بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : الاختيار لتعليل المختار
المؤلف : عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1426 هـ - 2005 م
الطبعة : الثالثة
تحقيق : عبد اللطيف محمد عبد الرحمن
عدد الأجزاء / 5
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع لنا دينا قويما ، وهدانا إليه صراطا مستقيما ، وجعلنا من أهله
تعلما وتعليما ، حمد من عمته رحمته وإفضاله ، وغمرته أعطيته ونواله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة أستزيد بها وفور نعمه ، وأسترفد بها وفور كرمه ؛ وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله ، الذي جمع بمبعثه شمل الحق بعد تفرقه ، وقمع برسالته حزب
الباطل بعد تطوقه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وأتباعهم الذين سلكوا سنن سننه
وصوابه .
وبعد : فكنت جمعت في عنفوان شبابي مختصرا في الفقه لبعض المبتدئين من
أصحابي . وسميته ' بالمختار للفتوى ' اخترت فيه قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ، إذ كان
هو الأول والأولى ؛ فلما تداولته أيدي العلماء ، واشتغل به بعض الفقهاء طلبوا مني أن أشرحه(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
شرحا أشير فيه إلى علل مسائله ومعانيها ، وأبين صورها وأنبه على مبانيها ، وأذكر فروعا
يحتاج إليها ويعتمد في النقل عليها ، وأنقل فيه ما بين أصحابنا من الخلاف ، وأعلله متوخيا
موجزا في الإنصاف ، فاستخرت الله تعالى ، وفوضت أمري إليه ، وشرعت فيه ، مستعينا به
ومتوكلا عليه ، وسميته : ' الاختيار لتعليل المختار ' . وزدت فيه من المسائل ما تعم به
البلوى ، ومن الروايات ما يحتاج إليه في الفتوى ، يفتقر إليها المبتدي ، ولا يستغني عنها
المنتهي .
والله سبحانه وتعالى أسأله أن يوفقني للإتمام والإصابة ، ويرزقني المغفرة والإنابة ، إنه
قدير على ذلك وجدير بالإجابة ، وهو حسبي ، ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير .(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
كتاب الطهارة
وهي في اللغة : مطلق النظافة ، وفي الشرع : النظافة عن النجاسات ؛ والوضوء في اللغة
من الوضاءة : وهي الحسن ، وفي الشرع : الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة ، وفيه المعنى
اللغوي ، لأنه يحسن به الأعضاء التي يقع فيها الغسل والمسح ؛ فالغسل : هو الإسالة ،
والمسح : الإصابة . وسبب فرضية الوضوء إرادة الصلاة مع وجود الحدث ، لقوله تعالى :
) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( [ المائدة : 6 ] .
قال ابن عباس : معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون ( وفرضه : غسل
الوجه ، وغسل اليدين مع المرفقين ، ومسح ربع الرأس ، وغسل الرجلين مع الكعبين ) لما
تلونا ، فالوجه : ما يواجه به ، وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولا ، وما بين
شحمتي الأذنين عرضا ، وسقط غسل باطن العينين لما فيه من المشقة وخوف الضرر بهما ،
وبه تسقط الطهارة ؛ ويجب غسل ما بين العذار والأذن لأنه من الوجه ، خلافا لأبي يوسف
بعد نبات اللحية لسقوط غسل ما تحت العذار وهو أقرب منه . قلنا سقط ذلك للحائل ولا
حائل هنا . وقال زفر : لا يدخل المرفقان والكعبان في الغسل لأن إلى للغاية . قلنا :
وتستعمل بمعنى مع ، قال الله تعالى : ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( [ النساء : 2 ] فتكون
مجملة ، وقد وردت السنة مفسرة لها .(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
فقد صح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أدار الماء على مرافقه ، ورأى رجلا توضأ ولم يوصل الماء إلى
كعبيه فقال : ويل للأعقاب من النار وأمره بغسلهما ' . وكذا الآية مجملة في مسح الرأس ،
تحتمل إرادة الجميع كما قال مالك ، وتحمتل إرادة ما تناوله اسم المسح كما قاله الشافعي ،
وتحمتل إرادة بعضه كما ذهب إليه أصحابنا ؛ وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ فمسح بناصيته ،
فكان بيانا للآية وحجة عليهما ، والمختار في مقدار الناصية ما ذكر في الكتاب وهو الربع ،
ولا يزيد على مرة واحدة ، لأن بالتكرار يصير غسلا ، والمأمور به المسح .
قال : ( وسنن الوضوء : غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء لمن
استيقظ من نومه ) لحديث المستيقظ ؛ ثم قيل إن كان الإناء صغيرا يرفعه بيده اليسرى
ويصب على اليمنى ، ثم باليمنى فيصب على اليسرى ، لتقع البداءة باليمنى كما هو السنة ؛
وإن كان الإناء كبيرا يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة دون الكف ، ويأخذ الماء فيغسل يديه
لوقوع الكفاية بذلك ، ولا يكتفي بدون ذلك في العادة . قال : ( وتسمية الله تعالى في ابتدائه )
لمواظبته ( صلى الله عليه وسلم ) عليها . وقال عليه الصلاة والسلام : ' من توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهورا
لجميع بدنه ، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما أصاب الماء ' . قال :
( والسواك ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) واظب عليه وقال : ' أوصاني خليلي جبريل بالسواك ' . قالوا : والأصح
أنه مستحب . قال : ( والمضمضة والاستنشاق ثلاثا ثلاثا ) يأخذ لكل مرة ماء جديدا
لمواظبته ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك كذلك .(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
قال : ( ومسح جميع الرأس والأذنين بماء واحد ) لما روي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ ومسح بجميع
رأسه ' وقد تقدم أنه مسح بناصيته ، فيكون فرضا ، ويكون مسح الجميع سنة . وقال عليه
الصلاة والسلام : ' الأذنان من الرأس ' والمراد بيان الحكم دون الخلقة .
قال : ( وتخليل اللحية ) لما روي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا توضأ شبك أصابعه في لحيته كأنها
أسنان المشط ' وقيل هو سنة عند أبي يوسف جائز عندهما ، لأن السنة إكمال الفرض في
محله وباطن اللحية لم يبق محلا للفرض .
قال : ( و ) تخليل ( الأصابع ) لأنه إكمال الفرض في محله ، ولقوله عليه الصلاة
والسلام : ' خللوا أصابعكم قبل أن تتخللها نار جهنم ' . قال : ( وتثليث الغسل ) فالواحدة
فرض ، والثالثة سنة ، والثانية دونها في الفضيلة ؛ وقيل : الثانية سنة ، والثالثة إكمال السنة ،
وأصله الحديث المشهور أنه عليه الصلاة والسلام توضأ ثلاثا وقال : ' هذا وضوئي ووضوء
الأنبياء من قبلي ' . وما روي أن عثمان رضي الله عنه توضأ بالمقاعد فغسل وجهه ثلاثا
ويديه ثلاثا ، ومسح برأسه مرة واحدة ، وغسل رجليه ثلاثا وقال : هكذا توضأ رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : ( ويستحب في الوضوء النية والترتيب ) ليقع قربة وليخرج عن عهدة الفرض
بالإجماع ، وكذا يستحب الموالاة ، وهو أن لا يشتغل بين أفعال الوضوء بغيرها ، وليس
ذلك بفرض لقوله تعالى : ) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( [ المائدة : 6 ] الآية من غير
اشتراطها ، ولأنه ذكر بحرف الواو ، وإنها للجمع بإجماع أئمة النحو واللغة نقلا عن
السيرافي ، والزيادة على النص نسخ ، ولا يجوز نسخ الكتاب بالخبر لأنه راجح ؛ وقيل :
إنهما سنتان وهو الأصح لمواظبته ( صلى الله عليه وسلم ) عليهما ( والتيامن ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إن
الله يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل ' ( ومسح الرقبة ) قيل : سنة ، وقيل :
مستحب ، ويكره أن يستعين في وضوئه بغيره إلا عند العجز ليكون أعظم لثوابه وأخلص(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
لعبادته ويصلي بوضوء واحد ما شاء من الفرائض والنوافل ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى يوم الخندق
أربع صلوات بوضوء واحد .
فصل
( وينقضه كل ما خرج من السبيلين ومن غير السبيلين إن كان نجسا وسال عن رأس
الجرح ) لقوله تعالى : ) أو جاء أحد منكم من الغائط ( [ النساء : 43 ] والغائط حقيقة المكان
المطمئن ، وليست حقيقته مرادة فيجعل مجازا عن الأمر المحوج إلى المكان المطمئن ، وهذه
الأشياء تحوج إليه لتفعل فيه تسترا عن الناس على ما عليه العادة ، حتى لو جاء من المكان
المطمئن من غير حاجة لا يجب عليه الوضوء إجماعا ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' الوضوء
من كل دم سائل ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف
وليتوضأ ' الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' يعاد الوضوء من سبع ' وعد منها
القيء ملء الفم ، والدم السائل ، والقهقهة ، والنوم . ويشترط السيلان في الخارج من غير
السبيلين ، لأن تحت كل جلدة دما ورطوبة ، فما لم يسل يكون باديا لا خارجا بخلاف
السبيلين ، لأنه متى ظهر يكون متنقلا فيكون خارجا .
قال : ( والقيء ملء الفم ) لما تقدم وهو ما لا يمكنه إمساكه إلا بمشقة ، وإن قاء قليلا
قليلا ، ولو جمع كان ملء الفم ، فأبو يوسف اعتبر اتحاد المجلس ، لأنه جامع للمتفرقات
على ما عرف في سجدة التلاوة وغيرها ، ومحمد اعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان لأنه دليل
على اتحاده ، وعند زفر ينقض القليل أيضا كالخارج من السبيلين وقد مر جوابه ؛ ولا ينقض
إذا قاء بلغما وإن ملأ الفم ، وقال أبو يوسف : إن كان من الجوف نقض لأنه محل النجاسة
فأشبه الصفراء ، قلنا البلغم طاهر ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأخذه بطرف ردائه وهو في الصلاة ،
ولهذا لا ينقض النازل من الرأس بالإجماع ، وهو للزوجته لا تتداخله النجاسة ، وبقي ما
يجاوره من النجاسة وهو قليل ، والقليل غير ناقض بخلاف الصفراء فإنها تمازجها ( وإن قاء
دما أو قيحا نقض وإن لم يملأ الفم ) وقال محمد : لا ينقض ما لم يملأ الفم كغيره من(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
الأخلاط . قلنا المعدة ليست محلا للدم ، والقيح إنما يسيل إليها من قرحة أو جرح ، فإذا
خرج فقد سال من موضعه فينقض حتى لو قاء علقا لا ينقض ما لم يملأ الفم ، لأنه يكون
في المعدة ، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه ( وإذا اختلط الدم بالبصاق إن
غلبه نقض ) حكما للغالب ، وكذا إذا تساويا احتياطا وإن غلب البصاق لا ، لأن القليل
مستهلك في الكثير فيصير عدما .
قال : ( وينقضه النوم مضطجعا ) لما روينا ، ( وكذلك المتكئ والمستند ) لأنه مثله في
المعنى . قال عليه الصلاة والسلام : ' العين وكاء السه ، فإذا نامت العين انحل الوكاء ' .
قال : ( والإغماء والجنون ) لأنهما أبلغ في إزالة المسكة من النوم ، لأن النائم يستيقظ بالانتباه ،
والمجنون والمغمى عليه لا . قال : ( والنوم قائما وراكعا وساجدا وقاعدا ) لا ينقض
لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا أو قاعدا ، إنما الوضوء على من
نام مضطجعا ' .
قال : ( ومس المرأة لا ينقض الوضوء ) لرواية عائشة رضي الله عنها ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبّل
بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ' والآية متعارضة التأويل ، فإن ابن عباس رضي الله عنه
قال : المراد باللمس الجماع ، وقد تأكد بفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وكذا مس الذكر ) لقوله عليه الصلاة
والسلام لطلق بن علي حين سأله : هل في مس الذكر وضوء ؟ قال : ' لا ، هل هو إلا بضعة
منك ' ؟ نفى الوضوء ، ونبه على العلة وما روي ' من مس ذكره فليتوضأ ' طعن فيه
يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث . قال ( والقهقهة في الصلاة تنقض ) لما روينا ، ولقوله
عليه الصلاة والسلام : ' ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعا ' ، وأنه
ورد في صلاة كاملة فيقتصر عليها لوروده على خلاف القياس حتى لو ضحك في صلاة
الجنازة وسجدة التلاوة لا ينقض الوضوء والقهقهة أن يسمعها جاره ، وحكمها انتقاض(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
الوضوء والصلاة جميعا ، والضحك أن يسمعها هو لا غير ، قالوا : وتبطل الصلاة لا غير ؛
والتبسم ما لا يسمعه هو ولا غيره ولا حكم له ، وإن شك في نقض وضوئه ، فإن كان أول
شكه أعاده لأنه تيقن بالحدث وشك في زواله ، وإن كان يحدث له كثيرا لم يعد دفعا
للحرج ، ومن أيقن بالحدث وشك في الطهارة أو بالعكس أخذ باليقين .
فصل
( فرض الغسل : المضمضة ، والاستنشاق ، وغسل جميع البدن ) والفرق بينه وبين
الوضوء أنه مأمور بغسل الوجه في الوضوء ، والمواجهة لا تقع بباطن الأنف والفم ، وفي
الغسل مأمور بتطهير جميع البدن . قال الله تعالى : ) وإن كنتم جنبا فاطهروا ( [ المائدة : 6 ]
فيجب غسل جميع ما يمكن غسله من البدن إلا باطن العين على ما مر بخلاف باطن الأنف
والفم حيث يمكن غسلهما ، ولا ضرر فيه ، فيجب وقد تأكد ذلك بقوله عليه الصلاة
والسلام : ' إن تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة ' ، ويجب إيصال
الماء إلى أصول الشعر وأثنائه في اللحية والرأس لما تقدم إلا إذا كان ضفيرة في رواية
للحرج .
قال : ( وسننه أن يغسل يديه وفرجه ، ويزيل النجاسة عن بدنه ، ثم يتوضأ للصلاة ، ثم
يفيض الماء على جميع بدنه ثلاثا ) هكذا حكي غسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت ميمونة : ' وضعت
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) غسلا فاغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء بشماله على يمينه فغسل كفيه ، ثم أفاض
الماء على فرجه فغسله ، ثم مال بيده على الحائط أو على الأرض فدلكها ، ثم تمضمض
واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ، وأفاض الماء على رأسه ، ثم أفاض على سائر جسده ، ثم
تنحى فغسل رجليه ' . ويستحب تأخير غسل رجليه إن كانتا في مستنقع الماء لما روينا
وتحرزا عن الماء المستعمل .
قال : ( ويوجبه غيبوبة الحشفة في قبل أو دبر على الفاعل والمفعول به ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل ، قالت(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
عائشة رضي الله عنها : فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا ' ، وكذا في الدبر لأنه محل مشتهى
مقصود بالوطء كالقبل ، ولقول علي رضي الله عنه : توجبون فيه الحد ولا توجبون فيه صاعا
من ماء ؟ . وفي الزيادات يجب على المفعول به احتياطا . قال : ( وإنزال المني على وجه الدفق
والشهوة ) لأنه يوجب الجنابة إجماعا ، فيجب الغسل بالنص . وسألت أم سليم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
عن المرأة ترى في منامها أن زوجها يجامعها ، قال : ' عليها الغسل إذا وجدت الماء ' ولو
خرج لا على وجه الدفق والشهوة ، كما إذا ضرب على ظهره أو سقط من علو أو أصابه
مرض يجب الوضوء دون الغسل كما في المذي فإنه من أجزاء المني ، لكن لما لم يخرج
على وجه الدفق لم يجب الغسل ، ثم الشرط انفصاله عن موضعه عن شهوة لأن بذلك يعرف
كونه منيا وهو الشرط ، وعند أبي يوسف خروجه عن العضو ، لأن حكمه إنما يثبت بعد
الخروج فيعتبر وقتئذ .
قال : ( وانقطاع الحيض والنفاس ) أما الحيض فلقوله تعالى : ) حتى يطهرن )
[ البقرة : 222 ] بالتشديد ، منع من قربانهن حتى يغتسلن ، ولولا وجوبه لما منع . وأما
النفاس فبالإجماع ، وكذا يجب على المستحاضة إذا كملت أيام حيضها لأنها في أحكام
الحيض كالطاهرات .
قال : ( ومن استيقظ فوجد في ثيابه منيا أو مذيا فعليه الغسل ) أما المني فلقوله عليه
الصلاة والسلام : ' من ذكر حلما ولم ير بللا فلا غسل عليه ، ومن رأى بللا ولم يذكر حلما
فعليه الغسل ' . وأما المذي ففيه خلاف أبي يوسف ، لأن المذي لا يوجب الغسل كما في
حالة اليقظة . ولنا أن الظاهر أنه مني قد رق فيجب الغسل احتياطا ، والمرأة إذا احتلمت ولم
تر بللا إن استيقظت وهي على قفاها يجب الغسل لاحتمال خروجه ثم عوده ، لأن الظاهر في
الاحتلام الخروج ، بخلاف الرجل فإنه لا يعود لضيق المحل ، وإن استيقظت وهي على جهة
أخرى لا يجب .
قال : ( وغسل الجمعة والعيدين والإحرام سنة ) وقيل مستحب فإنه يوم ازدحام ،
فيستحب لئلا يتأذى البعض برائحة البعض ، وأدنى ما يكفي من الماء في الغسل صاع وفي(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
الوضوء مد ، والصاع ثمانية أرطال ، والمد رطلان ، لما روي ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يغتسل
بالصاع ويتوضأ بالمد ' . ثم اختلفوا هل المد من الصاع أم من غيره ؟ وهذا ليس بتقدير
لازم حتى لو أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك جاز ، ولو اغتسل بأكثر منه جاز ما لم يسرف
فهو المكروه .
قال : ( ولا يجوز للمحدث والجنب مس المصحف إلا بغلافه ) غير المشرز لقوله
تعالى : ) لا يمسه إلا المطهرون ( [ الواقعة : 79 ] ولا بأس أن يمسه بكمه ، وكرهه بعضهم
( ولا يجوز للجنب قراءة القرآن ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يقرأ الجنب ولا الحائض
شيئا من القرآن ' ، وعن الطحاوي أنه يجوز له بعض آية ، والحديث لا يفصل ، ولا بأس
بأن يقرأ شيئا منه لا يريد به القرآن كالبسملة والحمدلة ( ويجوز له الذكر والتسبيح والدعاء )
لأن المنع ورد عن القرآن خاصة ( ولا يدخل المسجد إلا لضرورة ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا أحل
المسجد لجنب ولا حائض ' فإن احتاج إلى ذلك تيمم ودخل ، لأنه طهارة عند عدم الماء ،
وإن نام في المسجد فأجنب ، قيل لا يباح له الخروج حتى يتيمم ، وقيل يباح ( والحائض
والنفساء كالجنب ) في جميع ذلك .
فصل
( تجوز الطهارة بالماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، كالمطر وماء العيون والآبار
وإن تغير بطول المكث ) والأصل فيه قوله تعالى : ) وأنزلنا من السماء ماء طهورا (
[ الفرقان : 48 ] . وتوضأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من آبار المدينة وقال : ' الماء طهور لا ينجسه
شيء إلا ما غيّر طعمه أو لونه أو ريحه ' وطول المكث لا ينجسه فيبقى طاهرا .
قال : ( ويجوز بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه ) ولم يزل رقته ( كالزعفران(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
والأشنان وماء المد ) وفي اللبن روايتان ( ولا تجوز بماء غلب عليه غيره فأزال عنه طبع
الماء كالأشربة والخل وماء الورد ) وطبع الماء كونه سيالا مرطبا مسكنا للعطش ( وتعتبر الغلبة
بالأجزاء ) والأصل فيه أن الماء الذي خالطه شيء من الطين يجوز الوضوء به إجماعا لبقاء
اسم الماء المطلق ، ولا يجوز بالخل إجماعا لزوال الاسم عنه ، فكل ما غلب على الماء
وأخرجه عن طبعه ألحقناه بالخل ، وما غلب عليه الماء وطبعه باق ألحقناه بالأول ، لأنه على
حكم الإطلاق ، وإضافته إليه كإضافته إلى العين والبئر ، وإن تغير بالطبخ لا يجوز كالمرق إلا
ما يقصد به التنظيف كالسدر والحرض والصابون ما لم يثخن ، فإنه يجوز لورود السنة بغسل
الميت بذلك ( و ) أما ( الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة لا يجوز الوضوء به ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب ' .
قال : ( إلا أن يكون عشرة أذرع في عشرة ) أذرع ؛ والأصل أن الماء القليل ينجس بوقوع
النجاسة فيه والكثير لا ، لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر : ' هو الطهور ماؤه ' واعتبرناه
فوجدناه ما لا يخلص بعضه إلى بعض ، فنقول : كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس
بوقوع النجاسة فيه ، وهذا معنى قولهم لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر ، وامتحن
المشايخ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشرا في عشر فقدروه بذلك تيسيرا . وقال أبو مطيع
البلخي : إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يخلص ، أما عشرين في عشرين لا أرى في
نفسي شيئا ؛ وإن كان له طول ولا عرض له ، فالأصح أنه إن كان بحال لو ضم طوله إلى
عرضه يصير عشرا في عشر فهو كثير ؛ والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف ، ثم
إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع للتيقن بالنجاسة برؤية عينها وإن كانت
غير مرئية ، فلو توضأ منه جاز لعدم التيقن بالنجاسة لاحتمال انتقالها ؛ ومنهم من قال : لا
يجوز أيضا ، لأن الظاهر بقاؤها في الحال .
قال : ( والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة ولم ير لها أثر جاز الوضوء منه ) من أي
موضع شاء ( والأثر طعم أو لون أو ريح ) لأنها لا تبقى مع الجريان ، والجاري : ما يعده
الناس جاريا هو الأصح ، ولو وقعت جيفة في نهر كبير لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
الجيفة ويتوضأ من أسفل الجانب الآخر ؛ وإن كان النهر صغيرا إن كان يجري أكثر الماء
عليها لا يجوز ، وإن كان أقله يجوز ، وإن كان نصفه يجوز ، والأحوط الترك . وعن محمد
في ماء المطر إذا مرّ بالنجاسة ولا يوجد أثرها يتوضأ منه . لأنه كالجاري . قال : ( وما كان
مائي المولد من الحيوان موته في الماء لا يفسده ) كالسمك والضفدع والسرطان لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' هو الطهور ماؤه الحل ميتته ' فاستفدنا به عدم تنجسه بالموت وإذا لم
يكن نجسا لا ينجس ما يجاوره ، ولأنه لا دم في هذه الأشياء وهو المنجس ، إذ الدموي لا
يتوالد في الماء ، وكذا لو مات خارج الماء ثم وقع فيه لما بينا ، ولو مات في غير الماء
كالخل واللبن روي عن محمد أنه لا يفسده ، وسواء فيه المنتفخ وغيره ، وعنه أنه سوّى بين
الضفدع البري والمائي ؛ وقيل إن كان للبري دم سائل أفسده ، وهو الصحيح .
قال : ( وكذا ما ليس له نفس سائلة كالذباب والبعوض والبق ) إذا مات في المائع لا
يفسده ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه ثم انقلوه '
الحديث ، وأنه يموت بالمقل في الطعام سيما الحار منه ، ولو كان موته ينجس الطعام لما أمر
به . قال : ( وما عداهما يفسد الماء القليل ) لأنه دموي ينجس بالموت فينجس ما يجاوره
كالآدمي الميت إذا وقع في الماء ينجسه ، لأنه تنجس بالموت . وإن وقع بعد الغسل فكذلك
إن كان كافرا ، وإن كان مسلما لا ينجسه ، لأنه لما حكم بجواز الصلاة على المسلم حكم
بطهارته ولا كذلك الكافر فافترقا . قال : ( والماء المستعمل لا يطهر الأحداث ؛ وهو ما أزيل
به حدث ، أو استعمل في البدن على وجه القربة ) كالوضوء على الوضوء بنية العبادة ( ويصير
مستعملا إذا انفصل عن العضو ) . وروى النسفي أنه لا يصير مستعملا حتى يستقر في مكان ،
والأول المختار . وقال محمد : لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة لا غير ، وإنما يقع قربة
بالنية ، وتظهر ثمرته في الجنب المنغمس في البئر لطلب الدلو فعندهما طاهران ، لأن النية
عنده شرط في صيرورة الماء مستعملا ، وليست بشرط في إزالة الجنابة ؛ وعند أبي يوسف(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
الرجل بحاله لعدم الصب ، والماء بحاله لعدم إزالة الحدث ؛ وعند أبي حنيفة هما نجسان :
الماء لإزالته الجنابة عن البعض ، والرجل لبقاء الحدث في باقي الأعضاء . وقيل يطهر من
الجنابة ثم يتنجس بنجاسة الماء المستعمل حتى يجوز له قراءة القرآن ونحوه . وقيل هو طاهر
لأن الماء لا يصير مستعملا إلا بعد الانفصال ، وعلى هذا لو توضأ محدث للتبرد يصير الماء
مستعملا خلافا لمحمد ؛ ثم الماء المستعمل طاهر غير طهور عند محمد ، وهو روايته عن أبي
حنيفة ، وهو اختيار أكثر المشايخ ، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادرون إلى وضوء
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيمسحون به وجوههم ولم يمنعهم ، ولو كان نجسا لمنعهم كما منع الحجام
من شرب دمه .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مغلظة لأنه أزال النجاسة الحكمية فصار
كما إذا أزال الحقيقة ، بل أولى لأن النجاسة الحكمية أغلط حتى لا يعفى عن القليل منها ؛
وعند أبي يوسف وهي روايته عن أبي حنيفة أن نجاسته خفيفة لمكان الاختلاف . وقال زفر :
إن كان المستعمل محدثا فهو كما قال محمد ، وإن كان طاهرا فهو طهور ، لأنه لم يزل
النجاسة فلم يتغير وصفه .
قال : ( وكل إهاب دبغ فقد طهر ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أيما إهاب دبغ فقد
طهر ' . قال : ( إلا جلد الآدمي لكرامته ) فيحرم الانتفاع بشيء من أجزائه لما فيه من الإهانة
( و ) إلا جلد ( الخنزير لنجاسة عينه ) قال الله تعالى : ) فإنه رجس ) [ الأنعام : 145 ] وهو
أقرب المذكورات فيصرف إليهم ؛ والفيل كالخنزير عند محمد ، وعندهما ينتفع به ويطهر
بالذكاة ؛ وعند محمد : إذا أصلح مصارين ميتة أو دبغ المثانة طهرت حتى يتخذ منها الأوتار ،
وما ظهر بالدباغ يطهر بالذكاة ، لأنها تزيل الرطوبات كالدباغ ، والدباغ أن يخرجه من حد
الفساد سواء كان بالتراب أو بالشمس أو غيرهما .
قال : ( وشعر الميتة وعظمها طاهر ) لأن الحياة لا تحلهما حتى لا تتألم بقطعهما فلا
يحلهما الموت وهو المنجس ، وكذلك العصب والحافر والخف والظلف والقرن والصوف
والوبر والريش والسن والمنقار والمخلب لما ذكرنا ، ولقوله تعالى : ) ومن أصوافها
وأوبارها وأشعارها ( [ النحل : 80 ] امتن بها علينا من غير فصل ( وشعر الإنسان وعظمه
طاهر ) وهو الصحيح ، إلا أنه لا يجوز الانتفاع به لما بيّنا ؛ أما الخنزير فجميع أجزائه
نجسة لما مر عن محمد أن شعره طاهر حتى يحل الانتفاع به ، وجوابه أنه رخص
للخرازين للحاجة ضرورة .(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
فصل
( إذا وقعت في البئر نجاسة فأخرجت ثم نزحت طهرت ) والقياس أنه لا تطهر ، لأنه إذا
تنجس الماء تنجس الطين ، فإذا نزح الماء بقي الطين نجسا ، فكلما نبع الماء نجسه لكنا
خالفنا القياس بإجماع السلف ، وما روي عنهم من الآثار غير معقول المعنى ، فالظاهر أنهم
قالوه سماعا ( وإذا وقع في آبار الفلوات من البعر والروث والأخثاء لا ينجسها ما لم يستكثره
الناظر ) لأن آبار الفلوات بغير حواجز ، والدواب تبعر حولها والرياح تلقيها فيها ، فكان في
القليل ضرورة دون الكثير . وحده أن يأخذ ربع وجه الماء عن محمد ، وقيل ثلثه ، وقيل أن
لا يخلو دلو من شيء منه ؛ والمختار ما ذكره في الكتاب وهو أن يستكثره الناظر ، وهو
المروي عن صاحب المذهب رضي الله عنه ، والرطب واليابس والصحيح والمنكسر سواء
لعموم البلوى وآبار الأمصار كذلك ؛ وقيل يعتبر ما ذكرنا من الضرورة .
قال : ( وخرء الحمام والعصفور لا يفسدها ) لأنه ليس بنجس على ما سيأتي إن شاء
الله تعالى قال : ( وإذا مات في البئر فأرة أو عصفورة أو نحوهما نزح منها عشرون دلوا إلى
الثلاثين ) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه ينزح منها دلاء ، وعن أنس عشرون دلوا ،
وعن النخعي عشرون أو ثلاثون ، فالعشرون للإيجاب والثلاثون للاستحباب ؛ وعن محمد
في الفأرتين عشرون ، وفي الثلاث أربعون ؛ وعن أبي يوسف في الفأرة عشرون إلى أربع ،
وفي الخمس أربعون إلى تسع ، وفي العشر جميع الماء . قال : ( وفي الحمامة والدجاجة
ونحوهما من أربعين إلى ستين ) هكذا روي عن أبي سعيد الخدري ، ولأنها ضعف الفأرة
فضعفنا الواجب ( وفي الآدمي والشاة والكلب جميع الماء ) هكذا حكم ابن عباس وابن
الزبير في بئر زمزم حين مات فيها الزنجي ، ولأنه لثقله ينزل إلى قعر البئر فيلاقي جميع
الماء .
قال : ( وإن انتفخ الحيوان أو تفسخ نزح جميع الماء ) لأنه لا يخلو عن بلة نجسة
فتشيع ، فصار كما إذا وقعت ابتداء ؛ ولو وقع الحيوان في البئر ثم أخرج حيا فإن كان
طاهرا كالآدمي وما يؤكل لحمه ، فإن لم يكن على بدنه نجاسة لم ينزح شيء ، وإن كان
على مخرجه نجاسة نزح الجميع ، وكذلك سباع الطير والوحش وهو الصحيح ، وكذلك(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
البغل والحمار لا يصير الماء مشكوكا فيه ، لأن بدن هذه الحيوانات طاهر ، وإن وصل الماء
إلى لعابه أخذ حكمه . وذكر القدوري : إن كان الرجل محدثا نزح أربعون دلوا ، وإن كان
جنبا فالجميع . وقال محمد : إن نوى الغسل أو الوضوء يصير مستعملا فيفسد وإلا فلا .
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في الكافر ينزح جميع الماء فإنه لا يخلو بدنه من النجاسة
غالبا .
قال : ( ويعتبر في كل بئر دلوها ) لأن السلف أطلقوا فينصرف إلى المعتاد كما في
النقود ؛ وعن أبي حنيفة أنه قدره بالصاع ( وإذا لم يكن إخراج جميع الماء نزح منها مائتا
دلو إلى ثلاثمائة ) لأن غالب ماء الآبار لا يزيد على ذلك ، وهذا أيسر على الناس ، وهو
المروي عن محمد . وقال أبو حنيفة : ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر فيه شيئا ، فيعمل
بغلبة الظن ، فيرجع إلى قول رجلين لهما معرفة بذلك . وإذا نزح ما وجب نزحه وحكم
بطهارة البئر طهر الدلو والرشا والبكرة ونواحيها ويد المستقي ، مروي ذلك عن أبي يوسف
رحمه الله .
فصل
( سؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر ) الأسآر أربعة : طاهر غير مكروه ، وهو
سؤر الآدمي جنبا كان أو حائضا أو مشركا ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرب وأعطى فضل سؤره أعرابيا
عن يمينه فشرب ، ثم شرب أبو بكر سؤر الأعرابي ؛ وأراد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يصافح أبا هريرة فقال :
إني جنب ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ' المؤمن لا ينجس ' وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله
عنها : ' ناوليني الخمرة ' قالت : إني حائض ، قال : ' ليست حيضتك في يدك ' إشارة إلى(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
أن النجس موضع الحيض ، ولأن بدن الإنسان طاهر مسلما كان أو كافرا ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنزل
وفد ثقيف في المسجد ، ولو كانت أبدانهم نجسة لم ينزلهم فيه تنزيها له وكذا سؤر ما
يؤكل لحمه لأنه متولد من لحمه فيكون طاهرا كاللبن إلا الدجاجة المخلاة والإبل والبقر
الجلالة فإنه مكروه لاحتمال بقاء النجاسة على منقارها وفمها ، وكذا سؤر الفرس ، لأن كراهة
لحمه عند أبي حنيفة لاحترامه لا لنجاسته ، وعنه أنه مكروه كلحمه .
( والثاني ) طاهر ( مكروه ، وهو سؤر الهرة والدجاجة المخلاة وسواكن البيت ) كالحية
والعقرب والفأرة ، لأن نجاسة لحمها توجب نجاسته ، إلا أنه لما لم يكن الاحتراز عنه
لكونها من الطوافات علينا كما أشار إليه النص فقلنا بالطهارة مع الكراهة ، ( و ) كذا سؤر
( سباع الطير ) لأن الأصل طهارة المنقار إلا أنها تأكل الميتات فقلنا بالكراهة ، والماء
المكروه إذا توضأ به مع وجود الماء المطلق كان مكروها ، وعند عدمه لا يكون
مكروها .
( والثالث نجس ، وهو سؤر الخنزير والكلب وسباع البهائم ) أما الخنزير فلأنه نجس
العين ولعابه يتولد من لحمه . وأما الكلب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء
من ولوغه ثلاثا ، وفي رواية سبعا ، ولسانه يلاقي الماء دون الإناء فكان أولى بالنجاسة .
وأما سباع البهائم فلأن فيه لعابها ، وأنه نجس لتولده من لحم نجس كاللبن بخلاف العرق فإن
فيه ضرورة لعموم البلوى .
( والرابع مشكوك فيه وهو سؤر البغل والحمار ) لتعارض الأدلة ، فإن حرمة اللحم
واللبن دليل النجاسة ، وطهارة العرق دليل الطهارة ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يركب الحمار
معروريا في حر الحجاز ويصيب العرق ثوبه ، وكان يصلي في ذلك الثوب . ومعنى
الشك التوقف فيه فلا ينجس الطاهر ولا يطهر النجس ( وعند عدم الماء يتوضأ به ويتيمم )
احتياطا للخروج عن العهدة ، وأيهما قدّم جاز ، لأن المطهر منهما غير متيقن فلا فائدة في
الترتيب . وقال زفر : يبدأ بالوضوء ليصير عادما للماء حقيقة . وجوابه إن كان طهورا فالتيمم
ضائع قبله أو بعده ، وإن كان غير طهور فالتيمم معتبر سواء كان قبله أو بعده ، ولا معنى
لاشتراط الترتيب ، ثم قيل الشك في طهارته لتعارض الأدلة ؛ وعن محمد الشك في
طهوريته لأنا لا نأمره بغسل الأعضاء إذا توضأ به بعدما وجد الماء ، وعرق كل دابة مثل
سؤرها .(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
باب التيمم
وهو في اللغة مطلق القصد ، قال الشاعر :
ولا أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
وفي الشرع قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة ، وسبب
وجوبه ما هو سبب وجوب الوضوء ، وشرط جوازه العجز عن استعمال الماء لأنه خلف
الوضوء ، فلا يشرع معه ، والأصل في جواز التيمم قوله تعالى : ) فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا ( [ النساء : 43 ] . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' التيمم كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد
الماء ' .
قال : ( من لم يقدر على استعمال الماء لبعده ميلا أو لمرض أو برد أو خوف عدو أو
عطش أو عدم آلة ) يستقي بها ( يتيمم بها كان من أجزاء الأرض كالتراب والرمل والجص
والكحل ) أما بعد الماء فلقوله تعالى : ) فلم تجدوا ماء فتيمموا ( ، وأما التقدير بالميل فلما
يلحقه من الحرج بذهابه إليه وإيابه ، والميل : ثلث فرسخ ، وأما المرض فللآية ؛ وسواء
خاف ازدياد المرض أو طوله ، أو خاف من برد الماء أو من التحريك للاستعمال ، لأن
الآية لا تفصل ؛ وكذلك الصحيح إذا خاف المرض من استعمال الماء البارد لما فيه من
الحرج ، ويستوي فيه المصر وخارجه ، وقالا : لا يجوز التيمم في مصر ، لأن الغالب قدرته
على الماء المسخن . قلنا لا نسلم ذلك في حق الغريب الفقير ، على أن الكلام عند عدم
القدرة فيكون عاجزا فيتيمم بالنص ؛ وكذلك لو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع لأنه عادم
حقيقة ، وكذلك إن كان معه ماء ويخاف العطش لو استعمله فإنه يتيمم ، لأنه عادم حكما ،
إما لخوف الهلاك ، أو لأنه مشغول بالأهم فصار عادما ، وكذلك إذا كان على بئر وليس
معه ما يستقي به لأنه عادم أيضا حكما ، ويتيمم بما كان من أجزاء الأرض لقوله تعالى :
) صعيدا طيبا ( .
والصعيد : ما يصعد على وجه الأرض لغة ، والطيب : الطاهر ، وحمله على ذلك أولى
من حمله على المنبت ، لأن المراد من الآية التطهير لقوله تعالى : ) ولكن يريد ليطهركم
[ المائدة : 6 ] فكان إرادة التطهير أليق ، وهو حجة على أبي يوسف في التخصيص بالتراب
والرمل ، وعلى الشافعي في التخصيص بالتراب لا غير بناء على أن المراد بالطيب المنبت ،
ولأن الطيب اسم مشترك بين الطاهر والمنبت والحلال . وإرادة ما ذكرنا أولى لما بيّنا ، ثم(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
كل ما لا يلين ولا ينطبع بالنار فهو من جنس الأرض ، وكل ما يلين وينطبع أو يحترق فيصير
رمادا ليس من جنس الأرض ، لأن من طبع الأرض أن لا تلين بالنار .
( ولا بد فيه من الطهارة ) لما قدمنا ( و ) لا بد من ( النية ) وهي أن ينوي رفع الحدث أو
استباحة الصلاة . وقال زفر : لا تشترط النية كالوضوء . ولنا أنه مأمور بالتيمم وهو القصد ؛
والقصد : النية فلا بد منها ، بخلاف الوضوء فإنه مأمور بغسل الأعضاء وقد وجد ثم التراب
ملوّث ومغبر ، وإنما يصير مطهرا ضرورة إرادة الصلاة وذلك بالنية بخلاف الوضوء ، لأن
الماء مطهر في نفسه فاستغنى في وقوعه طهارة عن النية ، لكن يحتاج إليها في وقوعه عبادة
وقربة . قال : ( ويستوي فيه المحدث والجنب ) للآية . ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن
ياسر حين أجنب فتمعك بالتراب : ' يكفيك ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى
المرفقين ' .
( والحائض ) والنفساء كالجنب ( وصفة التيمم أن يضرب بيديه على الصعيد فينفضهما ثم
يمسح بهما وجهه ، ثم يضربهما كذلك ويمسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها مع
المرفق ) لحديث عمار ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة
للذراعين إلى المرفقين ' . ( والاستيعاب شرط ) حتى يخلل أصابعه ذكره محمد في الأصل ،
وهو ظاهر الرواية اعتبارا بالوضوء . وروى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة إذا يمم الأكثر
جاز لما فيه من الحرج والأول أصح ( ويجوز قبل الوقت ) تمكينا له من الأداء في أول
الوقت ، وكما في الوضوء لأنه خلفه ، ( ويجوز . قبل طلب الماء ) لأنه عادم حقيقة ، والظاهر
العدم في المفاوز إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء فلا يجوز ما لم يطلب لأنه واجد نظرا
إلى الدليل ، والدليل إخبار أو علامة يستدل بها على الماء ويطلبه مقدار غلوة ، وهي مقدار
رمية سهم ولا يبلغ ميلا ، وقيل مقدار ما لا ينقطع عن رفقائه .
( ولو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لم يعد ) لأنه أتى بما أمر به وهو الصلاة بالتيمم
فخرج عن العهدة ( وإن وجده في خلال الصلاة توضأ واستقبل ) لأنه قدر على الأصل قبل(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
حصول المقصود بالخلف ، ولأن التيمم ينتقض برؤية الماء فانتقضت طهارته فيتوضأ ويستقبل
( ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الصلوات كالوضوء ) فرضا ونفلا لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء أو يحدث ' .
ولأن طهارته ضرورة عدم الماء وهي قائمة ( ويستحب تأخير الصلاة لمن طمع
في ) وجود ( الماء ) ليؤديها بأكمل الطهارتين ( وتجوز الصلاة على الجنازة بالتيمم إذا خاف
فوتها لو توضأ ) لأنها لا تعاد على ما يأتيك إن شاء الله تعالى فتفوت ( وكذلك صلاة
العيد ) لأنها لا تعاد ولا تقضى وهو مخاطب بها ، ولا يمكنه أداؤها بالوضوء فيتيمم
كالمريض .
قال : ( ولا يجوز للجمعة وإن خاف الفوت ) لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر ، لأن
الظهر فرض الوقت على ما نبينه إن شاء الله تعالى ( ولا ) يجوز ( للفرض إذا خاف فوت
الوقت ) لأنها تفوت إلى خلف وهو القضاء .
قال : ( وينقضه نواقض الوضوء ) لأنه خلف عنه ، وما ينقض الأصل أولى أن ينقض
الخلف لأن الأصل أقوى . قال : ( و ) ينقضه ( القدرة على الماء واستعماله ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' ما لم تجد الماء ' والماء موضوع في الحب وغيره بالفلاة لا ينقضه لأنه موضوع
للشرب .
قال : ( ولو صلى المسافر بالتيمم ونسي الماء في رحله لم يعد ) وقال أبو يوسف : يعيد
لأنه تيمم قبل الطلب مع الدليل ، فإن الرحل لا يخلو عن الماء عادة ، وصار كما إذا صلى
عريانا ونسي الثوب ، أو كفر بالصوم ونسي المال . ولهما أنه عاجز عن استعمال الماء لأنه لا
قدرة عليه مع النسيان ، وعجزه بأمر سماوي وهو النسيان .
قال عليه الصلاة والسلام للذي أفطر ناسيا : ' إنما أطعمك ربك وسقاك ' بخلاف(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
المحبوس ، لأن العجز من جهة العباد فلا يؤثر في إسقاط حق الشرع فلا يجوز له التيمم .
وأما مسألة الثوب فممنوعة على الصحيح ، ولئن سلمت فالفرق أن الوضوء فات إلى خلف
وستر العورة فات لا إلى خلف . وأما مسألة الكفارة فالفرق أن شرط جواز الصوم عدم كون
المال في ملكه ولم يوجد ، وشرط جواز التيمم العجز عن استعمال الماء وقد وجد ، والرحل
عادة لا يخلو عن ماء الشرب ، أما ماء الوضوء فالغالب العدم فيه ، ولو ظنّ أن ماءه قد فني
ولم يتقين لم يجز تيممه ، لأن اليقين لا يزول بالظن .
( ويطلب الماء من رفيقه ) لاحتمال أن يعطيه ( فإن منعه تيمم ) لأن بالمنع صار عادما
للماء ، وإن تيمم قبل الطلب جاز عند أبي حنيفة لأنه عاجز ولا يجب عليه الطلب ؛
وعند أبي يوسف لا يجوز لأن الماء مبذول عادة فصار كالموجود ، وعلى قياس قول
محمد إن غلب على ظنه أنه يعطيه لا يجوز ، وإلا يجوز ( ويشتري الماء بثمن المثل إذا
كان قادرا عليه ) لأن القدرة على البدل قدرة على المبدل ( ولا يجب عليه أن يشتريه
بأكثر ) والكثير : ما فيه غبن فاحش ، وهو ضعف ثمن المثل في ذلك المكان لأنه ضرر
به .
وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا قدر أن يشتري ما يساوي درهما بدرهم ونصف لا
يتيمم ؛ وقيل يعتبر الغبن الفاحش ، وهو ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين .
قال : ( ولا يجمع بين الوضوء والتيمم ، فمن كان به جراحة ) يضرها الماء ووجب عليه
الغسل ( غسل بدنه إلا موضعها ولا يتيمم لها ) وكذلك إن كانت الجراحة في شيء من أعضاء
الوضوء غسل الباقي إلا موضعها ، ولا يتيمم لها وإن كان الجراح أو الجدري في أكثر جسده
فإنه يتيمم ولا يغسل بقية جسده ، لأن الجمع بينهما جمع بين البدل والمبدل ولا نظير له في
الشرع ، بخلاف الجمع بين التيمم وسؤر الحمار ، لأن الفرض يتأدى بأحدهما لا بهما ،
فجمعنا بينهما لمكان الشك .
وإن كان النصف جريحا والنصف صحيحا لا رواية فيه ؛ واختلف فيه
المشايخ ؛ فمنهم من أوجب التيمم لأنه طهارة كاملة ، ومنهم من أوجب غسل الصحيح
ومسح الجريح إذا لم يضره المسح لأنها طهارة حقيقية وحكمية فكان أولى ، والأول
أحسن .(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
باب المسح على الخفين
الأصل في جوازه السنة ، وهي ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليها ، والمقيم يوما وليلة ' . وقال الحسن
البصري : حدثني سبعون رجلا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم رأوه يمسح على الخفين .
وقال أبو حنيفة : من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر ، فإنه ورد فيه من الأخبار ما
يشبه التواتر . وقال أبو يوسف : يجوز نسخ القرآن بمثله . وقال أبو حنيفة : لولا أن المسح لا
يختلف فيه لما مسحنا .
قال : ( ويجوز لمن وجب عليه الوضوء لا الغسل ) لحديث صفوان قال : ' أمرنا رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها لا عن جنابة ، لكن عن بول أو
غائط أو نوم ' . ( ويشترط لبسهما على طهارة كاملة ) سواء أكملت قبل اللبس أو بعده ، حتى
لو غسل رجليه ثم لبس خفيه ، ثم أكمل الطهارة جاز المسح . وكمال الطهارة شرط عند
الحدث ، لأن الخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل ، ولا يرفعه فيظهر حكمه عند الحدث
فيعتبر الشرط عنده . قال : ( ويمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ) للحديث
أولها ( عقيب الحدث بعد اللبس ) لأن ما قبل ذلك فهي طهارة الغسل لا المسح ، لأن الخف
جعل مانعا من سراية الحدث ، وذلك عند الحدث لا قبله . قال : ( ويمسح على ظاهرهما )
حتى لو مسح باطنه أو عقبه أو ساقه لا يجوز لقول علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي
لكان باطن الخف أولى بالمسح ، لكني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح ظاهرهما ( خطوطا
بالأصابع ) .
قال ( وفرضه مقدار ثلاثة أصابع من اليد ) ذكره محمد وهو الأصح ، لأنها آلة المسح .
وقال الكرخي : من أصابع الرجل ؛ ولو أصاب موضع المسح ماء قدر ثلاث أصابع جاز ،
وكذلك لو مشى في حشيش مبتل بالمطر ؛ ولو كان مبتلا بالطل قيل يجوز لأنه ماء ، وقيل(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
لا ، لأنه نفس دابة من البحر يجذبه الهواء إلى الأرض ( والسنة أن يبدأ من أصابع الرجل إلى
الساق ) هكذا نقل فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو بدأ من الساق إلى الأصابع جاز لحصول المقصود إلا
أنه خلاف السنة .
قال : ( ولا يجوز على خف فيه خرق يبين منه مقدار ثلاثة أصابع من أصابع الرجل
الصغار ) وإن كان أقل من ذلك يجوز ، لأن خفاف الناس لا تخلو عن القليل ، فلو اعتبرناه
لخرجوا ، ولا كذلك الكبير ، ولأن الكبير يمنع المشي المعتاد ، فلا يجوز المسح عليه كاللفافة
ولا كذلك القليل ، والخرق المانع أن يكون منفرجا يظهر ما تحته حتى لو كان طولا ، أو كان
الخف قويا لا يبين ما تحته لا يمنع ، لأن المعتبر الظهور حتى يجب الغسل ، فإذا لم يظهر لا
يؤثر ؛ ولو كان الخرق تحت القدم ، فإن كان أكثر القدم منع ، وإن كان فوق الكعبين لم يمنع
وإن كثر ، واعتبر ثلاثة أصابع لأنها أكثر الرجل والأصابع هي الأصل في القدم ، واعتبرنا
الصغار احتياطا .
قال : ( وتجمع خروق كل خف على حدته ) ولا يجمع خروق الخفين ، ولو كانت
النجاسة في خفي المصلي أو ثوبيه أو ثوبه وبدنه تجمع ، لأن النجاسة مانعة من الصلاة
لعينها ، وحرق الخف ليس مانعا لعينه ، بل لكونه مانعا من تتابع المشي ، وذلك في الواحد لا
في الخفين . قال : ( ويجوز المسح على الجرموق فوق الخف ) لما روي أنه عليه الصلاة
والسلام مسح على الجرموقين ، ولأنهما كخف ذي طاقين ، ومعناهما إذا لبسهما على الخفين
قبل الحدث ، حتى لو لبسهما بعد الحدث أو بعد ما مسح على الخف لا يمسح عليهما ، لأن
الحدث حل الخف ؛ ويجوز المسح على المكعب إذا ستر الكعبين ، وكذا إذا كانت مقدمته
مشقوقة ، إلا أنها مشدودة أو مزررة لأنها بمنزلة المخرزة .
قال : ( ويجوز على الجوربين إذا كانا ثخينين أو ملجدين أو منعلين ) لما روي عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' أنه مسح على الجوربين ' وروي ذلك عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم .
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه أولا يقول : لا يجوز إلا أن يكونا منعلين ، لأنه لا يقطع فيهما
المسافة ، ثم رجع إلى ما ذكرنا وعليه الفتوى . قال : ( وينقضه ما ينقض الوضوء ) لأنه ينقض
الغسل فلأن ينقض المسح أولى . قال : ( ونزع الخف ) لأنه المانع من سراية الحدث إلى(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
الرجل ، فإذا نزعه زال المانع ، ولأن الجواز دفعا لحرج النزع ، ولم يبق فيغسلهما كما قبل
اللبس ، وكذلك نزع أحد خفيه لأنه يجب غسلهما ، فيجب غسل الأخرى لئلا يجمع بين
الأصل والبدل . قال : ( ومضي المدة ) لأنه رخصة ثبتت مؤقتة فتزول بمضي الوقت
كالمستحاضة . قال : ( فإذا مضت المدة نزعهما وغسل رجليه ) لما بينا ( وخروج القدم إلى ساق
الخف نزع ) لأنه لا يمكنه المشي فيه كذلك ولو خرج بعضه . قال أبو حنيفة : إن خرج أكثر
عقبه إلى الساق بطل مسحه لما تقدم . وقال أبو يوسف : ما لم يخرج أكثر القدم إلى الساق
لا يبطل لأن للأكثر حكم الكل . وقال محمد : إن بقي من القدم مقدار ثلاثة أصابع لم يبطل
لبقاء محل المسح .
قال : ( ولو مسح مسافر ثم قام بعد يوم وليلة نزع ) لأن الثلاث مدة السفر ، ولا سفر
فلا يجوز ( وقبال ذلك يتم يوما وليلة ) لأنه مقيم فليستكمل مدة الإقامة ( ولو مسح مقيم ثم
سافر قبل يوم وليلة تمم مدة المسافر ) لأنه مسافر ، فإن الحكم يتعلق بآخر الوقت كما في
المسألة المتقدمة بخلاف ما إذا سافر بعد يوم وليلة ، لأن الحدث سرى إلى الرجل فلا بد
من الغسل . قال : ( ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة والبرقع والقفازين ) واللفافة ،
لأن المسح ثبت في الخفين للحرج ، ولا حرج في نزع هذه الأشياء . قال : ( ويجوز )
المسح ( على الجبائر ) وليس بفرض عند أبي حنيفة ، وهو الصحيح حتى لو تركه من غير
ضرر جاز . وقالا : لا يجوز . لهما ما روي ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر عليا حين كسرت زنده يوم
أحد بالمسح عليها ' وقياسا على الخف . وله أن المسح بدل عن الغسل ولا يجب غسل
ما تحت الجبيرة لو ظهر بخلاف ما تحت الخف وحديث علي لا يوجب الفرضية لأنه خبر
آحاد .
قال : ( و ) يجوز ( إن شدها على غير وضوء ) لأن في اعتباره حرجا ، ولأن غسل ما
تحتها سقط بخلاف ما تحت الخفين ( فإن سقطت عن برء بطل ) لأن المسح للعذر وقد زال ،
بخلاف ما إذا سقطت لا عن برء لم يبطل المسح ، لأن العذر باق ، وإن كانت الجبيرة زائدة
على رأس الجرح ، فإن كان حل الخرقة وغسل ما تحتها يضره مسح على الكل ، وإن كان لا(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
يضره ذلك غسل ما حول الجراحة ومسح عليها لا على الخرقة ، وإن كان يضره المسح دون
الحل مسح على الخرقة التي على الجرح وغسل حواليها وما تحت الخرقة الزائدة ، لأن جواز
المسح للضرورة فيتقدر بقدرها ، وهذا التفصيل عن الحسن بن زياد ، وهكذا الكلام في
عصابة الفصاد والقروح والجراحات . وعلى هذا لو وضع على شقاق رجليه دواء لا يصل
الماء تحته يجري الماء على ظاهر الدواء لما ذكرنا .
باب الحيض
الحيض في اللغة : السيلان ، يقال حاضت الأرنب : إذا سال منها الدم ، وحاضت
الشجرة : إذا سال منها الصمغ . وفي الشرع : سيلان دم مخصوص من موضع مخصوص في
وقت معلوم . والدماء ثلاثة : حيض ( وهو الدم الذي تصير المرأة به بالغة ) بابتدائه الممتد إلى
وقت معلوم ، قاله الكرخي . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا صلاة لحائض إلا بخمار ' أي
بالغة . وقال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري : الحيض هو الدم الذي ينفضه رحم
المرأة السليمة عن الصغر والداء . واستحاضة : وهو الدم الخارج من الفرج دون الرحم .
ونفاس : وهو ما يخرج مع الولد أو عقيبه . قال : ( وأقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها ، وأكثره
عشرة بلياليها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام
بلياليها ، وأكثره عشرة أيام بلياليها ' . وعن أبي يوسف : أقله يومان ، وأكثر الثالث إقامة
للأكثر مقام الكل ، ولا اعتبار به لأنه تنقيص عن تقدير الشرع . قال : ( وما نقص عن أقله وما
زاد على أكثره ) استحاضة ، لأنه زائد على تقدير الشرع ، فلا يكون حيضا وليس بنفاس فيكون
استحاضة ، لأن الدماء الخارجة عن الرحم منحصرة في هذه الثلاثة . قال : ( وما تراه الحامل
استحاضة ) لأنها لا تحيض لأن بالحمل ينسد فم الرحم ، ويصير دم الحيض غذاء للجنين فلا
يكون حيضا .
قال : ( وهو لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء ) لقوله عليه الصلاة والسلام
للمستحاضة : ' توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير قطرا ' . وفي حديث آخر ' إنما(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
هو دم عرق انفجر ' ولا يمنع كالرعاف . قال : ( وما تراه المرأة من الألوان في مدة حيضها
حيض حتى ترى البياض الخالص ) لما روي ' أن النساء كن يعرضن الكراسف على عائشة ،
فكانت إذا رأت الكدرة قالت : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ' أي البياض الخالص .
وقال أبو يوسف : لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم ، لأن الكدرة ما يتكدر ، وأول الشيء
لا يتكدر . ولنا ما روينا عن عائشة من غير فصل ، ولأنها من ألوان الدم ، فسواء كانت أولا
وآخرا كغيرها من الألوان ، وقوله : أول الشيء لا يتكدر . قلنا : لم قلت إن هذا أوله وهذا
إنما يكون في إناء يسيل من أعلاه وهذا يسيل من أسفله ؟ فيجب أن تكون الكدرة أولا
كالجرة يثقب أسفلها فإنه يسيل الكدر أولا كذا هذا . وحكم الحيض والاستحاضة والنفاس
إنما يثبت بخروج الدم إلى الفرج الخارج ، لأنه ما لم يظهر فهو في معدنه .
قال : ( والطهر المتخلل في المدة حيض ) لأن المدة لا تستوعب بالدم فاعتبر أولها
وآخرها . قال : ( وهو يسقط عن الحائض الصلاة أصلا ، ويحرم عليها الصوم فتقضيه ) لقول
عائشة : ' كن النساء على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقضين الصوم ولا يقضين الصلاة ' ولأن
الصلاة تتكرر في كل شهر وكل يوم فتحرج في القضاء ، والصوم في السنة مرة فلا حرج
( ويحرم وطؤها ) لقوله تعالى : ) ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] والنهي للتحريم ،
وإن وطئها في الحيض إن كانا طائعين إثما ، ويكفيهما الاستغفار والتوبة ، لقول الصديق رضي
الله عنه لمن سأله عن ذلك : استغفر الله ولا تعد . وإن كان أحدهما طائعا والآخر مكرها أثم
الطائع وحده . قال في الفتاوى : وهذا في الحكم ، ويستحب أن يتصدق بدينار أو نصف
دينار . قيل : معناه إن كان في أول الحيض فدينار ، وفي آخره نصفه . وقيل : إن كان الدم
أسود فدينار ، وإن كان أصفر فنصفه ، وبجميع ذلك ورد الحديث ( ويكفر مستحله ) لأن حرمته
ثبتت بالكتاب والإجماع .
قال : ( ويستمتع بها ما فوق الإزار ) لقول ابن عمر : ' سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما يحل
للرجل من امرأته الحائض ؟ قال : ما فوق الإزار ' . وعن عائشة قالت : ' كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ' . وقال محمد : يجتنب شعار الدم وله ما سواه ،
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' يصنع الرجل بامرأته الحائض كل شيء إلا الجماع ' ولهما
ما روينا ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' له ما فوق الإزار وليس له ما دونه ' أي له أن
يستمتع بما فوق السرة لا بما تحتها . وفيما قال محمد : رتع حول الحمى فيمنع منه
حذرا من الوقوع فيه ( وإن انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يجز وطؤها حتى تغتسل أو
يمضي عليها وقت صلاة ، وإن انقطع لعشرة جاز قبل الغسل ) لقوله تعالى : ) حتى يطهرن (
[ البقرة : 222 ] بالتخفيف والتشديد ، فمعنى التخفيف حتى ينقطع حيضها فحملناه على
العشرة ، ومعنى التشديد حتى يغتسلن فحملناه على ما دونها عملا بالقراءتين ، ولأن ما قبل
العشرة لا يحكم بانقطاع الحيض لاحتمال عود الدم ، فيكون حيضا ، فإذا اغتسلت أو مضى
عليها وقت صلاة دخلت في حكم الطاهرات ، وما بعد العشرة حكمنا بانقطاع الحيض ،
لأنها لو رأت الدم لا يكون حيضا فلهذا حل وطؤها . وقال زفر : لا يحل وطؤها حتى
تغتسل وإن انقطع لعشر أيام ، عملا بقراءة التشديد وجوابه ما مر . قال : ( وأقل الطهر
خمسة عشر يوما ) هكذا روي عن إبراهيم النخعي ولا يعرف إلا توقيفا ( ولا حد لأكثره )
لأنه يستمر مدة كثيرة فلا يتقدر .
فصل
( المستحاضة ومن به سلس البول وانطلاق البطن وانفلات الريح والرعاف الدائم والجرح
الذي لا يرقأ ، يتوضؤون لوقت كل صلاة ويصلون به ما شاؤوا ) لرواية ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قال : ' تتوضأ المستحاضة لوقت كل صلاة ' . وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
حبيش حين قالت له إني أستحاض فلا أطهر : ' توضئي لوقت كل صلاة ' وعليه يحمل
قوله عليه الصلاة والسلام : ' المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ' لأنه يراد بالصلاة الوقت . قال
عليه الصلاة والسلام : ' أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت ' . ويقال : آتيك لصلاة
الظهر : أي لوقتها . قال : ( فإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم ، فيتوضؤون لصلاة أخرى ) لما
روينا . وطهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند زفر بالدخول ،
وعند أبي يوسف بأيهما كان .
وثمرة الخلاف تظهر في مسألتين : إذا توضأ للصبح ثم طلعت الشمس ، وإذا توضأ بعد
طلوع الشمس للعيد أو للضحى ثم دخل وقت الظهر ، فعندهما ينتقض في الأولى للخروج ،
ولا ينتقض في الثانية لعدمه ، وعند زفر بالعكس ، وعند أبي يوسف ينتقض فيهما لأنها طهارة
مع المنافي فتتقدر بالوقت ، فلا تعتبر قبله ولا بعده ، ولزفر أنها لو لم تبطل بالدخول لزادت
على وقت صلاة وأنه خلاف النص . ولهما أنها تثبت للحاجة . وخروج الوقت دليل زوال
الحاجة ، والدخول دليل الوجوب ، فتعلق الانتقاض بالخروج أولى . وقول زفر : يلزمه مثله
فيما إذا توضأ قبل طلوع الشمس . وقولنا انتقض وضوءهم بخروج الوقت : أي عنده ، لكن
بالحدث السابق فإن الصلاة مع الدم رخصة ، لأن الوضوء لا يرفع حدثا وجد بعده .
قال : ( والمعذور هو الذي لا يمضي عليه وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتلي به
موجود ) حتى لو انقطع الدم وقتا كاملا خرج من أن يكون صاحب عذر من وقت الانقطاع .
قال : ( وإذا زاد الدم على العشرة ولها عادة ) معروفة ( فالزائد على عادتها استحاضة ) لأن
بالزيادة على العشرة علم كونها مستحاضة فترد إلى أيام أقرائها . قال عليه الصلاة والسلام
للمستحاضة : ' دعي الصلاة أيام أقرائك ثم توضئي وصلي ' . قال : ( وإذا بلغت مستحاضة
فحيضها عشرة من كل شهر ) لأنها مدة صالحة للحيض فلا تخرج بالشك ( والباقي استحاضة )
لما تقدم .(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
فصل
( النفاس : الدم الخارج عقيب الولادة ) لأنه مشتق من تنفس الرحم بالدم أو من خروج
النفس ، وهو الولد أو الدم والكل موجود .
قال : ( ولا حد لأقله ، وأكثره أربعون يوما ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' تقعد
النفساء أربعين يوما إلا أن ترى طهرا قبل ذلك ' قدر الأكثر ولم يقدر الأقل ، ولو
كان له حد لقدره ، ولأن خروج الولد دليل خروج الدم من الرحم فاستغنى عن
التقدير ولا دليل في الحيض ، فاحتجنا إلى التقدير ليستدل بدوامه على أنه من
الرحم .
قال : ( وإذا جاوز الدم الأربعين ولها عادة فالزائد عليها استحاضة ، فإن لم يكن لها عادة
فنفاسها أربعون ) وقد بيناه في الحيض .
قال : ( والنفاس في التوأمين عقيب الأول ) .
وقال محمد وزفر : عقيب الأخير ، فلو كان بين الولادتين أقل من ستة أشهر فلا نفاس
لها من الثاني ، وعند محمد : ما بينهما استحاضة والنفاس من الثاني . له أن النفاس والحيض
سواء من حيث المخرج ، والمانعية من الصوم والصلاة والوطء والحيض لا يوجد من
الحامل ، فكذا النفاس . ولهما ما ذكرنا من حد النفاس وقد وجد ، بخلاف الحيض لما ذكرنا
أنه ينسد فم الرحم بالحمل فلا تحيض ، والعدة تنقضي بالأخير إجماعا ، لأنه معلق بوضع
الحمل ، فيتناول الجميع وهي حامل بعد الأول .
قال : ( والسقط الذي استبان بعض خلقه ولد ) فتصير به نفساء ، وتنقضي به العدة ،
وتصير الأمة به أم ولد ، وينزل الشرط المعلق بمجيء الولد أخذا بالاحتياط .(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
باب الأنجاس وتطهيرها
( النجاسة غليظة وخفيفة ) فالغليظة عند أبي حنيفة ما ورد في نجاسته نص ولم يعارضه
آخر ، ولا حرج في اجتنابه وإن اختلفوا فيه ، لأن الاجتهاد لا يعارض النص . والمخففة ما
تعارض نصان في طهارته ونجاسته ، وعندهما المغلظة : ما اتفق على نجاسته ولا بلوى في
إصابته ، والمخففة : ما اختلف في نجاسته ، لأن الاجتهاد حجة شرعية كالنص . قال ( فالمانع
من الغليظة أن يزيد على قدر الدرهم مساحة إن كان مائعا ، ووزنا إن كان كثيفا ) وهو أن
تكون مثل عرض الكف ، لقول عمر رضي الله عنه : إذا كانت النجاسة قدر ظفري هذا لا
تمنع جواز الصلاة حتى تكون أكثر منه ، وظفره كان قريبا من كفنا . وعن محمد : الدرهم
الكبير المثقال : أي ما يكون وزنه مثقالا ، فيحمل الأول على المساحة إن كان مائعا ، وقول
محمد على الوزن إن كان مستجسدا . قال النخعي : أرادوا أن يقولوا قدر المقعدة فكنوا بقدر
الدرهم عنه ، وإنما قدره أصحابنا بالدرهم ، لأن قليل النجاسة عفو بالإجماع كالتي لا يدركها
البصر ودم البعوض والبراغيث ، والكثير معتبر بالإجماع ، فجعلنا الحد الفاصل قدر الدرهم
أخذا من موضع الاستنجاء ، فإن بعد الاستنجاء بالحجر إن كان الخارج قد أصاب جميع
المخرج يبقى الأثر في جميعه ، وذلك يبلغ قدر الدرهم ، والصلاة جائزة معه إجماعا ، فعلمنا
أن قدر الدرهم عفو شرعا .
( والمانع من الخفيفة أن يبلغ ربع الثوب ) لأن للربع حكم الكل في أحكام الشرع
كمسح الرأس وحلقه ، ثم قيل ربع جميع الثوب ، وقيل ربع ما أصابه كالكم والذيل
والدخريص ، وعند أبي يوسف شبر في شبر ، وعند محمد ذراع في ذراع ، وعنه موضع
القدمين ، والمختار الربع ، وعن أبي حنيفة أنه غير مقدر ، وهو موكول إلى رأي المبتلى
لتفاوت الناس في الاستفحاش ( وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير
فنجاسته غليظة ) كالغائط والبول والدم والصديد والقيء ، ولا خلاف فيه ، وكذلك المني
لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة : ' إن كان رطبا فاغسليه ، وإن كان يابسا فافركيه ' .(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وقوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر : ' إنما يغسل الثوب من المني والبول والدم '
ولو أصاب البدن وجف . روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر بالفرك . وذكر الكرخي
عن أصحابنا أنه يطهر ، لأن البلوى فيه أعم ، والاكتفاء بالفرك لا يدل على طهارته ، فإن
الصحيح عن أبي حنيفة أنه يقل بالفرك فتجوز الصلاة فيه ، حتى إذا أصابه الماء يعود نجسا
عنده ، خلافا لهما ، ثم رأينا كل ما يوجب الطهارة كالغائط والبول ودم الحيض والنفاس
نجسا ، فقلنا بنجاسة المني لأنه يوجب أكبر الطهارات ، وكونه أصل الآدمي لا يوجب
طهارته كالعلقة .
قال : ( وكذلك الروث والأخثاء ) وبول ما لا يؤكل لحمه من الدواب عند أبي حنيفة ،
لأن نجاستها ثبتت بنص لم يعارضه غيره وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الروث ' إنه
رجس ' والأخثاء مثله ، وعندهما مخففة لعموم البلوى به في الطرقات ووقوع الاختلاف
فيه ؛ فعند مالك الأرواث كلها طاهرة ، وعند زفر روث ما يؤكل لحمه طاهر . ولأبي حنيفة
أنه استحال إلى نتن وفساد ، وهو منفصل عن حيوان يمكن التحرز عنه فصار كالآدمي
والضرورة في النعال ، وقد قلنا بالتخفيف فيها حتى تطهر بالمسح ، وبما ذكرنا من الحديث
والمعقول خرج الجواب عن قول مالك وزفر . قال : ( و ) كذلك ( بول الفأرة ) وخرؤها لما
تقدم ، ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام : ' استنزهوا من البول ' والاحتراز عنه ممكن في
الماء ، غير ممكن في الطعام والثياب فيعفى عنه فيهما . قال : ( و ) كذلك البول ( الصغير
والصغيرة أكلا أو لا ) لما روينا من غير فصل ، وما روي من نضح بول الصبي إذا لم يأكل ،
فالنضح يذكر بمعنى الغسل . قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المذي : ' انضح فرجك
بالماء ' أي اغسله ، فيحمل عليه توفيقا .
قال : ( والمني نجس يجب غسل رطبه ، ويجزئ الفرك في يابسه ) وقد بينا الوجه فيه .
وفي الفتاوى : مرارة كل شيء كبوله في الحكم ، وإذا اجتر البعير فأصاب ثوب إنسان فحكمه
حكم سرقينه لوصوله إلى جوفه كالماء إذا وصل إلى جوفه حكمه حكم بوله . قال : ( وإذا
أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث ) والعذرة ( فجف فدلكه بالأرض جاز ، والرطب وما لا(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
جرم له كالخمر ) والبول ( لا يجوز فيه إلا الغسل ) وهذا عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف :
يجزئ المسح فيهما إلا البول والخمر . وقال محمد : لا يجوز فيهما إلا الغسل كالثوب ،
ولأبي يوسف إطلاق قوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا أصاب خف أحدكم أو نعله أذى
فليدلكهما في الأرض وليصل فيهما ، فإن ذلك طهور لهما ' من غير فصل بين اليابس
والرطب والمستجد وغيره وللضرورة العامة ، وعليه أكثر المشايخ ؛ لأبي حنيفة هذا الحديث
إلا أن الرطب إذا مسح بالأرض يتلطخ به الخف أكثر مما كان فلا يطهره بخلاف اليابس ،
لأن الخف لا يتداخله إلا شيء يسير وهو معفو عنه ، ولا كذلك البول والخمر لأنه ليس فيه
ما يجتذب مما على الخف فيبقى على حاله ، حتى لو لصق عليه طين رطب فجف ثم دلكه
جاز كالذي له جرم ، يروى ذلك عن أبي يوسف ، وبخلاف الثوب لأنه متخلل فتتداخله
أجزاء النجاسة فلا تزول بالمسح فيجب الغسل .
قال : ( والسيف والمرآة يكتفى بمسحهما ) فيهما لأنهما لصلابتهما لا يتداخلهما شيء من
النجاسة فيزول بالمسح . قال : ( وإذا أصابت الأرض نجاسة فذهب أثرها جازت الصلاة عليها
دون التيمم ) لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا يتأدى بما ثبت بالحديث . وقال
زفر : لا تجوز الصلاة كالتيمم . ولنا أن الأرض تنشف والهواء يجذب ما ظهر منها ، فقلت :
والقليل لا يمنع جواز الصلاة ويمنع التيمم . وروى ابن كاس عن أصحابنا جواز التيمم أيضا
للحديث ، لأن النجاسة استحالت إلى أجزاء الأرض ، لأن من شأن الأرض جذب الأشياء إلى
طبعها ، وبالاستحالة تطهر كالخمر إذا تخللت فيجوز التيمم ، وإذا أصابت الأرض نجاسة ، إن
كانت رخوة يصب عليها الماء فتطهر لأنها تنشف الماء فيطهر وجه الأرض ، وإن كانت صلبة
يصب الماء عليها ثم تكبس الحفيرة التي اجتمع فيها الغسالة .
قال : ( وبول ما يؤكل لحمه ، وبول الفرس ، ودم السمك ، ولعاب البغل والحمار وخرء
ما لا يؤكل لحمه من الطيور نجاسته مخففة ) أما بول ما يؤكل لحمه فطاهر عند محمد
لحديث العرنيين ، ويدخل فيه بول الفرس عنده أيضا ، ولهما أنه استحال إلى نتن وخبث
فيكون نجسا كبول ما لا يؤكل لحمه ، إلا أنا قلنا بتخفيفه للتعارض ، وحديث العرنيين نسخ(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
كالمثلة ، ودم السمك ليس بدم حقيقة لأنه يبيض بالشمس . وعن أبي يوسف أنه نجس ، فقلنا
بخفته لذلك ، ولعاب البغل والحمار لتعارض النصوص ، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور
لعموم البلوى ، فإنه لا يمكن الاحتراز عنه ، لأنها تزرق من الهواء . وعند محمد نجاسته
غليظة لأنها لا تخالط الناس فلا بلوى ، وجوابه ما قلنا . قال : ( وخرء ما يؤكل لحمه من
الطيور طاهر ) لإجماع المسلمين على ترك الحمامات في المساجد ، ولو كان نجسا لأخرجوها
خصوصا في المسجد الحرام .
قال : ( إلا الدجاج والبط الأهلي فنجاستهما غليظة ) بالإجماع . قال : ( وإذا انتضح
عليه البول مثل رؤوس الإبر فليس بشيء ) لأنه لا يمكن الاحتراز عنه وفيه حرج فينتفي ،
وليس بول الخفافيش وخرؤها ولا دم البق والبراغيث بشيء لما ذكرنا . قال الكرخي : وما
يبقى من الدم في اللحم والعروق طاهر . وعن أبي يوسف أنه معفو في الأكل دون
الثياب .
فصل
( ويجوز إزالة النجاسة بالماء ) ولا خلاف فيه . قال عليه الصلاة والسلام : ' ثم اغسليه
بالماء ' . قال : ( وبكل مائع طاهر ) ينعصر بالعصر ( كالخل وماء الورد ) وما يعتصر من الشجر
والورق . وقال محمد وزفر : لا يجوز إلا بالماء . وعن أبي يوسف في البدن روايتان لمحمد :
قوله عليه الصلاة والسلام : ' ثم اغسليه بالماء ' . ولو جاز بغير الماء لما كان في التعيين
فائدة ، وبالقياس على الحكمية . ولهما قوله تعالى : ) وثيابك فطهر ( [ المدثر : 4 ] وتطهير
الثوب إزالة النجاسة عنه وقد وجد في الخل حقيقة ، والمراد من الحديث الإزالة مطلقا حتى
لو أزالها بالقطع جاز ، والإزالة تتحقق بما ذكرنا كما في الماء لاستوائهما في الموجب للزوال
من ترقيق النجاسة واختلاطها بالمائع بالدلك وتقاطرها بالعصر شيئا فشيئا إلى أن تفنى
بالكلية ، وذكر الماء في الحديث ورد على ما هو المعتاد غالبا لا للتقييد به لما ذكرنا ،
والقياس على الحكمية لا يستقيم لأنها عبادة لا يعقل معناها ، ألا ترى أنه يجب غسل غير
موضع النجاسة ، فيقتصر على مورد الشرع وهو الماء ، أما الحقيقة فالمقصود إزالة النجاسة
وقد زالت لما بينا .(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
قال : ( فإن كان لها عين مرئية فطهارتها زوالها ) لأن الحكم بالنجاسة بقيام عينها فينعدم
بزوالها ، فلو زالت بالغسلة الواحدة طهرت عند بعضهم ، وهو مقتضى ما ذكره في الكتاب
وعند بعضهم يشترط غسله بعدها مرتين اعتبارا بغير المرئية . قال : ( ولا يضر بقاء أثر يشق
زواله ) لقوله عليه الصلاة والسلام في دم الحيض : ' اغسليه ولا يضرك أثره ' ودفعا للحرج
قال : ( وما ليس بمرئية فطهارتها أن يغسله حتى يغلب على ظنه طهارته ) لأن غلبة الظن دليل
في الشرعيات لا سيما عند تعذر اليقين . قال : ( ويقدر بالثلاث أو بالسبع قطعا للوسوسة ،
ولا بد من العصر في كل مرة ، وكذلك يقدر على الاستنجاء ) وذكر في المبسوط لا يحكم
بزوالها قبل الثلاث لحديث المستيقظ . وفي المنتقى عن أبي يوسف : إذا غسله مرة سابغة
طهر ، وما لا ينعصر بالعصر كالآجر والخزف ، والحنطة إذا تشربت فيها النجاسة ، والجلد إذا
دبغ بالدهن النجس ، والسكين إذا موه بالماء النجس ، واللحم إذا طبخ بالماء النجس . قال
محمد : لا يطهر أبدا لعدم العصر . وقال أبو يوسف : طهارته أن يغسل ثلاثا ، وتموه السكين
بالماء الطاهر ثلاثا ، وتطبخ الحنطة واللحم بالماء الطاهر ثلاثا ، ويجفف في كل مرة .
فصل
( والاستنجاء سنة من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح ) اعلم أن الاستنجاء على
خمسة أوجه : واجبان : أحدهما غسل نجاسة المخرج في الغسل عن الجنابة والحيض
والنفاس كي لا يشيع في بدنه . والثاني إذا تجاوزت مخرجها يجب عند محمد قل أو كثر ،
وهو الأحوط لأنه يزيد على قدر الدرهم ، وعندهما يجب إذا تجاوز قدر الدرهم ، لأن ما
على المخرج سقط اعتباره لجواز الاستجمار فيه ، فيبقى المعتبر ما وراءه . والثالث سنة ، وهو
إذا لم تتجاوز النجاسة مخرجها فغسلها سنة . والرابع مستحب ، وهو إذا بال ولم يتغوّط
يغسل قبله . والخامس بدعة ، وهو الاستنجاء من الريح إذا لم يظهر الحدث من السبيلين .
قال : ( ويجوز بالحجر وما يقوم مقامه يمسحه حتى ينقيه ) لأن المقصود الإنقاء ، فبأي
شيء حصل جاز ( والغسل ) بالماء ( أفضل ) لأنه أبلغ في الإنقاء والنظافة . قال : ( وإذا تعدت(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
النجاسة المخرج لم يجز إلا الغسل ) وقد بيناه . قال : ( ولا يستنجي بيمينه ولا بعظم ولا
بروث ( لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك ( ولا بطعام ) لما فيه من إضاعة المال وقد نهى
عنه ، فإن استنجى بهذه الأشياء جاز ويكره لأن المنع لمعنى في غيره فلا يمنع حصول
الطهارة كالاستنجاء بثوب الغير ومائه . قال : ( ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الخلاء ) في
البيوت والصحارى ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ، ولكن
شرقوا أو غربوا ' . وعن أبي حنيفة في الاستدبار لا بأس به لأنه غير مقابل للقبلة ، وما
ينحط من ينحط نحو الأرض ، ولا يستعمل في الاستنجاء أكثر من ثلاثة أصابع ، ويستنجى
بعرضها لا برؤوسها ، وكذلك المرأة ؛ وقيل تستنجي برؤوس أصابعها .(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
كتاب الصلاة
الصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ) وصل عليهم ( [ التوبة : 103 ] أي ادع
لهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' وصلت عليهم الملائكة ' أي دعت لكم ، وقال
الأعشى :
وصلي على دنها وارتسم
أي دعا . وفي الشرع عبارة عن أركان مخصوصة وأذكار معلومة بشرائط محصورة
في أوقات مقدرة ، وهي فريضة محكمة يكفر جاحدها ولا يسع تركها ، ثبتت فرضيتها
بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . أما الكتاب فقوله تعالى : ) إن الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا ( [ النساء : 103 ] أي فرضا موقتا . وأما السنة فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' بني الإسلام على
خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
وحج البيت ، وصوم رمضان ' وعليه إجماع الأمة . وسبب وجوبها الوقت بدليل
إضافتها إليه ، وهي دلالة السببية ، كحد الزنا ، وكفارة اليمين ، ويجب في جزء من
الوقت مطلق للمكلف تعيينه بالأداء ، إلا أنه إذا لم يصل حتى ضاق الوقت تعين ذلك
الجزء للوجوب حتى لو أخرها عنه أثم ، لأنه تعالى أمر بالصلاة في مطلق الوقت فلا
يتقيد بجزء معين .
قال : ( وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني المعترض إلى طلوع الشمس ) الفجر
فجران : كاذب ، وهو الذي يبدو طولا ثم تعقبه ظلمة ، فلا يخرج به وقت العشاء ، ولا
يحرم الأكل على الصائم . وصادق ، وهو البياض المعترض في الأفق ، فيحرم به
السحور ، ويدخل به وقت الفجر . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يغرنكم أذن بلال ولا
الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير ' . وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' إن
للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر ، وآخر وقتها حين تطلع
الشمس ' .
قال : ( ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يبلغ الظل مثليه سوى فيء الزوال ) ولا
خلاف في أول الوقت ، واختلفوا في آخره ، فالمذكور قول أبي حنيفة . وقال أبو يوسف
ومحمد : إذا صار الظل مثله ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة . وذكر في المنتقى رواية أسد
عن أبي حنيفة أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرّ وقت الظهر ، ولا يدخل وقت العصر حتى
يصير مثليه فيكون بينهما وقت مهمل . لهما إمامة جبريل ، وهو ما روى ابن عباس عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' أمني جبريل مرتين عند البيت ، فصلى بي الظهر في اليوم الأول حين
زالت الشمس ، والعصر حين صار ظل كل شيء مثله ، وصلى بي في اليوم الثاني الظهر حين
صار ظل كل شيء مثله ، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه ، وقال : ما بين هذين الوقتين
وقت لك ولأمتك ' . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' أبردوا بالظهر فإن شدة الحر
من فيح جهنم ' ولا إبراد قبل أن يصير ظل كل شيء مثليه لأن شدة الحر قبله خصوصا في(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
الحجاز ، وكذا آخر حديث الإمامة حجة له ، لأن إمامته الظهر حين صار الظل مثله دليل أنه
وقت الظهر لا وقت العصر وهو محل الخلاف ، وإذا وقت التعارض في خروجه لا يخرج
بالشك .
( وإذا خرج وقت الظهر على الاختلاف دخل وقت العصر ، وآخر وقتها ما لم تغرب
الشمس ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من فاتته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله
وماله ' جعلها فائتة بالغروب فدل أنه آخر وقتها ( وإذا غابت الشمس دخل وقت المغرب )
لرواية أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' أول وقت المغرب حين تسقط الشمس ' ولا خلاف
فيه ( وآخره ما لم يغب الشفق ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' وقت المغرب ما لم يغب
الشفق ' والشفق : البياض الذي يبقى بعد الحمرة . وقالا : هو الحمرة ، وهو رواية أسد عن
أبي حنيفة كذلك نقل عن الخليل ، وعن ابن عمر كذلك ، ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة
والسلام : ' وآخر وقت المغرب إذا اسوّد الأفق ' . وعن ثعلب أنه البياض ، وهو مذهب أبي
بكر وعائشة ومعاذ .
( وإذا خرج وقت المغرب دخل وقت العشاء ) بلا خلاف ( وآخره ما لم يطلع الفجر )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' وآخر وقت العشاء ما لم يطلع الفجر ' ( ووقت الوتر وقت
العشاء ) إلا أنه مأمور بتقديم العشاء . وقالا : أول وقت الوتر بعد العشاء ، وآخره ما لم
يطلع الفجر ، وهذا الاختلاف بناء على اختلافهم في صفتها ، فعنده هي واجبة ، والوقت إذا
جمع صلاتين واجبتين فهو وقتهما ، وإن أمر بتقديم إحداهما كالوقتية والفائتة ، وعندهما هي
سنة فيدخل وقتها بالفراغ من الفرض كسائر السنن ، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام :
' إن الله تعالى زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر ، ألا وهي
الوتر ' .(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
فصل
( ويستحب الإسفار بالفجر ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أسفروا بالفجر ' ، وفي رواية
' نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ' . وقال الطحاوي : يبدأ بالتغليس ، ويختم بالإسفار جمعا
بين أحاديث التغليس والإسفار ( والإبراد بالظهر في الصيف ) لما روينا ( وتقديمها في الشتاء )
لحديث أنس ' كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا كان الشتاء بكّر بالظهر ، وإذا كان الصيف أبرد بها ' . قال :
( وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس ) لحديث رافع بن خديج ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بتأخير
العصر ' . وروى خالد الحذاء عن أبي قلابة أنه قال : ' ما اجتمع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
على شيء كاجتماعهم على تأخير العصر ، والتبكير بالمغرب ، والتنوير بالفجر ' والمعتبر
تغير القرص لا الضوء الذي على الحيطان . قال : ( وتعجيل المغرب ) في الزمان كله لما
تقدم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن
تشتبك النجوم ' .
قال : ( وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل ' فدل على أنه أفضل ، وتأخيرها إلى نصف
الليل مباح ، وإلى ما بعده مكروه لأنه يقلل الجماعة من غير عذر . قال : ( ويستحب في الوتر
آخر الليل ، فإن لم يثق بالانتباه أوتر أوله ) لما روى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' من خاف أن لا
يقوم آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره ، فإن صلاة آخر الليل
محضورة الملائكة ' وذلك أفضل . قال : ( ويستحب تأخير الفجر والظهر والمغرب ،
وتعجيل العصر والعشاء يوم الغيم ) أما الفجر فلما روينا ، وأما الظهر فلئلا يقع قبل الزوال ،
وأما المغرب فلئلا يقع قبل الغروب ، وأما تعجيل العصر فلئلا يقع في الوقت المكروه ، وأما
العشاء فلئلا يؤدي إلى تقليل الجماعة لمجيء المطر والثلج .(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
فصل
( لا تجوز الصلاة ، وسجدة التلاوة ، وصلاة الجنازة عند طلوع الشمس وزوالها وغروبها )
لحديث عقبة بن عامر الجهني قال : ' ثلاثة أوقات نهانا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن نصلي فيها وأن نقبر
فيها موتانا : عند طلوع الشمس حتى ترتفع ، وعند زوالها حتى تزول ، وحين تضيف للغروب
حتى تغرب ' والمراد بقوله أن نقبر : صلاة الجنازة . وعن عمرو بن عنبسة قال : قلت : يا
رسول الله هل من الساعات ساعات أفضل من الأخرى ؟ قال : ' جوف الليل الأخير أفضل
فإنها متقبلة حتى يطلع الفجر ، ثم انته حتى تطلع الشمس ، وما دامت كالحجفة فأمسك حتى
تشرق ، فإنها تطلع بين قرني الشيطان ويسجد لها الكفار ، ثم صل فإنها مشهودة متقبلة حتى
يقوم العمود على ظله ثم انته فإنها ساعة يسجر فيها الجحيم ثم صل إذا زالت إلى العصر ثم
انته فإنها تغيب بين قرني شيطان ويسجد لها الكفار ' .
قال : ( إلا عصر يومه عند الغروب ) لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت كما بينا فقد
أداها كما وجبت . قال عليه الصلاة والسلام : ' من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب
الشمس فقد أدركها ' .
وقال : ( ولا يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب ) لحديث
أبي سعيد الخدري ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الصلاة في هذين الوقتين ' ويجوز أن يصلي في
هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة ولا يصلي ركعتي الطواف ، لأن النهي لمعنى في غيره ،
وهو شغل جميع الوقت بالفرض ، إذ ثواب الفرض أعظم ، فلا يظهر النهي في حق فرض
مثله ، وظهر في ركعتي الطواف لأنه دونه .
قال : ( ولا بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر ، ولا قبل المغرب ، ولا قبل(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
صلاة العيد ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يفعل ذلك مع حرصه على الصلاة ، وفي الثاني تأخير المغرب وهو
مكروه ( ولا إذا خرج الإمام يوم الجمعة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا خرج الإمام فلا صلاة
ولا كلام ' . قال : ( ولا يجمع بين صلاتين في وقت واحد في حضر ولا سفر ) لقوله تعالى :
) إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( [ النساء : 103 ] أي مؤقتأ ، وفي الجمع تغيير
الوقت ، ويجوز الجمع فعلا لا وقتا ، وهو تأويل ما روي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جمع بين صلاتين '
وتفسيره أنه يؤخر الظهر إلى آخر وقتها ، ويقدم العصر في أول وقتها . قال : ( إلا بعرفة ) بين
الظهر والعصر ( والمزدلفة ) بين المغرب والعشاء ، وسيأتيك في المناسك إن شاء الله تعالى .
باب الأذان
وهو في اللغة : مطلق الإعلام ، قال تعالى : ) وأذان من الله ورسوله ( [ التوبة : 3 ] ؛
وفي الشرع : الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة ، وهو سنة
محكمة . قال أبو حنيفة في قوم صلوا في المصر بجماعة بغير أذان وإقامة : خالفوا السنة
وأثموا ، وقيل هو واجب لقول محمد : لو اجتمع أهل بلد على ترك الأذان لقاتلتهم ، وذلك
إنما يكون على الواجب ، والجمع بين القولين أن السنة المؤكدة كالواجب في الإثم بتركها ،
وإنما يقاتل على تركه لأنه من خصائص الإسلام وشعائره .
( وصفته معروفة ) وهي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على
الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا
الله . هكذا حكى عبد الله بن زيد بن عبد ربه أذان النازل من السماء ، ووافقه عمر وجماعة
من الصحابة ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' علمه بلالا فإنه أندى منك صوتا ' وعلمه فكان
يؤذن به . قال : ( ولا ترجيع فيه ) لأن الجماعة الذين رووا أذان النازل من السماء الذي هو(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
أصل الأذان لم يرووا الترجيع ، وأيضا فإنهم قالوا : ثم صبر هنيهة ثم قال مثل ذلك ،
وزاد فيه : قد قامت الصلاة مرتين ، ولا ترجيع في الإقامة إجماعا ، وما روي أنه عليه
الصلاة والسلام لقن أبا محذورة الأذان وأمره بالترجيع فإنه كان تعليما ، والتعليم غالبا
يرجع فيه للحفظ فظنه من الأذان ، والترجيع أن يخفض صوته بالشهادتين أولا ، ثم يرفع
بهما صوته .
قال : ( والإقامة مثله ، ويزيد فيها بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين ) لما روينا ، ولما
روي عن أبي محذورة أنه قال : ' علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأذان خمس عشرة كلمة ، والإقامة
سبع عشرة كلمة ' .
قال أئمة الحديث : أصح ما روي في ذلك حديث أبي محذورة قال : ( وهما سنتان
للصلوات الخمس والجمعة ) لأنه عليه الصلاة والسلام واظب عليهما فيها ، ولأن لها أوقاتا
معلومة ، وتؤدى في الجماعات فتحتاج إلى الإعلام ولا كذلك غيرها . قال محمد : ومن
صلى في بيته بغير أذان ولا إقامة جاز ، وإن فعل فحسن . أما الجواز فروي عن ابن عمر
ذلك . وعن ابن مسعود أنه كان يصلي في داره بغير أذان ولا إقامة ويقول : يجزينا أذان
المقيمين حولنا وفعله أفضل لأنهما أذكار تتعلق بالصلاة كغيره من الأذكار .
قال : ( ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح : الصلاة خير من النوم مرتين ) لما روي أن
بلالا أتى باب حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليعلمه بصلاة الفجر وهو راقد ، فقال : الصلاة خير من
النوم الصلاة خير من النوم ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما أحسن هذا ، اجعله في أذانك ' وتوارثته الأمة
من لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومنا هذا ، ولا تثويب في غير أذان الفجر لقول بلال : قال لي
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا بلال ثوّب بالفجر ولا تثوّب في غيرها ' ولأن الفجر وقت نوم وغفلة
ولا كذلك غيرها . وعن أبي يوسف : لا بأس بذلك للأمراء ، لأن عمر لما ولي الخلافة
نصب من يعلمه بأوقات الصلوات ؛ قيل : وكذلك القاضي والمفتي وكل من يشتغل بأمور
المسلمين ؛ وقيل : في زماننا يثوّب في الصلوات كلها لظهور التواني في الأمور الدينية ،
والتثويب : زيادة الإعلام بين الأذان والإقامة بما يتعارفه أهل كل بلدة .(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
قال : ( ويرتل الأذان ويحدر الإقامة ) بذلك أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلالا ( ويستقبل بهما
القبلة ) لحديث النازل من السماء فإنه استقبل بهما القبلة ( ويجعل إصبعيه في أذنيه ) بذلك أمر
رسول الله بلالا وقال : ' إنه أندى لصوتك ' ( ويحوّل وجهه يمينا وشمالا بالصلاة والفلاح )
وقدماه مكانهما هكذا نقل من فعل بلال ، ولأنه خطاب للناس فيواجههم به ، وما عدا ذلك
تكبير وتهليل .
قال : ( ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب ) وقالا يجلس في المغرب جلسة
خفيفة ، لأن الفصل بينهما سنة في سائر الصلوات ، إلا أنه يكتفي في المغرب بالجلسة
الخفيفة تحرزا عن التأخير . ولأبي حنيفة أن المستحب المبادرة وفي الجلسة التأخير ، والفصل
يحصل بالسكوت بينهما مقدار ثلاث آيات ، وهو رواية الحسن عنه ، وكذلك يحصل باختلاف
الموقف والنغمة .
( ويكره التلحين في الأذان ) لأنه بدعة ( وإذا قال حيّ على الصلاة قام الإمام والجماعة )
إجابة للدعاء ( وإذا قال قد قامت الصلاة كبروا ) تصديقا له ، إذ هو أمين الشرع . وعن أبي
يوسف : لا يكبروا حتى يفرغ ليدرك المؤذن تكبيرة الإحرام ( وإذا كان الإمام غائبا أو هو
المؤذن لا يقومون حتى يحضر ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تقوموا حتى تروني قمت
مقامي ' ولأنه لا فائدة في القيام ( ويؤذن للفائتة ويقيم ) هكذا فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين فاتته
صلاة الصبح ليلة التعريس .
قال : ( ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ) لأنه شرع للإعلام بالوقت وفي ذلك تضليل ،
وإن أذّن أعاد . وقال أبو يوسف : لا يعيد في الفجر خاصة ، لأن بلالا كان يؤذن بليل . ولنا
قوله عليه الصلاة والسلام لبلال : ' لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يده عرضا '(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وأذان بلال لم يكن للصلاة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إن بلالا يؤذن بليل ليرجع
قائمكم ، ويوقظ نائمكم ، ويتسحر صائمكم ' والكلام في الأذان للصلاة . قال : ( ولا يتكلم
في الأذان والإقامة ) ولا يرد السلام لأنه يخل بالتعظيم وبغير النظم ( ويؤذّن ويقيم على طهارة )
لأنه ذكر ، فتستحب فيه الطهارة كالقرآن ، فإذا أذن على غير وضوء جاز لحصول المقصود
ويكره ، وقيل لا يكره ، وقيل لا تكره الإقامة أيضا ؛ والصحيح أنها تكره لئلا يفصل بين
الإقامة والصلاة ، وإذن أذّن وأقام على غير وضوء لا يعيد ، ويستحب إعادة أذان الجنب
والصبي الذي لا يعقل والمجنون والسكران والمرأة ليقع على الوجه المسنون ، ولا تعاد
الإقامة لأن تكرارها غير مشروع ، ويكره الأذان قاعدا لأنه خلاف المتوارث ، وكره أبو حنيفة
أن يكون المؤذن فاجرا ، أو يأخذ على الأذان أجرا ، ويستحب أن يكون المؤذن صالحا تقيا
عالما بالسنة وأوقات الصلوات ، مواظبا على ذلك ، والله أعلم .
باب ما يفعل قبل الصلاة
( وهي ست فرائض : طهارة البدن من النجاستين ، وطهارة الثوب ، وطهارة المكان وستر
العورة ، واستقبال القبلة ، والنية ) أما طهارة البدن فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يقبل الله
صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ' الحديث ، وأنه يوجب الطهارة من النجاسة
الحكمية ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' اغسلي عنك الدم وصلي ' يوجب الطهارة عن
النجاسة الحقيقية . وأما طهارة الثوب فلقوله تعالى : ) وثيابك فطهر ( [ المدثر : 4 ] . وأما
المكان فلقوله تعالى : ) وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ( [ الحج : 26 ] . وأما
ستر العورة فلقوله تعالى : ) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( [ الأعراف : 31 ] . قال
أئمة التفسير : هو ما يواري العورة ، والمستحب أن يصلي في ثلاثة أبواب : قميص وإزار
وعمامة ، ولو صلى في ثوب واحد يتوشح به جاز . قال عليه الصلاة والسلام : ' أو كلكم
يجد ثوبين ' ؟ حين سئل عن الصلاة في ثوب واحد . وقال أبو الدرداء : ' صلى بنا رسول(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثوب واحد متوشحا به قد خالف بين طرفيه ' . ولا يجوز للمرأة إلا أن تستر
بالثوب الواحد رأسها وجميع بدنها . ويكره أن يصلى في السراويل وحده لما روي ' أنه عليه
الصلاة والسلام نهى أن يصلي الرجل في ثوب ليس على عاتقه منه شيء ' . قال أبو
حنيفة : الصلاة في السراويل يشبه فعل أهل الجفاء ، وفي الثوب يتوشح به أبعد من الجفاء ،
وفي قميص ورداء عادة الناس .
قال : ( وعورة الرجل ما تحت سرته إلى تحت ركبته ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' عورة الرجل ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه ' وقوله عليه الصلاة والسلام : ' الركبة من
العورة ' ولأن الركبة ملتقى عظم الساق والفخذ ، فقلنا بكونها عورة احتياطا . قال :
( وكذلك الأمة ) بل أولى ( وبطنها وظهرها عورة ) لأنه موضع مشتهى ، فأشبه ما بين السرة
والركبة ، والمكاتبة والمدبرة وأم الولد كالأمة . قال : ( وجميع بدن الحرة عورة ) قال عليه
الصلاة والسلام : ' الحرة عورة مستورة ' .
قال : ( إلا وجهها وكفيها ) لقوله تعالى : ) ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها
[ النور : 31 ] . قال ابن عباس : الكحل والخاتم . ومن ضرورة إبداء الزينة إبداء موضعها ،
فالكحل زينة الوجه ، والخاتم زينة الكف ، ولأنها تحتاج إلى كشف ذلك في المعاملات فكان
فيه ضرورة ( وفي القدم روايتان ) الصحيح أنها ليست بعورة في الصلاة وعورة خارج الصلاة ،
ولو انكشف ذراعها جازت صلاتها ، لأنها من الزينة الظاهرة وهو السوار ، وتحتاج إلى كشفه
في الخدمة كالطبخ والخبز ، وستره أفضل . والعورة عورتان : غليظة وهي السوأتان ، وخفيفة
وهي ما سواهما ، فالمانع من الغليظة ما تبدو زيادة على قدر الدرهم ، وفي الخفيفة ربع
العضو كما في النجاسات ، والذكر عضو بانفراده ، وكذلك الأنثيان .
قال : ( ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها ولم يعد ) لأن التكليف بقدر
الوسع ، فإن كان الطاهر ربع الثوب أو أكثر صلى فيه ولا يصلي عريانا ، لأن الربع قائم مقام
الكل شرعا على ما عرف ، وإن كان دون الربع فكذلك عند محمد ، لأنه ترك فرضا واحدا ،(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
والعريان يترك فروضا . وقالا يتخير ، والصلاة فيه أفضل لأن كل واحد من الصلاة عريانا
ومع النجاسة مانع عند الاختيار ، إلا أنه صلى في الثوب النجس يستر عورته ، وأنه واجب
في الصلاة وخارجها فكان أولى . قال : ( ومن لم يجد ثوبا صلى عريانا قاعدا موميا ، وهو
أفضل من القيام ) لأنه ابتلي ببليتين فيختار أيهما شاء ، إلا أن القعود أولى ، لأن الإيماء
خلف عن الأركان ولا خلف عن ستر العورة ، وقد روي أن الصحابة صلوا كذلك .
( و ) أما استقبال القبلة فلقوله تعالى : ) فولوا وجوهكم شطره ( [ البقرة : 150 ] فكل ( من
كان بحضرة الكعبة يتوجه إلى عينها ، وإن كان نائيا عنها يتوجه إلى جهتها ) لقيام الجهة عند
العجز مقام عينها ، لأن التكليف بقدر الطاقة . قال : ( وإن كان خائفا يصلي إلى أي جهة
قدر ) لقوله تعالى : ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( [ البقرة : 115 ] ويستوي فيه الخوف من
العدو والسبع ، أو أن يكون على خشبة في البحر يخاف إن توجه إلى القبلة غرق لتحقق
العجز بالعذر ، والقبلة موضع الكعبة ، والهواء من هناك إلى عنان السماء ، ولا اعتبار بالبناء
لأنه ينقل ، ولا تجوز الصلاة إلى حجارته ، ولو صلى على جبل أعلا من الكعب جاز ،
فدل أنه لا اعتبار بالبناء .
قال : ( وإن اشتبهت عليه القبلة وليس له من يسأل اجتهد وصلى ، ولا يعيد وإن أخطأ )
لما روي أن جماعة من الصحابة اشتبهت عليهم القبلة في ليلة مظلمة ، فصلى كل واحد منهم
إلى جهة وخط بين يديه خطا ، فلما أصبحوا وجدوا الخطوط إلى غير القبلة ، فأخبروا بذلك
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ' تمت صلاتكم ' وفي رواية ' لا إعادة عليكم ' ولأن الواجب عليهم
التوجه إلى جه التحري إذ التكليف بقدر الوسع . قال : ( فإن علم بالخطأ وهو في الصلاة
استدار وبنى ) لما روي ' أن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة وهم في صلاة الفجر استداروا
إليها ' وهذا لأنه لما علم بالقبلة صار فرضه التوجه إليها فيستدير ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استحسن
فعل أهل قباء ولم يأمرهم بالإعادة .
قال : ( وإن صلى بغير اجتهاد فأخطأ أعاد ) وكذلك إن كان عنده من يسأله فلم يسأله ،
لأنه ترك واجب الاستدلال بالتحري والسؤال ، فإن علم أنه أصاب فلا إعادة عليه لوجود(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
التوجه إلى القبلة ، ولو شرع لا بالتحري ثم علم في الصلاة أنه أصاب يستأنف التحريمة .
وقال أبو يوسف : يمضي فيها ، لأنه لو قطعها يستأنف إلى هذه الجهة فلا فائدة فيه . ولهما
إن حاله بعد العلم أقوى لتيقنه بجهة القبلة ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز ، ولهذا قلنا
المومي إذا قدر على الركوع والسجود لا يبني ، لأنه بناء القوي على الضعيف كذا هنا ، ومن
أداه اجتهاده إلى جهة فصلى إلى غيرها فسدت وإن علم أنه أصاب القبلة . وقال أبو يوسف :
هي جائزة لحصول المقصود وهو إصابة القبلة . ولهما أنه ترك فرضا لزمه عند الافتتاح وهو
الصلاة إلى جهة التحري ، فصار كما إذا ترك النية ونحوها . وأما النية فلقوله عليه الصلاة
والسلام : ' إنما الأعمال بالنية ' ولأنه لا إخلاص إلا بالنية ، وقد أمرنا بالإخلاص . قال
تعالى : ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( [ البينة : 5 ] .
قال : ( وينوي الصلاة التي يدخل فيها نية متصلة بالتحريمة ، وهي أن يعلم بقلبه أي
صلاة هي ، ولا معتبر باللسان ) لأن النية عمل القلب . قال محمد بن الحسن : النية بالقلب
فرض ، وذكرها باللسان سنة ، والجمع بينهما أفضل ؛ والأحوط أن ينوي مقارنا للشروع : أي
مخالطا للتكبير كما قاله الطحاوي . وعن محمد فيمن خرج من منزله يريد الفرض في
جماعة ، فلما انتهى إلى الإمام كبر ولم تحضره النية يجوز لأنه باق على نيته بالإقبال على
تحقيق ما نوى ، ثم إن كان يريد التطوع يكفيه نية أصل الصلاة ، وفي القضاء يعين الفرض ،
وفي الوقتية ينوي فرض الوقت أو ظهر الوقت ( وإن كان مأموما ينوي فرض الوقت والمتابعة )
أو ينوي الشروع في صلاة الإمام ، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته .
باب الأفعال في الصلاة
قال : ( وينبغي للمصلي أن يخشع في صلاته ) لقوله تعالى : ) قد أفلح المؤمنون
الذين هم في صلاتهم خاشعون ( [ المؤمنون : 2 ] ' وكان ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلى كان لجوفه أزيز
كأزيز المرجل ' ( ويكون نظره إلى موضع سجوده ) لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام
كان لا يجاوز بصره في صلاته موضع سجوده تخشعا لله تعالى ' وهو أقرب إلى(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
التعظيم من إرسال الطرف يمينا وشمالا . قال : ( ومن أراد الدخول في الصلاة كبر ) لقوله
تعالى : ) وذكر اسم ربه فصلى ( [ الأعلى : 15 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يقبل الله
صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ' ويستقبل القبلة ويقول : الله أكبر ، وإن افتتح
بلفظ آخر يشتمل على الثناء والتعظيم كالتهليل والتسبيح أو باسم آخر كقوله الرحمن أكبر
أجزأه . وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بلفظ التكبير وهو قوله : الله أكبر ، الله أكبر ، الله
الكبير ، الله الكبير ، إلا أن لا يحسنه ، لأن المتوارث الله أكبر ، وأفعل وفعيل سواء في
صفاته تعالى . ولهما قوله تعالى : ) وذكر اسم ربه فصلى ( نزلت في تكبيرة الافتتاح فقد
اعتبر مطلق الذكر ، وتقييد الكتاب بخبر الواحد لا يجوز . ولو افتتح بقوله الله أو الرحمن
جاز عند أبي حنيفة لوجود الذكر . وقال محمد : لا يجوز إلا أن يضم إليه الصفة
كقوله أجل أو أعظم ، ولو قال اللهمّ الأصح أنه يجوز ومعناه : يا ألله ، والميم المشددة
خلف على النداء ؛ ولو قال اللهم اغفر لي لا يجوز لأنه ليس بتعظيم خالص ، ولو
افتتح الأخرس والأمي بالنية جاز ، والأفضل أن يكبر المأموم مقارنا لتكبير الإمام
وعندهما بعده ، وفي السلام بعده بالاتفاق ؛ والفرق لأبي حنيفة أن التكبير شروع في
العبادة ، فالمسارعة إليه أفضل ، والسلام خروج منها ، فالإبطاء أفضل ، ويحذف التكبير
وهو السنة ، ولأن المد في أوله كفر لكونه استفهاما ، وفي آخره لحن من حيث
العربية .
قال : ( ويرفع يديه ليحاذي إبهاماه شحمتي أذنيه ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لوائل بن حجر : ' إذا
افتتحت الصلاة فارفع يديك حذاء أذنيك ' وهو أن يرفعهما منصوبتين حتى تكون الأصابع مع
الكف نحو القبلة ولا يفرج بين الأصابع ، وهكذا تكبيرة القنوت وصلاة العيدين ( ولا يرفعهما
في تكبيرة سواها ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن ' وذكر هذه الثلاثة ، وأربعا
في الحج نذكرها إن شاء الله تعالى .
قال : ( ثم يعتمد بيمينه على رسغ يساره تحت سرته ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ثلاث من أخلاق
الأنبياء : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليمين على الشمال تحت السرة '
والمرأة تضع يدها على صدرها لأنه أستر لها ويقبض بكفه اليمنى رسغ اليسرى كما فرغ من
التكبير فهو أبلغ في التعظيم ، وهكذا في تكبيرة القنوت والجنازة لأنه قيام ممتد كالقراءة .
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في الإرسال فيهما ، وهو قول محمد وهو اختيار(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
مشايخنا رحمهم الله ، لأنها قومة لا قراءة فيها كما بين الركوع والسجود ، وبين تكبيرات
العيدين يرسلهما لأن الوضع لا يفيد لتتابع التكبيرات .
قال : ( ويقول : سبحانك اللهم إلى آخره ) وزاد محمد وجل ثناؤك ولا يزيد عليه . وقال
أبو يوسف : يجمع بينه وبين قوله - وجهت وجهي - إلى آخره ، لأن الأخبار وردت بهما
فيجمع بينهما . ولهما ما روى ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' أنه كان
إذا كبر لافتتاح الصلاة قرأ سبحانك اللهم ' إلى آخره ، وهكذا روي عن أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما . وما روي من حديث التوجه كان في ابتداء الإسلام ، فلما شرع التسبيح
نسخ كما روي أنه كان يقول في الركوع : ركع لك ظهري ، وفي السجود : سجد لك وجهي ،
فلما نزل - ) فسبح باسم ربك العظيم ( [ الواقعة : 74 ] - جعلوه في الركوع ونزل - ) سبح
اسم ربك الأعلى ( [ الأعلى : 1 ] - فجعلوه في السجود ونسخ ما كانوا يقولونه قبله ، فكذلك
فيما نحن فيه توفيقا بين الحديثين .
قال : ( ويتعوذ ) إن كان إماما أو منفردا لقوله تعالى : ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم ( [ النحل : 98 ] أي إذا أردت قراءة القرآن ، وإن كان مأموما لا يتعوذ . وقال
أبو يوسف يتعوذ لأن التعوذ تبع للثناء وهو للصلاة عنده فإن التعوذ ورد به النص صيانة
للعبادة عن الخلل الواقع فيها بسبب وسوسة الشيطان ، والصلاة تشتمل على القراءة والأذكار
والأفعال فكانت أولى . وعندهما الافتتاح القراءة بالنص ولا قراءة على المأموم ، وعلى هذا
إذا قام المسبوق للقضاء يتعوذ عندهما لحاجته إلى القراءة ؛ وعنده لا لأنه تعوذ بعد الثناء .
وفي صلاة العيد يتعوذ الإمام عنده قبل التكبير وعندهما بعده ؛ ويخفى التعوذ لحديث ابن
مسعود رضي الله عنه ' خمس يخفيهن الإمام : التعوذ ، والتسمية ، والتأمين ، وربنا لك الحمد ،
والتشهد ' . قال : ( ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرؤها . قال :
( ويخفيها ) لحديث أنس قال : ' صليت خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وكانوا
يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ' وفي رواية ' كانوا يخفون بسم الله الرحمن
الرحيم ' . وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه ' أنه سمع ابنه يجهر بها فقال : يا بني إياك
والحدث في الإسلام ، صليت خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلف أبي بكر وعمر وكانوا لا يجهرون
بالتسمية ، فإذا أردت القراءة فقل : الحمد لله رب العالمين ' .(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
قال : ( ثم إن كان إماما جهر بالقراءة في الفجر والأوليين من المغرب والعشاء وفي
الجمعة والعيدين ) هذا هو المأثور عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمتوارث من لدن الصدر الأول إلى
يومنا هذا . ويخفى في الظهر والعصر لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' صلاة النهار عجماء ' ولأنه المأثور
المتوارث ( وإن كان منفردا إن شاء جهر ) لأنه إمام نفسه ( وإن شاء خافت ) لأنه ليس عليه أن
يسمع غيره ، والجهر أفضل لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من صلى وحده على هيئة الجماعة صلى خلفه
صفوف من الملائكة ' .
قال : ( وإن كان مأموما لا يقرأ ) لقوله تعالى : ) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا (
[ الأعراف : 204 ] . قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما وجماعة من المفسرين : نزلت
في الصلاة خاصة حين كانوا يقرؤون خلفه عليه الصلاة والسلام . وعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا قرأ فأنصتوا ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) :
' من كان مأموما فقراءة الإمام له قراءة ' . وروى الشعبي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' لا قراءة خلف
الإمام ' ، ( وإذا قال الإمام : ولا الضالين ، قال : آمين ، ويقولها المأموم ويخفيها ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) :
' إذا قال الإمام ولا الضالين - فقولوا آمين ، فإن الإمام يقولها ' . وروى وائل بن حجر عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإخفاء ، ولما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
قال : ( فإذا أراد الركوع كبّر ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكبر عند كل خفض ورفع . قال :
( وركع ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) للأعرابي حين علمه الصلاة : ' ثم اقرأ ما تيسر من القرآن ثم اركع '
والركوع يتحقق بما ينطلق عليه الاسم ، لأنه عبارة عن الانحناء ، وقيل إن كان إلى حال القيام
أقرب لا يجوز ، وإن كان إلى حال الركوع أقرب جاز . قال : ( ووضع يديه على ركبتيه ،(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ويفرّج أصابعه ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنس رضي الله عنه : ' إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرّق
بين أصابعك ' ولأنه أمكن في أخذ الركبة ( ويبسط ظهره ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ' كان إذا ركع لو وضع
على ظهره قدح ماء لاستقر ' ( ولا يرفع رأسه ولا ينكسه ) كما فعل ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولنهيه عن تدبيح
كتدبيح الحمار ( ويقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إذا ركع أحدكم وقال في
ركوعه : سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه ' وذلك أدناه ، وإن زاد فهو أفضل إلا أنه
يكره للإمام التطويل لما فيه من تنفير الجماعة .
( ثم يرفع رأسه ويقول : سمع الله لمن حمده ، ويقول المؤتم : ربنا لك الحمد ) أو اللهم
ربنا لك الحمد ، وبهما ورد الأثر ، ولا يجمع الإمام بينهما ، وقالا يجمع ، وهو رواية الحسن
عنه لئلا يكون تاركا ما حض عليه غيره ، وليس لنا ذكر يختص به المأموم . ولأبي حنيفة
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، قولوا : ربنا لك الحمد ' قسم الذكرين
بينهما فينافي الشركة ، ولأن الإمام لو أتى بالتحميد يتأخر عن قول المأموم فيصير الإمام تبعا
ولا يجوز ، والمنفرد يجمع بينهما في رواية الحسن ، وفي رواية : يأتي بالتسميع لا غير ، وفي
رواية أبي يوسف : بالتحميد لا غير ، وعليه أكثر المشايخ ( ثم يكبر ) كما تقدم ( ويسجد على
أنفه وجبهته ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واظب على ذلك ، فإن اقتصر على الأنف جاز وقد أساء .
وقالا : لا يجوز إلا من عذر ، وإن اقتصر على الجبهة جاز بالإجماع ولا إساءة . والأصل
فيه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الوجه ، والكفين ، والركبتين ،
والقدمين ' ولهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' مكن جبهتك وأنفك من الأرض ' وله أن الأنف محل
السجود ، بدليل جواز السجود عليه عند العذر ، ولو لم يكن محلا لما جاز كالخد والذقن ،
فإذا سجد على الأنف يكون ساجدا ، فيخرج عن عهدة السجود في قوله تعالى :
) واسجدوا ( [ الحج : 77 ] ولأن الجبهة والأنف عظم واحد ، ثم السجود على أحد طرفيه
يجوز فكذا الآخر .(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
قال : ( ويضع ركبتيه قبل يديه ويضع يديه حذاء أذنيه ( هكذا نقل فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
( ويبدي ضبعيه ، ويجافي بطنه عن فخذيه ) لما روي ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجافي في سجوده
حتى إن بهمة لو أرادت أن تمر لمرت ' ( ولا يفترش ذراعيه ) لنهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن افتراش
الثعلب ( ويقول سبحان ربي الأعلى ثلاثا ) لأنه لما نزل قوله تعالى : ) سبح اسم ربك
الأعلى ( [ الأعلى : 1 ] قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اجعلوه في سجودكم ' .
( ولو سجد على كور عمامته أو فاضل ثوبه جاز ) قال ابن عباس : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم )
يسجد على كور عمامته . وقال أيضا : إنه عليه الصلاة والسلام صلى في ثوب واحد يتقي
بفضوله حر الأرض وبردها ؛ ولو سجد على السرير والعرزال جاز ، ولو سجد على
الحشيش والقطن إن وجد حجمه بجبهته كالطنفسة واللبد والحصير جاز ( ثم يكبر ) لما بينا
( ويرفع رأسه ويجلس ) والواجب من الرفع ما يتناوله الاسم ، لأن الواجب الفصل بين
السجدتين وأنه يتحقق بما ذكرنا ؛ وقيل إن كان أقرب إلى القعود جاز وإلا فلا ( فإذا جلس
كبر وسجد ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم اجلس حتى تستوي جالسا '
( ثم يكبر وينهض قائما ) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينهض على
صدور قدميه قال : ( ويفعل كذلك في الركعة الثانية ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لرفاعة : ' ثم افعل ذلك في
كل ركعة ' .
قال : ( إلا الاستفتاح ) لأن محله ابتداء الصلاة ( والتعوذ ) لأنه لابتداء القراءة ولم يشرعا
إلا مرة واحدة ، ثم تعديل الأركان ليس بفرض . وقال أبو يوسف فرض ، وهو الطمأنينة في
الركوع والسجود ، وإتمام القيام من الركوع ، والقعدة بين السجدتين . له قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأعرابي
حين أخف صلاته : ' أعد صلاتك فإنك لم تصل ' ولهما أنه أتى بما ينطلق عليه اسم(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
الركوع والسجود وهو انحناء الظهر ووضع الجبهة فدخل تحت قوله : - ) اركعوا واسجدوا (
[ الحج : 77 ] - والطمأنينة دوام عليه ، والأمر بالفعل لا يقتضي الدوام عليه ، ولا تجوز الزيادة
على الكتاب بخبر الواحد ، وما رواه يقتضي الوجوب ، وهي واجبة عندنا حتى يجب سجود
السهو بتركها ساهيا ؛ وقيل هي سنة قال : ( فإذا رفع رأسه في الركعة الثانية من السجدة الثانية
افترش رجله اليسرى فجلس عليها ونصب اليمنى ، ووجه أصابعه نحو القبلة ، ووضع يديه
على فخذيه ، وبسط أصابعه وتشهد ) هكذا حكى وائل بن حجر وعائشة قعود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
في التشهد .
( والتشهد : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله ) وهو تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، لما روي ' أن حمادا أخذ بيد
أبي حنيفة وعلمه التشهد ، وقال : أخذ إبراهيم النخعي بيدي وعلمني ، وأخذ علقمة بيد
إبراهيم وعلمه ، وأخذ عبد الله بن مسعود بيد علقمة وعلمه ، وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيد
عبد الله وعلمه التشهد ، فقال : قل التحيات لله ' إلى آخر ما ذكرنا ، والأخذ به أولى من
رواية غيره ، لأن أخذه بيده وأمره يدل على زيادة التأكيد . واتفق أئمة الحديث أنه لم ينقل في
التشهد أحسن من إسناد عبد الله بن مسعود ، ولأن فيه زيادة واو العطف ، وأنه يوجب تعدد
الثناء لأن المعطوف غير المعطوف عليه . وتشهد ابن عباس رضي الله عنهما ثناء واحد بعضه
صفة لبعض ، وهذه القعدة سنة عند الطحاوي والكرخي ؛ وقيل هي واجبة حتى يجب بتركها
ساهيا سجود السهو ، وقراءة التشهد فيها سنة ؛ وقيل واجب وهو الأصح ، لأن محمدا أوجب
سجود السهو بتركه ، ولا يجب الواجب إلا بترك الواجب .
قال : ( ولا يزيد على التشهد في القعدة الأولى ) لما روت عائشة رضي الله عنها ' أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يزيد على التشهد في الركعتين ' ( ثم ينهض مكبرا ) لأنه أتم الشفع الأول(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وبقي عليه الشفع الثاني فينتقل إليه ( ويقرأ فيهما فاتحة الكتاب ) وهي سنة به ورد الأثر ، وإن
شاء سبح لأنها ليست بواجبة . وروى الحسن عن أبي حنيفة أن القراءة في الأخريين واجبة ،
ولو تركها ساهيا يلزمه سجود السهو . وفي ظاهر الرواية لو سكت فيهما عامدا كان مسيئا ،
وإن كان ساهيا لا سهو عليه ( ويجلس في آخر الصلاة ) كما بينا في الأولى لما روينا
( ويتشهد ) كما قلنا ( ويصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو سنة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لابن مسعود حين علمه
التشهد : ' إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك ' علق التمام بأحد الأمرين فيتم عند
وجود أحدهما ، فدل على أن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليست بفرض ، وهي واجبة عندنا خارج
الصلاة عملا بالأمر الوارد بها في القرآن فلا يلزمنا العمل به في الصلاة .
قال ( ويدعو بما شاء مما يشبه ألفاظ القرآن والأدعية المأثورة ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ثم اختر من
الدعاء أطيبه ' والقعدة الأخيرة فرض والتشهد فيها واجب لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الأعرابي :
' إذا رفعت رأسك من آخر سجدة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك ' علق التمام
بالقعدة دون التشهد ، ومقدار الفرض في القعود مقدار التشهد .
قال : ( ثم يسلم عن يمينه فيقول : السلام عليكم ورحمة الله ، وعن يساره كذلك ) لرواية
ابن مسعود أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ' كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن ، وعن شماله حتى يرى
بياض خده الأيسر ' وينوي بالأولى من عن يمينه من الملائكة والناس ، وبالأخرى كذلك
لأنه خطاب الحاضرين ، وينوي الإمام في الجهة التي هو فيها ، وإن كان حذاءه ينويه فيهما ،
وقيل في اليمين ، والمنفرد ينوي الحفظة لا غير .
والخروج بلفظ السلام ليس بفرض لما روينا من حديث ابن مسعود وأنه ينافي
الفرضية . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : ' تحليلها التسليم ' يدل على الوجوب أو السنة ،
ونحن نقول به .(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
فصل
( الوتر واجب ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلاتكم
الخمس ألا وهي الوتر فحافظوا عليها ' والزيادة تكون من جنس المزيد عليه ، وقضيته
الفرضية إلا أنه ليس مقطوعا به فقلنا بالوجوب . وقال أبو يوسف ومحمد : هي سنة لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم ' وفي رواية ' وهي لكم سنة :
الوتر ، والضحى ، والأضحى ' قلنا الكتابة هي الفرض . قال الله تعالى : ) إن الصلاة كانت
على المؤمنين كتابا موقوتا ( [ النساء : 103 ] أي فرضا موقتا ، ويقال للفرائض المكتوبات ،
فكان نفي الكتابة نفي الفرضية ، ونحن لا نقول بالفرضية بل بالوجوب . وأما قوله : ' وهي
لكم سنة ' أي ثبت وجوبها بالسنة ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي أمر بها والأمر للوجوب ، وهي عندهما
أعلى رتبة من جميع السنن حتى لا تجوز قاعدا مع القدرة على القيام ، ولا على راحلته من
غير عذر وتقضي ذكره في المحيط .
قال : ( وهي ثلاث ركعات كالمغرب لا يسلم بينهن ) لما روى ابن مسعود وابن عباس
وأبي بن كعب وعائشة وأم سلمة ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن ' .
قال : ( ويقرأ في جميعها ) والمستحب أن يقرا في الأولى بفاتحة الكتاب و ) سبح اسم ربك
الأعلى ( [ الأعلى : 1 ] ، وفي الثانية بالفاتحة و ) قل يا أيها الكافرون ( [ الكافرون : 1 ] ، وفي
الثالثة بها و ) قل هو الله أحد ( [ الإخلاص : 1 ] ، هكذا نقل قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيها ، ولأنه
لما اختلف في وجوبها وجبت القراءة في جميعها احتياطا .
قال : ( ويقنت في الثالثة قبل الركوع ويرفع يديه ) لما روينا ( ويكبر ) لما مر ( ثم يقنت )
لما روى علي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقنت في الثالثة قبل
الركوع وليس فيه دعاء مؤقت ' وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' أنه كان يقرأ : اللهم إنا نستعينك واللهم
اهدنا ' قالوا : ومعنى قول محمد ليس فيه دعاء مؤقت غير ذلك . ومن لا يحسن الدعاء
يقول : اللهم اغفر لنا مرارا ) ربنا آتنا في الدنيا حسنة ( [ البقرة : 201 ] الآية . واختار أبو(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
الليث الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعده ، وهو مروي عن النخعي ، وكرهه بعضهم لعدم ورود السنة
به .
قال : ( ولا قنوت في غيرها ) لقول ابن مسعود : ' ما قنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صلاة
الصبح إلا شهرا لم يقنت قبله ولا بعده ' . وروت أم سلمة ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن القنوت
في صلاة الفجر ' . وما روى أنس ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقنت في صلاة الصبح ' معارض بحديث
ابن مسعود . وبما روى قتادة عن أنس أنه قال : ' قنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصبح بعد الركوع
يدعو على أحياء من العرب ثم تركه ' فدل على أنه نسخ ، فلو صلى الفجر خلف إمام
يقنت يتابعه عند أبي يوسف لئلا يخالف إمامه . وعندهما لا يتابعه لأنه حكم منسوخ ، وصار
كالتكبيرة الخامسة في صلاة الجنازة ، والمختار أنه يسكت قائما ، ولو سها عن القنوت فركع
ثم ذكر لا يعود ، وعن أبي حنيفة أنه يعود إلى القنوت ثم يركع .
فصل
( القراءة فرض في ركعتين ) لقوله تعالى : ) فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ( [ المزمل : 20 ]
ولا يفترض في غير الصلاة فتعين في الصلاة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' القراءة في
الأوليين قراءة في الأخريين ' أي تنوب عنها كقولهم : لسان الوزير لسان الأمير ( سنة في
الأخريين ، وإن سبح فيهما أجزأه ) وقد بيناه . قال : ( ومقدار الفرض آية في كل ركعة ) وقالا :
ثلاث آيات قصار أو آية طويلة تعدلها ، لأن القرآن اسم للمعجز ولا معجز دون ذلك . وله
قوله تعالى : ) فاقرؤوا ما تيسر منه ( [ المزمل : 20 ] من غير تقييد ، وما دون الآية خارج
فبقي ما وراءه ، ولا يفترض قراءة الفاتحة في الصلاة لإطلاق ما تلونا ، وقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ' إلى غيره من الأحاديث أخبار آحاد لا يجوز نسخ
إطلاق الكتاب بها فيحمل على الوجوب دون الفرضية كما قلنا ( والواجب الفاتحة والسورة أو(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
ثلاث آيات ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واظب على ذلك من غير ترك ، ولذلك وجب سجود السهو بتركه
ساهيا ( والسنة أن يقرأ في الفجر والظهر طوال المفصل ، وفي العصر والعشاء أوساطه ، وفي
المغرب قصاره ) هكذا كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ولا يعرف إلا توقيفا ؛
وقيل المستحب أن يقرأ في الفجر أربعين أو خمسين ؛ وقيل من أربعين إلى ستين . وروى
ابن زياد : من ستين إلى مائة بكل ذلك وردت الآثار ؛ وقيل المائة للزهاد والستون في
الجماعات المعهودة ، والأربعون في مساجد الشوارع ، وفي الظهر ثلاثون ، وفي العصر
والعشاء عشرون . والأصل أن الإمام يقرأ على وجه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة ، وإن كان
منفردا فالأولى أن يقرأ في حالة الحضر الأكثر تحصيلا للثواب .
( وفي حالة الضرورة والسفر يقرأ بقدر الحال ) دفعا للحرج . والسنة أن يقرأ في كل
ركعة سورة تامة مع الفاتحة ، ويستحب أن لا يجمع بين سورتين في ركعة لأنه لم ينقل ، وإن
فعل لا بأس ، وكذلك سورة في ركعتين قال : ( ولا يتعين شيء من القرآن لشيء من
الصلوات ) لإطلاق النصوص ( ويكره تعيينه ) لما فيه من هجران الباقي إلا أن يكون أيسر
عليه ، أو تبركا بقراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع علمه أن الكل سواء ، ويطوّل الأولى من الفجر على الثانية
إعانة للناس على الجماعات ، ويكره في سائر الصلوات . وقال محمد : يستحب ذلك في
جميع الصلوات ، كذا نقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قلنا الركعتان استوتا في استحقاق القراءة فلا وجه
إلى التفضيل بخلاف الصبح فإنه وقت نوم وغفلة ، وما رواه محمول على التطويل من حيث
الاستفتاح والتعوذ ، ولا اعتبار في ذلك بما دون ثلاث آيات لعدم إمكان التحرز عنه .
فصل
( الجماعة سنة مؤكدة ) قال عليه الصلاة والسلام : ' الجماعة من سنن الهدى ' وقال
عليه الصلاة والسلام : ' لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق إلى قوم يتخلفون(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
عن الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم ' وهذا أمارة التأكيد ، وقد واظب عليها ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يسع
تركها إلا لعذر ، ولو تركها أهل مصر يؤمرون بها ، فإن قبلوا وإلا يقاتلون عليها لأنها من
شعائر الإسلام .
قال : ( وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة ) إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به
الصلاة ، ويجتنب الفواحش الظاهرة . وعن أبي يوسف أقرؤهم لقوله عليه الصلاة والسلام :
' يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ' قلنا الحاجة إلى العلم أكثر فكان أولى وفي زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
كانوا يتلقون القرآن بأحكامه فكان أقرؤهم أعلمهم ( ثم أقرؤهم ) للحديث ( ثم أورعهم ) لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي ' ( ثم أسنهم )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' وإذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما سنا ' . ( ثم
أحسنهم خلقا ، ثم أحسنهم وجها ) . والأصل أن من كان وصفه يحرض الناس على الاقتداء
به ويدعوهم إلى الجماعة كان تقديمه أولى ، لأن الجماعة كلما كثرت كان أفضل حتى قالوا
يكره لمن يكثر التنحنح في القراءة أن يؤم ، وكذلك من يقف في غير مواضع الوقف ، ولا
يقف في مواضعه لما فيه من تقليل الجماعة .
قال ( ولا يطول بهم الصلاة ) على وجه يؤدي إلى التنفير ، بل يخفف تخفيفا عن تمام
لحديث معاذ فإنه كان يطول بهم القراءة في الصلاة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' أفتان أنت
يا معاذ صل بالقوم صلاة أضعفهم فإن فيهم الصغير والكبير وذا الحاجة ' . قال : ( ويكره إمامة
العبد والأعرابي والأعمى والفاسق وولد الزنا والمبتدع ) لأن إمامتهم تقلل الجماعات ، لسقوط
منزلة العبد عند الناس ، ولأن الغالب على الأعرابي الجهل . قال تعالى : ) وأجدر أن لا
يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ( [ التوبة : 97 ] والفاسق لفسقه ، والأعمى لا يجتنب
النجاسات ، وولد الزنا يستخف به عادة ، وليس له من يعلمه فيغلب عليه الجهل ( ولو تقدموا
وصلوا جاز ) قال عليه الصلاة والسلام : ' صلوا خلف كل بر وفاجر ' والكراهة في حقهم
لما ذكر من النقائص ، ولو عدمت بأن كان العربي أفضل من الحضري ، والعبد من الحر ،(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
وولد الزنا من ولدة الرشدة ، والأعمى من البصير فالحكم بالضد . وأما المبتدع فكان أبو
حنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع . قال أبو يوسف : أكره أن يكون إمام القوم صاحب بدعة
أو هوى . وعن محمد : لا تجوز الصلاة خلف الرافضة والجهمية والقدرية .
قال : ( ولا تجوز إمامة النساء والصبيان للرجال ) أما النساء فلقوله عليه الصلاة والسلام :
' أخروهن من حيث أخرهن الله ' وإنه نهى عن التقديم . وأما الصبي فلأن صلاته تقع نفلا
فلا يجوز الاقتداء به ؛ وقيل يجوز في التراويح لأنها ليست بفرض ؛ والصحيح الأول لأن نفله
أضعف من نفل البالغ فلا يبتني عليه . قال : ( ومن صلى بواحد أقامه عن يمينه ) لحديث ابن
عباس قال : ' وقفت عن يسار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذ بذؤابتي فأدارني إلى يمينه ' فدل على أن
اليمين أولى ، وأن القيام عن يساره لا يفسد الصلاة ، وأن الفعل اليسير لا يفسد الصلاة .
قال : ( فإن صلى باثنين أو أكثر تقدم عليهم ) لحديث أنس قال : ' أقامين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واليتيم وراءه ، وأم سليم وراءنا ' ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' الاثنان فما فوقهما
جماعة ' قال : ( ويصف الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء ) أما الرجال فلقوله عليه
الصلاة والسلام : ' ليلني أولو الأحلام منكم ' وأما الصبيان فلحديث أنس ، وأما الخناثى
فلاحتمال كونهم إناثا ، وأما تقديمهم على النساء فلاحتمال كونهم ذكورا . قال : ( ولا تدخل
المرأة في صلاة الرجل إلا أن ينويها الإمام ) وقال زفر : تدخل بغير نية كالرجل . ولنا أنه
يلحقه من جهتها ضرر على سبيل الاحتمال بأن تقف في جنبه فتفسد صلاته ، فكان له أن
يحترز عن ذلك بترك النية .
قال : ( وإذا قامت إلى جانب رجل في صلاة مشتركة فسدت صلاته ) والقياس أن لا
تفسد كما لا تفسد صلاتها . وجه قولنا إنه ترك فرض المقام لأنه مأمور بتأخيرها وهو
المختص بالأمر دونها فتفسد صلاته ، وإن قامت في الصف أفسدت صلاة من عن يمينه
ويسارها وخلفها بحذائها ، والثنتان تفسدان صلاة أربعة من عن يمين إحداهما ويسار الأخرى(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
واثنين خلفهما ، والثلاث يفسدن صلاة خمسة . وعن محمد : يفسدن صلاة ثلاثة ثلاثة إلى
آخر الصفوف ، وهو الصحيح المختار على قول أبي حنيفة ، وكذا عن أبي يوسف في
المرأتين ، ولو كان النساء صفا تاما فسدت صلاة من خلفهن من الصفوف وشرط المحاذاة أن
تكون الصلاة مشتركة وأن تكون مطلقة ، والاستواء في البقعة ، وأن تكون من أهل الشهوة ،
ولا يكون بينهما حائل ، وأدناه مثل مؤخرة الرجل . قال : ( ويكره للنساء حضور الجماعات )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' بيوتهن خير لهن ' ولما فيه من خوف الفتنة وهذا في الشواب
بالإجماع . أما العجائز فيخرجن في الفجر والمغرب والعشاء . وقال يخرجن في الصلوات
كلها لوقوع الأمن من الفتنة في حقهن . وله أن الفساق ينتشرون في الظهر والعصر وفي
المغرب يشتغلون بالعشاء ، وفي الفجر والعشاء يكونون نياما ، ولكل ساقة لاقطة ؛ والمختار
في زماننا أن لا يجوز شيء من ذلك لفساد الزمان والتظاهر بالفواحش .
قال : ( وأن يصلين جماعة ) لأنها لا تخلو عن نقص واجب أو مندوب ، فإنه يكره لهن
الأذان والإقامة وتقدم الإمام عليهن ( فإن فعلن وقفت الإمام وسطهن ) هكذا روي عن عائشة ،
وهو محمول على الابتداء . قال : ( ولا يقتدي الطاهر بصاحب عذر ، ولا القارئ بالأمي ، ولا
المكتسي بالعريان ، ولا من يركع ويسجد بالمومي ، ولا المفترض بالمتنفل ) وأصله أن صلاة
المقتدي تنبني على صلاة الإمام صحة وفسادا لقوله عليه الصلاة والسلام : ' الإمام ضامن '
أي ضامن بصلاته صلاة المؤتم ، وبناء الناقص على الكامل يجوز ، والكامل على الناقص لا
يجوز ، لأن الضعيف لا يصلح أساسا للقوي ، لأنه بقدر النقصان يكون بناء على المعدوم وإنه
محال .
إذا عرف هذا فنقول : حال الطاهر أقوى من حال صاحب العذر ، وحال القارئ أقوى
من حال الأمي ، وحال المكتسي أقوى من حال العريان ، وحال الذي يركع ويسجد أقوى من
حال المومي ، وحال المفترض أقوى من المتنفل ، فلا تجوز صلاتهم خلفهم . قال : ( ولا
المفترض بمن يصلي فرضا آخر ) لأن المقتدي مشارك للإمام فلا بد من الاتحاد ، فإن أمّ أميّ
قارئين وأميين فسدت صلاة الكل ؛ وقالا : تجوز صلاة الإمام ومن بحاله لاستوائهم كما إذا(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
انفردوا . ولأبي حنيفة أن الجميع قادرون على القراءة بتقديم القارئ ، إذ قراءة الإمام قراءة
لهم بالحديث ، فقد تركوا القراءة مع القدرة عليها فتبطل صلاتهم ، وعلى هذا العاجز عن
الإتيان ببعض الحروف ، قالوا : ينبغي أن لا يؤم غيره لما بينا ولما فيه من تقليل الجماعة ؛
فلو صلى وحده إن كان لا يجد آيات تخلو عن تلك الحروف جاز بالإجماع ، وإن وجد وقرأ
بما فيه تلك الحروف قيل يجوز كالأخرس يصلي وحده ، وقيل لا يجوز كالقارئ إذا صلى
بغير قراءة ، بخلاف الأخرس لأنه قد لا يجد إماما .
قال : ( ويجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم ) وقال محمد : لا يجوز لأن التيمم طهارة
ضرورية كطهارة صاحب العذر . ولنا ما روي ' أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة
فتيمم وصلى بأصحابه ، ثم أخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يأمره بالإعادة ' . وقد تقدم أن
التيمم طهارة عند عدم الماء ، فكان اقتداء طاهر بطاهر . قال : ( والغاسل بالماسح ) لأن الخف
يمنع وصول الحديث إلى الرجل ، وإنما يحل الحدث بالخف وقد ارتفع بالمسح . قال :
( والقائم بالقاعد ) خلافا لمحمد وهو القياس ، لأن القائم أقوى حالا . ولنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى آخر
صلاة صلاها قاعدا والناس خلفه قيام ، وبمثله يترك القياس . قال : ( والمتنفل بالمفترض ) لأنه
أضعف حالا وبناء الأضعف على الأقوى جائز ، ولأنه يحتاج إلى نية أصل الصلاة وهو مجرد
بخلاف العكس ، لأن المفترض يحتاج إلى نية أصل الصلاة وإلى نية الفرضية وإنه معدوم في
المتنفل .
قال : ( ومن علم أن إمامه على غير طهارة أعاد ) لما بينا أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة
الإمام صحة وفسادا ، ولهذا المعنى يلزم المأموم سهو الإمام ، ويكتفي بقراءته لو أدركه في
الركوع ، وإذا كانت متعلقة بصلاته يفسد بفسادها . قال : ( ويجوز أن يفتح على إمامه ) لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' إذا استطعمك الإمام فأطعمه ' ولا ينبغي أن يفتح من ساعته لعل
الإمام يتذكر ، وينبغي للإمام أن لا يلجئه إلى الفتح ، فإن كان قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة
يركع . قال : ( وإن فتح على غيره فسدت صلاته ) لأنه تعليم وتعلم وهو القياس في إمامه إلا
أنا تركناه بما روينا ، وفيه إصلاح صلاته فافترقا . قال : ( ومن حصر عن القراءة أصلا فقدم
غيره جاز ) وقالا : لا يجوز لأنه نادر فلا يقاس على مورد النص ؛ وله أن الاستخلاف لعلة(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
العجز عن التمام وقد وجد ، ولا نسلم أنه نادر ؛ ولو قرأ ما تجوز به الصلاة لا يجوز
بالإجماع . قال : ( وإن قنت إمامه في الفجر سكت ) وقد بيناه .
فصل
( يكره للمصلي أن يعبث بثوبه ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الله كره لكم العبث في الصلاة ' ، ولأنه
يخل بالخشوع ، ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا يعبث في صلاته فقال : ' أما هذا لو خشع قلبه
لخشعت جوارحه ' ( أو يفرقع أصابعه ) لما ذكرنا ولنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك ( أو
يتخصر ) لأن فيه ترك الوضع المسنون ، ولنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك وهو وضع اليد
على الخاصرة ( أو يعقص شعره ) وهو أن يجمعه وسط رأسه أو يجعله ضفيرتين فيعقده في
مؤخر رأسه كما يفعله النساء ، لأنه نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص ( أو يسدل ثوبه )
لنهيه عليه الصلاة والسلام عن السدل وهو أن يجعله على رأسه ، ثم يرسل أطرافه من جوانبه
لأنه من صنيع أهل الكتاب ( أو يقعي ) لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ' نهاني خليلي ( صلى الله عليه وسلم )
عن ثلاث : عن أن أنقر نقر الديك ، أو أقعي إقعاء الكلب ، أو أفترش افتراش الثعلب ' .
والإقعاء : أن يقعد على أليتيه وينصب فخذيه ويضم ركبتيه إلى صدره ويضع يديه على
الأرض ( أو يلتفت ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الالتفات في الصلاة ، وقال : ' تلك خلسة يختلسها
الشيطان من صلاتكم ' ( أو يتربع بغير عذر ) لأنه يخل بالقعود المسنون ، ولأنها جلسة
الجبابرة حتى قالوا : يكره خارج الصلاة أيضا .
( أو يقلب الحصى ) لأنه عبث ( إلا لضرورة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' يا أبا ذر مرة
أو ذر ' ( أو يرد السلام بلسانه ) لأنه من كلام الناس ( أو بيده ) لأنه في معنى السلام ( أو
يتمطى أو يتثاءب ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن التثاؤب في الصلاة ، فإن غلبه كظم ما استطاع ووضع(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
يده على فمه ، بذلك أمر عليه الصلاة والسلام ( أو يغمض عينيه ) لأنه عليه الصلاة والسلام
نهى عنه ( أو يعد التسبيح أو الآيات ) .
وقال أبو يوسف : لا يكره وهو رواية عن محمد ، وعنه مثل مذهب أبي حنيفة .
لأبي يوسف أن السنة وردت بقراءة آيات معدودات في الصلاة ولا سبيل إليه إلا بالعد ؛
وعنه أنه أجاز ذلك في النفل خاصة ، لأنه سومح فيه ما لا يتسامح في الفرض ؛ ولأبي
حنيفة أن عده بيده يخل بالوضع المسنون فأشبه العبث ؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام :
' كفوا أيديكم في الصلاة ' وإن عده بقلبه يشغله عن الخشوع فأشبه التفكر في أمور
الدنيا . وأما العدد المسنون فيمكنه أن يعده خارج الصلاة ويقرأ فيها ، فلا حاجة إلى
العدد في الصلاة .
قال : ( ولا بأس بقتل الحية والعقرب في الصلاة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' اقتلوهما
ولو كنتم في الصلاة ' .
قال : ( وإن أكل أو شرب أو تكلم أو قرأ من المصحف فسدت صلاته ) أما الأكل
والشرب فلأنه عمل كثير ليس من الصلاة ؛ وأما الكلام فلقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن صلاتنا هذه لا
يصلح فيها شيء من كلام الناس ' وأما القراءة من المصحف ، فمذهب أبي حنيفة ؛
وعندهما لا تفسد لأن النظر في المصحف عبادة فلا يفسدها إلا أنه يكره لأنه تشبه بأهل
الكتاب . وله إن كان يحمله فهو عمل كثير لأنه حمل وتقليب الأوراق ، وإن كان على
الأرض فإنه تعلم وإنه عمل كثير فيفسدها كما لو تعلم من غيره .
قال : ( وكذلك إذا أنّ أو تأوه أو بكى بصوت ) لأنه من كلام الناس ( إلا أن يكون من
ذكر الجنة أو النار ) لأنه من زيادة الخشوع .(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
فصل
وإن سبقه الحدث توضأ وبنى ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من قاء أو رعف في
صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم ' ، فإن كان منفردا إن شاء عاد إلى
مكانه ، وإن شاء أتمها في منزله ، والمقتدي والإمام يعودان إلا أن يكون الإمام قد أتم الصلاة
فيتخيران ' .
( والاستئناف أفضل ) لخروجه عن الخلاف ، ولئلا يفصل بين أفعال الصلاة بأفعال ليست
منها ؛ وقيل إن كان إماما أو مقتديا فالبناء أولى إحرازا لفضيلة الجماعة ( وإن كان إماما
استخلف ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أيما إمام سبقه الحدث في الصلاة فلينصرف ولينظر
رجلا لم يسبق بشيء فليقدمه ليصلي بالناس ' ، وإنما يجوز البناء إذا فعل ما لا بد منه
كالمشي والاغتراف حتى لو استقى أو خرز دلوه ، أو وصل إلى نهر فجاوزه إلى غيره فسدت
صلاته .
قال : ( وإن جنّ أو نام فاحتلم أو أغمي عليه استقبل ) لأن وجود هذه الأشياء نادر فلا
يقاس على مورد الشرع ، ولأن النص ورد في الوضوء ، والغسل أكثر منه فلا يقاس عليه ،
وكذا يحتاج إلى كشف العورة وهو قاطع للصلاة ، وكذا إذا نظر فأنزل .
قال : ( وإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم ) لأنه لم يبق عليه سوى السلام ( وإن
تعمد الحدث تمت صلاته ) لأنه لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة ، وقد تعذر البناء لمكان
التعمد ، وإذا لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة تمت صلاته وقد تقدم ؛ ولو أصابته نجاسة
من خارج أو شجّ رأسه لا يبني .
وقال أبو يوسف : يبني كما إذا سبقه الحدث . قلنا ههنا ينصرف مع قيام الوضوء ، فلم
يكن في معنى ما ورد به النص فبقي على أصل القياس .(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
فصل
( ويقضي الفائتة إذا ذكرها كما فاتت سفرا أو حضرا ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره ' وقوله كما
فاتت لأن القضاء يحكي الأداء . قال : ( يقدمها على الوقتية إلا أن يخاف فوتها ، ويرتب
الفوائت في القضاء ) والأصل أن الترتيب شرط بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت ، لما روى
ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام
ثم ليصل التي نسي ، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام ' فلو لم يكن الترتيب شرطا
لما أمره بالإعادة ؛ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام فاتته أربعة صلوات يوم الخندق فقضاهن
على الترتيب وقال : ' صلوا كما رأيتموني أصلي ' .
قال : ( ويسقط الترتيب بالنسيان ، وخوف فوت الوقتية ، وأن تزيد على خمس ) أما
النسيان فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ' الحديث وما تقدم من
الحديث ، ووجهه أن وقت الفائتة وقت التذكر ، فإذا لم يذكرها فهما صلاتان لم يجمعها وقت
واحد فلا يجب الترتيب ؛ وأما خوف فوت الوقتية فلأن الحكمة لا تقتضي إضاعة الموجود
في طلب المفقود ، ولأن وجود الوقتية ثبت بالكتاب والترتيب ثبت بخبر الواحد ، فإن اتسع
الوقت عمل بها وإن ضاق فالعمل بالكتاب أولى ؛ وأما كثرة الفوائت فحده دخول وقت
السابعة ، لأن الكثرة بالتكرار ، والتكرار بوجوب السادسة ، ووجوبها آخر الوقت ، وإنما
يتحقق التكرار بدخول وقت السابعة . وهذا معنى قولنا أن تزيد على خمس ، لأنه متى زادت
الفوائت على خمس تكون ستا ، ومتى صارت ستا دخل وقت السابعة . وقال محمد : إذا
دخل وقت السادسة سقط الترتيب ، لأن الجنس كثير ، وجنس الصلاة خمس ، وهذا في
الفوائت الحديثة ؛ أما القديمة فالصحيح أنها لا تضم إليها لما فيه من الحرج ، وقيل تضم
عقوبة له .(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
( وإذا سقط الترتيب ) بالكثرة هل يعود إذا قلت ؟ المختار أنه ( لا يعود ) لأنه لما سقط
باعتبارها فلأن يسقط في نفسها أولى . وصورته لو فاتته صلاة شهر فقضى ثلاثين فجرا ثم
ثلاثين ظهرا وهكذا صح الجميع ، ولا يعود الترتيب لأن الساقط لا يحتمل العود ؛ وكذا لو
قضى جميع الشهر إلا صلاة يوم ثم صلى الوقتية وهو ذاكر لها جاز لما بينا ، ولا تعد
الوتر في الفوائت لأنها ليست من الفرائض ، ولأنها لو عددناها كملت الست ؛ ولا يدخل
في حد التكرار وهو المأخوذ في الكثرة .
( ويقضي الصلوات الخمس ) لما روينا ( والوتر ) لم بينا من وجوبها ، وقال عليه الصلاة
والسلام : ' من نام عن وتر أو نسيه فليصله إذا ذكره أو إذا استيقظ ' وفي رواية ' من نام عن
وتر فليصل إذا أصبح ' فكل ذلك يدل على الوجوب .
( وسنة الفجر إذا فاتت معها ) لأنه عليه الصلاة والسلام قضاها معها ليلة التعريس .
وعن محمد أنه يقضيها وإن فاتت وحدها ، لأنه عليه الصلاة والسلام قضاها دون غيرها
من السنن فدل على اختصاصها بذلك ( والأربع قبل الظهر يقضيها بعدها ) قالت عائشة :
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا فاتته الأربع قبل الظهر قضاها بعد الظهر ، ولأن الوقت وقت
الظهر وهي سنة الظهر ، ثم عند أبي يوسف يقضيها قبل الركعتين لأنها شرعت قبلها ؛
وعند محمد بعدها لأنها فاتت عن محلها ، فلا يفوّت الثانية عن محلها أيضا ، وهذا
بخلاف سنة العصر ، لأنها ليست مثلها في التأكيد ، ولنهيه عليه الصلاة والسلام عن
الصلاة بعد العصر .
باب النوافل
عن أم حبيبة وعائشة وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وابن عمر رضي الله عنهم
قالوا : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا
في الجنة : ركعتين قبل الفجر ، وأربعا قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ،(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
وركعتين بعد العشاء ' فهذه مؤكدات لا ينبغي تركها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام في
ركعتي الفجر : ' صلوهما ولو أدركتكم الخيل ' وقال : ' هما خير من الدنيا وما فيها ' روته
عائشة حتى كره أن يصليهما قاعدا لغير عذر . وقال عليه الصلاة والسلام : ' من ترك أربعا قبل
الظهر لم تنله شفاعتي ' .
( ويستحب أن يصلي بعد الظهر أربعا ) قالت أم حبيبة : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول :
' من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر ، وأربع بعدها حرمه الله على النار ' ( وقبل العصر
أربعا ) وعن أبي حنيفة ركعتين ، ولك ذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام ( وبعد المغرب ستا )
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما
بينهن بشيء عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة ' وقد ورد في القيام بعد المغرب فضل كثير ،
وقيل هي ناشئة الليل وتسمى صلاة الأوابين ؛ وروت عائشة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' من صلى بعد
المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ' ( وقبل العشاء أربعا ) وقيل ركعتين ( وبعدها
أربعا ) وقيل ركعتين ؛ وعن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قبل العشاء أربعا ، ثم
يصلي بعدها أربعا ثم يضطجع .
( ويصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا ) هكذا روي عن ابن مسعود ؛ وروى أبو هريرة
رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : ' من كان مصليا الجمعة فليصل قبلها أربعا
وبعدها أربعا ' وقيل بعدها ستا بتسليمتين مروي عن علي وهو مذهب أبي يوسف ، وكل
صلاة بعدها سنة يكره القعود بعدها ، بل يشتغل بالسنة لئلا يفصل بين السنة والمكتوبة ؛ وعن
عائشة ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقعد مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود
السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، ثم يقوم إلى السنة ' ولا يتطوع مكان الفرض لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر بسبحته ' وكذا
يستحب للجماعة كسر الصفوف لئلا يظن الداخل أنهم في الفرض .(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
قال : ( ويلزم التطوع بالشروع مضيا وقضاء ) لقوله تعالى : ) ولا تبطلوا أعمالكم (
[ محمد : 33 ] وقياسا على الصوم فيجب المضي ويجب القضاء لعدم الفصل ، ولقوله عليه
الصلاة والسلام للصائم : ' أجب أخاك واقض يوما مكانه ' وقال عليه الصلاة والسلام
لعائشة وحفصة وقد أفطرتا في صوم التطوع : ' اقضيا يوما مكانه ولا تعودا ' ويجوز قاعدا مع
القدرة على القيام لقول عائشة : ' كان عليه الصلاة والسلام يصلي قاعدا ، فإذا أراد أن يركع
قام فقرأ آيات ثم ركع وسجد ثم عاد إلى القعود ' ولأن الصلاة خير موضوع فربما شق
عليه القيام فجاز له ذلك إحرازا للخير ، وهذا مما لا ينقل فيه خلاف .
قال : ( فإن افتتحه قائما ثم قعد لغير عذر جاز ، ويكره ) وقال : لا يجوز اعتبارا بالنذر .
وله أن فوات القيام لا يبطل التطوع ابتداء فكذا بقاء ، وهذا لأن القيام صفة زائدة فلا يلزم إلا
بالتزامه صريحا كالتتابع في الصوم ، ولهذا خالف النذر . قال : ( وصلاة الليل ركعتان بتسليمة
أو أربع أو ست أو ثمان ) وكل ذلك نقل في تهجده عليه الصلاة والسلام ( ويكره الزيادة
على ذلك ) لأنه لم ينقل ، وقيل لا يكره كالثمان .
قال : ( وفي النهار ركعتان أو أربع ، والأفضل فيهما الأربع ) وقالا : الأفضل في الليل
المثنى اعتبارا بالتراويح ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' صلاة الليل مثنى مثنى ' وبين كل
ركعتين فسلم ؛ وله قول عائشة : ' كان عليه الصلاة والسلام يصلي بعد العشاء أربعا لا تسأل
عن حسنهن وطولهن ، ثم أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن ' . وكان عليه الصلاة
والسلام يواظب على صلاة الضحى أربعا بتسليمة ، ولأنها أدوم تحريمة ، فكان أشق فتكون
أفضل . قال عليه الصلاة والسلام : ' أفضل الأعمال أحمزها ' أي أشقها . أما التراويح
فتؤدى بجماعة فكان مبناها على التخفيف دفعا للحرج عنهم . وأما قوله عليه الصلاة
والسلام : ' مثنى مثنى ' معناه والله أعلم : أنه يتشهد على كل ركعتين ، فسماه مثنى لوقوع
الفصل بين كل ركعتين بتشهد ، ويؤيده ما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي أربعا
قبل العصر يفصل بينهن بالسلام على الملائكة المقربين ومن تابعهم من المسلمين(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
والمؤمنين ' . قال الترمذي . معناه الفصل بينهما بالتشهد ( ولا يزيد في النهار على أربع
بتسليمة ) لأنه لم ينقل .
قال : ( وطول القيام أفضل من كثرة السجود ) لما روى جابر قال : ' قيل لرسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت ' لأنه أشق ولأن فيه قراءة القرآن ، وهو
أفضل من التسبيح . قال : ( والقراءة واجبة في جميع ركعات النفل ) لأن كل شفع صلاة ، فإنه
لا يجب بالتحريمة سوى شفع واحد ، والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة حتى قالوا يستحب
الاستفتاح في الثالثة . ويجوز للراكب أن يتنفل على دابته إلى أي جهة توجهت يومئ إيماء
إذا كان خارج المصر . قال ابن عمر : ' رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي على حمار وهو متوجه
إلى خيبر يومئ إيماء ' . وعن أبي حنيفة أنه ينزل لركعتي الفجر لأنهما آكد من غيرهما .
وعن أبي يوسف أنه يجوز في المصر أيضا . وعن محمد أنه يكره . وقال أبو حنيفة : لا يجوز
لأن النص ورد خارج المصر ، لأن الحاجة إلى الركوب فيه أغلب ، فلا يقاس عليه المصر .
فصل
( التراويح سنة مؤكدة ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقامها في بعض الليالي ، وبيّن العذر في ترك
المواظبة وهو خشية أن تكتب علينا ؛ وواظب عليها الخلفاء الراشدون وجميع المسلمين من
زمن عمر بن الخطاب إلى يومنا هذا . قال عليه الصلاة والسلام : ' ما رآه المسلمون حسنا
فهو عند الله حسن ' . وروى أسد بن عمرو عن أبي يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
التراويح وما فعله عمر ؟ فقال : التراويح سنة مؤكدة ولم يتخرصه عمر من تلقاء نفسه ولم
يكن فيه مبتدعا ، ولم يأمر به إلا عن أصل لديه وعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولقد سن عمر
هذا وجمع الناس على أبيّ بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون : منهم عثمان وعلي
وابن مسعود والعباس وابنه طلحة والزبير ومعاذ وأبيّ وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، وما
رد عليه واحد منهم ، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك . والسنة إقامتها بجماعة لكن على
الكفاية ، فلو تركها أهل مسجد أساؤوا ، وإن تخلف عن الجماعة أفراد وصلوا في منازلهم لم
يكونوا مسيئين .
قال : ( وينبغي أن يجتمع الناس في كل ليلة من شهر رمضان بعد العشاء ، فيصلي بهم
إمامهم خمس ترويحات كل ترويحة أربع ركعات بتسليمتين ، يجلس بين كل ترويحتين مقدار
ترويحة ، وكذا بعد الخامسة ثم يوتر بهم ) هكذا صلى أبيّ بالصحابة ، وهو عادة أهل الحرمين
ولا يصلي الوتر بجماعة إلا في شهر رمضان ) وعليه الإجماع . قال أبو يوسف : إذا قنت في
الوتر لا يجهر ، ويقنت المقتدي أيضا لأنه دعاء ، والأفضل فيه الإخفاء . وقال محمد : يجهر
الإمام ويؤمن المأموم ، ولا يقرأ لشبهه بالقرآن ، واختلاف الصحابة هل هو منه أم لا ؟
والمنفرد إن شاء جهر ، وإن شاء خفت ، والمسبوق في الوتر إذا قنت مع الإمام لا يقنت ثانيا
فيما يقضي لأنه مأمور به مع الإمام متابعة له فصار موضعا له ، فلو قنت ثانيا يكون تكرارا له
في غير موضعه وهو غير مشروع ، ولا يزيد الإمام في التراويح على التشهد ، وإن علم أنه لا
يقل على الجماعة يزيد ، ويأتي بالدعاء ويأتي بالثناء عقيب تكبيرة الافتتاح ، ووقتها ما بين
العشاء إلى طلوع الفجر هو الصحيح حتى لو صلاها قبل العشاء لا يجوز ، وبعد الوتر يجوز
لأنها تبع للعشاء دون الوتر ؛ والأفضل استيعاب أكثر الليل بها لأنها قيام الليل ، وينوي
التراويح أو سنة الليل أو قيام رمضان .
( ويكره قاعدا مع القدرة على القيام ) لزيادة تأكدها ( والسنة ختم القرآن في التراويح مرة
واحدة ) ، وعن أبي حنيفة يقرأ في كل ركعة عشر آيات ليقع له الختم ، والأفضل في زماننا
مقدار ما لا يؤدي إلى تنفير القوم عن الجماعة ، والأفضل تعديل القراءة بين التسليمات ،
وكذا بين الركعتين في التسليمة ( والأفضل في السنن المنزل ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة ' . قال : ( إلا التراويح ' لأنها شرعت في جماعة ،
وقد بيناه .(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
فصل
( صلاة كسوف الشمس ركعتان كهيئة النافلة ) لما روى جماعة من الصحابة : منهم ابن
مسعود وابن عمر وسمرة والأشعري ' أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في كسوف
الشمس ركعتين كهيئة صلاتنا ولم يجهر فيهما ' واعتبارا لها بغيرها من الصلوات . وقال
عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس ' إذا رأيتم شيئا من هذه الأشياء فافزعوا إلى
الصلاة ' فينصرف إلى الصلاة المعهودة وهي ما ذكرنا . قال : ( ويصلي بهم إمام الجمعة )
لأنه اجتماع فيشترط نائب الإمام تحرزا عن الفتنة كالجمعة ( ولا يجهر ) لما تقدم ( ولا
يخطب ) لأنها لم تنقل ، ويطول بهم القراءة ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قام في
الأولى بقدر البقرة ، وفي الثانية بقدر آل عمران ( فإن لم يكن صلى الناس فرادى ركعتين أو
أربعا ) لأنها نافلة ، والأصل فيها الفرادى ، وتحرزا عن الفتنة ( ويدعون بعدها حتى تنجلي
الشمس ) هكذا فعله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال : ' إذا رأيتم شيئا من هذه الأفزاع فارغبوا إلى الله بالدعاء والذكر والاستغفار '
( وفي خسوف القمر يصلي كل وحده ) لأنه يكون ليلا فيتعذر الاجتماع ( وكذا في الظلمة
والريح وخوف العدو ) لما روينا .
فصل
( لا صلاة في الاستسقاء ، لكن الدعاء والاستغفار ، وإن صلوا فرادى فحسن ) قال(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
تعالى : ) استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ( [ نوح : 10 ] . وقال
تعالى : ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة
إلى قوتكم ( [ هود : 52 ] علق إرسال المطر بالاستغفار ، والحديث المشهور ' أن أعرابيا
دخل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة وقال : يا رسول الله هلكت الكراع والمواشي ، وأجدبت
الأرض فادع الله أن يسقينا ، فرفع يديه ودعا ' ، قال أنس : والسماء كأنها زجاجة ليس
بها قذعة ، فنشأت سحابة ومطرت ، حتى إن الرجل القوي لتهمه نفسه حتى عاد إلى
بيته ، ومطرنا إلى الجمعة القابلة ' ولأنه عليه الصلاة والسلام ' صلاها مرة وتركها أخرى
فلا تكون سنة ' .
وعن عمر أنه استسقى بدعاء العباس ، وقال : لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء
التي يستنزل بها الغيث . وقال أبو يوسف ومحمد : يصلي الإمام ركعتين بلا أذان ولا إقامة
يجهر فيهما بالقراءة ، ثم يخطب متنكبا قوسا أو معتمدا على سيفه .
وروى ابن كاس عن محمد أنه يكبر كتكبير العيد ، لما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة
والسلام صلى في الاستسقاء ركعتين كصلاة العيد . وقال أبو يوسف : لا يكبر ، وهو المشهور
لرواية عبد الله بن عامر بن ربيعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استسقى فصلى ركعتين قبل الخطبة لم يكبر
إلا تكبيرة الافتتاح ، وقياسا على الصلاة في سائر الأفزاع ، ويستقبل القبلة بالدعاء لأنه سنة في
الدعاء ويقلب رداءه ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قلب رداءه .
وقال أبو حنيفة : لا يسن ذلك كغيره من الأدعية ، وتقليب الرداء أن يجعل جانب
الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ، ثم يدعو قائما والناس قعود مستقبلون القبلة .
قال محمد : أحب إليّ أن يخرج الناس إلى الاستسقاء ثلاثة أيام متتابعة . وروي أكثر من
ذلك .
قال : ( ولا يخرج معهم أهل الذمة ) لأن ابن عمر نهى عنه ، ولأن اجتماع الكفار مظنة
نزول اللعنة فلا يخرجون عند طلب الرحمة . قال تعالى : ) وما دعاء الكافرين إلا في
ضلال ( [ الرعد : 14 ] .(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
باب سجود السهو
سجود السهو واجب ، وقال بعضهم سنة ، والأول أصح ، لأنه شرع لنقص تمكن في
الصلاة ورفعه واجب فيكون واجبا ، ولا يجب إلا بترك الواجب دون السنة ، ووجب نظرا
للمعذور بالسهو لا للمتعمد . قال : ( ويسجد له بعد السلام سجدتين ثم يتشهد ويسلم ) قال
عليه الصلاة والسلام : ' لكل سهو سجدتان بعد السلام ' . وروى عمران بن حصين وجماعة
من الصحابة ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سجد سجدتي السهو بعد السلام ' ثم قيل يسلم تسليمتين ، وقيل
تسليمة واحدة وهو الأحسن ، ثم يكبر ويخر ساجدا ويسبح ، ثم يرفع رأسه ، ويفعل ذلك
ثانيا ، ثم يتشهد ويأتي بالدعاء ، لأن موضع الدعاء آخر الصلاة ، وهذا آخرها .
قال : ( ويجب إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها ) كزيادة ركوع أو سجود أو قيام أو
قعود ، لأنه لا يخلو عن ترك واجب أو تأخيره عن محله ، وذلك موجب للسهو لأنه عليه
الصلاة والسلام قام إلى الخامسة فسبح به فعاد وسجد للسهو .
