبقى ثلاثة لا يستقيم على
أخوين ولا يوافقه فاضرب اثنين في أربعة يكن ثمانية منها تصح .
( وإن وافق سهامهم عددهم فاضرب وفق عددهم في المسألة ) مثاله : امرأة وستة إخوة ،
للزوجة الربع ويبقى ثلاثة لا تستقيم على ستة وبينهما موافقة بالثلث ، فاضرب وفق عددهم
وهو اثنان في أصل المسألة وهو أربعة تكن ثمانية منها تصح ، كان للزوجة سهم في اثنين
تكن اثنين ، وللإخوة ثلاثة في اثنين يكن ستة لكل واحد سهم . آخر زوجة وستة إخوة وثلاث
أخوات لأبوين ، أصلها من أربعة ، للزوجة سهم يبقى ثلاثة لا تستقيم على خمسة عشر لكن
بينهما موافقة بالثلث فترجع الخمسة عشر إلى ثلثها وهو خمسة فاضرب خمسة في أربعة تكن
عشرين منها تصح .
( وإن انكسرت على فريقين فاطلب الموافقة بين سهام كل فريق وعددهم ثم بين
العددين ، فإن كانا متماثلين فاضرب أحدهما في أصل المسألة ، وإن كانا متداخلين
فاضرب أكثرهما . وإن كانا متوافقين فاضرب وفق أحدهما في الآخر فما خرج في
المسألة ، وإن كانا متباينين فاضرب كل أحدهما في الآخر ثم المجموع في المسألة )(5/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
مثاله : ثلاثة أعمام وثلاث بنات ، للبنات الثلثان يبقى سهم للأعمام فقد انكسر على
الفريقين وهما متماثلان فاضرب عدد أحدهما وهو ثلاثة في أصل المسألة تكن تسعة منها
تصح . آخر خمس جدات وخمس أخوات لأبوين وعم أصلها من ستة ولا موافقة بين
السهام والأعداد لكن الأعداد متماثلة ، فاضرب أحدهما وهو خمسة في المسألة تكن ثلاثين
منها تصح . آخر جدة وست أخوات لأبوين وتسع أخوات لأم من ستة وتعول إلى سبعة ،
للجدة سهم وللأخوات لأم سهمان ولا موافقة ، وللأخوات لأبوين أربعة وبينهما موافقة
بالنصف فترجع إلى ثلاثة وهي داخلة في التسعة ، فاضرب تسعة في أصل المسألة وهي
سبعة تكن ثلاث وستين منها تصح . آخر بنت وست جدات وأربع بنات ابن وعم ، من ستة
ولا موافقة بين السهام والأعداد ، لكن بين الرؤوس وهي الستة والأربعة موافقة بالنصف
فاضرب نصف أحدهما في الآخر يكن اثني عشر ثم اثني عشر في المسألة يكن اثنين
وسبعين منها تصح .
آخر زوجة وست عشرة أختا لأم وخمسة وعشرون عما ربع وثلث وما بقي أصلها من
اثني عشر ، وبين سهام الأخوات وعددهن موافقة بالربع فترجع إلى أربعة ، وبين الأعمام
وسهامهم موافقة بالخمس فترجع إلى خمسها وهي خمسة ، ولا موافقة بين الأعداد ، فاضرب
أحد العددين وهو أربعة في الآخر وهو خمسة يكن عشرين ثم اضربها في أصل المسألة اثني
عشر يكن مائتين وأربعين منها تصح .
( وإن انكسر على ثلاث فرق أو أكثر فكذلك تطلب المشاركة أولا بين السهام
والأعداد ، ثم بين الأعداد والأعداد ، ثم افعل كما فعلت في الفريقين في المداخلة
والمماثلة والموافقة والمباينة ) ولا يتصور الكسر على أكثر من أربع فرق في الفرائض ( وما
حصل من الضرب بين الفرق وسهامهم يسمى جزء السهم فاضربه في أصل المسألة )
مثاله : أربع زوجات وثلاث جدات واثنا عشر عما ، أصلها من اثني عشر للزوجات الربع
ثلاثة ، وللجدات السدس سهمان ، وللأعمام ما بقي سبعة ، ولا موافقة بين الأعداد
والسهام ، لكن الأعداد متداخلة ، فاضرب أكثرها وهو اثني عشر في أصل المسألة تكن مائة
وأربعة وأربعين منها تصح ، كان للزوجات ثلاثة في اثني عشر تكن ستة وثلاثين لكل زوجة
تسعة ، وكان للجدات سهما في اثني عشر أربعة وعشرين لكل جدة ثمانية ، وكان للأعمام
سبعة في اثني عشر أربعة وثمانين لكل عم سبعة . آخر ست جدات وتسع بنات وخمسة(5/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
عشر عما أصلها من ستة ، للجدات سهم لا ينقسم ولا موافقة ، وللبنات أربعة كذلك ،
وللأعمام سهم كذلك ، وبين أعدادهم موافقة ، فاضرب ثلث الجدات وهو اثنان في عدد
البنات وهو تسعة تكن ثمانية عشر ، ثم اضرب وفقها الثلث وهو ستة في عدد الأعمام وهو
خمسة عشر تكن تسعين ، ثم اضرب التسعين في أصل المسألة وهو ستة تكن خمسمائة
وأربعين منها تصح .