قال : ( أو جهر الإمام فيما يخافت به أو عكس ) لأن الجهر والمخافتة واجب في
موضعهما في حق الإمام ، والمعتبر في ذلك مقدار ما تجوز به الصلاة على الاختلاف لأن ما
دون ذلك قليل لا يمكن الاحتراز عنه . قال : ( ولا يلزم لترك ذكر إلا القراءة والتشهدين
والقنوت وتكبيرات العيدين ) لأن ذلك واجب وما عدا ذلك من الأذكار كالتكبيرات والتسبيح
سنة ( وإن قرأ في الركوع أو القعود سجد للسهو ، وإن تشهد في القيام أو الركوع لا يسجد )
وهذا لأن القعود والركوع ليسا محل القراءة فكان تغييرا فيجب ، والقيام محل الثناء فلا تغيير
فلا يجب . وقيل إن بدأ في القعود بالتشهد ثم بالقراءة فلا سهو عليه ، ولو سلم ساهيا قبل
التمام سجد للسهو لأنه ليس في موضعه ( ومن سها مرتين أو أكثر تكفيه سجدتان ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' سجدتان بعد السلام يجزيان عن كل زيادة ونقصان ' .(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
قال : ( وإذا سها الإمام فسجد سجد المأموم وإلا فلا ) تحقيقا للموافقة ونفيا للمخالفة
( وإن سها المؤتم لا يسجدان ) ولا أحدهما ، لأنه لو سجد المؤتم فقد خالف إمامه ، وإن
سجد الإمام يؤدي إلى قلب الموضوع وهو تبعية الإمام للمأموم . قال : ( والمسبوق يسجد مع
الإمام ) للموافقة ( ثم يقضي ) ما عليه ؛ ولو سها في القضاء يسجد لأنه منفرد ، ولو سها
اللاحق في القضاء لا يسجد لأنه مؤتم كأنه خلف الإمام ، ولو سجد مع الإمام لا يعتد به
لأنه يقضي أول صلاته ، ويسجد إذا فرغ لأن محله آخر الصلاة كما مر ، والمقيم خلف
المسافر حكمه حكم المسبوق في سجدتي السهو . قال : ( ومن سها عن القعدة الأولى ثم
تذكر وهو إلى القعود أقرب عاد وتشهد ) لأن ما يقرب من الشيء يأخذ حكمه ولا يسجد
للسهو وهو الصحيح كأنه لم يقم ( وإن كان إلى القيام أقرب لم يعد ) لأنه كالقائم ( ويسجد
للسهو ) لتركه الواجب ، ولأنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك .
قال : ( وإن سها عن القعدة الأخيرة فقام عاد ما لم يسجد ) لما روينا ' أنه عليه الصلاة
والسلام قام إلى الخامسة فسبح به فعاد ' ولأنه قد بقي عليه ركن وهو القعدة الأخيرة فيعود
ليأتي به في محله ليتم فرضه ويسجد للسهو لما بينا ( فإن سجد ضم إليها سادسة وصارت
نفلا ) لأنه انتقل إلى النفل بالسجدة ، لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة ، ومن ضرورة ذلك
خروجه من الفرض ، فقد خرج وبقي عليه ركن فبطل فرضه فيضم إليه سادسة ، لأن التنفل
بالخمس غير مشروع . وقال محمد بطلت الصلاة أصلا بناء على أصل ، وهو أنه متى بطلت
الفرضية بطل أصل الصلاة عنده لأن التحريمة عقدت للفرض فيبطل ببطلانه ، وعندما لا يبطل
أصل الصلاة ، لأن بطلان الوصف لا يوجب بطلان الأصل ، لأن التحريمة عقدت لصلاة هي
فرض .
قال : ( وإن قعد في الرابعة قدر التشهد ثم قام عاد وسلم ) لأنه بقي عليه السلام وما
دون الركعة بمحل الرفض فيعود ( وإن سجد في الخامسة تم فرضه ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' إذا فعلت هذا أو فعلته فقد تمت صلاتك ' ( فيضم إليها(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
ركعة سادسة ويسجد للسهو ، والركعتان له نافلة ) لأنه صح شروعه في النفل بعد إتمام الفرض
فيضم السادسة للنهي عن البتيراء وقد بقي عليه الصلاة والسلام في الفرض وقد أخره عن
محله فيسجد للسهو . قال : ( ومن شك في صلاته فلم يدر كم صلى وهو أول ما عرض له
استقبل ، فإن كان يعرض له الشك كثيرا بنى على غالب ظنه ، فإن لم يكن له ظن بنى على
الأقل ) وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك أخبار مختلفة ، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال : ' إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وذلك أول ما سها استقبل '
وأنه نص في المسألة الأولى . وروى ابن مسعود عنه ( صلى الله عليه وسلم ) التحري عند الشك فحملناه على
كثرة الشك . وروى ابن عوف والخدري عنه البناء على اليقين ، فحملناه على ما إذا لم يكن
له رأي عملا بالنصوص كلها ، ثم إذا بنى يقعد في كل موضع يحتمل أن يكون آخر الصلاة
تحرزا عن ترك فرض القعدة .
باب سجود التلاوة
( وهو واجب على التالي والسامع ) قال عليه الصلاة والسلام : ' السجدة على من
تلاها ، السجدة على من سمعها ' وعلى الوجوب ، ولأن بعض السجدات أمر فيقتضي
الوجوب ، وبعضها ذم على ترك السجود وهو معنى الوجوب ، وتجب على التراخي ،
وسواء كان التالي كافرا أو حائضا أو نفساء أو جنبا أو محدثا أو صبيا عاقلا أو امرأة أو
سكران ، لأن النص لم يفصل ؛ ومن لا يجب عليه الصلاة ولا قضاؤها لا يجب عليه سجود
التلاوة كالحائض والنفساء لأنها من أجزاء الصلاة . قال : ( وهي في آخر الأعراف ، والرعد ،
والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم ، والأولى في الحج ، والفرقان ، والنمل ، وآلم تنزيل ، وص ،(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
وحم السجدة ، والنجم والانشقاق ، والعلق ) هكذا هي في مصحف عثمان ( وشرائطها
كشرائط الصلاة ) لأنها جزء منها ( وتقضى ) لمكان الوجوب ، ويكره للسامع إذا سجد أن يرفع
رأسه قبل التالي ، لأن التالي كالإمام ، ويكره للإمام أن يقرأها في صلاة المخافتة لئلا يشتبه
الأمر على القوم ، فربما ركع بعضهم ؛ ولو قرأها وسجدها سجد القوم معه وإن لم يسمعوها
حكما للمتابعة كما يلزمهم سهوه .
قال : ( فإن تلاها الإمام سجدها والمأموم ) لما بينا ( ولو تلاها المأموم لم يسجداها ) لما
بينا في السهو . وقال محمد : يسجدونها بعد الفراغ لتحقق السبب وهو السماع وقد زال
المانع . قلنا هو محجور عن القراءة لما بينا ، ولا حكم لتصرف المحجور بخلاف الحائض
والنفساء فإنهما منهيان ، والنهي يقتضي القدرة على الفعل والحجر لا ، وإنما لا يجب عليهما
لعدم أهليتهما . قال : ( وإن سمعها من ليس في الصلاة سجدها ) لتحقق السبب في حقه
والحجر لا يعدوهم . قال : ( وإن سمعها المصلي ممن ليس في الصلاة سجدها بعد الصلاة )
لتحقق السبب ، وإن سجدوها في الصلاة لم تجزهم لأنها صارت ناقصة للنهي فلا يتأدى بها
الكامل ولا تفسد صلاتهم لأنها لا تنافي الصلاة ويعيدونها لما بينا ولا سهو عليهم لأنهم
تعمدوها .
قال : ( ومن تلاها في الصلاة فلم يسجدها فيها سقطت ) لأنها صلاتية وهي أقوى من
الخارجية فلا تتأدى بها ، ولو تلاها في الصلاة إن شاء ركع بها وإن شاء سجدها ثم قام
فقرأ وهو أفضل ، يروى ذلك عن أبي حنيفة ، لأن الخضوع في السجود أكمل ، وتتأدى
بالسجدة الصلاتية لأنها توافقها من كل وجه ، وينوى أداء سجدة التلاوة ولو لم ينو ذكر في
النوادر أنه لا يجوز . وقيل يجوز لأنه أتى بعين الواجب ، ولو نواها في الركوع قيل يجوز
لأنه أقرب إلى التلاوة . وقيل لا وتنوب عنها السجدة التي عقب الركوع ، لأن المجانسة
بينهما أظهر ، روي ذلك عن أبي حنيفة . قال : ( ومن كرر آية سجدة في مكان واحد تكفيه
سجدة واحدة ) دفعا للحرج ، فإن الحاجة داعية إلى التكرار للمعلمين والمتعلمين ، وفي
تكرار الوجوب حرج بهم ، وكان جبريل يقرأ السجدة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والنبي يسمعها أصحابه
ولا يسجد إلا مرة واحدة . قال : ( وإذا أراد السجود كبر وسجد ثم كبر ورفع رأسه ) اعتبارا(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
بالصلاتية ، وهو المروي عن ابن مسعود ، ولا تشهد عليه ولا سلام ، لأنهما للتحليل ولا
تحريم هناك .
باب صلاة المريض
( إذا عجز عن القيام أو خاف زيادة المرض صلى قاعدا يركع ويسجد ، أو موميا إن
عجز عنهما ، وإن عجز عن القعود أومأ مستلقيا ) وقدماه نحو القبلة ( أو على جنبه ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' يصلي المريض قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى قفاه
يومئ إيماء ، فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه ' وقال عليه الصلاة والسلام
لعمران بن حصين : ' صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنبك ' ولأن
التكليف بقدر الوسع ، والأفضل الاستلقاء ليقع إيماؤه إلى جهة القبلة ، ويجعل الإيماء
بالسجود أخفض من الركوع اعتبارا بهما ( فإن رفع إلى رأسه شيئا يسجد عليه إن خفض رأسه
جاز ) لحصول الإيماء ( وإلا لا ) يجوز لعدمه . قال : ( فإن عجز عن الركوع والسجود وقدر
على القيام أومأ قاعدا ) لأن فرضية القيام لأجل الركوع والسجود ، لأن نهاية الخشوع
والخضوع فيهما ، ولهذا شرع السجود بدون القيام كسجدة التلاوة والسهو ولم يشرع القيام
وحده ، وإذا سقط ما هو الأصل في شرعية القيام سقط القيام ؛ ولو صلى قائما موميا جاز ،
والأول أفضل لأنه أشبه بالسجود .
قال : ( فإن عجز عن الإيماء برأسه أخر الصلاة ) لما روينا ، فإن مات على تلك الحالة
لا شيء عليه ، وإن برأ فالصحيح أنه يلزمه قضاء يوم وليلة لا غير نفيا للحرج كما في الجنون(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
والإغماء بخلاف النوم حيث يقضيها وإن كثرت ، لأنه لا يمتد أكثر من يوم وليلة غالبا ، قال :
( ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه ) لأن فرض السجود لا يتأدى بهذه الأشياء فلا يجوز
بها الإيماء كما لو أومأ بيده أو رجله بخلاف الرأس لأنه يتأدى به فرض السجود . وقال زفر :
يومئ بالقلب لأنه يتأدى به بعض الفرائض وهو بالنية والإخلاص فيؤدي به الباقي . وجوابه
أن الإيماء بالقلب النية ولا يقوم مقام فعل الجوارح كالحج .
قال : ( ولو صلى بعض صلاته قائما ثم عجز فهو كالعجز قبل الشروع ) معنا إذا قدر
على القعود أتمها قاعدا ، وإن عجز فمستلقيا لأنه بناء الضعيف على القوي ، وإن شرع قاعدا
ثم قدر على القيام بنى خلافا لمحمد بناء على ما تقدم أن صلاة القائم خلف القاعد تجوز
عندهما خلافا له ( ولو شرع موميا ثم قدر على الركوع والسجود استقبل ) لأنه بناء القوي على
الضعيف ولا يجوز لما تقدم ( ومن أغمي عليه أو جن خمس صلوات قضاها ، ولا يقضي أكثر
من ذلك ) نفيا للحرج ، وذلك عند الكثرة بالتكرار ، وهو مأثور عن عمر وابنه والخدري .
مريض مجروح تحته ثياب نجسة وكلما بسط تحته شيء تنجس من ساعته يصلي على حاله
مستلقيا ، وكذا إن كان لا يتنجس لكنه يزداد مرضه أو تلحقه مشقة بتحريكه بأن بزغ الماء من
عينه دفعا لزيادة الحرج . مريض راكب لا يقدر على من ينزله يصلي المكتوبة راكبا بإيماء ،
وكذلك إذا لم يقدر على النزول لمرض أو مطر أو طين أو عدو لما روي ' أنه عليه الصلاة
والسلام كان في مسير فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا السماء من فوقهم والبلة
من أسفل منهم ، فأذن ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على راحلته وأقام ، فتقدم على راحلته فصلى بهم يومئ
إيماء ، فجعل السجود أخفض من الركوع ' ولأنه إذا لم يقدر على النزول سقط عنه كحالة
الخوف ، وإذا جاز لهم الصلاة ركبانا ففرضهم الإيماء لأن الراكب لا يقدر على الركوع
والسجود ولما روينا ؛ وإن قدر على النزول ولم يقدر على الركوع والسجود لأجل الطين
صلى قائما بإيماء للعجز عن الركوع والسجود ، وإذا صلى راكبا يوقف الدابة ، لأن في السير
انتقالا واختلافا لا يجوز في الصلاة ، وإن تعذر عليه إيقافها جازت الصلاة مع السير كما في
حالة الخوف .
ومن كان في السفينة فإن قدر على الخروج إلى الشط يستحب له الخروج ليتمكن من
القيام والركوع والسجود ، وإن صلى في السفينة أجزأه لوجود شرائطها ، فإن كانت موثقة
بالشط صلى قائما ، وكذلك إن كانت مستقرة على الأرض لأنه مستقر في أرض السفينة فيأتي
بالأركان ، وإن كانت سائرة يصلي قائما ، فإن صلى قاعدا وهو يستطيع القيام أجزأه وقد(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
أساء ؛ قالا : لا يجوز لأن القيام ركن فلا يجوز تركه وصار كما إذا كانت مربوطة . ولو ما
روى ابن سيرين قال : أمنا أنس في نهر معقل على بساط السفينة جالسا ونحن جلوس ،
ولأن الغالب فيها دوران الرأس ، والغالب كالمتحقق كما في السفر لما كان الغالب فيه المشقة
كان كالمتحقق في حق الرخصة كذا هنا ، بخلاف المربوطة لأنها تأخذ حكم الأرض ، فإن
استدارت السفينة وهي سائرة استدار إلى القبلة حيث كانت لأنه يقدر على الاستقبال من غير
مشقة فلا يسقط كالمصلي على الأرض ، بخلاف الراكب ، لأن الاستقبال يتعذر عليه إذا كان
يقطعه عن طريقه فيسقط للعذر ، والله أعلم .
باب صلاة المسافر
( وفرضه في كل رباعية ركعتان ) لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ' فرضت الصلاة
في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر ' ولا يعلم ذلك إلا توقيفا .
وقال عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على
لسان نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) . وروى ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' إن الله فرض عليكم الصلاة
على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ' ومثله عن علي . أما الفجر
والمغرب والوتر فلا قصر فيها بالإجماع ، ولو أتم الأربع فقد خالف السنة ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
صلى بأهل مكة بعد الهجرة صلى ركعتين ثم قال لهم : أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ، فإن
قعد في الثانية أجزأه اثنتان عن الفرض ، وقد أساء لتأخير السلام عن موضعه ، وركعتان له
نافلة لزيادتها على الفرض ، وإن لم يقعد في الثانية بطل فرضه لأنه ترك ركنا وهو القعدة
آخر الصلاة .
قال : ( ويصير مسافرا إذا فارق بيوت المصر قاصدا مسيرة ثلاثة أيام ولياليها ) لأنه لا
يصير مسافرا إلا إذا خرج من المصر ، وقد قالت الصحابة لو فارقنا هذا الخص لقصرنا . وأما
التقدير فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها ' والمراد بيان حكم
جميع المسافرين ليكون أعم فائدة ، فيتناول كل مسافر سفره ثلاثة أيام ليستوعب الحكم
الجميع ، ولو كان السفر الذي تتعلق به الأحكام أقل من ثلاث لبقي من المسافرين من لم
يبين حكمه ، ولأن الألف واللام للجنس فيدخل في هذا الحكم كل مسافر ، ومن لم يثبت له
هذا الحكم لا يكون مسافرا .
قال : ( بسير الإبل ومشي الأقدام ) لأنه الوسط المعتاد ، فإن السير في الماء في غاية
السرعة ، وعلى العجل في غاية الإبطاء ، فاعتبرنا الوسط لأنه الغالب . قال : ( ويعتبر في الجبل
ما يليق به ، وفي البحر اعتدال الرياح ) لأنه هو الوسط ، وهو أن لا تكون الرياح غالبة ولا
ساكنة ، فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيام فيجعل أصلا . قال : ( ولا يزال على حكم السفر
حتى يدخل مصره أو ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مصر أو قرية ) لأن السفر إذا صح لا
يتغير حكمه إلا بالإقامة ، والإقامة بالنية أو بدخول وطنه ، لأن الإقامة ترك السفر ، فإذا اتصل
بالنية أتم ، بخلاف المقيم حيث لا يصير مسافرا بالنية ، لأن السفر إنشاء الفعل فلا يصير
فاعلا بالنية . وأما دخول وطنه فلأن الإقامة للارتفاق وأنه يحصل بوطنه من غير نية ، وكذا
نقل أن النبي وأصحابه كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير نية . وأما المدة
خمسة عشر يوما فمنقولة عن ابن عباس وابن عمر ، ولا يعرف ذلك إلا توقيفا ، ولأن السفر
لا يخلو عن اللبث القليل ، فاعتبرنا الخمسة عشر كثيرا فاصلا اعتبارا بمدة الطهر ، إذ لها أثر
في إيجاب الصلاة وإسقاطها .
قال : ( وإن نوى أقل من ذلك فهو مسافر وإن طال مقامه ) لما روي أنه عليه الصلاة
والسلام أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة . وعن أنس قال : أقام أصحاب رسول(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالسوس تسعة أشهر يقصرون الصلاة . قال : ( ومن لزمه طاعة غيره كالعسكر والعبد
والزوجة يصير مسافرا بسفره مقيما بإقامته ) لأنه لا يمكنه مخالفته قال : ( والمسافر يصير مقيما
بالنية ) لما بينا ( إلا العسكر إذا دخل دار الحرب أو حاصر موضعا ) لأن إقامتهم لا تتعلق
باختيارهم ، لأنهم لو نووا الإقامة ثم انهزموا انصرفوا فلا تصح نيتهم ( ونية الإقامة من أهل
الأخبية صحيحة ) كالأكراد والتركمان في الصحراء والكلأ لأنه موضع إقامتهم عادة ، فهو في
حقهم كالأمصار والقرى لأهلها . قال : ( ولو نوى أن يقيم بموضعين لا يصح ) إذ لو صح في
موضعين لصح في أكثر وأنه ممتنع ( إلا أن يبيت بأحدهما ) فتصح النية ، لأن موضع الإقامة
موضع البيوتة ، ألا ترى أن السوقي يكون في النهار في حانوته ويعد ساكنا في محلة فيها
بيته . قال : ( والمعتبر في تغير الفرض قصرا وإتماما آخر الوقت ) لأن الوجوب يتعلق بآخر
الوقت حتى لو سافر آخر الوقت قصر ، وإن أقام المسافر آخر الوقت تمم لما بينا .
قال : ( ولا يجوز اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت ) لتقرر فرضهما وقد تقدم ( فإن
اقتدى به في الوقت أتم الصلاة ) لأنه التزم متابعته . قال عليه الصلاة والسلام : ' إنما جعل
الإمام إماما ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم ' وصيرورته متابعا أن يصلي أربعا ( فإن أمّ
المسافر المقيم سلم على ركعتين ) لأنه تمّ فرضه ( وأتم المقيم ) لأنه بقي عليه إتمام صلاته ،
ويستحب أن يقول أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ، هكذا نقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . قال :
( والعاصي والمطيع في الرخص سواء ) لإطلاق النصوص ، منها قوله تعالى : ) فمن كان
منكم مريضا أو على سفر ( [ البقرة : 184 ] . وقوله تعالى : ) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا (
[ البقرة : 239 ] . وقوله : ) فتيمموا ( [ النساء : 43 ؛ المائدة : 6 ] . وقوله عليه الصلاة
والسلام : ' يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها ' من غير فصل ، فصار كما إذا أنشأ السفر
في مباح ثم نوى المعصية بعده . وأما قوله تعالى : ) غير باغ ولا عاد ( [ البقرة : 173 ] أي
غير متلذذ في أكلها ولا متجاوز قدر الضرورة ، ونحن لا نجعل المعصية سببا للرخصة ،
وإنما السبب لحوق المشقة الناشئة من نقل الأقدام والحر والبرد وغير ذلك ، والمحظور ما
يجاوره من المعصية ، فكان السفر من حيث إفادته الرخصة مباحا ، لأن ذلك مما يقبل
الانفصال .
واعلم أن الأوطان ثلاثة : أصلي ويسمى أهليا ، وهو الذي يستقر الإنسان فيه مع أهله ،
وذلك لا يبطل إلا بمثله ، وهو أن ينتقل إلى بلد آخر بأهله بعزل القرار فيه ، ألا ترى أنه عليه(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
الصلاة والسلام بعد انتقاله من مكة إلى المدينة سمى نفسه مسافرا بمكة حيث قال : ' فإنا قوم
سفر ' . والثاني وطن إقامة ، وهو الذي يدخله المسافر فينوي أن يقيم فيه خمسة عشر يوما ،
ويبطل بالأصلي لأنه فوقه ، وبالممائل لطريانه عليه ، وبإنشاء السفر لمنافاته الإقامة . والثالث
وطن سكنى ، وهو أن يقيم الإنسان في مرحلة أقل من خمسة عشر يوما ، ويبطل بالأول
والثاني لأنهما فوقه ، وبمثله لطريانه عليه وبيان ضعفه عدم وجوب الصوم وإتمام الصلاة ،
والله أعلم .
باب صلاة الجمعة
اعلم أن الجمعة فريضة محكمة لا يجوز تركها إلا لعذر . قال الله تعالى : ) إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ( [ الجمعة : 9 ] . وقال عليه الصلاة
والسلام في حديث طويل من رواية جابر : ' واعلموا أن الله فرض عليكم الجمعة في يومي
هذا في شهري هذا في عامي هذا في مقامي هذا ، فريضة واجبة إلى يوم القيامة ' . قال :
( ولا تجب إلا على الأحرار الأصحاء المقيمين بالأمصار ) قال عليه الصلاة والسلام : ' تجب
الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا ' . وقال عليه الصلاة والسلام : ' أربعة
لا جمعة عليهم : العبد ، والمريض ، والمسافر ، والمرأة ' ولأن العبيد مشغولون بخدمة
المولى ، والمرأة بخدمة زوجها ، وقد بينا العذر في ترك خروجها إلى الجماعات ، وأما
المريض فللعجز . واختلفوا في الأعمى . قال أبو حنيفة : لا تجب عليه . وقالا : تجب إذا
وجد قائدا لأنه يصير قادرا على السعي فصار كالضال . وله أنه عاجز بنفسه كالمريض فلا
يصير قادرا بغيره ، فإن القائد قد يتركه في الطريق . وأما قوله المقيمين بالأمصار فلقوله عليه
الصلاة والسلام : ' لا جمعة ولا تشريق ولا أضحى إلا في مصر جامع ' .
قال : ( ولا تقام إلا في المصر ) لما روينا ( أو مصلاه ) لأنه في حكمه ( والمصر ما لو
اجتمع أهله في أكبر مساجده لم يسعهم ) روي ذلك عن أبي يوسف . قال محمد بن شجاع(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
الثلجي : هذا أحسن ما قيل فيه ؛ وقيل هو أن يعيش كل صانع بحرفته . وقال الكرخي : ما
أقيمت فيه الحدود ، ونفذت فيه الأحكام . وزاد بعضهم : ويوجد فيه جميع ما يحتاج الناس
إليه في معايشهم . وعن محمد كل موضع مصره الإمام فهو مصر ، فلو بعث إلى قرية نائبا
لإقامة الحدود والقصاص صار مصرا ، فلو عزله ودعاه التحق بالقرى . قال : ( ولا بد من
السلطان أو نائبه ) لأنه لولا ذلك لاختار كل جماعة إماما فلا يتفقون على واحد فتقع بينهم
المنازعة ، فربما خرج الوقت ولا يصلون ، ولأن ذلك يفضي إلى الفتنة ، ومع وجود السلطان
لا ( ووقتها وقت الظهر ) لحديث أنس ' كنا نصلي الجمعة مع رسول الله إذا مالت الشمس '
ولأنها خلف عن الظهر وقد سقطت الظهر فتكون في وقتها . قال : ( ولا تجوز إلا بالخطبة )
لقوله تعالى : ) فاسعوا إلى ذكر الله ( [ الجمعة : 9 ] ولا يجب السعي إلا إلى الواجب ،
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصل الجمعة بدونها . وقالت عائشة : إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة وعليه
الإجماع ، وهي قبل الصلاة ، هكذا فعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده إلى يومنا هذا
( يخطب الإمام خطبتين ) قائما يستقبل القوم ويستدبر القبلة ( يفصل بينهما بقعدة خفيفة ) هو
المأثور من فعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده .
قال : ( وإن اقتصر على ذكر الله تعالى جاز ) وكذلك التسبيحة ونحوها ، وإن تعمد ذلك
لغير عذر فقد أساء وأخطأ السنة . وقالا : لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة ، لأن الخطبة
شرط . والتسبيحة والتحميدة لا تسمى خطبة . وله أن التسبيحة والتحميدة خطبة . لاشتمالها
على معان جمة والعبرة للمعاني وجاء رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله علمني
عملا يدخلني الجنة ، فقال : ' لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ' سمي هذا القدر
خطبة والخطبة لا نهاية لها ، فيتعلق الجواز بالأدنى ، ولقوله تعالى : ) فاسعوا إلى ذكر الله (
وهذا ذكر فتجوز الجمعة به ( والأولى أن يخطب قائما طاهرا ) هو المأثور .
( فإن خطب قاعدا أو على غير وضوء جاز ) لما روي أن عثمان لما أسن كان يخطب
قاعدا ، ولأن الطهارة ليست بشرط للخطبة لأنه ذكر لا يشترط له استقبال القبلة فلا تشترط له
الطهارة كالتلاوة والأذان والإقامة ، إلا أنه يكره لما فيه من الفصل بين الخطبة والصلاة(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
بالوضوء ، وقد أساء لمخالفته السنة . قال : ( ولا بد من الجماعة ) لأنها مشتقة منها ، ولا
خلاف في ذلك . واختلفوا في كميتها . قال أبو حنيفة : لا بد من ثلاثة سوى الإمام ، وأن
يكون الإمام والثلاثة ممن يجوز الاقتداء بهم في غير الجمعة . وقال أبو يوسف ومحمد :
اثنان سوى الإمام ، والأصح أن محمدا مع أبي حنيفة . لأبي يوسف أن الاثنين جماعة لأنه
مشتق من الاجتماع وقد وجد . ولهما أن الجمع الصحيح ثلاثة وما دونها مختلف فيه ،
والجماعة شرط بالإجماع فلا يتأدى بالمختلف . قال محمد : لا بأس بصلاة الجمعة في
المصر في موضعين وثلاثة ولا يجوز أكثر من ذلك ، لأن المصر إذا بعدت أطرافه شق على
أهله المشي من طرف إلى طرف فيجوز دفعا للحرج ، وأنه يندفع بالثلاث فلا حرج بعدها ،
ولهذا كان علي رضي الله عنه يصلي العيد في الجبانة : أي المصلى ، ويستخلف من يصلي
بضعفة الناس بالمدينة ، والجبانة من المدينة والخلاف في الجمعة والعيد واحد . وقال أبو
حنيفة : لا تجوز إلا في موضع واحد لأنه المتوارث ، ولأنه لو جاز في موضعين لجاز في
جميع المساجد كغيرها من الصلوات وإنه ممتنع . وقال أبو يوسف كذلك إلا أن يكون بين
الموضعين نهر فاصل كبغداد لأنه يصير كمصرين . وكان أبو يوسف يأمر بقطع الجسر يوم
الجمعة لتنقطع الوصلة بين الجانبين ، فإن لم يكن بينهما نهر فالجمعة لمن سبق لعدم
المزاحم ، وقد وقعت في وقتها بشرائطها ، وتفسد جمعة الآخرين ويقضون الظهر ، فإن صلى
أهل المسجدين معا ، أو لا يدري من سبق فصلاة الكل فاسدة لعدم الأولوية فلا يخرج عن
العهدة بالشك .
قال : ( ومن لا تجب عليه ) الجمعة ( إذا صلاها أجزأته عن الظهر ، وإن أمّ فيها جاز )
لأنها وضعت عنهم تخفيفا ورخصة لمكان العذر ، فإذا حضروا زال العذر فتجوز صلاتهم
كالمسافر إذا صام ، وإذا حضروا صارت صلاتهم فرضا فتجوز إمامتهم كما في سائر
الصلوات ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الجمعة بمكة وهو مسافر . قال : ( ومن صلى الظهر يوم
الجمعة بغير عذر جاز ويكره ) وقال زفر : لا يجوز ، وأصله الاختلاف في فرض الوقت .
قال أبو حنيفة وأبو يوسف : هو الظهر ، لكن العبد مأمور بإسقاطه عنه بأداء الجمعة . وقال
محمد : هو الجمعة لأنه مأمور بها ، والفرض هو المأمور به ، وله أن يسقطه بالظهر
رخصة . وعنه أن الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بأدائه ، لأن أيهما أدى سقط عنه الفرض ،
فدل أن الواجب أحدهما . وعند زفر هو الجمعة ، والظهر بدل عنها في حق غير المعذور
لأنه مأمور بالجمعة منهي عن الظهر ، فإذا فاتت الجمعة أمر بالظهر ، وهذا آية البدلية .
ولنا أن التكليف يعتمد القدرة ، والعبد إنما يقدر على أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لأنها
تتوقف على شرائط تتعلق باختيار الغير ، ولهذا لو فاتته الجمعة بأمر بقضاء الظهر لا(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
الجمعة ، ويجوز أن يكون الفرض الظهر ، ويؤمر بتقديم غيره كإنجاء الغريق آخر الوقت
قبل الصلاة .
قال : ( فإن شاء أن يصلي الجمعة بعد ذلك يبطل ظهره بالسعي ) وقالا : لا تبطل ما لم
يدخل مع الإمام ، لأن السعي شرط كستر العورة والطهارة . وله أن السعي من فرائض الجمعة
وخصائصها للأمر والاشتغال بفرائض الجمعة المختصة بها يبطل الظهر كالتحريمة .
قال ( ويكره لأصحاب الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة جماعة في المصر ) لأن فيه
إخلالا بالجمعة ، فربما يقتدي بهم غيرهم ، بخلاف القرى لأنه لا جمعة عليهم وقد جرى
التوارث في جميع الأمصار والأعصار بغلق المساجد وقت الجمعة مع أنها لا تخلو عن
أصحاب الأعذار ، ولولا الكراهة لما أغلقوها . قال : ( وإذا خرج الإمام يوم الجمعة استقبله
الناس ) به جرى التوارث ( واستمعوا وأنصتوا ) لقوله تعالى : ) فاستمعوا له وأنصتوا (
[ الأعراف : 204 ] . قالوا : نزلت في الخطبة . ومن كان بعيدا لا يسمع النداء قيل يقرأ في
نفسه ، والأصح أنه يسكت للأمر ( وتكره الصلاة والإمام يخطب ) لأن الواجب الاستماع لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام ' ولو شرع في النفل قبل خروجه
سلم على ركعتين ، فإن كان شرع في الشفع الثاني أتمه ، ولو كان شرع في الأربع قبل
الجمعة أتمها .
قال : ( فإذا أذن الأذان الأول توجهوا إلى الجمعة ) لقوله تعالى : ) فاسعوا (
[ الجمعة : 9 ] ( وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يديه الأذان الثاني ) وهو الذي
كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي بكر وعمر . فلما كان زمن عثمان وكثر الناس وتباعدت
المنازل زاد مؤذنا آخر يؤذن قبل جلوسه على المنبر ، فإذا جلس أذن الأذان الثاني ، فإذا
نزل أقام ، فالثاني هو المعتبر في وجوب السعي وترك البيع ؛ وقيل الأصح أنه الأول إذا وقع
بعد الزوال لإطلاق قوله تعالى : ) إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( [ الجمعة : 9 ] ( فإذا أتم
الخطبة أقاموا ) .(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
باب صلاة العيدين
( وتجب على من يجب عليه صلاة الجمعة ) أما الوجوب فلقوله تعالى : ) ولتكملوا
العدة ولتكبروا الله ( [ البقرة : 185 ] قالوا : المراد صلاة العيد ، ولمواظبته عليه الصلاة
والسلام عليها ولقضائه إياها ، وكل ذلك دليل للوجوب ؛ وقيل إنها سنة ، والأول أصح ؛
وقوله في الجامع الصغير : عيدان اجتمعا في يوم : الأول سنة ، والثاني فريضة . معناه وجب
بالسنة ، لأن قوله ولا يترك واحد منهما دليل الوجوب . وقوله على من تجب عليه الجمعة لما
بينا فيها .
قال : ( وشرائطها كشرائطها ) يعني السلطان والجماعة والمصر والوقت وغير ذلك لما مر
في الجمعة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا فطر ، ولا أضحى إلا
في مصر جامع ' .
قال : ( إلا الخطبة ) فإنه يخطب بعد الصلاة ، كذا المأثور عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو تركها
جاز لأنها سنة وليست بشرط ، وقد أساء لمخالفة السنة ؛ وكذلك إن خطب قبل الصلاة يجوز
لحصول المقصود ، وهو تعليمهم وظيفة اليوم ، ويكره لما بينا ، ولا أذان لها ولا إقامة لأنه لم
ينقل .
قال : ( ويستحب يوم الفطر للإنسان أن يغتسل ) لما تقدم في الطهارة ( ويستاك ) لأنه
مندوب إليه في سائر الصلوات ( ويلبس أحسن ثيابه ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان له جبة فنك يلبسها في
الجمع والأعياد ( ويتطيب ) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتطيب يوم العيد ولو من طيب
أهله ، ثم يروح إلى الصلاة ( ويأكل شيئا حلوا تمرا أو زبيبا أو نحوه ) هكذا نقل من فعله عليه
الصلاة والسلام ، ولأنه يحقق معنى الاسم ومبادرة إلى امتثال الأمر ( ويخرج صدقة الفطر )
فيضعها في مصرفها ، هكذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيه تفريغ بال الفقير للصلاة . قال عليه الصلاة
والسلام : ' أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم ' وإن أخرها جاز . والتعجيل أفضل ( ثم يتوجه
إلى المصلى ) ويستحب أن يمشي راجلا ، هكذا روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يكبر جهرا عند أبي(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
حنيفة ؛ وقالا : يكبر اعتبارا بالأضحى . وله ما روي أن ابن عباس سمع الناس يكبرون يوم
الفطر ، فقال لقائده : أكبر الإمام ؟ قال : لا ، قال : أفجن الناس ؟ ولأن الذكر مبناه على
الإخفاء . والأثر ورد في الأضحى فيقتصر عليه ، ولا يتطوع قبل صلاة العيد ، لأنه عليه
الصلاة والسلام لم يفعله مع حرصه على الصلاة . وعن علي أنه خرج إلى المصلى فرأى
قوما يصلون ، فقال : ما هذه الصلاة التي لم نعهدها على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : ( ووقت
الصلاة من ارتفاع الشمس إلى زوالها ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح
أو رمحين ، ولما شهدوا عنده بالهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد ، ولو بقي وقتها لما
أخرها .
قال : ( ويصلي الإمام بالناس ركعتين : يكبر تكبيرة الإحرام وثلاثا بعدها ، ثم يقرأ
الفاتحة وسورة ، ثم يكبر ويركع ، ويبدأ في الثانية بالقراءة ، ثم يكبر ثلاثا وأخرى للركوع )
وهذا قول عبد الله بن مسعود ، ويؤيده ما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة العيد
أربعا ، ثم أقبل عليهم بوجهه فقال : أربع كأربع الجنازة . وأشار بأصابعه ، وخنس
إبهامه ' ففيه عمل وقول وإشارة وتأكيد . وعن أبي حنيفة أنه يسكت بين كل تكبيرتين
قدر ثلاث تسبيحات .
قال : ( ويرفع يديه في الزوائد ) لما روينا ( ويخطب بعد الصلاة خطبتين يعلم الناس
فيهما صدقة الفطر ) لما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب بعد الصلاة
خطبتين يجلس بينهما كالجمعة ، وكذلك أبو بكر وعمر . وينبغي أن يستخلف من يصلي
بأصحاب العلل في المصر ، لما روينا عن علي وإن لم يفعل جاز . قال : ( فإن شهد برؤية
الهلال بعد الزوال صلوها من الغد ) لما تقدم ( ولا يصلوها بعد ذلك ) لأنها صلاة الفطر
فتختص بيومه ، وينبغي أن لا تقضى ، لكن خالفناه بما روينا أنه عليه الصلاة والسلام قضاها
من الغد فيبقى ما وراءه على الأصل .(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
فصل
( يستحب في يوم الأضحى ما يستحب في يوم الفطر ) من الغسل والتطيب والسواك
واللبس ( إلا أنه يؤخر الأكل بعد الصلاة ) لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يطعم يوم
النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته ' . قال : ( ويكبر في طريق المصلى جهرا ) هكذا
فعل ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا وصل المصلى قطع ؛ وقيل إذا شرع الإمام في الصلاة قطع . قال : ( ويصليها
كصلاة الفطر ) كذا النقل ( ثم يخطب خطبتين ) كما تقدم ( يعلّم الناس فيها الأضحية وتكبير
التشريق ) لحاجتهم إليه ( فإن لم يصلوها أول يوم صلوها من الغد وبعده ، والعذر وعدمه
سواء ) لأنها صلاة الأضحى ، فتتقدر بأيامها وهي ثلاثة أيام ، ولا فرق بين العذر وعدمه في
ذلك .
فصل
( وتكبير التشريق : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) وهو
مذهب علي وابن مسعود . والأصل فيه ما روي في قصة الذبيح عليه السلام أن الخليل
صلوات الله عليه ، لما أخذ في مقدمات الذبح جاءه جبريل عليه السلام بالفداء ، فلما انتهى
إلى سماء الدنيا خاف عليه العجلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، فسمعه إبراهيم عليه السلام
فرفع رأسه ، فعلم أنه جاء بالفداء قال : لا إله إلا الله والله أكبر ، فسمع الذبيح صلوات الله
عليه فقال : الله أكبر ولله الحمد ؛ فصارت سنة إلى يوم القيامة .
قال : ( وهو واجب عقيب الصلوات المفروضات في جماعات الرجال المقيمين
بالأمصار ) أما الوجوب فلقوله تعالى : ) واذكروا الله في أيام معدودات ( [ البقرة : 203 ] قيل :
المراد تكبير التشريق . وقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا جمعة ولا تشريق ، ولا فطر ، ولا
أضحى إلا في مصر جامع ' . والتشريق : هو التكبير نقلا عن الخليل والنضر بن شميل ؛(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
ومثله عن علي رضي الله عنه نفاه ثم أوجبه ، ومثله يقتضي الوجوب كالفطر والأضحى . وأما
بقية الشرائط فمذهب أبي حنيفة . وقالا : يجب على كل من صلى المكتوبة لأنه تبع لها
فيجب على من يؤديها ؛ ولأبي حنيفة ما روينا ، ولأن الجهر بالتكبير خلاف الأصل ، إذ
الأصل الإخفاء . قال الله تعالى : ) ادعوا ربكم تضرعا وخفية ( [ الأعراف : 55 ] . وقال عليه
الصلاة والسلام : ' خير الذكر الخفي ' ولأنه أبعد عن الرياء ، والسنة وردت بالجهر عقيب
الصلوات بهذه الأوصاف ، فبقي ما وراءها على الأصل ويجب على النساء إذا اقتدين
بالرجل ، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم تبعا .
قال : ( من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر أول أيام النحر ثمان
صلوات ) وقالا : إلى عصر آخر أيام التشريق ثلاثة وعشرون صلاة ، وهو مذهب علي ومذهبه
ومذهب ابن مسعود يؤيده أن الأصل الإخفاء كما تقدم ، فالمصير إلى الأقل جهرا أولى .
ولهما أنهما عبادة ، والاحتياط فيها الوجوب ؛ وقيل الفتوى على قولهما .
باب صلاة الخوف
( وهي أن يجعل الإمام الناس طائفتين : طائفة أمام العدو ، وطائفة يصلي بهم ركعة :
إن كان مسافرا ) لأنها شطر صلاته ، وكذلك في الفجر ( وركعتين إن كان مقيما ) لأنهما
الشطر ( وكذلك في المغرب ) لأنها لا تقبل التنصيف فكانوا أولى للسبق ( وتمضي إلى وجه
العدو وتجيء تلك الطائفة ) لقوله تعالى : ) ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك (
[ النساء : 102 ] ( فيصلي بهم باقي الصلاة ويسلم وحده ( لأنه قد أتم صلاته ( ويذهبون إلى
وجه العدو ، وتأتي الأولى فيتمون صلاتهم بغير قراءة ( لأنهم لاحقون ، ويتحرون أن يقفوا
مقدار ما وقف الإمام فكأنهم خلفه ( ويسلمون ويذهبون ؛ وتأتي الأخرى فيتمون(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
صلاتهم بقراءة ) لأنهم مسبوقون ( ويسلمون ) هكذا رواها عبد الله بن مسعود عن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو أن الطائفة الثانية أتموا صلاتهم في مكانهم بعد سلام الإمام جاز ، لأن المسبوق
كالمنفرد فلم يبقوا في حكم الإمام .
قال : ( ومن قاتل أو ركب فسدت صلاته ) لأنه فعل كثير ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) شغل يوم
الخندق عن أربع صلوات حتى قضاها ليلا ، وقال : ' ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما
شغلونا عن الصلاة الوسطى ' ولو جازت الصلاة مع القتال لما أخرها ، لأن الخندق كان
بعد شرعية صلاة الخوف ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وهي
قبل الخندق ، هكذا ذكره الواقدي وابن إسحق .
وعن أبي يوسف : أنها لا تجوز بعد رسول الله لأنها مخالفة للأصول ، ولقوله تعالى :
) وإذا كنت فيهم ( [ النساء : 102 ] . وجوابه أن الصحابة صلوها بطبرستان وهم متوافرون من
غير نكير من أحد منهم فكان إجماعا .
قال : ( فإذا اشتد الخوف صلوا ركبانا وحدانا يومئون إلى أي جهة قدروا ) لقوله تعالى :
) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ( [ البقرة : 239 ] وعدم التوجه للضرورة ، ولأن التكليف بقدر
الوسع ، ولا يسعهم تأخيرها حتى يخرج الوقت إلا أن لا يمكنهم الصلاة ؛ ولا تجوز الصلاة
للراكب إذا كان طالبا ، وفي قوله تعالى : ) فإن خفتم ( إشارة إليه ، فإن الطالب لا يخاف .
وعن محمد تجوز بجماعة أيضا لما تقدم من الحديث في الصلاة في المطر في باب
المريض ؛ والفتوى أنه لا يجوز للمخالفة في المكان ( ولا تجوز الصلاة ماشيا ) لأن المشي
فعل كثير .
وقال ( وخوف السبع كخوف العدو ) لاستوائهما في المعنى ، ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا
فصلوا صلاة الخوف وكان إبلا جازت صلاة الإمام خاصة ، لأن المنافي وجد في صلاتهم
خاصة ، والله أعلم .(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
باب الصلاة في الكعبة
( يجوز فرض الصلاة ونفلها في الكعبة وفوقها ) لقوله تعالى : ) وطهر بيتي للطائفين
والعاكفين والركع السجود ( [ الحج : 26 ] . وروى ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى داخل البيت
بين ساريتين ، وبينه وبين الحائط مقدار ثلاثة أذرع ، ولأنها صلاة استجمعت شرائطها فتجوز ،
والاستيعاب في التوجه ليس بشرط ، وعليه إجماع الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا ،
ولأن القبلة اسم للبقعة والهواء إلى السماء ، لا نفس البناء على ما ذكرناه ؛ وكذا لو صلى
على جبل أبي قبيس جازت صلاته لما بينا ، وما ورد من النهي عن ذلك محمول على
الكراهة ، ونحن نقول به لما فيه من ترك التعظيم .
قال : ( فإن قام الإمام في الكعبة وتحلق المقتدون حولها جاز ) إذا كان الباب مفتوحا ،
لأنه كقيامه في المحراب في غيره من المساجد . قال : ( وإن كانوا معه جاز ) لأنه متوجه إلى
الكعبة ( إلا من جعل ظهره إلى وجه الإمام ) لأنه تقدم على إمامه . قال : ( وإذا صلى الإمام في
المسجد الحرام تحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاته ) هكذا توارث الناس الصلاة فيه من
لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومنا هذا ؛ ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته
إن لم يكن في جانبه ، لأنه حينئذ يكون متقدما عليه ، لأن التقدم ولتأخير إنما يظهر عند اتحاد
الجانب ، أما عند اختلافه فلا .
باب الجنائز
( ومن احتضر ) أي قرب من الموت ( وجه إلى القبلة على شقه الأيمن ) هو السنة
واعتبارا بحالة الوضع في القبر لقربه منه ، واختار المتأخرون الاستلقاء ، قالوا : لأنه أيسر
لخروج الروح ( ولقن الشهادة ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ' والمراد
من قرب من الموت ، ولا يؤمر بها لكن تذكر عنده وهو يسمع . قال : ( فإن مات شدوا(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
لحييه وغمضوا عينيه ) هكذا فعل عليه الصلاة والسلام بأبي سلمة ، ولأن فيه تحسينه
( ويستحب تعجيل دفنه ) قال عليه الصلاة والسلام : ' عجلوا موتاكم ، فإن كان خيرا قدمتموه
إليه ، وإن كان شرا فبعدا لأهل النار ' وكره بعضهم النداء في الأسواق ، والأصح أنه لا
يكره لأن فيه إعلام الناس فيؤدون حقه ، وفيه تكثير المصلين عليه والمستغفرين .
فصل
( ويجب غسله وجوب كفاية ) لقوله عليه الصلاة والسلام ' للمسلم على المسلم ست '
وعد منها : أن يغسله بعد موته حتى لو تركوا غسله أثموا جميعا ؛ ولو تعين واحد لغسله لا
يحل له أخذ الأجرة ، والأصل فيه تغسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه السلام
وقالوا لولده : هذه سنة موتاكم .
قال : ( ويجرد للغسل ) ليتمكن من تنظيفه ووصول الماء إلى جميع بدنه ، واعتبارا بغسله
حال حياته ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام غسل في ثيابه فذلك خص به تعظيما له .
قال : ( ويوضع على سرير مجمر وترا ) أما السرير لينصب الماء عليه . وأما التجمير
فلدفع الرائحة الكريهة . وأما الوتر فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا أجمرتم الميت فأجمروه
وترا ' ( وتستر عورته ) لأنه لا يجوز النظر إليها كالحي ؛ وقيل يكتفي بستر العورة الغليظة ،
وتغسل عورته من تحت السرة بعد أن يلف على يده خرقة لئلا يلمسها . قال : ( ويوضأ
للصلاة ) لأنها سنة الغسل . وقال عليه الصلاة والسلام للآتي غسلن ابنته ( ابدأن بميامنها '
قال : ( إلا المضمضة والاستنشاق ) لتعذر إخراج الماء ولعدم تصوره من الميت .
قال : ( ويغلى الماء بالسدر أو بالحرض إن وجد ) لأنه أبلغ في النظافة وهي
المقصود ، ولأن الماء الحار أبلغ في إزالة الدرن .(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
قال : ( ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي ) تنظيفا لهما ( من غير تسريح ) إذ لا حاجة إليه
ولا يؤخذ شيء من شعره وظفره ، ولا يختن لأنها للزينة وهو مستغن عنها .
قالت عائشة : ' علام تنصون ميتكم ' ؟ أي تستقصون . قال : ( ويضجع على شقه
الأيسر فيغسل حتى يعلم وصول الماء تحته ، ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل كذلك ) لأن
البداية بالميامن سنة ( ثم يجلسه ويمسح بطنه ) لعله بقي في بطنه شيء فيخرج فتتلوث به
الأكفان . وروي أن عليا لما غسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسنده إلى صدره ومسح بطنه فلم يخرج منه
شيء ، فقال : طبت حيا وميتا يا رسول الله ( فإن خرج منه شيء غسله ) إزالة للنجاسة ( ولا
يعيد غسله ) لأن الغسل عرف بالنص وقد حصل ( ثم ينشفه بخرقة ) لئلا تبتل أكفانه فيصير مثلة
( ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته ) لأنه طيب الموتى ( والكافور على مساجده ) لأن التطييب
سنة ، وتخصيص مواضع السجود تشريفا لها .
فصل
قال : ( ثم يكفنه في ثلاثة أثواب بيض مجمرة : قميص ، وإزار ، ولفافة ؛ وهذا كفن
السنة ) لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية منها
قميصه . وروي أن الملائكة كفنت آدم في ثلاثة أثواب وقالت : هذه سنة موتاكم يا بني
آدم .
( وصفته أن تبسط اللفافة ثم الإزار فوقها ، ثم يقمص وهو على المنكب إلى القدم ،
ويوضع الإزار وهو من القرن إلى القدم ، ويعطف عليه من قبل اليسار ثم من قبل اليمين )(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
اعتبارا بحالة الحياة ، ثم اللفافة كذلك ، وهي من القرن إلى القدم . قال : ( فإن اقتصروا على
إزار ولفافة جاز ) اعتبارا بحالة الحياة ؛ ولقول أبي بكر رضي الله عنه : اغسلوا ثوبيّ هذين
وكفنوني فيهما ، وهذا كفن الكفاية .
قال : ( ولا يقتصر على واحد إلا عند الضرورة ) لما روي أنه لما استشهد مصعب بن
عمير كفّن في ثوب واحد . قال : ( ويعقد الكفن إن خيف انتشاره ) تحرزا عن كشف العورة
( ولا يكفن إلا فيما يجوز لبسه له ) اعتبارا بحالة الحياة . قال : ( وكفن المرأة كذلك وتزاد
خمارا وخرقة تربط فوق ثدييها ) تلبس القميص أولا ثم الخمار فوقه ، ثم تربط الخرقة فوق
القميص ثم الإزار ثم اللفافة اعتبارا بلبسها حال الحياة وهو كفن السنة ، لما روت أم عطية أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ناولها في كفن ابنته ثوبا ثوبا حتى ناولها خمسة أثواب آخرها خرقة تربط بها ثدييها
( فإن اقتصروا على ثوبين وخمار جاز ) وهو كفن الكفاية ، لأنه أدنى ما تستر به حال الحياة ،
ويكره أقل من ذلك . وعن أبي يوسف يكفيها إزار ولفافة لحصول الستر بهما . قال : ( ويجعل
شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص تحت اللفافة ) من الجانبين ، لأن في حال الحياة
يجعل وراء ظهرها للزينة ، وبعد الموت ربما انتشر الكفن فيجعل على صدرها لذلك ،
والمراهق كالبالغ وغير المراهق في خرقتين إزار ورداء ، وإذا ماتت المرأة ولا كفن لها فكفنها
على زوجها عند أبي يوسف اعتبارا بكسوتها حال الحياة . قال محمد رحمه الله : لا يجب
لأن الكسوة من مؤن النكاح قد زال .
فصل
( الصلاة على الميت فرض كفاية ) قال عليه الصلاة والسلام : ' الصلاة على كل
ميت ' . وقال عليه الصلاة والسلام : ' صلوا على كل ميت بر وفاجر ' ولأن الملائكة
صلوا على آدم وقالوا : هذه سنة موتاكم . قال : ( وأولى الناس بالإمامة فيها السلطان ) لأن في(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
التقدم عليه ازدراء به . ولما روي أن الحسين بن علي حين توفي أخوه الحسن قدم سعيد بن
العاص وكان أميرا بالمدينة وقال : لولا السنة لما قدمتك ( ثم القاضي ) لأنه في معناه ( ثم إمام
الحي ) لأنه رضي بإمامته حال حياته ( ثم الأولياء الأقرب فالأقرب ، إلا الأب فإنه يقدم على
الابن ) لأن له فضيلة عليه فكان أولى . وعن أبي يوسف : الولي أولى بكل حال ، وإن تساووا
في القرب فأكبرهم سنا ، وللأقرب أن يقدم من شاء لأن الحق له ( وللولي أن يصلي إن صلى
غير السلطان أو القاضي ) لأن الحق له .
قال : ( فإن صلى الولي فليس لغيره أن يصلي بعده ) لأن فرض الصلاة تأدى بالولي ،
فلو صلوا بعده يكون نفلا ولا يتنفل بها ، ولأنه لو جاز إعادة الصلاة لأعادها الناس على
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ولم يفعلوا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمر : ' إن الصلاة على الميت
لا تعاد ' . قال : ( وإن دفن من غير صلاة صلوا على قبره ما لم يغلب على الظن تفسخه )
لإطلاق ما روينا ، فإذا تفسخ لم يتناوله النص ، وقدره بعضهم بثلاثة أيام ، والأول أصح لأن
ذلك يختلف باختلاف الزمان والتربة ولو علموا بعد الصلاة أنه لم يغسل غسلوه وأعادوا
الصلاة ، ولو علموا ذلك بعد الدفن لا ينبش لأنه مثلة ولا يعيدها . وروى ابن سماعة عن
محمد : يخرجونه ما لم يهيلوا التراب عليه لأنه ليس بنبش .
قال : ( ويقوم الإمام حذاء الصدر للرجل والمرأة ) لما روى سمرة بن جندب أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على امرأة فقام بحذاء صدرها ، ولأن الصدر محل الإيمان والمعرفة ومعدن
الحكمة ، فيكون القيام بحذائه إشارة إلى أن الشفاعة لإيمانه . وعن أبي يوسف أنه يقف
للرجل حذاء الصدر ، وللمرأة حذاء وسطها ، لأن أنسا رضي الله عنه فعل كذلك وقال : هكذا
كان يفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والأول الصحيح . قال : ( والصلاة أربع تكبيرات ) لقوله عليه
الصلاة والسلام في صلاة العيد : ' أربع كأربع الجنائز ' ( ويرفع يديه في الأولى ) لأنها تكبيرة
الافتتاح ( ولا يرفع بعدها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا ترفع الأيدي إلا في سبع(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
مواطن ' ولم يذكرها ( ويحمد الله تعالى بعد الأولى ) لأن سنة الدعاء البداية بحمد الله .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يستفتح ( ويصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام بعد
الثانية ) لأن ذكره عليه الصلاة والسلام يلي ذكر ربه تعالى . قال تعالى : ) ورفعنا لك
ذكرك ( [ الشرح : 4 ] قيل لا أذكر إلا وتذكر معي ( ويدعو لنفسه وللميت وللمؤمنين بعد
الثالثة ) لأن المقصود منها الدعاء ، وقد قدم ذكر الله وذكر رسوله فيأتي بالمقصود فهو
أقرب للإجابة .
( ويسلم بعد الرابعة ) لأنه لم يبق عليه شيء فيسلم عن يمينه وعن شماله كما في الصلاة
هكذا آخر صلاة صلاها ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو فعل السلف والخلف إلى زماننا . قال أبو حنيفة : إن
دعوت ببعض ما جاءت به السنة فحسن وإن دعوت بما يحضرك فحسن ( ويقول في الصبي
بعد الثالثة : اللهم اجعله لنا فرطا وذخرا شافعا مشفعا ) لأنه مستغن عن الاستغفار ، ولا يصلى
على غائب لأنه إمام ومأموم وكلاهما لا يجوز مع الغيبة ، ولأنه لو جاز لصلى الناس على
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سائر الأمصار ، ولو صلوا لنقل ولم ينقل ، وأما صلاته على النجاشي فإنه كشف
له حتى أبصر سريره ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) يوم مات قال لأصحابه : ' هذا أخوكم النجاشي قد مات قوموا
نصلي عليه ، فصلى وهو يراه وصلت الصحابة بصلاته ' . قال : ( ولا قراءة فيها ولا تشهد )
أما التشهد فإن محله القعود ولا قعود فيها . وأما القراءة فلقول ابن مسعود : لم يوقت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صلاة الجنازة قراءة ، لا فعلا ، ولا قولا ، كبر ما كبر الإمام ، واختر من أطيب
الكلام ما شئت ، ولو قرأ الفاتحة بنية الدعاء لا بأس به ، أما بنية التلاوة مكروه . قال : ( ومن
استهل وهو أن يسمع له صوت سمي وغسل وصلي عليه ، وإلا أدرج في خرقة ولم يصل
عليه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إن استهل المولود غسل وصلي عليه وورث ، وإن لم
يستهل ولم يصل عليه ولم يورث ' رواه أبو هريرة .(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
فصل
( فإذا حملوه على سريره أخذوا بقوائمه الأربع ) لقول ابن مسعود : من السنة أن تحمل
الجنازة من جوانبها الأربع ، وفيه تعظيم الميت وصيانته عن السقوط وتخفيف عن
الحاملين .
قال : ( وأسرعوا به دون الخبب ) لما روي عن ابن مسعود قال : سألنا نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) عن سير
الجنازة فقال : ' دون الخبب الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس معها من تقدمها ' . قال :
( فإذا وصلوا إلى قبره كره لهم أن يقعدوا قبل أن يوضع على الأرض ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقوم حتى
يسوى عليه التراب ولأنها متبوعة ، ولأنه ربما احتيج إليهم حتى لو علموا استغنائهم عنهم فلا
بأس بذلك ( والمشي خلفها أفضل ) لما روينا ولأنه أبلغ في الاتعاظ ، والأحسن في زماننا
المشي أمامها لما لم يتبعها من النساء .
قال : ( ويحفر القبر ويلحد ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' اللحد لنا والشق لغيرنا '
ولأنه صنيع اليهود والسنة مخالفتهم . قال : ( ويدخل الميت من جهة القبلة ويقول واضعه :
بسم الله وعلى ملة رسول الله ، ويوجهه إلى القبلة على شقه الأيمن ) لما روى زيد بن علي
عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه قال : مات رجل من بني المطلب ، فشهده
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ' يا علي استقبل القبلة استقبالا وقولوا جميعا : بسم الله وعلى ملة
رسول الله ، وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه ' وذو الرحم أولى بوضع المرأة في
قبرها ، فإن لم يكن فالأجانب ، ولا يدخل القبر امرأة .
قال : ( ويسجّى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد ، ولا يسجّى قبر
الرجل ) لأن مبنى أمرهن على الستر حتى استحسنوا التابوت للنساء ( ويسوى اللبن على
اللحد ) كذا فعل بقبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثم يهال التراب عليه ) وهو المأثور المتوارث(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
( ويسنّم القبر ) مرتفعا قدر أربع أصابع أو شبر لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس
أنه رأى قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مسنما ، ولا يسطح لأن التسطيح صنيع أهل الكتاب ( ويكره بناؤه
بالجص والآجر والخشب ) لأنها للبقاء والزينة والقبر ليس محلا لها . قال : ( ويكره أن يدفن
اثنان في قبر واحد إلا لضرورة ويجعل بينهما تراب ) ليصير كقبرين ( ويكره وطء القبر
والجلوس والنوم عليه والصلاة عنده ) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك ، وفيه إهانة به .
قال : ( وإذا مات للمسلم قريب كافر غسله غسل الثوب النجس ، ويلفه في ثوب ويلقيه في
حفيرة ) لأنه مأمور بصلته وهذا منه ، ولئلا يتركه طعمة للسباع ، ولا يصلى عليه لأنها شفاعة
له وليس من أهلها ( وإن شاء دفعه إلى أهل دينه ) ليفعلوا به ما يفعلون بموتاهم .
باب الشهيد
( وهو من قتله المشركون ، أو وجد بالمعركة جريحا ، أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب
فيه مال ، فإنه لا يغسل إن كان عاقلا بالغا طاهرا ، ويصلى عليه ) والأصل في أحكام الشهيد
شهداء أحد . قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم : ' زملوهم بكلومهم ودمائهم ، ولا تغسلوهم فإنهم يبعثون يوم
القيامة وأوداجهم تشخب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ' فكل من كان بمثل
حالهم أو كان في معناهم بأن قتل ظالما ولم يجب بقتله عوض مالي فله حكمهم . وقوله : أو
قتله المسلمون ظلما ، يدخل فيه البغاة وقطاع الطريق ، لأن عليا لم يغسل أصحابه الذين قتلوا
بصفين . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من قتل دون ماله فهو شهيد ' وقد صح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
شهداء أحد كصلاته على الجنازة ، حتى روي ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على حمزة رضي الله عنه
سبعين صلاة ' وفي رواية ' سبعين تكبيرة ' فإنه كان موضوعا بين يديه ويؤتى بواحد واحد
يصلي عليه ، حتى ظن الراوي أن الصلاة كانت على حمزة في كل مرة ، وقوله : إن كان
عاقلا بالغا طاهرا هو مذهب أبي حنيفة ، لأن عنده يغسل الصبي والجنب والحائض والنفساء
إذا استشهدوا . وقالا : لا يغسل الصبي قياسا على البالغ ولا الجنب ، لأن غسل الجنابة سقط
بالموت ، وما يجب بالموت منعدم في حقه . ولأبي حنيفة أنه صح أن حنظلة بن عامر قتل
جنبا فغسلته الملائكة ، فكان تعليما ، وهو مخصوص من الحديث العام ؛ والحائض
والنفساء مثله . وأما الصبي فلأن الأصل في موتى بني آدم الغسل ، إلا أنا تركناه بشهادة تكفير
الذنب ليبقى أثرها لما روينا ، وهذا المعنى معدوم في الصبي فيبقى على الأصل ؛ ومن قتل
بالمثقل يجب غسله خلافا لهما بناء على أنه تجب الدية عنده وعندهما القتل ، ومن وجد في
المعركة ميتا لا جراحة به غسل لوقوع الشك في شهادته .
قال : ( ويكفن في ثيابه وينقص ويزاد مراعاة لكفن السنة ) لأن حمزة لما استشهد كان
عليه نمرة إن غطي رأسه بدت قدماه ، وإن غطيت قدماه بدا رأسه ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن
يغطى بها رأسه وأن يوضع على قدميه الإذخر وأنه زيادة فدل على جوازها ( وينزع عنه
الفرو والحشو والسلاح والخف والقلنسوة ) لأنها ليست من أثواب الكفن ، والنبي عليه الصلاة
والسلام أمر بنزعها عن الشهيد . قال : ( فإن أكل ، أو شرب ، أو تداوى ، أو أوصى بشيء من
أمور الدنيا ، أو باع ، أو اشترى ، أو صلى ، أو حمل من المعركة حيا ، أو آوته خيمة ، أو
عاش أكثر من يوم وهو يعقل غسل ) لأنه نال مرافق الحياة فخف عنه أثر الظلم ، فلم يبق في
معنى شهداء أحد ، فإنهم ماتوا عطاشا والكأس يدار عليهم خوفا من نقص الشهادة ؛ ولو
حمل من بين الصفين كيلا تطأه الخيل لا للتداوي لا يغسل ، لأنه لم ينل مرافق الحياة . وعن(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
أبي يوسف : إذا مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل غسل لأنه وجبت عليه الصلاة وذلك من
أحكام الدنيا ، وإن أوصى بأمر ديني لم يغسل ، لما روي أن سعد بن الربيع أصيب يوم أحد ،
فأوصى الأنصار فقال : لا عذر لكم إن قتل رسول الله وفيكم عين تطرف ، ومات ولم
يغسل .
قال : ( والمقتول حدا أو قصاصا يغسل ويصلى عليه ) لأنه لم يقتل ظلما فلم يكن في
معنى شهداء أحد . قال : ( والبغاة وقطاع الطريق لا يصلى عليهم ) لأنهم يسعون في الأرض
فسادا . وقال تعالى في حقهم : ) ذلك لهم خزي في الدنيا ( [ المائدة : 33 ] والصلاة شفاعة
فلا يستحقونها ، وعلي رضي الله عنه ما صلى على البغاة وهو القدوة في الباب ، وكان ذلك
بمشهد من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا .(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
كتاب الزكاة
وهي في اللغة : الزيادة ، يقال : زكا المال : إذا نما وازداد ، وتستعمل بمعنى الطهارة ،
يقال : فلان زكي العرض : أي طاهره .
وفي الشرع : عبارة عن إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص ،
وفيها معنى اللغه لأنها وجبت طهرة عن الآثام . قال تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها ( [ التوبة : 103 ] أو لأنها إنما تجب في المال النامي إما حقيقة أو تقديرا ؛
وسبب وجوبها ملك مال مقدر موصوف لمالك موصوف فإنه يقال زكاة المال . قال أبو بكر
الرازي : تجب على التراخي ، ولهذا لا يجب الضمان بالتأخير ولو هلك . وعن الكرخي على
الفور . وعن محمد ما يدل عليه ، فإنه قال : لا تقبل شهادة من لم يؤد زكاته ، وهي فريضة
محكمة لا يسع تركها ، ويكفر جاحدها ، ثبتت فرضيتها بالكتاب وهو قوله تعالى : ) وآتوا
الزكاة ( [ البقرة : 43 ] وقوله : ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( وبالسنة وهو ما
روينا من الحديث في الصلاة ، وعليه الإجماع .
قال : ( ولا تجب إلا على الحر المسلم العاقل البالغ ) لأن العبد لا ملك له ،
والكافر غير مخاطب بالفروع لما عرف في الأصول ، والصبي والمجنون غير مخاطبين
بالعبادات ، وهي من أعظم العبادات لأنها أحد مباني الإسلام وأركانه ولقوله عليه الصلاة
والسلام : ' رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ،(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
وعن النائم حتى يستيقظ ' . وقال علي رضي الله عنه : لا تجب عليه الزكاة حتى تجب
عليه الصلاة .
قال : ( إذا ملك نصابا خاليا عن الدين فاضلا عن حوائجه الأصلية ملكا تاما في
طرفي الحول ) أما الملك فلأنها لا تجب في مال لا مالك له كاللقطة . وأما النصاب
فلأنه عليه الصلاة والسلام قدره به ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' ليس في أقل من مائتي
درهم صدقة ' وكذا ورد في سائر النصب . وأما خلوه عن الدين فلأن المشغول بالدين
مشغول بالحاجة الأصلية ، لأن فراغ ذمته من الدين الحائل بينه وبين الجنة أهم الحوائج ،
فصار كالطعام والكسوة ، ولأن الملك ناقص لأن للغريم أخذه منه بغير قضاء ولا رضى ؛
والزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة ، ولأن الله جعله مصرفا للزكاة بقوله : ) والغارمين (
[ التوبة : 60 ] وبيّن وجوبها عليه وجواز أخذها تناف وصار كالمكاتب ، وإن كان له
نصاب فاضل عن الدين زكاة لعدم المانع ، والمراد دين له مطالب من جهة العباد ، وما
لا مطالب له من جهة العباد لا يمنع كالكفارات والنذور ووجوب الحج ونحوه ، والنفقة
ما لم يقض بها لا تمنع ، لأنها ليست في حكم الدين ، فإذا قضى بها صارت دينا
فمنعت .
واختلفوا في دين الزكاة . قال زفر : لا يمنع في الأموال الباطنة ، لأنه لا مطالب له من
جهة العباد لأن الأداء للمالك . وقال أبو يوسف : إن كان الدين في الذمة بأن استهلك مال
الزكاة بعد الحول وبقي في ذمته وملك مالا آخر فإنه تجب عليه الزكاة ، ولا يمنع ما في ذمته
من الوجوب ، ولو كان الدين في العين كمن له نصاب فمضى عليه سنون ، فإنه لا تجب عليه
الزكاة لجميع ما مضى من السنين خلافا لزفر ؛ وعندهما لا تجب الزكاة في الفصلين ، ويمنع
الدين سواء كان في الذمة أو في العين ، لأن الأخذ كان للإمام ، وعثمان رضي الله عنه فوضه
إلى الملاك ، وذلك لا يسقط حق طلب الإمام حتى لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم
طالبهم بها ، ولو مر بها على الساعي كان له أخذها ، فكان له مطالب من جهة العباد فيمنع ،
والدين المعترض في خلال الحول يمنع عند محمد خلافا لأبي يوسف . والمهر يمنع
مؤجلا كان أو معجلا ؛ وقيل : يمنع المعجل دون المؤجل .(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
وقوله : فائضا عن حوائجه الأصلية ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام : ' المرء أحق
بكسبه ' وقوله عليه الصلاة والسلام : ' ابدأ بنفسك ' يدل على وجوب تقدم حوائجه
الأصلية وهي : دور السكنى ، وثياب البدن ، وأثاث المنزل ، وسلاح الاستعمال ، ودواب
الركوب ، وكتب الفقهاء ، وآلات المحترفين وغير ذلك مما لا بد منه في معاشه . وأما الملك
التام فاحتراز عن ملك المكاتب لأن الزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة وأنها نعمة ناقصة ،
ولما روى جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق ' وقوله في
طرفي الحول ، لأن الحلول لا بد منه . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا زكاة في مال حتى
يحول عليه الحول ' ولأنه لا بد من التمكن من التصرف في النصاب مدة يحصل منه
النماء ، فقدرناه بالحول لاشتماله على الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأسعار غالبا ، ثم لا بد
من اعتبار كمال النصاب في أول الحول للانعقاد وفي آخره لوجوب الأداء ، وما بينهما حالة
البقاء فلا اعتبار بها ، لأن في اعتبارها حرجا عظيما ، فإن بالتصرفات في النفقات يتناقض
ويزداد في كل وقت ، فيسقط اعتباره دفعا لهذا الحرج .
قال : ( ولا يجوز أداؤها إلا بنية مقارنة لعزل الواجب أو للأداء ) لأن النية لا بد منها
لأداء العبادات على ما مر في الصلاة ، والزكاة تؤدى متفرقا ، فربما يحرج في النية عند أداء
كل دفعة ، فاكتفينا بالنية عند العزل تسهيلا وتيسيرا . قال : ( ومن تصدق بجميع ماله سقطت
وإن لم ينوها ) والقياس أن لا تسقط وهو قول زفر : الدم النية . وجه الاستحسان أن الواجب
جزء النصاب . قال عليه الصلاة والسلام : ' في الرقة ربع العشر ' . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' في عشرين مثقالا نصف مثقال ' إلى غيره من النصوص ، والركن هو التمليك
على وجه المبرة ، وقد وجد لحصول أداء الواجب قطعا ، لأنه لما أدى الكل فقد أدى الجزء ،
والنية شرطت للتعيين ، والواجب قد تعين بإخراج الكل ، ولو تصدق بالبعض سقطت زكاة
ذلك البعض عند محمد خلافا لأبي يوسف . قال : ( ولا زكاة في المال الضمار ) وهو المال
الضائع والساقط في البحر ، والمدفون في المفازة إذا نسي المالك مكانه ، والعبد الآبق(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
والمغصوب ، والدين المجحود إذا لم يكن عليهما بينة ، والمودع عند من لا يعرفه ونحو
ذلك ، والمدفون في البستان والأرض فيه اختلاف الروايات ، والمدفون بالبيت ليس بضمار .
وقال زفر : تجب الزكاة في الضمار لإطلاق النصوص ، والسبب متحقق وهو الملك ، ولا
يضره زوال اليد كابن السبيل . ولنا قول علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا : ' لا زكاة في
المال الضمار ' وقيل لعمر بن عبد العزيز لما رد الأموال على أصحابها أفلا تأخذ منهم
زكاتها لما مضى ؟ قال : لا إنها كانت ضمارا ، والعبادات لا مدخل للقياس والعقل في إيجابها
وإسقاطها فكان توقيفا ، ولأنه مال غير نام ، لأن النماء بالاستنماء غالبا وهو عاجز ، بخلاف
ابن السبيل لأنه قادر بنائبه .
قال : ( وتجب في المستفاد المجانس ويزكيه مع الأصل ) وهو ما يستفيده بالهبة أو
الإرث أو الوصية لقوله عليه الصلاة والسلام : ' اعلموا أن من السنة شهرا تؤدون فيه الزكاة ،
فما حدث بعد ذلك فلا زكاة فيه حتى يجيء رأس السنة ' وهذا يدل على أن وقت وجوب
الأصل والحادث واحد ، وهو مجيء رأس السنة ، وهذا راجح على ما يروى ' لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول ' لأنه عام ، وما رويناه خاص في المستفاد ، أو يحمل على ما
رواه على غير المجانس عملا بالحديثين ، ولأن في اشتراط الحول لكل مستفاد مشقة وعناء ،
فإن المستفادات قد تكثر فيعسر عليه مراقبة ابتداء الحول وانتهائه لكل مستفاد والحول
للتيسير ، وصار كالأولاد والأرباح ؛ وأما المستفاد المخالف لا يضم بالإجماع .
قال : ( وتجب في النصاب دون العفو ) وقال محمد وزفر فيهما . وصورته لو كان له
ثمانون من الغنم فهلك منها أربعون فعليه شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد
وزفر نصف شاة ، ولو كان له تسع من الإبل هلك منها أربع فعليه شاة ، وعند محمد خمسة
أتساع شاة . لمحمد وزفر : أن العفو مال نام ونعمة كاملة ، فتجب الزكاة بسببه شكرا للنعمة
والمال النامي . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام : ' في خمس من الإبل السائمة شاة ، وليس في
الزيادة شيء حتى يكون عشرا ' وهذا صريح في نفي الوجوب في العفو ، ولأنه تبع
للنصاب فينصرف الهلاك إليه كالربح في المضاربة .
قال : ( وتسقط بهلاك النصاب بعد الحول ، وإن هلك بعضه سقطت حصته ) لأن الواجب(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
جزء النصاب لما مر ، فكان النصاب محلا للزكاة ؛ والشيء لا يبقى بعد محله كالعبد الجاني
إذا مات ولم يوجد الطلب لأنها ليست لفقير بعينه ، حتى لو امتنع بعد طلب الساعي يضمن
على قول الكرخي لأنها أمانة فتضمن بالهلاك بعد الطلب كالوديعة . وقال عامة المشايخ : لا
تضمن ، لأن المالك إن شاء دفع العين ، وإن شاء دفع القيمة من النقدين والعروض وغير
ذلك ، فكان له أن يؤخر الدفع ليحصل العوض ، وأما بالاستهلاك فقد تعدى فيضمن عقوبة
له .
قال : ( ويجوز فيها دفع القيمة ) وكذا في الكفارات والنذور وصدقة الفطر والعشور لقوله
تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة ( [ التوبة : 103 ] وهذا نص على أن المراد بالمأخوذ صدقة ،
وكل جنس يأخذه فهو صدقة : ' ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب
وقال : ألم أنهاكم عن أخذ كرائم أموال الناس ؟ فقال المصدق : إن ارتجعتها ببعيرين
فسكت ' وأنه صريح في الباب . وقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم : ائتوني
بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير ، فإنه أيسر عليكم ، وأنفع لمن بالمدينة من
المهاجرين والأنصار ' وكان يأتي به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا ينكر عليه ' . وأما قوله عليه الصلاة
والسلام : ' خذ من الإبل الإبل ' الحديث ، فهو محمول على التيسير ، لأن أداء هذه
الأجناس على أصحابها أسهل ، وأيسر من غيرها الأجناس ؛ والفقه فيه أن المقصود إيصال
الرزق الموعود إلى الفقير وقد حصل . قال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله تعالى فرض على
الأغنياء قوت الفقراء وسماه زكاة ' وصار كالجزية بخلاف الهدايا والضحايا ، لأن إراقة الدم
غير معقولة المعنى .
قال : ( ويأخذ المصدق وسط المال ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' خذ من حواشي
أموالهم ' أي الوسط ، ولأن أخذ الجيد إضرار برب المال ، وأخذ الرديء إضرار بالفقراء ،(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
فقلنا بالوسط تعديلا بينهما ، ولا يأخذ الربي ولا الماخض ، ولا فحل الغنم ، ولا الأكولة
لما ذكرنا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' إياكم وكرائم أموال الناس ' وقال عمر رضي الله
عنه : عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي على يديه ، ألسنا تركنا لكم الربي والأكولة
والماخض وفحل الغنم ؟
قال : ( ومن ملك نصابا فعجل الزكاة قبل الحول لسنة أو أكثر أو لنصب جاز ) لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام استسلف العباس زكاة عامين ، ولأنه أدى بعد السبي وهو
المال . والحول الأول وما بعده سواء ، بخلاف ما قبل تمام النصاب لأنه أدى قبل السبب
فلا يجوز كغيره من العبادات ، ولأن النصاب الأول سبب لوجود الزكاة فيه وفي غيره من
النصب ، ألا يرى أنها تضم إليه فكانت تبعا له .
وقال زفر : إذا أدى عن نصب لا يجزيه إلا عن النصاب الذي في ملكه ، لأنه أدى قبل
السبب وهو الملك ، ولنا ما بينا ، ولأن المستفاد تبع الأصل في حق الوجوب ، فيكون تبعا
في حكم الحول أيضا ، فكأن الحول حال على الجميع .
فصل
ومن امتنع من أداء الزكاة أخذها الإمام كرها ووضعها موضعها ، لقوله تعالى : ) خذ
من أموالهم ( [ التوبة : 103 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : ' خذها من أغنيائهم ' وهذا لأن
حق الأخذ كان للإمام في الأموال الظاهرة والباطنة إلى زمان عثمان رضي الله عنه بهذه
النصوص ، ففوضها في الأموال الباطنة إلى أربابها مخافة تفتيش الظلمة إلى أموال الناس ،
فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام ، فإذا علم أنهم لا يؤدون طالبهم بها ؛ وما أخذه
الخوارج والبغاة من الزكاة لا يثني عليهم لأنه عجز عن حمايتهم ، والجباية بالحماية ، ويفتي
لأهلها بالإعادة فيما بينهم وبين الله تعالى لعلمنا أنهم لم يأخذوها بطريق الصدقة ولا
يصرفونها مصارفها .
واختلف المتأخرون فيما يأخذه الظلمة من السلاطين في زماننا . قال مشايخ بلخ :
يفتون بالإعادة كالمسألة الأولى . وقال أبو بكر الأعمش : يفتون بإعادة الصدقة لأنها حق
الفقراء ولا يصرفونها إليهم ، ولا يفتون في الخراج لأنه حق المقاتلة وهم منهم حتى لو ظهر(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
على الإسلام عدو قاتلوه . قال شمس الأئمة السرخسي : الأصح أن أرباب الأموال إذا نووا
عند الدفع التصدق عليهم سقط عنهم جميع ذلك ، وكذا جميع ما يؤخذ من الرجل من
الجبايات والمصادرات ، لأن ما بأيديهم أموال الناس ، وما عليهم من التبعات فوق مالهم ،
فهم بمنزلة الغارمين والفقراء ، حتى قال محمد بن سلمة : يجوز أخذ الصدقة لعلي بن
عيسى بن ماهان والي خراسان ؛ ومن مات وعليه زكاة أو صدقة فطر لم يؤخذ من تركته ،
وإن تبرع به الورثة جاز ، وإن أوصى به يعتبر من ثلثه لأنها عبادة ، فلا تتأدى إلا به أو بنائبه
تحقيقا لمعنى العبادة ، لأن العبادة شرعت للابتلاء ليتبين الطائع من العاصي ، وذلك لا يتحقق
بغير رضاه وقصده ، ولأنه مأمور بالإيتاء ، ولا يتحقق من غيره إلا أن يكون نائبا عنه لقيامه
مقامه ، بخلاف الوارث لأنه يخلفه جبرا ، وقضية هذا أنه لا يجوز أداء وارثه عنه إلا أنا
جوزناه استحسانا ، وقلنا بسقوطه عنه بأداء الوارث ، لحديث الخثعمية حيث قال عليه الصلاة
والسلام : ' فدين الله أولى ' .
باب زكاة السوائم
( السائمة التي تكتفي بالرعي في أكثر حولها ، فإن علفها نصف الحول أو أكثره فليست
بسائمة ) لأن أربابها لا بد لهم من العلف أيام الثلج والشتاء ، فاعتبر الأكثر ليكون غالبا ، لأن
السوم إنما أوجب الزكاة لحصول النماء وخفة المئونة ، وإنه يتحقق إذا كانت تسام أكثر
المدة ؛ أما إذا علفت فالمئونة تكثر وكثرتها تؤثر في إسقاط الزكاة كالمعلوفة دائما فاعتبر
الأكثر ، وهي التي تسام للدر والنسل والنماء ؛ أما لو سيمت للحمل والركوب فلا زكاة فيها
لعدم النماء ( والإبل تتناول البخت والعراب ) لأن الاسم ينتظمها لغة .
قال : ( والبقر يتناول الجواميس أيضا ) لأنها نوع منها ( والغنم الضأن والمعز ) لأن الشرع
ورد باسم الغنم فيهما واللفظ ينتظمهما لغة .(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
فصل
( ليس في أقل من خمس من الإبل السائمة زكاة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' في
خمس من الإبل السائمة صدقة ' وعليه يحمل المطلق ، لأن الحادثة واحدة ، والصفة إذا
قرنت باسم العلم صار كالعلة . قال : ( وفي الخمس شاة ، وفي العشر شاتان ، وفي خمس
عشر ثلاث شياه ، وفي عشرين أربع شياه ، وفي خمس وعشرين بنت مخاض ، وهي التي
طعنت في السنة الثانية ، وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي التي طعنت في الثالثة ، وفي
ست وأربعين حقة وهي التي طعنت في الرابعة ، وفي إحدى وستين جذعة وهي التي طعنت
في الخامسة وفي ست وسبعين بنتا لبون ، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين ) ولا
خلاف في هذه الجملة بين العلماء ، وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : ( ثم في الخمس شاة كالأول ، إلى مائة وخمس وأربعين ففيها حقتان وبنت مخاض ،
إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق ؛ ثم في الخمس شاة كالأول ، إلى مائة وخمس وسبعين
ففيها ثلاث حقاق وبنت مخاض ، وفي مائة وست وثمانين ثلاث حقاق وبنت لبون ، وفي مائة
وست وتسعين أربع حقاق إلى مائتين ، ثم تستأنف أبدا كما استأنفت بعد المائة والخمسين ) وهو(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
مذهب علي وابن مسعود ، وهكذا كتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كتاب الصدقات لأبي بكر رضي
الله عنه . وقال عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم : ' فإذا زادت الإبل على مائة
وعشرين استؤنفت الفريضة ، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس
ذود شاة ' وهذا تقدير لما أجمعوا عليه من الفريضة إلى مائة وعشرين ، فكان أولى من
تغييره ومخالفته .
فصل
( ليس في أقل من ثلاثين من البقر شيء ، وفي ثلاثين تبيع أو تبيعة ، وهي التي طعنت
في الثانية ، وفي أربعين مسن أو مسنة ، وهي التي طعنت في الثالثة ) بذلك أمر رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) معاذا وعليه إجماع الأمة . قال : ( وما زاد بحسابه إلى ستين ) عند أبي حنيفة
رحمه الله ؛ وفي رواية الأصل : ففي الواحدة ربع عشر مسنة أو ثلث عشر تبيع ، وفي اثنين
نصف عشر مسنة أو ثلثا عشر تبيع ، وعلى هذا لأنه لا نص في ذلك ، ولا يجوز نصب
النصب بالرأي فيجب بحسابه . وروى ابن زياد عنه : لا شيء في الزيادة حتى تبلغ
خمسين ، ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن الأوقاص في البقر تبيع كما قبل الأربعين
وبعد الستين ، وروى أسد بن عمر عنه : لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين ، وهو قول
أبي يوسف ومحمد لقول معاذ في البقر : لا شيء في الأوقاص ، سمعته من رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وفي الستين تبيعان أو تبيعتان ، وفي سبيعن مسنة وتبيع ، وفي ثمانين مسنتان ،
وعلى هذا ينتقل الفرض ، في كل عشرة من تبيع إلى مسنة ) ومن مسنة إلى تبيع ، عليه
انعقد الإجماع وبه وردت الآثار .(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
فصل
( ليس في أقل من أربعين شاة صدقة ، وفي أربعين شاة إلى مائة وإحدى وعشرين ففيها
شاتان ، إلى مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه ، إلى أربعمائة ففيها أربع شياه ، ثم في كل مائة
شاة ) بذلك تواترت الأخبار ولا خلاف فيه . قال : ( وأدنى ما تتعلق به الزكاة ، ويؤخذ في
الصدقة الثني ، وهو ما تمت له سنة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يجزي في الزكاة إلا
الثني ' وعن علي رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا : ' لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فصاعدا '
وروي أنه يؤخذ الجذع من الضأن ، وهو الذي أتى عليه أكثر السنة وهو قولهما ، أما المعز لا
يؤخذ إلا الثني اعتبارا بالأضحية ، والأول ظاهر الرواية وهو الصحيح ، ولا يؤخذ من الإبل
إلا الإناث ، ويؤخذ من البقر والغنم الذكور والإناث ، لأن النص ورد بلفظ الإناث بقوله بنت
مخاض وبنت لبون وحقة وجذعة ، وفي البقر والغنم بلفظ البقر والشاة وأنه يعمهما .
فصل
( من كان له خيل سائمة ذكور وإناث ، أو إناث ، فإن شاء أعطى عن كل فرس دينارا ،
وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم ) وقال أبو يوسف ومحمد لا زكاة
في الخيل لرواية أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه
صدقة ' ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة ( [ التوبة : 103 ](1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
وهذا من جملة الأموال . وقال عليه الصلاة والسلام : ' في كل فرس سائمة دينار أو عشرة
دراهم ، وليس في الرابطة شيء ' رواه جابر . وكتب عمر إلى أبي عبيدة : أن خذ من كل
فرس دينارا أو عشرة دراهم . وقياسا على سائر السوائم . وما رواه أبو هريرة ، قال زيد بن
ثابت : إنما أراد به فرس الغازي . وعن أبي حنيفة رحمه الله : لا شيء في الإناث الخلص
لعدم النماء والتوالد ، والصحيح الوجوب لقدرته عليه باستعارة الفحل ، وعنه في الذكور
روايتان الأصح أنه لا يجب لأنه لا نماء بالولادة ولا بالسمن ، لأن عنده لا يؤكل لحمها ؛
ووجه رواية الأجوب أن زكاة السوائم لا تختلف بالذكورة والأنوثة كالإبل والبقر ؛ والفرق أن
النماء يحصل فيهما بزيادة اللحم وهو مقصود ، بخلاف الخيل لما مر .
قال : ( ولا زكاة في البغال والحمير ) لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنها ، فقال : ' لم
ينزل عليّ فيها شيء إلا الآية الجامعة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) ^ [ الزلزلة : 7 ] ' .
قال : ( ولا في العوامل والعلوفة ) لما تقدم من اشتراط السوم . وقال عليه الصلاة والسلام :
' ليس في البقر العوامل صدقة ' رواه ابن عباس ، ولأن النماء منعدم فيها ، لأن المئونة
تتضاعف بالعلف فينعدم النماء معنى ، والسبب المال النامي . قال : ( ولا في الفصلان
والحملان والعجاجيل ) وقال أبو يوسف : فيها واحدة منها . وقال زفر : فيها ما في الكبار ،
لأن قوله عليه الصلاة والسلام : ' في خمس من الإبل شاة ' وقوله : ' في أربعين شاة
شاة ' اسم جنس يتناول الكبار والصغار . ولأبي يوسف : أن في إيجار المسنة إجحافا
بالمالك ، وفي عدم الوجوب أصلا إضرارا بالفقراء ، فيجب واحدة منها كالمهازيل . ولهما
حديث سويد بن غفلة أنه قال : ' أتانا مصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعته يقول : في عهدي أن لا
آخذ من راضع اللبن شيئا ' ولأن النصب لا تنصب إلا توقيفا أو اتفاقا وقد عدما في(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
الصغار ، ولأن الشرع أوجب أسنانا مرتبة في نصب مرتبة ، ولا مدخل للقياس في ذلك ،
وليس في الصغار تلك الأسنان .
قال : ( إلا أن يكون معها كبار ) ولو كانت واحدة لأنها تستتبع الصغار لما تقدم من قول
عمر رضي الله عنه عد عليهم السخلة ، ولو جاء بها الراعي على يده . ثم عند أبي يوسف في
أربعين حملا حمل ، وفي مائة وأحد وعشرين اثنان ، وفي مائتين وواحدة ثلاثة ، وفي أربعمائة
أربع ، ثم في كل مائة واحدة كالكبار . وفي كل ثلاثين عجلا عجل ، ففي الثلاثين واحد ،
وفي الستين اثنان ، وفي تسعين ثلاثة ، وفي مائة وعشرين أربعة وهكذا أما الفصلان ؛ فعنه أنه
لا يجب شيء إلى خمس وعشرين فتجب واحدة منها ، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عددا لو
كانت كبارا يجب ثنتان وهو ستة وسبعون فيكون فيها فصيلان ، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ
عددا لو كان كبارا يجب فيها ثلاثة وهي مائة وخمس وأربعون فيجب ثلاث فصلان وهكذا .
وعنه أيضا أنه يجب في الخمس الأقل من قيمة شاة ومن خمس فصيل ، وفي العشر الأقل
من شاتين وخمس فصيل . وعنه أيضا أنه يجب في الخمس خمس فصيل ، وفي العشر خمسا
فصيل وهكذا ؛ وصورة المسألة لرجل له نصاب من السائمة مضى عليها بعض السنة فولدت
ثم ماتت الأمهات فحال الحول على الأولاد ، فعندهما ينقطع حكم الحول والزكاة . وعند أبي
يوسف وزفر لا ينقطع .
قال : ( ولا في السائمة المشتركة إلا أن يبلغ نصيب كل شريك نصابا ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' إذا انتقص شياه الرجل من أربعين فلا شيء عليها ' ولأنه إنما تجب
باعتبار الغنى ولا غنى إلا بالملك ، فإنه لا يعد غنيا بملك شريكه ، ويستوي في ذلك شركة
الأملاك والعقود ، فلو كان بينه وبين آخر خمس من الإبل أو أربعون شاة فلا شيء على واحد
منهما ، ولو كان بينهما عشر من الإبل أو ثمانون شاة فعلى كل واحد منهما شاة ، ولو كانت
بين صبي وبالغ فعلى البالغ شاة .
قال : ( ومن وجب عليه سن فلم يوجد عنده أخذ منه أعلى منه ورد الفضل أو أدنى
منه وأخذ الفضل ) وهذا يبنى على جواز دفع القيمة ، ثم الخيار لصاحب المال هو
الصحيح ، إن شاء أدى القيمة ، وإن شاء أدى الناقص وفضل القيمة أو الزائد وأخذ الفضل ،
وليس للساعي أن يأبى شيئا من ذلك إذا أداه المالك ، لأن التيسير على أرباب الأموال
مراعى .(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
باب زكاة الذهب والفضة
( وتجب في مضروبهما وتبرهما وحليهما وآنيتهما نوى التجارة أو لم ينو إذا كان ذلك
نصابا ) قال الله تعالى : ) والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ( [ التوبة : 34 ] الآية .
علق الوجوب باسم الذهب والفضة وأنه موجود في جميع ما ذكرنا ، لأن المراد بالكنز عدم
إخراج الزكاة لحديث جابر وابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ' كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز
وإن كان ظاهرا ، وما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا ' وعن أم سلمة رضي الله
عنها قالت : ' كنت ألبس أوضاحا من الذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هي ؟ فقال : إن أديت
زكاته فليس بكنز ' فيصير تقدير الآية : والذين لا يؤدون زكاة الذهب والفضة فبشرهم
بعذاب أليم . ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) امرأتين عليهما سواران من ذهب ، فقال : ' أتحبان أن
يسوركما الله بسوارين من نار ' ؟ قالتا : لا ، قال : ' فأديا زكاتهما ' ألحق الوعيد الشديد بترك
أداء الزكاة وأنه دليل الوجوب .
قال : ( ويضم أحدهما إلى الآخر ) لأنهما متحدان في معنى المالية والثمنية والزكاة
تعلقت بهما باعتبار المالية والثمنية فيضم نظرا للفقراء ، بخلاف السوائم لأن الزكاة تعلقت بها
باعتبار العين والصورة ، وهي أجناس مختلفة ؛ ثم عند أبي حنيفة يضم أحدهما إلى الآخر
( بالقيمة ) وعندهما بالأجزاء . وصورته من له عشرة مثاقيل ذهب وإناء فضة أقل من مائة درهم
قيمته عشرة مثاقيل تجب الزكاة عنده خلافا لهما ، لأن المعتبر فيهما القدر لأنه المنصوص
عليه . وله أن الضم باعتبار المجانسة ، والمجانسة بالقيمة فإذا تمت القيمة نصابا من أحدهما
وجد السبب . قال : ( ونصاب الذهب عشرون مثقالا وفيه نصف مثقال ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' يا علي ليس عليك في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا ، فإذا بلغ ففيها
نصف مثقال ' .
قال : ( ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان . ونصاب الفضة مائتا درهم ، وفيها(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
( خمسة دراهم ) لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم : ' ليس في الرقة صدقة
حتى تبلغ مائتي درهم ، فإذا بلغت مائتي ففيها خمسة دراهم ' . قال : ( ثم في كل أربعين
درهما درهم ) وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا : ما زاد على النصاب منهما فالزكاة بحسابه ، حتى
يجب عندهما في الدرهم الزائد على المائتين جزء من أربعين جزءا من درهم ، وكذالك
القيراط الزائد على العشرين دينارا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' في مائتي درهم خمسة
دراهم ، وما زاد فبحساب ذلك ' رواه علي رضي الله عنه . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة
والسلام في حديث عمرو بن حزم : ' وفي مائتي درهم خمسة دراهم ، وفي كل أربعين درهما
درهم ' ولم يرد به الابتداء ، فيكون المراد ما بعد المائتين ، ولأنه نصاب له عفو في
الابتداء ، فكذا في الانتهاء كالسائمة ، ولأنه يفضي إلى الحرج بحساب ربع عشر الذرة والحبة
والدانق والدرهم وغير ذلك ، والحرج مدفوع .
قال : ( وتعتبر فيهما الغلبة ، فإن كانت للغش فهي عروض ، وإن كانت للفضة فهي
فضة ، وكذلك الذهب ) لأن ذلك لا ينطبع إلا بقليل الغش ، فلا يخلو منه ويخلو عن كثيره ،
فجعلنا الفاصل الغلبة ، وذلك بالزيادة على النصف ، فيجب في الزيوف والنبهرجة لأن الغالب
عليهما الفضة ، ولا تجب في الستوقة لأن الغالب عليها الغش إلا أن يبلغ ما فيها من الفضة
نصابا أو تكون للتجارة ، وتبلغ قيمتها مائتي درهم ، فتجب حينئذ وإن تساويا لا تجب ، لأن
الأصل عدم الوجوب ، وقد وقع الشك في السبب وهو النصاب فلا تجب ، بخلاف البيع
على ما يأتي في الصرف ، ونظرا للمالك كما في السوم ، وسقي الأراضي سيحا ودالية على
ما يأتي ( والمعتبر في الدراهم كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ) والأصل في ذلك ما روي أن
الدراهم كانت مختلفة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . واعتبر عمر رضي الله عنه بعضها اثني عشر
قيراطا ، وبعضها عشرة قراريط ، وبعضها عشرين قيراطا ، وكان الناس يختلفون في معاملتهم ،
فشاور عمر الصحابة رضي الله عنهم ، فقال بعضهم : خذ من كل نوع ، فأخذ من كل درهم
ثلثه فبلغ أربعة عشر قيراطا فجعله درهما ، فجاءت العشرة مائة وأربعين قيراطا ، وذلك سبعة
مثاقيل ، لأن المثقال عشرون قيراطا . قال : ( ولا زكاة في العروض إلا أن تكون للتجارة ،
وتبلغ قيمتها نصابا من أحد النقدين وتضم قيمتها إليهما ) لأن الزكاة إنما تجب في مال نام(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
زائد على الحوائج الأصلية . والنماء يكون إما بإعداد الله تعالى كالذهب والفضة ، فإنه تعالى
أعدهما للنماء حيث خلقهما ثمن الأشياء في الأصل ، ولا يحتاج في التصرف فيهما والمعاملة
بهما إلى التقويم والاستبدال ، وتتعلق الزكاة بعينه كيف كان أو يكون معدا بإعداد العبد ، وهو
إما الإسامة أو نية التجارة ، فيتحقق النماء ظاهرا أو غالبا ، وليس في العروض نصاب مقدر
لأنه لم يرد الشرع بذلك فيرجع إلى القيمة ، وإذا قومت بأحد النقدين صار المعتبر القيمة
فتضم إلى التقدير لما مر وتقوم بأي النقدين شاء ، لأن الوجوب باعتبار المالية ، والتقويم
بعرف المالية والنقدان في ذلك سواء فيخير . وعن أبي حنيفة : يقومها بما هو أنفع للفقراء ،
وهو أن يبلغ نصابا نظرا لهم . وعن محمد : يغالب نقد البلد لأنه أسهل ، والله أعلم .
باب زكاة الزروع والثمار
( ما سقته السماء أو سقي سيحا ففيه العشر قل أو كثر ) ويستوي فيه ما يبقى وما لا
يبقى ، وقالا : لا يجب العشر إلا فيما يبقى إذا بلغ خمسة أوسق ، والوسق : ستون صاعا ،
فلا يجب في البقول والرياحين ، لهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' ليس فيما دون خمسة
أوسق صدقة ' وقوله عليه الصلاة والسلام : ' ليس في الخضراوات عشر ' ولأنه صدقة
فيشترط له نصاب ليتحقق الغنى كسائر الصدقات ، وله قوله تعالى : ) أنفقوا من طيبات ما
كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ( [ البقرة : 267 ] . ولا واجب فيه إلا العشر أو
نصفه ، فيكون المراد العشر ، ولم يفصل بين القليل والكثير ، وما يبقى وما لا يبقى فيتناول
الكل .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ' ما سقته السماء ففيه العشر ' ولأن العشر مؤونة الأرض
كالخراج ، والخراج يجب بمطلق الخارج فكذا العشر ، والحديث الأول محمول على الزكاة ،
فإن الصدقة عند الإطلاق تنصرف إليها ، وكانوا يتعاملون بالأوساق ، وكان قيمة الوسق أربعين
درهما ، فيكون قيمة الخمسة مائتي درهم ، والمراد بالحديث الثاني صدقة تؤخذ : أي يأخذها
العاشر وهو مذهب أبي حنيفة ، بل يدفعها المالك إلى الفقراء ؛ وقولهما يشترط النصاب للغنى
قلنا لا اعتبار بالمالك حتى يجب في أرض الوقف والصبي والمجنون فكيف يعتبر وصفه ؛
وكذا لا يعتبر الحول لأنه لتحقق النماء وكله نماء .(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
قال : ( إلا القصب الفارسي والحطب والحشيش ) لأنها تنقى من الأرض ، حتى لو اتخذ
أرضه مقصبة أو مشجرة للحطب ففيه العشر ، والقنب كالحشيش . قال : ( وما سقي
بالدولاب والدالية فنصف العشر ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ما سقته السماء ففيه العشر ،
وما سقي بغرب أو دالية ففيه نصف العشر ' ولأن المؤونة تكثر ، وله أثر في التخفيف
كالسائمة والعلوفة ، وإن سقي سيحا وبدالية يعتبر أكثر السنة ، فإن استويا يجب نصف العشر
نظرا للمالك كالسائمة . قال : ( ولا شيء في التبن والسعف ) لأنهما لا يقصدان ، وكذلك بذر
البطيخ والقثاء ونحوهما ، لأن المقصود الثمرة دون البذر .
قال : ( ولا تحسب مؤونته والخرج عليه ) لأنه عليه الصلاة والسلام أوجب فيه العشر
فيتناول عشر الجميع ، ولأنه عليه الصلاة والسلام خفف الواجب مرة باعتبار المؤونة من
العشر إلى نصفه فلا يخفف ثانيا . وقال أبو يوسف فيما لا يوسق كالزعفران والقطن يجب فيه
العشر إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق كالذرة والدخن ، لأنه لا
نص فيهما ، ولا سبيل إلى نصب النصاب بالرأي ، فيعتبر قيمة المنصوص عليه كما في
عروض التجارة ، واعتبرنا بالأدنى نظرا للفقراء . وقال محمد : إذا بلغ الخارج خمسة أمثال
أعلى ما يقدر به نوعه وجب العشر ، ففي القطن خمسة أحمال ، كل حمل ثلاثمائة منّ ،
ويروى ثلاثمائة وعشرون منّا ، وفي الزعفران والسكر خمسة أمنان ، كما اعتبر في المنصوص
أعلى ما يقدر به وهو الوسق ، فكان معنى جامعا فصح القياس . ووقت الوجوب عند أبي
حنيفة عند ظهور الثمرة ، وعند أبي يوسف عند الإدراك ، وعند محمد إذا حصل في
الحظيرة ؛ وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا استهلكه بعد الوجوب يضمن العشر وقبله لا ،
وعندهما في هذا وفي تكميل النصاب .
قال : ( وفي العسل العشر قل أو كثر إذا أخذ من أرض العشر ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى
أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر . وعن أبي يوسف : العشر في العسل مجمع عليه
ليس فيه اختلاف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال أبو يوسف : إذا بلغ عشرة أرطال ففيه رطل .(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
وفي رواية كتاب الزكاة : خمسة أوسق . وفسره القدوري بقيمة خمسة أوسق لأنه لا يكال ،
فاعتبر القيمة على أصله ؛ وعنه أيضا عشر قرب ، كذا أخذ ( صلى الله عليه وسلم ) من بني سيارة . وقال محمد :
خمس قرب ؛ وفي رواية : خمسة أفراق ، لأنه أعلى ما يقدر به نوعه كما مر من أصله ؛
والفرق ستة وثلاثون رطلا ، ولا شيء فيما يؤخذ من أرض الخراج لئلا يجتمع العشر
والخراج في أرض واحدة . قال : ( والأرض العشرية إذا اشتراها ذمي صارت خراجية ) عند أبي
حنيفة وزفر ، وعند أبي يوسف والحسن : عليه عشران . وقال محمد : عشر واحد لأنه وظيفة
الأرض فلا تتغير بتغير المالك كالخراج .
ثم في رواية ابن سماعة : يوضع موضع الخراج . وفي رواية كتاب السير : موضع
الصدقات . ولأبي يوسف أن ما يجب أخذه من المسلم يضاعف على الذمي كما إذا مر على
العاشر ، ويوضع موضع الخراج كالتغلبي . ولأبي حنيفة أن الأراضي النامية لا تخلو من العشر
أو الخراج ، والذمي ليس أهلا للعشر لأنه عبادة . قال تعالى : ) وآتوا حقه يوم حصاده (
[ الأنعام : 141 ] والخراج أليق به فيوضع عيه ؛ وإن اشتراها تغلبي فعليه عشران بالإجماع ،
لأنهم صولحوا على أن يضاعف عليهم جميع ما على المسلمين ، فإنهم قوم من النصارى
كانوا قريبا من بلاد الروم ، فأراد عمر أن يضع عليهم الجزية ، فأبوا وقالوا : إن وضعت علينا
الجزية لحقنا بأعدائك من الروم ، وإن أخذت منا ما يأخذ بعضكم من بعض وتضعه علينا
فافعل ، فشاور عمر الصحابة فأجمعوا على ذلك ، وقال عمر : هذه جزية فسموها ما شئتم .
قال : ( والخراجية لا تصير عشرية أصلا ) لأنها وظيفة الأرض ، والكل أهل للخراج
المسلم والذمي فلا حاجة إلى التغيير . قال : ( ولا شيء فيما يستخرج من البحر كاللؤلؤ
والعنبر والمرجان ) لأنه لم يكن في يد الكفار ليكون غنيمة ، ولهذا لو استخرج منه الذهب
والفضة لا شيء فيهما . وقال أبو يوسف : فيه الخمس ، لأن عمر كان يأخذ الخمس من
العنبر . واللؤلؤ أشرف ما يوجد في البحر ، فيعتبر بأشرف ما يوجد في البر وهو الذهب
والفضة . ثم قيل اللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا . وقيل الصدف حيوان يخلف
فيه اللؤلؤ . وأما العنبر ، قال محمد : هو حشيش البحر يأكله السمك ؛ وقيل شجرة تنكسر
فيلقيها الموج في الساحل ؛ وقيل خثى دابة في البحر وليس في الأشجار ، والأخثاء شيء .
وسئل ابن عباس عن العنبر ؟ فقال : هو شيء دسره البحر ولا خمس فيه . قال : ( ولا فيما
يوجد في الجبال كالجص والنورة والياقوت والفيروزج والزمرد ) لأنه من الأرض كالتراب
والأحجار ، والفصوص : أحجار مضيئة .(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
باب العاشر
( وهو من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار مما يمرون عليه ) عند
استجماع شرائط الوجوب ، وتأمن التجار بمقامه من شر اللصوص ( فيأخذ من المسلم ربع
العشر ، ومن الذمي نصف العشر ، ومن الحربي العشر ) فإن علمنا أنهم يأخذون منا أقل أو
أكثر أخذنا منهم مثله . والأصل فيه ما روي أن عمر لما نصب العشار قال لهم : خذوا مما
يمر به المسلم ربع العشر ، ومما يمر به الذمي نصف العشر . قالوا : فمن الحربي ؟ قال : مثل
ما يأخذون منا ، فإن أعياكم فالعشر ، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير وإن لم يأخذوا
منا لم نأخذ منهم لأنا أحق بالمسامحة ومكارم الأخلاق ، وإن أخذوا الكل أخذنا إلا قدر ما
يوصله إلى مأمنه ؛ وقيل لا يؤخذ لأنه غدر ، وإن أخذوا من القليل أخذنا منهم كذلك . وعلى
رواية كتاب الزكاة لا يؤخذ ، لأن القليل عفو ولا يحتاج إلى حماية .
قال : ( فمن أنكر تمام الحول أو الفراغ من الدين ، أو قال : أديت إلى عاشر آخر أو
إلى الفقراء في المصر وحلف صدق ) معناه إذا كان عاشر آخر ، أما إذا لم يكن لا يصدق
لظهور كذبه ، وكذا في السوائم إلا في دفعه إلى الفقراء ، لأنها عبادة خالصة لله تعالى وهو
أمين ، والقول قول الأمين مع اليمين . وعن أبي يوسف لا يحلف كما إذا قال : صمت أو
صليت . قلنا : الساعي هنا يكذبه ولا مكذب ثم ، وكذا إذا قال هذا المال ليس لي أو ليس
للتجارة وحلف صدق . ويشترط إخراج البراءة في رواية الحسن لأنها علامة لصدق دعواه ،
قلنا الخط يشبه الخط فلم يكن علامة ، وإنما اختلف حكم السائمة في الأداء إلى الفقراء ،
لأن ولاة الأخذ إلى الإمام فليس له أن يخرجها بنفسه ، وسائر الأموال يخرجها بنفسه
( والمسلم والذمي سواء ) لأن الذمي من أهل دارنا ، وهو كالمسلم في المعاملات
وأحكامها . قال : ( والحربي لا يصدق إلا في أمهات الأولاد ) لأنه يؤخذ منه للحماية ،
وجميع ما معه يحتاج إليها ، ولأن الحول ليس بشرط في حقه حتى لا نمكنه من المقام في
دارنا سنة ؛ وأما الدين فلا مطالب له في دارنا ، وقوله : ليس للتجارة يكذبه الظاهر ، لأن
الظاهر إنما دخل دارنا بالمال للتجارة ، وإنما يصدق في أمهات الأولاد والغلام يقول هو
ولدي ، لأنه إن كان صادقا ، وإلا فقد ثبت للأمة حق الحرية وللولد حقيقتها ، فتنعدم المالية
في حقهما ، ولو عشر الحربي ثم مر عليه مرة أخرى لم يعشره قبل الحول تحرزا عن(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
الاستئصال إلا أن يرجع إلى دار الحرب ثم يخرج ولو خرج من يومه لأنه أمان جديد ،
وكذا إذا حال الحول لتجدد الأمان لما مر .
قال : ( ويعشر قيمة الخمر دون الخنزير ) وقال زفر : يعشرهما لاستوائهما في المالية
عندهم . وقال أبو يوسف : كذلك إن مر بهما جملة كأنه جعل الخنزير تبعا للخمر ، وإن
انفردا عشر الخمر دون الخنزير . وجه الظاهر وهو الفرق أن الأخذ بسبب الحماية ، والمسلم
له أن يحمي خمره للتخليل فيحمي خمر غيره ولا كذلك الخنزير ، ولأن الخنزير من ذوات
القيم وحكم قيمته حكمه ، والخمر مثلى فلا يكون حكم القيمة حكمها . وقال عمر رضي الله
عنه : ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها ؛ ولم يرد مثله في الخنزير ، والله أعلم .
باب المعدن
( مسلم أو ذمي وجد معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو نحاس في أرض عشر
أو خراج فخمسه فيء والباقي له ) قال عليه الصلاة والسلام : ' وفي الركاز الخمس ' والركاز
يتناول الكنز والمعدن ، لأن الركاز عبارة عما يغيب في الأرض وأخفي فيها ، وأنه موجود في
الكنز والمعدن ، ولأنها كانت في أيدي الكفار وقد غلبنا عليها فتكون غنيمة وفيها الخمس
والواجد كالغانم فله أربعة الأخماس لعدم المزاحم . قال : ( وإن وجده في داره فلا شيء فيه )
لأنه ملكها بجميع أجزائها ، والمعدن من أجزائها ( وكذلك لو وجده في أرضه ) وذكر في
الجامع الصغير : يجب في الأرض دون الدار . والفرق أن الدار ملكها بلا مؤونة أصلا
والأرض يجب فيها العشر والخراج فلم تخل عن المؤن فيجب في المعدن أيضا . وقال أبو
يوسف ومحمد : يجب في الدار والأرض لإطلاق الحديث ، وجوابه ما قلنا وهو محمول
على غير ملكه .
قال : ( وإن وجده حربي في دار الإسلام فهو فيء ) لأنه ليس من أهل الغنائم . قال :(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
( ومن وجد كنزا فيه علامة المسلمين ) بأن كان فيه مصحف أو كان عليه مكتوبا كلمة الشهادة
أو اسم ملك من ملوك الإسلام ( فهو لقطة ) لعلمنا أنه من وضع المسلمين فلا يكون غنيمة
( وإن كان فيه علامة الشرك ) كالصليب والصنم ونحوهما ( فهو من مال المشركين فيكون غنيمة
ففيه الخمس والباقي للواجد ) وما لا علاقة فيه قيل هو لقطة لتقادم العهد ، فالظاهر أنه لم يبق
شيء مما دفنه الكفار ، وقيل حكمه حكم أموال الجاهلية ، لأن الكنوز غالبا من الكفرة ، وهذا
كله إذا وجده في فلاة غير مملوك ( وإن وجد في دار رجل مالا مدفونا من أموال الجاهلية
فهو لمن كانت الدار له ، وهو المختط الذي خطها الإمام له عند الفتح ) وقال أبو يوسف : هو
للواجد ، وفيه الخمس قياسا على الموجود في المفازة لأنه هو الذي أظهره وحازه ولم يملكه
الإمام ، لأنه لو ملكه الكنز مع الأرض لم يكن عدلا . ولهما أن المختط له ملك الأرض
بالحيازة ، فيملك ظاهرها وباطنها ، والمشتري ملكها بالعقد ، فيملك الظاهر دون الباطن ،
فبقي الكنز على صاحب الخطة ؛ وأما قوله : لو ملكه لم يكن عدلا . قلنا : هو مأمور
بالعدل بحسب الطاقة ، وما وراء ذلك غير داخل في وسعه ، وإن لم يوجد المختط فلورثته
ورثة ورثته هكذا ( فإن لم يعرف المختط فلأقصى مالك يعرف لها ) .
باب مصارف الزكاة
وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ) إنما الصدقات للفقراء والمساكين (
[ التوبة : 60 ] الآية ، إلا المؤلفة قلوبهم ، فإن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم ، ومنعهم
عمر رضي الله عنه في زمن أبي بكر رضي الله عنه وقال : لا نعطى الدنية في ديننا ، ذلك
شيء كان يعطيكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تألفا لكم ، أما اليوم فقد أعز الله الدين ، فإن ثبتم على
الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، ووافقه على ذلك أبو بكر والصحابة فكان إجماعا .
قال : ( وهم الفقير وهو الذي له أدنى شيء ، والمسكين الذي لا شيء له ) وروى أبو(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
يوسف عن أبي حنيفة : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل . وروى الحسن عن
أبي حنيفة عكس ذلك ، لأن الفقير بالمسألة يظهر افتقاره وحاجته ، والمسكين به زمانة لا
يسأل ، فالحاصل أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وفائدة الخلاف تظهر في الأوقاف عليهم
والوصايا لهم دون الزكاة . قال : ( والعامل على الصدقة يعطى بقدر عمله ) ما يسعه وأعوانه زاد
على الثمن أو نقص ، لأنه فرغ نفسه للعمل للفقراء ، فيكون كفايته في مالهم كالمقاتلة
والقاضي ، وليس ذلك بالإجارة لأنه عمل غير معلوم ، ويحل للغني دون الهاشمي لما فيها
من شبهة الوسخ ، والهاشمي أولى بالكرامة والتنزه عن الوسخ فلا يقاس عليه الغني ، ولو
هلكت الزكاة في يد العامل سقط أجره لأن حقه فيما أخذ وأجزأت من أخذ منه لأنه نائب
عن الإمام والفقراء .
قال : ( ومنقطع الغزاة والحاج ) وهم المراد بقوله : ) وفي سبيل الله ( [ التوبة : 60 ]
وقال أبو يوسف : هم فقراء الغزاة لا غير ، لأنه المفهوم عند إطلاق هذا اللفظ . ولمحمد :
أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحمل عليه الحاج ، ولأنه
في سبيل الله تعالى لما فيه من امتثال أوامره وطاعته ومجاهدة النفس التي هي عدو لله
تعالى .
قال : ( والمكاتب يعان في فك رقبته ) وهو بقوله : ) وفي الرقاب ( [ التوبة : 60 ]
هكذا ذكره المفسرون ، قالوا : لا يجوز دفعها إلى مكاتب هاشمي ، لأن الملك يقع
للمولى . وذكر أبو الليث : لا يدفع إلى مكاتب غني ، وإطلاق النص يقتضي الكل وهو
الصحيح . قال : ( والمديون الفقير ) وهو المراد بقوله تعالى : ) والغارمين ( [ التوبة : 60 ]
وإطلاق الآية يقتضي جواز الصرف إلى مطلق المديون إلا أنه قام الدليل ، وهو قوله عليه
الصلاة والسلام : ' لا تحل الصدقة لغني ' على أنه لا يجوز صرفها إلى من يملك نصابا
فاضلا عما عليه .
قال : ( والمنقطع عن ماله ) وهو ابن السبيل لأنه لا يتوصل إلى الانتفاع بماله فكان
كالفقير ، فهو فقير حيث حيث هو غني حيث ماله ، وإن كانت زوجته عنده فلها نفقة الفقراء ، وإن
كانت حيث ماله فلها نفقة الأغنياء . قال : ( وللمالك أن يعطي جميعهم ) ولا خلاف فيه ( وله
أن يقتصر على أحدهم ) لأن الزكاة حق الله تعالى وهو الآخذ لها . قال تعالى : ) ويأخذ(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
الصدقات ( [ التوبة : 104 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل
أن تقع في يد السائل ' الحديث ، وإضافته إليهم بحرف اللام لبيان أنهم مصارف لا لبيان
أنهم المستحقون لها ، وبعلة الفقر والحاجة صاروا مصارف ، والمقصود هو إغناء الفقير وسد
خلة المحتاج . قال عليه الصلاة والسلام : ' خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ' ولهذا
لا يجوز الصرف إلى الأغنياء من هذه الأصناف فعلم أن المراد دفع الحاجة ، وهو معنى يعم
الكل ، وذلك حاصل بالدفع إلى البعض ، بخلاف العامل لأنه لا يأخذه صدقة بل عوضا عن
عمله .
قال : ( ولا يدفعها إلى ذمي ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أمرت أن آخذها من أغنيائكم
وأردها على فقرائكم ' ويدفع إليه غيرها من الصدقات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر .
وقال أبو يوسف : لا يجوز كالزكاة . ولنا أن المذكور مطلق الفقراء إلا أنه خص في الزكاة
بالحديث فبقي ما رواءه على الأصل ، ولا يجوز دفع شيء من ذلك إلى الحربي ، لقوله
تعالى : ) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم ( [ الممتحنة : 9 ] الآية ، ولا يجوز دفع شيء من
العشر إلى الذمي أيضا كالزكاة وعليه الإجماع . قال : ( ولا إلى غني ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا تحل الصدقة لغني ' . قال : ( ولا إلى ولد غني صغير ) لأنه يعد غنيا بغنى أبيه
عرفا حتى لا تجب نفقته إلا على الأب ، بخلاف الكبير فإنه لا يعد غنيا بغنى أبيه حتى تجب
نفقته على ابنه لا على أبيه . قال : ( ولا مملوك غني ) لأن الملك يقع لمولاه .
قال : ( ولا إلى من بينهما قرابة ولاد أعلى أو أسفل ) كالأب والجد والأم والجدة من
الجانبين ، والولد وولد الولد وإن سفل ، وهذا بالإجماع ، لأن الجزئية ثابتة بينهما من
الجانبين حتى لا تجوز شهادة أحدهما للآخر ، ولا يقع بسرقة ماله ، فلا يتم الإيتاء
المشروط في الزكاة إلا بانقطاع منفعة المؤتي عما أتى والمنافع بينهم متصلة ( ولا إلى
زوجته ) لأن المنافع بينهم متصلة ، ويعد غنيا بمال زوجته . قال تعالى : ) ووجدك عائلا
فأغنى ( [ الضحى : 8 ] قالوا : بمال خديجة رضي الله عنها ؛ وكذلك الزوجة لا تدفع إلى(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
زوجها لأنها تعد غنية باعتبار ما لها عليه من النفقة والكسوة ، ولأنهما أصل الولاد ، وما
يتفرع من هذا الأصل يمنع صرف الزكاة فكذا الأصل ، ولهذا يرث كل واحد منهما من
الآخر من غير حجب كقرابة الولاد . وقال أبو يوسف ومحمد : تدفع إلى زوجها ، لقوله
عليه الصلاة والسلام لزينب امرأة ابن مسعود وقد سألته عن التصدق على زوجها ' لك
أجران : أجر الصدقة وأجر الصلة ' . قلنا : هو محمول على صدقة التطوع لما بينا من
اتصال المنافع بينهما وذلك جائز عنده .
قال : ( ولا إلى مكاتبه ) لأنه ملكه من وجه فلم يتحقق الإيتاء المشروط . قال : ( ولا إلى
هاشمي ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا بني هاشم إن الله حرم عليكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس
الخمس ' وهم : آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل الحارث بن
عبد المطلب ، لأنهم ينتسبون إلى هاشم بن عبد مناف ، ولأن هؤلاء هم المستحقون لخمس
الخمس ، وهو سهم ذوي القربى دون غيرهم من الأقارب ، فالله تعالى حرم الصدقة على
فقرائهم وعوضهم بخمس الخمس ، فيختص تحريم الصدقة بهم ، ويبقى من سواهم من
الأقارب كالأجانب فتحل لهم الصدقة ، وكذلك الحكم فيما سوى الزكاة من الصدقات(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
الواجبات كصدقة الفطر والكفارات والعشور والنذور وغير ذلك ، لأنها في معنى الزكاة ، فإنه
يطهر نفسه بأداء الواجب وإسقاط الفرض ، فيتدنس المؤدي كالماء المستعمل ، بخلاف صدقة
التطوع حيث تحل للهاشمي لأنها لا تدنس كالوضوء للتبرد .
قال : ( ولا إلى مولى هاشمي ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمولاه أبي رافع وقد سأله عن ذلك : ' إن
الصدقة محرمة على محمد وعلى آل محمد ، وإن مولى القوم منهم ' . وذكر بعض
أصحابنا : يجوز للهاشمي أن يدفع زكاة ماله إلى الهاشمي عند أبي حنيفة ، خلافا لأبي
يوسف ؛ ووجهه أن المراد بقوله أوساخ الناس غيرهم هو المفهوم من مثله ، فيقتضي حرمة
زكاة غيرهم عليهم لا غير . وذكر في المنتقى عن أبي عصمة عن أبي حنيفة أن الصدقة تحل
لبني هاشم ، وفقيرهم فيها كفقير غيرهم ، ووجهه أن عوضها وهو خمس الخمس لم يصل
إليهم لإهمال الناس أمر الغنائم وقسمتها وإيصالها إلى مستحقها ، وإذا لم يصل إليهم العوض
عادوا إلى المعوض عملا بمطلق الآية سالما عن معارضة أخذ العوض ، وكما في سائر
المعاوضات ، ولأنه إذا لم يصل إليهم واحد منهما هلكوا جوعا ؛ فيجوز لهم ذلك دفعا
للضرر عنهم .
واعلم أن التمليك شرط . قال تعالى : ) وآتوا الزكاة ( [ البقرة : 43 ] والإيتاء : الإعطاء ؛
والإعطاء : التمليك ، فلا بد فيها من قبض الفقير أو نائبه كالوصي والأب ومن يكون الصغير
في عياله قريبا كان أو أجنبيا ، وكذلك الملتقط للقيط ، لأن التمليك لا يتم بدون القبض ولا
يبني بها مسجد ولا سقاية ولا قنطرة ولا رباط ، ولا يكفن بها ميت ، ولا يقضي بها دين
ميت ، ولا يشتري بها رقبة تعتق لعدم التمليك ؛ ولو قضى بها دين فقير جاز ، ويكون القابض
كالوكيل عن الفقير .
قال : ( وإن أعطى فقيرا واحدا نصابا أو أكثر جاز ويكره ) وقال زفر : لا يجوز لمقارنة
الأداء الغني فيمنع وقوعه زكاة . ولنا أن الغني يتعقب الأداء لحصوله بالقبض والقبض بعد
الأداء ، إلا أنه قريب منه فيكره كمن صلى قريبا من النجاسة . ومن المشايخ من قال : إن كان
عليه دين لو قضاه بقي معه أقل من نصاب ، أو كان له عيال لو فرق عليهم أصاب كل واحد
دون النصاب لا يكره لأنه أعطاه سهما من ذلك . قال : ( ويجوز دفعها إلى من يملك دون
النصاب وإن كان صحيحا مكتسبا ) لأنه فقير .
واعلم أن الغني على مراتب ثلاثة : غني يحرم عليه السؤال ويحل له أخذ الزكاة ، وهو
أن يملك قوت يومه وستر عورته ؛ وكذلك الحكم فيمن كان صحيحا مكتسبا ، لقوله عليه(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
الصلاة والسلام : ' من سأل عن ظهر غنى فإنه يستكثر من جمر جهنم ' ، قيل يا رسول الله وما
ظهر غنى ؟ قال : ' أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم ' وغني يحرم عليه السؤال
والأخذ ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية ، وهو أن يملك ما قيمته نصاب فاضلا عن
الحوائج الأصلية من غير أموال الزكاة كالثياب والأثاث والعقار والبغال والحمير ونحوه . قال
عليه الصلاة والسلام : ' لا تحل الصدقة لغني ' ، قيل : ومن الغني ؟ قال : ' من له مائتا
درهم ' وغني يحرم عليه السؤال والأخذ ، ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية ، ويوجب
عليه أداء الزكاة ، وهو ملك نصاب كامل نام على ما بيناه .
قال : ( ولو دفعها إلى من ظنه فقيرا فكان غنيا أو هاشميا ) أو حربيا أو ذميا ( أو دفعها
في ظلمة فظهر أنه أبوه أو ابنه أجزأه ) وقال أبو يوسف : لا يجزيه لأنه تبين خطؤه بيقين ،
فصار كالماء إذا ظهر أنه نجس بعد استعماله . ولنا أنه أتى بما وجب عليه ، لأن الواجب عليه
الدفع إلى من هو فقير في اجتهاده لأنه لا يمكن الوقوف على الحقيقة ، فقد يكون في يد
الإنسان مال لغيره أو مغصوب أو عليه دين ، فإذا أعطاه بعد الاجتهاد أجزأه كما إذا أخطأ
القبلة بعد الاجتهاد ، ولحديث معاذ بن يزيد قال : دفع أبي صدقته إلى رجل ليفرقها على
المساكين فأعطاني ، فلما علم أبي أراد أخذه مني فلم أعطه ، فاختصمنا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال :
' يا معن لك ما أخذت ويا يزيد لك ما نويت ' . قال : ( وإن كان عبده أو مكاتبه لم يجزه )
لأنه لم يخرج عن ملكه خروجا صحيحا ، وهذا بالإجماع . قال : ( ويكره نقلها إلى بلد آخر )
لما تقدم من حديث معاذ ، ولأن لفقراء بلده حكم القرب والجوار ، وقد اطلعوا على أموالهم
وتعلقت بهم أطماعهم ، فكان الصرف إليهم أولى . قال : ( إلا إلى قرابته ) لما فيه من صلة
الرحم مع سقوط الفرض ( أو من هو أحوج من أهل بلده ) لحديث معاذ ، فإنه كان ينقل
الصدقة من اليمن إلى المدينة ، لأن فقراء المدينة أحوج وأشرف ، ولو نقل إلى غيرهم جاز
لإطلاق النصوص .
باب صدقة الفطر
( وهي واجبة على الحر المسلم المالك لمقدار النصاب فاضلا عن حوائجه الأصلية ) كما
بيناه ، وشرط الحرية لأن العبد غير مخاطب بها لعدم ملكه ، والإسلام لأنها عبادة . وقال عليه(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
الصلاة والسلام فيها : ' إنها طهره للصائم من الرفث ' وإنه مختص بالمسلم والغني لقوله
عليه الصلاة والسلام : ' لا صدقة إلا عن ظهر غنى ' وفي رواية ' إنما الصدقة عن ظهر
غنى ' والأصل في وجوبها ما روي عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أنه قال : ' أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا
من شعير ' . وعن عمر رضي الله عنه قال : ' فرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر على الذكر
والأنثى والحر والعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير ' . وقال عليه الصلاة والسلام :
' أدوا صدقة الفطر عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني ' .
قال : ( عن نفسه وأولاده الصغار وعبيده للخدمة ومدبره وأم ولده وإن كانوا كفارا لا
غير ) والأصل في ذلك أن سبب وجوبها رأس يمونه ويلي عليه ، لأنه يصير بمنزلة رأسه في
الذب والنصرة . قال عليه الصلاة والسلام : ' أدوا عمن تمونون ' فيلزمه عن أولاده الصغار
ومماليكه المسلمين والكفار والمدبر وأم الولد بمنزلة العبد ، ولا تجب عن أبويه وأولاده
الكبار وزوجته ومكاتبه لعدم الولاية ، ولو كان أبوه مجنونا فقيرا يجب عليه صدقة فطره
لوجود المؤونة والولاية ، ولا تجب عن حفدته مع وجود أبيهم ، فإن عدم فعليه صدقتهم
وقيل لا يجب أصلا . وعن أبي يوسف : لو أخرج عن زوجته وأولاده الكبار وهم في عياله
بغير أمرهم أجزأهم ، لأنه مأذون فيه عادة .
قال : ( وهي نصف صاع من بر أو دقيقه ، أو صاع من شعير أو دقيقه ، أو تمر أو
زبيب ) أما البر والشعير والتمر فلما روينا ، وأما الدقيق فلأنه مثل الحب بل أجود ، وكذا
سويقهما ؛ وأما الزبيب فقد روي في حديث أبي سعيد الخدري ' أو صاعا من زبيب ' .
وعن أبي حنيفة في الزبيب نصف صاع ، لأنه لا يؤكل بعجمه فأشبه الحنطة . قال : ( أو
قيمة ذلك ) وقد مر في الزكاة . قال أبو يوسف : الدقيق أحب إليّ من الحنطة ، والدراهم
أحب إليّ من الدقيق لأنه أيسر على الغني وأنفع للفقير ، والأحوط الحنطة ليخرج عن(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
الخلاف ؛ ولا يجوز الخبز والأقط إلا باعتبار القيمة لعدم ورود النص بهما . قال : ( والصاع
ثمانية أرطال بالعراقي ) وقال أبو يوسف : خمسة أرطال وثلث رطل وهو صاع أهل المدينة ،
نقلوا ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلفا عن سلف . وقال عليه الصلاة والسلام : ' صاعنا أصغر
الصيعان ' . ولنا ما روى الدارقطني في سننه عن أنس قال : ' كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتوضأ
بالمد ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال ' وعمر رضي الله عنه قدر الصاع لإخراج الكفارة بثمانية
أرطال بحضرة الصحابة ، وأنه أصغر من الهاشمي .
قال : ( وتجب بطلوع الفجر من يوم الفطر ) لأنه يقال صدقة الفطر ، والفطر إنما يتجدد
باليوم دون الليل ( فإن قدمها جاز ) لأنه أداها بعد السبب وهو رأس يمونه ويلي عليه . وقال
الحسن : لا يجوز . وروى نوح بن أبي مريم أنه يجوز إذا مضى نصف رمضان . وعن
خلف بن أيوب : يجوز في رمضان ولا يجوز قبله ( وإن أخرها فعليه إخراجها ) لأنها قربة
مالية معقولة المعنى فلا تسقط بالتأخير كالزكاة بخلاف الأضحية ، فإن الإراقة غير معقولة
المعنى ( وإن كان للصغير مال أدى عنه وليه وعن عبده ) لأنها مؤونة كالجناية ونفقة الزوجة .
وقال محمد : لا تجب في ماله كالزكاة ، والمجنون كالصبي ( ويستحب إخراجها يوم الفطر
قبل الخروج إلى المصلى ) وقد بيناه في العيدين ، والله أعلم .(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
كتاب الصوم
الصوم في اللغة : مطلق الإمساك ، يقال : صامت الشمس : إذا وقفت في كبد السماء
وأمسكت عن السير ساعة الزوال . وقال النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة
أي ممسكات عن العلف وغير ممسكات . وفي الشرع : عبارة عن إمساك مخصوص ،
وهو الإمساك عن المفطرات الثلاث بصفة مخصوصة ، وهو قصد التقرب من شخص
مخصوص وهو المسلم بصفة مخصوصة وهي الطهارة عن الحيض والنفاس في زمان
مخصوص ، وهو بياض النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، وهو فريضة
محكمة يكفر جاحدها ويفسق تاركها . ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى : ) فمن شهد
منكم الشهر فليصمه ( [ البقرة : 185 ] وقوله تعالى : ) كتب عليكم الصيام ( [ البقرة : 183 ] .
وبالسنة وهو ما مر من الحديث في كتاب الصلاة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' صوموا(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
شهركم ' وعليه إجماع الأمة ، وسبب وجوبه الشهر لإضافته إليه يقال صوم رمضان ،
ولتكرره بتكرار الشهر وكل يوم سبب وجوب صومه .
قال : ( صوم رمضان فريضة على كل مسلم عاقل بالغ أداء وقضاء ) أما الفرضية فلما
ذكرنا . وأما الإسلام فلأن الكافر ليس أهلا للعبادة . والعقل والبلوغ لأن الصبي والمجنون
غير مخاطبين . وأما أداء فلقوله تعالى : ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( [ البقرة : 158 ] .
وأما قضاء فلقوله تعالى : ) فعدة من أيام أخر ( [ البقرة : 184 ] أي فليصم عدة من أيام أخر .
قال : ( وصوم النذر والكفارات واجب ) أما النذر فلقوله تعالى : ) وليوفوا نذورهم ( [ الحج :
29 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : ' ف بنذرك ' وأما الكفارات فلما يأتي فيها إن شاء الله
تعالى . قال : ( وما سواه نفل ) لأن النفل في اللغة مطلق الزيادة ؛ وفي الشرع : الزيادة على
الفرائض والواجبات . قال : ( وصوم العيدين وأيام التشريق حرام ) لرواية عقبة بن عامر قال :
' نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن صوم يوم النحر وأيام التشريق ' وقال عليه الصلاة والسلام في أيام
منى : ' إنها أيام أكل وشرب وبعال ' ويوم الفطر مأمور بإفطاره ، وفي صومه مخالفة الأمر
ومخالفة الاسم ، وعلى ذلك الإجماع . قال : ( وصوم رمضان والنذر المعين يجوز بنية من
الليل وإلى نصف النهار وبمطلق النية وبنية النفل ) .
اعلم أن النية شرط في الصوم ، وهو أن يعلم بقلبه أنه يصوم ، ولا يخلو مسلم عن هذا
في ليالي شهر رمضان ، وليست النية باللسان شرطا ، ولا خلاف في أول وقتها ، وهو غروب
الشمس . واختلفوا في آخره على ما نبينه إن شاء الله تعالى . وقال زفر : النية في صوم
رمضان ليست بشرط للصحيح المقيم ، لأن الزمان متعين لعدم الفرض في حقه حتى لا يجوز
غيره ، فمتى حصل فيه إمساك وقع عن فرض رمضان لصوم مزاحمة غيره ، فصار كإعطاء
النصاب جميعه للفقير بعد الحول . ولنا أنه عبادة فلا يجوز إلا بالنية كسائر العبادات ، ولقوله
عليه الصلاة والسلام : ' الأعمال بالنيات ' ولما مر في الصلاة ، ولأن الإمساك قد يكون(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
للعادة أو لعدم الاشتهاء أو للمرض أو للرياضة ويكون للعبادة فلا يتعين لها إلا بالنية كالقيام
إلى الصلاة وأداء الخمس إلى الفقير ، بخلاف تعيين النية فإنه لا يشترط ، لأن الصوم
المشروع فيه لا يتنوع .
وقوله : الزمان متعين لصوم الفرض . قلنا نعم ، لكن إذا حصل الصوم فلم قلتم إنه
حصل غاية الأمر أنه حصل الإمساك وقد خرج جوابه . وأما هبة النصاب قلنا وجد منه معنى
النية ، وهو القربة لحصول الثواب به ، ولهذا لا يجوز الرجوع في الموهوب للفقير لحصول
الثواب به ، أما هنا حصل مطلق الإمساك ولا ثواب فيه ، ولهذا لا يكون صوما خارج
رمضان . وروى القدوري عن الكرخي أنه أنكر هذا القول عن زفر وقال : إنما مذهبه أنه
يكفيه نية واحدة كقول مالك ، ووجهه أنه صوم الشهر عبادة واحدة ، لأن السبب واحد وهو
شهود جزء من الشهر فصار كركعات الصلاة . وجوابه أن النية شرط لكل يوم ، لأن صوم كل
يوم عبادة على حدة ، ألا ترى أنه لو فسد صوم يوم لا يمنع صحة الباقي ، وكذا عدم الأهلية
في بعضه لا يمنع تقرر الأهلية في الباقي فتجب النية لكل عبادة ، ولأنه يخرج عن صوم اليوم
بمجيء الليلة . قال عليه الصلاة والسلام : ' إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا
وغابت الشمس فقد أفطر الصائم ' وإذا خرج يحتاج إلى الدخول في اليوم الثاني فيحتاج
إلى النية كأول الشهر . وأما جواز الصوم بالنية إلى نصف النهار لما روى ابن عباس أن الناس
أصبحوا يوم الشك ، فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' أتشهد
أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ' ؟ فقال : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' الله أكبر يكفي
المسلمين أحدهم ، فصام وأمر بالصيام ، وأمر مناديا فنادى : ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه ،
ومن لم يأكل فليصم ' . أمر بالصوم وأنه يقتضي القدرة على الصوم الشرعي ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم )
بعث لبيان الأحكام الشرعية وآمرا بها ، ولو شرطت النية من الليلة لما كان قادرا عليه ، فدل
على عدم اشتراطها ولأنه لو أراد الإمساك لما فرق بين الفريقين نفيا للالتباس .
وما يروى من الأحاديث في نفي الصوم إلا بالتبييت محمولة على نفي الفضيلة توفيقا
بينها وبين ما روينا ، ولأن النية ليست بشرط حالة الشروع حتى لو نوى من الليل جاز ، وإنما
جاز دفعا للحرج لأن أول وقته طلوع الفجر الثاني ، وهو مشتبه لا يعرفه أكثر الناس ولا
يقفون على أول طلوعه ، وهو أيضا وقت نوم وغفلة ؛ والمتهجد يستحب له نوم آخر الليل ،
وإنما جاز تقديم النية دفعا لهذا الحرج ، وأنه موجود ههنا ، لأن من الناس من يبلغ آخر الليل
وينقطع الحيض والنفاس عند آخر الليل وينام حتى يصبح ، وكذا يوم الشك لا يقدر على(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
التبييت ، فقلنا بالجواز بعد الفجر دفعا للحرج أيضا . بخلاف القضاء والكفارات والنذر
المطلق ، لأن الزمان غير متعين لها فوجب التبييت نفيا للمزاحمة ، ويعتبر نصف النهار من
طلوع الفجر الثاني ، فيكون إلى الضحوة الكبرى ، فينوي قبلها ليكون الأكثر منويا فيكون له
حكم الكل حتى لو نوى بعد ذلك لا يجوز لخلو الأكثر عن النية تغليبا للأكثر .
وأما جوازه بمطلق النية وبنية النفل ، لما روي عن علي وعائشة رضي الله عنهما أنهما
كانا يصومان يوم الشك ويقولان : لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من
رمضان ، وكان صومهما بنية النفل ، لأنه لا يجوز بنية الفرض ، فلولا وقوعه عن رمضان لو
ظهر اليوم من رمضان لما كان لاحترازهما فائدة ، ولأن الزمان متعين لصوم الفرض حتى لا
يقع فيه غيره بالإجماع ، فمتى حصل أصل النية كفى لوقوع الإمساك قربة ، فيقع عن رمضان
لعدم المزاحمة ، والأفضل الصوم بنية معينة مبيتة للخروج عن الخلاف .
قال : ( والنفل يجوز بنية من النهار ) لحديث عائشة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أصبح
دخل على نسائه وقال : ' هل عندكن شيء ؟ ' فإن قلن : لا ، قال : ' إني إذا لصائم ' . قال :
( ويجوز صوم رمضان بنية واجب آخر ) لما مر في مطلق النية ونية النفل . قال : ( وباقي الصوم
لا يجوز إلا بنية معينة من الليل ) لأن الوقت يصلح له ولغيره ، فيحتاج إلى التعيين والتبييت
قطعا للمزاحمة .
قال : ( والمريض والمسافر في رمضان إن نوى واجبا آخر وقع عنه ، وإلا وقع عن
رمضان ) وقالا : يقع عن رمضان فيهما ، لأن الرخصة لاحتمال تضرره وعجزه ، فإذا صام
انتفى فصار كالصحيح المقيم . وله أن الشارع رخص له ليصرفه إلى ما هو الأهم عنده
من الصوم أو الفطر ، فصار كشعبان في حق غيره ، فلما نوى واجبا آخر علمنا أنه الأهم عنده
فيقع عنه ، وقيل : الأصح عند أبي حنيفة أن المريض إذا نوى واجبا آخر يقع عن رمضان ،
لأن إباحة الفطر للعجز ، فإذا قدر فهو كالصحيح ، بخلاف المسافر ، والأول رواية الكرخي .
وعن أبي حنيفة في النفل روايتان ، فمن قال يقع عن رمضان فلأنه لم يصرفه في الأهم ، لأن
الخروج عن العهدة أهم من النفل ، بخلاف واجب آخر فإن كل واحد منهما خروج عن
العهدة . ومن قال يقع نفلا فلأنه كان مخيرا فله أن يصرفه إلى ما شاء .(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
قال : ( ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ) لقوله تعالى : ) وكلو
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( [ البقرة : 187 ] . قال
أبو عبيد : الخيط الأبيض : الصبح الصادق ، أباح الأكل والشرب إلى طلوع الفجر فيحرم
عنده . وأما آخره فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من
ههنا أفطر الصائم أكل أو لم يؤكل ' . قال : ( وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع
مع النية بشرط الطهارة عن الحيض والنفاس ) لما تقدم أن الصوم هو الإمساك لغة ، زدنا
عليه النية ليقع قربة على ما قدمناه ، والطهارة من الحيض والنفاس ليتحقق الأداء في حق
المرأة ، وتمامه ما مر في الحيض . والنية : أن يعلم بقلبه أنه يصوم وقد مر . قال : ( ويجب
أن يلتمس الناس الهلال في التاسع والعشرين من شعبان وقت الغروب ) وهو المأثور عنه
عليه الصلاة والسلام وعن السلف ( فإن رأوه صاموا ، وإن غمّ عليهم أكملوه ثلاثين يوما )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فعدوا شعبان
ثلاثين يوما ' ولأن الشهر كان ثابتا فلا يزول إلا بدليل وهو الرؤية أو إكمال العدة ،
وهكذا الحكم في كل شهر .
قال : ( وإن كان بالسماء علة غيم أو غبار أو نحوهما مما يمنع الرؤية قبل شهادة الواحد
العدل ، والحر والعبد والمرأة في ذلك سواء ) أما الواحد فلما تقدم من حديث الأعرابي ،
ولأنه أمر ديني فيقبل قول الواحد كرواية الأخبار ، والإخبار عن نجاسة الماء وطهارته ولا
يشترط فيه لفظ الشهادة . وأما العدالة فلأنه من أخبار الديانات ، فتشترط العدالة كسائر الأمور
الدينية ، وتقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، لأن الصحابة قبلوا شهادة أبي بكرة ، وفي
مستور الحال خلاف بين الأصحاب ؛ ويفترض على من رأى الهلال أن يؤدي الشهادة إذا لم
يثبت دونه حتى يجب على المخدرة وإن لم يأذن لها زوجها . فإن أكملوا ثلاثين ولم يروا
الهلال قال محمد : يفطرون بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد ، وإن كان الفطر لا
يثبت به ابتداء كالإرث بناء على ثبوت النسب بقول القابلة . وروى الحسن عن أبي حنيفة(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
أنهم لا يفطرون أخذا بالاحتياط . وقال محمد رحمه الله : لا أتهم مسلما بتعجيل صوم يوم
( فإن رد القاضي شهادته صام ) لأنه رآه ، فإن أفطر قضى لوجوب الأداء ولا كفارة عليه
لمكان الشبهة ، ولا يفطر آخر الشهر إلا مع الناس احتياطا ، ولو أفطر لا كفارة عليه عملا
باعتقاده .
قال : ( وإن لم يكن بالسماء علة لم تقبل إلا شهادة جمع يقع العلم بخبرهم ) وهو
مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير هو الصحيح ، وهذا لأن المطالع متحدة والموانع
مرتفعة والأبصار صحيحة والهمم في الرؤية متقاربة ، فلا يجوز أن يختص بالرؤية البعض
القليل . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يكتفي بشهادة الاثنين كما في سائر الحقوق ، ولو
جاء رجل من خارج المصر وشهد به تقبل ، وكذا إذا كان على مكان مرتفع من البلد كالمنارة
ونحوها ، لأن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الهواء وكدورته ، وباختلاف ارتفاع المكان
وهبوطه ، ولما تقدم من حديث الأعرابي .
قال : ( فإذا ثبت في بلد لزم جميع الناس ولا اعتبار باختلاف المطالع ) هكذا ذكره
قاضيخان . قال : وهو ظاهر الرواية ، ونقله عن شمس الأئمة السرخسي ؛ وقيل يختلف
باختلاف المطالع . وذكر في الفتاوى الحسامية : إذا صام أهل مصر ثلاثين يوما برؤية ،
وأهل مصر آخر تسعة وعشرين يوما برؤية فعليهم قضاء يوم ، إن كان بين المصرين قرب
بحيث تتحد المطالع ، وإن كانت بعيدة بحيث تختلف لا يلزم أحد المصرين حكم
الآخر . وذكر في المنتقى عن أبي يوسف : يجب عليهم قضاء يوم من غير تفصيل . وعن
ابن عباس في مثله : لهم مالهم ولنا مالنا . وعن عائشة رضي الله عنها : فطر كل بلدة
يوم يفطر جماعتهم وأضحى كل بلدة يوم يضحي جماعتهم . قال : ( ولا يصام يوم الشك
إلا تطوعا ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا
تطوعا ' وهو الذي يشك فيه أنه من رمضان أو شعبان ، وذلك بأن يتحدث الناس
بالرؤية ولا تثبت .
قال : ( ويلتمس هلال شوال في التاسع والعشرين من رمضان ، فمن رآه وحده لا يفطر )
أخذا بالاحتياط في العبادة ( فإن أفطر قضاه ولا كفارة عليه ) لما بينا ( فإن كان بالسماء علة قبل(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ) لأنها شهادة تعلق بها حق الآدمي فصارت كالشهادة على
حقوق الآدميين بخلاف رمضان ، لأنه أمر ديني لا يتعلق به حق الآدمي ، على أن مبنى الكل
على الاحتياط وهو فيما قلناه ( وإن لم يكن بها علة فجمع كثير ) لما بينا . وعن أبي حنيفة
شهادة رجلين كما في سائر الحقوق ( وذو الحجة كشوال ) لما يتعلق به من حقوق الآدمي من
الأضاحي وغيره ، وإذا رأى هلال رمضان أو شوال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة الآتية .
وقال أبو يوسف كذلك إن كان بعد الزوال ، وإن كان قبله فللماضية ، يروى ذلك عن عمر
وعائشة رضي الله عنهما ، والأول يروى عن علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعن عمر
أيضا ، ولأن الشهر ثابت بيقين ، وبعض الأهلة يكون أكبر من بعض ، فيجوز أنهم رأوه قبل
الزوال لكبره لا لكونه لليلة الماضية ، والثابت بيقين لا يزول بالشك . وقال الحسن بن زياد :
إن غاب بعد الشفق فلليلة الماضية وقبله للراهنة . واختلف العلماء في يوم الشك هل صومه
أفضل أم الفطر ؟ قالوا : إن كان صام شعبان أو وافق صوما كان يصومه فصومه أفضل ، وإن
لم يكن كذلك قال محمد بن سلمة : الفطر أفضل بناء على الحديث . وقال نصير بن يحيى :
الصوم أفضل لما روينا عن علي وعائشة . وعن أبي يوسف وهو المختار أن المفتي يصوم هو
وخاصته ، ويفتي العامة بالتلوم إلى ما قبل الزوال لاحتمال ثبوت الشهر ، وبعد ذلك لا
صوم وهو يمكنه الصوم على وجه يخرج من الكراهة ولا كذلك العامة .
فصل
( ومن جامع أو جومع في أحد السبيلين عامدا ، أو أكل أو شرب عامدا غذاء أو دواء
وهو صائم في رمضان عليه القضاء والكفارة مثل المظاهر ) ولا خلاف في وجوب القضاء
ووجوب الكفارة بالجماع للإجماع . ولقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي حين قال : واقعت
أهلي في نهار رمضان متعمدا : ' أعتق رقبة ' ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' من أفطر في(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
نهار رمضان فعليه ما على المظاهر ' ولا يشترط الإنزال لوجود الجماع دونه . وروى
الحسن عن أبي حنيفة عدم وجوب الكفارة في الإيلاج في الدبر اعتبارا بالحد ، والصحيح
الأول لقضاء الشهوة على الكمال . وأما المرأة فيجب عليها إذا كانت مطاوعة لعموم الحديث
الثاني . ولأن هذا الفعل يقوم بهما ، فيجب عليها ما يجب عليه كالغسل والحد ، وإن كانت
مكرهة لا كفارة عليها كما في النسيان لاستوائهما في الحكم بالحديث ، ولو أكرهت زوجها
فجامعها يجب عليهما ، وعن محمد : لا كفارة عليه للإكراه ، ولو علمت بطلوع الفجر دونه
وكتمته عنه حتى جامعها فالكفارة عليها خاصة .
وأما وجوبها بالأكل والشرب بالغذاء والدواء فللحديث المتقدم وهذا قد أفطر . وروى
أبو داود أن رجلا جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : شربت في رمضان ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من غير
سفر ولا مرض ' ؟ قال : نعم ، فقال له : ' أعتق رقبة ' وهذا نص في الباب . وعن علي
رضي الله عنه أنه قال : إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع ، فإن حاضت المرأة ، أو
مرض الرجل مرضا يبيح له الفطر سقطت الكفارة ، لأنه تبين أن صوم ذلك اليوم لم يكن
مستحقا عليه صومه ، والكفارة إنما تجب بإفساد صوم مستحق عليه ، بخلاف السفر لأن
الكفارة وجبت حقا لله تعالى فلا يقدر على إبطالها ، بخلاف الحيض والمرض لأنه ليس منه ،
ولو سوفر به مكرها لا يسقط أيضا . وقال زفر : يسقط كالمرض والحيض وجوابه أنه حصل
من غير صاحب الحق فلا يجعل عذرا ، بخلاف المرض والحيض .
قال : ( وإن جامع فيما دون السبيلين ، أو بهيمة ، أو قبّل أو لمس فأنزل ، أو احتقن ، أو
استعط ، أو أقطر في أذنه ، أو داوى جائفة أو آمة فوصل إلى جوفه أو دماغه ، أو ابتلع
الحديد ، أو استقاء ملء فيه ، أو تسحر يظنه ليلا والفجر طالع ، أو أفطر يظنه ليلا والشمس
طالعة ، فعليه القضاء لا غير ) أما الجماع فيما دون السبيلين أو البهيمة مع الإنزال والإنزال
باللمس والقبلة فلقضاء إحدى الشهوتين ، وأنه ينافي الصوم ولا تجب الكفارة لتمكن النقصان
في قضاء الشهوة ، والاحتياط في الصوم الإيجاب لكونه عبادة ، وفي الكفارات الدرء لأنها من(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
الحدود . وأما الاحتقان والاستعاط والإقطار في الأذن ، ودواء الجائفة والآمة ، فلوصول
المفطر إلى الداخل وهو ما فيه مصلحة البدن من الغذاء أو الدواء . قال عليه الصلاة
والسلام : ' الفطر مما دخل ' ولو أقطر الماء في أذنه لا يفطر لعدم الصورة ، والمعنى
بخلاف الدهن لوجوده معنى ، وهو إصلاح الدماغ . وقال أبو يوسف : ومحمد لا يفسد
الصوم في الجائفة والآمة ، لأن الشرط عندهما الوصول من منفذ أصلي ، ولعدم التيقن
بالوصول لاحتمال ضيق المنفذ وانسداده بالدواء وصار كاليابس ، وله أن رطوبة الدواء إذا
اجتمعت مع رطوبة الجراحة ازداد سيلانا إلى الباطن فيصل ، بخلاف اليابس لأنه ينشف
الرطوبة فينسد فم الجراحة .
قال مشايخنا : والمعتبر عنده الوصول حتى لو علم بوصول اليابس فسد ، ولو علم
بعدم وصول الرطب لا يفسد . وأما إذا ابتلع الحديد فلصورة الإفطار ، ولا كفارة لانعدامه
معنى . وأما إذا استقاء ملء فيه فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' من قاء فلا قضاء عليه ،
ومن استقاء فعليه القضاء ' روي ذلك عن عكرمة مرفوعا وموقوفا ، وعند محمد وزفر
يفسده وإن لم يملأ الفم ولم يفصل بينهما في ظاهر الرواية لإطلاق الحديث ، والصحيح
الفصل ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ، لأن ما دون ملء الفم تبع للريق كما لو
تجشأ ولا كذلك ملء الفم . وأما إذا تسحر يظنه ليلا والفجر طالع ، أو أفطر يظنه ليلا
والشمس طالعة فإنما يفطر لفوات الركن وهو الإمساك ولا كفارة لقيام العذر وهو عدم
التعمد ، والكفارة على الجاني ولو جومعت النائمة والمجنونة ، فسد صومهما لوجود
المفطر ، ولا كفارة لعدم التعمد ، ولو استمنى بكفه أفطر لوجود الجماع معنى ، ولا كفارة
لعدم الصورة .
قال : ( وإن أكل أو شرب أو جامع ناسيا ، أو نام فاحتلم ، أو نظر إلى امرأة فأنزل ، أو
ادهن أو اكتحل ، أو قبّل ، أو اغتاب ، أو غلبه القيء ، أو أقطر في إحليله ، أو دخل حلقه
غبار أو ذباب ، أو أصبح جنبا لم يفطر ) أما الأكل والشرب والجماع ناسيا ، فالقياس أن يفطر
لوجود المنافي ، وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام للذي أكل وشرب ناسيا وهو(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
صائم : ' تم على صومك إنما أطعمك ربك وسقاك ' وفي رواية ' أنت ضيف الله ' فإن
ظن أن ذلك يفطره فأكل متعمدا فعليه القضاء دون الكفارة ، لأنه ظن في موضع الظن ، وهو
القياس فكان شبهة ، وعن محمد : إن بلغه الحديث ثم أكل متعمدا فعليه الكفارة لأنه لا شبهة
حيث أمره عليه الصلاة والسلام بالإتمام . وروى الحسن عن أبي حنيفة : لا كفارة عليه لأنه
خبر واحد لا يوجب العلم . وأما إذا نام فاحتلم لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ثلاث لا يفطرن
الصائم : القيء ، والحجامة ، والاحتلام ' رواه الخدري ، ولأنه لا صنع له في ذلك فكان
أبلغ من الناسي ؛ والإنزال بالنطر كالاحتلام من حيث عدم المباشرة ، فإنه مقصور عليه لا
اتصال له بغيره . وأما الدهن فإنه يستعمل ظاهر البدن كالاغتسال . وأما الكحل فلما روى أبو
رافع أنه عليه الصلاة والسلام دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل وهو صائم .
وأما القبلة فلما روت عائشة ' أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم ' . وأما
الغيبة فلعدم وجود المفطر صورة ومعنى ، فإن ظن أن ذلك يفطر فأكل متعمدا فعليه القضاء
والكفارة ، بلغه الحديث أو لم يبلغه ، لأن كون الغيبة غير مفطرة قلما يشتبه على أحد لكونه
على مقتضى القياس ، ولأن العلماء أجمعوا على أن الغيبة لا تفطر ، ولا اعتبار بالحديث في
مقابلة الإجماع . وأما إذا غلبه القيء فلما تقدم من الحديث . وأما الإقطار في الإحليل
فعندهما لا يفطر . وقال أبو يوسف : يفطر بناء على أن بينه وبين الجوف منفذا بدليل خروج
البول ، والأصح أن ليس بينهما منفذ ، بل البول يترشح إلى المثانة ثم يخرج ، وما يخرج
رشحا لا يعود رشحا فلا يصل ، والخلاف إذا وصل إلى المثانة ، أما إذا وقف في القصبة لا
يفطر بالإجماع ، وأما دخول الغبار والذباب فلأنه لا يمكن الاحتراز عنه .
وأما إذا أصبح جنبا فلما روت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصبح جنبا من غير احتلام وهو
صائم ، ولأن الله تعالى أباح المباشرة جميع الليل بقوله : ) فالآن باشروهن ( [ البقرة : 187 ]
الآية . ومن ضرورته وقوع الغسل بعد الصبح .
قال : ( وإن ابتلع طعاما بين أسنانه مثل الحمصة أفطر وإلا فلا ) لأن ما بين الأسنان لا
يستطاع الامتناع عنه إذا كان قليلا فإنه تبع لريقه ، بخلاف الكثير وهو قدر الحمصة لأنه لا
يبقى مثل ذلك عادة فلا تعم به البلوى فيمكن الاحتراز عنه . قال : ( ويكره للصائم مضغ(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
العلك والذوق والقبلة إن لم يأمن على نفسه ) أما مضغ العلك لما فيه من تعريض صومه
للفساد ، وهذا في العلك الملتصق بعضه ببعض ، أما إذا كان غير ملتئم فإنه يفطره ، لأنه لا
يلتئم إلا بانفصال أجزاء تنقطع منه وذلك مفسد للصوم . وأما الذوق فلأنه لا يأمن أن يدخل
إلى جوفه .
وأما القبلة لما روي أن شابا سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القبلة للصائم فمنعه ، وسأله شيخ
فأذن له ، فقال الشاب إن ديني ودينه واحد ، قال : نعم ، ولكن الشيخ يملك نفسه ، ولأنه
إذا لم يأمن على نفسه ربما وقع في الجماع فيفسد صومه وتجب الكفارة وذلك مكروه ،
والمباشرة كالقبلة ، ويكره للمرأة مضغ الطعام لصبيها لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، فإن
لم يكن لها منه بد فلا بأس ، لأنه لما جاز لها الإفطار إذا خيف عليه فلأن يجوز لها المضغ
كان أولى .
فصل
( ومن خاف المرض أو زيادته أفطر ) لقوله تعالى : ) فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر ( [ البقرة : 184 ] معناه : فأفطر فعدة من أيام أخر ، لأن المرض والسفر لا
يوجبان القضاء ( والمسافر صومه أفضل ) لأنه عزيمة والأخذ بالعزيمة أفضل . وقال عليه
الصلاة والسلام : ' المسافر إذا أفطر رخصة ، وإن صام فهو أفضل ' ( ولو أفطر جاز ) لما
تلونا . ولو أنشأ السفر في رمضان جاز بالإجماع ، وإن سافر بعد طلوع الفجر لا يفطر ذلك
اليوم لأنه لزمه صومه إذ هو مقيم فلا يبطله باختياره ، فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة ،
بخلاف ما إذا مرض ، لأن العذر جاء من قبل صاحب الحق .
قال : ( فإن ماتا على حالهما لا شيء عليهما ) لأنه تعالى أوجب عليهما صيام عدة
من أيام أخر ولم يدركاها ، ولأن المرض والسفر لما كانا عذرا في إسقاط الأداء دفعا
للحرج ، فلأن يكون الموت عذرا في إسقاط القضاء أولى . قال : ( وإن صح وأقام ثم ماتا
لزمهما القضاء بقدره ) لأنهما بذلك القدر أدركا عدة من أيام أخر . قال : ( ويوصيان(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
بالإطعام عنهما لكل يوم مسكينا كالفطرة ) لأنه وجب عليهما صومه بإدراك العدة ، وإن لم
يوصيا لم يجب على الورثة الإطعام لأنها عبادة فلا تؤدى إلا بأمره ، وإن فعلوا جاز ويكون
له ثواب ذلك .
قال : ( والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أو نفسيهما أفطرتا وقضتا لا غير )
قياسا على المريض والجامع دفع الحرج والضرر ( والشيخ الذي لا يقدر على الصيام يفطر
ويطعم ) لأنه عاجز ولا يرجى له القضاء فانتقل فرضه إلى الإطعام كالميت ، وقد قيل في قوله
تعالى : ) وعلى الذين يطيقونه فدية ( [ البقرة : 184 ] أي لا يطيقونه . قال : ( ومن جنّ الشهر
كله فلا قضاء عليه ) لأنه لم يشهد الشهر وهو السبب لأنه غير مخاطب ، ولهذا يصير موليا
عليه ( وإن أفاق بعضه قضى ما فاته ) لأنه شهد الشهر ، لأن المراد من قوله تعالى : ) فمن
شهد منكم الشهر ( [ البقرة : 185 ] شهود بعضه ، لأنه لو أراد شهود كله لوقع الصوم بعده
وأنه خلاف الإجماع . قال : ( وإن أغمي عليه رمضان كله قضاه ) لأنه مرض يضعف القوي
ولا يزيل العقل ، ولهذا لا يصير موليا عليه فكان مخاطبا فيقتصيه كالمريض ألا ترى أنه عليه
الصلاة والسلام كان معصوما عن الجنون ، قال تعالى : ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (
[ القلم : 2 ] وقد أغمي عليه في مرضه .
قال : ( ويلزم صوم النفل بالشروع أداء وقضاء ) وقد مر وجهه في الصلاة . قال : ( وإذا
طهرت الحائض أو قدم المسافر أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في بعض النهار أمسك بقيته )
ولا يجب صوم ذلك اليوم على الصبي والكافر ، ولو صاموه لم يجزهم لانعدام الأهلية في
أوله ، والأداء لا يتجزى إلا في المسافر إذا قدم قبل نصف النهار ونوى جاز صومه لأنه أهلّ
في أوله . وأما إمساك بقية يومه لئلا يتهمه الناس والتحرز عن مواضع التهم واجب . قال عليه
الصلاة والسلام : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ' .
قال : ( وقضاء رمضان إن شاء تابع وإن شاء فرق ) لأن قوله تعالى : ) فعدة من أيام
أخر ( [ البقرة : 184 ] لم يشرط فيه التتابع وهو أفضل مسارعة إلى إسقاط الفرض ( فإن جاء
رمضان آخر صامه ) لأنه وقته ( ثم قضى الأول لا غير ) لأن جميع السنة وقت قضاء إلا الأيام(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
الخمسة ، ولا يجب عليه غير القضاء ، لأن النص لم يوجب شيئا آخر . قال : ( ومن نذر صوم
يومي العيد وأيام التشريق لزمه ويفطر ويقضي ) لأنه نذر بقربة وهو الصوم وأضافها إلى وقت
مشروع فيه تلك القربة ، فيلزم كالنذر بالصلاة في الوقت المكروه ، وليس النذر معصية ، إنما
المعصية أداء الصوم فيها ، والدليل على الشرعية قوله عليه الصلاة والسلام : ' ألا لا تصوموا
في هذه الأيام ' نهى عن الصوم الشرعي والنهي يقتضي القدرة ، لأن النهي عن غير المقدور
قبيح ، لأن قوله للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تطر قبيح لما أنه غير مقدور ، وإذا اقتضى
النهي القدرة كان الصوم الشرعي مقدورا في هذه الأيام فيصح النذر إلا أنه منهي عنه ، فقلنا
إنه يفطر فيها تحرزا عن ارتكاب النهي ويقضي ليخرج عما وجب عليه ( ولو صامها أجزأه )
لأنه أداه كما التزمه ، كما إذا قال لله عليّ أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء فأعتقها خرج عن
العهدة ، وإن كان إعتاقها لا يجزي عن شيء من الواجبات ، ولو قال : لله علي أن أصوم هذه
السنة أفطر العيدين وأيام التشريق وقضاها لما بيناه ، وكذلك لو نذر سنة متتابعة ، ولو نذر سنة
بغير عينها يلزم صوم اثني عشر شهرا متفرقة ، لأن السنة المنكرة اسم لأيام معدودة فلم يكن
مضافا إلى رمضان ، وفي المعينة إضافة إلى كل شهر منها ، فلم تصح الإضافة إلى رمضان فلا
يجب قضاؤه ، والله أعلم .
باب الاعتكاف
وهو في اللغة : المقام والاحتباس ، قال تعالى : ) سواء العاكف فيه والباد ( [ الحج : 25 ] .
وفي الشرع : عبارة عن المقام في مكان مخصوص وهو المسجد بأوصاف مخصوصة من النية
والصوم وغيرهما على ما يأتي إن شاء الله . قال : ( الاعتكاف سنة مؤكدة ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
واظب عليه . روى أبو هريرة وعائشة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان منذ قدم
المدينة إلى أن توفاه الله تعالى . وعن الزهري أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك الاعتكاف
حتى قبض ، وهو من أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص .
قال عطاء : مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ويقول :
لا أبرح حتى تقضى حاجتي ، فكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول : لا أبرح
حتى يغفر لي . قال : ( ولا يجوز أقل من يوم ، وهذا في الواجب وهو المنذور(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
باتفاق أصحابنا ) لأن الصوم من شرطه ، ولا صوم أقل من يوم ، فلا اعتكاف أقل من يوم
ضرورة . وكذلك النفل عند أبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا اعتكاف إلا
بالصوم ' روته عائشة . وعن أبي يوسف : يجوز أكثر النهار اعتبارا للأكثر بالكل . وعن
محمد ساعة ، لأن مبنى النفل على المسامحة ، ألا ترى أنه يجوز التطوع قاعدا مع القدرة
على القيام ولا كذلك الواجب .
قال : ( وهو اللبث في مسجد جماعة مع الصوم والنية ) أما اللبث فلأنه ينبئ عنه ،
وأما كونه في مسجد جماعة لقوله تعالى : ) وأنتم عاكفون في المساجد ( [ البقرة : 187 ] .
وقال حذيفة سمعت رسول الله e يقول : ' كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه ' .
وقال حذيفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ، ولأن المعتكف ينتظر الصلاة فيختص بمكان
تؤدى فيه الجماعة ، فكلما كان المسجد أعظم فالاعتكاف فيه أفضل . وأما الصوم فلما تقدم ،
ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام ما اعتكف إلا صائما ، والله تعالى شرعه لقوله : ) وأنتم
عاكفون في المساجد ( ولم يبين كيفيته ، فكان فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيانا له ، لأنه لو جاز بغير صوم
لبينه عليه الصلاة والسلام قولا أو فعلا ولم ينقل فدل على أنه غير جائز . وأما النية فلأنه
عبادة فلا بد من النية لما تقدم .
قال : ( والمرأة تعتكف في مسجد بيتها ) وهو الموضع الذي أعدته للصلاة ( ويشترط في
حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد ) لأن الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته
وكانت صلاتها في بيتها أفضل كان اعتكافها فيه أفضل ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' صلاة المرأة في
مخدعها أفضل من صلاتها في مسجد بيتها ، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل من صلاتها
في صحن دارها ، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها ، وبيوتهن
خير لهن لو كن يعلمن ' . ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه ، ويكره لما روينا .(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
قال : ( ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة ) لما روي عن عائشة : أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان ، والحاجة : بول أو غائط أو غسل
جنابة ، ولأنه لا بد من وقوعها ولا يمكن قضاؤها في المسجد فكان مستثنى ضرورة وأما
الجمعة فلأنها من أهم الحوائج ولا بد من وقوعها ، ولأن الاعتكاف تقرب إلى الله تعالى
بترك المعاصي ، وترك الجمعة معصية ، فينافيه ويخرج قدر ما يمكنه أداء السنة قبلها . وقيل :
قدر ست ركعات ، يعني تحية المسجد أيضا ، ويصلي بعدها أربعا أو ستا ، ولو أطال المكث
جاز ، إلا أن الأولى العود إلى معتكفه لأنه عقده فيه فلا يؤديه في موضعين .
قال : ( فإن خرج لغير عذر ساعة فسد ) لوجود المنافي . وقال أبو يوسف ومحمد : لا
يفسد حتى يكون أكثر النهار اعتبارا بالأكثر ، ويكون أكله وشربه وبيعه وشراؤه وزواجه
ورجعته بالمسجد ، لأنه يحتاج إلى هذه الأشغال ويمكن قضاؤها في المسجد ، ولأنه عليه
الصلاة والسلام لم يكن له مأوى إلا المسجد ، وكان يأكل ويشرب ويتحدث ، والبيع والشراء
حديث ، لكن يكره حضور السلع المسجد لما فيه من شغل المسجد بها .
قال : ( ويكره له الصمت ) لأنه من فعل المجوس ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن
صوم الصمت . قال : ( ولا يتكلم إلا بخير ) لأنه يكره لغير المعتكف وفي غير المسجد ،
فالمعتكف في المسجد أولى . قال : ( ويحرم عليه الوطء ودواعيه ) لقوله تعالى : ) ولا
تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ( [ البقرة : 187 ] فكانت المباشرة من محظورات
الاعتكاف فيحرم الوطء ، وكذا دواعيه وهو اللمس والقبلة والمباشرة كما في الحج ، بخلاف
الصوم لأن الإمساك ركنه فلا يتعدى إلى الدواعي . قال : ( فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو
ناسيا بطل ) لما بينا أنه من محظوراته فيفسده كالإحرام ، وكذا إذا أنزل بقبلة أو لمس
لوجود معنى الجماع . وأما النسيان فلأن الحالة مذكرة فلا يعذر بالنسيان كالحج بخلاف
الصوم .
قال : ( ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة ) لأن ذكر جمع من
الأيام ينتظم ما بإزائها من الليالي كما في قصة زكريا عليه السلام . قال تعالى : ) ثلاثة أيام (
[ البقرة : 196 ] وقال : ) ثلاث ليال ( [ مريم : 10 ] والقصة واحدة ، ويقال : ما رأيتك منذ
أيام ، ويريد الليالي أيضا . وأما التتابع فإن الاعتكاف يصح ليلا ونهارا ، فكان الأصل فيه
التتابع كما في الأيمان والإجارات ، بخلاف الصوم إذا التزم أياما حيث لا يلزمه التتابع ، لأن
الأصل فيه التفريق ، لأن الليل ليس محلا للصوم فلا يلزم إلا أن يشرطه ( ولو نوى النهار(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
خاصة صدق ) لأنه نوى حقيقة كلامه ، لأن اليوم عبارة عن بياض النهار . قال : ( ويلزم
بالشروع ) عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أنه لا يجوز عنده إلا بالصوم فلا يجوز أقل من
يوم ، وعندهما يجوز وقد بيناه .(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
كتاب الحج
وهو في اللغة : القصد إلى الشيء المعظم . قال الشاعر :
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يقصدون عمامته . وفي الشرع : قصد موضع مخصوص ، وهو البيت بصفة
مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ، وهو
فريضة محكمة يكفر جاحدها ، وهو أحد أركان الإسلام ثبتت فرضيته بالكتاب ، وهو قوله
تعالى : ) ولله على الناس حج البيت ( [ آل عمران : 97 ] . والسنة : وهو قوله عليه الصلاة
والسلام : ' بني الإسلام على خمس ' الحديث . وقوله : ' وحجوا بيت ربكم ' وعليه انعقد
الإجماع ، وسبب وجوبه البيت لإضافته إليه ، ولهذا لا يتكرر لأن البيت لا يتكرر ، ويجب
على الفور . قال عليه الصلاة والسلام : ' من ملك زادا يبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فلا
عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ' . وعن أبي حنيفة ما يدل عليه ، فإنه قال : من كان عنده(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
ما يحج به ويريد التزويج يبدأ بالحج ، ولأن الموت في السنة غير نادر ، بخلاف وقت الصلاة
فإن الموت فيه نادر ، ولهذا كان التعجيل أفضل إجماعا .
قال : ( وهو فريضة العمر ، ولا يجب إلا مرة واحدة ) لما روي ' أنه لما نزل قوله تعالى :
) ولله على الناس حج البيت ( [ آل عمران : 97 ] قال رجل : يا رسول الله أفي كل عام ؟
قال : لا بل مرة واحدة ' ولأن السبب هو البيت ولا يتكرر ، وعلى ذلك الإجماع . قال :
( على كل مسلم حر عاقل بالغ صحيح قادر على الزاد والراحلة ، ونفقة ذهابه وإيابه فاضلا عن
حوائجه الأصلية ، ونفقة عياله إلى حين يعود ، ويكون الطريق أمنا ) أما الإسلام ، فلأن الكافر
ليس أهلا لأداء العبادات . وأما الحرية فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' أيما عبد حج عشر
حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام ، وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة
الإسلام ' ولأن منافع بدن العبد لغيره فكان عاجزا ، وإن أذن له مولاه لأنه كأنه أعاره منافع
بدنه فلا يصير قادرا بالإعادة كالفقير لا يصير قادرا إذا أعاره غيره الزاد والراحلة . وأما العقل
والبلوغ فلأنهما شرط لصحة التكليف ، ولما مر من الحديث . وأما الصحة فلأنه لا قدرة
دونها ، والخلاف في الأعمى كما تقدم في الجمعة .
وقيل : عندهما لا يجب عليه الحج ، لأن البذل في القياد غالب في الجمعة نادر في
الحج . وأما القدرة على الزاد والراحلة ، ونفقة ذهابه وإيابه فلا استطاعة دونها . وسئل عليه
الصلاة والسلام عن الاستطاعة ؟ فقال : ' الزاد والراحلة ' وهكذا فسره ابن عباس .
والراحلة : أن يكتري شق محمل أو زاملة دون عقبة الليل والنهار ، لأنه لا يكون قادرا
إلا بالمشي فلم يكن قادرا على الراحلة . وأما كونه فاضلا عن الحوائج الأصلية فلأنها مقدمة
على حقوق الله تعالى ، وكذا عن نفقة عياله لأنها مستحقة لهم ، وحقوقهم مقدمة على حقوق
الله تعالى لفقرهم وغناه ، وكذا فاضلا عن قضاء ديونه لما بينا ، وعن أبي يوسف : ونفقة شهر(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
بعد عوده إلى وطنه ، وإن كانت له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه يجب عليه أن يبيعهما
في الحج ، ولا بد من أمن الطريق لأنه لا يقدر على الوصول إلى المقصود دونه ، وأهل مكة
ومن حولها يجب عليهم إذا قدروا بغير راحلة لقدرتهم على الأداء بدون المشقة .
قال : ( ولا تحج المرأة إلا بزوج أو محرم إذا كان سفرا ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام فما فوقها إلا ومعها زوجها أو ذو
رحم محرم منها ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا تحج المرأة إلا ومعها زوجها أو ذو
رحم محرم منها ' والمحرم : كل من لا يحل له نكاحها على التأبيد لقرابة أو رضاع أو
صهرية ، والعبد والحر والمسلم والذمي سواء ، إلا المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها ،
والفاسق لأنه لا يحصل به المقصود ، ولا بد فيه من العقل والبلوغ لعجز الصبي والمجنون
عن الحفظ .
قال : ( ونفقة المحرم عليها ) لأنه محبوس لحقها ، وذكر الطحاوي أنه لا يلزمها لأن
المحرم شرط وليس عليها تحقيق الشروط ، فإن لم يكن لها محرم لا يجب عليها لما بينا .
قال : ( وتحج معه حجة الإسلام بغير إذن زوجها ) لأن حق الزوج لا يظهر مع الفرائض
كالصوم والصلاة . قال : ( ووقته شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ) لقوله تعالى : ) الحج
أشهر معلومات ( [ البقرة : 197 ] أي وقت الحج ، وفسروه كما ذكرنا ( ويكره تقديم الإحرام
عليها ويجوز ) أما الكراهية فلما فيه من تعرض الإحرام للفساد بطول المدة . وأما الجواز فلأنه
شرط للدخول في أفعال الحج عندنا ، وتقدم الشرط على الوقت يجوز كما في تكبيرة
الإحرام ، إلا أنه لا يجوز تقديمها على أفعال الصلاة لاتصال القيام بها وأفعال الحج تتأخر
عن الإحرام ، ولا يفعل شيئا من أفعال الحج بعد الإحرام قبل أشهر الحج ، ولو فعله لا
يجزيه لوقوعه قبل وقته حتى لو أحرم في رمضان فطاف وسعى لا يجزيه عن الطواف
الفرض ، بخلاف طواف القدوم لأنه ليس من أفعال الحج حتى لا يجب على أهل مكة .
قال : ( والمواقيت : للعراقيين ذات عرق ، وللشاميين الجحفة ، وللمدنيين ذو الحليفة ،
وللنجديين قرن ، ولليمنيين يلملم ) ويقال ألملم ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) وقّت هذه المواقيت وقال : ' هنّ(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ' رواه ابن عباس ، فلو أراد
المدني دخول مكة من جهة العراق فوقته ذات عرق ، وكذا في سائر المواقيت ، ومن قصد
مكة من طريق غير مسلوك أحرم إذا حاذى الميقات ( وإن قدم الإحرام عليها فهو أفضل ) لقوله
تعالى : ) وأتموا الحج والعمرة لله ( [ البقرة : 196 ] قال علي وابن مسعود : وإتمامهما أن
يحرم بهما من دويرة أهله ، ولأنه أشق على النفس فكان أفضل . قال أبو حنيفة : الإحرام من
مصره أفضل إذا ملك نفسه في إحرامه . قال : ( ولا يجوز للأفاقي أن يتجاوزها إلا محرما
إذا أراد دخول مكة ) سواء دخلها حاجا أو معتمرا أو تاجرا ، لأن فائدة التأقيت هذا لأنه
يجوز تقديم الإحرام عليها بالاتفاق ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يتجاوز أحد الميقات
إلا محرما ' ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته ، لأنه يتكرر
دخوله لحوائجه فيخرج في ذلك فصار كالمكي إذا خرج ثم دخل ، بخلاف ما إذا دخل
للحج لأنه لا يتكرر فإنه لا يكون في السنة إلا مرة فلا يخرج ، وكذا لأداء العمرة لأنه
التزمها لنفسه .
قال : ( فإن جاوزها الأفاقي بغير إحرام فعليه شاة ) لأنه منهي عنه لما مر من الحديث
( فإن عاد فأحرم منه سقط الدم ، وإن أحرم بحجة أو عمرة ثم عاد إليه ملبيا سقط أيضا ) عند
أبي حنيفة ، وعندهما يسقط بمجرد العود ، وعند زفر لا يسقط وإن لبى ، لأن الجناية قد
تقررت فلا ترتفع بالعود ، كما إذا دفع من عرفات قبل الغروب ثم عاد بعده . ولنا أنه استدرك
الفائت قبل تقرر الجناية بالشروع في أفعال الحج فيسقط الدم ، بخلاف الدفع من عرفات لأن
الواجب استدامة الوقوف ولم يستدركه ، ثم عندهما أظهر حق الميقات بنفس العود ، لأن
التلبية ليست بشرط في الابتداء حتى لو مر به محرما ساكتا جاز ، وعنده أنه جنى بالتأخير عن
الميقات ، فيجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية ، فكان التدارك في العود ملبيا .
قال : ( ولو عاد بعدما استلم الحجر وشرع في الطواف لم يسقط ) بالاتفاق لأنه لم يعد
على حكم الابتداء ، وكذلك إن عاد بعد الوقوف لما بينا ( وإن جاوز الميقات لا يريد دخول
مكة فلا شيء عليه ) لأنه إنما وجب عليه الإحرام لتعظيم مكة شرفها الله تعالى وما قبلها من(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
القرى والبساتين غير واجب التعظيم ، وإذا جاوز الميقات صار هو وصاحب المنزل سواء ،
فله دخول مكة بغير إحرام لما مر . قال : ( ومن كان داخل الميقات فميقاته الحل ) الذي بين
الميقات وبين الحرم لأنه أحرم من دويرة أهله ( ومن كان بمكة فوقته في الحج حرم ، وفي
العمرة الحل ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من مكة ، ولأن
أداء الحج لا يتم إلا بعرفة وهي في الحل ، فإذا أحرم بالحج من الحرم يقع نوع سفر ، وأما
العمرة فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عبد الرحمن أخا عائشة أن يعتمر بها من التنعيم
وهو في الحل ، ولأن أداء العمرة بمكة فيخرج إلى الحل ليقع نوع سفر أيضا ، ولو أحرم بها
من أي موضع شاء من الحل جاز إلا أن التنعم أفضل لما روينا .
فصل
( وإذا أراد أن يحرم يستحب له أن يقلم أظفاره ، ويقص شاربه ، ويحلق عانته ) وهو
المتوارث ، ولأنه أنظف للبدن فكان أحسن ( ثم يتوضأ أو يغتسل وهو أفضل ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم )
اغتسل ، ولأن المراد منه التنظيف ، والغسل أبلغ ؛ ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في
الجمعة ، وتغتسل الحائض أيضا لما ذكرنا أنه للتنظيف ( ويلبس إزارا ورداء جديدين أبيضين
وهو أفضل ) لأنه لا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد ، والنبي عليه الصلاة والسلام اتزر
وارتدى عند إحرامه ، الجديدان أقرب إلى النظافة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' خير
ثيابكم البيض ' ( ولو لبس ثوبا واحدا يستر عورته جاز ) لحصول المقصود ( ويتطيب إن
وجد ) قالت عائشة : ' كنت أطيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لإحرامه قبل أن يحرم ' . وقال محمد : لا
يتطيب بما يبقى بعد الإحرام لأنه كالمستعمل له بعد الإحرام . وجوابه ما روي عن عائشة أنها
قالت : فكأني أنظر إلى وبيص الطيب من مفرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ثلاثة من إحرامه ،(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
والممنوع التطيب قصدا ، وهذا تابع لا حكم له ، وصار كما إذا حلق أو قلم أظفاره ثم
أحرم .
قال : ( ويصلي ركعتين ) لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى ركعتين بذي الحليفة عند إحرامه ( ويقول :
اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ) لأنه أفعال متعددة مشقة يأتي بها في أماكن متباينة
في أوقات مختلفة ، فيسأل الله التيسير عليه ( وإن نوى بقلبه أجزأه ) لحصول المقصود والأول
أولى ، والأخرس يحرك لسانه ، ولو نوى مطلق الحج يقع عن الفرض ترجيحا لجانبه وهو
الظاهر من حاله ، لأن العاقل لا يتحمل المشاق العظيمة وإخراج الأموال إلا لإسقاط الفرض
إذا كان عليه ، وإن نوى التطوع وقع متطوعا إذ لا دلالة مع التصريح ( ثم يلبي عقيب صلاته )
وإن شاء إذا استوت به راحلته والأول أفضل .
( والتلبية : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا
شريك لك ) وكسر إن أصوب ليقع ابتداء ويرفع صوته بالتلبية . قال عليه الصلاة والسلام :
' أفضل الحج العج والثج ' فالعج : رفع الصوت بالتلبية : والثج : إسالة دم الذبائح ، ولا
يخل بشيء من هذه الكلمات لأنها منقولة باتفاق الرواة ، وإن زاد جاز بأن يقول : لبيك
وسعديك والخير كله في يديك لبيك إله الخلق غفار الذنوب إلى غير ذلك مما جاء عن
الصحابة والتابعين وهي مرة شرط والزيادة سنة ، ويكون بتركها مسيئا .
قال : ( فإذا نوى ولبى فقد أحرم ) لأنه أتى بالنية والذكر كما في الصلاة فيدخل في
الإحرام ( فليتق الرفث والفسوق والجدال ) لقوله تعالى : ) فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج ( [ البقرة : 197 ] والمراد النهي عن هذه الأشياء نقلا وإجماعا : فالرفث : الجماع ،
وقيل : دواعيه ، وقيل : ذكر الجماع بحضرة النساء ، وقيل : الكلام القبيح ؛ والفسوق :
المعاصي وهي حرام وفي الإحرام أشد ؛ والجدال : المخاصمة مع الرقيق والجمال وغيرهما .
قال : ( ولا يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة ولا قباء ولا خفين ) لأنه عليه(1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
الصلاة والسلام نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء ، فإن لم يجد إزارا فتق سراويله فاتزر
به ، وإن لم يحد رداء شق قميصه فارتدى به ، وإن لم يجد نعلين يقطع الخفين أسفل
الكعبين ، لأن هذه الأشياء تخرج عن لبس المخيط وهو الذي يقدر عليه والتكليف بحسب
الطاقة . وقد قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ' إلا أن لا يجد النعلين فيقطع
الخفين أسفل من الكعبين ' وإن ألقى على كتفيه قباء جاز ، ما لم يدخل يديه في كميه لأنه
حامل لا لابس .
قال : ( ولا يحلق شيئا من شعر رأسه وجسده ) لقوله تعالى : ) ولا تحلقوا رؤوسكم
حتى يبلغ الهدي محله ( [ البقرة : 196 ] ولأن فيه إزالة الشعث ، وقد قال عليه الصلاة
والسلام : ' الحاج الشعث التفل ' الشعث : الانتشار ، ومراده انتشار شعر الحاج فلا يجمعه
بالتسريح والدهن والتغطية ونحوه ، والتفل بالسكون : الرائحة الكريهة ، والتفل : الذي ترك
استعمال الطيب فيكره رائحته ، والمحرم كذلك .
قال : ( ولا يلبس ثوبا معصفرا ونحوه ) لأنه طيب حتى لو كان غسيلا لا تفوح رائحته
لا بأس به ( ولا يغطي رأسه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إحرام الرجل في رأسه ) ( ولا
وجهه ) بطريق الأولى ، ولأنه لما حرم على المرأة تغطية الوجه وفي كشفه فتنة كان الرجل
بطريق الأولى . قال : ( ولا يتطيب ، ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمي ، ولا يدهن ) لأن
في ذلك كله إزالة الشعث . قال : ( ولا يقتل صيد البر ، ولا يشير إليه ، ولا يدل عليه )
لقوله تعالى : ) لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( [ المائدة : 95 ] ولقوله تعالى : ) وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما ( [ المائدة : 96 ] ولما روي أن أبا قتادة صاد حمار وحش وهو
حلال وأصحابه محرمون ، فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكله فقال : ' هل أشرتم ، هل دللتم ' ؟
قالوا : لا ، قال : ' إذا فكلوا ' . ولأن الإشارة والدلالة في معنى القتل لما فيه من إزالة
الأمن عن الصيد فيتناوله النص كالردء والمعين في قتل بني آدم . قال : ولا القمل لأنه إزالة
الشعث .(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
قال : ( ويجوز له قتل البراغيث والبق والذباب والحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب
والحدأة ، وسائر السباع إذا صالت عليه ) أما البراغيث والبق والذباب فلأنها ليست بصيد ولا
متولدة منه ، فليس قتلها إزالة الشعث ، وتبتدئ بالأذى ، وكذلك النمل والقراد لما ذكرنا .
وأما الحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة لقوله عليه الصلاة والسلام : ' خمس
من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحدأة والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور ' وفي
بعض الروايات زاد الغراب .
وذكر في رواية الذئب ، قالوا : وهو المراد بالكلب العقور إذ هو في معناه ، والغراب
هو الذي يأكل الجيف ، ولأن هذه الأشياء تبدأ بالأذى . وأما السباع إذا صالت فلأنه لما أذن
الشرع في قتل الخمس الفواسق لاحتمال الأذى ، فلأن يأذن في قتل ما تحقق منه الأذى كان
أولى .
قال : ( ولا يكسر بيض الصيد ) لأنه أصل الصيد ( ولا يقطع شجر الحرم ) للحديث ولأنه
محظور على الحلال فالمحرم أولى ( ويجوز له صيد السمك ) لقوله تعالى : ) أحل لكم صيد
البحر ( [ المائدة : 96 ] الآية ( ويجوز له ذبح الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط الأهلي ) لأنها
ليست بصيود لإمكان أخذها من غير معالجة لكونها غير متوحشة .
قال : ( ويجوز له أن يغتسل ويدخل الحمام ) لأنه يحتاج إلى الاغتسال للجنابة
وغيرها ، وقد اغتسل عمر وهو محرم . قال : ( ويستظل بالبيت والمحمل ) لأنه لا يصل
إلى رأسه فلا يتغطى وقد ضرب لعثمان الفسطاط وهو محرم ( ويشد في وسطه الهميان )
لأنه ليس بلبس وهو يحتاج إليه لحفظ النفقة ، ( ويقاتل عدوه ) لما تقدم ( ويكثر من التلبية
عقيب الصلوات ، وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار ) هو المأثور عن
الصحابة .(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
فصل
( ولا يضره ليلا دخل مكة أو نهارا كغيرها من البلاد ، فإذا دخلها ابتدأ بالمسجد ) لأن
البيت فيه ، والمقصود زيارته ؛ ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة اقتداء بفعله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ويستحب أن يقول عند دخولها : اللهم هذا حرمك ومأمنك ، قلت وقولك الحق : ) ومن
دخله كان آمنا ( [ آل عمران : 97 ] اللهم فحرم لحمي ودمي على النار ، وقني عذابك يوم
تبعث عبادك ، ويدخل المسجد حافيا إلا أن يستضر ، ويقول عند دخوله : بسم الله وعلى ملة
رسول الله ، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ومغفرتك
وأدخلني فيها ، وأغلق عني معاصيك وجنبني العمل بها ( فإذا عاين البيت كبر وهلل )
ويستحب أن يقول : الله أكبر الله أكبر ، اللهم أنت السلام ومنك السلام ، حينا ربنا بالسلام
وأدخلنا دار السلام ؛ اللهم زد بيتك هذا تشريفا ومهابة وتعظيما ، اللهم تقبل توبتي وأقلني
عثرتي ، واغفر لي خطيئتي يا حنان يا منان .
( وابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر ) هكذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل المسجد ( ويرفع يديه
كالصلاة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن ' وعد منها
استلام الحجر ( ويقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما أو يستلمه ) وهو أن يلمسه بكفه
أو يلمسه شيئا بيده ثم يقبله أو يحاذيه ( أو يشير إليه إن لم يقدر على الاستلام ) لأن التحرز
عن أذى المسلم واجب ، والتقبيل والاستلام سنة ، والإتيان بالواجب أولى ' والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبّل
الحجر الأسود وقال لعمر : إنك رجل أيد : أي قوي ، فلا تزاحم الناس على الحجر ، ولكن
إن وجدت فرجة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وهلل وكبر ' وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام
طاف على راحلته ، واستلم الأركان بمحجنه ' ويستحب أن يقول عند استلام الحجر :(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
الله أكبر الله أكبر ، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لنبيك ؛ أشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله : آمنت بالله وكفرت
بالجبت والطاغوت .
قال : ( ثم يطوف طواف القدوم ) ويسمى طواف التحية ( وهو سنة للأفاقي ) قال عليه
الصلاة والسلام : ' من أتى البيت فليحيه بالطواف ' ولفظة التحية تنافي الوجوب ، ولا قدوم
لأهل مكة فلا يسن في حقهم ؛ ويقول عند افتتاح الطواف : سبحان الله والحمد لله ولا إله
إلا الله والله أكبر ، اللهم أعذني من أهوال يوم القيامة ( فيبدأ من الحجر إلى جهة باب الكعبة
وقد اضطبع رداءه ) والاضطباع : إخراج طرف الرداء من تحت الإبط الأيمن وإلقاؤه على عاتقه
الأيسر ( فيطوف سبعة أشواط وراء الحطيم ، يرمل في الثلاثة الأول ، ثم يمشي على هينته
ويستلم الحجر كلما مر به ، ويختم الطواف بالاستلام ) هكذا نقل نسكه ( صلى الله عليه وسلم ) . والحطيم :
موضع مبني دون البيت من الركن العراقي إلى الركن الشامي ، سمي بذلك لأنه حطم من
البيت : أي كسر ، وفيه نصب الميزاب ، وهو الحجر لأنه حجر من البيت : أي منع بينه وبين
البيت فرجة من الجانبين ، فلو دخل فيها في طوافه لم يجزه لأنه من البيت . قال عليه الصلاة
والسلام : ' الحطيم من البيت ' فيعيد الطواف ، فإن أعاده على الحطيم وحده أجزأه لأنه تم
طوافه ، والأولى أن يعيده على البيت أيضا ليؤديه على الوجه الأحسن والأكمل ويخرج به عن
خلاف بعض الفقهاء . والرمل هز الكتفين كالتبختر ، وسببه إظهار الجلد للمشركين حيث قالوا
عن الصحابة : أوهنتهم حمى يثرب . فقال عليه الصلاة والسلام : ' رحم الله امرءا أظهر من
نفسه جلدا ' وزال السبب وبقي الحكم إلى يومنا به التوارث ؛ واستلام الحجر أول الطواف
وآخره سنة ، وما بقي بينهما أدب .
ويستحب أن يستلم الركن اليماني ولا يقبله . وعن محمد أنه سنة ولا يقبل بقية
الأركان ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستلم الحجر والركن اليماني لا غير ؛ ويستحب أن يقول إذا بلغ
الركن العراقي : اللهم إني أعوذ بك من الشرك والكفر والنفاق وسوء الأخلاق . وعند
الميزاب : اللهم اسقني بكأس نبيك محمد شربة لا أظمأ بعدها ، وعند الركن الشامي : اللهم(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ، وتجارة لن تبور برحمتك يا عزيز يا
غفور . وعند الركن اليماني : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات .
قال : ( ثم يصلي ركعتين في مقام إبراهيم أو حيث تيسر له من المسجد ) وهي واجبة ،
قال عليه الصلاة والسلام : ' ليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين ' وقيل في تفسير قوله
تعالى : ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( [ البقرة : 125 ] إنه ركعتي الطواف ، ويقول
عقيبهما : اللهم هذا مقام العائذ بك من النار ، فاغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم . ( ثم
يستلم الحجر ) لأنه عليه الصلاة والسلام استلمه بعد الركعتين . قال : ( ويخرج إلى الصفا )
من أي باب شاء ، والأولى أن يخرج من باب بني مخزوم اتباعا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأنه أقرب إلى
الصفا ، وهو الذي يسمى اليوم باب الصفا ( فيصعد عليه ، ويستقبل البيت ويكبر ، ويرفع يديه
ويهلل ، ويصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويدعو بحاجته ) هكذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأن الدعاء عقيب الثناء
والصلاة أقرب إلى الإجابة فيقدمان عليه ( ثم ينحط نحو المروة على هينته ، فإذا بلغ الميل
الأخضر سعى حتى يجاوز الميل الآخر ثم يمشي إلى المروة فيفعل كالصفا ) هكذا فعل عليه
الصلاة والسلام ( وهذا شوط ، يسعى سبعة أشواط ) كما وصفنا .
( يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ) فالمشي من الصفا إلى المروة شوط ، والعود من المروة
إلى الصفا آخر . وذكر الطحاوي أن العود ليس بشوط ، ويشترط البداءة في كل شوط
بالصفا والختم به ، والأول أصح لأنه المنقول المتوارث ، ولئلا يتخلل بين كل شوطين ما
لا يعتد به والأصل في العبادات الاتصال كالطواف وركعات الصلاة ، ثم السعي بين الصفا
والمروة واجب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' كتب عليكم السعي فاسعوا ' وأنه خبر
آحاد فلا يوجب الركنية فقلنا بالوجوب ، وقوله تعالى : ) فلا جناح عليه أن يطوف بهما (
[ البقرة : 158 ] ينفي الركنية أيضا والأفضل ترك السعي حتى يأتي به عقيب طواف الزيارة
لأن السعي واجب ، وإنما شرع مرة واحدة ، وطواف القدوم سنة ، ولا يجعل الواجب تبعا(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
للسنة ، وإنما رخص في ذلك ، لأن يوم النحر يوم اشتغال بالذبح والرمي وغيره ، فربما لا
يتفرغ للسعي ؛ ويستحب أن يقول عند خروجه إلى الصفا : باسم الله ، والصلاة على رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها ؛ ويقول على الصفا : الله أكبر الله
أكبر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حي لا
يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين
له الدين ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله أهل التكبير والتحميد والتهليل ، لا إله إلا الله
وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، فله الملك وله الحمد ، ويسأل
حوائجه ؛ فإذا نزل من الصفا قال : اللهم يسر لي اليسرى ، وجنبني العسرى ، واغفر لي في
الآخرة والأولى ؛ ويقول في السعي : رب اغفر وارحم ، وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز
الأكرم ، ويستكثر من قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ؛ ويقول
على المروة مثل الصفا .
قال : ( ثم يقيم بمكة حراما يطوف بالبيت ما شاء ) لأنه عبادة وهو أفضل من الصلاة ،
وخصوصا للأفاقي ، ويصلي لكل طواف ركعتين ، ولا يسعى بعده لما بينا . قال : ( ثم يخرج
غداة التروية ) وهو ثامن ذي الحجة ( إلى منى ) فينزل بقرب مسجد الخيف ( فيبيت بها حتى
يصلي الفجر يوم عرفة ) فيصلي بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، هكذا فعل
جبريل بإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام وهو المنقول من نسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذه
البيتوتة سنة ، ولو بات بمكة وصلى هذه الصلوات بها جاز ، لأنه لا نسك بمنى هذا اليوم ،
وقد أساء لمخالفته السنة ؛ ويقوله عند نزوله بمنى : اللهم هذه منى ، وهي مما مننت بها علينا
من المناسك ، فامنن عليّ بما مننت به على عبادك الصالحين . قال : ( ثم يتوجه إلى عرفات )
اقتداء بفعله عليه الصلاة والسلام ، ولأنه يحتاج إلى أداء فرض الوقوف بها في هذا اليوم
وينزل بها حيث شاء ( فإذا زالت الشمس توضأ أو اغتسل ) لأنه يوم جمع فيستحب له الغسل ،
وقيل هو سنة ( فإن صلى مع الإمام صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين في وقت الظهر ) فقد
تواتر النقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالجمع بينهما . وروى جابر بأذان وإقامتين ، وهو أن
يؤذن ويقيم للظهر ثم يقيم للعصر لأنها تؤدى في غير وقتها فيقيم إعلاما لهم ، لأنه لو لم(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
يقم ربما ظنوا أنه يتطوع فلا يشرعون مع الإمام ، ولا يتطوع بين الصلاتين لأن العصر إنما
قدمت ليتفرغ إلى الوقوف ، فالتطوع بينهما يخل به .
قال : ( وإن صلى وحده صلى كل واحدة في وقتها ) وقال أبو يوسف ومحمد : يجمع
بينهما المنفرد ، لأن جوازه ليتفرغ للوقوف ويمتد وقته والكل في ذلك سواء . ولأبي حنيفة أن
تقديم العصر على خلاف الأصل ، لأن الأصل أداء كل صلاة في وقتها ، لكن خالفناه فيما
ورد به الشرع ، وهو الإمام في الصلاتين ، والإحرام بالحج قبل الزوال ، وفيما عداه بقي على
الأصل . قال : ( ثم يقف راكبا رافعا يديه بسطا يحمد الله ، ويثني عليه ، ويصلي على نبيه علي
الصلاة والسلام ، ويسأل حوائجه ) والأفضل أن يتوجه عقيب صلاة العصر مع الإمام فيقف
بالموقف مستقبل القبلة قريبا من جبل الرحمة ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) راح عقيب صلاة العصر إلى الموقف
ووقف على راحلته مستقبل القبلة يدعو باسطا يديه كالمستطعم المسكين ، رواه ابن عباس ،
ويقدم الثناء والحمد والصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما تقدم ، وإن وقف قائما أو قاعدا جاز ،
والأول أفضل ، ويلبي في الموقف ساعة بعد ساعة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال يلبي
حتى أتى جمرة العقبة .
قال : ( وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' عرفات كلها
موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ' ( ووقت الوقوف من زوال الشمس إلى طلوع الفجر الثاني
من الغد ) لأنه عليه الصلاة والسلام وقف بعد الزوال . وقال عليه الصلاة والسلام : ' الحج
عرفة ، فمن وقف بها ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج ، فليحل
بعمرة وعليه الحج من قابل ' وإن وقف ساعة بعد الزوال ثم أفاض أجزأه ، لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' من وقف ساعة بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه ' ولأن الركن أصل
الوقوف وامتداده إلى غروب الشمس واجب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' امكثوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم صلوات الله عليه ' أمر بالمكث وأنه(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
للوجوب . قال : ( فمن فاته الوقوف ) في هذا الوقت ( فقد فاته الحج فيطوف ويسعى ويتحلل
من الإحرام ويقضي الحج ) لما روينا .
واعلم أن الأحاديث كثيرة في فضيلة يوم عرفة وإجابة الدعاء فيه ، فينبغي أن تجتهد
فيه بالدعاء ، وتدعو بكل دعاء تحفظه ، وإن لم تقدر على الحفظ فاقرأ المكتوب ؛ ويستحب
أن يقرأ عقيب صلاته الفاتحة والإخلاص عشر مرات ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك
له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء
قدير سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم ، يا رفيع الدرجات ، يا منزل البركات ، يا فاطر الأرضين والسموات ، ضجت لك
الأصوات بصنوف اللغات ، تسألك الحاجات ، وحاجتي أن ترحمني في دار البلاء إذا نسيني
أهل الدنيا ، أسألك أن توفقني لما افترضت عليّ ، وتعينني على طاعتك وأداء حقك وقضاء
المناسك التي أريتها خليلك إبراهيم ، ودللت عليها محمدا حبيبك ؛ اللهم لكل متضرع إليك
إجابة ، ولكل مسكين لديك رأفة ، وقد جئتك متضرعا إليك ، مسكينا لديك ، فاقض حاجتي ،
واغفر ذنوبي ، ولا تجعلني من أخيب وفدك ، وقد قلت وأنت لا تخلف الميعاد : ) ادعوني
أستجب لكم ( [ غافر : 60 ] وقد دعوتك متضرعا سائلا ، فأجب دعائي وأعتقني من النار ،
ولوالدي ولجميع المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين .
قال : ( فإذا غربت الشمس أفاض مع الإمام إلى المزدلفة ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' إن أهل الشرك كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم
الرجال ، وأنا أدفع بعد غروب الشمس مخالفة لهم ' ويمشي على هينته ، كذا فعل رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم ، وقال : ' يا أيها الناس عليكم بالسكينة ' ويستحب أن يقول عند
غروبها قبل الإفاضة : اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف ، وارزقنيه ما أبقيتني ، واجعلني
اليوم مفلحا مرحوما مستجابا دعائي ، مغفورا ذنوبي يا أرحم الراحمين . وينبغي أن يدفع مع
الإمام ولا يتقدم عليه إلا إذا تأخر الإمام عن غروب الشمس ، فيدفع الناس قبله لدخول
الوقت ، ولو مكث بعد الغروب وإفاضة الإمام قليلا خوف الزحمة جاز ، هكذا فعلت عائشة ؛
وينبغي أن يكثر من الاستغفار . قال الله تعالى : ) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا
الله إن الله غفور رحيم ( [ البقرة : 199 ] .(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
قال : ( ويأخذ الجمار من الطريق سبعين حصاة كالباقلاء ولا يصلي المغرب حتى يأتي
المزدلفة فيصليها مع العشاء بأذان وإقامة ) أما تأخير المغرب فلحديث أسامة بن زيد قال :
كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عرفات إلى المزدلفة ، فنزل بالشعب وقضى حاجته ولم يسبغ
الوضوء ، فقلت يا رسول الله الصلاة ، فقال : ' الصلاة ليست هنا الصلاة أمامك ' وأما
الجمع بينهما بأذان وإقامة فلرواية جابر ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعل كذلك ' ولأن العشاء في وقتها
فلا حاجة إلى الإعلام بوقتها بخلاف العصر يوم عرفة ، ولا يتطوع بينهما لأنه يقطع الجمع ،
فإن تطوع أو اشتغل بشيء آخر أعاد الإقامة ، لأنه انقطع حكم الإقامة الأولى ، ولو صلى
المغرب في الطريق أو بعرفة لم يجزه . وقال أبو يوسف : يجزيه لأنه صلاها في وقتها . ولنا
ما تقدم من حديث أسامة ، ويقضيها ما لم يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر فلا قضاء ، لأنه فات
وقت الجمع ، وينبغي أن ينزل بقرب الجبل الذي عليه الميقدة لأنه عليه الصلاة والسلام
وقف هناك ( ويبيت بها ) وهي سنة .
قال : ( ثم يصلي الفجر بغلس ) كذا روى ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام ،
وليتفرغ للوقوف والدعاء ( ثم يقف بالمشعر الحرام ) ويدعو ويجتهد في الدعاء كما مر بعرفة ؛
ويستحب أن يقول إذا نزل بها : اللهم هذه مزدلفة وجمع ، أسألك أن ترزقني جوامع الخير ،
واجعلني ممن سألك فأعطيته ودعاك فأجبته ، وتوكل عليك فكفيته ، وآمن بك فهديته ، وإذا
فرغ من الصلاتين يقول : اللهم حرم لحمي وشعري ودمي وعظمي وجميع جوارحي على
النار يا أرحم الراحمين ، ويسأل الله تعالى إرضاء الخصوم فإن الله تعالى وعد ذلك لمن طلبه
في هذه الليلة ؛ ويستحب أن يقف بعد صلاة الفجر مع الإمام ويدعو ، قال الله تعالى :
) فاذكروا الله عند المشعر الحرام ( [ البقرة : 198 ] ويستحب أن يكبر ويهلل ويلبي ويقول :
اللهم أنت خير مطلوب وخير مرغوب إليه ، إلهي لكل وفد جائزة وقرى فاجعل اللهم
جائزتي وقراي في هذا المقام أن تتقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي ، وتجمع على الهدى(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
أمري ، وتجعل اليقين من الدنيا همي ، اللهم ارحمني وأجرني من النار ، وأوسع عليّ الرزق
الحلال ، اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف ، وارزقنيه أبدا ما أحييتني برحمتك يا أرحم
الراحمين .
( والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' المزدلفة كلها
موقف إلا وادي محسر ' . قال : ( ثم يتوجه إلى منى قبل طلوع الشمس ) كذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ويمشي بالسكينة ، فإذا بلغ بطن محسر أسرع مقدار رمية حجر ماشيا كان أو راكبا ، هكذا
فعله عليه الصلاة والسلام ( ف ) إذا وصل إلى منى ( يبتدئ بجمرة العقبة يرميها بسبع
حصيات من بطن الوادي يكبر مع كل حصاة ولا يقف عندها ، ويقطع التلبية مع أول حصاة )
لما روى جابر ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أتى منى لم يعرج إلى شيء حتى رمى جمرة العقبة بسبع
حصيات ، وقطع التلبية عند أول حصاة رماها ، وكبر مع كل حصاة ، ثم نحر ، ثم حلق
رأسه ، ثم أتى مكة فطاف بالبيت ' ويرمي من بطن الوادي من أسفل إلى أعلى ، ويجعل
منى عن يمينه والكعبة عن يساره ، ويقف حيث يرى موضع الحصاة ، هكذا نقل عنه عليه
الصلاة والسلام وهو مثل حصى الخذف . قال عليه الصلاة والسلام للفضل بن العباس غداة
يوم النحر : ' ائتني بسبع حصيات مثل حصى الخذف ، فأتاه بهن ، فجعل يقلبهن ويقول :
بمثلهن بمثلهن لا تغلو ' والخذف : أن يضع الحصاة على رأس السبابة ، ويضع إبهامه عليها
ثم يرمي بها . واختلفوا في مقدارها ، والمختار قدر الباقلاء ، ولو رمى بحجر أكبر أو أصغر
جاز لحصول الرمي ، ويقول عند الرمي : بسم الله والله أكبر رغما للشيطان وحزبه ؛ ويجوز
الرمي بكل ما كان من جنس الأرض ، ولا يجوز بما ليس من جنسها ، ومن أي موضع أخذه
جاز إلا الحصاة المرمي بها فإنه يكره لأنها حصى من لم يقبل حجه ، فقد جاء في الحديث
' ومن قبل حجه رفع حصاه ' ولأنه رمى به مرة فأشبه الماء المستعمل ، وكيف ما رمى
جاز ، وعدد حصى الجمار سبعون : جمرة العقبة يوم النحر سبعة ، وثلاثة أيام منى كل يوم
ثلاث جمرات بإحدى وعشرين ؛ وقد استحب بعضهم غسل الحصى ليكون طاهرا بيقين .(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
قال : ( ثم يذبح إن شاء ) لأنه مسافر وهو مفرد ولا وجوب عليه ( ثم يقصر أو يحلق
وهو أفضل ) قال عليه الصلاة والسلام : ' إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح ثم
نحلق ' ولأن الحلق من محظورات الإحرام فيؤخر عن الذبح ، والحلق أفضل لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' يغفر الله للمحلقين ' ، قيل : يا رسول الله وللمقصرين ، فقال : ' يغفر الله
للمحلقين ' ، قالها ثلاثا ، ثم قال : ' وللمقصرين ' وإن لم يكن على رأسه شعر أجرى
الموسى على رأسه تشبيها بالحلق كالتشبيه بالصوم عند العجز عن الصوم ؛ والسنة حلق
الجميع فإن نقص من ذلك فقد أساء لمخالفة السنة ، ولا يجوز أقل من الربع ونظيره مسح
الرأس في الوضوء في الاختلاف والدلائل ، والتقصير : أن يأخذ من رؤوس شعره وأقله مقدار
الأنملة ، ويستحب أن يدفن الشعر . قال الله تعالى : ) ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا (
[ المرسلات : 26 ] ويستحب أن يقول عند الحلق : اللهم هذه ناصيتي بيدك ، فاجعل لي بكل
شعرة نورا يوم القيامة يا أرحم الراحمين . ( وحل له كل شيء إلا النساء ) لقوله عليه الصلاة
والسلام فيه : ' حل له كل شيء إلا النساء ' .
قال : ( ثم يمشي إلى مكة فيطوف طواف الزيارة من يومه أو من غده أو بعده ، وهو
ركن إن تركه أو أربعة أشواط منه بقي محرما حتى يطوفها . وصفته : أن يطوف بالبيت سبعة
أشواط لا رمل فيها ولا سعي بعدها ، وإن لم يكن طاف للقدوم رمل وسعى وحل له النساء )
ويسمى أيضا طواف الإفاضة ، والأفضل أن يطوفه أول أيام النحر ، لأنه عليه الصلاة والسلام
لما رمى جمرة العقبة ذبح وحلق ومشى إلى مكة فطاف للزيارة ثم عاد إلى منى فصلى بها
الظهر ، ووقت الطواف أيام النحر . قال الله تعالى : ) فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (
[ الحج : 28 ] ثم قال : ) وليطوفوا بالبيت العتيق ( [ الحج : 29 ] جعل وقتهما واحدا ، فلو
أخره عنها لزمه شاة ، وكذا إذا أخر الحلق عنها أو أخر الرمي . وقال أبو يوسف ومحمد : لا
يلزمه لأنه استدرك ما فاته ؛ وله حديث ابن مسعود : ' من قدم نسكا على نسك فعليه دم '
ولأن ما هو مؤقت بالمكان وهو الإحرام يجب بتأخيره عنه دم ، فكذا ما هو مؤقت بالزمان(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وهو ركن لأنه المراد بقوله تعالى : ) وليطوفوا ( فكان فرضا ، فإن تركه أو أربعة أشواط منه
بقي محرما حتى يطوفها . أما إذا تركه فلما بينا أنه ركن . وأما إذا ترك أربعة أشواط فهو
الأكثر ، وللأكثر حكم الكل ، فكأنه لم يطف أصلا ، ولا رمل فيه ولا سعى بعده إن كان أتى
بهما في طواف القدوم لأنهما شرعا مرة واحدة ، وإن لم يكن فعلهما أتى بهما في هذا
الطواف وقد بيناه ، وحل له النساء لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا طفتم بالبيت حللن
لكم ' ولأنه أتى بما عليه من فرائض الحج التي عقد لها الإحرام ، ويطوف على قدميه حتى
لو طاف راكبا أو محمولا لغير عذر أعاد ما دام بمكة .
وإن خرج من غير إعادة فعليه دم ، وإن كان بعذر فلا شيء عليه وما روي ' أنه عليه
الصلاة والسلام طاف راكبا ' محمول على العذر حالة الكبر وكذا التيامن واجب ، وهو أن
يأخذ في الطواف عن يمينه من باب الكعبة حتى لو طاف منكوسا أو أكثره أعاد ما دام
بمكة ، فإن لم يعد فعليه دم ، فإذا طاف للزيارة عاد إلى منى فبات بها لياليها ، والمبيت بها
سنة لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإذا كان اليوم الثاني من أيام النحر ) وهو حادي عشر الشهر ويسمى
يوم القر لأنهم يقرون فيه بمنى ( رمى الجمار الثلاث بعد الزوال ) يبتدئ بالتي تلي مسجد
الخيف ( يرميها بسبع حصيات ثم يقف عندها مع الناس مستقبل الكعبة ) يرفع يديه حذاء
منكبيه بسطا يذكر الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويدعو الله
بحاجته . وعن أبي يوسف أنه يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ، اللهم إليك
أفضت ، ومن عذابك أشفقت ، وإليك رغبت ومنك رهبت ، فاقبل نسكي وعظم أجري
وارحم تضرعي واقبل توبتي واستجب دعوتي وأعطني سؤلي ، ثم يأتي الجمرة الوسطى
فيفعل كذلك ، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها ، ولو لم يقف عند الجمرتين
لا شيء عليه لأنه للدعاء .
قال : ( وكذلك يرميها في اليوم الثالث من أيام النحر بعد الزوال ) كما وصفنا ( وكذلك
في اليوم الرابع إن أقام ) وجميع ما ذكرنا من صفة الرمي والوقوف والدعاء مروي في حديث
جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال : ( وإن نفر إلى مكة في اليوم الثالث سقط عنه رمي اليوم الرابع )
ولا شيء عليه لقوله تعالى : ) فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ( [ البقرة : 203 ] والأفضل(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
أن يقف حتى يرمي اليوم الرابع لأنه أتم لنسكه ، فلو رماها في اليوم الرابع قبل الزوال جاز .
وقالا : لا يجوز لأن وقته بعد الزوال كما في اليومين الأولين ، وهو مروي عن عمر رضي الله
عنه . ولأبي حنيفة أنه لما جاز ترك الرمي أصلا فلأن يجوز تقديمه أولى ، وهو مروي عن
ابن عباس رضي الله عنهما .
قال : ( فإذا انفرد إلى مكة نزل بالأبطح ولو ساعة ) وهو المحصب وهو سنة ، لأنه عليه
الصلاة والسلام نزل به قصدا وهو نسك ، كذا روي عن عمر رضي الله عنه ( ثم يدخل مكة
ويقيم بها ) ويكثر فيها من أفعال الخير كالطواف والصلاة والصدقة والتلاوة وذكر الله تعالى ،
ويجتنب إنشاد الشعر وحديث الفحش وما لا يعنيه ، ففي الحديث النبوي ' أن الحسنة فيه
تضاعف إلى مائة ألف وكذلك السيئة ' ولهذا كره أبو حنيفة المجاورة خوفا من الوقوع فيما
لا يجوز فيتضاعف عليه العقاب بتضاعف السيئات حتى لو كان ممن يثق من نفسه ويملكها
عما لا ينبغي من الأفعال والأقوال ، فالمجاورة أفضل بالإجماع . قال : ( فإذا أراد العود إلى
أهله طاف طواف الصدر ) ويسمى طواف الوداع لأنه يصدر عن البيت ويودعه ، ( وهو سبعة
أشواط لا رمل فيها ولا سعي ) لما بينا ( وهو واجب على الأفاقي ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف ' بخلاف المكي فإنه لا يصدر عنه ولا
يودعه .
( ثم يأتي زمزم يستقي بنفسه ويشرب إن قدر ) فهو أفضل لما روي أنه عليه
الصلاة والسلام أتى زمزم ونزع بنفسه دلوا فشرب ثم أفرغ ماء الدلو عليه ويستحب أن
يتنفس في الشرب ثلاث مرات ، وينظر إلى البيت في كل مرة ويقول : بسم الله ،
والحمد لله ، والصلاة على رسول الله ؛ ويقول في المرة الأخيرة : اللهم إني أسألك رزقا
واسعا ، وعلما نافعا ، وشفاء من كل داء وسقم يا أرحم الراحمين ؛ ثم يمسح به وجهه
ورأسه ، ويصب عليه إن تيسر له ( ثم يأتي باب الكعبة ويقبل العتبة ) لما فيه من زيادة
التضرع ( ثم يأتي الملتزم ) وهو بين الباب والحجر الأسود ( فيلصق بطنه بالبيت ويضع
خده الأيمن عليه ويتشبث بأستار الكعبة ) كالمتعلق بطرف ثوب مولاه يستغيثه في أمر(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
عظيم ( ويجتهد في الدعاء ) فإنه موضع إجابة الدعاء جاء به الأثر ( ويبكي ) أو يتباكى
فإنه من علامات القبول .
( ويرجع القهقهرى حتى يخرج من المسجد ) ليكون نظره إلى الكعبة ؛ ويستحب أن
يقول عند الوداع : اللهم هذا بيتك الذي جعلته مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام
إبراهيم ومن دخله كان آمنا ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ،
اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا ولا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام وارزقني العود إليه
حتى ترضى عني برحمتك يا أرحم الراحمين .
قال : ( وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفة وقف بها ) على الوجه الذي بيناه
( سقط عنه طواف القدوم ) لأنه شرع في أفعال الحج ، فيجب عليه الإتيان بسائر أفعاله على
وجه الترتيب ، ولا دم عليه لأنه سنة فلا يجب بتركها شيء . قال : ( ومن اجتاز بعرفة نائما أو
مغمى عليه أو لا يعلم بها أجزأه عن الوقوف ) لوجود الركن وهو الوقوف ، ولإطلاق قوله
عليه الصلاة والسلام : ' من وقف بعرفة فقد تم حجه ' قال : ( والمرأة كالرجل ) لأن النص
يعمهما ( إلا أنها تكشف وجهها دون رأسها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إحرام المرأة في
وجهها ' ( ولا ترفع صوتها بالتلبية ) خوفا من الفتنة ( ولا ترمل ولا تسعى ) لأن مبنى أمرها
على الستر ، وفي ذلك احتمال الكشف ( وتقصر ولا تحلق ) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى
النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير ( وتلبس المخيط ) لأن في تركه خوف كشف العورة
( ولا تستلم الحجر إذا كان هناك رجال ) لأنها ممنوعة من مماستهم . قال : ( ولو حاضت عند
الإحرام اغتسلت وأحرمت ) لما مر في الرجل ( إلا أنها لا تطوف ) لأن الطواف في المسجد
وهي ممنوعة من دخول المسجد ( وإن حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة عادت ولا شيء
عليها لطواف الصدر ) لأنه عليه الصلاة والسلام رخص للحيض في طواف الصدر .(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
فصل
( العمرة سنة ) وينبغي أن يأتي بها عقيب الفراغ من أفعال الحج ، لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنه يزيد في العمر والرزق ، وينفيان الذنوب كما نفى
الكير خبث الحديد ' . وقال عليه الصلاة والسلام : ' الحج جهاد والعمرة تطوع ' وأنه
نص في الباب ، والآية محمولة على وجوب الإتمام ، وذلك يكون بعد الشروع ، ونحن
نقول بوجوب الإتمام بعد الشروع ، ولا حجة فيها على الوجوب ابتداء . قال : ( وهي :
الإحرام والطواف والسعي ثم يحلق أو يقصر ) للتحليل ، هكذا فعله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الوداع
( وهي جائزة في جميع السنة ) لأنها غير مؤقتة بوقت ( وتكره يومي عرفة والنحر وأيام التشريق )
منقول عن عائشة ، والظاهر أنه سماع من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأن عليه في هذه الأيام باقي أفعال
الحج ، فلو اشتغل بالعمرة ربما اشتغل عنها فتفوت ، ولو أداها فيها جاز مع الكراهة كصلاة
التطوع في الأوقات الخمسة المكروهة ( ويقطع التلبية في أول الطواف ) لأنه عليه الصلاة
والسلام قطعها لما استلم الحجر ، والله أعلم .
باب التمتع
وهو الجمع بين أفعال العمرة والحج في أشهر الحج في سنة واحدة بإحرامين بتقديم
أفعال العمرة من غير أن يلمّ بأهله إلماما صحيحا ، حتى لو أحرم قبل أشهر الحج وأتى
بأفعال العمرة في أشهر الحج كان متمتعا ، ولو طاف طواف العمرة قبل أشهر الحج أو أكثره
لم يكن متمتعا ، والإلمام الصحيح أن يعود إلى أهله بعد أفعال العمرة حلالا ( وهو أفضل من
الإفراد ) وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل ، لأن المفرد يقع سفره للحج والمتمتع للعمرة ،(1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وجه الظاهر أن سفر المتمتع يقع للحج أيضا ، وتخلل العمرة بينهما لا يمنع وقوعه للحج
كتخلل التنفل بين السعي والجمعة ، ولأن المتمتع يجمع بين نسكين من غير أن يلم بأهله
حلالا ، ويجب فيه الدم شكرا لله تعالى ، ولا كذلك المفرد .
( وصفته : أن يحرم بعمرة في أشهر الحج ، ويطوف ويسعى ) كما بينا ( ويحلق أو يقصر ،
وقد حل ) فهذه أفعال العمرة على ما بينا ( ثم يحرم بالحج يوم التروية ، وقبله أفضل ) يعني من
الحرم لأنه في معنى المكي ( ويفعل كالمفرد ) في طواف الزيارة ( ويرمل ويسعى ) لأنه أول
طواف أتى به ( وعليه دم التمتع ) لقوله تعالى : ) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من
الهدي ( [ البقرة : 196 ] ( فإن لم يجد صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة ) لقوله تعالى : ) فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ( [ البقرة : 196 ] والمراد وقت الحج ( ولو
صامها قبل ذلك وهو محرم جاز ) لأنها في وقت الحج .
قال : ( وسبعة إذا فرغ من أفعال الحج ) يعني بعد أيام التشريق ، لأنه المراد من قوله
تعالى : ) إذا رجعتم ( [ البقرة : 196 ] لأنه سبب للرجوع إلى الأهل . وقيل : المراد إذا
رجعتم من أفعال الحج فقد صام بعد السبب فيجوز ، ولو قدر على الهدي قبل صوم الثلاثة
أو بعده قبل يوم النحر لزمه الهدي وبطل صومه ، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود
بالبدل وهو التحلل ، وإن قدر عليه بعد الحلق قبل صوم السبعة لأهدى عليه لحصول
المقصود بالبدل . قال : ( فإن لم يصم الثلاثة لم يجزه إلا الدم ) كذا روي عن عمر وابنه وابن
عباس رضي الله عنهم ، ولا تقضى لأنها بدل ولا بدل للبدل ، ولأن الأبدال لا تنصب قياسا ،
ولا يجوز صومها أيام النحر لأنها وجبت كاملة ، فلا تتأدى بالناقص ، وإذا لم يصم الثلاثة لم
يصم السبعة ، لأن العشر وجبت بدلا عن التحلل ، وقد فاتح بفوات البعض فيجب الهدي ،
فإن لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان : دم التمتع ، ودم لتحلله قبل الهدي .
قال : ( وإن شاء أن يسوق الهدي أحرم بالعمرة وساق وفعل ما ذكرنا وهو أفضل ) لأنه
عليه الصلاة والسلام فعل كذلك ، ولما فيه من المسارعة وزيادة المشقة ، فإن ساق بدنة
قلدها بمزادة أو نعل ، لأنه عليه الصلاة والسلام قلد هداياه ، والإشعار مكروه عند أبي حنيفة(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
حسن عندهما . وصفته : أن يشق سنامها من الجانب الأيمن ، لهما ما روي أنه عليه الصلاة
والسلام فعل كذلك ، وكذا روي عن الصحابة . ولأبي حنيفة أنه مثلة فيكون منسوخا
لتأخير المحرم ؛ وقيل إنما كره أبو حنيفة الإشعار إذا جاوز الحد في الجرح ، وفعله عليه
الصلاة والسلام كان لأن المشركين كانوا لا يمتنعون عن التعرض له إلا بالإشعار ، أما اليوم
فلا .
قال : ( ولا يتحلل من عمرته ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من لم يسق الهدي فليحل
وليجعلها عمرة ، ومن ساق فلا يحل حتى ينحر معنا ' روته حفصة رضي الله عنها . قال :
( ويحرم بالحج ) كما تقدم ( فإذا حلق يوم النحر حل من الإحرامين ) لأنه محلل فيتحلل به
عنهما ( وذبح دم التمتع ) لما مر ( وليس لأهل مكة ومن كان داخل الميقات تمتع ولا قران )
لقوله تعالى : ) ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ( [ البقرة : 196 ] ولو خرج
المكي إلى الكوفة وقرن صح ولا يكون له تمتع ، لأنه إذا تحلل من العمرة صار مكيا ،
فيكون حجه من وطنه . قال : ( وإن عاد المتمتع إلى أهله بعد العمرة ولم يكن ساق الهدي
بطل تمتعه ) لأنه ألمّ بأهله إلماما صحيحا فانقطع حكم السفر الأول ( وإن ساق لم يبطل ) وقال
محمد : يبطل أيضا لأنه أتى بالحج والعمرة في سفرتين حقيقة ، ولهما أنه لم يصح إلمامه
لبقاء إحرامه ، فكان حكم السفر الأول باقيا ، وصار كأنه بمكة فقد أتى بهما في سفر واحد
حكما .
باب القران
وهو الجمع بين العمرة والحج بإحرام واحد في سفرة واحدة ( وهو أفضل من التمتع )
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال : صل في هذا الوادي
المبارك ركعتين وقل : لبيك بحجة وعمرة معا ' . وقال عليه الصلاة والسلام : ' يا آل محمد(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
أهلوا بحجة وعمرة معا ' ولأنه أشق لكونه أدوم إحراما وأسرع إلى العبادة وفيه جمع بين
النسكين ( وصفته : أن يهل بالحج والعمرة معا من الميقات ) لأن القران ينبئ عن الجمع
( ويقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني ) لما تقدم ، وكذا إذا أدخل
حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط لتحقق الجمع .
قال : ( فإذا دخل مكة طاف للعمرة وسعى ) على ما بيناه ( ثم يشرع في أفعال الحج
فيطوف للقدوم ) لقوله تعالى : ) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ( [ البقرة : 196 ] جعل الحج
نهاية للعمرة ، والترتيب إن فات في الإحرام لم يفت في حق الأفعال ، فيأتي بأفعال الحج
كما بينا في المفرد ، ولا يحلق بعد أفعال العمرة لأنه جناية على إحرام الحج ، ويحلق يوم
النحر كالمفرد ( فإذا رمى جمرة العقبة يوم النحر ذبح دم القران ، فإن لم يجد صام
كالمتمتع ) وقد بيناه ، وإن طاف القارن طوافين وسعى سعيين أجزأه ، لأنه أدى ما عليه وقد
أساء لمخالفته السنة ، ولا شيء عليه لأن طواف القدوم سنة وتركه لا يوجب شيئا ، فتقدمه
على السعي أولى ، وتأخير السعي بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم ، فكذا الاشتغال
بالطواف .
قال : ( وإذا لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها بطل قرانه ) لأنه عجز
عن تقديم أفعال العمرة كما هو المشروع في القران ، ولا يصير رافضا بالتوجه حتى يقف
هو الأصح عند أبي حنيفة بخلاف مصلى الظهر يوم الجمعة حيث تبطل بمجرد السعي لأنه
مأمور ثم بالسعي بعد الظهر ، وههنا هو منهي عن التوجه إلى عرفة قبل أداء العمرة
فافترقا .
قال : ( وسقط عنه دم القران ) لأنه لم يوفق لأداء النسكين ( وعليه دم لرفضها ) لأنه رفض
إحرامه قبل أداء أفعال المتعة ( وعليه قضاء العمرة ) لشروعه فيها .(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
باب الجنايات
( إذا طيب المحرم عضوا فعليه شاة ) لأن الطيب من محظورات الإحرام لا يعرف فيه
خلاف ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الحاج الشعث التفل ' وهو الذي ترك الطيب من التفل
وهو الرائحة الكريهة . وروي ' المحرم أشعث أغبر ' وقد نهى عليه الصلاة والسلام أن
يلبس المحرم من الثياب ما مسه ورس أو زعفران ، فما ظنك بما فوقه من الطيب ؟ وقال
عليه الصلاة والسلام في حديث المعتدة : ' الحناء طيب ' فإذا تطيب فقد جنى على إحرامه
فتلزمه الكفارة ، فإن طيّب عضوا كاملا كالرأس والساق ونحوهما فقد حصل الارتفاق الكامل
فتجب شاة ، وما دون العضو الجناية قاصرة فتجب صدقة وهي مقدرة بنصف صاع بر لأنه
أقل صدقة وجبت شرعا كالفداء والكفارة وصدقة الفطر ونحوها ، وكل ما له رائحة طيبة
مستلذة ، فهو طيب كالمسك والكافور والحناء والورس والزعفران والعود والغالية والخيري
والبنفسج ونحوها ، وكذا الدهن المطيب ، وهو ما طبخ فيه الرياحين كالبنفسج والورد ،
والوسمة ليست بطيب ، وأما الزيت والشيرج فطيب عند أبي حنيفة وفيه دم ، لأنه أصل
الطيب وفيهما إزالة الشعث ، وعندهما فيه صدقة لأنه ليس له رائحة مستلذة إلا أن فيه إزالة
بعض الشعث فتجب صدقة .
قال : ( وإن لبس المخيط أو غطى رأسه يوما فعليه شاة ) أيضا لأنهما من محظورات
الإحرام أيضا لما بينا ، فإن كان يوما كاملا فهو ارتفاق كامل ، لأن المعتاد أن يلبس الثوب يوما
ثم ينزع فتجب شاة ، وفيما دون ذلك صدقة لقصور الجناية وقد مر . وعن أبي يوسف أنه اعتبر
أكثر اليوم إقامة للأكثر مقام الكل . وعن أبي حنيفة : إذا غطى ربع رأسه فعليه شاة كالحلق ،
وأنه معتاد بعض الناس . وعن أبي يوسف الأكثر لما تقدم . قال : ( وإن حلق ربع رأسه فعليه
شاة ) لأن فيه إزالة الشعث والتفل فكان جناية على الإحرام ، ثم الربع قائم مقام الكل في
الرأس وهو عادة بعض الناس فكان ارتفاقا كاملا فتجب شاة ( وكذلك موضع المحاجم ) لأنه(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
مقصود بالحلق وفيه إزالة الشعث فيجب الدم ، وقالا فيه صدقة لأنه حلق لغيره وهي الحجامة
وليست من المحظورات فكذا هذا إلا أن فيه إزالة شيء من الشعث فتجب صدقة .
قال : ( وفي حلق الإبطين أو أحدهما أو الرقبة أو العانة شاة ) أيضا لأن كل ذلك ارتفاق
كامل مقصود بالحلق ، وهو عضو كامل فتجب شاة . قال : ( ولو قص أظافر يديه ورجليه أو
واحدة منها فعليه شاة ) أما الجميع فلأنه ارتفاق تام مقصود ، وفيه إزالة الشعث فكان محظورا
إحرامه فتجب شاة ، وكذا أحد الأعضاء الأربعة لأنه ارتفاق كامل ، وإنما يجب في الكل دم
واحد لاتحاد الجنس ، وهذا إذا قصها في مجلس واحد ، فأما إذا كان في مجالس يجب بكل
عضو دم .
وقال محمد : يجب في الكل دم واحد لأنه عقوبة فتتداخل . ولنا أن فيه معنى العبادة
فلا تتداخل إلا عند اتحاد المجلس كسجدة التلاوة .
قال : ( ولو طاف للقدوم أو للصدر جنبا أو للزيارة محدثا فعليه شاة ) لأنه أدخل النقص
في الركن وهو طواف الزيارة فتجب الشاة ، وفي الطوافين وجبت الشاة في الجنابة إظهارا
للتفاوت ، وطواف القدوم وإن كان سنة فإنه يصير بالشروع واجبا ، ولو طاف للعمرة جنبا أو
محدثا فعليه شاة ، لأنه ركن فيها ، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية ؛ والحائض كالجنب
لاستوائهما في الحكم ، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم لأنه أتى بها على وجه
المشروع فصارت جنايته متداركة فسقط الدم .
قال : ( وإن أفاض من عرفة قبل الإمام فعليه شاة ) إما لأن امتداد الوقوف إلى الغروب
واجب لما تقدم ، أو لأن متابعة الإمام واجبة وقد تركهما فتجب شاة ( فإن عاد إلى عرفة قبل
الغروب وإفاضة الإمام سقط عند الدم ) لأنه استدرك ما فاته ( وإن عاد قبل الغروب بعدما أفاض
الإمام أو بعد الغروب لم يسقط ) لأنه لم يستدرك ما فاته .
قال : ( وإن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها ، أو طواف الصدر أو أربعة
منه ، أو السعي أو الوقوف بالمزدلفة فعليه شاة ) أما الثلاثة من طواف الزيارة فلأنه قليل بالنسبة
إلى الباقي فصار كالحدث بالنسبة إلى الجناية ( وإن طاف للزيارة وعورته مكشوفة أعاد ما دام(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
بمكة ، وإن لم يعد فعليه دم ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يطوفن بالبيت عريان ' وإن
كان على ثوبه نجاسة لا شيء عليه ويكره . وأما ترك طواف الصدر أو أربعة منه فلتركه
الواجب ، وللأكثر حكم الكل ، ويؤمر بالإعادة ما دام بمكة ويسقط الدم ، وكذا السعي
والوقوف بالمزدلفة لأنهما واجبان .
قال : ( ولو ترك رمي الجمار كلها أو يوم واحد ، أو جمرة العقبة يوم النحر فعليه شاة )
معناه أنه تركها حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق ، لأنه ترك واجبا من جنس واحد ،
وإن لم تغرب الشمس يرميها على الترتيب ، لكن يجب الدم لتأخيرها عنده ، خلافا لهما على
ما بينا ، وترك رمي يوم واحد عبادة مقصودة ، وكذا جمرة العقبة يوم النحر فتجب شاة ( وإن
ترك أقلها تصدق لكل حصاة نصف صاع بر ) إلا أن يبلغ قيمته شاة فينقصه ما شاء .
قال : ( وإن حلق أقل من ربع رأسه تصدق بنصف صاع بر ) لأن الربع مقصود معتاد عند
بعض الناس كالسواد والبادية ، فكان ارتفاقا كاملا ، وما دونه ليس في معناه ، فتجب الصدقة
( وكذا إن قص أقل من خمسة أظافر ) لأنه لا يحصل بذلك الزينة بل يشينه ويؤذيه إذا حك
جسده ، ويجب في كل ظفر نصف صاع بر ، إلا أن يبلغ قيمة دم فينقص ما شاء ( وكذلك إن
قص خمسة متفرقة ) وقال محمد : عليه دم كما إذا كانت من يد واحدة . ولنا أن الجناية
تتكامل بالارتفاق الكامل وبالزينة ، وهذا القص يشينه ويؤذيه كما بينا ، والجناية إذا نقصت
تجب الصدقة .
قال : ( ولو طاف للقدوم أو للصدر محدثا فكذلك ) إظهارا للتفاوت بين الحدث
والجنابة ، وذلك بإيجاب الصدقة ، فكذا لو ترك ثلاثة أشواط من الصدر لنقصانه في كونه
جناية عن الكل فتجب الصدقة . قال : ( وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة ، وكذلك الحائض )
لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة ، لأنها أعظم
فتعظم العقوبة ، وهو مروي عن ابن عباس ، والأولى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه ،
فإن أعاد فلا شيء عليه ، لأنه استدرك ما فاته في وقته . قال : ( وإن تطيب أو لبس حلق لعذر(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
إن شاء ذبح شاة ، وإن شاء تصدق بثلاثة أصوع من طعام على ستة مساكين ، وإن شاء صام
ثلاثة أيام ) لقوله تعالى : ) ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا
أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ( [ البقرة : 196 ] تقديره فحلق ففدية ،
وقد فسرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما ذكرناه ، ثم الصدقة والصوم يجزئ في أي مكان شاء
لأنهما قربة في جميع الأماكن على جميع الفقراء . وأما الذبح فلا يجوز إلا بالحرم ، لأنه لم
يعرف قربة إلا في زمان مخصوص أو مكان مخصوص وكذا كل دم وجب في الحج جناية أو
نسكا .
قال : ( ومن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة ، ويمضي
في حجه ويقضيه ) وكذلك المرأة إن كانت محرمة . أما فساد الحج فلوجود المنافي ، قال
تعالى : ) فلا رفث ( [ البقرة : 197 ] وهو الجماع .
وقال ابن عباس : المحرم إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة ، ومثله لا
يعرف إلا توقيفا ، ولأن الوطء صادق إحراما غير متأكد حتى لا يلحقه الفوات فيفسد ،
بخلاف ما بعد الوقوف لأنه تأكد حتى لا يلحقه الفوات . أما وجوب الشاة والمضي والقضاء
فلما تقدم من حديث ابن عباس . ' وسئل ( صلى الله عليه وسلم ) عمن جامع امرأته وهما محرمان ؟ قال : يريقان
دما ويمضيان في حجتهما ويحجان من قابل ' .
( ولا يفارق امرأته إذا قضى الحج ) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر المفارقة لما سئل
عنها ، ولو وجب لذكره كغيره تنبيها على الحكم ، ولأن النكاح قائم ، ولا موجب للمفارقة ؛
أما قبل الإحرام فلأنه يحل له جماعها فلا معنى للمفارقة ؛ وأما بعده فلأنهما إذا ذكرا ما(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
وجدا من التعب وزيادة النفقة يحترزان عن ذلك أكثر من غيرهما ، وكذا في موضع الجماع
حتى لو خافا العود يستحب لهما المفارقة .
قال : ( وإن جامع بعد الوقوف لم يفسد حجه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' الحج
عرفة ، فمن وقف بعرفة فقد تم حجه ' .
قال : ( وعليه بدنة ) منقول عن ابن عباس ولأنه لما لم يجب القضاء علمنا أنه
شرع لجبر نقص تمكن في الحج ، والنقصان في الجماع فاحش وجناية غليظة ، فتغلظ
الكفارة فتجب بدنة ، بخلاف ما قبل الوقوف لأن الجابر ثم هو القضاء ، وإنما وجبت
الشاة لرفضه الإحرام قبل أوانه فافترقا ، وإن جامع ثانيا بعد الوقوف عليه شاة ، لأن
الأول صادق إحراما متأكدا محترما ، والثاني صادق إحراما منخرما منتهكا بالوطء فخفت
الجناية .
قال : ( وإن جامع بعد الحلق ، أو قبل ، أو لمس بشهوة فعليه شاة ) لبقاء الإحرام في
حق النساء ، وسواء أنزل أو لم ينزل ؛ وكذا إذا جامع فيما دون الفرج ، وكذا إذا جامع بهيمة
فأنزل ، أو عبث بذكره فأنزل ، لأنه قضاء الشهوة باللمس ، ولا شيء عليه بالنظر وإن أنزل
لأنه ليس في معنى الجماع .
قال : ( ومن جامع في العمرة قبل طواف أربعة أشواط فسدت ) لوجود المنافي ( ويمضي
فيها ويقضيها ) لأنها لزمت بالإحرام كالحج ( وعليه شاة ) لوجود الجناية ، وهو الارتفاق الكامل
على إحرامه ( وإن جامع فيها بعد أربعة أشواط لم تفسد ) لوجود الأكثر ( وعليه شاة ) لأنها
سنة ، فتكون الجناية أنقص ، فيظهر التفاوت في الكفارة ؛ ولو جامع القارن قبل طواف العمرة
فسدت عمرته وحجته لما تقدم ، وعليه شاتان لجنايته على إحرامين ؛ ولو جامع بعد طواف
العمرة أو أكثره قبل الوقوف تمت عمرته وفسد حجه لما بينا ؛ ولو جامع بعد الوقوف قبل
الحلق فعليه بدنة للحج وشاة للعمرة كما لو انفردا .
قال : ( والعامد والناسي سواء ) لأن حالات الإحرام مذكرة كحالات الصلاة فلا يعذر
النسيان ، وكذلك إذا جومعت النائمة والمكرهة لوجود الارتفاق بالجماع .(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
فصل
( إذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء ) والأصل في ذلك قوله
تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله
تعالى : ) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( [ المائدة : 96 ] والصيد : هو الحيوان
المتوحش في أصل الخلقة ، الممتنع بجناحيه أو بقوائمه ، إلا الخمس الفواسق المستثناة
بالحديث فإنها تبدأ بالأذى ، وقد تقدم الكلام فيها ، وصيد البر ما كان توالده في البر .
أما الجزاء على القاتل فلقوله تعالى : ) فجزاء مثل ما قتل من النعم ( [ المائدة : 95 ]
أوجب الجزاء على القاتل . وأما الدال فلأنه فوّت على الصيد الأمن لأن بقاء حياة الصيد
بأمنه ، فإنه استحق الأمن إما بالإحرام لقوله تعالى : ) وأنتم حرم ( أو بدخوله الحرم لقوله
تعالى : ) ومن دخله كان آمنا ( [ آل عمران : 97 ] فإذا دل عليه فقد فوت الأمن المستحق
عليه فيجب الجزاء كالمباشر ، ولما روينا من حديث أبي قتادة . والدلالة أن لا يكون
المدلول عالما به ، ويصدقه حتى لو كان عالما به ، أو كذبه ودله آخر فصدقه فالجزاء
على الثاني ، ولو أعاره سكينا ليقتل الصيد إن كان معه سكين لا شيء عليه ، لأنه يتمكن
من قتله إلا بالإعارة ، وإن لم يكن معه سكين فعلى المعير الجزاء ، لأنه إنما تمكن من
قتله بإعارته .
( والمبتدئ والعائد والناسي والعامد سواء ) لوجود الجناية منهم وهو الموجب . قال :
( والجزاء أن يقوّم الصيد عدلان في مكان الصيد ، أو في أقرب المواضع منه ، ثم إن شاء
اشترى بالقيمة هديا فذبحه ، وإن شاء طعاما فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر ،
وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما ، فإن فضل أقل من نصف صاع ، إن شاء تصدق به ،
وإن شاء صام يوما ) والأصل فيه قوله تعالى : ) فجزاء مثل ما قتل من النعم ( إلى قوله : ) أو
عدل ذلك صياما ( [ المائدة : 95 ] . والأصل في المثل أن يكون مماثلا صورة ومعنى ، وأنه
غير معتبر بالإجماع ، ولا اعتبار للمثل صورة ، لأن بعضه خرج عن الإرادة بالإجماع
كالعصفور ونحوه ، فلا يبقى الباقي مرادا لئلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
واحد ، فتعين أن يعتبر المثل معنى وهو القيمة كما فيما لا نظير له ، وكما في حقوق العباد ،
وإذا كان المراد بالجزاء القيمة يقوّم العدلان اللحم لا الحيوان في مكان الصيد إن كان مما
يباع فيه الصيود .
وإن لم يكن مما يباع فيه كالبرية ففي أقرب المواضع منه ، ثم الخيار للقاتل إن شاء
اشترى بالقيمة هديا ، وهو ما تجوز به الأضحية إن بلغت قيمته ذلك ، ويذبحه بمكة لما
تقدم ، وإن لم تبلغ ما تجوز به الأضحية لا يذبحه ويتصدق به ؛ وقالا : يذبحه لإطلاق قوله
تعالى : ) هديا بالغ الكعبة ( [ المائدة : 95 ] ولأنه يتقرب به في الجملة إذا ولدته الأضحية
والهدي فإنه يذبح مع أمه . ولأبي حنيفة أن القياس يأبى التقرب بالإراقة لكونه إيلام البري
على ما عرف وإنما خالفناه في موارد النص وهي الأضحية والمتعة ، ولا يجوز فيهما هذا
فيبقى على الأصل وحيث جاز إنما جاز تبعا والكلام في جوازه أصلا ، وإن شاء اشترى
طعاما فأطعم كما ذكرنا كما في الفداء والكفارات ، وإن شاء صام على ما وصفنا كما في
الفداء ، وإنما يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة كما في كفارة اليمين ، وهو مذهب ابن عباس ،
وإنما يتخير القاتل لأن الخيار شرع رفقا به ، وذلك إنما يحصل إذا كان التعيين إليه والخيار
له ، فإن فضل أقل من نصف صاع أو كان الواجب ذلك ، إن شاء تصدق به لأنه كل
الواجب ، وإن شاء صام عنه يوما لعدم تجزي الصوم .
وقال محمد : الواجب المثل من حيث الصورة والجثة ، ففي الظبي والضبع شاة ، وفي
الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ، وفي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وما لا نظير
له كالحمام والعصفور تجب القيمة كما قالا ، له قوله تعالى : ) فجزاء مثل ما قتل من النعم (
[ المائدة : 95 ] .
والمثلية من حيث الصورة أولى ، لأن القيمة ليست مثلا للنعم . وعن جماعة من
الصحابة إيجاب النظير من حيث الخلقة ، وعنده الخيار إلى الحكمين ، فإن حكما بالهدي
يجب النظير ، وإن حكما بالطعام أو بالصيام فكما قالا ، لقوله تعالى : ) يحكم به ذوا عدل
منكم هديا ( [ المائدة : 95 ] نصب مفعول يحكم ، وجوابه ما قلنا ، ولأن الكفارة رفع عطف
على الجزاء ، وكذلك قوله : ) أو عدل ( [ المائدة : 95 ] رفع ، وإنما الحكمان يحكمان بالقيمة
لأن الواجب لو كان النظير لما احتاج إلى تقويمها ، فعلم أن ، الحكمين إنما يحكمان بالقيمة ثم
بالخيار إليه رفقا به كما بينا . وإن قتل ما لا يؤكل من السباع ففيه الجزاء لأنه صيد فيتناوله
إطلاق النص ، ولا يتجاوز بقيمته شاة ، لأن السبع وإن كبر لا يتجاوز قيمة لحمه قيمة لحم
شاة ، لأنه غير منتفع به شرعا .
قال : ( ومن جرح صيدا أو نتف شعره ، أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه ) اعتبارا(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
للبعض بالكل ( وإن نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فعليه قيمته ) لأنه خرج به عن حيز
الامتناع فقد فوّت عليه الأمن فصار كما إذا قتله ، وكذلك كل فعل يخرج به عن حيّز الامتناع
( وإن كسر بيضته فعليه قيمتها ) لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك ، وكذا
روي عن علي وابن عباس ، ولو خرج منها فرخ ميت فعليه قيمته حيا ، لأنه كان بعرضية
الحياة وقد فوّتها فتجب قيمته احتياطا ؛ وكذلك لو ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا فعليه
قيمته لما بينا . وشجر الحرم لا يحل قطعه لمحرم ولا حلال . قال عليه الصلاة والسلام : ' لا
يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ' فصار كالصيد ، وشجر الحرم ما ينبت بنفسه ، أما إذا أنبته
الناس أو كان من جنس ما ينبته الناس فلا بأس بقطعه وقلعه ، لأن الناس اعتادوا الزراعة
والحصد من لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومنا من غير نكير . وعن أبي يوسف : لا بأس برعيه ،
لأن منع الدواب متعذر ، وجوابه الحديث ، ولأن القطع بالمشافر كالقطع بالمناجل .
قال : ( ومن قتل قملة أو جرادة تصدق بما شاء ) قال عمر رضي الله عنه : تمرة خير من
جرادة ، ولأن القملة من التفث حتى لو قتل قملة وجدها على الأرض لا شيء عليه ،
وكذلك القملتين والثلاث ، وإن كثر أطعم نصف صاع لكثرة الارتفاق . وعن أبي يوسف في
القملة يتصدق بكف من طعام ، وعن محمد بكسرة من خبز . قال : ( وإن ذبح المحرم صيدا
فهو ميتة ) لأنه فعل حرام فلا يكون ذكاة ( وله أن يأكل ما اصطاده حلال إذا لم يعنه ) لما مر
من حديث أبي قتادة ( وكل ما على المفرد فيه دم على القارن فيه دمان ) لأنه جناية على
إحرامين .
باب الإحصار
هو المنع والحبس ، ومنه حصار الحصون والمعاقل إذا منعوا عن التصرف في
مقاصدهم وأمورهم ، والحصور : الممنوع عن النساء .
وفي الشرع : المنع عن المضي في أفعال الحج بموانع نذكرها إن شاء الله تعالى
( المحرم إذا أحصر بعدو أو مرض أو عدم محرم أو ضياع نفقة ، يبعث شاة تذبح عنه(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
في الحرم ، أو ثمنها ليشتري بها ثم يتحلل ) والأصل في ذلك قوله تعالى : ) فإن أحصرتم فما
استيسر من الهدي ( [ البقرة : 196 ] والنبي عليه الصلاة والسلام أحصر هو وأصحابه عام
الحديبية حين أحرموا معتمرين فصدهم المشركون عن البيت ، فصالحهم عليه الصلاة والسلام
وذبح الهدي وتحلل ثم قضى العمرة من قابل . قالوا : وفيهم نزلت الآية ، فكل من أحرم
بحجة أو عمرة ثم منع من الوصول إلى البيت فهو محصر ، ويستوي في ذلك جميع ما ذكرنا
من الموانع ، لأن التحلل قبل أوانه إنما شرع دفعا للحرج الناشئ من بقائه محرما ، وهذا
المعنى يعم جميع ما ذكرنا من الموانع ، وكذلك ما في معناها كضلال الراحلة ومنع الزوج
والسيد إذا وقع الإحرام بغير أمرهما ؛ ومن قال إن الإحصار يختص بالعدو فهو مردود
بالكتاب .
قال الكسائي وأبو عبيدة : ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال منه أحصر فهو
محصر ؛ وما كان من حبس عدو أو سجن يقال حصر فهو محصور ؛ ونقل بعضهم إجماع
أئمة اللغة على هذا ، والنبي عليه الصلاة والسلام حصر بالعدو ، فعلمنا أن المراد ما يمنع من
المضي والوصول إلى البيت . وقوله : في الحرم إشارة إلى أنه لا يجوز خارج الحرم لقوله
تعالى : ) ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ( [ البقرة : 196 ] ومحله الحرم ، لأن
الهدي ما عرف قربة إلا بمكان مخصوص أو زمان مخصوص ، والزمان قد انتفى فتعين
المكان ، ولأنه لو جاز ذبحه حيث أحصر لكان محله فلا تبقى فائدة في قوله حتى يبلغ . وما
روي أنه عليه الصلاة والسلام ذبح بالحديبية حين أحصر بها ، فالحديبية بعضها من الحرم ،
فيحمل ذبحه عليه الصلاة والسلام فيه توقيفا بين الكتاب والسنة .
قال : ( ويجوز ذبحه قبل يوم النحر ) وقالا : لا كدم المتعة والقران . وجوابه أنه دم جناية
لتحلله قبل أوانه والجنايات لا تتوقف بخلاف المتعة والقران فإنهما دم نسك ، ولأن التأقيت
بالزمان زيادة على النص ، فلا يجوز ؛ ولو عجز عن الذبح لا يتحلل بالصوم ويبقى محرما
حتى يذبح عنه أو يزول المانع فيأتي مكة ويتحلل بأفعال العمرة ، ولو صبر حتى زال المانع
ومضى إلى مكة وتحلل بالأفعال لا هدي عليه . قال : ( والقارن يبعث شاتين ) لأنه يتحلل عن
إحرامين ، وقد أدخل النقص على كل واحد منهما .
قال : ( وإذا تحلل المحصر بالحج فعليه حجة وعمرة ) روي ذلك عن عمر وابن
مسعود ، ولأن الحجة تجب بالشروع فيها ؛ وأما العمرة فلأنه في معنى فائت الحج ، فيتحلل(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
بأفعال العمرة ، وقد عجز فيجب قضاؤها ( وعلى القارن حجة وعمرتان ) حجة وعمرة لما
ذكرنا ، وعمرة لصحة الشروع فيها ( وعلى المعتمر عمرة ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام
وأصحابه لما أحصروا بالحديبية عن المضي في العمرة وتحللوا قضوها حتى سميت عمرة
القضاء . قال : ( فإن بعث ثم زال الإحصار فإن قدر على إدراك الهدي والحج لم يتحلل
ولزمه المضي ) لأنه قدر على الأصل قبل تمام الخلف ( وإن قدر على أحدهما دون الآخر
تحلل ) أما إذا قدر على الهدي دون الحج فلا فائدة في المضي ؛ وأما بالعكس القياس أن لا
يتحلل لقدرته على الأصل ، والأفضل أن لا يتحلل ويمضي ويأتي بأفعال الحج ليأتي به على
الوجه الأكمل ، لكن استحسنوا وجوزوا له التحلل لأنه لما عجز عن إدراك الهدي على وجه
لا يضمنه الذابح صار كأنه قد ذبح فيتحلل ، ولأن الخوف على المال كالخوف على النفس ،
ولو خاف على النفس تحلل ، فكذا على المال . قال : ( ومن أحصر بمكة عن الوقوف وطواف
الزيارة فهو محصر ) لما بينا ( وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر ) لأنه إن قدر على الوقوف
فقد أمن فوات الحج ، وإن قدر على الطواف يصبر حتى يفوته الحج ، ثم يتحلل بأفعال
العمرة ولا دم عليه . وعن أبي حنيفة أنه ليس لأهل مكة إحصار ، لأن الدار دار الإسلام ،
بخلاف عام الحديبية حين أحصر عليه الصلاة والسلام .
باب الحج عن الغير
الأصل فيه حديث الخثعمية ، وهو ما روي أن امرأة من خثعم جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
فقالت : يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على
الراحلة أفيجزيني أن أحج عنه ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ' أرأيت لو كان على أبيك دين
فقضيتيه أما كان يقبل منك ' ؟ قالت : نعم ، قال : ' فالله أحق أن يقبل ' فدل ذلك على جواز
الحج عن الغير عند العجز ، وأنه يقع عن المحجوج عنه .
قال : ( ولا يجوز إلا عن الميت ، أو عن العاجز بنفسه عجزا مستمرا إلى الموت ) ولا(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
يجوز عن القادر ، لأن الحج عبادة بدنية وجبت للابتلاء ، فلا تجري فيها النيابة ، لأن الابتلاء
بإتعاب البدن وتحمل المشقة ، فيقع الفعل عن الفاعل إلا أنه يسقط الحج عن الآمر فيما
ذكرنا ، لأنه سبب لحصول الحج بالاتفاق ، فأقام الشرع السبب مقام المباشرة في حق
المأيوس نظرا له كالفدية في باب الصوم في حق الشيخ الفاني ، ويشترط دوام العجز إلى
الموت كالفدية أيضا ، لأنه قدر وجب عليه بنفسه . وعن محمد يقع عن الحاج لأنها عبادة
بدنية ، وللآمر ثواب النفقة . وقال في المحيط : يسقط عن الآمر حجه ويقع عن المأمور
تطوعا ، والمذهب المعتمد عليه وقوعه عن المحجوج عنه لما روينا .
قال : ( ومن حج عن غيره ينوي الحج عنه ) لأن الأعمال بالنيات ، والأصل أن كل
عامل يعمل لنفسه ، فلا بد من النية لامتثال الأمر ، ولأنه عبادة تجري فيها النيابة وهي غير
موقتة ، فجاز أن تقع عن غير من وجب عليه فينوي عنه ليقع عن الآمر ( ويقول : لبيك بحجة
عن فلان ) ولو لم ينو جاز لأنه تعالى مطلع على السرائر . قال : ( ويجوز حج الصرورة والمرأة
والعبد ) لوجود أفعال الحج والنية عن الآمر كغيرهم ، والصرورة : الذي لم يحج عن
نفسه ، والنبي عليه الصلاة والسلام جوز حج الخثعمية عن أبيها من غير أن يسألها هل
حجت عن نفسها أم لا ، ولو كان لسأله تعليما وبيانا ؛ والأولى أن يختار رجلا حرا عاقلا
بالغا قد حج ، عالما بطريق الحج وأفعاله ، ليقع حجه على أكمل الوجوه ويخرج به عن
الخلاف .
قال : ( ودم المتعة والقران والجنايات على المأمور ) أما دم المتعة والقران فلأنه وجب
شكرا حيث وفق لأداء النسكين ، وهو الذي حصلت له هذه النعمة ؛ وأما دم الجنايات فلأنه
هو الجاني ( ودم الإحصار على الآمر ) لأنه هو الذي ورطه فيه فيجب عليه خلاصه منه . وإن
حج عن ميت ففي مال الميت . ويعتبر من جميع المال لأنه يجب عليه خلاصه فصار دينا
عليه . وعن أبي يوسف أنه على الحاج لأنه وجب ليتحلل فيخلص عن ضرر امتداد الإحرام .
وجوابه ما ذكرنا من أنه هو الذي أوقعه فيه . قال : ( وإن جامع قبل الوقوف ضمن النفقة ) لأنه
مأمور بالحج الصحيح ، وهذا فاسد فقد خالف الأمر ( وعليه الدم ) لأن الجماع فعله ، وإن فاته(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
الحج لمرض أو حبس أو هرب المكاري أو ماتت الدابة ، فله أن ينفق من مال الميت حتى
يرجع إلى أهله . وعن محمد في نوادر ابن سماعة أن له نفقة ذهابه دون إيابه . وفي
قاضيخان : لو قطع الطريق على المأمور وقد أنفق بعض المال فمضى في الحج وأنفق من
مال نفسه وقع الحج عن نفسه ، وإن بقي في يده شيء من مال الميت فأنفق منه وقع عن
الميت ، وإن رجع وأنفق على نفسه من مال الميت لم يضمن إذا رجع الناس .
قال : ( وما فضل من النفقة يرده إلى الوصي أو الورثة أو الآمر ) لأنه لم يملكه ذلك
وإنما أعطاه ليقضي الحج فما فضل يرده إلى مالكه ، ولأنه لم يستأجره على ذلك ليملك
الأجرة لأنه لا يصح الإجارة عليه ، وسيأتيك في الإجارات إن شاء الله تعالى . قال : ( ومن
أوصى أن يحج عنه فهو على الوسط وهو ركوب الزاملة ) لأنه أعدل الأمور ؛ ومن مات وعليه
حجة الإسلام ولم يوصّ لا يجب على الوارث أن يحج عنه ، لأن الحج عبادة فلا تتأدى إلا
بنفسه حقيقة أو حكما بالاستخلاف ، وقضية هذا أنه لا يسقط عنه لو حج عنه غيره بغير
أمره ، إلا أنا قلنا لو حج الوارث عنه أو أحج سقط عنه استحسانا لحديث الخثعمية . ولما
روي أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها ؟ قال : ' نعم ' .
قال : ( ويحجون عن الميت من منزله ) لأنه المتعارف ، وكما لو كان حيا فحج ، وكذلك
إذا مات في طريق الحج فأوصى . وقالا : يحج عنه من حيث مات ، وكذلك لو مات المأمور
يحج عنه من منزله وعندهما حيث بلغ . لهما أن خروجه من بلده معتد به غير ساقط
بالاعتبار ، قال تعالى : ) ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد
وقع أجره على الله ( [ النساء : 100 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' من مات في طريق الحج
كتبت له حجة مبرورة في كل سنة ' ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا مات ابن
آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ' الحديث ، ولأن الحج لما لم يتصل بالخروج لم يبق وسيلة
إليه فلا يعتد به عن حجته ، وإن حصل الثواب بوعد الله ورسوله ( فإن لم تبلغ النفقة فمن
حيث تبلغ ) استحسانا ، لأن قصده سقوط الفرض ، فإذا لم يمكن على الكمال فبقدر الإمكان ،
وإذا بلغت الوصية أن يحج راكبا فليس لهم أن يحجوا مشاة ، وإن بلغت ماشيا من بلده
وراكبا من الطريق قال محمد : يحج راكبا من حيث تبلغ ، لأن الله تعالى إنما أوجب الحج(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
راكبا . وروى الحسن عن أبي حنيفة : أيهما شاء فعل ، لأن في كل واحد منهما قصورا من
وجه فيتخير ، فإن رجع المأمور وقال منعت ، وقد أنفق في رجوعه من مال الميت وكذبه
الورثة أو الوصي ضمن ، إلا أن يشهد له الظاهر بأن يكون مشهورا ، وإن ادعى الحج وكذباه
فالقول قوله ، وإن أقاما البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة لم تقبل ، فإن قامت على إقراره أنه
لم يحج قبلت ؛ وإن كان للميت غريم فأمر أن يحج عن الميت بماله عليه ، فادعى أنه حج
لم تقبل إلا ببينة .
باب الهدي
وهو اسم لما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه ( وهو من الإبل والبقر والغنم ) اعتبارا
بالضحايا ' وسئل عليه الصلاة والسلام عن الهدي فقال : ' أدناه شاة ' وأهدى عليه الصلاة
والسلام مائة بدنة ، والبقرة كالبدنة ولا خلاف في ذلك . قال : ( ولا يجزئ ما دون الشيء إلا
الجذع من الضأن ) لأنها قربة تتعلق بإراقة الدم فيعتبر بالضحايا ، قال عليه الصلاة والسلام :
' ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر عليكم ، فاذبحوا الجذع من الضأن ' . قال : ( ولا يذبح هدى
التطوع والمتعة والقران إلا يوم النحر ويأكل منها ) لقوله تعالى : ) فكلوا منها ( [ البقرة : 58 ]
ثم قال : ) ليقضوا تفثهم ( [ الحج : 29 ] وذلك يكون في أيام النحر ، وقد صح أنه عليه
الصلاة والسلام ساق مائة بدنة في حجة الوداع ذبح منها ثلاثا وستين بيده ، وذبح علي رضي
الله عنه الباقي ثم أمر أن يؤخذ بضعة من كل بدنة فوضعت في قدر ثم أكلا من لحمها
وحسوا من مرقها . وروى أنس أنه كان قارنا . قال : ( ويذبح بقية الهدايا متى شاء ، ولا
يأكل منها ) لأنها جنايات وكفارات فلا تتوقت بوقت ومصرفها الفقراء ، والأولى تعجيلها
لينجبر ما حصل من النقص في أفعاله . قال : ( ولا يذبح الجميع إلا في الحرم ) قال تعالى في
جزاء الصيد : ) هديا بالغ الكعبة ( [ المائدة : 95 ] وفي دم الإحصار ) حتى يبلغ الهدي
محله ( [ البقرة : 196 ] ولأن الهدي ما عرف قربة إلا في مكان معلوم وهو الحرم . قال عليه
الصلاة والسلام : ' منى كلها منحر ، وفجاج مكة كلها منحر ' . قال : ( والأولى أن يذبح(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
بنفسه إن كان يحسن الذبح ) لما روينا من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولأنها قربة ، فالأولى أن يفعلها
بنفسه إلا أن لا يحسن فيوليها غيره ، وينبغي أن يشهدها إن لم يذبحها بنفسه . قال عليه
الصلاة والسلام : ' يا فاطمة قومي فاشهدي ضحيتك ، فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من
دمها ' .
قال : ( ويتصدق بجلالها وخطامها ، ولا يعطى أجرة القصاب منها ) بذلك أمر عليه
الصلاة والسلام عليا رضي الله عنه . قال : ( ولا تجزئ العوراء ولا العرجاء التي لا تمشي
إلى المنسك ، ولا العجفاء التي لا تنقى ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا تجزئ في الضحايا
أربعة : العوراء البيّن عورها ، والعرجاء البيّن عرجها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعجفاء التي
لا تنقى ' أي لا نقى لها وهو المخ . قال : ( ولا مقطوعة الأذن ، ولا العمياء ) قال عليه
الصلاة والسلام : ' استشرفوا العين والأذن ' أي تأملوا سلامتهما ( ولا التي خلقت بغير أذن )
لفوات عضو كامل ( ولا مقطوعة الذنب ) لما بينا ( وإن ذهب البعض إن كان ثلثا فما زاد لا
يجوز ، وإن نقص عن الثلث يجوز ) لأن الثلث كثير بالنص ، وفي رواية الربع لقيامه مقام
الكل كما في مسح الرأس ، وقال أبو يوسف ومحمد : إن كان أقل من النصف يجوز ، لأن
الحكم للغالب . وفي النصف عن أبي يوسف روايتان .
قال : ( وتجوز الجماء والخصي والثولاء والجرباء ) أما الجماء فلأن القرن لا يتعلق به
مقصود ؛ وأما الخصي فلأنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين موجوءين ،
ولأن لحمه يكون أطيب ؛ وأما الثولاء فالمراد التي تعتلف حتى لو كانت لا تعتلف لا يجوز
لأنه يخل بالمقصود ؛ وأما الجرباء فلأن الجرب في الجلد ؛ أما اللحم الذي هو مقصود لا
نقصان فيه حتى لو هزلت بأن وصل الجرب إلى اللحم لا يجوز . قال : ( ولا يركب الهدي
إلا عند الضرورة ) لأن في ركوبها استهانة بها وتعظيمها واجب . قال تعالى : ) ومن يعظم(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) ^ [ الحج : 32 ] والتقوى واجب فيكون التعظيم واجبا وحالة
الضرورة مستثناة لما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها
ويلك ، قال : يا رسول الله إنها بدنة ، قال : اركبها ويلك ' قالوا : كان مجهودا فأمره
بالركوب للضرورة ( فإن نقصت بركوبه ضمنه وتصدق به ) لأنه بدل جزئها ، وكذلك إذا نقصت
من الحمل عليها لما بينا . قال : ( وإن كان لها لبن لم يحلبها ) لأنه جزء منها ، ولا يتصدق به
قبل بلوغ المحل ، وينضح ضرعها بالماء البارد ليذهب اللبن ؛ قالوا : وهذا إذا قرب من وقت
الذبح ، فأما إذا كان بعيدا حلبها دفعا للضرر عنها ، ويتصدق به لأنه جزء من الهدي ، وإن
استهلكه تصدق بقيمته ، وإن اشترى هديا فولد عنده ذبح الولد معه ، وإن شاء تصدق به ، لأن
للولد حكم الأم على ما عرف .
قال : ( وإن ساق هديا فعطب في الطريق ، فإن كان تطوعا فليس عليه غيره ) لتعينه بالنية
وقد فات ، وينبغي أن يذبحها ويصبغ نعلها : أي قلادتها بدمها ويضرب به صفحة سنامها ،
ولا يأكل منها هو ولا الأغنياء ، بذلك أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ناجية الأسلمي ، وليعلم الناس
أنه للفقراء دون الأغنياء ( وإن كان واجبا صنع به ما شاء ) لأنه لما خرج عما عينه عاد ملكا له
فيصنع به ما شاء ( وعليه بدله ) لأن الواجب باق في ذمته . قال : ( ويقلد هدي التطوع والمتعة
والقران دون غيرها ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام قلد هداياه وكانت تطوعا ، ولأنه نسك
فيليق به الإظهار ، والمراد بالهدي هنا البدن ؛ أما الغنم فلا يقلدها لعدم جريان العادة ؛ وأما
بقية الهدايا فلأنها جنايات واللائق فيها الستر ، ودم الإحصار وجب للتحلل قبل أوانه فكان
جناية .
فصل في زيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم )
ولما جرى الرسم أن الحاج إذا فرغوا من مناسكهم وقفلوا عن المسجد الحرام قصدوا
المدينة زائرين قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذ هي من أفضل المندوبات والمستحبات ، بل تقرب من درجة
الواجبات ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال : ' من وجد سعة ولم يزرني فقد
جفاني ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من زار قبري وجبت له شفاعتي ' وقال عليه(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
الصلاة والسلام : ' من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ' إلى غير ذلك من
الأحاديث ، ثم رأيت أكثر الناس غافلين عن آدابها ومستحباتها جاهلين بفروعها وجزئياتها ،
أحببت أن أذكر فيها فصلا عقيب المناسك من هذا الكتاب أذكر نبذا من الآداب فأقول :
ينبغي لمن قصد زيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكثر الصلاة عليه ، فقد جاء في الحديث أنه
يبلغه ويصل إليه ، فإذا عاين حيطان المدينة يصلي عليه ويقول : اللهم هذا حرم نبيك ،
فاجعله وقاية لي من النار ، وأمانا من العذاب وسوء الحساب ، ويغتسل قبل الدخول أو
بعده إن أمكنه ، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه فهو أقرب إلى التعظيم ، ويدخلها متواضعا
عليه السكينة والوقار ويقول : بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ، رب أدخلني مدخل صدق
إلى آخر الآية ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب
رحمتك وفضلك ؛ ثم يدخل المسجد فيصلي عند منبره ( صلى الله عليه وسلم ) ركعتين ، يقف بحيث يكون
عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن ، فهو موقفه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو بين قبره ومنبره .
قال عليه الصلاة والسلام : ' بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على
حوضي ' ثم يسجد شكرا لله تعالى على ما وفقه ويدعو بما أحب ؛ ثم ينهض فيتوجه إلى
قبره ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيقف عند رأسه ( صلى الله عليه وسلم ) مستقبلا للقبلة ، يدنو منه قدر ثلاثة أذرع أو أربعة ، ولا يدنو
منه أكثر من ذلك ، ولا يضع يده على جدار التربة فهو أهيب وأعظم للحرمة ، ويقف كما
يقف في الصلاة ، ويمثل صورته الكريمة البهية ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه نائم في لحده عالم به يسمع كلامه ،
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من صلى عليّ عند قبري سمعته ' وفي الخبر ' أنه وكل بقبره ملك يبلغه سلام
من سلّم عليه من أمته ' .
ويقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا صفي
الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا نبي الرحمة ، السلام عليك يا شفيع الأمة ،
السلام عليك يا سيد المرسلين ، السلام عليك يا خاتم النبيين ، السلام عليك يا مزمل ،
السلام عليك يا مدثر ، السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا أحمد ، السلام عليك وعلى
أهل بيتك الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، جزاك الله عنا
أفضل ما جزى نبيا عن قومه ، ورسولا عن أمته ؛ أشهد أنك قد بلغت الرسالة ، وأديت(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
الأمانة ، ونصحت الأمة ، وأوضحت الحجة ، وجاهدت في سبيل الله ، وقاتلت على دين الله
حتى أتاك اليقين ، فصلى الله على روحك وجسدك وقبرك صلاة دائمة إلى يوم الدين ؛ يا
رسول الله نحن وفدك وزوار قبرك ، جئناك من بلاد شاسعة ، ونواح بعيدة ، قاصدين قضاء
حقك والنظر إلى مآثرك ، والتيامن بزيارتك ، والاستشفاع بك إلى ربنا ، فإن الخطايا قد
قصمت ظهورنا ، والأوزار قد أثقلت كواهلنا ، وأنت الشافع المشفع ، الموعود بالشفاعة
والمقام المحمود ، وقد قال الله تعالى : ) ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله
واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ( [ النساء : 64 ] وقد جئناك ظالمين لأنفسنا ،
مستغفرين لذنوبنا ، فاشفع لنا إلى ربك ، واسأله أن يميتنا على سنتك ، وأن يحشرنا في
زمرتك ، وأن يوردنا حوضك ، وأن يسقينا كأسك غير خزايا ولا نادمين ، الشفاعة الشافعة يا
رسول الله ، يقولها ثلاثا ) ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( [ الحشر : 10 ]
الآية ، ويبلغه سلام من أوصاه فيقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان ،
يستشفع بك إلى ربك فاشفع له ولجميع المسلمين ، ثم يقف عند وجهه مستدبر القبلة ،
ويصلي عليه ما شاء .
ويتحول قدر ذراع حتى يحاذي رأس الصديق رضي الله عنه ويقول : السلام عليك يا
خليفة رسول الله ، السلام عليك يا صاحب رسول الله في الغار ، السلام عليك يا رفيقه في
الأسفار ، السلام عليك يا أمينه على الأسرار ، جزاك الله عنا أفضل ما جازى إماما عن الأمة
نبيه ، ولقد خلفته بأحسن خلف ، وسلكت طريقه ومنهاجه خير مسلك ، وقاتلت أهل الردة
والبدع ، ومهدت الإسلام ، ووصلت الأرحام ، ولم تزل قائلا الحق ، ناصرا لأهله حتى أتاك
اليقين ، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته ؛ اللهم أمتنا على حبه ولا تخيب سعينا في زيارته
برحمتك يا كريم ، ثم يتحول حتى يحاذي قبر عمر رضي الله عنه ، فيقول : السلام عليك يا
أمير المؤمنين ، السلام عليك يا مظهر الإسلام ، السلام عليك يا مكسر الأصنام ، جزاك الله
عنا أفضل الجزاء ، ورضي عمن استخلفك ، فلقد نصرت الإسلام والمسلمين حيا وميتا ،
فكفلت الأيتام ، ووصلت الأرحام ، وقوي بك الإسلام ، وكنت للمسلمين إماما مرضيا ،
وهاديا مهديا ، جمعت شملهم ، وأغنيت فقيرهم ، وجبرت كسرهم ، فالسلام عليك ورحمة الله
وبركاته .
ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول : السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله ورفيقه ووزيريه
ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين ، والقائمين بعده بمصالح المسلمين ، جزاكما الله
أحسن جزاء ، جئنا كما نتوسل بكما إلى رسول الله ليشفع لنا ويسأل ربنا أن يقبل سعينا ،
ويحيينا على ملته ، ويميتنا عليها ، ويحشرنا في زمرته ؛ ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمن أوصاه
بالدعاء ولجميع المسلمين ؛ ثم يقف عند رأسه ( صلى الله عليه وسلم ) كالأول ويقول : اللهم إنك قلت وقولك(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
الحق ) ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك ( [ النساء : 64 ] الآية ، وقد جئناك سامعين قولك
طائعين أمرك ، مستشفعين بنبيك إليك ، ربنا اغفر لنا ولأبائنا ولأمهاتنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان الآية ) ربنا آتنا في الدنيا حسنة ( [ البقرة : 201 ] الآية ) سبحان ربك رب العزة عما
يصفون ( [ الصافات : 180 ] إلى آخر السورة ، ويزيد في ذلك ما شاء وينقص ما شاء ، ويدعو
بما يحضره من الدعاء ويوفق له إن شاء الله تعالى .
ثم يأتي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه فيها حتى تاب الله عليه وهي بين القبر
والمنبر ، ويصلي ركعتين ويتوب إلى الله تعالى ويدعو بما شاء ؛ ثم يأتي الروضة وهي
كالحوض المربع ، وفيها يصلي أمام الموضع اليوم ، فيصلي فيها ما تيسر له ، ويدعو ويكثر
من التسبيح والثناء على الله تعالى والاستغفار ؛ ثم يأتي المنبر فيضع يده على الرمانة التي كان
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضع يده عليها إذا خطب ليناله بركة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويصلي عليه ويسأل الله ما
شاء ، ويتعوذ برحمته من سخطه وغضبه ؛ ثم يأتي الأسطوانة الحنانة ، وهي التي فيها بقية
الجذع الذي حنّ إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين تركه وخطب على المنبر ، فنزل ( صلى الله عليه وسلم ) فاحتضنه فسكن ،
ويجتهد أن يحيي ليله مدة مقامه بقراءة القرآن ، وذكر الله تعالى . والدعاء عند المنبر والقبر
وبينهما سرا وجهرا .
ويستحب أن يخرج بعد زيارته ( صلى الله عليه وسلم ) إلى البقيع ، فيأتي المشاهد والمزارات ، خصوصا
قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه ؛ ويزور في البقيع قبة العباس وفيها معه الحسن بن
علي وزين العابدين وابنه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق ، وفيه أمير المؤمنين عثمان ، وفيه
إبراهيم ابن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجماعة من أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعمته صفية وكثير من الصحابة والتابعين
رضي الله عنهم ، ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها بالبقيع ؛ ويستجب أن يزور شهداء
أحد يوم الخميس ، ويقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، سلام عليكم دار قوم
مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص ، ويستحب أن
يأتي مسجد قباء يوم السبت ، كذا ورد عنه عليه الصلاة والسلام ويدعو : يا صريخ
المستصرخين ، يا غياث المستغيثين ، يا مفرج كرب المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطرين ،
صل على محمد وآله ، واكشف كربي وحزني كما كشفت عن رسولك حزنه وكربه في هذا
المقام ، يا حنان يا منان ، يا كثير المعروف ، يا دائم الإحسان ، يا أرحم الراحمين .
تم الجزء الأول من ' الاختيار لتعليل المختار '
ويليه :
الجزء الثاني ، وأوله : كتاب البيوع .(1/190)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيوع
البيع في اللغة : مطلق المبادلة ، وكذلك الشراء ، سواء كانت في مال أو غيره . قال الله
تبارك وتعالى : ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ( [ التوبة : 111 ] وقال تعالى :
) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ( [ البقرة : 16 ] . وفي الشرع : مبادلة
المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكا ، فإن وجد تمليك المال بالمنافع فهو إجارة أو
نكاح ، وإن وجد مجانا فهو هبة ، وهو عقد مشروع ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والمعقول .
أما الكتاب فقوله تعالى : ) وأحل الله البيع ( [ البقرة : 275 ] وقال : ) إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم ( [ النساء : 29 ] . وأما السنة فلأنه ( صلى الله عليه وسلم ) بعث والناس يتبايعون فأقرهم عليه ، وقد
باع عليه الصلاة والسلام واشترى مباشرة وتوكيلا ، وعلى شرعيته الإجماع . والمعقول وهو
أن الحاجة ماسة إلى شرعيته ، فإن الناس محتاجون إلى الأعواض والسلع والطعام والشراب
الذي في أيدي بعضهم ولا طريق لهم إلا البيع والشراء ، فإن ما جبلت عليه الطباع من الشح
والضنة وحب المال يمنعهم من إخراجه بغير عوض ، فاحتاجوا إلى المعاوضة فوجب أن
يشرع دفعا لحاجته وركنه الإيجاب والقبول لأنهما يدلان على الرضا الذي تعلق به الحكم ،
وكذا ما كان في معناهما . وشرطه : أهلية المتعاقدين حتى لا ينعقد من غير أهل . ومحله :
المال لأنه ينبئ عنه شرعا . وحكمه : ثبوت الملك للمشتري في المبيع والبائع في الثمن إذا
كان باتا ، وعند الإجازة إذا كان موقوفا .(2/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
قال : ( البيع ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظي الماضي كقوله : بعت واشتريت ) لأنه
إنشاء ، والشرع قد اعتبر الإخبار إنشاء في جميع العقود فينعقد به ، ولأن الماضي إيجاب
وقطع ، والمستقبل عدة أو أمر وتوكيل ، فلهذا انعقد بالماضي . قال : ( وبكل لفظ يدل على
معناهما ) كقوله أعطيتك بكذا ، أو خذه بكذا ، أو ملكتك بكذا ، فقال : أخذت ، أو قبلت ، أو
رضيت ، أو أمضيت ، لأنه يدل على معنى القبول والرضى ، والعبرة للمعاني . وكذلك لو قال
المشتري : اشتريت بكذا ، فقال البائع : رضيت ، أو أمضيت ، أو أجزت لما ذكرنا . قال :
( وبالتعاطي ) في الأشياء الخسيسة والنفيسة ، نص عليه محمد لأنه يدل على الرضا المقصود
من الإيجاب والقبول . وذكر الكرخي أنه ينعقد بالتعاطي في الأشياء الخسيسة فيما جرت به
العادة ، ولا ينعقد فيما لم تجر به العادة ؛ ولو قال بعني : فقال : بعت ، أو قال : اشتر مني ،
فقال : اشتريت ، لا ينعقد حتى يقول اشتريت أو بعت ، لأن قوله بعني واشتر ليس بإيجاب
وإنما هو أمر ، فإذا قال : بعت أو اشتريت فقد وجد شطر العقد ، فلا بد من وجود الآخر
ليتم . وقيل : إذا نوى الإيجاب في الحال انعقد البيع وإلا فلا ، وعلى هذا أبيعك هذا العبد
أو أعطيكه ، فيقول الآخر أشتريه أو أقبله أو آخذه إن نوى الأصح وإلا فلا .
قال : ( وإذا أوجب أحدهما البيع فالآخر إن شاء قبل وإن شاء رد ) لأنه مخيّر غير مجبر
فيختار أيهما شاء ، وهذا خيار القبول ، ويمتد في المجلس للحاجة إلى التفكر والتروي
والمجلس جامع للمتفرقات ، ويبطل بما يبطل به خيار المخيرة لأنه يدل على الإعراض ،
وللموجب الرجوع لعدم إبطال حق الغير ، وليس للمشتري القبول في البعض ، لأنه تفريق
الصفقة وأنه ضرر بالبائع ، فإن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع لترويج
الرديء ، فلو صح التفريق يزول الجيد عن ملكه فيبقى الرديء فيتضرر بذلك ، وكذلك
المشتري يرغب في الجميع ، فإذا فرّق البائع الصفقة عليه يتضرر ( وأيهما قام قبل القبول بطل
الإيجاب ) لأنه يدل على الإعراض وعدم الرضا وله ذلك وشطر العقد لا يتوقف على قبول
الغائب كمن قال : بعت من فلان الغائب فبلغه فقبل لا ينعقد إلا إذا كان بكتابة أو رسالة ،
فيعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة ، وعلى هذا الإجارة والهبة والكتابة والنكاح ؛ ولو
تبايعا وهما يمشيان أو يسيران إن لم يفصلا بين كلاميهما بسكتة انعقد البيع ، وإن فصلا لم
ينعقد ؛ وقال بعضهم : ينعقد ما لم يتفرقا بالأبدان ، والأول أصح .(2/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
قال : ( فإذا وجد الإيجاب والقبول لزمهما البيع بلا خيار مجلس ) لأن العقد تم
بالإيجاب والقبول لوجود ركنه وشرائطه ، فخيار أحدهما الفسخ إضرارا بالآخر لما فيه من
إبطال حقه ، والنص ينفيه ؛ وما روي من الحديث محمول على خيار القبول ، هكذا قاله
النخعي لأن قوله المتبايعان يقتضي حالة المباشرة ، وقوله ما لم يتفرقا : أي بالأقوال لأنه
يحتمله فيحمل عليه توفيقا .
قال : ( ولا بد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة ) قطعا للمنازعة ، فإن كان حاضرا
فيكتفي بالمباشرة ، لأنها موجبة للتعريف قاطعة للمنازعة . وإن كان غائبا ، فإن كان مما يعرف
بالأنموذج كالكيلي والوزني والعددي المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع ، إلا أن يختلف
فيكون له خيار العيب ، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب والحيوان فيذكر له جميع
الأوصاف قطعا للمنازعة ويكون له خيار الرؤية . قال : ( ولا بد من معرفة مقدار الثمن وصفته
إذا كان في الذمة ) قطعا للمنازعة إلا إذا لم يكن في البلد نقود لتعينه ( ومن أطلق الثمن فهو
على غالب نقد البلد ) للتعارف . ولو قال : اشتريت هذا الدار بعشرة ، أو هذا الثوب بعشرة ،
أو هذا البطيخ بعشرة وهو في بلد يتعامل الناس بالدنانير والدراهم والفلوس ، انصرف في
الدار إلى الدنانير ، وفي الثوب إلى الدراهم ، وفي البطيخ إلى الفلوس بدلالة العرف ، وإن لم
يتعاملوا بها ينصرف إلى المعتاد عندهم .
قال : ( ويجوز بيع الكيلي والوزني كيلا ووزنا ومجازفة ) ومراده عند اختلاف الجنس ،
لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ' ولأنه لا ربا إلا عند
المقابلة بالجنس ، لأنه لا تتحقق الزيادة إلا فيه . قال : ( ومن باع صبرة طعام كل قفيز
بدرهم جاز في قفيز واحد ) عند أبي حنيفة إلا أن يعرف جملة قفزانها ، إما بالتسمية أو بالكيل
في المجلس . وقالا : يجوز في الكل لأن زوال الجهادة بيدها ولا تفضي إلى المنازعة . وله
أنه تعذر الصرف إلى الجميع للجهالة في المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل . وهو الواحد لأنه(2/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
معلوم . فإذا زالت الجهالة جاز في الجميع لزوال المانع ، وإذا جاز البيع في الواحد يثبت
للمشتري الخيار لتفرق الصفقة . قال : ( ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم لم يجز في شيء
منها والثياب ) والمعدود التفاوت ( كالغنم ) وعندهما يجوز في الكل لما مر . وله أن قضية ما
ذكرنا الجواز في واحد ، غير أن الواحد في هذه الأشياء يتفاوت فيؤدي إلى المنازعة فصار
كالمجهول فلا يجوز .
قال : ( فإن سمى جملة القفزان والذرعان والغنم جاز في الجميع ) لانتفاء الجهالة وزوال
المانع . قال : ( ومن باع دارا دخل مفاتيحها وبناؤها في البيع ) لأن المفاتيح تبع للأبواب ،
والأبواب متصلة بالبناء للبقاء ، والبناء متصل بالعرصة اتصال قرار ، فصارت كالجزء منها
فتدخل في البيع ، ولأن الدار اسم للعرصة والبناء فيدخل في بيع الدار ( وكذلك الشجر في
بيع الأرض ) لأن اتصاله كاتصال البناء بخلاف الزرع والثمرة ، لأن اتصالهما ليس للقرار فصار
كالمتاع ، ويقال للبائع : اقطع الثمرة واقلع الزرع وسلم المبيع ، لأنه يجب عليه تسليم المبيع
إلى المشتري عملا بمقتضى البيع ، ولا يمكن ذلك إلا بالتفريق فيجب عليه ذلك ، ولو
شرطهما دخلا في البيع عملا بالشرط . قال عليه الصلاة والسلام : ' من اشترى نخلا أو شجرا
فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع ' ولو اشترى دارا وذكر حدودها دخل السفل
والعلو والإصطبل والكنيف والأشجار ، لأن الدار اسم لما أدير عليه الحدود ، وأنه يدور على
جميع ما ذكرنا ؛ والبستان إذا كان خارج الدار إن كان أصغر منها دخل لأنه من توابع الدار
عرفا ، وإن كان مثلها أو أكبر لا يدخل إلا بالشرط لخروجه عن الحدود ؛ وتدخل الظلة
عندهما إذا كان مفتحها إليها ، لأنها تعد من الدار عرفا . وعند أبي حنيفة لا تدخل ، لأن أحد
طرفيها على حائط الدار فيتبعها ، والطرف الآخر على دار أخرى أو على أسطوانة فلا تتبعها ،
فلا تدخل بالشك حتى تذكر الحقوق ، والظلة : هي التي على ظهر الطريق وهو الساباط ،
ويدخل الطريق إلى السكة لأنه لا بد منه . ولو اشترى منزلا فوقه منزل لا يدخل إلا أن تذكر
الحقوق أو كل قليل وكثير ، لأن المنزل اسم لما يشتمل عليه مرافق السكنى ، لأنه من النزول
وهو السكنى ، والعلو مثل السفل في السكنى من وجه دون وجه ، فيكون تبعا من وجه أصلا
من وجه ، فإن ذكر الحقوق دخل وإلا فلا . ولو اشترى بيتا لا يدخل العلو وإن ذكر الحقوق
حتى ينص عليه ، لأن البيت ما يبات فيه ، وعلوه مثله في البيتوتة فلا يدخل فيه إلا بالشرط .(2/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
قال : ( ويجوز بيع الثمرة قبل صلاحها ) والمراد إذا كانت ينتفع بها للأكل أو العلف لأنه
مال متقوم منتفع به ؛ وأما إذا لم يكن منتفعا بها لا يجوز لأنه ليس بمال متقوم ( ويجب قطعها
للحال ) ليتفرغ ملك البائع ( وإن شرط تركها على الشجر فسد البيع ) لأنه إعارة أو إجارة في
البيع ، فيكون صفقتين في صفقة وأنه منهي عنه ، وكذا الزرع في الأرض ؛ وإن تركها بأمره
بغير شرط جاز وطاب الفضل ، وإن كان بغير أمره تصدق بالفضل لحصوله بأمر محظور ؛
وإن استأجر الشجر طاب له الفضل لوجود الإذن ، وبطلت الإجارة لأنه غير معتاد ؛ وكذا إذا
اشتراها بعدما تناهى عظمها يجب القطع للحال لما قلنا ، فإن تركها طاب الفضل ولم يتصدق
بشيء بكل حال لأنه لا زيادة وإنما هو تغير وصف ؛ فإن شرط بقاءها على الشجر جاز عند
محمد استحسانا للعرف ، بخلاف ما إذا لم تتناه في العظم لأنه يزداد بعد ذلك فقد أشرط
الجزء المعدوم فلا يجوز ؛ فإن خرج بعض الثمرة أو خرج الكل لكن بعضه منتفع به لا يجوز
البيع للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوم وغير المتقوم فتبقى حصة الموجود مجهولة ؛
وكان شمس الأئمة الحلواني والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يفتيان بجوازه في
الثمار والباذنجان ونحوهما ، جعلا المعدوم تبعا للموجود للتعامل دفعا للحرج بالخروج عن
العادة ، وعن محمد الجواز في بيع الورد لأنه متلاحق . قال شمس الأئمة السرخسي : والأول
أصح إذ لا ضرورة في ذلك لأنه يمكنه أو يشتري أصولها أن يشتري الموجود بجميع الثمن
ويحل له البائع ما يحدث ، ولو اشتراها مطلقا وأثمر ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع لتعذر
التمييز قبل التسليم ، وإن أثمرت بعد القبض يشتركان ، والقول للمشتري في قدره لأنه في يده
وهو منكر .
قال : ( ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها أرطالا معلومة ) لجهالة الباقي ، وقيل يجوز
لجواز بيعه ابتداء ؛ والأصل أن ما جاز بيعه ابتداء يجوز استثناؤه كبيع صبرة إلا قفيزا وقفيز
من صبرة ، بخلاف الحمل وأطراف الحيوان حيث لا يجوز استثناؤه لأنه لا يجوز بيعه ابتداء .
قال : ( ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره ) وكذا السمسم والأرز والجوز واللوز
لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ، ولأنه مال
منتفع به فيجوز بيعه وعلى البائع تخليصه بالدياس والتذرية ، وكذا قطن في فراش وعلى البائع
فتقه لأنه عليه تسليمه . أما جذاذ الثمرة وقطع الرطبة وقلع الجذور والبصل وأمثاله على
المشتري لأنه يعمل في ملكه وللعرف .(2/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
قال : ( ويجوز بيع الطريق وهبته ، ولا يجوز ذلك في المسيل ) لأن الطريق موضع من
الأرض معلوم الطول والعرض فيجوز ؛ والمسيل : موضع جريان الماء وهو مجهول لأنه يقل
ويكثر . قال : ( ومن باع سلعة بثمن سلمه أولا ) تحقيقا للمساواة بين المتعاقدين ، لأن البيع
يتعين بالتعيين ، والثمن لا يتعين إلا بالقبض ، فلهذا اشترط تسليمه ( إلا أن يكون مؤجلا ) لأنه
أسقط حقه بالتأجيل ولا يسقط حق الآخر ( وإن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن سلما معا )
تسوية بينهما . قال : ( ولا يجوز بيع المنقول قبل القبض ) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن
بيع ما لم يقبض ، ولأنه عساه يهلك فينفسخ البيع فيكون غررا ، وكذا كل ما ينفسخ العقد
بهلاكه كبدل الصلح والإجارة لما ذكرنا ، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه يجوز التصرف فيه قبل
القبض كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد لأنه لا غرر فيه . قال : ( ويجوز بيع العقار
قبل القبض ) وقال محمد : لا يجوز لإطلاق ما روينا وقياسا على المنقول . ولهما أن المبيع
هو العرصة ، وهي مأمونة الهلاك غالبا فلا يتعلق به غرر الانفساخ حتى لو كانت على شاطئ
البحر ، أو كان المبيع علوا لا يجوز بيعه قبل القبض ؛ والمراد بالحديث النقلي ، لأن القبض
الحقيقي إنما يتصور فيه وعملا بدلائل الجواز ، ثم إن كان نقد الثمن في البيع الأول فالثاني
نافذ وإلا فموقوف كبيع المرهون والإجارة على هذا الاختلاف . وقيل : لا يجوز بالاتفاق لأن
المعقود عليه المنافع ، وهلاكها غير نادر بهلاك البناء . قال : ( ويجوز التصرف في الثمن قبل
قبضه ) لقيام الملك ، ولا يتعين ولا يكون فيه غرر الانفساخ .
قال : ( وتجوز الزيادة في الثمن والسلعة ، والحط من الثمن ويلتحق بأصل العقد ) وقال
زفر : وهي مبتدأة لأنه لا يمكن جعله ثمنا ومثمنا ، لأنه يصير ملكه عوض ملكه فجعلناه هبة
مبتدأة . ولنا أن بالزيادة والحط غيّرا وصف العقد من الربح إلى الخسران أو بالعكس ، وهما
يملكان إبطاله فيملكان تغييره ، ولا بد في الزيادة من القبول في المجلس لأنها تمليك ،
ولا بد أن يكون المعقود عليه قائما قابلا للتصرف ابتداء حتى لا تصح الزيادة في الثمن بعد
هلاكه ، ويصح الحط بعد هلاك المبيع لأنه إسقاط محض والزيادة إثبات ، ولو حط بعض
الثمن والمبيع قائم التحق بأصل العقد ، وإن حط الجميع لم يلتحق لأنه يصير الثمن كأن لم
يكن فيبطل الحط ، وإذا صحت الزيادة يصير لها حصة من الثمن فيظهر ذلك في المرابحة
والتولية ، ولو هلكت قبل القبض سقط حصتها من الثمن .(2/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
قال : ( ومن باع بثمن حال ثم أجله صح ) لأنه حقه ؛ ألا ترى أنه يملك إسقاطه فيملك
تأجيله ؟ وكل دين حال يصح تأجيله لما ذكرنا إلا القرض لأنه صلة ابتداء حتى لا يجوز ممن
لا يملك التبرعات ، والتأجيل في التبرعات غير لازم كالإعارة معاوضة انتهاء ، ولا يجوز
التأجيل فيه لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئة وأنه حرام . قال : ( ومن ملك جارية يحرم
عليه وطؤها ودواعيه حتى يستبرئها بحيضة أو شهر أو وضع حمل ) وأصله قوله عليه الصلاة
والسلام في سبايا أوطاس : ' ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ، ولا الحيالى حتى يستبرئن
بحيضة ' نهى عن وطئ المملوكات بالسبي إلى غاية الاستبراء ، فيتعلق الحكم به عند
تجدد الملك بأي سبب كان كالشراء والهبة والوصية والميراث ونحوها ، والشهر كالحيضة عند
عدمها لما عرف ؛ وإن حاضت في أثناء الشهر انتقل إلى الحيضة كما في العدة ؛ والمعتبر ما
يوجد بعد القبض حتى لو حاضت أو وضعت قبل القبض يجب الاستبراء ، وكما يحرم الوطء
يحرم دواعيه احترازا عن الوقوع فيه كما في العدة ، بخلاف الحيض لأن الحرمة للأذى ولا
أذى في الدواعي ؛ ومن وطئ جاريته ثم أراد أن يبيعها أو يزوجها يستحب له أن يستبرئها ،
وإن لم يستبرئها فالأحسن للزوج أن يستبرئها .
وأما ممتدة الطهر ، قال أبو حنيفة : لا يطؤها حتى تتيقن بعدم الحمل ، وروي عنه
سنتان وهو الأحوط وهو قول زفر ، لأن الولد لا يبقى أكثر من سنتين على ما عرف . وعنه
أربعة أشهر وعشرة أيام ، وهو قول محمد لأنها عدة الوفاة للحرة تعرف بها براءة الرحم .
وعن محمد شهران وخمسة أيام لأنه عدة الأمة ، وعن أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ثلاثة
أشهر لأنها تعرف براءة الرحم في حق الآيسة والصغيرة . وعند الشافعي أربع سنين لأنه أكثر
مدة الحمل عنده . وقال أبو مطيع البلخي : تسعة أشهر لأنه المعتاد في مدة الحمل ؛ ويجب
الاستبراء إذا حدث له ملك الاستمتاع بملك اليمين ، سواء وطئها البائع أولا ، أو كان بائعها
ممن لا يطأ كالمرأة والصغير والأخ من الرضاع ، وكذا إن كانت بكرا . وعن أبي يوسف أنه
لا استبراء في هذه الصورة ، وهو قول مالك ، وعلى هذا الخلاف إذا حاضت في يد البائع
بعد البيع قبل القبض لأن الاستبراء للتعرف على براءة الرحم وهي ثابتة في هذه الصور
ظاهرا . وجه الأول أن سبب الاستبراء الإقدام على الوطء في ملك متجدد بملك اليمين ،
وحكمته التعرف عن براءة الرحم ، والحكم يدار على السبب لا على الحكمة ؛ ولو اشترى
امرأته فلا استبراء لأنه لا يجب صيانة مائه عن مائه .
قال : ( ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع معلما كان أو غير معلم ) لأنه حيوان منتفع به(2/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
حراسة واصطيادا فيجوز ولهذا ينتقل إلى ملك الموصى له والوارث ، بخلاف الحشرات
كالحية والعقرب والضب والقنفذ ونحوها ، لأنه لا ينتفع بها . وعن أبي يوسف أنه لا يجوز
بيع الكلب العقور لأنه ممنوع عن إمساكه مأمور بقتله ؛ ويجوز بيع الفيل . وفي بيع القرد
روايتان عن أبي حنيفة ، والأصح الجواز لأنه ينتفع بجلده . وعن أبي حنيفة جواز بيع الحي
من السرطان والسلحفاة والضفدع دون الميت منه ؛ ويجوز بيع العلق لحاجة الناس إليه . قال :
( وأهل الذمة في البيع كالمسلمين ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا قبلوا الجزية فأعلمهم أن
لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ' ( ويجوز لهم بيع الخمر والخنزير ) لأنه من
أعز الأموال عندهم ، وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون ، يؤيده قول عمر رضي الله عنه :
ولوهم بيعها . قال : ( ويجوز بيع الأخرس ، وسائر عقوده بالإشارة المفهومة ) ويقتص منه
وله ، ولا يحد للقذف ولا يحد له ، وكذلك إذا كان يكتب ، لأن الكتابة من الغائب كالخطاب
من الحاضر والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بتبليغ الرسالة ، وقد بلغ البعض بالكتاب ،
وإنما جاز ذلك لمكان العجز ، والعجز في الأخرس أظهر ، ولا يجوز ذلك فيمن اعتقل لسانه
أو صمت يوما ، لأن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت معهودة ومعلومة ، فمن كان كذلك فهو
بمنزلة الأخرس بخلاف الحدود لأنها تندرئ بالشبهات .
قال : ( ويجوز بيع الأعمى وشراؤه ) لأن الناس تعاهدوا ذلك من لدن الصدر الأول إلى
يومنا هذا ، ومن الصحابة من عمي وكان يتولى ذلك من غير نكير . والأصل فيه حديث
حبان بن منقذ ، وهو ما رواه عمر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' إذا ابتعت فقل لا
خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام ' وكان أعمى ذكره الدارقطني . ولأن من جاز له التوكيل
جاز له المباشرة كالبصير ( ويثبت له خيار الرؤية ) لأنه اشترى ما لم يره على ما يأتي إن شاء
الله تعالى ( ويسقط خياره بجس المبيع أو بشمه أو بذوقه ، وفي العقار بوصفه ) وفي الثوب
بذكر طوله وعرضه لأنه يحصل له بذلك العلم بالمشترى كالنظر من البصير وبل أكثر ؛ ولو(2/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
وصف له العقار ثم أبصر لا خيار له ؛ ولو اشترى البصير ما لم يره ثم عمي فهو كالأعمى
عند العقد .
فصل
( الإقالة جائزة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم
القيامة ' ولأن للناس حاجة إليها كحاجتهم إلى البيع فتشرع ، ولأنها ترفع العقد فصارت
كالطلاق مع النكاح ( وتتوقف على القبول في المجلس ) لأنها بمنزلة البيع لما فيها من معنى
التمليك ، وتصح بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل لأنها لا يحضرها السوم غالبا
كالنكاح .
وقال محمد : لا ب من لفظين ماضيين لأنها تمليك بعوض كالبيع ، وجوابه ما مرّ ، ولا
تصح إلا بلفظ الإقالة ، فلو تقايلا بلفظ البيع كان بيعا بالإجماع ، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع
والبيع عن الإثبات فتتنافيا ؛ ولا تبطل بالشروط الفاسدة عند أبي حنيفة ، وتبطل عند أبي
يوسف .
قال : ( وهي فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق ثالث ) عند أبي حنيفة ، فإن
تعذر جعلها فسخا بطلت .
وقال أبو يوسف : بيع جديد في حق الكل ، فإن تعذر ففسخ ، فإن لم يمكن بطل .
وقال محمد : فسخ ، فإن تعذر فبيع ، فإن لم يمكن بطل .
وقال زفر : فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما وصورته : لو تقايلا قبل القبض فهو فسخ
بالإجماع ، ويبطل شرط الزيادة والنقصان ، أما عندهما فظاهر ، وكذا عند أبي يوسف لأنه
تعذر جعله بيعا إلا في العقار حيث يجوز بيعه قبل القبض عنده . ولو تقايلا بعد القبض فهو
فسخ عند أبي حنيفة ، ويلزمه الثمن الأول جنسا ووصفا وقدرا ، ويبطل ما شرطه من الزيادة
والنقصان والتأجيل والتغيير ، لأن الإقالة رفع فيقتضي رفع الموجود ، والزيادة لم تكن فلا(2/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
ترفع إلا إذا حدث بالمبيع عيب ، فيجوز بأقل من الثمن الأول ، لأن النقصان في مقابلة
العيب ، ولو حدثت الزيادة في المبيع كالولد ونحوه بعد القبض بطلت الإقالة عنده لتعذر
الفسخ بسبب الزيادة ، وعند أبي يوسف الإقالة جائزة بما سميا كالبيع الجديد ، وحدوث
الزيادة بعد القبض لا يمنع ذلك . وعند محمد إن سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل أو
دخله عيب فهو فسخ ، أما إذا سمى الأقل فلأنه سكوت عن البعض ، ولو سكت عن الكل
كان فسخا فكذا عن البعض ، وأما إذا ذكر الثمن الأول فظاهر ، وأما إذا دخله عيب فلما مرّ ،
وإن سميا أكثر أو خلاف الجنس أو حدثت الزيادة فهو بيع جديد لتعذر الفسخ .
وجه قول محمد أنه فسخ بصيغته ، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع ، ومنه : أقلني عثرتي
بمعنى الرفع والإزالة ، وفيه معنى البيع لكونه مبادلة المال بالمال ، فإذا أمكن العمل بالصيغة
يعمل بها وإلا يعمل بالمعنى ، فإذا سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل منه أو دخله عيب فقد
أمكن العمل بالصيغة لما بينا .
ولأبي يوسف أنه بيع لأنه مبادلة المال بالمال عن تراض فيعمل به إلا إذا تعذر فيعمل
بالصيغة ، وإنما تعذر عنده في الإقالة في المنقول قبل القبض على ما تقدم . ولأبي حنيفة أن
الإقالة تنبئ عن الفسخ والإزالة لما بينا ، فلا تحتمل معنى آخر نفيا للاشتراك ، والأصل
العمل بحقيقة اللفظ ، فإذا تعذر لا يجعل بيعا مبتدأ لأنه ضد الرفع فيبطل .
وأما كونه بيعا في حق ثالث وهو الشفيع ، فصورته : باع دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم
تقايل البائع والمشتري ، فللشفيع الشفعة خلافا لزفر ، لأن ما هو فسخ في حقهما فهو فسخ
في حق غيرهما كالرد بخيار الشرط . وجوابه أن الإقالة نقل ملك بإيجاب وقبول بعوض مالي
وهو سبب وجوب الشفعة ، وهما عبرا عنه بالإقالة لإسقاط حقه ، ولا يملكان ذلك ، وكذا لو
وهبه شيئا وقبضه فباعه الموهوب له ثم تقايلا ، ليس للواهب الرجوع ويصير الموهوب له
كالمشتري .
قال : ( وهلاك المبيع يمنح صحة الإقالة ) لأن الفسخ يقتضي قيام البيع وهو ببقاء المبيع
( وهلاك بعضه يمنع بقدره ) لقيام البيع في الباقي ( وهلاك الثمن لا يمنع ) لقيام البيع بدونه ،
وإن تقايضا فهلاك أحدهما لا يمنع الإقالة ، لأن كل واحد منهما مبيع ، فيكون البيع قائما ،
ويرد قيمة الهالك أو مثله ، لأنه إذا انفسخ في الباقي ينفسخ في الهالك ضرورة ، وقد عجز
عن رده فيرد عوضه ، ولو هلك العوضان لا تصح الإقالة وتصح لو هلك البدلان عن
الصرف ، والفرق أن العقد يتعلق بالعين في العروض دون الأثمان فكذا في الإقالة ، والله
أعلم .(2/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
باب الخيارات
( خيار الشرط جائز للمتبايعين ، ولأحدهما ثلاثة أيام فما دونها ) والأصل فيه قوله عليه
الصلاة والسلام لحبان بن منقذ وكان يخدع في البياعات : ' إذا ابتعت فقل لا خلابة ، ولي
الخيار ثلاثة أيام ' .
( ولا يجوز أكثر من ذلك ) وهو قول زفر ، وقالا : يجوز إذا ذكر مدة معلومة ، لأن
الخيار شرع نظرا للمتعاقدين للاحتراز عن الغبن والظلامة ، وقد لا يحصل ذلك في الثلاث
فيكون مفوضا إلى رأيه ، ومذهبهما منقول عن ابن عمر ، ولأبي حنيفة أن الأصل ينفي جواز
الشرط لما فيه من نفي ثبوت الملك الذي هو موجب العقد فلا يصح كسائر موجبات العقد ،
وكذلك النص ينفيه ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعتاب بن أسيد حين بعثه إلى مكة :
' انههم عن بيع وشرط ، وبيع وسلف ' .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط ، إلا أنا عدلنا عن هذه الأصول
وقلنا بجوازه ثلاثة أيام لما روينا من حديث حبان ، والحاجة إلى دفع الغبن تندفع بالثلاث
فبقي ما وراءه على الأصل والحاجة للبائع والمشتري فثبت في حقهما ؛ ولو شرط الخيار أكثر
من ثلاثة أيام أو لم يبين وقتا ، أو ذكر وقتا مجهولا فأجاز في الثلاث أو أسقطه ، أو سقط
بموته أو بموت العبد ، أو أعتقه المشتري ، أو أحدث فيه ما يوجب لزوم العقد ينقلب جائزا
خلافا لزفر لأنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا . ولأبي حنيفة أن المفسد لم يتصل بالعقد ، لأن
الفساد باليوم الرابع ، حتى إن العقد إنما يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع فيكون العقد
صحيحا قبله ، ولأنها مدة ملحقة بالعقد مانعة من انبرامه فجاز أن ينبرم بإسقاطه كالخيار
الصحيح ، وشرط خيار الأبد باطل بالإجماع .
قال : ( ومن له الخيار لا يفسخ إلا بحضرة صاحبه ) أي بعلمه ( وله أن يجيز بحضرته
وغيبته ) وقال أبو يوسف : يفسخ بغيبته أيضا ، لأن الخيار أثبت له حق الإجازة والفسخ ، فكما
تجوز الإجازة نع غيبته فكذا الفسخ . ولهما أنه فسخ عقد فلا يصح من أحدهما كالإقالة ،
بخلاف الإجازة لأنها إبقاء حق الآخر فلا يحتاج إلى علمه ، والفسخ إسقاط حقه فاحتاج(2/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
إليه ، فإذا فسخ بغيبته فعلم به في المدة تم الفسخ ، وإن لم يعلم حتى مضت المدة تم
العقد . قال : ( وخيار الشرط لا يورث ) لأنه مشيئة وتروّ ، وذلك لا يتصور فيه الإرث لأنه لا
يقبل الانتقال . أما خيار العيب فلأن المشتري استحق المبيع سليما فينتقل إلى وارثه كذلك .
وأما خيار التعيين فإنه ثبت له ابتداء لاختلاط ملك المورث بملك الغير .
قال : ( ومن اشترى عبدا على أنه خباز فكان بخلافه ، فإن شاء أخذه بجميع الثمن وإن
شاء رده ) لأن هذا وصف والأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن فيأخذه بجميع الثمن ، إلا أنه
فاته وصف مرغوب فيه مستحق بالعقد ، فبفواته يثبت له الخيار لأنه ما رضي بدونه كوصف
السلامة ، وعلى هذا اشتراط سائر الحرف .
قال : ( وخيار البائع لا يخرج المبيع عن ملكه ، وخيار المشتري يخرجه ولا يدخله في
ملكه ) اعلم أن البيع بشرط الخيار لا ينعقد في حق حكمه وهو ثبوت الملك ، بل يتوقف
ثبوت حكمه على سقوط الخيار ، لأنه بالخيار استثنى مباشرة العقد في حق الحكم فامتنع
حكمه إلى أن يسقط الخيار ، ثم الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري أو لهما ، فإن كان
للبائع فلا يخرج المبيع عن ملكه لأنه إنما يخرج بالمراضاة ، ولا رضا مع الخيار حتى نفذ
إعتاق البائع ، وليس للمشتري التصرف فيه ، ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار
فعليه قيمته لأنه لم ينفذ البيع ، ولا نفاذ للتصرف بدون الملك ، فصار كالمقبوض على سوم
الشراء وفيه القيمة ، ولو هلك في يد البائع لا شيء على المشتري كالصحيح ، ويخرج الثمن
من ملك المشتري بالإجماع ، ولا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وإن كان
الخيار للمشتري يخرج المبيع عن ملك البائع ، لأن البيع لزم من جانبه ، ولا يدخل في ملك
المشتري عند أبي حنيفة ، وعندهما يدخل ، والثمن لا يخرج من ملك المشتري بالإجماع ،
ولا يملك البائع مطالبته قبل الثلاث . وجه قولهما في الخلافيات أنه لما خرج المبيع عن
ملك البائع وجب أن يدخل في ملك المشتري لئلا يصير سائبة بغير مالك ولا نظير له في
الشرع .
ولأبي حنيفة أن الخيار شرع للتروي ، فلو دخل في ملكه ربما فات ذلك بأن كان
قريبا له فيعتق عليه ، ولأن الثمن لم يخرج عن ملكه ، فلو دخل المبيع في ملكه اجتمع
البدلان في ملك واحد ولا نظير له في الشرع ، وقضية المعاوضة المساواة ، ودخوله في(2/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
ملكه ينفيها ، وإن هلك في يد المشتري هلك بالثمن ، وكذلك إن دخلها عيب لأن بالعيب
يمتنع الرد ، والهلاك لا يخلو عن مقدمة عيب ، فيهلك بعد انبرام العقد فيلزمه الثمن ،
ويعرف من هذين الفصلين الحكم فيما إذا كان الخيار لهما لمن يتأمله إن شاء الله تعالى .
وثمرة الخلاف تظهر في مسائل : منها لو كان المشتري قريبا له لم يعتق عنده ، ولو كانت
زوجته لم ينفسخ النكاح خلافا لهما فيهما ، وإن وطئها لا يبطل خياره ، لأنه وطئها بحكم
النكاح ، إلا أن تكون بكرا أو نقصها الوطء ، وعندهما يبطل النكاح ، لأنه وطئها بملك
اليمين ، ولو كانت جارية قد ولدت منه لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما ، ولو حاضت
عنده في مدة الخيار ثم أجاز البيع لا يجتزئ بتلك الحيضة عن الاستبراء عنده ، ولو ردها
لا يجب على البائع الاستبراء عنده خلافا لهما فيهما ، ويبتني على هذا الأصل مسائل كثيرة
يعرفها من أتقن هذه الأصول .
قال : ( ومن شرط الخيار لغيره جاز ويثبت لهما ) والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر
لأنه موجب العقد ، فلا يجوز اشتراطه لغير العاقد كالثمن . وجه الاستحسان أنه يثبت له ابتداء
ثم للغير نيابة تصحيحا لتصرفه ( وأيهما أجاز جاز ، وأيهما فسخ انفسخ ) فإن أجاز أحدهما
وفسخ الآخر فالحكم للأسبق ، وإن تكلما معا فالحكم للفسخ ، لأن الخيار شرع للفسخ فهو
تصرف فيما شرع لأجله فكان أولى ، وقيل تصرف المالك أولى كالموكل . قال : ( ويسقط
الخيار بمضي المدة وبكل ما يدل على الرضا كالركوب والوطء والعتق ونحوه ) .
اعلم أن الخيار يسقط بثلاثة أشياء : أحدها الإسقاط صريحا كقوله : أسقطت الخيار
أو أبطلته ، أو أجزت البيع ، أو رضيت به وما شابهه لأنه تصريح بالرضى فيبطل الخيار .
والثاني الإسقاط دلالة ، وهو كل فعل يوجد ممن له الخيار لا يحل لغير المالك لأنه رضي
بالملك ، وذلك مثل الوطء واللمس والقبلة والنظر إلى الفرج بشهوة ، وإن فعله بغير شهوة
لا يكون رضى ، وكذلك النظر إلى سائر أعضائها ، لأنه يحتاج إليه للمعالجة ويعرف لينها
وخشونتها ، ولو فعل البائع ذلك فهو فسخ لأنه لا يحتاج إلى ذلك ، وكذلك الركوب لا
يجوز لغير المالك ، فإن ركبها ليردها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فهو على خياره ،
وكذلك إذا سكن الدار أو أسكنها لدليل الرضى ، ولو ركب أو لبس أو استخدم فهو على
خياره لحاجته إلى ذلك للاختبار ، ولو أعاد ذلك بطل خياره لعدم حاجته إليه إلا في العبد
إذا استخدمه في حاجة أخرى لما بينا ، وكذلك كل فعل لا يثبت حكمه في غير الملك
كالعتق والتدبير والكتابة والبيع والإجارة والهبة مع القبض والرهن ، والعرض على البيع من
هذا القبيل ، لأن كل ذلك يدل على الرضا بالملك . والثالث سقوط الخيار بطريق
الضرورة كمضي مدة الخيار وموت من له الخيار ، فإن الخيار كان لهما فماتا تم العقد ،
وإن مات أحدهما فالآخر على خياره ، ولو أغمي عليه أو جن أو نام أو سكر بحيث لا(2/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
يعلم حتى مضت المدة الصحيح أنه يسقط الخيار ، ولو داوى العبد أو عالج الدابة أو
عمّر في الساحة أو رمّ شعث الدار أو لقح النخيل أو حلب البقرة بطل ، لأن هذه
التصرفات من خصائص الملك .
فصل
( ومن اشترى ما لم يره جاز ، وله خيار الرؤية ) معناه : إن شاء أخذه وإن شاء رده ،
وكذا إن كان الثمن عينا ولم يره البائع . والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : ' من اشترى
ما لم يره فله الخيار إذا رآه ' ولأنه أحد العوضين فلا تشترط رؤيته للانعقاد كالثمن ، ولأنه
لا يفضي إلى المنازعة ، لأنه إذا لم يرض به عند الرؤية يرده لعدم اللزوم ، وإذا جاز العقد
ثبت له الخيار بالحديث ، وإنما يثبت الخيار عند الرؤية حتى لو أجاز البيع قبلها لا يلزم ولا
يسقط خياره بصريح الإسقاط قبلها لأنه خيار ثبت شرعا فلا يسقط بإسقاطهم ، بخلاف
خياري الشرط والعيب لأنهما ثبتا بقصدهما وشرطهما ، ويملك فسخه قبل الرؤية لأن الخيار
له ، ولا يمنع ثبوت الملك في البدلين ، لكن يمنع اللزوم حتى لو باعه مطلقا أو بشرط الخيار
للمشتري أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو رهنه أو وهبه وسلم قبل الرؤية لزم البيع ، ولو شرط
الخيار للبائع أو عرضه على البيع لا يلزم قبل الرؤية ويلزم بعدها لأنه لم يتعلق به حق الغير
لكن رضي ، والرضى قبل الرؤية لا يسقط الخيار .
قال : ( ومن باع ما لم يره فلا خيار له ) وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول أولا له
الخيار ، لأن اللزوم بالرضى ، والرضى بالعلم بأوصاف البيع ، والعلم بالرؤية ؛ ثم رجع وقال :
لا خيار له ، لأن النص أثبته للمشتري خوفا من تغير المبيع عما يظنه ودفعا للغبن عنه ، فلو
ثبت للبائع لثبت خوفا من الزيادة على ما يظنه من الأوصاف وذلك لا يوجب الخيار ، ألا
ترى أنه لو باع عبدا على أنه مريض فإذا هو صحيح لزمه ولا خيار له ؟ وقد روي أن
عثمان بن عفان رضي الله عنه باع أرضا بالكوفة من طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، فقيل
لعثمان : غبنت ؟ قال : لي الخيار فإني بعت ما لم أره ، وقيل لطلحة : غبنت ؟ فقال : لي
الخيار لأني اشتريت ما لم أره ، فاحتكما إلى جبير بن مطعم ، فحكم بالخيار لطلحة وذلك
بمحضر من الصحابة . فحكم جبير ، ورجوعهما إلى حكمه وعدم وجود النكير من أحد
من الصحابة دل على أنه إجماع منهم .(2/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
قال : ( ويسقط برؤية ما يوجب العلم بالمقصود كوجه الآدمي ووجه الدابة وكفلها ،
ورؤية الثوب مطويا ونحوه ) لأن رؤية الجميع غير شرط ، لأنه قد يتعذر فاكتفى برؤية ما
هو المقصود . والوجه في الآدمي هو المقصود ، ألا ترى أن الثمن يزداد وينقص بالوجه ،
وكذلك الوجه والكفل في الدابة ؛ وأما الثوب فالمراد الثياب التي لا يخالف باطنها
الظاهر ، أما إذا اختلفا فلا بد من رؤية الباطن ، وكذلك لا بد من رؤية العلم لأنه
مقصود ؛ وفي الدار لا بد من رؤية الأبنية ، فإن لم يمكن يكتفي برؤية الظاهر ؛ ولا بد
في شاة اللحم من الجس وشاة الدر والنسل من النظر إلى الضرع مع جميع جسدها ،
واعتبر بهذا جميع المبيعات .
قال : ( فإن تصرف فيه تصرفا لازما أو تعيب في يده ، أو تعذر رد بعضه ، أو مات بطل
الخيار ) وقد بيناه ، ولأنه إذا تعذر رد البعض فرد الباقي إضرارا بالبائع ، وكذلك رد المعيب ؛
وأما الموت فلما ذكرنا أنه دخل في ملكه وبقي له خيار الرؤية ، وخيار الرؤية لا يورث .
قال : ( ولو رأى بعضه فله الخيار إذا رأى باقيه ) لأنه لو لزمه يكون إلزاما للبيع فيما لم يره
وأنه خلاف النص ، كذلك الإجازة في البعض لا تكون إجازة في الكل لما مر ، ولا تصح
الإجازة في البعض ورد الباقي لما بينا .
قال : ( وما يعرض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله ) والأصل أن المبيع إذا كان أشياء
إن كان من العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب والبطيخ والسفرجل والرمان ونحوه لا يسقط
الخيار إلا برؤية الكل لأنها تتفاوت ، وإن كان مكيلا أو موزونا وهو الذي يعرض بالأنموذج
أو معدودا متقاربا كالجوز والبيض فرؤية بعضه تبطل الخيار في كله ، لأن المقصود معرفة
الصفة وقد حصلت وعليه التعارف ، إلا أن يجده أردأ من الأنموذج فيكون له الخيار ، وإن
كان المبيع مغيبا تحت الأرض كالجزر والشلجم والبصل والثوم والفجل بعد النبات إن
علم وجوده تحت الأرض جاز وإلا فلا ، فإذا باعه ثم قلع منه أنموذجا ورضي به ، فإن كان
مما يباع كيلا بالبصل ، أو وزنا كالثوم والجزر بطل خياره عندهما ، وعليه الفتوى للحاجة
وجريان التعامل به ، وعند أبي حنيفة لا يبطل ، وإن كان مما يباع عددا كالفجل ونحوه ، فرؤية
بعضه لا يسقط خياره لما تقدم ، ولو اختلفا في الرؤية فالقول للمشتري لأنه منكر ؛ وكذلك
لو اختلفا في المردود فقال البائع : ليس هذا المبيع ، وكذلك في خيار الشرط وفي الرد(2/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
بالعيب القول قول البائع . قال : ( ومن باع ملك غيره فالمالك إن شاء رده وإن شاء أجاز إذا
كان المبيع والمتبايعان بحالهم ) .
اعلم أن التصرفات الفضولي منعقدة موقوفة على إجازة المالك لصدورها من الأهل
وهو الحر العاقل البالغ ، مضافة إلى المحل لأن الكلام فيه ، ولا ضرر فيه على المالك لأنه
غير ملزم له ، وتحتمل المنفعة فينعقد تصحيحا لتصرف العاقد العاقل وتحصيلا للمنفعة
المحتملة ، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري به
أضحية ، فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ، واشترى بأحد الدينارين شاة ، وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
بالشاة والدينار ، فأجاز صنيعه ولم ينكر عليه ودعا له بالبركة ، وكان فضوليا لأنه باع الشاة
واشترى الأخرى بغير أمره ، وكل عقد له مجيز حال وقوعه يتوقف على إجازته ، وما لا فلا ،
حتى إن إطلاق الفضولي وعتاقه ونكاحه وهبته لا ينعقد في حق الصبي والمجنون ، وينعقد
في حق العاقل البالغ ، لأن عند الإجازة يصير الفضولي كالوكيل حتى ترجع الحقوق إليه ، فإن
الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة ، والصبي والمجنون ليسا من أهل الوكالة ولا المباشرة ؛
وللفضولي الفسخ قبل الإجازة لئلا ترجع الحقوق إليه ، وليس له ذلك في النكاح ، لأن
الحقوق لا ترجع فيه إليه لما عرف أنه سفير فيه ، ولا بد من وجود المبيع والمتبايعين عند
الإجازة ، إذ لا بقاء للعقد بدونهم . والإجازة : إنفاذ العقد الموقوف ، ولو كان العقد مقايضة
يشترط بقاء العوضين والمتعاقدين لما بينا .
فصل
( مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع ) لأن الأصل هو السلامة ، وهو وصف مطلوب
مرغوب عادة ، والمطلوب عرفا كالمشروط نصا . قال : ( وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة
التجار فهو عيب ) لأن الضرر بنقصان المالية وهم يعرفون ذلك ، وهذا يغني عن ذكر العيوب
وتعدادها ، وإذا علم المشتري بالعيب عند الشراء أو عند القبض وسكت فقد رضي به .(2/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
قال : ( وإذا اطّلع المشتري على عيب فإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن وإن شاء رده )
لأنه لم يرض به ، وليس له أخذه وأخذ النقصان إلا برضى البائع ، لأن الأوصاف لا يقابلها
شيء من الثمن بالعقد ، وكذلك لو كان المبيع مكيلا أو موزونا ، فوجد ببعضه عيبا ليس له
أن يمسك الجيد ويرد المعيب ، والأصل في هذا أن المشتري لا يملك تفريق الصفقة على
البائع قبل التمام لما بينا ويملك بعده ، وخيار الشرط والرؤية وعدم القبض يمنع تمام
الصفقة ، وبالقبض تتم الصفقة ، والمراد قبض الجميع حتى لو قبض أحدهما ثم وجد
بأحدهما عيبا إما أن يردهما أو يمسكهما ؛ والمكيل والموزون كالشيء الواحد ، ولا يملك رد
البعض دون البعض لا قبل القبض ولا بعده ، لأن تمييز المعيب زيادة في العيب ، فكأنه عيب
حادث حتى قيل لو كان في وعاءين له رد المعيب منهما بعد القبض لأنه لا ضرر ، وكذا لو
اشترى زوجي خف أو مصراعي باب فوجد بأحدهما عيبا قبل القبض أو بعده يردهما أو
يمسكهما ، وكذا كل ما في تفريقه ضرر ، وما لا ضرر في تفريقه كالعبدين والثوبين إذا وجد
بأحدهما عيبا إن كان قبل القبض ليس له رد أحدهما لأنه تفريق الصفقة قبل تمامها ، وإن كان
بعد القبض يجوز لأنه لا ضرر في تفريقها ، لأن الصفقة قد تمت بالقبض ، فجاز رد البعض
كما لو اشترى من اثنين ، واستحقاق البعض على هذا التفصيل ما يضره التبعيض فهو عيب ،
وما لا فلا . قال : ( والإباق والسرقة والبول في الفراش ليس بعيب في الصغير الذي لا يعقل )
لأنه لا يقدر على الامتناع من هذه الأشياء وهو ضال لا آبق ( وعيب في الذي يعقل ) لأنه
تعده التجار عيبا ( ويرد به إلا أن يوجد عند المشتري بعد البلوغ ) .
اعلم أن جواز الرد إنما يثبت عند اتحاد الحال بأن فعل هذه الأشياء عند البائع
والمشتري حالة الصغر أو حالة الكبر ، أما إذا فعله عند البائع حالة الصغر ، وعند المشتري
حالة الكبر فليس له الرد ، لأن شرط ثبوت الرد اتحاد سبب العيب ، وأنه يختلف بالصغر
والكبر ، لأن الإباق والسرقة من الصغير لقلة مبالاته وقصور عقله ، ومن الكبير لخبث طبيعته ،
والبول في الفراش من الصغير لضعف المثانة ، ومن الكبير لداء في بطنه ، فقد اختلف
السببان ، فكان العيب الثاني غير الأول فلا يجب الرد ، بخلاف الجنون حيث له الرد لو جن
عند البائغ في الصغر ، وعند المشتري بعد البلوغ لأن السبب متحد ، وهو آفة تحل الدماغ في
الحالتين .
قال : ( وانقطاع الحيض عيب ) لأنه من داء ، ومعناه إذا كانت ممن يحيض مثلها ، وإنما
يعرف ذلك بمضي المدة وأدناه شهران ، وقيل لا يردها إلا إذا ادعت ارتفاعه بالحبل ، ولو(2/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
اشترى جارية على أنها تحيض وهي لا تحيض للإياس فهو عيب ، لأنه اشتراها للحبل
والآيسة لا تحبل . قال : ( والاستحاضة عيب ) لأن استمرار الدم مرض ، وعدم الختان عيب
في الجارية والغلام إذا كانا كبيرين مولدين ، أما إذا كانا صغيرين أو جلبين فليس بعيب .
قال : ( والبخر والدفر والزنا عيب في الجارية دون الغلام ) لأن ذلك يخل بالمقصود منها وهو
الاستفراش والوثوق بكون الولد منه ، والمراد من الغلام الاستخدام ، ولا يخل ذلك به إلا أن
يكون من داء فهو عيب فيه أيضا ، وكذا إذا كان كثير الزنا يتبع الزواني لأنه يشتغل به عن
الخدمة .
قال : ( والشيب والكفر والجنون عيب فيهما ) أما الشيب والجنون فلأنهما ينقصان
المالية ، والكافر تنفر الطباع من استخدامه ويقل الوثوق به لعداوة الدين ، ولذا لا يجوز عتقه
في بعض الكفارات وكل ذلك عيب ، والنكاح والدين عيب فيهما لأنه نقص فيهما ، والحبل
عيب في الجارية دون بهائم بالعرف .
قال : ( وإن وجد المشتري عيبا وحدث عنده عيب آخر رجع بنقصان العيب ، ولا يرده
إلا برضا البائع ) لأن من شرط الرد أن يرده كما قبضه دفعا للضرر عن البائع ، فإذا تعذر ذلك
بأن عجز عن استيفاء حقه في الجزء الفائت وعن الوصول إلى رأس ماله يثبت له حق الرجوع
ببدل الفائت دفعا للضرر عنه ، ونقصان العيب أن يقوّم صحيحا ويقوم معيبا ، فما نقص فهو
حصة العيب فيرجع بها من الثمن .
قال : ( وإن صبغ الثوب أو خاطه أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع
بنقصانه ) لأن الرد قد تعذر لأنه لا يمكن الفسخ بدون الزيادة وهي لم تكن في العقد
فيرجع بالنقصان ، وليس للبائع أخذه لما فيه من الضرر بالمشتري ، والزيادة المنفصلة
الحادثة قبل القبض لا تمنع الرد بالعيب وبعده تمنع ، وذلك مثل الولد والعقر والأرش
والثمرة لأنها مبيعة ملكت بالبيع وهي غير مقصودة ليقابلها الثمن ، لأن الأصل بجميع(2/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
الثمن ، فلا يمكن ردها فتبقى سالمة للمشتري بغير عوض وأنه ربا ، ولهذا لا يملك ردها
برضا البائع ، ولو مات الولد يرد الأم ، ولو استهلكه هو أو غيره لا ترد ، والكسب والغلة
لا يمنع الرد بجميع الثمن فكذا سلامة بدلها . قال : ( وإن مات العبد أو أعتقه رجع بنقصان
العيب ) وكذلك التدبير والاستيلاد ؛ أما الموت فلأنه إنهاء للملك والامتناع من جهة الشرع ؛
وأما العتق فهو إنهاء أيضا ، لأن الملك إنما يثبتت في الآدمي موقتا إلى وقت العتق ،
والمنتهى متقرر فصار كالموت فقد تعذر الرد وهذا استحسان ؛ والقياس أن لا يرجع في
العتق ، لأن الامتناع من جهته كالقتل ، ولو أعتقه على مال أو كاتبه لا يرجع لأن حبس
البدل كحبس المبدل .
قال : ( فإن قتله أو أكل الطعام لم يرجع ) أما القتل فلأنه وصل إليه عوضه معنى
وهو سقوط الضمان عنه . وعن أبي يوسف أنه يرجع ، لأنه قتل المولى عبده لا يتعلق به
ضمان ؛ وأما الأكل فلأنه تعذر الرد بفعل مضمون منه فصار كالقتل ، وقالا : يرجع
استحسانا لأنه عمل بالمبيع ما هو المقصود منه بالشراء والمعتاد فيه فصار كالإعتاق .
قلنا : لا اعتبار بكون الفعل مقصودا ، فإن المبيع مقصود بالشراء ومع ذلك يمنع الرجوع ،
وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرّق ، ولو أكل بعض الطعام فكذا الجواب
عنده . وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الجميع . وعنهما يرد ما بقي ويرجع بنقصان
ما أكل لأنه لا يضره التبعيض وعليه الفتوى ، وفي كل موضع كان للبائع أخذه كالعيب
الحادث ونحوه فباعه المشتري أو أعتقه لم يرجع بالنقصان ، وفي كل موضع ليس له
أخذه بسبب الزيادة فباعه أو أعتقه المشتري رجع بالنقصان ؛ ومن اشترى بطيخا أو خيارا
أو بيضا أو نحوه فكسره فوجده فاسدا ، فإن كان بحال لا ينتفع به رجع بكل الثمن لأنه
ليس بمال ، وإن كان ينتفع به مع الفساد رجع بالنقصان لأنه تعذر الرد ، لأن الكسر عيب
حادث فيرجع بالنقصان لما بينا .