آخر زوجتان وعشر جدات وأربعون أختا لأم وعشرون عما ، أصلها من اثني عشر
للزوجتين الربع ثلاثة لا تنقسم ولا موافقة ، وللجدات السدس سهمان لا ينقسم لكن بينهما
موافقة بالنصف فيرجع إلى نصفها وهي خمسة ، وللأخوات الثلث أربعة لا ينقسم ولكن يوافق
بالربع فيرجع إلى ربعها وهو عشرة ، وللأعمام ما بقي وهو ثلاثة لا تستقيم ولا موافقة
والخمسة والعشرة داخلة في العشرين ، فاضرب عشرين في أصل المسألة وهو اثنا عشر تكن
مائتين وأربعين منها تصح .
آخر أربع زوجات وخمس عشرة جدة وثماني عشرة بنتا وستة أعمام ، أصلها من أربعة
وعشرين ، للزوجات الثمن ثلاثة لا يستقيم ولا يوافق ، وللجدات السدس أربعة كذلك ،
وللبنات الثلثان ستة عشر بينهم موافقة بالنصف فيرجع إلى النصف وهي تسعة ، بقي للأعمام
سهم معنا أربعة وخمسة عشر وتسعة وستة وبين التسعة والستة موافقة بالثلث فاضرب ثلث
أحدهما في الآخر يكن ثمانية عشر بينهما وبين الخمسة عشر موافقة بالثلث أيضا ، فاضرب
ثلث أحدهما في الآخر يكن تسعين وهي توافق الأربعة : النصف فاضرب اثنين في التسعين
يكن مائة وثمانين اضربها في أصل المسألة أربعة وعشرين يكن أربعة آلاف وثلاثمائة وعشرين
منها تصح .
آخر زوجتان وعشر بنات وست جدات وسبعة أعمام ، من أربعة وعشرين ، للزوجتين
الثمن ثلاثة لا ينقسم ولا يوافق ، وللبنات الثلثان ستة عشر بينهما موافقة بالنصف فترجع إلى
خمسة ، للجدات السدس أربعة بينهما موافقة بالنصف أيضا يرجع إلى ثلاثة ، وللأعمام سهم ،
هنا اثنان وخمسة وثلاثة وسبعة كلها متباينة فاضرب اثنين في خمسة تكن عشرة ، اضربها في
ثلاثة تكن ثلاثين ، اضربها في سبعة تكن مائتين وعشرة ، اضربها في أصل المسألة تكن
خمسة آلاف وأربعين .
فصل في معرفة التوافق والتماثل والتداخل والتباين
اعلم أن كل عددين لا يخلو عن هذه الأقسام الأربعة . أما المتماثلان فهما المتساويان
كالثلاثة والثلاثة ، والخمسة والخمسة وهذا يعرف بالبديهية . وأما المتداخلان فكل عددين(5/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
أحدهما جزء الآخر وهو أن لا يكون أكثر من نصفه كالثلاثة مع التسعة والأربعة مع الاثني
عشر ، فالثلاثة ثلث التسعة ، والأربعة ثلث الاثني عشر ، والأربعة نصف الثمانية ، وكذلك
الثلاثة مع الستة . طريق معرفة ذلك أن تسقط الأقل من الأكثر ، فإن فنى به فهما متداخلان
كالخمسة والأربعة مع العشرين ، فإنك إذا أسقطت الخمسة من العشرين أربع مرات ، أو
الأربعة خمس مرات فنيت العشرون فعلمت أنهما متداخلان . أو نقول : كل عددين ينقسم
الأكثر على الأقل قسمة صحيحة فهما متداخلان كما ذكرنا ، فإنك إذا قسمت العشرين على
الخمسة يجيء أربعة أقسام صحيحة ، وكذلك إذا قسمتها على الأربعة يجيء خمسة أقسام
صحيحة .
وأما المتوافقان فكل عددين لا يفني أحدهما الآخر ولا ينقسم عليه لكن يفنيهما عدد
آخر يكونان متوافقين بجزء العدد المفني : كالثمانية مع الاثني عشر تفنيهما أربعة فهما
متوافقان بالربع ، وكذلك خمسة عشر مع خمسة وعشرين ينفيهما خمسة فتوافقهما بالخمس ،
وقد يفنيهما أعداد كاثني عشر وثمانية عشر فإنه يفنيهما الستة والثلاثة والاثنان فيؤخذ جزء
الوفق من أكثر الأعداد فيكون أخصر في الضرب والحساب .