قال : ( ومن شرط البراءة من كل عيب فليس له الرد أصلا ) لأنه إسقاط والإسقاط لا
يفضي إلى المنازعة فيجوز مع الجهالة ، ولو حدث عيب بعد البيع قبل القبض دخل في
البراءة عند أبي يوسف خلافا لمحمد وزفر لأنه لم يوجد وقت الإبراء فلا يتناوله ، ولأبي
يوسف أن المقصود سقوط حق الفسخ بالعيب وذلك البراءة عن الموجود والحادث ، ولو
أبرأه من كل غائلة . قال أبو يوسف : هي السرقة والإباق والفجور دون المرض ، لأن الغائلة
تختص بالفعل ، وإن أبرأه من كل داء . قال أبو حنيفة : الداء ما في الجوف من طحال أو كبد
أو فساد حيض ، وما سوى ذلك يسمى مرضا . وقال أبو يوسف هو المرض . ولو قال برئت
إليك من كل عيب بعينه فإذا هو أعور ، أو من كل عيب بيده فإذا هو أقطع لا يبرأ لأنه ليس
بعيب بالمحل بل هو عدم المحل .(2/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
قال : ( وإذا باعه المشتري ثم رد عليه بعيب إن قبله بقضاء رده على بائعه ) لأنه
فسخ من الأصل فجعل كأن لم يكن ، وهو وإن أنكر فقد صار مكذبا شرعا ( وإن قبله
بغير قضاء لم يرده ) لأنه بيع جديد في حق ثالث لوجود حده وهو التمليك والتملك ،
وإن رد عليه بعيب لا يحدث مثله رده عليه أيضا لأن الرد متعين فيه فيستوي فيه القضاء
وعدمه . قال : ( ويسقط الرد بما يسقط به خيار الشرط ) وقد ذكرت فيه ، وذكر البعض هنا
أيضا .
فصل في التلجئة
وهي في اللغة : ما ألجئ إليه الإنسان بغير اختياره ، ولما كان هذا العقد إنما يعقد عند
الضرورة سموه تلجئة لما فيه من معنى الإكراه ، وفيه ثلاث مسائل : إحداهما أن تكون التلجئة
في نفس المبيع ، مثل أن يخاف على سلعته ظالما أو سلطانا فيقول : أنا أظهر البيع وليس ببيع
حقيقة وإنما هو تلجئة ويشهد على ذلك ، ثم يبيعها في الظاهر من غير شرط . حكى المعلى
عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن العقد جائز . وروى محمد في الإملاء أنه باطل ولم يحك
خلافا ، وهو قول أبي يوسف ومحمد . وجه الأولى أنهما عقدا عقدا صحيحا وما شرطاه لم
يذكراه فيه ، فلا يؤثر فيه كما إذا اتفقا أن يشرطا شرطا فاسدا ثم تبايعا من غير شرط . ووجه
الثانية أنهما اتفقا على أنهما لم يقصدا العقد فصارا كالهازلين فلا ينعقد . الثانية أن تكون في
البدل بأن يتفقا على ألف في السر ويتبايعا في الظاهر بألفين . روى المعلى عن أبي يوسف
عن أبي حنيفة أن الثمن ثمن العلانية .
وروى محمد في الإملاء أن الثمن ثمن السر من غير خلاف وهو قولهما ، لأنهما اتفقا
أنهما لم يقصدا الألف الزائدة فكأنهما هزلا بها . وجه الأول أن المذكور في العقد هو والذي
يصح العقد به ، وما ذكراه سرا لم يذكراه حالة العقد فسقط حكمه . الثالثة اتفقا أن الثمن ألف
درهم وتبايعا على مائة دينار . قال محمد : القياس أن يبطل العقد ، والاستحسان أن يصح
بمائة دينار . وجه القياس أن الثمن الباطن لم يذكراه في العقد والمذكور لم يقصداه فسقط
فبقي بلا ثمن فلا يصح . وجه الاستحسان أن المقصود البيع الجائز لا الباطل ، ولا جائز إلا
بثمن العلانية كأنهما أضربا عن السر وذكرا الظاهر ، وليس هذا كالمسألة الأولى لأن المشروط
سرا مذكور في العقد وزيادة وتعلق العقد به ، ويثبت لهما الخيار في بيع التلجئة لأنهما لم
يقصدا زوال الملك فصار كشرط الخيار لهما فيتوقف على إجازتهما ، ولو ادعى أحدهما
التلجئة لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي انفساخ العقد بعد انعقاده ، ويستحلف الآخر لأنه
منكر .(2/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
باب البيع الفاسد
( وهو يفيد الملك بالقبض ) بأمر البائع صريحا أو دلالة كما إذا قبضه في المجلس
وسكت حتى يجوز له التصرف فيه إلا الانتفاع ، لما روي ' أن عائشة لما أرادت أن تشتري
بريرة فأبى مواليها أن يبيعوها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم ، فاشترت وشرطت الولاء لهم
ثم أعتقتها ، وذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأجاز العتق وأبطل الشرط ' فالنبي عليه الصلاة
والسلام أجاز العتق مع فساد البيع بالشرط ، لأن ركن التمليك وهو قوله : بعت واشتريت
صدر من أهله هو المكلف المخاطب مضافا إلى محله وهو المال عن ولاية ، إذ الكلام فيهما
فينعقد لكونه وسيلة إلى المصالح والفساد لمعنى يجاوره كالبيع وقت النداء ، والنهي لا ينفي
الانعقاد بل يقرره لأنه يقتضي تصور المنهي عنه والقدرة عليه ، لأن النهي عما لا يتصور وعن
غير المقدور قبيح ، إلا أنه يفيد ملكا خبيثا لمكان النهي .
( و ) ولهذا كان ( لكل واحد من المتعاقدين فسخه ) إزالة للخبث ورفعا للفساد ( ويشترط
قيام المبيع حالة الفسخ ) لأن الفسخ بدونه محال ( فإن باعه أو أعتقه أو وهبه بعد القبض جاز )
لمصادفة هذه التصرفات ملكه ومنع الفسخ ، وكذا كل تصرف لا يفسخ كالتدبير والاستيلاد ،
وما يحتمل الفسخ يفسخ كالإجارة ، فإنها تفسخ بالأعذار وهذا عذر ، والرهن يمنع الفسخ فإن
عاد الرهن فله الفسخ ، وهذا لأن النقض لرفع حكمه حقا للشرع ، وهذه التصرفات تعلق بها
حق العبد وأنه مقدم لما عرف ، ( وعليه قيمته يوم قبضه إن كان من ذوات القيم أو مثله إن
كان مثليا ) لأنه كالغضب من حيث إنه منهي عن قبضه ، ولما كان هذا العقد ضعيفا لمجاورته
المفسد توقف إفادة الملك على القبض كالهبة .
قال : ( والباطل لا يفيد الملك ) لأن الباطل هو الخالي عن العوض والفائدة ( ويكون
أمانة في يده ) يهلك بغير شيء ، وهذا عند أبي حنيفة وعندهما يهلك بالقيمة لأن البائع ما
رضي بقبضه مجانا ، وله أنه لما باع بما ليس بمال وأمره بقبضه فقد رضي بقبضه بغير بدل
مالي فلا يضمن كالمودع . قال : ( وبيع الميتة والدم والخمر والخنزير والحر وأم الولد(2/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
والمدبر ، والجمع بين حر وعبد ، وميتة وذكية باطل ) أما الميتة والدم والحر فلأنها ليست
بمال ، والبيع والتمليك مال بمال ، وأما الخمر والخنزير فكذلك لأنهما ليسا بمال في حقنا ،
وكذلك أم الولد والمدبر لأنهما استحقا العتق بأمر كائن لا محالة فأشبها الحر ، وأما الجمع
بين حر وعبد وميتة وذكية فلأن الصفقة واحدة ، والحر والميتة لا يدخلان تحت العقد لعدم
المالية ، ومتى بطل في البعض بطل في الكل ، لأن الصفقة غير متجزئة ، وكذا الجمع بين
دنين أحدهما خل والآخر خمر ومتروك التسمية كالميتة ، وإذا لم يكن الحر والميتة مالا لا
يقابلهما شيء من الثمن ، فيبقى العبد والذكية مجهولة الثمن ، ولأن القبول في الحر والميتة
شرط للبيع في العبد والذكية وأنه باطل . وقال أبو يوسف ومحمد : إن سمى لكل واحد
منهما ثمنا جاز في العبد والذكية كالجمع بين أخته وأجنبية في النكاح : قلنا : النكاح لا يبطل
بالشروط المفسدة ولا كذلك البيع .
قال : ( وبيع المكاتب باطل ) لأنه استحق جهة حرية وهو ثبوت يده على نفسه ( إلا أن
يجيزه فيجوز ) لأنه إذا أجازه فكأنه عجز نفسه فيعود قنا فيجوز بيعه . قال : ( وبيع السمك
والطير قبل صيدهما ، والآبق والحمل والنتاج ، واللبن في الضرع ، والصوف على الظهر ،
واللحم في الشاة ، وجذع في سقف ، وثوب من ثوبين فاسد ) أما السمك والطير فلعدم
الملك ، ولو كان السمك مجتمعا فيه أجمة إن اجتمع بغير صنعه لا يجوز لعدم الملك ، وإن
اجتمع بصنعه إن قدر على أخذه من غير اصطياد جاز لأنه ملكه ويقدر على تسليمه ،
وللمشتري خيار الرؤية ، وإن لم يقدر عليه إلا بالاصطياد لا يجوز وأما الآبق فلأنه لا يقدر
على تسليمه حتى لو عاد الآبق جاز البيع .
وعن محمد أنه لا يجوز ، ولو باعه ممن زعم أنه عنده يجوز كبيع المغصوب من
الغاصب وأما الحمل والنتاج فلنهيه عليه الصلاة والسلام عنه ؛ وأما اللبن في الضرع
فللجهالة واختلاط المبيع بغيره ؛ وأما الصوف على الظهر فلاختلاط المبيع بغيره ، ولوقوع
التنازع في موضع القطع بخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن
بيع الصوف على ظهر الغنم وعن لبن في ضرع وسمن في لبن . وعن أبي يوسف أنه يجوز(2/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
قياسا على شجر الخلاف . قلنا شجر الخلاف ينبت من أعلاه ، فتكون الزيادة في ملك
المشتري ، والصوف ينبت من أسفله فيحدث على ملك البائع فيختلطان ؛ وأما اللحم في الشاة
والجذع في السقف فلا يمكن تسليمه إلا بضرر لا يستحق عليه ، وكذلك ذراع في ثوب
وحلية في سيف ، وإن قلعه وسلمه قبل نقض البيع جاز ، وليس للمشتري الامتناع ، وهذا
بخلاف ما إذا باعه ذراعا من كرباس وعشرة دراهم من هذه النقرة حيث يجوز لأنه لا ضرر
فيه ؛ وأما ثوب من ثوبين فلجهالة المبيع ، ولو قال على أن يأخذ أيهما شاء جاز لعدم
المنازعة .
قال : ( وبيع المزابنة والمحاقلة فاسد ) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنهما .
والمزابنة : بيع الثمر على النخل بتمر على الأرض مثله كيلا حزرا . والمحاقلة : بيع الحنطة
في سنبلها بمثلها من الحنطة كيلا حزرا ، ولأنه بيع الكيلي بجنسه مجازفة فلا يجوز . قال :
( ولو باع عينا على أن يسلمها إلى رأس الشهر فهو فاسد ) لأن تأجيل الأعيان باطل إذ لا فائدة
فيه ، لأن التأجيل شرع في الأثمان ترفها عليه ليتمكن من تحصيله وأنه معدوم في الأعيان
فكان شرطا فاسدا . قال : ( وبيع جارية إلا حملها فاسد ) لأن الحمل بمنزلة طرف الحيوان
لاتصاله به خلقة ، ألا ترى أنه يدخل في البيع من غير ذكر فلا يجوز استثناؤه كسائر الأطراف
( ولو باعه جارية على أن يستولدها المشتري أو يعتقها أو يستخدمها البائع أو يقرضه المشتري
دراهم أو ثوبا على أن يخيطه البائع فهو فاسد ) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع
وشرط .
والجملة في ذلك أن البيع بالشرط ثلاثة أنواع : نوع البيع والشرط جائزان ، وهو كل
شرط يقتضيه العقد ويلائمه كما إذا اشترى جارية على أن يستخدمها ، أو طعاما على أن يأكله
أو دابة على أن يركبها ؛ ولو اشترى أمة على أن يطأها فهو فاسد لأن فيه نفعا للبائع لأنه
يمتنع به الرد بالعيب ، وقالا : لا يفسد لأنه شرط يقتضيه العقد وجوابه ما قلنا . ونوع كلاهما
فاسدان ، وهو كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ، وهو ما
مر من الشروط في هذه المسائل ونحوها ، أو للمعقود عليه إذا كان من أهل الاستحقاق كعتق
العبد ، فلو أعتقه انقلب جائزا ، فيجب الثمن عند أبي حنيفة لأنه ينتهي به ، والشيء يتأكد(2/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
بانتهائه . وعندهما تجب القيمة ، وهو فاسد على حاله لأن به تقرر الشرط الفاسد . ونوع البيع
جائز والشرط باطل ، وهو كل شرط لا يقتضيه العقد وفيه مضرة لأحدهما ، أو ليس فيه منفعة
ولا مضرة لأحد ، أو فيه منفعة لغير المتعاقدين والمبيع كشرط أن لا يبيع المبيع ولا يهبه ،
ولا يلبس الثوب ، ولا يركب الدابة ، ولا يأكل الطعام ، ولا يطأ الجارية ، أو على أن يقرض
أجنبيا دراهم ونحو ذلك ، فإنه يجوز البيع ويبطل الشرط لأنه لا يستحقه أحد فيلغو بخلوه عن
الفائدة ، ويبتني على هذه الأصول مسائل كثيرة تعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى .
قال : ولا يجوز بيع النحل إلا مع الكوارات ) وقال محمد : يجوز إذا كان مجموعا
لأنه حيوان منتفع به مقدوور التسليم فيجوز كغيره من الحيوانات . ولهما أنه لا ينتفع بعينه
ولا بجزء من أجزائه فلا يجوز كالزنابير ، ولا اعتبار بما يتولد منه من العسل لأنه معدوم ؛ أما
إذا باعها مع الكوارات وفيها عسل يجوز تبعا ، هكذا علله الكرخي في جامعه ، ثم أنكر ذلك
وقال : إنما يدخل في البيع بطريق التبع ما هو من حقوق المبيع وأتباعه ، والنحل ليس من
حقوق العسل وأتباعه . وجوابه أن يقال : إن الكوارات لما لم يكن لها فائدة بدون النحل
جعل النحل من جملة حقوقها تجوزا ألا ترى أنه لا يجوز بيع الشرب مقصودا ، ويجوز تبعا
للأرض لما أنه لا انتفاع بالأرض بدون الشرب ، وأمثاله كثيرة .
قال : ( ولا دود القز إلا مع القز ) وقال محمد : يجوز ، والعلة فيه ما مر من الطرفين في
النحل ، وقالا : يجوز بيع بيضه والسلم فيه كيلا في حينه ، لأنه بزر يتولد منه ما ينتفع به
وصار كبزر البطيخ . وقال أبو حنيفة : لا يجوز بيعه لأنه لا ينتفع بعينه ، وكان محمد يضمن
من قتل دود القز بناء على جواز بيعه ، ولا يضمنه أبو حنيفة بناء على عدم جوازه . قال :
( والبيع إلى النيروز والمهرجان وصوم النصارى وفطر اليهود إذا جهلا ذلك فاسد ) لأن
الجهالة مفضية إلى المنازعة ، وإن علما ذاك جاز كالأهلة ، ولو اشترى إلى فطر النصارى وقد
دخلوا في الصوم جاز لأنه معلوم ، وقبل دخولهم لا يجوز لأنه مجهول . قال : ( والبيع إلى
الحصاد والقطاف والدياس وقدوم الحاج فاسد ) للجهالة لأنها تتقدم وتتأخر ( وإن أسقطا الأجل
قبله جاز ) البيع خلافا لزفر ، وقد مر في خيار الشرط . وروى الكرخي عن أصحابنا أن سائر
البياعات الفاسدة تنقلب جائزة بحذف المفسد .(2/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
قال : ( ومن جمع بين عبد ومدبر أو عبد الغير جاز في عبده بحصته ) والمكاتب وأم
الولد كالمدبر لأنها أموال ، ألا ترى أن الغير لو أجاز البيع في عبده جاز ، وكذا لو قضى
القاضي بجواز البيع في المدبر وأم الولد ، وكذا لو رضي المكاتب فصار كما إذا باع عبدين
فهلك أحدهما قبل القبض فإنه يجوز في الباقي بحصته كذا هذا .
قال : ( ويكره البيع عند أذان الجمعة ) لقوله تعالى : ) وذروا البيع ( [ الجمعة : 9 ] ( وكذا
بيع الحاضر للبادي ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يبيع حاضر لباد ' وهو أن يجلب
البادي السلعة فيأخذ الحاضر ليبيعها بعد وقت بأغلى من السعر الموجود وقت الجلب ،
وكراهته لما فيه من الضرر بأهل البلد حتى لو لم يضر لا بأس به لما فيه من نفع البادي من
غير تضرر غيره ( وكذا السوم على سوم أخيه ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يستام الرجل
على سوم أخيه ' وهو أن يرضى المتعاقدان بالبيع ويستقر الثمن بينهما ولم يبق إلا العقد
فيزيد عليه ويبطل بيعه ؛ أما لو زاد عليه قبل التراضي يجوز وهو المعتاد بين الناس في جميع
البلاد والأعصار ، وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باع حلسا في بيع من يزيد ( وكذا النجش
وتلقي الجلب مكروه ) والنجش : أن يزيد في السلعة ولا يريد شراءها ليرغب غيره فيها ،
وتلقي الجلب : أن يتلقاهم وهم غير عالمين بالسعر ، أو يلبس عليهم السعر ليشتريه ويبيعه في
المصر ، فإن لم يلبس عليهم أو كان ذلك لا يضر أهل المصر لا بأس به ، وقد نهى عليه
الصلاة و السلام عن تلقي الجلب . وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا تناجشوا ' ( ويجوز
البيع ) في هذه المسائل كلها ، لأن النهي ليس في معنى العقد وشرائطه بل لمعنى خارج
فيجوز .
قال : ( ومن ملك صغيرين أو صغيرا وكبيرا أحدهما ذو رحم محرم من الآخر كره له أن(2/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
يفرق بينهما ) قال عليه الصلاة والسلام : ' من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته
في الجنة ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا تجمعوا عليهم السبي والتفريق حتى يبلغ الغلام
وتحيض الجارية ' ولأن الكبير يشفق على الصغير ويربيه ، والصغيران يتآلفان فيتضرران
بالتفريق ' ووهب عليه الصلاة والسلام لعلي أخوين صغيرين ثم سأله عنهما ، فقال : بعت
أحدهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' بعهما أو ردهما ' وفي رواية ' اذهب فاسترده ' ( ولا
يكره في الكبيرين ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' حتى يبلغ الغلام أو تحيض الجارية '
والنبي عليه الصلاة والسلام : ' فرق بين مارية وسيرين وكانتا أختين كبيرتين ، فاستولد مارية
ووهب سيرين ' فإن لم يكن بينهما محرمية يجوز كابن العم ، لأن النص ورد على خلاف
القياس فيقتصر عليه وكذا إذا كانت المحرمية لغير نسب كالمصاهرة والرضاع ، وكذا بين
الزوجين لما ذكرنا ، فإن باع الصغير وفرق بينهما جاز خلافا لأبي يوسف في قرابة الولاد
ولزفر في الإخوة ، وهو رواية عن أبي يوسف أيضا . ووجه ما تقدم من حديث علي أمره
عليه الصلاة والسلام بالرد ، وهو دليل عدم الجواز . وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام رأى
في السبايا امرأة والهة فسأل عنها ، فقيل : بيع ولدها ، فأمرهم بالرد ' وذلك يدل على
عدم الجواز ، وكذلك تعليقه الوعيد بالتفريق في الحديث الأول يدل على حرمة التفريق .
ولنا أنه باع ملكه بيعا جامعا شرائط الصحة فيجوز ، والنهي لمعنى خارج عن العقد ، وهو ما
يلحق الصبي من الضرر فلا يفسده كالبيع عند النداء فأوجب الكراهة والإثم ، وله أن يدفعه
في الدين والجناية ، ويرده بالعيب بعد القبض ، لأن التفريق مكروه وإيفاء الحقوق واجب ،
ولا يكره عتق أحدهما ولا كتابته ، لأن نفعه في ذلك أكثر من تضرره بالتفريق فكان أولى .
باب التولية
( التولية بيع بالثمن الأول ، والمرابحة بزيادة ، والوضيعة بنقيصة ) لأن الاسم ينبئ عن(2/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
ذلك ومبناها على الأمانة ، لأن المشتري يأتمن البائع في خبره معتمدا على قوله ، فيجب على
البائع التنزه عن الخيانة والتجنب عن الكذب لئلا يقع المشتري في بخس وغرور ، فإذا ظهرت
الخيانة يرد أو يختار على ما يأتيك إن شاء الله تعالى . وهي عقود مشروعة لوجود شرائطها ،
وقد تعاملها الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا هذا ، وقد صح ' أنه عليه الصلاة والسلام
لما أراد الهجرة قال لأبي بكر رضي الله عنه وقد اشترى بعيرين ولني أحدهما ' وللناس
حاجة إلى ذلك لأن فيهم من لا يعرف قيمة الأشياء فيستعين بمن يعرفها ويطيب قلبه بما
اشتراه وزيادة ، ولهذا كان مبناها على الأمانة ورأس المال في المواضعة حقه فله أن يحط
منه .
قال : ( ولا يصح ذلك حتى يكون الثمن الأول مثليا أو في ملك المشتري ) لأنه يجب
عليه مثل الثمن الأول ، فإذا كان مثليا يقدر عليه ؛ فكذلك إذا كان من ذوات القيم وهو في
يده لقدرته على أدائه ، وإن لم يكن في يده فهو باطل ، لأنه يجب عليه مثل الأول ، وهذا من
ذوات القيم ، والقيم مجهولة إنما تعلم بالظن والتخمين ، والثمن الأول هو ما عقد به لا ما
نقد ، فإن اشترى بدراهم فدفع بها ثوبا فالثمن دراهم ، ولا بد أن يكون الربح أو الوضيعة
معلوما لئلا يؤدي إلى الجهالة والمنازعة ، فلو باعه بربح ' ده يازده ' لا يجوز إلا أن يعلم
بالثمن في المجلس لأنه مجهول قبله ، ولو كان المبيع مثليا فله بيع نصفه مرابحة بحصته ،
ولو كان ثوبا أو نحوه لا يبيع جزءا منه لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر .
قال : ( ويجوز أن يضم إلى الثمن الأول أجرة الصبغ والطراز وحمل الطعام والسمسار
وسائق الغنم ويقول : قام عليّ بكذا ، ولا يضم نفقته وأجرة الراعي والطبيب والمعلم
والرايض وجعل الآبق وكراه ) وأصله أن كل ما تعارف التجار إلحاقه برأس المال يلحق به ،
وما لا فلا ؛ وقد جرت العادة بالقسم الأول دون الثاني وما تزداد به قيمة المبيع أو عينه يلحق
به ، وأنه موجود في القسم الأول ؛ أما الصبغ والطراز فظاهر ؛ وأما الحمل والسوق فلأن
القيمة تزداد باختلاف الأمكنة ، ولا كذلك القسم الثاني ؛ أما الراعي فلأنه لم يوقع فيه فعلا
وإنما هو حافظ فصار كالبيت وجعل الآبق نادر ولم يزد فيه شيئا ؛ وكذلك الطبيب وما ثبت(2/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
بالمعلم والرايض لمعنى فيه وهو ذكاؤه وفطنته ولم ضم إلى الثمن ما لا يجوز ضمه فهو
خيانة وكذلك إن أمسك جزءا من المبيع أو بدله أو كتم وصف الثمن أو الأجل فيه ، أو عيبا
بفعله أو فعل غيره ، ولو عاب بآفة سماوية فليس بخيانة ، ولو كتم أجرة المبيع أو غلته فليس
بخيانة ولو اشتراه ممن لا تقبل شهادته له لا يبيعه مرابحة حتى يبين عند أبي حنيفة خلافا
لهما ولو اشتراه من عبده أو مكاتبة يبين بالإجماع ، ولو اشتراه ممن له عليه دين بدينه لم
يبين بالإجماع . لهما في الخلافية أنهما متباينان في الأملاك فصارا كالأجنبي ، وله أن المنافع
بينهم متحدة فكأنه اشتراه من نفسه ، ولأن العادة جارية بالتسامح والمحاباة بين هؤلاء في
المعاملات فيجب البيان كما لو اشتراه من عبد .
قال : ( فإن علم بخيانة في التولية أسقطها من الثمن ) وهو القياس في الوضعية ( وفي
المرابحة إن شاء أخذه بجميع الثمن ، وإن شاء رده ) وهذا عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف :
يحط فيهما وحصة الخيانة من الربح . وقال محمد : يخير فيهما لأنه فاته وصف مرغوب في
الثمن فيتخير كوصف السلامة . ولأبي يوسف أنه بيع تعلق بمثل الثمن الأول فإنه ينعقد
بقوله : وليتك بالثمن الأول ، وبعتك مرابحة أو مواضعة على الثمن الأول ، وقدر الخيانة لم
يكن في الثمن الأول فيحط . ولأبي حنيفة إن إثبات الزيادة في المرابحة لا تبطل معناها ، إلا
أنه فاته وصف مرغوب كما قال محمد فيخير ، وإثبات الزيادة يبطل معنى التولية ، فتلغو
التسمية وتحط الزيادة تحقيقا لمعنى التولية ، ومعنى قوله وهو القياس في الوضيعة : أي إذا
خان خيانة تنفي الوضيعة ؛ أما إذا كانت خيانة توجد الوضيعة معها فهو بالخيار ، وهذا على
قياس قول أبي حنيفة وقول أبي يوسف يحط فيهما ، ومحمد يخير فيهما .
باب الربا
وهو في اللغة : الزيادة ، ومنه الربوة للمكان الزائد على غيره في الارتفاع . وفي
الشرع : الزيادة المشروطة في العقد ، وهذا إنما يكون عند المقابلة بالجنس . وقيل الربا في
الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن ، فإن بيع الدراهم بالدنانير
نسيئة ربا ولا زيادة فيه . والأصل في تحريمه قوله تعالى : ) وأحل الله البيع وحرم الربا (
[ البقرة : 275 ] وقوله : ) لا تأكلوا الربا ( [ آل عمران : 130 ] والحديث المشهور ، وهو(2/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
قوله عليه الصلاة والسلام : ' الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا ،
والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد والفضل ربا ، والشعير بالشعير مثلا بمثل كيلا
بكيل يدا بيد والفضل ربا والتمر بالتمر مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد والفضل ربا ، والملح
بالملح مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد والفضل ربا ' وأجمعت الأمة على تعدي الحكم منها
إلى غيرها إلا ما يروى عن عثمان البتي وداود الظاهري ولا اعتماد عليه .
قال : ( وعلته عندنا الكيل أو الوزن مع الجنس ) لقوله عليه الصلاة والسلام في آخر
الحديث : ' وكذلك كل ما يكال ويوزن ' رواها مالك بن أنس ومحمد بن إسحاق الحنظلي
بيّن أن العلة هي الكيل والوزن ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تبيعوا الصاع بالصاعين ،
ولا الصاعين بالثلاثة ' وهذا عام في كل مكيل سواء كان مطعوما أو لم يكن ، ولأن الحكم
متعلق بالكيل والوزن ، إما إجماعا ، أو لأن التساوي حقيقة لا يعرف إلا بهما ، وجعل العلة
ما هو متعلق الحكم إجماعا ، أو معرّف للتساوي حقيقة أولى من المصير إلى ما اختلفوا فيه ،
ولا يعرف التساوي حقيقة ، ولأن التساوي والمماثلة شرط لقوله عليه الصلاة والسلام : ' مثلا
بمثل ' وفي بعض الروايات ' سواء بسواء ' أو صيانة لأموال الناس ، والمماثلة بالصورة
والمعنى أتم وذلك فيما قلناه ، لأن الكيل والوزن يوجب المماثلة صورة ، والجنسية توجبها
معنى فكان أولى . وهذا أصلي ينبني عليه عامة مسائل الربا ، فنذكر بعضها تنبيها على الباقي
لمن يتأملها : منها لو باع حفنة طعام بحفنتين ، أو تفاحة بتفاحتين يجوز لعدم الكيل والوزن ،
وإذا ثبت أن العلة ما ذكرنا .
( فإذا وجد حرم التفاضل والنساء ) عملا بالعلة ( وإذا عدما حلا ) لعدم العلة المحرمة ،
ولإطلاق قوله تعالى : ) وأحل الله البيع ( [ البقرة : 275 ] ( وإذا وجد أحدهما خاصة حل
التفاضل وحرم النساء ) أما إذا وجد المعيار وعدم الجنس كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة ،
فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا اختلف الجنسان ' ويروى ' النوعان ، فبيعوا كيف شئتم بعد
أن يكون يدا بيد ' . وأما إذا وجدت الجنسية وعدم المعيار كالهروي بالهروي ، فإن المعجل
خير من المؤجل وله فضل عليه ، فيكون الفضل من حيث التعجيل ربا ، لأنه فضل يمكن
الاحتراز عنه وهو مشروط في العقد فيحرم .(2/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
قال : ( وجيد مال الربا ورديئه عند المقابلة بجنسه سواء ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' جيدها ورديئها سواء ' ولأن في اعتباره سد باب البياعات فيلغو . قال : ( وما ورد النص بكيله
فهو كيلي أبدا ، وما ورد بوزنه فوزني أبدا ) اتباعا للنص . وعن أبي يوسف أنه يعتبر فيه
العرف أيضا ، لأن النص ورد على عادتهم فتعتبر العادة ، وما لا نص فيه يعتبر فيه العرف لأنه
من الدلائل الشرعية . قال : ( وعقد الصرف يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس ) لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' الفضة بالفضة هاء وهاء ، والذهب بالذهب هاء وهاء ' أي يدا بيد ( وما
سواه من الربويات يكفي فيه التعيين ) لأنه يتعين بالتعيين ويتمكن من التصرف فيه ، فلا يشترط
قبضه كالثياب بخلاف الصرف ، لأن القبض شرط فيه للتعيين ، فإنه لا يتعين بدون القبض
على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام : ' يدا بيد ' أي عينا
بعين ، وهو كذلك في رواية ابن الصامت .
قال : ( ويجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما ) وقال محمد : لا يجوز لأنهما أثمان فصارت
كالدراهم والدنانير ، وكما إذا كانا بغير أعيانهما . ولهما أن ثمنيهما بالاصطلاح فيبطل به أيضا ،
وقد اصطلحا على إبطالها ، إذ لا ولاية عليهما في هذا الباب ، بخلاف الدراهم والدنانير لأنها
خلقت ثمنا ، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما ، لأنه بيع الكالئ بالكالئ ، وهو منهي
عنه . قال : ( ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق ولا بالنخالة ، ولا الدقيق بالسويق )
والأصل فيه أن شبهة الربا وشبهة الجنسية ملحقة بالحقيقة في باب الربا احتياطا للحرمة ،
وهذه الأشياء جنس واحد نظرا إلى الأصل ، والمخلص هو التساوي في الكيل ، وأنه متعذر
لانكباس الدقيق في المكيال أكثر من غيره ، وإذا عدم المخلص حرم البيع ؛ وكذا لا تجوز
المقلية بغير المقلية ولا بالسويق والدقيق ، ولا المطبوخة بغير المطبوخة لتعذر التساوي بينهما
بفعل العبد ، وفعله لا يؤثر في إسقاط ما شرط عليه ، ويجوز بيع المبلولة وباليابسة ،
والرطبة بمثلها وباليابسة لأن التفاوت بينهما بصنع الله تعالى فيجوز ؛ وأما المبلولة فلأنها في
الأصل خلقت ندية ، فالبل يعيدها إلى ما خلقت عليه كأنها لم تتغير فصارت كالسليمة
بالمسوسة والعلكة بالرخوة .(2/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز بيع الدقيق بالسويق لأنهما جنسان نظرا إلى اختلاف
المقصود ، وجوابه ما بينا ، ولأن معظم المقصود التغذي وهو يشملهما ، ويجوز بيع هذه
الأشياء بعضها ببعض متماثلا للتساوي ؛ ويجوز بيع الخبز بالدقيق والحنطة كيف كان لأنه
عددي أو وزني بكيلي ، وكذلك إذا كان أحدهما نسيئة والآخر نقدا ، وفي هذه المسائل
اختلاف وتفصيل والفتوى على ما ذكرته .
قال : ( ويجوز بيع الرطب بالرطب وبالتمر متماثلا ) وكذا التمر بالبسر والرطب بالبسر ،
لأن الجنس واحد باعتبار الأصل . قال عليه الصلاة والسلام : ' التمر بالتمر مثلا بمثل '
وصار كاختلاف أنواع التمر . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يجوز بيع الرطب بالتمر لما روي
أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عنه فقال : ' أو ينقص إذا جف ' ؟ قالوا : نعم ، قال : ' لا إذا ' ولأن الرطب
ينكبس أكثر من التمر . ولأبي حنيفة ما روي أنه لما دخل العراق سئل عن ذلك ، فقال
يجوز ، لأن الرطب إن كان من جنس التمر جاز لقوله عليه الصلاة والسلام : ' التمر بالتمر
مثلا بمثل ' وإن لم يكن تمرا جاز ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا اختلف النوعان فبيعوا
كيف شئتم ' ورد ما روياه من الحديث وقال : مداره على زيد بن عياش وهو ضعيف ،
حتى قال عبد الله بن المبارك : كيف يقال إن أبا حنيفة لا يعرف الحديث وقد عرف مثل هذا
الإسناد ؟ ولأنه باع التمر بالتمر لأن الرطب تمر ، قال عليه الصلاة والسلام لما أهدي له رطب
من خيبر : ' أكل تمر خيبر هكذا ' ؟ وقوله : الرطب ينكبس أكثر من التمر ، قلنا هذا التفاوت
نشأ من الصفات الفطرية ، وأنه موضوع عنا فيما شرط علينا من رعاية المماثلة لأنه جاء من
قبل صاحب الحق ، وقد تعذر الاحتراز عنه ، بخلاف ما إذا جاء من جهة العبد على ما مر
آنفا .
قال : ( ويجوز بيع اللحم بالحيوان ) وقال محمد : لا يجوز إذا باعه بجنسه إلا بطريق
الاعتبار ، وهو أن يكون اللحم المفرز أكثر من اللحم الذي في الشاة ليكون الفاضل بالسقط
تحرزا عن الربا ، وهو زيادة السقط وصار كالزيت بالزيتون . ولهما أنه باع موزونا بعددي ولا
يعرف ما فيه من اللحم بالوزن ، لأن الحيوان يخفف نفسه في الميزان مرة ويثقلها أخرى
بخلاف الزيت والزيتون ، لأن ذلك يعرف عند أهل الخبرة به فافترقا .(2/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
قال : ( ويجوز بيع الكرباس بالقطن ) لاختلاف الجنس باعتبار المقصود والمعيار ولا
خلاف فيه ، والقطن بالغزل يجوز عند محمد لما ذكرنا ، خلافا لأبي يوسف للمجانسة
والفتوى على قول محمد . قال : ( ولا يجوز بيع الزيت بالزيتون ، ولا السمسم بالشيرج إلا
بطريق الاعتبار ) تحرزا عن الربا وشبهته ، وكذلك كل ما شابهه كالعنب بدبسه والجوز بدهنه
وأمثاله ، واللحمان أجناس مختلفة يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا حتى لا يكمل نصاب
بعضها من الآخر ، إلا أن البقر والجواميس جنس ، والمعز والضأن جنس ، والبخت والعراب
جنس ، وكذلك الألبان والشحم والألية جنسان ، وشحم الجنب لحم ويعرف تمامه في
الأيمان .
قال : ( ولا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب ) خلافا لأبي يوسف ، وعلى هذا
القمار لأن الربا والقمار حرام ، ولا يحل في دارهم كالمستأمن في دارنا . ولهما أن مالهم
مباح ، إلا أنه بالأمان حرم عليه التعرض بغير رضاهم تحرزا عن الغدر ونقض العهد ، فإذا
رضوا به حل أخذه بأي طريق كان بخلاف المستأمن ، لأن ماله صار محظورا بالأمان . قال :
( ويكره السفاتج ) وهو قرض استفاد به المقرض أمن الطريق ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
' كل قرض جر منفعة فهو ربا ' وصورته أن يقرضه دراهم على أن يعطيه عوضها في بلده
أو على أن يحميه في الطريق .(2/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
باب السلم
وهو في اللغة : التقديم والتسليم وكذلك السلف . وهو في الشرع : اسم لعقد يوجب
الملك في الثمن عاجلا وفي المثمن آجلا ، وسمي به لما فيه من وجوب تقديم الثمن ، وقال
القدوري : السلم في لغة العرب : عقد يتضمن تعجيل أحد البدلين وتأجيل الآخر ، وهو نوع
من البيع ، لكن لما اختص بحكم وهو تعجيل الثمن اختص باسم كالصرف لما اختص
بوجوب تعجيل البدلين اختص باسم ، وهو عقد شرع على خلاف القياس لكونه بيع
المعدوم ، إلا أنا تركنا القياس بالكتاب والسنة والإجماع ؛ أما الكتاب فقوله تعالى : ) يا أيها
الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( [ البقرة : 282 ] قال ابن عباس : أشهد
أن الله تعالى أجاز السلم وأنزل فيه أطول آية في كتابه وتلا هذه الآية . وأما السنة قوله عليه
الصلاة والسلام : ' من أسلم منكم فليسلّم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم '
وروي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم وعليه
الإجماع ، ويسمى بيع المفاليس شرع لحاجتهم إلى رأس المال ، لأن أغلب من يعقده من لا
يكون المسلم فيه في ملكه ، لأنه لو كان في ملكه يبيعه بأوفر الثمنين فلا يحتاج إلى السلم ،
وينعقد بلفظ السلم ، وهو أن يقول : أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة لأنه حقيقة فيه ،
وبلفظ السلف أيضا لأنه بمعناه ، وبلفظ البيع في رواية الحسن لأنه نوع بيع ، وفي رواية
المجرد لا ، والأول أصح .
قال : ( كل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه ) لأنه لا يؤدي إلى
المنازعة ( وما لا فلا ) لأنه يكون مجهولا فيؤدي إلى المنازعة ، وهذه قاعدة يبتني عليها أكثر
مسائل السلم ، ولا بد من ذكر بعضها ليعرف باقيها بالتأمل فيها فنقول : يجوز في المكيلات
والموزونات والمزروعات والمعدودات المتقاربة كالجوز والبيض ، لأنه يمكن ضبط صفته
ومعرفة مقداره ، ولا يجوز في العدديات المتفاوتة كالبطيخ والرمان وأشباههما ، ولا في
الجوهر والخرز لأنه لا يمكن فيه ذلك ، ويجوز في الطست والقمقم والخفين ونحوها لما
ذكرنا ، ولا يجوز في الخبز لتفاوته تفاوتا فاحشا بالثخانة والرقة والنضج ، ويجوز عندهما وهو
المختار لحاجة الناس ، ولا يجوز استقراضه عند أبي حنيفة لتفاوته عددا من حيث الخفة
والثقل ، ووزنا من حيث الصنعة . وعند أبي يوسف يجوز وزنا لا عددا ، لأن الوزن أعدل .
وعند محمد يجوز بهما وهو المختار لتعامل الناس به وحاجتهم إليه .
قال : ( وشرائطه تسمية الجنس والنوع والوصف والأجل والقدر ومكان الإيفاء إن كان له(2/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
حمل ومؤونة وقدر رأس المال في المكيل والموزون والمعدود وقبض ، رأس المال قبل
المفارقة ) لأن بذكر هذه الأشياء تنفى الجهالة وتقطع المنازعة ، وعند عدمها يكون المسلم فيه
مجهولا فتفضي إلى المنازعة ، فالجنس كالحنطة والتمر والنوع كالبرني ، والمكتوم في التمر
وفي الحنطة كسهلية وجبلية ، والوصف كالجيد والرديء ، والأجل كقوله إلى شهر ونحوه وهو
شرط ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إلى أجل معلوم ' ولما بينا أنه شرع دفعا لحاجة
المفاليس ، فلا بد من التأجيل ليقدر على التحصيل وتقديره إلى المتعاقدين ، ذكره الكرخي .
وعن الطحاوي أقله ثلاثة أيام ، رواه عن أصحابنا اعتبارا بمدة الخيار . وروي عنهم لو شرط
نصف يوم جاز لأن أدنى مدة الخيار لا تتقدر فكذلك أجل المسلم .
وعن محمد شهر وهو الأصح ، لأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل . وأما القدر فقوله كذا
قفيزا وكذا رطلا ، وهو شرط لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فليسلم في كيل معلوم ووزن
معلوم ' وأما مكان الإيفاء فقولنا في مكان كذا ، وإنما يشترط إذا كان له حمل ومؤونة ،
وقالا : لا يشترط ويوفيه في مكان العقد ، لأن مكان العقد متعين لعدم المزاحمة كما في البيع
وكما فيما لا حمل له . وله أن التسليم غير واجب في الحال ، وإنما يجب إذا حل الأجل ولا
يدري أين يكون عند حلوله فيحتاج إلى بيان موضع الإيفاء قطعا للمنازعة ، ولأن القيمة
تختلف باختلاف الأماكن ، بخلاف البيع لأنه يوجب التسليم في الحال ، ولا منازعة فيما لا
حمل له ، وعلى هذا الخلاف الأجرة والثمن إذا كان له حمل ، والقسمة وهو أن يزيد على
أحد النصيبين شيئا له حمل ومؤونة ، وإذا شرط مكانا يتعين عملا بالشرط ؛ وأما ما ليس له
حمل ومؤونة كالمسك والكافور ونحوهما لا يشترط ذلك بالإجماع ، وهل يتعين مكان العقد ؟
عنه روايتان ، الأصح أنه يتعين ، ولو شرط له مكانا قيل لا يتعين لعدم الفائدة ، وقيل يتعين
للفائدة ، لأن قيمة العنبر في المصر أكثر منها في السواد ، ولأن فيه أمن خطر الطريق .
وأما بيان قدر رأس المال فمذهب أبي حنيفة ، وقالا : يكتفي بالإشارة لأنه يصير معلوما
بها وصار كالثوب إذا كان رأس المال . وله أنه يفضي إلى المنازعة لأنه ربما يجد بعضها
زيوفا وقد أنفق البعض فيرده ولا يستبدل في المجلس ، وفي المثليات ينقسم المسلم فيه على
قدر رأس المال فينتقض السلم بقدر ما رد ، ولا يدري قدر الباقي فيفضي إلى المنازعة ،
والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعيته على خلاف القياس ، بخلاف الثوب لأن العقد لا
يتعلق على مقداره ، وعلى هذا إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما ، أو(2/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
أسلم الدراهم والدنانير ولم يبين مقدار أحدهما . وصورة المسألة أن يقول : أسلمت إليك هذه
الدراهم في كر حنطة ونحوه ، أو أسلمت إليك هذه الدراهم العشرة وهذه الدنانير في كذا ،
أو يقول : أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة وكر شعير ، أو في ثوبين مختلفين ولم
يبين حصة كل واحد منهما ، ولو كان رأس المال غير مثلى كالثوب والحيوان يجوز ، وإن لم
يعلم قيمته وذرعه ، لأن المسلم فيه لا ينقسم على عدد الذرعان لتفاوتها في الجودة ، ولا
على القيمة لأنها غير داخلة في العقد فلا يفيد معرفتها فلا يعتبر .
وأما قبض رأس المال قبل المفارقة فلأن السلم أخذ عاجل بآجل على ما مر ، فيجب
قبض أحد البدلين ليتحقق معنى الاسم ، ولا يجب قبض المسلم فيه في الحال فيجب قبض
رأس المال ، ثم إن كان رأس المال دينا يصير كالئا بكالئ وإنه منهي عنه . وإن كان عينا
فالقياس أن القبض ليس بشرط لأنه يتعين فقد افترقا عن دين بعين ، والاستحسان أنه شرط
عملا بالخبر ومقتضى لفظ السلم ، ولهذا لا يجوز فيه خيار الشرط لأنه يمنع صحة التسليم
فيخل به ، ولا يجوز أخذ عوض رأس المال من جنس آخر لأنه يفوّت قبض رأس المال
المشروط ، وكذا لا يجوز الإبراء منه لما بينا ، فإن قبل الإبراء سقط القبض وبطل العقد ، وإن
رده لم يبطل لأنه صح بتراضيهما فلا يبطل إلا بتراضيهما ، فإن أعطاه من جنس أردأ منه
ورضي المسلم إليه به جاز لأنه ليس بعوض وإن خالف في الصفة ، وكذلك إن أعطي أجود
منه ، ويجبر على الأخذ خلافا لزفر . له أنه تبرع عليه بالجودة فله أن لا يقبل . ولنا أن
الجودة لا تخرجه عن الجنس وهي غير منفردة عن العين فلا يعتبر فيه الرضى إذا تبرع بها
كالرجحان في الوزن . وأما المسلم فيه فالإبراء عنه صحيح لأنه دين لا يجب قبضه في
المجلس فيصح الإبراء عنه كسائر الديون ، ولا يجوز أن يأخذ عوضه من خلاف جنسه .
قال عليه الصلاة والسلام : ' من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ' وعن الصحابة
موقوفا ومرفوعا ' ليس لك إلا سلمك أو رأس مالك ' فإن أعطاه من الجنسين أجود أو أردأ
جاز على ما تقدم . وشرط آخر وهو أن لا يجتمع في البدلين أحد وصفي علة الربا حتى لا
يجوز إسلام الهروي في الهروي ، ولا إسلام الكيلي في الكيلي كالحنطة في الشعير ولا
الوزني في الوزني كالحديد في الصفر أو في الزعفران ونحو ذلك لقوله : ' إذا اختلف
الجنسان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ، ولا خير في نسيئة ' وهذا مطرد إلا في
الأثمان فإنه يجوز إسلامها في الوزنيات ضرورة لحاجة الناس ، ولأن الأثمان تخالف غيرها
من الوزنيات في صفة الوزن ، لأنها توزن بصنجات الدراهم والدنانير ، وغيرها يوزن بالأرطال(2/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
والأمنان ، والأثمان لا تتعين بالتعيين وغيرها يتعين فلم يجمعهما أحد وصفي العلة من كل
وجه ، فجاز إسلام أحدهما في الآخر ، ولو أسلم مكيلا في مكيل وموزون ولم يبين حصة
كل واحد منهما كما إذا أسلم كر حنطة في كر شعير وعشرة أرطال زيت فإنه يبطل في الكل ،
وقالا : يجوز في حصة الموزون بناء على أن الصفقة متى فسدت في البعض فسدت في الكل
عنده ، وعندهما يفسد بقدر المفسد لأنه وجد في البعض فيقتصر عليه ، كما إذا باع عبدين
أحدهما مدبر ، وله أنه فساد قوي تمكن في صلب العقد فيشيع في الكل كما إذا ظهر أحد
العبدين حرا أو أحد الدنين خمرا ، بخلاف المدبر فإن حرمة بيعه ليس مجمعا عليه ، ولا
يجوز السلم في ما لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير ، لأن البيع بها يجوز نسيئة فلا حاجة
إلى السلم فيهما ، وهل يجوز في التبر ؟ فيه روايتان ، ويجوز في الحلي لأنه يتعين ، وفي
الفلوس عندهما خلافا لمحمد وقد مرّ .
قال : ( ولا يصح في المنقطع ) بمعنى أنه لا بد من وجوده من وقت العقد إلى وقت
المحل لأن القدرة على التسليم إنما تكون بالقدرة على الاكتساب في المدة ، وفي مدة
انقطاعه لا يقدر على ذلك ، وربما أفضى إلى العجز عن التسليم وقت المحل ، وإليه الإشارة
بقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها ' والانقطاع أن لا
يوجد في سوقه الذي يباع فيه وإن كان يوجد في البيوت ، ولا يجوز فيما لا يوجد في ذلك
الإقليم كالرطب في خراسان وإن كان يوجد في غيره من الأقاليم لأنه في معنى المنقطع ، ولو
حل السلم فلم يقبضه حتى انقطع عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يبطل السلم ، وقيل إن شاء
انتظر وجوده ، وإن شاء أخذ رأس ماله ، كإباق العبد المبيع وتخمر العصير قبل القبض .
قال : ( ولا في الجواهر ) لتفاوت آحادها تفاوتا فاحشا حتى لو لم تتفاوت كصغار اللؤلؤ
الذي يباع وزنا ، قالوا يجوز لأنه وزني . قال : ( ولا في الحيوان ولحمه وأطرافه وجلوده ) لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عن السلم في الحيوان لأنه مما يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا
باعتبار معانيه الباطنة ، وذلك يوجب التفاوت في المالية فيؤدي إلى النزاع . وأما اللحم
فمذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : إذا سمى من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز
لأنه وزني معلوم القدر والصفة فيجوز . وله أن يتفاوت تفاوتا فاحشا بكبر العظم وصغره ،
فعلى هذا يجوز في منزوع العظم ، وهي رواية الحسن ، ويتفاوت بالسمن والهزال أيضا ،
فعلى هذا لا يجوز أصلا وهو رواية ابن شجاع ، ولو استهلك لحما ضمنه بالقيمة عند أبي
حنيفة رحمه الله ذكره في المنتقى . وقال في الجامع بالمثل ويجوز استقراضه في الأصح ،(2/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
والفرق لأبي حنيفة أن القرض والضمان يجبان حالا فتكون صفته معلومة ولا كذلك السلم .
وأما أطرافه وجلوده فلأنها عددي متفاوت تفاوتا يؤدي إلى المنازعة ، والمراد بالأطراف
الرؤوس والأكارع . أما الشحوم والألية يجوز السلم فيها لأنها وزني معلوم القدر والصفة .
قال : ( ويصح في السمك المالح وزنا ) لأنه لا ينقطع ، وكذلك الطري الصغار في
حينه . وفي الكبار عن أبي حنيفة روايتان ، المختار الجواز وهو قولهما لأن السمن والهزال
غير معتبر فيه عادة . وقيل الخلاف في لحم الكبار منه . قال : ( ولا يصح بمكيال بعينه لا
يعرف مقداره ) لأنه ربما هلك المكيال قبل حلول الأجل فيعجز عن التسليم . وكذا ذراع
بعينه ، أو وزن حجر بعينه ، ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض وينبسط كالخشب
والحديد ليكون معلوما فلا يؤدي إلى النزاع . أما ما ينقبض وينبسط كالجواب والزنبيل يزداد
وينتقص فيؤدي إلى النزاع . قال : ( ولا في طعام قرية بعينها ) لأنه قد لا يسلم طعامها إما بآفة
أو لا تنبت شيئا ، وكذا ثمرة نخلة بعينها . قال عليه الصلاة والسلام : ' أرأيت لو أذهب الله
الثمرة بم يستحل أحدكم مال صاحبه ' ؟ وروي ' أنه عليه الصلاة والسلام أسلم إلى زيد بن
سعفة في تمر فقال : أسلم إليّ في تمر نحلة بعينها فقال عليه الصلاة والسلام : أما في تمر
نخلة بعينها فلا ' .
قال : ( ويجوز في الثياب إذا سمى طولا وعرضا ورقعة ) لأنه إذا ذكر مع الجنس والنوع
والصفة فالتفاوت بعده يسير غير معتبر ، وهذا استحسان لحاجة الناس إليه ، وهل يشترط
الوزن في الحرير ؟ الأصح اشتراطه ، لأن التفاوت فيه من حيث الوزن معتبر ؛ وقيل إن كان
إذا ذكر الطول والعرض والرقعة لا يتفاوت وزنه لا حاجة إلى ذكر الوزن لعدم التفاوت ، وإن
كان يختلف وزنه فلا بد من ذكر الوزن ، واختاره القدوري ، وإذا أطلق الذراع فله الوسط إلا
أن يكون معتادا فله المعتاد . قال : ( وفي اللبن إذا عيّن الملبن ) لأنه عددي متقارب إذا بيّن
الملبن وكذلك الآجر . وعن أبي حنيفة : لو باع مائة آجرّة من أتون لا يجوز للتفاوت في
النضج . قال : ( ولا يجوز التصرف فيه المسلم فيه قبل القبض ) لأنه مبيع ، وقد بينا أن التصرف
في المبيع قبل القبض لا يجوز ، وكذلك الشركة والتولية لأنهما تصرف ( ولا في رأس المال
قبل القبض ) لأنه يجب قبضه للحال لما بينا ، فإذا تصرف فيه فات القبض فلا يجوز .(2/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
فصل
( وإذا استصنع شيئا جاز استحسانا ) اعلم أن القياس يأبى الجواز وهو قول زفر ، لأنه
بيع المعدوم لكن استحسنا جوازه للتعامل بين الناس من غير نكير فكان إجماعا ، وبمثله يترك
القياس والنظر ويخص الكتاب والخبر ، ثم قيل هي مواعدة حتى يكون لكل واحد منهما
الخيار ، والأصح معاقدة لأن فيه قياسا واستحسانا ، وفرق بين ما جرت به العادة وما لا ،
وذلك من خصائص العقود ، وينعقد على العين دون العمل حتى لو جاء بعين من غير عمله
جاز ( وللمشتري خيار الرؤية ) لأنه اشترى ما لم يره ( وللصانع بيعه قبل الرؤية ) لأنه ملكه
والعقد لم يقع على هذا بعينه ، فإذا رآه المستصنع ورضي به لم يكن للصانع بيعه لأنه تعين ،
ثم إنما يجوز فيما جرت به العادة من أواني الصفر والنحاس والزجاج والعيدان والخفاف
والقلانس والأوعية من الأدم والمناطق وجميع الأسلحة ، ولا يجوز فيما لا تعامل في
كالجباب ونسج الثياب ، لأن المجوز له هو التعامل على ما مر فيقتصر عليه .
قال : ( وإن ضرب له أجلا صار سلما ) فيشترط له شرائط السلم ، وقالا : لا يصير سلما
لأنه استصناع حقيقة ، فبضرب الأجل لا يصير سلما ، كما لا يصير السلم استصناعا بحذف
الأجل . ولأبي حنيفة أنه أتى بمعنى السلم فيكون سلما ، لأن العبرة للمعاني لا للصور ، ولأنه
أمكن جعله سلما فيجعل لورود النص بجواز السلم دون الاستصناع . وجوابهما أن حذف
الأجل ليس من خواص الاستصناع ، أما الأجل من خواص السلم ويكتفي في الاستصناع
بصفة معروفة تحتمل الإدراك ، ولا بد في السلم من استقصاء الصفة على وجه يتيقن بالإدراك
فافترقا .
باب الصرف
وهو في اللغة الدفع والرد ، ومنه الدعاء : اصرف عنا كيد الكائدين ، وصرف الله عنك
السوء . وفي الشريعة : بيع الأثمان بعضها ببعض ، سمي به لوجوب دفع ما في يد كل واحد
من المتعاقدين إلى صاحبه في المجلس .
قال : ( وهو بيع جنس الأثمان بعضه ببعض ، ويستوي في ذلك مضروبهما ومصوغهما
وتبرهما ، فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لم يجز إلا مثلا بمثل يدا بيد ) والأصل فيه قوله(2/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
عليه الصلاة والسلام : ' الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا والفضة بالفضة مثلا
بمثل يدا بيد والفضل ربا ' ولقول عمر رضي الله عنه : وإن استنظرك إلى وراء السارية فلا
تنظره . ولأنه لا بد من قبض أحد العوضين ليخرج من بيع الكالئ بالكالئ وليس
أحدهما أولى من الآخر فيقبضان ، ولأنه إذا قبض أحدهما يجب قبض الآخر تحقيقا
للمساواة ، والمعتبر في ذلك المفارقة بالأبدان حتى لو تصارفا وسارا عن مجلسهما كثيرا ثم
تقابضا جاز ما لم يفترقا ، وكذلك مجلس عقد المسلم ، ولو تصارفا ووكلا بالقبض فالمعتبر
تفرق العاقدين لا تفرق الوكيلين ، ولو ناما جالسين لم يكن فرقة ، ولو ناما مضطجعين كان
فرقة ، ولا يجوز خيار الشرط لأنه ينفي استحقاق القبض ولا الأجل لأنه يفوت القبض الذي
هو شرط الصحة ، فإن أسقطهما قبل التفرق جاز خلافا لزفر وقد مر ، ولو اشترى بثمن
الصرف عرضا قبل قبضه فهو فاسد ، لأنه يفوت القبض المستحق بالعقد ، وكذا كل تصرف
في بدل الصرف قبل قبضه لما بينا .
قال : ( ولا اعتبار بالصياغة والجودة ) لقوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث :
' جيدها ورديئها فيه سواء ' ( فإن باعها مجازفة ثم عرف التساوي في المجلس جاز وإلا فلا )
لما عرف أن ساعات المجلس كساعة واحدة فصار كالعلم في ابتدائه ؛ وإن لم يعلما لا يجوز
لاحتمال الربا ، لأن الشرط هو المساواة يجب علينا تحصيله ، أما وجوده في علم الله تعالى
لا يصلح أن يكون شرطا ، لأن الأحكام تنبني على أفعال العباد تحقيقا لمعنى الابتلاء ، وتعتبر
في الدراهم والدنانير الغلبة كما تقدم في الزكاة ، فإن تساويا فهي كالجياد في الصرف احتياطا
للحرمة . قال : ( ويجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ومجازفة مقابضة ) ، لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ' . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ' ولو افترقا قبل القبض بطل العقد لفوات
الشرط . قال : ( ويجوز بيع درهمين ودينار بدينارين ودرهم ، وبيع أحد عشر درهما بعشرة
ودينار ) وكذا درهمين ودينارين بدينار ودرهم ، وكذا كري حنطة وكر شعير بكر حنطة وكري(2/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
شعير . والأصل في ذلك أن عندنا يصرف كل واحد من الجنسين إلى خلافه حملا لتصرفهما
على الصحة ، وفيه خلاف زفر ، فإنه يصرف الجنس إلى جنسه لأنه أسهل عند المقابلة . ولنا
أنهما قصدا الصلة ظاهرا فيحمل عليه تحقيقا لقصدهما ودفعا لحاجتهما ؛ ولو باع الجنس
بمثله وأحدهما أقل ومعه عرض إن بلغت قيمة العرض قدر النقصان جاز ولا كراهة فيه ، وإن
لم تبلغ جاز مع الكراهة ، وإن كان مما لا قيمة له لا يجوز لأنه ربا .
قال : ( ومن باع سيفا محلى بثمن أكثر من قدر الحلية جاز ) ومراده إذا كان الثمن من
جنس الحلية جاز لتكون الحلية بمثلها والزيادة بالنصل والحمائل والجفن ، وإن كان مثلها أو
أقل لا يجوز لأنه ربا ، وإن كان بخلاف جنسها جاز كيف كان لجواز التفاضل على ما بينا
( ولا بد من قبض قدر الحلية قبل الافتراق ) لأنه صرف ، ولو اشتراه بعشرين درهما والحلية
عشرة دراهم فقبض منها عشرة فهي حصة الحلية وإن لم يعينها حملا لتصرفه على الصحة ،
وكذا إذا قال خذها من ثمنها لأن قصده الصحة ، وقد يراد بالاثنين أحدهما كقوله تعالى :
) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( [ الرحمن : 22 ] وكذا إن اشتراه بعشرين عشرة نقدا وعشرة
نسيئة ، فالنقد حصة الحلية لما تقدم ؛ فإن افترقا لا عن قبض بطل البيع فيهما إن كانت الحلية
لا تتخلص إلا بضرر كجذع في سقف ، وإن كانت تتخلص جاز في السيف وبطل في الحلية
كالطوق في عنق الجارية ، وقس على هذا جميع أمثالها .
قال : ( وإن باع إناء فضة أو قطعة نقرة فقبض بعض الثمن ثم افترقا صار شركة بينهما )
فيكون للمشتري فيه بقدر ما نقد من الثمن ، ولا خيار له ، لأن العيب جاء من قبله حيث لم
ينقد جميع الثمن ( فإن استحق بعض الإناء ، فإن شاء المشتري أخذ الباقي بحصته ، وإن شاء
رده ) لأن الشركة عيب في الإناء ( ولو استحق بعض القطعة أخذ الباقي بحصته ولا خيار له )
لأن التشقيص لا يضر القطعة فلم تكن الشركة فيه عيبا . قال : ( ويجوز البيع بالفلوس ) لأنها
معلومة ( فإن كانت كاسدة عينها ) لأنها عروض ( وإن كانت نافقة لم يعينها ) لأنها من الأثمان
كالذهب والفضة ( فإن باع بها ثم كسدت بطل البيع ) خلافا لهما لأن البيع صح فلا يفسد
لتعذر التسليم بالكساد ، كما إذا اشترى بشيء من الفواكه وانقطع فتجب قيمتها ، غير أن أبا
يوسف يوجبها يوم البيع لأن الثمن مضمون به ، ومحمدا يوم الكساد لأن عنده تنتقل إلى
القيمة . ولأبي حنيفة أن ثمنية الفلوس بالاصطلاح فيهلك بالكساد فيبقى المبيع بلا ثمن(2/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
فيبطل ، فيرد المبيع أو قيمته إن كان هالكا . قال : ( ومن أعطى صيرفيا درهما وقال أعطني به
فلوسا ونصفا إلا حبة جاز ) ويصرف النصف إلا حبة إلى مثله من الدرهم والباقي إلى الفلوس
تصحيحا لتصرفهما ، وقد تقدم جنسه والله أعلم .(2/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
كتاب الشفعة
وهي الضم ، ومنه الشفع في الصلاة ، وهو ضم ركعة إلى أخرى ، والشفع : الزوج
الذي هو ضد الفرد ، والشفيع لانضمام رأيه إلى رأي المشفوع له في طلب النجاح ، وشفاعة
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للمذنبين لأنها تضمهم إلى الصالحين ، والشفعة في العقار لأنها ضم ملك البائع
إلى ملك الشفيع ، وهي تثبت للشفيع بالثمن الذي بيع به رضي المتبايعان أو سخطا ، ولهذا
المعنى كانت على خلاف القياس ، إلا أنا استحسنا ثبوتها بالنص ، وهو قوله عليه الصلاة
والسلام : ' الجار أحق بشفعته ' رواه جابر ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' جار الدار أحق
بشفعة الدار ' وكان أبو بكر الرازي ينكر هذا القول ويقول : وجوب الشفعة مجمع عليه
أصل من الأصول المقطوع بها لا يقال إنه استحسان .
قال : ( ولا شفعة إلا في العقار ) لقوله عليه الصلاة و السلام : ' لا شفعة إلا في ربع أو
حائط ' ولأن الشفعة وجبت في العقار لدفع ضرر الدخيل فيما هو متصل على الدوام على
ما نبينه إن شاء الله تعالى والمنقول ليس كذلك ، لأنه لا يدوم دوام العقار فلا يلحق به
( وتجب في العقار سواء كان مما يقسم ) كالدور والحوانيت والقرى ( أو مما لا يقسم ) كالبئر
والرحى والطريق ، لأن النصوص الموجبة للشفعة لا تفصل وسببها الملك المتصل ، والمعنى(2/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
الذي وجبت له دفع ضرر الدخيل ، وذلك لا يختلف في النوعين . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' الشفعة في كل شرك ربع أو حائط ' ( وتجب إذا ملك العقار بعوض هو مال )
حتى لو ملكه بعوض ليس بمال النكاح والخلع والإجارة والصلح عن دم العمد لا تجب
الشفعة ، وكذا لو ملكه لا بعوض كالهبة والوصية والصدقة والإرث ، لأن الشفيع إنما يأخذها
بمثل ما أخذها به الدخيل أو بقيمته ، وهذه الأشياء لا مثل لها ولا قيمة ، أما الخالية عن
الأعواض فظاهر . وأما المقابلة بالأعواض المذكورة ، أما عدم المماثلة فظاهر ، وأما القيمة
فلأن قيمتها غير معلومة حقيقة ، لأن القيمة ما تقوم مقام المقوّم في المعنى ، وأنه لا يتحقق
في هذه الأشياء ، وإنما تقوّمت في النكاح والإجارة بمهر المثل وأجرة المثل ضرورة صحة
العقد فلا يتعداهما ، وتجب في الموهوب بشرط العوض ابتداء لأنه بيع انتهاء على ما يأتيك
في الهبة ، وكذا تجب في الصلح عن إقرار أو سكوت ، لأنه مقابلة المال بالمال على ما
يأتي في الصلح إن شاء الله تعالى .
قال : ( وتجب بعد البيع ) لأن بالرغبة عن الملك تجب الشفعة ، وبالبيع يعرف ذلك ،
ولهذا لو أقر المالك بالبيع أخذها الشفيع وإن كذبه المشتري ، وخيار البائع يمنع الشفعة لأنها
لم تخرج عن ملكه ، وخيار المشتري لا يمنعه لخروجها عن ملك البائع ، وخيار الرؤية
والعيب لا يمنع . قال : ( وتستقر بالإشهاد ) لأن بالإشهاد يعلم طلبه إذ لا بد من طلب المواثبة
على ما يأتي ، فيحتاج إلى إثباته عند القاضي وذلك بالإشهاد ، فإذا شهد به الشهود استقرت .
قال : ( وتملك بالأخذ ) إذا أخذها من المشتري أو حكم له بها حاكم ، لأن بالعقد تم الملك
للمشتري فلا يتنقل عنه إلا برضاه أو بقضاء كالرجوع في الهبة ، حتى لو باع الشفيع ما يشفع
به قبل ذلك الطلب بعد الطلب بطلت شفعته ، وكذا لو مات في هذه الحالة بطلت ولا
تورث . قال : ( والمسلم والذمي والمأذون والمكاتب ومعتق البعض سواء ) لعموم النصوص ،
ولأن السبب موجود وهو الاتصال ، والمعنى يشملهم وهو دفع الضرر .
قال : ( وتجب للخليط في نفس المبيع ، ثم في حق المبيع ، ثم للجار ) أما الخليط
فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' الشفعة لشريك لم يقاسم ' وأما في حق المبيع فلقوله عليه(2/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
الصلاة والسلام : ' جار الدار أحق بشفعة الدار والأرض ، وينتظر إن كان غائبا إذا كان
طريقهما واحدا ' وأما الجار فلما تقدم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' الجار أحق
بسقبه ' أي بسبب قربه . وروي أنه قيل : يا رسول الله ما سقبه ؟ قال : ' شفعته ' ولأنها
تثبت لدفع ضرر الجار من حيث إيقاد النار ، وإثارة الغبار ، وإعلاء الجدار ؛ وتجب على ما
ذكرنا من الترتيب لقوله عليه الصلاة والسلام : ' الشريك أحق من الخليط ، والخليط أحق
من غيره ' وفي رواية ' والخليط أحق من الجار ' فالشريك في الرقبة ، والخليط في
الحقوق ، ولأن الشريك أخص بالضرر ، ثم الخليط ، ثم الجار ، لأن الشريك شاركهما في
المعنى وزاد ، وكذلك الخليط شارك الجار وزاد عليه فيترجح لقوة السبب ، فإن سلم
الشريك في الرقبة يصير كأن لم يكن فيأخذها الشريك في الحقوق ، فإن سلم أخذها
الجار ؛ والمراد الجار الملاصق وإن كان بابه إلى سكة أخرى ، لأنه هو الذي يستضر بما
ذكرنا من المعاني .
وعن أبي يوسف لا حق لهما مع الشريك في الرقبة وإن سلم ، لأنه حجبهما فلا حق
لهما معه كالحجب في الميراث ، ووجه الظاهر ما ذكرنا ، ولأنهم استووا في السبب لكنه تقدم
لما ذكرنا ، فإذا سلم عمل السبب في حقهما لزوال المانع كالدين بالرهن وبغير رهن إذا
أسقط المرتهن حقه وحق المبيع الطريق الخاص وهو ما لا يكون نافذا ، والنهر الخاص وهو
ما لا تجري فيه السفن .
قال : ( وتقسم على عدد الرؤوس ) وصورته دار بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث
وللآخر السدس ، باع أحدهم نصيبه فالشفعة للباقين على السواء لاستوائهما في السبب وهو
الاتصال ، ألا ترى أنه لو انفرد أحدهم أخذ الجميع ، فدل على استوائهم في السبب ، وكان
المعنى يشملهم وهو لحوق الأذى فيستوون في الاستحقاق ، وكذا لو كان لهما جاران
أحدهما ملاصق من ثلاث جوانب والآخر من جانب واحد ، فهما سواء لاستوائهما في لحوق
الضرر والسبب .
قال : ( وإذا علم الشفيع بالبيع ينبغي أن يشهد في مجلس علمه على(2/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
الطلب ) وهذا طالب المواثبة وهو على الفور . قال عليه الصلاة والسلام : ' الشفعة لمن
واثبها ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' إنما الشفعة كنشطة عقال ، إن قيدتها ثبتت وإلا
ذهبت ' وروي عن محمد أنه على المجلس لأنه تمليك فيحتاج إلى التروي والنظر فلا
يبطل خياره ما لم يوجد منه ما يدل على الإعراض كخيار القبول والمخيرة ( فإن لم يشهد بعد
التمكن منه بطلت ) لأنه دليل الإعراض ، ولا تبطل إذا حمد الله أو سبحه أو سلم أو شمّت
لأنه لا يدل على الإعراض ، وكذا إذا سأل عن المشتري وكمية الثمن وماهيته لأنه دليل
الطلب ، ولو كان في الأربعة بعد الجمعة أو قبل الظهر فأتمها لم تبطل ، ولو زاد على ركعتين
في غيرها من السنن بطلت ، ثم هذا الطلب إنما يجب عليه إذا أخبره به رجل عدل ، أو
رجلان مستوران ، أو رجل وامرأتان . وعندهما يكفي خبر الواحد رجلا كان أو امرأة أو
صبيا ، حرا أو عبدا إذا كان الخبر حقا ، وتمامه يأتيك في الوكالة إن شاء الله تعالى ، والمعتبر
الطلب دون الإشهاد ، وإنما الإشهاد للإثبات حتى لو صدقه المشتري على الطلب لا يحتاج
إلى شهود .
قال : ( ثم يشهد على البائع إذا كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار )
وهذا طلب التقرير لأنه قد لا يمكنه الإشهاد على طلب المواثبة لأنه على الفور فيحتاج إلى
هذا الطلب الثاني للإثبات عند القاضي ، فإن كان المبيع في يد البائع لم يسلمه ، فإن شاء
أشهد عليه ، وإن شاء على المشتري ، لأن كل واحد منهما خصم البائع باليد والمشتري
بالملك ، وإن شاء عند المبيع لتعلق الحق به وهو أن يقول : إن فلانا باع هذه الدار ويذكر
حدودها الأربعة وأنا شفيعها طلبت شفعتها وأطلبها الآن فاشهدوا علي بذلك ، وإن كان البائع
قد سلمها لا يجوز الإشهاد عليه لأنه لم يبق خصما ، فإذا فعل ذلك لا يثبت ( ولا تسقط
بالتأخير ) وعن أبي يوسف إن تركه مجلسا أو مجلسين من مجالس الحكم بطل . وعنه ثلاثة
أيام لأنه دليل الإعراض . وقدره محمد بشهر لأن المشتري يتضرر بالتأخير لنقص تصرفاته ،
فقدره بالشهر لأنه أقل الآجل وأكثر العاجل ، ومرادهما إذا ترك لغير عذر . ولأبي حنيفة أنه
حق ثبت فلا يسقط بالتأخير كسائر الحقوق ، وضرر المشتري يمكن دفعه بالمرافعة إلى
القاضي حتى يوقت له وقتا يوفيه فيه الثمن وإلا يبطل حقه . قال في الهداية والفتوى على
قول أبي حنيفة . وقال في المحيط : والفتوى على قولهما دفعا للضرر عن المشتري لأنه قد
يختفي الشفيع فلا يقدر على إحضاره إلى القاضي فيدفع الضرر بقولهما .(2/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
قال : ( وإذا طلب الشفيع الشفعة عند الحاكم سأل الحاكم المدعى عليه ، فإن اعترف
بملكه الذي يشفع به ، أو قامت عليه بينة ، أو نكل عن اليمين أنه ما يعلم به ثبت ملكه )
وينبغي أن يسأل المدعي أولا عن موضع الدار وحدودها نفيا للاشتباه ، ثم يسأله عن سبب
الاستحقاق لاختلاف الأسباب ، فإذا بيّن ذلك وقال أنا شفيعها بدار لي تلاصقها صحت
دعواه ، وشرط بعضهم تحديد داره أيضا ، ثم بعد ذلك يسأل القاضي المدعى عليه ، فإن
اعترف بملكه الذي يشفع به فلا حاجة إلى البينة ، وإن لم يعترف طلب من المدعي البينة ؛
لأن اليد لا تكفي للاستحقاق ، فإن أقامها يثبت وإلا استحلف المدعى عليه بالله لا يعلم أنه
مالك للدار التي ذكرها يشفع بها ، لأنه لو أقر بذلك لزمه ، فإذا أنكر عليه يحلف ويحلف
على العلم لأنه فعل الغير ، فإذا نكل ثبت الملك ، ثم يسأله القاضي عن الشراء ، فإن اعترف
به أو قامت البينة عليه ثبت وإلا استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو ما يستحق عليه شفعة من
الوجه الذي ذكر ، ويستحلف على البتات لأنه فعله ، فإذا نكل قضي له بالشفعة ، وإن لم
يحضر الثمن ذكره في الأصل ، لأن الثمن إنما يجب بانتقال الملك إليه ، ولا ينتقل إلا
بالقضاء فلا يجب عليه الإحضار قبله كما لا يجب على المشتري قبل البيع . وروى الحسن
عن أبي حنيفة أنه لا يقضي ما لم يحضر الثمن ، لأنه قد يكون مفلسا فيتضرر المشتري ، وهو
مروي عن محمد ، وإذا قضي له وأخذها من المشتري يثبت له فيها أحكام البيع من خيار
رؤية وعيب وغيرهما لأنه بمنزلة الشراء لأنه مقابلة مال بمال ، ولا يثبت له خيار الشرط ولا
الأجل لعدم الشرط .
قال : ( وللشفيع أن يخاصم البائع إذا كان المبيع في يده ) لأنه خصم على ما بينا ( ولا
يسمع القاضي البينة إلا بحضرة المشتري ، ثم يفسخ البيع ويجعل العهدة على البائع ) لأن اليد
للبائع والملك للمشتري والقاضي يقضي بها للشفيع فيشترط حضورهما ، بخلاف ما بعد
القبض لأن البائع كالأجنبي ، فإذا أخذها من البائع تتحول الصفقة ويصير كأن الشفيع اشتراها
من البائع ، فلهذا تكون العهدة عليه ، ولو أخذها من المشتري بعد القبض فالعهدة عليه لأنه
تم ملكه بالقبض .
قال : ( وللشفيع أن يخاصم وإن لم يحضر الثمن ، فإذا قضي له لزمه إحضاره )
وقد تقدم الكلام فيه . قال : ( والوكيل بالشراء خصم في الشفعة حتى يسلم إلى(2/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
الموكل ) لأن حقوق العقد ترجع إلى الوكيل على ما يأتي بيانه في الوكالة إن شاء الله تعالى ،
والشفعة من حقوق العقد ، فإذا أسلمها إلى الموكل لم يبق له يد ولا ملك فيصير الموكل
خصما .
قال : ( وعلى الشفيع مثل الثمن إن كان مثليا وإلا قيمته ) لأن القاضي حكم له بالملك
بالعقد الأول ، فيجب عليه ما وجب بالعقد الأول ؛ وإن اشترى الذمي دارا بخمر أو خنزير
والشفيع ذمي أخذها بمثل الخمر لأنه مثلى ، وقيمة الخنزير لأنه ليس بمثلي ، وإن كان مسلما
أخذها بقيمة كل واحد منهما ، أما الخنزير فلما مر ، وأما الخمر فلأنه ممنوع من تمليكها
وتملكها فاستحال المثل في حقه فيصار إلى القيمة .
قال : ( وإن حط البائع عن المشتري بعض الثمن سقط عن الشفيع ) لما تقدم أن
الحط يلتحق بأصل العقد ( فإن حط النصف ثم النصف أخذها بالنصف الأخير ) لأنه لما
حط النصف الأول التحق بأصل العقد فوجب عليه نصف الثمن ، فلما حط النصف الآخر
كان حطا للجميع فلا يسقط ، ألا ترى أنه لو حط الجميع ابتداء لا يسقط عن الشفيع ،
لأنه لا يلتحق بأصل العقد بل يكون هبة فلا يسقط عن الشفيع ( وإن زاد المشتري في الثمن
لا يلزم الشفيع ) لاحتمال أنهما تواضعا على ذلك إضرارا بالشفيع ، بخلاف الحط لأنه نفع
له .
قال : ( وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ، والبينة بينة الشفيع ) لأن الشفيع
يدعي استحقاق الدار عند أداء الأقل ، والبينة بينة المدعي ، والمشتري ينكر ذلك ، والقول
قوله مع يمينه .
فصل
( وتبطل الشفعة بموت الشفيع وتسليمه الكل أو البعض ، وبصلحه عن الشفعة
بعوض ، وببيع المشفوع به قبل القضاء بالشفعة ، وبضمان الدرك عن البائع ، وبمساومته(2/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
المشتري بيعا وإجارة ) أما بطلانها بالموت فلان ملكه زال بالموت وانتقل إلى الوارث ، وبعد
ثبوته للوارث لم يوجد البيع فلا يثبت له حق الشفعة ، والمراد إذا مات بعد البيع قبل القضاء
بالشفعة ، أما إذا مات بعد القضاء لزم وانتقلت إلى ورثته ولزمهم الثمن ؛ وأما تسليمه الكل
فلأنه صريح في الإسقاط ؛ وأما البعض فلأن حق الشفعة لا يتجزّى ثبوتا لأنه يملكه كما ملكه
اغلمشتري ، والمشتري لا يملك البعض لأنه تفريق الصفقة فلا يتجزى إسقاطا فيكون ذكر
بعضه كذكر كله ؛ وأما الصلح عنها لأن الشفعة حق التملك وليس حقا متقررا ، فلا يصح
الاعتياض عنه كالعنين إذا قال لامرأته : اختاري ترك الفسخ بألف ، أو قال للمخيرة : اختاريني
بألف فاختارت سقط الفسخ ولا شيء لهما ، ويجب عليه رد العوض لأنه لم يقابله حق متقرر
فلا يكون تجارة عن تراض فلا يحل ؛ وأما بيع المشفوع به قبل القضاء بالشفعة لزوال سبب
الاستحقاق قبل القضاء وهو نظير الموت ؛ وأما ضمان الدرك عن البائع فلأنه قد ضمن
للمشتري بقاءها على ملكه وسلامتها له ، وذلك يتضمن تسليم الشفعة ؛ وأما مساومة المشتري
بيعا وإجارة فلأنه دليل الرضا بثبوت الملك للمشتري وتصرفه فيه بيعا وإجارة ، وذلك لا
يكون إلا بعد إسقاط الشفعة ، وكذلك إذا طلبها منه تولية أو أخذها مزارعة أو معاملة ، وكل
ذلك إذا كان بعد العلم بالشراء .
قال : ( ولا تبطل بموت المشتري ) لأن المستحق وهو الشفيع قائم ، وحقه مقدم على
حق المشتري حتى لا تنفذ وصيته فيه ، ولا يباع في دينه فيكون مقدما على حق الوارث .
قال : ( ولا شفعة لوكيل البائع ) لأنه سعى في نقض فعله وهو كالبيع ، وكذا إذا كان له الخيار
فأمضاه ( ولوكيل المشتري الشفعة ) لأنه لا ينقض فعله لأنه مثل الشراء ، لأنه سعى في زوال
ملك البائع .
قال : ( وإذا قيل للشفيع إن المشتري فلان فسلم ثم تبين أنه غيره فله الشفعة ) لتفاوت
الناس في الجوار . فقد يرضى لفلان لخيره ولم يرض بغيره فلم يوجد التسليم في حقه ؛
وكذا لو ظهر أن المشتري اشتراها لغيره ؛ ولو قيل أن المشتري زيد فسلم فإذا هو زيد وعمرو
فله أخذ نصيب عمرو ( وإذا قيل له إنها بيعت بألف فسلم ثم تبين أنها بيعت بأقل أو بمكيل
أو موزون فهو على شفعته ) أما الأول فلأن الرضا بالأكثر لا يكون رضى بالأقل ؛ وأما الثاني
فلاحتمال تعذر الدراهم عليه وتيسر ما بيع به من المكيل والموزون ؛ وكذلك العددي
المتقارب ، وسواء كانت قيمته ألفا أو أقل أو أكثر ، لأن الواجب المثل ، بخلاف ما إذا بيع
بعبد أو أمة قيمتها ألف أو أكثر ، لأن الواجب ألف حتى لو كانت قيمته أقل من ألف لم(2/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
تبطل شفعته لأن الواجد القيمة ، ولو قيل إنها بيعت بجارية فظهر أنها بيعت بعبد أو عرض
آخر ، ننظر إن كانت قيمة العبد أو العرض مثل قيمة الجارية أو أكثر بطلت ، وإن كانت أقل
لم تبطل لأن الواجب القيمة ؛ ولو قيل بيعت بألف درهم فظهر أنها بيعت بمائة دينار ، قال
الكرخي : إن كانت قيمتها ألفا أو أكثر بطلت ؛ وإن كانت أقل لم تبطل ؛ وهو قول أبي
يوسف لأنهما جعلا كجنس واحد في الثمنية . وأشار محمد في الأصل إلى بقاء الشفعة ، وهو
قول أبي حنيفة وزفر لأنهما جنسان مختلفان حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ، ولأنه
ربما يسهل عليه أحدهما دون الآخر ؛ ولو قيل بيعت بألف ثم حط البائع عن المشتري فله
الشفعة ، لأن الحط يلتحق بأصل العقد فصار كأنه باعها بأقل .
قال : ( ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة قبل وجوبها ) عند أبي يوسف لأنه منع من
وجوب الحق ، ويكره عند محمد لأنها شرعت لدفع الضرر والحيلة تنافيه . والحيلة في
إسقاط الزكاة على هذا . قال : ( ومن باع سهما ثم باع الباقي فالشفعة في السهم الأول لا غير )
لأن الشفيع جار والمشتري شريك في المبيع ثانيا ، فيقدم عليه وهذه حيلة ، وهو أن يبيع
الأول بثمن كثير والباقي بثمن قليل ؛ وإن اشتراها بثمن ودفع عنه ثوبا أخذها بالثمن الأول
لأنه يستحق المبيع بما وقع العقد عليه لما مر ، وهذه أيضا حيلة ، وهو أن يعقد العقد بألف
مثلا فيدفع عنها ثوبا يساوي مائة . قال : ( وإن اشتراها بثمن مؤجل فالشفيع إن شاء أداه حالا ،
وإن شاء بعد الأجل ثم يأخذ الدار ) لأن الرضا بالتأجيل على المشتري لا يكون رضا بالتأجيل
على الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة والإعسار والوفاء والمطل ، ولأنه ليس من حقوق العقد
ولم يشترطه الشفيع فلا يثبت له ، فإن أداه حالا وأخذها من البائع سقط الثمن عن المشتري
لوصوله إلى البائع ، وإن أخذها من المشتري فالثمن على حاله مؤجل للبائع على المشتري
عملا بالشرط ، وصار كما إذا اشتراه مؤجلا وباعه حالا ، وإن أداه بعد الأجل فله ذلك ، لأن
له أن لا يلتزم زيادة الضرر ، لكن لا بد من طلبه على الوجه الذي بيناه ، فإذا ثبت أخر أداء
الثمن .(2/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
قال : ( وإذا قضي للشفيع وقد بنى المشتري فيها ، فإن شاء أخذها بقيمة البناء ، وإن شاء
كلف المشتري قلعه ) وهذا قول أبي حنيفة وزفر ومحمد ، وهو رواية عن أبي يوسف ، وروى
عنه ابن زياد أنه يأخذها بالثمن وقيمة البناء أو يترك ؛ والغرس مثل البناء لأنه بنى في ملك
نفسه ، لأن تصرفه فيه صحيح حتى لو أجره طاب له الأجر والقلع من أحكام العدوان فلا
يكلفه كالزرع وكالموهوب له . ولنا أنه تعدى من حيث إنه بنى في ملك تعلق به حق الغير
من غير تسليط من ذلك الغير فينقص صيانة لحقه ، وضرر القلع لحق المشتري بفعله فلا
يعتبر ، ولأن الشفيع استحقه بسبب سابق ، وهو مقدم على المشتري فينقضه كما في
الاستحقاق ، ولهذا تنتقص جميع تصرفاته ، بخلاف الموهوب له لأن صاحب الحق سلطه .
وأما الزرع فالقياس أن يقلعه ، لكن استحسنوا أن يبقى في الأرض بالأجرة لأن لها نهاية فلا
ضرر فيه كالبناء . وذكر في المحيط أن الزرع يترك بغير أجر ، وإن أخذه بالقيمة فقيمته مقلوعا
ويعرف تمامه في الغصب .
قال : ( ولو بنى الشفيع ثم استحقت رجع بالثمن لا غير ) ولا يرجع بقيمته على المشتري
ولا على البائع ، لأن الرجوع إنما ثبت في المسألة الأولى ولأن البائع خدع المشتري وضمن
له التمكن من التصرف كيف شاء ، ولم يضمن للشفيع ذلك أحد ، لأنه أخذه بغير اختيار
البائع ولا المشتري فلم يكن مغرورا ولا يرجع ، ولأنه لما استحق ثبت أنه أخذه بغير حق ،
أما الثمن فإنه عوض عن المبيع فإذا لم يسلم المبيع يرجع بالثمن . قال : ( وإذا خربت الدار
أو جف الشجر ، فالشفيع إن شاء أخذ الساحة بجميع الثمن ، وإن شاء ترك ) وكذلك لو
احترقت أو غرقت ، لأن البناء تبع ووصف للساحة حتى يدخل في البيع بغير ذكر فلا يقابله
شيء من الثمن ما لم يكن مقصودا كأطراف العبد ، ولو باعهما مرابحة باعها بجميع الثمن .
قال : ( وإن نقض المشتري البناء فالشفيع إن شاء أخذ العرصة بحصتها ، وإن شاء ترك )
لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن كأطراف العبد ، وكذا إذا فعله أجنبي ،
وكذا إذا نزع باب الدار وباعه ، وليس له أخذ النقض لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا ، أو
صار نقليا فلا شفعة فيه . قال : ( وإن اشترى نخلا عليه ثمر فهو للشفيع ) معناه إذا شرطه في
البيع لأنه لا يدخل بدون الشرط على ما مر في البيوع ، فإذا شرطه دخل في البيع واستحق
بالشفعة لأنه باعتبار الاتصال صار كالنخل ، وهذا استحسان ، والقياس أن لا شفعة فيه لعدم
التبعية حتى لا يدخل في البيع بدون الشرط . وإذا دخل في الشفعة ( فإذا جذّه المشتري نقص
حصته من الثمن ) لأنه صار مقصودا بالذكر فقابله شيء من الثمن ، وليس له أن يأخذ الثمرة
لأنها نفلية ، ولو لم يكن على النخل ثمر وقت البيع فأثمر فللشفيع أخذه بالثمرة ، لأن البيع سرى إليه فكان تبعا ، فإذا جذها المشتري ، فللشفيع أن يأخذ النخل بجميع الثمن ، لأن الثمرة
لم تكن موجودة وقت العقد فلم تكن مقصودة ، فلا يقابلها شيء من الثمن .(2/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
كتاب الإجارة
( وهي بيع المنافع ، جوزت على خلاف القياس لحاجة الناس ) اعلم أن التمليك
نوعان : تمليك عين ، وتمليك منافع . وتمليك العين نوعان : بعوض وهو البيع وقد بيناه ،
وبغير عوض وهو الهبة والصدقة والوصية ، وسيأتيك أبوابها إن شاء الله تعالى . وتمليك
المنافع نوعان : بغير عوض ، وهو العارية والوصية بالمنافع على ما يأتيك ؛ وبعوض وهو
الإجارة ، وسميت بيع المنافع لوجود معنى البيع وهو بذل الأعواض في مقابلة المنفعة وهي
على خلاف القياس ، لأن المنافع معدومة ، وبيع المعدوم لا يجوز ، إلا أنا جوزناها لحاجة
الناس إليها ، ومنع شمس الأئمة السرخسي هذا وقال : إنما يشترط الملك والوجود للقدرة
على التسليم ، وهذا لا يتحقق في المنافع ، لأنها عرض لا تبقى زمانين فلا معنى
للاشتراط ، فأقمنا العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليترتب القبول
على الإيجاب كقيام الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام المعقود عليه في حق جواز
السلم ، وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء ، فيتحقق
بهذا الطريق التمكن من استيفاء المعقود عليه . والدليل على جوازها قوله تعالى : ) فإن
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ( [ الطلاق : 6 ] وقوله تعالى : ) ليتخذ بعضهم بعضا سخريا (
[ الزخرف : 32 ] أي بالعمل بالأجر . وقال عليه الصلاة والسلام : ' من استأجر أجيرا فليعلمه
أجره ' . وبعث عليه الصلاة والسلام والناس يتعاملون بها فأقرهم على ذلك وعليه(2/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الإجماع ، ولا تنعقد بلفظ البيع لأنه وضع لتمليك الأعيان ، والإجارة تمليك منافع معدومة ؛
ويبدأ بتسليم المعقود عليه ليتمكن من الانتفاع ، لأن عين المنفعة لا يمكن تسليمها ، فأقمنا
التمكين من الانتفاع مقامه .
قال : ( ولا بد من كون المنافع والأجرة معلومة ) قطعا للمنازعة ولما تقدم من
الحديث . قال : ( وما صلح ثمنا صلح أجرة ) لأنها ثمن أيضا ؛ فالمكيل والموزون والمزروع
والمعدود والمتقارب يصلح أجرة على الوجه الذي يصلح ثمنا ، والحيوان يصلح إن كان
عينا ، أما دينا فلا لأنه لا يثبت في الذمة ، والمنفعة تصلح أجرة في الإجارة إذا اختلف
جنساهما ، ولا تصلح ثمنا في البيع لأن الثمن يملك بنفس العقد ، والمنفعة لا يمكن
تمليكها بنفس العقد .
قال : وتفسد بالشروط ، ويثبت فيها خيار الرؤية والشرط والعيب ، وتقال وتفسخ ) كما
في البيع . قال : ( والمنافع تعلم بذكر المدة كسكنى الدار وزرع الأرضين مدة معلومة ) لأن
المدة إذا علمت تصير المنافع معلومة ( أو بالتسمية كصبغ الثوب ، وخياطته ، وإجارة الدابة
لحمل شيء معلوم أو ليركبها مسافة معلومة ) لأنه إذا بيّن لون الصبغ وقدره وجنس الخياطة
وقدر المحمول وجنسه والمسافة تصير المنافع معلومة ( أو بالإشارة كحمل هذا الطعام ) لأنه
إذا عرف ما يحمله والموضع الذي يحمله إليه تصير المنفعة معلومة . قال : ( وإن استأجر دارا
أو حانوتا فله أن يسكنها ويسكنها من شاء ويعمل فيها ما شاء ) من وضع المتاع وربط
الحيوان وغيره وإن لم يسم ذلك ، لأن المقصود المتعارف من الدور والحوانيت ذلك ،
ومنافع السكنى غير متفاوتة في ذلك . قال : ( إلا القصارة والحدادة والطحن ) لأنها توهن البناء
وفيه ضرر فلا يقتضيه العقد إلا بالتسمية ، وإن كانت الدار ضيقة ليس له أن يربط الدابة فيها
لعدم العادة .
قال : ( وإن استأجر أرضا للزراعة بيّن ما يزرع فيها أو يقول على أن يزرعها ما شاء )
لأن منافع الزراعة مختلفة وكذلك تضرر الأرض بالزراعة مختلف باختلاف المزروعات
فيفضي إلى المنازعة ، فإذا بيّن ما يزرع أو قال على أن يزرعها ما شاء انقطعت المنازعة(2/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
( وهكذا ركوب الدابة ولبس الثوب ) وكل ما يختلف باختلاف المستعملين ، لأن الناس
يختلفون في الركوب واللبس فيفضي إلى المنازعة ، فإذا عيّن أو أطلق فلا منازعة ( إلا أنه إذا
لبس أو ركب واحد تعين ) فليس له أن يركب أو يلبس غيره كما إذا عيّنه في الابتداء ويدخل
في إجارة الدور والأرضين الطريق والشرب ، لأن المقصود المنفعة ولا منفعة دونهما .
قال : ( وإذا استأجر أرضا للبناء والغرس فانقضت المدة يجب عليه تسليمها فارغة كما
قبضها ) ليتمكن مالكها من الانتفاع بها فيقلع البناء والغرس لأنه لا نهاية لهما ( والرطبة
كالشجر ) لطول بقائه في الأرض ؛ أما الزرع فله نهاية معلومة فيترك بأجر المثل إلى نهايته
رعاية للجانبين ( فإن كانت الأرض تنقص بالقلع يغرم له الآجر قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه )
ترجيحا لجانب الأرض لأنها الأصل والبناء والغرس تبع ، وإنما يغرم قيمته مقلوعا لأنه
مستحق القلع ، فتقوّم الأرض بدون البناء والشجر ، وتقوّم وبها بناء أو شجر ، ولصاحب
الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما ( وإن كانت الأرض لا تنقص ، فإن شاء صاحب
الأرض أن يضمن له القيمة ) كما تقدم ( ويتملكه فله ذلك برضى صاحبه ، أو يتراضيان فتكون
الأرض لهذا والبناء لهذا ) لأن الحق لهما .
قال : ( وإن سمى ما يحمله على الدابة كقفيز حنطة فله أن يحمل ما هو مثله أو أخف
كالشعير ، وليس له أن يحمل ما هو أثقل كالملح ، وإن زاد على المسمى فعطبت ضمن بقدر
الزيادة ، وإن سمى قدرا من القطن فليس له أن يحمل مثل وزنه حديدا ) والأصل أن المستأجر
إذا خالف إلى مثل المشروط أو أخف فلا شيء عليه ، لأن الرضا بأعلى الضررين رضى
بالأدنى وبمثله دلالة ، وإن خلف إلى ما هو فوقه في الضرر فعطبت الدابة ، فإن كان من
خلاف جنس المشروط ضمن الدابة ، لأنه متعد في الجميع ولا أجر عليه ؛ وإن كان من
جنسه ضمن بقدر الزيادة وعليه الأجر ، لأنها هلكت بفعل المأذون وغير مأذون ، فيقسم على
قدرهما إلا إذا كان قدرا لا تطيقه فيضمن الكل لكونه غير معتاد فلا يكون مأذونا فيه ،
والحديد أضر من القطن لأنه يجتمع في موضع واحد من ظهر الدابة والقطن ينبسط .(2/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
قال : ( وإن استأجرها ليركبها فأردف آخر ضمن النصف ) وهي نظير الزيادة من الجنس
تعليلا وتفصيلا . قال : ( فإن ضربها فعطبت ضمنها ) وكذلك إن كبحها بلجامها إلا أن يكون
أذن له في ذلك ، وقالا : لا يضمن إلا أن يتجاوز المعتاد ، لأنه لا بد من الضرب المتعاد في
السير ، فكان مأذونا فيه لأن المعتاد كالمشروط . ولأبي حنيفة أن السير يمكن بدون ذلك
بتحريك الرجل والصيحة ، فلا يملك ذلك إلا بصريح الإذن ؛ وكذا لو استأجر حمارا بسرج
فأوكفه ضمن عنده ، وقالا : لا يضمن إلا أن يكون أثقل من السرج فيضمن قدر الزيادة ، أو
يكون لا يوكف بمثله الحمر فيضمن الكل ، لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر صار هو والسرج
سواء فيكون مأذونا فيه دلالة . وله أن الإكاف للحمل والسرج للركوب فكان خلاف الجنس ،
ولأنه ينبسط على ظهر الدابة أكثر من السرج فكان أضر فيضمن للمخالفة .
فصل
( الأجراء : مشترك كالصباغ والقصار ) لأن المعقود عليه إما العمل أو أثره ، والمنفعة
غير مستحقة فله أن يعمل للغير فكان مشتركا ( ولا يستحق الأجرة حتى يعمل ) لأن الأجرة
لا تستحق بالعقد على ما سنبينه إن شاء الله تعالى ( والمال أمانة في يده ) لأنه قبضه بإذن
المالك فلا يضمنه ( إلا أن يتلف بعمله كتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل
من شده ونحو ذلك ) لأنه مضاف إلى فعله وهو لم يؤمر إلا بعمل فيه صلاح ، فإذا أفسده
فقد خالف فيضمن ( إلا أنه لا يضمن الآدمي إذا غرق في السفينة من مده ، أو سقط من
الدابة بسوق وقوده ) لأن الآدمي لا يضمن بالعقد وإنما يضمن بالجناية ، ولو غرقت من
موج أو ريح أو صدم جبل أو زوحم الحمال فلا ضمان عليهم ، لأنه لا فعل لهم في ذلك ،
ولو تلف بفعل أجير القصار لا متعمدا فالضمان على الأستاذ ، لأن فعل الأجير مضاف إلى
أستاذه . وقال أبو يوسف ومحمد : يضمن سواء هلك بفعله أو بغير فعله ، إلا ما لا يمكن
الاحتراز عنه كالموت والحريق والغرق الغالب والعدو المكابر ، لأنه يجب عليه حفظه عما
يمكن التحرز عنه ، فإذا تركه ضمن كما إذا هلك بفعله ، وهو مروي عن عمر وعلي رضي(2/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
الله عنهما ؛ ثم إن شاء ضمنه معمولا وأعطاه الأجر وغير معمول ولا أجر له . وقال زفر :
لا يضمن في الوجهين لأنه عمل بأمر المالك وصار كأجير الوحد ، وجوابه ما مر لأبي
حنيفة .
قال : ( ولا ضمان على الفصاد والبزاغ إلا أن يتجاوز الموضع المعتاد ) لأنه إذا فعل
المعتاد لا يمكنه الاحتراز عن السراية ، لأنه يبتني على قوة المزاج وضعفه وذلك غير معلوم
فلا يتقيد به ، بخلاف دق الثوب لأن رقته وثخانته تعرف لأهل الخبرة به فتقيد بالصلاح ؛ ولو
قال للخياط : إن كفاني هذا الثوب قميصا فاقطعه فقطعه فلم يكفه ضمن ، لأنه إنما أذن له في
القطع بشرط الكفاية ، ولو قال له : هل يكفيني ؟ فقال نعم ، قال : فاقطع فلم يكفه لا يضمن
لأنه أمره بالقطع مطلقا .
قال : ( وخاص كالمستأجر شهرا للخدمة ورعي الغنم ونحوه ) لأن منافعه صارت
مستحقة للمستأجر طول المدة فلا يمكنه صرفها إلى غيره فلهذا كان خاصا ، ويسمى أجير
الوحد أيضا ( ويستحق الأجرة بتسليم نفسه وإن لم يعمل ) لأنها مقابلة بالمنافع ، وإنما ذكر
العمل لصرف المنفعة المستحقة إلى تلك الجهة ، ومنافعه صارت مستوفاة بالتسليم تقديرا
حيث فوتها عليه فاستحق الأجرة . قال : ( ولا يضمن ما تلف في يده ) لما مر ( ولا بعمله إذا
لم يتعمد الفساد ) لأن المعقود عليه المنفعة وهي سليمة ، والمعيب العمل الذي هو تسليم
المنفعة وهو غير معقود عليه ولا يكون مضمونا عليه ، ولأن المنافع إذا صارت ملكا
للمستأجر فإذا أمره بالعمل انتقل عمله إليه ، لأنه يصير نائبا عنه فيصير كأنه فعله بنفسه ، وما
تلف من عمله ضمانه على أستاذه لما أنه أجير خاص .
قال : ( ومن استأجر عبدا فليس له أن يسافر به إلا أن يشرطه ) لأن خدمة السفر أشق فلا
ينتظمها العقد إلا بشرط ، فإن استأجره للخدمة فعليه خدمته من السحر إلى أن ينام الناس بعد
العشاء عملا بالعرف في الخدمة وعليه خدمة البيت والضيف دون الخبز والطبخ والخياطة
وعلف الدواب ونحو ذلك ، ولو آجر عبده سنة ثم أعتقه في خلالها جاز العتق ؛ والعبد إن
شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ ، وأجرة ما مضى للسيد وما بقي للعبد ، لأن منفعته(2/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
بعد العتق له فيكون له بدلها ، وإذا أجاز فليس له فسخها بعد ذلك ، وليس للعبد قبض الأجرة
إلا بإذن المولى .
فصل
( والأجرة تستحق باستيفاء المعقود عليه ، أو باشتراط التعجيل أو بتعجيلها ) لأن الأجرة
لا تجب بنفس العقد لقوله عليه الصلاة والسلام : ' أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه '
ولو وجبت بنفس العقد لما جاز تأخيره إلا برضاه ، والنص يقتضي الوجوب بعد الفراغ ، لأن
العرق إنما يوجد بالعمل ، ولأن المنفعة لا يمكن استيفاؤها لذي العقد لأنها تحدث شيئا
فشيئا ، وهي عقد معاوضة فتقتضي المساواة فلا تجب الأجرة بنفس العقد ، فإذا استوفى
المعقود عليه استحق الأجرة عملا بالمساواة ، وإذا اشترط التعجيل أو عجلها فقد رضي
بإسقاط حقه في التأجيل فيسقط .
قال : ( وإذا تسلم العين المستأجرة فعليه الأجرة وإن لم ينتفع بها ) لأن تسليم المنفعة
غير ممكن فأقيم تسليم العين مقامها فيتمكن من الانتفاع . قال : ( فإن غصبت منه سقط الأجر )
لأنه زال التمكن فبطلت لما بينا أنها تنعقد شيئا فشيئا ، ولو غصبها في بعض المدة سقطت
حصته لما بينا . قال : ( ولرب الدار أن يطالب بأجرة كل يوم ) وكذا جميع العقار ، لأن أحد
العوضين صار منتفعا به مدة مقصودة ، فيجب أن يكون العوض الآخر كذلك تحقيقا
للمساواة ؛ وقضية ما ذكرنا أن له المطالبة ساعة فساعة إلا أن فيه حرجا عظيما وضررا ظاهرا
فقدرناه باليوم تيسيرا ، ولأنا لا نعرف حصة كل ساعة . قال : ( والجمال بأجرة كل مرحلة ) لما
بينا . وعن أبي يوسف إذا سار ثلث الطريق أو نصفه لزمه التسليم . وعن أبي حنيفة إذا
انقضت المدة وانتهى السفر وهو قول زفر ، لأن المعقود عليه شيء واحد وهو قطع هذه
المسافة أو سكنى هذه المدة فلا ينقسم الأجر على أجزائها كالعمل ، وكأن أبا يوسف أقام
الثلث أو النصف مقام الكل على أصله ، وجوابه ما بينا ، ثم رجع أبو حنيفة إلى ما ذكرنا
أولا .
قال : ( وتمام الخبز إخراجه من التنور ) وكذلك الآجرّ لأنه لا ينتفع به قبل ذلك ، فلو
اخترق أو سقط من يده قبل ذلك فلا أجر له بهلاكه قبل التسليم ، وإن هلك بعد الإخراج(2/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
بغير فعله فلا ضمان عليه وله الأجر ، لأنه سلمه إليه حيث وضعه في بيته ولم يهلك بفعله .
قال : ( وتمام الطبخ غرفه ) إن كان في وليمة ، وإن طبخ قدر طعام لصاحبه فليس عليه الغرف
للعرف . قال : ( وتمام ضرب اللبن إقامته ) وقالا : تشريجه لأن بالتشريج يؤمن عليه الفساد ،
وهو من عمله عرفا فيلزمه . ولأبي حنيفة أن العمل تم بالإقامة لأنه يمكنه الانتفاع به من غير
خلل فلا يلزمه شيء آخر ، والتشريج فعل آخر فلا يلزمه إلا بالشرط ولو كان في غير ملكه ،
فما لم يشرجه ويسلمه إلى المستأجر فلا أجر له وهو في ضمانه .
قال : ( ومن لعلمه أثر في العين كالصباغ والخياط والقصار يحبسها حتى يستوفي
الأجر ) لأن له حبس صبغه وغيره بحبس المحل حتى يستوفي الثمن كالمبيع ( فإن حبسها
فضاعت لا شيء عليه ) لأنه أمانة في يده ( ولا أجر له ) وعندهما هو مضمون بعد الحبس
كقبله ، فإن ضمنه معمولا فله الأجر وغير معمول لا أجر له .
قال : ( ومن لا أثر لعمله
كالحمال والغسال ليس له ذلك ) لأنه ليس له عين يحبسها والمعقود عليه نفس العمل فلا
يتصور حبسه ، فإن حبسه فهو غاصب ، بخلاف رد الآبق حيث له حبسه على الجعل ، وإن
لم يكن لعمله أثر لأنه عرف نصا ، ولأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه بالرد فكأنه
باعه . قال : ( وإذا شرط على الصانع العمل بنفسه ليس له أن يستعمل غيره ) لأن العمل
يختلف باختلاف الصناع جودة ورداءة ، فكان الشرط مفيدا ، فيتعين كما تتعين المنفعة في
محل بعينه ، وإن أطلق له العمل فله أن يعمل بنفسه وبغيره ، لأن المستحق مطلق العمل ،
ويمكنه إيفاؤه بنفسه وبغيره فافترقا .
قال : ( وإن قال : إن سكنت هذا الحانوت عطارا فبدرهم ، وحدادا بدرهمين جاز ، وأي
العملين عمل استحق المسمى له ) وقالا : الإجارة فاسدة ، وعلى هذا الخلاف إن استأجر دابة
إلى الحيرة بدرهم وإلى القادسية بدرهمين ، أو إن حمل عليها كر شعير فبدرهم وكر حنطة
بدرهمين . لهما أن المعقود عليه أحد الشيئين ، والأجر أحد الأجرين ، وتجب بالتخلية
والتسليم وأنه مجهول ، بخلاف الخياطة الرومية والفارسية ، لأن الأجرة تجب بالعمل ، وبه
ترتفع الجهالة فافترقا ، ولأبي حنيفة أنه خيّره بين عقدين مختلفين صحيحين ، لأن سكنى
العطار تحالف سكنى الحداد حتى لا تدخل في مطلق العقد ، وكذا بقية المسائل والإجارة
تعقد للمنفعة ، وعندهما ترتفع الجهالة فيصح كالفارسية والرومية ، وإن وجب الأجر بالتسليم(2/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
يجب أقلهما للتيقن به ، ولو قال : إن خطت هذا الثوب فارسيا فبدرهم وروميا فبدرهمين
جاز ، وأي العملين عمل استحق أجرته ، وقد مر وجهه . وقال زفر : الإجارة فاسدة لجهالة
البدل في الحال ، وجوابه ما مر .
فصل
اعلم أن الإجارة تفسد بالشروط كما يفسد البيع ، وكل جهالة تفسد البيع يفسد الإجارة
من جهالة المعقود عليه أو الأجرة أو المدة لما عرف أن الجهالة مفضية إلى المنازعة .
والأصل قوله عليه الصلاة والسلام : ' من استأجر أجيرا فليعلمه أجره ' شرط أن تكون
الأجرة معلومة كما شرطه في البيع ؛ ولو آجر الدار على أن يعمرها أو يطينها أو يضع فيها
جذعا فهو فاسد لجهالة الأجرة لأن بعضها مجهول ، لأنه لا يدري ما يحتاج إليه من العمارة ،
ويعرف غيرها من الشروط المفسدة لمن يتأملها فتقاس عليها ( وإذا فسدت الإجارة يجب أجر
المثل ) لأن التسمية إنما تجب بالعقود الصحيحة . أما الفاسدة فتجب فيها قيمة المعقود عليه
كما في البيع . وقال عليه الصلاة والسلام في النكاح بغير مهر ' فإن دخل بها فلها مهر مثلها
لا وكس ولا شطط ' فدل على وجوب القيمة في العقد الفاسد .
( ولا يزاد على المسمى ) لأن المنافع لا قيمة لها إلا بعقد أو شبهة عقد ضرورة لحاجة
الناس ، وقد قوماها في العقد بما سميا ، فيكون ذلك إسقاطا للزيادة ، بخلاف البيع ، لأن
الأعيان متقومة بنفسها ، فإذا بطل المسمى يصير كأنها تلفت بغير عقد فتجب القيمة . قال :
( وإذا استأجر دارا كل شهر بدرهم صح في شهر واحد ) لأنه معلوم ( وفسد في بقية الشهور )
لأن كل كلمة للعموم وأنه مجهول ( إلا أن يسمي شهورا معلومة ) فيكون صحيحا في الكل
لكونه معلوما .
قال : ( فإذا تمّ الشهر ) في المسألة الأولى ( فلكل واحد منهما نقض
الإجارة ) لانتهاء المدة ( فإن سكن ساعة في الشهر الثاني صح العقد فيه ) أيضا(2/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
( وكذلك كل شهر سكن أوله ) لتمام العقد بتراضيهما بالسكنى ، وقيل يبقى الخيار لهما في
أول ليلة في الشهر ويومها دفعا للحرج عنهما ، لما فيه من اللزوم بغير التزامهما . قال : ( ومن
استأجر جملا ليحمل له محملا إلى مكة جاز وله المعتاد من ذلك ) والقياس أن لا يجوز لأنه
مجهول إلا أن الأصل أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى المتعارف ، والمقصود الراكب
والمحمل تبع ، والجهالة فيه ترتفع بالرجوع إلى المعتاد فلا تفضي إلى المنازعة ، وإن شاهد
الجمال المحمل فهو أولى قطعا للمنازعة لدلالته على الرضى .
قال : ( وإن استأجره لحمل الزاد فأكل منه فله أن يرد عوضه ) لأنه يستحق عليه حمل
قدر معلوم طول الطريق ، فيرد عوض ما أكل ، وهو معتاد عند الناس إذا نقص عليهم ،
وهكذا غير الزاد إذا أكله يرد مثله لما بينا ؛ ولو استأجر بعيرين ليحمل على أحدهما محملا
فيه رجلان وما لهما من الوطاء والدثار ولم يعاين المكاري ذلك ، وعلى الآخر زاملة فيه
قدر من الزاد وما يحتاج إليه من الخل والزيت ونحوهما ، وما يكفيه من الماء ولم يبين
قدره ، وما يصلح من القربة وخيطها والميضأة والمطهرة ولم يبين وزنه ، أو شرط أن
يحمل هدايا من مكة ما يحمله الناس ، فهو جائز استحسانا ، لأن ذلك معلوم عرفا ، والمعلوم
عرفا كالمشروط ، ويحمل قربتين من ماء . وإداوتين من أعظم ما يكون ، وكذلك إذا اكترى
عقبة للتعارف ، وكذلك إذا استأجر دابة ليتعاقبا في الركوب ينزل أحدهما ويركب الآخر ، وإن
لم يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لجريان التعارف بذلك . قال : ( ويجوز استئجار الظئر
بأجرة معلومة ) لقوله تعالى : ) فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ( [ الطلاق : 6 ] ولأن التعامل
بذلك جار بين الناس .
قال : ( ويجوز بطعامها وكسوتها ) وقالا : لا يجوز وهو القياس للجهالة ، فإن طعامها
وكسوتها مجهول حتى لو شرط قدرا من الطعام كل يوم وكسوة ثوب موصوف الجنس
والطول والعرض كل ستة أشهر جاز بالإجماع . ولأبي حنيفة أن هذه الجهالة لا تفضي إلى
المنازعة ، لأن العادة جرت بالتوسعة على الأظآر وعدم المماسكة معهن ، وإعطائهن شهواتهن
شفقة على الأولاد ، ويجب عليها القيام بأمر الصبي مما يصلحه من رضاعه وغسل ثيابه
وإصلاح طعامه وما يداوى به ، لأن هذه الأعمال مشروطة عليه عرفا ، ولو أرضعته جاريتها أو(2/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
استأجرت من أرضعته فلها الأجر لأنها منزلة الأجير المشترك لأن المعقود عليه العمل ، ولو
شرط أن ترضعه فأرضعته فلا أجر لها للمخالفة فيما فيه تفاوت ، وقيل لها
الأجر لأن المقصود من الإرضاع حياة الصبي وهما سواء فيه ، وما بينهما من التفاوت يسير لا
يعتبر ؛ ولو أرضعته بلبن غنم أو بقر فلا أجر لها ، لأنه إيجار وليس بإرضاع .
قال : ( ولا يمنع زوجها من وطئها ) لأن حقه ثابت بالنكاح قبل الإجارة ، وهو قائم
بعدها ، ولهم منعه من غشيانها في منزلهم مخافة الحبل ، ولأنه ليس له ولاية الدخول إلى
ملك الغير بغير أمره ، فإن حبلت فلهم فسخ الإجارة ؛ وكذلك إن كان الصبي لا يرضع لبنها
أو يقذفه أو يتقايأه ، أو تكون سارقة أو فاجرة ، أو يريدون السفر ، لأن كل ذلك أعذار ، ولأن
الصبي يستضر بلبنها ، وكذلك إذا مرضت ، وكذا لو مات الصبي أو الظئر انتقضت الإجارة
ولزوجها نقض الإجارة إذا لم يرض صيانة لحقه .
قال : ( ولا تجوز الإجارة على الطاعات كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه )
لما روي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال : آخر ما عهد إليّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
أن لا أتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا ، ولأن القربة تقع من العامل . قال الله تعالى :
) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( [ النجم : 39 ] فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره كالصوم
والصلاة ، وكذا لا يجوز على تعليم الصنائع ، لأن التعليم لا يقوم بالمعلم بل به وبالمتعلم
وهو ذكاؤه وفطنته فلا يكون مقدورا له ، أو نقول هما شريكان ، فلا تصح الإجارة من
أحدهما ( وبعض أصحابنا المتأخرين قال : يجوز على التعليم والإمامة في زماننا ، وعليه
الفتوى ) لحاجة الناس إليه وظهور التواني في الأمور الدينية ، وكسل الناس في الاحتساب ،
فلو امتنع الجواز يضيع حفظ القرآن ؛ ولو استأجر مصحفا أو كتابا ليقرأ منه لم يجز ولا أجر
له ، لأن القراءة والنظر منفعة تحدث من القارئ لا من الكتاب ، فصار كما لو استأجر شيئا
لينظر إليه لا يجوز . قال : ( ولا تجوز على المعاصي كالغناء والنوح ونحوهما ) لأنها لا
تستحق بالعقد فلا تجوز . قال : ( ولا على عسب التيس ) لنهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك وهو أن
يستأجر التيس لينزو على غنمه ويدخل فيه كل فحل كالحصان والحمار وغيرهما . أما النزو
بغير أجر لا بأس به ، وأخذ الأجر عليه حرام .(2/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
قال : ( وتجوز أجرة الحجّام ) فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجّام
أجره والنهي الوارد فيه للإشفاق لما فيه من الدناءة وبإجماع المسلمين . قال : ( والحمام )
للتعامل ولا اعتبار للجهالة مع اصطلاح المسلمين .
قال : ( ومن استأجر دابة ليحمل عليها طعاما بقفيز منه فهو فاسد ) لأنه جعل الأجر
بعض ما يخرج من عمله فصار كقفيز الطحان ، وقد نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قفيز الطحان ، وهو
أن يستأجر ثورا أو رحى ليطحن له حنطة بقفيز منها . وينبني على هذا مسائل كثيرة تعرف
بالتأمل : منها إذا دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف ، والمعنى فيه أن المستأجر عجز عن
الأجرة وهو بعض المنسوج والمطحون ، لأن ذلك إنما يحصل بفعل الأجر فلا يكون قادرا
بقدرة غيره .
قال : ( ولو قال أمرتك أن تخيطه قباء ، وقال الخياط قميصا فالقول لصاحب الثوب )
وكذا إذا اختلفا في صبغ الثوب أصفر أو أحمر ، أو بزعفران أو بعصفر ؛ ووجهه أن الخياط
والصباغ أقر بسبب الضمان وهو التصرف في ملك الغير ، ثم ادعى ما يبرئه وصاحبه ينكر ،
ولأن الإذن يستفاد من جهة رب الثوب فيكون القول قوله لأنه أخبر بذلك ( ويحلف ) لأنه لو
أقر لزمه فيحلف لاحتمال النكول ( فإذا حلف فالخياط ضامن ) معناه : إن شاء ضمنه الثوب ،
وإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثله ، أو ما زاد الصبغ في رواية ( ولو قال خطته بغير أجر ، وقال
الصانع بأجر ، فإن كان قبل العمل يتحالفان ويبدأ بيمين المستأجر ) لأن كل واحد منهما يدعي
عقدا والآخر ينكره ، لأن أحدهما يدعي هبة العمل ، والآخر يدعي بيعه ( وإن كان بعد العمل
فالقول لصاحب الثوب ) لأنه منكر ، لأنه لا قيمة للعمل بدون العقد ، وهذا قول أبي حنيفة .
وذكر أبو الليث عنه في العيون إن كانت الخياطة حرفته فله أجر مثله عملا بالعرف ،
وإلا فلا أجر له ويكون متبرعا لما بينا . وقال أبو يوسف : لا أجر له إلا أن يكون معاملة
فيكون له الأجر جريا على عادتهما . وقال محمد : إن اتخذ حانوتا وانتصب لهذه الصناعة فله
الأجرة وإلا فلا ، وعليه الفتوى ، لأنه دليل على العمل بالأجرة عرفا ، والمعروف كالمشروط .(2/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
قال محمد : لو أمره أن ينقش اسمه على فصه فنقش اسم غيره ضمنه ، لأنه فوّت غرضه وهو
الختم فصار كالاستهلاك ؛ ولو استأجره ليحفر له بئرا بأجر مسمى طولها وعرضها
جاز ؛ وفي القبور يجوز وإن لم يبين ذلك لأنه معلوم عرفا ، فإن وجد باطن الأرض أشد
فليس بعذر ، وإن تعذر الحفر فهو عذر ولا يستحق الأجر حتى يفرغ ، لأنه عمل واحد لا
ينتفع به قبل التمام .
قال : ( وإذا خربت الدار ، أو انقطع شرب الضيعة أو ماء الرحى ، انفسخ العقد ) لفوات
المعقود عليه وهي المنفعة قبل القبض لما بينا أنها تحدث شيئا فشيئا ، وصار كموت العبد
المستأجر ، وقيل لا ينفسخ لكن له الفسخ . قالوا : وهو الأصح فإنه روي عن محمد نصا : لو
انهدم البيت المستأجر فبناه الآجر ليس للمستأجر أن يمتنع ، وذلك لأن أصل المعقود عليه لا
يفوت ، لأن الانتفاع بالعرصة ممكن بدون البناء ، إلا أنه ناقص فصار كالعيب فيستحق
الفسخ ، ولو وجد بها عيبا يخل بالمنافع كمرض العبد والدابة وندبها وانهدام بعض البناء فله
الخيار ، إن شاء استوفى المنفعة مع العيب ، ويلزمه جميع البدل لأنه رضي بالعيب ، وإن شاء
فسخ لأنه وجد العيب قبل القبض ، لأن المنفعة توجد شيئا فشيئا فكان له فسخه ، فإن زال
العيب أو أزاله المؤجر فلا خيار له ( ولو مات أحدهما وقد عقدها لنفسه انفسخت ) لما مر أنها
تنعقد شيئا فشيئا فلا تبقى بدون العاقد ( وإن عقدها لغيره لم تنفسخ ) كالوصي والولي وقيّم
الوقف والوكيل لأنه نائب عنهم فكأنه معبر .
فصل
( وتفسخ الإجارة بالعذر ) والأصل فيه أنه متى تحقق عجز العاقد عن المضي في موجب
العقد إلا بضرر يلحقه ، وهو لم يرض به يكون عذرا تفسخ به الإجارة دفعا للضرر . وهل
يشترط للفسخ قضاء القاضي ؟ ذكر في الزيادات إن كان عذرا فيه شبهة كالدين يشترط له
القضاء ، وإن كان واضحا لا . وذكر في المبسوط والجامع الصغير أنه ليس بشرط ، وينفرد
العاقد به وهو الصحيح ، لأنه في معنى العيب قبل القبض على ما بيناه ، وذلك كمن استأجر
إنسانا ليقلع ضرسه فسكن وجعه ، أو ليقطع يده لأكلة فسقطت الآكلة فإنه تفسخ الإجارة ،
وهذا حجة على من يقول إنها لا تفسخ بالعذر .(2/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
و ( كمن استأجر حانوتا ليتجر فأفلس ، أو آجر شيئا ثم لزمه دين ولا مال له سواه ) فإن
القاضي يفسخها ويبيعه في الدين ، لأن على تقدير عدم الفسخ يلزمه ضرر لم يلتزمه بالعقد ،
وهو حبسه على الدين والإجارة على تقدير الإفلاس فيفسخ دفعا للضرر ( وكذلك إن استأجر
دابة للسفر فبدا له تفسخ الإجارة ) لأنه يلزمه الضرر بالمضي على العقد ، لأنه ربما أراد
التجارة فأفلس ، أو لطلب غريم فحضر ( وإن بدا للمكاري فليس بعذر ) لأنه يمكنه إنفاذ
الدواب مع أجيره فلا يتضرر . وعن الكرخي : إن مرض المكاري فهو عذر ، لأنه لا يخلو
عن نوع ضرر فيعذر حالة الاضطرار لا حالة الاختيار ، وعلى رب الدار عمارتها وإصلاح
ميازيبها وبئر الماء وتنظيف البالوعة الممتلئة من أفعال المستأجر ، وكل ما يكون مضرا
بالسكنى ، فإن لم يفعل فللمستأجر أن يخرج ؛ وإن رأى هذه العيوب وقت الإجارة فلا خيار
له لأنه رضي بالعيب ، وعلى المستأجر رمي التراب والرماد المجتمع في الدار من كنسه لأنه
ليس من باب السكنى ، كري نهر رحا الماء على الآجر إلا أن يكون شرطه على المستأجر .(2/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
كتاب الرهن
وهو في اللغة : مطلق الحبس ، قال الله تعالى : ) كل نفس بما كسبت رهينة (
[ المدثر : 38 ] . وفي الشرع : الحبس بمال مخصوص بصفة مخصوصة ، شرع وثيقة
للاستيفاء ليضجر الراهن بحبس عينه فيسارع إلى إيفاء الدين ليفتكها فينتفع بها ويصل
المرتهن إلى حقه ، ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقوله تعالى :
) فرهان مقبوضة ( [ البقرة : 283 ] وأنه أمر بصيغة الإخبار نقلا عن المفسرين ، معناه : وإن
كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا فارتهنوا رهان مقبوضة وثيقة بأموالكم . والسنة ما روي ' أنه
عليه الصلاة والسلام رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي بالمدينة ' وبعث ( صلى الله عليه وسلم ) والناس
يتعاملون فأقرهم عليه ، وعليه الإجماع . قال : ( وهو عقد وثيقة ) لا بد فيه من الإيجاب
والقبول كسائر العقود .
قال : ( بمال مضمون بنفسه ) أي بمثله ( يمكن استيفاؤه منه ) على ما نبينه إن شاء الله
تعالى ( ولا يتم إلا بالقبض ) قال الله تعالى : ) فرهان مقبوضة ) وصفها بكونها مقبوضة فلا
تكون إلا بهذه الصفة ، ولأنه عقد تبرع ، ألا ترى أنه لا يجبر عليه ، فيكون تمامه بالقبض
كالهبة ( أو بالتخلية ) لقيامها مقامه كما في البيع والهبة ( وقبل ذلك إن شاء سلم وإن شاء لا )(2/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
لما بينا أنه تبرع ؛ ثم الرهن لا يخلو ، إما إن كان بدين وهو المثلى ، أو بعين وهو غير
المثلى ؛ فإن كان بدين جاز على كل حال بأي وجه ثبت ، سواء كان من الأثمان أو من
غيرها ؛ وإن كان بعين فالأعيان على وجهين : مضمونة ، وغير مضمونة . فالمضمونة على
وجهين : مضمونة بنفسها ، ومضمونة بغيرها ؛ فالمضمون بنفسه : ما يجب عند هلاكه مثله
أو قيمته كالمغصوب والمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد ، فيجوز الرهن بها لأنها
مضمونة ضمانا صحيحا يمكن استيفاء الدين منه ؛ والمضمون بغيرها كالمبيع في يد البائع
فلا يجوز الرهن بها ، لأنه لا يجب بهلاكه حتى يستوفي من الرهن ، لأنه إذا هلك المبيع
يبطل البيع ويسقط الثمن فصار كما ليس بمضمون . والأعيان الغير المضمونة : وهي
الأمانات كالوديعة والعارية ومال المضاربة والشركة و المستأجر ونحوها لا يجوز الرهن
بها ، لأن الرهن مقتضاه الضمان على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وما ليس بمضمون لا
يوجد فيه معنى الرهن ، وقوله في المختصر يمكن استيفاؤها منه احترازا عن هذا ، ولا
يجوز بالشفعة ولا بالدرك ولا بدين سيجب ، لأنه وثيقة بمعدوم ، ولا بالقصاص في
النفس وما دونها لعدم التمكن من الاستيفاء ، ويجوز بجناية الخطأ ويكون رهنا بالأرش
لأنه يمكن استيفاؤه ، ولا يجوز بالكفالة بالنفس لتعذر الاستيفاء ، ولا بأجرة النائحة
والمغنية لأنه غير مضمون ، ويجوز شرط الخيار للراهن لأنه لا يملك الفسخ فيفيد
الشرط ، ولا يجوز للمرتهن لأنه يملك الفسخ بغير شرط فلا يفيد ، ولا يجوز رهن ما لا
يجوز بيعه كالحر والمدبر وأم الولد والمكتب والميتة والدم لأنه يمكن الاستيفاء منها فلا
يحصل التوثق ، وكذا جذع في سقف وذراع من ثوب وأشباهه لما مر .
ولا يجوز للمسلم رهن الخمر والخنزير ، ويجوز للذمي ، لأن الرهن والارتهان للوفاء
والاستيفاء ، ولا يجوز للمسلم ذلك من الخمر ويجوز للذمي ، ثم الرهن على ثلاثة أضرب :
جائز ، وباطل وقد ذكرناهما ، وفاسد وهو رهن المبيع ورهن المشاع والمشغول بحق الغير ،
أو اشترى عبدا أو خلا ورهن بالثمن رهنا ثم ظهر العبد حرا والخل خمرا ، أو قتل عبدا
فأعطاه بقيمته رهنا ثم ظهر حرا . قال القدوري في شرحه : يهلك بغير شيء ، لأن المبيع غير
مضمون بنفسه ، والقبض لم يتم في المشاع والمشغول ، ولم يصح في الحر والخمر كما لو
رهنه ابتداء . ونص محمد في المبسوط والجامع أن المقبوض بحكم رهن فاسد مضمون
بالأقل من قيمته ومن الدين ، لأن الرهن انعقد لمقابلة المال بالمال حقيقة في البعض ، وفي
البعض في ظنهما لكنه فسد لنقصان فيه ، لأنه لا يمكن استيفاؤه من الرهن فيكون مضمونا
بالأقل منهما ، كالمقبوض في البيع الكاسد مضمون بقيمته فكذا هذا ، إلا أنه يضمن الأقل
منهما هنا ؛ أما إذا كانت القيمة أقل فظاهر ؛ وأما إذا كان الدين أقل فلأنه إنما قبضه ليكون
مضمونا بالدين ، والمختار قول محمد .(2/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
قال : ( ولا يصح إلا محوزا مفرغا متميزا ) فالمحوز المعلوم الذي يمكن حيازته ،
والمفرغ الذي لا يكون مشغولا بحق الغير ، والمتميز المقسوم الذي قد تميز عن بقية
الأنصباء ، لأن قبض الجزء الشائع لا يتصور بانفراده وقبض الكل لا يقتضيه العقد ، وكذا
كونه مشغولا بحق الغير يخل بقبضه وحبسه ، وكذا المجهول لا يمكن قبضه ، ومقصود الرهن
وهو الاستيثاق لا يحصل إلا بالحبس الدائم ، والحبس لا يتصور بدون القبض ، والقبض لا
يمكن بدون هذه الأوصاف ، فلا يصح الرهن بدونها .
قال : ( فإذا قبضه المرتهن دخل في ضمانه ) لما روي ' أن رجلا رهن فرسا له بدين
فنفق ، فاختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن : ذهب حقك '
وقال عليه الصلاة والسلام : ' إذا عمي الرهن فهو بما فيه ' قالوا : معناه - والله أعلم - إذا
هلك فاشتبهت قيمته ؛ وقد نقل أصحابنا إجماع الأمة على أنه مضمون على اختلافهم في
كيفية الضمان ، ولأنه لما ملك حبسه صار مستوفيا حقه من وجه لأنه الاستيفاء ليتوسل به إلى
حقه مخافة الجحود ، وقد تأكد هذا الاستيفاء بالهلاك ، فلو وفاه وفاه ثانيا يؤدي إلى الربا ، ولا
يمكنه المطالبة بحقه إلا أن ينقض القبض والحبس ويرده إلى الراهن وأنه عاجز عنه ففات
شرط المطالبة فبطلت ؛ ومن ادعى أنه أمانة فقد خالف الإجماع وتعلقه بقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا يغلق الرهن هو لصاحبه له غنمه وعليه غرمه ' لا حجة له فيه لأن معناه لا
يصير الرهن للمرتهن بدينه ولا يحبسه بحيث لا ينفك ، هذا معناه ، ويشهد له بيت ابن زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا
أي محبوسا لا فكاك له ، وكذا كانت عادتهم في الجاهلية ، فقال عليه الصلاة
والسلام ذلك قلعا لهم عن العوائد الجاهلية ، لما فيه من تملك مال الغير بغير أمره
وقوله : ' له غنمه وعليه غرمه ' أي إذا بيع ففضل من الثمن شيء فهو له ، وإن نقص
فعليه أو له غنمه لسقوط الدين عنه بهلاكه وعليه غرمه ، وهو قضاء ما بقي من الدين إن
لم يف به . وعن علي رضي الله عنه في مثله قال يترادان الفضل .(2/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
قال : ( ويهلك على ملك الراهن حتى يكفنه ) لأنه ملكه حقيقة ، وهو أمانة في يد
المرتهن حتى لو اشتراه لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء ، لأنه قبض أمانة فلا ينوب
عن قبض الضمان ، وإذا كان ملكه فمات كان عليه كفنه . قال : ( ويصير المرتهن مستوفيا من
ماليته قدر دينه حكما والفاضل أمانة ، وإن كان أقل سقط من الدين بقدره ) لأن المضمون قدر
ما يستوفيه من الدين ، فعند زيادة قيمته الزيادة أمانة ، لأنها فاضلة عن الدين وقد قبضها بإذن
المالك ، وعند النقصان قد استوفى قيمته فبقي الباقي عليه كما كان .
قال : ( وتعتبر القيمة يوم القبض ) لأنه يومئذ دخل في ضمانه وفيه يثبت الاستيفاء يدا ثم
يتقرر بالهلاك ، ولو اختلفا في القيمة فالقول للمرتهن لأنه ينكر الزيادة ، والبينة للراهن لأنه
يثبتها . قال : ( فإن أودعه أو تصرف فيه ببيع أو إجارة أو إعارة أو رهن ونحوه ضمنه بجميع
قيمته ) وكذا إذا تعدى فيه كاللبس والركوب والسكنى والاستخدام لأنه متعد في ذلك إذ هو
غير مأمور به من جهة المالك والزائد على قدر الدين أمانة ، والأمانات تضمن بالتعدي ، ولا
ينفسخ عقد الرهن بالتعدي ، ولأنه ما رضي إلا بحفظه والناس يختلفون فيه فكان مخالفا ،
بخلاف زوجته وولده وخادمه الذين في عياله ، لأن الإنسان إنما يحفظ ماله غالبا بهؤلاء ،
فيكون الرضى بحفظه رضي بحفظهم ، ولأنه لا بد له من ذلك ، لأنه لا يمكنه ملازمة البيت
ولا استصحاب الرهن ، فصار الحفظ بهؤلاء معلوما له فلا يضمن ؛ ولبس الخاتم في خنصره
تعد وفي غيرها حفظ ، والتقلد بالسيف والسيفين تعد للعادة وبالثلاث لا ؛ ووضع العمامة
والطيلسان على الرأس كما جرت به العادة تعد ، ووضعهما على العاتق أو الكتف لا ؛
والتعمم بالقميص ليس بتعد ؛ ووضع الخلخال موضع السوار وبالعكس ليس بتعد ، ولبسهما
موضعهما تعد .
قال : ( ونفقة الرهن وأجرة الراعي على الراهن ) وكذلك كل ما يحتاج إليه لبقاء الرهن
ومصلحته ، لأنه باق على ملكه وذلك مؤونة الملك ، والرعي من النفقة لأنه علف الحيوان
والكسوة والظئر وإصلاح شجر البستان وسقيها ، وجذاذ الثمرة من النفقة . قال : ( ونماؤه له )
لبقائه على ملكه كالولد واللبن والسمن والثمرة ( ويصير رهنا مع الأصل ) لأن الرهن حق لازم
فيسري إلى التبع ( إلا أنه إن هلك يهلك بغير شيء ) لأنه لم يدخل تحت العقد مقصودا فلا
يكون له قسط من الدين ، ولأن المرتهن لم يقبضها بجهة الاستيفاء ولا التزم ضمانها فلا
يلزمه كولد المبيعة قبل القبض مبيع وليس بمضمون على البائع ، ولا معتبر بنقصان القيمة(2/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
وزيادتها لأن ذلك يختلف باختلاف رغبات الناس ، أما العين فلم تتغير ، والقبض ورد على
العين دون القيمة ، وغلة العقار وكسب الرهن ليس برهن لأنه غير متولد منه ولا بدل عنه
ككسب المبيع وغلته .
قال : ( وإن بقي النماء وهلك الأصل افتكه بحصته ) لأن الرهن مضمون بالقبض والزيادة
مقصودة بالفكاك ، ومتى صار التبع مقصودا قابله شيء من البدل كولد المبيع . قال : ( يقسم
الدين على قيمته يوم الفكاك ، وقيمة الأصل يوم القبض ) لما بينا ( وتسقط حصة الأصل ) لما
مر . قال : ( وتجوز الزيادة في الرهن ولا تجوز في الدين ، ولا يصير الرهن رهنا بهما ) وقال
أبو يوسف : تجوز الزيادة في الدين أيضا ، لأن الدين والرهن كالثمن والمبيع فتجوز الزيادة
فيهما بجامع دفع الحاجة ، بدليل إقدامهما وصحة تصرفهما . ولنا أن الزيادة في الرهن توجب
شيوع الدين ، وذلك غير مانع من صحة الرهن ، والزيادة في الدين توجب شيوع الرهن لأنه
لا بد أن يقابله شيء من الرهن وشيوع الرهن مانع من صحته على ما بينا . وقال زفر : لا
يجوز فيهما ، أما في الدين فلما قالا ، وأما في الرهن فلأنه جعله رهنا ببعض الدين فلا يجوز
كما إذا جعله رهنا بكله ، فإنه لو جعله رهنا بكله لا يجوز حتى يرد المرتهن الرهن الأول ،
وجوابه أن الزيادة تلحق بأصل العقد كما مر في البيع فيصير كأنه رهنهما من الابتداء .
قال : ( وأجرة مكان الحفظ على المرتهن ) لأن الحفظ عليه ليرده إلى الراهن ليسلم له
حقه فيكون عليه بدله أيضا ، وكذلك أجرة الحافظ وجعل الآبق ، لأنه يحتاج إلى إعادة يده
ليرده على مالكه فكان من مؤونة الرد فيجب عليه ، وإن كانت قيمته أكثر من الدين فعلى
الراهن قدر الزيادة لأنها أمانة فتكون يده يد المالك فتكون المؤونة على المالك ، وهذا في
جعل الآبق ظاهر ، لأنه لأجل الضمان فيتقدر بقدر المضمون ؛ أما أجرة البيت فالجميع على
المرتهن لأنه بسبب الاحتباس ، والحبس ثابت له في الكل ، والخراج على الراهن لأنه مؤونة
ملكه . قال : ( وله أن يحفظه بنفسه وزوجته وولده وخادمه الذي في عياله ) وقد تقدم .
قال : ( وليس له أن ينتفع بالرهن ) لأنه غير مأذون له في ذلك ، وإنما له ولاية الحبس
لا غير ( فإن أذن له الراهن فهلك حالة الاستعمال هلك أمانة ) لأنه عارية على ما يأتي في
بابها ، وإن هلك قبل الاستعمال هلك مضمونا لبقاء يد الراهن ، وكذا بعد الاستعمال لزوال
يد العارية وعود يد الراهن .(2/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
فصل
( ويصح رهن الدراهم والدنانير ) لتحقق الاستيفاء منها فكانت محلا للرهن ( فإن رهنت
بجنسها فهلكت سقط مثلها من الدين ) لأن الاستيفاء حصل ، ولا فائدة في تضمينه بالمثل
لأنه مثلى ثم يدفعه إليه قضاء ( وكذلك كل مكيل وموزون ، وإن اختلفا في الجودة والرداءة )
لأن الشرع أسقط اعتبار الجودة عند المقابلة بالجنس على ما مر في البيوع . قال : ( ويصح
برأس مال السلم وبدل الصرف ) لتحقق الاستيفاء والمجانسة ثابتة في المالية فلا يكون
استبدالا ( فإن هلك قبل الافتراق تم الصرف والسلم وصار مستوفيا ) لتحقق القبض حكما
( وإن افترقا والرهن قائم بطلا ) لوجود الافتراق لا عن قبض وأنه شرط فيهما على ما
عرف .
قال : ( ويصح بالدين الموعود ، فإن هلك بما سمى ) لأنه مقبوض على جهة الرهن ،
فيكون كالمقبوض على سوم الشراء . وصورته أن يرهنه شيئا على أن يقرضه درهما
فيهلك قبل القرض فعليه أن يعطيه درهما ، ولو قال على أن يقرضه شيئا ولم يسم فهلك
أعطاه ما شاء والبيان إليه ، لأن بالهلاك صار مستوفيا فيصير كأنه قال عند الهلاك : وجب
لفلان عليّ شيء ، ولو قال بدراهم يلزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع . وعن أبي يوسف لو
قال أقرضني وخذ هذا الرهن ، ولم يسمّ فأخذه وضاع ولم يقرضه قال : عليه قيمة
الرهن .
قال : ( ومن اشترى شيئا على أن يرهن بالثمن شيئا بعينه فامتنع لم يجبر ) لما بينا أنه
عقد تبرع ( والبائع إن شاء ترك الرهن ، وإن شاء رد البيع ) لأنه وصف مرغوب فيه ، وقد فاته
فيتخير . قال : ( إلا أن يعطيه الثمن حالا ) لحصول المقصود ( أو يعطيه رهنا مثل الأول )
لحصول المعنى ، وهو الاستيثاق بمثله في القيمة ، والقياس أن لا يجوز هذا البيع لأنه صفقة
في صفقة ، وهو منهي عنه ، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما ، وأنه يفسد البيع
لما مر . ووجه الاستحسان أنه شرط يلائم العقد ، لأن الرهن للاستيثاق ، وهو ملائم للوجوب
فلا يفسده .(2/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
قال : ( وإن رهن عبدين بدين فقضى حصة أحدهما فليس له أخذه حتى يقضي باقي
الدين ) لأنه ثبت له حق الحبس في الكل للاستيثاق بالدين وبكل جزء منه ليكون أدعى إلى
قضاء الدين ، فصار كالمبيع في يد البائع ، وكذلك إن سمى لكل واحد منهما شيئا من الدين
في رواية الأصل . وذكر في الزيادات : له قبضه إذا أدى ما سمي له ، وهو قول محمد لأنه
محبوس بالقدر الذي سماه له ، ولهذا لو هلك هلك به . ووجه الأول أن الصفقة واحدة ، وإن
عيّن لكل واحد منهما شيئا ، ولهذا لو قبل العقد في البعض دون البعض لا يجوز كما في
البيع . قال : ( وإن رهن عينا عند رجلين جاز ) لأنه أضاف الرهن إلى جميعها صفقة واحدة ،
فيكون محتبسا بما رهنها به وهو مما لا يقبل التجزّي فيكون محبوسا بكل واحد منهما ، فإن
تهايآ فكل واحد منهما في حق صاحبه كالعدل .
قال : ( والمضمون على كل واحد منهما حصة دينه ) لأنه يصير مستوفيا حصته بالهلاك
( فإن أوفى أحدهما فجميعها رهن عند الآخر ) لأن جميعها رهن عند كل واحد منهما من غير
تفريق لما بينا وصار كحبس المبيع إذا أدى أحد المشتريين حصته . قال : ( وللمرتهن ممطالبة
الراهن وحبسه بدينه وإن كان الرهن في يده ) لبقاء حقه في الدين والرهن للاستيثاق فلا يمنع
المطالبة ، فإذا طالبه ومطله فقد ظلمه ، فيحبسه القاضي جزاء على الظلم ( وليس على المرتهن
أن يمكنه من بيعه لقضاء الدين ) لأن حقه ثابت في الحبس حتى يستوفي دينه فلا يجب عليه
إبطاله بالبيع ، إلا أنه يؤمر بإحضاره لما بينا أن قبضه قبض استيفاء ، فلو قبض دينه مع ذلك
يتكرر الاستيفاء على تقدير محتمل ، وهو الهلاك في يده ، وإذا أحضره قيل للراهن سلم الدين
أولا ليتعين وهو نظير بيع السلعة بالثمن .
فصل
( فإذا باع الراهن الرهن فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه ) لتعلق حقه
بحبسه على ما بينا فيتوقف إبطاله على رضاه أو زوال حقه ، فإذا أجاز فقد رضي بزوال حقه
في الحبس ، وإذا قضى دينه فقد زال حقه في الحبس فعمل المقتضي عمله ، وهو صدور
الركن من الأهل مضافا إلى المحل ، ثم إذا أجاز البيع ونفذ انتقل حقه إلى بدله ، لأن له(2/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
حكم المبدل كالعبد المديون إذا بيع برضا الغرماء انتقل حقهم إلى بدله ، والفقه فيه أنه إنما
رضي بالانتقال دون السقوط ، وإن لم يجز البيع قيل ينفسخ كعقد الفضولي حتى لو استفكه
الراهن لا سبيل للمشتري عليه ، وقيل لا ينفسخ . قالوا : وهو الأصح لأن التوقف إنما كان
صيانة لحق المرتهن عن البطلان وحقه في الحبس ، وذلك لا يمنع الانعقاد فيبقى موقوفا إن
شاء المشتري صبر حتى يستفكه الراهن ، وإن شاء فسخ القاضي لعجزه عن التسليم وصار
كإباق العبد بعد البيع قبل القبض ، فإن المشتري يتخير كما ذكرنا .
قال : ( وإن أعتق العبد الرهن نفذ عتقه ) لصدور ركن الإعتاق من الأهل مضافا إلى
المحل ، ولا خفاء فيهما عن ولاية وهي ملك الرقبة ، فيعتق كما إذا أعتق المشتري قبل
القبض والآبق والمغصوب . وإذا زال ملكه عن الرقبة بالإعتاق زال ملك المرتهن في اليد بناء
عليه كالعبد المشترك وثم يزول ملك الرقبة فلأن يزول هنا ملك اليد أولى ، بخلاف البيع
والهبة فإنه إنما يوقف لعدم القدرة على التسليم ، ولأن في نفاذ العتق تحصيل منفعة العبد
والمولى وهو ظاهر من غير فوات مصلحة المرتهن لأنه يجب له إما سعاية العبد ، أو رهنية
قيمته ، أو أداء الدين حالا ، ولو لم ينفذ العتق بطلت مصلحة المعتق والمعتق لا إلى جابر ،
فكان نفاذه أتم مصلحة وأعم فائدة فكان أولى ، وإذا نفذ العتق بطل الرهن لفوات محله .
( فيطالب بأداء الدين إن كان حالا ) إذ هو الواجب في الديون الحالة ، ولا فائدة في
طلب القيمة فإنه متى قبضها والدين حال وقعت المقاصة ( وإن كان مؤجلا رهن قيمة العبد )
لقيامها مقام العبد ، فإذا حل الدين وهو من جنس حقه اقتص منه بقدره ورد الفضل ( وإن كان
معسرا سمى العبد في الأقل من قيمته والدين ) لأنه تعذر أخذ الحق من جهة المعتق ، فيؤخذ
ممن حصلت له فائدة العتق وهو العبد ، لأن الخراج بالضمان ، ويسعى في الأقل منهما ، لأن
الدين إن كان أقل فالحاجة تندفع به ، وإن كانت القيمة أقل فهو إنما حصل له هذا القدر فلا
تجب عليه الزيادة ( ويرجع على المولى إذا أيسر ) لأنه اضطر إلى قضاء دينه بحكم الشرع
فيرجع عليه ، خلاف المستسعي ، لأنه يسعى لتحصيل العتق عند أبي حنيفة ، ولتكميله
عندهما ، وههنا تم عتقه ، وإنما يسعى في ضمان على غيره فيرجع كمعير الرهن ؛ ولو دبر
الراهن الرهن أو كانت أمة فاستولدها صح ؛ أما التدبير فلما مر ؛ وأما الاستيلاد فلأن حقه
أقوى من حق الأب في جارية الابن وقد صح ثم فهنا أولى ، وحق المرتهن مجبور بالسعاية
أو التضمين ، فإن كان المولى موسرا فحكمه ما مر في العتق ، وإن كان معسرا سعيا في
جميع الدين ، لأن كسبهما للمولى ولهذا لا يرجعان عليه ، وإذا استهلك الراهن الرهن فهو
كالعتق .(2/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
قال : ( وإن استهلكه أجنبي فالمرتهن يضمنه قيمته يوم هلك ) فيكون رهنا مكانه لأن
حقه ثابت في حبس العين ، فكذا في بدله ، فإن كانت قيمته يوم القبض ألفا وضمنه خمسمائة
سقط من الدين خمسمائة كأنها هلكت بآفة سماوية . قال : ( وليس له أن ينتفع بالرهن ) لما فيه
من تفويت حق المرتهن وهو الحبس الدائم الذي يقتضيه العقد كما بينا . قال : ( فإن أعاره
المرتهن فقبضه الراهن خرج من ضمانه ، فلو هلك في يد الراهن هلك بغير شيء ) لزوال
الحبس المضمون ووصوله إلى يد الراهن ، وله أن يسترجعه لبقاء عقد الراهن ؛ ولهذا لو مات
الراهن قبل رده فالمرتهن أحق به من سائر الغرماء ، وإذا أخذه عاد الضمان بعود القبض في
عقد الرهن فتعود صفته .
قال : ( وإن وضعاه على يد عدل جاز ) لأنه نائب عن الراهن في الحفظ وعن المرتهن
في الحبس ، ويجوز أن تكون اليد الواحدة في حكم يدين وشخص واحد بمنزلة شخصين ،
كمن عجل الزكاة كان الساعي كالمالك حتى لو هلك النصاب قبل الحول أخذه من يده ،
وفي منزلة الفقير حتى لو هلكت في يده سقطت كما لو دفعها إلى الفقير ( وإن شرطا ذلك في
العقد فليس لأحدهما أخذه ) لتعلق حقهما به الراهن في الحفظ والمرتهن في الاستيفاء ، ولا
يملك أحدهما إبطال حق الآخر . قال : ( ويهلك من ضمان المرتهن ) ، لأن يده يد المرتهن
وهي مضمونة في حق المالية ، ولو دفعه إلى أحدهما ضمن لأنه مودع الراهن في العين ،
والمرتهن في المالية وكل واحد منهما أجنبي عن الآخر فيضمن كالمودع إذا دفعه إلى أجنبي ،
والعدل يبيع ولد المرهونة ويجبر على البيع عند طلب المرتهن ، ولا ينعزل بعزل الموكل
وموته ، ويملك مصارفة الثمن إذا خالف جنس الدين ، والوكيل المفرد لا يملك شيئا من
ذلك .
قال : ( ويجوز أن يوكل المرتهن وغيره على بيع الرهن ) لأنه أهل للتوكيل وقد
وكّل ببيع ماله ( فإن شرطها في عقد الرهن لم ينعزل بموت الراهن ولا بعزله ) لأن
الوكالة صارت وصفا للرهن بالشرط فتبقى ببقاء أصله وقد تعلق به حق المرتهن ، وليس
للراهن إبطاله ولا للورثة لتقدم حقه على حقهم وبقاء الرهن بعد موته ، ولو شرط البيع
بعد الرهن ، قال الكرخي ينعزل بالعزل والموت لعدم اشتراطه في العقد . وعن أبي
يوسف أنه لا ينعزل ، واختاره بعض المشايخ . قال : ( وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن(2/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
وقضى الدين ) لأن الدين حل بموته والوصي قائم مقامه ، ولو كان الراهن حيا كان له بيعه
لإيفاء الدين بأمر المرتهن فكذا هذا ( فإن لم يكن له وصي نصب القاضي من يفعل ذلك ) لأنه
نصب لصالح المسلمين والنظر لهم عند عجزهم والنظر فيما ذكرنا ، لأنه يحتاج إلى قضاء ما
عليه من الديون الحائلة بينه وبين الجنة .
قال : ( ومن استعار شيئا ليرهنه جاء ، وإن لم يسم ما يرهنه به ) لأن الإطلاق في العارية
معتبر لأنه لا يفضي إلى المنازعة ، وله أن يرهنه بأي قدر شاء وأي نوع شاء ممن شاء عملا
بالإطلاق ( فإن عين ما يرهنه به ، فليس له أن يزيد عليه ولا ينقص ) أما الزيادة فلأنه ربما
احتاج المعير إلى فكاك الرهن فيؤدي قدر الدين وما رضي بأداء القدر الزائد على ما عيّنه ، أو
لأنه يتعسر عليه ذلك فيتضرر به ؛ وأما النقصان فلأن الزائد على قدر الدين يكون أمانة وما
رضي إلا أن يكون مضمونا كله ، فكان التعيين مفيدا فيتقيد به ، وإن رهنه بجنس آخر ضمن
لأنه لم يرض به ؛ وكذا لو عين رجلا فرهن عند غيره لتفاوت الناس في الحفظ والملاءة
والقضاء ؛ وكذلك لو قيده ببلدة فرهنه بأخرى ضمن ، والمعير إن شاء ضمن الراهن لتعديه
حيث خالف ، وإن شاء المرتهن لأنه قبض ماله بغير أمره ، فإن ضمن الراهن ملك الرهن
فصار كأنه رهن ملكه فتترتب عليه أحكامه وإن ضمن المرتهن رجع بدينه وبما ضمن على
الراهن لأنه بسببه وغروره ، ولو رهنه مما عين فهلك في يد المرتهن صار مستوفيا دينه لما
تقدم ، وعلى الراهن للمعير مثله ، لأنه صار قاضيا دينه فيرجع بمثله .
ولو دخله عيب نقص من الدين بحسابه ويضمنه لرب العارية ؛ ولو كانت قيمته أقل من
الدين ضمن الراهن للمعين قيمته ، لأنه صار قاضيا من دينه بقدرها ؛ ولو هلك عند المستعير
قبل الرهن أو بعد الفكاك لا يضمن ، لأنه قبضه بإذن المالك ولم يقض دينه منه ؛ وإذا أعطى
المعير الدين ليأخذ الرهن أجبر المرتهن على دفعه إليه ، ورجع بذلك على الراهن لأنه غير
متبرع في ذلك لحاجته إلى خلاص ملكه ولو اختلفا في مقدار ما أمره به فالقول للمعير ، لأنه
منه يستفاد ، ألا يرى أن له إنكار الأصل فكذا الوصف .
فصل
جناية الراهن على الرهن مضمونة ، لأنه كالأجنبي في المالية حيث تعلق بها حق الغير
حبسا واستيفاء ، وجناية المرتهن يسقط من الدين بقدرها ، لأنه لو نقص لا بفعله يسقط فبفعله
أولى ، وجناية الرهن على الراهن وماله هدر ؛ والمراد جناية توجب المال لأنها جناية المملوك
على مالكه ، وكذلك جنايته على المرتهن ، لأنها لو اعتبرت كان عليه تطهيره منها لحدوثها(2/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
في ضمانه ، ولا يجب له الضمان ، وعليه الخلاص لعدم الفائدة . وقال أبو يوسف ومحمد :
هي معتبرة لأنها على غير المالك ، وفي اعتبارها فائدة وهي دفعه إلى الجناية ، ويبطل الرهن ،
وإن لم يطلب المرتهن الجناية بقي رهنا على حاله ، وإن جنى على ماله وقيمته والدين سواء
لا يعتبر بالإجماع لعدم الفائدة ، وإن كانت القيمة أكثر فكذا عند أبي حنيفة ، وعنه أنه يعتبر
بقدر الأمانة لجناية الوديعة على المستودع .(2/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
كتاب القسمة
وهي في الأصل : رفع الشيوع وقطع الشركة ، قال الله تعالى : ) ونبئهم أن الماء قسمة
بينهم ( [ القمر : 28 ] أي غير شائع ولا مشترك ، بل لهم يوم وللناقة يوم ؛ ومعنى قسمة
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الغنائم أنه أفرزها وقطع الشركة فيها ، وهذا المعنى مرعي في التبرع ، إلا أنه
تارة يقع إفرازا وتمييزا للأنصباء ، وتارة مبادلة ومعاوضة على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وهي
مشروعة بالكتاب وهو قوله تعالى : ) واعلموا أنما غنمتم من شيء ( [ الأنفال : 41 ] الآية ،
بيّن الأنصباء وهو معنى القسمة . والسنة وهو أنه عليه الصلاة والسلام قسم الغنائم
والمواريث ، وقسم خيبر بين أصحابه ، وعلي رضي الله عنه نصّب عبد الله بن يحيى ليقسم
الدور والأرضين ويأخذ عليه الأجر ، وعليه إجماع المسلمين ، ولأن المشترك قد لا يمكنهما
الانتفاع به ؛ فمست الحاجة إلى القسمة ليصل كل واحد إلى المنفعة بملكه ، أو لأنه لا يمكنه
الانتفاع إلا بالتهايؤ فيبطل عليه الانتفاع في بعض الأزمان ، فكانت القسمة متممة للمنفعة ،(2/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
وقد ذكرنا أن القسمة تكون إفرازا وتكون مبادلة فنقول :
( معنى الإفراز فيما لا يتفاوت أظهر كالمكيل والموزون ) وسائر المثليات حتى كان لكل
واحد أن يأخذ نصيبه بغير رضى صاحبه ومع غيبته ، ويبيعه مرابحة وتولية على نصف الثمن ،
ولا يخلو عن معنى المبادلة أيضا ، لأن ما حصل له كان له بعضه وبعضه لشريكه ، إلا أنه
جعل وصول مثل حقه إليه كوصول عين حقه لعدم التفاوت ( ومعنى المبادلة أظهر فيما
يتفاوت كالحيوان والعقار ) وكل ما ليس بمثلى حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه مع غيبة
الآخر ، ولو اقتسما فليس له بيعه مرابحة ، لأن ما أخذ ليس بمثل لما ترك على صاحبه ( إلا
أنه يجبر الممتنع منهما على القسمة إذا اتحد الجنس ) كالإبل والبقر والغنم تتميما للمنفعة
وتكميلا لثمرة الملك ، فإن الطالب يسأل القاضي أن يخصه بنصيبه ويمنع غيره من الانتفاع به
فيجيبه القاضي إلى ذلك ، لأنه نصب للمصالح ودفع المظالم ، والإجبار على المبادلة جائز إذا
تعلق بها حق الغير كالمشتري مع الشفيع والمديون يجبر على بيع ملكه لإيفاء الدين .
( ولا يجبر عند اختلاف الجنس ) كالحيوان مع العقار ، أو البقر مع الخيل ونحو ذلك ،
لتعذر المعادلة فيه للتفاوت الفاحش بينهما في المقصود ، وكذلك الثياب إذا اختلفت
أجناسها ، والثوبان إذا اختلفت قيمتهما ( ولو اقتسموا بأنفسهم جاز ) لأنه بيع ولهما ذلك .
قال : ( ويقسم على الصبي وصيه أو وليه ) كالبيع وسائر التصرفات ، فإن لم يكن نصب له
القاضي من يقسم .
قال : ( وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما عدلا مأمونا عالما بالقسمة ) لأنه لا قدرة له
على العمل إلا بالعلم به ، ولا اعتماد على قوله إلا بالعدالة ، ولا وثوق إلى فعله إلا بالأمانة ،
ولأنه يحكم عليهم بفعله فأشبه القاضي ، فينبغي أن يكون بهذه الصفات . قال : ( يرزقه من
بيت المال ) لأن فعله يقطع المنازعة كالقضاء ، فينبغي أن يكون رزقه من بيت المال
كالقاضي ، ولأنه أنفى للتهمة فكان أفضل ، ولأنه أرفق بالعامة . قال : ( أو يقدر له أجرا يأخذه
من المتقاسمين ) لأنه يعمل لهم وإنما يقدره لئلا يطلب زيادة ويشتط عليهم في الأجر . قال :
( وهو على عدد رؤوسهم ) وقالا : على الأنصباء لأنها مؤونة الملك فيتقدر بقدره ، فصار
كحافر بئر مشتركة ونفقة المملوك المشترك . ولأبي حنيفة أنه جزاء عمله وهو التمييز
والإفراز ، ويستوي فيه القليل والكثير . بيانه أنه لا يأخذ الأجر على المساحة والمشي على
الحدود ، حتى لو استعان في ذلك بأرباب الملك فله الأجر إذا قسم وميّز ، وربما يكثر عمله
في القليل لأن الحساب إنما يدق ويصب عند تفاوت الأنصباء لا عند استوائهما ، بخلاف
حفر البئر فإن الأجرة مقابلة بالعمل وهو نقل التراب ، ونفقة المملوك لإبقاء الملك وحاجة
صاحب الكثير أكثر ، وبخلاف الكيلي والوزني لأنه أجر عمله ، ولهذا لو استعان في ذلك(2/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
بأرباب الملك لا أجر له ، وكيل الكثير أكثر من كيل القليل قطعا . وروي عن أبي حنيفة أن
الأجر على الطالب لأنه هو المنتفع به دون الممتنع لتضرره به .
قال : ( ولا يجبر الناس على قاسم واحد ) معناه إذا لم يقدر أجره لأنه يتعدى أجر مثله
ويتحكم في طلب الزيادة وأنه ضرر . قال : ( ولا يترك القسام يشتركون ) لأن عند الاشتراك لا
يخافون الفوت فيتغالون في الأجر ، وعند عدم الاشتراك يخاف الفوت بسبق غيره فيبادر إلى
العمل فيرخص الأجر . قال : ( جماعة في أيديهم عقار طلبوا من القاضي قسمته ، وادعوا أنه
ميراث لم يقسمه حتى يقيموا البينة على الوفاة وعدد الورثة ) وقالا : يقسمه باعترافهم ، ويذكر
في كتاب القسمة أنه قسمة بقولهم ، ولا يحتاج إلى بينة لأن اليد دليل الملك ، والظاهر
صدقهم ولا منازع لهم كما في غير العقار ؛ وكما إذا ادعوا في العقار الشراء أو مطلق
الملك ، فإنه يقسمه في هذه الصور بالإجماع ؛ وكذا لو كان في الورثة كبير غائب أو صغير
والدار في أيدي الكبار الحضور يقسمها بقولهم ، ويعزل نصيب الصغير والغائب إلا أن يكون
العقار في يد الغائب أو الصبي ، فلا بد من حضورهما لئلا يكون قضاء على الغائب والصبي ،
وإنما يذكر أنه قسمها بقولهم لئلا يتعداهم الحكم . ولأبي حنيفة أن التركة قبل القسمة مبقاة
على حكم ملك الميت ، لأن الزوائد المتولدة منها تحدث على ملكه حتى يقضي منه ديونه
وتنفذ وصاياه ، فلا يجوز للقاضي قطع حكم ملكه إلا ببينة ، بخلاف المنقول لأنه يحتاج إلى
الحفظ ، فكانت قسمته للحفظ والعقار محفوظ بنفسه ، وبخلاف المشتري لأن ملك البائع
انقطع عن المبيع فلم تكن القسمة قضاء على الغير ، وكذا إذا أطلقوا الملك لأنهم ما اعترفوا
به لغيرهم . وفي الجامع الصغير شرط إقامة البينة عند الإطلاق ، لأن قسمة الحفظ لا يحتاج
إليها في العقار ، وقسمة الملك تفتقر إلى ثبوته فاحتاج إلى البينة .
قال : ( فإن حضر وارثان فأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة ومعهما وارث غائب قسمه
بينهم إلا أن يكون العقار في يد الغائب ) لما مر ( وفي الشراء لا يقسمه إلا بحضرة الجميع )
والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة حتى ينتقل إليه خيار العيب والتعيين فيما اشتراه المورث
أو باعه فيكون أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه ، وفي الشراء ملك
مبتدأ حتى ليس له الرد بالعيب على بائع بائعه ، ولا يصلح الحاضر خصما عن الغائب
فافترقا . قال : ( وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة ) لأن الواحد لا يكون خصما
ومقاسما من جهتين ولا بد من حضور خصمين .(2/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
فصل
( وإذا طلب أحد الشركاء القسمة وكلٌّ منهم ينتفع بنصيبه قسم بينهم ) لما بينا ( وإن كانوا
يستضرون لا يقسم ) اعلم أن القسمة على ضربين : قسمة يتولاها الشركاء بأنفسهم فتجوز وإن
كان فيها ضرر ، لأن الحق لهم والإنسان مخيّر في استيفاء حقه وإبطاله ما لم يتعلق به حق
الغير ، وقسمة يتولاها الحاكم أو أمينه فتجوز فيما فيه مصلحة لا فيما فيه ضرر عليهم ولا
فيما لا فائدة فيه كالحائط والبئر ، لأن القاضي نصب لإقامة المصالح ودفع المضار ، فلا
يجوز له فعل الضرر والاشتغال بما لا يفيد من قبيل الهزل ، ومنصبه منزه عن ذلك ، ولأن ما
لا فائدة فيه ليس في حكم الملك ، فليس على القاضي أن يجيبه له ، فإن طلبا القسمة من
القاضي في رواية لا يقسم لما بينا ، وفي رواية يقسم لاحتمال أن يكون لهما منفعة لا تظهر
لنا فإنما يحكم بالظاهر ( وإن كان أحدهما ينتفع بنصيبه والآخر يستضر قسم بطلب المنتفع )
لأنه ينفعه فاعتبر بطلبه ، وإن طلب الآخر ذكر الكرخي أنه لا يقسم لأنه متعنت لا متظلم .
وذكر الحاكم في مختصره أنه يقسم أيهما طلب وهو الأصح ، لأن الامتناع إنما كان للضرر
ولا اعتبار للضرر مع الرضى كما إذا اقتسما بأنفسهما .
قال : ( ولا يقسم الجوهر والرقيق والحمام والحائط والبئر بين دارين والرحى إلا
بتراضيهم ) وكذا كل ما في قسمته ضرر كالبيت الصغير والباب والخشبة والقميص ، وقد تقدم
ما فيه من التفصيل والروايات والتعديل ، ولأنه لا بد في القسمة من التعديل ولا يمكن في
البعض كالجوهر والرقيق لتفاوتهما ، وقالا : يقسم الرقيق لأن جنس واحد كغيره من الحيوان
وكرقيق المغنم . ولأبي حنيفة أنهم بمنزلة أجناس مختلفة لتفاوتهم في المعاني الباطنة المطلوبة
من الذكاء والعقل والهداية إلى تعليم الحرف تفاوتا فاحشا ، وغيرهم من الحيوان يقل التفاوت
بينهما عند اتحاد الجنس ، ألا ترى أن الذكر والأنثى جنس واحد في سائر الحيوانات ، وهما
جنسان في بني آدم ؟ ولأن المقصود من غيرهم من الحيوانات وما بينهما من التفاوت يعرف
بالظاهر والجسّ والركوب والاختبار في يوم واحد بل في ساعة واحدة ، ولا كذلك بنو آدم ؛
وأما رقيق المغنم فإن حق الغانمين في المالية ، ولهذا جاز للإمام بيعها وقسمة ثمنها ، وهنا
الحق تعلق بالعين والمال فافترقا .