وطريق معرفة الموافقة أن ينقص أحدهما من الآخر أبدا ، فما بقي فخذ جزء الموافقة
من ذلك كخمسة عشر مع خمسة وعشرين ، فإنك إذا نقصت منها الخمسة عشر تبقى عشرة ،
فإذا نقصت العشرة من خمسة عشر تبقى خمسة ، فإذا نقصت الخمسة من العشرة تبقى خمسه
فتأخذ جزء الموافقة من خمسة . وطريق معرفة جزء الموافقة أن تنسب الواحد إلى العدد
الباقي فما كان من نسبة الواحد إليه فهو جزء التوافق مثاله ما ذكرنا . بقي خمسة أنسب
الواحد إليها تكن خمسا ، فاعلم أن الموافقة بينهما بالأخماس ، وإن كان الجزء المفني أكثر
من عشرة كالستة والثلاثين والأربعة والخمسين فالذي يفنيهما الثمانية وعشر ، واثنان وعشرون
وثلاثة وثلاثون يفنيهما أحد عشر ، وثلاثون وخمسة وأربعون يفنيهما خمسة عشر ، فانظر فإن
كان العدد المفني فردا أولا وهو الذي ليس له جزء صحيح : أي لا يتركب من ضرب عدد
في عدد كأحد عشر فقل الموافقة بينهما جزء من أحد عشر لأنه لا يمكن التعبير عنه بشيء
آخر .
وإن كان العدد المفني زوجا كالثمانية عشر فيما ذكرنا ، أو فردا مركبا وهو الذي له
جزءان صحيحان أو أكثر كخمسة عشر فإن لها جزأين صحيحين وهو الخمس ثلاثة والثلاث
خمسة ، ويسمى مركبا لأنه يتركب من ضرب عدد في عدد وهو ثلاثة في خمسة ، فإن شئت
أن تقول كما قلت في الفرد الأول وهو موافق بجزء من خمسة عشر وبجزء من ثمانية عشر ،
وإن شئت أن تنسب الواحد إليه بكسرين ينضاف أحدهما إلى الآخر فتقول في خمسة عشر(5/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
بينهما موافقة بثلث الخمس وفي ثمانية عشر بثلث السدس ، وقيس عليه نظائره . وأما المتباينان
فكل عددين ليسا متداخلين ولا متماثلين ولا يفنيهما إلا الواحد كالخمسة مع السبعة ، والسبعة
مع التسعة ، وأحد عشر مع عشرين وأمثاله ، وإذا صحت المسألة بما تقدم من الطرق وأردت
أن تعرف نصيب كل فريق من التصحيح فاضرب ما كان له من أصل المسألة فيما ضربته من
أصلها فما خرج فهو نصيب ذلك الفريق ومعرفة نصيب كل وارث أن تضرب سهامه فيما
ضربته في أصل المسألة يخرج نصيبه .
مثاله : أربع زوجات وست أخوات لأبوين وعشرة أعمام ، أصلها من اثني عشر ،
للزوجات الربع ثلاثة لا تستقيم ولا توافق ، وللأخوات الثلثان ثمانية لا تستقيم لكن يوافق
بالنصف يرجع إلى ثلاثة ، وللأعمام واحد ، هنا أربعة وثلاثة وعشرة ، بين الأربعة والعشرة
موافقة بالنصف ، فاضرب نصف أحدهما في الآخر يكن عشرين ، ثم اضرب العشرين في
ثلاثة يكن ستين ، اضربها في أصل المسألة اثني عشر يكن سبعمائة وعشرين منها تصح ، فإذا
أردت أن تعرف نصيب كل فريق فقل : كان للزوجات ثلاثة مضروبة فيما ضربته في أصل
المسألة وهي ستون تكن مائة وثمانين ، وكان للأخوات ثمانية مضروبة في ستين يكن أربعمائة
وثمانين ، وكان للأعمام سهم في ستين تكن ستين ؛ وإذا شئت أن تعرف نصيب كل وارث
فقال : كان لكل زوجة ثلاثة أرباع سهم مضروبة في ستين تكن خمسة وأربعين ، وكان لكل
أخت سهم وثلث في ستين يكن ثمانين ، ولكل عم عشر سهم في ستين تكن ستة ، فهذا بيان
تصحيح المسائل ومعرفة نصيب كل فريق وكل وارث ، فقس عليه أمثاله واعمل بما أوضحته
من الطرق تجده كذلك إن شاء الله تعالى .
وطريق آخر لمعرفة نصيب كل فرد : أن تقسم المضروب على أي فريق شئت ثم
اضرب الخارج في نصيب ذلك الفريق فالحاصل نصيب كل واحد من ذلك الفريق . مثاله ما
تقدم من المسألة المضروب ستون تقسمه على الزوجات الأربع تخرج خمسة عشر تضرب في
نصيب الزوجات وهو ثلاثة تكن خمسة وأربعين فهو نصيب كل زوجة ؛ ولو قسمتها على
الأخوات يخرج لكل أخت عشرة تضربها في سهامهن وهي ثمانية تكن ثمانين هي لكل
أخت ؛ ولو قسمتها على الأعمام تخرج ستة تضربها في نصيبهم وهو سهم يكن ستة لكل
عم .
وطريق آخر طريق النسبة ، أن تنسب سهام كل فريق من أصل المسألة إلى عدد
رؤوسهم ثم تعطي بمثل تلك النسبة من المضروب لكل واحد من آحاد الفريق . ومثاله مسألتنا
فنقول : سهام الزوجات ثلاثة ينسبها إلى عددهن وهو أربع يكن ثلاثة أرباع المضروب وهو
خمسة وأربعون ، وهكذا تعمل في نصيب الأخوات والأعمام .(5/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
فصل في قسمة التركات
( وإذا كانت التركة دراهم أو دنانير ، وأردت أن تقسمها على سهام الورثة ، فاضرب
سهام كل وارث من التصحيح في التركة ، ثم اقسم المبلغ على المسألة ؛ وإن كان بين التركة
والتصحيح موافقة فاضرب سهام كل وارث من التصحيح في وفق التركة ، ثم اقسم المبلغ
على وفق التصحيح يخرج نصيب ذلك الوارث ) وكذلك تعمل لمعرفة نصيب كل فريق ؛ وإن
شئت أن تعمل بطريق النسبة كما تقدم ، وإن شئت بطريق القسمة ، وإذا أردت أن تعرف صحة
العمل من خطئه فاجمع تفصيله وقابله بالجملة ، فإن تساويا فالعمل صحيح وإلا فهو خطأ
فأعد العمل ليصح إن شاء الله .
مثاله : زوج وأخت لأب وأخت لأم ، أصلها من ستة وتعول إلى سبعة ، والتركة
خمسون دينارا ، فاضرب سهام الزوج وهي ثلاثة في خمسين يكن مائة وخمسين ، اقسمها
على المسألة وهي سبعة تخرج أحدا وعشرين وثلاثة أسباع ، وكذلك الأخت من الأب ،
وسهم للأخت من الأم تضربه في خمسين تكن خمسين اقسمها على سبعة تخرج سبعة
وسبع ، وإذا جمعت كانت خمسين فقد صح العمل . وطريق النسبة أن تنسب سهام الزوج
وهي ثلاثة أسباع فيكون له من التركة ثلاثة أسباعها وهي أحد وعشرون وثلاثة أسباع
وهكذا تفعل بالباقي . وطريق القسمة أن تقسم التركة على سبعة تخرج سبعة وسبع ،
تضربها في سهام الزوج وهي ثلاثة يكن أحدا وعشرين وثلاثة أسباع ، وهكذا يفعل
بالباقي .
آخر : زوج وأبوان وبنتان ، أصلها من اثني عشر وتعول إلى خمسة عشر ، والتركة أربعة
وثمانون دينارا وبينهما موافقة بالثلث ، فاضرب سهام البنتين وهي ثمانية في وفق التركة وهو
ثمانية وعشرون تكن مائتين وأربعة وعشرين ، اقسمها على وفق التصحيح وهو خمسة تكن
أربعة وأربعين وأربعة أخماس ، ثم اضرب سهام الأبوين وهي أربعة في ثمانية وعشرين تكن
مائة واثني عشر ، اقسمها على خمس تكن اثنين وعشرين وخمسين ثم اضرب سهام الزوج
وهي ثلاثة في ثمانية وعشرين تكن أربعة وثمانين ، اقسمها على خمسة تكن ستة عشر وأربعة
أخماس فقد صحت المسألة .(5/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
وطريق القسمة أن يقسم وفق التركة وهو ثمانية وعشرون على وفق المسألة وهي خمسة
يخرج خمسة وثلاثة أخماس ، إن ضربتها في سهام الزوج تخرج ستة عشر وأربعة أخماس ،
وفي سهام الأبوين اثنان وعشرون وخمسان وفي سهام البنتين أربعة وأربعين وأربعة أخماس ،
والمجموع أربعة وثمانون فقد صحت .
وطريق النسبة أن تقول : للزوج ثلاثة من خمسة عشر يكون له خمس التركة وهو ستة
عشر وأربعة أخماس ، وللأبوين أربعة من خمسة عشر سدسها وعشرها فأعطهما سدس التركة
وعشرها وهو اثنان وعشرون وخمسان ، وللبنتين ثمانية من خسمة عشر ثلث وخمس فلهما
ثلث التركة وخمسها ، وذلك أربعة وأربعون وأربعة أخماس ، والمجموع أربعة وثمانون فقد
صحت المسألة ، وإذا كانت سهام المسألة عددا أصم فاعمل ما ذكرت من طريق الضرب ،
فإن بقي شيء لا ينقسم بالآحاد على المقسوم عليه فاضربه في عدد القراريط وهو عشرون
واقسمها ، فإن بقي من القراريط شيء لا ينقسم بالآحاد فاضربه في عدد الحبات ثلاثة ثم
اقسمه ، فإن بقي شيء لا ينقسم فاضربه في عدد الأرز أربعة ، فإن بقي شيء فانسبه بالأجزاء
إلى الأرزة .