قال : ( ويقسم كل واحد من الدور والأراضي والحوانيت وحده ) لأنها أجناس مختلفة
نظرا إلى اختلاف المقاصد ، وإن كانت دور مشتركة في مصر واحد أو أرض متفرقة قسم كل(2/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
دار وأرض على حدتها عند أبي حنيفة وقالا : يقسم بعضها في بعض إن كان أصلح لأنها
جنس واحد صورة ومعنى نظرا إلى المقصود وهو أصل السكنى والزرع ، وهي أجناس معنى
نظرا إلى وجوه السكنى واختلاف الزرع ، فكان مفوضا إلى نظر القاضي يعمل ما يترجح
عنده . وله أنه لا يمكن التعديل فيها لكونها مختلفة باختلاف البلدان والجوار والقرب من
المسجد والماء والشرب وصلاحيتها للزراعة اختلافا بينا ، ولو كانت داران في مصر قسم كل
واحدة وحدها بالإجماع . وعن محمد لو كانت إحداهما بالرقة والأخرى بالبصرة قسمت
إحداهما في الأخرى .
قال : ( وتقسم البيوت قسمة واحدة ) أما إذا كانت في دار واحدة فلأن قسمة كل بيت
بانفراده ضرر ، وإن كانت في محلة أو محالّ فالتفاوت بينهما يسير لأنه لا تفاوت في
السكنى ؛ والمنازل إن كانت في دار واحدة متلازقة كالبيوت وإن كانت متفرقة تقسم كالدور
سواء كانت في دار أو محال لأنها تتفاوت في السكنى ، لكن دون الدور فكان لها شبه بكل
واحد منهما ، فإذا كانت ملتزقة ألحقناها بالبيوت ، وإن كانت متباينة بالدور ؛ وإذا قسم الدار
تقسم العرصة بالذراع والبناء بالقيمة ؛ ويجوز أن يفضل بعضها على بعض تحقيقا للمعادلة في
الصورة والمعنى أو في المعنى عند تعذر الصورة ؛ ولو اختلفا فقال بعضهم : نجعل قيمة البناء
بذراع من الأرض وقال الآخر بالدراهم ، فالأول أولى أنه إنما يقسم الميراث والدراهم
ليست من الميراث ، إلا إذا تعذر بأن تكون قيمة البناء أضعاف قيمة الأرض ، أو يقع
لأحدهما جميع البناء فيجعل القسمة في البناء على الدراهم لأنه ثبتت له القسمة فيتعدى إلى
ما لا يتأتى إلا به كالأخ ولايته على النكاح دون المال ، وله تسمية الصداق لما قلنا ، وهذا
مروي عن محمد .
وعن أبي يوسف يقسم الكل باعتبار القيمة لتعذر التعديل إلا بالقيمة . وعن أبي حنيفة
أنه تقسم الأرض بالمساحة على الأصل في الممسوحات ، فمن كان نصيبه أجود أو وقع له
البناء يرد على الآخر دراهم حتى يساويه فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة كولاية الأخ ،
وقول محمد أحسن وأوفق للأصول ؛ ولو اختلفوا في الطريق فقال بعضهم نرفع طريقا بيننا
وامتنع الآخر ، فإن كان يستقيم لكل واحد طريق في نصيبه قسم بينهم بغير طريق ، وإن كان
لا يستقيم رفع بينهم طريق ولا يلتفت إلى الممتنع لأنه تكميل المنفعة وتوفيرها ، ويجعل
الطريق على عرض باب الدار ، لأن الحاجة تندفع به ، وهو على ما كان عليه من الشركة ،
وطريق الأرض قدر ما تمر فيه البقر للحراثة ، لأنه لا بد من الزرع ، ولو وقعت شجرة في
نصيب أحدهما أغصانها متدلية في نصيب الآخر ، روى ابن رستم عن محمد له أن يجبره
على قطعها ، وروى ابن سماعة لا يجبره لأنه استحق الشجرة بأغصانها وعليه الفتوى . ولأحد
الشريكين أن يجعل في نصيبه بئرا وبالوعة وتنورا وحماما وإن كان يضر بحائط جاره ، وله أن(2/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
يسد كوة الآخر لأنه يتصرف في خالص ملكه فلا يكون متعديا ، وضرر الجار حصل ضمنا
فلا يضمن ، وكذلك لصاحب الحائط أن يفتح فيه بابا وإن تأذى جاره لما ذكرنا ، والكف عما
يؤذي الجار أحسن .
قال : ( ويقسم سهمين من العلو بسهم من السفل ) وعند أبي يوسف سهم بسهم . وعند
محمد بالقيمة ، وعليه الفتوى لأنهما أجناس بالنظر إلى اختلاف المنافع ، فإن السفل يصلح
إصطبلا ولحفر البئر والسرداب ، ولا كذلك العلو ؛ وكذلك تختلف قيمتاهما باختلاف البلدان
فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة . ولهما أن الأصل في المزروع أن يقسم بالزرع ، والمقصود
الأصل السكنى ، إلا أن أبا يوسف قال : ذراع بذراع نظرا إلى ما هو المقصود وهو السكنى ،
وهما يستويان فيها ، ولكل واحد منهما أن يفعل في نصيبه ما لا يضر بالآخر ، والمنفعتان
متماثلتان ، فكما أن لصاحب السفل حفر البئر والسرداب ، لصاحب العلو أن يبني فوق علوه
ما لم يضر بالسفل على أصل . ولأبي حنيفة أن منفعة السفل ضعف منفعة العلو لأنها تبقى
بعد فوات العلو ، وفي السفل منفعة البناء والسكنى ، وفي العلو السكنى لا غير ، وليس له
التعلي إلا بأمر صاحبه على أصله ، فيعتبر ذراعين بذراع نظرا إلى اختلاف المنفعة ، ثم قيل :
أبو حنيفة بنى على أصله أنه ليس لصاحب العلو أن يبني على علوه إلا برضى صاحبه ،
وعندهما يجوز . وقيل أجاب على عادة أهل الكوفة في اختيارهم السفل على العلو . قال :
( ولا تدخل الدراهم في القسمة إلا بتراضيهم ) لأن القسمة في المشترك ولا شركة في
الدراهم ، فإذا رضيا جاز لما بينا .
فصل
( ينبغي للقاسم أن يقرع بينهم ، فمن خرج اسمه على سهم أخذه ) وذلك بعدما يصور ما
يقسمه ويعدله على سهام القسمة ، ويذرع الساحة ويقوّم البناء لحاجته إلى معرفة ذلك ، ويفرز
كل نصيب بحقوقه عن بقية الأنصباء ليتحقق معنى القسمة ، ويلقب الأنصباء بالأول والثاني
والثالث ، ثم يخرج القرعة كما تقدم ، ويقسم على أقل الأنصباء ، فإن كان سدسا جعلها
أسداسا ، أو ثمنا فأثمانا ، لأنه إذا خرج أقل الأنصباء خرج الأكثر ، ولا كذلك بالعكس ، ولو
عيّن لكل واحد نصيبا جاز من غير قرعة لأنه في معنى القضاء فيصح إلزامه أما القرعة
لتطييب النفوس ونفي التهمة والميل .(2/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
قال : ( وليس لأحدهم الرجوع إذا قسم القاضي أو نائبه ) لأنها صدرت عن ولاية تامة
فلزمت كالقضاء ، وكذلك ليس له ذلك إذا خرج بعض السهام ، فكما لا يلتفت إلى آبائه قبل
القسمة لا يلتفت إلى رجوعه بعدها ، وكذلك إذا حصل التراضي وبينت الحدود ، لأن
المؤمنين عند شروطهم . وقيل يصح رجوعه إذا خرج بعض السهام إلا إذا بقي سهم واحد
لتعينه للباقي . قال : ( فإن كان في نصيب أحدهم مسيل أو طريق لغيره لم يشرط ، فإن أمكن
صرفه عنه صرفه ) تحقيقا لمعنى القسمة وهو قطع الاشتراك ( وإلا فسخت القسمة ) لاختلالها ،
وتستأنف لأن المقصود تكميل المنفعة ، ولا يتأتى ذلك إلا بالطريق والمسيل .
قال : ( وإذا شهدوا عليهم ثم ادعى أحدهم أن من نصيبه شيئا في يد صاحبه لم
تقبل إلا ببينة ) لأنه مدع ، فإن لم يكن له بينة استحلف شركاؤه ، فمن نكل جمع نصيبه
ونصيب المدعي فيقسم بينهما على قدر نصيبهما ، لأن النكول حجة ما عرف ، وقيل لا
تقبل دعواه للتناقض . قال : ( وتقبل شهادة القاسمين على ذلك ) وقال محمد : لا تقبل
لأنها شهادة على فعلهما . ولهما أنهما شهدا بالاستيفاء وهو فعل الغير وبه تلزم القسمة
فتقبل ، أما فعلهما الإفراز وهو غير ملزم ولا حاجة إلى الشهادة عليه . وعن محمد مثل
قولهما . ومنهم من قال : إن كانت القسمة بأجر لا تقبل لأنها دعوى إيفاء عمل استؤجرا
عليه . وجوابه أن أجرتهما وجبت باتفاق الخصوم على إيفاء العمل وهو التمييز فلم تجر
لهما مغنما فلا تهمة ( وإن قال قبضته ثم أخذه مني فبينته أو يمين خصمه ) كسائر الدعوى
( وإن قال ذلك قبل الإشهاد تحالفا وفسخت القسمة ) وكذلك إذا قال : لم يسلم إليّ بعض
نصيبي وهو نظير الاختلاف في قدر المبيع ، وسنبين التحالف وأحكامه في كتاب الدعوى
إن شاء الله تعالى .
قال : ( وإن استحق بعض نصيب أحدهم رجع في نصيب صاحبه بقسطه ) كما في البيع ،
هذا عند أبي حنيفة ؛ وقال أبو يوسف : تفسخ القسمة ، وهو قول محمد في رواية أبي
سليمان . وروى أبو حفص أنه مع أبي حنيفة . وقيل الخلاف في بعض شائع في نصيب
أحدهما ، أما المعين لا يفسخ بالإجماع ؛ ولو استحق نصيب شائع في الكل انفسخت
بالإجماع ؛ لأبي يوسف أن بالاستحقاق ظهر شريك ثالث ولا قسمة بدون رضاه ؛ والفقه فيه(2/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
أن باستحقاق الجزء الشائع يبطل معنى القسمة ، وهو التمييز والإفراز لأنه يرجع بجزء شائع
في نصيب الآخر بخلاف المعين ، وصار كاستحقاق الشائع في الكل ؛ ولأبي حنيفة أن القسمة
على هذا الوجه تجوز ابتداء بأن يكون نصف الدار المقدم بينهما وبين ثالث ، والمؤخر بينهما
على الخصوص ، فاقتسما على أن لأحدهما نصيبهما من المقدم وربع المؤخر ، وللآخر ثلاثة
أرباع المؤخر فإنه يجوز ، وإذا جاز ذلك ابتداء جاز انتهاء ، فمعنى القسمة موجود وصار
كالجزء المعين ، بخلاف الشائع في الكل ، لأن القسمة لو بقيت يتفرق نصيب المستحق في
الكل فيتضرر ولا ضرر هنا فافترقا .
فصل
( المهايأة جائزة استحسانا ) والقياس يأبى جوازها لأنها مبادلة المنفعة بجنسها نسيئة لتأخر
حق أحدهما ، إلا أنا استحسنا الجواز لقوله تعالى : ) لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (
[ الشعراء : 155 ] ولأن المنافع تستحق بعوض وغير عوض كالأعيان ، والقسمة تجوز في
الأعيان فتجوز في المنافع وهي مبادلة معنى إفراز صورة حتى تجري في الأعيان المتفاوتة
كالدور والعبيد دون المثليات ، ويجبر الممتنع إذا لم يكن الطالب متعنتا وليست كالإجارة لأن
المنفعة تستحق هنا بالملك ، ومعنى المعاوضة تبع ، ولهذا لا تشترط فيها المدة ، وفي الإجارة
بالعقد ، ولهذا يشترط ذكر المدة ، لأنه لا يعلم قدر ما يستحقه من المنفعة إلا بذكرها ،
وليست كالعارية لما بينا .
قال : ( ولا تبطل بموتهما ولا بموت أحدهما ) لأنا نحتاج إلى إعادتهما بطلب الوارثين
أو أحدهما ، بخلاف الإجارة والعارية . قال : ( ولو طلب أحدهما القسمة بطلت ) المهايأة ،
معناه فيما يحتمل القسمة ، لأن القسمة أقوى في استعمال المنفعة ؛ ولو طلب أحدهما القسمة
والآخر المهايأة قسم لما بينا وبل أولى . قال : ( وتجوز في دار واحدة بأن يسكن كل منهما
طائفة ، أو أحدهما علوها والآخر سفلها ) لأن القسمة على هذا الوجه جائزة ، فكذا المهايأة
لأن المنفعة غير مختلفة ، وبيان المكان يقطع المنازعة ، وهذه إفراز للنصيب وليست مبادلة
( ولكل واحد منهما إجارة ما أصابه وأخذ غلته ) لأنها قسمة المنافع وقد ملكها فله استغلالها
وشرط بعضهم في جواز الاستغلال أن يشرطه في العقد كالعارية وليس بشيء ، وجوابه ما
مر ، ولو تهايئا في دارين على أن يسكن كل واحد دارا جاز جبرا واختيارا ، وهذا عندهما(2/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
ظاهر اعتبارا بقسمة الأصل ، أما عنده قيل لا يجبر كما في القسمة ، وقيل لا يجوز أصلا لأنه
بيع السكنى بالسكنى ، بخلاف القسمة لأنه بيع بعض أحدهما ببعض الأخرى وأنه جائز ؛
وقيل يجوز مطلقا لقلة التفاوت في المنافع ويكون إفرازا .
قال : ( وتجوز في عبد واحد يخدم هذا يوما وهذا يوما ، وكذا في البيت الصغير ) لأن
المهايأة تكون في الزمان والمكان استيفاء للمنفعة بقدر الإمكان ، وقد تعذر المكان فيتعين
الزمان . قال : ( وفي عبدين يخدم كل واحد واحدا ) ولا إشكال على أصلهما ، لأن عندهما
تجوز قسمة الرقيق جبرا واختيارا فكذا منفعتهم . وأما عند أبي حنيفة فالقياس على عدم
جواز القسمة يمنع الجواز ، لكن الصحيح الجواز لقلة التفاوت في الخدمة ، ولا كذلك في
الأعيان لما مر . قال : ( فإن شرطا طعام العبد على من يخدمه جاز ، وفي الكسوة لا يجوز )
لأن العادة جرت بالمسامحة في الطعام دون الكسوة ، ولقلة التفاوت في الطعام وكثرتها في
الكسوة ، فإن وقّتا شيئا من الكسوة معروفا جاز استحسانا ، لأن عند ذكر الوصف ينعدم
التفاوت أو يقل .
قال : ( ولا تجوز في غلة عبد ولا عبدين ) وقالا : تجوز في العبدين ، لأن الغلة بدل
المنفعة فتجوز كالمنفعة ، ولأن التفاوت في استغلال العبدين إذا استويا في الحرفة والمنفعة
قليل ، وقيل هذا بناء على اختلافهم في القسمة ، ولهذا لا تجوز في الواحد إجماعا . وله أن
الأجرة تجب بالعمل حتى لو سلمه ولم يعمل لا أجر له فكان فيه خطر ، ولأنه ربما لا يجد
من يستأجره فلا تقع المعادلة ، والتفاوت بينهما فاحش لتفاوتهما في الأمانة والحذاقة والهداية
إلى العمل فتكون أجرته أكثر من الآخر فلا توجد المعادلة ، وعلى هذا الخلاف غلة الدابتين ،
ولا تجوز في العبد الواحد ولا في الدابة الواحدة ، وتجوز في الدار الواحدة ، والفرق أن أحد
النصيبين مقدم على الآخر في الاستيفاء والاعتدال ثابت وقت المهايأة ، والظاهر بقاؤه في
العقار دون الحيوان ، لتوالي أسباب التغيير عليه دون العقار فتفوت المعادلة فيه .
( ولا ) تجوز ( في ركوب دابة ولا دابتين ) لأن الركوب يختلف باختلاف الراكب لأن
منهم الحاذق والجاهل فلا تحصل المعادلة بخلاف العبد فإنه يخدم باختياره فلا يتحمل فوق
طاقته ، وهذه العلة في استغلال الدواب أيضا . قال : ( ولا ) تجوز ( في ثمرة الشجر ، ولا في
لبن الغنم وأولادها ) لأن المهايأة قسمة المنافع ، وفي هذا تستحق الأعيان ، وما يحصل من(2/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
ذلك يتفاوت . ولا تجوز قسمة الأعيان إلا بالتعديل ، ولأن قسمة المنافع قبل وجودها
ضرورية لأنه لا يمكن قسمتها بعد الوجود ولا ضرورة في الأعيان . قال : ( وتجوز في عبد
ودار على السكنى والخدمة ) لأن المقصود منهما يجوز عند اتحاد الجنس ، فعند الاختلاف
أولى . قال : ( وكذلك كل مختلفي المنفعة ) كسكنى الدار وزرع الأرض ، وكذا الحمام
والدار ، لأن كل واحد من المنفعتين يجوز استحقاقها بالمهايأة ، والله أعلم .(2/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
كتاب أدب القاضي
الأدب : هو التخلق بالأخلاق الجميلة والخصال الحميدة في معاشرة الناس ومعاملتهم ،
وأدب القاضي : التزامه لما ندب إليه الشرع من بسط العدل ورفع الظلم ، وترك الميل
والمحافظة على حدود الشرع ، والجري على سنن السنة على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
والقضاء في اللغة له معان : يكون بمعنى الإلزام ، قال الله تعالى : ) وقضى ربك أن لا تعبدوا
إلا إياه ( [ الإسراء : 23 ] وبمعنى الإخبار ، قال الله تعالى : ) وقضينا على بني إسرائيل (
[ الإسراء : 4 ] وبمعنى الفراغ ، قال الله تعالى : ) فإذا قضيت الصلاة ( [ الجمعة : 10 ] وبمعنى
التقدير ، يقال : قضى الحاكم النفقة : أي قدرها ، ويستعمل في إقامة شيء مقام غيره ، يقال :
قضى فلان دينه : أي أقام ما دفعه إليه مقام ما كان في ذمته . وفي الشرع : قول ملزم يصدر
عن ولاية عامة ، وفيه معنى اللغة ، فكأنه ألزمه بالحكم وأخبره به ، وفرغ من الحكم بينهما أو
فرغا من الخصومة ، وقدر ما كان عليه وما له ، وأقام قضاءه مقام صلحهما وتراضيهما ، لأن
كل واحد منهما قاطع للخصومة .
اعلم أن ( القضاء بالحق من أقوى الفرائض وأشرف العبادات ) وما من نبي من
الأنبياء إلا وأمره الله بالقضاء ، وأثبت لآدم اسم الخليفة ، وقال لنبينا عليه الصلاة
والسلام : ) وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( [ المائدة : 49 ] وقال لداود : ) فاحكم بين
الناس بالحق ( [ ص : 26 ] ولأن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإظهار الحق ،
وإنصاف المظلوم من الظالم ، وإيصال الحق إلى مستحقه ، ولأجل هذه الأشياء شرع الله
تعالى الشرائع ، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام .(2/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
والقضاء على خمسة أوجه : واجب ، وهو أن يتعين له ، ولا يوجد من يصلح غيره ،
لأنه إذا لم يفعل أدى إلى تضييع الحكم ، فيكون قبوله أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ،
وإنصاف المظلومين من الظالمين وأنه فرض كفاية . ومستحب ، وهو أن يوجد من يصلح لكن
هو أصلح وأقوم به . ومخيّر فيه ، وهو أن يستوي هو وغيره في الصلاحية والقيام به ، فهو
مخيّر إن شاء قبله ، وإن شاء لا . ومكروه ، وهو أن يكون صالحا للقضاء ، لكن غيره أقوم به
وأصلح وحرام ، وهو أن يعلم من نفسه العجز عنه ، وعدم الإنصاف فيه لما يعلم من باطنه
من إتباع الهوى ما لا يعرفونه فيحرم عليه ، ويكون رزقه وكفايته وكفاية أهله وأعوانه ومن
يموّنهم من بيت المال ، لأنه محبوس لحق العامة ، فلولا الكفاية ربما طمع في أموال الناس ،
ولهذا قالوا : يستحب للإمام أن يقلد القضاء من له ثروة لئلا يطمع في أموال الناس وإن تنزه
فهو أفضل .
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة خرج إلى السوق ليكتسب ، فرده عمر
رضي الله عنه ، ثم أجمعوا على أن جعلوا له كل يوم درهمين ، وكان عنده عباءة قد اشتراها
من رزقه ، فلما حضرته الوفاة قال لعائشة رضي الله عنها أعطيها عمر ليردها إلى بيت المال ،
فدل على أنه إذا استغنى لا يأخذ ، وهو المختار .
قال : ( والأولى أن يكون القاضي مجتهدا ) لأن الحادثة إذا وقعت يجب طلبها من
الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ، فإن لم يوجد في شيء من ذلك استعمل الرأي
والاجتهاد ، ويشهد له حديث معاذ حين بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى اليمن وولاه الحكم بها ،
فقال له : ' كيف تصنع إن عرض لك حكم ' ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : ' فإن لم
تجد ' ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : ' فإن لم تجد ' ؟ قال : أجتهد برأيي ، فقال عليه الصلاة
والسلام : ' الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله ' وإنما لم يذكر
الإجماع لأنه لا إجماع مع وجوده عليه الصلاة والسلام ، لأنه بمنزلة القياس مع النص بعده
عليه الصلاة والسلام .
قال : ( فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله
وفهمه ، عالما بالفقه والسنة ، وكذلك المفتي ) أما أهلية الشهادة ، فلأنها من باب الولاية
والقضاء أقوى وأعم ولاية ، وكل من كان من أهل الشهادة كان من أهل القضاء ، ومن لا
فلا ؛ ولا تجوز ولاية الصبي والمجنون والعبد لأن لا ولاية لهم ، ولا الأعمى لأنه ليس من(2/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
أهل الشهادة ، ولجود الالتباس عليه في الصوت وغيره ؛ والأطروش يتجوز لأنه يفرق بين
المدعي والمدعى عليه ويميز بين الخصوم ، وقيل لا يجوز لأنه لا يسمع الإقرار ، فربما ينكر
إذا استعاده فتضيع حقوق الناس ؛ والفاسق يجوز قضاؤه كما تجوز شهادته ، ولا ينبغي أن
يولى كما لا ينبغي أن يعمل بشهادته ، وفي النوادر عن أصحابنا أنه لا يجوز قضاؤه ، ولو
فسق بعد الولاية استحق العزل ولا ينعزل ، وقيل ينعزل لأن الذي ولاه ما رضي به إلا عدلا ،
ويشترط دينه وأمانته لأنه يتصرف في أموال الناس ودمائهم ولا يوثق على ذلك من لا أمانة
له ، وكذلك العقل لأنه الأصل في الأمور الدينية . وأما الفهم فلتفهم معاني الكتاب والحديث
وما يرد عليه من القضايا والدعاوى وكتب القضاة وغير ذلك ، وأما العلم بالفقه والسنة فلأنه
إذا لم يعلم بذلك لا يقدر على القضاء ولا يعلم كيف يقضي . وعن أبي يوسف : لأن يكون
القاضي ورعا أحب إليّ من أن يكون مجتهدا . وقال : إذا كان عالما بالفرائض يكفي في جواز
القضاء .
وقيل يجوز تقليد الجاهل لأنه يقدر على القضاء بالاستفتاء ، والأولى أن يكون عالما
قال عليه الصلاة والسلام : ' من قلد إنسانا عملا في رعيته من هو أولى منه فقد خان الله
ورسوله وجماعة المسلمين ' وكذلك المفتي ، لأن الناس يرجعون إلى فتواه في حوادثهم
ويقتدون به ويعتمدون على قوله ، فينبغي أن يكون بهذه الأوصاف ؛ والفاسق لا يصلح أن يكون
مفتيا ، لأنه لا يقبل قوله في أخبار الديانات ؛ وقيل يصلح لأنه يتحرز لئلا ينسب إلى الخطأ .
قال : ( ولا يطلب الولاية ) لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة : ' يا
عبد الرحمن لا تسأل الولاية ، فإنك إن سألتها وكلت إليها ، وإن أعطيتها أعنت عليها '
وقال عليه الصلاة والسلام : ' من طلب عملا فقد غلّ ' وعن عمر رضي الله عنه : ما عدل
من طلب القضاء .
قال : ( ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به ) لما فيه من المحذور ، وقيل
يكره الدخول لمن يدخله مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من ولي القضاء فكأنما ذبح
بغير سكين ' قيل معناه إذا طلب ، وقيل إذا لم يكن أهلا . قال : ( ولا بأس به لمن يثق من
نفسه أداء فرضه ) لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه وكفي بهم قدوة ، والنبي عليه الصلاة(2/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
والسلام ولي عليا ولو كان مكروها لما ولاه . وقال عليه الصلاة والسلام : ' إذا حكم
الحاكم فأصاب فله أجران ' واختيار أبي بكر الرازي الامتناع عنه ؛ وقيل الدخول فيه رخصة
والترك عزيمة وهو الصحيح ( ومن تعين له تفترض عليه الولاية ) وقد بيناه ، ولو امتنع لا يجبر
عليه ؛ ولو كان في البلد جماعة يصلحون وامتنعوا والسلطان يفصل بين الخصوم لم يأثموا ،
وإن كان لا يمكنه ذلك أثموا ، وإن امتنعوا حتى قلد جاهلا أثم الكل . قال : ( ويجوز التقليد
من ولاة الجور ) لأن الصحابة تقلدوه من معاوية وكان الحق مع علي رضي الله عنه ،
والتابعون تقلدوه من الحجاج مع جوره ، ولأن فيه إقامة الحق ودفع الظلم حتى لو لم يمكنه
من ذلك لا يجوز له الولاية منه .
قال : ( ويجوز قضاء المرأة فيما تقبل شهادتها فيه ) إلا أنه يكره لما فيه من محادثة
الرجال ومبنى أمرهن على الستر . وروي عن أبي حنيفة أنه قال : لا يترك القاضي على
القضاء إلا حولا ، لأنه إذا اشتغل بالقضاء ينسى العلم فيعزله السلطان بعد الحول ويستبدل به
حتى يشتغل بالدرس قال : ( فإذا قلد القضاء ) ينبغي له أن يتقي الله تعالى ويؤثر طاعته ويعمل
لمعاده ويقصد إلى الحق بجهده فيما تقلده و ( يطلب ديوان القاضي الذي قبله وينظر في
خرائطه وسجلاته ) لأنها وضعت لتكون حجة عند الحاجة ، فتجعل في يد المتولي لأنه يحتاج
إليها ليعمل بها . قال : ( وعمل في الودائع وارتفاع الوقوف بما تقوم به البينة ) لأنها حجة
شرعية ( أو باعتراف من هو في يده ) لأنه أمين ( ولا يعمل بقول المعزول ) لأنه شاهد وشهادة
الفرد لا عمل بها .
قال : ( إلا أن يكون هو الذي سلمها إليه ) لأن يده كيده فيكون أمينا فيه ، وينبغي أن
يبعث رجلين من ثقاته والواحد يكفي ، فيقبضان من المعزول ديوانه ، وهو ما ذكرنا من
الخرائط والسجلات ، فيجمعان كل نوع في خريطة حتى لا يشتبه على القاضي ، ويسألان
المعزول شيئا فشيئا لينكشف ما يشكل عليهما ويختمان عليه ، وهذا السؤال ليس للإلزام بل
لينكشف به الحال ، فإن أبى المعزول أن يدفع إليهما النسخ أجبر على ذلك ، سواء كان
البياض من بيت المال وهو ظاهر لأنه لمصالح المسلمين ، أو من الخصوم لأنهم وضعوها في(2/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
يد العمل بها ، أو من ماله لأنه فعله تدينا لا تمولا ، ويأخذان الودائع وأموال اليتامى ويكتبان
أسماء المحبوسين ويأخذان نسختهم من المعزول لينظر المولى في أحوالهم فمن اعترف بحق
أو قامت عليه بينة ألزمه عملا بالحجة ، وإلا نادى عليه في مجلسه من كان يطالب فلانا
المحبوس بحق فليحضر ، فمن حضر وادعى عليه ابتدأ الحكم بينهم ، وينادى أياما على
حسب ما يرى القاضي وإن لم يحضر لا يخليه حتى يستظهر في أمره ، فيأخذ منه كفيلا بنفسه
لاحتمال أنه محبوس بحق غائب وهو الظاهر ، لأن فعل المعزول لا يكون عبثا .
قال : ( ويجلس للقضاء جلوسا ظاهرا في المسجد ) لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفصل بين
الخصوم في المسجد ، وكان الخلفاء الراشدون بعده ، ودكة علي رضي الله عنه في مسجد
الكوفة إلى الآن معروفة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' إنما بنيت المساجد لذكر الله
وللحكم ' ولئلا يشتبه على الغرباء مكانه ( والجامع أولى ) لأنه أشهر ، وإن كان الخصم
حائضا أو نفساء خرج القاضي إلى باب المسجد فنظر في خصومتها أو أمر من يفصل بينهما ،
كما لو كانت المنازعة في دابة فإنه يخرج لاستماع الدعوى والإشارة إليه في الشهادة ، وإن
جلس في بيت جاز ، ويأذن للناس بالدخول فيه ، ولا يمنع أحدا من الدخول عليه ، ويجلس
معه من كان يجلس معه في المسجد ، ويكون الأعوان بالعبد عنه بحيث لا يسمعون ما يكون
بينه وبين ما تقدم إليه للخصومة ، ويستحب أن يجلس معه قريبا منه قوم من أهل الفقه
والديانة ، ولا بأس بأن يجلس وحده إذا كان عالما بالقضاء .
قال : ( ويتخذ مترجما وكاتبا عدلا مسلما له معرفة بالفقة ) لأنه إذا لم يكن عدلا لا
تؤمن خيانته ، وإذا لم يكن مسلما لا يؤمن أن يكتب ما لا تقتضيه الشريعة ، وإذا لم يكن
فقيها لا يعرف كتبة السجلات وما يحتاج إليه القاضي من الأحكام ، ويجلس ناحية عنه
حيث يراه حتى لا يخدع بالرشوة . قال : ( ويسوى بين الخصمين في الجلوس والإقبال
والنظر والإشارة ) قال الله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء (
[ النساء : 135 ] أي بالعدل والعدل التسوية . وقال عليه الصلاة والسلام : ' إذا ابتلى أحدكم
بالقضاء فليسوّ بين الخصوم في المجلس والإشارة والنظر ' وفي كتاب عمر رضي الله
عنه : آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك ، ومعناه ما ذكرنا ، ثم نبه على العلة(2/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
فقال : حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا يخاف ضعيف جورك ، ولأنه إذا فضل
أحدهما ينكسر قلب الآخر فلا ينشرح للدعوى والجواب ، وينبغي أن يجلسوا بين يدي
القاضي جثوَّا ولا يجلسهما في جانب ، ولا أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، وإذا
تقدم إليه الخصمان إن شاء بدأهما فقال ما لكما ، وإن شاء سكت حتى يتكلما ، فإذا تكلم
أحدهما أسكت الآخر ليفهم دعواه .
قال : ( ولا يسارّ أحدهما ولا يلقنه حجته ) لما بينا ؛ ولما فيه من التهمة ( ولا يضحك
لأحدهما ) لأن ذلك يجرئه على خصمه ( ولا يمازحهما ولا أحدهما ) لأنه يخل بهيبة القضاء
( ولا يضيف أحدهما دون الآخر ) لما بينا ، وقد ورد النهي عنه . قال : ( ولا يقبل هدية
أجنبي لم يهد له قبل القضاء ) قال عليه الصلاة والسلام : ' هدايا الأمراء غلول ' ولأنه إنما
أهدى له للقضاء ظاهرا فكان آكلا بالقضاء فأشبه الرشوة ، بخلاف من جرت عادته بمهاداته
قبل القضاء ، لأن الظاهر أنه جرى على عادته حتى لو زاد على العادة أو كان له خصومة لا
يقبلها ، والقريب على هذا التفصيل . قال : ( ولا يحضر دعوة إلا العامة ) كالعرس والختان لأنه
لا تهمة فيها والإجابة سنة ، ولا يجيب الخاصة لمكان التهمة إلا إذا كانت من قريب أو من جرت عادته بذلك قبل القضاء على التفصيل المتقدم ، والعشرة فما دونها خاصة وما فوقها
عامة ، وقيل الخاصة ما لو علم أن القاضي لا يحضرها لا يعملها . قال : ( ويعود المرضى
ويشهد الجنائز ) لأنها من حقوق المسلم على المسلم على ما نطق به النص ، ولا يطيل
مكثه في ذلك المجلس ، ولا يمكن أحدا من التكلم فيه بشيء من الخصومات .
قال : ( فإن حدث له همّ أو نعاس ، أو غضب أو جوع ، أو عطش ، أو حاجة حيوانية
كف عن القضاء ) قال عليه الصلاة والسلام : ' لا يقضي القاضي وهو غضبان ' وفي رواية(2/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
' وهو شبعان ' ولأنه يحتاج إلى الفكر ، وهذه الأعراض تمنع صحة الفكر فتخل بالقضاء ،
ويكره له صوم التطوع يوم القضاء ، لأنه لا يخلو عن الجوع ، ولا يتعب نفسه بطول الجلوس
لأنه ربما ضجر ومل ويقعد طرفي النهار ؛ وإذا طمع في رضي الخصمين ردهما مرة ومرتين
لقول عمر رضي الله عنه : ' ردوا الخصوم حتى يصطلحوا ، وإن لم يطمع أنفذ القضاء بينهما
لعدم الموجب للتأخير .
قال : ( ولا يبيع ولا يشتري في المجلس لنفسه ) لما فيه من التهمة ، ولا بأس في غير
المجلس . وعن أبي حنيفة رحمه الله يكره أيضا ، وإنما يبيع ويشتري ممن لا يعرفه ولا
يحابيه . قال : ( ولا يستخلف على القضاء إلا أن يفوّض إليه ذلك ) لأنه كالوكيل عن الإمام ،
والوكيل ليس له أن يوكل إلا أن يؤذن له . قال : ( ولا يقضي على غائب ) لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا علي
لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر ' ولأن القضاء لقطع المنازعة ، ولا منازعة
دون الإنكار فلا وجه إلى القضاء . قال : ( إلا أن يحضر من يقوم مقامه ) إما بإنابته كالوكيل ،
أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي ( أو ما يكون ما يدعيه على الغائب سببا لما يدعيه
على الحاضر ) كمن ادعى دارا في يد رجل فأنكر فأقام المدعي البينة أنه اشتراها من فلان
الغائب يقضي بها على الحاضر والغائب ، وكذا لو ادعى شفعة وأنكر ذو اليد الشراء ، فأقام
البينة أن ذا اليد اشتراها من الغائب يقضي على الحاضر والغائب جميعا ، وكذا إذا شهدا على
رجل فقال هما عبدان ، فأقام المشهود له البينة أن مولاهما أعتقهما حكم بعتقهما في حق
الحاضر والغائب جميعا .
فصل
( وإذا رفع إليه قضاء قاض أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو
الإجماع ) وأصله أن القاضي إذا كان ممن يجور قضاؤه فقضى بقضية يسوغ فيها الاجتهد لم
يجز لأحد من القضاة نقضه ، لأن الاجتهاد الثاني مثله والأول ترجيح بالسبق لاتصال القضاء(2/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
به . وروي أن شريحا قضى بقضاء خالف فيه عمر وعليا رضي الله عنهما ، فلم يفسخاه
لوقوعه من قاض جائز الحكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد . وعن عمر رضي الله عنه أنه قضى في
الجد بقضايا مختلفة ، فقيل له ، فقال ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي ، ولم يفسخ
الأول ؛ ولا اجتهاد مع الكتاب ولا مع السنة المشهورة ، إذ لا اجتهاد إلا عند عدمهما ، لما
تقدم من حديث معاذ ، ولا مع إجماع الجمهور لأنه خلاف وليس باختلاف ، والمراد اختلاف
الصدر الأول .
قال : ( ولا يجوز قضاؤه لمن لا تقبل شهادته له ) لأن المعنى الذي ترد الشهادة له في
القضاء أقوى لأنه ألزم . قال : ( ويجوز لمن قلده وعليه ) لأنه نائب عن المسلمين لا عنه ،
ولهذا لا ينعزل بموته . قال : ( وإذا علم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز
له أن يقضي به ) لأن علمه كشهادة الشاهدين وبل أولى ، لأن اليقين حاصل بما علمه
بالمعاينة والسماع ، والحاصل بالشهادة غلبة الظن ، والإجماع على أن قوله على الانفراد
مقبول فيما ليس خصما فيه ، ومتى قال حكمت بكذا نفذ حكمه . وأما ما علمه قبل ولايته
أو في غير محل ولايته لا يقضي به عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، نقل ذلك عن عمر
وشريح رضي الله عنهما . وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : يقضي كما في حال ولايته
ومحلها لما مر . وجوابه أنه في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم ، وشهادة الفرد لا
تقبل ، وصار كما إذا علم ذلك بالبينة العادلة ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها . وأما
الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لأنه خصم فيها ، لأنها حق الله تعالى وهو نائبه إلا في حد
القذف فإنه يعمل بعلمه لما فيه من حق العبد ، وإلا في السكر إذا وجد سكران ، أو من به
أمارات السكر فإنه يعزره .
قال : ( والقضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرا وباطنا في العقود والفسوخ كالنكاح ،
والطلاق ، والبيع ، وكذلك الهبة ، والإرث ) وقالا : لا ينفذ باطنا . وصورته شهد شاهدان
بالزور بنكاح امرأة لرجل فقضى بها القاضي نفذ عنده حتى حل للزوج وطؤها خلافا
لهما ؛ ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته بائنا فقضى القاضي بالفرقة ثم تزوجها
آخر جاز ؛ وعندهما إن جهل الزوج الثاني ذلك حل له وطؤها إتباعا للظاهر ، لأنه لا
يكلف علم الباطن وإن علم بأن كان أحد الشاهدين لا يحل ، ولو وطئها الزوج الأول
كان زانيا ويحد . وقال محمد : يحل له وطؤها ، وقال أبو يوسف : لا يحل له ، لأن قول(2/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
أبي حنيفة أورث شبهة فيحرم الوطء احتياطا ، ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته
بالإجماع ، لأنه لا يمكن تقديم النكاح على القضاء ، وفي الأجنبية أمكن ذلك فيقدم
تصحيحا له قطعا للمنازعة ، وينفذ ببيع الأمة عنده حتى يحل للمشتري وطؤها ، وينفذ في
الهبة والإرث حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث ، وروي عنه أنه لا ينفذ فيهما .
لهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' إنكم لتختصمون إليّ ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من
بعض ، وإنما أنا بشر أقضي بما أسمع ، فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حقه
فإنما أقطع له قطعة من النار ' وأنه عام فيعم جميع الحقوق والعقود والفسوخ وغير
ذلك ، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن كهو عند الله تعالى ، وأما الظاهر فالحكم لازم
على ما أنفذه القاضي .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر ' وله ما روي أن رجلا خطب
امرأة وهو دونها في الحسب فأبت أن تتزوجه ، فادعى أنه تزوجها ، وأقام شاهدين عند علي
رضي الله عنه ، فحكم عليها بالنكاح ، فقالت : إني لم أتزوجه وإنهم شهود زور فزوجني
منه ، فقال علي رضي الله عنه : شاهداك زوجاك وأمضى عليها النكاح ، ولأنه قضى بأمر
الله تعالى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيجعل إنشاء تحرزا عن الحرام ، وحديثهما في
المال صريح ونحن نقول به ، فإن قضاء القاضي في الأملاك المرسلة لا ينفذ بشهادة الزور
بهذا الحديث ، ولقوله تعالى : ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( [ البقرة : 188 ] وروي
أنها نزلت فيه ، ولأن القاضي لا يملك إثبات الملك بدون السبب ، فإنه لا يملك دفع مال
زيد إلى عمرو . أما العقود والفسوخ فإنه يملك إنشاءهما فإنه يملك بيع أمة زيد وغيرها من
عمرو حال غيبته وخوف الهلاك فإنه يبيعه للحفظ ، وكذلك لو مات ولا وصي له ، ويملك
إنشاء النكاح على الصغير والصغيرة والفرقة في العنين وغير ذلك ، فثبت أن له ولاية
الإنشاء في العقود والفسوخ ، فيجعل القضاء إنشاء احترازا عن الحرام ، ولا يملك ذلك في
الأملاك المرسلة بغير أسباب فتعذر جعله إنشاء فبطل ، ثم نقول : لو لم ينفذ باطنا ، فلو
قضى القاضي بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا والثاني ظاهرا ؛ ولو ابتلى الثاني
بمثل ما ابتلى به الأول حلت للثالث أيضا ، وهكذا رابع وخامس ، فتحل للكل في زمان
واحد ، وفيه من الفحش ما لا يخفى ؛ ولو قلنا بنفاذه باطنا لا تحل إلا لواحد ولا فحش
فيه .(2/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
فصل
الأصل في وجوب الحبس قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته '
والعقوبة : الحبس ، وروي ذلك عن السلف ، ولأن القاضي نصب لإيصال الحقوق إلى
أربابها ، فإذا امتنع المطلوب عن الأداء فعلى القاضي جبره عليه ، ولا يجبره بالضرب إجماعا
فتعين الحبس . قال : ( وإذا ثبت الحق للمدعي وسأله حبس غريمه لم يحبسه ) لأنه لم يظهر
ظلمه ، حتى لو كان ظهر ظلمه وجحوده عند غيره حبسه . قال : ( وأمره بدفع ما عليه ، فإن
امتنع حبسه ) لأنه ظهر ظلمه ، وهذا إذا ثبت حقه بالإقرار ، أما إذا ثبت بالبينة حبسه أول مرة ،
لأن البينة لا تكون إلا بعد الجحد فيكون ظالما ، ولا يسأله القاضي : ألك مال ؟ ولا من
المدعي إلا أن يطلب المدعى عليه من القاضي أن يسأل المدعي فيسأله ( فإن أقر أنه معسر
خلى سبيله ) لأنه استحق الإنظار بالنص ولا يمنعه من الملازمة .
( وإن قال المدعي هو موسر ، وهو يقول أنا معسر ، فإن كان القاضي يعرف يساره ، أو
كان الدين بدل مال كالثمن والقرض ، أو التزمه كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه حبسه )
لأن الظاهر بقاء ما حصل في يده والتزامه يدل على القدرة ( ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا
ادعى الفقر ) لأنه الأصل ، وذلك مثل ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب
والزوجات وإعتاق العبد المشترك ( إلا أن تقوم البينة أن له مالا فيحبسه ) لأنه ظالم ( فإذا حبسه
مدة يغلب على ظنه أنه لو كان له مال أظهره وسأل عن حاله ، فلم يظهر له مال خلى سبيله )
لأن الظاهر إعساره فيستحق الإنظار ، وكذلك الحكم لو شهد شاهدان بإعساره ، وتقبل بينة
الإعسار بعد الحبس بالإجماع وقبله لا . والفرق أنه وجد بعد الحبس قرينة ، وهو تحمل شدة
الحبس ومضايقه وذلك دليل إعساره ، ولم يوجد ذلك قبل الحبس ، وقيل تقبل في الحالتين
( وإن قامت البينة على يساره أبّد حبسه ) لظلمه .
واختلفوا في مدة الحبس ، قيل شهرين أو ثلاثة ، وبعضهم قدره بشهر ، وبعضهم بأربعة
وبعضهم بستة . والصحيح ما ذكرت لك أولا ، لأن الناس يختلفون في احتمال الحبس(2/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
ويتفاوتون تفاوتا كثيرا فيفوض إلى رأي القاضي . قال : ( ويحبس الرجل في نفقة زوجته ) لأنه
حق مستحق عليه وقد منعه فيحبس لظلمه ( ولا يحبس والد في دين ولده ) وكذا الأجداد
والجدات لأنه ليس مصاحبة بالمعروف وقد أمر بها ( إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه ) لأن في
ترك الأنفاق عليه هلاكه ، كما لو صال الأب على الولد فللولد دفعه بالقتل ؛ وإذا مرض
المحبوس ، فإن كان له من يخدمه في الحبس لم يخرجه ، وإلا أخرجه لئلا يهلك ؛ وإذا امتنع
الخصم من الحضور وعزره القاضي بما يرى من ضرب أو صفع أو حبس أو تعبيس وجه
على ما يراه .
فصل
( يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق لا يسقط بالشبهة ) للحاجة إلى ذلك ،
وهو العجز عن الجمع بين الخصوم والشهود ، بخلاف ما يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص
لشبهة البدلية ؛ والأصل في الجواز أن الكتاب يقوم مقام عبارة المكتوب عنه وخطابه ، بدلالة
أن كتاب الله تعالى إلى رسوله قام مقام خطابه له في الأمر والنهي وغيرهما ؛ وكذلك كتب
رسوله عليه الصلاة والسلام إلى ملك الفرس والروم وإلى نوابه في البلاد قامت مقام
خطابه لهم ، حتى وجب عليهم ما أمرهم به في كتبه كما وجب بخطابه ؛ وإذا ثبت هذا
فنقول : كتاب القاضي إلى القاضي كخطابه له ، ولو خاطبه بذلك وأعلمه صح ، فكذلك
كتابه ، وهو أن يشهد الشهود عند القاضي أن لهذا على فلان الغائب كذا ، فيكتب القاضي إلى
القاضي الذي الخصم في بلده ، وهو نقل الشهادة ، ولهذا يحكم المكتوب إليه برأيه ، ولو
كانت الشهادة على حاضر حكم عليه وكتب بحكمه ، وهو السجل .
( و ) يكتب ( في النكاح والدين والغصب والأمانة المجحودة والمضاربة ) لأن ذلك دين
يعرف بالوصف ( وفي النسب ) لأنه يعرف بذكر الأب والجد والقبيلة وغير ذلك ( وفي العقار )(2/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
لأنه يعرف بالحدود ( ولا يقبل في المنقولات ) لأنه يحتاج فيها إلى الشهادة للإشارة ( وعن
محمد أنه يقبل في جميع المنقولات ، وعليه الفتوى ) للحاجة إليه ، ويمكن تعريفه بأوصافه
ومقداره وغير ذلك . وعن أبي يوسف أنه يقبل في العبد دون الأمة لكثرة إباقه دونها . وعنه
أنه يقبل فيهما ؛ وصورته : أن يكتب أنهم شهدوا عنده أن عبدا لفلان ويذكر اسمه وحليته
وجنسه آبق منه وقد أخذه فلان .
قال : ( ولا يقبل إلا ببينة أنه كتاب فلان القاضي ) لأنه للإلزام ، ولا إلزام بدون البينة ،
ولأن الخط يشبه الخط ، والبينة تعينه ، ويكتب اسم المدعي والمدعى عليه وينسبهما إلى
الأب والجد والفخذ والقبيلة ، أو إلى الصناعة ، وإن لم يذكر الجد لم يجز إلا عند أبي
يوسف ، وإن كان في الفخذ مثله في النسب لم يجز ، ولا بد من ذكر شيء يخصه ويعينه
حتى يزول الالتباس ( ولا بد أن يكتب إلى معلوم ) بأن يقول من فلان ابن فلان ابن فلان إلى
فلان ابن فلان ابن فلان ( فإن شاء قال بعد ذلك وإل كل من يصل إليه من قضاة المسلمين ،
وإلا فلا ) حتى يصير المكتوب إليه معروفا والباقي يكون تبعا ( ويقرأ الكتاب على الشهود
ويعلمهم بما فيه ) ليعلموا بما يشدون ( ويختمه بحضرتهم ويحفظوا ما فيه ) حتى لو شهدوا أنه
كتاب فلان القاضي ختمه ولم يشهدوا بما فيه لا تقبل ، لأن الختم يشبه الختم ، فمتى كان في
يد المدعي يتوهم التبديل ( وتكون أسماؤهم داخل الكتاب بالأب والجد ) لنفي الالتباس ( وأبو
يوسف لم يشترط شيئا من ذلك لما ابتلي بالقضاء ) تسهيلا على الناس ( واختاره السرخسي ،
وليس الخبر كالعيان ) قال أبو بكر الرازي : ولو كتب من فلان ابن فلان ابن فلان إلى كل
من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم ينبغي لكل من ورد الكتاب عليه من القضاة أن
يقبله ، لأن الخطاب جائز لقوم مجهولين ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى
الآفاق ودعاهم إلى الإسلام ولم يعرفهم ، وكذلك أمرنا ونهانا وكنا مجهولين عنده وصح
خطابه ولزمنا والقضاة اليوم عليه ؛ وينبغي أن يكون داخل الكتاب اسم القاضي الكاتب
والمكتوب إليه ، وعلى العنوان أيضا ، فلو كان على العنوان وحده لم تقبل خلافا لأبي
يوسف ، لأن ما ليس تحت الختم متوهم التبديل .(2/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
قال : ( فإذا وصل إلى القاضي المكتوب إليه نظر في ختمه ، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان
القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه وفتحه وقرأه على الخصم وألزمه ما
فيه ) لثبوت الحق عليه ( ولا يقبله إلا بحضرة الخصم ) لأنه للإلزام كالشهادة لا يسمعها إلا
بحضرة الخصم ، ولا يفتحه إلا بحضرته . وقيل يجوز لأنه ثبت بحضوره فلا حاجة إليه حالة
الفتح .
قال : ( فإن مات الكاتب أو عزل أو خرج عن أهلية القضاء ) بأن جنّ أو أغمي عليه أو
غير ذلك ( قبل وصول كتابه بطل ) لأن الكتاب كالخطاب حالة وصوله وهو بالموت خرج عن
أهلية الخطاب ، وبالعزل وغيره صار كغيره من الرعايا ( وإن مات المكتوب إليه بطل ، إلا أن
يكون قال بعد اسمه : وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين ) لما بينا ( وإن مات الخصم
نفذ على ورثته ) لقيامهم مقامه ( وإن لم يكن الخصم في بلد المكتوب إليه وطلب الطالب أن
يسمع بينته ويكتب له كتابا إلى قاضي البلد الذي فيه خصمه كتب له ) للحاجة إليه ( ويكتب
في كتابه نسخة الكتاب الأول أو معناه ) ليكتب بما ثبت عنده .
فصل
( حكّما رجلا ليحكم بينهما جاز ) لأن لهما ولاية على أنفسهما حتى كان كالقاضي في
حقهما والمصالح في حق غيرهما ، لأن غيرهما لم يرض بحكمه ، وليس له عليه ولاية
بخلاف القاضي . وصورته : إذا رد المشتري المبيع على البائع بعيب بالتحكيم لا يملك الرد
على بائعه لما ذكرنا ، وكذلك إذا حكما في قتل خطأ فحكمه بالدية على العاقلة لا يلزمهم
لعدم ولايته عليهم ( ولا يجوز التحكيم فيما يسقط بالشبهة ) كالحدود والقصاص لأنه لا ولاية
لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما . وقيل يجوز في القصاص لأنهما يملكانه فيملكان(2/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
تفويضه إلى غيرهما ، والحدود حق الله تعالى فلا يجوز ، ويجوز في تضمين السرقة دون
القطع ( ويشترط أن يكون من أهل القضاء ) لأنه يلزمهما حكمه كالقاضي وتعتبر أهليته وقت
الحكم والتحكيم جميعا ( وله أن يسمع البينة ويقضي بالنكول والإقرار ) لأنه حكم شرعي ( فإذا
حكم لزمهما ) لولايته عليهما ( ولكل واحد منهما الرجوع قبل الحكم ) لأنه إنما ولي الحكم
عليهما برضاهما ، فإذا زال الرضا زالت الولاية كالقاضي مع الإمام ( وإن رفع حكمه إلى قاض
أمضاه وإن وافق مذهبه ) لعدم الفائدة في نقضه ( وأبطله إن خالفه ) لأنه لا ولاية له عليه ، فلا
يلزمه إنفاذ حكمه ، بخلاف القاضي لأن ولايته عامة ( ولا يجوز حكمه لمن لا تقبل شهادته
له ) للتهمة ، والله أعلم .(2/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
كتاب الحجر
وهو في اللغة : مطلق المنع ، ومنه حجر الكعبة لأنه منع من الدخول فيها ، وسمي
الحرام حجرا لأنه ممنوع من التصرف فيه . وفي الشرع : المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف
مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ( وأسبابه : الصغر والجنون والرق ) لأن الصغير
والمجنون لا يهتديان إلى المصالح ولا يعرفانها فناسب الحجر عليهما ، والعبد تصرفه نافذ
على مولاه فلا ينفذ إلا بإذنه . قال : ( ولا يجوز تصرف المجنون والصبي الذي لا يعقل أصلا )
لعدم الأهلية ( وتصرف الذي يعقل إن أجازه وليه أو كان أذن له يجوز ) لأن الظاهر أن الولي
ما أجاز ذلك إلا لمصلحة راجحة نظرا له وإلا لما أجاز ( والعبد ) مع مولاه ( كالصبي الذي
يعقل ) مع وليه ، لأن الحق للمولى فإذا أجازه جاز
قال : ( والصبي والمجنون لا يصح عقودهما وإقرارهما وطلاقهما وعتاقهما ) قال عليه
الصلاة والسلام : ' كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه ' والعتق تمحض ضررا ، ولأنه
تبرع وليسا من أهله ، وكذلك الإقرار لما فيه من الضرر ، وكذلك سائر العقود لرجحان جانب
الضرر نظرا إلى سفههما وقلة مبالاتهما وعدم قصدهما المصالح . قال : ( وإن أتلفا(2/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
شيئا لزمهما ) إحياء لحق المتلف عليه ، والضمان يجب بغير قصد كجناية النائم والحائط
المائل ، ولأن الإتلاف موجود حسا وهو سبب الضمان ، فلا يرد إلا في الحدود والقصاص ،
فيجعل عدم القصد شبهة ، وينقلب القتل في العمد إلى الدية على ما يعرف في بابه إن شاء
الله تعالى .
قال : ( وأقوال العبد نافذة في حق نفسه ) لأهليته ( فإن أقر بمال لزمه بعد عتقه ) لعجزه
في الحال وصار كالمعسر ( وإن أقر بحد أو قصاص أو طلاق لزمه في الحال ) لأنه في حق
الدم مبقي على أصل الحرية ، ولهذا لا ينفذ إقرار المولى عليه بذلك ولا يستباح بإباحته ؛
وأما الطلاق فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يملك العبد إلا الطلاق ' ولأنه أهل ولا ضرر
فيه على المولى فيقع .
قال : ( وبلوغ الغلام بالاحتلام أو الإحبال ، أو الإنزال ، أو بلوغ ثماني عشرة سنة .
والجارية بالاحتلام ، أو الحيض ، أو الحبل ، أو بلوغ سبعة عشرة سنة ) لأن حقيقة البلوغ
بالاحتلام والإنزال . قال عليه الصلاة والسلام : ' خذ من كل حالم وحالمة دينار ' أي
بالغ وبالغة ، والحبل والإحبال لا يكون إلا به ، والحيض علامة البلوغ أيضا ، قال عليه
الصلاة والسلام : ' لا صلاة لحائض إلا بخمار ' أي بالغ ؛ وأما البلوغ بالسن فالمذكور
مذهب أبي حنيفة ، وقالا : بلوغهما بتمام خمس عشرة سنة لأنه المعتاد الغالب . وعن ابن
عمر رضي الله عنه قال : ' عرضت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ،
وعرضت عليه في السنة الثانية فأجازني ' وله قوله تعالى : ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا
بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ( [ الأنعام : 152 ] . قال ابن عباس رضي الله عنه : ثماني
عشرة سنة ، وهي أقل ما قيل فيه ، فأخذنا به احتياطا ، هذا أشد الصبي ، فأما أشد الرجل
فأربعون ، قال الله تعالى : ) حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ( [ الأحقاف : 15 ] والأنثى
أسرع بلوغا فنقصناها سنة .(2/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
فأما الحديث فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يجيز غير بالغ ، فإنه روي ' أن رجلا
عرض على النبي عليه الصلاة والسلام ابنه فرده ، فقال : يا رسول الله أترد ابني وتجيز رافعا
وابني يصرع رافعا ؟ فأمرهما فاصطرعا فصرعه فأجازه ' . وأدنى مدة يصدق الغلام فيها على
البلوغ اثنا عشرة سنة ، والجارية تسع سنين ، وقيل غير ذلك ، وهذا هو المختار ( وإذا راهقا
وقالا بلغنا صدقا ) لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتهما ، فيصدقان فيه إذا احتمل الصدق .
قال : ( ولا يحجر على الحر العاقل البالغ ، وإن كان سفيها ينفق ماله فيما لا مصلحة له
فيه ) وقالا : نحجر عليه ويمنع من التصرف في ماله نظرا له ، لأنا حجرنا على الصبي
لاحتمال التبذير ، فلأن نحجر على السفيه مع تيقنه كان أولى ، ولهذا يمنع عنه ماله ولا فائدة
فيه بدون الحجر ، لأنه يمكنه التبذير بما يعقده من البياعات الظاهرة الخسران ، وقد روي ' أنه
عليه الصلاة والسلام باع على معاذ ماله وقضى ديونه ' وباع عمر رضي الله عنه مال أسيفع
جهينة لسفهه . ولأبي حنيفة ما روي ' أن حبان بن منقذ كان يغبن في البياعات فطلب أولياؤه
من النبي عليه الصلاة والسلام الحجر عليه ، فقال له : إذا ابتعت فقل لا خلابة ولي الخيار
ثلاثة أيام ولم يحجر عليه ' ولأنه مخاطب فلا يحجر عليه كالرشيد ، ولأنه لا يدفع الضرر
عنه بالحجر فإنه يقدر على إتلاف أمواله بتزويج الأربع وتطليقهن قبل الدخول وبعده في كل
يوم ووقت ، ولا معنى للحجر عليه لدفع الضرر عنه ، ولا يندفع ، ولأن الحجر عليه إهدار
لآدميته وإلحاق له بالبهائم ، وضرره بذلك أعظم من ضرره بالتبذير وإضاعة المال ، وهذا مما
يعزمه ذوو العقول والنفوس الأبية ، ولا يجوز تحمل الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى حتى
لو كان في الحجر عليه دفع الضرر العام جاز كالمفتي الماجن ، الطبيب الجاهل ، والمكاري
المفلس لعموم الضرر من الأول في الأديان ، ومن الثاني في الأبدان ، ومن الثالث في
الأموال .
وأما حديث معاذ قلنا : إنما باع ماله برضاه ، لأن معاذا لم يكن سفيها ، وكيف يظن به
ذلك وقد اختاره ( صلى الله عليه وسلم ) للقضاء وفصل الحكم ، وكذلك بيع عمر رضي الله عنه ، وقيل كان بيع
الدراهم بالدنانير وأنه جائز ، والحجر عليه أبلغ عقوبة من منع المال فلا يقاس عليه ، ومنع
المال عنه مفيد لأن غالب السفه يكون في الهبات والنفقات فيما لا مصلحة فيها ، وذلك إنما
يكون باليد ؛ وإذا حجر عليه القاضي ورفع إلى قاض آخر فأبطله جاز ، لأن القضاء الأول(2/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
مختلف فيه ولا قضاء في مختلف فيه ، فلو أمضاه الثاني ثم رفع إلى ثالث لا ينقصه ، لأن
الثاني قضى في مختلف فيه فلا ينقض ، ثم عند أبي يوسف : إن كان مبذرا استحق الحجر
فينفذ تصرفه ما لم يحجر عليه القاضي ، فإذا صلح لا ينطلق إلا بإطلاقه . وقال محمد :
تبذيره يحجره وإصلاحه يطلقه نظرا إلى الموجب وزواله . ولأبي يوسف : أنه فصل مجتهد
فيه فلا بد من القضاء ليترجح به .
( ثم ) عند أبي حنيفة ( إذا بلغ غير رشيد لا يسلم إليه ماله ) لعدم شرطه ، وهو إيناس
الرشد بالنص ( فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة سلم إليه ماله ، وإن لم يؤنس رشده ، وإن تصرف
فيه قبل ذلك نفذ ) وقالا : لا يدفع إليه ماله حتى يؤنس رشده بالنص ، ولا يجوز تصرفه فيه
لأن علة المنع السفه ، فيبقى ببقائه . ولأبي حنيفة قوله تعالى : ) ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن
يكبروا ( [ النساء : 6 ] وهذا إشارة إلى أنه لا يمنع عنه إذا كبر ، وقدره أبو حنيفة بهذه المدة ،
لأن الغالب إيناس الرشد فيها ، ألا ترى أنه يصلح أن يكون جدا . وعن عمر رضي الله عنه
أنه قال : ينتهي لب الرجل إلى خمس وعشرين سنة ، وفسر الأشد بذلك في قوله تعالى :
) حتى يبلغ أشده ( [ الأنعام : 152 ] وتصرفه قبل ذلك نافذ ، لأن المنع عنه للتأديب لا
للحجر ، فلهذا نفذ تصرفه فيه .
ثم نفرّع المسائل على قولهما فنقول : إذا حجر القاضي عليه صار في حكم الصبي ،
إلا في أشياء فإنها تصح منه كالعاقل ، وهي : النكاح ، والطلاق ، والعتاق ، والاستيلاد ،
والتدبير ، والوصية مثل وصايا الناس ، والإقرار بالحدود والقصاص ، لأنه من أهل التصرفات
لكونه مخاطبا ، أما النكاح فهو من الحوائج الأصلية ، ويلزم بمثل مهر المثل لأنه لا غبن
فيه ، ويبطل ما زاد عليه لأنه تصرف في المال وصار كالمريض المديون ، وإن كانت المرأة
سفيهة فزوجت نفسها من كفء بأقل من مهر المثل جاز ، فإن كان أقل بما لا يتغابن فيه
الناس ولم يدخل بها يقال للزوج : إما أن تتم لها أو تفارقها ، لأن رضاها بالنقصان لم
يصح ، ويخير الزوج لأنه ما رضي بالزيادة ، وإن دخل بها لم يخير ووجب مهر المثل فلا
فائدة في التخيير .
وأما الطلاق فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي
والمعتوه ' ولأن كل من ملك النكاح وقع طلاقه والعتق لوجود الأهلية ، ويسعى العبد في
قيمته لمكان الحجر عن التبرعات بالمال ، إلا أن العتق لا يقبل الفسخ فقلنا بنفاذه ،
ووجوب السعاية نظرا للجانبين . وعن محمد أنه لا يسعى . وأما التدبير فلأنه يوجب حق
العتق ، أو هو عتق من وجه ، فاعتبر بحقيقة العتق ، إلا أنه لا يسعى إلا بعد الموت ، فإذا(2/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
مات ولم يؤنس رشده سعى في قيمته مدبرا كأنه أعتقه بعد التدبير . وأما الاستيلاد فإن
وطئها فولدت وادعاه ثبت نسبه لحاجته إلى بقاء النسل فلا تسعى إذا مات . وكذلك إن أقر
أنها أم ولده ومعها ولد ، وإن لم يكن معها ولد سعت في قيمتها بعد الموت لأنه متهم في
ذلك فصار كالعتق . وأما الوصية فالقياس أن لا تصح لأنها تبرع وهبة ، لكنا استحسنا ذلك
إذا كانت مثل وصايا الناس ، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى وهو محتاج إليها سيما في
هذه الحالة .
وأما الإقرار بالحدود والقصاص ، فلأن الحجر عن التصرف في المال لا غير وهو عاقل
بالغ فيصح إقراره فيما لا حجر عليه فيه ، ويلزمه حقوق الله تعالى من الزكاة والكفارات
والحج لأنه مخاطب ، ولا حجر عن حقوق الله تعالى ، فتخرج عنه الزكاة بمحضر من القاضي
أو أمينه احترازا من أن يصرفها في غير مصرفها .
وأما الكفارات فما للصوم فيه مدخل فيكفره بالصوم لا غير كابن السبيل المنقطع عن
ماله ؛ ولو أعتق عن ظهاره نفذ العتق وسعى في قيمته ، ولا يجزيه عن الظهار لأنه عتق ببدل
كالمريض المديون إذا أعتق عن ظهاره ثم مات يسعى العبد للغرماء ولا يجزيه ، وكذا سائر
الكفارات ؛ ولو كفر بالصوم ثم صلح قبل تمامه فعليه أن يكفر لزوال العجز . وأما الحج فإن
القاضي يسلم النفقة إلى ثقة في الحاج ينفقها عليه ، ولا يمنع من عمرة واحدة لوجوبها عند
بعض العلماء ، ولا من القران لأنه أفضل وأثوب ، ولأنه لا يمنع من كل واحدة منهما على
الانفراد ، فكذا على الاجتماع وبل أولى لأنه أفضل ، وله أن يسوق البدنة لمكان الاختلاف ،
فإن عمر رضي الله عنه فسر الهدي بالبدنة ، ويلزمه حقوق العباد إذا تحققت أسبابها عملا
بالسبب ، وكذلك النفقة على زوجته وولده وذوي أرحامه ، لأن السفه لا يبطل حقوق العباد ،
ولأن نفقة الزوجة والأولاد من الحوائج الأصلية .
قال : ( ولا يحجر على الفاسق ) أما عنده فظاهر ، وأما عندهما إن كان مصلحا
لماله ، لقوله تعالى : ) فإن آنستم منهم رشدا ( [ النساء : 6 ] الآية ، وقد أونس منه نوع
رشد وهو إصلاح المال فيتناوله النص ، ولأن الحجر للفساد في المال لا في الدين ؛ ألا
ترى أنه لا يحجر على الذمي والكفر أعظم من الفسق . قال : ( ولا ) يحجر ( على
المديون ) لما تقدم في الحجر على السفيه ( فإن طلب غرماؤه حبسه ، حبسه حتى يبيع
ويوفى الدين ) على الوجه الذي بيناه في أدب القاضي ( فإن كان ماله دراهم أو دنانير
والدين مثله قضاه القاضي بغير أمره ) لأن رب الدين له أخذه بغير أمره ، فالقاضي يعينه
عليه .(2/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
( وإن كان أحدهما دراهم والآخر دنانير أو بالعكس باعه القاضي في الدين ) والقياس أنه
لا يبيعه كالعروض لأنه نوع حجر . وجه الاستحسان أنهما كجنس واحد نظرا إلى الثمنية
والمالية وعدم التعيين ، بخلاف العروض لأنها مباينة للديون من كل وجه ، والغرض يتعلق
بعين العروض دون الأثمان فافترقا ( ولا يبيع العروض ولا العقار ) لأنه حجر عليه وهو تجارة
لا عن تراض .
( وقالا : يبيع وعليه الفتوى ) وقال أبو يوسف ومحمد : إذا طلب الغرماء المفلس الحجر
عليه حجر القاضي عليه ومنعه من التصرفات والإقرار حتى لا يضر بالغرماء نظرا لهم ، لأنه
ربما ألجأ ماله فيفوت حقهم ؛ ولا يمنع من البيع بمثل الثمن لأنه لا يبطل حق الغرماء ، ويبيع
ماله إن امتنع المديون من بيعه وقسمه بين الغرماء بالحصص ، لأن إيفاء الدين مستحق عليه ،
فيستحق عليه البيع لإيفائه ، فإذا امتنع باع القاضي عليه نيابة كالجب والعنة ، ولأبي حنيفة
ما مر ؛ وجوابهما أن التلجئة متوهمة فلا يبتني عليها حكم متيقن وقضاء الدين مستحق عليه ،
لكن لا نسلم تعيين البيع له ، بخلاف الجب والعنة ، وإنما يحبس ليوفي دينه بأي طريق شاء ،
ثم التفريع على أصلهما أنه يباع في الدين النقود ، ثم العروض ، ثم العقار لما فيه من
المسارعة إلى قضاء الدين ومراعاة المديون ، ويترك له ثياب بدنه دست أو دستان ، وإن أقر
في حال الحجر بمال لزمه بعد قضاء الديون ، لأن هذا المال تعلق به حق الأولين ، ولأنه لو
صح في الحال لما كان في الحجر فائدة حتى لو استفاد مالا بعد الحجر نفذ إقراره فيه لأنه
لم يتعلق به حقهم ، ولو استهلك مالا لزمه في الحال لأنه مشاهد لا راد له ، وينفق من ماله
عليه وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه ، لأنها من الحوائج الأصلية وأنها مقدمة
على حقهم ، ولو تزوج امرأة فهي في مهر مثلها أسوة بالغرماء .
قال : ( وإن لم يظهر للمفلس مال ، فالحكم ما مر في أدب القاضي ) إلى أن قال خلى
سبيله . قال : ( ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من
التصرف والسفر ، ويأخذون فضل كسبه يقتسمونه بينهم بالحصص ) قال عليه الصلاة والسلام :
' لصاحب الحق اليد واللسان ' أي اليد بالملازمة ، واللسان بالاقتضاء . وقال أبو يوسف(2/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
ومحمد : إذا فلسه القاضي حال بينه وبين الغرماء ، إلا أن يقيموا البينة أنه قد حصل له مال ،
وهذا بناء على صحة القضاء بالإفلاس فيصح عندهما فيستحق الإنظار ، وعند أبي حنيفة لا
يصح لأن الإفلاس لا يتحقق ، فإن المال غاد ورائح ، ولأن الشهادة شهادة على العدم حقيقة
فلا تقبل ، ولأن الشهود لا يتحققون باطن أحوال الناس وأمورهم ، فربما له مال لا يطّلع عليه
أحد قد أخفاه من الظلمة واللصوص وهو يظهر الفقر والعسرة ، فإذا لازموه فربما أضجروه
فأعطاهم ، والملازمة أن يدور معه حيث دار ، ويجلس على بابه إذا دخل بيته ، وإن كان
المديون امرأة لا يلازمها حذارا من الفتنة ويبعث امرأة أمينة تلازمها ، وبينة اليسار مقدمة على
بينة الإعسار لأنها مثبتة إذ الأصل الإعسار .(2/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
كتاب المأذون
الإذن في اللغة : الإعلام ، قال الله تعالى : ) وأذّن في الناس الحج ) الحج : 27 ] أي
أعلم ، ومنه الأذان ، لأنه إعلام بوقت الصلاة ، وفي الشرع : فك : الحجر وإطلاق التصرف
لمن كان ممنوعا عنه شرعا ، فكأنه أعلمه بفك الحجر عنه وإطلاق تصرفه ، وأعلم التجار
بذلك ليعاملوه ، وفائدته اهتداء الصبي والعبد إلى إصدار التصرفات واكتساب الأموال
واستجلاب الأرباح ، وقد ندب الله تعالى إلى ذلك بقوله : ) وابتلوا اليتامى ( [ النساء : 6 ] أي
اختبروهم بشيء تدفعونه إليهم ليتصرفوا فيه فتنظروا في تصرفهم ، والدليل على جوازه ما
روي ' أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب دعوة المملوك ' ولا يجوز إجابة دعوة
المحجور عليه ، فدل على جواز الإذن وعليه الإجماع ، ثم العبد بالإذن يصير كالأحرار في
التصرفات لأنه كان مالكا للتصرفات بأهليته بأصل الفطرة باعتبار عقله ونطقه الذي هو ملاك
التكليف ، والحجر عليه إنما كان لحق المولى لاحتمال لحوق الضرر به بتعلق لدين برقبته أو
بكسبه ، وكل ذلك ملك المولى ، فإذا أذن له فقد رضي بتصرفه فيتصرف باعتبار مالكيته
الأصلية ، ولهذا قلنا إنه لا يتوقف ، لأن الإسقاطات لا تتوقف حتى لو أذن له يوما أو شهرا
كان مأذونا مطلقا ما لم ينهه ، وكذلك إذن القاضي والوصي لعبد اليتيم ، وكذلك للصبي الذي
يعقل ، فإن الحجر عليه إنما كان خوفا من سوء تصرفه وعدم هدايته للأصلح ، فإذنهما لهما
دليل صلاحية التصرف فجاز تصرفه .(2/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
( ويثبت بالصريح وبالدلالة كما لو رآه يبيع ويشتري فسكت ، وسواء كان البيع للمولى
أو لغيره بأمره أو بغير أمره صحيحا أو فاسدا ) لأن سكوته عند هذه التصرفات دليل رضاه ،
كسكوت الشفيع عند تصرف المشتري . وقال زفر : لا يثبت بالدلالة لأن سكوته محتمل ،
وصار كالوكيل . ولنا أن الناس إذا رأوه يتصرف هذه التصرفات والمولى ساكت يعتقدون
رضاه بذلك ، وإلا لمنعه فيعاملونه معاملة المأذون ، فلو لم يعتبر سكوته رضى يفضى ذلك
إلى الإضرار بهم ، فوجب أن يكون سكوته رضى دفعا للضرر عنهم . قال : ( ويصير مأذونا
بالإذن العام والخاص ) فالعام أن يقول لعبده : أذنت لك في التجارة ، وأذنت لك في البيع
والشراء ، ولا يقيده بشيء ، لأن ذلك عام فيتناول جميع الأنواع ، وكذلك إذا قال : أدّ إليّ
الغلة ، أو إن أديت إليّ ألفا فأنت حر لأنه لا قدرة على ذلك إلا بالكسب ولا كسب إلا
بالتجارة ويجوز تصرفه بالغبن وقالا : لا يجوز إذا كان غبنا فاحشا لأن الزيادة بمنزلة التبرع .
وله أنه يتصرف بأهليته كالحر وهذه تجارة فتجوز ، والصبي المأذون على هذا الخلاف ،
والخاص أن يأذن له في التجارة في نوع خاص بأن يقول له أذنت لك في البر أو في الصرف
أو في الخياطة أو في الصياغة ، فإنه يصير مأذونا في جميع التجارات والحرف ، وكذلك إذا
نهاه عن التجارة في نوع خاص ، وكذلك لو قال : أذنت لك في التجارة في البر دون البحر .
وقال زفر : يختص بما قيده به لأنه يستفيد التصرف بإذنه كالوكيل . ولنا ما بينا أنه فك
الحجر ورفع السبب الذي كان لأجله محجورا فبعده يتصرف لنفسه بأهليته كما بعد الكتابة ،
وفك الحجر يوجد بالإذن في نوع واحد ، لأن الضرر الذي يلحق بالمولى لا يتفاوت بين نوع
ونوع فيلغو التقييد ويبقى قوله أتّجر ، وليس كالوكيل لأنه يصح بقوله أذنت لك في التجارة ،
ولا يصح التوكيل به لأنه مجهول . أما رفع الحجر إسقاطه ، والجهالة لا تبطله ولا يرجع على
العبد بالعهدة في تصرفاته ويرجع على الوكيل ، ولو اقتصر على قوله أذنت لك صح ، وفي
التوكيل لا يصح ، والصبي يتصرف لنفسه في ماله فلا يكون غائبا .
قال : ( ولو أذن له بشراء طعام الأكل وثياب الكسوة لا يصير مأذونا ) لأنه استخدام
وليس بتجارة ، لأن التجارة ما يطلب منه الربح ، ولأنه لو اعتبرناه إذنا أدى إلى سد باب
الاستخدام ، وفيه من الفساد ما لا يخفى . قال : ( وللمأذون أن يبيع ويشتري ) لأنه أصل
التجارة ( ويوكل ) لأنه قد لا يمكنه من المباشرة بنفسه في بعض الأحوال ( ويبضع ويضارب )
لأن ذلك من التجارة ( ويعير ) لأن ذلك من أفعال التجار ( ويرهن ويسترهن ) لأنه وفاء(2/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
واستيفاء ، وهما من توابع البيع ( ويؤجر ويستأجر ويسلم ويقبل السلم ) لأن كل ذلك من صنيع
التجار ( ويزارع ويشتري طعاما ويزرعه ) لأنه تجارة يقصد بها الربح ( ويشارك عنانا ) لأنها
من أفعال التجار ، وله أن يؤاجر نفسه لأنه يحصل به الربح والاكتساب وهو المقصود ( ولو
أقر بدين أو غصب أو وديعة جاز ) لأنه لو لم يصح لامتنع الناس من معاملته ولأن الغصب
مبادلة ( ولا يتزوج ) لأنه ليس من التجارة ، فلو تزوج أخذ بالمهر بعد الحرية ( ولا يزوج
مماليكه ) .
وقال أبو يوسف : يزوج الأمة لأنه نوع تجارة ، وهو وجوب نفقتها على غيره ،
بخلاف العبد لأنه يوجب عليه نفقة زوجته . ولهما أنه ليس تجارة ولهذا لا يملكه في
العبد ، ونفقتها ليست بتجارة ، ولأن الزواج عيب في الأمة ( ولا يكاتب ) لأنه إطلاق وليس
بتجارة ( ولا يعتق ) بمال ولا بغير مال ( ولا يقرض ولا يهب ) بعوض ولا بغير عوض ( ولا
يتصدق ) لأن ذلك تبرع ابتداء ، أو ابتداء وانتهاء وليس من التجارات ( ولا يتكفل ) بنفس ولا
بمال لأنه تبرع .
قال : ( ويهدي القليل من الطعام ، ويضيف معامليه ) لأنه من صنيع التجار ، وفيه استمالة
قلوب المعاملين ، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قبل هدية سلمان الفارسي وكان عبدا .
وقال محمد : يتصدق بالرغيف ونحوه ، ولم يقدر محمد الضيافة اليسيرة ، وقيل ذلك على
قدر مال التجارة ، إن كانت نحو عشرة آلاف فالضيافة بعشرة ، وإن كانت تجارته عشرة
دراهم فدانق كثير ، وله أن يحط من الثمن بعيب كعادة التجار ولعله أصلح نم الرضا
بالعيب ، ولا يحط بغير عيب لأنه تبرع . قال : ( ويأذن لرقيقه في التجارة ) لأنه نوع تجارة ،
والأصل أن كل من له ولاية التجارة يصح إذنه للعبد فيها كالمكاتب والمأذون والمضارب
والأب والجد والقاضي وشريكي المفاوضة والعنان والوصي ، ولا يجوز ذلك للأم والأخ
والعم لأنه ليس لهم ولاية التجارة . قال : ( وما يلزمه من الديون بسبب الإذن متعلق برقبته(2/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
يباع فيه إلا أن يفديه المولى ) لأن المولى رضي بذلك ، فإنه لو لم يتعلق برقبته كان تصرفه
نفعا محضا فلا حاجة إلى الإذن ، وإنما شرط إذن المولى ليصير راضيا بهذا الضرر ، ولأن
سبب هذا الدين التجارة وهي بإذنه ولأن تعلق الدين برقبته مما يدعو إلى معاملته وأنه يصلح
مقصودا للمولى فينعدم الضرر في حقه إلا أنه يبدأ بكسبه لأنه أهون ( فإن لم يف بالديون ،
فإن فداه المولى بديون الغرماء انقطع حقهم عنه ، وإلا يباع ويقسم ثمنه بين الغرماء
بالحصص ) لتعلق حقهم به كتعلقها بالتركة ( فإن بقي شيء طولب به بعد الحرية ) لأن الدين
ثبت عليه ولم تف به الرقبة ، فيبقى عليه إلى وقت القدرة ، وهو ما بعد الحرية .
قال : ( وإن حجر المولى عليه لم ينحجر حتى يعلم أهل سوقة أو أكثرهم بذلك )
لأنهم إذا لم يعلموا يبايعونه بناء على ما عرفوه من الإذن ، فلو انحجر يتضرر بذلك ، لأنهم
إذا لم يتعلق حقهم بكسبه وبرقبته يتأخر إلى ما بعد الحرية ، وقد لا يعتق فيتضررون إما
بالتأخير أو بالعدم ، ولو حجر عليه في السوق عند رجل أو رجلين لا ينحجر ، ولو حجر
عليه في البيت عند أهل سوقة أو أكثرهم انحجر ، والمعتبر اشتهار الحجر عندهم إذا كان
الإذن مشهورا ، أما إذا لم يعلم بالإذن غير العبد ثم علم بالحجر انحجر ، ولا يزال مأذونا
حتى يعلم بالحجر كالوكيل لأنه يتضرر لو انحجر بدون علمه ، لأنه يلزمه قضاء الديون بعد
الحرية وأنه ضرر به .
قال : ( وإن ولدت المأذونة من مولاها فهو حجر ) خلافا لزفر . له أن ذلك لا يمنع
الإذن ابتداء فكذا بقاء . ولنا أنه يحصنها عادة فيمنعها من الخروج والبروز والتصرفات فكان
حجرا دلالة ، بخلاف الابتداء فإنه صريح في الإذن فلا تعارضه الدلالة . قال : ( والإباق حجر )
لأنه لا يقدر على قضاء دينه من كسبه وهو ما أذن له إلا بهذا الشرط مقصودا . قال : ( ولو
مات المولى أو جن ، أو لحق بدار الحرب مرتدا صار محجورا ) لأنه زال ملكه عنه بالموت
واللحاق ، ألا ترى أنه ينتقل إلى ملك ورثته وهو عقد غير لازم فيزول بزوال الملك ،
وبالجنون زالت الأهلية فيبطل الإذن اعتبارا بالابتداء ، لأن ما يلزم من التصرفات يعتبر لدوامه
الأهلية كما يعتبر لابتدائه . قال : ( ويصح إقراره بما في يده بعد الحجر ) سواء أقر أنه غصب
أو أمانة أو أقر بدين ، وقالا : لا يصح لأن المصحح كان الإذن وقد زال ، ولهذا لا يصح في
حق الرقبة وصار كما إذا باعه من آخر ، وله أن المصحح اليد وهي باقية ، ولهذا لا يصح فيما(2/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
أخذه المولى ، وبطلانها لعدم الحاجة ، وهي باقية بدليل إقراره ، بخلاف الرقة لأنها ليست في
يده وملك المولى ثابت فيها فلا يبطل من غير رضاه ، وبخلاف البيع لأن الملك قد تبدل فلم
يبق حكم الملك الأول .
قال : ( وإذا استغرقت الديون ماله ورقبته لم يملك المولى شيئا من ماله ) وهو كالأجنبي
لو أعتق عبيده لا يعتقون ، ولو قتل عبده فعليه قيمته على السنين ، وقالا : يملكه المولى
ويعتقون بإعتاقه وعليه قيمة المقتول في الحال . لهما أنه ملك رقبته حتى جاز عتقه فيملك
كسبه ، ولذا يحل له وطء المأذونة ، وتعلق حق الغرماء يمنع المولى عن التصرف فيه ونقضه
بعد وقوعه لا في إبطاله ملكه . وله أن الملك واقع للمأذون لأن سبب الملك الاكتساب ،
فيكون أولى به من غيره بالنص ، وإنما ينتقل إلى المولى إذا فصل عن حاجته ، والحاجة قائمة
في الدين المحيط ، والمأذون يملكه لكونه آدميا مكلفا لكن ملكا منتقلا لا مستقرا كملك
المقتول الدية والجنين الغرة ، ثم تنتقل إلى ورثته حتى يكون موروثا عنه ، بخلاف ما إذا لم
يكن مستغرقا ، لأن الإنسان قل ما يخلو عن قليل الدين سيما التجار ، فلو اعتبرنا القليل مانعا
أدى إلى سد باب التصرفات على المولى فيمتنع عن الإذن .
قال : ( وإن أعتقه نفذ ) لبقاء ملكه فيه ( وضمن قيمته للغرماء ، وما بقي فعلى العبد ) لأن
حقهم تعلق برقبته وقد فوتها بالعتق فيغرم له قيمتها ، وما فضل أخذوه من المعتق لأنه حر
مديون ، وإن شاء ضمنوا المعتق جميع ديونهم ، لأن حقه تعلق برقبته وقد حصلت له
فيضمنها وإن كان الدين أقل من قيمته ضمن الدين لأن حقهم فيه . قال : ( ويجوز أن يبيعه
المولى بمثل الثمن أو أقل ) لأنه أجنبي عن كسبه إذا كان مديونا كما بينا ولا تهمة فيه ، وفيه
منفعة للعبد بدخول المبيع في ملكه ، فإن باعه وسلمه ولم يقبض الثمن سقط إن كان دينا ،
لأن المولى لا يثبت له دين على عبده ، وإن كان الثمن عرضا لا يسقط لجواز بقاء حقه في
العين .
قال : ( ويجوز أن يبيع من المولى بمثل الثمن أو أكثر ) لأنه كالأجنبي ولا تهمة حتى
لو باعه بأقل من القيمة لا يجوز للتهمة ، ولو باع المولى العبد فقبضه المشتري وعيبه .
فالغرماء إن شاؤوا ضمنوا البائع القيمة لأنه أتلف حقهم بالبيع والتسليم ، وإن شاؤوا ضمنوا
المشتري بالشراء والتعييب ، وإن شاؤوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن لأن الحق لهم
كالمرتهن ، فإن ضمنوا البائع ثم رد عليه بعيب رجع عليهم بما ضمن وعاد حقهم إلى العبد
لزوال المانع .(2/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
كتاب الإكراه
وهو الإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان طبعا أو شرعا ، فيقدم عليه ما عدم الرضا
ليدفع عنه ما هو أضر منه ؛ ثم قيل هو معتبر بالهزل المنافي للرضا ، فما لا يؤثر فيه الهزل لا
يؤثر فيه الإكراه كالطلاق وأخواته ؛ وقيل هو معتبر بخيار الشرط الخالي عن الرضا بموجب
العقد ، فما لا يؤثر فيه الشرط لا يؤثر فيه الإكراه .
قال : ( ويعتبر فيه قدرة المكره على إيقاع ما هدده به ) لأنه إذا لم يكن قادرا عليه
لا يتحقق الخوف فلا يتحقق الإكراه ، وما روي عن أبي حنيفة أن الإكراه لا يتحقق إلا
من سلطان ، فاختلاف عصر وزمان ( و ) لا بد من ( خوف المكره عاجلا ) لأنه لو لم
يخف فعله يكون راضيا فلا يكون مكرها ؛ لأن الإكراه ما يفعله بغيره فينتفي به رضاه أو
يفسد عليه اختياره مع بقاء أصل القصد ، لأنه طلب منه أحد الأمرين فاختار أحدهما ،
فإذا فعل برضاه لا يكون مكرها ( و ) لا بد من ( امتناعه من الفعل قبل الإكراه ) لأن
الإكراه لا يتحقق إلا على فعل يمتنع عنه المكره . أما إذا كان بفعله فلا إكراه ويكون
الامتناع ( لحقه ) كبيع ماله والشراء ، وإعتاق عبده ونحو ذلك ( أو لحقّ آدمي ) كإتلاف مال
الغير ونحوه ( أو لحقّ الشرع ) كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها ، لأن الامتناع لا يكون
إلا لأحد هذه الأشياء ( و ) لا بد ( أن يكون المكره به نفسا أو عضوا ) كالقتل والقطع ( أو
موجبا عما ينعدم به الرضا ) كالحبس والضرب ؛ وأحكامه تختلف باختلاف هذه الأشياء ،(2/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
فتارة يلزمه الإقدام على ما أكره عليه ، وتارة يباح له ، وتارة يرخص ، وتارة يحرم على ما
نبينه إن شاء الله تعالى .
قال : ( فلو أكره على بيع أو شراء أو إجارة أو إقرار بقتل أو ضرب شديد أو حبس
ففعل ثم زال الإكراه ، فإن شاء أمضاه ، وإن شاء فسخه ) لأن الملك يثبت بالعقد لصدوره من
أهله في محله ، إلا أنه فقد شرط الحل وهو التراضي فصار كغيره من الشروط المفسدة ،
حتى لو تصرف فيه تصرفا لا يقبل النقض كالعتق ونحوه ينفذ وتلزمه القيمة ، وإن أجازه جاز
لوجود التراضي بخلاف البيع الفاسد ، لأن الفساد لحق الشرع يجوز بإجازتهما ، ولا ينقطع
حق الاسترداد ههنا وإن تداولته الأيدي ، بخلاف البيع الفاسد ، لأن الفساد لحق الشرع ، وقد
تعلق بالبيع الثاني حق العبد ، وهنا أيضا الرد حق العبد ، وهما سواء ؛ ولو أكره بضرب
سوط ، أو حبس يوم ، أو قيد يوم لا يكون إكراها ، لأنه لا يبالي به عادة ، إلا إذا كان ذا
منصب يستضر به ، فيكون إكراها في حقه لزوال الرضى . وأما الإقرار فليس بسبب ، لكن
جعل حجة لرجحان جانب الصدق ، وعند الإكراه يترجح جانب الكذب لدفع الضرر .
( وإن قبض العوض طوعا فهو إجازة ) لأنه دليل الرضا كالبيع الموقوف ( وإن قبضه
مكرها فليس بإجازة ، ويرده إن كان قائما ، فإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره
فعليه قيمته ) لأنه بيع فاسد والمقبوض فيه مضمون بالقيمة ( وللمكره أن يضمن المكره ) لأنه
كالآلة له فكأنه هو الذي دفعه إلى المشتري فصار كغاصب الغاصب ، فإن ضمن المكره رجع
على المشتري لأنه صار كالبائع ، وإن ضمن المشتري نفذ كل بيع حصل بعد الإكراه لأنه
ملكه بالضمان ، والمضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت القبض عندنا على ما
عرف .
قال : ( وإن أكره على طلاق أو عتاق ففعل وقع ) لما بينا أنه معتبر بالهزل لأنهما يجريان
مجرى واحدا في عدم الرضا ، وقد بينا أن الإكراه لا يسلب القصد ، فقد قصد وقوع الطلاق
والعتاق على منكوحته وعبده فيقع ( ويرجع على المكره بقيمة العبد والولاء للمعتق ) لما بينا
أنه آلة له فانضاف إليه فله تضمينه ( وفي الطلاق بنصف المهر إن كان قبل الدخول وبما يلزمه
من المتعة عند عدم التسمية ) لأنه أكد ما كان على شرف السقوط بأن تجيء الفرقة من قبلها ،(2/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
فكان إتلافا لهذا القدر من المال فيضاف إليه ، بخلاف ما بعد الدخول ، لأن المهر تأكيد
بالدخول ، وهكذا النذر واليمين والظهار والرجعة والإيلاء والفيء باللسان ، لأن هذه الأشياء
لا تقبل الفسخ وتصح مع الهزل ، والخلع يمين أو طلاق وعليها البدل إن كانت طائعة ، ولا
شيء عليه فيما وجب بالنذر واليمين ، لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطلبه فيها ، والنكاح
كالطلاق ، فإن كان بمهر المثل أو أقل لم يرجع بشيء لأنه وصل إليه عوض ما خرج من
ملكه ، وإن كان أكثر من مهر المثل بطلت الزيادة ، لأن الرضا شرط للزوم الزيادة وقد فاتت .
وإن أكرهت المرأة ، فإن كان الزوج كفؤا بمهر المثل جاز ولا ترجع بشيء لما بينا ، وإن كان
أقل فالزوج إما أن يتم لها مثر المثل أو يفارقها ، ولا شيء عليه إن لم يدخل بها ، لأن الفرقة
جاءت من قبلها حيث لم ترض بالمسمى ، وإن دخل بها وهي مكرهة فلها مصر مثلها حيث
لم ترض بالمسمى ، وإن كانت طائعة فهو رضى بالمسمى ، ويبقى الاعتراض للأولياء عند أبي
حنيفة على ما عرف .
قال : ( فإن أكره على شرب الخمر أو أكل الميتة أو على الكفر أو إتلاف مال مسلم أو
ذمي بالحبس أو الضرب فليس بمكره ) والأصل في هذا أن شرب الخمر وأكل الميتة ومال
الغير مباح في حالة المخمصة ، وهو خوف فوت النفس ، قال الله تعالى : ) فمن اضطر غير
باغ ولا عاد فلا إثم عليه ( [ البقرة : 173 ] فإذا أكره على ذلك بالضرب والحبس لا يسعه
ذلك لأنه ليس في معناه ، وإذا لم يبح بهذا النوع من الإكراه لا يباح الكفر لأنه أعظم جريمة
وأشد حرمة وأقبح من هذه الأشياء ، لأن حرمتها بالسمع وحرمة الكفر به وبالعقل ( وإن أكرهه
بإتلاف نفسه وسعه أن يفعل ) أما شرب الخمر وأكل الخنزير والميتة فلما تلونا من النص .
ووجهه أن حالة الضرورة صارت مستثناة من الحرمة ، فكانت الميتة والخمر حالة الضرورة
كالخبز والماء في غير حالة الضرورة ، فلو لم يفعل حتى قتل وهو يعلم بالإباحة أثم كما في
حالة المخمصة ، ولأن الحرمة لما زالت بقوله تعالى : ) فلا إثم عليه ( صار كالممتنع عن
الطعام والشراب حتى مات فيأثم . وأما إتلاف مال الغير فكذلك يباح حالة المخمصة فزال
الإثم ، والضمان على من أكرهه لما مر ، وكذلك لو توعدوه بضرب يخاف منه على نفسه أو
بقطع عضو منه ولو أنملة ، لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس ، ألا ترى أنه كما لا يباح له
القتل حالة المخمصة لا يباح له قطع العضو ، ولو خوفوه بالجوع لا يفعل حتى يجوع جوعا
يخاف من التلف فيصير كالمضطر . وأما الكفر فإنه يسعه أن يأتي به وقلبه مطمئن بالإيمان ،
لما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أكرهه المشركون على الكفر ، فأعطاهم بلسانه ما
أرادوا ، ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي ، فقال له : ' ما وراءك ' ؟ فقال : شر ، نلت
منك ، فقال : ' كيف وجدت قلبك ' ؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح(2/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
عينيه ويقول : ' ما لك ، إن عادوا فعد ' ، ونزل قوله تعالى : ) إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان ( [ النحل : 106 ] وفيه دليل الكتاب ؛ والسنة وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن عادوا فعد ' والأثر
فعل عمار رضي الله عنه .
( وإن صبر حتى قتل كان مأجورا ) وهو العزيمة ' فإن خبيب بن عدي الأنصاري رضي
الله عنه صبر حتى قتل ، وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سيد الشهداء ، وقال : هو رفيقي في الجنة '
ولأنه بذل مهجته وجاد بروحه تعظيما لله تعالى وإعلاء لكلمته لئلا يأتي بكلمة الكفر ، فكان
شهيدا كمن بارز بين الصفين مع علمه أنه يقتل فإنه يكون شهيدا ، ومن هذا القبيل سب
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وترك الصلوات الخمس ، وكل ما ثبتت فرضيته بالكتاب ؛ ولو أكره الذمي على
الإسلام صح إسلامه ، كما لو قوتل الحربي على الإسلام فأسلم ، فإنه يصح بالإجماع . قال
الله تعالى : ) وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ( [ آل عمران : 83 ] سمي
المكره على الإسلام مسلما ، فإن رجع الذمي لا يقتل لكنه يحبس حتى يسلم لأنه وقع الشك
في اعتقاده ، فاحتمل أنه صحيح فيقتل بالردة ، ويحتمل أنه غير معتقد فيكون ذميا فلا يقبل ،
إلا أنا رجحنا جانب الوجود حالة الإسلام تصحيحا لإسلامه لترجيح الإسلام على الكفر .
قال : ( ولو أكره بالقتل على القتل لم يفعل ويصبر حتى يقتل ) وكذا قطع العضو ، وسب
المسلم وأذاه ، وضرب الوالدين ضربا مبرحا ، لأن الظلم حرام شرعا وعقلا ، لا يستباح بحال
ولا بوجه ما ، وكذا قتل المسلم البريء لا يباح بوجه ما ( فإن قتل أثم ) لقيام الحرمة
( والقصاص على المكره ) لأنه آلة له فيما يصلح أن يكون آلة وهو القتل ، ولا يصلح أن يكون
آلة في الإثم لأنه بالجناية على الدين وأنه حرام فلا يباح إلا من جهة صاحب الحق . وقال
أبو يوسف : لا قصاص على واحد منهما لأن القصاص يندرئ بالشبهات وقد تحققت الشبهة
في حق كل واحد منهما ، أما المكره فهو محمول عليه ، وأما المكره فلعدم المباشرة . وقال
زفر : يجب على المكره لأن المباشرة موجبة للقتل ولهذا تعلق به الإثم ، ولهما ما تقدم أنه
آلة فيما يصلح ، والقتل يصلح بأن يلقيه عليه وصار كمن أكره مجوسيا على ذبح شاة مسلم ،
فالفعل ينتقل إلى المكره في الإتلاف حتى يجب عليه الضمان ولا ينتقل الحكم حتى لا يحل
أكلها .
قال : ( وإن أكره على الردة لم تبن امرأته منه ) لأن البينونة تبتني على الردة والردة غير
متحققة ، لاحتمال عدم اعتقاد الكفر ، بل هو الظاهر عند الإكراه ؛ ولو اختلفا فالقول قوله في
عدم الإعتقاد لأنه لا يعرف إلا من جهته . قال : ( ومن أكره على الزنا لا حد عليه ) لوجود(2/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
الشبهة ويأثم بالفعل ، ولو صبر كان مأجورا كالقتل ، لأن الزنا لا يباح بوجه ما . وقال أبو
حنيفة أولا وهو قول زفر : يحد لأن انتشار الآلة دليل الطواعية . قلنا : وقد يكون طبعا
والشبهة موجودة ، ولو أكرهت المرأة وسعها ذلك ولا تأثم ، نص عليه محمد ، لأن الفاعل
الرجل دونها ، لأن الإيلاج فعله فلم يتحقق الزنا منها ، لكن تمكينها وسيلة إلى فعله فيباح
عند الضرورة ، ولو أمره ولم يكرهه في هذه المسائل كلها إلا أنه يخاف القتل إن لم يفعل
فهو في حكم المكره لأن الإلجاء باعتبار الخوف ، وقد تحقق .(2/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
كتاب الدعوى
الدعوى مشتقة من الدعاء وهو الطلب . وفي الشرع : قول يطلب به الإنسان إثبات
حق على الغير لنفيه ، والبينة من البيان ، وهو الكشف والإظهار ، والبينة في الشرع تظهر
صدق المدعي وتكشف الحق . والأصل في الباب قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو ترك الناس ودعواهم
لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه '
وفي رواية ' واليمين على من أنكر ' ويروى أن حضرميا وكنديا اختصما بين يدي رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) في شيء ، فقال للمدعي : ' ألك بينة ' ؟ قال : لا ، فقال : ' لك يمينه ليس لك غير
ذلك ' فنبدأ بمعرفة المدعي والمدعى عليه ، إذ هو الأصل في الباب ونبني عليه عامة
مسائله .
قال : ( المدعي من لا يجبر على الخصومة ، والمدعى عليه من يجبر ) وقيل المدعي من
يضيف إلى نفسه ما ليس بثابت ، والمدعى عليه من يتمسك بما هو ثابت بظاهر اليد ، فلو
ادعي على رجل دينا فادعى الوفاء والبراءة صار مدعيا لدعواه ما ليس بثابت ، وهو فراغ ذمته
بعد اتفاقهما على الشغل ، وقيل المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج ، والمدعى عليه
من يستحق بقوله من غير حجة كذي اليد ؛ وقيل المدعي من يضيف ما عند غيره إلى نفسه ،(2/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
والمدعى عليه : ما يضيف ما عنده إلى نفسه ، وجميع العبارات متقاربة ، وينبغي أن يحقق
ذلك ويعرف بالمعنى لا بالصورة ، فإن المودع إذا ادعى إيصال الوديعة فإنه مدع صورة منكر
معنى حتى لو ترك لا يترك ، والفقيه إذا أمعن النظر وأنعم الفكر ظهر له ذلك بتوفيق الله ، ولا
يصح الدعوى إلا في مجلس القضاء على خصم حاضر .
اعلم أن الدعوى إذا صحت عند القاضي أوجبت على الخصم الحضور إلى مجلس
القاضي ، قال تعالى : ) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (
[ النور : 48 ] ذمهم على ترك الحضور وهو الإعراض عن الإجابة . وعن علي رضي الله عنه
' أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تستعدي على زوجها ، فأعداها ، فقالت :
أبى أن يجيء ، فأعطاها هدبة من ثوبه فجاءت به ' ولأن الحكام يحضرون الناس بمجرد
الدعوى من لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومنا هذا من غير نكير ، فإذا حضر وادعى عليه وجب
عليه الجواب بلا أو بنعم حتى لو سكت كان إنكارا فيسمع البينة عليه دفعا للضرر عن
المدعي إلا أن يكون أخرس .
قال : ( ولا بد أن تكون الدعوى بشيء معلوم الجنس والقدر ) لأن الدعوى للإلزام ،
والقضاء بالمجهول غير ممكن ، وكذلك الشهادة بالمجهول لا تقبل ( فإن كان دينا ذكر أنه
يطالبه به ) لأن فائدة الدعوى إجبار القاضي المدعى عليه على إيفاء حق المدعي ، وليس
للقاضي ذلك إلا إذا طالبه به فامتنع ، ولا بد من ذكر الوصف لأنه لا يعرف إلا به ( وإن
كان عينا كلف المدعى عليه إحضارها ) ليشير إليها بالدعوى والشهود عند أداء الشهادة
والمنكر عند اليمين ، ولأن ذلك أبلغ في التعريف ( فإن لم تكن حاضرة ذكر قيمتها ) لأنه
إذا تعذر مشاهدة العين فالقيمة تقوم مقامها كما في الاستهلاك ، إذ هي المقصود غالبا ،
ويذكر في القيمة شيئا معينا في قدره ووصفه وجنسه نفيا للجهالة لما بينا ، وإن كان
حيوانا يذكر الذكورة أو الأنوثة ( وإن كان عقارا ذكر حدوده الأربعة وأسماء أصحابها
ونسبهم إلى الجد وذكر المحلة والبلد ) لأن العقار لا يمكن إحضاره فتعذر تعريفه بالإشارة
فيعرف بالحدود ويبدأ بذكر البلدة لأنه أعم ثم بالمحلة التي فيها العقار ثم يبين الحدود ،
لأن التعريف يقع بذلك ، ولا بد من ذكر أصحابها وأسماء آبائهم وأجدادهم لأنه أبلغ في
التعريف ، وفي ذكر الجد خلاف أبي يوسف ، وقد تقدم ، وإن كان الرجل مشهورا لا
يحتاج إلى ذكر النسب لوجود التعريف بدونه ، وكذلك يجب على الشهود ذكر الحدود
كما مر .(2/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
قال : ( ثم يذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به ) لأنه إذا لم يكن في يده لا يكون
خصما والحق له فلا يستوفي إلا بطلبه ، ولأنه يحتمل أنه في يده رهنا أو محبوسا بالثمن ،
فإذا طالبه زال الاحتمال ، ولا يثبت كونه في يده إلا ببينة أو علم القاضي ، ولا يثبت
بتصادقهما نفيا لتهمة المواضعة لجواز أنه في يد غيره بخلاف المنقول ، لأن اليد فيه مشاهدة .
قال : ( وإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه ) لينكشف وجه الحكم ولوجوب
الجواب عليه ( فإن اعترف أو أقام المدعي بينة قضى عليه ) أما الاعتراف فلأنه لا تهمة فيه ،
قال تعالى : ) بل الإنسان على نفسه بصيرة ( [ القيامة : 14 ] أي شاهد ، وأما البينة فلأنها
مشتقة من البيان وهو الإظهار ، فهي تظهر الحق وتكشف صدق الدعوى فيقضي بها ، وعلى
هذا إجماع المسلمين . قال : ( ولا يستحلف ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ألك بينة ' ؟ قال :
لا ، قال : ' فلك يمينه ' ولا بد من طلب المدعي واستحلافه لأنها حقه بالإضافة إليه ( فإن
حلف انقطعت الخصومة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ليس لك غير ذلك ' فيما روينا من
الحديث . قال : ( إلا أن تقوم البينة ) فتقبل ، قال عليه الصلاة والسلام : ' اليمين الفاجرة أحق
أن ترد من البينة العادلة ' ولأن طلب اليمين لا يدل على عدم البينة لاحتمال أنها غائبة أو
حاضرة في البلد ولم يحضرها ، ولأن اليمين يدل عن البينة ، وإذا قدّر على الأصل بطل حكم
الخلف .
قال : ( وإن نكل يقضي عليه بالنكول ) لأن النكول اعتراف وإلا يحلف دفعا للضرر عنه
وقطعا للخصومة ، فكان نكوله إقرارا أو بدلا فيقضي به ( فإن قضى عليه أول ما نكل جاز )
لأنه حجة كالإقرار ( والأولى أن يعرض عليه اليمين ثلاثا ) ويخبره أن من مذهبه القضاء
بالنكول لأنه فصل مجتهد فيه ، فربما يخفى عليه حكمه ، فإذا عرض عليه ثلاثا وأبى قضى
عليه ، هكذا فعله أبو يوسف مع وكيل الخليفة وألزمه بالمال ، وإن قال بعد النكول : أنا أحلف
إن كان قبل القضاء حلفه لكونه مختلفا فيه ، وإن كان بعد القضاء لم يحلفه لأن النكول بمنزلة
الإقرار ، ولو أقر ثم قال أحلف لا يسمع منه كذا هذا ( ويثبت النكول بقوله لا أحلف )(2/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
لأنه صريح فيه ( وبالسكوت ) لأنه لا دلالة عليه وإلا يحلف ( إلا أن يكون به خرس أو طرش )
فيعذر .
قال : ( ولا ترد اليمين على المدعي ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' البينة على المدعي ،
واليمين على المدعى عليه ' جعل جنس اليمين على المدعى عليه لأنه ذكره بالألف واللام
وذلك ينفي ردها على المدعي ، ولأنه قسم والقسمة تنافي الشركة ، فلا يكون للمدعي يمين ،
ويلزم من هذا عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين ، لأن ما روينا ينفي أن يكون للمدعي يمين
معتبرة ، فيبقى القضاء بشاهد فرد ، وأنه خلاف الإجماع ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام في
حديث الحضرمي : ' ألك بينة ' ؟ قال : لا ، قال : ' لك يمينه ليس لك غير ذلك ' ينفي
الجواز أيضا لأنه غير المشار إليه في الحديث . وما روي ' أنه عليه الصلاة والسلام قضى
بشاهد ويمين ' فمردود لوجوه : أحدها أنه مخالف للكتاب لأنه تعالى أوجب الحق للمدعي
بشهادة رجلين ، ونقله عند عدمهما إلى شهادة رجل وامرأتين ، فالنقل إلى غيره خلاف
الكتاب ، أو نقول الزيادة عليه خلاف الكتاب . الثاني أنه ورد في حادثة عامة مختلفة بين
السلف ، فلو كان ثابتا لارتفع الخلاف ، فلما لم يرتفع دل على عدم ثبوته . الثالث أنه خبر
آحاد ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' البينة على المدعي ' مشهور قريب من التواتر فلا
يعارضه ، لأن خبر الآحاد إذا ورد معارضا للخبر المشهور يرد . الرابع رده أئمة الحديث
كيحيى بن معين وغيره . الخامس ما روي عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : القضاء
بالشاهد واليمين بدعة ، وأول من قضى به معاوية .
قال : ( وإن قال : لي بينة حاضرة في المصر وطلب يمين خصمه لم يستحلف ) عند أبي
حنيفة ، وقالا : يستحلف ، لأن اليمين حقه فلا يبطل إلا بإقامة البينة لا بالقدرة عليها ،
واعترافه بالبينة لا يكون اعترافا بسقوط اليمين ، وله قوله عليه الصلاة والسلام : ' ألك بينة ' ؟
قال : لا ، قال : ' فلك يمينه ' رتب اليمين على عدم البينة فلا يجب مع وجودها ، ولأنا
أجمعنا على أنه لو قامت البينة سقطت اليمين ، حتى لو قال المدعى عليه : أنا أحلف لا
يلتفت إليه ، وإذا كانت اليمين لا يثبت حكمها مع البينة ، فإذا اعترف بالبينة وأنه قادر على
إقامتها فقد اعترف أنه لا يمين على المدعى عليه . قال : ( ويأخذ منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام )(2/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
ويجيبه القاضي إلى ذلك استحسانا لاحتمال أنه يغيب قبل إقامة البينة ، وكذا لو أقام البينة قبل
القضاء لاحتمال أنه يغيب قبل القضاء فيتعذر القضاء فيكفله مدة إحضار الشهود على ما يروى
عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة ثلاثة أيام ، ألا ترى أنه بمجرد الدعوى عند القاضي يعديه
إحياء للحقوق كذا هذا ، ويكتفي بالكفيل أن يكون معروفا ليحصل التوثق ، ولا يشترط كونه
مليا أو تاجرا ، فإن امتنع أن يعطيه كفيلا أمره القاضي بالملازمة على الوجه الذي ذكرنا في
أدب القاضي ( وإن كان غريبا يلازمه مقدار مجلس القاضي ) لأن ملازمته أكثر من ذلك تضره
وتمنعه من سفره من غير حجة ، بخلاف المقيم إذ لا ضرر عليه في ذلك ، وهذا إذا كان حقا
لا يسقط بالشبهة ؛ أما الحدود والقصاص في النفس فلا يأخذ منه كفيلا ، وقالا : يأخذ منه
كفيلا في حد القذف وفي السرقة إن ادعى المال .
قال : ( ولا يستحلف في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب
والولاء والحدود ) وقالا : يستحلف فيها إلا الحدود واللعان ، وهذا بناء على أن النكول بذل
عنده ، والبذل لا يجري في هذه الأشياء إقرار عندهما ، والإقرار يجري فيها . لهما أن الناكل
ممتنع عن اليمين الكاذبة ظاهرا ، فيصير معترفا بالمدعي دلالة ، إلا أنه إقرار فيه شبهة ،
والحدود تندرئ بالشبهات ، واللعان في معنى الحدود . وله أنا لو اعتبرناه إقرار يكون كاذبا
في إنكاره والكذب حرام ، ولو جعلناه بذلا وإباحة لا يكون كاذبا فيجعل باذلا صيانة له عن
الحرام ، والمقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول ، فكل موضع لا يقضى فيه بالنكول لا
يستحلف ، ويستحلف في السرقة إن ادعى المال فيحلفه بالله ما له عليه هذا المال ولا شيء
منه ، فإن نكل ضمنه المال لثبوته مع الشبهة ، ولا يقطع لأن الحد لا يثبت مع الشبهة ،
ودعوى الاستيلاد أن تدعي الأمة أنها أم ولد سيدها ، وهذا ابنها منه والمولى ينكر ، أما لو
ادعى المولى لا يلتفت إلى إنكارها ، لأن الاستيلاد والنسب يثبت بمجرد قوله . واختار الفقيه
أبو الليث الفتوى على قولهما لعموم البلوى ، ثم عندهما كل نسب يثبت من غير دعوى المال
كالبنوة والزوجية والمملوكية يستحلف عليه ، وكل نسب لو أقر به لا يثبت إلا بدعوى المال
كالأخ والعم لا يستحلف إلا إذا ادعى بسببه مالا أو حقا كدعوى الإرث وعدم الرجوع في
الهبة ونحوه .
قال : ( ويستحلف في القصاص ) بالإجماع ( فإن نكل اقتص منه في الأطراف وفي
النفوس يحبس حتى يحلف أو يقر ) وقالا : يلزمه الأرش فيهما ، لأن النكول إقرار فيه شبهة(2/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
العدم فلا يثبت منه القصاص ، فيجب المال سيما إذا ادعى الولي العمد والآخر الخطأ .
ولأبي حنيفة أن الأطراف تجري مجرى الأموال فيجري فيها البذل حتى لو قال لغيره اقطع
يدي فقطعها لا شيء عليه ، وهذا دليل البذل ، إلا أنه لا يباح له القطع ، لأنه لا فائدة له فيه ،
والبذل هنا مفيد لانقطاع الخصومة ، ولا كذلك النفس فلا يجري فيها البذل ، وإذا امتنع
القصاص في النفس واليمين مستحقة عليه يحبس بها كما في القسامة . قال : ( وإن ادعت عليه
طلاقا قبل الدخول استحلف ) لأنه دعوى مال ( فإن نكل قضي عليه بنصف المهر ) لما مر ،
وكذا إذا ادعت الصداق في النكاح يستحلف لأنها دعوى مال ، ويثبت المال بالنكول دون
النكاح وقد مر .
( واليمين بالله تعالى لا غير ) قال عليه الصلاة والسلام : ' من كان حالفا فليحلف بالله أو
ليذر ' ( وتغلظ بأوصافه إن شاء القاضي ) وقيل يختلف ذلك باختلاف حال الحالف وصلاحه
وخوفه وقلة مبالاته وغير ذلك ، وقيل يختلف بكثرة المال وقلته ، وينبغي للقاضي أن يعظ
الحالف قبل الحلف ، ويعظم عنده حرمة اليمين ، ويتلو عليه قوله تعالى : ) إن الذين يشترون
بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ( [ آل عمران : 77 ] الآية ، ويذكر له قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ' من حلف على
يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ' وتغليظ اليمين أن
يقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ،
المدرك المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، الكبير المتعال ، ويزيد عليه ما
يشاء وينقص ( ويحتاط من التكرار ) بإدخال الحروف العاطفة بين هذه الأسماء ، فإن المستحق
عليه يمين واحدة ( ولا تغلظ بزمان ولا مكان ) لأن تعظيم المقسم به حاصل في كل زمان
ومكان وهو المقصود ، ولا يستحلف بالطلاق ولا بالعتاق للحديث . وقيل يحلف في زماننا
لقلة مبالاة الناس باليمين الكاذبة وكثرة إقدامهم على ذلك ، وكراهتهم اليمين بالطلاق
والعتاق ، لأن المقصود امتناعهم عن اليمين الكاذبة وجحود الحق ، وذلك فيما يعظمونه أكثر .
قال : ( ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، والنصراني بالله الذي
أنزل الإنجيل على عيسى ، والمجوسي بالله الذي خلق النار ) والأصل في ذلك ما روي(2/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حلف ابن صوريا اليهودي على حكم الزنا في التوراة فقال له : أنشدك بالله الذي
أنزل التوراة على موسى ' وإذا ثبت هذا في اليهودي فالنصراني مثله في الإنجيل ،
والمجوسي في النار ، لأن النصراني يعظم الإنجيل ، والمجوسي يعظم النار كتعظيم اليهودي
التوراة ، فيحلفهم بما يكون أعظم في صدورهم ، والمذكور في المجوسي قول محمد . أما
عندهما يحلف بالله لا غير ، لأن التغليظ بغير الله تعالى لا يجوز ، ولأن ذكر النار مع ذكر الله
تعالى تعظيم لها ، ولا يجوز ، إلا أن اليهودي والنصراني ورد فيهما نص خاص ، ولأن كتب
الله تعالى معظمة . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يحلف أحد إلا بالله خالصا ( و ) يحلف
( الوثني بالله ) لأنهم يعتقدون الله ، قال الله تعالى : ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض
ليقولن الله ( [ لقمان : 25 ] ولا يستحلف بالله الذي خلق الوثن والصنم لما مر ، ولو اقتصر
في الكل على قوله بالله فهو كاف ، لأن الزيادة للتأكيد كما قلنا في المسلم ، وإنما يغلظ
ليكون أعظم في قلوبهم ، فلا يتجاسرون على اليمين الكاذبة . قال : ( ولا يحلفون في بيوت
عباداتهم ) لأن الغرض اليمين بالله ، ولأن ذلك يشعر بتعظيمها ولا يجوز ، ولأن المسلم ممنوع
من دخولها . ويستحلف الأخرس فيقول له القاضي : عليك عهد الله إن كان لهذا عليك هذا
الحق ، ويشير الأخرس برأسه : أي نعم .
ثم الاستحلاف على نوعين : على العقود الشرعية والأفعال الحسية ، فالعقود الشرعية :
يحلفه القاضي على الحاصل بالله ما له قبلك ما ادعى من الحق ، ولا يحلفه على السبب وهو
العقد ، لأن العقد ربما انفسخ بالتفاسخ أو بالبراءة من موجبه بالإبراء والإيفاء فيتضرر بذلك
لأنه إن حلف كذب ، وإن لم يحلف قضي عليه بالنكول ، ولا كذلك إذا حلفه على الحاصل
لأنه إن كان محقا أمكنه الحلف فلا يتضرر ، وقيل إن أنكر المدعى عليه السبب حلف عليه ،
وإن أنكر الحكم حلف على الحاصل ، إلا أن يكون في ذلك ترك النظر للمدعي بأن يدعي
الشفعة بالجوار أو نفقة المبتوتة والمدعى عليه لا يراها ، فحينئذ يحلفه على السبب ، لأنه إذا
حلف على الحاصل فهو يعتقد صدق يمينه بناء على اعتقاده فيبطل حق المدعي ، فيحلفه بالله
ما اشتريت هذه الدار التي سماها بكذا ، وفي المبتوتة بالله ما هي معتدة منك ، ومثله إذا(2/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
ادعت الفرقة بمضي مدة الإيلاء يحلفه بالله ما آلى منها في وقت كذا ولا يحلفه بالله ما هي
بائن منك لأنه لا يرى ذلك . وعن أبي يوسف أنه يحلفه على العقد إلا إذا ذكر شيئا مما
ذكرنا فيحلفه على الحاصل . والأفعال الحسية نوعان : أحدها يستحلف على الحاصل أيضا
كالغصب والسرقة . والثاني يحلفه على السبب على ما نبينه في أثناء المسائل إن شاء الله
تعالى .
( فيحلفه في البيع بالله ما بينكما بيع قائم فيما ذكر ، وفي النكاح ما بينكما نكاح قائم
في الحال ) لأنه قد يطلقها أو يخالعها بعد العقد ( وفي الطلاق ما هي بائن منك الساعة ، وفي
الوديعة ماله هذا الذي ادعاه في يدك وديعة ولا شيء منه ، ولا له قبلك حق ) لجواز أن يكون
قد برئ من بعضها أو استهلكها ، وفي الغصب والسرقة إن كانت العين قائمة بالله ما يستحق
عليك رده لأنه قد يغصبه ثم يملكه ببيع أو هبة ، وإن كانت هالكة يستحلف على قيمتها ،
وقيل يحلف على الثوب والقيمة جميعا . والنوع الثاني من الأفعال الحسية أن يدعي على
غيره أنه وضع على حائطه خشبة ، أو بنى عليه ، أو أجرى ميزابا على سطحه أو في داره ، أو
رمى ترابا في أرضه ، أو شق في أرضه نهرا ، فإنه يحلف على السبب بالله ما فعلت كذا لأن
هذه الأشياء لا ترتفع ، ومثله إذا ادعى العبد المسلم على مولاه العتق يحلف على السبب لأنه
لا يرتفع ، وفي الأمة والعبد الكافر يحلفه على الحاصل ، لأن الرق يتكرر على الأمة بالردة
واللحاق ، وعلى العبد الكافر بنقض العهد واللحاق ولا كذلك المسلم ، ويحلفه في الدين
بالله ما له عليك من الدين والقرض عليك ولا كثير ، لاحتمال أنه أدى البعض أو أبرأه منه فلا
يحنث في يمينه على الجميع ، ومن افتدى يمينه من خصمه بمال صالحه عليه جاز وسقط
حقه في الاستخلاف أصلا . وقد روي أن عثمان رضي الله عنه افتدى يمينه وقال : أخاف أن
يصيب الناس بلاء فيقولون هذا بيمين عثمان .
قال : ( وإذا قال المدعى عليه هذا الشيء أودعنيه فلان الغائب أو رهنه عندي أو غصبته
منه أو أعارني أو آجرني وأقام على ذلك بينة فلا خصومة إلا أن يكون محتالا ) ولا بد من
إقامة البينة على دعواه لدفع الخصومة لأن بالنظر إلى كونه في يده هو خصم ثم هو بإقراره
يريد دفع الخصومة عنه فلا تقبل إلا ببينة . وقوله إلا أن يكون محتالا قول أبي يوسف فإنه
قال : إن كان المدعى عليه معروفا بالصلاح فالجواب كما ذكرنا ، وإن كان معروفا بالحيل لا
يندفع ، لأن المحتال قد يدفع ماله إلى غيره ، ثم ذلك الغير يودعه إياه ، ويسافر احتيالا لدفع
الحق ، فإذا عرفه القاضي بذلك لا يقبله .(2/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
( وإذا قال الشهود أودعه رجل لا نعرفه لم تندفع الخصومة ) لاحتمال أنه المدعي ولو
قالوا نعرفه بوجه ولا نعرف اسمه ونسبه اندفعت عند أبي حنيفة . وقال محمد : لا تندفع لأن
القضاء بالمجهول باطل ، لأن المدعي لا يمكنه اتباعه فيتضرر ، وصار كالفصل الأول . ولأبي
حنيفة أن اليد تدل على الملك وتوجب الخصومة ، فإن أثبت بالبينة كونه مودعا اندفعت
الخصومة عنه ، إلا أنهم إذا لم يعرفوه بوجهه احتمل أنه المدعي فلا تندفع ، وإذا عرفوه
بوجهه ثبت أنه مودع من غير المدعي فاندفعت الخصومة ، كما إذا عاين القاضي أنه أودعه
غير المدعي ، إذ البينة العادلة كمعاينة القاضي ، فإن قال المدعي أودعها ثم أوهبها منك ونكر
يستحلفه القاضي أنه ما وهبها منه ولا باعها له ، فإن نكل صار خصما ، ولو ادعى المدعى
عليه أنه اشتراها من آخر فهو خصمه لأنه أقر أن يده يد ملك فكان خصما ، ولو قال المدعى
عليه نصف الدار لي ونصفها وديعة فلان وأقام البينة على ذلك اندفعت الخصومة في الكل
لتعذر التمييز .
فصل
( بينة الخارج أولى من بينة ذي اليد على مطلق الملك ) لأنها أكثر إثباتا لأنها تثبت
الملك للخارج وبينة ذي اليد لا ، لأن الملك ثابت له باليد ، وإذا كانت أكثر إثباتا كانت
أقوى . قال : ( وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ ، وذو اليد على ملك أسبق منه تاريخا
فذو اليد أولى ) لأن بينته تثبت الملك له وقت التاريخ ، والخارج لا يدعيه في ذلك الوقت ،
وإذا ثبت الملك له ذلك الوقت فلا يثبت بعد ذلك لغيره إلا بالتلقي منه ، إذ الأصل في
الثابت دوامه ، وكذا لو كانت في أيديهما وأقاما البينة على ما ذكرنا .
( ولو أقاما البينة على النتاج أو على نسج ثوب لا يتكرر نسجه فبينة ذي اليد أولى ) لأن
ما قامت عليه بينة لا تدل عليه اليد فتعارضتا فترجحت بينة ذي اليد باليد ، وكذا كل سبب لا
يتكرر كغزل القطن وعمل الجبن واللبد وجز الصوف وحلب اللبن لأنه في معنى النتاج ، وإن
كانت يتكرر كالبناء وزرع الحبوب و نسج الخز ونحوه فبينة الخارج أولى كما في الملك
المطلق ، وإن أشكل قضي للخارج ، وإن تنازعا في دابة وأقاما البينة على النتاج وأرخا فمن
وافقه سن الدابة فهو أولى ، وإن أشكل فهي بينهما لعدل الأولوية ، وإن خالف سن الدابة
التاريخين تهاترتا وتركت في يد من كانت في يده .(2/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
قال : ( وإن أقام كل واحد البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ لهما تهاترتا ) قال
محمد : يقضى للخارج لأنه أمكن العمل بالبينتين بأن باعه الخارج وقبض ثم باعه ذو اليد
ولم يقبض ، ولا ينعكس لعدم جواز البيع قبل القبض وإن كان عقارا عنده ، والعمل بالبينتين
واجب ما أمكن ، لأن البينة من الدلائل الشرعية ، وإن ذكرت البينتان القبض عمل بهما
ويكون لذي اليد ، ويجعل كأنه من باع من الخارج وقبضها الخارج ، ثم باعها من ذي اليد
وقبضها ذو اليد عملا بالبينتين . ولهما أن شراء كل واحد من الآخر اعتراف بكون الملك له ،
فكأن البينتين قامتا على الاعترافين وإنه موجب للتهاتر ، لأنه لا يتصور أن يكون كل واحد
بائعا ومشتريا في حالة واحدة ، ولا دلالة على السبق ولا ترجيح فيتعذر القضاء أصلا ، ثم
هذا شيء بناه على أصله ، فإن عندهما يجوز بيع العقار قبل القبض ، فجاز أن يكون الخارج
اشتراه أولا ثم باعه قبل القبض لذي اليد فيكون لذي اليد ومع الاحتمال لا يثبت الملك
وإن وقتا ، فإن كان الخارج أولا قضى بهما ويكون لذي اليد ، وإن كان ذو اليد أولا قضى
بهما أيضا والملك للخارج بالإجماع .
قال : ( وإن ادعيا نكاح امرأة وأقاما البينة لم يقض لواحد منهما ) لتعذر الاشتراك في
النكاح ويرجح إلى تصديقها ، فمن صدقته كان زوجها ، لأن النكاح يثبت بتصادق الزوجين
( وإن وقتا فهي للأول ) منهما لأنه ثبت في وقت لا منازع له فيه فترجحت على الثانية . قال :
( وإن ادعيا عينا في يد ثالث وأقام كل واحد منهما البينة أنها له قضى بها بينهما ) لاستوائهما
في السبب ( وإن ادعى كل واحد منهما الشراء من صاحب اليد وأقام البينة ، فإن شاء كل
واحد منهما أخذ نصف العبد ) بنصف الثمن لاستوائهما في السبب ( وإن شاء ترك ) لوجود
العيب بالشركة ( فإن ترك أحدهما فليس للآخر أخذ جميعه ) لأن بيع الكل انفسخ بقضاء
القاضي بالنصف حتى لو فعل ذلك قبل القضاء جاز لأنه لم ينفسخ بيعه في الكل ( وإن وقتا
فهو للأول ) لما بينا ( وإن وقت أحدهما أو كان معه قبض فهو أولى ) أما الوقت فلأنه ثبت
ملكه فيه ووقع الشك في ملك الآخر فيه فلا يثبت بالشك ، وأما القبض فلأنهما استويا في
الإثبات فلا تنقض اليد الثانية بالشك ، ولأن القبض دليل تقدم شرائه فكان أولى .
قال : ( وإن ادعى أحدهما شراء ، والآخر هبة وقبضا ، أو صدقة وقبضا ولا تاريخ(2/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
لهما فالشراء أولى ) لأنه يثبت نفسه ، والهبة والصدقة تفتقر إلى القبض فكان أسرع ثبوتا
فكان أولى ، وإن ادعى أحدهما بيعا والآخر رهنا فالبيع أولى ، لأن البيع يثبت الملك حقيقة
في الحال ، والرهن إنما يثبته عند الهلاك تقديرا ، وكذا الهبة بعوض أولى من الرهن لما بينا
( وإن ادعى الشراء وادعت أنه تزوجها عليه فهما سواء ) عند أبي يوسف لأنهما عقدا
معاوضة يثبت الملك فيها بنفس العقد ، ثم ترجع على الزوج بنصف القيمة . وقال محمد :
الشراء أولى ، وعلى الزوج القيمة عملا بالبينتين بتقديم الشراء ، لأن التزويج على ملك الغير
جائز ، ثم ترد القيمة عند تعذر التسليم . قال : ( وإن أقام الخارجان البينة على الملك
والتاريخ ، أو على الشراء من واحد أو من اثنين ) غير ذي اليد ( فأولهما أولى ، وإن أرخ
أحدهما فهو له ) وقد مر .
قال : ( وإن تنازعا في دابة أحدهما راكبها أوله عليها حمل فهو أولى ) لأنه تصرف أظهر
وأدل على الملك ( وكذلك إن كان راكبا في السرج والآخر رديفه ، أو لابس القميص والآخر
متعلق به ) لما ذكرنا ، ولو كانا راكبين في السرج فهي بينهما لاستوائهما .
سفينة فيها راكب ، والآخر متمسك بسكانها وأخر يجدف فيها ، وآخر يمدها ، فهي
بينهم إلا المداد لا شيء له . عبد لرجل موسر على عنقه بدرة فيها عشرة آلاف درهم في دار
رجل معسر لا شيء له ، فادعيا البدرة ، قال محمد : هي للموسر بشهادة الظاهر . وعن
محمد : قطار إبل على البعير الأول راكب ، وعلى الوسط راكب ، وعلى آخرها راكب ،
فادعى كل واحد منهم القطار ، فلكل واحد البعير الذي هو راكبه لأنه في يده وتصرفه ، وما
بين الأول والأوسط للأول لأنه قائد والقيادة تصرف ، وما بين الأوسط والأخير بين الأول
والأوسط نصفان لاستوائهما في التصرف ، وليس للأخير إلا ما ركبه ( وببينة النتاج والنسج
أولى من بينة مطلق الملك ) ، لأنها تثبت أولية الملك فلا تثبت لغيره إلا بالتلقي منه . قال :
( والبينة بشاهدين وبثلاث وأكثر سواء ) لأن الشرع جعل الكل سواء في إثبات الحق وإلزام
القاضي الحكم عند الانفراد فيستويان عند الاجتماع ، وكذا إذا كانت إحدى البينتين أعدل ،
لأن الشرط أصل العدالة وقد استويا فيه ، ولا اعتبار بما زاد لأنه لا ضابط له .(2/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
فصل
( اختلفا في الثمن أو المبيع فأيهما أقام البينة فهو أولى ) لأن كل واحد منهما مدع وقد
ترجحت دعواه بالبينة ( وإن أقاما البينة فالمثبتة للزيادة أولى ) لأن البيانات للإثبات ، فمهما
كانت أكثر إثباتا كانت أقوى فتترجح على الأخرى ، وإن كان الاختلاف في الثمن والبيع
جميعا فبينة البائع في الثمن أولى لأنها أكثر إثباتا ، وبينة المشتري في المبيع أولى لأنها أكثر
إثباتا ( فإن لم تكن لهما بينة يقال للبائع : إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من البيع وإلا
فسخنا البيع ؛ ويقال للمشتري : إما أن تسلم ما ادعاه البائع من الثمن وإلا فسخنا البيع )
لأنهما قد لا يختاران الفسخ ، فإذا علما بذلك تراضيا ، فترتفع المنازعة وهو المقصود ( فإن
لم يتراضيا يتحالفان ويفسخ البيع ) ويحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى صاحبه .
قال عليه الصلاة والسلام : ' إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا ' فيحلف
البائع بالله ما باعه بألف كما يدعيه المشتري ، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين كما
ادعاه البائع ، فإذا تحالفا قال لهما القاضي : ما تريدان ؟ فإن لم يطلبا الفسخ تركهما حتى
يصطلحا على شيء ، وإن طلبا الفسخ أو أحدهما فسخ ، لأنه لما لم يتعين الثمن ولا المبيع
صار مجهولا فيفسخ قطعا للمنازعة ، ولا ينفسخ بنفس التحالف حتى يتفاسخا أو يفسخ
القاضي .
قال : ( ويبدأ بيمين البائع ) في قول أبي يوسف الأول ، وهو رواية عن أبي حنيفة .
قال عليه الصلاة والسلام : ' إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع ' وأقل فائدته
تقديم قوله . وقوله الآخر وهو قول محمد ، ورواية عن أبي حنيفة يبدأ بيمين المشتري ،
لأن البائع يطالبه بتسليم الثمن أولا وهو ينكر ، وهو لا يطالب البائع بتسليم المبيع
للحال .
قال : ( ولو كان البيع مقايضة ) أو صرفا ( بدأ بأيهما شاء ) لاستوائهما في الإنكار ؛ ولو
اختلفا في الثمن والمبيع جميعا يبدأ بيمين من بدأ الدعوى ، لأنهما استويا في الإنكار(2/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
فيترجح بالبداية وإن ادعيا معا يبدأ القاضي بأيهما شاء ، وإن شاء أقرع بينهما ؛ ولو اختلفا
في جنس العقد فقال أحدهما بيع وقال الآخر هبة ، أو في جنس الثمن فقال أحدهما
دراهم ، والآخر دنانير يتحالفان عند محمد وهو المختار ، لأن وصف الثمن وجنسه بمنزلة
القدر لأن الثمن دين ، وإنما يعرف بجنسه ووصفه ، ولا وجود له بدونهما ، ولا كذلك
الأجل ، فإنه ليس بوصف ، لأن الثمن يبقى بعد مضيه وقالا : لا يتحالفان ، لأن نص
التحالف ورد على خلاف القياس فيقتصر على مورده وهو الاختلاف في المبيع أو الثمن ،
وجوابه ما مر . قال : ( ومن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه ) لما تقدم في القضاء
بالنكول .
قال : ( وإن اختلفا في الأجل أو شرط الخيار ، أو استيفاء بعض الثمن لم يتحالفا )
لأنه اختلاف في غير المعقود عليه ، لأن العقد لا يختل بعدمه ، بخلاف الاختلاف في
القدر لأنه لا بقاء للعقد بدونه ( والقول قول المنكر ) لأنه ينكر الشرط فكان القول قوله .
قال : ( وإن اختلفا بعد هلاك المبيع لم يتحالفا ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( والقول قول
المشتري ) لأنه منكر . وقال محمد : يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك ، وعلى هذا
إذا خرج المبيع عن ملك المشتري أو صار بحال يمنع الفسخ بأن ازداد زيادة متصلة أو
منفصلة . لمحمد أن كل واحد منهما يدعي عقدا غير ما يدعيه الآخر وصاحبه ينكر
فيتحالفان كما إذا كانت قائمة لأن القيمة بمنزلة العين عند عدمها . ولهما أن اليمين حجة
المنكر حقيقة بالنص والبائع ليس بمنكر لأن المشتري ليس بمدع ، لأن السلعة سلمت له
ملكا ويدا ، وإذا لم يكن البائع منكرا لا يمين عليه ، والشرع ورد به حال قيام العين
لفائدة الفسخ ، ولا فسخ بعدها لعدم بقاء العقد ، وأيهما أقام البينة قضى بها ، وإن أقاما
فبينة البائع ، وإن ماتا أو أحدهما واختلفت الورثة فلا تحالف لأنهما ليسا متبايعين فلا
يتناولهما النص .
قال : ( وإن اختلفا بعد هلاك بعض المبيع لم يتحالفا إلا أن يرضى البائع بترك حصة
الهالك ) وقال أبو يوسف : يتحالفان في الحي وينفسخ البيع فيه ، والقول في قيمة الهالك قول
المشتري . وقال محمد : يتحالفان عليهما وينفسخ البيع في الحي وقيمة الهالك وعلى هذا إذا
انتقص أو جنى عليه المشتري أو باع المشتري أحد العبدين . لمحمد أن هلاك السلعة لا يمنع
التحالف عنده لما مر ، فهلاك البعض أولى . ولأبي يوسف أن المبيع إذا كان قائما يتحالفان ،(2/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
وإن كان هالكا لا يتحالفان ، فإذا هلك نصفه وبقي نصفه يعطى كل نصف حكمه . ولأبي
حنيفة أن النص ورد حال قيام السلعة ، بخلاف القياس فلا يقاس عليه غيره ، إلا أنه إذا رضي
بترك حصة الهالك يصير الهالك كأن لم يكن وكأن العقد لم يرد إلا على الباقي ؛ ومن
المشايخ من قال على قول أبي حنيفة يأخذ من ثمن الهالك ما أقر به المشتري دون الزيادة .
وذكر محمد في الجامع قول أبي يوسف مع قوله وهو الصحيح ، فيحلف المشتري بالله ما
اشتريتهما بألفين ، فإن نكل لزمه ، وإن حلف يحلف البائع ما بعتهما بألف ، فإن حلف يفسد
العقد في القائم ويرد المشتري حصة الهالك من الثمن الذي أقر به ، ويقسم الثمن على قدر
قيمتهما يوم القبض ؛ وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض فالقول للبائع لأنه ينكر زيادة
السقوط بعد اتفاقهما على الثمن ، وأيهما أقام البينة قبلت ، وإن أقاما فبينة البائع لأنها أكثر
إثباتا لأنها تثبت الزيادة في قيمة الهالك .
قال : ( وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء شيء من المنفعة في البدل أو في المبدل
يتحالفان ويترادان ) لأن الإجارة قبل استيفاء المنفعة نظير المبيع قبل القبض ؛ فإن اختلفا في
الأجرة بدئ بيمين المستأجر لأنه منكر ، وإن اختلفا في المنفعة بدئ بيمين المؤجر ، وأنهما
أقاما البينة قبلت ؛ وإن أقاما فبينة المستأجر إن كان الاختلاف في المنفعة ، وإن كان في الأجر
فبينة الآجر ، وإن كان فيهما قضى بالبينتين ، كما إذا قال أحدهما شهرا بعشرة ، والآخر
شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشر ( وإن اختلفا بعد استيفاء جميع المنفعة لم يتحالفا )
بالإجماع ( والقول للمستأجر ) لأنه منكر ، وهذا على قولهما ظاهر . وأما على قول محمد فهو
إنما يفسخ في الهالك فريد القيمة ، والهالك هنا لا قيمة له على تقدير الفسخ ، لأن المنافع لا
تتقوم بنفسها بل بالعقد ، فلو تحالفا وفسخ العقد تبين أنه لا عقد فيرجع على موضوعه
بالنقض ( وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المنافع يتحالفان ، ويفسخ العقد فيما بقي والقول فيما
مضى قول المستأجر ) لأن الإجارة عندنا تنعقد شيئا فشيئا ، فما مضى صار كالهالك وما بقي
لم ينعقد ، بخلاف البيع فإنه ينعقد جملة واحدة .
قال : ( وإن اختلفا بعد الإقالة تحالفا وعاد البيع ) ومعناه : اختلفا قبل القبض ؛ أما إذا
قبض البائع المبيع بعد الإقالة ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا
لمحمد ، وهذا على قول من يقول : إن الإقالة بيع لا إشكال إنما الإشكال على أنها فسخ ،
إلا أنا نقول إنما أثبتنا التحالف فيها قبل القبض ، لأن القياس يوافقه ، لأن البائع يدعي زيادة(2/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
الثمن ، والمشتري ينكره ، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره ، فكل
واحد منهما منكر فيحلف ، فكان التحالف على مقتضى القياس قبل القبض ، فأثبتنا التحالف
قبل القبض بالقياس لا بالنص ، ولا كذلك بعد القبض ، فإنه على خلاف القياس ، لأن المبيع
يسلم للمشتري ، فلا يدعي شيئا فلا يكون البائع منكرا .
قال : ( وإن اختلفا في المهر فأيهما أقام البينة قبلت ، وإن أقاما فبينة المرأة ) لأنها أكثر
إثباتا ( فإن لم يكن لهما بينة تحالفا ، فأيهما نكل قضي عليه ؛ وإذا تحالفا ) لا بفسح النكاح ،
لأن أثر التحالف في انعدام التسمية ، وذلك لا يمنع صحة النكاح بدليل صحته بدون
التسمية ، بخلاف البيع على ما عرف ، لكن ( يحكم مهر المثل ، فإن كان مثل ما قالت أو
أكثر قضي بقولها ) لأن الظاهر شاهد لها ( وإن كان مثل ما قال أو أقل قضي بقوله ، وإن
كان أقل مما قالت وأكثر مما قال قضي بمهر المثل ) لأنه لم تثبت الزيادة على مهر المثل
نظرا إلى يمينه ، ولا الحطيطة منه نظرا إلى يمينها ، فإذا سقطت التسمية بالتحالف اعتبر مهر
المثل كما إذا لم توجد التسمية حقيقة ، ويبدأ بيمين الزوج كما في المشتري لأنه منكر ،
وإن طلقها قبل الدخول بها ثم اختلفا فالقول قوله في نصف المهر ؛ وذكر في الجامع
الكبير بحكم متعة مثلها وهو قياس قولهما . وقال أبو يوسف : القول قول الزوج قبل
الطلاق وبعده ، إلا أن يأتي بشيء يسير يكذبه الظاهر ، وهو ما لا يصح مهرا لها ، وقيل ما
دون العشرة ، والأول أحسن . ولهما أن الظاهر يشهد لمن يشهد له مهر المثل نظرا إلى
المعتاد وإلى إنكار الأولياء وتعبيرهم بدون ذلك ، والقول في الدعوى قول من يشهد له
الظاهر فيصار إليه .
قال : ( وإن اختلفا في متاع البيت فما يصلح للنساء ) كالمقنعة والدولاب
وأشباهه ( فللمرأة ) بشهادة الظاهر ( وما يصلح للرجال ) كالعمامة والقلنسوة ونحوه
( فللرجل ) وما يصلح لهما كالأواني والبسط ونحوهما فللرجل أيضا ، لأن المرأة والبيت
في يد الرجل ، فكانت اليد شاهدة بالملك ، لأن الملك باليد لا أنه عارضه ما هو
أقوى منه وهو ما يختص بها ( وإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر فما يصلح(2/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
لهما فللباقي ) لأن اليد للحي لا للميت . وقال محمد : ما يصلح لهما لورثة الزوج بعد موته
لقيامهم مقامه ، وسواء اختلفا حالة قيام النكاح أو بعد الفرقة . وقال أبو يوسف : يدفع إلى
المرأة ما يجهز به مثلها والباقي للزوج مع يمينه ، لأن الظاهر أنها تأتي بالجهاز وهذا أقوى
من ظاهر الزوج فيبطله ، وما وراءه لا يعارض يد الزوج فيكون له ، والطلاق والموت سواء ،
لأن الورثة تقوم مقامه ، وإن كان أحد الزوجين مملوكا فالكل للحر حالة الحياة ، لأن يده
أقوى ، وللحي بعد الموت لأنه لا معارض ليده . وقال أبو يوسف ومحمد : المأذون
والمكاتب بمنزلة الحر لأن لهما يدا في الخصومات وغيرها .
قال : ( وإن اختلفا في قدر الكتابة لم يتحالفا ) وقالا : يتحالفان وتفسخ الكتابة لأنه عقد
معاوضة ، والمولى يدعي بدلا زائدا والمكاتب ينكر ، والمكاتب يدعي استحقاق العبد عند
أداء ما يدعيه من القدر والمولى ينكره فيتحالفان كالبيع . ولأبي حنيفة أن البدل مقابل في
الحال بفك الحجر وهو سالم للعبد ، وإنما يصير مقابلا للعتق عند الأداء ، فكان اختلافا في
قدر البدل لا غير فلا يتحالفان ، ويكون القول للمكاتب لأنه منكر للزيادة .
فصل في دعوى النسب
اعلم أن الدعوى ثلاثة : دعوة استيلاد ، ودعوة حرير وهي دعوة الملك ودعوة شبهة
الملك ؛ فالأولى أن يدعي نسب ولد علق في ملكه يقينا كما إذا جاءت به لأقل من ستة
أشهر ، ويصح في الملك وغير الملك كما إذا باعه ، ويستند إلى وقت العلوق احتيالا لثبوت
النسب تصحيحا لدعواه ، ويوجب فسخ ما جرى من العقود كبيعه أم الولد إن كان الولد محلا
للنسب ، ويجعل معترفا بالوطء من وقت العلوق ، وأمومية الولد لا تتبع النسب ، لأن
المقصود ثبوت النسب لا أمومية الولد وهو تبع له ، ألا ترى أنها تضاف إليه فيقال أم ولده ،
وتستفيد العتق من جهته ، قال عليه الصلاة والسلام : ' أعتقها ولدها ' ولهذا ثبتت له حقيقة
الحرية لها حق الحرية . والثانية أن يدعي نسب ولد علق في غير ملكه فيصح في الملك
خاصة ، ولا يجب فسخ العقد ويعتق إن أمكن وإلا فلا . والثالثة أن يدعي ولد جارية ولده ،
فيصح بناء على ولايته على ولده من وقت العلوق إلى وقت الدعوة ، شرط صحة هذه الدعوة
قيام ولاية تملك الجارية من وقت العلوق إلى وقت الدعوة لأنه يتملكها بالاستيلاد مقتضى
للوطء السابق ، ثم الأولى أولى لأنها تستند إلى وقت العلوق ، والثانية تقتصر على الحال ،(2/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
والثانية أولى من الثالثة ، لأن التحرير متى صح من الابن بطلت ولاية الأب للتمليك لفوات
الشرط .
جئنا إلى مسائل الكتاب . قال : ( ولو باع جارية فولدت لأقل من ستة أشهر فادعاه فهو ابنه وهي
أم ولده ، ويفسخ البيع ويرد الثمن ) وهذا استحسان ، والقياس أن دعواه باطلة لوجود التناقض ، لأن
بيعه دليل عبودية الولد . ووجه الاستحسان أن العلوق حصل في ملكه يقينا ، والظاهر عدم الزنا
فيكون منه ، ومبنى العلوق على الخفاء فلا تناقض فصحت دعواه ، فيستند إلى وقت العلوق ويفسخ
البيع لما بينا ويرد الثمن لأنه مقتضى فسخ البيع .
( ولا تقبل دعوة المشتري معه ) لسبقها ، لأنها تستند إلى وقت العلوق ولا كذلك دعوة
المشتري . قال : ( فإن مات الولد ثم ادعاه ) يعني البائع ( لا يثبت الاستيلاد فيها ، فإن ماتت
الأم ثم ادعاه يثبت نسبه ) لما تقدم أن أمومية الولد تبع للنسب . قال : ( ويرد كل الثمن )
وقالا : يرد حصة الولد خاصة بناء على أن أم الولد غير متقومة في العقد والغصب عنده
وعندهما متقومة فيضمنها ، وكذا لو ادعاه بعدما أعتقه المشتري لا يصح وبعد إعتاقها يصح ،
لأن الامتناع في الأم لا يوجب الامتناع في الولد كولد المغرور المستولد بالنكاح ، ولا كذلك
بالعكس ؛ وإذا صحت الدعوة بعد إعتاقها ثبت النسب وفسخ العقد ورد الثمن على ما مر ،
وإنما كان إعتاق الولد مانعا لأن العتق لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب فاستويا ، ولأن
الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق ، والثابت للبائع حق الدعوة في الولد وفي الأم حق الحرية
فلا يعارض الحقيقة ، فعلى هذا لو ادعاه المشتري أولا لا يصح دعوى البائع بعده ، لأن دعوة
المشتري دعوة تحرير فصار كما إذا أعتقه ، والتدبير كالعتق لأنه لا يحتمل النقض .
قال : ( وإن جاءت به ما بين ستة أشهر إلى سنتين فإن صدقه المشتري ثبت النسب
وفسخ البيع وإلا فلا ) لاحتمال العلوق في ملكه فلم يوجد اليقين فيتوقف على تصديق
المشتري ، فإذا صدقه ثبت النسب ، لأن الحق لهما فيثبت بتصادقهما إذا أمكن ، والولد حر
والجارية أم ولد كما مر ، وإذا ادعياه فدعوة المشتري أولى لقيام ملكه واحتمال العلوق فيه .
قال : ( وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا تصح دعوة البائع ) للتيقن بعدم العلوق في ملكه ،(2/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
لكن إذا صدقه المشتري ثبت النسب ، ويحمل على الاستيلاد بالنكاح لتصادقهما حملا لأمره
على الصلاح .
( ولا يفسخ البيع ولا يعتق الولد ولا تصير أم ولد له ) ووجهه ظاهر ، وإن لم تعلم مدة
الولادة بعد البيع لا تصح دعوة البائع إلا بتصديق المشتري لوقوع الشك في وقت العلوق
وتصح دعوة المشتري لأنه ينكر فسخ البيع ، ولا حجة للبائع ، وإن ادعياه لا تصح واحدة
منهما للشك ، والمسلم والذمي والحربي والمكاتب في ذلك سواء ، وإن ادعى البائع قبل
الولادة فهو موقوف ، فإن ولد حيا صحت وإلا فلا ، ولو اشتراها حبلى ثم باعها لا تصح
دعواه ، وإن اختلفا فالقول للبائع لأنه المتمكن من وطئها ؛ وإن حبلت أمة في ملك رجل
فباعها وتداولتها الأيدي ثم رجعت إلى الأول فولدت في يده وادعاه ثبت نسبه منه وبطلت
البيوع كلها وتراجعوا الأثمان لما بينا ، ولو لم يكن أصل الحمل عنده لم تبطل العقود .
قال : ( ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه ) لأنهما خلقا من ماء واحد لأنه
اسم لولدين ولدا ليس بينهما ستة اشهر فاستحال انعلاق الثاني من ماء آخر ، فإذا ثبت نسب
أحدهما ثبت نسب الآخر ، ويبطل ما جرى فيه من العقود من بيع وعتق وغير ذلك .
فصل
كل قولين متناقضين صدرا من المدعي عند الحكم إن أمكن التوفيق بينهما قبلت
الدعوى صيانة لكلامه عن اللغو نظرا إلى عقله ودينه ، وإن تعذر التوفيق بينهما لم تقبل ، كما
إذا صدر من الشهود ، وكل ما أثر في قدح الشهادة أثر في منع استماع الدعوى . قال أبو
حنيفة : إذا قال المدعي ليس لي بينة على دعوى هذا الحق ثم أقام البينة عليه لم تقبل لأنه
أكذب بنيته ، وعن محمد أنها تقبل لأنه يجوز أنه نسيها ؛ ولو قال : ليس لي على فلان شهادة
ثم شهد له لم تقبل ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل شهادته لاحتمال النسيان أيضا .
وروى ابن رستم عن محمد : إذا قال لا شهادة لفلان عندي في حق بعينه ثم جاء وشهد له
قبلت لأنه يقول نسيت ، ولو قال : لا أعلم لي حقا ، أو لا أعلم لي حجة ثم ادعى حقا أو
جاء بحجة قبلت ، ولو قال : ليس لي حق لا تقبل ، ولو قال : ليس لي حجة قبلت لاحتمال
الخفاء في البينة دون الحق .
وروى ابن سماعة عن محمد : لو قال هذه الدار ليست لي ثم أقام البينة أنها لي قضي
له بها لأنه لم يثبت بذلك حقا لأحد فكان ساقطا ، ألا ترى أن الملاعن إذا ادعى نسب الولد
صح لما أنه لم يثبت النسب من غيره باللعان ؟ . وروى هشام عن محمد : لو قال لا حق لي
بالري في دار ولا أرض ثم أقام البينة على ذلك في إنسان بالري قبلت ، ولو عين فقال :(2/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
لا حق لي بالري في رستاق كذا في يد فلان ، ثم أقام البينة لم تقبل إلا أن تقوم البينة أنه
أخذه منه بعد الإقرار ، ولو قال الرجل : ادفع إليّ هذه الدار أسكنها ، أو هذا الثوب ألبسه
ونحو ذلك فأبى ثم ادعى السائل ذلك صح ، لأنه يقول : إنما طلبتها بطريق الملك لا
بالعارية . وفي الفتاوى : باع عقارا وابنه أو زوجته حاضر وتصرف المشتري فيه ثم ادعى الابن
أنه ملكه ولم يكن لأبيه اتفق مشايخنا أنه لا تسمع مثل هذه الدعوى وهو تلبيس محض ،
وحضوره عند البيع وترك المنازعة إقرار منه أنه ملك البائع ، وجعل سكوته في هذه الحالة
كالإيضاح بالإقرار قطعا للأطماع الفاسدة لأهل العصر في الإضرار بالناس ، ولو باع ضيعة ثم
ادعى أنها كانت وقفا عليه لا تسمع للتناقض ، لأن الإقدام على البيع إقرار بالملك ، وليس له
تحليف المدعى عليه ، ولو أقام البينة ، قيل تقبل لأن الشهادة على الوقف تقبل من غير دعوة
وينقض البيع ، وقيل لا تقبل ههنا لأنها تثبت فساد البيع وحقا لنفسه فلا تسمع للتناقض ، ولو
رد الجارية بعيب فأنكر البائع البيع فأقام المشتري البينة على الشراء وأقام البائع أنه قد برأ إليه
من العيب لم تقبل ، لأن جحوده البيع إنكار للبراءة فيكون مكذبا شهوده ، ولو أنكر النكاح ثم
ادعاه قبلت بينته على ذلك ، وفي البيع لا تقبل ، لأن البيع انفسخ بالإنكار والنكاح لا ، ألا
ترى أنه لو ادعى تزويجا على ألف فأنكرت فأقامت البينة على ألفين قبلت ، ولا يكون
إنكارها تكذيبا للشهود ؟ وفي البيع لا تقبل ويكون تكذيبا للشهود .(2/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
كتاب الإقرار
وهو في الأصل : التسكين والإثبات ، والقرار : السكون والثبات ، يقال : قر فلان
بالمنزل إذا سكن وثبت ، وقررت عنده كذا : أي أثبته عنده ، وقرار الوادي : مطمئنه الذي
يثبت فيه الماء ، ويقال : استمر الأمر على كذا : أي ثبت عليه ، وسميت أيام منى أيام القرّ
لأنهم يثبتون بها ويسكنون عن سفرهم وحركتهم هذه الأيام ، ومنه الدعاء : أقرّ الله عينه إذا
أعطاه ما يكفيه فسكنت نفسه ولا تطمح إلى شيء آخر . وفي الشرع : اعتراف صادر من المقر
يظهر به حق ثابت فيسكن قلب المقر له إلى ذلك ، وهو حجة شرعية ، دل على ذلك الكتاب
والسنة والإجماع وضرب من المعقول . أما الكتاب فقوله تعالى : ) كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله ولو على أنفسكم ( [ النساء : 135 ] والشهادة على النفس إقرار ، فلولا أن الإقرار
حجة لما أمر به ، وقوله تعالى : ) وليملل الذي عليه الحق ( [ البقرة : 282 ] وأنه إقرار على
نفسه .
والسنة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف ' واغد أنت يا أنيس إلى امرأة هذا
فإن اعترفت فارجمها ' ورجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ماعزا والغامدية بالإقرار ، وعليه الإجماع ،
ولأنه خبر صدر عن صدق لعدم التهمة ، إذ المال محبوب طبعا فلا يكذب في الإقرار به(2/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
لغيره وهو حجة مظهرة للحق ملزمة للحال ، حتى لو أقر بدين أو عين على أنه بالخيار ثلاثة
أيام لزم المال وبطل الخيار وإن صدقه المقر له في الخيار لأن الخيار للفسخ ، وهو لا يحتمل
الفسخ لأنه إخبار والفسخ يرد على العقود ، ولأن حكمه ظهور الحق وهو لا يحتمل الفسخ ،
وشرطه كون المقر به مما يجب تسليمه إلى المقر له حتى لو أقر بكف تراب أو حبة حنطة لا
يصح ، وحكمه ظهور المقر به ، لأنه إخبار عن كائن سابق حتى لو أقر لغيره بمال والمقر له
يعلم كذبه لا يحل له أخذه على كره منه إلا أن يعطيه بطيبة نفس منه ، فحينئذ يكون تمليكا
مبتدأ كالهبة .
قال : ( وهو حجة على المقر إذا كان عاقلا بالغا ) ويصح إقرار العبد في بعض الأشياء
على ما مر في الحجر . قال : ( إذا أقر لمعلوم ) لأن فائدة الإقرار ثبوت الملك للمقر له ، ولا
يمكن إثباته لمجهول . قال : ( وسواء أقر بمعلوم أو مجهول ويبين المجهول ) أما المعلوم
فظاهر ، وأما المجهول فلأنه قد يكون عليه حق ولا يدري كميته كغرامة متلف لا يدري كم
قيمته أو أرش جراحة أو باقي دين أو معاملة أو كان يعلمه ثم أنسي ، والجهالة لا تمنع صحة
الإقرار لأنه إخبار عن ثبوت الحق والبيان عليه ، كما إذا أعتق أحد عبديه فيبينه ، إما بنفسه أو
بالجبر من القاضي إيصالا للحق إلى المستحق ، بخلاف جهالة المقر له على ما بينا ،
وبخلاف الشهود لأنه لا حاجة بهم إلى أداء الشهادة والمقر له حاجة لخلاص ذمته ، ولأن
الشهادة تبتني على الدعوى ، والدعوى بالمجهول لا تقبل ، ولأنها لا توجب الحق إلا
بانضمام القضاء إليها ، والقضاء بالمجهول غير ممكن والإقرار موجب بنفسه ، ولهذا لا يعمل
الرجوع فيه ويعمل في الشهادة قبل القضاء بها .
قال : ( فإن قال له علي شيء أو حق لزمه أن يبين ما له قيمة ) لأنه أقر بالوجوب في
ذمته لأنها محل الوجوب ، وما لا قيمة له لا يجب فيها ( فإن كذبه المقر له فيما بين
فالقول للمقر مع يمينه ) لأنه منكر للزيادة . قال : ( وإن أقر بمال لم يصدق في أقل من
درهم ) لأن ما دون ذلك لا يعد مالا عرفا ( وإن قال مال عظيم فهو نصاب من الجنس
الذي ذكر ) معناه إن ذكر الدراهم فمائتا درهم ، ومن الذهب عشرون مثقالا ، ومن الغنم
أربعون شاة ، ومن البقر ثلاثون بقرة ، ومن الإبل خمس وعشرون لأنه أدنى نصاب يجب
فيه من جنسه ، وفي الحنطة خمسة أوسق ، لأنه هو المقدر بالنصاب عندهما ، وعن أبي
حنيفة أنه يرجع إلى بيان المقر .(2/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
( وقيمة النصاب في غير مال الزكاة ) لأن النصاب عظيم ، لأن مالكه غني والغني معظم
عند الناس . وعن أبي حنيفة أنه مقدر بعشرة دراهم لأنها عظيمة حتى يستباح بها الفرج وقطع
اليد والأول أصح ( وإن قال أموال عظام فثلاثة نصب ) من النوع الذي سماه لأنه جمع عظيم
وأقله ثلاثة ( وإن قال دراهم فثلاثة ) لأنها أقل الجمع فهي متيقنة ( وإن قال كثيرة فعشرة )
وقالا : مائتان لأن الكثير ما يصير به مكثرا وذلك بالنصاب . ولأبي حنيفة أن العشرة أقصى ما
يتناوله اسم الجمع بهذا اللفظ فيكون هو الأكثر فينصرف إليه ، وفي الدنانير عندهما نصاب
عشرون مثقالا ، وعنده عشرة أيضا لما مر ، وكل ما ذكرنا من التقديرات لو زاد فيها قبل لأنه
أعرف بما أجمل ، ويلزمه من الدراهم المعتادة بالوزن المعتاد في البلد ، وإن كان في البلد
أوزان مختلفة أو نقود وجب أقلها للتيقن ، ولو قال على ثياب كثيرة أو وصائف كثيرة
يلزمه عند عشرة وعندهما ما يبلغ قيمته مائتي درهم لما مر .
( ولو قال كذا درهما فدرهم ) لأنه فسر ما أبهم ، وقيل يلزمه عشرون وهو القياس لأن
كذا يذكر للعدد عرفا ، وأقل عدد غير مركب يذكر بعده الدرهم بالنصب عشرون ( وكذا كذا
أحد عشر ) درهما لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف ، وأقل ذلك في المفسر
أحد عشر درهما ( ولو ثلث ) بغير واو ( فكذلك ) لأنه لا نظير له سواه ( ولو قال كذا وكذا
فأحد وعشرون ) لأنه نظيره من المفسر ( ولو ثلث بالواو تزاد مائة ، ولو ربع تزاد ألف ) اعتبارا
بالنظير من المفسر ( وكذلك كل مكيل وموزون ) وهذا كله إذا ذكر الدرهم بالنصب ، وإن ذكره
بالخفض بأن قال : كذا درهم عن محمد مائة درهم ، لأن أقل عدد يذكر الدرهم عقيبه
بالخفض مائة ، فإن قال : كذا كذا درهم يلزمه مائتا درهم ولو قال : كذا كذا دينارا أو درهما
فعليه أحد عشر منهما بالسوية عملا بالشركة ، ولو قال : عشرة ونيّف فالبيان في النيّف إليه ،
ويقبل تفسيره في أقل من درهم لأنه عبارة عن مطلق الزيادة ، يقال : نيّف على الشيئين إذا زاد
عليهما ؛ ولو قال : عليّ بضعة وعشرون فالبضع ثلاثة فصاعدا .
( ولو قال : مائة ودرهم فالكل دراهم ، وكذا كل ما يكال ويوزن ، ولو قال : مائة
وثوب يلزمه ثوب واحد وتفسير المائة إليه ) وهو القياس في الدرهم ، لأن المائة مبهمة ،(2/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
والدرهم لا يصلح تفسيرا لأنه معطوف عليها والتفسير لا يذكر بحرف العطف . وجه
الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا عند كثرة الاستعمال والوجوب التكرار في كل عدد ،
واكتفوا به مرة واحدة عقيب العددين ، وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون . أما
الثياب وما لا يكال ولا يوزن ، فهي على الأصل لأنه لا يكثر وجوبها ( وكذلك لو قال :
مائة وثوبان ) لما بينا .
( ولو قال : مائة وثلاثة أثواب فالكل ثياب ) لأنه ذكر عقيب العددين ما يصلح تفسيرا
لهما وهو الثياب لأنه ذكرهما بغير عاطف ، فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى
التفسير ، وكذلك الإقرار بالغصب في جميع ما ذكرنا من الصور . قال : ( وإن قال له عليّ أو
قبلي فهو دين ) لأنه مستعمل للإيجاب عرفا ، والذمة محل الإيجاب فيكون دينا ، إلا أن يبين
موصولا أنها وديعة لأنه يحتمل مجازا فلا يصدق إلا بالبيان موصولا ( و ) لو قال ( عندي
ومعي وفي بيتي ) فهو ( أمانة ) لأنه يستعمل في الأمانات لأنه إقرار بكونه في يده ، والأمانة
أدنى من الضمان فيثبت ، وكذا في كيسي أو صندوقي وأشباهه .
( ولو قال له آخر : لي عليك ألف ، فقال : اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قضيتكها أو
أجلتك بها فهو إقرار ) ولو تصادقا على أنه قاله على وجه السخرية لا يلزمه ، وكذلك إذا قال
نعم أو خذها أو لم تحل بعد أو غدا ، أو وكل من يقبضها ، أو أجّل بها غريمك ، أو ليست
ميسرة اليوم ، أو ما كثر ما تتقاضانيها فيها ، أو غممتني بها ، أو حتى يقدم غلامي أو أبرأتني
منها ( ولو لم يذكر هاء الكناية لا يكون إقرارا ) والأصل أن الجواب ينتظم إعادة الخطاب
ليفيد الكلام ، فكل ما يصلح جوابا ولا يصلح ابتداء يجعل جوابا ، وما يصلح للابتداء لا
للبناء أو يصلح لهما فإنه يجعل ابتداء لوقوع الشك في كونه جوابا ، ولا يجعل جوابا لئلا
يلزمه المال بالشك ، فإن ذكر هاء الكناية يصلح جوابا لا ابتداء ، فيكون منتظما للسؤال فيصير
كأنه قال : اتزن الألف التي ادعيتها أو قضيتك الألف التي لك وطلب التأجيل لا يكون إلا
لواجب ، وكذلك القضاء وإذا لم يذكر هاء الكناية لا يصلح جوابا ، أو يصلح جوابا وابتداء
فلا يجعل جوابا فلا يكون إقرارا .
قال : ( ومن أقر بدين مؤجل وادعى المقر له أنه حال استحلف على الأجل ) لأنه أقر
بالمال ثم ادعى حقا وهو التأجيل ، والمقر له ينكر فيحلف لأن اليمين على المنكر . قال :(2/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
( ومن أقر بخاتم لزمه الحلقة والفص ) لأن الاسم يتناولهما عرفا ( و ) إن أقر ( بسيف ) لزمه
( النصل والجفن والحمائل ) لما قلنا . قال : ( ومن أقر بثوب في منديل ) أو في ثوب ( لزماه )
معناه أقر بالغصب ، لأن الثوب يلف في منديل وفي ثوب آخر ، فكان ذلك ظرفا له ؛ ولو
قال : ثوبي في عشرة أثواب لزمه أحد عشر ثوبا عند محمد ، لأن النفيس من الثياب يلف في
عشرة وأكثر ، وإذا جاز ذلك يحمل على الظرف . وقال أبو يوسف : لا يلزمه إلا ثوب واحد
لأنه غير معتاد وإن كان نادرا ، والأصل براءة الذمة فلا يجب ، ويحمل على معنى بيّن كقوله
تعالى : ) فادخلي في عبادي ( [ الفجر : 29 ] .
قال : ( ومن أقر بخمسة في خمسة لزمه خمسة ، وإن أراد الضرب ) لأن الضرب لا يكثر
المال المضروب وإنما يكثر الأجزاء ، وتكثير أجزاء الدرهم توجب تعدده . وعند زفر يجب
خمسة وعشرون لعرف الحساب ( ولو قال له : عليّ من درهم إلى عشرة ، أو ما بين درهم إلى
عشرة لزمه تسعة ) وقالا : يلزمه عشرة . وقال زفر : ثمانية يسقط الغايتان ويبقى ما بينهما وهو
القياس ، كقوله له : من هذا الحائط إلى هذا الحائط ليس له شيء من الحائطين . ولهما وهو
الاستحسان أن مثل هذا الكلام يراد به الكل كما يقول لغيره : خذ من دراهمي من درهم إلى
عشرة ، فله أن يأخذ عشرة وتدخل الغايتان ، ولأبي حنيفة أن هذا الكلام يذكر لإرادة الأقل
من الأكثر والأكثر من الأقل . قال عليه الصلاة والسلام : ' أعمار أمتي ما بين الستين إلى
السبعين ' والمراد فوق الستين ودون السبعين ، وكذلك في العرف تقول : عمري من ستين
إلى سبعين ، ويريدون به أكثر من ستين وأقل من سبعين ، والجميع إنما يراد فيما طريقه
التكرم والسماحة إظهارا لهما كما ذكراه من النظير ، ولأنه لا بد من دخول الغاية الأولى
ليبتني الحكم عليها ، لأنه لولا ثبوتها يصير ما بعدها غاية في الابتداء فتنتفي أيضا ، فاحتجنا
إلى ثبوت الغاية ابتداء ولا حاجة إلى الأخيرة ، بخلاف نظير زفر ، لأن الحائط غاية موجودة
قبل الإقرار فلا حاجة إلى غيره .
قال : ( ويجوز الإقرار بالحمل ، وله إذا بيّن سببا صالحا للملك ) أما الإقرار به فلأنه
يجوز أنه أوصى به آخر ، والإقرار مظهر له فيحمل عليه تصحيحا لإقراره . وأما له ، أما إذا
ذكر سببا صالحا كالإرث والوصية صح الإقرار لصلاحية السبب ، وإن ذكر سببا غير صالح(2/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
كالبيع منه والقرض والإجارة ونحوها لا يصح للاستحالة ، وإن سكت قال محمد : يصح
ويحمل على الأسباب الصالحة تصحيحا لإقراره . وقال أبو يوسف لا يصح لأن مطلق الإقرار
ينصرف إلى الواجب بالمعاملات عادة فلا يصح ، والأصل براءة الذمم . وإذا صح الإقرار ،
فإن ولد في مدة يعلم وجوده وقت الإقرار لزم ، ولو جاءت بولدين فهو بينهما وإن ولد ميتا
فالمال لمورثه ومن أوصل له ويكون بين ورثتهما ، لأن المال إنما ينتقل إلى الجنين بعد
الولادة ، ولم ينتقل لعدم الأهلية فبقي على ملك المورث والموصي فيورث عنهما .
فصل
( إذا استثنى بعض ما أقر به متصلا صح ولزمه الباقي ) والأصل أن الاستثناء تكلم بالباقي
بعد الثنيا والاستثناء صحيح ، ويجوز استثناء الأكثر كما يجوز استثناء الأقل ، وبكله ورد
النص . قال تعالى : ) فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ( [ العنكبوت : 14 ] . المعنى :
لبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة ، فهذا استثناء الأقل من الأكثر . وقال تعالى : ) إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ( [ الحجر : 42 ] وهذا استثناء الأكثر ، لأن
الذين اتبعوه أكثر العباد ولا بد من الاتصال ، قال عليه الصلاة والسلام : ' من حلف وقال إن
شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث عليه ' شرط الاتصال في المشيئة وأنها استثناء ، ولأن
الأصل لزوم الإقرار لما بينا ، إلا أن القدر المستثنى يبطل بالاتصال ، لأن الكلام لا يتم إلا
بآخره ، فإذا انقطع الكلام فقد تمّ ، ولا يعتبر الاستثناء بعده ، ويصح استثناء البعض قل أو
كثر ، كقوله : له عليّ ألف درهم إلا درهما ، فيلزمه تسعمائة وتسعة وتسعون ؛ ولو قال : إلا
تسعمائة وخمسين يلزمه خمسون ، وعلى هذا .
( واستثناء الكل باطل ) لأنه رجوع لما بينا أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا ولا باقي فلا يكون
استثناء ، والرجوع عن الإقرار لا يصح ، ولو قال : لفلان عليّ ألف درهم يا فلان إلا عشرة
صح الاستثناء ، لأن النداء لتنبيه المخاطب وأنه محتاج إليه لتأكيد ذلك فلا يكون فاصلا ، ولو
قال : له عليّ ألف درهم فاشهدوا عليّ بذلك إلا عشرة دراهم لا يصح الاستثناء ، لأن
الإشهاد يكون بعد تمام الإقرار فكان الإشهاد بعد التمام . قال : ( وإن قال متصلا بإقراره إن
شاء الله بطل إقراره ) لما روينا .(2/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
( وكذلك إن علقه بمشيئة من لا تعرف مشيئته كالجن والملائكة ) لأن الأصل براءة الذمم
فلا يثبت بالشك ، وإن قال : إن شاء فلان فشاء لا يلزمه شيء ، لأن مشيئة فلان لا توجب
الملك ، وكذلك إن جاء المطر أو هبت الريح أو كان كذا لما بينا . قال : ( ومن أقر بمائة
درهم إلا دينارا ، أو إلا قفيز حنطة لزمه المائة إلا قيمة الدينار أو القفيز ، وكذلك كل ما يكال
أو يوزن أو يعد ، ولو استثنى ثوبا أو شاة أو دارا لا يصح ) وقال محمد : لا يصح في الكل ،
لأن المستثنى غير داخل في الإيجاب ، والاستثناء ما لولاه لدخل تحت المستثنى منه فلا
يكون استثناء . ولهما أن ما يجب في الذمة كله كجنس واحد نظرا إلى المقصود وهو الثمنية
التي يتوسل بها إلى الأعيان ؛ أما الثوب وأخواته ليس بثمن أصلا حتى لا يجب في الذمة عند
الإطلاق ، وإنما يجب الثوب نصا لا قياسا ، فما يكون ثمنا يصلح مقدرا للدرهم فيصير بقدره
مستثنى ، وما لا فلا ، فيبقى المستثنى مجهولا فلا يصح ، ولو قال : له عليّ ألف إلا شيئا
لزمه نصف الألف وزيادة ، والقول قوله في الزيادة ، لأن الجهالة في المقر به غير مانعة ، ففي
المستثنى أولى ، إلا أن قوله شيء يعبر به عن القليل عرفا فيكون أقل من الباقي ؛ ولو قال :
له عليّ مائة درهم إلا قليلا ، قال أبو حنيفة : عليه أحد وخمسون ؛ ولو قال : عشرة إلا
بعضها فعليه أكثر من النصف ، ولو قال : له عليّ ألف درهم إلا عشرة دنانير إلا قيراطا ، لزمه
ألف درهم إلا عشرة دنانير إلا قيراطا ، لأن استثناء العشرة دنانير صحيح ، واستثناء القيراط من
العشرة صحيح أيضا ؛ لأن الاستثناء من الاستثناء صحيح ويلحق بالمستثنى منه ، قال الله
تعالى : ) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ( [ الحجر : 59 ] استثنى آل لوط من
الهالكين ، ثم استثنى امرأته من الناجين ، فكانت من الهالكين .
قال : ( ولو قال : غصبته من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد وعليه قيمته لعمرو ) لأن
قوله من زيد إقرار له ، ثم قوله لا رجوع عنه فلا يقبل ، وقوله بل من عمرو إقرار منه
لعمرو ، وقد استهلكه بالإقرار لزيد فيجب قيمته لعمرو ؛ ولو قال : له عليّ ألف لا بل ألفان
يلزمه ألفان استحسانا ، وفي القياس يلزمه ثلاثة آلاف وهو قول زفر ، ولو قال : غصبته عبدا
أسود لا بل أبيض لزمه عبد أبيض ، ولو قال غصبته ثوبا هرويا لا بل مرويا لزماه ، وكذا : له
عليّ كرّ حنطة لا بل كرّ شعير لزماه ؛ ولو قال : لفلان عليّ ألف درهم لا بل لفلان لزمه
المالان ؛ ولو قال : له عليّ ألف لا بل خمسمائة لزمه الألف ، والأصل في ذلك أن ' لا بل '
متى تخللت بين المالين من جنسين لزماه ، وكذلك من جنس واحد إذا كان المقر له اثنين ،
وإذا كان واحدا والجنس واحد لزم أكثر المالين ، لأن لا بل لاستدراك الغلط ، والغلط إنما(2/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
يقع غالبا في جنس واحد ، إلا أنه إذا كان لرجلين كان رجوعا عن الأول فلا يقبل ، ويثبت
للثاني بإقراره الثاني ، وإذا كان الإقرار الثاني أكثر صح الاستدراك ويصدقه المقر له ، وإن كان
أقل كان متهما في الاستدراك والمقر له لا يصدقه فيلزمه الأكثر ؛ وجه قول زفر أنه أقر بألف
فيلزمه ، وقوله لا رجوع فلا يصدق فيه ، ثم أقر بألفين فصح الإقرار وصار كقوله : أنت طالق
واحدة لا بل ثنتين ، وجوابه أن الإقرار إخبار يجري فيه الغلط فيجري فيه الاستدراك ، فيلزمه
الأكثر والطلاق إنشاء ، ولا يملك إبطال ما أنشأ فافترقا .
قال : ( ومن أقر بشيئين فاستثنى أحدهما أو أحدهما وبعض الآخر فالاستثناء باطل ، وإن
استثنى بعض أحدهما أو بعض كل واحد منهما صح ويصرف إلى جنسه ) وصورته إذا قال : له
عليّ كرّ حنطة وكرّ شعير إلا كرّ حنطة ، أو قال : إلا كرّ حنطة وقفيز شعير فهذا باطل ،
وقالا : يصح استثناء القفيز ، وهو نظير اختلافهم في قوله : أنت حر وحر إن شاء الله ، وأنت
طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله ، فإنه يبطل الاستثناء عنده ، ويقع الطلاق والعتاق ، وعندهما
الاستثناء صحيح لأنه كلام متصل ، لأن قوله : إلا كرّ حنطة استثناء صحيح لفظا إلا أنه غير
مفيد ، وإذا كان كلاما متصلا كان استثناء القفيز متصلا فيصح . ولأبي حنيفة أن استثناء الكرّ
باطل بالإجماع فكان لغوا وكان قاطعا للكلام الأول فيكون الاستثناء منقطعا وهكذا قوله
وثلاثة وحر لغو لا حاجة إليه ؛ ولو قال : إلا قفيز حنطة ، أو إلا قفيز شعير صح الاستثناء
لعدم تخلل القاطع ؛ وكذا لو قال : إلا قفيز حنطة وقفيز شعير ، لأن قوله إلا قفيز حنطة
استثناء صحيح مفيد فلا يكون قاطعا ، فيصح العطف عليه فيلزمه كر حنطة وكر شعير إلا قفيز
حنطة وقفيز شعير .
قال : ( واستثناء البناء من الدار باطل ) مثل أن يقول : هذه الدار لفلان إلا بناءها ، أو
قال : وبناؤها لي ، لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى ، لأن البناء تبع للأرض والاستثناء
تصرف في الملفوظ ، وعلى هذا النخل والشجر مع البستان والظهارة والبطانة من الجبة
والفص من الخاتم ، لأن الاسم يتناول الكل ، ولا قوام لهذه الأشياء بدون ما استثناه فيكون
باطلا ؛ ولو قال : إلا ثلثها أو إلا بيتا منها صح لأنه داخل فيه لفظا ( ولو قال : بناؤها لي
والعرصة لفلان ، فكما قال ) لأن العرصة اسم للبقعة دون البناء ، ولو أقر له بحائط لزمه
بأرضه ، لأن الحائط اسم للمبنى ولا يتصور بدون الأرض ، وكذلك إذا أقر له بأسطوانة من
آجرّ ، وإن كانت من خشب لا يلزمه الأرض ، لأن الخشبة تسمى أسطوانة قبل البناء ، فإن
أمكنه رفعها بغير ضرر رفعها وإلا ضمن قيمتها للمقر له كما في غصب الساجة ؛ ولو أقر(2/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
بثمرة نخلة لا تدخل النخلة ، ولو أقر بنخلة أو شجرة يلزمه موضعها من الأرض ، لأنه لا
يسمى شجرة ونخلا إلا وهو ثابت وكذلك الكرم ، ولا يلزم الطريق لأنه ليس من ضرورات
الملك .
قال : ( ولو قال له : عليّ ألف من ثمن عبد لم أقبضه ولم يعينه لزمه الألف ) وصل أم
فصل ، ولا يصدق في قوله : ما قبضته ، لأن عليّ للإلزام ، وقوله : لم أقبضه ينافي ذلك ،
لأنه لا يجب إلا بعد القبض وهو غير عين ، فأي عبد أحضره يقول : المبيع غيره ، فعلم أن
قوله لم أقبضه جحودا بعد الإقرار فلا يقبل . وقال أبو يوسف ومحمد إن صدقه في أنه ثمن
صدق وصل أم فصل ، وإن كذبه وقال : لي عليك ألف من قرض أو غصب أو غير ذلك إن
وصل صدق وإلا فلا ، ووجهه أنهما إذا تصادقا على الجهة فقد تصادقا على أن المقر به ثمن
فلا يلزمه قبل القبض والمقر ينكر القبض فالقول قوله وصل أم فصل ، ومتى كذبه كان تغييرا
لإقراره ، فإن وصل صدق وإلا فلا .
قال : ( وإن عيّن العبد ، فإن سلمه إليه لزمته الألف وإلا فلا ) وهذا إذا صدقه لأنهما إذا
تصادقا على ذلك صار كابتداء البيع وإن قال له : العبد في يدك وما بعتك غيره لزمه المال ،
لأنه إقرار به عند سلامة العبد وقد سلم ؛ ولو قال : العبد عبدي ما بعتكه لا يلزمه شيء ، لأنه
إنما أقر بالمال عوضا عن هذا العبد فلا يلزمه دونه ؛ ولو قال : إنما بعتك غيره يتحالفان على
ما مرّ . قال : ( وإن قال من ثمن خمر أو خنزير لزمته ) وقالا : لا يلزمه إن وصل ، لأن بآخر
كلامه ظهر أنه ما أراد الإيجاب كقوله إن شاء الله تعالى . وله أن هذا رجوع فلا يقبل لأن
ثمنهما لا يكون واجبا ، وما ذكرا فهو تعليق وهذا إبطال .
( ولو قال من ثمن متاع أو أقرضني ثم قال : هي زيوف أو نبهرجة ، وقال المقر له :
جياد ، فهي جياد ) وقالا : يصدق إن وصل ، وعلى هذا إذا قال هي ستوقة أو رصاص . لهما
أنه بيان مغير ، لأن اسم الدراهم يتناول هذه الأنواع فيصح موصولا كما تقدم وصار كقوله إلا
أنها وزن خمسة ، وله أن مقتضى العقد يقتضي السلامة عن العيب ، فإقراره يقتضي الجياد ،
ثم قوله هي زيوف إنكار فلا يصدق ، فصار كما إذا ادعى الجياد وادعى المشتري الزيوف
يلزمه الجياد عملا بما ذكرنا من الأصل ، وقوله وزن خمسة مقدار فيصح استثناؤه ولا يصح
استثناء الوصف لما مر في البناء .
( ولو قال : غصبتها منه ، أو أودعنيها صدق في الزيوف والنبهرجة ) لأن الغصب يرد(2/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
على ما يجده والإنسان يودع ما يملكه ، وذلك لا يقتضي السلامة عن العيوب ( وفي الرصاص
والستوقة إن وصل صدق وإلا فلا ) لأنهما ليسا من جنس الدراهم ، لأن الاسم يتناولهما مجازا
فلذلك يشترط الوصل ؛ ولو قال : له عليّ ألف ألا أنها تنقص كذا فهو استثناء صحيح إن
وصل صدق وإلا فلا .
فصل
( وديون الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف مقدم على ما أقر به في مرضه ، وما
أقر به في مرضه مقدم على الميراث ) ومعناه أنه يقضي دين الصحة والدين المعروف السبب ،
فإن فضل شيء قضى ما أقر به في مرضه ، فإن فضل شيء فللورثة ، والدليل عليه أنه تعلق
حق غرماء الصحة بماله بأول مرضه حتى ينتقض تبرعه لحقهم ، ففي إقراره لغيرهم إبطال
حقهم فلا يصح ، وكذا لا يجوز أن يقر بعين في يده وعليه ديون ، وهذا لأن الإقرار حجة
قاصرة فلا يثبت في حق غيره ، وما ثبت بالبينة أو بمعاينة القاضي حجة في حق الكافة فكان
أولى ، وكذلك النكاح لأنه من الحوائج الأصلية وكذا الديون المعروفة السبب لأنه لا تهمة
فيها ، وكذا لا يجوز له أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض لما فيه من إبطال حق
الباقين ، فإذا قضيت ديون الصحة والمعروفة الأسباب يقضي ما أقر به في مرضه ؛ كما لو لم
يكن عليه دين الصحة ، وكان أحق من الورثة لحاجته إليه ، لأن ماله إنما ينتقل إلى الورثة عند
فراغ حاجته ، وفراغ ذمته من أهم الحوائج .
قال : ( وإقرار المريض لوارثه باطل إلا أن يصدقه بقية الورثة ) قال عليه الصلاة
والسلام : ' لا وصية لوارث ولا إقرار بدين ' ولأنه تعلق به حق جميع الورثة ، فإقراره
لبعضهم إبطال لحق الباقين ، وفيه إيقاع العداوة بينهم لما فيه من إيثار البعض على البعض ،
وأنه منشأ للعداوة والبغضاء ، وقضية يوسف وإخوته أكبر شاهد ، وكذا لا يصح إقراره إن
قبض منه دينه أو رجع فيما وهبه منه في مرضه ، أو قبض ما غصبه منه أو رهنه عنده ، أو
استرد المبيع في البيع الفاسد لما بينا ، وكذا لا يجوز ذلك لعبد وارثه ولا مكاتبه ، لأنه يقع
لمولاه ملكا أو حقا ، ولو صدرت هذه الأشياء منه للوارث وهو مريض ثم برأ ثم مات جاز(2/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
ذلك كله لأنه لم يكن مرض الموت فلم يتعلق به حق الورثة ؛ ولو أقر لأخيه وهو وارثه ثم
جاءه ابن ومات صح الإقرار لأخيه ، ولو أقر له وله ابن فمات الابن ثم مات المقر بطل
الإقرار للأخ ، وهذا لأن الوارث من يرثه وذلك إنما يتبين بالموت ، ففي المسألة الأولى لم
يرث فصح ، وفي الثانية ورث فلم يصح .
( ومن طلق امرأته في مرضه ثلاثا ثم أقر لها ومات فلها الأقل من الإقرار والميراث )
وكذا لو تصادقا على الطلاق وانقضاء العدة في مرضه ثم أقر لها أو أوصى ، وقالا لها في
الثانية ما أقر لها أو أوصى ؛ وقال زفر في الأولى كذلك أيضا لكونها أجنبية في المسألتين .
ولهما أنها أجنبية بالطلاق وانقضاء العدة فيصح لها الإقرار والوصية لعدم التهمة ، بخلاف
المسألة الأولى لأن بقاء العدة دليل التهمة . ولأبي حنيفة أن التهمة قائمة فإنها تختار الفرقة
لينفتح عليها باب الوصية والإقرار فيصل إليها أكثر من ميراثها ويصطلحان على البينونة
وانقضاء العدة لذلك ، فإن كانت الوصية أكثر من ميراثها جاءت التهمة ، وفيه إبطال حق
الورثة فلا يجوز ، وإن كان الميراث أكثر فلا تهمة فيجوز الإقرار والوصية .
قال : ( وإن أقر المريض لأجنبي ثم قال هو ابني بطل إقراره ، وإن أقر لامرأة ثم تزوجها
لم يبطل ) لأن البنوة تستند إلى وقت العلوق ، فكان ابنا له وقت الإقرار فتبين أنه كان وارثا
وقت الإقرار ، والزوجية تقتصر على حالة العقد ، فصح الإقرار لكونها أجنبية فلا يبطل ، حتى
لو أوصى لها أو وهبها ثم تزوجها لا يصح ، لأن الوصية إنما تصح بعد الموت وهي وارثة
والهبة في المرض وصية فكانت كهي . قال : ( ويصح إقرار الرجل بالولد والوالدين والزوجة
والمولى إذا صدقوه ) إذا كان الولد يعبر عن نفسه وإلا يثبت بمجرد الدعوى منه لما فيه من
النظر له من ثبوت النسب ووجوب النفقة وغير ذلك .
وكذلك المرأة إلا في الولد فإنه يتوقف على تصديق الزوج أو شهادة القابلة ) وأصله أن
شرط صحة هذا الإقرار تصديق المقر له ليصير حجة في حقه فيلزمهما الأحكام بتصادقهما ،
وتصور كونه منه لئلا يكذبه العقل وأن لا يكون معروف النسب من غيره لئلا يكذبه الشرع ،
وأما المرأة فإنها تحتاج إلى تصديق الزوج لأن فيه تحمل النسب عليه فلا يقبل إلا بتصديقه
أو ببينة وهي شهادة القابلة على ما يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى . وإذا صح الإقرار
بهؤلاء لا يملك الرجوع فيه ، لأن النسب إذا ثبت لا يبطل بالرجوع وله الرجوع إذا أقر بمن(2/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
لا يثبت نسبه كقرابة غير الولاد لأنه وصية معنى ، وإنما لا يصح النسب بغير قرابة الولاد
بالإقرار لما فيه من تحمل النسب على الغير فالأخ نسبه إلى الأب والعم إلى الجد وهكذا ،
لكن إذا لم يكن له وارث غيره ورثه ، لأن إقراره تضمن أمرين تحمل النسب على غيره ولا
يملكه فبطل والإقرار له بالمال وإنما يملكه عند عدم الوارث فيصح ( ومن مات أبوه فأقر بأخ
شاركه في الميراث ) لأنه اعترف له بنصف الميراث .
( ولا يثبت نسبه ) لما بينا ، ثم التصديق يصح بعد الموت في النسب لبقائه ، وكذا
تصديق الزوجة لبقاء أحكامه وهو غسلها له والعدة ، ولا يصح تصديق الزوج لانقطاع النكاح
بالموت حتى لا يجوز له غسلها ، فصار كالتصديق بعد هلاك العين ؛ وعندهما يصح لأن
الإرث من الأحكام .(2/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
كتاب الشهادات
أصل الشهادة الحضور ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الغنيمة لمن شهد الوقعة ' أي
حضرها ، ويقال : فلان شهد الحرب وقضية كذا إذا حضرها ، وقال :
إذا علموا أني شهدت وغابوا
أي حضرت ولم يحضروا ، والشهيد : الذي حضره الوفاة في الغزو حتى لو مضى عليه
وقت صلاة وهو حي لا يسمى شهيدا ، لأن الوفاة لم تحضره في الغزو . وفي الشرع :
الإخبار عن أمر حضره الشهود وشاهدوه ، إما معاينة كالأفعال نحو القتل والزنا ، أو سماعا
كالعقود والإقرارات ، فلا يجوز له أن يشهد إلا بما حضره وعلمه عيانا أو سماعا ، ولهذا لا
يجوز له أداء الشهادة حتى يذكر الحادثة ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إن علمت مثل الشمس
فاشهد وإلا فدع ' وهي حجة مظهرة للحق مشروعة ، قال تعالى : ) واستشهدوا شهيدين من
رجالكم ( [ البقرة : 282 ] وقال : ) وأشهدوا ذوي عدل منكم ( [ الطلاق : 2 ] وقال عليه
الصلاة والسلام : ' شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' البينة
على المدعي ' والبينة : الشهادة بالإجماع ، ولأن فيها إحياء حقوق الناس ، وصون العقود(2/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
عن التجاحد ، وحفظ الأموال على أربابها ، قال عليه الصلاة والسلام : ' أكرموا شهودكم فإن
الله تعالى يستخرج بهم الحقوق ' .
قال : ( من تعين لتحملها لا يسعه أن يمتنع إذا طولب ) لما فيه من تضييع الحقوق ، وإن
لم يتعين فهو مخير ، ولا بأس بالتحرز عن التحمل ( فإذا تحملها وطلب لأدائها يفترض عليه )
لقوله تعالى : ) ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ( [ البقرة : 282 ] وقال تعالى : ) ومن يكتمها
فإنه آثم قلبه ( [ البقرة : 283 ] ولأنه إضاعة لحقوق الناس فيحرم الامتناع .
( إلا أن يقوم الحق بغيره ) بأن يكون في الصك سواه من يقوم الحق به فيجوز له
الامتناع ، لأن أحق لا يضيع بامتناعه ، ولأنها فرض كفاية ، ولا بد من طلب المدعي لأنها
حقه . قال : ( وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر ) لأن إقامة الحدود حسبة ، والستر
على المسلم حسبة ( والستر أفضل ) قال عليه الصلاة والسلام : ' من ستر على مسلم ستر الله
عليه في الدنيا والآخرة ' وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لقن ماعزا الرجوع وسأله عن حاله سترا
عليه لئلا يرجم ويشتهر ، وكفى به قدوة ' وكذلك نقل عن الخلفاء الراشدين .
قال : ( ويقول في السرقة : أخذ المال ) إحياء لحق المسروق منه ( ولا يقول : سرق )
إقامة لحسبة الستر . قال : ( ولا يقبل على الزنا إلا شهادة أربعة من الرجال ) لقوله تعالى : ) ثم
لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ( [ النور : 4 ] وقوله : ) فاستشهدوا عليهن أربعة منكم (
[ النساء : 15 ] وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف زوجته : ' ائتني بأربعة يشهدون وإلا
فضرب في ظهرك ' .
قال : ( وباقي الحدود والقصاص شهادة رجلين ) قال تعالى : ) فاستشهدوا شهيدين من
رجالكم ( [ البقرة : 282 ] وقال تعالى : ) وأشهدوا ذوي عدل منكم ( [ الطلاق : 2 ] وقال
عليه الصلاة والسلام : ' شاهداك أو يمينه ' ولا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص .
قال الزهري : مضت السنة من لدن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء(2/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
في الحدود والقصاص . قال : ( وما سواهما من الحقوق تقبل فيها شهادة رجلين أو رجل
وامرأتين ) قال تعالى : ) فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ( [ البقرة : 282 ] وأنه مذكور في
سياق المداينات بالأجل فتقبل فيها . وعن عمر ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجاز شهادة النساء في
النكاح ' ولأنها من أهل الشهادة بالآية ، فتقبل شهادتها لوجود المشاهدة والحفظ والأداء
كالرجل ، وزيادة النسيان تجبر بزيادة العدد وإليه الإشارة بقوله تعالى : ) فتذكر إحداهما
الأخرى ( [ البقرة : 282 ] بقي شبهة البدلية ، فلهذا قلنا لا تقبل في الحدود والقصاص وغيرها
من الأحكام يثبت مع الشبهة .
قال : ( وتقبل شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة وعيوب
النساء ) قال عليه الصلاة والسلام : ' شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال ' ولأنه
لا بد من ثبوت هذه الأحكام ولا يمكن الرجال الاطلاع عليها وإنما يطلع عليها النساء على
الانفراد فوجب قبول شهادتهن على الانفراد تحصيلا للمصلحة وتقبل فيها شهادة امرأة
واحدة ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة امرأة واحدة في الولادة ولأن ما
يقبل فيه قول النساء على الانفراد لا يعتبر فيه العدد كرواية الأخبار ، والثنتان أحوط ، والثلاث
أحب إلى الله ، وبالأربع يخرج عن الخلاف ، وأحكام الشهادة في الولادة تعرف في الطلاق
إن شاء الله تعالى . وأما البكارة فإن العنين يؤجل سنة ويفرّق بينهما بعدها إذا قلنا إنها بكر ،
وهل يشترط في ذلك لفظة الشهادة ؟ لا يشترط عند مشايخ العراق ، ويشترط عند مشايخ
خراسان ، لأنها توجب حقا على الغير فكانت شهادة .
قال : ( وتقبل شهادتهن في استهلال الصبي في حق الصلاة دون الإرث ) أما الصلاة
فبالإجماع لأنها من أمور الدين ، وأما الإرث فمذهبه . وقالا : تقبل أيضا لأن الاستهلال
صوت يكون عقيب الولادة ، وتلك حالة لا يحضرها الرجال ، فدعت الضرورة إلى قبول
شهادتهن لما مرّ . ولأبي حنيفة أن ذلك مما يطلع عليه الرجال لأنه يحل لهم سماع صوته ،
فلا ضرورة في حق ثبوت النسب والإرث والمهر ، وكذا لا يقبل في الرضاع شهادة النساء(2/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
منفردات ، لأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال ملك النكاح ، وإبطال الملك لا يثبت إلا
بشهادة الرجال ، ولأنه مما يمكن اطلاع الرجال عليه فلا ضرورة .
قال : ( ولا بد من العدالة ولفظة الشهادة والحرية والإسلام ) أما العدالة فلقوله تعالى :
) وأشهدوا ذوي عدل منكم ( [ الطلاق : 2 ] وقال تعالى : ) ممن ترضون من الشهداء (
[ البقرة : 282 ] والفاسق ليس بمرضي ، ولأن الحاكم يحكم بقول الشاهد وينفذه في حق
الغير ، فيجب أن يكون قوله يغلب على ظن الحاكم الصدق ، ولا يكون ذلك إلا بالعدالة ،
إلا أن القاضي إذا قضى بشهادة الفاسق ينفذ عندنا . وأما لفظة الشهادة فلقوله تعالى :
) واستشهدوا ( [ البقرة : 282 ] فإنه صريح في طلب الشهادة فيجب عليه الإتيان بلفظها ، ولأن
الشهادة من ألفاظ اليمين على ما يأتيك إن شاء الله تعالى في الأيمان ، فيكون الامتناع عنها
على تقدير الكذب أكثر ، ولأن القياس ينفي قول الإنسان على الغير لما فيه من إلزامه ، إلا أنا
قبلناه في موضع ورد الشرع به ، وأنه ورد مقرونا بالشهادة . وأما الحرية فلأن الشهادة من باب
الولاية ، ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف على غيره ؟ . وأما الإسلام فلقوله تعالى : ) ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( [ النساء : 141 ] .
قال : ( ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته إلا في الحدود والقصاص ، فإن طعن فيه
الخصم سأل عنه . وقالا : يسأل عنهم في جميع الحقوق سرا وعلانية ، وعليه الفتوى ) وجه
قول أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا
في قذف ' وفي كتاب عمر : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا حقا أو
مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة ، ولأن العدالة هي الأصل لأنه ولد غير
فاسق ، والفسق أمر طارئ مظنون ، فلا يجوز ترك الأصل بالظن ، ولا يلزم الحدود
والقصاص لأنه كما أن الأصل في الشاهد العدالة كذلك الأصل في المشهود عليه العدالة ،
والشاهد وصفه بالزنا والقتل فتقابل الأصلان فرجحنا بالعدالة الباطنة ، ولأن الحدود مبناها
على الإسقاط فيسأل عنهم احتيالا للدرء . ولهما أن الحاكم يجب أن يحتاط في حكمه صيانة
له عن النقض وذلك بسؤال السر والعلانية ( ولو اكتفى بالسر جاز ) قال أبو بكر الرازي : لا
خلاف بينهم في الحقيقة فإن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة فيه ظاهرة ، والنبي عليه
الصلاة والسلام عدّل أهله .(2/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وقال : ' خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب '
واكتفى بتعديل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي زمنهما فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال ، ولو كانا في زمنه ما
سألا ، ولو كان في زمنهما لسأل ، فلهذا قلنا الفتوى على قولهما ، ولقد تصفحت كثيرا من
كتب أبي بكر الرازي فما رأيته رجح على قول أبي حنيفة قول غيره إلا في هذه المسألة ،
وإنما رجح قولهما لما رأى من فساد أهل الزمان ، وقلة مبالاتهم بالأمور الدينية ، وكان يقول :
ينبغي للحاكم أن ينقب عن أحوال الشهود في كل ستة أشهر ، لأنه قد يطرأ على الشاهد في
هذه المدة ما يخرجه عن أهلية الشهادة ، والله أعلم .
قال : ( ولا بد أن يقول المزكي هو عدل جائز الشهادة ) لأن العبد عدل غير جائز
الشهادة ؛ وقيل يكتفي بقوله هو عدل ، لأن الأصل هو الحرية تبعا للدار ، وإن لم يكن عدلا
عنده قال الله أعلم بحاله ، وقد كانوا يكتفون بتزكية العلانية ، ثم انضم إليها تزكية السر في
زماننا لاختلاف الزمان ، ثم قيل يكتفي بتزكية السر تحرزا عن الفتنة . قال محمد : تزكية
العلانية بلاء وفتنة ، ثم لا بد في تزكية العلانية أن يجمع بين المزكي والشاهد لتنتفي شبهة
تعديل غيره ، وتزكية السر أن يبعث رقعة مختومة إلى المزكي فيها اسم الشاهد ونسبه وحليته
ومصلاه ، ويردها المزكي كذلك سرا ، وينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشهود أوثق
الناس وأورعهم ديانة وأعظمهم أمانة وأكثرهم بالناس خبرة وأعلمهم بالتمييز ، غير معروفين
بين الناس لئلا يقصدوا بسوء أو يخدعوا ، وينبغي للمزكي أن يسأل عن أحوال الشهود
ويتعرفها من جيرانهم وأهل سوقهم ، فإن ظهرت عدالتهم عنده كتب ذلك في آخر الرقعة :
هو عدل عندي جائز الشهادة ، وإلا كتب إنه غير عدل وختم الرقعة وردها ، فيقول القاضي
للمدعي زد في شهودك ولا يقول جرحوا ، ويقبل في تزكية السر قول الولد والوالد وكل ذي
رحم والعبد والأعمى والمحدود في القذف لأنها أخبار ، خلافا لمحمد فإنها شهادة عنده ،
بخلاف تزكية العلانية فإنها شهادة بالإجماع . والشهود الكفار يعدلهم المسلمون ، فإن لم
يعرفهم المسلمون سأل المسلمين عن عدول المشركين ، ثم يسأل أولئك عن الشهود .
قال : ( ولا تقبل تزكية المدعى عليه ) ومعناه أن يقول هم عدول إلا أنهم أخطؤوا أو
نسوا ، أما لو قال صدقوا أو هم عدول صدقة فقد اعترف بالحق فيقضي بإقراره لا بالبينة ،
لأن البينة عند الجحود ؛ وقيل يجوز تعديله . ووجه الظاهر أن المدعي والشهود يزعمونه
كاذبا في إنكاره مبطلا في جحوده فلا يصلح مزكيا . قال : ( وتكفي تزكية الواحد ) وعن(2/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
محمد اثنين وهو أولى ، وكذلك المترجم ورسول القاضي إلى المزكين . لمحمد أن حكم
القاضي مبني على العدالة وذلك بالتزكية ، فيشترط الإتيان كالشهادة ، ويشترط عنده ذكورة
المزكي في الحدود والأربعة في شهود الزنا لما بينا . ولهما أنها ليست في معنى الشهادة
حتى لا يشترط فيها لفظة الشهادة ومجلس الحكم ، واشتراط العدد في الشهادة تعبدي فلا
يتعداها .
فصل
( ويجوز أن يشهد بكل ما سمعه أو أبصره من الحقوق والعقود وإن لم يشهد عليه ) لأنه
علم الموجب وتيقنه . قال عليه الصلاة والسلام : ' إن علمت مثل الشمس فاشهد ' ويقول
أشهد بكذا لأنه علمه ولا يقول أشهدني فإنه كذب . قال : ( إلا الشهادة على الشهادة فإنه لا
يجوز أن يشهد على شهادة غيره ما لم يشهده ) لأن الشهادة ليست موجبة إلا بالنقل إلى
مجلس الحكم ولا يكون ذلك إلا بالتحمل ، ولو سمعه يشهد غيره على شهادته لا يسعه أن
يشهد لأنه ما حمله وتجوز شهادة المختبئ ، وهو أن يقر الرجل بحق والشهود مختبئون في
بيت يسمعون إقراره ، فإنه يحل لهم الشهادة إذا كانوا يرون وجهه ويعرفونه ، وإن لم يروه لا
يحل لهم إلا إذا علموا أن ليس في البيت غيره فيحل لهم ذلك ، وكذا إذا سمعوا صوت امرأة
من وراء حجاب .
قال : ( ولا يجوز له أن يشهد بما لم يعاينه إلا النسب والموت والدخول والنكاح
وولاية القاضي وأصل الوقف ) والقياس أنه لا يجوز ، لأن الشهادة من المشاهدة وهي
المعاينة ولم توجد . وجه الاستحسان أن هذه الأشياء تباشر بحضور جماعة مخصوصين
وتتعلق بها أحكام مستمرة فأقيمت الشهرة والاستفاضة مقام العيان والمشاهدة كيلا تتعطل
هذه الأحكام ، وعلى هذا الناس من الصدر الأول إلى يومنا هذا ، ألا ترى أنا نشهد أن
عائشة رضي الله عنها زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك سائر زوجاته وفاطمة رضي الله عنها زوجة
علي رضي الله عنه وغير ذلك ، ونشهد بنسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، ونشهد بقضاء شريح
وابن أبي ليلى وأبي يوسف ، ونشهد بموت الخلفاء الراشدين وغيرهم ، والشهرة إنما تكون
إما بالتواتر أو بأخبار من يثق به ، حتى لو أخبره واحد يثق به جاز ؛ واشترط بعضهم
رجلين أو رجلا وامرأتين .(2/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
وقيل يكتفي في الموت بشهادة الواحد ، لأنه قل ما يحضره غير الواحد ، وإذا رأى
رجلا يجلس للقضاء ويدخل عليه الخصوم حل له الشهادة بولايته ؛ وكذا إذا رأى رجلا
وامرأة يسكنان في بيت واحد ويتعاشران معاشرة الأزواج حل له الشهادة بالنكاح بينهما كما
إذا رأى عينا في يد رجل . وأما الوقف فالصحيح ما ذكرنا أنه يجوز على أصله دون شرطه ،
لأن الأصل هو الذي يشتهر ، فلو لم تجز الشهادة عليه أدى إلى استهلاك الأوقاف القديمة ،
وكذلك الولاء عند أبي يوسف كما في النسب ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الولاء لحمة
كلحمة النسب ' ولأنا نشهد أن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبلالا مولى أبي بكر رضي الله
عنه إلى غير ذلك ، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، لأن الخبر لا يشتهر لأنه
مبني على الإعتاق وذلك يكون بحضرة من لا يشتهر غالبا وصار كالعتاق والطلاق ، والمراد
بالحديث أنه مثله لا يباع ولا يوهب ، وينبغي للشاهد أن يطلق الشهادة عند القاضي حتى لو
فسرها وقال إنه شهد بالتسامع لا يقبلها ، وكذلك في الشهادة باليد لا يفسرها .
قال : ( ويجوز أن يشهد على الملك المطلق ) إذا رآه في يده ( فيما سوى العبد والأمة )
لأن اليد دليل الملك وهو المرجع في الأسباب كالبيع والهبة والوصية والإرث وغيرها .
واشترط أبو يوسف أن يقع في قلبه أنه له ، ويجوز أن يكون تفسيرا للأول ، واشترط الخصاف
التصرف مع اليد فإن اليد تتنوع . قلنا والتصرف أيضا يتنوع إلى أمانة وملك ، وإنما يحل له
ذلك إذا عاين الملك والمالك ، أو عاين الملك وحده وعرف المالك بالاشتهار بنسبه . أما إذا
عاين المالك وحده لا يحل له ، وهذا بخلاف العبد والأمة ، لأن الحر يستخدم كما يستخدم
العبد كالأجير الخاص ونحوه ، فلا تكون اليد دليلا حتى يعلم أنه رقيق ، فيجوز أن يشهد أنه
له باليد ، لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه ، وكذلك إن كانا صغيرين لا يعبران عن أنفسهما
يجوز أن يشهد ، وإن لم يعرف رقهما لأنه لا يد لهما بخلاف الكبيرين .
قال : ( وإذا رأى الشاهد خطه لا يشهد ما لم يذكر الحادثة ) وهكذا القاضي والراوي لأن
الخط يشبه الخط فلا يحصل العلم ، قالوا : وهذا عند أبي حنيفة ، وقيل هو إجماع ؛ وإنما
الخلاف إذا وجد القاضي القضية في ديوانه تحت ختمه ، وكذا إذا رأى الشاهد رقم شهادته
عنده تحت ختمه ، وكذلك الراوي فيجوز عندهما ، وإن لم يذكر الحادثة لوقوع الأمن من
الزيادة والنقصان . أما ما كان في الصك بيد الخصم وليس عنده نسخته لا يجوز لما بينا ،
وعند أبي حنيفة لا يجوز ما لم يذكر الحادثة ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا(2/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
فدع ' ولا علم مع النسيان ، وشرط حل الرواية عنده أن يحفظ من حين سمع إلى أن
يروي ، ولهذا قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه ، وكذا إذا ذكر المجلس الذي كان فيه
الحادثة أو أخبره بها من يثق به لا يحل له ما لم يذكرها .
قال : ( وشاهد الزور يشهر ولا يعزر ) وقالا : يوجعه ضربا ويحبسه لما روي أن عمر
رضي الله عنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه ، ولأنها إضرار بالناس
وليس فيها حد فيعزره . ولأبي حنيفة أن الزجر يحصل بالتشهير ، والضرب وإن كان أزجر
لكنه يمنع من الرجوع ، وفعل عمر رضي الله عنه كان سياسة ولهذا بلغ الأربعين وسخم .
والتشهير : أن يبعثه القاضي إلى أهله أو سوقه أجمع ما يكونون ويقول : القاضي يقرئكم
السلام ويقول : إنا وجدنا هذه شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس ، منقول ذلك عن شريح .
وعنهما أنه يفعل ذلك مع الضرب .
قال : ( وتعتبر موافقة الشهادة الدعوى ) لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد الدعوى ، فإن لم
توافقها فقد انعدمت ( ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى ، فلو شهد أحدهما بألف
والآخر بألفين لم تقبل ) وقالا : تقبل على الألف إذا ادعى المدعي ألفين لأنهما اتفقا على
الألف ، وتفرد أحدهما بزيادة فيثبت ما اتفقا عليه ، كما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألف
وخمسمائة ، فإنه يقضي بالألف ، كذا هذا ، وعلى هذا الطلقة والطلقتين . ولأبي حنيفة رحمه
الله أنه وجد الاختلاف لفظا ، وأنه دليل الاختلاف معنى ، لأن معنى الألف غير معنى
الألفين ، وهما جملتان متغايرتان حصل على كل واحدة شاهد واحد فلا يقبل كاختلاف
الجنس بخلاف ما ذكرا ، لأنهما اتفقا على الألف لفظا ومعنى ، لأنه عطف الخمسمائة على
الألف ، والعطف يقرر المعطوف عليه ، ومثله الطلقة والطلقة والنصف بخلاف العشرة
والخمسة عشر ، لأنه ليس بعطف فهو نظير الألف والألفين والعشرون ، والخمس والعشرون
نظير الألف والألف والخمسمائة ، ولو كان المدعي ادعى الأقل لا تقبل الشهادة في المسائل
كلها لأنه يكذب أحد شاهديه ، ولو قال : كان حقي ألفا وخسمائة فقبضت خمسمائة أو
أبرأته عنها قبل للتوفيق ، وإن شهدا بألف فقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قضى بالألف
لاتفاقهما عليها ، ولا يثبت القضاء لأنها شهادة واحدة ، فلو شهد آخر يثبت ، وينبغي للشاهد
إذا علم ذلك أن لا يشهد بالألف حتى يعترف المدعي بالقبض ليظهر الحق ولا يعين على
الظلم .(2/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
قال : ( ولو شهدا على سرقة بقرة واختلفا في لونها قطع ، وإن اختلفا في الأنوثة
والذكورة لم يقطع ) وقالا : لا يقطع فيهما إن المشهود به مختلف ، ولم يقم على كل واحد
شاهدان وصار كالمسألة الثانية . وله أن اشتمال البقرة على اللونين جائز ، فيشهد كل واحد
على ما رأى في جانبه وهي حالة اشتباه لأن السرقة تكون ليلا ، والعمل بالبينة واجب ما
أمكن فتقبل ، بخلاف الذكورة والأنوثة لأنهما لا يجتمعان في بقرة فكانا متغايرين . قال :
( شهدا بقتل زيد يوم النحر بمكة ، وآخران بقتله يوم النحر بالكوفة ردتا ) لأن إحداهما كاذبة
بيقين ولا تدري ، وليست إحداهما أولى من الأخرى بالرد ولا بالقبول فيردان ( فإن سبقت
إحداهما وقضي بها بطلت الأخرى ) لأن الأولى ترجحت بالقضاء فلا تنقض بما هو دونها .
فصل
كل من ردت شهادته للرق أو الكفر أو للصبا ثم زالت هذه الموانع فأداها قبلت ، ولو
ردت لفسق أو زوجية أو العبد لمولاه أو المولى لعبده ثم زالت فأداها لم تقبل . والفرق أن
الأولى ليست بشهادة لعدم الأهلية فلم يكن الرد تكذيبا شرعا ، والثانية شهادة لقيام الأهلية
فكان تكذيبا فلا تقبل أبدا ، ولو تحملها العبد لمولاه أو أحد الزوجين للآخر فآداها بعد العتق
والبينونة قبلت ، وكذلك إن تحملها وهو عبد أو كافر أو صبي فأداها بعد زوال هذه العوارض
قبلت لأن المعتبر حالة الأداء لما يأتي ولا مانع حالتئذ .
قال : ( ولا تقبل شهادة الأعمى ) وقال زفر : تقبل فيما يجري فيه التسامع لأنه يسمع .
وقال أبو يوسف : إن كان بصيرا وقت التحمل تقبل لوجود العلم بالنظر ، وعند الأداء يحتاج
إلى القول وهو قادر عليه ويعرفه بالنسبة كما في الميت . ولنا أنه لا يقدر على التمييز بين
الأشخاص ولا على الإشارة ، والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر ولو عمي بعد الأداء قبل
القضاء لا يقضي بها عندهما . لأن أهلية الشهادة شرط وقت القضاء ليصير حجة ، كما إذا
جنّ أو فسق ، بخلاف الموت فإنه منه للأهلية والغيبة لا تفوت بها الأهلية ، ولا تقبل شهادة
الأخرس ، لأن الشهادة بالنطق وهو عاجز عنه . قال : ( ولا المحدود في قذف وإن تاب ) لقوله
تعالى : ) ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ( [ النور : 4 ] ولأنه من تمام الحد لأنه مانع فيبقى بعد
التوبة . أما المحدود في غير القذف فالرد ليس من الحد وإنما هو للفسق ، وقد ارتفع بالتوبة
والاستثناء في الآية منقطع أو هو مصروف إلى الأقرب وهو الفسق .(2/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
( ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم قبلت شهادته ) لأن بالإسلام حدثت له شهادة أخرى
غير التي كانت قبله ، فلا يكون الحد في إسقاط الأولى إسقاطا في الثانية ، لأنها لم تكن
موجودة . قال : ( ولا تقبل الشهادة للولد وإن سفل ، ولا للوالد وإن علا ) لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' ولا تجوز شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا المرأة لزوجها ، ولا الزوج
لامرأته ، ولا العبد لسيده ، ولا السيد لعبده ، ولا الشريك لشريكه ، ولا الأجير لمن استأجره '
روي ذلك بأحاديث مختلفة بهذه الألفاظ ولأن المنافع بينهم متصلة حتى لا يجوز دفع الزكاة
إليهم فيكون شهادة لنفسه من وجوه ومحرمية الرضاع لا تمنع قبول الشهادة لأنه لا جزئية
بينهما فانتفت التهمة ، وتقبل شهادة القرابات كالأخ والعم والخال وما سوى قرابة الولاد لعدم
ما ذكرنا . قال : ( ولا لعبده ) لما روينا ، ولأن العبد لا يملك فتقع الشهادة لنفسه ( ولا لمكاتبه )
لأن أكسابه له من وجه والعبد المديون كالمكاتب .
قال : ( ولا للزوج والزوجة ) لما روينا ، ولأن المنافع بينهما متصلة عادة فتقع لنفسه من
وجه ( ولا أحد الشريكين للآخر فيما هو من شركتهما ) لما روينا لأنها تقع لنفسه ( ولا شهادة
الأجير الخاص ) لما روينا ، ولأنه يستحق الأجرة في مدة أداء الشهادة ، فصار كالمستأجر لأداء
الشهادة . قال : ( ولا تقبل شهادة مخنث ولا نائحة ، ولا من يغني للناس ) لأن ذلك فسق
' لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن صوتين أحمقين : النائحة ، والمغنية ' والمراد المخنث الذي يفعل
الأفعال الرديئة ، وأنه معصية . قال عليه الصلاة والسلام : ' لعن الله المؤنثات من الرجال ،
والمذكرات من النساء ' أما اللين في الكلام خلقة فتقبل شهادته . قال : ( ولا مدمن الشرب
على اللهو ) لأنه محرم . قال محمد : من شرب النبيذ متأولا قبلت شهادته ما لم يسكر أو
يكن على اللهو .
( ولا من يلعب بالطيور ) لأنه يوجب غفلة ويطلع على العورات بالطلوع على
السطوحات . قال : ( ولا من يفعل كبيرة توجب الحد ) لفسقه ( ولا من يأكل الربا ) لأنه(2/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
حرام ، وشرط بعضهم الإدمان عليه لأنه قل ما يخلو عن العقد الفاسد ( ولا من يقامر
بالشطرنج ) لأنه حرام . أما نفس اللعب لا يسقط العدالة لمكان الاجتهاد إلا أن تفوته
الصلاة أو يحلف عليه كذبا . قال : ( ولا من يدخل الحمام بغير إزار ) لفسقه بإبداء عورته
( ولا من يفعل شيئا من الأفعال المستخفة كالبول والأكل على الطريق ) لأنه يسقط المروءة
فلا يتحاشى عن الكذب ، وكذا من يمشي في السوق بالسراويل وحده ، وكذلك المناهدة
مع الابن في السفر . قال : ( ولا من يظهر سب السلف ) لفسقه بخلاف من يكتمه ، ولا
الشتام للناس والجيران . قال أبو يوسف : لا أجيز شهادة من شتم أصحاب رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن ذلك فعل الأسقاط وأوضاع الناس ، وأقبل شهادة الذين تبرؤوا منهم لأنه
يفعل ذلك تدينا وإن كان باطلا .
( ولا شهادة العدو إن كانت العداوة بسبب الدنيا ) لأنه لا يؤمن عليه الكذب ( وتقبل إن
كانت بسبب الدين ) لأنه لا يكذب لدينه كأهل الأهواء ، ولا تقبل شهادة تارك الجمع
والجماعات مجانة ، واشترط بعضهم لذلك ترك الجمعة ثلاث مرات ، وقال الخصاف مرة .
وإن تركها لعذر مرض أو بعد من المصر أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام لا ترد شهادته ولا
تقبل شهادة من يجلس مجالس الفجور . قال محمد : العدل الذي لم يظهر ريبة . قال محمد :
موسر أخرّ الزكاة والحج إن كان صالحا قبلت شهادته لأنهما لا وقت لهما ، وما كان له وقت
كالصوم والصلاة ترد شهادته بالتأخير . وقال أبو يوسف : أقبل شهادة الشاعر ما لم يقذف في
شعره المحصنات ، وقال العدلا : هو الذي غلبت حسناته على سيئاته ، ولا يمكن اشتراط
السلامة عن كل مأثم ، قال الله تعالى : ) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دابة ( [ فاطر : 45 ] وهذا يدل على أن العبد قل ما يسلم عن ذلك ولا تقبل شهادة
النخاسين والدلالين لأنهم يكذبون ، وتقبل شهادة أهل جميع الصنائع كلها إذا كانوا عدولا إلا
إذا كان يجري بينهم الحلف والأيمان الفاجرة .
ومن يجن ويفيق فشهادته جائزة حال إفاقته ، وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية
وهم قوم من الرافضة يستجيرون بالشهادة لكل من يحلف عندهم ، لأنهم يرون حرمة
الكذب ، وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة ، ولا تقبل شهادة المجسمة لأنهم كفرة ، ومن لا
يكفر من أهل الأهواء تقبل شهادتهم . ألا يرى أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا واقتتلوا ،
وشهادة بعضهم على بعض كانت مقبولة ، وليس ما بين أهل الأهواء من الاختلاف أكثر ما
كان بينهم من القتال ، بخلاف الفاسق عملا لأنه ارتكب محظور دينه فيرتكب الكذب ، وهذا
يعتقد ما يفعله حقا يدين به الله تعالى فيمتنع عن الكذب .(2/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
( قال : وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ) لأن الشهادة من باب الولاية ، وهم
أهل الولاية بعضهم على بعض ، ولهذا قلنا لا تقبل شهادتهم على المسلم لعدم ولايتهم عليه
وفسقه من حيث الإعتقاد فلا يمنع قبول الشهادة لأنه يجتنب محرم دينه ، والكذب محرم في
جميع الأديان . وعن يحيى بن أكثم قال : اجتمعت أقاويل السلف على قبول شهادة النصارى
بعضهم على بعض ، فلم أجد أحدا رد شهادتهم غير ربيعة بن عبد الرحمن ، فإني وجدت
عنه روايتين ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجم يهوديين بشهادة اليهود ؛ ومللهم وإن اختلفت فهم متفقون في
الكفر بالله تعالى وتكذيب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجمعهم دار واحدة ، بخلاف عدم قبول شهادة الروم
على الهند وبالعكس لانقطاع الولاية باختلاف الدارين وبخلاف المرتد لأنه لا ولاية له على
أحد ( ولا تقبل شهادة المستأمن على الذمي ) لعدم الولاية ( وتقبل شهادة الذمي عليه ) لأن
ولايته ثابتة في دارنا على نفسه وأولاده الصغار فتكون ثابتة في جنسه .
قال : ( وتقبل شهادة الأقلف ) لأن ترك السنة لا يوجب الفسق إلا إذا تركه رغبة عن
السنة ، ولو تركه بعدما كبر لا يفسق لأنه تركه صيانة لمهجته لا رغبة عن السنة . قال :
( والخصي ) لأنه قطع عضو منه فصار كغيره من الأعضاء ، وعمر رضي الله عنه قبل شهادة
علقمة الخصي . قال : ( والخنثى ) لأنه إما رجل أو امرأة . قال : ( وولد الزنا ) لأن فسق الأبوين
لا يوجب فسقه ككفرهما وإسلامه ، إذ الكلام في العدل . قال : ( والمعتبر حال الشاهد وقت
الأداء لا وقت التحمل ) لأن العمل بها والإلزام حالة الأداء فتعتبر الأهلية والولاية عنده .
قال : ( وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات قبلت الشهادة ) لما مر ، ولا بد من
اجتناب الكبائر أجمع غير مصر على الصغائر ، ويكون صلاحه أكثر من فساده ، معتاد
الصدق ، مجتنبا الكذب ، يخاف هتك الستر ، صحيح المعاملة ، في الدينار والدرهم ، مؤديا
للأمانة ، قليل اللهو والهذيان . قال عمر رضي الله عنه : لا يغرنكم طنطنة الرجل في صلاته ،
وانظروا إلى حاله عند درهمه وديناره . أما الإلمام بمعصيته لا يمنع قبول الشهادة ، لما في
اعتبار ذلك من سد باب الشهادة .
فصل
اعلم أن الجرح مقدم على التعديل ، لأن الجارح اعتمد دليلا وهو العيان لارتكابه
محظور دينه ، والمعدل شهد بالظاهر ولم يعتمد على دليل ، ولو عدله واحد وجرحه آخر(2/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
فالجرح أولى ، فإن عدله آخر فالتعديل أولى لأنه حجة كاملة ، ولو عدله جماعة وجرحه اثنان
فالجرح أولى لاستوائهما في الثبوت ، لأن زيادة العدد لا توجب الترجيح ، ولا يسمع القاضي
الشهادة على الجرح قصدا ولا يحكم بها لأن الحكم للإلزام وأنه يرتفع بالتوبة ، ولأن فيه
هتكه والستر واجب ، ولو شهدوا على إقرار المدعي بذلك سمعها ، لأن الإقرار يدخل تحت
الحكم ، ويظهر أثره في حق المدعي ، ولو أقام المدعى عليه بينة أن المدعي استأجر الشهود
لأداء الشهادة لا تقبل ، لأنها على الجرح خاصة ، إذ لا خصم في إثبات الإجارة حتى لو قال
استأجرهم بدراهم ودفعها إليهم من مالي الذي في يده قبلت لأنه خصم ، ثم يثبت الجرح بناء
عليه ، وكذلك لو قال : صالحتهم على مال دفعته إليهم لئلا يشهدوا بهذا الباطل وطالبهم برد
ذلك المال وأقام البينة على ذلك لما قلنا ، ولو قال : لم أسلم المال إليهم لم تقبل ، ولو أقام
البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو سارق أو شريك المدعي أو
أجيره ونحو ذلك قبلت ، لأن ذلك مما يدخل تحت الحكم لأنه يتضمن حق الشرع وهو
الحدود أو حق العبد . قال الخصاف : وأسباب الجرح كثيرة : منها الركوب في البحر ،
والتجارة إلى أرض الكفار ، وفي قرى فارس وأشباهه ، لأنه خاطر بدينه ونفسه حيث سكن
دار الحرب وكثر سوادهم لينال بذلك مالا فلا يؤمن أن يكذب بأخذ المال وقرى فارس
يطعمونهم الربا وهم لا يعلمون .
فصل
( تجوز الشهادة على الشهادة فيما لا يسقط بالشبهة ) والأصل في جوازها إجماع الأمة
على ذلك واحتياج الناس إلى إحياء الحقوق بذلك لأنه قد يعجز عن الأداء لمرض أو موت
أو سفر ، فلولا ذلك لبطل حقوق الناس ، وتجوز الشهادة على الشهادة وإن بعد للحاجة على
ما بينا . وعن علي رضي الله عنه أنه تقبل في الشهادة على الشهادة شهادة رجلين ، أو رجل
وامرأتين ، ولأنه نقل خبر يثبت به حق المدعي فيجوز كالشهادة على الإقرار ، وإنما لم
تجز في الحدود والقصاص لأن مبناهما على الإسقاط والدرء ، وفي ذلك احتيال للثبوت ولأن
فيها شبهة لزيادة احتمال الكذب أو البدلية ، والحدود تسقط بالشبهات ، وتقبل على استيفاء
الحدود لأن الاستيفاء لا يسقط بالشبهة ، وما يوجب التعزير عن أبي حنيفة أنه لا يقبل كسائر
العقوبات ، وعن أبي يوسف أنه يقبل ، لأن التعزير لا يسقط بالشبهة ، لما روى ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
حبس رجلا بالتهمة ' والحبس تعزير .(2/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
قال : ( ولا تجوز شهادة واحد على شهادة واحد ) لأنه حق فلا بد من النصاب . وعن
علي رضي الله عنه : لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين . قال : ( ويجوز شهادة
رجلين على شهادة رجلين ) لما روينا من حديث علي رضي الله عنه أولا ، ولأن شهادة كل
أصل حق فصار كما إذا شهدا بحقين ( وصفة الإشهاد أن يقول الأصل : أشهد على شهادتي
أني أشهد أن فلانا أقر عندي بكذا ) لأن الفرع ينقل شهادة الأصل ، فلا بد من التحميل لما
بينا ، فيشهد كما يشهد عند القاضي لينقلها إليه .
قال : ( ويقول الفرع عند الأداء : أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده
بكذا ، وقال لي : أشهد على شهادتي بذلك ) لأنه لا بد من ذكر شهادته وذكر شهادة الأصل
والتحميل وذلك بما ذكرنا ، وذكر الخصاف أنه يحتاج إلى أن يأتي بلفظ الشهادة ثمان مرات ،
وهو أن يقول : أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته وهو يشهد أن فلانا أقر عنده بكذا
وأشهده على إقراره ، وقال لي : اشهد على شهادتي وأنا أشهد بذلك . ومن أصحابنا من
اكتفى بخمس وهو ما ذكرنا أولا . ومنهم من قال أربع وهو أن يقول : أشهد أن فلانا
أشهدني ، وقال لي : اشهد على شهادتي . ومنهم من قال ثلاث مرات ، وهو أقل ما قيل فيه
وهو أن يقول : أشهد أن فلانا قال لي : اشهد على شهادتي ، أو أشهد أن فلانا أشهدني على
شهادتي . والأحسن ما ذكر في الكتاب ، والأحوط ما ذكره الخصاف ، لأن فيه تحرزا عن
اختلاف كبير بين العلماء يصغر كتابنا عن استيعابه .
قال : ( ولا تقبل شهادة الفروع إلا إذا تعذر حضور الأصول مجلس الحكم ) وقال أبو
يوسف تقبل لأنهم بمنزلة المرأتين مع الرجل الثاني نظرا إلى قوله تعالى : ) فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان ( [ البقرة : 282 ] وأجمعنا على جواز شهادة المرأتين مع وجود الرجل
الثاني فكذلك هذا . وجه الظاهر أن الأصل عدم الجواز ، وإنما جوزناها لما ذكرنا من
الحاجة ، ولا حاجة مع حضرة الأصول ، ولأن الفروع أبدال ، ولا حكم للبلد مع وجود
الأصل كما في النظائر ، وشهادة المرأتين ليست بدلية لأن الآية خطاب للحكام ، كأنه قال لهم
فاطلبوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكن وجاء رجل وامرأتان ترضونهم فاقبلوا شهادتهم .
والعذر موت أو مرض أو سفر ، لأن الحاجة عند تعذر شهادة الأصول وذلك فيما ذكرنا . أما
الموت فظاهر وأما المرض فالمراد به مرض لا يستطيع معه حضور مجلس القضاء . وأما
السفر فمقدر بمدة السفر ، لأن بعد المسافة عذر ، والشرع قد اعتبر ذلك المدة حتى رتب(2/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
عليها كثيرا من الأحكام . وقال أبو يوسف : إن أمكنه أن يحضر مجلس القضاء ويعود إلى
أهله في يومه فليس بعذر ، وإن لم يمكنه ذلك فهو عذر ، لأن البيتوتة ، في غير أهله مشقة .
قال أبو الليث : وبه نأخذ .
قال : ( فإن عدلهم شهود الفرع جاز ) لأنهم من أهل التزكية ، ومثله لو شهد اثنان فزكى
أحدهما الآخر جاز ، ولا يكون ذلك تهمة في حقه حيث إنه سبب قبول قوله فإن العدل لا
يتهم بمثله . ألا ترى أنه لا يتهم في إقامة شهادته ؟ ( وإن سكتوا عنهم جاز ) ويسأل القاضي
عنهم عند أبي يوسف ، لأن الواجب عليهم النقل دون التعديل ، فإذا نقلوها يتعرف القاضي
العدالة من غيرهم . وقال محمد : لا تقبل ، لأن الشهادة تعتمد العدالة فإذا سكتوا صاروا
شاكين فيما شهدوا به فلا تقبل .
قال : ( وإذا أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الفروع ) لأن من شرطها التحميل
وقد وقع التعارض فيه فلا يثبت بالشك ؛ ولو ارتدا شاهدا الأصل ثم أسلما ، لم تقبل شهادة
الفروع ، لأن بالردة بطل الإشهاد ؛ ولو ردت شهادة الفروع لتهمة في الأصول ، ثم تاب
الأصول لم تقبل شهادة الأصول ولا الفروع ، لأن الفروع نقلوا شهادة الأصول ، فالمردود
شهادة الأصول ؛ ويجوز شهادة الابن على شهادة الأب ، لأنه لا منفعة لابنه في ذلك . قال :
( والتعريف يتم بذكر الجد أو الفخذ ) لأن التعريف لا بد منه ولا يحصل إلا بما ذكرنا ، لأن
النسبة إلى القبيلة كبني تميم لا يحصل به التعريف لأنهم لا يحصون فلا بد من التعريف
بالفخذ وهي القبيلة الخاصة ، وكذا ذكر الأب ، لأن كثيرا ما يقع الاشتراك في اسم الإنسان
واسم أبيه . أما الاشتراك مع ذلك في اسم الجد فنادر فحصل به التعريف ( والنسبة إلى المصر
والمحلة الكبيرة عامة ) لأنهم لا يحصون ( وإلى السكة الصغيرة خاصة ) .
باب الرجوع عن الشهادة
الأصل فيه قول عمر رضي الله عنه في كتاب القاضي : فلا يمنعك قضاء قضيته
وراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه إلى الحق ، فإن الحق قديم لا يبطل ،
والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، فكذلك الشاهد لأن المعنى يجمعهما ، لأن
الرجوع عن الشهادة الباطلة رجوع من الباطل إلى الحق ، والرجوع قوله شهدت بزور وما
أشبهه ، وأصل آخر أن الشاهد بشهادته تسبب إلى إتلاف المال على المشهود عليه بإخراجه(2/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
من ملكه يدا وتصرفا ، فإن أزاله بغير عوض ضمن الجميع ، وإن كان بعوض إن كان مثلا له
لا ضمان عليه ، وإن كان أقل منه ضمن النقصان ، والقاضي ملجأ إلى القضاء من جهة
الشهود فلا يضاف الإتلاف إليه .
قال : ( ولا يصح إلا في مجلس الحكم ) لأنه يحتاج فيه إلى حكم الحاكم بمقتضى
الرجوع ، فلا بد من مجلس القاضي كما في الشهادة ، ولأنه توبة والشهادة جناية ، فيشترط
استواؤها في الجهر والإخفاء ؛ ولو أقام المشهود عليه البينة أنهما رجعا لم تقبل ولا يحلفان ،
فإن قال رجعت عند قاض آخر كان هذا رجوعا مبتدأ عند القاضي . قال : ( فإن رجعوا قبل
الحكم بها سقطت ) لأن الحق لا يثبت إلا بالقضاء والقضاء بالشهادة وقد تناقضت . قال :
( وبعده لم يفسخ الحكم ) لأن الشهادة والرجوع عنها سواء في احتمال الصدق والكذب ، إلا
أن الأول ترجح بالقضاء فلا ينقض بالثاني . قال : ( وضمنوا ما أتلفوه بشهادتهم ) لإقرارهما
بسبب الضمان على ما بيناه ، فلو شهد أنه قضاه دينه أو أبرأه منه فقضى به ثم رجعا ضمنا لما
مر .
قال : ( فإن شهدا بمال فقضي به وأخذه المدعي ثم رجعا ضمناه للمشهود عليه ) لوجود
التسبب على وجه التعدي ، وأنه موجب للضمان كحافر البئر ، ولا وجه إلى تضمين المدعي
لأن الحكم ماض ، ولا يضمن القاضي لما بينا ، ولأن في تضمينه منع الناس عن تقلد القضاء
خوفا من الضمان ، ولو شهدا بعين ثم رجعا ضمنا قيمتها أقبضها المشهود له ، أو لم يقبضها
لأنه ملكها بمجرد القضاء ، والدين لا يملكه إلا بالقبض .
قال : ( فإن رجع أحدهما ضمن النصف والعبرة في الرجوع لمن بقي لا لمن رجع ) ألا
يرى أنه إذا بقي من يقوم به الحق لا اعتبار برجوع من رجع ، وقد بقي هنا من يقوم بشهادته
نصف الحق ، فيضمن الراجع النصف لأنه أتلفه ( فلو كانوا ثلاثة فرجع واحد فلا شيء عليه )
لبقاء من يبقى بشهادته جميع الحق ( فإن رجع آخر ضمنا النصف ) لما مر . قال : ( وإن شهد
رجل وامرأتان فرجعت واحدة فعليها ربع المال ، وإن رجعتا ضمنتا نصفه ، ولو شهد رجل
وعشر نسوة ثم رجعوا ، فعلى السدس وعليهن خمسة أسداسه ) وقالا : عليه النصف وعليهن
النصف ، لأن النساء وإن كثرن فهن مقام رجل واحد ، لأنه لا يثبت بهن إلا نصف الحق .(2/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
ولأبي حنيفة رضي الله عنه : أن كل امرأتين مقام رجل قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' عدلت شهادة كل اثنتين
بشهادة رجل واحد ' فصار كشهادة ستة من الرجال ، ولو رجع النساء كلهن فعليهن النصف
لما قلنا ، ولو رجع ثمان لا شيء عليهن ، ولو رجعت أخرى فعلى الراجعات الربع لما مر ،
ولو رجع الرجل وثمان نسوة فعلى الرجل نصف الحق ولا شيء على الراجعات لأنه بقي
منهن من يقوم به نصف الحق .
( ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا فالضمان على الرجلين خاصة ) لأن الحق ثبت
بهما دونهما . قال : ( شهدا بنكاح بأقل من مهر المثل ثم رجعا لا ضمان عليهما ) لأن
المنافع غير متقومة إلا بالتمليك بالعقد ، والضمان يستدعي المماثلة ، وإنما يتقوم بالتمليك
إظهارا لخطر المحل ( وإن كان بأكثر من مهر المثل ضمنا الزيادة للزوج ) لأنهما أتلفاها بغير
عوض . قال : ( وفي الطلاق إن كان قبل الدخول ضمنا نصف المهر ) لأنهما أكدا ما كان
على شرف السقوط ( وإن كان بعده لم يضمنا ) لأن المهر تأكد بالدخول فلم يتلفا شيئا .
شهدا بالطلاق وآخران أنه دخل بها ثم رجعوا ضمن شهود الدخول ثلاثة أرباع المهر
وشهود الطلاق ربعه ، لأن الفريقين اتفقا على النصف ، فيكون على كل فريق ربعه ، وانفرد
شهود الدخول بالنصف فينفردون بضمانه ، وفي الشهادة بالعتق يضمنان القيمة لأنهما أتلفا
مالية العبد من غير عوض والولاء له ، لأن العتق لم يتحول إليهما فلا يتحول الولاء ، ولو
شهدا بالبيع ثم رجع ضمنا القيمة لا الثمن ، لأنهما أتلفا المبيع لا الثمن ؛ ولو شهدا ببيع
عبد ثم رجعا بعد القضاء وقيمة العبد أكثر من الثمن ضمنا الفضل ، ولو شهدا بالتدبير ثم
رجعا ضمنا ما نقصه التدبير .
قال : ( وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية ) ولا قصاص عليهم لأنه لم يوجد القتل
مباشرة ، والتسبيب لا يوجب القصاص كحافر البئر ، بخلاف الإكراه لأن المكره فيه مضطر
إلى ذلك فإنه يؤثر حياته ، ولا كذلك الولي فإنه مختار والاختيار يقطع التسبيب ، وإذا امتنع(2/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
القصاص وجبت الدية ، لأن القتل بغير حق لا يخلو عن أحد الموجبين ، ولو شهدا بالعفو
عن القصاص ثم رجعا لم يضمنا ، لأن القصاص ليس بمال .
قال : ( وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا ) لأن التلف أضيف إليهم فإنهم الذين ألجؤوا
القاضي إلى الحكم ( وإن رجع شهود الأصل وقالوا : لم نشهد شهود الفرع لم يضمنوا ) لأنهم
أنكروا التسبيب وهو الإشهاد ، والقضاء ماض لأنه خبر محتمل ؛ ولو قالوا : أشهدناهم وغلطنا
فلا ضمان عليهم . وقال محمد : يضمنون لأن الفروع نقلوا شهادتهم فصاروا كأنهم حضروا .
ولهما أن القضاء وقع بما عاينه من الحجة وهي شهادة الفروع فيضاف إليهم ، ولو رجع
الأصول والفروع جميعا فالضمان على الفروع عندهما لما بينا . وعند محمد إن شاء ضمن
الأصول لما مر ، وإن شاء ضمن الفروع لما مر لهما ، والجهتان متغايرتان فلا يجمع بينهما .
قال : ( ولا ضمان على شهود الإحصان ) لأن الإحصان شرط محض ، والحكم يضاف إلى
العلة لا إلى الشرط .
قال : ( وإن رجع شهود اليمين وشهود الشرط فالضمان على شهود اليمين ) لأن السبب
هو اليمين ، والتلف مضاف إلى من أثبت السبب دون الشرط ، فإن القاضي يقضي بشهادة
شهود اليمين دون شهود الشرط . وصورة المسألة : شهد شاهدان أنه علق عتق عبده أو طلاق
امرأته بدخول الدار ، وشهد شاهدان بالدخول والطلاق قبل الدخول تجب قيمة العبد ونصف
المهر على شهود التعليق لأنه السبب . قال : ( وإذا رجع المزكون ضمنوا ) وقالا : لا يضمنون
لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصاروا كشهود الإحصان . وله أن القاضي إنما يعمل بالشهادة
بالتزكية ، فهي علة العلة فيضاف الحكم إليها ، بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض ،
والله أعلم بالصواب .(2/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
كتاب الوكالة
وهي عبارة عن التفويض والاعتماد ، قال تعالى : ) ومن يتوكل على الله فهو حسبه (
[ الطلاق : 3 ] أي من اعتمد عليه وفوض أمره إليه كفاه ، ورجل وكل إذا كان قليل البطش
ضعيف الحركة يكل أمره إلى غيره فيما ينبغي أن يباشره بنفسه ؛ وقيل الوكالة في اللغة :
الحفظ ، قال تعالى : ) حسبنا الله ونعم الوكيل ( [ آل عمران : 173 ] أي نعم الحافظ . وقال
أصحابنا : إذا قال وكلتك في كذا فهو وكيل في حفظه بقضية اللفظ ، ولا يثبت ما زاد عليه
إلا بلفظ آخر ، وأنه قريب من الأول ، فإن من اعتمد على إنسان في شيء وفوض فيه أمره
إليه كان آمرا بحفظه ، لأنه إنما فعل ذلك لينظر ما هو الأصلح له ، وأصلح الأشياء حفظ
الأصل ، لأن التصرفات تبتني عليه ، وهذه المعاني موجودة في الوكالة الشرعية ، فإن الموكل
فوض أمره إلى الوكيل واعتمد عليه ووثق برأيه ليتصرف له التصرف الأحسن ، وكل ذلك
يبتني على الحفظ وهو مشروع بالكتاب ، وهو قوله تعالى : ) فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى
المدينة ( [ الكهف : 19 ] وبالسنة ، وهو ما صح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وكّل بالشراء عروة البارقي ، وفي
رواية أخرى : حكيم بن حزام ، ووكل في النكاح أيضا عمرو بن أمية الضمري ، وعليه
تعامل الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا من غير نكير ، ولأن الإنسان قد يعجز عن
مباشرة بعض الأفعال بنفسه فيحتاج إلى التوكيل ، فوجب أن يشرع دفعا للحاجة .(2/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
قال : ( ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام ، والوكيل
ممن يعقل العقد ويقصده ) لأن التوكيل استنابة واستعانة ، والوكيل يملك التصرف بتمليك
الموكل ، وتلزمه الأحكام ، فوجب أن يكون الموكل مالكا لذلك ليصح تمليكه ، والوكيل يقوم
مقام الموكل في الإيجاب والقبول ، فلا بد أن يكون من أهلهما ، فلو وكل صبيا لا يعقل أو
مجنونا فهو باطل ، ولو وكل صبيا عاقلا مأذونا أو عبدا مأذونا أو محجورا بإذن مولاه جاز ،
وكذلك إذا وكّل المسلم ذميا أو بالعكس أو حربيا مستأمنا لما ذكرنا .
قال : ( وكّل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به ) لما ذكرنا من الحاجة ، ( فيجوز
بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها ) لما ذكرنا من الحاجة لأنه لا يعرف ذلك كل
أحد ، والدليل عليه الحديث المشهور ' ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض '
وعلي رضي الله عنه وكّل أخاه عقيلا وابن أخيه عبد الله بن جعفر . قال : ( إلا الحدود
والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل ) لأن احتمال العفو ثابت للندب إليه
وللشفقة على الجنس ، وأنه شبهة وأنها تندرئ بالشبهات بخلاف ما إذا حضر لانتفاء هذا
الاحتمال . وقال أبو يوسف : لا يجوز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص لأنها نيابة ، فيتحرز
عنها في هذا الباب كالشهادة على الشهادة . ولأبي حنيفة رحمه الله أن الجناية سبب الوجوب
والظهور يضاف إلى الشهادة ، والخصومة شرط ، فيجوز التوكيل به كسائر الحقوق ، بخلاف
الاستيفاء على ما بينا .
قال : ( ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم ، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا )
وقالا : يجوز بغير رضاه ، ومعناه : أنه لا يجب على الخصم إلا الوكيل عنده وعندهما يجب ،
لما روي أن عليا رضي الله عنه وكّل بالخصومة مطلقا ، ولأنه توكيل بحق فيجوز كالتوكيل
باستيفاء الدين . ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام : ' يا علي لا تقض لأحد
الخصمين حتى يحضر الآخر ' وفي رواية ' حتى تسمع كلام الآخر ' فيشترط حضوره أو
استماع كلامه ، ولأن الخصومة تلزم المطلوب حتى يجب عليه الحضور والجواب ، فلا يجوز
أن يحيله على غيره بغير رضاه كالدين ، ولأن الناس يتفاوتون في الخصومة ، فلعل الوكيل(2/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
يكون أشد خصاما وأكثر احتجاجا فيتضرر الخصم بذلك فلا يلزمه إلا برضاه ، بخلاف
المريض العاجز عن الخصومة ، فإنه لا يستحق عليه الحضور ، وكذلك المسافر ، لأن في
تكفيفه السفر مشقة فلا يلزمه الحضور فجاز لهما التوكيل ، ولا فرق في ظاهر الرواية بين
الرجل والمرأة البكر والثيّب ، واستحسن المتأخرون أن المرأة إذا كانت مخدرة جاز توكيلها
بغير رضاء الخصم لعجزها عن الخصومة بسبب الحياء والدهشة .
قال : ( وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق
حقوقه به ، من تسليم المبيع ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك ، إلا العبد والصبي
المحجورين فتجوز عقودهما ، وتتعلق الحقوق بموكلهما ) لأن الوكيل هو العاقد ، ولا يفتقر
في هذه العقود إلى ذكر الموكل ، والعاقد الآخر اعتمد رجوع الحقوق إليه ، فلو لم ترجع إليه
يتضرر على تقدير كون الموكل مفلسا ، أو من لا يقدر على مطالبته واستيفاء الثمن منه وأنه
منتف ، بخلاف النكاح وأخواته فإنه لا بد من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه فلا ضرر حينئذ ،
وكذلك الرسول لأنه يضيف العقد إلى مرسله ، ولأن الوكيل هو العاقد حقيقة بكلامه ، وحكما
لعدم إضافة العقد إلى غيره فيكون أصلا في الحقوق ، ثم يثبت الملك للموكل خلافة نظرا
إلى التوكيل السابق كالعبد يتهب أو يصطاد . أما الصبي والعبد فينفذ تصرفهما لأنهما من
أهله ، حتى لو كانا مأذونين جاز على ما مر في الحجر ، إلا أن الحقوق لا تتعلق بهما لأنهما
ليسا من أهل التبرعات والتزام العهدة لقصور أهلية الصبي ولحق السيد فيلزم الموكل . وعن
أبي يوسف لو علم العاقد الآخر أنه محجور عليه بعد العقد فله خيار العيب لاعتقاده رجوع
الحقوق إلى العاقد ، وقد فاته فيتخير .
قال : ( وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه ) لأنه تعلق به حق
الموكل وانتقل الملك إليه فصار كما إذا باعه من آخر . قال : ( وللمشتري أن يمتنع من دفع
الثمن إلى الموكل ) لما بينا أن الحقوق راجعة إلى الوكيل فهو أجنبي من العقد ( فإن دفعه إليه
جاز ) لأنه حقه ، وليس للوكيل أن يطالبه به ، إذ لا فائدة في الأخذ منه ثم يدفعه إليه ، ولو
كان للمشتري عليهما دين أو على الموكل تقع المقاصة بدين الموكل لما بينا أنه حقه ، وتقع
المقاصة بدين الوكيل لو كان وحده ، لأنه يملك الإبراء عنه لكن يضمنه للموكل .
قال : ( وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله : كالنكاح والخلع والصلح عن(2/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
دم العمد ) فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها ، ولا بدل الخلع ،
لأن الوكيل سفير ، ولهذا لا بد له من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه ، حتى لو أضاف العقد
إلى نفسه كان النكاح واقعا له لا لموكله كالرسول والخلع ، والصلح عن دم العمد إسقاط كما
يوجد يتلاشى فلا يمكن صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره ( و ) على هذا ( العتق على
مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة
والمضاربة ) لأن الحكم يثبت في هذه الأشياء بالقبض . وأنه يلاقي محلا مملوكا للموكل فكان
سفيرا ، وكذا لو كان وكيلا من الجانب الآخر لأنه يضيف العقد إلى المالك إلا في
الاستقراض فإن التوكيل به باطل ، ولا يثبت الملك فيه للموكل بخلاف الرسول .
فصل
الجهالة ثلاثة أنواع : فاحشة ، ويسيرة ، وبينهما . فالأولى جهالة الجنس كالتوكيل بشراء
ثوب أو دابة فإنه لا يصح وإن سمى الثمن ، لأنه لا يمكن الوكيل امتثال ما وكله به لتفاوته
تفاوتا فاحشا . والثانية جهالة النوع والصفة كالحمار والفرس وقفيز حنطة وثوب هروي ، فإنه
يصح وإن لم يقدر الثمن ، لأن الوكيل يقدر على تحصيل مقصوده وتتعين الصفة بحال
الموكل ، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف المقصود ، فصار كأنه وكله بشراء ثوب هروي
بأي صفة كان وبالثمن المعتاد ، وقد صح ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكّل حكيم بن حزام بشراء شاة
للأضحية ' . والثالثة التوكيل بشراء عبد أو جارية أو دار إن سمى الثمن صح وإلا فلا ، لأن
الجمال منفعة مقصودة من بني آدم ، ويختلف في ذلك الهندي والتركي ، فإذا سمى الثمن
ألحقناه بمجهول النوع ، وإن لم يسم ألحقناه بجالة الجنس لأن بالتسمية يصير معلوم النوع
عادة ، فإن ثمن كل نوع معلوم عادة .
قال : ( ومن وكل رجلا بشراء شيء ينبغي أن يذكر صفته وجنسه أو مبلغ ثمنه ) لأن
بذلك يصير معلوما فيقدر الوكيل عليه ( إلا أن يقول له : ابتع لي ما رأيت ) لأنه فوض الأمر
إلى رأيه ، فأي شيء اشترى كان مؤتمرا . قال : ( وإن وكله بشراء شيء بعينه ليس له أن
يشتريه لنفسه ) لأن الآمر اعتمد عليه في شرائه فيصير كأنه قد خدعه بقبول الوكالة ليشتريه(2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
لنفسه وأنه لا يجوز ( فإن اشتراه بغير النقدين أو بخلاف ما سمى له من جنس الثمن أو وكّل
آخر بشرائه وقع الشراء له ) لأنه خالف أمر الموكل فوقع له ، لأن الوكيل بالشراء لا يجوز له
أن يشتري إلا بالدراهم والدنانير لأنه المعروف ، والمعروف كالمشروط . وقال زفر : إذا
اشتراه بكيلي أو وزني يقع للموكل لأنه شراء من كل وجه لتعلقه بالذمة كالنقدين ، بخلاف ما
إذا اشتراه بعين لا يثبت في الذمة ، لأنه بيع من وجه شراء من وجه . ولنا أنه ينصرف إلى
المتعارف عند الإطلاق وهو النقدان فيتقيد به ، ولو عقد الوكيل الثاني بحضرة الأول لزم
الموكل لأنه برأيه فلم يكن مخالفا .
قال : ( وإن كان بغير عينه فاشتراه فهو له ، إلا أن يدفع الثمن من مال الموكل ، أو ينوي
الشراء له ) وهذا لا يخلو ، أما إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر أو نقد الثمن من مال الآمر
فيقع للآمر عملا بالظاهر ، وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه عملا بالمعتاد ، فإن الشراء
وإضافة العقد إلى دراهمه معتاد غير مستنكر شرعا ، وإن أضافه إلى مطلق الدراهم فإن نواه
للآمر فله ، وإن نواه لنفسه فلنفسه ، لأن له أن يعمل لنفسه وللآمر ، وإن تكاذبا في النية يحكم
النقض لأنه دليل وإن توافقا على عدم النية ، قال محمد : هو للعاقد عملا بالأصل ، وقال أبو
يوسف : يحكم النقد لاحتمال الوجهين والوكيل بشراء شيء بعينه يقع العقد والملك للموكل
وإن لم يضف العقد إليه إلا في مسألة ، وهو ما إذا قال لعبد غيره : اشتر لي نفسك من
مولاك ، فقال لمولاه : بعني نفسي من فلان ، فباعه فهو للآمر لأنه يصلح وكيلا عنه في ذلك
لأنه أجنبي عن ماليته ، وإن وجد به عيبا إن علم به العبد لا يرده ، لأن علم الوكيل كعلم
الموكل ، وإن لم يعلم فالرد للعبد ، وإن لم يف من فلان عتق لأن بيع العبد من نفسه إعتاق .
أمره أن يشتري له كر حنطة من قرية كذا ، فالحمل على الآمر لجريان العادة أو العرف
بذلك .
قال : ( والوكيل في الصرف والسلم تعتبر مفارقته لا مفارقة الموكل ) لما ذكرنا أن
الحقوق ترجع إليه ، ومراده الوكالة بالإسلام لا بالقبول ، فإنه لا يجوز أن يبيع الوكيل في ذمته
على أن يكون الثمن لغيره . قال : ( وإن دفع إليه دراهم ليشتري بها طعاما فهو على الحنطة
ودقيقها ) اعتبارا بالعرف ( وقيل إن كانت كثيرة فعلى الحنطة ، وقليلة فعلى الخبز ، ومتوسطة
فعلى الدقيق ) اعتبارا بالعرف أيضا ، وإن كان في موضع يتعارفون أكل غير الحنطة وخبزها(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
فعلى ما يتعارفونه . قال : ( وإن دفع الوكيل الثمن من ماله فله حبس المبيع حتى يقبض الثمن )
لأنه بمنزلة البائع من الموكل حكما حتى يرده الموكل على الوكيل بالعيب ، ولو اختلفا في
الثمن تحالفا ( فإن حبسه وهلك فهو كالمبيع ) لما قلنا . وقال أبو يوسف : كالرهن لأنه حبسه
للاستيفاء بعد أن لم يكن محبوسا وهو معنى الرهن .
قال : ( وإن وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين مما يباع منه عشرة
بدرهم لزم الموكل عشة بنصف درهم ) وقالا : يلزمه العشرون لأنه أمره بالشراء بدرهم بناء
على أن سعر اللحم عشرة بدرهم فقد زاده خيرا كما إذا وكله ببيع عبده بألف درهم فباعه
بألفين . ولأبي حنيفة رحمه الله : أن المقصود إنما هو اللحم لا إخراج الدرهم ، وقصده تعلق
بعشرة أرطال لحم فتبقى الزيادة للوكيل ، بخلاف مسألة العبد ، لأن المقصود بيعه ، والزائد
حصل بدل ملكه فيكون له ، ولو اشترى من لحم يساوي عشرين رطلا بدرهم فهو مخالف
لعدم حصول المقصود وهو السمين وهذا هزيل فلا يلزمه .
قال : ( والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل وبالنسيئة وبالعرض ، ويأخذ الثمن رهنا
وكفيلا ) وقالا : لا يجوز إلا بمثل القيمة حالا أو بما يتغابن فيه ، ولا يجوز إلا بالأثمان لأن
الأمر عند الإطلاق ينصرف إلى المعتاد ، كما إذا أمره بشراء الفحم يتقيد بالشتاء وبالجمد
بالصيف وغير ذلك ، و المتعارف هو ثمن المثل وبالنقدين . ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله
بمطلق البيع ، وقد أتى به فيجوز إلا عند التهمة ، على أن البيع بالغبن متعارف عند الحاجة
إلى الثمن ، وكذلك البيع بالغبن عند كراهة المبيع . وعن أبي حنيفة رحمه الله المنع فيما ذكرا
من المسائل ، ولأنه بيع من كل وجه حتى يحنث به في قوله لا يبيع ، وإنما لا يملكه الوصي
والأب مع كونه بيعا ، لأن ولايتهما نظرية ، ولا نظر في البيع بالغبن .
قال : ( ولا يصح ضمانه الثمن عن المشتري ) لأن الحقوق ترجع إليه فيكون مطالبا
ومطالبا وأنه محال . قال : ( والوكيل بالشراء لا يجوز شراؤه إلا بقيمة المثل وزيادة يتغابن
فيها ) لاحتمال التهمة وهو أنه يجوز أنه اشتراه لنفسه ثم وجده ، أو غالي الثمن فألحقه
بالموكل ولا كذلك في البيع ، لأنه لا يجوز أن يبيعه لنفسه فلا تهمة ، ولو أنه وكله بشراء(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
شيء بعينه جاز ، لأنه لا يجوز أن يشتريه لنفسه لما مر فانتفت التهمة ، وكذا الوكيل بالنكاح
إذا زوجه بأكثر من مهر المثل جاز على الموكل لانتفاء التهمة لأنه لا يجوز أن يتزوجها ،
بخلاف الوكيل بمطلق الشراء ، وعندهما يتقيد في الكل بثمن المثل ومهر المثل ( وما لا يتغابن
فيه في العروض في العشرة زيادة نصف درهم ، وفي الحيوان درهم ، وفي العقار درهمين ) لأن
قلة الغبن وكثرته بقلة التصرف وكثرته والتصرف في العروض أكثر ، ثم في الحيوان ، ثم في
العقار .
قال : ( ولو وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز ) وقالا : لا يجوز لما فيه من تعييبه بالشركة ،
ولو أنه لو باع جميعه بهذا القدر جاز عنده فهذا أولى ، ولو باع باقيه قبل أن يختصما جاز
عندهما ، لأن بيع البعض قد يكون وسيلة إلى بيع الباقي بأن لا يجد من يشتريه جملة ( وفي
الشراء يتوقف ، فإن اشترى باقيه قبل أن يختصما جاز ) وقال زفر : إذا اشترى نصفه يقع
للوكيل بكل حال لأنه صار مخالفا بشراء النصف فيقع له ، ويقع الثاني له أيضا . ولنا أن شراء
الكل قد يتعذر جملة واحدة بأن يكون مشتركا بين جماعة فيشتري شقصا شقصا ، فإن اشترى
باقيه قبل أن يرد الموكل البيع تبين أنه اشترى البعض ليتوسل به إلى شراء الباقي فلا يكون
مخالفا فينفذ على الموكل . أمره بالبيع الفاسد فباع جائزا جاز ، وقال محمد : لا يجوز
للمخالفة فإنه أمره ببيع يملك نقضه ولا يزيل ملكه بالعقد ، وصار كما إذا أمره بالبيع بشرط
الخيار فباعه باتا . ولهما أنه أمره بالبيع ، وأن يشترط شرطا فاسدا ، والأمر بالبيع صحيح
وباشتراط شرط فاسد باطل ، فصار أمرا بمطلق البيع فينصرف إلى الصحيح ، ولا نسلم أن
البيع الفاسد يقدر على نقضه مطلقا فإنه لو باع العبد من قريبه وقبضه عتق عليه ، وكذا قد
يزول الملك بنفس العقد بأن يكون المبيع في يد المشتري .
قال : ( ولا يعقد الوكيل مع من لا تقبل شهادته له إلا أن يبيعه بأكثر من القيمة )
وعندهما يجوز بمثل القيمة إلا من عبده ومكاتبه لعدم التهمة إذ الأملاك بينهم منقطعة . أما
العبد فيقع البيع لنفسه ، وكذا المكاتب لثبوت الحق للمولى في كسبه حال الكتابة وحقيقة
لعجزه . وله أنه موضع تهمة بدليل عدم قبول الشهادة ، وموضع التهمة مستثنى من الوكالة ،
ولأن المنافع بينهم متصلة فشابه البيع من نفسه ، وعلى هذا الخلاف الإجارة فإذا كان البيع
بأكثر من القيمة لا تهمة . قال : ( وليس لأحد الوكيلين أن يتصرف دون رفيقه إلا في
الخصومة ) لأنه ما رضي إلا برأيهما ، واجتماع الرأي له أثر في توفير المصلحة أما ما لا تأثير(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
له في اجتماع الرأي فيه وما لا يمكن الاجتماع عليه يجوز أن ينفرد به أحدهما كالخصومة ،
فإنه لا يمكن اجتماعهما عليها ( والطلاق ، والعتاق بغير عوض ، ورد الوديعة وقضاء الدين )
لأن اجتماع الرأي لا تأثير له في ذلك . قال : ( وليس للوكيل أن يوكل إلا بإذن الموكل أو
بقوله اعمل برأيك ) لأنه ما رضي إلا برأيه والناس يتفاوتون في الآراء ، فإذا أذن له أو قال
اعمل برأيك فقد فوّض إليك الأمر مطلقا ورضي بذلك ، فإذا أجاز كان وكيلا عن الموكل
الأول لأنه يعمل له ولا ينعزل بعزل الوكيل الأول ولا بموته ، وهو نظير القاضي إذا استخلف
قاضيا ، وقد مر .
( وإن وكل بغير أمره فعقد الثاني بحضرة الأول جاز ) وقال زفر : لا يجوز لأن التوكيل
ما صح فصار كما إذا عقد بغيبته . ولنا أنه إنما جاز برأيه والموكل راض به ، وكذا إذا عقد
في غيبة الأول فأجاز ، وهكذا كل عقد معاوضة ، وما ليس بمعاوضة كالنكاح والطلاق لا
يجوز بإجازته ، لأنه لا يتوقف على إجازة الوكيل لأنه سفير لا يتعلق به حقوق العقد ، بل
يتوقف على إجازة الموكل وقد عرف . قال : ( وللموكل عزل وكيله ) لأن الوكالة حقه فله أن
يبطلها ، إلا أن يتعلق بها حق الغير كالوكالة المشروطة في بيع الرهن ونحوه ، فليس له عزله
لما فيه من إبطال حق الغير ( ويتوقف على علمه ) اعتبارا بنهي صاحب الشرع ، ولأنه لو انعزل
بدون علمه يتضرر ، لأن الحقوق ترجع إليه فيتصرف في مال الموكل بناء على الوكالة فينقد
الثمن ويسلم المبيع فيضمنه ، وأنه ضرر به وهو نظير الحجر على المأذون ، وكذلك لو عزل
الوكيل نفسه لا ينعزل بدون علم الموكل ، لأنه عقد تم بهما ، وقد تعلق به حق كل واحد
منهما ، ففي إبطاله بدون علم أحدهما إضرار به .
قال : ( وتبطل الوكالة بموت أحدهما وجنونه جنونا مطبقا ولحاقه بدار الحرب مرتدا ) أما
الموت فلإبطال الأهلية ولأن الأمر يبطل بالموت ، وكذلك الجنون ، وكذلك ملك الموكل
يزول بموته إلى الورثة ، واللحاق مع الردة موت حكما ، ولو جنّ يوما ويفيق يوما لا يبطل
لأنه في معنى الإغماء ، لأنه عجز يحتمل الزوال كالعجز بالنوم والإغماء . وعن أبي يوسف لا
ينعزل حتى يجنّ أكثر السنة ، لأنه متى دام كذلك لا يزول غالبا فصار كالموت ، وعن محمد
سنة وهو الصحيح ، لأنه إن كان لعلة أو مرض يزول أو يتغير في سنة لاشتمالها على الفصول
الأربعة من حرارة الهواء وبرودته ويبسه ورطوبته ، فإذا لم يزل فيها فالظاهر دوامه ؛ ولو لحق
الموكل أو الوكيل بدار الحرب مرتدا ثم عاد لا تعود الوكالة للحكم ببطلانها . وقال محمد :
تعود كالمريض إذا برأ والمجنون إذا أفاق .(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
قال : ( وإذا عجز المكاتب أو حجر على المأذون أو افترق الشريكان بطل توكيلهم وإن
لم يعلم به الوكيل ) لأن بهذه العوارض لم يبق للموكل مال وانتقل إلى غيره فيقع تصرف
الوكيل في مال الغير بغير أمره فلا يجوز وصار كالموت ؛ ولو وكله وقال : كلما عزلتك فأنت
وكيلي صح ويكون لازما ، وطريق عزله أن يقول : عزلتك كلما وكلتك ؛ وقيل لا ينعزل
بذلك ، لأن العزل عن الوكالة المعلقة لا يصح ، والأصح أن يقول : رجعت عن الوكالة
المعلقة وعزلتك عن الوكالة المنجزة . قال : ( وإذا تصرف الموكل فيما وكل به بطلت الوكالة )
والمراد تصرفا يعجز الوكيل عن البيع لأنه عزل حكما ، وذلك كالبيع والهبة مع التسليم
والإعتاق والتدبير والكتابة والاستيلاد ، وإذا كان تصرفا لا يعجزه لا ينعزل ، كما إذا أذن للعبد
في التجارة أو رهنه أو آجره ، لأنه لا يعجزه عن عقد يوجب الملك للمشتري ، ولو وكله ببيع
عبد فباعه الموكل بطلت الوكالة ولو باعاه معا . قال محمد : هو للمشتري من الموكل لأنه
باع ملكه فكان أولى . وعند أبي يوسف هو بينهما ، لأن بيع الوكيل مثل بيع الموكل عنده ،
ألا ترى أنه لو تقدم بطل ببيع الموكل كما إذا تقدم بيع الموكل بطل بيع الوكيل ، وإذا استويا
كان بينهما لعدم الأولوية .
قال : ( والوكيل بقبض الدين وكيل بالخصومة فيه ) خلافا لهما ، وبقبض العين لا يكون
وكيلا بالخصومة فيها بالإجماع . لهما أنه ليس كل من يصلح للقبض يعرف الخصومة ويهتدي
إلى المحاكمة ، فلا يكون الرضى بالقبض رضا بالخصومة . وله أنه وكله بأخذ الدين من
ماله ، لأن قبض نفس الدين لا يتصور ، ولهذا قلنا إن الديون تقضى بأمثالها لأن المقبوض
ملك المطلوب حقيقة ، وبالقبض يتملكه بدلا عن الدين ، فيكون وكيلا في حق التمليك ، ولا
ذلك إلا بالخصومة وصار كالوكيل بأخذ الشفعة ، وثمرته إذا أقام الخصم البينة على استيفاء
الموكل أو إبرائه تقبل عنده خلافا لهما . أما في العين فهو ناقل لأنها أمانة في يد المطلوب ؛
ولو أقام البينة أن الموكل باعه إياها سمعت في منع الوكيل من القبض دون البيع ، لأن الوكيل
ليس بخصم إلا أنها تضمنت إسقاط حقه من القبض فيقتصر عليه ، ونظيره لو وكله بنقل
زوجته أو عبده فأقاما البينة على العتق والطلاق سمعت في قصر يده عنهما ، ولا يثبت العتق
ولا الطلاق لما قلنا ، والوكيل بطلب الشفعة والرد بالعيب والقسمة يملك الخصومة ، لأنه لا
يتوصل إلى ذلك إلا بالخصومة .
قال : ( والوكيل بالخصومة وكيل بالقبض خلافا لزفر ) لأنه رضي بخصومته لا بقبضه ،
وليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض . ولنا أن المقصود من الخصومة استيفاء(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه ( والفتوى على قول زفر ) لفساد الزمان وكثرة
ظهور الخيانة في الناس ، والوكيل بالتقاضي يملك القبض بالإجماع ، لأنه لا فائدة للتقاضي
بدون القبض .
قال : ( ولو أقر الوكيل على موكله عند القاضي نفذ وإلا فلا ) وقال أبو يوسف : أولا لا
ينفذ أصلا وهو قول زفر ، ثم رجع وقال : يجوز في مجلس القاضي وغيره . لزفر أن الإقرار
يضاد الخصومة ، والشيء لا يتناول ضده كما لا يتناول الصلح والإبراء . ولأبي يوسف أن
الوكيل قائم مقام الموكل فيجوز إقراره عند القاضي وغيره كالموكل . ولهما أنه أقامه مقامه في
جواب هو خصومة فيتقيد بمجلس القاضي ، فإذا أقر في غير مجلسه فقد أقر في حالة ليس
وكيلا فيها . وجواب زفر أنه وكله بالجواب ، والجواب يكون بالإنكار ويكون بالإقرار ، وكما
يملك أحدهما بمطلق الوكالة يملك الآخر فصار كما إذا أقر أنه قبضه بنفسه ، والإقرار في
مجلس القاضي خصومة مجازا ، لأن الخصومة سبب له ، وتبطل وكالته عند من قال لا يصح
إقراره ، لأن الإقرار تضمن إبطال حق الموكل ولا يملكه ، وإبطال حقه في الخصومة وأنه
يملكه فيبطل ، والأب والوصي لا يصح إقرارهما على الصغير بالإجماع ، لأنه لا يصح إقرار
الصغير فكذا نائبه ، ولأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه . وذكر محمد رحمه الله في الزيادات لو
وكله على أن لا يقر جاز من غير فصل . وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز إن كان
طالبا ، لأنه لا يجبر على الخصومة فيوكل بما يشاء ، وإن كان مطلوبا لا يجوز لأنه يجبر على
الخصومة فلا يوكل بما فيه إضرار بالطالب .
قال : ( ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه وصدقه الغريم أمر بدفعه إليه ) لأنه إقرار
على نفسه ، لأن ما يقبضه إنما يقبضه من ماله لما بينا أن الديون تقضى بأمثالها ( فإن جاء
الغائب فإن صدقه وإلا دفع إليه ثانيا ) لأنه لما أنكر الوكالة لم يثبت الاستيفاء ( ورجع على
الوكيل إن كان في يده ) لأنه لم يحصل غرضه بالدفع وهو براءة ذمته من الديون ( وإن كان
هالكا لا يرجع ) لأنه لما صدقه في الوكالة فقد اعترف أنه قبضه بحق وأن الطالب ظالم له .
قال : ( إلا أن يكون دفعه إليه ولم يصدقه ) لأنه دفعه رجاء الإجازة ، فإذا لم يحصل له ذلك
رجع عليه . وكذلك إن أعطاه مع تكذيبه إياه . وكذلك إن أعطاه مع تصديقه وقد ضمنه عند(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
الدفع : أي أخذ منه كفيلا بذلك ، لأن المأخوذ ثانيا مضمون على الوكيل في غرضهما
فيضمنه ، وفي جميع هذه الوجوه ليس للدافع استرداد ما دفع ما لم يحضر الغائب ، لأنه صار
حقا للغائب قطعا أو محتملا .
قال : ( وإن ادعى أنه وكيله في قبض الوديعة لم يؤمر بالدفع إليه وإن صدقه ) لأنها مال
الغير فلا يصدق عليه فلو دفعها ضمن ( ولو قال : مات المودع وتركها ميراثا له وصدقه أمر
بالدفع إليه ) لأنه لما صدقه على الموت فقد انتقل ماله إلى وارثه ، فإذا صدقه أنه الوارث لا
وارث له غيره تعين مالكا فيؤمر بالدفع إليه ( ولو ادعى الشراء من المودع وصدقه لم يدفعها
إليه ) لأنه مهما كان حيا فملكه باق فلا يصدقان عليه في انتقاله بالبيع ولا بغيره .(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
كتاب الكفالة
( وهي ) في اللغة : الضم ، قال تعالى : ) وكفلها زكريا ( [ آل عمران : 37 ] أي ضمها
إلى نفسه ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ' أي الذي يضمه إليه في التربية ،
ويسمى النصيب كفلا لأن صاحبه يضمه إليه . وفي الشرع ( ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل
في المطالبة ) هو الصحيح ، ولهذا يبرأ الكفيل ببراءة الأصيل لعدم بقاء المطالبة ، ولا يبرأ
الأصيل ببراءة الكفيل لبقاء الدين في ذمته ، وهي عقد وثيقة وغرامة شرعت لدفع الحاجة ،
وهو وصول المكفول له إلى إحياء حقه ، وأكثر ما يكون أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها
غرامة دل على شرعيتها قوله عليه الصلاة والسلام : ' الزعيم غارم ' أي الكفيل ضامن ،
وبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والناس يتكفلون فأقرهم عليه ، وعليه الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا
هذا من غير نكير . وركنها قول الكفيل : كفلت لك بمالك على فلان ، وقول المكفول له :
قبلت
وقال أبو يوسف : القبول ليس بشرط بناء على أنها التزام مطالبة للحال لا غير .
وعندهما المطالبة للحال وإيجاب الملك في المؤدى عند الأداء على ما يأتي في أثناء
المسائل ، وشرطها : كون المكفول به مضمونا على الأصيل مقدور التسليم للكفيل ليصح
الالتزام بالمطالبة ويفيد فائدتها ، وأن يكون الدين صحيحا حتى لا تصح الكفالة ببدل الكتابة ،(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
لأن المولى لا يستوجب على عبده شيئا ، وإنما وجب ضرورة صحة الكتابة نظرا للعبد
ليتوصل به إلى العتق . وحكمها : صيرورة ذمة الكفيل مضمومة إلى ذمة الأصيل في حق
المطالبة دون أصل الدين لما مر ، ولا يلزم من لزوم المطالبة على الكفيل وجوب الدين
عليه ، ألا ترى أن الوكيل مطالب بالثمن وهو على الموكل حتى لو أبرأ البائع الموكل عن
الثمن جاز وسقطت المطالبة عن الوكيل .
قال : ( ولا تصح إلا ممن يملك التبرع ) لأنه التزام بغير عوض فكان تبرعا ( وتجوز
بالنفس والمال ) لما روينا وذكرنا من الحاجة والإجماع ولأنه قادر على التسليم . أما المال
فلولايته على مال نفسه . وأما النفس بأن يعلم الطالب بمكانه ويخلي بينهما وبأعوان
السلطان والقاضي فيصح دفعا للحاجة . قال : ( وتنعقد بالنفس بقوله تكفلت بنفسه أو برقبته
وبكل عضو يعبر به عن البدن ) لأنه صريح بالكفالة بالنفس ( وبالجزء الشائع كالخمس
والعشر ) لأن النفس لا تتجزئ ، فذكر البعض ذكر الكل ( وبقوله : ضمنته ) لأنه معنى
الكفالة ( وبقوله : عليّ ، وإليّ ) لأنهما بمعنى الإيجاب ، قال عليه الصلاة والسلام : ' من
ترك كلا أو عيالا فإليّ ' أي عليّ ' ومات رجل وعليه ديناران فامتنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من
الصلاة عليه ، فقال علي رضي الله عنه : هما عليّ ، فصلى عليه ' ( و ) بقوله : ( أنا
زعيم ) للنص ( أو قبيل ) لأنه بمعنى الكفيل لغة وعرفا ، وكذا قوله : أنا ضمين ، أو لك
عندي هذا الرجل ، أو عليّ أن أوفيك به ، أو أن ألقاك به ، لأن ذلك يؤدي معنى
الكفالة .
قال : ( والواجب إحضاره وتسليمه في مكان يقدر على محاكمته ) ليفيد تسليمه ( فإذا فعل
ذلك برئ ) لأنه أتى بما التزمه وحصل مقصود المكفول له ؛ ولو سلمه في برية لا يبرأ لعدم
الفائدة فإنه لا يقدر على محاكمته ، وكذلك في السواد لأنه لا حاكم بها : ولو سلمه في
المصر أو في السوق برئ لقدرته عليه بأعوان القاضي والمسلمين ؛ وقيل لا يبرأ في زماننا
لمعاونتهم على منعه منه عادة ( ولو سلمه في مصر آخر برئ ) لقدرته على مخاصمته فيه ،
وقال : لا يبرأ لأن شهوده قد لا يكونون فيه ، قلنا : وقد يكونون فيه .(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
قال : ( فإن شرط تسليمه في وقت معين لزمه إحضاره فيه إذا طلبه منه ) إلزاما له بما
التزم ( فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم ) لأنه صار ظالما بمنعه الحق ، وقيل لا يحبس أول مرة
لأنه ما ظهر ظلمه ؛ وهذا إذا كان المكفول به حاضرا ؛ فلو كان غائبا أمهله الحاكم مدة ذهابه
وإيابه ( فإذا مضت المدة ولم يحضره حبسه ) لامتناعه من إيفاء الحق ( وإذا حبسه وثبت عند
القاضي عجزه عن إحضاره خلى سبيله ) ويسلمه إلى الذي حبسه ، وإن شاء لازمه إلا أن
يكون في ملازمته تفويت قوته وقوت عياله فيأخذ منه كفيلا بنفسه ويخليه ( وإذا لم يعلم مكانه
لا يطالب به ) لعجزه عن إحضاره فصار كالموت ، إلا أن في الموت تبطل الكفالة أصلا
للتيقن بالعجز ، وهنا لا لاحتمال القدرة بالعلم بمكانه ، ولو ارتد المكفول به ولحق بدار
الحرب إن علم القاضي أنه يمكنه دخول دار الحرب وإحضاره فهو كالغيبة المعلومة ، وإن
كان لا يمكنه فكالغيبة المجهولة ، ولا تبطل الكفالة لأنه مطالب بالتوبة والرجوع ممكن ،
فيمكن الكفيل إحضاره بعد ردته كالغيبة المجهولة .
قال : ( وتبطل بموت الكفيل والمكفول به دون المكفول له ) أما الكفيل فلعجزه ،
والورثة لم يتكفلوه وإنما يخلفونه فيما له لا فيما عليه . وأما المكفول به فلما مر ، بخلاف
المكفول له ، لأن الكفيل غير عاجز والورثة يخلفون المكفول له في المطالبة لأنه حقه ،
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من ترك مالا أو حقا فلورثته ' قال : ( وإن تكفل به إلى شهر فسلمه قبل الشهر
برأ ) لتعجيل الدين المؤجل وهذا لأن التأجيل حقه فله إسقاطه . قال : ( وإن قال : إن لم
أوفك به فعلي الألف التي عليه فلم يوف به فعليه الألف ) لصحة التعليق ووجود الشرط
( والكفالة باقية ) لأنه لا منافاة بين الكفالتين ، ولاحتمال أن يكون عليه حق آخر غير الألف ؛
ولو قال الطالب : لا حق لي قبل المكفول به فعلى الكفيل تسليمه لاحتمال أنه وصي أو
وكيل ، ولو أخذ منه كفيلا آخر لم يبرأ الأول لعدم المنافاة ، وإذا سلمه الكفيل إليه برأ ،
وإن لم يقبله الطالب كإيفاء الدين ، وكذا إذا سلمه وكيله أو رسوله لقيامهما مقامه ، وكذا
إذا سلم المكفول به نفسه عن كفالته لأن الحق عليه وهو مطالب بالخصومة فله الدفع عنه
كالمكفول بالمال .(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
قال : ( والكفالة بالمال جائزة إذا كان دينا صحيحا حتى لا تصح ببدل الكتابة والسعاية
والأمانات والحدود والقصاص ) لما بيناه في أول الكتاب ، وسواء كان المكفول به معلوما أو
مجهولا كقوله : تكفلت بمالك عليه ، أو بما يدركك ، لأن مبناها على التوسع فتحتمل فيها
هذه الجهالة اليسيرة ( وإذا صحت الكفالة فالمكفول له ، إن شاء طالب الكفيل ، وإن شاء
طالب الأصيل ) لما بينا من الضم ، وله مطالبتهما جمعا وتفريقا ليتحقق معنى الضم ، بخلاف
الغصب إذا اختار المالك تضمين أحد الغاصبين ليس له مطالبة الآخر ، لأنه لما اختار تضمينه
فقد ملكه العين ، فليس له أن يملكها للآخر . قال : ( ولو شرط عدم مطالبة الأصيل فهي
حوالة ) لوجود معناها ( كما إذا شرط في الحوالة مطالبة المحيل تكون كفالة ) لوجود معنى
الكفالة والعبرة للمعاني . قال : ( وتجوز بأمر المكفول عنه وبغير أمره ) لأنه إلزم على نفسه
ليس على غيره فيه ضرر ( فإن كانت بأمره فأدى رجع عليه ) لأنه قضى دينه بأمره ( وإن كانت
بغير أمره لم يرجع عليه ) لأنه متبرع . قال : ( وإذا طولب الكفيل ولوزم طالب المكفول عنه
ولازمه ) ويقول له أد إليه ، ولا يقول له أدّ إليّ ، وكذا يحبسه إذا حبسه ، لأن ما لحقه بسببه
فيأخذه بمثله ، وليس له مطالبته قبل ذلك ، لأنه ما لزمه بسببه شيء .
قال : ( وإن أدى الأصيل أو أبرأه رب الدين برأ الكفيل ) لأنه تبع ولأن الكفالة بالدين
ولا دين محال ( وإن أبرئ الكفيل لم يبرأ الأصيل ) لأن الدين على الأصيل ، وبقاؤه عليه
بدون مطالبة الكفيل جائز ( وإن أخر عن الأصيل تأخر عن الكفيل وبالعكس لا ) لأنه إبراء
مؤقت فيعتبر بالإبراء المطلق ؛ فإن صالح الكفيل رب الدين من الألف على خمسمائة برئ
هو والأصيل ، لأنه لما أضافه إلى الدين وهو على الأصيل برئ الأصيل فيبرأ الكفيل ، ثم
يرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره ، ولو صالح بخلاف جنس الدين
رجع بجميع الألف لأنه مبادلة ، ولو صالحه عما استوجب بالكفالة لا يبرأ الأصيل ، لأنه إبراء
له عن المطالبة .
قال : ( وإن قال الطالب للكفيل برئت إلي من المال رجع به على الأصيل ) لأنه أضاف(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
البراءة إلى فعل المطلوب ولا يملك ذلك إلا بالأداء فيرجع ( وإن قال : أبرأتك لم يرجع ) لأنه
إسقاط حتى لا تعلق له بغيره ؛ ولو قال : برئت رجع عند أبي يوسف ، لأنها براءة ابتداؤها
من المطلوب وذلك بالإيفاء ، وقال محمد : لا يرجع لأنه يحتمل الوجهين فلا يرجع بالشك ،
وهذا كله إذا غاب الطالب أما إذا كان حاضرا يرجع إليه لأنه هو المجمل . قال : ( ولا يصح
تعليق البراءة منها بشرط ) كما في سائر البراءات ؛ وقيل يجوز لأن الكفيل إنما عليه المطالبة
ولهذا لا يرتد إبراؤه بالرد ، بخلاف سائر الإبراءات فإنها تمليك فلا تصح مع التعليق .
وبخلاف براءة الأصيل لأنها تمليك حتى ترتد بالرد .
قال : ( وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها كالمقبوض على سوم الشراء
والمغصوب والمبيع فاسدا ) لأنه يجب تسليم عينه حال بقائه ، وقيمته حال هلاكه ، فكان
مقدور التسليم فيصح ( ولا تصح بالمضمونة بغيرها كالمبيع والمرهون ) لأنه لو هلك لا يجب
شيء بل ينفسخ البيع ويسقط الدين فلهذا لا يصح ، وقيل يصح وهو الأصح ، وتبطل بالهلاك
للقدرة قبل الهلاك والعجز بعده . قال : ( ولا تصح إلا بقبول المكفول له في المجلس ) وعن
أبي يوسف روايتان : في رواية : يتوقف على إجازته كسائر تصرفات الفضولي . وفي رواية :
يجوز مطلقا لأنه التزام لا ضرر فيه على الطالب فيستبد الكفيل به ، وفيه نفع للطالب لانضمام
ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة . ولهما أنه تمليك المطالبة فيشترط فيه القبول في
المجلس كما في سائر التمليكات . قال : ( إلا إذا قال المريض لوارثه تكفل بما عليّ من
الدين ، فتكفل والغريم غائب فيصح ) ثم قيل هو وصية حتى لا تصح إذا لم يكن له مال ،
وقيل تصح لحاجته إلى إبراء ذمته فقام مقام الطالب ، وفيه نفع للطالب .
( ولو قال ) ذلك ( لأجنبي فيه اختلاف المشايخ ) قال : ( ولا تصح الكفالة عن الميت
المفلس ) وقالا : تصح لأنه دين ثابت وجب للطالب ولم يسقطه فلا يسقط بالموت . ألا ترى
أنه لو كان له مال أو كان كفيلا به لا يسقط ؟ وكذا لو تبرع إنسان به صح ، ولو سقط بالموت
لما ثبتت هذه الأحكام ، وله أنه يسقط بموته لأنه عبارة عن المطالبة وهي فعل ، ولهذا
توصف بالوجوب ، إلا أنه يؤول إلى المال وقد عجز بنفسه وخلفه فيسقط ضرورة فوات عاقبة
الاستيفاء . أما إذا كان له مال أو به كفيل فهو قادر بخلفه ، ولأنه يفضي إلى الأداء فلا تفوت
العاقبة ، و التبرع لا يعتمد بقاء الدين .(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
قال : ( ويجوز تعليق الكفالة بشرط ملائم كشرط وجوب الحق ، وهو قوله : ما بايعت
فلانا فعلي ، أو ما ذاب لك عليه فعلي ، أو ما غصبك فعلي ، أو بشرط إمكان الاستيفاء
كقوله : إن قدم فلان فعلي وهو مكفول عنه ، أو بشرط تعذر الاستيفاء كقوله : إن غاب فعلي )
وألصل فيه قوله تعالى : ) ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زيعم ( [ يوسف : 72 ] والإجماع
منعقد على صحة ضمان الدرك ، وأنه في معنى ما ذكرنا من الشروط ( ولا يجوز بمجرد
الشرط كقوله : إن هبت الريح أو جاء المطر ) لأنها جهالة فاحشة ( فلو علهما أجلا بأن قال : كفلته إلى مجيء المطر أو إلى هبوب الريح لا يصح ) الأجل ( ويجب المال حالا ) لأن الكفالة
لاتبطل بالشروط الفاسدة كالنكاح والطلاق ؛ وشرط الخيار في الكفالة جائز ، وهي أقبل
للخيار من البيع حتى يقبل الخيار أكثر من ثلاثة أيام ، لأنه لما صح تعليقه بالشرط فلأن يصح
بشرط الخيار فيه أولى ؛ فلو أقر بكفالة مؤجلة لزمته الكفالة ، ولا يصدق في الأجل إلا
بتصديق الطالب كما في الإقرار بالدين .
قال : ( فإن قال : تكلفت بما لك عليه فقامت البينة بشيء لزمه ) لأن الثابت بالبينة
كالمعاين حكما ( وإن لم تكن له بينة فالقول الكفيل ) لأنه ينكر الزيادة ( ولا يسمع قول
الأصيل عليه ) لأنه إقرار على الغير ويلزمه في حق نفسه لما عرف . قال : ( ولا تصح
الكفالة بالحمل على دابة بعينها ، وتصح بغير عينها ) لأنه مقدور له على أي دابة شاء ، بخلاف المعينة ، لأنها لو ماتت عجز عن ذلك ، وكذا لو تكفل بخدمة عبد بعينه أو بخياطة
خياط بيده ، لأن فعله لا يقوم مقام فعل غيره ، فإن تكفل بتسليم العبد أو الخياط أو بفعل
الخياطة جاز لأنه مقدور له ، فإن المستحق مطلق الخياطة ، فإي خياطة وجدت حصل
المكفول به ، ولو ضمن لامرأة عن زوجها بنفقة كل شهر جاز ، وليس له الرجوع عن
الضمان في رأس الشهر ؛ ولو ضمن أجرة كل شهر في الإجارة فله أن يرجع في رأس
الشهر ، والفرق أن السبب في النفقة لم يتجدد عن رأس الشهر بل تجب في الشهر كلها
بسبب واحد ، وسبب الأجرة في الإجارة يتجدد في كل شهر لتجدد العقد ، فله أن يرجع
عن الكفالة المستقبلة .(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
قال : ( عليهما دين ، وكل واحد منهما كفيل عن الآخر ، فما أداه أحدهما لم يرجع على
صاحبه حتى يزيد على النصف فيرجع بالزيادة ) لأنه أصيل في النصف كفيل في النصف ،
والكفالة تبع فتقع عن الأصيل إذ هو الأولى والأهم ، ثم ما يؤديه بعد ذلك فهو عن الكفالة
لتعينها فيرجع به لما مر . قال : ( فإن تكفلا عن رجل وكل واحد منهما كفيل عن الآخر ، فما
أداه أحدهما رجع بنصفه عن الآخر ) لأن ما يلزم كل واحد منهما إنما لزمه بالكفالة لأنه كفل
عن شريكه بالجميع وعن الأصيل بالجميع ، فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما لعدم الأولوية ،
إذ الكل كفالة ، بخلاف المسألة الأولى ثم يرجعان على الأصيل ، لأنهما أديا عنه بأمره
أحدهما بنفسه والآخر بنائبه .
قال : ( وإن ضمن عن رجل خراجه وقسمته ونوائبه جاز إن كانت النوائب بحق ، ككري
النهر ، وأجرة الحارس ، وتجهيز الجيش ، وفداء الأسارى ) أما الخراج فلأنه دين مطالب به
يمكن استيفاؤه فيصح : وأما ما ذكر من النوائب فقد صارت كالدين . وأما القسمة فهي حصة
من النوائب التي صارت معلومة لهم موظفة عليهم كالديون ، وباقي النوائب ما ليس بمعلوم
( وإن لم تكن بحق كالجبايات قالوا : تصح في زماننا ) لأنها صارت كالديون حتى قالوا : لو
أخذ من المزارع جبرا له أن يرجع على المالك . والكفالة بالدرك جائزة ، وهو التزام تسليم
الثمن عند استحقاق المبيع ، لأن المقصود تأكيد أحكام البيع وتقريرها ، ولو استحق المبيع لم
يؤخذ الكفيل حتى يقضي على البائع ، لأن البيع لا ينتقض إلا بالقضاء ، فلعل المستحق يجيزه
فلا يلزم البائع نقد الثمن فلا يجب على الكفيل ، ولو قضي على المشتري بالاستحقاق فهو
قضاء على البائع لأنه خصم عنه ، فيؤخذ الكفيل ؛ والضمان بالعهدة باطل ، لأن العهدة تحتمل
الدرك وغيره فكان مجهولا . أما الدرك فيستعمل في ضمان الاستحقاق . وعن أبي يوسف أن
العهدة كالدرك ، لأنه ترجح استعمالها في ضمان الدرك عادة وعرفا .
تم الجزء الثاني من ' الاختيار لتعليل المختار '
ويليه :
الجزء الثالث ، وأوله : كتاب الحوالة .(2/184)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحوالة
وهي مشتقة من التحول بمعنى الانتقال ، يقال : تحوّل من المنزل إذا انتقل عنه ، ومنه
تحويل الفراش . وفي الشرع : نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ،
ولهذا قلنا : إذا صحت الحوالة برئ المحيل لتحوله إلى ذمة المحال عليه ، لأن من المحال
بقاء الشيء الواحد في محلين في زمان واحد ، وهو عقد مشروع ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من أحيل على
مليء فليتبع ' أمر باتباعه ، ولولا الجواز لما أمر به ، حتى إن من العلماء من قال بوجوب
الاتباع نظرا إلى ظاهر الحديث ، ونحن نقول : المراد منه الإباحة ، لأن تحول حقه إلى ذمة
أخرى من غير اختياره ضرر به ، وإنما خصه عليه الصلاة والسلام بالملئ حكما للغالب ،
لأن الغالب في الحوالات ذلك لأنه شرط الجواز .
ثم عند أبي يوسف الحوالة توجب براءة المحيل من الدين والمطالبة براءة مؤقتة إلى أن
يتوي ما على المحال عليه ، حتى لو أبرأ المحال المحيل صح ؛ ولو أحال الراهن المرتهن
بدينه استرد الرهن . وعند محمد توجب البراءة من المطالبة دون الدين فلا يصح الإبراء ، ولا
يسترد الراهن الرهن . لمحمد رحمه الله أن نقل الدين غير ممكن لأنه تمليك المال وذلك لا
يقبل النقل ، وموجبه المطالبة وهي تقبل النقل ، ولهذا لو أدى المحيل الدين أجبر المحال(3/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
على قبوله . ولأبي يوسف رحمه الله أن الحوالة أضيفت إلى الدين ، ولو أضيفت إلى المطالبة
لا تكون حوالة ، فوجب القول بتحويل الدين لحقيقة الإضافة ، وإنما صح الأداء من المحيل
لأنه ثبت له بالحوالة براءة مؤقتة ، وبالأداء تثبت له براءة مؤبدة وأنه زيادة فائدة .
قال : ( وهي جائزة بالديون دون الأعيان ) لما مر أنها تبنى على التحول ، وإنما تتحول
الديون دون الأعيان . قال : ( وتصح برضا المحيل والمحتال والمحال عليه ) أما المحيل فلأنه
الأصل في الحوالة ، ومنه توجد ؛ وذكر في الزيادات أن رضا المحيل ليس بشرط لأن المحال
عليه يتصرف في نفسه بالتزام الدين ولا ضرر على المحيل بل فيه نفعه ، لأنه لا يرجع عليه
إلا برضاه . وأما المحتال والمحال عليه ، فلتفاوت الناس في القضاء والاقتضاء ، فلعل المحال
عليه أعسر وأفلس ، والمحال أشد اقتضاء ومطالبة ، فيشترط رضاهما دفعا للضرر عنهما .
قال : ( وإذا تمت الحوالة برئ المحيل ) لما مر . وقال زفر : لا يبرأ لأنها للاستيثاق
فبقي الدين على المحيل كالكفالة . وجوابه ما مر أنها من التحويل ، ولا بقاء مع التحويل على
ما بينا فيبرأ المحيل ( حتى لو مات لا يأخذ المحتال من بركته ، لكن يأخذ كفيلا من الوراثة أو
من الغرماء مخافة التوى ، ولا يرجع عليه المحتال إلا أن يموت المحال عليه مفلسا أو يجحد
ولا بينة عليه ) لأنه عجز عن الوصول إلى حقه ، والمقصود من الحوالة سلامة حقه فكانت
مقيدة بالسلامة ، فإذا فاتت السلامة انفسخت كالعيب في المبيع . وعندهما يرجع بوجه آخر
أيضا ، وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه في حياته بناء على أن الإفلاس يتحقق عندهما بقضاء
القاضي وعنده لا . قال : ( فإن طالب المحتال عليه المحيل فقال : إنما أحلت بدين لي عليك
لم يقبل ) وعليه مثل ما أحال لتحقق السبب وهو قضاء دينه بأمره ، لكن المحيل يدعي عليه
دينا وهو ينكر ، والقول قول المنكر ، والحوالة ليست إقرارا بالدين فإنها تكون بدونه ( وإن
طالب المحيل المحتال بما أحاله به فقال : إنما أحلتني بدين لي عليك لم يقبل ) لأن المحتال
يدعي عليه الدين وهو ينكر ، وفي الحوالة معنى الوكالة فيكون القول قوله .(3/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
كتاب الصلح
وهو ضد الفساد ، يقال : صلح الشيء إذا زال عنه الفساد ، وصلح المريض إذا زال عنه
المرض ، وهو فساد المزاج ، وصلح فلان في سيرته إذا أقلع عن الفساد . وفي الشرع : عقد
يرتفع به التشاجر والتنازع بين الخصوم وهما منشأ الفساد ومثار الفتن ، وهو عقد مشروع
مندوب إليه ، قال تعالى : ) فأصلحوا بينهما ( [ الحجرات : 9 ] وقال تعالى : ) والصلح خير (
[ النساء : 128 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كل صلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا حرّم حلالا أو حلّل
حراما ' وقال عمر رضي الله عنه : ردوا الخصوم كي يصطلحوا .
قال : ( ويجوز مع الإقرار والسكوت والإنكار ) لإطلاق ما روينا من النصوص . قال أبو
حنيفة رضي الله عنه : أجود ما يكون الصلح عن إنكار لأن الحاجة إلى جوازه أمس ، لأن
الصلح لقطع المنازعات وإطفاء الثائرات ، وهو في الصلح عن الإنكار أبلغ ، وللحاجة أثر في
تجويز المعاقدات ، ففي إبطاله فتح باب المنازعات . قال : ( فإن كان عن إقرار وهو بمال عن
مال فهو كالبيع ) لوجود معنى البيع وهو مبادلة مال بمال بتراضي المتعاقدين والعبرة للمعاني ،
فيثبت فيه خيار الرؤية والعيب والشرط والشفعة ، ويشترط القدرة على تسليم البدل ويفسده
جهالة البدل لإفضائها إلى المنازعة ، ولا تفسده جهالة المصالح عنه لأنه إسقاط .(3/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
قال : ( وإن كان بمنافع عن مال فهو كالإجارة ) لوجود معنى الإجارة ، وهو تمليك
المنافع بمال حتى تبطل بموت أحدهما في المدة كما في صورة الإجارة ( فإن استحق فيه
بعض المصالح عنه رد حصته عن العوض ، وإن استحق الجميع رد الجميع ) لأنه مبادلة كالبيع
وحكم البيع كذلك ( وإن استحق كل المصالح عليه رجع بكل المصالح عنه وفي البعض
بحصته ) لأنه مبادلة لما مر . قال : ( والصلح عن سكوت أو إنكار معاوضة في حق المدعي )
لأن من زعمه أنه يأخذ عوضا عن ماله وأنه محق في دعواه ( وفي حق المدعى عليه لافتداء
اليمين ) لأن من زعمه أن لا حق عليه وأن المدعي مبطل في دعواه ، وإنما دفع المال لئلا
يحلف ولتنقطع الخصومة ( وإن استحق فيه المصالح عليه رجع إلى الدعوى في كله وفي
البعض بقدره ) لأنه ما ترك الدعوى إلا ليسلم له المصالح عليه ، فإذا لم يسلم له رجع إلى
دعواه لأنه البدل ( وإن استحق المصالح عنه رد العوض ) ورجع بالخصومة .
( وإن استحق بعضه رد حصته ورجع بالخصومة فيه ) لأن المدعى عليه إنما بذل العوض
ليدفع الخصومة عنه ، فإذا استحقت الدار ظهر أن لا خصومة فبطل غرضه فيرجع بالعوض ،
وفي البعض خلا المعوض عن بعض العوض فيرجع بقدره ( وهلاك البدل ) قبل التسليم
( كاستحقاقه في الفصلين ) قال : ( ويجوز الصلح عن مجهول ) لأنه إسقاط ( ولا يجوز إلا على
معلوم ) لأنه تمليك فيؤدي إلى المنازعة .
والصلح على أربعة أوجه : معلوم على معلوم . ومجهول على معلوم وهما جائزان ،
وقد مر الوجه فيهما . ومجهول على مجهول . ومعلوم على مجهول وهما فاسدان . فالحاصل
أن كل ما يحتاج إلى قبضه لا بد أن يكون معلوما لأن جهالته تفضي إلى المنازعة ، وما لا
يحتاج إلى قبضه يكون إسقاطا ولا يحتاج إلى علمه به لأنه لا يفضي إلى المنازعة ، ولو ادعى
حقا في دار لرجل ولم يسمه وادعى المدعى عليه حقا في أرضه فاصطلحا على أن يدفع
أحدهما مالا إلى الآخر لا يجوز ، وإن اصطلحا على أن يترك كل واحد منهما دعواه جاز ،
لأنه لا يحتاج إلى التسليم وفي الأول يحتاج إليه ، ولو ادعى دارا فصالحه على قدر معلوم
منها جاز ويصير كأنه أخذ بعض حقه وأبرأه عن دعوى الباقي ، والبراءة عن العين وإن لم
تصح لكن البراءة عن الدعوى تصح ، فصححناه على هذا الوجه قطعا للمنازعة .(3/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
قال : ( ويجوز ) الصلح ( عن جناية العمد والخطأ ) في النفس وما دونها لإطلاق
النصوص ولقوله تعالى : ) فمن عفي له من أخيه شيء ( [ البقرة : 178 ] نزلت عقيب ذكر
القصاص ، ومعناه : فمن عفي له من دم أخيه شيء : أي ترك القصاص ورضي بالمال ، يدل
عليه قوله تعالى : ) فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ( [ البقرة : 178 ] أي يتبع الطالب
والمطلوب بما صالحه عليه أو بالدية ولا يطلب أكثر من حقه ، ويؤدي المطلوب إلى الطالب
ما وجب عليه من المال من غير مماطلة ، مرويّ ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ،
وهذا في العمد ، وأما الخطأ فلأن الواجب هو المال فأشبه سائر الديون ، إلا أنه لو صالح في
العمد على أكثر من الدية جاز ، لأن الواجب القصاص وليس بمال ، وفي الخطأ لو صالح
على أكثر من الدية لا يجوز لأن الواجب المال فالزيادة ربا ، وهذا إذا صالحه على نوع من
أنواع الدية .
أما إذا صالحه على نوع آخر كالحنطة والشعير ونحوهما فإنه يجوز بالغة ما بلغت
لأنها من خلاف الواجب فلا ربا ، وكل ما يصلح مهرا في النكاح يصلح بدلا في الصلح
عن دم العمد ، وما لا فلا ، لأن كل واحد منهما مبادلة المال بغير المال ، فإن صالحه على
خمر أو خنزير سقط القصاص ولا يجب شيء لأن المال ليس من ضرورات الصلح فلغا
ذكر العوض فيبقى عفوا ، وفي الخطأ تجب الدية لأنه الموجب الأصلي فمتى فسد العوض
رجع إليه كما في النكاح متى فسد المسمى يرجع إلى مهر المثل لأنه موجب أصلي لا
ينفك عنه النكاح إلا بتسمية غيره ، فإذا عدمت التسمية أو فسدت رجع إليه ، ولا كذلك
العمد ؛ ولو صالحه بعفو عن دم على عفو عن دم آخر جاز كالخلع ، ولو قطعت يده
فصالحته على أن يتزوجها وقد برأت يده جاز ، لأنه صالحها على أرش وتجب له عليها
وسقط الأرش ، وإن مات منها لها مهر مثلها وعليها الدية في ثلاث سنين ، لأنه ظهر أن
حقه في القتل فلم تصح التسمية ، ولو استحق العبد المصالح عليه رجع بقيمته في العمد
وبالدية في الخطأ وقد عرف وجهه ، ولو وجد عيبا يسيرا رده في الخطأ ولا يرد في العمد
إلا بالفاحش فيرده ، ويأخذ قيمته ، لأن الصلح في الخطأ يحتمل الفسخ لوقوعه عن مال ،
وفي العمد لا يحتمل الفسخ لأنه عن القصاص وقد سقط فلا سبيل إلى استرداده فيرجع
بقيمة العوض كالنكاح والخلع .
قال : ( ولا يجوز عن الحدود ) لأنها حق الله تعالى والمغلب في حد القذف حق الشرع
عندنا ، ولا يجوز الاعتياض عن حق الغير ، ولهذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى الطريق
العام كالظلة والروشن ونحوهما لأنه حق العامة ، ولا يملك الاعتياض عن نصيبه لأنه غير
منتفع به ، ولو صالحه الإمام في الظلة ونحوها جاز إذا رأى ذلك مصلحة للمسلمين ويضع
بدله في بيت المال كما إذا باع شيئا من بيت المال . قال : ( ولو ادعى على امرأة نكاحا(3/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
فجحدت ثم صالحته على مال ليترك الدعوى جاز ) لأنه أمكن تصحيحه على وجه الخلع
ويكون في حقها لدفع الخصومة ، ويحرم عليه ديانة إذا كان مبطلا ( ولو صالحها على مال
لتقر له بالنكاح جاز ) ويجعل زيادة في المهر لأنها تزعم أنها زوجت نفسها منه ابتداء بالمسمى
وهو يزعم أنه زاد في مهرها ( ولو ادعت المرأة النكاح فصالحها ) على مال ( جاز ) وقيل لا
يجوز ، وجه الجواز جعله زيادة في المهر ، ووجه عدم الجواز وهو الأصح أنه إنما أعطاها
المال لتترك الدعوى ، فإن تركتها وكان فرقة فهو لا يعطى في الفرقة البدل ، وإن لم تترك
الدعوى فما حصل له غرضه فلا يصح .
قال : ( وإن ادعى على شخص أنه عبده فصالحه على مال جاز ولا ولاء عليه ) لأنه
أمكن تصحيحه بجعله في حق المدعي كالعتق على مال ، وفي حق المدعى عليه لدفع
الخصومة لأنه يزعم أنه حر الأصل فلهذا لم يكن عليه ولاء لإنكاره ، فإن أقام المدعي بينة
بعد ذلك أنه عبده لم تقبل ، لأن من زعمه أنه أعتقه على مال ، وأن العبد اشترى نفسه بهذا
المال ، لكن يثبت الولاء عملا بالبينة . قال : ( عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر
فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته لم يجز ) الفضل لأن القيمة منصوص عليه ،
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قوّم عليه باقيه ' فلا تجوز الزيادة عليه ، ولو صالحه على عوض جاز لعدم
الجنسية فلا ربا .
قال : ( ويجوز صلح المدعي المنكر على مال ليقر له بالعين ) وصورته : رجل ادعى
على رجل عينا في يده فأنكره فصالحه على مال ليعترف له بالعين فإنه يجوز ويكون في حق
المنكر كالبيع ، وفي حق المدعي كالزيادة في الثمن . قال : ( والفضولي إن صالح على مال
وضمنه أو سلمه ، أو قال : على ألفي هذه صح ) ولزمه تسليم المال ، ولا يرجع على المدعى
عليه بشيء لأنه تبرع ، وإنما صح الصلح لأنه أضافه إلى نفسه أو إلى ماله . والحاصل
للمدعى عليه البراءة ، ولا ضرر عليه في ذلك فيصح ، وصار كالكفالة بغير أمر المديون ( وإن
قال : عليّ ألف لفلان يتوقف على إجازة المصالح عنه ) إن أجازه جاز ولزمه الألف ، وإن لم(3/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
يجزه بطل كالخلع والنكاح وغيرهما من تصرفات الفضولي ، ولو قال : صالحتك على ألف
وسكت قيل ينفذ ويجب عليه لأنه أضاف العقد إلى نفسه كقوله اشتريت ؛ وقيل يتوقف على
إجازة المدعى عليه لأن الإضافة لم تتحقق إليه ، لأن الفعل كما يقع لنفسه يقع لغيره ، وإنما
يعتبر واقعا له إذا كان له فيه منفعة ، ولا منفعة له هنا وإنما المنفعة للمدعى عليه فاعتبر واقعا
له ، بخلاف قوله صالحني ، لأن الياء كناية عن المفعول فقد جعل نفسه مفعول الصلح فيقع
له .
قال : ( والصلح عما استحق بعقد المداينة أخذ لبعض حقه وإسقاط للباقي وليس
معاوضة ) لأنا لو اعتبرناه معاوضة يكون ربا ، وتصحيح تصرفه واجب ما أمكن ، وقد أمكن
بما ذكرناه من الطريق فيصار إليه ( فإن صالحه على ألف درهم بخمسمائة ، أو عن ألف جياد
بخمسمائة زيوف ، أو عن حالة بمثلها مؤجلة جاز ) ففي الأولى أسقط بعض حقه ، وفي الثانية
بعضه والصفة ، وفي الثالثة تعذر جعله معاوضة النقد بالنسيئة لحرمته فحملناه على تأجيل
نفس الحق وكل ذلك حقه فله إسقاطه ( ولو صالحه على دنانير مؤجلة لم يجز ) لأنه بيع
الدراهم بالدنانير نسيئة ، وإنه لا يجوز لأنها ليست من جنس الحق المستحق ليكون إسقاطا
لبعضه وتأجيلا لبعضه فتعين ما ذكرناه ؛ ولو صالحه على ألف مؤجلة بخمسمائة حالة لم يجز
لأنه اعتياض عن الأجل ، ولا يجوز لأن المعجلة خير من المؤجلة ، فيكون التعجيل بإزاء ما
حط عنه فلا يصح .
قال : ( ولو صالحه عن ألف سود بخمسمائة بيض لا يجوز ) لأن البيض غير مستحقة
فيكون معاوضة وإنه لا يجوز ( ولو قال له : أدّ إليّ غدا خمسمائة على أنك بريء من
خمسمائة فلم يؤدها إليه فالألف بحالها ) وقال أبو يوسف : سقط خمسمائة ، وأجمعوا أنه لو
أدى خمسمائة غدا برئ ، لأبي يوسف أنه إبراء مطلق لأنه جعل الأداء عوضا عن الإبراء
نظرا إلى كلمة عليّ ، والأداء لا يصلح أن يكون عوضا لوجوبه عليه فصار ذكره كعدمه .
ولهما أنه إبراء مقيد بشرط الأداء ، وإنه غرض صالح حذرا من إفلاسه أو ليتوسل بها إلى ما
هو الأنفع من تجارة رابحة أو قضاء دين أو دفع حبس ، فإذا فات الشرط بطل الإبراء ، وكلمة
على تحتمل الشرط فيحمل عليه عند تعذر المعاوضة تصحيحا لكلامه وعملا بالعرف . ولو
قال : أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا صح الإبراء أعطي(3/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الخمسمائة أو لم يعط ، لأنه أطلق الإبراء ووقع الشك في تعليقه بالشرط فلا يتقيد ، بخلاف
المسألة الأولى لأنه من حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا ، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا
يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك . ولو قال : أدّ إليّ خمسمائة على أنك بريء من الفضل
ولم يوقّت فهو إبراء مطلق ، لأن الأداء واجب عليه في جميع الأوقات فلم يصلح عوضا فلم
يتقيد . ولو قال : صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إليّ غدا وأنت بريء من الباقي
على أنك إن لم تدفعها غدا فالألف عليك فهو كما قال لأنه صرّح بالتقييد . ولو ادعى عبدا
فصالحه على غلته شهرا لم يجز ، وعلى خدمته شهرا يجوز ، لأنها معلومة والغلة مجهولة غير
مقدورة التسليم ، لأنها لا تجب إلا بعد الإجارة والعمل .
قال : ( ولو صالح أحد الشريكين عن نصيبه بثوب فشريكه إن شاء أخذ منه نصف
الثوب ) لأن له حق المشاركة لأنه عوض عن دينه ، فإذا اختار ذلك فقد أجاز فعل الشريك
( إلا أن يعطيه ربع الدين ) لأنه حقه في الدين لا في الثوب ( وإن شاء اتبع المديون بنصفه )
لبقاء حصته في ذمته ، لأنه لم يأذن له بالدفع إلى غيره ، والدين المشترك كالموروث وقيمة
عين مستهلكة بينهما وثمن مبيع ونحوه . قال : ( ولا يجوز صلح أحدهما في السلم على أخذ
نصيبه من رأس المال ) عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويتوقف على إجازة شريكه ، فإن
رد بطل أصلا وبقي المسلم فيه بينهما على حاله وإن أجاز نفذ عليهما فيكون نصف رأس
المال بينهما وباقي الطعام بينهما ، لأنه قسمة الدين قبل قبضه فلا يجوز ، كما إذا كان لهما
على رجل دراهم على آخر دنانير ، فتصالحا على أن لهذا الدراهم ولهذا الدنانير فإنه لا
يصح . وبيان كونه قسمة أنه يمتاز أحد النصيبين عن الآخر ولأنه فسح على شريكه عقده ، فلا
يجوز لأن العقد صدر منهما ، ولهذا يرجع عليه بنصف رأس المال إذا توي الباقي على
المطلوب . وقال أبو يوسف رحمه الله : جاز الصلح وله نصف رأس المال ، وصاحبه إن شاء
شاركه قيما قبض وإن شاء اتبع المطلوب بنصفه ، إلا إذا توي عليه فيرجع على شريكه ، له
الاعتبار بسائر الديون ، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه .
قال : ( وإن صالح الورثة بعضهم عن نصيبه بمال أعطوه والتركة عروض جاز قليلا
أعطوه أو كثيرا ) لما بينا أنه في معنى البيع ، وعثمان رضي الله عنه صالح تماضر امرأة
عبد الرحمن بن عوف عن ربع الثمن وكان له أربع نسوة على ثمانين ألف دينار بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير . قال : ( وكذلك إن كانت أحد النقدين فأعطوه خلافه )(3/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
لأن بيع الجنس بخلافه جائز ( وكذلك لو كانت نقدين فأعطوه منهما ) ويصرف كل واحد
منهما إلى خلاف جنسه ، وقد مر في البيوع ؛ ثم إن كان في يده شيء من التركة ، إن كان
مقرا به يكون أمانة ، فلا بد من تجديد القبض فيه لأنه أضعف من قبض الصلح فلا ينوب
عنه ، وإن كان جاحدا له صار مضمونا عليه فينوب عن قبض الصلح ( ولو كانت نقدين
وعروضا فصالحوه على أحد النقدين ، فلا بد أن يكون أكثر من نصيبه من ذلك الجنس )
ليكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة تحرزا عن الربا ( ولو كان بدل الصلح عرضا
جاز مطلقا ) لعدم تحقق الربا ، وكل موضع يقابل فيه أحد النقدين بالآخر يشترط القبض
بالمجلس لأنه صرف .
قال : ( وإن كان في التركة ديون فأخرجوه منها على أن تكون لهم لا يجوز ) لأنه تمليك
الدين من غير من عليه دين ( وإن شرطوا براءة الغرماء جاز ) لأنه إسقاط أو تمليك الدين ممن
هو عليه وإنه جائز ، وإن كان على الميت دين لا يصالحون ولا يقسمون حتى يقضوا دينه
لتقدم حاجته ، ولقوله تعالى : ) من بعد وصية يوصي بها أو دين ( [ النساء : 11 ] وإن
قسموها ، فإن كان الدين مستغرقا للتركة بطلت لأنه لا ملك لهم فيها ، وإن كان غير مستغرق
جاز استحسانا لا قياسا ، والله سبحانه أعلم .(3/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
كتاب الشركة
الشرك : النصيب ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من أعتق شركا له في عبد ' أي نصيبا . قال النابغة الجعدي :
وشاركنا قريشا في تقاها
وفي أحسابها شرك العنان
أي أخذنا نصيبا من التقى والحسب مثل نصيب قريش منهما ، كشركة العنان لكل واحد
نصيب من المال والكسب ، وسمي الشريكان لأن كل واحد منهما شركا في المال : أي
نصيبا . وهي في الشرع : الخلطة وثبوت الحصة ، وهي مشروعة بالنصوص ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها
عنهما ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' الشريكان الله ثالثهما ما لم يخونا ، فإذا خانا محيت
البركة بينهما ' وكان قيس بن السائب شريك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في تجارة البز والأدم . وذكر
الكرخي أسامة بن شريك ، وقال عليه الصلاة والسلام في صفته : ' كان شريكي وكان خير
شريك لا يشاري ولا يماري ولا يداري ' أي لا يلح ولا يجادل ولا يدافع عن الحق ،(3/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والناس يتعاملونها فلم ينكر عليهم وتعاملوا بها إلى يومنا هذا من غير
نكير فكان إجماعا .
قال : ( الشركة نوعان : شركة ملك ، وشركة عقد . فشركة الملك نوعان : جبرية ،
واختيارية . وشركة العقود نوعان : شركة في المال ، وشركة في الأعمال . فالشركة في الأموال
أنواع : مفاوضة ، وعنان ، ووجوه ، وشركة في العروض . والشركة في الأعمال نوعان : جائزة
وهي شركة الصنائع ، وفاسدة وهي الشركة في المباحات ) وسيأتيك بيان ذلك إن شاء الله
تعالى . أما شركة الأملاك ، أما الجبرية بأن يختلط مالان لرجلين اختلاطا لا يمكن التمييز
بينهما أو يرثان مالا . والاختيارية أن يشتريا عينا أو يتهبا أو يوصى لهما فيقبلان أو يستوليا
على مال أو يخلطا مالهما ، وفي جميع ذلك كل واحد منهما أجنبي في نصيب الآخر لا
يتصرف فيه إلا بإذنه لعدم إذنه له فيه ، ويجوز بيع نصيبه من شريكه في جميع الوجوه ، وأما
من غيره فما ثبتت الشركة فيه بالخلط أو الاختلاط لا يجوز إلا بإذن شريكه ، لأن الخلط
استهلاك معنى فأورث شبهة زوال ملك نصيب كل واحد منهما إلى صاحبه ، وفيما يثبت
بالميراث والبيع والهبة والوصية يجوز بيع أحدهما نصيبه من أجنبي بغير إذن صاحبه ، لأن
ملك كل واحد منهما قائم في نصيبه من كل وجه . وأما شركة العقود فركنها الإيجاب
والقبول وهو أن يقول : شاركتك في كذا وكذا فيقول الآخر : قبلت . وشرطها أن يكون
التصرف المعقود عليه قابلا للوكالة حتى لا يجوز على الاحتطاب وأشباهه ليكون الحاصل
بالتصرف مشتركا بينهما إذ هو المطلوب من عقد الشركة .
( أما المفاوضة فهو أن يتساويا في التصرف والدين والمال الذي تصح فيه الشركة ) لأنها
في اللغة تقتضي المساواة ، يقال : فاوض يفاوض : أي ساوى يساوي ، فلا بد من تحقق
المساواة ابتداء وانتهاء وذلك فيما ذكرناه . أما المال فلأنه الأصل في الشركة ومنه يكون
الربح . وأما التصرف فلأنه متى تصرف أحدهما تصرفا لا يقدر الآخر عليه فاتت المساواة ،
وكذا في الدين لأن الذمي يملك من التصرف في بيع الخمر والخنزير وشرائهما ما لا يملكه
المسلم فلا مساواة بينهما ، فلهذا قلنا : لا يصح بينهما مفاوضة . وقال أبو يوسف رحمه الله :
تنعقد المفاوضة بينهما ، لأن ما يملكه الذمي من بيع الخمر والخنزير يملكه المسلم بالتوكيل
فتحققت المساواة ، قلنا الذمي يملك ذلك بنفسه وبنائبه ، ولا كذلك المسلم فانتفت المساواة ،(3/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
فإذا عقدا المفاوضة صارت عنانا عندهما لفوات شرط المفاوضة ووجود شرط العنان ،
وكذلك كل ما فات شرط من شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن تصحيحا لتصرفهما بقدر
الإمكان .
قال : ( ولا تصح إلا بين الحرين البالغين العاقلين المسلمين أو الذميين ) وإن كان
أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا لتساويهما في التصرف ولا تصح بين العبد والحر ، ولا بين
الصبي والبالغ للتفاوت بينهما ، فإن الحر والبالغ يملكان الكفالة والتبرعات ، ولا كذلك الصبي
والعبد ، أو يملكانها بإذن الولي والمولى ، ولا تصح بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين
المكاتبين ، لأن هؤلاء ليسوا من أهل الكفالة وأنها تنعقد على الكفالة على ما نبينه إن شاء الله
تعالى . والأصل في جوازها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' فاوضوا فإنه أعظم للبركة ' ولأنها تشتمل على
الوكالة والكفالة والشركة في الربح وكل واحد منها جائز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع .
قال : ( ولا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة ) لأن العوامّ قلما يعلمون شرائطها ، وهذه اللفظة
تتضمن شرائطها ومعناها ( أو تبيين جميع مقتضاها ) لأن العبرة للمعاني . قال : ( ولا يشترط
تسليم المال ) لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود . قال : ( ولا خلطهما ) لأن المقصود
الخلط في المشترى ، وكل واحد منهما يشتري بما في يده بخلاف المضاربة ، لأنه لا بد من
التسليم ليتمكن من الشراء ، ويشترط حضوره عند العقد أو عند المشترى ، لأن الشركة تتم
بالشراء لأن الربح به يحصل . قال : ( وتنعقد على الوكالة والكفالة ) لأن المساواة بذلك
تتحقق ، وهو أن يكون كل واحد منهما مطالبا بما طولب به صاحبه بالتجارة وهو الكفالة ،
وأن يكون الحاصل في التجارة بفعل أيهما كان مشتركا بينهما وهي الوكالة ، فكان معنى
المفاوضة وهو المساواة يقتضي الكفالة والوكالة ، فكأن كل واحد منهما فوض إلى الآخر أمر
الشركة على الإطلاق ورضي بفعله ، وذلك يقتضي الوكالة والكفالة أيضا .
قال : ( فما يشتريه كل واحد منهما على الشركة ) عملا بعقد المفاوضة ( إلا طعام أهله
وإدامهم وكسوتهم وكسوته ) والقياس أن يكون على الشركة بمقتضى العقد ، إلا أنا استحسنا
ذلك للضرورة ، فإن الطعام والكسوة من اللوازم ، ولا يمكن إيجادها من مال غيره فيجب في
ماله ضرورة . قال : ( وللبائع مطالبة أيهما شاء بالثمن ) بمقتضى الكفالة ثم يرجع الكفيل على(3/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
المشتري بنصف ما أدى لأنه كفيل أدى عنه بأمره . قال : ( وإن تكفل بمال عن أجنبي لزم
صاحبه ) وقالا : لا يلزمه لأنه تبرع حتى لا يصح من الصبي والمأذون وصار كالإقراض ،
وله أنه تبرع ابتداء لما ذكر معاوضة انتهاء لأنه يجب له الضمان على المكفول عنه حتى لو
كفل عنه بغير أمره لا يلزم شريكه ، وبالنظر إلى المعاوضة يلزم شريكه والإقراض ممنوع أو
يقول هو إعارة ، ولهذا لا يصح فيه التأجيل ، وللمردود في الإعارة حكم العين لا حكم
البدل ، فلم توجد المعاوضة وضمان الغصب والاستهلاك كالكفالة لأنه معاوضة انتهاء ،
وكذا ما يلزم أحدهما من الديون بسبب تصح فيه الشركة كالبيع والإجارة ونحوهما يلزم
شريكه ، وما لزم بسبب لا تصح فيه الشركة لا يلزم كالنكاح وبدل الخلع والصلح عن دم
العمد ونحوه .
قال : ( فإن ملك أحدهما ما تصح فيه الشركة صارت عنانا ) لزوال المساواة ، وذلك مثل
الإرث والوصية والاتهاب والمساواة في العنان ليست بشرط فتصير عنانا لوجود شرائطها
( وكذا في كل موضع فسدت فيه المفاوضة لفوات شرط لا يشترط في العنان ) فتصير عنانا وإن
ملك شيئا لا تصح فيه الشركة كالعقار والعروض ، فالمفاوضة بحالها لأن ذلك لا يبطلها في
الابتداء فكذا حالة البقاء .
قال : ( ولا تنعقد المفاوضة والعنان إلا بالدراهم والدنانير وتبريهما إن جرى التعامل به
وبالفلوس الرائجة ) أما الدراهم والدنانير فلأنهما ثمن الأشياء خلقة ووضعا ولا خلاف في
ذلك . وأما التبر فقيل يجوز مطلقا لأن الذهب والفضة خلقا ثمنين ؛ وقيل لا يجوز إلا
بالتعامل وهو الأصح لأنهما وإن خلقا للثمنية لكن بوصف الضرب حتى لا ينصرف الاسم
عند الإطلاق إلى التبر ، وإنما ينصرف إلى المضروب ، إلا أنا أجرينا التعامل مجرى الضرب
عملا بالعرف فألحقناه بهما عند التعامل ؛ وإن كان لأحدهما دراهم وللآخر دنانير ، أو
لأحدهما سود وللآخر بيض جازت المفاوضة إن استوت قيمتهما ، لأنه جنس واحد من حيث
الثمنية ، وإن تفاضلا في القيمة لا تصح المفاوضة وتصير عنانا لما تقدم . وروى الحسن عن
أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يجوز وإن استويا في القيمة ، وهو قول زفر ، لأن الشركة تنبئ
عن الخلطة ، ولا اختلاط مع اختلاف الجنس . وجوابه أنهما جنس واحد من حيث الثمنية
نظرا إلى المقصود على ما بينا . وأما الفلوس فلأنها إذا راجت التحقت بالأثمان . وعن أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله : أنه لا يجوز لأن ثمنيتها تتعين بالاصطلاح ومحمد مرّ على
أصله في ثمنيتها حتى لا تتعين بالتعيين حالة النفاق والرواج .(3/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
قال : ( ولا تصح بالعروض ) لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ، لأنه لا بد من بيعها ،
فإذا باع أحدهما عروضه بألف وباع الآخر عروضه بألف وخمسمائة ومقتضى العقد الشركة
في الكيل ، فما يأخذه صاحب الألف زيادة على الألف ربح ما لم يضمن ، وقد نهى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ربح ما لم يضمن . قال : ( إلا أن يبيع أحدهما نصف عروضه بنصف
عروض الآخر إذا كانت قيمتاهما على السواء ) فتنعقد شركة أملاك ( ثم يعقدان الشركة ) على
قيمتها وهذه شركة العروض ؛ وإن اشتركا على أن يبيع كل واحد منهما عروضه ويكون ثمنه
بينهما لا يجوز لما تقدم . وتصح الشركة بالمكيل والموزون والمعدود المتفاوت إذا خلطا
واتحد الجنس ، وما ربحا لهما والوضيعة عليهما . وذكر الكرخي أن عند أبي يوسف رحمه
الله : هي شركة أملاك لأنها ليست بأثمان فلا يصح التفاضل في الربح . وعند محمد : تصح
شركة عقد بالخلط لأنها تصلح ثمنا لوجوبها دينا في الذمة ، إلا أن قبل الخلط لا تتحقق
الوكالة ، فإنه لو قال له : اشتر بحنطتك شيئا على أن يكون بيننا لا يصح ، لأن توكيل الغير
ببيع ملك نفسه لا يجوز ، وبعد الخلط تتحقق الوكالة فصحت الشركة .
قال : ( وشركة العنان تصح مع التفاضل في المال ) إلا أنها لا تقتضي المساواة فيتجوز
أن يشتركا في عموم التجارات وفي خصوصها وببعض ماله لأنها تنبئ عن الحبس ، يقال :
عنّ الرجل إذا حبس ، والعنين محبوس عن النساء ، والعنان يحبس الدابة عن بعض الإطلاق ،
فكأن شريك العنان حبس بعض ماله عن الشركة ، أو حبس شريكه عن بعض التجارات في
ماله ، وتعتبر قيمة رأس المالين المختلفين يوم الشركة ، لأنه إما يستحق زيادة الربح بالشرط
يوم الشركة ، ويعتبر قيمتهما يوم الشراء ليعرف مقدار ملكهما في المشترى ، لأن حقهما ينتقل
إلى المشتري بالشراء ، ويعتبر قيمتهما يوم القسمة أيضا ، لأن عند القسمة يظهر الربح . قال :
( وتصح مع التفاضل في المال والتساوي في الربح إذا عملا أو شرطا زيادة الربح للعامل ) وقال
زفر : لا تصح المساواة في المال والتفاوت في الربح ولا على العكس ، ولا يجوز إلا أن
يكون الربح على قدر رأس المال ، لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن كالمفاوضة ، ولأنه لا
يجوز اشتراط الوضيعة هكذا فكذا الربح . ولنا قول علي رضي الله عنه : الربح على ما اشترط
المتعاقدان ، والوضيعة على المال . ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل
كالمضارب ، فإن أحدهما قد يكون أعرف بأمور التجارات وأهدى إلى البياعات فلا يرضى
بالمساواة .(3/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
( وإذا تساويا في المال وشرطا التفاوت في الربح والوضيعة ، فالربح على ما شرطا
والوضيعة على قدر المالين ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين ' .
من غير فصل ، ولأنا جوزنا اشتراط زيادة في الربح بمقابلة العمل تقديرا . أما زيادة الوضيعة
فلا وجه لها ، وصار كما إذا شرطا الوضيعة على الضارب فإنه لا يصح كذلك هنا . قال :
( وتنعقد على الوكالة ) لما مر ( ولا تنعقد على الكفالة ) لأنها إنما ثبتت في المفاوضة قضية
للمساواة ولا مساواة هنا . قال : ( ولا تصح فيما لا تصح الوكالة به كالاحتطاب والاحتشاش )
لأن الوكالة في ذلك باطلة لأنها مباحة ، لأن الآخذ يملكه بدون التوكيل فيكون فاعلا
لنفسه ، ومن ذلك اجتناء الثمار من الجبال والاصطياد وحفر المعادن وأخذ الملح والجص
والكحل وغيرها من المباحات ( وما جمعه كل واحد منهما فهو له ) دون صاحبه لأنه مباح
سبقت يده عليه ( فإنه أعانه الآخر فله أجر مثله ) بالغا ما بلغ لأن الشركة متى فسدت
صارت إجارة فاسدة ، ولو استأجره في ذلك بنصف المجموع كان له أجر المثل بالغا ما
بلغ كذلك هنا . وقال أبو يوسف : له أجر مثله لا يجاوز به نصف الثمن تحقيقا للفائدة ،
وهذه الشركة فاسدة .
قال : ( وإن هلك المالان أو أحدهما في شركة العنان قبل الشراء بطلت الشركة ) أما إذا
هلكا فلأن المعقود عليه المال وأنه يتعين فيها كالهبة والوصية وقد هلك فيبطل العقد كالبيع ،
وأما إذا هلك أحدهما فلأن الآخر ما رضي بشركة في ماله إلا ليشركه في ماله أيضا ، وقد
فاتت الشركة في الهالك فيفوت الرضى فيبطل العقد . قال : ( وإن اشترى أحدهما بماله ثم
هلك مال الآخر فالمشترى بينهما على ما شرطا ) لانعقاد الشركة وقت الشراء ( ويرجع على
صاحبه بحصته من الثمن ) لأنه اشترى له بالوكالة ونقد الثمن من ماله فيرجع عليه لما مر ( وإن
هلك أحد المالين ثم اشترى أحدهما فالمشترى لصاحب المال خاصة ) لأن الوكالة بطلت
بهلاك أحد المالين كما تقدم فيكون مشتريا لنفسه خاصة ، وإن كانا نصا على الوكالة في عقد(3/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
الشركة كان المشتري بينهما على ما شرطا وتكون شركة أملاك ، لأن الشركة بطلت لما بينا ،
والمشتري بحكم الوكالة المصرح بها لا بحكم الشركة المعقودة فكانت شركة أملاك ، ويرجع
عليه بحصته من الثمن لما مر .
قال : ( ولا يجوز أن يشترطا لأحدهما دراهم مسماة من الربح ) لأنه قد لا يربح ما سميا
أو يربح ذلك لا غير فتبطل الشركة فكان شرطا مبطلا للشركة فلا يجوز . قال : ( ولشريك
العنان والمفاوض أن يوكل ويبضع ويضارب ويودع ويستأجر على العمل ) لأن كل ذلك من
أفعال التجار ( وهو أمين في المال ) لأنه قبضه من المالك بإذنه وليس له أن يشارك لأن
الشيء لا يستتبع مثله ، فلو شارك المفاوض عنانا جاز عليهما لأنه دون المفاوضة ، ولو
فاوضه جاز بإذن شريكه ، فإن لم يأذن ينعقد عنانا لأن الشيء لا يستتبع مثله ، فإذا أجاز
المفاوضة كانت شركة مبتدأة وإلا فهي عنان لأنه لا بد له من الاستعانة بغيره وهذا دونه
فيجوز كالمضارب له أن يوكل وليس له أن يضارب .
قال : ( وشركة الصنائع ) وتسمى شركة التقبل ، وهي ( أن يشترك صانعان اتفقا في الصنعة
أو اختلفا على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز ) وقال زفر : لا يجوز مع
اختلاف العمل لأن الشركة تنبئ عن الخلطة ولا اختلاط مع الاختلاف . ولنا أنها شركة في
ضمان العمل وفيما يستفاد به وهو الأجر لا في نفس العمل ، والوكالة فيه ممكنة ، لأن ما
يتقبل كل واحد منهما من العمل فهو أصيل في نصفه وكيل في نصفه ، وبذلك تتحقق
الشركة ؛ ولو استويا في العمل وتفاضلا في المال جاز أيضا ، لأن الأجرة بدل عملهما ،
وأنهما يتفاوتان فيكون أحدهما أجود عملا وأحسن صناعة فيجوز ؛ والقياس أن لا يجوز لأنه
يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ، لأن الضمان بقدر العمل فالزيادة عليه زيادة ربح ما لم يضمن .