مثاله : زوج وجدة وجد وبنت ، من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر ، والتركة أحد
وثلاثون دينارا ، فاضرب سهام الزوج ثلاثة في التركة يخرج ثلاثة وتسعون ، اقسمها على
المسألة ثلاثة عشر والتركة أحد وثلاثون دينارا فاضرب سهام الزوج ثلاثة في التركة تخرج
ثلاث وتسعون ، اقسمها على المسألة ثلاثة عشر يخرج لكل واحد سبعة ، بقي اثنان لا
ينقسمان بالآحاد فاضربهما في عدد القراريط يكن أربعين ، اقسمها على المسألة وهي ثلاثة
عشر يبقى واحد ابسطه أرزا يكن اثني عشر ، انسبها إلى المسألة بالأجزاء فيكون للزوج سبعة
دنانير وثلاثة قراريط واثني عشر جزءا من ثلاثة عشر جزءا من أرزة ؛ وللجد سهمان اضربهما
في أحد وثلاثين يكن اثنين وستين ، اقسمها على المسألة تخرج أربعة يبقى عشرة اضربها في
القراريط تكن مائتين ، اقسمها على المسألة تخرج خمسة عشر يبقى خمسة ، ابسطها حبات
تكن خمسة عشر ، اقسمها على المسألة يبقى حبتان ابسطهما أرزا تكن ثمانية ، انسبها بالأجزاء
فحصل للجد أربعة دنانير وخمسة عشر قيراطا وحبة وثمانية أجزاء من ثلاثة عشر جزءا من
أرزة ، وللجدة مثله ، وللبنت ضعف الزوج وهو أربعة عشر دينارا وستة قراريط وأرزة وأحد
عشر جزءا من ثلاثة عشر جزءا من أرزة وجمتلها أحد وثلاثون دينارا فصحت المسألة
( وكذلك يقسم بين أرباب الديون فيجعل مجموع الديون كتصحيح المسألة ، ويجعل كل دين
كسهم وارث ) .(5/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
فصل
( ومن صالح من الغرماء أو الورثة على شيء من التركة فاطرحه كأن لم يكن ، ثم
اقسم الباقي على سهام الباقين ) .
مثاله : زوج وأم وعم صالح الزوج عن نصيبه من التركة على ما في ذمته من المهر
فاطرحه كأنها ماتت عن أم وعم فاقسم التركة بينهما للأم الثلث والباقي للعم ، وقد سبق في
الصلح بفروعه وتعليله بتوفيق الله تعالى .
المسائل الملقيات
وقد تقدم أكثرها في أثناء الفصول ورقمت أسماءها على الحاشية ليسهل تناولها ، وهذه
مسائل لم تذكر .
المشركة
زوج وأم واثنان من ولد الأم وإخوة وأخوات من الأبوين ، للزوج النصف ، وللأم
السدس ، ولأولاد الأم الثلث ويسقط الباقون ؛ وكذا لو كان مكان الأم جدة ، هذا قول أبي
بكر وعمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وهو مذهب أصحابنا . وقال ابن مسعود
وزيد بن ثابت رضي الله عنهما : العصبة من ولد الأبوين يشاركون ولد الأم في الثلث ، وهو
قول عمر رضي الله عنه آخرا فإنه قضى أولا بمثل مذهبنا فوقعت في العام القابل ، فأراد أن
يقضي بمثل قضائه الأول ، فقال أحد الإخوة لأبوين : يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان
حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم وقال : ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي .
سميت مشركة لأن عمر رضي الله عنه شرك بينهم وحمارية لقوله : هب أن أبانا كان حمارا ؛
ولو كان مكان الإخوة لأبوين إخوة لأب سقطوا بالإجماع ولا تكون مشركة ، والصحيح
مذهبنا لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت فلأولي عصبة ذكر '
وأنه يقتضي تقديم أولاد الأم فمن شرّك بينهم فقد خالف النص ولأنه يوافق الأصول ، فإن
أولاد الأم أصحاب فرض بنص الكتاب ، وأولاد الأبوين عصبة بنص الكتاب على ما سبق ،
والتشريك ينافي ذلك .(5/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
الخرقاء
أم وجد وأخت ، سميت خرقاء لأن أقاويل الصحابة تخرقتها . قال أبو بكر رضي الله
عنه : للأم الثلث والباقي للجد ؛ وقال زيد : للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت أثلاثا ،
وقال علي : للأم الثلث وللأخت النصف والباقي للجد ؛ وعن ابن عباس روايتان : في رواية
للأخت النصف والباقي بين الأم والجد نصفان ، وفي رواية وهو قول عمر رضي الله عنه :
للأخت النصف وللأم ثلث الباقي والباقي للجد ، وتسمى عثمانية لأن عثمان انفرد فيها بقول
خرق الإجماع فقال : للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت نصفان ، قالوا : وبه سميت
خرقاء ، أو تسمى مثلثة عثمان ومربعة ابن مسعود ومخمسة الشعبي لأن الحجاج سأله عنها
فقال : اختلف فيها خمسة من الصحابة ، وإذا أضيف إليهم قول الصديق كانت مسدسة .
المروانية
ست أخوات متفرقات وزوج ، للزوج النصف ، وللأختين لأبوين الثلثان ، وللأختين لأم
الثلث ، وسقط أولاد الأب ، أصلها من ستة وتعول إلى تسعة ، سميت مروانية لوقوعها في
زمن مروان بن الحكم ، وتسمى الغراء لاشتهارها بينهم .