قلنا المأخوذ هنا ليس بربح ، لأن الربح يقتضي المجانسة بينه وبين رأس المال ولا مجانسة ،
لأن رأس المال هو العمل والربح مال فكان بدل العمل على ما بينا . قال : ( وما يتقبله
أحدهما يلزمهما فيطالب كل واحد منهما بالعمل ويطالب بالأجر ) استحسانا . والقياس أنه لا
يلزم شريكه ، لأن ذلك مقتضى المفاوضة والشركة هنا مطلقة ؛ وجه الاستحسان أن هذه
الشركة تقتضي الضمان حتى كان ما يتقبله كل واحد منهما مضمونا على الآخر ، ويستوجب
الأجر بما تقبله شريكه فكان كالمفاوضة في ضمان الأعمال والمطالبة بالأبدال .(3/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
قال : ( وشركة الوجوه جائزة ) وتسمى شركة المفاليس ( وهي أن يشتركا على أن يشتريا
بوجوههما ويبيعا ) سميت بذلك لأن الشراء بالنسيئة إنما يكون لمن له وجاهة عند الناس ،
والتعامل بذلك جائز بين الناس من غير نكير . قال : ( وتنعقد على الوكالة ) لأن التصرف على
الغير إنما يجوز بوكالته إذ لا ولاية عليه وهذا عند الإطلاق ، ولو شرط الكفالة أيضا جاز
وتكون مفاوضة لأنه يمكن تحقيق ذلك ، لكن عند الإطلاق بصرف إلى العنان لأنه أدنى .
قال : ( وإن شرطا أن المشترى بينهما فالربح كذلك ، ولا تجوز الزيادة فيه ) لأن استحقاق
الربح بالضمان ، والضمان يتبع الملك في المشتري فيتقدر بقدره . قال : ( وإن اشتركا
ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي الماء لا يصح ، والكسب للعامل ) لأن الماء مباح وأخذه
لا يستفاد بالوكالة وقد تقدم ( وعليه أجرة بغل الآخر أو راويته ) لأنه قد انتفع بملك الغير بعقد
فاسد فيلزمه أجرته . قال : ( والربح في الشركة الفاسدة على قدر المال ويبطل شرط الزيادة )
لأن الربح تبع لرأس المال فيتبعه في الملكية ، والزيادة إنما تستحق بالشرط وقد بطل .
قال : ( وإذا مات أحد الشريكين أو لحق بدار الحرب مرتدا بطلت الشركة ) لتضمنها
الوكالة ، وهي تبطل بذلك على ما مر . قال : ( وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال
الآخر إلا بإذنه ) لأن ذلك ليس بداخل في الشركة لأنه ليس من التجارة ( فإن أذن كل واحد
منهما لصاحبه فأديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه ، وإن أديا متعاقبا ضمن الثاني
للأول علم بأدائه أو لم يعلم ) عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعنه إن لم يعلم لا يضمن وهو
قولهما ، لأنه مأمور بالدفع إلى الفقير وقد فعل . وله أنه مأمور بالدفع إليه زكاة ، والمدفوع لم
يقع زكاة فكان مخالفا ، ولأنه أمره بأداء يخرجه عن العهدة ولم يوجد فكان مخالفا فيضمن ،
والله أعلم .(3/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
كتاب المضاربة
وهي مفاعلة من الضرب ، وهو السير في الأرض ، قال الله تعالى : ) وإذا ضربتم في
الأرض ( [ النساء : 101 ] الآية ، وسمي هذا النوع من التصرف مضاربة لأن فائدته وهو الربح
لا تحصل غالبا إلا بالضرب في الأرض ، وهي بلغة الحجاز مقارضة ، وإنما اخترنا المضاربة
لموافقته نص القرآن ، وهو قوله تعالى : ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله (
[ المزمل : 20 ] أي يسافرون للتجارة ، وهو عقد مشروع بالآية وبالسنة ، وهو ما روي أن
العباس كان يدفع ماله مضاربة ، ويشترط على مضاربه أن لا يسلك به بحرا وأن لا ينزل واديا
ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل ذلك ضمن ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحسنه
وأجازه ، وبعث عليه الصلاة والسلام والناس يتعاملونه فأقرهم عليه . وعن عمر رضي الله
عنه أنه دفع مال اليتيم مضاربة وعليه الإجماع ، ولأن للناس حاجة إلى ذلك لأن منهم الغني
الغبي عن التصرفات ، والفقير الذكي العارف بأنواع التجارات ، فمست الحاجة إلى شرعيته
تحصيلا لمصلحتها . وتنعقد بقوله دفعت هذا المال إليك مضاربة أو مقارضة أو معاملة ، أو
خذ هذا المال واعمل فيه على أن لك نصف الربح أو ثلثه ، أو قال : خذ هذه الألف واعمل
بها بالنصف أو بالثلث استحسانا ، لأن البيع والشراء صار مذكورا بذكر العمل ، والنصف متى
ذكر عقيب البيع والشراء يراد بن النصف من الربح عرفا وأنه كالمشروط ، ولو قال : خذ هذا
المال بالنصف كان مضاربة استحسانا عملا بالعرف . وشرائطها خمسة : أحدها أنها لا تجوز(3/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
إلا بالنقدين . الثاني : إعلام رأس المال عند العقد ، إما بالإشارة أو بالتسمية ، ويكون مسلما
إلى المضارب . الثالث : أن يكون الربح شائعا بينهما . الرابع : إعلام قدر الربح لكل واحد
منهما . الخامس : أن يكون المشروط للمضارب من الربح ، حتى لو شرطه من رأس المال أو
منهما فسدت على ما يأتيك إن شاء الله تعالى .
قال : ( المضارب شريك رب المال في الربح ، ورأس ماله الضرب في الأرض ) لأنه لو
لم يكن شريكه في الربح لا يكون مضاربة على ما نبينه إن شاء الله . قال : ( فإذا سُلم رأس
المال إليه فهو أمانة ) لأنه قبضه بإذن المالك ( فإذا تصرف فيه فهو وكيل ) لأنه تصرف فيه
بأمره ( فإذا ربح صار شريكا ) لأنه ملك جزءا من الربح ( فإن شرط الربح للمضارب فهو
قرض ) لأن كل ربح لا يملك إلا بملك رأس المال ، فلما شرط له جميع الربح فقد ملكه
رأس المال ، ثم قوله مضاربة شرط لرده فيكون قرضا ( وإن شرط لرب المال فهو بضاعة ) هذا
معناها عرقا وشرعا ( وإذا فسدت المضاربة فهي إجارة فاسدة ) لأنه عمل له بأجر مجهول
فيستحق أجر مثله لما مر ( وإذا خالف صار غاصبا ) لأنه تصرف في ملك الغير بغير رضاه
فكان غاضبا ، ولا تصح إلا بما تصح به الشركة .
قال : ( ولا تصح إلا أن يكون الربح بينهما مشاعا ، فإن شرط لأحدهما دراهم مسماة
فسدت ) لما مر في الشركة ، وكذا كل شرط يوجب الجهالة في الربح يفسدها لاختلال
المقصود ( والربح لرب المال ) لأن الربح تبع للمال لأنه نماؤه ( وللمضارب أجر مثله ) لأنها
فسدت ولا يتجاوز به المسمى عند أبي يوسف ، وهو نظير مما مر في الشركة الفاسدة ،
وهكذا كل موضع لا تصح فيه المضاربة . وتجب الأجرة وإن لم يعمل لأن الأجير يستحق
الأجرة بتسليم نفسه وقد سلم . وعن أبي يوسف أنه لا يستحق حتى يربح كالصحيحة ،
والمال أمانة كالصحيحة ، أو لأنه أجير خاص .
قال : ( واشتراط الوضيعة على المضارب باطل ) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه
قال : الربح على ما اشترطوا عليه ، والوضيعة على المال ولأنه تصرف فيه بأمره فصار
كالوكيل . قال : ( ولا بد أن يكون المال مسلما إلى المضارب ) لأنه لا يقدر على العمل إلا
باليد ، فيجب أن تخلص يده فيه وتنقطع عنه يد رب المال .(3/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
قال : ( وللمضارب أن يبيع ويشتري بالنقد والنسيئة ويوكل ويسافر ويبضع ) وأصله أن
المضارب مأمور بالتجارة ، فيدخل تحت الإذن كل ما هو تجارة أو ما لا بد للتجارة منه :
كالبيع والشراء والباقي من أعمال التجارة ، وكذلك الإيداع ولأنها دون المضاربة فيدخل تحت
الأمر . قال : ( ولا يضارب إلا بإذن رب المال ، أو بقوله : اعمل برأيك ) لأن الشيء لا يستتبع
مثله لاستوائهما في القوة فاحتاج إلى التنصيص أو مطلق التفويض ، إلا أنه ليس له الإقراض
لأن الإطلاق فيما هو من أمور التجارة لا غير . قال : ( وليس له أن يتعدى البلد والسلعة
والمعامل الذي عينه رب المال ) لما روينا من حديث العباس رضي الله عنه . وعن ابن مسعود
رضي الله عنه أنه دفع المال مضاربة وقال : لا تسلف مالنا في الحيوان ، ولأنها وكالة ، وفي
التخصيص فائدة فيتخصص ، ولو خالفه كان مشتريا لنفسه وربحه له ، لأنه لما خالف صار
غصبا فأخذ حكم الغصب ، ثم قيل يضمن بنفس الإخراج من البلد لوجود المخالفة ، وقيل
لا يضمن ما لم يشتر لاحتمال عوده إلى البلد قبل الشراء ، فإذا عاد زال الضمان وصار
مضاربة على حاله بالعقد الأول كالمودع إذا خالف ثم عاد .
والمضاربة نوعان : عامة ، وخاصة . فالعامة نوعان : أحدهما أن يدفع المال إليه مضاربة
ولم يقل له اعمل برأيك ، فيملك جميع التصرفات التي يحتاج إليها في التجارة ويدخل فيه
الرهن والارتهان والاستئجار والحط بالعيب والاحتيال بمال المضاربة ، وكل ما يعمله التجار
غير التبرعات والمضاربة والشركة والخلط والاستدانة على المضاربة ، وقد مر الوجه فيه .
والثاني أن يقول له : اعمل برأيك ، فيجوز له ما ذكرنا من التصرفات والمضاربة والشركة
والخلط لأن ذلك مما يفعله التجار ، وليس له الإقراض والتبرعات لأنه ليس من التجارة فلا
يتناوله الأمر . والخاصة ثلاثة أنواع :
أحدها أن يخصه ببلد فيقول : على أن تعمل بالكوفة أو بالبصرة . والثاني أن يخصه
بشخص بعينه بأن يقول : على أن تبيع من فلان وتشتري منه ، فلا يجوز التصرف مع غيره
لأنه قيد مفيد لجواز وثوقه به في المعاملات . الثالث أن يخصه بنوع من أنواع التجارات بأن
يقول له : على أن تعمل به مضاربة في البزّ أو في الطعام أو في الصرف ونحوه ، وفي كل
ذلك يتقيد بأمره ولا يجوز له مخالفته لأنه مقيد وقد مر الوجه فيه ، ولو قال : على أن تعمل
بسوق الكوفة فعمل في موضع آخر منها جاز لأن أماكن المصر كلها سواء في السفر والنقد
والأمن ، ولو قال : لا تعمل إلا في سوق فعمل في غيره ضمن لأنه صرّح بالنهي ؛ ولو دفع
المال مضاربة في الكوفة على أن يشتري من أهلها فاشترى من غيرهم فيها جاز لأن المقصود(3/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
المكان عرفا ؛ وكذلك لو دفعه مضاربة في الصرف على أن يشتري من الصيارفة ويبيعهم
فاشترى من غيرهم جاز لأن المراد النوع عرفا . قال : ( وإن وقّت لها وقتا بطلت بمضيه ) لأن
التوقيت مقيد وهو وكيل فيتقيد بما وقّته كالتقييد بالنوع والبلد . قال : ( وليس له أن يزوج عبدا
ولا أمة من مال المضاربة ) وهو على الخلاف الذي مر في المأذون . قال : ( ولا يشتري من
يعتق على رب المال ) لأنه يعتق عليه فتبطل المضاربة ، وهو إنما وكله بالتصرف في المال لا
بإبطال العقد ( فإن فعل ضمنه ) معناه صار مشتريا لنفسه فيضمن الثمن كالوكيل بالشراء إذا
خالف .
قال : ( ولا من يعتق عليه إن كان في المال ربح ) لأنه يملك نصيبه فيعتق عليه فيفسد
الباقي أو يعتق فيمتنع التصرف فيه ، فإن اشتراه كان مشتريا لنفسه فيضمن الثمن لأنه أداه من
مال الغير . قال : ( فإن لم يكن في المال ربح فاشترى من يعتق عليه صح البيع ) لعدم المانع
( فإن ربح عتق نصيبه ) لأنه ملك قريبه ولا ضمان عليه لأنه عتق بالربح لا بصنعه ( ويسعى
العبد في قيمة نصيب رب المال ) لأن ماليته صارت محبوسة عنده فيسعى كالعبد الموروث إذا
عتق على أحد الورثة يسعى في نصيب الباقين .
قال : ( فلو دفع إليه المال مضاربة وقال : ما رزق الله بيننا نصفان وأذن له في الدفع
مضاربة ، فدفع إلى آخر بالثلث فنصف الربح لرب المال بالشرط ، والسدس للأول ، والثلث
للثاني ) لأنه لما شرط رب المال لنفسه النصف بقي النصف للمضارب ، فلما شرط الثلث
للثاني انصرف تصرفه إلى نصيبه فيبقى له السدس ويطيب له كأجير الخياط ( وإن دفع الأول
إلى الثاني بالنصف فلا شيء له ) لأنه جعل نصفه للثاني فلم يبق له شيء ، كمن استأجره
لخياطة ثوب بدرهم فاستأجر غيره ليخيطه بدرهم ( وإن دفعه على أن للثاني الثلثين ضمن
الأول للثاني قدر السدس من الربح ) لأنه ضمن الثاني ثلثي الربح وبعضه وهو النصف ملكه
وبعضه وهو السدس ملك رب المال فلا ينفذ لأنه إبطال ملك الغير لكن التسمية صحيحة
لكونها معلومة في عقد يملكه ، وقد ضمن له السلامة فيلزمه الوفاء ، وصار كمن استأجر
خياطا لخياطة ثوب بدرهم فاستأجر الخياط غيره ليخيطه بدرهم ونصف .(3/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
( ولو قال : ما رزقك الله فلي نصفه ، فما شرطه للثاني فهو له ) عملا بالشرط لأنه ملكه
من جهة رب المال ( والباقي بين رب المال والمضارب الأول نصفان ) لأن رب المال جعل
لنفسه نصف ما رزقه الله ، وإنما رزقه نصف الربح فيكون بينهما نصفان ؛ وكذلك إذا قال : ما
ربحت أو كسبت أو رزقت أو ما كان لك فيه من فضل أو ربح فهو بيننا نصفان ، فإنه ينطلق
إلى ما بعد شرط للثاني لما بينا .
( ولو قال : على أن ما رزق الله بيننا نصفان فدفعه إلى آخر بالنصف فدفعه الثاني إلى
ثالث بالثلث فالنصف لرب المال ، وللثالث الثلث ، وللثاني السدس ولا شيء للأول ) لأنه لما
شرط النصف للثاني وانصرف إلى نصيبه لما بينا فلم يبق له شيء والباقي على ما شرطاه لما
بينا . وإذا لم يؤذن للمضارب في الدفع مضاربة فدفعه إلى غيره مضاربة ضمن عند زفر
لوجود المخالفة ، وقالا : لا يضمن ما لم يعمل لأن الدفع لا يتقرر مضاربة إلا بالعمل ، وقال
أبو حنيفة : لا يضمن ما لم يربح لما بينا في أول الباب أن الدفع قبل العمل أمانة وبعد العمل
مباضعة وهو يملك ذلك ، فإذا ربح صار شريكا في المال فيضمن كما إذا خلط بمال آخر ولا
ضمان على الثاني لأن فعله يضاف إلى الأول ، لأنه هو الذي أثبت له ولاية التصرف ، فإن
استهلكه الثاني فالضمان على الأول خاصة ، وعندهما يضمن الثاني وهو نظير مودع المودع ،
والأشهر أن يخير ههنا فيضمن أيهما شاء الأول لما بينا والثاني لإبطاله حق رب المال فكان
متعديا في حقه ، ولو كانت المضاربة فاسدة لا ضمان عليه لأن الثاني أجير فيه ، وله أجر مثله
فلا يكون شريكا ، ولو دفع المال إلى رجلين مضاربة بالنصف وقال : اعملا برأيكما ، أو لم
يقل فليس لأحدهما أن ينفرد لأن التجارة يحتاج فيها إلى الرأي ، فإن عمل أحدها بنصف
المال بغير أمر صاحبه ضمن النصف ، وإن عمل بأمر الآخر لم يضمن لأنه كالوكيل عنه ، وما
ربح نصفه لرب المال ونصفه بينهما نصفان .
فصل
ونفقة المضارب في مال المضاربة ما دام في سفره حتى يعود إلى مصره ، وإن كان
ما دون مدة السفر إذا كان لا يبيت بأهله ، وإن كان يبيت فلا نفقة له ، وكذا لا نفقة له
ما دام في مصره ، لأن النفقة جزاء الاحتباس ، فإذا كان في مصره لا يكون محتبسا في
المضاربة وفي السفر يكون محتبسا فيها ، وإذا اتخذ مصرا آخر دارا أو تزوج به فهو كمصره
ونفقته في الحاجة الدارة كالطعام والشراب والكسوة وفراش النوم ودابة الركوب وعلفها(3/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
ومن يطبخ له ويغسل ثيابه وأجرة الحمام ودهن السراج والحطب ، وتجب نفقة مثله
بالمعروف ونفقة غلمانه ودوابه الذين يعملون معه في المال ، وتحتسب النفقة من الربح ،
فإن لم يكن فمن رأس المال ؛ ولو أنفق من مال نفسه أو استدان لنفقته رجع في مال
المضاربة ؛ ولو ضارب لرجلين فنفقته على قدر المالين ، ولو كان أحد المالين بضاعة
فالجميع على المضاربة لأن السفر واقع لها ، ولو كانت المضاربة فاسدة لا نفقة للمضارب
لأنه أجير ونفقة الأجير على نفسه .
قال : ( وتبطل المضاربة بموت المضارب وبموت رب المال ) لأنها وكالة وأنها تبطل
بالموت لما مر . قال : ( وبردة رب المال ولحاقه مرتدا ) لأنه موت حكما على ما عرف ( ولا
تبطل بردة المضارب ) لأن ملك رب المال باق ، وعبارة المرتد معتبرة . قال : ( ولا ينعزل
بعزله ما لم يعلم ) كالوكيل ( فلو باع واشترى بعد العزل قبل العلم نفذ ) لبقاء الوكالة ( فإن علم
بالعزل والمال من جنس رأس المال لم يجز له أن يتصرف فيه ) لأنه صار أجنبيا بالعزل ولا
ضرر عليه في ذلك ( وإن كان خلاف جنسه فله أن يبيعه حتى يصير من جنسه ) لأن له حقا
في الربح ، وهو إنما يظهر إذا علم رأس المال ، وإنما يعلم إذا نضّ وإنما ينضّ بالبيع ،
فإذا نضّ لا يتصرف فيه ، وموت أحدهما ولحاقه بدار الحرب كالعزل .
قال : ( وإذا افترقا وفي المال ديون وليس فيه ربح وكل رب المال على اقتضائها ) لأنه
وكيل متبرع بالعمل فلا يلزمه الاقتضاء إلا أنه لما كان عاقدا والحقوق ترجع إليه فلا بد من
وكالته ( وإن كان فيه ربح أجبر على اقتضائها ) لأن الربح بمنزلة الأجرة فكان أجيرا فيجب
عليه تمام العمل . قال : ( وما هلك من مال المضاربة فمن الربح ) لأنه تبع كالعفو في باب
الزكاة ( فإن زاد فمن رأس المال ) لأن المضارب أمين فلا ضمان عليه ، فإن اقتسما الربح
والمضاربة بحالها ثم هلك المال أو بعضه رجع في الربح حتى يستوفي رأس المال ، لأن
الربح فضل على رأس المال ، ولا يعرف الفضل إلا بعد سلامة رأس المال فلا يصح قسمته
فينصرف الهلاك إليه لما بينا ، ويبتدأ أولا برأس المال ثم بالنفقة ثم بالربح الأهم فالأهم ؛ ولو(3/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
فسخه المضاربة ثم اقتسما الربح ثم عقدا المضاربة فهلك رأس المال لم يترادا الربح ، لأن
هذه المضاربة جديدة ، والأولى قد انتهت فانتهى حكمها ، ولو مرّ المضارب على السلطان
فأخذ منه شيئا كرها لا ضمان عليه ، وإن دفع إليه شيئا ليكف عنه ضمن ، لأنه ليس من أمور
التجارة ، وكذلك إذا أراد العاشر أن يأخذ منه العشر فصالحه المضارب بشيء من المال حتى
كف عنه ضمن ، والله عز وجل أعلم .(3/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
كتاب الوديعة
وهي مشتقة من الودع وهو الترك ، يقال : دع هذا : أي اتركه ؛ ومنه الموادعة في
الحرب : أي أن يترك كل واحد من الفريقين الحرب ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' لينهين
قوم عن ودعهم الجماعات أو ليختمن على قلوبهم ثم ليكتبن من الغافلين ' أي تركهم
الجماعات . ومنه الوداع ، لأن كل واحد منهما يترك صاحبه ويفارقه ، أو هي من الحفظ ، قال
عليه الصلاة والسلام في حديث وداع المسافر : ' استودع الله دينك وأمانتك ' أي استحفظ
الله : أي اطلب منه حفظهما ، فكأن الوديعة تترك عند المودع للحفظ ، ولهذا لا يودع عادة إلا
عند من يعرف بالأمانة والديانة . وهو عقد مشروع أمانة لا غرامة ، قال عليه الصلاة والسلام :
' ليس على المستودع غير المغل ضمان ، ولا على المستعير غير المغل ضمان ' ويجب
حفظها على المودع إذا قبلها لأنه التزم الحفظ بالعقد ، والوديعة تارة تكون بصريح الإيجاب
والقبول تارة بالدلالة ، فالصريح قوله أودعتك وقول الآخر قبلت ، ولا يتم في حق الحفظ
إلا بذلك ، ويتم بالإيجاب وحده في حق الأمانة ، حتى لو قال للغاصب أودعتك المغصوب
بريء عن الضمان وإن لم يقبل ، لأن صيرورة المال أمانة حكم يلزم صاحب المال لا غير
فيثبت به وحده ؛ فأما وجوب الحفظ فيلزم المودع فلا بد من قبوله ، والدلالة إذا وضع عنده(3/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
متاعا ولم يقل شيئا ، أو قال هذا وديعة عندك وسكت الآخر صار مودعا حتى لو غاب
المالك ثم غاب الآخر فضاع ضمن ، لأنه إيداع وقبول عرفا .
قال : ( وهي أمانة إذا هلكت من غير تعد لم يضمن ) لأنه لو وجب الضمان لامتنع
الناس من قبولها وفيه من الفساد ما لا يخفى ، ولما روينا من الحديث . قال : ( وله أن
يحفظها بنفسه ومن في عياله وإن نهاه ) لأنه التزم أن يحفظها بما يحفظ به ماله ، وذلك بالحرز
واليد . أما الحرز فداره ومنزله وحانوته ، سواء كان ملكا له أو إجارة أو إعارة . وأما اليد فيده
وزوجته وزوجها وأمته وعبده وأجيره الخاص وولده الكبير إن كان في عياله على ما مر في
الرهن ، ولأن المودع رضي بذلك لأنه يعلم أن المودع لا بد له من الخروج لمعاشه وأداء
فرائضه ، ولا يمكنه استصحاب الوديعة معه فيتركها في منزله عند من في عياله فلم يكن له بد
من ذلك ، ولهذا لا يصح نهيه لو قال لا تدفعها إلى شخص عينه من عياله ممن لا بد له
منه ، فإن لم يكن له عيال سواه لم يضمن ، وإن كان له سواه يضمن لأن من العيال من لا
يؤتمن على المال .
قال : ( وليس له أن يحفظها بغيرهم ) لأنه ما رضي بحفظ غيرهم ، فإن الناس يتفاوتون
في الأمانات وصار كالوكيل والمضارب ليس له أن يوكل ولا يضارب لما تقدم أن الشيء لا
يتضمن مثله . قال : ( إلا أن يخاف الحريق فيسلمها إلى جاره ، أو الغرق فيلقيها إلى سفينة
أخرى ) لأن الحفظ تعين بذلك ، لكن لا يصدق عليه إلا ببينة لأنه يدعي سببا لإسقاط الضمان
فيحتاج إلى بينة .
قال : ( فإن خلطها بغيرها حتى لا تتميز ضمنها ) عند أبي حنيفة ثم لا سبيل للمودع
عليها والخلط على وجوه : أحدها الجنس بالجنس كالحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ،
والدراهم البيض بالبيض ، والسود بالسود . والثاني خلط الجنس بغيره كالحنطة بالشعير ،
والخل بالزيت ونحوهما . والثالث خلط المائع بجنسه ؛ فعند أبي حنيفة هو استهلاك في
الوجوه كلها فيضمنها وينقطع حق المودع عنها ، وعندهما كذلك في الوجه الثاني ، لأنه
استهلاك صورة ومعنى ؛ والأول عندهما إن شاء شاركه فيها ، وإن شاء ضمنه ، لأنه إن تعذر
أخذ عين حقه لم يتعذر المعنى فكان استهلاكا من وجه دون وجه فيختار أيهما شاء . وأما
الثالث فعند أبي يوسف يجعل الأقل تبعا للأكثر اعتبارا للغالب . وعند محمد هو شركة بينهما
بكل حال لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما عرف من أصله في الرضاع ، وخلط
الدراهم بالدراهم ، والدنانير بالدنانير إذابة من الوجه الثالث ، لأنه يصير مائعا بالإذابة . وجه(3/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
قول أبي حنيفة أنه استهلاك من كل وجه لتعذر وصوله إلى عين حقه ، والقسمة مترتبة على
الشركة فلا تكون موجبة لها ، فلو أبرأ المودع الخالط برئ أصلا ، وعندهما يبرأ من الضمان
فتتعين الشركة في المخلوط .
( وكذا إن أنفق بعضها ثم رد عوضه وخلطه بالباقي ) فهو استهلاك على الوجه الذي
بينا . قال : ( ولو اختلط بغير صنعه فهو شريك ) بالاتفاق لأنه لا صنع له فيه فلا ضمان عليه
فتتعين الشركة . قال : ( ولو تعدى فيها بالركوب أو اللبس أو الاستخدام أو أودعها ثم زال
التعدي لم يضمن ) لزوال الموجب للضمان ، ويد الأمانة باقية بإطلاق الأمر الأول لأنه لم
يرتفع من جهة صاحب الحق لكن ارتفع حكمه لوجود ما ينافيه ثم زال المنافي فعاد حكم
الأمر الأول ( ولو أودعها فهلكت عند الثاني فالضمان على الأول ) خاصة . وقالا : يضمن أيهما
شاء ، لأن الأول خالف لما بينا ، والثاني تعدى حيث قبض ملك غيره بغير أمره ، فإن ضمن
الأول لا يرجع على الثاني لأنه ملكه بالضمان مستندا فيكون مودعا ملكه ، وإن ضمن الثاني
رجع على الأول لأنه إنما لحقه ذلك بسببه . ولأبي حنيفة أن التفريط إنما جرى من الأول ،
لأن مجرد الدفع لا يوجب الضمان حتى لو هلكت والأول حاضر لا يضمن ، فإذا غاب
الأول فقد ترك الحفظ فيضمن والثاني لم يترك .
قال : ( فإن طلبها صاحبها فجحدها ثم عاد اعترف ضمن ) لأن بالطلب ارتفع عقد
الوديعة فصار غاصبا بعده ، وبالاعتراف بعد ذلك لم يوجد الرد إلى نائب المالك بخلاف
مسألة المخالفة ثم المرافقة ، لأن يد الوديعة لم ترتفع فوجد الرد إلى يد النائب ، ولو جحدها
عند غير المالك لم يضمن . وقال زفر : يضمن لأنه جحد الوديعة . ولنا أنه من باب الحفظ
لما فيه من قطع الأطماع عنها ، ولأنه ربما يخاف عليها ممن جحدها عنده ، وهذا المعنى
معدوم إذا جحدها عند المالك ، فإن جحدها ثم جاء بها فقال له صاحبها دعها وديعة عندك
فهلكت ، فإن أمكنه أخذها فلم يأخذها لم يضمن لأنه إيداع جديد كأنه أخذها ثم أودعها ،
وإن لم يمكنه أخذها ضمن لأنه لم يتم الرد .
قال : ( وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومؤونة ما لم ينهه إذا كان الطريق
آمنا ) لإطلاق الأمر ، والغالب السلامة إذا كان الطريق آمنا ، ولهذا يملكه الوصي والأب ،
بخلاف الركوب في البحر ، لأن الغالب فيه العطب . وقالا : ليس له ذلك إلا إذا كان له حمل
ومؤونة ، لأن الظاهر عدم الرضا لما يلزمه من مؤونة الحمل . قلنا يلزمه ذلك ضرورة امتثال(3/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
أمره ، فلا اعتبار به سيما إذا كان من أهل العمود ، ولا بد له من رحلة الشتاء والصيف . قال :
( ولو أودعا عند رجل مكيلا أو موزونا ثم حضر أحدهما يطلب نصيبه لم يؤمر بالدفع إليه ما لم
يحضر الآخر ) وقالا : يدفع إليه نصيبه لأنه سلمه إليه فيؤمر بالدفع إليه عند الطلب لأنه ملكه
حتى كان له أخذه كالدين المشترك ، وله أن نصيبه في المشاع ولا يمكن دفعه إليه ، لأن
الدفع يقع في المعين وهو غير المشاع ؛ وإذا لم يمكن دفعه إليه كيف يؤمر به ، وولاية الأخذ
لا تقتضي جواز الدفع . ألا ترى أن المديون لو كان له وديعة عند رجل من جنس الدين
فلرب الدين أخذها ، ولا يجوز للمودع الدفع إليه . وأما الدين المشترك فلأنه يؤديه المديون
من مال نفسه لما عرف ، ولا اعتبار بضرر الحاضر لأنه لحقه بصنعه حيث أودعه مشاعا ،
وغير المكيل والموزون لا يدفع إليه نصيبه بالإجماع . وذكر محمد الخلاف مطلقا والأول
أصح ، لأنه لو كان في يد أحدهما وغاب فليس للحاضر أخذ نصيبه فمن المودع أولى .
قال : ( فإن قال المودع أمرتني أن أدفعها إلى فلان وكذبه المالك ضمن ، إلا أن يقيم
البينة على ذلك أو ينكل المالك عن اليمين ) لأنهما تصادقا على الدفع وتجاحدا في الإذن
فيضمن بالدفع إلا بحجة . قال : ( ولو أودع عند رجلين شيئا مما يقسم اقتسمناه وحفظ كل
منهما نصفه ، وإن كان لا يقسم حفظه أحدهما بأمر الآخر ) وقالا : لأحدهما أن يحفظه بأمر
الآخر في المسألتين لأنه رضي بأمانتهما ، فكان لأحدهما أن يسلمها إلى الآخر كالمسألة
الثانية ، وله أن الدافع أودع نصفه بغير أمر المودع فيضمنه ، وهذا لأنه إنما رضي بأمانتهما
فكان رضي بأمانة كل واحد منهما في النصف ، لأن إضافة الفعل إليهما تقتضي التبعيض
كالتمليكات ، إلا أنا جوزناه فيما لا يقسم ضرورة عدم التجزي وعدم إمكان اجتماعهما
عليها ، ولأنه لما لم يمكن قسمتها ولا الاجتماع عليها دائما كان راضيا بذلك دلالة ، وعلى
هذا الوكيلان والوصيان والمرتهنان والعدلان في الرهن والمستبضعان .
قال : ( ولو قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر في الدار لم يضمن ) لعدم
تفاوتهما في الحرز إلا أن تكون دارا كبيرة متباعدة الأطراف والبيت الذي نهاه عنه عورة فإنه
يضمن لأنه مفيد . قال : ( ولو خالفه في الدار ضمن ) لأن الدور تختلف في الحرز فكان
مفيدا . قال : ( ولو رد الوديعة إلى دار مالكها ولم يسلمها إليه ضمن ) لأن المالك ما رضي(3/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
بدفعها إلى داره ولا إلى من في عياله ظاهرا إذ لو رضي بهم لما أودعها ، ولو وضع الثياب
في الحمام ولم يقل شيئا ودخل الحمام ينظر إن كان في الحمام ثيابي يحفظ الثياب فالضمان
عليه دون الحمامي لأنه استودعه دلالة ، وإن لم يكن ضمن الحمامي ؛ ولو قال للحمامي :
أين أضع الثياب فأشار إلى مكان يضمن الحمامي دون الثيابي لأن الحمامي صار مودعا ؛ ولو
وضع الثياب بمحضر من الحمامي فخرج آخر ولبسها والحمامي لا يدري أنها ثيابه أم لا
ضمن الحمامي ؛ وإن نام الحمامي فسرقت الثياب إن نام قاعدا لم يضمن لأنه لم يترك
الحفظ ، وإن نام مضطجعا ضمن والخان كالحمام ، والدابة كالثياب ، والخاني كالحمامي .
قام واحد من أهل المجلس وترك كتابه أو متاعه فالباقون مودعون حتى لو تركوه فهلك
ضمنوا ، فإن قام واحد بعد واحد فالضمان على آخرهم لأنه تعين حافظا .(3/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
كتاب اللقيط
وهو فعيل من اللقط والالتقاط بمعنى مفعول ، ومعناه العثور على الشيء مصادفة من
غير طلب ولا قصد . قال الراجز يصف ماء آجنّا :
ومنهل وردته التقاطا
أخضر مثل الزيت لما شاطا
أي وردته من غير طلب ولا قصد ، شاط الزيت إذا نضج حتى احترق ، وكذلك اللقيط
يوجد من غير طلب ، والتقاط صغار بني آدم مفروض إن علم أنه يهلك إن لم يأخذه بأن كان
في مفازة أو بئر أو مسبعة دفعا للهلاك عنه ، فإن غلب على ظنه عدم الهلاك بأن كان في
مصر أو قرية فأخذه مندوب لما فيه من السعي في إحياء نفس محترمة ، قال الله تبارك
وتعالى : ) ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ( [ المائدة : 32 ] وعن علي رضي الله عنه
أنه قال للمتلقط : لأن أكون وليت منه مثل ما وليت أنت كان أحب إليّ من كذا وكذا .
قال : ( وهو حر ) تبعا للدار ، ولأن الأصل في بني آدم الحرية ( ونفقته في بيت المال )
لما روي عن سنين أبي جميلة قال : وجدت منبوذا على بابي : أي لقيطا ، فأتيت عمر بن(3/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
الخطاب رضي الله عنه فقال لي : عسى الغوير أبؤسا نفقته علينا وهو حر . وهذا مثل يقال
عند التهمة . قال ابن الأعرابي : إنما عرّض عمر بالرجل : أي لعلك صاحب لقيطا ، يريد
أنك زنيت بأمه وادعيته فشهد له جماعة بالخير فتركه . قال : ( وميراثه لبيت المال
وجنايته عليه ، وديته له وولاؤه ) ليكون الغرم بالغنم ، ولو قتل عمدا فإن شاء الإمام اقتص وإن
شاء صالح على الدية . وقال أبو يوسف : تجب الدية في مال القاتل لا غير لاحتمال الولي
وهو الظاهر إلا أنه غائب ولا يقتضّ دونه . ولهما قوله عليه الصلاة والسلام : ' السلطان ولي
من لا ولي له ' لأن الولي الذي لا يعرف ولا ينتفع برأيه كالعدم فلا اعتبار به ، وليس له
أن يعفو بالإجماع لأن فيه إبطال حق جماعة المسلمين ؛ ويحد قاذف اللقيط ولا يحد قاذف
أمه ، لأن في حجرها ولدا لا يعرف أبوه فكانت تهمة الزنا قائمة كالملاعنة .
قال : ( والملتقط أولى به من غيره ) لسبق يده عليه كالمباحات ، فإن سأل القاضي أن
يقبله إن شاء قبله وإن شاء لا لاحتمال أنه ولده فينفق عليه من بيت المال ، وكذلك إن علم
أنه لقيط لأنه التزم حفظه وتربيته ، فإن دفعه الملتقط إلى آخر ليس له أن يسترده لأنه رضي
بإبطال حقه . قال : ( وهو متبرع في الإنفاق عليه ) لعدم الولاية .
( إلا أن يأذن له القاضي بشرط الرجوع ) لعموم ولايته ، فإن أذن له ولم يشترط الرجوع
ذكر الطحاوي أنه يرجع عليه بعد البلوغ لأنه قضى حقا عليه واجبا بأمر القاضي فصار كقضاء
دينه بأمره ، والأصح أنه لا يرجع لأنه أمره بقضاء حق واجب بغير عوض ترغيبا له في إتمام
ما شرع فيه من التبرع ، فصار كما إذا قال له أدّ عني زكاة مالي فإنه لا يرجع إلا بالشرط ،
بخلاف الدين لأنه وجب عليه بعوض ولو لم يأذن له القاضي ، لكن صدقه اللقيط بعد بلوغه
فله الرجوع عليه لأنه اعترف بحقه . قال : ( ومن ادّعى أنه ابنه ثبت نسبه منه ) لما فيه من نفع
الصغير ، لأن الناس يشترفون بالأنساب ويعيّرون بعدمها ، وإذا ثبت نسبه ترتب عليه أخذه
فتبطل يد الملتقط .
( وإن ادعاه اثنان معا ثبت منهما ) لعدم الأولوية ( إلا أن يذكر أحدهما علامة في جسده )
فيكون أولى بشهادة الظاهر أو لسبق في الدعوى لأنه ثبت نسبه منه في زمان لا ينازعه فيه
غيره ، إلا إذا أقام الآخر البينة لأنها أقوى .(3/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
قال : ( والحر المسلم أولى من العبد والذمي ) ومعناه إذا ادعى نسبه حر وعبد أو مسلم
وذمي فالحر أولى من العبد والمسلم أولى من الذمي ، لأن ذلك أنفع له ( وإن ادعاه عبد فهو
ابنه ) لأن ثبوت النسب أنفع له ( وهو حر ) لما تقدم ولا يلزم من رق أبيه أن يكون رقيقا ، لأن
العبد يتزوج الحرة ( وإن ادعاه ذمي فهو ابنه ) لما مر ( وهو مسلم ) لأن الإسلام ثبت له بالدار
وإبطاله إضرار به ، وليس من ضرورة كون الأب كافرا كفر الولد لاحتمال إسلام الأم .
قال : ( إلا أن يلتقطه من بيعة أو كنيسة أو قرية من قراهم فيكون ذميا ) لأن الظاهر أن
أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة فكذلك بالعكس ، ففي ظاهر الرواية أنه
اعتبر المكان دون الواجد كاللقيط إذا وجده مسلم في دار الحرب . وروى أبو سليمان عن
محمد أنه اعتبر الواجد دون المكان لأن اليد أقوى ؛ وفي رواية اعتبر الإسلام نظرا للصغير .
قال : ( ومن ادعى أنه عبده لم يقبل إلا ببينة ) عملا بالأصل ، وإقراره بالرق قبل البلوغ لا
يقبل ، وبعد البلوغ إن أجرى عليه أحكام الأحرار من قبول شهادته وحد قاذفه لم يصح وقبل
ذلك يصح ؛ ولو التقطه مسلم فادعى نصراني أنه ابنه فهو ابنه وهو مسلم لما تقدم ، وإن كان
عليه زي النصارى كالصليب والزنار فهو نصراني ، لأن الظاهر أنه ولد على فراشه ولا اعتبار
بالمكان .
قال : ( وإذا كان على اللقيط مال مشدود فهو له ) عملا بالظاهر ( وينفق عليه منه بأمر
القاضي ) لعموم ولايته ويصدق عليه في نفقة مثله ؛ وقيل لا يحتاج إلى أمر القاضي لأن المال
له فينفق عليه منه ، وله ولاية ذلك فيشتري له ما يحتاج إليه من الكسوة والطعام وغيرهما .
قال : ( ويقبل له الهبة ) لأنه نفع محض ( ويسلمه في صناعة ) لأنه من باب التثقيف وفيه منفعته
( ولا يزوجه ) لأنه لا ولاية له عليه ، وولاية التزويج والبيع والشراء للسلطان لعموم ولايته ،
فإن زوجه السلطان ولا مال له فالمهر من بيت المال ، وفي النوادر : إذا أمر الملتقط بختان
الصبي فهلك ضمن لأنه ليس له هذه الولاية . قال : ( ولا يؤاجره ) وهو الأصح لأنه لا يملك
إتلاف منافعه كالعم بخلاف الأم لأنها تملك ذلك ، ولهذا كان لها إجارته لنفقتها واستخدامه .(3/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
كتاب اللقطة
وهي كاللقيط في الاشتقاق والمعنى ، وهي بضم اللام وفتح القاف : اسم للمال
الملقوط ، وقال بعضهم : هي اسم الملتقط كالضحكة واللمزة والهمزة . فأما المال الملقوط
فهو بسكون القاف ، والأول أصح .
قال : ( وأخذها أفضل ) لئلا تصل إليها يد خائنة ( وإن خاف ضياعها فواجب ) صيانة لحق
الناس عن الضياع ، وإن كان يخاف على نفسه الطمع فيها وترك التعريف والرد فالترك أولى
صيانة له عن الوقوع في المحرم . واللقطة : ما يوجد مطروحا على الأرض ما سوى الحيوان
من الأموال لا حافظ له . والضالة : الدابة تضل الطريق إلى مربطها وأخذها أفضل لأن الغالب
في زماننا الضياع ، فإن أخذها وأشهد وعرفها ثم ردها إلى موضعها لم يضمن . وذكر الحاكم
في مختصره : أو ردها بعدما حولها ضمن ، لأن بالتحويل التزم الحفظ ، فالبرد صار مضيعا
ولا كذلك قبل التحويل .
قال : ( وهي أمانة إذا أشهد أنه يأخذها ليردها على صاحبها ) وهو أن يشهد عند الأخذ
أنه يأخذها للرد أو يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه عليّ ( فإن لم يشهد ضمنها ) خلافا
لأبي يوسف إذا ادعى أنه أخذها للرد لأن الظاهر من حالة الحسبة لا المعصية . ولهما أن
الأصل أن كل متصرف عاقل إنما يتصرف لنفسه ، وقد اعترف بالأخذ الذي هو سبب الضمان
ثم ادعى مما يبرئه فلا يصدق إلا ببينة ، وإن قال أخذته لنفسي ضمن بالإجماع بإقراره ، وإن
تصادقا أنه أخذها ليردها لم يضمن بالإجماع لأن تصادقهما كالبينة .(3/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
قال : ( ويعرفها مدة يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ) هو المختار ، لأن
ذلك يختلف بقلة المال وكثرته . وعن أبي حنيفة إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما ،
وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا . وعن محمد التقدير بالحول من غير فصل لقوله عليه
الصلاة والسلام : ' من التقط شيئا فليعرفه حولا من غير فصل ' وجه الأول ما روي عن
أبيّ بن كعب قال : ' وجدت مائة دينار على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألته عنها ، فقال : عرفها
حولا ' والعشرة وما فوقها في معناها من حيث وجوب القطع في سرقة واستباحة الفرج بها
ولا كذلك ما دونها . وروى الحسن عن أبي حنيفة إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها
حولا ، وفوق العشرة إلى مائة درهم شهرا ، وفي العشرة جمعة ، وفي ثلاثة دراهم ثلاثة أيام ،
وفي درهم يوما ، وإن كانت تمرة ونحوها تصدّق بها مكانها ، وإن كان محتاجا أكلها مكانها
قدّر لكل لقطة على قدرها فكأنه والأول سواء . والتعريف أن ينادى في الأسواق والشوارع
والمساجد : من ضاع له شيء فليطلب عندي .
قال : ( فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها إن شاء ) إيصالا للحق إلى مستحقه بقدر
الإمكان ، لأن الواجب إيصاله إلى مالكه صورة ومعنى ، فإذا تعذرت الصورة يوصله إليه
معنى وهو الثواب ( وإن شاء أمسكها ) لاحتمال مجيء صاحبها ( فإن جاء وأمضى الصدقة
فله ثوابه ) لأنه ماله ( وإلا له أن يضمنه أو يضمن المسكين أو يأخذها إن كانت باقية )
أما تضمينه فلأنه سلم ماله إلى غيره بغيره أمره ، وإذن الشرع في ذلك لا يمنع الضمان
كأكل مال الغير حال المخمصة . وأما تضمين المسكين فلأنه قبض ماله بغير أمره . وأما
أخذها فلأنه وجد عين ماله . قال : ( وأيهما ضمن لا يرجع على أحد ) أما الملتقط فلأنه
ملكها من وقت التصدق بالضمان فظهر أنه تصدق بماله ، وأما الفقير فلأنه عوض ما
وصل إليه .
قال : ( ولا يتصدق بها على غني ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فإن لم يأت
صاحبها فليتصدق بها ' والصدقة لا تكون على الغني كالواجبات . قال : ( وينتفع بها إن
كان فقيرا ) كغيره من الفقراء ، ويعطيها أهله إن كانوا فقراء لما مر . قال : ( وإن كانت
شيئا لا يبقى ) كاللحم واللبن والفواكه الرطبة ونحوها ( عرفه إلى أن يخاف فساده ) ثم(3/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
يتصدق به خوفا من الفساد وفيه نظر لصاحبها بالثواب دنيا وأخرى ( ويعرفها في مكان
الالتقاط ومجامع الناس ) فهو أجدر أن يصل صاحبها ، وسأل رجل عليا رضي الله عنه
فقال : اذهب حيث وجدتها فإن وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها ، فإن جاء
صاحبها فخيّره بين الأجر والقيمة .
قال : ( وإن كانت حقيرة كالنوى وقشور الرمان ينتفع به من غير تعريف ) لأن رميها
إباحة للأخذ دلالة . قال : ( وللمالك أخذه ) لأن الإباحة لا تسقط الملك عن العين خصوصا
لغير معين ، وإن كان كثيرا لم يجز للملتقط الانتفاع به . قال : ( والسنبل بعد الحصاد إذا جمعه
فهو له خاصة ) بدلالة الحال وعليه جميع الناس في جميع البلاد . قال أبو يوسف : من ألقى
شاة ميتة فجاء آخر فأخذ صوفها وجلدها ودبغه فهو له ، فإن جاء صاحبها فله أخذ الصوف
والجلد وعليه ما زاد الدباغ كالغاصب . غريب مات في دار رجل ليس له وارث معروف
وخلف مالا وصاحب المنزل فقير فله الانتفاع به بمنزلة اللقطة .
قال : ( ويجوز التقاط الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات ) لأنه مال يتوهم ضياعه
فيستحب أخذه ليرده على صاحبه صيانة لأموال الناس ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام
سئل عن ضالة الإبل فقال : ' ما لك ولها عليها حذاؤها ومعها سقاؤها ترد الماء وترعى
الشجر ' . وسئل عليه الصلاة والسلام عن ضالة الغنم فقال : ' هي لك أو لأخيك أو
للذئب ' فجوابه أن ذلك كان في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين كان الخوف من الافتراس لا من أخذ
الناس ؛ أما اليوم كثر الفساد والخيانة وقلة الأديان والأمانة فكان أخذه أولى . قال : ( وهو
متبرع فيما أنفق عليها ) لعدم ولايته على مالكها إلا أن يأذن له القاضي فيكون دينا على
صاحبها لعموم ولايته وفي ذلك نظر للمالك . قال : ( فإن كان لها منفعة آجرها بإذن الحاكم
وأنفق عليها ) لأن فيه بقاء الملك على مالكه من غير أن يلزمه دين فكذلك حكم الآبق ( وإن
لم يكن لها منفعة باعها وإن كان أصلح ) وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أمر بذلك وجعلها دينا
على مالكها لأن ولايته نظرية . وللقاضي أن يأمره بالنفقة عليها يومين وثلاثة رجاء مجيء
صاحبها ، وبعد ذلك يبيعها لئلا تستأصلها النفقة فلا نظر حينئذ في حقه .(3/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
قال : ( فإن جاء صاحبها فله حبسها حتى يعطيه النفقة ) لأنه استفاد الملك من جهته لأنه
صار هالكا معنى وقد أحياه بنفقته فصار كالبائع ( فإن امتنع بيعت في النفقة ) كالرهن لأن أمر
القاضي كأمره ، فصار كأنه أنفق عليها وحبسها بأمره ( فإن هلكت بعد الحبس سقطت النفقة )
كالرهن ( وقبل الحبس لا ) لأنها أمانة . قال : ( وليس في رد اللقطة والضالة والصبي الحر شيء
واجب ) لأنه متبرع في الرد فإن أعطاه المالك شيئا فحسن ، فخلاف الآبق لأن جعله واجب
نصا لا قياسا . وعن الكرخي في اللقطة : إذا قال من وجدها فله كذا فله أجر مثله لأنها إجارة
فاسدة . وعن أبي يوسف : لو ضاعت اللقطة فوجدها آخر لا يكون الأول خصما فيها لأنهما
سواء في الالتقاط وليس كالمستودع ، لأن حفظ الوديعة عليه فله أخذها .
قال : ( ومن ادعى اللقطة يحتاج إلى البينة ) لأنها دعوى ( فإن أعطى علامتها جاز له أن
يدفعها إليه ولا يجير ) لجواز أنه عرفها من صاحبها أو رآها عنده ، ولأن حق اليد كالملك فلا
تستحق إلا ببينة كالملك إلا أنه يجوز له الدفع عند العلامة لقوله عليه الصلاة والسلام : ' فإن
جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادعها إليه ' فحملناه على الإباحة جمعا بينه وبين
الحديث المشهور ' البينة على المدعي ' ولو صدقه ودفعها إليه بغير قضاء ثم جاء آخر وأقام
البينة فله أن يضمن أيهما شاء ، ولا يرجع القابض على الدافع ، وإن دفعها بقضاء فهو مجبور
فيرجع على القابض لا غير . قال : ( ولقطة الحل والحرم سواء ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ' مطلقا ، ولأنها لقطة ، وفي التصدق بعد سنة
إيصالها إلى مالكها بقدر الوسع على ما تقدم فيشرع وتأويل قوله عليه الصلاة والسلام في
الحرم : ' لا تحل لقطته إلا لمنشد ' أي لمعرف والتخصيص بالحرم لئلا يتوهم السقوط
طمعا أنها للغرباء .(3/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
كتاب الآبق
وهو العبد الهارب ، أبق العبد إذا هرب وتأبق إذا استتر ، ويقال : احتبس الآبق إذا هرب
واستتر عن مولاه احتبس عنه . قال : ( أخذه أفضل إذا قدر عليه ) لأنه إحياء له وإبقاء له على
ملكه ( وكذلك الضال ) وقيل ترك الضال أولى لأنه يقف مكانه فيجده صاحبه بخلاف
الآبق . قال : ( ويدفعهما إلى السلطان ) لعجزه عن حفظهما ( ويحبس الآبق دون الضال ) لأنه
يخاف إباق الآباق دون الضال . قال : ( ومن رد الآبق على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا
فله عليه أربعون درهما وبحسابه إن نقصت المدة ) لما روي عن عمرو بن دينار أنه قال : كان
النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ' جعل الآبق أربعون درهما ' واجتمعت الصحابة على
وجوب الجعل لكن اختلفوا في مقداره ، فمنهم من قال أربعون ومنهم من قال دونها ، فقلنا
بوجوب الأربعين في مسيرة السفر وما دونها فما دون توفيقا بين أقوالهم رضي الله عنهم ،
ولأن ذلك حامل على رد الآبق وصيانة له عن الضياع إذ الحسبة قليلة ، وقوله في نقصان(3/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
المدة بحسابه أنه مفوّض إلى رأي الإمام ، وقيل يقسط لكل يوم ثلاثة عشر درهما وثلث
فيقدر الرضخ بقدره وقيل باصطلاحهما .
قال : ( فإن كانت قيمته أقل من أربعين درهما فله قيمته إلا درهما ) وقال أبو يوسف : له
الجعل كاملا لأنه منصوص عليه . ولهما أنه إنما شرع ذلك لمصلحة المالك فينقص من قيمته
درهم لتحصل له الفائدة . قال : ( وأم الولد والمدبر كالقن ) لأنهما في معناه من إحياء الملك
( والصبي كالبالغ ) لأنه مؤونة الملك ، ولو رده أبوه أو وصيه فلا جعل لهما لأن الحفظ عليهما
وهما يتوليان ذلك ، وكذلك أحد الزوجين على الآخر ، وكذلك الابن لأن العادة جرت بالرد
من هؤلاء تبرعا واصطناعا ، ولو رد عبد أبيه أو أخيه أو سائر قرابته لا جعل له إن كان في
عياله وإن لم يكن فله الجعل ، ولو قال لغيره : أبق عبدي إن وجدته فخذه فقال نعم فرده لا
جعل عليه ، لأنه وعده برده فصار متبرعا . رد أمة ومعها ولدها فله جعل واحد إلا أن يكون
مراهقا فيجب ثمانون درهما ، ولو صالح عن الجعل على عشرين درهما جاز ، ولو صالحه
على أكثر من أربعين يحط الفضل لأن المستحق أربعون فالزيادة ربا .
قال : ( وينبغي أن يشهد أنه يأخذه ليرده ) على ما بينا في اللقطة من الاختلاف
والتعليل . قال : ( ولو أبق من يده لا يلزمه شيء ) لأنه أمانة لأنه مأذون له في أخذه ولا
شيء له لأنه ما رده على مالكه . قال : ( وإن كان رهنا فالجعل على المرتهن ) لأنه وجب
بجناية الرهن وهي في ضمان المرتهن ولأنه أحيا ماليته وهي حقه ، وإن كان بعضه خاليا
عن الدين فعلى المالك بقدره من الجعل كما في الفداء في الجناية ، ولأن حقه في القدر
المضمون عليه ، ولو كان بين جماعة فالجعل عليهم بقدر الأنصباء لأنه مؤونة الملك ( وإن
كان جانيا فعلى مولاه إن فداه ، وعلى ولي الجناية إن أعطاه له ) لأن منفعته لمن يستقر
الملك له والجعل يتبع المنفعة . قال : ( وحكمه في النفقة ) في التبرع وإذن القاضي وحبسه
بها بعد الرد ( كاللقطة ) اشترى آبقا فرده لا جعل له لأنه عمل لنفسه ، وإن قال : لم أقدر
على رده إلا بالشراء وإنما اشتريته لأرده وأقام البينة على ذلك فله والجعل لأنه أخذه ليرده
وهو متبرع في الثمن ، وإذا حبس السلطان الآبق مدة ولم يجئ له طالب إن شاء باعه وإن
شاء أنفق عليه من بيت المال وجعلها دينا على المالك أو في ثمنه ، ولا يؤاجره خوف
الإباق ، أما الضال يؤاجره ولا يبيعه .(3/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
كتاب المفقود
المفقود : المعدوم ، وفقدت الشيء : إذا طلبته فلم تجده ، قال الله تعالى : ) قالوا
نفقد صواع الملك ( [ يوسف : 72 ] أي طلبناه فلم نجده فقد عدم . وفي الشرع : الذي
غاب عن أهله وبلده أو أسره العدو ولم يدر أحي هو أم ميت ، ولا يعلم له مكان
ومضى على ذلك زمان فهو معدوم بهذا الاعتبار ( وحكمه أنه حي في حق نفسه ) لا تتزوج
امرأته ولا يقسم ماله ولا تفسخ إجارته ، لأن ملكه كان ثابتا في ماله وزوجته ومنافع ما
استأجره ، وغيبوبته لا توجب الفرقة والموت محتمل ، فلا يزول الثابت باليقين بالاحتمال .
وقال عليه الصلاة والسلام في امرأة المفقود : ' هي امرأته حتى يأتيها البيان ' رواه
المغيرة بن شعبة . وعن علي رضي الله عنه : إنها امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو
طلاق . وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر كان يقول : يفرق بينه وبين امرأته إذا
مضت أربع سنين ، ثم رجع إلى قول علي . قال : ( و ) هو ( ميت في حق غيره ) لا يرث
ممن مات حال غيبته لأن الحكم ببقائه بناء على استصحاب الحال وأنه يصلح للدفع لا
للاستحقاق .
قال : ( ويقيم القاضي من يحفظ ماله ويستوفي غلاته فيما لا وكيل له فيه ، ويبيع من
أمواله ما يخاف عليه الهلاك ) لأن القاضي نصب لمصالح المسلمين نظرا لمن عجز عن(3/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
التصرف بنفسه كما قلنا في الصبي والمجنون ، والمفقود عاجز بنفسه فيتصرف له القاضي
والنظر له فيما ذكرنا فيقبض دينا أقر به الغريم ولا يخاصم لأنه وكيل في القبض من جهته
وأنه لا يملك الخصومة بالإجماع ، لأن القاضي يلي الحفظ دون الخصومة ، ولا يبيع ما لا
يخاف عليه الهلاك لا في نفقة ولا غيرها إذ لا نظر في ذلك .
قال : ( وينفق من ماله على من تجب عليه نفقته حال حضوره بغير قضاء ) كزوجته
وأولاده وأبويه لأنه إعانة لهم ، وكل من لا يستحقها بحضرته إلا بقضاء فإنه لا ينفق عليه
كالأخ والأخت ونحوهما لأنه قضاء على الغائب ، والمراد بقوله : من ماله النقدان لأنهما قيمة
ما يستحقون من المطعوم والمشروب والملبوس ، ولو كان له من جنس ما يستحقونه دفعه
إليهم ، وإن كان ماله دينا أو وديعة ، فإن اعترف المديون والمودع بالمال والزوجية والنسب
أنفق عليهم منه ، وإن كان ذلك ثابتا عند القاضي فلا حاجة إلى اعترافهم ، وإن ثبت عند
القاضي بعض ذلك يشترط اعترافهما بالباقي ، ولو أنفق المديون والمودع عليهم بغير إذن
القاضي ضمنا لأنهما ما أوصلا الحق إلى مالكه ولا نائبه .
قال : ( فإن مضى له من العمر ما لا يعيش أقرانه حكم بموته ) وهو الأقيس على قول
أبي حنيفة لاختلاف الأعمار باختلاف الأزمان . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قدره بمائة
وعشرين سنة . وعن أبي يوسف مائة سنة ، وقيل تسعين سنة ، وهو غاية ما تنتهي إليه أعمال
أهل زماننا في الأعم الأغلب ، وهو الأرفق لأن في التفحص عن موت الأقران حرجا ، وباقي
مسائل المفقود تأتي في الفرائض إن شاء الله تعالى .(3/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
كتاب الخنثى
وهو مشتق من التخنث وهو التكسر ، يقال : اطو الثوب على أخناثه : أي على تكسره
ومطاويه ، وسمي الخنثى لأنه تكسر وتنقص حاله عن حال الرجال ، ويفوق على حال النساء
حيث كان له آلة الرجال والنساء . وقال عمر النسفي : أو ليس له هذا ولا هذا ويخرج حدثه
من دبره أو من سرته . وذكر في المنتقى قال أبو حنيفة وأبو يوسف : إذا خرج البول من سرته
وليس له قُبُل ولا ذكر لا أدري ما يقول في هذا ( إذا كان له آلة الرجل والمرأة ، فإن بال من
أحدهما اعتبر به ، فإن بال من الذكر فهو غلام ، وإن بال من الفرج فهو أنثى ) لأن ذلك دليل
على أن الآلة التي يخرج منها هي الأصل والأخرى عيب وسئل ( صلى الله عليه وسلم ) عنه كيف يورث ؟ فقال :
' من حيث يبول ' ومثله عن علي رضي الله عنه وهكذا كان حكمه في الجاهلية فأقره
الإسلام .
قال : ( وإن بال منهما اعتبر بأسبقهما ) لأنه دلالة على أنه العضو الأصلي ( فإن بال منهما
معا فهو خنثى مشكل ولا معتبر بالكثرة ) وقال : يعتبر أكثرهما بولا ، لأن للأكثر حكم الكل
ولأنه علامة أخرى على الأصالة والقوة ، وله أن الكثرة تكون لاتساع المخرج ، ولا دلالة فيه(3/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
على الأصالة فإن استويا في القدر فهو مشكل بالإجماع لعدم المرجح . قال : ( فإذا بلغ
فظهرت له أمارات الرجال فهو رجل ) وذلك كاللحية ومجامعة النساء والاحتلام من الذكر لأن
هذه علامة تخص الرجال ( وإن ظهرت له أمارات النساء فهو امرأة ) كالحيض والحبل ونزول
الثدي واللبن فيه والجماع في الفرج لأن هذه علامات تخص النساء .
قال : ( فإن لم تظهر الأمارتان أو تعارضتا فهو خنثى مشكل ) قال الطحاوي : قال
محمد : الإشكال قبل البلوغ فإذا بلغ فلا إشكال . قال النسفي : وليس يخلو إذا بلغ من بعض
هذه العلائم .
فصل
( فإذا حكم بكونه خنثى مشكلا يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق من أمور الدين ) فلا يحكم
بما وقع الشك في نبوته ، ويرجح المحرم على المبيح ( فيورث أخس السهمين ) ويعرف بيانه
في الفرائض إن شاء الله تعالى ( ويقف بين صف الرجال والنساء في الصلاة ) لأنه إن كان
رجلا لا يجوز وقوفه في صف النساء لئلا تفسد صلاته ، ولو كان امرأة لا يجوز وقوفها في
صف الرجال لئلا تفسد صلاتهم فيقف بينهما . قال : ( وإن صلى في صف النساء أعاد ) لجواز
أن يكون رجلا ( ولو صلى في صف الرجال يعيد من عن يمينه ويساره ومن خلفه بحذائه )
لاحتمال أنه امرأة .
قال : ( ويصلي بقناع ) لاحتمال أنه امرأة ، ويجلس كما تجلس المرأة ( ولا يلبس الحلي
والحرير ) لاحتمال أنه رجل ( ولا يخلو به غير محرم رجل ولا امرأة ، ولا يسافر بغير محرم )
احتياطا . قال : ( وتبتاع له أمة تختنه ) لأنه لا يجوز أن يختنه رجل ولا امرأة لما بينا ، ويجوز
لجاريته النظر إلى فرجه رجلا كاف أو امرأة ( فإذا ختنته باعها ) لاستغنائه عنها ( وإن لم يكن له
مال فمن بيت المال ) لأنه لمصالح المسلمين ، وإذا كان صغيرا لا يشتهى جاز ختانه للرجل
وللمرأة ، وعن أبي حنيفة أنه يزوج امرأة ، فإن كان رجلا صح النكاح وحل لها النظر إلى(3/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
فرج زوجها ، وإن كان امرأة فلا نكاح ، لكن يجوز للمرأة النظر إلى فرج المرأة للضرورة ،
ولا يرث الخنثى من مولى أبيه لاحتمال أنه أنثى ولو أوصى لحمل فلانة بألف إن كان ذكرا
وبخمسمائة إن كان أنثى فولدت خنثى فله خمسمائة احتياطا إلا أن يتبين غير ذلك . وإن قتله
قاتل خطأ وقال إنه أنثى فالقول قوله لإنكاره الزيادة ولا قصاص في أطرافه أصلا ، ولو ارتد
لا يقتل ولا يدخل في القسامة ولا تقرر عليه الجزية لو كان كافر ، ولو أسر لا يقتل لاحتمال
أنه أنثى ولا يحد قاذفه لأنه إن كان رجلا فهو كالمجبوب ، وإن كان امرأة فهي كالرتقاء ، ولا
يحد قاذفهما لأن الحد لنفي التهمة وهي منتفية عنهما ، ولو قال لامرأته : إن كان أول ولد
تلدينه غلاما فامرأته طالق أو فعبده حر فولدت خنثى لا يحنث ما لم يستبن أمره . ولو قال :
كل عبد له حر ، أو كل أمة له حرة لا يعتق لخنثى حتى يستبين أمره ، ولو بان أحد الأمرين
عتق للتيقن ( وإذا مات ولم يستبن حاله يمم ثم يكفن ) لأنه لا يجوز غسله للرجال ولا للنساء
احتياطا فقد تعذر غسله فييمم ، وإذا اجتمعت الجنائز جعلت جنازته بين جنازة الرجل والمرأة
لما مر في الصلاة في حياته ( ويدفن كالجارية ) احتياطا .(3/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
كتاب الوقف
الوقف في اللغة : الحبس ، يقال : وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها ، ومنه الموقف
لأن الناس يوقفون فيه : أي يحبسون للحساب . وفي الشرع : حبس شيء معلوم بصفة معلومة
على ما نبينه إن شاء الله تعالى ( وهو حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة ، ولا
يلزم إلا أن يحكم به حاكم ، أو يقول : إذا مت فقد وقفته ) وأجمعت الأمة على جواز أصل
الوقف ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام تصدق بسبع حوائط في المدينة ، وكذلك الصحابة
وقفوا ، والخليل صلوات الله عليه وقف وقوفا هي باقية جارية إلى يومنا . وإنما اختلفوا في
كيفية جوازه .
قال أبو حنيفة وزفر : شرط جوازه أن يكون موصى به ، أو يقول : إذا مت فقد وقفته
حتى لو لم يوص به لا يصح ويبقى على ملكه يجوز بيعه ويورث عنه إلا أن يجيزه الورثة
فيصير جائزا ويتأبد ، ولو قضى القاضي بلزومه لزم ونفذ لأنه قضاء في مجتهد ولم يكن لغيره
إبطاله . قال أبو يوسف ومحمد : لا يشترط لجوازه شيء من ذلك ، وهذا بناء على أن الوقف
عنده حبس العين على ملكه عملا بمقتضى قوله وقفت والتصدق بثمرته وغلته المعدومة على
المساكين ، ولا يصح التصدق بالمعدوم إلا بالوصية ، وعندهما هو إزالة العين عن ملكه إلى
الله تعالى وجعله محبوسا على حكم ملك الله تعالى على وجه يصل نفعه إلى عباده ، فوجب
أن يخرج عن ملكه ويخلص لله تعالى ويصير محررا عن التمليك ليستديم نفعه ويستمر وقفه
للعباد . لهما أن الحاجة ماسة إلى لزوم الوقف ليصل ثوابه إليه على الدوام ، وأنه ممكن(3/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
بإسقاط ملكه وجعله لله تعالى كالمسجد فيجعل كذلك . قال النسفي : وكان أبو يوسف يقول
بقول أبي حنيفة حتى دخل بغداد فسمع حديث عمر فرجع عنه وقال : لو بلغ هذا أبا حنيفة
لرجع إليه ، وهو ما رواه محمد بن الحسن عن صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر أن
عمر رضي الله عنه كان له أرض تدعى ثمغ وكانت نخلا نفيسا ، فقال عمر : يا رسول الله إني
استفدت مالا نفيسا أفأتصدق به ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا
يورث ، ولكن تنفق ثمرته على المساكين ، فتصدق به عمر رضي الله عنه في سبيل الله وفي
الرقاب والمساكين وابن السبيل وذوي القربى ' ولا جناح على من وليه أن يأكل منه
بالمعروف أو يوكل صديقا له غير متأثل .
ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' لا حبس عن فرائض الله ' وعن شريح جاء
محمد ببيع الحبيس . وعن عبد الله بن زيد أنه تصدق بضيعة له ، فشكاه أبوه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فقال له : ' ارجع في صدقتك ' ولأن شرائط الواقف تراعى فيه ، ولو زال عن ملكه لم تراع
كالمسجد ، ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائما ، ولا ذلك إلا ببقاء العين على ملكه ، ثم
عند محمد لصحة الوقف أربعة شرائط : التسليم إلى المتولي ، وأن يكون مفرزا ، وألا يشترط
لنفسه شيئا من منافع الوقف ، وأن يكون مؤبدا بأن يجعل آخره للفقراء . لما روي عن عمر
وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم أنهم قالوا : لا تجوز الصدقة إلا محوزة مقبوضة ، ولأن
التمليك حقيقة من الله لا يتصور لأنه مالك الأشياء ، وإنما يثبت ذلك ضمنا للتسليم إلى العبد
كالزكاة ، ولأنه متى كان له شيء من منافع الوقف لم يخلص لله تعالى . وقال أبو يوسف :
شيء من ذلك ليس بشرط لأنه إسقاط وصار كالإعتاق ، وأخذ مشايخ خراسان بقول أبي
يوسف ترغيبا للناس في الوقف .
قال الخصاف : ذكر الوقف ذكر التأبيد عند أبي يوسف . وعند محمد لا بد من ذكره .
قال القاضي أبو عاصم : قول أبي يوسف أقوى لمقاربة بين الوقف والملك إذ في كل واحد
منهما معنى التمليك وقول محمد أقرب إلى موافقة الآثار ، وبه أخذ مشايخ بخارى .
قال : ( ولا يجوز وقف المشاع ) عند محمد لما ذكرنا من الأثر ولأن القبض عنده
شرط ، ويجوز عند أبي يوسف لأن القسمة من تمام القبض وليس بشرط عنده ( وإن حكم به
جاز ) بالإجماع لما مر ، وإن طلب الشريك القسمة يقسم لأنها إفراز وإن كان فيها معنى
المبادلة ، إلا أنا غلبنا جهة الإفراز نظرا للوقف ، فإن كان الشريك غير الواقف يقاسمه ، لأن(3/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
الولاية له ، وإن كان هو يقاسمه القاضي لئلا يتولى الطرفين ، ولا يجوز أخذ الدراهم للوقف
لأنه يصير بيعا للوقف ، ويجوز أن يعطيه دراهم من الوقف لأنه يصير مشتريا للوقف وما لا
يحتمل القسمة يجوز مع الشيوع عند محمد اعتبارا بالصدقة والهبة ، ولا يجوز الشيوع في
المسجد والمقبرة بالإجماع ، لأن الشركة تنافي الخلوص لله تعالى والتهايؤ فيها قبيح بأن
يصلي فيه يوما ويسكن يوما ويدفن فيه شهرا ويزرع شهرا ، بخلاف غيرهما من الوقوف لأن
الاستغلال ممكن غير مستبشع .
قال : ( ولا يجوز حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبدا ) وقال أبو يوسف : يجوز لأن
المقصود التقرب إلى الله تعالى وأنه يحصل بجهة تنقطع . ولهما أن موجبه زوال الملك بدون
التمليك وذلك بالتأبيد كالعتق فإذا لم يتأبد لم يتوفر عليه موجبه ولهذا يبطله التوقيت كما
يبطل البيع . ثم قيل التأبيد شرط بالإجماع إلا أن محمدا اشترط ذكره لأنها صدقة بالمنفعة أو
بالغلة ، وقد يكون مؤقتا ويكون مؤبدا كما في الوصية ، ولا يتعين التأبيد إلا بالتنصيص .
وعند أبي يوسف لا يحتاج إلى ذكره ، لأن ذكر الوقف ينبئ عنه كما ذكره الخصاف .
قال : ( ويجوز وقف العقار ) لما مر من النصوص والآثار ( ولا يجوز وقف المنقول )
وقال أبو يوسف : إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز للتبعية وكذلك وقف
الدولاب ومعه سانيته وعليها حبل ودلو . ولو وقف بيتا فيه كوارة عسل جاز وصار النحل
تابعا للعسل . ولو وقف دارا فيها حمام صار الحمام تبعا له ، وهذا لأن من الأحكام ما يثبت
تبعا ولا يثبت مقصودا كالشرب في بيع الأرض والبناء في الشفعة ( وعن محمد جواز وقف ما
جرى فيه التعامل كالفأس والقدوم والمنشار والقدور والجنازة والمصاحف والكتب ) لوجود
التعامل في هذه الأشياء وبالتعامل - يترك القياس كما في الاستصناع . قال عليه الصلاة
والسلام : ' ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ' ( بخلاف ما لا تعامل فيه ) كالثياب
والأمتعة ، لأن من شرط الوقف التأبيد كما بينا تركناه في السلاح والكراع بالنص ، وفيما
جرى فيه التعامل بالتعامل فبقي ما وراءه على الأصل ( والفتوى على قول محمد ) لحاجة
الناس وتعاملهم بذلك .(3/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
قال : ( ويجوز حبس الكراع والسلاح ) أي وقفه في سبيل الله ، لأن خالد بن الوليد
وقف دروعا في سبيل الله وأجازه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل رجل ناقته في سبيل الله فأراد آخر
أن يحج عليها فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ' الحج في سبيل الله ' ، وطلحة حبس
سلاحه وكراعه في سبيل الله : أي خيله ، والإبل كالخيل لأن العرب تقاتل عليها وتحمل
عليها السلاح .
قال : ( ولا يجوز بيع الوقف ولا تمليكه ) لما مر من حديث عمر رضي الله عنه ، ولأنه
يبطل التأبيد والمقصود من الوقف التأبيد . قال : ( ويبدأ من ارتفاع الوقف بعمارته وإن لم
يشرطها الواقف ) تحصيلا لمقصوده ، فإنه قصده وصول الثواب إليه بوصول المنفعة أو الغلة
إلى الموقوف عليه على الدوام وذلك ببقاء أصله وإنه بالعمارة فكانت العمارة شرطا لمقتضى
الوقف ( فإن كان الوقف على غني عمره من ماله ) ليكون الغنم بالغرم لأنه معين يمكن مطالبته
( وإن كان على فقراء فلا تقدر عليهم ) وغلة الوقف أقرب أموالهم فيجب فيها ، وإن وقف داره
على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى ، لأن الخراج بالضمان كنفقة العبد الموصى
بخدمته ( فإن أبى أو كان فقيرا آجرها القاضي وعمرها بأجرتها ثم ردها إلى من له السكنى )
رعاية للحقين لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا فيفوت حقهم في السكنى وحق الواقف
في الثواب ، ولا يكره الممتنع عن العمارة لأنه يتلف مال نفسه ، ولا يكون بامتناعه راضيا
ببطلان حقه لأنه في حيز التعارض ثم المستحق من العمارة بقدر ما يبقى الموقوف على ما
كان عليه ، وكذلك لو خرب يبني كما كان ، لأن بتلك الصفة كانت غلته مصروفة إلى
الموقوف عليه فلا حاجة فيه إلى الزيادة ، ومن له السكنى لا يجوز إجارته لعدم مالكيته .
قال : ( وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرف في عمارته ) مثل الآجر والخشب والقار
والأحجار ليبقى على التأبيد ( فإن استغني عنه حبس لوقت حاجته ) فيصرف فيها لأنه لا بد من
العمارة فيحبسه كيلا يتعذر عليه وقت الحاجة ( وإن تعذر إعادة عينه بيع ويصرف الثمن إلى(3/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
عمارته ) صرفا إلى مصرف الأصل ( ولا يقسمه بين مستحقي الوقف ) لأن العين حق الله تعالى
وهذا منها فلا يصرف إليهم غير حقهم .
قال : ( ويجوز أن يجعل الواقف غلة الوقف أو بعضها له والولاية إليه ) وقد مر وجهه
والاختلاف فيه ( فإن كان غير مأمون نزعه القاضي عنه وولى غيره ) نظرا للفقراء كإخراج
الوصي نظرا للصغير ، وإن شرط أن ليس للقاضي عزله فالشرط باطل لمخالفته حكم الشرع ،
وإن مات القيم في حياة الواقف نصب غيره لأن الولاية له ووصيه بمنزلته ، لأن ولايته للوقف
نظرية وهي فيما ذكرنا فإن كان لم يوص إلى أحد فالرأي للقاضي ، ولا يجعل القيم من
الأجانب ما دام يجد من أهل بيت الواقف من يصلح لذلك إما لأنه أشفق أو لأن من قصد
الواقف نسبة الوقف إليه وذلك فيما ذكرنا ، فإن لم يجد فمن الأجانب من يصلح ، فإن أقام
أجنبيا ثم صار من ولده من يصلح صرفه إليه كما في حقيقة الملك . أرباب الوقف
المعدودون إذا نصبوا متوليا بدون رأي القاضي صح إذا كانوا من أهل الصلاح كما إذا اجتمع
أهل مسجد على نصب متول جاز لأن الحق لهم .
قال : ( ومن بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ) لأنه لم يخلص
لله تعالى إلا به . قال : ( ويأذن بالصلاة فيه ) عند أبي حنيفة ومحمد لأنه تسليم وهو شرط
عندهما ، وعند أبي يوسف يصير مسجدا بمجرد قوله جعلته مسجدا ، لأن التسليم ليس بشرط
كالإعتاق والفرق لهما أن العبد في يد نفسه ولا كذلك المسجد ، والتسليم أن يصلي فيه
جماعة في رواية الحسن ، لأن المساجد بنيت للجماعة ، ولو صلى فيه واحد أو جماعة
وحدانا في رواية لا يصح ، وهو قول محمد لما بينا ، وفي رواية يصح لأنه من خصائص
المساجد وبها يتحرر عن حقول العباد ، قال الله تعالى : ) وأن المساجد لله ( [ الجن : 18 ]
أضافها إلى نفسه إضافة اختصاص كالكعبة ، ، ولهذا لا يصح فيه شرط الخيار ولا تعيينه الإمام
ولا من يصلي فيه ، بخلاف غير المساجد حيث بقي مملوكا ينتفع به كسائر المملوكات سكنى
وزراعة حتى لو لم يخلص المسجد لله تعالى بأن كان تحته سرداب أو فوقه بيت ، أو جعل
وسط داره مسجدا وأذن للناس بالدخول والصلاة فيه لا يصير مسجدا ويورث عنه ، إلا إذا
كان السرداب أو العلو لمصالح المسجد أو كانا وقفا عليه ، وعن محمد أنه لما دخل الري
أجاز ذلك بكل حال لضيف المنازل . وعن أبي يوسف مثله لما دخل بغداد ؛ ولو خرب ما
حول المسجد وتفرق الناس عنه يعود ملكا ويورث عنه عند محمد خلافا لأبي يوسف . وذكر
بعضهم قول أبي حنيفة مع أبي يوسف وبعضهم مع محمد .(3/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
قال : ( ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا لأبناء السبيل أو رباطا أو حوضا أو حفر بئرا
أو جعل أرضه مقبرة أو طريقا للناس ) فعند أبي حنيفة ( لا يلزم ما لم يحكم به حاكم أو يعلقه
بموته ) على ما تقدم من أصله ، لأنه لم ينقطع حقه عنه حتى جاز له أن يستقي ويسكن ويدفن
ويشرب من الحوض ، بخلاف المسجد لأنه لم يبق له فيه حق . وعند أبي يوسف يلزم بالقول
لما تقدم إذ التسليم ليس بمشروط . وعند محمد يشترط التسليم ، وهو الاستقاء من السقاية
والبئر والدفن في المقبرة والنزول في الخان والرباط والشرب من الحوض ويكتفي فيه بفعل
الواحد لتعذر الجنس ، ولو نصب له متول وسلمه إليه جاز لأنه نائب عن الموقوف عليهم ،
وكذلك إن سلم المسجد إلى متول يقوم بمصالحه يجوز ، وإن لم يصل فيه هو الصحيح ،
وكذا إن سلمه إلى القاضي أو نائبه ، ويستوي في ذلك الفقراء والأغنياء عرفا لحاجة الكل
إلى ذلك .
قال : ( والوقف في المرض وصية ) لأنه تبرع فصار كسائر التبرعات . قال : ( رباط
استغني عنه يصرف وقفه إلى أقرب رباط إليه ) لأنه أصلح . رباط على بابه قنطرة ولا ينتفع
بالرباط إلا بالعبور عليها وليس لها وقف يجوز أن تعمر بما فضل من وقف الرباط لأنها
مصلحة العامة ( ولو ضاق المسجد وبجنبه طريق العامة يوسع منه المسجد ) لأن كليهما
للمسلمين نص عليه محمد ( ولو ضاق الطريق وسع من المسجد ) عملا بالأصلح ، ويجوز
القضاء بالشهادة القائمة على الوقف من غير دعوى لأنه من حقوق الله تعالى فلا تحتاج إلى
مدع وهو مجتهد فيه فينفذ بالإجماع .
فصل
وقف على الفقراء وله بنت فقيرة صغيرة إن وقف في صحته يجوز الصرف إليها وفي
مرضه لا لأنه بمنزلة الهبة . اشترى القيّم ثوبا وأعطي المساكين لا يجوز ، لأن حقهم في
الدراهم . إذا غرس القيّم في المسجد فهو للمسجد كالبناء ، وإن غرس على نهر العامة فهو
له ، وله أن يرفعه لأنه ليس له ولاية على العامة ؛ ولا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم لأنه
ليس بقربة ولا يستجلب الثواب وصار كالصدقة ، ولو وقف على الأغنياء وهم يحصون ثم
من بعدهم على الفقراء جاز ، ويكون كما شرط لأنه قربة في الجملة بأن انقرض الأغنياء .
ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة على الفقراء يدخل فقراء قرابته وأولاده ، وصرف الغلة
إليهم أولى من صرفها إلى الأجانب لأنه صدقة وصلة ، ثم الصرف إلى ولده أفضل لأن الصلة(3/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
في حقه أوجب وأجزل ، ثم إلى قرابته ، ثم إلى مواليه ، ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل مصره
أقربهم منزلا إلى الواقف ، هكذا ذكره هلال بن يحيى الرازي :
وينبغي أن يعطى الكل في بعض الأوقات ، لأنه إذا صرف الكل إليهم دائما وقدم العهد
ربما اتخذوه ملكا لأنفسهم ، ويكره أن يعطى كل فقير مائتي درهم لأنها صدقة فأشبهت
الزكاة ، ولا يكره ذلك إذا قال على فقراء قرابته لأنه كالوصية ، وإذا وقف على ولده وولد
ولده يدخل فيه ولد صلبه وولده ولده الموجودين يوم الوقف وبعده ، ويشترك البطنان في
الغلة ، ولا يدخل من كان أسفل من هذين البطنين لأنه خصهما بالذكر ؛ وفي دخول أولاد
البنات روايتان تذكر في الوصايا إن شاء الله تعالى . ولو قال على ولدي وولد ولدي ؛
وأولادهم تدخل البطون كلها وإن سفلوا ، الأقرب والأبعد فيه سواء لأنه ذكر أولادهم على
العموم ، ولو قال على أولادي يدخل فيه البطون كلها لعموم اسم الأولاد ، ولكن يقدم البطن
الأول فإذا انقرض فالثاني ، ثم من بعدهم يشترك جميع البطون فيه على السواء قريبهم
وبعيدهم ، لأن المراد صلة أولاده وبرهم ، والإنسان يقصد صلة ولده لصلبه لأن خدمته إياه
أكثر وهم إليه أقرب فكان عليه استحقاقه أرجح ، ثم النافلة قد يخدمون الجد فكان قصد
صلتهم أكثر ، ومن عدا هذين قل ما يدرك الرجل خدمتهم فيكون قصده برهم وصلتهم
لنسبتهم إليه لا لخدمتهم له ، وهم في النسبة إليه سواء فاستووا في غلة الاستحقاق . وقف
على فقراء قرابته فمن أثبت القرابة والفقر بالبينة يستحق وإلا فلا ، والبينة على القرابة إن لم
يفسروها لا تقبل الشهادة لتنوع القرابة واختلافها ، كما إذا شهدوا أنه وارث لا تقبل ما لم
يفسروا جهة الإرث ، والبينة على الفقر لا تسمع ما لم يقل الشهود : إنه فقير معدم لا نعلم له
مالا ولا أحدا تلزمه نفقته ، لأن كل من له نفقة على غيره بغير قضاء لا حظ له في هذا
الوقف كالولد الصغير ونحوه لأنهم يأخذون النفقة فيصيرون بها أغنياء ، ومن لا يستحق النفقة
إلا بقضاء كالإخوة ونحوهم له حظ بفي هذا الوقف ، والقضاء بفقره في الوقف لا يكون
قضاء بفقره في حق الدين ، والقضاء لفقره في حق الدين قضاء بفقره في حق الوقف ، لأن
من له مسكن وخادم وعروض الكفاية فقير في حق الوقف دون الدين ، ولو قال على أقرب
قرابتي فبنت بنت البنت أولى من الأخت لأبوين لأنها من صلبه والأخت من صلب أبيه ولا
يعتبر الإرث .
فصل
لا تجوز إجارة الوقف أكثر من المدة التي شرطها الواقف ، لأنه يجب اعتبار شرط
الواقف لأنه ملكه أخرجه بشرط معلوم ولا يخرج إلا بشرطه ، فإن لم يشرط مدة فالمتقدمون
من أصحابنا قالوا : يجوز إجارته أي مدة كانت ، والمتأخرون قالوا : لا يجوز أكثر من سنة(3/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
لئلا يتخذ ملكا بطول المدة فتندرس سمة الوقفية ويتسم بسمة الملكية لكثرة الظلمة في زماننا
وتغلبهم واستحلالهم ، وقيل يجوز في الضياع ثلاث سنين وفي غير الضياع سنة وهو
المختار ، لأنه لا يرغب في الضياع أقل من ذلك ، ولا تجوز إجارته إلا بأجر المثل دفعا
للضرر عن الفقراء ، فلو آجره ثلاث سنين بأجرة المثل ثم ازدادت لكثرة الرغبات لا تنقض
الإجارة ، لأن المعتبر أجر المثل يوم العقد ، وليس للموقوف عليه إجارة الوقف إلا أن يكون
وليا من جهة الواقف أو نائبا عن القاضي .
وإذا آجره القاضي أو نائبه أو الولي لا تنفسخ الإجارة بموته ، لأنه كالوكيل عن
الموقوف عليهم ، والعقود لا تنفسخ بموت الوكيل ، ولو سكنه الموقوف عليه إن شرط
الواقف السكنى له فله ذلك ، وإن شرط الغلة له ، قيل ليس له ذلك ، وقيل له لأن له أن
يسكنها غيره بالإجارة فهو أولى ، والأحوط أن يؤجرها القيم من غيره ويعطيه الأجرة ، ولا
يجوز إعارة الوقف وإسكانه لأن فيه إبطال حق الفقراء ، ولا يصح رهنه فإن سكنه المرتهن
يجب عليه أجر مثله ، وكذا لو باع المتولي منزلا موقوفا فسكنه المشتري ، ثم فسخ البيع
فعلى المشتري أجر مثله والفتوى في غصب عقار الوقف وإتلاف منافعه وجوب الضمان نظرا
للوقف وهو المختار ، ولو استدان القيم للخراج والجنايات إن أمره الواقف بذلك جاز ، وإن
لم يأمره فالأصح أنه إن لم يكن له بد من ذلك يرفع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة
ثم يرجع في الغلة قيم اشترى من غلة المسجد حانوتا للمسجد يجوز بيعه عند الحاجة لأنه
من غلة الوقف وليس بوقف ، لأن صحة الوقف تعتمد الشرائط ولم توجد فيه . رجل وقف
على ساكني مدرسة كذا من طلبة العلم فسكنها متعلم لا يبيت فيها جاز له ذلك إن كان يأوي
في بيت من بيوتها ، وله فيه آلة السكنى لأنه يعد ساكنا فيه .
ولو اشتغل بالليل بالحراسة وبالنهار يقصر في التعليم ، فإن كان مشتغلا بعمل آخر لا
يعد به من طلبة العلم لا يحل له ذلك ، وإن لم يشتغل وهو يعد من طلبة العلم حل ؛ ولو
وقف على ساكني مدرسة كذا ولم يقل من طلبة العلم فهو والأول سواء لأن التعارف في
ذلك إنما هو طلبة العلم دون غيرهم ، ومن كان يكتب الفقه لنفسه ولا يتعلم فله الوظيفة لأنه
متعلم ، وإن كتب لغيره بأجرة لا يحل له ، وإن خرج من المصر مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا لا
وظيفة له لأنه لم يبق ساكنا ، وإن خرج ما دون ذلك إلى بعض القرى وأقام خمسة عشر يوما
فلا وظيفة له ، فإن أقام أقل من ذلك فإن كان لا بد له منه كطلب القوت ونحوه فله الوظيفة ،
وإن خرج للتنزه لا يحل له .(3/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
كتاب الهبة
وهي العطية الخالية عن تقدم الاستحقاق ، يقال : وهبته ووهبت منه ، قال تعالى :
) يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( [ الشورى : 49 ] والاتهاب : قبول الهبة ،
ولهذا شرط فيها القبض ، لأن تمام الإعطاء بالدفع والتسليم ، وهو أمر مندوب وصنيع محمود
محبوب ، قال عليه الصلاة والسلام : ' تهادوا تحابوا ' وفي رواية ' تهابوا ' وقبولها سنة ،
فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) قبل هدية العبد ، وقال في حديث بريرة : ' هو لها صدقة ولنا هدية ' وقال عليه
الصلاة والسلام : ' ولو أهدي إليّ طعام لقبلت ، ولو دعيت إلى كراع لأجبت ' وإليها
الإشارة بقوله تعالى : ) فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ( [ النساء : 4 ] أي طابت نفوسهن
بشيء من ذلك فوهبه منكم ) فكلوه هنيئا مريئا ( [ النساء : 4 ] وهي نوعان : تمليك ،
وإسقاط ، وعليها الإجماع .
قال : ( وتصح بالإيجاب والقبول والقبض ) أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد تمليك
ولا بد فيه منهما . وأما القبض فلأن الملك لو ثبت بدونه للزم المتبرع شيء لم يلتزم وهو
التسليم بخلاف الوصية ، لأنه لا إلزام للميت لعدم الأهلية ولا للوارث لعدم الملك ، ولأن(3/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
الملك بالتبرع ضعيف لا يلزم ، وملك الواهب كان قويا فلا يلزم بالسبب الضعيف ، وقد روي
عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا ' لا تجوز الهبة والصدقة إلا مقبوضة محوزة '
والمراد الملك لأن الجواز ثابت بدونه إجماعا .
قال : ( فإن قبضها في المجلس بغير إذنه جاز ، وبعد الافتراق يفتقر إلى إذنه ) والقياس
أن لا يجوز في الوجهين إلا بإذنه لأنه تصرف في ملك الواهب لبقاء ملكه قبل القبض . وجه
الاستحسان أن التمليك بالهبة تسليط على القبض وإذن له فصار الموهوب له مأذونا في
القبض ضمنا للإيجاب واقتضاء ، والإيجاب يقتصر على المجلس فكذا ما ثبت ضمنا له
وكذلك الصدقة ، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس ، لأن الثابت ضمنا لا يعارض
الصريح . أو نقول النهي رجوع والقبض كالقبول وأنه يملك الرجوع قبل القبض . قال : ( وإن
كانت في يده ) كالمودع والمستعير والمستأجر والغاصب ( ملكها بمجرد الهبة ) لأنه إن كان
قبضها أمانة فينوب عن الهبة ، وإن كان ضمانا فهو أقوى من قبض الهبة ، والأقوى ينوب عن
الأدنى ، ولو وهب من رجل ثوبا فقال قبضته صار قابضا عند أبي حنيفة ، وجعل تمكنه من
القبض كالتخلية في البيع . وقال أبو يوسف : لا بد من القبض بيده ، ولو قبض الموهوب له
الهبة ولم يقل قبلت صحت الهبة . قال : ( وهبة الأب لابنه الصغير تتم بمجرد العقد ) لأنها في
يد الأب وهو الذي يقبض له فكان قبضه كقبضه ، وكل من يعوله في هذا كالأب ، ولو وهب
لابنه الكبير وهو في عياله فلا بد من قبضه ، لأنه لا ولاية له عليه فلا يقبض له .
قال : ( ويملك الصغير الهبة بقبض وليه وأمه وبقبضه بنفسه ) معناه : إذا وهبه أجنبي
فالولي كالأب ووصيه والجد ووصيه لقيامهم مقام الأب ؛ وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه
كاللقيط وقد بيناه ، والأم لها ولاية حفظه ، وهذا منه لأنه لا بقاء له بدون المال فاحتاجت إلى
ولاية التحصيل وهذا منه . وأما قبضه بنفسه فمعناه إذا كان عاقلا لأنه تصرف نافع وهو من
أهله ، ويجوز قبض الزوج لزوجته الصغيرة بعدما زفت إليه ، لأن الأب فوض أمرها إليه
وذلك بعد الزفاف لا قبله حتى يملكه بحضرة الأب .
قال : ( وتنعقد الهبة بقوله : وهبت ) لأنه صريح فيه ( ونحلت ) لكثرة استعمالها فيه ،
قال عليه الصلاة والسلام : ' أكل ولدك نحلته هكذا ' ( وأعطيت ) صريح أيضا(3/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
( وأطعمتك هذا الطعام ) لأن الإطعام صريح في الهبة إذا أضيف إلى المطعوم لأنه لا يطعمه
إلا بالأكل ولا أكل إلا بالملك ، ولو قال : أطعمتك هذه الأرض فهو عارية لأنها لا تطعم
( وأعمرتك ) هذا الشيء وجعلت هذه الدار لك عمرى ، قال عليه الصلاة والسلام : ' من أعمر
عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده ' ( وحملتك على هذه الدابة إذا نوى الهبة ) لأن
المراد به الإركاب حقيقة ويستعمل في الهبة ، يقال : حمل الأمير فلانا على فرس : أي وهبه
فيحمل عليه عقد الهبة ( وكسوتك هذا الثوب ) قال تعالى : ) أو كسوتهم ( [ المائدة : 89 ] أراد
تمليكهم الكسوة ، ويقال : كساه ثوبا إذا وهبه ، ولو قال : منحتك هذه الدار أو هذه الجارية
فهي عارية إلا أن ينوي الهبة ، ولو قال ذلك فيما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو هبة
كالدراهم والدنانير والمطعوم والمشروب .
قال : ( وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة ، وفيما يقسم لا تجوز ) لأن القبض شرط في
الهبة لما روينا وأنه غير ممكن في المشاع ، ولو جوزناه لكان له إجبار الواهب على القسمة
ولم يلتزمه فيكون إضرار به ، وما لا يقسم الممكن فيه القبض الناقص فيكتفي به ضرورة ،
ولا يلزم ضرر الإجبار على القسمة ببقاء الإجبار على المهايأة . قلنا المهايأة في المنافع ولم
يتبرع بها ، لأن الهبة صادفت العين لا المنافع . قال : ( فإن قسم وسلم جاز ) لأن بالقبض لم
يبق شيوع وذلك ( كسهم في دار و ) مثله ( اللبن في الضرع والصوف على الظهر والتمر على
النخل والزرع في الأرض ) لأن اتصال هذه الأشياء كالشيوع من حيث إنه يمنع القبض ،
وكذلك لو وهبه من شريكه لا يجوز لعدم إمكان القبض . قال : ( ولو وهبه دقيقا في حنطة ،
أو سمنا في لبن ، أو دهنا في سمسم فاستخرجه وسلمه لا يجوز ) لأن الموهوب معدوم فلا
يكون محلا للملك فبطل العقد فيحتاج إلى عقد جديد أما المشاع فمحل التمليك حتى جاز
بيعه دون ذلك .
قال : ( ولو وهب اثنان من واحد جاز ، وبالعكس لا يجوز ) أما الأول فلأنهما سلماها
والموهوب له قبضها جملة ولا شيوع ولا ضرر . وأما الثانية فمذهب أبي حنيفة وقالا :
يصح أيضا لأنها هبة واحدة والتمليك واحد فلا شيوع ، وصار كالرهن من اثنين ولأبي(3/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
حنيفة أنه وهب من كل واحد منهما النصف لأنه يثبت لكل واحد منهما الملك في
النصف ، ألا ترى أنه لو كان فيما لا يقسم ، فقبل أحدهما صح في النصف فكان تمليكا
للنصف وأنه شائع ، وأما الرهن فالمستحق فيه الحبس ، ويثبت لكل واحد كملا وتمامه مر
في الرهن .
قال : ( ولو تصدق على فقيرين جاز ) وكذلك لو وهب لهما ( وعلى غنيين لا يجوز )
وقالا : تجوز في الغنيين أيضا لما مر والفرق لأبي حنيفة أن إعطاء الفقير يراد به وجه الله
تعالى فهو واحد ، وسواء كان بلفظ الصدقة أو بلفظ الهبة ، وسواء كان فقيرا واحدا أو أكثر ،
والإعطاء للغني يراد به وجه الغني وهما اثنان فكان مشاعا ، والصدقة على الغني هبة ليس من
أهل الصدقة .
قال : ( ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء ) لما تقدم أن الاستثناء
إنما يعمل فيما يعمل فيه العقل ، والهبة لا تصح في الحمل فكذا الاستثناء فكان شرطا
فاسدا ؛ والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة ، لأنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى وأبطل
شرط المعمر بخلاف البيع فإنه يفسد بالشروط الفاسدة ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن
بيع وشرط ، ولو دبر الجنين ثم وهبها لم يجز ، ولو أعتقه ثم وهبها جاز ؛ والفرق أن
المدبر مملوك الواهب وأنه متصل بالأم اتصال خلقة ، فمنع صحة القبض كالمشاع ، وفي
الحر لم يبق ملكا له ، فالموهوب غير مشغول بحقه ولا متصل به فلا يمنع الصحة ؛ ولو وهبه
جارية على أن يعتقها أو يستولدها ، أو على أن يدبرها ، أو دارا على أن يرد عليه شيئا منها أو
يعوضه عنها شيئا فالهبة جائزة والشرط باطل ، لأنها شروط تخالف مقتضى العقد فكانت
فاسدة ، وأنها لا تبطل الهبة لما مر .
فصل
المعاني المانعة من الرجوع في الهبة : المحرمية من القرابة ، والزوجية ، والمعاوضة ،
وخروجها من ملك الموهوب له ، وحدوث الزيادة أو التغيير في عينها ، وموت الواهب أو
الموهوب له على ما ببنينه إن شاء الله تعالى .(3/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
قال : ( ويجوز الرجوع فيما يهبه للأجنبي ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' الواهب
أحق بهبته ما لم يثب منها ' أي ما لم يعوض عنها ( ويكره ) ذلك لأنه من باب
الخساسة والدناءة . وقال عليه الصلاة والسلام : ' العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه '
شبهه له لخساسة الفعل ودناءة الفاعل ، وتأويل قوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يحل
للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده ' أي لا يحل له الرجوع من غير
قضاء ولا رضى إلا الوالد فإنه يحل له ذلك عند الحاجة ، فهذا الحمل أولى جمعا بين
الحديثين .
قال : ( فإن عوضه أو زادت زيادة متصلة ) في نفسها ( أو مات أحدهما ، أو خرجت
عن ملك الموهوب له فلا رجوع ) أما إذا عوضه فلما روينا من الحديث ، ولأن المقصود
من الهبة التعويض عادة وقد حصل . وأما الزيادة كالسمن والكبر والبناء والغرس والصبغ
والخياطة فلأنه لا يمكن الرجوع بدون الزيادة ، ولا سبيل إلى الرجوع مع الزيادة لأن العقد
ما ورد عليها . وأما موت الواهب فلا سبيل للوارث عليها إذ هو أجنبي من العقد . وأما
موت الموهوب له فللانتقال إلى ورثته والتمليك لم يوجد منه وصار كما إذا انتقل منه حال
حياته وأما إذا خرجت من ملك الموهوب له فلأنه إنما أخرجها بتسليطه فلا يملك نقضه
كالوكيل ، ونقصان الموهوب لا يمنع الرجوع بأن انتقصت قيمته أو انهدم البناء أو ولدت
الجارية ، بنصف العوض ، وإن استحق بعض العوض لا يرجع بشيء منه ( ز ) ، إلا أنه لا
يرجع فيها حتى يستغني عنها ولدها ؛ ولو وهبه عبدا فشب فازدادت قيمته ثم شاخ فنقصت
لا يرجع فيه لأنه ازداد في بدنه وطال في جثته ثم انتقص بوجه آخر وهو شيخوخته فلا
يرجع .
قال : ( ولا رجوع فيما يهبه لذي رحم محرم منه أو زوجة أو زوج ) لأن المقصود
صلة الرحم وزيادة الألفة بين الزوجين ، وفي الرجوع قطيعة الرحم والألفة ، لأنها تورث
الوحشة والنفرة فلا يجوز صيانة للرحم عن القطيعة وإبقاء للزوجية على الألفة والمودة
وفي الحديث ' إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها ' وسواء كان أحد(3/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
الزوجين مسلما أو كافرا لشمول المعنى ، ولو وهبها ثم أبانها لم يرجع ؛ ولو وهب
أجنبية ثم تزوجها له الرجوع ، والمعتبر المقصود وقت العقد ؛ وإن وهب لأخيه وهو عبد
له الرجوع ؛ وكذلك إن وهب لعبد أخيه عند أبي حنيفة ، وقالا : لا رجوع له لأن الملك
وقع للمولى فكان هبة للأخ ، وله أن الهبة وقعت للعبد حتى اعتبر قبله ورده والملك يقع
له ، ثم ينتقل إلى مولاه عند الفراغ من حاجته حتى لو كان مديونا لا ينتقل إلى مولاه ولا
صلة بينه وبين العبد .
قال : ( ولو قال الموهوب له : خذ هذا بدلا عن هبتك أو عوضها أو مقابلها أو عوضه
أجنبي متبرعا فقبضه سقط الرجوع ) لأن هذه الألفاظ في معنى المعاوضة ، وكذلك لو قال :
خذ هذا مكان هبتك ، أو ثوابا منها ، أو كافأتك به ، أو جازيتك عليه ، أو أثبتك ، أو نحلتك
هذا على هبتك ، أو تصدقت به عليك بدلا عن هبتك فهذا كله عوض وحكمه حكم الهبة ،
يصح بما تصح به الهبة ، ويبطل بما تبطل به ، ويتوقف الملك فيه على القبض ولا يكون في
معنى المعاوضة أصلا ؛ وإن لم يضف العوض إلى الهبة بأن أعطاه شيئا ولم يقل عوضا عن
هبتك لا يكون عوضا ولكل واحد منهما الرجوع ، فإن عوضه عن جميع الهبة بطل الرجوع
في الجميع قل العوض أو كثر ، وإن عوضه عن نصفها فله الرجوع فيما بقي لأن المانع
التعويض فيقتدر بقدره .
قال : ( ولو استحق نصف الهبة رجع ) بنصف العوض لأنه ما عوضه بهذا العوض إلا
ليسلم له جميع الموهوب ولم يسلم إلا نصفه فيرجع بنصف ما عوضه ( وإن استحق بعض
العوض لا يرجع بشيء منه ) وقال زفر : يرجع بحصته من الموهوب اعتبارا بالعوض الآخر .
ولنا أنه لما استحق بعضه ظهر أنه ما عوضه إلا بالباقي وهو يصلح عوضا عن الكل ، فلا
يرجع إلا أن يرد الباقي ثم يرجع ، لأنه ما أسقط حقه في الرجوع بقبول العوض إلا ليسلم له
جميع العوض ولم يسلم فله رده ، وإذا رده بطل التعويض فعاد حق الرجوع . قال : ( وإن
استحق جميع العوض رجع الهبة ) لما بينا .
قال : ( والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض ) فلا يصح في المشاع
( و ) حكم ( البيع بعده ) رعاية للفظ والمعنى . وصورته : أن يهبه عبدا على أن يعوضه عنه
ثوبا ، فلكل واحد منهما الامتناع ما لم يتقابضا كما في الهبة ، فإذا تقابضا صار بمنزلة البيع
يردان بالعيب وتجب الشفعة ، وإن استحق ما في يد أحدهما رجع بعوضه إن كان قائما ،
وبقيمته إن كان هالكا .(3/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
قال : ( ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم ) لأنه فصل مجتهد فيه مختلف
بين العلماء فله الامتناع ، وولاية الإلزام للقاضي ، وإن تراضيا فقد أبطل حقه فيجوز ( وإن
هلكت في يده بعد الحكم ) بالرد ( لم يضمن ) لأنه أمانة في يده حيث قبضه لا على وجه
الضمان .
فصل
( العمرى جائزة للمعمر حال حياته ولورثته ) من ( بعد مماته ) ويبطل الشرط ( وهي أن
يجعل داره له عمره ، فإذا مات ترد عليه ) لما تقدم من الحديث ، ولما روي أنه عليه
الصلاة والسلام أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر ، ولو قال : داري لك عمرى سكنى أو
نحلى سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة أو هبة سكنى أو سكنى هبة فهي
عارية ، لأن ذكر المنفعة وهي السكنى حقيقة في العارية ، لأن العارية تمليك المنفعة وتحتمل
الهبة والحمل على الحقيقة أولى ؛ ولو قال : هبة تسكنها فهي هبة ، لأن قولها تسكنها مشورة
وتنبيه على المقصود وليس بتفسير ، بخلاف قوله سكنى .
قال : ( والرقبى باطلة ، وهي أن تقول ) داري لك رقبى ، ومعناه ( إن مت فهي لي ، وإن
مت فهي لك ) كأن كل واحد منهما يرقب موت الآخر لما روى شريح ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجاز
العمرى ورد الرقبى ' ومراده الرقبى من الترقب ، أما من الإرقاب ومعناه رقبة داري لك
فإنه يجوز ، وهو محمل حديث جابر ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجاز العمرى والرقبى ' إلا أنه محتمل ،
ولا تثبت الهبة بالشك فتكون عارية . وقال أبو يوسف : الرقبى جائزة لحديث جابر ، ولأن
قوله : داري لك تمليك ، وقوله رقبى شرط فاسد لا يبطل الهبة . ولهما حديث شريح ، ولأنه(3/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
تعليق الملك بالخطر فلا يصح ، وإذا لم يصح كون عارية عندهما ، لأنه يقتضي إطلاق
الانتفاع به ، ولو قال : جميع مالي أو كل شيء أملكه أو جميع ما أملكه لفلان فهو هبة ، لأن
ملكه لا يصير لغيره إلا بتمليكه ؛ ولو قال : جميع ما يعرف بي أو ينسب إليّ لفلان فهو إقرار
لجواز أن يكون للمقر له ، وهو في يد المقر يعرف به وينسب إليه . قال : ( والصدقة كالهبة )
في جميع أحكامها لأنه تبرع ( إلا أنه لا رجوع فيها ) لأن المقصود منها الثواب وقد حصل ،
وكذا الهبة للفقير لأن المقصود الثواب ، وكذا لو تصدق على غني لأنه قد يطلب منه الثواب
بأن يعينه على النفقة لكثرة عياله ، ويؤيد ذلك أنه عبر بالصدقة عنها .
قال : ( ومن نذر أن يتصدق بماله فهو على جنس مال الزكاة ) لأن إيجاب العبد معتبر
بإيجاب الله تعالى ، وإيجاب الله تعالى الصدقة المضافة إلى المال يتناول أموال الزكاة ، قال
الله تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ( [ التوبة : 103 ] الآية ، فكذا إيجاب العبد ،
فيتصدق بالذهب والفضة وعروض التجارة والسوائم والغلة والثمرة العشرية والأرض العشرية ،
خلافا لمحمد لأن الغالب في العشر معنى العبادة حتى لا تجب على الكافر فكانت في معنى
الزكاة ، ولا يتصدق بغير ذلك من الأموال لأنها ليست أموال الزكاة . وقال زفر : يتناول جميع
ماله وهو القياس عملا بعموم اللفظ ، وجوابه ما مر ؛ ( و ) لو نذر أن يتصدق ( بملكه فهو على
الجميع ) ، وذكر الحاكم الشهيد أنه والأول سواء في الاستحسان ، لأن ذكر المال والملك
سواء ، وكذلك ذكر النسفي عنهما . قال : وأبو يوسف فرق بينهما وقال : لفظة الملك أعم
عرفا ، والأول أصح ، لأن الشرع إنما أضاف الصدقة إلى المال لا إلى الملك وذلك موجب
تخصيص المال فبقي الملك على عمومه ، وإن لم يكن سوى مال الزكاة لزمه التصدق بالكل
بالإجماع .
( ويمسك ما ينفقه حتى يكتسب ثم يتصدق بمثل ما أمسك ) لأنه لو تصدق بالجميع
احتاج أن يسأل أو يموت جوعا وأنه ضرر فاحش ، فيمسك قدر حاجته دفعا للضرر عنه ، ولم
نقدره بشيء لأن الناس يختلفون في ذلك باختلاف أحوالهم في النفقات فالحاصل أنه يمسك
مقدار كفايته في نفقته إلى أن يقدر على أداء بمثله ؛ ولو قال : داري في المساكين صدقة فعليه
أن يتصدق بها ، وإن تصدق بقيمتها أجزأه ، ولو قال الآخر : كل ما يصل إليّ من مالك فعليّ
أن أتصدق به فوهبه شيئا فعليه أن يتصدق به ، ولو أذن له أن يأكل من طعامه لا يتصدق به ،
لأن الإباحة لا يملكه إلا بالأكل ، وبعد الأكل لا يمكن التصدق به .(3/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
كتاب العارية
وهي مشتقة من التعاور : وهو التداول والتناوب ، يقال : تعاونا الكلام بيننا : أي
تداولناه ؛ وسمي العقد به لأنهم يتداولون العين ويتدافعونها من يد إلى يد ، أو من العرية
وهي العطية ، إلا أن العرية اختصت بالأعيان ، والعارية بالمنافع ، وسميت به لتعريه عن
العوض ، وهي عقد مستحب شرعا ، مندوب إليه ، لما فيه من قضاء حاجة المسلم ؛ وقد
ندب الشرع إليه قال تعالى : ) وتعاونوا على البر والتقوى ( [ المائدة : 2 ] وقال عليه الصلاة
والسلام : ' لا يزال الله في عون المسلم ما دام في عون أخيه ' وذم تعالى على منعه
فقال : ) ويمنعون الماعون ( [ الماعون : 7 ] أي العواري من القدر والفأس ونحوه ؛ وقال
عليه الصلاة والسلام : ' العارية مردودة ' واستعار ( صلى الله عليه وسلم ) دروعا من صفوان ؛ ولأن التمليك
نوعان : بعوض ، وغير بعوض ؛ والأعيان قابلة للنوعين بالبيع والهبة ، فكذا المنافع بالإجارة
والإعارة .(3/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
قال : ( وهي هبة المنافع ) وقال الكرخي : إباحة المنافع حتى لا يملك المستعير
إجارة ما استعار ولو ملك المنافع لملك إجارتها ، والأول الصحيح لأن المستعير له أن
يعير ، ولو كانت إباحة لما ملك ذلك ، كمن أبيح له الطعام ليس له أن يبيحه لغيره ، ولأن
العارية مشتقة من العرية وهي العطية ، وإنما لم تجز الإجارة لأنها تمليك مؤقت ينقطع حقه
عنها إلى انتهاء المدة ، والعارية تمليك على وجه لا ينقطع عنها متى شاء ، فلو جازت
الإجارة يلزم المعير من الضرر ما لم يلتزمه ولا رضي به فلا يجوز ، أو نقول الإجارة أقوى
وألزم من الإعارة والشيء لا يستتبع ما هو أقوى منه . قال : ( ولا تكون إلا فيما ينتفع به
مع بقاء عينه ) .
اعلم أن الإعارة نوعان : حقيقة ، ومجاز . فالحقيقة إعارة الأعيان التي يمكن الانتفاع بها
مع بقاء عينها كالثوب والعبد والدار والدابة . والمجاز إعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا
باستهلاكه كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون والعددي المتقارب ، فيكون إعارة صورة
قرضا معنى ، لأنه رضي باستهلاكه ببدل ، فكان تمليكا ببدل وهو القرض ؛ ولو استعار دراهم
ليعاير بها ميزانه أو يزين بها حانوته ليس له أن يتعدى ما سمي من المنفعة ، ولا يكون قرضا
كاستعارة الحلي .
قال : ( وهي أمانة ) لا يضمنها من غير تعد . قال عليه الصلاة والسلام : ' ليس على
المستعير غير المغل ضمان ' ولأنه قبضه من يد المالك لا على وجه الضمان ، لأن اللفظ
يقتضي تمليك المنافع بغير عوض لغة وشرعا لما بينا فلم يكن متعديا ، وتأويل ما روي ' أنه
عليه الصلاة والسلام استعار دروعا من صفوان ، فقال : أغصبا تأخذها يا محمد ؟ فقال : لا بل
عارية مؤداة مضمونة ' أي واجبة الرد مضمونة بمؤونة الرد توفيقا بين الحديثين بالقدر
الممكن .
قال : ( وتصح بقوله أعرتك ) لأنه صريح فيه ( وأطمعتك هذه الأرض ) للاستعمال فيه
( وأخدمتك هذا العبد ) لأن منفعة العبد خدمته ، وقد أذن له في استخدامه ( ومنحتك هذا الثوب
وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد بهما الهبة ) لما مر في الهبة ( وداري لك سكنى ) لأن معناه
سكناها لك ( أو سكنى عمري ) أي سكناها لك عمرك .(3/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
قال : ( وللمستعير أن يعيرها إن لم يختلف باختلاف المستعملين ، وليس له إجازتها )
لأنه ملك المنافع فيملكها غيره كالموصى له بالخدمة ، بخلاف الإجارة على ما مر .
ثم العارية على أربعة أوجه : أحدها أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع كمن استعار
دابة أو ثوبا ولم يبين وقتا معلوما ولا عيّن من يستعمله فله أن يستعمله في أي وقت شاء في
أي منفعة شاء ، ويركب ويلبس غيره عملا بالإطلاق ، فلو ركب هو أو لبس ليس له أن يركب
غيره ولا يلبسه ، وكذا لو ركب غيره لا يركب هو على ما بيناه في الإجارة . والثاني أن تكون
مقيدة فيهما بأن استعاره يوما ليستعمله بنفسه ، فليس له أن يركب غيره ولا يلبسه غيره
لاختلاف ذلك باختلاف المستعملين ، وله أن يعيرها للحمل لأنه لا يتفاوت ، وكذا له أن يعير
العبد والدار لعدم التفاوت . والثالث إذا كانت مطلقة في الوقت مقيدة في الانتفاع بأن
استعارها ليحمل عليها حنطة فله أن يحمل الحنطة متى شاء . والرابع إذا كانت مقيدة في
الوقت مطلقة في الانتفاع بأن استعار دابة يوما ولم يسم ما يحمل عليها فله أن يحمل ما شاء
في اليوم ، فإن أمسكها بعد الوقت ضمن إن انتفع بها في اليوم الثاني ، وقيل يضمن بمجرد
الإمساك لأنه أمسك مال الغير بغير إذنه وهو الصحيح ؛ وإن اختلفا في الوقت والمكان وما
يحمل عليها فالقول قول المعير مع يمينه لأن الإذن منه يستفاد فيثبت بقدر ما أقر به وما زاد
فالمستعير مستعمل فيما لم يؤذن له فيضمن .
قال : ( فإن آجرها فهلكت ضمن ) لأنه متعد حيث تصرف في ملك الغير بغير أمره فكان
غاصبا ( وللمعير أن يضمن المستعير ) لما بينا ( ولا يرجع على المستأجر ) لأنه تبين أنه آجره
ملكه ، وله أن يضمن المستأجر لأنه قبض ماله بغير أمره ( ويرجع على المستعير ) إذا لم يعلم
أنه عارية دفعا لضرر الغرور عنه بخلاف ما إذا علم قال : ( فإن قيدها بوقت أو منفعة أو مكان
ضمن بالمخالفة إلا إلى خير ) وقد بيناه بتمامه في الإجارة ( وعند الإطلاق له أن ينتفع بها في
جميع أنواع منفعتها ما شاء ما لم يطالبه بالرد ) عملا بالإطلاق . قال : ( ولو أعار أرضه للبناء
والغرس فله أن يرجع ) لأنه عقد غير لازم ، وهذا لأن المنافع توجد شيئا فشيئا وتملك
كذلك ، فما لم يوجد بعد لم يقبض فله الرجوع فيه . وقال عليه الصلاة والسلام : ' العارية
مردودة ' .(3/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
قال : ( ويكلفه قلعهما ) لأنه لما صح الرجوع بقي المستعير شاغلا ملك المعير فعليه
تفريغها ، فإن لم يكن وقت فلا شيء عليه ، لأن ما أصاب المستعير إنما أصابه بفعل نفسه
( وإن وقّت وأخذها قبل الوقت كره له ذلك ) لأنه أخلف وعده ( ويضمن للمستعير قيمته
ويملكه ) نظرا للجانبين . وقال زفر : لا ضمان عليه لأنه لما علم أن له ولاية الأخذ فقد رضي
بذلك . ولنا أنه غره بالتأقيت ، إذا الظاهر الوفاء بالوعد فيرجع إليه إذا أخلف ، لأن ما أصابه
إنما أصابه من جهته بخلاف غير المؤقت ( وللمستعير قلعه ) لأنه ملكه ( إلا أن يكون فيه ضرر
كثير بالأرض ) فيخير المعير ، لأن الأصل له وهو راجح على التبع ( فإن قلعهما فلا ضمان )
عليه وقيل إذا كلفه المعير قلعهما قلعهما ، ويضمن المعير ما نقصا بالقلع ، لأنه خدعه حيث
ضمن له الوفاء إلى آخر الوقت الذي وقّته ولم يف له .
قال : ( فإن أعارها للزراعة فليس له أخذها قبل حصده وإن لم يوقت ) فتبقى بالأجرة ،
لأن فيه مراعاة الجانبين ودفع الضرر عن المستعير ومراعاة حق المعير ، لأن بقاءه مدة قليلة
بخلاف الغرس والبناء لأنه لا نهاية لهما فيقلع دفعا لضرر المعير . دخل الحمام واستعمل
قصاع الحمامي فانكسرت ، أو أخذ كوز الفقاع ليشرب فانكسر ، أو دخل منزل رجل بإذنه
فأخذ منه إناء بغير إذنه لينظر إليه أو ليشرب فوقع من يده فانكسر فلا ضمان عليه لأنه مأذون
في ذلك دلالة . استعار كتابا ليقرأ فيه فوجد فيه خطأ ، إن علم أن صاحبه لا يكره إصلاحه
أصلحه وإلا فلا ، والظاهر أنه لا يكره فلا بأس به . قال : ( وأجرة رد العارية على المستعير )
لأن قبضه لمنفعته فوجب الرد عليه ، والأجرة مؤونة الرد ( و ) أجرة رد ( المستأجر على الأجر )
لأن منفعة القبض حصلت له وهي الأجرة فلا يكون الرد واجبا على المستأجر فلا يلزمه
الأجرة .
قال : ( وإذا رد الدابة إلى اصطبل مالكها برئ ) استحسانا ، والقياس أنه لا يبرأ لعدم
الرد إلى المالك . وجه الاستحسان أن العادة جرت بالرد إلى الاصطبل ، فإنه لو سلمها إليه
ردها إلى الاصطبل ، والمعتاد كالمنصوص عليه ؛ ولو كان عبدا ورده إلى دار مالكه فكذلك
( وكذا رد الثوب إلى داره ) لما بينا ( و ) لو رد العارية ( مع من في عياله أو عبده أو أجيره
الخاص برئ ) لأنها أمانة فصارت كالوديعة ؛ وكذا لو ردها إلى عبد المعير أو من في عياله
برئ لأن المالك يحفظها بهؤلاء عادة ؛ وقيل المراد بالعبد : الذي يقوم عليها . وذكر في(3/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
المنتقى لو كانت العارية شيئا نفيسا كالجوهر ونحوه لا يبرأ بالرد إلى هؤلاء ، لأنه لم تجر
العادة بطرحه في الدار وتسليمه إلى غلمانه ؛ والمستأجر في رد العين المستأجرة كالمستعير ؛
وفي الغصب لا يبرأ في الجميع إلا بالرد إلى مالكه ، لأن ضمان الغصب واجب فلا يسقط
إلا بالرد إلى المالك أو نائبه حقيقة ، بخلاف العارية لأنها غير مضمونة .(3/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
كتاب الغصب
( وهو ) في اللغة : أخذ الشيء ظلما ، يقال : غصبته منه وغصبته عليه بمعنى ، قال
تعالى : ) يأخذ كل سفينة غصبا ( [ الكهف : 79 ] أي ظلما ، ويستعمل في كل شيء ، يقال :
غصبت ولده وزوجته . وفي الشرع ( أخذ مال متقوم محترم مملوك للغير بطريق التعدي )
واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف كون المغصوب قابلا للنقل والتحويل على وجه يتضمن
تفويت يد المالك ، ولم يشترط ذلك محمد ، ويظهر في غصب العقار على ما نبينه إن شاء
الله تعالى ، فلو استخدم مملوك غيره بغير أمره ، أو أرسله في حاجته ، أو ركب دابته أو حمل
عليها أو ساقها فهلكت كان غاصبا لأنه أثبت اليد المبطلة المفوتة ؛ ولو جلس على بساط
الغير أو هبت الريح بثوب إنسان فألقته في حجره لا يكون غاصبا ما لم ينقله أو يمسكه ،
وهو تصرف منهي عنه حرام لكونه تصرفا في مال الغير بغير رضاه ، قال الله تعالى : ) ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ( [ النساء : 29 ] ولأن حرمة
مال المسلم كحرمة دمه . قال عليه الصلاة والسلام : ' كل المسلم على المسلم حرام دمه
وعرضه وماله ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس
منه ' وعلى حرمته بالإجماع وهو من المحرمات عقلا ، لأن الظلم حرام عقلا على ما عرف(3/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
في الأصول . والغصب على ضربين أحدهما لا يتعلق به إثم وهو ما وقع عن جهل كمن
أتلف مال الغير وهو يظن أنه ملكه ، أو ملكه ممن هو في يده وتصرف فيه واستهلكه ثم ظهر
أنه لغير ذلك فلا إثم عليه . قال عليه الصلاة والسلام : ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان '
الحديث معناه الإثم . والثاني يتعلق به الإثم وهو ما يأخذه على وجه التعدي فإنه يأثم بأخذه
وإمساكه .
قال : ( ومن غصب شيئا فعليه رده في مكان غصبه ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' على اليد ما أخذت حتى ترد ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا
جادا ولا لاعبا ، فإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه ' ولأنه يجب عليه رفع الظلم وذلك
بما ذكرنا ويرده في مكان غصبه ، لأن القيمة تتفاوت بتفاوت الأماكن والأعدل ما ذكرنا .
قال : ( فإن هلك وهو مثلي فعليه مثله ) قال تعالى : ) فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (
[ البقرة : 194 ] ولأن المثل أعدل لوجود المالية والجنس ( وإن لم يكن مثليا ) كالحيوان
والعددي المتفاوت والمزروع ( فعليه قيمته يوم غصبه ) لأن القيمة تقوم مقام العين من حيث
المالية عند تعذر المماثلة دفعا للظلم وإيصالا للحق إلى مستحقه بقدر الإمكان ، وسواء عجز
عن رده بفعله أو فعل غيره أو بآفة سماوية لأنه بالغصب صار متعديا ووجب عليه الرد وقد
امتنع فيجب الضمان وتجب القيمة يوم الغصب لأنه السبب وبه يدخل في ضمانه ( وإن نقص
ضمن النقصان ) اعتبارا للجزء بالكل ( و ) أما المثلي ( إذا انقطع تجب قيمته يوم القضاء ) عند
أبي حنيفة . وقال أبو يوسف يوم الغصب . وقال محمد يوم الانقطاع لأن الواجب المثل
وينتقل إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر يومئذ . ولأبي يوسف أنه لما انقطع التحق بذوات القيم
فتعتبر قيمته إذ هو السبب الموجب . ولأبي حنيفة أن الانتقال بقضاء القاضي لا بالانقطاع
حتى لو لم يتخاصما حتى عاد المثل وجب ، فإذا قضى القاضي تعتبر القيمة عنده بخلاف
ذوات القيم لأنه مطالب بها من وقت وجود السبب وهو الغصب فتعتبر قيمته عند السبب .
قال : ( وإن ادعى الهلاك حبسه الحاكم مدة يعلم أنها لو كانت باقية أظهرها(3/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
ثم يقضي عليه ببدلها ) لأن الظاهر بقاؤها وقد ادعى خلافه ، ونظيره إذا طولب بثمن المبيع
فادعى الإفلاس وقد مر في الحجر ، فإذا حبس المدة المذكورة قضي عليه بالبدل لما مر .
قال : ( والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه ) لأنه ينكر بالزيادة ، وإن أقام المالك البينة
على الزيادة قضي بها لأنها حجة ملزمة . قال : ( فإذا قضي عليه بالقيمة ملكه مستندا إلى وقت
الغصب ) لأنه قابل النقل من ملك إلى ملك ، وقد ملك المالك بدله فيملك الغاصب المبدل
لئلا يجتمع البدل والمبدل في ملك واحد دفعا للضرر عنه ( وتسلم له الأكساب ) للتبعية ( ولا
تسلم له الأولاد ) لأن تبعيتهم فوق تبعية الأكساب . ألا يرى أن ولد المدبر والمكاتب مدبر
ومكاتب ، ولا تكون أكسابهما مدبرا ومكاتبا .
قال : ( فإذا ظهرت العين وقيمتها أكثر وقد ضمنها بنكوله أو بالبينة أو بقول المالك
سلمت للغاصب ) لأنه ملكها برضى المالك حيث ادعى هذا القدر ( وإن ضمنها بيمنيه فالمالك
إن شاء أمضى الضمان وإن شاء أخذ العين ورد العوض ) لأنه ما رضي به وإنما أخذه لعجزه
عن الوصول إلى كمال حقه كالمكره ، وكذا لو ظهر وقيمته مثل ما ضمن أو أقل ، لأنه لم
يرض حيث لم يعطه ما ادعاه فيثبت له الخيار .
قال : ( ويضمن ما نقص العقار بفعله ولا يضمنه لو هلك ) وقال محمد : يضمن العقار
بالغصب . وصورته : أنه من سكن دارا غيره أو زرع أرض غيره بغير إذنه ثم خربت الدار أو
غرق العقار ، لمحمد أنه تحققت اليد العادية ، ويلزم من ذلك زوال يد المالك لأن اجتماع
اليدين في محل واحد من زمان واحد محال فتحقق الغصب ، ولأن كل حكم يتعلق بالنقل
فيما ينقل يتعلق بالتخلية فيما لا ينقل كدخول المبيع في ضمان المشتري . ولهما قوله عليه
الصلاة والسلام : ' من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى من سبع أرضين ' والنبي ( صلى الله عليه وسلم )
ذكر الجزاء في غصب العقار ولم يذكر الضمان ، ولو وجب لذكره ، ولأن هذا تصرف في
المالك لأن العقار لم يزل عن مكانه الذي كانت يد المالك ثابتة عليه ، والتصرف في المالك
لا يوجب الضمان كما لو منعه عن حفظ ماله حتى هلك ، ولأن مالا يجب القطع بسرقته لا
يتعلق به ضمان الغصب كالحر . وأما إذا هدم البناء وحفر الأرض فيضمن لأنه وجد منه النقل(3/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
والتحويل وأنه إتلاف ، ويضمن بالإتلاف ما لا يضمن بالغصب كالحر ، وإنما انهدم بسكناه
فقد تلف بفعله ؛ والعقار يضمن بالإتلاف وإن لم يضمن بالغصب ولأنه تصرف في العين ( فإن
نقص بالزراعة يضمن النقصان ) لما مر ( ويأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل ) معناه يأخذ من
الزرع ما أخرج عليه من البذر وغيره ويتصدق بالفضل .
( وكذا المودع والمستعير إذا تصرفا وربحا تصدقا بالفضل ) وقال أبو يوسف : يطيب له
الفضل لأنه حصل في ضمانه لملكه الأصل ظاهرا ، فإن المضمونات تملك بأداء الضمان
مستندا على ما تقدم ولهما أنه حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير ، والفرع
يحصل على صفة الأصل ، والملك الخبيث سبيله التصدق به ، ولو صرفه في حاجة نفسه
جاز ، ثم إن كان غنيا تصدق بمثله ، وإن كان فقيرا لا يتصدق ؛ ولو لقي المالك الغاصب في
غير بلد الغصب فطالبه بالمغصوب فإن كان دراهم أو دنانير دفعها إليه لأنها ثمن في جميع
البلاد ، وإن كانت عينا وهي قائمة في يده أمر بتسليمها إليه إن كانت قيمتها في الموضعين
سواء لأنه لا ضرر فيه على المالك ، وإن كانت قيمته أقل من بلد الغصب فإن شاء أخذه ،
وإن شاء طالبه بالقيمة ، وإن شاء صبر ليأخذه في بلده لأن نقصان السعر بنقله فيخير المالك ،
بخلاف تغير السعر في بلد الغصب لأنه لا بصنعه بل بقلة الرغبات ، وإن لم يكن في يده
وقيمته أقل فالمالك إن شاء أخذ مثله إن كان مثليا أو قيمته ببلد الغصب أو يصبر ليأخذ مثله
في بلده ؛ وإن كانت قيمته هنا أكثر فالغاصب إن شاء أعطاه مثله أو قيمته ، لأنه هو الذي
يتضرر بالدفع ؛ وإن كانت القيمة سواء فللمالك أن يطالب بالمثل لأنه لا ضرر على أحد ،
ولو تعيب في يد الغاصب رده مع قيمة النقصان فيقوم صحيحا ويقوم وبه عيب فيضمن ذلك ،
هذا في غير الربويات لأن للجودة قيمة فيها .
فأما الربويات إن شاء أخذه بعيبه وإن شاء ضمنه قيمته صحيحا من غير جنسه وتركه ،
لأن الجودة لا قيمة لها عند المقابلة بالجنس على ما عرف وآنية الصفر والرصاص إن بيعت
وزنا من الربويات وعددا لا . ولو غصب عنبا فصار زبيبا ، أو عصيرا فصار خلا ، أو رطبا
فصار تمرا فالمالك إن شاء أخذ عينه ، وإن شاء ضمنه مثله ؛ ولو غصب عبدا أو جارية
صغيرة فكبر أخذه ولا شيء للغاصب من النفقة قال عليه الصلاة والسلام : ' من وجد عين
ماله فهو أحق به ' ولو كان شابا فصار شيخا ، أو شابة فصارت عجوزا ضمن النقصان ،
والشلل والعرج وذهاب السمع والبصر ونسيان الحرفة والقرآن ، والسرقة والإباق والجنون والزنا
عيب يوجب النقصان إن حدثت عند الغاصب ضمنها .(3/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
قال : ( وإذا تغير المغصوب بفعل الغاصب حتى زال اسمه وأكثر منافعه ملكه وضمنه ،
وذلك كذبح الشاة وطبخها أو شيها أو تقطيعها ، وطحن الحنطة أو زرعها ، وخبز الدقيق ،
وجعل الحديد سيفا والصفر آنية والبناء على الساجة ، واللبن حائطا ، وعصر الزيتون والعنب ،
وغزل القطن ونسج الغزل ) والوجه فيه أنه استهلكها من وجه لفوات معظم المقاصد وتبدل
الاسم ، وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فترجح على ما فات من وجه ؛ بخلاف ما إذا
ذبح شاة وسلخها لأن الاسم باق .
( ولا ينتفع به حتى يؤدي بدله ) لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة المذبوحة المصلية
بغير رضا صاحبها : ' أطعموها الأسارى ' فيه دليل على زوال ملك المالك وحرمة الانتفاع
قبل الإرضاء ، ولأن إباحة الانتفاع قبل الإرضاء فتح باب الغصب ، ويجوز بيعه وهبته مع
الحرمة كالبيع الفاسد ، فإذا أدى بدله أو أبرأه المالك جاز له الانتفاع به لأنه صار راضيا
بالإبراء وأخذ البدل ، والقياس أنه يجوز له الانتفاع قبل الأداء ، وهو قول زفر وهو رواية عن
أبي حنيفة ، لأنه ثبت له الملك فيجوز له الانتفاع ولهذا جاز بيعه وهبته . وعن أبي يوسف أنه
يزول ملك المالك عنه لكنه يباع في دينه وبعد الموت هو أحق به من باقي الغرماء ، ووجه
آخر في الساجة واللبن أن ضرر المالك صار منجبرا بالقيمة ، وضرر الغاصب بالهدم لا ينجبر
فكان ما قلناه رعايه للجانبين فكان أولى ؛ ولو غصب خيطا فخاط به بطن عبده أو أمته أو
لوحا فأدخله في سفينة فانقطع ملك المالك إلى الضمان بالإجماع .
( ولو غصب تبرا فضربه دراهم أو دنانير أو آنية لم يملكه ) فيأخذها المالك ولا شيء
للغاصب ، وقالا : يملكها الغاصب وعليه مثلها لما تقدم أنه استهلاك بصنعه من وجه لأن
بالكسر فات بعض المقاصد ولأبي حنيفة أن العين باقية من كل وجه نظرا إلى بقاء الاسم
والثمنية والوزن وجريان الربا فيه والصنع فيها غير متقومة لما بينا أنها لا قيمة لها عند المقابلة
بالجنس . قال : ( ومن خرق ثوب غيره فأبطل عامة منفعته ضمنه ) لأنه استهلكه معنى كما إذا
أحرقه ، فإذا ضمنه جميع القيمة ترك الثوب للغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك واحد وإن
أمسك الثوب ضمنه النقصان لبقاء العين وبعض المنافع ، وإن كان خرقا قليلا يضمن نقصانه(3/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
لما أنه لم يفوت شيئا بل عيبه . واختلفوا في العيب الفاحش ، قيل هو أن يوجب نقصان ربع
القيمة فما زاد ، وقيل ما ينتقص به نصف القيمة ، والصحيح ما يفوت به بعض المنافع ،
واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة بل يدخله نقصان العيب .
قال : ( ومن ذبح شاة غيره أو قطع يدها ، فإن شاء المالك ضمنه نقصانها وأخذها ، وإن
شاء سلمه وضمنه قيمتها ) لأنه إتلاف من وجه لتفويت بعض المنافع من اللبن والنسل
وغيرهما وبقاء البعض وهو الأكل فثبت له الخيار كما في الثوب في الخرق الفاحش . قال :
( وفي غير مأكول اللحم يضمن قيمتها بقطع الطرف ) لأنه استهلكها من كل وجه ، ولو غصب
دابة فقطع رجلها ضمن قيمتها . وروى هشام إن أخذها المالك لا شيء له وإن شاء تركها
وأخذ القيمة عند أبي حنيفة كما في الجثة العمياء خلافا لهما ؛ وإن قلع عين الدابة فعليه ربع
القيمة استحسانا وقيمة النقصان قياسا . وفي جنايات الحسن عن أبي حنيفة لو فقأ عين برذون
أو بغل أو حمار عليه ربع قيمته ، وكذا كل ما يعمل عليه من البقر والإبل ، وما لا يعمل عليه
ما نقص . وقال في الجامع الصغير : وفي عين بقر الجزار وجزوره ربع القيمة ، وفي عين شاة
القصاب ما نقصها ، والحمل والطير والدجاجة والكلب ما نقصه . وقال أبو يوسف : عليه ما
نقصه في جميع البهائم اعتبارا بالشاة . ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام : ' قضى في عين
الدابة بربع القيمة ' وكذا قضى عمر رضي الله عنه ، ولأنها تصلح للحمل والركوب
والعمل ، ولا تقوم هذه المصالح إلا بأربعة أعين عينيها وعيني المستعمل فصارت كذات أربعة
أعين ، فيجب في أحدها ربع القيمة كما قلنا في أحد الأهداب ربع الدية لما كانت أربعة .
قال : ( ومن بنى في أرض غيره أو غرس لزمه قلعهما وردها ) على ما بينا في
الإجارات . قال عليه الصلاة والسلام : ' ليس لعرق ظالم حق ' ولأنه أشغل ملك الغير
فيؤمر بتفريغه دفعا للظلم وردا للحق إلى مستحقه . قال : ( ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر
أو سويقا فلته بسمن فالمالك إن شاء أخذهما ورد زيادة الصبغ والسويق ، وإن شاء أخذ
قيمة الثوب أبيض ومثل السويق وسلمهما ) لأن في ذلك رعاية الجانبين على ما تقدم(3/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
وصاحب الثوب صاحب الأصل فكان الخيار له . وقال في الأصل تجب قيمة السويق بناء
على أنه يتغير بالقلي فلم يصر مثليا وسماه ههنا مثليا لقيام القيمة مقامه والألوان كلها سواء .
وقال أبو حنيفة : السواد نقصان ، قيل هو اختلاف عصر وزمان ، وقيل إن نقصه السواد فهو
نقصان .
فصل
( زوائد الغصب أمانة متصلة كانت ) كالسمن والجمال والحسن ( أو منفصلة ) كالولد
والعقر والثمرة والصوف واللبن لأن الغصب لم يرد عليها لأنه إزالة يد المالك بإثبات يده
ولم يوجد فلا يضمن ، لأن ضمان الغصب ولا غصب محال . قال : ( ويضمنها بالتعدي )
بأن أتلفه أو أكله أو ذبحه أو باعه وسلمه ( أو بالمنع بعد الطلب ) لأن الملك ثابت للغير
وقد تعدى فيه فيضمنه لما مر ، وإن طلب المتصلة لا يضمن بالبيع لأن الطلب غير
صحيح لعدم إمكان رد الزوائد بدون الأصل ، وقالا : يضمنها بالبيع والتسليم كالمنفصلة .
ولأبي حنيفة أن سبب الضمان إخراج المحل من أن يكون منتفعا به في حق المالك ولم
يوجد هنا لأن الزيادة المتصلة ما كان منتفعا بها في حق المالك لعدم يده عليها فلا
يجب الضمان ولو زادت قيمتها فعليه قيمتها يوم الغصب لا غير لأنه سبب الضمان على
ما تقدم .
قال : ( وما نقصت الجارية بالولادة مضمون ) لفوات بعضها ( ويجبر بولدها وبالغرة )
لانعدام النقصان حكما ولأن العلوق أو الولادة سبب للزيادة والنقصان فلا يوجب الضمان كما
إذا سقطت سنها ثم نيتت أو هزلت ثم سمنت أو رد أرش اليد فإنه ينجبر به نقص القطع كذا
هنا وصار كثمن المبيع ، وإن لم يكن بالولد وفاء انجبر بقدره وضمن الباقي ، والغرة كالولد
لأنها قائمة مقامه لوجوبها بدلا عنه ، ولو ماتت وبالولد وفاء بقيمتها لا شيء عليه هو
الصحيح ، لأنه لما ضمنها يوم الغصب ملكها من ذلك الوقت فتبين أن النقصان حصل على
ملكه فلا حاجة إلى الجابر . قال : ( ومنافع الغصب غير مضمونة استوفاها أو عطلها ) أو
استغل لعدم ورود الغصب عليها ولا مماثلة بينها وبين الأعيان لبقاء الأعيان وهي لا تبقى
زمانين ولأنها غير متقومة ، وإنما تقومت بالإجارة ضرورة ورود العقد عليها ولم يوجد
ويضمن ما نقص باستعماله لاستهلاكه بعض أجزائه .(3/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
قال : ( ومن استهلك خمر الذمي أو خنزيره فعليه قيمته ، ولو كانا لمسلم فلا شيء
عليه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' اتركوهم وما يدينون ' وإنهم يدينون بماليتهما ، فإن
الخمر والخنزير عندهم كالخل والشاة ، بل هما من أنفس الأموال عندهم . وقال عليه الصلاة
والسلام : ' إذا قبلوها ' : يعني الجزية ' فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين ' وللمسلمين التضمين بإتلاف ما يعتقدونه مالا ، فكذا يكون الذمي ، بخلاف
المسلم لأنهما ليسا مالا في حقه أصلا ، وحرمة بدلهما عليه كحرمتهما ، والخمر وإن كان
مثليا فالمسلم ممنوع عن تملكه فوجبت القيمة ، أما الربا فحرام عندهم وهو مستثنى عن عقد
الذمة .
قال : ( ويجب في كسر المعازف قيمتها لغير اللهو ) وسواء كانت لمسلم أو ذمي
كالبربط والطبل والدف والمزمار والجنك والعود ونحوها . ويجوز بيعها . وقالا : لا يضمن
ولا يجوز بيعها لأنها أعدت للمعاصي فلا تضمن كالخمر ، ومتلفها يتأول فيها النهي عن
المنكر وأنه مأمور به شرعا فلا يضمن كإذن القاضي وبل أولى . ولأبي حنيفة أنها أموال
صالحة للانتفاع في جهة مباحة وتصلح لما يحل فيضمن ، والفساد بفعل فاعل مختار فلا
يسقط التقوم وجواز البيع لأنهما بناء على المالية وصار كالجارية المغنية ، وتجب قيمتها لغير
اللهو كالجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي ، فإنه
تجب قيمتها غير صالحة لهذه الأمور كذا هذا . ولو أحرق بابا منحوتا عليه تماثيل منقوشة
ضمن قيمته غير منقوش ، لأن نقش التماثيل حرام غير متقوم ، وإن كان مقطوع الرأس يضمن
قيمته منقوشا لأنه غير حرام ، والتماثيل على البساط غير محرم فيجب قيمته منقوشا . ولو
غصب ثوبا فكساه للمالك ، أو طعاما فقدمه بين يديه فأكله وهو لا يعلم به برئ من الضمان
لأنه أعاد الشيء إلى يده وقد تمكن من التصرف فيه حقيقة فيبرأ بالنص ، وهو قوله عليه
الصلاة والسلام : ' على اليد ما أخذت حتى ترد ' ولو جاء الغاصب بقيمة المغصوب إلى
المالك فلم يقبلها أجبره الحاكم على قبولها ، فإن وضعها في حجره برئ ، وإن وضعها بين
يديه لا يبرأ ، بخلاف ما إذا وضع المغصوب أو الوديعة بين يديه حيث يبرأ لأن الواجب فيه
رد العين وأنه يتحقق بالتخلية .(3/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
والواجب في الدين القبض لتتحقق المعاوضة والمقاصة والقبض لا يحصل بالتخلية .
وروى ابن سماعة عن محمد : للقاضي أن يأخذ المال من الغاصب والسارق إذا كان المالك
غائبا ويحفظه عليه ، فإن ضاع فجاء المالك فله أن يضمن الغاصب والسارق ولا يبرأ بأخذ
القاضي ، لأن للقاضي التصرف في مال الغائب فيما يؤدي إلى حفظه لا فيما يرجع إلى إبراء
حقوقه . ولو حل دابة رجل أو قيد عبده ، أو فتح قفصه وفيه طيور لم يضمن لأنه تخلل بين
فعله والتلف فعل فاعل مختار ، وهو ذهاب الدابة والعبد وطيران الطير ، واختيارهم صحيح
وتركه منهم متصور ، والاختيار لا ينعدم بانعدام العقل ؛ ألا ترى أن المجنون يضمن ما يتلفه
وإن كان معدوم العقل ، فيضاف التلف إلى المباشرة دون السبب كالحافر والدافع ، ولو حل
فم زق وفيه دهن فسال ضمن لأنه تسبب لتلفه بإزالة الممسك ، فلم يتخلل بينه وبين التلف
فعل فاعل مختار ؛ ولو كان جامدا فشقه فذاب بالشمس ثم سال لم يضمن لأن الجامد
يستمسك بنفسه لا بالزق ، فلم يكن الشق إتلافا وإنما صار مائعا بالشمس لا بفعله .
ذهبت دابة رجل ليلا أو نهارا بغير إرسال صاحبها فأفسدت زرع رجل لا ضمان عليه ،
لأنها ذهبت باختيارها وفعلها هدر . قال عليه الصلاة والسلام : ' العجماء جبار ' وإن أرسلها
ضمن . رجل وجد في زرعه أو داره دابة فأخرجها فهلكت أو أكلها الذئب لم يضمن نص
عليه محمد في المنتقى ، قالوا : والصحيح إن أخرجها ولم يسقها لم يضمن لأن له ولاية
الإخراج ، وإن ساقها بعد الإخراج ضمن . رجل أدخل دابة في دار رجل فأخرجها صاحب
الدار فهلكت لا يضمن . وإن وضع ثوبا في داره فرمى به فضاع ضمن لأن الثوب لا يضر
الدار وكان الإخراج إتلافا ، والدابة تضر بالدار فلم يكن إتلافا .(3/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
كتاب إحياء الموات
( الموات : ما لا ينتفع به من الأراضي ) لانقطاع الماء عنه ، أو لغلبته عليه ، أو كونها
حجرا أو سبخة ونحو ذلك مما يمنع الزراعة ، سميت بذلك لعدم الانتفاع بها كالميت لا
ينتفع به ، فما كان كذلك .
( وليس ملك مسلم ولا ذمي وهو بعيد عن العمران ، إذا وقف إنسان بطرف العمران
ونادى بأعلى صوته لا يسمع من أحياه بإذن الإمام ملكه مسلما كان أو ذميا ) لأن ما كان قريبا
من العمران يرتفق الناس به عادة فيطرحون به البيادر ويرعون فيه المواشي . وعن محمد أنه
يعتبر أن لا يرتفق به أهل القرية وإن كان قريبا ، والمختار هو الأول لتعلق حقهم به حقيقة أو
دلالة فلا يكون مواتا ، وكذلك إذا كان محتطبا لهم لا يجوز إحياؤه لأنه حقهم ، ويشترط في
الإحياء إذن الإمام ، وقالا : لا يشترط لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من أحيا أرضا ميتة فهي
له ، وليس لعرق ظالم حق ' ولأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد . ولأبي حنيفة قوله عليه
الصلاة والسلام : ' ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه ' والمراد به في المباحات ، إلا أن
الحطب والحشيش والماء خص عنه بالحديث ، فبقي الباقي على الأصل ، وحديثهما محمول(3/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
على الإذن لقوم مخصوصين توفيقا بين الحديثين ، ولأنه وصل إلى يد المسلمين بالقتال
والغلبة فيكون غنيمة ، ولا يحل لأحد بدون إذن الإمام كسائر الغنائم ، والمسلم والذمي
سواء ، لأن الإحياء سبب الملك فيستويان فيه كسائر الأسباب ؛ ويجب فيها العشر على
المسلم والخراج على الذمي لأنه ابتداء وضع ، فيجب على كل واحد ما يليق به ، وإن سقاه
بماء الخراج يعتبر بالماء ؛ والإحياء : أن يبني فيها بناء ، أو يزرع فيها زرعا ، أو يجعل للأرض
مسناة ونحو ذلك ، ويكون له موضع البناء والزرع دون غيره .
وقال أبو يوسف : إن عمر أكثر من النصف كان إحياء لجميعها ، وإن عمر نصفها له ما
عمر دون الباقي . وذكر ابن سماعة عن أبي حنيفة إن حفر فيها بئرا أو ساق إليها ماء فقد
أحياها زرع أو لم يرزع ، ولو شق فيها أنهارا لم يكن إحياء إلا أن يجري فيها ماء فيكون
إحياء .
( ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ) لما بينا ؛ ومن أحيا مواتا ثم أحاط الإحياء بجوانبه
الأربعة على التعاقب فطريق الأول في الأرض من الرابعة لتعينها ، روي ذلك عن محمد .
ومن أحيا مواتا ثم تركها فزرعها آخر ، قيل هي للثاني لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها ؛
وقيل هي للأول وهو الأصح لأنها ملكه بلام الملك في الحديث .
قال : ( ومن حجر أرضا ثلاث سنين فلم يزرعها دفعها الإمام إلى غيره ) لأن التحجير
ليس بإحياء ، والإمام دفعها لتحصيل المصلحة من العشر والخراج ، فإذا لم يحصل دفعها إلى
غيره ليحصل . وسمي تحجيرا لوجهين : أحدهما من الحجر وهو المنع لأنه يمنع غيره عنها .
الثاني أنهم يضعون الأحجار حولها تعليما لحدودها لئلا يشركهم فيها أحد . والتحجير أن
يعلمها بعلامة بأن وضع الحجارة أو غرس حولها أغصانا يابسة أو قلع الحشيش أو أحرق
الشوك ونحوه فإنه تحجير ، وهو استيام وليس بإحياء ، ولهذا لو أحياها غيره قبل ثلاث
سنين ملكها لأنه أحياها ، كما يكره السوم على سوم أخيه ، ولو عقد جاز العقد والتقدير
بثلاث سنين مروي عن عمر رضي الله عنه فإنه قال : من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس
للمحجر بعد ثلاث حق .
قال : ( ومن حفر بئرا في موات فحريمها أربعون ذراعا من كل جانب للناضح(3/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
والعطن ) عند أبي حنيفة ( فمن أراد أن يحفر في حريمها منع ) لأن في الأراضي الرخوة يتحول
الماء إلى ما يحفر دونها فيؤدي إلى اختلال حقه ، ولأنه مملك الحريم ليتمكن من الانتفاع به
وذلك يمنعه . وقال أبو يوسف ومحمد : إن كانت للناضح فستون لحديث الزهري أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' حريم العين خمسمائة ذراع ، وحريم بئر العطن أربعون ذراعا ، وحريم بئر
الناضح ستون ذراعا ' ولأنه يحتاج فيها إلى مسير الدابة للاستقاء وقد يطول الرشا وبئر
العطن يستقي منها بيده فكانت الحاجة أقل . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' من
حفر بئرا فله ما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته ' من غير فصل ، ولأن استحقاق الحريم
على خلاف القياس لأنه في غير موضع الإحياء وهو الحفر ، وإنما تركناه في موضع اتفق
الحديثان فيه ، وما اختلفا فيه يبقى على الأصل ، ويمكنه أن يدير الدابة حول البئر فلا يحتاج
إلى زيادة مسير . وقال أبو حنيفة : جعل في حديث الزهري ستين ذراعا حريما لمد الحبل لا
أنه يملك ما زاد على الأربعين ، ولو احتاج إلى سبعين يمد الحبل إليه ، وكان له مد الحبل لا
أنه يملكه . وذكر في النوادر عن محمد أن حريم بئر الناضح بقدر الحبل سبعون كان أو
أكثر ، والعطن : مبرك الإبل حول الماء ، يقال : عطنت الإبل فهي عاطنة وعواطن إذا سقيت
وتركت عند الحياض لتعاد إلى الشرب ؛ والنواضح : الإبل التي تسقى الماء ، والواحد ناضح ،
وفي الحديث ' كل ما سقي من الزرع نضحا ففيه نصف العشر ' .
قال : ( وحريم العين من كل جانب خمسمائة ذراع ) لما سبق من الحديث ، ولأن العين
تستخرج للزراعة ، ولا بد من موضع حوض يجمع فيه الماء ، وساقية يجري فيها الماء إلى
المزارع فاحتاج إلى مسافة أكثر من البئر . قال : ( والقناة عند خروج الماء كالعين ) وقبله قيل
هو مفوّض إلى رأي الإمام ، لأنه لا بد للقناة من الحريم لملقى طينه ما لم يظهر ، فإذا ظهر
فهو كالعين الفوارة ، قيل هو قولهما . أما على قول أبي حنيفة لا حريم للقناة ما لم يظهر
الماء ، لأنه نهر مطوي فيعتبر بالنهر الظاهر .
( ولا حريم للنهر الظاهر ) عند أبي حنيفة ( إذا كان في ملك الغير إلا ببينة ، وكذا لو
حفره في أرض موات لا حريم له ) خلافا لهما . وقال المحققون من مشايخنا : للنهر حريم
بقدر ما يحتاج إليه لإلقاء الطين ونحوه بالاتفاق . ثم قال أبو يوسف : حريمه مقدار عرض(3/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
نصف النهر من كل جانب ، لأن المعتبر الحاجة الغالبة ، وذلك بنقل ترابه إلى حافتيه فيكفي
ما ذكرنا . وقال محمد : عرض جميع النهر من كل جانب لأنه قد لا يمكنه إلقاء التراب من
الجانبين فيحتاج إلى إلقائه في أحدهما فيقدر في كل طرف ببطن النهر والحوض على هذا
الاختلاف . لهما أنه لا انتفاع بالنهر والحوض إلا بالحريم لأنه يحتاج إلى المشي فيه لتسييل
الماء ، ولا يكون ذلك عادة في بطنه وإلى إلقاء الطين وأنه يحرج بنقله فوجب أن يكون له
حريم كالبئر . وله أن الحريم على خلاف القياس لما مر تركناه في البئر بالحديث ، ولأن
الحاجة في البئر أكثر لأنه لا يمكن الانتفاع بماء البئر بدون الاستسقاء ولا استسقاء إلا
بالحريم . أما النهر يمكن الانتفاع بمائه بدون الحريم .
ثم قال : ( ولو غرس شجرة في أرض موات فحريمها من كل جانب خمسة أذرع )
ليس لغيره أن يغرس فيه ، لما روي ' أن رجلا غرس شجرة في أرض فلاة ، فجاء آخر
وأراد أن يغرس شجرة من جانب شجرته ، فشكا الأول إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأمر أن يؤخذ
من شجرته جريدة فتذرع ، فبلغ خمسة أذرع ، فجعل له ( صلى الله عليه وسلم ) الحريم من كل جانب خمسة
أذرع وأطلق للآخر فيما وراء ذلك ' هذا الحديث ذكره أبو داود في سننه ، وذكر في
رواية ' سبعة أذرع ' . قال في المحيط . هذا حديث صحيح يجب العمل به . قال : ( وما
عدل عنه الفرات ودجلة يجوز إحياؤه إن لم يحتمل عوده إليه ) لأنه كالموات وهو في يد
الإمام إذا لم يكن حريما لعامر ( وإن احتمل عوده لا يجوز ) لحاجة العامة إليه ، والله عز
وجل أعلم بالصواب .(3/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
كتاب الشرب
( وهو النصيب من الماء ) للأراضي وغيرها . قال الله تعالى : ) لها شرب ولكم شرب
يوم معلوم ( [ الشعراء : 155 ] . قال : ( وقسمة الماء بين الشركاء جائزة ) وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والناس يفعلونه فأقرهم عليه ، وتعامله الناس إلى يومنا من غير نكير ، وهو قسمة باعتبار
الحق دون الملك ، لأن الماء غير مملوك في النهر ، والقسمة تارة تكون باعتبار الملك ، وتارة
باعتبار الحق كقسمة الغنائم .
قال : ( ويجوز دعوى الشرب بغير أرض ) استحسانا لجواز أن يكون الشرب حقا له
بدون الأرض بأن اشترى الأرض والشرب ثم باع الأرض وبقي الشرب أو ورثه ، وقد
يملك بالإرث ما لا يملك بالبيع كالقصاص والخمر ؛ وإذا شهدوا بشرب يوم من النهر لا
تقبل إذا لم يقولوا من كم يوم ، ولو ادعى أرضا على نهر شربها منه فشهدوا له بالأرض
قضي بها وبحصتها من الشرب ، لأن الأرض لا تنفك عن الشرب ؛ ولو ادعى الشرب
وحده فشهدوا له لا يقضي بشيء من الأرض . قال : ( ويورث ويوصي بمنفعته دون رقبته )
لأنه حق مالي فيجري فيه الإرث وجهالة الموصى به لا تمنع الوصية ، لأن الوصية من
أوسع العقود حتى جازت للمعدوم وبالمعدوم . قال : ( ولا يباع ولا يوهب ، ولا يتصدق به )
للجهالة الفاحشة وعدم تصور القبض ، ولأنه ليس بمتقوّم حتى لو سقي به غيره لا يضمن(3/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
( ولا يصلح مهرا ) لما بينا ويجب مهر المثل ( ولا بدلا في الخلع ) حتى ترد ما قبضت من
المهر ( ولا بدلا في الصلح عن دعوى المال ولا في القصاص ) ويسقط القصاص وتجب
الدية .
( والمياه أنواع ) الأول ( ماء البحر ، وهو عام لجميع الخلق الانتفاع به بالشفة وسقي
الأراضي وشق الأنهار ) لا يمنع أحد من شيء من ذلك كالانتفاع بالشمس والهواء .
( و ) الثاني ( الأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون والنيل والفرات ودجلة ، فالناس
مشتركون فيه في الشفة وسقي الأراضي ونصب الأرحية ) والدوالي إذا لم يضر بالعامة ، وذلك
بأن يحيي مواتا ويشق نهرا لسقيها ليس في ملك أحد لأنه مباح في الأصل وغلبة الماء تمنع
قهر غيره واستيلاءه عليه ، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك ، لأن دفع الضرر عنهم
واجب ، وذلك بأن يكسر ضفته فيميل الماء إلى جانبها فيغرق الأراضي والقرى ، وكذا شق
الساقية للرحى والدالية .
( و ) الثالث ( ما يجري في نهر خاص لقرية فلغيرهم فيه شركة في الشفة ) وهو الشرب
والسقي للدواب ، ولهم أخذ الماء للوضوء وغسل الثياب والخبز والطبخ لا غير ، وإن أتى
على الماء كله . روي أنه وردت عن أبي حنيفة مسائل من خراسان فدفعها إلى زفر ليكتب
فيها : منها رجل له ماء يجري إلى مزارعه فيجيء رجل فيسقي إبله ودوابه منه حتى ينفذه كله
هل له ذلك ؟ فكتب زفر : ليس له ذلك ، فعرضها على أبي حنيفة فغلطه وقال : لصاحب
الإبل ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : ' الناس شركاء في ثلاث ' الحديث ، والحديث
يشمل الشّربَ والشِّربْ ، إلا أن الشرب خص في النهر الخاص دفعا للضرر عن أهله ، وبقي
حق الشفعة للضرورة إما لشدة الحاجة ، أو لأنه لا يقدر على استصحاب الماء في كل مكان .
والبئر والحوض حكمهما حكم النهر الخاص .
( و ) الرابع ( ما أحرز في حب ونحوه فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا بدون(3/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
إذن صاحبه وله بيعه ) لأنه ملكه بالإحراز وصار كالصيد والحشيش إلا أنه لا يقطع في سرقته
لقيام شبهة الشركة فيه بالحديث . قال : ( ولو كانت البئر أو العين أو النهر في ملك رجل له
منع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة ، فإن لم
يجد فإما أن يتركه يأخذ بنفسه ) بشرط أن لا يكسر ضفته ( أو يخرج الماء إليه ، فإن منعه وهو
يخاف العطش على نفسه أو مطيته قاتله بالسلاح ) لما روي أن قوما وردوا ماء فسألوا أهله أن
يدلوهم على البئر فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلوا فأبوا ، فقالوا لهم : إن أعناقنا وأعناق
مطايانا قد كادت تنقطع فأبوا أن يعطوهم ؛ فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه فقال : هلا
وضعتم فيهم السلاح ؟ ولأنه منع المضطر عن حقه ، لأن حقه ثابت في الشفة فكان له أن
يقاتله بالسلاح .
( وفي المحرز بالإناء يقاتله بغير سلاح ) لأنه ملكه بالإحراز حتى كان له تضمينه ، إلا أنه
مأمور أن يدفع إليه قدر حاجته فبالمنع خالف الأمر فيؤدبه ( والطعام حالة المخمصة كالماء
المحرز بالإناء ) في الإباحة والمقاتلة والضمان لما بينا ، ولو كان النهر أو البئر في موات قد
أحياه فليس له أن يمنع صاحب الشفة من الدخول إذا كان لا يكسر المسناة ، لأن الموات
كان مشتركا والإحياء لحق مشترك فلا يقطع حق الشفعة . والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة
والسلام : ' المسلمون ' وفي رواية ' الناس مشتركون في ثلاث : في الماء والكلأ والنار '
أثبت الشركة فيها للناس كافة ، المسلمون والكفار فيه سواء فحكم الماء ما ذكرنا .
وأما الكلأ إن كان في أرض مباحة فالناس فيه شركاء في الاحتشاش والرعي كاشتراكهم
في ماء البحر ، وإن كان في أرض مملوكة وقد نبت بنفسه فهو كالنهر في أرضه لا يمنع عنه
وله المنع من الدخول في ملكه ، وإن لم يجد غيره فعلى التفصيل الذي ذكرنا في الماء ، وإن
أنبته في أرضه فهو مملوك له ، والكلأ ما انبسط على الأرض ولا ساق له كالإذخر ونحوه ؛
أما له ساق فهو شجر وهو ملك لصاحب الأرض لأنه عليه الصلاة والسلام إنما أثبت
الشركة في الكلأ لا في الشجر ، والعوسج من الشجر . وأما النار فلو أوقد نارا في مفازة(3/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
فالجمر ملكه وليس له أن يمنع أحدا من الاستضاءة والاصطلاء وأن يتخذ منها سراجا ، لأن
الجمر من الحطب وأنه ملكه والنور جوهر الجمر ، ولأنا لو أطلقنا الناس في أخذ الجمر لم
يبق له ما يصطلي به ولا ما يخبز ويطبخ به ، وإن أوقد النار في ملكه فله أن يمنع غيره من
الدخول في ملكه لا من النار كما مر في الملأ والكلأ .
فصل
( كري الأنهار العظام على بيت المال ) وهي التي لا تدخل في القاسم كسيحون وإخوته
جيحون والنيل ودجلة والفرات وما شابهها ، لأن منفعتها للعامة فيكون في مالهم ، فإن لم
يكن في بيت المال شيء أجبر الناس على كريه إذا احتاج إلى الكري إحياء لحق العامة ودفعا
للضرر عنهم ، لكن يخرج الإمام من يطيق العمل ويجعل مؤونتهم على المياسير الذين لا
يطيقونه ( وما هو مملوك للعامة فكريه على أهله ) لأن منفعته لهم .
( ومن أبى منهم يجبر ) دفعا للضرر العام ، وهو ضرر الشركاء بالضرر الخاص ، كيف
وفيه منفعته فلا يعارضه وإن كان فيه ضرر عام بأن خافوا أن ينشق النهر فيخرج الماء إلى
طريق المسلمين وأراضيهم ، فعليهم تحصينه بالحصص ، والنهر المملوك لجماعة مخصوصين
فكريه عليهم ، ومن أبى منهم قيل يجبر لما مر ، وقيل لا يجبر لأن كل واحد من الضررين
خاص ، ويمكن دفعه بالكري بأمر القاضي ، ثم يرجع على الآبي ، ولا كذلك الأول .
قال : ( ومؤونة الكري إذا جاوز أرض رجل ترفع عنه ) وقالا : الكري عليهم جميعا من
أوله إلى آخره بحصص الشرب والأراضي لأن الأعلى يحتاج إلى ما وراء أرضه لتسييل ما
فضل من مائه كي لا يغرق أهله . ولأبي حنيفة أنه متى جاوز الكري أرضه تمكن من سقيها
واندفعت حاجته فلا يلزمه ما بعد ذلك ، حتى لو أمكنه السقي بدون الكري لا يجب عليه
الكري وما ذكر من الحاجة يندفع بسده من أعلاء ، وليس على صاحب المسيل عمارته كمن
له على سطح آخر مسيل ماء . وإذا جاوز الكري أرض رجل هل له أن يفتح الماء ؟ قيل له
ذلك لأن الكري قد انتهى في حقه ، وقيل لا ، لأنه لا يختص بالانتفاع بالماء ، ولهذا جرت
العادة بالكري من أسفل النهر أو بترك بعضه من أعلاه . قال : ( وليس على أهل الشفة شيء
من الكري ) لأنها شركة عامة .
قال : ( نهر لرجل يجري في أرض غيره ليس لصاحب الأرض منعه ) لأن صاحب النهر
مستعمل له بإجراء مائه عملا بالبينة ، وعلى هذا المصب في نهر أو على سطح والميزاب(3/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
والطريق في دار غيره إلا أنه لا بد له أن يقول في الدعوى مصب ماء الوضوء أو المطر أو
غيره لمكان التفاوت . قال : ( نهر بين قوم اختصموا في الشرب فهو بينهم على قدر أراضيهم )
لأن المقصود من الشرب سقي الأرض فيقدر بقدرها ، بخلاف الطريق لأن التطرق إلى الدار
الواسعة والضيقة سواء ، ولو كان لبعض الأراضي ساقية وللبعض دالية ولا شيء للبعض
وليس لها شرب معلوم فالشرب بينهم على قدر أراضيهم التي على حافة النهر ، لأن المقصود
من النهر سقي الأرض لا اتخذ السواقي والدوالي فيستوي حالهم فيما هو المقصود ، ولأن
الأراضي في الأصل لا بد لها من شرب ؛ وإن كان لها شرب معروف من غير هذا النهر فلا
حق له في هذا النهر .
قال : ( وليس للأعلى أن يسكر حتى يستوفي إلا بتراضيهم ) لما فيه من إبطال حق
الباقين وهو منع الماء عنهم في بعض المدة ، ولأنه يحتاج إلى إحداث شيء في وسط النهر
وربما ينكبس مما يحدث فيه عند السكر ، ورقبته مشتركة بينهم فلا يجوز لكن يشرب
بحصته ، فإذا رضوا بذلك جاز لأن الحق لهم ، وكذلك لو اصطلحوا على أن يسكر كل واحد
في نوبته جاز لما قلنا . لكن لا يسكر إلا بلوح أو باب ولا يسكر بالطين والتراب لأنه يكبس
النهر وفيه ضرر ، وإن لم يسكر باللوح فبالتراب .