الحمزية
ثلاث جدات متحاذيات وجد وثلاث أخوات متفرقات . قال أبو بكر وابن عباس رضي
الله عنهم : للجدات السدس والباقي للجد ، أصلها من ستة وتصح من ثمانية عشر . وقال علي
رضي الله عنه : للأخت من الأبوين النصف ، ومن الأب السدس تكملة الثلثين ، وللجدات
السدس ، وللجد السدس ، وهو قول ابن مسعود . وعن ابن عباس رواية شاذة : للجدة أم الأم
السدس والباقي للجد .
وقال زيد : للجدات السدس والباقي بين الجد والأخت لأبوين والأخت لأب على
أربعة ، ثم ترد الأخت من الأب ما أخذت على الأخت من الأبوين ، أصلها من ستة وتصح
من اثنين وسبعين وتعود بالاختصار إلى ستة وثلاثين للجدات ستة ، وللأخت من الأبوين
نصيبها ، ونصيب أختها خمسة عشر ، وللجد خمسة عشر سميت حمزية لأن حمزة الزيات
سئل عنها فأجاب بهذه الأجوبة .
الدينارية
زوجة وجدة وبنتان واثنا عشر أخا وأخت واحدة لأب وأم ، والتركة ستمائة دينار ،
للجدة السدس مائة دينار ، وللبنتين الثلثان أربعمائة دينار ، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون(5/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
دينارا ، يبقى خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران وللأخت دينار ، ولذلك سميت الدينارية ،
وتسمى الداودية لأن داود الطائي سئل عنها فقسمها هكذا ، فجاءت الأخت إلى أبي حنيفة
فقالت : إن أخي مات وترك ستمائة دينار فما أعطيت إلا دينارا واحدا ، فقال : من قسم
التركة ؟ قالت : تلميذك داود الطائي ، فقال : هو لا يظلم هل ترك أخوك جدة ؟ قالت : نعم ،
قال : هل ترك بنتين ؟ قالت : نعم ، قال : هل ترك زوجة ؟ قالت : نعم ، قال : هل معك اثنا
عشر أخا ؟ قالت : نعم ، قال : إذن حقك دينار . وهذه المسألة من المعاياة ، فيقال : رجل
خلف ستمائة دينار وسبعة عشر وارثا ذكورا وإناثا فأصاب أحدهم دينار واحد .
الامتحان
أربع زوجات وخمس جدات وسبع بنات وتسع أخوات لأب ، أصلها من أربعة
وعشرين للزوجات الثمن ثلاثة ، وللجدات السدس أربعة ، وللبنات الثلثان ستة عشر ،
وللأخوات ما بقي سهم ، ولا موافقة بين السهام والرؤوس ولا بين الرؤوس والرؤوس ،
فيحتاج إلى ضرب الرؤوس بعضها في بعض ، فاضرب أربعة في خمسة تكن عشرين ، ثم
اضرب عشرين في سبعة تكن مائة وأربعين ، ثم اضرب مائة وأربعين في تسعة تكن ألفا
ومائتين وستين فاضربها في أصل المسألة أربعة وعشرين تكن ثلاثين ألفا ومائتين وأربعين منها
تصح المسألة . وجه الامتحان أن يقال : رجل خلف أصنافا عدد كل صنف أقل من عشرة ولا
تصح مسألته إلا مما يزيد على ثلاثين ألفا .
المأمونية
أبوان وبنتان ماتت إحدى البنتين وخلفت من خلفت ، سميت مأمونية لأن المأمون
أراد أن يولي قضاء البصرة أحدا فأحضر بين يديه يحيى بن أكثم فاستحقره ، فسأله عن هذه
المسألة ، فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الميت الأول ذكرا كان أو أنثى ، فعلم المأمون
أنه يعلم المسألة فأعطاه العهد وولاه القضاء . والجواب فيها يختلف بكون الميت الأول
ذكرا أو أنثى ، فإن كان ذكرا ، فالمسألة الأولى من ستة للبنتين الثلثان وللأبوين السدسان ،
فإذا ماتت إحدى البنتين فقد خلفت أختا وجدا صحيحا أب أب وجدة صحيحة أم أب ،
فالسدس للجدة والباقي للجد ، وسقطت الأخت على قول أبي بكر . وقال زيد : للجدة
السدس ، والباقي بين الجد والأخت أثلاثا على ما عرف من الأصول وصحيح المناسخة كما
مر من الطريق ، وإن كان الميت الأول أنثى فقد ماتت البنت عن أخت وجدة صحيحة أم
أم وجد فاسد أب أم ، فللجدة السدس وللأخت النصف ، والباقي رد عليهما ، وسقط الجد
الفاسد بالإجماع .(5/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
مسائل من متشابه الفرائض
مما يسأل عنها ويمتحن بها الفرضيون ذكرتها رياضة للخاطر . قال محمد بن الحسن :
جاء رجل إلى قوم يقتسمون ميراثا ، فقال : لا تقتسموا فإن لي امرأة غائبة ، فإن كانت حية
ورثت هي ولم أرث أنا ، وإن كانت ميتة ورثت أنا ؛ فهذه امرأة ماتت وتركت أما وأختين
لأبوين وأختا لأم وأخا لأب هو زوج أختها لأمها ، فللأختان الثلثان ، وللأم السدس ،
وللأخت لأم السدس إن كانت حية ، ولا يبقى لزوجها شيء لأنه عصبة فإنه أخ لأب ، وإن
كانت ميتة فله الباقي وهو السدس لأنه عصبة . امرأة جاءت إلى قوم يقتسمون ميراثا فقالت :
لا تقتسموا فإني حبلى ، فإن ولدت غلاما ورث ، وإن ولدت جارية لم ترث . صورته : رجل
مات وترك بنتين وعما وامرأة حبلى من أخيه ، فإن ولدت غلاما فهو ابن أخيه وهو عصبة
مقدم على العم فيرث ؛ وإن ولدت جارية فهي بنت أخ من ذوي الأرحام فلا ترث ؛ ولو
قالت : إن ولدت غلاما لا يرث ، وإن ولدت جارية ورثت .
صورته : امرأة ماتت عن زوج وأم وأختين لأم وحمل من الأب ، إن ولدت جارية فهي
أختها لأبيها فيكون للأم السدس ، وللزوج النصف ، وللأخت لأب النصف ، وللأختين لأم
الثلث ، أصلها من ستة تعول إلى تسعة ؛ وإن ولدت غلاما فللزوج النصف ، وللأم السدس ،
ولأولاد الأم الثلث ، ولا شيء للغلام لأنه عصبة ؛ وإن قالت إن ولدت غلاما لا يرث هو ولا
أنا ، وإن ولدت جارية ورثت أنا وهي ، فهذا رجل مات وله زوجة حامل هي أمة الغير ، قال
لها مولاها : إن كان في بطنك جارية فأنت حرة ، فإذا ولدت جارية تبين أنها حرة وابنتها حرة
فترثان ، وإن ولدت غلاما فهي جارية وابنها عبد فلا يرثان .
ولو علق الحرية بكونه غلاما فالجواب على العكس ؛ وإن قالت : إن وضعت ذكرا أو
أنثى لم يرث ، وإن وضعت ذكرا وأنثى ورثا ، هذا رجل ترك أما وأختا لأبوين وامرأة أب
حبلى وجدا ، فإن ولدت ذكرا أو أنثى عاد الجد ورد سهمه على الأخت لأبوين ، وإن ولدت
ذكرا وأنثى رد على الأخت إلى تمام النصف وبقي لهما نصف تسع وهي مختصرة زيد . وإن
قالت : إن ولدت ابنا ورثت أنا وهو ثلث المال ، وإن ولدت بنتا لم ترث شيئا ، هذا رجل
زوج ابن ابنه بنت ابن ابن له آخر ، فولدت ابنا وصار الابن في درجة أمه ، ثم مات الرجل
وخلف سوى هذين بنتين ، لهما الثلثان ، والباقي وهو الثلث بين الغلام وأمه للذكر مثل حظ
الأنثيين ؛ ولو ولدت بنتا سقط لاستكمال البنات الثلثين وعدم المعصب لهما .
ولو قالت : إن ولدت ابنا لم يرث شيئا . وإن ولدت بنتا فلها النصف ولي الثمن
والباقي للعصبة ، هذا رجل خلف عصبة وعبدين لا مال له غيرهما فأعتقهما العصبة ، فشهدا
بعد العتق لامرأة أنها زوجة الميت حامل منه ، فإن ولدت غلاما لم يرثا لأنه لو ورثا سقط(5/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
العصبة فبطل عتقهما وبطلت شهادتهما فلا تثبت الزوجية والنسب فتوريثهما يؤدي إلى إبطاله ؛
وإن ولدت أنثى فلها الثمن وللبنت النصف والباقي للعصبة ، ونفذ عتق العبدين لأن للعصبة
فيهما نصيبا ، فإن كان موسرا يضمن نصيبهما وصحت شهادتهما وثبت النكاح والنسب ، وإن
كان معسرا سعى العبدان والمستسعي كالحر المديون ، وهذا كله على قول أبي يوسف
ومحمد .
رجل خلف خالا وعما ، ورثه خاله دون عمه ، هذا رجل تزوج أخوه لأبيه أم أمه
فجاءت بابن فهو خاله وابن أخيه وهو أقرب من العم ، ويقال : رجل خاله ابن أخيه . ويقال :
رجل هو خال عمه ، ويقال : عم خاله . رجل خلف زوجته وأخا لها الثمن والباقي لأخيها ،
هذا رجل زوّج ابنه حماته فأولدها ابنا فهو أخو زوجته وابن ابنه . رجل هو خال رجل
وعمه ، هذا رجل تزوج أب أبيه أم أمه فولدت ابنا فهو خاله وعمه .
رجلان كل واحد منهما عم للآخر .
صورته : رجلان تزوج كل واحد منهما أم الآخر فولدتا ابنين فكل ابن عم الآخر .
وصورة أخرى : رجل تزوج أخوه لأمه أم أبيه فولدت ابنا فالمولود عم الرجل والرجل عمه .
رجلان كل واحد منهما خال الآخر . صورته : رجلان تزوج كل واحد منهما بنت صاحبه
فولدت ابنا فالابنان كل واحد منهما خال الآخر ؛ أو يقال : هو رجل تزوج أبو أمه بأخته لأبيه
فولدت ابنا ، فالمولود خال الرجل والرجل خاله . رجلان أحدهما خال الآخر والآخر عمه .
صورته : رجل تزوج امرأة وتزوج ابنه أمها فولدتا ابنين ، فابن الأب عم ابن الابن ،
وابن الابن خال ابن الأب . رجل خلف مالا وورثة فهم رجل واحد ، فإن كان ابن الميت فله
ألفا درهم . وإن كان ابن عمه فله عشرون ألفا ، هذا رجل ترك ستين ألف درهم وترك ثمانية
وخمسين بنتا ، فإن كان الرجل ابنا قاسمهن فنصيبه ألفان ، وإن كان ابن عم فلهن الثلثان وله
الباقي وهو عشرون ألفا .
رجل باع أباه في مهر أمه . هذه حرة تزوجت عبدا فأولدها ابنا ، ثم طلقها فتزوجت
سيده على مهر فطالبته وقد أفلس ، فقضى لها بالعبد ، فوكلت ابنا منه ببيعه وقبض مهرها من
ثمنه . رجل خلف ست ورّاث وتسعين دينارا فأصاب أحدهما دينار واحد ، وهذا رجل خلف
أما وجدا وأختا لأب وأم وأخوين وأختا لأب فمسألته تصح من تسعين ، وسهم الأخت من
الأب دينار واحد .
مريض قال لرجل : يرثني زوجتاك وجدتاك وعمتاك وخالتاك وأختاك ، هذا المريض
تزوج جدتي الرجل فولدت كل واحدة بنتين فهما خالتاه وعمتاه وقد كان الرجل تزوج جدتي(5/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
المريض وتزوج أب المريض أم الصحيح فأولدها بنتين فهما أختا المريض لأبيه وأختا الآخر
لأمه ، فإذا مات المريض بعد أبيه فقد خلف زوجتين هما جدتا المخاطب وأربع بنات هن
خالتاه وعمتاه وجدتين هما زوجتاه وأختين لأب هما أختاه لأمه .
امرأة تزوجت أربعة ورثت من كل واحد نصف ماله ، هذه امرأة ورثت هي وأخوها
أربعة أعبد فأعتقاهم ، ثم تزوجتهم على التعاقب وماتوا ، فلها من كل واحد الربع بالنكاح
والربع بالولاء وذلك نصف ماله .
امرأة وابنها اقتسموا مال ميت نصفين بغير ولاء ، هذا رجل زوّج بنته ابن أخيه فولدت
منه ابنا . ثم مات الرجل بعد موت ابن أخيه فقد ترك بنته فلها النصف ، وترك ابنها وهو ابن
ابن أخيه فيأخذ الباقي بالتعصيب وهو النصف ، ثلاثة إخوة لأم أحدهما ابن عم ، فلهم ثلث
المال بالأخوة لكل واحد تسعة ، والباقي هو ستة أتساع لابن العم ، فبقي معه سبعة أتساع .
رجل خلف ثمانية بنين ومالا ، وقال : يأخذ الأكبر عشرة دنانير وتسع ما بقي ، والثاني عشرين
دينارا وتسع ما بقي ، والثلاث ثلاثين دينارا وتسع ما بقي ، والرابع أربعين دينارا وتسع ما
بقي ، والخامس خمسين دينارا وتسع ما بقي ، والسادس ستين دينارا وتسع ما بقي ، والسابع
سبعين دينارا وتسع ما بقي ، والثامن الباقي ففعلوا ذلك ، فكان المال بينهم على السواء .
الجواب كان المال ستمائة وأربعين دينارا .
فإذا أخذ الأكبر عشرة دنانير تبقى ستمائة وثلاثون دينارا تسعها سبعون يأخذها يبقى معه
ثمانون وهو ثمن المال يبقى خمسمائة وستون ، فإذا أخذ الثاني عشرين دينارا وتسع الباقي
ستين صار معه ثمانون وهو ثمن الجميع يبقى أربعمائة وثمانون ، فإذا أخذ الثالث ثلاثين
وتسع الباقي خمسين صار معه ثمانون أيضا يبقى أربعمائة ، فإذا أخذ الرابع أربعين وتسع
الباقي أربعين يصير معه ثمانون أيضا يبقى ثلاثمائة وعشرون ، فإذا أخذ الخامس خمسين
وتسع الباقي ثلاثين يبقى مائتان وأربعون ، فإذا أخذ السادس ستين وتسع الباقي عشرين يبقى
مائة وستون ، فإذا أخذ السابع سبعين وتسع الباقي عشرة يبقى ثمانون يأخذها الثامن فقد
حصل لكل واحد منهم ثمانون ، والله أعلم وأحكم بالصواب .(5/139)