قال : ( وليس لأحدهم أن يشق منه نهرا ، أو ينصب عليه رحى ، أو يتخذ عليه جسرا ،
أو يوسع فمه ، أو يسوق شربه إلى أرض ليس لها شرب إلا بتراضيهم ) أما شق النهر ونصب
الرحى فلأن فيه كسر ضفة النهر وشغل ملك الغير ببنيانه ، إلا أن لا تضر الرحى بالنهر ولا
بالماء ويكون مكانها له خاص فيجوز ، لأنه تصرف في ملكه من غير إضرار بالغير . وأما
اتخاذ الجسر فهو كطريق خاص بين قوم والقنطرة كالجسر . وأما توسعة فمه لأنه يكسر ضفة
النهر ويزيد على مقدار حقه . وأما سوق شربه إلى أرض أخرى فلأنه ربما تقادم العهد فيدعيه
ويستدل به على أنه له ، فإذا رضوا بذلك جاز لأنه حقهم . قال : ( ولو كانت القسمة بالكوى
فليس لأحدهم أن يقسم بالأيام ، ولا مناصفة ) لأن الحق ظهر بذلك فيترك على حاله ، إلا أن
يتراضيا لأن الحق لهما . قال : ( ولا يزيد كوة وإن كان لا يضر بالباقين ) لما بينا ، بخلاف
النهر الأعظم لأن له أن يشق فيه نهرا مبتدأ فزيادة الكوة أولى .(3/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
كتاب المزارعة
( وهي ) مفاعلة من الزراعة وهي الحرث والفلاحة ، وتسمى مخابرة ، مشتقة من خيبر
' فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) دفع خيبر مزارعة ' فسميت المزارعة مخابرة لذلك ، أو من الخيبر وهو الإكار ، أو
من الخبرة بالضم : النصيب ، أو من الخبار : الأرض اللينة ، وتسمى المحاقلة مشتقة من
الحقل وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه ، وقيل الحقل : الأرض الطيبة الخالصة من
شائبة السبخ الصالحة للزراعة وتسمية أهل العراق القراح . وفي الشرع ( عقد على الزرع ببعض
الخارج ، وهي جائزة عند أبي يوسف ومحمد ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عامل أهل خيبر على نصف ما
يخرج من تمر وزرع ، ولأن الحاجة ماسة إليها لأن صاحب الأرض قد لا يقدر على العمل
بنفسه ولا يجد ما يستأجر به والقادر على العمل لا يجد أرضا ولا ما يعمل به ، فدعت
الحاجة إلى جوازها دفعا للحاجة كالمضاربة .
( وعند أبي حنيفة هي فاسدة ) لما روى رافع بن خديج قال : ' نهانا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن
أمر كان لنا نافعا ، نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه ، وقال :
من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه ' وهذا متأخر عما كانوا يعتقدونه من الإباحة(3/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
ويعملونه فاقتضى نسخه . وعن زيد بن ثابت قال : ' نهانا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المخابرة قال :
قلت وما المخابرة ؟ قال : أن تأخذ أرضا بثلث أو نصف أو ربع ' وعن ابن عمر قال : كنا
نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى ذكر رافع بن خديج ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن المخابرة '
فتركناه من أجل قوله ؛ ولأنه استئجار بأجرة مجهولة معدومة وذلك مفسد ؛ ولأنه استئجار
ببعض ما يحصل من عمله فلا يجوز كقفيز الطحان ، وحديث خيبر محمول على أنه خراج
مقاسمة ، فإنه عليه الصلاة والسلام لما فتح خيبر عنوة ترك خيبر على أهلها بوظيفة وظفها
عليهم ، وهي نصف ما يخرج من نخيلهم وأراضيهم .
( والفتوى على قولهما ) لحاجة الناس ، وقد تعامل بها السلف فصارت شريعة متوارثة
وقضية متعارفة . قال الحصيري : وأبو حنيفة هو الذي فرّع هذه المسائل على أصوله لعلمه أن
الناس لا يأخذون بقوله . قال : ( ولا بدّ فيها من التاقيت ) لأنها تنعقد إجارة ابتداء وشركة
انتهاء ، ولأنها ترد على منفعة الأرض والعامل فلا بد من تعيين المدة كالإجارة . قال : ( ومن
صلاحية الأرض للزراعة ) ليحصل المقصود إذ هي المحل .
قال : ( ومن معرفة مقدار البذر ) قطعا للمنازعة ( ومعرفة جنسه ) لأنه الأجرة ( ونصيب
الآخر ) لأنه يستحقه عوضا بالشرط ، ولا بد أن يكون العوض معلوما . قال : ( والتخلية بين
الأرض والعامل ) لما مر في المضاربة ( وأن يكون الخارج مشتركا بينهما ) لما مر في المضاربة
فكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة يفسدها ( حتى لو شرطا لأحدهما قفزانا معلومة ، أو ما على
السواقي ، أو أن يأخذ رب البذر بذره ، أو الخراج فسدت ) لأنه يؤدي إلى قطع الشركة ، وقد
مر في المضاربة .
قال : ( وإن شرط رفع العشر جاز ) لأنه لا يؤدي إلى قطع الشركة لأنه لا بد أن يبقى
بعده تسعة أعشار فتبقى الشركة فيه ، بخلاف الخراج والبذر لأنه قد لا يخرج إلا ذلك القدر
أو أقل منه ، فيؤدي إلى قطع الشركة فيبطل .(3/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
قال : ( وإذا كانت الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر لآخر ، أو كانت الأرض لواحد والباقي
لآخر ، أو كان العمل من واحد والباقي لآخر فهي صحيحة ) لأنه استئجار للأرض أو للعامل .
أما الأول فلأنه استئجار للعامل والبقر آلة العمل فكانت تابعة له لا يقابلها أجرة كابر
الخياط . وأما الثاني فهو استئجار الأرض ببعض معلوم فصار كالدراهم المعلومة . وأما الثالث
فهو استئجار للعامل ليعمل بآلة المستعمل كما إذا شرط على الخياط أن يخيط بإبرة صاحب
الثوب .
( وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط ) عملا بالتزامهما ، قال عليه الصلاة
والسلام : ' المؤمنون عند شروطهم ' ( فإن لم يخرج شيء فلا شيء للعامل ) لأنها شركة في
الخارج ولا خارج وصار كالمضارب إذا لم يربح ، وإن كانت إجارة فقد عيّن الأجرة فلا
يستحق غيرها ، بخلاف الفاسدة ، لأن أجر المثل يتعلق بالذمة فلا يفوت بفوات الخارج .
قال : ( وما عدا هذه الوجوه فاسدة ) وهي ثلاثة أيضا : وهي أن يكون البقر والآلات من رب
الأرض والبذر من العامل ، أو يكون البذر من أحدهما والباقي من الآخر ، أو تكون الأرض
من واحد والبقر من آخر والبذر من آخر والعمل من آخر .
أما الأول فمذكور رواية الأصل . وروي عن أبي يوسف رحمه الله جوازه لأنه استئجار
الأرض ببعض الخارج فيجوز ويجعل البقر تبعا للأرض كما تجعل تبعا للعامل . وجه الظاهر
أن منفعة البقر من جنس منفعة العامل لأن الكل عمل فأمكن جعلها تبعا للعامل وليست من
جنس منفعة الأرض ، لأن منفعة الأرض قوة في طبعها بخلق الله تعالى يحصل بها النماء فلا
يمكن جعلها تبعا . وأما الثاني فلأنه شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع . وأما الثالث
فلما روي أن أربعة اشتركوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل أحدهم الأرض ، ومن قبل
الآخر البذر ، ومن قبل الآخر البقر ، ومن قبل الآخر العمل فأبطلها عليه الصلاة والسلام .
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح الآثار : فزرعوا ثم حصدوا ثم أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فجعل الزرع لصاحب البذر ، وجعل لصاحب العمل أجرا معلوما ، وجعل لصاحب الفدان كل
يوم درهما ، وألغى الأرض في ذلك . ووجه آخر فاسد أيضا ، وهو أن يكون البذر والبقر
من جانب والعمل والأرض من جانب ، لما مر في الوجه الثاني .(3/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
قال : ( وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر ) لأنه نمار ملكه ، والآخر إنما يستحقه
بالتسمية وقد فسدت ( وللآخر أجر عمله ) إن كان البذر من رب الأرض ( أو أجر أرضه ) إن
كان البذر من قبل العامل ( لا يزاد على قدر المسمى ) لأنه رضي بقدر المسمى . وقال
محمد رحمه الله : تجب بالغة ما بلغ ، وقد سبق في الإجارة . وإذا كان البذر لرب الأرض
في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه لأنه نماء بذره في أرضه ، وإن كان من العامل طاب
له قدر بذره وقدر أجر الأرض ، وتصدق بالفضل لأنه حصل من بذره لكن في أرض
مملوكة للغير بعقد فاسد أوجب خبثا ، فما كان عوض ماله طاب له وتصدق بالفضل ، وإن
شرطا عملهما جميعا فهي فاسدة ، لأن البذر إن كان من صاحب الأرض وقد شرط عمله
لم توجد التخلية بين الأرض والعامل ، وقد بينا أنها شرط ؛ وإن كان من العامل فالعامل قد
استأجر الأرض ، فإذا شرط عمل صاحبها لم يسلم له ما استأجر فيبطل ، ولو شرطا الخارج
كله لأحدهما والبذر من صاحب الأرض جاز ، فإن شرطاه له يكون مستعينا بالعامل ليزرع
أرضه ، وإن شرطاه للعامل يكون إجارة للأرض وإقراضا للبذر فيه ؛ وإن كان البذر من
العامل فإن شرطاه لرب الأرض فسدت ، والخارج لرب البذر وعليه مثل أجر الأرض لأنه
يصير مستأجرا للأرض بجميع الخارج وأنه يقطع الشركة ، وإن شرطاه للعامل جاز ويكون
معيرا أرضه منه .
قال : ( ولو شرطا التبن لرب البذر صح ) معناه بعد شرط الحب بينهما لأنه حكم العقد
لأن التبن من البذر ( وإن شرطاه للآخر لا يصح ) لأنه ربما لا يخرج إلا التبن ، وهو إنما
يستحقه بالشرط ، ولو شرطا الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت الشركة في المقصود ،
والتبن لرب البذر لأنه نماء بذره ، وقيل بينهما تبعا للحب ؛ ولو شرطا التبن لأحدهما والحب
للآخر فهي فاسدة لأنه ربما يصيبه آفة فلا ينعقد الحب . قال : ( وإن عقداها فامتنع صاحب
البذر لم يجبر ) ولا شيء عليه من عمل الكراب في القضاء ، ويلزمه ديانة أن يرضيه لأنه
غرة ؛ والأصل فيه أن المزارعة غير لازمة في حق صاحب البذر لأنه لا يمكنه الوفاء بالعقد
إلا بإتلاف ماله وهو البذر ، وهي لازمة في حق الآخر ، لأن منفعة العامل أو منفعة الأرض
صارت مستحقة للآخر فيجب عليه تسليمها .
قال : ( وإن امتنع الآخر أجبر ) لأن العقد لازم كالإجارة ولا ضرر عليه في الوفاء به
( إلا أن يكون عذر تفسخ به الإجارة فتفسخ به المزارعة ) لأنها في معنى الإجارة ؛ وإذا لزم(3/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
رب الأرض دين واحتاج إلى بيعها فيه باعها الحاكم كما في الإجارة ( وليس للعامل أن
يطالبه بأجرة الكراب وحفر الأنهار ) لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وإنما قومت بالخارج وقد
انعدم ؛ ولو نبت الزرع ولم يحصد لا تباع الأرض حتى يستحصد لما فيه من إبطال حق
المزارع وتأخير حق رب الدين أهون ، ولا يحبسه القاضي لأنه ليس بظالم والحبس جزاء
الظلم .
قال : ( وأجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص ) لأن العقد انتهى
بانتهاء الزرع لحصول المقصود ، فبقي مالا مشتركا بينهما بغير عقد فتكون مؤونته عليهما ؛
فإن أنفق أحدهما بغير إذن الآخر ولا أمر القاضي فهو متبرع ، إذ لا ولاية له عليه ( ولو شرطا
ذلك على العامل لا يجوز ) وأصله أنه متى شرط في المزارعة ما ليس من أعمالها فسدت ،
لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما فصار كاشتراط الحمل عليه ( وعن أبي يوسف
جوازه ، وعليه الفتوى ) للتعامل كالاستصناع ؛ ولو شرطا ذلك على رب الأرض لا يجوز
بالإجماع لعدم التعارف ، وإن شرطا ما هو من أعمال الزراعة لا يفسدها ، وهو كل عمل
ينبت ويزيد في الخارج ، وما لا ينبت ولا يزيد ليس من عملها ، وكل شرط ينتفع به رب
الأرض بعد انقضاء المدة يفسدها ، ككري الأنهار ، وطرح السرقين في الأرض ، وبناء
الحائط ، وتثنية الكراب ؛ وقيل إن كانت المزارعة سنتين لا تفسد في التثنية ، لأن منفعته لا
تبقى ؛ وقيل إن كان في الخضرة لا تفسد أيضا ، لأن منفعته لا تبقى بعدها ، فإنه لو كرب
مرارا لا تبقى منفعته بسقي واحد ، ولو بقيت فسدت .
واختلفوا في التثنية ، قيل هو أن يكربها مرتين وهو المشهور وفيه الكلام ؛ وقيل أن
يكربها بعد الحصاد ويسلم الأرض مكروبة ، وهذا فاسد بكل حال ، فكل عمل قبل الإدراك
مما يحصل به الخارج كالحفظ والسقي على العامل ، لأن رأس المال العمل ، وما بعد
الإدراك قبل القسمة عليهما على ما ذكرنا كالحصاد وإخوته ، وما بعد القسمة كالحمل
والطحن عليهما بالإجماع ؛ ولو أراد فصل الزرع قصيلا أو جذاذ الثمرة بسرا أو التقاط الرطب
فهو عليهما ، لأنهما أنهيا العقد بعزمهما فصار كما بعد الإدراك .
قال : ( وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت ) لما مر في الإجارة ، ولو مات رب الأرض
والزرع لم يستحصد ترك حتى يحصد مراعاة للحقين وينتقض فيما بقي إن كان العقد على
أكثر من سنة ، لأن بقاءه في السنة الأولى لما بينا من العذر ، وقد زال ولا ضرر فيه على
العامل لما تقدم ، ولو مات بعدما كرب وحفر انتقضت ، ولا شيء للعامل في مقابلة عمله ،(3/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وقد مر . قال : ( وإذا انقضت المدة ولم يدرك الزرع فعلى المزارع أجرة نصيبه من الأرض
حتى يستحصد ) لأن إبقاء الزرع بأجرة المثل نظرا للجانبين . قال : ( ونفقة الزرع عليهما حتى
يستحصد ) لانتهاء العقد فصار عملا في مال مشترك فيكون عليهما ؛ ولو مات رب الأرض
والزرع بقل ، فالعمل على العامل لبقاء العقد ببقاء مدته .
فصل
ومن سقى أرضه فسال من مائه إلى أرض غيره فغرقها أو نزلت إليها فلا ضمان عليه .
معناه : إذا سقاه سقيا معتادا ، أما إذا كان غير معتاد ضمن لأنه متعد ، لأنه تسبب لتغريق
أرض الغير غالبا ، ولو كان في أرضه جحر فأرة فخرج منه الماء إلى أرض جاره فغرقت إن
لم يعلم به لم يضمن لعدم التعدي ، وإن علم ضمن للتعدي ، وعلى هذا إذا فتح رأس نهره
فسال إلى أرض جاره فغرقت إن كان معتادا لا يضمن وإلا ضمن ؛ وكذا لو أحرق الكلأ
والحصائد في أرضه فذهبت النار فأحرقت شيئا لغيره إن كان إيقادا معتادا لا يضمن وإلا
ضمن ؛ وقيل إن كان يوم ريح وعلم أن النار تتعدى ضمن .(3/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
كتاب المساقاة
وتسمى معاملة ، مفاعلة من السقي والعمل ، وهي أن يقوم بما يحتاج إليه الشجر من
تلقيح وعسف وتنظيف السواقي وسقي وحراسة وغير ذلك ( وهي كالمزارعة في الخلاف
والحكم ) وقد مر . قال : ( وفي الشرط إلا المدة ) والقياس أن تذكر المدة لما فيها من معنى
الإجارة ؛ وفي الاستحسان يجوز وإن لم يبينها ، وتقع على أول ثمرة تخرج ، لأن وقت إدراك
الثمرة معلوم والتفاوت فيه قليل ويدخل فيه المتيقن ، بخلاف الزرع فإنه يختلف كثيرا ابتداء
وانتهاء ، ربيعا وخريفا وغير ذلك ، وفي الرطبة إدراك بذرها لأن له نهاية معلومة ، معناه : إذا
دفعها بعدما تناهى نباتها ولم تخرج البذر فيقوم عليها ليخرج النذر ، أما إذا دفعها وقد نبتت ،
أو دفع البذر ليبذره فهي فاسدة ؛ وإن كان وقت جزها معلوما جاز ، ويقع على الجزة الأولى
كالثمرة في الشجر ؛ ولو دفع غرس شجر أو كرم قد علق ولم تبلغ الثمرة على أن يقوم
عليه والخارج نصفان فهي فاسدة لجهالة المدة ، فإنه يختلف بقوة الأرض وضعفها ، ولا
يدري متى تحمل ، فإن سميا مدة يعلم أنها تثمر فيه جاز .
قال : ( وإن سميا مدة لا تخرج الثمرة في مثلها فهي فاسدة ) لفوات المقصود وهي
الشركة في الخارج وإن شرطا وقتا قد تدرك الثمرة فيه وقد تتأخر عنه فهي موقوفة لأنا لا
نتيقن بفوات المقصود ، فإن أدركت فيه تبين أنها كانت جائزة ، وإن لم تدرك ففاسدة ، وله
أجر مثله لفساد العقد ، وكذلك إن أخرجت في تلك السنة ما لا يرغب فيه ، وإن أحاك في
تلك السنة فلم تخرج شيئا فهي جائزة ، لأنه متى كان خروج الثمرة موهوما انعقدت موقوفة
فلا تنقلب فاسدة .(3/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
قال : ( وإن دفع نخلا أو أصول رطبة ليقوم عليها وأطلق لا يجوز في الرطبة إلا بمدة
معلومة ) لأنه ليس لها نهاية معلومة ، لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة ، ومعناه
إذا لم يعلم وقت جوازها على ما تقدم . قال : ( وتجوز المساقاة في الشجر والكرم والرطاب
وأصول الباذنجان ) لأن لعمله تأثيرا في نمائه وجودته لعموم الحاجة في الكل ، وأهل خيبر
كانوا يعملون في الأشجار والرطاب ، وإنما يجوز ذلك ( إذا كانت تزيد بالسقي والعمل )
كالطلع والبلح والبسر ونحو ذلك حتى يكون لعمله أثر يستحق به شيئا من الخارج حتى لو
دفعها وقد انتهت الثمرة في العظم ولا تزيد بعمله لا يجوز ، لأنه لا أثر لعمله وهو إنما
يستحق به ، ومتى فسدت المساقاة فله أجر مثله وقد بيناه ، وعلى هذا الزرع إن دفعه وهو بقل
جاز ، وإن كان قد استحصد لا يجوز .
قال : ( وتبطل بالموت ) لأنها في معنى الإجارة وقد مر ، فإن مات رب الأرض والخارج
بسر فللعامل أن يقوم عليه حتى تدرك الثمرة ، وإن أبى الورثة ذلك دفعا للضرر عنه ولا ضرر
عليهم في ذلك ؛ ولو أراد العامل قطعه وإدخال الضرر على نفسه فالورثة بالخيار ، إما أن
يقسموا البسر على الشرط ، أو يعطوه قيمة نصيبه بسرا ، أو ينفقوا على البسر ويرجعوا به على
العاملي ، لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم ، ودفعه متعين بما ذكرنا وإن مات العامل فلورثته أن
يقوموا مقامه ، وإن كره رب الأرض لما ذكرنا وفيه نظر للجانبين وإن أرادوا قطعه بسرا
فلصاحب الأرض الخيارات الثلاث على ما بينا ، وإن ماتا فورثة كل واحد كالموروث ونظيره
في المزارعة إذا مات المزارع وقد نبت الزرع فلورثته أن يقوموا مقامه ، وإن أبى رب الأرض
لما بينا وإن أرادوا قلعه فللمالك الخيارات الثلاث على ما بينا ، وإذا انقضت مدة المساقاة
فهو كالموت ، وللعامل أن يقوم عليها حتى تدرك ولا أجر عليه ، بخلاف المزارعة ، لأن
الأرض يجوز استئجارها ولا يجوز استئجار الشجر والعمل كله على العامل ، بخلاف
المزارعة حيث تكون عليهما ، لأنه لا أجر عليه هنا ، فيكون العمل عليه حتى ينتهي . أما في
المزارعة لما وجب عليه مثل نصف أجر الأرض لا يستحق عليه العمل ، وتفسخ بالأعذار كما
في الإجارة ؛ ومما يختص بها من الأعذار كون العامل سارقا يسرق السعف والخشب والثمرة
قبل الإدراك ، لأنه يلزم المالك ضرر لم يلتزمه ؛ ومنها مرض العامل إذا أعجزه عن العمل
لأنه يلزمه الاستئجار بزيادة أجر وأنه ضرر لم يلتزمه ، وليس للمالك الفسخ بغير عذر لما بينا
في المزارعة أن المساقاة تلزم من الجانبين .(3/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
كتاب النكاح
وهو في اللغة الضم والجمع ، ومن أمثالهم : أنكحنا الفرا فسنرى : أي جمعنا بين
حمار الوحش والأتان لننظر ما يتولد منهما ، يضرب مثلا لقوم يجتمعون على أمر لا يدرون
ما يصدرون عنه . وحكى المبرد عن البصريين وغلام ثعلب عن الكوفيين : أن النكاح عبارة
عن الجمع والضم . وفي الشرع عبارة عن ضم وجمع مخصوص وهو الوطء ، لأن الزوجين
حالة الوطء يجتمعان وينضم كل واحد إلى صاحبه حتى يصيرا كالشخص الواحد ، وقد
يستعمل في العقد مجازا لما أنه يؤول إلى الضم ، وإنما هو حقيقة في الوطء ، فمتى أطلق
النكاح في الشرع يراد به الوطء لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ولدت من النكاح ' أي من
وطء حلال ، وقوله : ' يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح ' وقد ورد في
أشعار العرب بمعنى الوطء أيضا . قال الأعشى :
ومنكوحة غير ممهورة
وأخرى يقال له فادها(3/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
يعني مسبية موطوءة بغير عقد ولا مهر . وقال آخر :
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا
وأخرى على عم وخال تلهف
يعني وطء المسبية بالرماح إلى غيرها من الأشعار الكثيرة ، وإنما يفهم منه العقد
بقرينة قوله تعالى : ) فانكحوهن بإذن أهلهن ( [ النساء : 25 ] لأن الوطء لا يتوقف على
إذن الأهل ، وكذلك قوله تعالى : ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( [ النساء : 3 ] الآية ،
لأن العقد هو الذي يختص بالعدد دون الوطء ، وكذا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا نكاح إلا بشهود '
لأن الشهود لا يكونون على الوطء ، ولأنهما حالة العقد مفترقان ، وإنما يطلق عليه النكاح
لإفضائه إلى الضم كقوله تعالى : ) إني أراني أعصر خمرا ( [ يوسف : 36 ] وهو عقد
مشروع مستحب مندوب إليه ، ثبتت شرعيته بالكتاب وهو قوله تعالى : ) وأنكحوا الأيامى
منكم ( [ النور : 32 ] وقوله : ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( وبالسنة قال ( صلى الله عليه وسلم ) :
' تنكاحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ' وقال : ' النكاح سنتي فمن رغب عن
سنتي فليس مني ' والنصوص في ذلك كثيرة والآثار فيه غزيرة ، وعلى شرعيته إجماع
الأمة .
قال : ( النكاح حالة الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة ، وحالة التوقان واجب ، وحالة الخوف
من الجور مكروه ) أما الأول فلما تقدم من النصوص ، فبعضها أمر وأنه يقتضي الترغيب
والتأكيد على فعله ، وكذلك الحديث الثاني ناطق بكونه سنة ، ثم أكده حيث علق بتركه أمرا
محذورا ، وأنه من خصائص التأكيد كما في سنة الفجر ، ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) واظب عليه مدة عمره وأنه
آية التأكيد . وأما الثاني فلأن حالة التوقان يخاف عليه أو يغلب على الظن وقوعه في محرم
الزنا ، والنكاح يمنعه عن ذلك فكان واجبا ، لأن الامتناع عن الحرام فرض واجب . وأما
الثالث فلأن النكاح إنما شرع لما فيه من تحصين النفس ومنعها عن الزنا على سبيل الاحتمال
وتحصيل الثواب المحتمل بالولد الذي يعبد الله تعالى ويوحده ، والذي يخاف الجور والميل
يأثم بالجور والميل ويرتكب المنهيات المحرمات فينعدم في حقه المصالح لرجحان هذه
المفاسد عليها ، وقضيته الحرمة إلا أن النصوص لا تفصل فقلنا بالكراهة في حقه عملا
بالشبهين بالقدر الممكن .(3/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
( وركنه الإيجاب والقبول ) لأن العقد يوجد بهما ، وركن الشيء ما يوجد به كأركان
البيت . قال : ( وينعقد بلفظين ماضيين ) كقوله : زوجتك ، وقول الآخر تزوجت أو قبلت ، لأن
هذا اللفظ يستعمل للإنشاء شرعا للحاجة ولا خلاف فيه ( أو بلفظين أحدهما ماض ، والآخر
مستقبل ، كقوله : زوجني ، فيقول : زوجتك ) لأن قوله زوجني توكيل ، والوكيل يتولى طرفي
النكاح على ما نبينه . وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لو قال : جئتك خاطبا
ابنتك ، أو لتزوجني ابنتك ، أو زوجني ابنتك ، فقال الأب : قد زوجتك فالنكاح لازم ، وليس
للخاطب أن لا يقبل ، ولا يشبه البيع لأن مبناه على المسامحة والمساهلة ، والبيع على
المماسكة والمساومة ؛ ولو قال لها : أنا أتزوجك ، فقالت قد فعلت ، جاز ولزم ، لأن قوله
أتزوجك بمعنى تزوجتك عرفا بدلالة الحال كما في كلمة الشهادة ، ولو قال أتزوجني فقال
الآخر زوجتك لا ينعقد النكاح لأنه استخبار واستيعاد لا أمر وتوكيل ، ولو أراد به التحقيق
دون الاستخبار والسوم ينعقد به .
قال : ( وينعقد بلفظ النكاح والتزويج ) لأنهما صريح فيه . قال : ( والهبة والصدقة
والتمليك والبيع والشراء ) لأن هذه الألفاظ تفيد الملك ، وأنه سبب لملك المتعة بواسطة ملك
الرقبة كما في ملك اليمين والسببية من طرق المجاز . وأما لفظ الإجارة فروى ابن رستم عن
محمد أنه لا ينعقد بها ، وهو اختيار أبي بكر الرازي ، لأن الإجارة لا تفيد ملك المتعة ولأنها
تنبئ عن التأقيت ، ولا تأقيت في النكاح . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وهو اختيار
الكرخي ، قال : لأن الله تعالى سمى المهر أجرا فينعقد بلفظ الإجارة كالإجارة . وعن محمد :
لو قال : أوصيت لك بابنتي للحال ينعقد ، وإن أوصى بها مطلقا لا ينعقد لأنها توجب الملك
معلقا بشرط الموت ، والأصل فيه ما قاله أصحابنا : كل لفظ يصح لتمليك الأعيان مطلقا
ينعقد به النكاح . وروى ابن رستم عن محمد أنه قال : كل لفظ يكون في الأمة تمليكا للرق
فهو نكاح في الحرة .
قال : ( ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور رجلين ، أو رجل وامرأتين ، ولا بد في
الشهود من صفة الحرية والإسلام ، ولا تشترط العدالة ) فالشهود شرط لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا نكاح إلا بشهود ' .(3/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
وروى ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' الزانية التي تنكح نفسها بغير بينة ' وأما
صفة الشهود ، قال أصحابنا : كل من ملك القبول بنفسه انعقد العقد بحضوره ومن لا فلا ،
وهذا صحيح لأن كل واحد من الشهادة والقبول شرط لصحة العقد فجاز اعتبار أحدهما
بالآخر ، ولا بد فيه من اعتبار الحرية والعقل والبلوغ في الشاهد ، لأن العبد والصبي
والمجنون ليسوا من أهل الشهادة لما مر في الشهادات ولا يملكون القبول بأنفسهم ؛ ولا بد
من اعتبار الإسلام في نكاح المسلمين لعدم ولاية الكافر على المسلم ؛ ويجوز بشهادة رجل
وامرأتين اعتبارا بالشهادة على المال على ما بيناه في الشهادات ، وينعقد بحضور الفاسقين ،
لأن النص لا يفصل ولأنه يملك القبول بنفسه كالعدل ، ولأنه غير مسلوب الولاية عن نفسه
فلا يسلبها عن غيره لأنه من جنسه ، ولأنه تحمل فيجوز ، لأن الفسق يؤثر في الشهادة للتهمة
وذلك عند الأداء . أما التحمل فأمر مشاهد لا تهمة فيه ، وانعقاد النكاح لا يتوقف على شهادة
من يثبت بشهادته كمن ظاهره العدالة ولا يعلم باطنه ، ولهذا ينعقد بشهادة ابنيهما وابنيها من
غيرها ، ولا يظهر بشهادتهم عند دعوى القريب لما أن العقد لا يتوقف إلا على الحضور لا
على من يثبت بشهادته .
قال : ( وينعقد بشهادة العميان ) لأنهم من أهل الشهادة حتى لو حكم بها حاكم
جاز لأنه مجتهد فيه ، فإن مالكا يجوز شهادته وأبا يوسف يجيزها إذا تحملها بصيرا ،
وإذا كان من أهل الشهادة صار كالبصير لأنه يملك القبول بنفسه ، والمحدود في القذف
إن تاب فهو من أهل الشهادة ، حتى لو حكم بشهادته حاكم جاز ، وإن لم يتب فهو
فاسق وقد مر .
قال : ( وإذا تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين جاز ولا يظهر عند جحوده ) وقال محمد : لا
يجوز لأنه لا شهادة للكافر على المسلم ، والسماع في النكاح شهادة فصار كأنهم سمعوا كلام
المرأة وحدها . ولهما أن العقد يثبت بشهادتهما لو جحدت ؛ وإذا جاز أن يثبت بشهادتهما
فلأن ينعقد بحضرتهما أولى ، ولأن الانعقاد لا يتوقف على سماع من يثبت به العقد لما مر ،
ولأن سماع الكفار صحيح في حق المسلم حتى لو أسلما بعد ما سمعا ذميين جازت
شهادتهما ، ولأن الشهادة شرطت في الانعقاد لإثبات الملك إظهارا لخطر المحل لا لوجوب
المهر لما بينا وقد وجدت فيثبت الملك ، بخلاف ما إذا لم يسمعا كلامه ، لأن العقد إنما
ينعقد بكلامه والشهادة على العقد شرط .(3/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
فصل في المحرمات
( ويحرم على الرجل نكاح أمه وجداته وبنته وبنات ولده وأخته وبنتها وبنت أخيه وعمته
وخالته وأم امرأته وبنتها إن دخل بها وامرأة أبيه وأجداده وبنيه وبني أولاده والجمع بين
الأختين نكاحا ووطئا بملك يمين ، ويحرم من الرضاع من ذكرنا ) ما يحرم ( من النسب ) .
اعلم أن المحرمات بكتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) تسعة أقسام : بالقرابة ، وبالصهرية ،
وبالرضاع ، وبالجمع ، وبالتقديم ، وبتعلق حق الغير به ، وبالملك ، وبالكفر ، وبالطلقات
الثلاث . فالمحرمات بالقرابة سبعة أنواع : الأمهات وإن علون ، والبنات وإن سفلن ،
والأخوات من أي جهة كن ، والخالات والعمات جميعهن ، وبنات لالأخ وبنات الأخ وبنات الأخت وإن
سلفن فهن محرمات بنص الكتاب نكاحا ووطئا ، ودواعيه على التأبيد ، قال الله تعالى :
) حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات
الأخت ( [ النساء : 23 ] نص على التحريم مطلقا فيقتضي حرمة جميع الأفعال في المحل
المضاف إليه التحريم إلا فعلا فيه تعظيم وتكريم فإنه خارج عن الإرادة ، إما لأنه مأمور به
بالنصوص الموجبة لصلة الرحم وبر الوالدين والإحسان بهما ، أو لوجوب ذلك عقلا ، أو
بالإجماع . وما عداهن من القرابات محللات بقوله تعالى : ) وأحل لكم ما وراء ذلكم (
[ النساء : 24 ] . والمحرمات بالصهرية أربعة : أم امرأته وبناتها ، فتحرم أمها بنفس العقد على
البنت . قال تعالى : ) وأمهات نسائكم ( [ النساء : 23 ] مطلقا ، ولا تحرم البنت حتى يدخل
بالأم .
قال تعالى : ) وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن (
[ النساء : 23 ] الآية ، وتحرم الربيبة وإن لم تكن في حجر الزوج ، وذكر الحجر في الآية
خرج مخرج العادة لا للشرط ، وكذا بنات بنت المرأة وبنات ابنها لدخولهن تحت اسم
الربيبة ، وحليلة الابن وابن الابن وابن البنت وإن سفل حرام على الأب دخل الابن بها أو لم
يدخل ، لقول تعالى : ) وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ( [ النساء : 23 ] فلا يدخل فيه
حليلة الابن المتبنى ، وحليلة الأب والجد من قبل الأب والأم وإن علا حرام على الابن ، قال
تعالى : ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ( [ النساء : 22 ] وفي كل
موضع يحرم بالعقد إنما يحرم بالعقد الصحيح دون الفاسد ، لأن مطلق النكاح والزوجة
والحليلة إنما ينطلق على الصحيح ، واسم الحليلة يتناول الزوجة والمملوكة ، غير أن الزوجة
تحرم بمجرد العقد ، والأمة لا تحرم إلا بالوطء ، لأن الفراش قائم مقام الوطء وهو موجود(3/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
في ملك النكاح دون ملك اليمين ، ولهذا لا يجوز أن يجمع بين الأختين بعقد النكاح وإن لم
يطأ ، ويجوز ذلك في ملك اليمين إذا لم يطأهما .
ولو كان له جارية فقال وطئتها حرمت على أبيه وابنه ، ولو قال ذلك في جارية الغير لا
تحرم أخذا بالظاهر فيهما ؛ ولو اشترى جارية من تركة أبيه وسعه وطؤها ما لم يعلم أن الأب
وطئها ، ولو قصد امرأته ليجامعها وهي نائمة مع بنتها المشتهاة فوقعت يده على البنت
فقرصها بشهوة يظن أنها زوجته حرمت عليه امرأته . والمحرمات بالرضاع كل من تحرم
بالقرابة والصهرية لقوله تعالى : ) وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة (
[ النساء : 23 ] وقال عليه الصلاة والسلام : ' يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ' .
والمحرمات بالجمع : لا يحل للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة لقوله تعالى : ) مثنى
وثلاث ورباع ( [ النساء : 3 ] نص على الأربع فلا يجوز الزيادة عليهن .
وروي ' أن غيلان الديلمي أسلم وتحته عشر نسوة ، فأمره عليه الصلاة والسلام أن
يمسك منهن أربعا ويفارق الباقي ' ويستوي في ذلك الحرائر والإماء المنكوحات ، لأن
النص لم يفصل . والجمع بين الإماء ملكا ووطئا حلال وإن كثرن ، قال تعالى : ) إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ( [ المؤمنون : 6 ] مطلقا من غير حصر خرج عنه الزوجات بما
ذكرنا فبقي الإماء على الإطلاق . ولا يجمع العبد بين أكثر من اثنتين لأن الرق منصف
فينتصف ملك النكاح أيضا إظهارا لشرف الحرية ، ولا يجوز الجمع بين الأختين نكاحا ولا
بملك يمين وطئا لقوله تعالى : ) وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ( [ النساء : 23 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم
أختين ' ويجوز أن يجمع بينهما في الملك دون الوطء ، لأن المراد بالنص حرمة الوطء
إجماعا ، فإن كان له أمة قد وطئها فتزوج أختها جاز النكاح لصدوره من أهله وإضافته إلى
محله ، ولا يطأ الأمة لأن المنكوحة موطوءة حكما ، ولا يطأ المنكوحة حتى يحرم الأمة عليه
فإذا حرمها وطئ المنكوحة ، وإن لم يكن وطئ المملوكة وطئ المنكوحة وحرمت
المنكوحة حتى يفارق المنكوحة .
قال : ( ولو تزوج أختين في عقد واحد فسد نكاحهما ) لعدم أولوية جواز نكاح إحداهما
( ولو تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى فرّق بينه وبينهما ) لأن نكاح إحداهما(3/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
باطل بيقين ، ولا وجه إلى التيقن لعدم الأولوية ، ولهما نصف المهر بينهما لجهالة المستحقة
فيشتركان فيه ، فإن تزوجهما على التعاقب فسد النكاح الأخيرة ويفارقها ، وإن علم القاضي
بذلك فرّق بينهما ( وإذا طلق امرأته لا يجوز أن يتزوج أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدتها )
وسواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا لبقاء نكاح الأولى من وجه ببقاء العدة والنفقة والسكنى ،
والفراش القائم في حق ثبوت النسب والمنع من الخروج والبروز والتزوج بزوج آخر ، فتثبت
الحرمة أخذا بالاحتياط في باب الحرمة ، والمعتدة إذا لحقت بدار الحرب مرتدة يحل للزوج
نكاح أختها وأربع سواها لسقوط أحكام الإسلام عنها ، وعدة أم الولد إذا أعتقها مولاها تمنع
نكاح أختها دون الأربع لأن فراشها قائم فيكون جامعا ماءه في حرم أختين وأنه حرام
بالحديث ، وحرمة الأربعة ورد في النكاح ، وقالا : لا يمنع لأن له أن يتزوجها قبل العتق
فكذا بعده ، لكن إذا عقد عليها لا يطؤها حتى تنقضي العدة . وجوابه أن فراشها قبل العتق
ضعيف يقبل النقل إلى غيره بالنكاح وبعده لا فافترقا ، والعقد قائم مقام الوطء حتى يثبت
النسب منه فلا يجوز .
قال : ( ولا يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ) للحديث المشهور ، وهو قوله عليه
الصلاة والسلام : ' لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا
على بنت أختها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد قطعتم أرحامهن ' ويجوز أن يجمع بين
امرأة وابنة زوج كان لها من قبله لأنه لا قرابة بينهما .
( و ) المحرمات بالتقديم ( لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ولا معها ولا في عدتها ،
ويجوز نكاح الحرة والأمة على الأمة ومعها في عدتها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' لا تنكح
الأمة على الحرة وتنكح الحرة عليها ' وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز نكاح الأمة في عدة
الحرة من طلاق بائن لأنه ليس بنكاح عليها حتى لو حلف لا يتزوج عليها لا يحنث بهذا .
ولأبي حنيفة أن نكاح الحرة قائم من وجه على ما بينا ، واليمين مبناها على المقصود وهو
عدم المزاحمة في القسم وقد وجد ؛ ولو تزوج في عقد واحد أربعا من الإماء وخمسا من
الحرائر جاز نكاح الإماء خاصة ، لأنه لا يجوز نكاح واحدة من الحرائر لعدم الأولوية فيبطل
نكاحهن فلم توجد المزاحمة .(3/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
( ويجوز للحر أن يتزوج أربعا من الإماء ) لأن قوله تعالى : ) ورباع ( [ النساء : 3 ] لا
يفصل ( ويجوز أن يتزوج أمة مع القدرة على الحرة ) لأن النصوص لا تفصل ، وهي قوله
تعالى : ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ( [ النساء : 24 ] وقوله سبحانه : ) فانكحوا ما طاب لكم
من النساء ( [ النساء : 3 ] وغير ذلك . ( و ) المحرمات بتعلق حق الغير ف ( لا يجوز أن يتزوج
زوجة الغير ولا معتدته ) قال عليه الصلاة والسلام : ' ملعون من سقى ماءه زرع غيره ' ولأن
ذلك يفضي إلى اشتباه الأنساب ، ولهذا لم يشرع الجمع بين الزوجين في امرأة واحدة في
دين من الأديان .
قال : ( ولا يتزوج حاملا من غيره ) لما ذكرنا ( إلا الزانية ، فإن فعل لا يطؤها حتى تضع )
وقال أبو يوسف : النكاح فاسد لما سبق من الحديث ، ولأنه حمل محترم حتى لا يجوز
إسقاطه . ولهما أن الامتناع لئلا يسقي ماءه زرع غيره في ثابت النسب لحق صاحب الماء ولا
حرمة للزاني فدخلت تحت قوله تعالى : ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ( فإن كان الحمل ثابت
النسب كالحامل من السبي وحمل أم الولد من مولاها ونحوه فالنكاح فاسد لما بينا .
( و ) المحرمات بالملك ف ( لا يجوز أن يتزوج أمته ولا المرأة عبدها ) وملك بعض العبد في
هذا كملك كله ، وكذا حق الملك كمملوك المكاتب والمأذون ، لأن ملك اليمين أقوى من
ملك النكاح فلا فائدة في إثبات الأضعف مع ثبوت الأقوى ، ولأن ملك النكاح يوجب لكل
واحد من الزوجين على الآخر حقوقا ، والرق ينافي ذلك .
( و ) المحرمات بالكفر ف ( لا يجوز نكاح المجوسيات والوثنيات ولا وطؤهن بملك
يمين ) قال تعالى : ) ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( [ البقرة : 221 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سنوا
بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ' ( ويجوز تزويج الكتابيات )
لقوله تعالى : ) والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( [ المائدة : 5 ] والذمية
والحربية سواء لإطلاق النص ، والأمة والحرة سواء لإطلاق المقتضى . ( و ) يجوز نكاح
( الصابئيات ) عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وعلى هذا حل ذبائحهم ، وهذا بناء على اشتباه(3/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
مذهبهم ، فعنده هم أهل كتاب يعظمون الكواكب ولا يعبدونها فصاروا كالكتابيات ، وعندهما
يعبدون الكواكب وليسوا أهل كتاب . والمحرمات بالطلقات الثلاث لقوله تعالى : ) فإن طلقها
فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ( [ البقرة : 230 ] وعليه الإجماع .
قال : ( والزنا يوجب حرمة المصاهرة ) فمن زنى بامرأة أو وطئها بشبهة حرمت عليه
أصولها وفروعها ، وتحرم الموطوءة على أصول الواطئ وفروعه ( وكذا المس بشهوة من
الجانبين والنظر إلى الفرج من الجانبين أيضا ) والمعتبر النظر إلى فرجها الباطن دون الظاهر .
روي ذلك عن أبي يوسف وهو الصحيح . وحكى الطحاوي إجماع السلف في أن التقبيل
واللمس عن شهوة يوجب حرمة المصاهرة ، والأصل فيه قوله تعالى : ) ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء ( [ النساء : 22 ] والحمل على الوطء أولى لما بينا أن النكاح حقيقة هو
الوطء ، أو لأنه أعم فكان الحمل عليه أولى وأعم فائدة ، فيصير معنى الآية والله أعلم : ولا
تطئوا ما وطئ آباؤكم مطلقا ، فيدخل فيه النكاح والسفاح ، ولقوله عليه الصلاة والسلام :
' من زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من نظر إلى فرج امرأة
بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على ابنه وأبيه ' وإذا ثبت هذا
الحكم في موطوءة الأب ثبت في موطوءة الابن وفي وطء أم امرأته وسائر ما يثبت بحرمة
المصاهرة بالنكاح لأن أحدا لم يفصل بينهما ، ولأن الوطء سبب للجزئية بواسطة الولد ،
ولهذا يضاف إليها كما يضاف إليه .
والاستمتاع بالجزء حرام ، والمس والنظر داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطا للحرمة .
وكان الشيخ أبو الحسن الكرخي يقول : إن المراد من قوله : ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم (
الوطء دون العقد لأنه حقيقة في الوطء ، ولم يرد به العقد لاستحالة كون اللفظ الواحد حقيقة
ومجازا في حالة واحدة ، والتحريم بالعقد ثبت بغير هذه الآية . وحد الشهوة أن تنتشر آلته
بالنظر والمس ، وإن كانت منتشرة فتزداد شدة ، والمجبوب والعنين يتحرك قلبه بالاشتهاء ، أو
يزداد اشتهاء ؛ ولو مسها وعليه ثوب إن منع وصول حرارتها إلى يده لا تثبت الحرمة ، وإن
لم تمنع تثبت ؛ ولو أخذ يدها ليقبلها بشهوة فلم يفعل حرمت على ابنه ؛ ولو مس شعر
امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها لأنه من أجزاء بدنها . قال أبو حنيفة : إذا جامع صغيرة
لا يجامع مثلها فأفضاها لا تحرم عليه أمها . وقال أبو يوسف : تحرم ، ولو كانت ممن يجامع
مثلها حرمت عليه أمها بالإجماع ، لأبي يوسف أنه وطئ في قُبل فترحم كوطء الكبيرة .
ولهما أنه ليس بسبب للولد فصار كاللواطة ، أما الكبيرة يحتمل العلوق .(3/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
قال : ( ومن جمع بين امرأتين إحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح الأخرى ) معناه :
إذا تزوجهما في عقد واحد ، لأنه لا مانع من نكاح الأخرى لاختصاص المبطل بتلك . قال :
( ويجوز أن يتزوج المحرم حالة الإحرام ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو
محرم . والمحظور الوطء ودواعيه ، لا العقد ، وهو محمل ما روي أن النبي عليه الصلاة
والسلام نهى أن ينكح المحرم .
قال : ( ونكاح المتعة والنكاح المؤقت باطل ) أما المتعة فلقوله تعالى : ) فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون ( [ المؤمنون : 7 ] وهذه ليست مملوكة ولا زوجة . أما المملوكة
فظاهر ، وأما الزوجة فلعدم أحكام الزوجية من الإرث وانقطاع الحل بغير طلاق ولا مانع ،
وقد صح عن علي رضي الله عنه ' أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم يوم خيبر متعة النساء
ولحوم الحمر الأهلية ' وما روي في إباحتها ثبت نسخه بإجماع الصحابة ، وصح أن ابن
عباس رجع إلى قولهم . وأما النكاح المؤقت فلأنه أتى بمعنى المتعة والعبرة للمعاني ، وسواء
طالت المدة أو قصرت ، لأن التأقيت هو المبطل وهو المغلب لجهة المتعة . وصورة نكاح
المتعة أن يقول الرجل لامرأة : متعيني نفسك بكذا من الدراهم مدة كذا ، فتقول له : متعتك
نفسي ، أويقول : أتمتع بك ، ولا بد من لفظ التمتع فيه . وأما المؤقت فأن يتزوجها بشهادة
شاهدين مدة معلومة . وقال زفر : النكاح المؤقت صحيح ويبطل التأقيت ، لأن النكاح لا
يبطل بالشرط الفاسد ، وجوابه ما مر .
فصل
( وعبارة النساء معتبرة في النكاح حتى لو زوجت الحرة العاقلة البالغة نفسها جاز ،
وكذلك لو زوجت غيرها بالولاية أو الوكالة ؛ وكذا إذا وكلت غيرها في تزويجها أو زوجها
غيرها فأجازت ) وهذا قول أبي حنيفة وزفر والحسن ، وظاهر الرواية عن أبي يوسف . وقال(3/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
محمد : لا يجوز إلا بإجازة الولي ، فإن ماتا قبلها لا يتوارثان ولا يقع طلاقه ولا ظهاره
ووطؤه حرام ، فإن امتنع الولي من الإجازة ذكر الطحاوي عن محمد يجدد القاضي العقد
بينهما . وذكر هشام عن محمد فإن لم يجزه الولي أجيزه أنا ، وكان يومئذ قاضيا فصار عنه
روايتان . وروي عنه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة قبل موته بسبعة أيام . وحكى الفقيه أبو
جعفر الهندواني : أن امرأة جاءت إلى محمد قبل موته بثلاثة أيام وقالت : إن لي وليا وهو
لا يزوجني إلا بعد أن يأخذ مني مالا كثيرا ، فقال لها محمد : اذهبي فزوجي نفسك ، وهذا
يؤيد ما روي من رجوعه . وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول مثل قول محمد الأول .
وفي رواية إن زوجت نفسها من كفء لا يتوقف ، وإن كان من غير كفء يتوقف على
إجازة الولي . وجه عدم الجواز ما روت عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
' أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ' وقوله عليه الصلاة
والسلام : ' لا نكاح إلا بولي ' ولأنها كانت موليا عليها قبل البلوغ في حق العقد والنفاذ
لعدم رأيها ، فلو زال إنما يزول بما حدث لها من الرأي والعقل بالبلوغ ، وإنما حدث لها
رأي وعقل ناقص ، ومن لم يحدث له رأي أصلا كمن بلغ مجنونا لا تزول عنه الولاية
أصلا ، ومن حدث له عقل كامل ورأي وافر كالرجل تزول ولايته أصلا ، فإذا حدث
الناقص فكأنه حدث من وجه دون وجه فثبتت لها إحدى الولايتين وهو الانعقاد دون النفاذ
عملا بالشبهين .
ووجه الفسخ إذا لم يجز الولي أن النكح إلى الأولياء بالحديث فيتوقف على إجازته
ويرتد برده كما إذا عقد وتوقف على إجازتها ، فإذا بطل يجدد القاضي النكاح . ووجه رواية
هشام أنه عقد صدر من المالك وتوقف على إجازة صاحب الحق فلا ينفسخ برده كالراهن إذا
باع الرهن ورده المرتهن فإنه لا ينفسخ البيع حتى لو صبر المشتري إلى حين انفكاك الرهن
نفذ ، وإذا بقي العقد أجازه القاضي إن امتنع الولي لظلمه بخلاف ما ذكر من المسألة لأن
المرأة هي المالكة فتبطل بردها كما إذا باع المرتهن ورد الراهن . وجه قول أبي حنيفة قوله
تعالى : ) حتى تنكح زوجا غيره ( [ البقرة : 230 ] وقال تعالى : ) فلا جناح عليكم فيما فعلن
في أنفسهن بالمعروف ( [ البقرة : 234 ] وفي آية أخرى ) من معروف ( [ البقرة : 240 ] أضاف
النكاح والفعل إليهن ، وذلك يدل على صحة عبارتهن ونفاذها لأنه أضافه إليهن على سبيل
الاستقلال إذ لم يذكر معها غيرها ، وهي إذا زوجت نفسها من كفء بمهر المثل فقد فعلت
في نفسها بالمعروف فلا جناح على الأولياء في ذلك .(3/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
وروى ابن عباس ' أن فتاة جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا نبي الله إن أبي زوجني من
ابن أخ له ليرفع خسيسته وأنا له كارهة ، فقال لها : أجيزي ما صنع أبوك ، فقالت : لا رغبة
لي فيما صنع أبي ، قال : فاذهبي فانكحي من شئت ، فقالت : لا رغبة لي عما صنع أبي يا
رسول الله ولكني أردت أن أعلّم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهن شيء ' والاستدلال
به من وجوه : أحدها قوله عليه الصلاة والسلام : ' فانكحي من شئت ' . الثاني قولها ذلك
ولم ينكر عليها فعلم أنه ثابت إذ لو لم يكن ثابتا لما سكت عنه . الثالث قوله : ' أجيزي ما
صنع أبوك ' يدل على أن عقده غير نافذ عليها ، وفيه دليل لأصحابنا على أن العقد يتوقف
أيضا . وفي البخاري ' أن الخنساء بنت جزام أنكحها أبوها وهي كارهة فرده النبي عليه الصلاة
والسلام ' وروي أن امرأة زوجت بنتها برضاها ، فجاء الأولياء وخاصموها إلى علي رضي
الله عنه ، فأجاز النكاح .
وهذا دليل الانعقاد بعبارة النساء ، وأنه أجاز النكاح بغير ولي لأنهم كانوا غائبين لأنها
تصرفت في خالص حقها ولا ضرر فيه لغيرها ، فينفذ كتصرفها في مالها والولاية في النكاح
أسرع ثبوتا منها في المال ، ولهذا يثبت لغير الأب والجد ولا يثبت لهم في المال ولأن
النكاح خالص حقها حتى يجبر الولي عليه عند طلبها وبذله لها ، وهي أهل لاستيفاء حقوقها ،
إلا أن الكفاءة حق الأولياء فلا تقدر على إسقاط حقهم . وأما ما ذكر من الأحاديث فمعارضة
بما روينا فإما أن يرجع إلى القياس وهو لنا على المال والرجل أو يوفق بين الحديثين فيحمل
ما روينا على الحرة العاقلة البالغة ، وما رويتموه على الأمة توفيقا ، كيف وقد ورد في بعض
الروايات ' أيما أمة نكحت نفسها ' فيحمل المطلق على المقيد أو يرجع والترجيح معنا ،
لأن ما ذكرناه سالم عن الطعن وما رواه مطعون فيه ، فقد حكي عن أبي العباس المروزي
قال : سمعت يحيى بن معين يقول : ثلاثة أحاديث لم تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام :
' كل مسكر حرام ، ومن مسّ ذكره فليتوضأ ، ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل '
ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ، على أنا نقول : المرأة ولية نفسها فلا(3/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
يكون نكاحا بلا ولي فلم قلتم إنها ليست وليا ؟ ولو قلتم ذلك استغنيتم عن الحديث ، وكذا
الحديث الآخر فإنه من رواية سليمان بن يسار عن الزهري وهو ضعيف ضعفه البخاري
وأسقط روايته .
وروي أن مالكا وابن جريج سألا الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه ، والراوي إذا
أنكر الخبر دل على بطلانه كالأصول مع الفروع ، ولأن من مذهب عائشة رضي الله عنها
جواز النكاح بعبارة النساء ، فإنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن حين غاب بالشام ، دل ذلك
على عدم صحة الحديث وروايتها له أو على نسخه أو على رجحان ما ذكرنا ، وقوله الحادث
لها رأي ناقص ، قلنا المعتبر في باب الولاية مطلق العقل والبلوغ دون الزيادة والنقصان ، فإن
الناس يتفاوتون في الرأي والعقل تفاوتا فاحشا ، ولا اعتبار به في باب الولاية ، فإن كامل
العقل والرأي ولايته على نفسه وماله كولاية ناقصهما ، وكم من النساء من يكون أوفر عقلا
وأشد رأيا من كثير من الرجال ، ولأن في اعتبار ذلك حرجا عظيما وهو حرج التمييز بين
الناس ، فعلم أن المعتبر أصل البلوغ والعقل وقد وجدا في المرأة ، فيترتب عليهما ما يترتب
عليهما في الرجل قياسا على المال .
قال : ( ولا إجبار على البكر البالغة في النكاح ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' البكر
تستأمر في نفسها فإن صمتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها ' وقال عليه الصلاة
والسلام : ' شاوروا النساء في أبضاعهن ' ، قالت عائشة : يا رسول الله إن البكر لتستحي ، قال :
' إذنها صماتها ' ( والسنة للولي أن يستأمر البكر قبل النكاح ويذكر لها الزوج فيقول : إن
فلانا يخطبك أو يذكرك ، فإذا سكتت فقد رضيت ) لما روينا ، فإذا زوجها من غير استئمار
فقد أخطأ السنة ، فقد صح ' أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أراد أن يزوج فاطمة من علي رضي الله عنهما دنا إلى
خدرها فقال : إن عليا يذكرك ثم خرج فزوجها ' ( ولو ضحكت فهو إذن ) لأنه دليل الرضا ،
إلا إذا كان على وجه الاستهزاء ( ولو بكت ) فيه روايتان لأنه يكون عن سرور وعن حزن ،
والمختار . ( إن كان بغير صوت فهو رضا ) ويكون بكاء على فراق الأهل وكذا لو زوجها بغير
إذنها ثم بلغها ، يعتبر السكوت كما ذكرنا والبلوغ إليها أن يرسل إليها وليها رسولا يخبرها
بذلك عدلا كان أو غير عدل ، فإن أخبرها فضولي فلا بد من العدد أو العدالة ، لأنه خبر(3/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
يشبه الشهادة من وجه فيشترط أحد وصفي الشهادة ، وعندهما لا يشترط ذلك لأنه خبر كسائر
الأخبار ، وإن قال الولي : أزوجك من فلان أو فلان فسكتت فأيهما زوجها جاز ، ولو سمى
جماعة إن كانوا يحصون فهو رضا ، وإلا لا يكون رضا ؛ ولو استأمرها فقالت غيره أحب إلي
منه لا يكون إذنا ، ولو قالت ذلك بعد العقد يكون إذنا لأنه كلام يحتمل الإذن وعدمه فلا
نثبت الإذن قبل العقد بالشك ولا نبطل العقد بالشك .
( ولو استأذنها غير الولي فلا بد من القول ) لأن السكوت إنما جعل رضا عند الحاجة
وهو استئمار الولي وعجزها عن المباشرة فلا يقاس عليه عدم الحاجة وهو من لا يملك العقد
ولا التفات إلى كلامه . قال : ( وإذن الثيب بالقول ) قال عليه الصلاة والسلام : ' الثيب
تستأمر ' أي يطلب أمرها والأمر بالقول . وقال في حق البكر : ' تستأذن ' أي يطلب الإذن
منها ، والإذن والرضا يكون بالسكوت . وقال عليه الصلاة والسلام : ' والثيب يعرب عنها
لسانها ' ولأن السكوت إنما جعل إذنا لمكان الحياء المانع من النطق المختص بالأبكار ،
ويكون فيهن أكثر فلا يقاس عليها الثيب . قال : ( وينبغي أن يذكر لها الزوج بما تعرفه ) لعدم
تحقق الرضا بالمجهول . وقال بعضهم : يشترط تسمية قدر الصداق أيضا لاختلاف الرغبات
باختلافه .
قال : ( فإن زالت بكارتها بوثبة أو جراحة أو تعنيس أو حيض فهي بكر ) لأنها في حكم
الأبكار حتى تدخل تحت الوصية لهم بالإجماع ومصيبها أول مصيب ( وكذلك إن زالت بزنا )
عند أبي حنيفة ، وقالا : تزوج كما تزوج الثيب لأن مصيبها عائد إليها إذ هو من التثويب وهو
العود مرة بعد أخرى ، وله أنه لو اشترط نطقها فإن لم تنطق تفوتها مصلحة النكاح ، وإن
نطقت والناس يعرفونها بكرا فتتضرر باشتهار الزنا عنها فيكون حياؤها أكثر فتتضرر على كل
حال ، فوجب أن لا يشترط دفعا للضرر عنها حتى لو كانت مشتهرة بذلك بأن أقيم عليها
الحد أو اعتادته وتكرر منها ، أو قضي عليها بالعدة تستنطق بالإجماع لزوال الحياء وعدم
التضرر بالنطق ؛ ولو مات زوج البكر أو طلقها قبل الدخول تزوج كالأبكار لبقاء البكارة
والحياء .
( ولو قال الزوج : بلغك النكاح فسكت ، فقال : بل رددت فالقول قولها ) لأنها منكرة(3/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
تملك بضعها والبينة بينته لأنه يدعيه ( ولا يمين عليها ) عند أبي حنيفة خلافا لهما وقد مر في
الدعوى ، ولو ادعت رد النكاح حين أدركت وادعى الزوج السكوت فالقول قوله لأنه منكر
زوال ملكه عنها ؛ وإن زوجت نفسها وزوجها الولي برضاها فأيهما قالت هو الأول صح
لصحة إقرارها على نفسها دون إقرار الأب ؛ وإن قالت لا أدري لم يثبت واحد منهما لعدم
إمكان الجمع وعدم أولوية أحدهما ؛ ولو تزوجها على أنها بكر فوجدها ثيبا يجب جميع
المهر لأن البكارة لا تصير مستحقة بالنكاح ؛ ولو زوجها وليها فبلغها فردت ، ثم قال لها إن
جماعة يخطبونك فقالت أنا راضية بما تفعل فزوجها الأول لا يجوز ، لأن قولها أنا راضية بما
تفعل ينصرف إلى غيره دلالة ؛ ومثله لو قال لرجل كرهت صحبة فلانة فطلقتها فزوجني
امرأة ، فزوجه تلك المرأة لا يجوز ؛ وكذلك لو باع عبده ثم أمر إنسانا أن يشتري له عبدا
فاشترى ذلك العبد لا يجوز .
قال : ( ويجوز للولي إنكاح الصغير والصغيرة والمجنونة ) لقوله عليه الصلاة والسلام :
' ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء ' وقال عليه الصلاة والسلام :
' النكاح إلى العصبات ' والبالغات خرجن بما سبق من الأحاديث فبقي الصغار ' والنبي عليه
الصلاة والسلام تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت سبع سنين وبنى بها وهي بنت تسع '
وعلي رضي الله عنه زوج ابنته أم كلثوم من عمر وهي صغيرة ، ولأن النكاح يتضمن
المصالح وذلك يكون بين المتكافئين والكفء لا يتفق في كل وقت ، فمست الحاجة إلى
إثبات الولاية على الصغار تحصيلا للمصلحة وإعدادا للكفء إلى وقت الحاجة ، والقرابة
موجبة للنظر والشفقة فينتظم الجميع ، إلا أن شفقة الأب والجد أكثر فيكون عقدهما لازما لا
خيار فيه ، وشفقة غيرهما لمن قصرت عنهما قلنا بالانعقاد وثبوت الخيار عند البلوغ ، فإن رآه
غير مصلحة فسخه .
( ثم إن كان المزوج أبا أو جدا فلا خيار لهما بعد البلوغ ) لوفور شفقتهما وشدة
حرصهما على نفعهم فكأنهم باشروه بأنفسهم ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما خير عائشة رضي الله عنها
حين بلغت ( وإن زوجهما غيرهما فلهما الخيار ) إن شاءا أقاما على النكاح ، وإن شاءا فسخا .
وقال أبو يوسف : لا خيار لهما كالأب والجد . وجوابه ما ذكرنا من قصور شفقتهم عن شفقة
الأب والجد ، وذلك مظنة وقوع الخلل في المقصود من النكاح فيثبت الخيار لدفع الخلل لو(3/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
كان ، ثم سكوت البكر عند بلوغها رضا إذا علمت بالنكاح ، ولا يمتد إلى آخر المجلس كما
في الابتداء ، ولو بلغت بعد الدخول فلا بد من القول والتصريح بالرضا أو بالرد لأنها ثيب
كما في الابتداء وكذا الغلام ، ولا بد في الفسخ من القضاء لأن العقد ، قد تم وثبتت أحكامه
فلا يرتفع إلا برفع من له ولاية وهو القاضي أو بتراضيهما ، ولأنه لرفع ضرر خفي وهو وقوع
الخلل في العقد فيكون إلزاما فاحتاج إلى القضاء ، ويشمل الذكر والأنثى لشمول المعنى
لهما ، ويشترط علمهما بالنكاح دون الحكم لأن العقد ينفرد به الولي فيعذران في الجهل .
أما الحكم فالدار دار الإسلام فلا عذر في الجهل ، بخلاف خيار العتق حيث لا يحتاج
إلى القضاء لأنه دفع ضرر ظاهر وهو زيادة الملك ويقتصر على الأنثى ، لأن زيادة الملك في
حقها دونه ويمتد إلى آخر المجلس لأنه جواب التمليك قال عليه الصلاة والسلام : ' ملكت
بضعك فاختاري ' وتعذر في الجهل بحكم الخيار لأنها مشغولة بخدمة المولى فلا تتفرغ
للعلم ، وإذا اختارت الفسخ في خيار البلوغ ففرق القاضي فهي فرقة بغير طلاق ، ولأنه فسخ
ثبت ضرورة دفع اللزوم فلا يكون طلاقا ولهذا يثبت لها ولا مهر لها إن كان قبل الدخول لأن
المراد من الفسخ رفع مؤونات العقد ، وإن كان بعد الدخول فلها المسمى لأنه استوفى
المفقود عليه ، وكذا لو اختار الغلام قبل الدخول لا مهر عليه ، وليس لنا فرقة جاءت من قبل
الزوج ولا مهر عليه إلا هذه . والوجه فيه أنه لو وجب المهر لما كان في الخيار فائدة لأنه
قادر على الفرقة بالطلاق ، فلما ثبت الخيار علمنا أنه ثبت لفائدة وهي سقوط المهر ؛ ولو
مات أحدهما قبل البلوغ أو بعده قبل التفريق ورثه الآخر لصحة العقد وثبوت الملك به وقد
انتهى بالموت .
( ولا خيار لأحد الزوجين في عيب إلا في الجب والعنة والخصاء ) على ما يأتي في
موضعه إن شاء الله تعالى . قال : ( والولي العصبة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' النكاح إلى
العصبات ' وهم ( على ترتيبهم في الإرث والحجب ثم مولى العتاقة ) لأنه آخر العصبات
على ما عرف في الفرائض .
قال : ( وللأم وأقاربها التزويج ، ثم مولى الموالاة ، ثم القاضي ) أما الأم وأقاربها فمذهب
أبي حنيفة ، وروي عنه وهو قولهما ليس لهم ذلك لما روينا ، ولأن الولاية تثبت دفعا للعار(3/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
بعدم الكفء . وذلك إلى العصبات لأنهم هم الذين يعيرون بذلك . ولأبي حنيفة أن الأصل
في هذه الولاية إنما هو القرابة الداعية إلى الشفقة والنظر في حق المولى عليه ، وذلك يتحقق
في كل من هو مختص بالقرابة . وشفقة الأم أكثر من شفقة غيرها من الأباعد من أبناء
الأعمام ، وكذلك شفقة الجد لأم والأخوال ، ولأن الأم أحد الأبوين فتثبت الولاية لها
كالآخر ، وهو مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما . والأصل أن كل قرابة يتعلق بها
الوارث يتعلق بها ثبوت الولاية لأنها داعية إلى الشفقة والنظر كالعصبات إلا أنهم تأخروا عن
العصبات لضعف الرأي وبعد القرابة كما في الإرث ، وأما الحديث فإنه يقتضي النكاح إلى
العصبات عند وجودهم ، أما عند عدمهم فالحديث ساكت عنه فنقول : ينتقل إلى ما هو في
معنى العصبات في الشفقة فلا يكون حجة علينا بل لنا ، وتمامه يعرف في الفرائض في فصل
ذوي الأرحام . وأما مولى العتاقة فلأنه وارث مؤخر عن ذوي الأرحام فكذا في الولاية ولأنه
عصبة على ما عرف في الفرائض . وأما القاضي فلقوله عليه الصلاة والسلام : ' السلطان ولي
من لا ولي له ' .
قال : ( ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون ولا كافر على مسلمة ) أما العبد فلأنه لا
ولاية له على نفسه فكيف يلي غيره ؟ وكذا الصبي والمجنون لأنهما لا نظر لهما ولا خبرة
وهذه ولاية نظرية وأما الكافر فإن الولاية تقتضي نفوذ قول الولي على المولى عليه ، ولا نفاذ
لقول الكافر على المسلم كما في الشهادة ، قال الله تعالى : ) ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا ( [ النساء : 141 ] وثبتت له الولاية على ولده الكافر ، قال تعالى : ) والذين
كفروا بعضهم أولياء بعض ( [ الأنفال : 73 ] ولهذا تقبل شهادة بعضهم على بعض .
قال : ( وابن المجنونة يقدم على أبيها ) في ولاية النكاح . وقال محمد : يقدم الأب
لأنه أشفق ولهما أن التقديم هنا بالعصوبة والابن مقدم في العصوبة كما في الإرث . قال :
( وإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة لا ينتظر الكفء الخاطب حضوره زوجها الأبعد )
واختلفوا في الغيبة المنقطعة ، فعن أبي يوسف مسيرة شهر ، وعن محمد من الكوفة إلى
الري خمس عشرة مرحلة ، وعنه من بغداد إلى الري عشرون مرحلة . وفصل ابن شجاع
ذلك فقال : إذا كان في موضع لا تصل إليه القوافل والرسل في السنة إلا مرة واحدة فهي
غيبة منقطعة . قال القدوري : وهذا صحيح لأن الخاطب لا ينتظر سنة ولا يعلم هل يجيب(3/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
الولي أم لا ، وقد ينتظر بعض السنة فلذلك قدره بهذا . وقال زفر : إذا كان في مكان لا يدري
أين هو فهو غيبة منقطعة وهذا حسن لأنه إذا كان لا يدري أين هو لا يمكن استطلاع رأيه
فتفوت المصلحة ، وقيل ثلاثة أيام ، والمختار ما ذكره في الكتاب لأنه تفوت المصلحة
باستطلاع رأيه وانتظاره .
وقال زفر : لا يزوجها الأبعد لأن ولاية الأقرب قائمة حتى لو زوجها حيث هو جاز .
ولنا أنه لو لم ينتقل إلى الأبعد تتضرر الصغيرة لأنه يفوت الكفء الحاضر وقد لا يتفق
الكفء مرة أخرى فوجب أن ينتقل دفعا لهذا الضرر ، ولأن الغائب عاجز عن تدبير مصالح
النكاح فيفوت مقصود الولاية لأنها نظرية ولا نظر في ذلك . وأما إذا زوجها ففيه روايتان ،
قيل لا يجوز لانقطاع ولايته ، وقيل يجوز لظهور الانتفاع برأيه ، ولأنا إنما أسقطنا ولايته دفعا
للضرر عن الصغيرة ، فإذا زوجها ارتفع الضرر فعادت الولاية بعد ارتفاعها ، ولا ينتقل إلى
السلطان لأنه ولي من لا ولي له بالحديث . وهذه لها أولياء إذ الكلام فيه .
قال : ( ولو زوجها وليان فالأول أولى ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' إذا أنكح الوليان
فالأول أولى ' ولأنه لما سبق فقد صح فلا يجوز نكاح الثاني ، وهذا لأن سبب الولاية
القرابة وهي لا تتجزى ، والحكم الثابت به أيضا لا يتجزى فصار كل واحد منهما كالمنفرد
فأيهما عقد جاز كالأمان ( وإن كانا معا بطلا ) لتعذر الجمع وعدم أولوية أحدهما .
قال : ( ويجوز للأب والجد أن يزوج ابنه بأكثر من مهر المثل وابنته بأقل ومن غير
كفء ، ولا يجوز ذلك لغيرهما ) وقالا : لا يجوز ذلك للأب والجد أيضا إلا أن يكون
نقصانا يتغابن في مثله ، ولا ينعقد العقد عندهما لأن هذه الولاية نظرية ولا نظر في ذلك ،
ولهذا لا يجوز ذلك في المال . ولأبي حنيفة أن النكاح عقد عمر ، وهو يشتمل على
مقاصد وأغراض ومصالح باطنه ، فالظاهر أن الأب مع وفور شفقته وكمال رأيه ما أقدم
على هذا النقص إلا لمصلحة تربو وتزيد عليه هي أنفع من القدر الفائت من المال
والكفاءة ، بخلاف المال لأن المقصود المالية لا غير ، وبخلاف غير الأب والجد لأنهم
أنقص شفقة ، وبخلاف ما إذا تزوج أمة الصغيرة لعدم الجابر في حقه لأن مقاصد النكاح لم
تحصل للصغير ، وبخلاف ما إذا تزوجت المرأة وقصرت في مهرها حيث للأولياء
الاعتراض عليها عنده حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها لأنها سريعة الانخداع ضعيفة
الرأي ، فتفعل ذلك متابعة للهوى لا لتحصيل المقاصد ، لأن النساء قلما ينظرن في عواقب(3/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
الأمور ومصالحها . وقال أبو يوسف ومحمد : لا اعتراض عليها لأن المهر حقها ، ولهذا
كان لها أن تهبه فلأن تنقصه أولى . ولأبي حنيفة أن المهر إلى عشرة دراهم حق الشرع فلا
يجوز التنقيص منه شرعا حتى لو سمى أقل من عشرة فلها عشرة وإلى مهر مثلها حق
الأولياء لأنهم يعيرون بذلك فلهم مخاصمتها إلى تمامه ، والاستيفاء حقها فإن شاءت قبضته
وإن شاءت وهبته .
قال : ( والواحد يتولى طرفي العقد وليا كان أو وكيلا ، أو وليا ووكيلا ، أو أصيلا
ووكيلا ، أو وليا وأصيلا ) أما الولي من الجانبين كمن زوج ابن ابنه بنت ابن له آخر أو بنت
أخيه ابن أخ له آخر أو أمته عبده ونحو ذلك والوكيل ظاهر . وأما الولي والوكيل بأن وكله
رجل أن يزوجه بنته الصغيرة ، أو وكلته امرأة أن يزوجها من ابنه الصغير . وأما الوكيل
والأصيل بأن وكلته امرأة أن يزوجها من نفسه . وأما الولي والأصيل أن يزوج ابنة عمه
الصغيرة من نفسه . وصورته أن يقول : اشهدوا أني زوجت فلانة من فلان ، أو فلانة مني ، أو
تزوجت فلانة ، ولا يحتاج إلى القبول لأنه تضمن الشطرين . وقال زفر : لا يجوز ذلك لأنه
لا يمكن أن يكون الواحد مملكا ممتلكا كالبيع . ولنا أنه معبر وسفير والمانع من ذلك في
البيع رجوع الحقوق إلى العاقد فيجري فيه التمانع ، لأنه لا يمكن أن يكون الواحد مطالِبا
ومطالَبا في حق واحد ، وهنا الحقوق لا ترجع إليه فلا تمانع .
قال : ( وينعقد نكاح الفضولي موقوفا كالبيع إذا كان من جانب واحد ، أما من جانبين أو
فضوليا من جانب أصيلا من جانب فلا ) أما الفضولي من جانب بأن يزوج امرأة بغير أمرها
رجلا وقبل الرجل ، أو رجلا بغير أمره امرأة فقبلت ، فإنه ينعقد ويتوقف على إجازة الغائب .
وأما من الجانبين فهو أن يقول : اشهدوا أني زوجت فلانة من فلان وهما غائبان بغير أمرهما
فهذا لا ينعقد . وقال أبو يوسف : ينعقد موقوفا على إجازتهما ، والفضولي من جانب أصيل
من جانب بأن يقول الرجل : اشهدوا أني قد تزوجت فلانة وهي غائبة ولم يقبل عنها أحد ،
فهذا أيضا على الخلاف ؛ ولو جرى بين فضوليين جاز باتفاقنا ، وذكرنا في البيوع الدليل على
انعقاد تصرفات الفضولي . لأبي يوسف في الخلافية أنه لو كان وكيلا انعقد ونفذ ، فإذا كان
فضوليا ينعقد ويقف . ولهما أن هذا شطر العقد فلا يتوقف على ما وراء المجلس كما إذا كان
أصيلا ، بخلاف الوكيل لأنه معبر فينقل كلامه إليهما ، وكلام الفضوليين عقد تام فلا يقاس
عليه ، ولو زوج الأب ابنه الكبير فجنّ قبل الإجازة فأجازه الأب جاز ونفذ لثبوت الولاية عليه
وقت الإجازة .(3/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
فصل
( والكفاءة تعتبر في النكاح ) وتعتبر في الرجال للنساء للزومه في حقهن ، ولأن الشريفة
تعيّر ويغيطها كونها مستفرشة للخسيس ، ولا كذلك الرجل لأنه هو المستفرش . والأصل فيه
قوله عليه الصلاة والسلام : ' ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا يزوجن إلا من الأكفاء '
ولأن المصالح إنما تتم بين المتكافئين غالبا فيشترط ليتم المقصود منه . قال وتعتبر ( في
النسب ) فقريش بعضهم أكفاء لبعض لا يكافئهم غيرهم من العرب ، والعرب بعضهم أكفاء
لبعض لا يكافئهم الموالي ، قال عليه الصلاة والسلام : ' قريش بعضهم أكفاء لبعض ،
والعرب بعضهم أكفاء لبعض ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' والموالي بعضهم أكفاء
لبعض ' ولا يعتبر التفاضل في قريش وإن كان أفضلهم بنو هاشم لما روينا ، ولأن النبي
عليه الصلاة والسلام زوج ابنته عثمان وكان عبشميا أمويا ، وعلي رضي الله عنه زوج ابنته
عمر رضي الله عنه وكان عدويا . قال محمد : إلا أن يكون نسبا مشهورا كبيت الخلافة
تعظيما لها .
قال : ( وفي الدين والتقوى ) حتى إن بنت الرجل الصالح لو تزوجت فاسقا كان للأولياء
الرد لأنه من أفجر الأشياء وأنها تعيّر بذلك ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' عليك بذات الدين
تربت يداك ' إشارة إلى أنه أبلغ في المقصود . وقال محمد : لا يعتبر إلا أن يكون فاحشا
كمن يصفع ويسخر منه أو يخرج سكران ويلعب به الصبيان لأنه من أمور الآخرة فلا يبتني
عليه أحكام الدنيا ، ولأن الأمير النسيب كفء للدنية ، إن كان لا يبالي بما يقولون فيه ولا
يلحقها به شين ، بخلاف الفاحش لأنه يلحقها به شين . وعن أبي يوسف إذا كان الفاسق ذا
مروءة فهو كفء ، وهو أن يكون متسترا لأنه لا يظهر فلا يلتحق بها الشين .
قال : ( وفي الصنائع ) لأن الناس يعيّرون بالدنيء منها . وعن أبي حنيفة أنه غير معتبر
فإنه يمكن الانتقال عنها فليست وصفا لازما . وعن أبي يوسف لا يعتبر إلا أن يفحش
كالحائك والحجام والكناس والدباغ فإنه لا يكون كفؤا لبنت البزاز والعطار والصيرفي
والجوهري . قال : ( وفي الحرية ) فلا يكون العبد كفؤا للحرة لأنها تعير به فإنه نقص
وشين .(3/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
قال : ( وفي المال ) وهو ملك المهر المعجل والنفقة في ظاهر الرواية حتى لو وجد
أحدهما دون الآخر لا يكون كفؤا ، لأن بالنفقة تقوم مصالح النكاح ويدوم الازدواج فلا بد
منه ، والمهر بدل البضع فلا بد من إيفائه ؛ والمراد به ما تعارف الناس تعجيله حتى يسمونه
نقدا والباقي بعده تعارفوه مؤجلا . وعن أبي يوسف إن كان يملك المهر دون النفقة ليس
بكفء ، وإن كان يملك النفقة دون المهر فهو كفء لأن المهر تجري فيه المساهلة ، ويعد
الرجل قادرا عليه بقدرة أبيه . أما النفقة لا بد منها في كل وقت ويوم . وفي النوادر عن أبي
حنيفة ومحمد : امرأة فائقة في اليسار زوجت نفسها ممن يقدر على المهر والنفقة رد عقدها .
وقال أبو يوسف : إذا كان قادرا على إيفاء ما يعجّل ويكتسب ما ينفق عليها يوما بيوم كان
كفؤا لها ، ولا اعتبار بما زاد على ذلك لأن المال غاد ورائح .
قال : ( ومن له أب في الإسلام أو الحرية لا يكافئ من له أبوان ) لأن النسب بالأب
وتمامه بالجد ( والأبوان والأكثر سواء ) لما بينا . وعند أبي يوسف الواحد والأكثر سواء ، وقد
سبق في الدعوى ، ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام لأن التفاخر
بالإسلام ، والكفاءة في العقل ، قيل لا تعتبر ، وقيل تعتبر ، فلا يكون المجنون كفؤا للعاقلة .
قال : ( وإذا تزوجت غير كفء فللولي أن يفرق بينهما ) دفعا للعار عنه ، والتفريق إلى القاضي
كما تقدم في خيار البلوغ ، وما لم يفرق فأحكام النكاح ثابتة ، ولا يكون الفسخ طلاقا إن
الطلاق تصرف في النكاح وهذا فسخ لأصل النكاح ، ولأن الفسخ إنما يكون طلاقا إذا فعله
القاضي نيابة عن الزوج وهذا ليس كذلك ، ولهذا لا يجب لها شيء من المهر إن كان قبل
الدخول لما بينا ، وإن دخل بها فلها المسمى وعليها العدة ولها نفقة العدة للدخول في عقد
صحيح .
قال : ( فإن قبض الولي المهر أو جهز به أو طالب بالنفقة فقد رضي ) لأن ذلك تقرير
للنكاح وأنه رضي كما إذا زوجها فمكنت الزوج من نفسها ( وإن سكت لا يكون رضى ) وإن
طالت المدة ما لم تلد لأن السكوت عن الحق المتأكد لا يبطله لاحتمال تأخره إلى وقت
يختار فيه الخصومة ( وإن رضي أحد الأولياء فليس لغيره ممن هو في درجته أو أسفل منه
الاعتراض وإن كان أقرب منه فله ذلك ) وقال أبو يوسف : للباقين حق الاعتراض لأنه حق
ثبت لجماعتهم فإذا رضي أحدهم فقد أسقط حقه وبقي حق الباقين . ولنا أن هذا فيما يتجزأ
وهذا لا يتجزأ وهو دفع العار فجعل كل واحد منهما كالمنفرد كما مر ، وهذا لأنه صح(3/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
الإسقاط في حقه فيسقط في حق غيره ضرورة عدم التجزي كالعفو عن القصاص وصار
كالأمان ، بخلاف ما إذا رضيت لأن حقها غير حقهم ، لأن حقها صيانة نفسها عن ذلك
الاستفراش ، وحقهم في دفع العار ، فسقوط أحدهما لا يقتضي سقوط الآخر وروى الحسن
عن أبي حنيفة إذا تزوجت بغير كفء لم يجز .
قال شمس الأئمة السرخسي : وهو أحوط فليس كل ولي يحسن المرافعة إلى القاضي ،
ولا كل قاض يعدل ، فكان الأحوط سد هذا الباب ، ولو انتسب إلى غير نسبه فتزوجته إن
كان النسب المكتوم أفضل لا خيار لها ولا للأولياء كما إذا اشتراه على أنه معيب فإذا هو
سليم ، وإن كان دونه فلها ولهم الخيار ، وإن رضيت فلهم الخيار لما تقدم ، وإن كان دونه
إلا أنه كفء بالنسب المكتوم فلا خيار للأولياء لأنه كفء لهم فلا عار عليهم ولها الخيار لأنه
شرط لها زيادة منفعة ، وقد فاتت فيثبت الخيار كما إذا اشترى عبدا على أنه خباز أو كاتب
فوجده لا يحسنه ، وهذا لأن الاستفراش ذل في جانبها ، وهي إنما رضيت باستفراش من هو
أفضل منها ، وإن كانت هي التي غرّته فلا خيار له لأنه لا يفوته شيء من المصالح ، والكفاءة
ليست بشرط من جانبها ، وهو قادر على الطلاق وصار كالجب والعنة والرتق . وعن أبي بكر
الرازي وأبي الحسن الكرخي أنه لا تعتبر الكفاءة ، وهو مذهب مالك لقوله تعالى : ) إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى ( إلى أن قال : ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( [ الحجرات : 13 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ' ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ' وقال عليه
الصلاة والسلام لأبي هريرة : ' لو كان لي بنت لزوجتك ' وروي أن بلالا خطب امرأة من
الأنصار فأبوا أن يزوجوه ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ' قل لهم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمركم
أن تزوجوني ' وجوابه ما تقدم ، ولأن المراد بالآية حكم الآخرة لا الدنيا ، لأن التقوى لا
يعلم حقيقتها إلا الله وثوابها في الآخرة وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : ' المراد به الفضل
عند الله تعالى ' وهو جواب الحديث ، ويجب الحمل عليه توفيقا بين الأدلة .
قال : ( وإن نقصت من مهر مثلها فللأولياء أن يفرقوا أو يتممه ) ولا إشكال في ذلك
على قولهما لأنه يجوز نكاح المرأة بغير إذن وليها أما على قول محمد فلا إشكال أيضا على
رواية رجوعه . إلى قول أبي حنيفة ، وعلى قول الأول فيه إشكال لأنه لا يصح نكاحها عنده
إلا بإذن الولي . قالوا : صورته إذا أكره الولي المرأة على النكاح بدون مهر المثل ثم زال
الإكراه فأجازت النكاح فللأولياء الاعتراض عند أبي حنيفة خلافا لهما على ما تقدم .(3/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
فصل
( المهر أقله عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم ، ولا يجوز أن يكون إلا مالا )
والأصل فيه قوله تعالى : ) وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم ( [ النساء : 24 ] علق
الحل بشرط الابتغاء بالمال فلا يحل دونه ، وسقوطه بالطلاق قبل الدخول عند عدم التسمية
لا يدل على عدمه لأنه يشبه الفسخ ، وسقوط العوض عند وجود الفسخ لا يدل على عدم
الوجوب ، ولأن سقوطه يدل على ثبوته إذ لا يسقط إلا ما ثبت ولزم ، والتنصيف بالطلاق
قبل الدخول ثبت نصا على خلاف القياس ، والمذكور في الآية مطلق المال فكان مجملا ،
والنبي عليه الصلاة والسلام فسره بالعشرة فقال فيما رواه عنه جابر وعبد الله بن عمر : ' لا
مهر أقل من عشرة دراهم ' ولأن المهر ثبت حقا لله تعالى حتى لا يكون النكاح بدونه ،
ولو نفاه أو سكت عنه ، ولهذا لكان لها المطالبة بالفرض والتقدير وأنه يبتني على وجود
الأصل ، وما ثبت لحق الله تعالى يدخله التقدير كالزكاة .
قال : ( فإن سمى أقل من عشرة فلها عشرة ) وقال زفر : لها مهر المثل لأنه سمى ما لا
يصلح مهرا فصار كعدم التسمية . ولنا أن العشرة لا تتبعض في حكم العقد ، فتسميته بعضه
كتسميته كله كالطلقة ، وكما إذا تزوج نصفها ، لأن الشرع أوجبه إظهارا لخطر النكاح ، ولا
يظهر بأصل المال لتناوله الحقير منه ، وما أوجبه الشرع تولى بيان مقداره كالزكاة ، ولأنها
حطت عنه ما تملكه وما لا تملكه ، فيسقط ما تملكه وهو الزيادة على العشرة ، ولا يسقط ما
لا تملكه وهو تمام العشرة ، كما إذا أسقط أحد الشريكين الدين المشترك يصح في نصيبه
خاصة .
قال : ( ومن سمى مهرا لزمه بالدخول والموت ) أما الدخول فلأنه تحقق به تسليم
المبدل ، وبالموت يتقرر النكاح بانتهائه فيجب البدل ( وإن طلقها قبل الدخول لزمه نصفه )
لقوله تعالى : ) فنصف ما فرضتم ( [ البقرة : 237 ] . قال : ( وإن لم يسم لها مهرا أو شرط أن
لا مهر لها فلها مهر المثل بالدخول والموت والمتعة بالطلاق قبل الدخول ) لأن النكاح صح
فيجب العوض لأنه عقد معاوضة ، والمهر وجب حقا للشرع على ما بينا ، والواجب الأصلي
مهر المثل لأنه أعدل فيصار إليه عند عدم التسمية ، بخلاف حالة التسمية لأنهم رضوا به ، فإن(3/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
كان أقل من مهر المثل فقد رضيت بالنقصان ، وإن كان أكثر فقد رضي بالزيادة . قال عليه
الصلاة والسلام : ' المهر ما تراضى عليه الأهلون ' وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قضى في بروع
بنت واشق الأشجعية بمهر المثل ، وقد تزوجت بغير مهر ومات عنها قبل الدخول . وأما
وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول فلقوله تعالى فيه : ) ومتعوهن على الموسع قدره وعلى
المقتر قدره ( [ البقرة : 236 ] .
قال : ( ولا تجب إلا لهذه ) لأنها قائمة مقام نصف المهر وهي خلف عنه فلا تجتمع
مع الأصل في حق غيرها ، ولهذا لو كانت قيمتها أكثر من نصف مهر المثل وجب نصف
مهر المثل ولا ينقص من خمسة دراهم ( وتستحب لكل مطلقة سواها ) قال : ( والمتعة درع
وخمار وملحفة ) هكذا ذكره ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما ( يعتبر ذلك بحالة ) لقوله
تعالى : ) على الموسع قدره ) ) ولا تزاد على قدر نصف مهر المثل ) لأن النكاح الذي سمي
فيه أقوى ، فإذا لم يجب في الأقوى أكثر من نصف المهر لا يجب في الأضعف بطريق
الأولى .
قال : ( وإن زادها في المهر لزمته الزيادة ) لما مر في البيوع في الزيادة في الثمن والمثمن
( وتسقط بالطلاق قبل الدخول ) وعند أبي يوسف تتنصف بالطلاق قبل الدخول ، لأن عنده
المفروض بعد العقد كالمفروض فيه . وعندهما التنصيف يختص بالمفروض فيه . وأصله أنه
إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم اصطلحا على تسمية فهي لها إن دخل بها أو مات عنها ،
وإن طلقها قبل الدخول فالمتعة . وقال أبو يوسف : يتنصف ما اصطلحا عليه لقوله تعالى :
) فنصف ما فرضتم ( [ البقرة : 237 ] . ولهما أن هذا تعيين لما وجب بالعقد من مهر المثل ،
ومهر المثل لا يتنصف ، فكذا ما يقوم مقامه ، والفرض المعروف هو المفروض في العقد ،
وهو المراد بالنص .
قال : ( وإن حطت من مهرها صح الحط ) لأنه خالص حقها بقاء واستيفاء فتملك حطه
كسائر الحقوق . قال : ( والخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح كالدخول ) لما روى محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من كشف خمار امرأة ونظر إليها فقد(3/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل ' وروى زرارة بن أبي أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون
رضوان الله عليهم أنه إذا أرخى سترا أو أغلق الباب فلها الصداق كاملا وعليها العدة .
وقال عمر رضي الله عنه : فيه ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم ، ولأنه عقد على المنافع
فيستقر بالتخلية كالإجارة ولأنها سلمت المبدل إليه فيجب لها البدل كالبيع ( وكذلك العنين
والخصي ) لما ذكرنا .
( و ) كذلك ( المجبوب ) وقالا : يجب عليه نصف المهر لوجود المانع قطعا وهو أعجز
من المريض ، وله أن المستحق له في هذا العقد إنما هو السحق وقد سلمت إليه ذلك
( والخلوة الصحيحة أن لا يكون ثم مانع من الوطء طبعا وشرعا ، فالمرض المانع من الوطء
من جهته أو جهتها مانع طبعا ، وكذلك الرتق والقرن ) وكذا إذا كان يخاف زيادة المرض ، فإنه
لا يعرى عن نوع فتور ( والحيض ) مانع شرعا وطبعا إذ الطباع السليمة تنفر منه ( والإحرام )
بالحج والعمرة فرضا أو نفلا ( وصوم رمضان وصلاة الفرض ) مانع شرعا . أما الإحرام فلما
يلزمه من الدم ، وفي الصوم لما يلزمه من الكفارة والقضاء ، بخلاف التطوع فإنه يجوز إفطاره
بعذر يتعلق بحق الآدمي كالضيافة ، ولا كذلك رمضان والمنذور والقضاء فيه روايتان ؛ وقيل
في صوم يوم التطوع روايتان ، وكذلك السنن إلا ركعتي الفجر والأربع قبل الظهر لشدة
تأكيدها بالوعيد على تركهما ، والمكان الذي تصح فيه الخلوة أن يأمنا فيه اطلاع غيرهما
عليهما حتى لو خلا بها في مسجد أو حمام أو طريق أو على سطح لا حجاب له فليست
صحيحة ، وكذلك لو كان معهما أعمى أو صبي يعقل أو مجنون أو كلب عقور أو منكوحة له
أخرى أو أجنبية ؛ وفي الأمة فيه روايتان ، وعليها العدة في جميع ذلك احتياطا لأنها حق
الشرع .
قال : ( وفي النكاح الفاسد لا يجب إلا مهر المثل ، ولا يجب إلا بالدخول حقيقة )
لأن الحرمة قائمة وأنها مانعة شرعا ، فلا يجب إلا باستيفاء منافع البضع حقيقة ، وإنما
يجب مهر المثل لأنه لما فسد المسمى صرنا إلى مهل المثل ، إذ هو الموجب الأصلي
لما مر ( ولا يتجاوز به المسمى ) لأن المستوفى ليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية ، فإن(3/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
نقصت عن مهل المثل لا تجب الزيادة عليهما لعدم التسمية ، وإن زادت لا تجب الزيادة
لفساد التسمية بخلاف البيع الفاسد حيث تجب القيمة بالغة ما بلغت لأنه مال متقوم فيتقدر
بدله بقيمته ( ويثبت فيه النسب ) لأنه مما يحتاط في إثباته ، وأول مدته وقت الدخول ،
بخلاف النكاح الصحيح حيث يعتبر من وقت العقد ، لأن الصحيح داع إلى الوطء فأقيم
العقد مقامه ، والفاسد ليس بداع لما بينا من الحرمة فلا يقام العقد مقامه ، وعليها العدة
احتياطا وتحرزا عن اشتباه النسب ، وأولها يوم التفريق لأنها وجبت لشبهة النكاح ، والشبهة
إنما ترتفع بالتفريق .
فصل
( وإن تزوجها على خمر أو خنزير ، أو على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر ؛ أو على
هذا العبد فإذا هو حر ؛ أو على خدمته سنة ، أو تعليم القرآن جاز النكاح ولها مهر المثل ) أما
الخمر والخنزير فلأنه شرط فاسد فيلغو ، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ، بخلاف البيع ،
وإذا بطلت التسمية صارت كالعدم فيجب مهر المثل لما تقدم . وأما الدن فكذلك عند أبي
حنيفة ، لأن الإشارة أبلغ في التعريف من التسمية فصار كأنه تزوجها على الخمر ، وقالا : لها
مثل وزنه خلا ، وكذلك العبد عند أبي حنيفة لما مر .
وقال أبو يوسف : يجب فيه مثل قيمته لو كان عبدا لأنه أطعمها في مال وقد عجز عن
تسليمه فيجب قيمته أو مثله كما إذا تزوجها على عبد الغير . وقال محمد : يجب مهر المثل
لأن الأصل أن المسمى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلق العقد بالمشار إليه ، لأن المسمى
موجود في المشار إليه ذاتا ، ألا يرى أنه لو اشترى فصا على أنه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر
انعقد العقد لاتحاد الجنس ، وإن كان المسمى من خلاف جنس المشار إليه يتعلق العقد
بالمسمى لأنه ليس موجودا فيه لا ذاتا ولا صفة ، ألا ترى أن من اشترى فصا على أنه ياقوت
فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد لاختلاف الجنس ، وفيما نحن فيه العبد والحر جنس واحد
فيتعلق العقد بالمشار إليه كأنه تزوجها على حر فيلزمه مهر المثل . أما الخل والخمر جنسان
لتفاحش التفاوت بينهما فيتعلق العقد بالمسمى وهو الخل فيلزمه ؛ وأما إذا تزوجها على
خدمته سنة ، أو تعليم القرآن فمذهبهما وجوب مهر المثل . وقال محمد : لها قيمة خدمته لأنه
مال إلا أنه عجز عن التسليم للمناقضة فصار كما إذا تزوجها على عبد الغير فإنه تجب
القيمة .(3/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
ولهما أن الخدمة ليست بمال لأنها لا تستحق بحال فصار كتسمية الخمر ، وهذا لأن
تقوّم المنافع بالعقد ، فإذا لم يجب تسليمها فيه لم يظهر تقوّمها فيصار إلى مهر المثل لما بينا
أو نقول المشروع الابتغاء بالمال والتعليم ليس بمال وكذا المنافع لما بينا ، أو نقول تعليم
القرآن واجب فلا يجوز أن يكون مهرا كتعليم الشهادتين ، بخلاف خدمة العبد لأنها مال فإنها
تتضمن تسليم رقبته ، ولأن استحقاق الزوجة خدمة الزوج قلب الموضوع ، لأن توقير الزوج
واجب عليها وفي استخدامه إهانته .
قال : ( وإذا تزوج العبد بإذن مولاه على خدمته سنة جاز ولها الخدمة ) لأنها مال على ما
بينا ولا مناقضة فإنه يخدم المولى معنى حيث كان بأمره ؛ ولو تزوجها على خدمة حر آخر ،
الصحيح أنه يصح إذ لا مناقضة ، وترجع بقيمة خدمته على الزواج ، ولو تزوجها على أن
يرعى غنمها أو يزرع أرضها فيه روايتان والفرق على إحداهما أنه لا مناقضة لأنه من باب
القيام بمصالح الزوجية ؛ ولو جمع بين ما هو مال وما ليس بمال ، فإن وفى المال بالعشرة
فهو لها لا غير ، وإن لم يف فلها تمام مهر مثلها كما لو تزوجها على عشرة دراهم ورطل من
خمر فلها العشرة ولا يكمل لها مهر المثل ؛ ولو تزوجها على عيب عبد اشتراه منها جاز ،
فإن كانت قيمة العيب عشرة فهو لها وإلا يكمل عشرة .
قال : ( وإن تزوجها على ألف على أن لا يتزوج عليها ، فإن وفى فلها المسمى ) لأنه
يصلح مهرا وقد تراضيا به ( وإلا فمهر مثلها ) لأنها ما رضيت بالألف إلا مع ما ذكر لها من
المنفعة فيكمل لها مهر المثل لأنها لم ترض به فكأنه ما سمي ، ولو تزوجها على ألف
وكرامتها فلها مهر المثل لا ينقص من ألف لأنه رضي بها ، وإن طلقها قبل الدخول لها نصف
الألف لأنها أكثر من المتعة ( وإن قال على ألف إن أقام بها ، وألفين إن أخرجها ، فإن أقام
فلها الألف ) لما بينا ( وإن أخرجها فمهر مثلها ) لا يزاد على ألفين ولا ينقص من ألف ، وقالا :
الشرطان جائزان ، وعند زفر فاسدان ولها مهر المثل في الوجهين ، وعلى هذا على ألف إن
لم يتزوج عليها ، وألفين إن تزوج . لزفر أن كل واحد منهما على خطر الوجود فكان المهر
مجهولا . ولهما أن كل واحد منهما فيه غرض صحيح وقد سمي فيه بدلا معلوما فصار
كالخياطة الفارسية والرومية . ولأبي حنيفة أن الشرط الأول صح وموجبه المسمى لما بينا .
والشرط الثاني ينفي موجب الأول والتسمية متى صحت لا يجوز نفي موجبها فيبطل الشرط
الثاني ؛ ولو تزوجها على ألف إن كانت قبيحة ، وألفين إن كانت جميلة صح الشرطان ،
والفرق أنه لا مخاطرة هنا ، لأن المرأة على صفة واحدة إلا أن الزوج يجهلها ، وفي المسألة(3/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
الأولى المخاطرة موجودة في التسمية الثانية ، لأنه لا يدري أن الزوج هل يفي بالشرط الأول
أم لا .
( وإن تزوجها على هذا العبد أو هذا فلها أشبههما بمهر المثل ، وإن كان مهر المثل
بينهما فلها مهر المثل ) . وقالا : لها الأوكس بكل حال ؛ وإن طلقها قبل الدخول فلها نصف
الأوكس بالإجماع . لهما أن الأوكس مسمى بيقين لأنه أقل ولا يصار إلى مهر المثل مع
المسمى . ولأبي حنيفة أن الأصل مهر المثل ، وإنما يترك عند صحة المسمى وأنه مجهول
لدخول كلمة أو فيكون فاسدا ، إلا أن مهر المثل إذا كان أكثر من الأرفع فقد رضيت بالحط ،
وإن كان أقل فقد رضي بالزيادة ، ومتى جهل المسمى تجب المتعة بالطلاق قبل الدخول ، إلا
أن نصف الأوكس يزيد عليها عادة فيجب لاعترافه به .
قال : ( وإن تزوجها على حيوان فإن سمى نوع كالفرس جاز وإن لم يصفه ولها الوسط
فإن شاء أعطاها ذلك ، وإن شاء قيمته ؛ والثوب مثل الحيوان ، إلا أنه إن ذكر وصفه لزمه
تسليمه وكذلك كل ما يثبت في الذمة ) والأصل في ذلك أن التسمية لا تصح مع جهالة
الجنس والنوع والصفة لأنها تؤدي إلى المنازعة ، وتصح مع الجهالة اليسيرة كجهالة الوصف
لأن النكاح يحتمل ضربا من الجهالة ، لأن مبناه على المساهلة والمسامحة ، ألا ترى أنه يجوز
بمهر المثل مع جهالته لما أنها لا توجب المنازعة كذلك جهالة الوصف ، بخلاف البيع لأن
مبناه على المماكسة والمضايقة .
ثم الجهالة أنواع : منها جهالة النوع والوصف كقوله : ثوب أو دابة أو دار فلا تصح
هذه التسمية لتفاوتها تفاوتا فاحشا في الصور والمعاني فيجب مهر المثل ، وكذا التسمية مع
الخطر كقوله على ما في بطن جاريته أو غنمه أو ما يحمله نخله هذه السنة . ومنها ما هو
معلوم النوع مجهول الصفة مثل قوله عبد أو فرس أو بقرة أو شاة أو ثوب هروي فإنه
تصح التسمية ، ويجب الوسط منه لأنه إذا كان معلوم النوع كان له جيد ورديء ووسط
والوسط أعدل لأنه ذو حظ من الطرفين ؛ وعند جهالة النوع لا وسط لاختلاف معاني
الأنواع ، فإن معنى الفرس غير معنى الجمل ، ومعنى الشاة غير معنى الجاموس ؛ وكذلك
اختلاف أنواع الثياب كالأطلس والقطن وغيرهما ، وإنما يتخير لأن الوسط إنما يعرف
بالقيمة فكانت أصلا في حق الإيفاء ، والعين أصل من حيث التسمية فيتخير وتجبر المرأة
على القبول .(3/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
وقال زفر : إذا كان المهر ثوبا صوفا لا تجبر على أخذ القيمة ، وهو رواية عن أبي
حنيفة لأنها استحقت الثوب بالتسمية فلا تجبر على أخذ غيره كما في السلم . وجوابه إذا
لم يكن معينا فهو وقيمته سواء في الجهالة فتجبر على القبول كما في الحيوان . واختار
بعضهم قول زفر وقال هو الأصح ، لأن الثوب وجب في الذمة وجوبا مستقرا كالسلم ، ولا
كذلك الحيوان لأنه لا يجب في الذمة وجوبا مستقرا في السلم فكذا هنا ، ثم عند أبي
حنيفة قيمة العبد الوسط أربعون دينارا ، وإن سمى أبيض فخمسون وهو بقيمة الغرة ،
والمهر بمعنى الغرة ، وعندهما على قدر الرخص والغلاء ، وقيل هذا اختلاف زمان لا
برهان . ومنها ما هو معلوم الجنس والصفة وهو غير معين ، كما إذا تزوجها على مكيل أو
موزون موصوف في الذمة تصح التسمية ، ويلزمه تسليم عنه لأن ذلك يثبت في الذمة ثبوتا
صحيحا فيلزمه تسليمه كالنقود ؛ ولو تزوجها على كر حنطة مطلقا ولم يصفه يخير الزوج
بين الوسط وبين قيمته .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزمه تسليم الكر ؛ ولو تزوج امرأتين على ألف
قسمت الألف على قدر مهر مثليهما رجوعا إلى الأصل لأنه لما أضاف إليهما فقد أضاف إلى
كل واحدة ما تستحقه واستحقاقهما في الأصل مهر المثل كمن دفع إلى ربي دين ألفا بينهما
فإنهما يقتسمانها على قدر دينيهما كذلك هذا ، فإن طلقهما قبل الدخول فنصف الألف بينهما
على قدر حقيهما ، فإن لم يصح نكاح إحداهما صح نكاح الأخرى ، لأن المبطل اختص بها
فلا يتعداها والألف كلها للتي صح نكاحها . وقالا : يقسم على مهر مثليهما كالمسألة الأولى
لأنه أضافه إليهما كهي ، فما أصاب التي صح نكاحها فهو لها ويسقط الباقي .
ولأبي حنيفة أن إضافة النكاح إلى من لا يصح نكاحها لغو فصار كما إذا ضم إليها
أسطوانة أو دابة ، والبدل إنما ينقسم بحكم المعاوضة والمساواة والدخول في العقد ، ولا
معاوضة في المحرمة ، ولا مساواة ولا دخول في العقد فصارت عدما ، وإضافة الشيء إلى
اثنين واختصاصه بأحدهما جائز ، قال تعالى : ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل
منكم ( [ الأنعام : 130 ] أضاف الرسل إليهما ، والرسل مختصة بالإنس دون الجن ، فإن دخل
بالتي لم يصح نكاحها فلها مهر المثل عند أبي حنيفة ، وهو الصحيح لأنه وطء حرام سقط
فيه الحدّت لشبهة العقد فيجب مهر المثل ، وعندهما الأقل من مهر المثل ومما يخصها .
قال : ( ومهر مثلها يعتبر بنساء عشيرة أبيها ) كأخواتها وعماتها وبنات عمها دون أمها
وخالتها إلا أن يكونا من قبيلة أبيها ، هكذا روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بروع حين تزوجت
بغير مهر ، فقال : لها مهر مثل نسائها ونساؤها أقارب الأب ، ولأن قيمة الشيء تعرف بقيمة
جنسه ، وجنسه قوم أبيه ( فإن لم يوجد منهم مثل حالها فمن الأجانب ) تحصيلا للمقصود بقدر(3/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
الوسع . قال : ( ويعتبر بامرأة هي مثلها في السن والحسن والبكارة والبلد والعصر والمال ) فإن
المهر يختلف باختلاف هذه الأوصاف لأن الرغبات تختلف بها ( فإن لم يوجد ذلك كله
فالذي يوجد منه ) لأنه يتعذر اجتماع هذه الأوصاف في امرأتين فيعتبر بالموجود منها لأنها
مثلها . وعن بعض المشايخ أن الجمال لا يعتبر إذا كانت ذات حسب وشرف ، وإنما يعتبر في
الأوسط لأن الرغبة حينئذ في الجمال .
قال : ( وللمرأة أن تمنع نفسها وأن يسافر بها حتى يعطيها مهرها ) لأن حقه قد تعين في
المبدل فوجب أن يتعين حقها في البدل تسوية بينهما ، وإن كان المهر كله مؤجلا ليس لها
ذلك لأنها رضيت بتأخير حقها .
وعند أبي يوسف لها ذلك لأنها سلمت إليه فليس لها أن تمتنع بعده كالبائع إذا سلم
المبيع ليس له حبسه بعد ذلك ، وله أن المهر مقابل بجميع الوطآت لئلا يخلو الوطء عن
العوض إظهارا لخطر البضع إلا إنه تأكد بوطأة الأولى لجهالة ما وراءها ، والمجهول لا
يزاحم المعلوم فإذا وجد بعده وطء آخر صار معلوما فتحققت المزاحمة فصار بالمهر مقابلا
بالكل ، ونظيره العبد الجاني إذا جنى جناية يدفع بها ، فإن لم يدفع حتى جنى أخرى وأخرى
دفع بالكل .
قال : ( فإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء ) لقوله تعالى : ) أسكنوهن من حيث
سكنتم ( [ الطلاق : 6 ] . ( وقيل لا يسافر بها وعليه الفتوى ) لفساد أهل الزمان ، والغريب
يؤذي ، وقيل يسافر بها إلى قرى المصر القريبة لأنها ليست بغربة ، وإذا ضمن الولي المهر
صح ضمانه كغيره من الديون ، وللمرأة أن تطالب أيهما شاءت كسائر الكفالات ، وحكمها في
الرجوع كغيرها من الكفالات ؛ ولو ضمن المهر عن ابنه الصغير صح لما قلنا ، ولا يرجع
عليه إذا أدى لأنه صلة عرفا ، فإن مات الأب قبل الأداء فأخذ من تركته رجع بقية الورثة على
الابن من حصته لأنهم أدوا عنه دينا عليه من مال مشترك .
وقال زفر : لا يرجعون كما إذا كفل عن ابنه الكبير بغير أمره أو عن أجنبي . قلنا
الكفالة هنا بأمر المكفول عنه حكما لولاية الأب ، فكانت كفالته دليل الأمر من جهته ليرجع ،
بخلاف الكبير والأجنبي لأنه لا ولاية له عليهما ، وبخلاف ما إذا أدى حال حياته لأنه متبرع ،
فإن العادة جارية بتبرع الآباء بمهر الأبناء .(3/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
فصل
( ولا يجوز نكاح العبد والأمة والمدبر وأم الولد إلا بإذن المولى ) وأصله قوله عليه
الصلاة والسلام : ' أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها فهي عاهرة ' وقوله : ' أيما عبد تزوج
بغير إذن مولاه فهو عاهر ' ولأن النكاح عيب في العبد والمدبر لتعلق النفقة بكسبهما
والمهر برقبتهما ، فلا يملك غير المولى ذلك دفعا للضرر عنه ، ولأن منافع البضع للمولى فلا
يملكها غيره بغير أمره ( ويملك إجبارهم على النكاح ) صيانة لملكه وتحصينا له عن الزنا الذي
هو سبب هلاكهم أو نقصانهم ، وهذا المعنى يشمل العبد والأمة ؛ وليس للمولى أن يزوج
المكاتب والمكاتبة بغير رضاهما لخروجهما عن يده على ما نبينه في المكاتب ، ولا يجوز
نكاحهما إلا بإذن المولى للرق الثابت فيهما بالحديث ، ويملك المكاتب تزويج أمته لأنه من
الاكتساب ، ولا يملك تزويج العبد لأنه خسران لا اكتساب ، ولو زوج أمته من عبده بغير مهر
جاز ولا مهر لها ؛ وقيل يجب حقا للشرع ثم يسقط .
قال : ( وإذا تزوج العبد بإذن مولا فالمهر دين في رقبته يباع فيه ) لأنه دين واجب في
رقبته بفعله وقد ظهر في حق المولى حيث وقع بإذنه فيتعلق برقبته دفعا للضرر عن المرأة ،
كما في ديون المأذون للتجارة ( والمدبر يسعى ) لأنه لا يجوز بيعه فيؤدي من كسبه وكذلك
ولد أم الولد من غير سيدها . قال : ( وإذا أعتقت الأمة أو المكاتبة ولها زوج حر أو عبد فلها
الخيار ) لقوله عليه الصلاة والسلام لبريرة حين أعتقت : ' ملكت بضعك فاختاري ' جعل
العلة المثبتة للخيار معنى فيها وهو ملك البضع فيترتب عليه ، ويستوي فيه الحر والعبد لعموم
العلة ، على أنه روي أن زوجها كان حرا ، وهي راجحة على رواية أنه كان عبدا لأن الأصل
الحرية ، ولأنه ازداد الملك عليها في الفصلين فيثبت لها الخيار فيهما دفعا للضرر عنها .
قال : ( ومن زوج أمته فليس عليه أن يبوئها بيت الزوج لكنها تخدم المولى ، ويقال له
متى ظفرت بها وطئها ) لأن حق المولى في الخدمة باق والتبوئة إبطال له فلا يلزمه ذلك ؛ ولو(3/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
شرط في العقد أن لا يستخدمها بطل الشرط ، فإن بوأها بيتا معه فله أن يستخدمها وتبطل
التبوئة ، لأن الموجب للخدمة الملك وهو باق فلا تبطله التبوئة .
قال : ( وإن تزوج عبد بغير إذن مولاه فقال له المولى طلقها فليس بإجازة ) لأنه يحتمل
الرد وهو الظاهر هنا حيث تزوج بغير أمره وافتات عليه ، ورد هذا العقد يسمى طلاقا فيحمل
عليه ، وكذا لو قال فارقها وبل أولى ( ولو قال طلقها تطليقة رجعية فهو إجازة ) لأن الطلاق
الرجعي إنما يكون في النكاح الصحيح النافذ ؛ ولو أذن العبد في النكاح ينتظم الصحيح
والفاسد ، وقالا : هو على الصحيح خاصة ، لأن المراد من النكاح الإعفاف وذلك بالدوام
عليه ، وأنه في الصحيح دون الفاسد ، ولأن الاسم عند الإطلاق يقع على الصحيح كما في
اليمين . ولأبي حنيفة أن اللفظ يجري على إطلاقه كما مر في البيع ، ولئن قال البيع الفاسد
يفيد بعض التصرفات كالعتق والملك وغيره .
قلنا والنكاح الفاسد أيضا يفيد بعض التصرفات كالنسب والعدة والمهر ، ومسألة
اليمين ممنوعة ، ولئن سلمت فالأيمان مبناها على العرف ، وثمرة الاختلاف أنه لو تزوج
امرأة نكاحا فاسدا انتهى الأمر عنده فليس له أن يتزوج أخرى . وعندهما له أن يتزوج
غيرها نكاحا صحيحا ، لأن الأول لم يدخل تحت الأمر فيبقى الأمر ، وليس له أن يتزوج
إلا امرأة واحدة لأن الأمر لا يقتضي التكرار إلا أن يقول له تزوج ما شئت فيجوز له أن
يتزوج ثنتين .
قال : ( والإذن في العزل لمولى الأمة ) وقالا : إليها لأن الوطء حقها والعزل تنقيص له
فيشترط رضاها . ولأبي حنيفة أن العزل يخل بحق المولى وهو حصول الولد الذي هو ملكه
فيشترط رضاه ، بخلاف الحرة لأن الولد والوطء حقها .
قال : ( وإذا تزوج عبد أو أمة بغير إذن المولى ثم أعتقا نفذ النكاح ) لأنهما من أهل
العبارة والتوقف لحق المولى وقد زال ( ولا خيار للأمة ) لأنه إنما نفذ بعد العتق فصار كأنها
تزوجت بعد العتق ، ولو تزوجت ودخل بها الزوج ثم أعتقها المولى جاز النكاح لما بينا
والمهر للمولى لأنه استوفى منفعة مملوكه للمولى . والقياس أن يجب مهر آخر ، إلا أنا
استحسنا وقلنا يجب مهر واحد ، لأن الجواز استند إلى أصل العقد ، ولو أعتقها ثم دخل بها
فالمهر لها لأنه استوفى منفعة مملوكه لها .(3/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
فصل
( تزوج ذمي ذمية على أن لا مهر لها أو على ميتة ، وذلك عندهم جائز جاز ولا مهر
لها ) وقالا : لها مهر مثلها إن مات عنها أو دخل بها ، وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة
لأنهم التزموا أحكامنا في المعاملات فصار كالربا ، وله قوله عليه الصلاة والسلام :
' اتركوهم وما يدينون ' وما التزموا أحكامنا فيما يعتقدون خلافه ، وعقد الذمة منع إلزامهم
بالسيف ، والحجة بخلاف الربا لأنه مستثنى من عقدهم ، قال عليه الصلاة والسلام : ' إلا
من أربى فليس بيننا وبينه عهد ' وكذلك الزنا فإنه محرم في جميع الأديان ( وإن تزوجها بغير
شهود أو في عدة كافر آخر جاز إن دانوه ، ولو أسلما أقرا عليه ) وقالا : إذا تزوجها في
العدة فهو فاسد ، فإن أسلما أو أحدهما أو ترافعا إلينا فرق بينهما ، لأن نكاح المعتدة
حرام بالإجماع ، وحرمة النكاح بغير شهود مختلف فيه ، وهم التزموا أحكامنا ولم
يلتزموها بجميع الاختلافات . وله أنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة فلا تثبت الحرمة حقا
للشرع ولا للمطلق لأنه لا يعتقدها ، بخلاف العدة من المسلم لأنه يعتقدها ، وحالة
المرافعة أو الإسلام حالة البقاء ، والعدة لا تنافيها كالموطوءة بشبهة ، وكذا الشهادة ليست
شرطا حالة البقاء .
قال : ( ولو تزوجها على خمر أو خنزير ثم أسلما أو أحدهما فلها ذلك إن كانا عينين ،
وإلا فقيمة الخمر ومهر المثل في الخنزير ) وقال أبو يوسف : لها مهر المثل في الحالين .
وقال محمد : القيمة فيهما . لهما أن الملك يتأكد بالقبض فأشبه العقد ، والإسلام مانع منه
فصارا كما إذا كانا دينين . وإذا امتنع القبض قال أبو يوسف : لو كانا مسلمين عند العقد يجب
مهر المثل ، فكذا عند القبض . وقال محمد : صحت التسمية وعجز عن التسليم بالإسلام
فتجب القيمة كما إذا كان عبدا فهلك قبل القبض . ولأبي حنيفة أن الملك تم بنفس العقد في
المعين حتى جاز لها التصرف فيه ، وبالقبض ينتقل إلى ضمانها من ضمانه ، والإسلام غير
مانع من ذلك كاسترداد الخمر المغصوب ، وخمر المكاتب الذمي إذا عجز ، والمأذون إذا
حجر عليه ؛ وفي غير المعين إنما يملكه بالقبض ، والإسلام مانع منه ؛ وإذا امتنع القبض
فالخمر من ذوات الأمثال والخنزير من ذوات القيم ، فتكون القيمة مقامه فلا يجب ، فتعين
مهر المثل وتجب القيمة في الخمر لأنها تقوم مقامها .(3/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
قال : ( وإذا أسلم المجوسي فرق بينه وبين من تزوج من محارمه ) أما عندهما فظاهر ،
وأما عند أبي حنيفة فلأن المحرمية إذا طرأت على النكاح الصحيح تبطله ، ولأنها تنافي بقاء
النكاح ولا كذلك العدة على ما بينا ، ويفرق بينهما بإسلام أحدهما بالإجماع ، ولا يفرق
بمرافعة أحدهما عند أبي حنيفة خلافا لهما لقوله تعالى : ) فإن جاؤوك فاحكم بينهم (
[ المائدة : 42 ] ولأن مرافعة أحدهما لا يبطل حق صاحبه لأنه لا يعتقده ، بخلاف ما إذا اتفقا
حيث يفرق بينهم لما تلونا ، ولأنهما رضيا بحكمنا فيلزمهما . قال : ( ولا يجوز نكاح المرتد
والمرتدة ) بإجماع الصحابة ، ولأنه لا فائدة فيه لأن المقصود من شرع النكاح مصالحه ، ولا
توجد لأن المرتد يقتل والمرتدة تحبس ، أو نقول لها ملة لهما لأنهما خرجا عن الإسلام ، ولا
يقران على ما انتقلا إليه ، ويجوز نكاح النصراني المجوسية واليهودية ، واليهودي النصرانية
والمجوسية والمجوسي اليهودية والنصرانية ، لأن الكفر كله ملة واحدة ، كذا روي عن عمر
رضي الله عنه ، ولا كفاءة بين أهل الكفر .
قال : ( والولد يتبع خير الأبوين دينا ) نظرا له حتى لو كان أحدهما مسلما كان مسلما ،
ولو أسلم أحدهما ولهما ولد صغير صار مسلما ( والكتابي خير من المجوسي ) حتى يجوز
أكل ذبيحة الكتابي ومنكاحته دون المجوسي . قال : ( وإذا أسلمت امرأة الكافر عرض عليه
الإسلام ) تحصيلا لمصالح النكاح بالإسلام ، لأنها قد فاتت بإسلامها ( فإن أسلم فهي امرأته )
كما إذا أسلما معا ( وإلا فرق بينهما ) لأن الإسلام لا يصلح أن يكون سببا للفرقة لما أنه طاعة
وعبادة ، فيجعل إباؤه سببا لفوات مصالح النكاح عقوبة ( وتكون الفرقة طلاقا ) وقال أبو
يوسف : لا تكون طلاقا لأنه سبب يشترك فيه الزوجان فلا يكون طلاقا ، كما إذا ملكها أو
ملكته . ولهما أن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه فينوب عنه القاضي في
التسريح بالإحسان فيكون قوله كقول الزوج فيكون طلاقا كما في الجب والعنة .
قال : ( وإن أسلم زوج المجوسية ، فإن أسلمت وإلا فرق بينهما بغير طلاق ) والفرق أن
المرأة ليست من أهل الطلاق فلا ينتقل قول القاضي إليها ، ثم إن كان قبل الدخول فلا مهر
لها ، لأن الفرقة جاءت من قبلها ، وإن كان قد دخل بها فلها المهر لأنه تأكد بالدخول ( وإن
كان الإسلام في دار الحرب تتوقف البينونة في المسألتين على ثلاث حيض قبل الإسلام
الآخر ) لأنه لا بد من الفرقة بينهما ، ولا قدرة على العرض في دار الحرب فجعلنا ثلاث(3/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
حيض وهي شرط الفرقة مقام السبب وهو العرض كحافر البئر وغيره ، ثم إذا بانت بثلاث
حيض ذكر في السير الكبير أنه طلاق عندهما . وروي أنه فرقة بغير طلاق كأبي يوسف ؛ ولو
أسلم الآخر قبل مضي ثلاث حيض لم تبن منه ؛ وإن أسلم زوج الكتابية فلا عرض ولا فرقة
لأنه لا يجوز له نكاحها ابتداء ، فلأن يبقى أولى ؛ ولو أسلم أحد الزوجين وهما صبيان عاقلان
عرض الإسلام على الآخر ، لأن الصبي يخاطب بالإسلام حقا للعباد حتى إنه يؤاخذ بحقوق
العباد ، فإن أبى فرق بينهما استحسانا إيفاء لحق صاحبه ودفعا للضرر عنه .
قال : ( وإذا خرج أحد الزوجين إلينا مسلما وقعت البينونة بينهما ، وكذا إن سبي
أحدهما ، ولا سببا معا لم تقع ) فسبب البينونة هو التباين دون السبي ، لأن مصالح النكاح لا
تحصل مع التباين حقيقة وحكما ، لأن مصالحه إنما تحصل بالاجتماع ، والتباين مانع منه . أما
السبي فإنه يقتضي ملك الرقبة وذلك لا ينافي النكاح ابتداء فكذا بقاء . وأما المستأمن فقصده
الرجوع فلم يوجد تباين الدارين حكما . قال : ( وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة لا عدة عليها )
وقالا : عليها العدة لأنها من أحكام الإسلام والفرقة حصلت في دار الإسلام . وله قوله
تعالى : ) ولا تمسكوا بعصم الكوافر ( [ الممتحنة : 10 ] نزلت في هذه القضية نقلا عن بعض
المفسرين ، ولأنها وجبت إظهارا لخطر النكاح ، ولا خطر لنكاح الحربي ، ولهذا قلنا لا عدة
على المسبية .
قال : ( وإذا ارتد أحد الزوجين وقعت الفرقة بغير طلاق ) وقال محمد : إن كان المرتد
الزوج فهي طلاق لما مر في الإباء ، وأبو يوسف مر على أصله أيضا . والفرق لأبي حنيفة أن
الردة تنافي المحلية كالمحرمية والطلاق رافع فتعذر أن تكون الفرقة طلاقا ، ولهذا لا يحتاج
في الفرقة هنا إلى القضاء ، أما الإباء لا ينافي المحلية والنكاح ، ولهذا تتوقف الفرقة على
القضاء ، وإنما بالإباء امتنع عن التسريح بالإحسان فناب القاضي منابه على ما بينا ( ثم إن كان
المرتد الزوجة بعد الدخول فلها المهر وقبله لا شيء لها ولا نفقة ) وقد مر ( وإن كان الزوج
فالكل بعده والنصف قبله ) وذكر في الفتاوى لو ارتدت المرأة قيل لا يفسد النكاح زجرا لها ،
والصحيح أنه يفسد وتجبر على تجديد النكاح زجرا لها أيضا .
( وإن ارتدا معا ثم أسلما معا فهما على نكاحهما ) لأن بني حنيفة ارتدوا في زمن
أبي بكر رضي الله عنه ثم أسلموا ، فأقرهم على أنكحتهم ولم يأمرهم بتجديد الأنكحة ،(3/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير من أحدهم فكان إجماعا ، فإن
أسلم أحدهما بعد الردة فسد النكاح كما في الابتداء ، ولو قبلها ابن زوجها أو وطئها
حرمت على أبيه لما تقدم وسقط مهرها إذا كان قبل الدخول إن كانت مطاوعة لأن الفرقة
جاءت من قبلها ؛ فقد امتنعت عن تسليم المبدل فتمنع البدل كما في البيع ، وإن كانت
مكرهة لا يسقط ؛ وفي الصغيرة لا يسقط في الوجهين جميعا وإن كان يجامع مثلها ، لأنه
لا اعتبار بفعلها حتى لا يتعلق به شيء من الأحكام فلا يجب عليها حد ولا تعزير ولا
غسل ولا مأثم لعدم الخطاب فكذا هذا ؛ وإن ارتدت الصغيرة سقط مهرها لأنه إذا حكم
بردتها بطلت محلية النكاح فصارت كالكبيرة ، إذ الكلام في التي تعقل الإسلام والردة على
ما يأتيك .
فصل
( وإذا كان بأحد الزوجين عيب فلا خيار للآخر إلا في الجب والعنة والخصى ) أما
عيوب المرأة فبإجماع أصحابنا ، لأن المستحق هو التمكين وإنه موجود ، والاستيفاء من
الثمرات واختلاله بالعيوب لا يوجب الفسخ ، لأن الفوات بالموت لا يوجبه فهذا أولى . أما
عيوب الرجل وهي الجنون والجذام والبرص فكذلك .
وقال محمد : لها الخيار لأنه لا ينتظم بينهما المصالح فيثبت لها الخيار دفعا للضرر
عنها بخلاف الزوج لأنه يقدر على دفعه بالطلاق وصار كالجب والعنة . ولهما أن الخيار يبطل
حتى الزوج فلا يثبت ، وإنما ثبت في الجب والعنة لإخلالهما بالمقصود من النكاح ، والعيوب
لا تخل به .
والعنين الذي لا يصل إلى النساء ، أو يصل إلى الثيب دون الأبكار ، أو يصل إلى غير
زوجته ولا يصل إليها ، وتكون العنة لمرض أو ضعف أو كبر سن ، أو من أخذ بسحر ؛ فإذا
كان الزوج عنينا وخاصمته المرأة في ذلك أجّله القاضي سنة فإن وصل إليها وإلا فرق بينهما
إن طلب المرأة ذلك ، لأن لها حقا في الوطء فلها المطالبة به ، ويجوز أن يكون ذلك
لمرض ، ويحتمل أن يكون لآفة أصلية فجعلت السنة معرفة لذلك لاشتمالها على الفصول
الأربعة ؛ فإن كان المرض من برودة أزاله حر الصيف ، وإن كان من رطوبة أزاله يبس
الخريف ، وإن كان من حرارة أزاله برد الشتاء ، وإن كان من يبس أزاله رطوبة الربيع على ما
عليه العادة ، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ، فإذا مضت السنة(3/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
ولم يصل إليها علم أنه لآفة أصلية فتخير ، فإن اختارت نفسها قال أبو يوسف ومحمد :
بانت ، وهو ظاهر الرواية . وروى الحسن عن أبي حنيفة لا تبين إلا بتفريق القاضي ، وهو
المشهور من مذهبه .
لهما أن الشرع خيرها عند تمام الحول دفعا للضرر عنها فلا يحتاج إلى تفريق القاضي
كما إذا خيرها الزوج . وله أن النكاح عقد لازم وملك الزوج فيه معصوم فلا يزول إلا بإزالته
دفعا للضرر عنه ، لكن لما وجب عليه الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان وقد عجز
عن الأول بالعنة ولا يمكن القاضي النيابة فيه فوجب عليه التسريح بالإحسان ، فإذا امتنع عنه
ناب القاضي منابه ، لأنه نصب لدفع الظلم فلا تبين بدون تفريق القاضي ، فإذا فرق يصير كأنه
طلقها بنفسه فتكون تطليقة بائنة ليحصل مقصودها وهو دفع الظلم عنها بملكها نفسها ،
ويشترط طلبها لأن الفرقة حقها ؛ والمراد بالسنة القمرية لأنها المراد عند الإطلاق . وروى ابن
سماعة عن محمد أنها سنة شمسية وتعتبر بالأيام ، وتزيد على القمرية أحد عشر يوما ،
ويحسب منها أيام الحيض وشهر رمضان ، لأن السنة لا تخلو عن ذلك ، ويحسب مرضه
ومرضها إن كان نصف شهر ، وإن كان أكثر عوضه عنه . وعن أبي يوسف إن حجت أو
هربت أو غابت لم تحتسب تلك المدة من السنة ، وإن حج هو أو هرب أو غاب احتسب
عليه من السنة .
والتأجيل إنما يكون بعد دعوى المرأة عند القاضي فإن اختارت زوجها لم يكن لها بعد
ذلك خيار لأنها رضيت ببطلان حقها ، ولو خيرها القاضي فقامت من مجلسها قبل أن تختار
فلا خيار لها كالمخيرة من زوجها ، فإن طلب العنين أن يؤجله القاضي سنة أخرى لم يؤجله
إلا برضاها ، فإن رضيت جاز لها أن ترجع وتختار قبل مضي السنة الأخرى ، فإذا فرق
القاضي بينهما ثم تزوجها فلا خيار لها لأنها رضيت بالعنة ؛ ولو اختلفا في الوصول إليها ،
فإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر حق التفريق ، ولأن الأصل السلامة والعيب
عارض ، فإن حلف بطل حقها ، وإن نكل أجل سنة كسائر الحقوق ، وإن كانت بكرا نظرها
النساء ، فإن قلن هي بكر أجل سنة ، وإن قلن هي ثيب حلف على الوجه الذي بينا .
والمجبوب وهو الذي قطع ذكره أصلا فإنه يفرق بينهما للحال لأنه لا فائدة في التأجيل ،
والخصي كالعنين لأن له آلة تنتصب ويجامع بها غير أنه لا يحبل ، وهو الذي سلت أنثياه ،
وإذا أجل سنة وادعى الوصول إليها وأنكرت فالحكم كما إذا اختلفا قبل التأجيل ، وإذا كان
زوج الأمة عنينا فالخيار للمولى كالعزل عند أبي حنيفة ، وإذا كانت المرأة رتقاء فلا ولاية لها
في الطلب ، إذ لا حق لها في الوطء ، ولو وطئها الزوج مرة واحدة ثم عنّ أو جبّ فلا طلب
لها ولا خيار .(3/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
فصل
( وعلى الرجل أن يعدل بين نسائه في البيتوتة ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' من كان له
امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ' ( والبكر والثيب والجديدة
والعتيقة والمسلمة والكتابية سواء ) لإطلاق ما روينا ، ولأن ذلك من حقوق النكاح ولا تفاوت
بينهن فيها ، ولا يجب عليه التساوي بينهن في الوطء والمحبة . أما الوطء فلأنه ينبني على
النشاط ؛ وأما المحبة فلأنها فعل القلب . وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين
نسائه ويقول : ' اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك ' يعني زيادة المحبة
لبعضهن . ثم إن شاء جعل الدور بينهن يوما أو يومين أو أكثر ، وله الخيار في ذلك لأن
المستحق عليه التسوية ، وقد وجدت .
قال : ( وللحرة ضعف الأمة ) لما عرف أن الرق منصف كما في العدة وغيرها ( ومن
وهبت نصيبها لصاحبتها جاز ) لما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لسودة بنت زمعة ' اعتدي ،
فسألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يراجعها وتجعل يومها لعائشة وأن تحشر مع نسائه يوم القيامة
ففعل ' ولأنه حقها وقد أبطلته برضاها ( ولها الرجوع في ذلك ) لأنها وهبت حقا لم يجب
بعد ؛ وإن أقام عند الواحدة أياما بإذن الأخرى جاز من غير مساواة ، لأن النبي عليه الصلاة
والسلام لما مرض استأذن نساءه أن يكون في بيت عائشة فأذن له ، فكان في بيتها حتى قبض
عليه الصلاة والسلام . وفيه دليل على أن القسم يجب على الرجل وإن كان مريضا ، ويؤمر
الصائم بالنهار والقائم بالليل أن يبيت معها إذا طلبت . وعن أبي حنيفة يجعل لها يوما من
أربعة أيام ، وليس هذا بواجب لأنه يؤدي إلى فوات النوافل أصلا على من له أربع من
النساء ، ولكن يؤمر بإيفاء حقها من نفسه أحيانا ويصوم ويصلي ما أمكنه ؛ ولو أعطت زوجها
مالا أو حطته ليزيد في قسمها لم يجز وترجع بما أعطته ، وكذا لو زادها الزوج في مهرها
لتجعل يومها لغيرها ، والوجه فيه ما بينا .
قال : ( ويسافر بمن شاء والقرعة أولى ) لأنه لا حق لهن حال السفر حتى كان له أن لا(3/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
يسافر بواحدة منهن أصلا ويقرع بينهن تطييبا لقلوبهن ، وقد ورد ذلك عنه عليه الصلاة
والسلام ؛ ومن سافر بها ليس عليه قضاء حق الباقيات لأنه كان متبرعا لا موفيا حقا ، وإن
ظلم بعضهن يوعظ ، فإن لم ينته يوجع عقوبة زجرا له عن الظلم .(3/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
كتاب الرضاع
وهو واجب إحياء للولد لقوله تعالى : ) والوالدات يرضعن أولادهن ( [ البقرة : 233 ]
أي ليرضعن ( وحكم الرضاع يثبت بقليله وكثيره ) لقوله سبحانه : ) وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة ( [ النساء : 23 ] مطلقا ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب ' من غير فصل ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' الرضاع ما ينبت
اللحم وينشز العظم ' وإنه يحصل بالقليل ، لأن اللبن متى وصل إلى جوف الصبي أنبت
اللحم وأنشز العظم . قال : ( إذا وجد في مدته وهي ثلاثون شهرا ) وقالا : سنتان لقوله تعالى :
) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( [ البقرة : 233 ] وقال
تعالى : ) وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ( [ الأحقاف : 15 ] وأدنى مدة الحمل ستة أشهر فبقي
للفصال سنتان .
ولأبي حنيفة الآية الثانية ، والتمسك بها أن الله تعالى ذكر الحمل والفصال وضرب
لهما مدة ثلاثين شهرا فتكون مدة لكل واحد منهما ، كما إذا باعه عبدا وأمة إلى شهر ،
فإن الشهر يكون أجلا لكل واحد منهما ، وكذا لو باعه شيئا وأجره شيئا آخر صفقة
واحدة إلى مدة معلومة كانت المدة أجلا لكل واحد منهما ، فعلم أن الآية تقتضي أن
يكون الثلاثون شهرا أجلا لكل واحد من الحمل والفصال ، خرج الحمل عن ذلك فبقي(3/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
الفصال على مقتضاه ، والآية الأولى محمولة على مدة الاستحقاق حتى لا يكون للأم
المبتوتة المطالبة بأجرة الرضاع بعد الحولين فعملنا بالآية الأول في نفي الوجوب الأجرة
بعد الحولين ، وبالثانية في الحرمة إلى ثلاثين شهرا أخذا بالاحتياط فيهما . أو نقول :
المراد الحمل على الأكف في الحجر حالة الإرضاع ، لأن مدة الحمل غير مقدرة بثلاثين
شهرا بالإجماع ، فإذا انقضت مدته لا اعتبار بالرضاع بعده . لقوله عليه الصلاة والسلام :
' لا رضاع بعد الفصال ' والمراد حكمه وهل يباح الإرضاع بعد المدة ؟ فيه خلاف ،
والمحرم من الإرضاع ما وقع في المدة ، سواء فطم أو لم يفطم . وقال الخصاف وهو
رواية عن أبي حنيفة : إن استغنى بالفطام عن اللبن ثم رضع في المدة لا تثبت الحرمة ،
وإن لم يستغن تثبت .
قال : ( ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) لما روينا ( إلا أخت ابنه وأم أخته ) فإنها
تحرم من النسب دون الرضاع ، لأن في النسب لما وطئ أم ابنه فقد حرمت عليه بناتها . وأم
أخته موطوءة أبيه ولم يوجد ذلك في الرضاع . قال : ( وإذا أرضعت المرأة صبية حرمت على
زوجها وآبائه وأبنائه ) فتكون المرضعة أم الرضيع وأولادها إخوته وأخواته من تقدم ومن
تأخر ، فلا يجوز أن يتزوج شيئا من ولدها وولد ولدها وإن سفلوا وآباؤها أجداده وأمهاتها
جداته من قبل الأم وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته . ويكون زوجها الذي نزل منه اللبن أب
المرضعة وأولاده إخوتها وآباؤه وأمهاته أجدادها وجداتها من قبل الأب وإخوته وأخواته
أعمامها وعماتها لا تحل مناكحة أحد منهن كما في النسب . قال عليه الصلاة والسلام
لعائشة : ' ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة ' ولو ولدت من رجل وأرضعت ثم يبس
اللبن ثم در فأرضعت به صبيا يجوز لذلك الصبي أن يتزوج بنت الزوج من غيرها . وكذا لو
لم تلد منه قط فنزل لها لبن ، وكذا لبن البكر إذا لم تتزوج إذا أرضعت به صبيا حرّم عليها لا
غير ، ولو أرضعت صبية لا تحرم على ولد زوجها من غيرها ؛ ولا يحل للرضيع أن يتزوج
امرأة وطئها زوج المرضعة لأنها منكوحة الأب ، ولا للزوج أن يتزوج امرأة وطئها الرضيع
لأنها موطوءة الابن كما في النسب .
قال : ( وإذا رضع صبيان من ثدي امرأة فهما أخوان ) لأن أمهما واحدة ، فلو كانا بنتين
لا يجوز لأحد الجمع بينهما ؛ وكذا لو كان لرجل زوجتان ولدتا منه ثم أرضعت كل واحدة(3/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
صغيرة صار الرضيعان أخوين من أب ( وإن اجتمعا على لبن شاة فلا رضاع بينهما ) لأنه لم
تثبت الحرمة بينه وبين الأم لتنتقل إلى الأخ إذ هي الأصل لأن الحرمة تثبت في الأم ثم
تتعدى . رجل طلق امرأته ولها لبن فتزوجت آخر وحبلت ونزل لها لبن فهو للأول ما لم
تلد . وقال أبو يوسف : هو منهما إلا أن يعرف أنه من الثاني وإنه يعرف بالغلظ والرقة . وقال
محمد : هو منهما ما لم تضع فإذا وضعت فمن الثاني لأنه من الأول بيقين ، واحتمل كونه
من الثاني فيجعل منهما احتياطا للمحرمات ، وكذلك يقول أبو يوسف إلا إذا عرفنا أنه من
الثاني فيجعل منه . وأبو حنيفة يقول : هو من الأول بيقين ، ووقع الشك في كونه من الثاني ،
والشك لا يعارض اليقين ، فإذا ولدت تيقنا أنه من الثاني ، ولا اعتبار بالغلظ والرقة ، لأن
ذلك يتغير بتغير الأحوال والأغذية .
قال : ( وإذا اختلط اللبن بخلاف جنسه كالماء والدهن والنبيذ والدواء ولبن البهائم
فالحكم للغالب ) فإن غلب اللبن تثبت الحرمة ، وإلا فلا ( وكذلك إن اختلط بجنسه بأن اختلط
لبن امرأتين ) وقال محمد وزفر : تثبت الحرمة بهما لأن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه بل
يتقوى به ، وكل واحد منهما سبب لإنبات اللحم وإنشاز العظم . ولنا أن منفعة المغلوب لا
تظهر في مقابلة الغالب ، فإن قليل الماء إذا وقع في البحر لا يبقى لأجزائه منفعة لكثرة
التفرق ، وإذا فاتت المنفعة بسبب الغلبة بقي حكم الرضاع للكثير ( وإن اختلط بالطعام فلا
حكم له وإن غلب ) وقالا : إن غلب تعلق به التحريم ، والخلاف في غير المطبوخ . أما
المطبوخ لا تثبت به الحرمة بالإجماع . لهما أن حكم المغلوب لا يظهر في مقابلة الغالب
فصار الحكم للبن ، وله أن الطعام يسلب قوة اللبن ، ولا يكتفي الصبي بشربه ، والتغذي
يحصل بالطعام إذ هو الأصل فكان اللبن تبعا ، بخلاف الدواء لأنه يقوي اللبن ويزيد في
قوته .
( وتتعلق الحرمة بلبن المرأة بعد موتها ) لأنه سبب لإنبات اللحم وإنشاز العظم ،
ومعنى الغذاء لا يزول بالموت وصار كما إذا حلب منها حال حياتها ( وكذلك تتعلق بلبن
البكر ) لما بينا ( ولا تتعلق بلبن الرجل ) لو نزل له لأنه ليس بلبن حقيقة ، لأن اللبن لا
يكون إلا ممن يتصور منه الولادة كذا قالوا . قال : ( ولا بالاحتقان ) لأنه لا يصل إلى المعدة
فلا يحصل به النشوّ والنشوز وكذا إذا أقطر في إحليله أو أذنه أو جائفة أو آمة لما قلنا .
وعن محمد أن الاحتقان تثبت به الحرمة قياسا على فساد الصوم . والفرق أن المفسد في(3/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
الصوم التغذي أو التداوي وأنه حاصل بالاحتقان . أما الرضاع إنما يثبت بمعنى النشوّ وأنه
معدوم في الاحتقان .
قال : ( وتتعلق بالاستعاط والإيجار ) لأنه يصل إلى المعدة فيحصل به النشوّ . امرأة
أدخلت حلمة ثديها في فم رضيع ، ولا يدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح ،
وكذا صبية أرضعها بعض أهل القرية ولا يدري من هو فتزوجها رجل من أهل تلك القرية
يجوز ، لأن إباحة النكاح أصل فلا يزول بالشك ؛ ويجب على النساء أن لا يرضعن كل صبي
من غير ضرورة ، فإن فعلن فليحفظنه أو يكتبنه احتياطا . قال : ( وإذا أرضعت امرأته الكبيرة
امرأته الصغيرة حرمتا على الزوج ) لأنهما صارتا أما وبنتا ؛ والرضاع الطارئ على النكاح
كالمقارن في التحريم كحرمة المصاهرة لأنه لا بقاء للشيء مع المنافي ( ولا مهر للكبيرة إن
كان قبل الدخول ) لأن الفرقة جاءت من قبلها ( وللصغيرة نصف المهر ) لأن الفرقة ليست من
قبلها ، ولا اعتبار باختيارها الإرضاع لأنها مجبولة عليه طبعا ( ويرجع به على الكبيرة إن كانت
تعمدت الفساد ) لأنها مسببة للفرقة ، لأن إلقاء الثدي في فمها سبب لوصول اللبن إلى جوفها ،
والتسبيب يشترط فيه التعدي كحافر البئر . وإن لم تتعمد الفساد فلا شيء عليها وإن علمت
أنها زوجته لما بينا أنها مسببة ، والتعدي يثبت إذا علمت أنها زوجته وقصدت وقوع الفرقة
بينهما ، ولو لم تعلم بالنكاح فلا شيء عليها ، وكذلك إن علمت بالنكاح لكن قصدت
بالإرضاع دفع الجوع والهلاك عنها لأنها مأمورة بذلك ، وكذلك لو علمت بالنكاح دون
الفساد لا تكون متعدية .
( والقول قولها في التعمد مع يمينها ) لأنها تنكر الضمان . ولو أرضعت زوجة الأب
امرأة ابنة تحرم عليه لأنها صارت أخته من الأب . تزوج صغيرتين فأرضعتهما معا أو متعاقبا
حرمتا عليه ، وعليه لكل واحدة نصف المهر لأنها مجبورة على الإرضاع بحكم الطبع ،
ويرجع على المرضعة إن تعمدت الفساد على الوجه الذي بينا ؛ وإن كن ثلاثا فأرضعتهن على
التعاقب حرمت الأولى ، والثانية دون الثالثة لأنها لما صارت أختا لهما لم يبق الجميع في
النكاح ؛ وإن أرضعتهن معا ، بأن ألقت ثديها في فم اثنتين وكانت حلبت قبل ذلك فأوجرت
الثالثة واتفق وصول اللبن إليهن معا حرمن جميعا ، وعلى هذا تخرّج جميع مسائل هذا
الجنس ، والله أعلم .(3/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
كتاب الطلاق
وهو في اللغة : إزالة القيد والتخلية ، تقول : أطلقت إبلي وأطلقت أسيري ، وفي
الشرع : إزالة النكاح الذي هو قيد معنى ، وهو قضية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع
وضرب من المعقول .
أما الكتاب فلقوله تعالى : ) فطلقوهن لعدتهن ( [ الطلاق : 1 ] وقوله : ) الطلاق مرتان (
[ البقرة : 229 ] والسنة قوله عليه الصلاة والسلام : ' كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه
والصبي ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' أبغض المباحات إلى الله الطلاق ' وعلى وقوعه
انعقد الإجماع ، ولأن استباحة البضع ملك الزوج على الخصوص ؛ والمالك الصحيح القول
يملك إزالة ملكه كما في سائر الأملاك ، ولأن مصالح النكاح قد تنقلب مفاسد ، والتوافق بين
الزوجين قد يصير تنافرا ، فالبقاء على النكاح حينئذ يشتمل على مفاسد من التباغض والعداوة
والمقت وغير ذلك ، فشرع الطلاق دفعا لهذه المفاسد ، ومتى وقع لغير حاجة فهو مباح
مبغوض لأنه قاطع للمصالح ، وإنما أبيحت الواحدة للحاجة وهو الخلاص على ما تقدم ،
وفي الحديث ' ما خلق الله تعالى مباحا أحب إليه من العتاق ، ولا خلق مباحا أبغض إليه من
الطلاق ' .
( وهو على ثلاثة أوجه : أحسن ، وحسن ، وبدعي ؛ فأحسنه أن يطلقها واحدة في(3/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
طهر لا جماع فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها ) لما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غيرها حتى تنقضي
عدتها . وفي رواية : وكان ذلك أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة
أطهار ، ولأنه إذا جامعها لا يؤمن الحبل وهو لا يعلم به ، فإذا ظهر ندم فكان ما ذكرناه
أبعد من الندم فكان أولى ، وفي التي لا تحيض لصغر أو كبر يطلقها أي وقت شاء لعدم ما
ذكرنا ، ولأنه أبيح للحاجة على ما تقدم ، والحاجة تندفع بالواحدة .
( وحسنه ) طلاق السنة ، وهو ( أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار لا جماع فيها ) لما
روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض فقال عليه الصلاة
والسلام : ' ما هكذا أمر ربك يا ابن عمر ، إنما أمرك أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها
لكل طهر تطليقة ' وفي رواية قال لعمر : ' أخطأ ابنك السنة مره فليراجعها ، فإن طهرت
فإن شاء طلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها ، فتلك العدة التي أمر
الله أن يطلق لها النساء ' ( والشهر للآيسة والصغيرة والحامل كالحيضة ) لقيامه مقامها في
العدة بنص الكتاب .
( ويجوز طلاقهن عقيب الجماع ) لما تقدم . وأما الحامل فإنه زمان الرغبة في الوطء
لكونه غير معلق ، ويطلقها ثلاثا للسنة يفصل بين كل تطليقتين بشهر . وقال محمد : لا
تطلق للسنة إلا واحدة ، لأن الشهر إنما قام مقام الحيضة في الصغيرة والآيسة ، والحامل
ليست في معناهما لأنها من ذوات الحيض فصارت كالممتد طهرها . ولهما أن الشهر دليل
الحاجة لأنه زمان تجدد الرغبة على ما عليه الطباع السليمة فصارت في معنى الآيسة ،
والإباحة بقدر الحاجة فصلح الشهر دليلا ، بخلاف الممتد طهرها ، لأن دليل تجدد الرغبة
الطهر وهو مرجوّ في حقها دون الحامل فافترقا . وطلاق السنة في العدد والوقت على ما
بينا ؛ والسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها والصغيرة والآيسة ،
والحامل والحائل لما بينا أنها شرعت للحاجة والكل فيه سواء ؛ والسنة في الوقت تختص
بالمدخول بها لأن طهرا لا جماع فيه لا يتصور في غير المدخول بها ، ولأن المحظور هو
تطويل العدة لو وقع في الحيض فإنها لا تحتسب من العدة ، ولا عدة على غير المدخول
بها .(3/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
( والبدعة أن يطلقها ثلاثا أو ثنتين بكلمة واحدة ، أو في طهر لا رجعة فيه ، أو يطلقها
وهي حائض فيقع ويكون عاصيا ) أما الثلاث والثنتين فلما بينا أنه خلاف السنة والمشروعية
للحاجة وهي تندفع بالواحدة . وأما حالة الحيض فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث
ابن عمر : ' قد أخطأ السنة ' وأما الوقوع فلقوله عليه الصلاة والسلام لعمر : ' مر ابنك
فليراجعها ' وكان طلقها حالة الحيض ، ولولا الوقوع لما راجعها . وكذلك روي أن ابن
عمر قال للنبي عليه الصلاة والسلام : أرأيت لو طلقها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ قال : ' لا
ويكون معصية ' . وروي أن بعض أبناء عبادة بن الصامت طلق امرأته ألفا ، فذكر عبادة
ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام ، فقال : ' بانت بثلاث في معصية ، وتسعمائة وسبع وتسعون
فيما لا يملك ' ولقوله عليه الصلاة والسلام : ' كل طلاق واقع ' الحديث . وأما كونه
عاصيا فلمخالفة السنة وإجماع الصحابة ، وقوله : في طهر لا رجعة فيه إشارة إلى مذهب
أبي حنيفة ، وهو أنه لو طلقها في طهر لم يجامعها فيه فراجعها ثم طلقها لا يكره فيه ،
وهو قول زفر .
وعندهما يكره ؛ وعلى هذا لو طلقها في الحيض ثم راجعها فطهرت فطلقها ، وكذا لو
مسها بشهوة ثم قال لها : أنت طالق ثلاثا للسنة وقعن للحال عنده ، لأن الأولى وقعت فصار
مراجعا باللمس بشهوة فوقعت أخرى ، ثم صار مراجعا فوقعت الثالثة ؛ والشهر الواحد في
حق الآيسة والصغيرة على الخلاف . فالحاصل أن الرجعة فاصلة بين الطلاقين عنده ، والنكاح
فاصل بالإجماع . لهما أن بالطلاق في طهر خرج من أن يكون وقتا لطلاق السنة ، ولهذا لو
أوقعه قبل الرجعة يكره . وله أن بالمراجعة ارتفع حكم الطلاق الأول فصار كأن لم يكن ،
فإذا ارتفع لا يصير جامعا والكراهة باعتباره ، ولأنها عادت إلى الحالة الأولى بسبب من جهته
فصار كما لو أبانها في الطهر ثم تزوجها .
قال : ( وطلاق غير المدخول بها حالة الحيض ليس ببدعي ) لما مر . قال : ( وإذا طلق
امرأته حالة الحيض فعليه أن يراجعها ) لورود الأمر به في حديث ابن عمر رضي الله عنه على
ما تقدم ، ولما فيه من رفع الفعل الحرام برفع أثره ( فإذا طهرت فإن شاء طلقها وإن شاء
أمسكها ) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما .(3/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
قال : ( وإذا قال لامرأته المدخول بها : أنت طالق ثلاثا للسنة وقع عند كل طهر تطليقة )
لأن معناه لوقت السنة ، ووقعتها طهر لا جماع فيه لما مر ( وإن نوى وقوعهن الساعة وقعن )
خلافا لزفر لأن الجمع بدعة فلا يكون سنة . ولنا أن سني وقوعا لا إيقاعا ، لأنا إنما عرفنا
وقوع الثلاث جملة بالسنة فكان محتمل كلامه فينتظمه عند النية دون الإطلاق .
قال : ( وطلاق الحرة ثلاث ، والأمة ثنتان ، ولا اعتبار بالرجل في عدد الطلاق ) لقوله
تعالى : ) فطلقوهن لعدتهن ( [ الطلاق : 1 ] أي لأطهار عدتهن فتكون الطلقات على عدد
الأطهار ؛ وأطهار الحرة في العدة ثلاثة والأمة ثنتان ، فيكون التطليق كذلك ، ولأن الحر لو
ملك على الأمة ثلاثا لملك تفريقهن على أوقات السنة ولا يملك بالإجماع ، وقال عليه
الصلاة والسلام : ' طلاق الأمة ثنتان ، وعدتها حيضتان ' وأما قوله عليه الصلاة والسلام :
الطلاق بالرجال والعدة بالنساء ' فمعناه وجود الطلاق أو وقوع الطلاق بالرجال ، كما أن
العدة بالنساء ؛ وأما قوله عليه الصلاة والسلام : ' لا يطلق العبد أكثر من اثنتين ' يعني زوجته
الأمة توفيقا بين الأحاديث والدلائل ، أو لأن الغالب أن العبد إنما يتزوج الأمة ، فخرج مخرج
الغالب ، ولأن النكاح نعمة في حقها والرق مؤثر في تنصيف النعم ، فوجب أن يعتبر برقها ،
وقضيته طلقة ونصف ، لكن لما لم تنتصف الطلقة كملتا .
قال : ( ويقع طلاق كل زوج عاقل بالغ مستيقظ ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' كل
طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه ' وفي رواية ' إلا طلاق الصبي والمجنون ' ولا
يقع طلاق الصبي والمجنون لما روينا ، ولأنهما عديما العقل والتمييز والأهلية بهما ؛ ولو
طلق الصبي أو النائم ثم بلغ أو استيقظ وقال أجزت ذلك الطلاق لا يقع ، ولو قال :
أوقعته وقع ( وطلاق المكره واقع ) لما روي ' أن امرأة اعتقلت زوجها وجلست على صدره
ومعها شفرة وقالت : لتطلقني ثلاثا أو لأقتلنك فناشدها الله أن لا تفعل فأبت فطلقها ثلاثا
ثم ذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال : ' لا قيلولة في الطلاق ' ولأنه قصد
الطلاق ولم يرض بالوقوع فصار كالهازل ، ولأنه معنى تقع به الفرقة فيستوي فيه الإكراه(3/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
والطوع كالرضاع ، ثم عندنا كل ما صح فيه شرط الخيار ، فالإكراه يؤثر فيه كالبيع
والإجارة ونحوهما ؛ وما لا يصح فيه الشرط لا يؤثر فيه كالنكاح والطلاق والعتاق
ونحوها .
قال : ( وطلاق السكران واقع ) وقال الطحاوي : لا يقع ، وهو اختيار الكرخي اعتبارا
بزوال عقله بالبنج والدواء . ولنا أنه مكلف بدليل أنه مخاطب بأداء الفرائض ، ويلزمه حد
القذف والقود بالقتل ، وطلاق المكلف واقع كغير السكران ، بخلاف المبنج لأنه ليس له
حكم التكليف ، ولأن السكران بالخمر والنبيذ زال عقله بسبب هو معصية فيجعل باقيا زجرا
حتى لو شرب فيصدع رأسه وزال عقله بالصداع نقول لا يقع ، والغالب فيمن شرب البنج
والدواء التداوي لا المعصية ، ولذلك انتفى التكليف عنهم ( ويقع طلاق الأخرس بالإشارة )
والمراد إذا كانت إشارته معلومة وقد عرف في موضعه .
قال : ( وكذلك اللاعب بالطلاق والهازل به ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ' ثلاث جدهن
جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والعتاق ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من طلق لاعبا
جاز ذلك عليه ' وعن أبي الدرداء أنه قال : من لعب بطلاق أو عتاق لزمه ، قال : وفيه نزل
) ولا تتخذوا آيات الله هزوا ( [ البقرة : 231 ] وكذلك إذا أراد غير الطلاق فسبق لسانه
بالطلاق وقع ، لأنه عدم القصد وهو غير معتبر فيه . وروى هشام عن محمد عن أبي حنيفة
أن من أراد أن يقول لامرأته اسقني الماء فقال أنت طالق واقع ؛ ويعم هذه الفصول كلها قوله
عليه الصلاة والسلام : ' كل طلاق واقع ' الحديث قال : ( ومن ملك امرأته أو شقصا منها ،
أو ملكته أو شقصا منه وقعت الفرقة بينهما ) لأن المالكية تمنع ابتداء النكاح لما سبق في
النكاح فتمنعه بقاء كالمحرمية والمصاهرة والرضاع .
فصل
( وصريح الطلاق لا يحتاج إلى نية ) لأنه موضوع له شرعا فكان حقيقة ، والحقيقة لا
تحتاج إلى نية ، ويعقب الرجعة لقوله تعالى : ) وبعولتهن أحق بردهن ( [ البقرة : 228 ] ولو
نوى الإدانة فهو رجعي لأنه نوى ضد ما وضع له شرعا ( وهو نوعان : أحدهما أنت طالق(3/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
ومطلقة وطلقتك . والثاني أنت الطلاق ، وأنت طالق الطلاق ، وأنت طالق طلاقا . فالأول تقع
به طلقة واحدة رجعية ولا تصح فيه نية الثنتين والثلاث ) لأنه نعت فرد يقال للواحدة طالق
وللثنتين طالقان وللثلاث طوالق ، ونعت الفرد لا يحتمل العدد لأنه ضده ؛ ولئن قال قائل :
ذكر الطالق ذكر للطلاق حتى صح ذكر العدد تفسيرا له وأنه دليل المصدرية والمصدر يحتمل
الثلاث . قلنا هو ذكر لطلاق تتصف به المرأة ، والعدد المذكور بعده نعت لمصدر محذوف
تقديره طلاقا ثلاثا كقولهم ضربته وجيعا وأعطيته جزيلا . ( و ) النوع ( الثاني تقع به واحدة
رجعية ، وتصح فيه نية الثلاث دون الثنتين ) لأنه ذكر المصدر وهو يحتمل العموم لأنه اسم
جنس ويحتمل الأدنى ، فعند الإطلاق يحمل على الواحدة لأنه متيقن ، وإن نوى الثلاث وقعن
لأنه محتمل كلامه ، وإنما لا تصح نية الثنتين لأنها جنس الطلاق لا من حيث العددية حتى
لو كانت الزوجة أمة صحت نية الثنتين من حيث الجنسية . وقال زفر : تصح نية الثنتين لأنها
بعض الثلاث وجوابه ما قلنا .
( ولو نوى بقوله : أنت طالق واحدة ، وبقوله طلاقا أخرى وقعتا ) لأن كل واحد من
اللفظين يحتمل الإيقاع فصار كقوله أنت طالق أنت طلاقا فإنه يقع ثنتان كذا ههنا ، وهكذا
الحكم في قوله أنت طالق الطلاق ، ولو قال أنت طالق وقال عنيت به عن وثاق لا يصدق
قضاء ، ولو قال عن العمل يدين أيضا ، ولو قال أنت طالق من وثاق أو من هذا القيد لم يقع
شيء في القضاء ؛ ولو قال أنت طالق من هذا العمل وقع قضاء لا ديانة ، ولو قال أنت طالق
ثلاثا من هذا العمل طلقت ثلاثا ، ولا يصدّق قضاء أنه لم ينو الطلاق .
قال : ( وإذا أضاف الطلاق إلى جملتها أو ما يعبر به عن الجملة كالرقبة والوجه والروح
والجسد ، أو إلى جزء شائع منها وقع ) لأنها محل الطلاق ، فإذا قال أنت طالق فقد أضاف
الطلاق إلى محله فيصح . وهذه الأشياء يعبر بها عن جملة البدن . قال تعالى : ) فتحرير
رقبة ( [ النساء : 92 ] والمراد الجملة . ويقال يا وجه العرب ، وقال عليه الصلاة والسلام :
' لعن الله الفروج على السروج ' ويقال : أنا بخير ما سلم رأسك وما بقيت روحك ويراد
الجميع ، والجسد عبارة عن الجميع وكذلك العنق .
قال تعالى : ) فظلت أعناقهم ( [ الشعراء : 4 ] وكذلك الدم يقال دمه هدر ، وهذا
على ما ذكر في الكفالة أنه لو تكفل بدمه يصح ، وأشار في كتاب العتق أنه لا يقع لأنه(3/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
قال : لو قال لعبده دمك حر لا يعتق ، وفي الظهر والبطن روايتان ، وإنما يقع بالإضافة
إلى هذه الأعضاء باعتبار أنه يعبر بها عن جميع البدن لا بالإضافة إليها حتى لو قال
الرأس منك طالق أو الوجه ، أو وضع يده على الرأس أو العنق وقال هذا العضو طالق
لا يقع . وأما الجزء الشائع كالثلث والربع فلأنه قابل لسائر التصرفات بيعا وإجارة
وغيرهما ، ولهذا يصح إضافة النكاح إليه فكذا الطلاق ، لكن لا يتجزى في حكم الطلاق
فيثبت في الكل ، ولو أضافه إلى اليد والرجل ونحوهما مما لا يعبر به عن البدن لا
يقع كالأصبع والشعر لأنه أضافه إلى غير محله فصار كإضافته إلى الريق والظفر ، وهذا
لأن الطلاق رفع القيد ولا قيد في هذه الأعضاء لأنه لا يصح إضافة النكاح إليها ،
بخلاف الجزء الشائع على ما بينا ، ولو تعارف قوم أن اليد يعبر بها عن البدن عرفا
ظاهرا يقع الطلاق .
قال : ( ونصف الطلقة تطليقة وكذلك الثلث ) فلو قال لها أنت طالق نصف تطليقة أو
ثلث تطليقة وقعت تطليقة ، لأن ذكر بعض ما لا يتجزى كذكر كله . وكذلك كل جزء شائع
من التطليقة لما قلنا : ( وثلاثة أنصاف تطليقتين ثلاث ) لأن نصف التطليقتين واحدة فكأنه قال
أنت طالق ثلاثا ( وثلاثة أنصاف تطليقة ثنتان ) لأنه ثلاثة أنصاف تطليقة تطليقة ونصف وإنه لا
يتجزى فيكمل النصف فيصير تطليقتين ، وقيل ثلاث لأنه يكمل كل نصف فيكون ثلاثا . ولو
قال نصفي تطليقة فهي واحدة كنصفي درهم يكون درهما ، ولو قال نصفي تطليقتين فثنتان
كنصفي درهمين ، ولو قال أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة وسدس تطليقة يقع ثلاث .
ولو قال نصف تطليقة وثلثها وسدسها تقع واحدة لأنه أضاف الأجزاء إلى تطليقة واحدة ،
وفي الأولى أضاف كل جزء إلى تطليقة منكرة ، فاقتضى كل جزء تطليقة على حدة ، فإن
جاوز المجموع الأجزاء كقوله نصف تطليقة وثلثها وربعها قيل واحدة ، وقيل ثنتان وهو
المختار ، لأن الزيادة على الواحدة من تطليقة أخرى ، فكأنه أوقع واحدة وبعض أخرى
فتتكامل .
ولو قال لنسائه وهن أربع : بينكن تطليقة تقع على كل واحدة تطليقة ، لأن الواحدة إذا
قسمت بينهن أصاب كل واحدة ربعها فتكمل ؛ وكذلك ثنتان أو ثلاث أو أربع ، لأن الثنتين
إذا قسمتا بينهن أصاب كل واحدة نصف ، ومن الثلاث ثلاثة أرباع فتكمل ، ومن الأربع كل
واحدة واحدة ، ولا يقسم كل واحدة لأن القسمة في الجنس الذي لا يتفاوت يقع على
جملته ؛ وإنما يقسم الآحاد إذا كانا متفاوتا ، فإن نوى قسمة كل واحدة بانفرادها وقع كذلك
لأنه شدد على نفسه ؛ ولو قال خمس طلقت كل واحدة ثنتين وكذلك إلى ثمانية ؛ ولو قال
تسع تطليقات طلقت كل واحدة ثلاثا لما مر ؛ ولو قال فلانة طالق ثلاثا وفلانة معها ، أو قال(3/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
أشركت فلانة معها في الطلاق طلقتا ثلاثا ثلاثا ؛ ولو قال لأربع نسوة أنتن طوالق ثلاثا طلقت
كل واحدة ثلاثا .
( ولو قال : أنت طالق من واحدة إلى ثلاث يقع ثنتان ، وإلى ثنتين تقع واحدة ) وقالا :
يقع في الأولى ثلاث ، وفي الثانية ثنتان وقد مرت في الإقرار ( ولو قال واحدة في ثنتين وقعت
واحدة ، وثنتين في ثنتين اثنتان ، وإن نوى الحساب ) وقد مر في الإقرار أيضا . قال : ( ولو قال
أنت طالق من هنا إلى الشام فهي واحدة رجعية ) لأنه لم يزدها وصفا بقوله إلى الشام لأنها
متى طلقت يقع في جميع الأماكن ( ولو قال أنت طالق بمكة أو في مكة طلقت في الحال في
جميع البلاد ) لما بينا ، وإن عنى به إذا أتيت مكة لم يصدق قضاء لأن الإضمار خلاف
الظاهر ، ولو قال : في دخولك مكة تعلق الطلاق بالدخول لأنه تعذر الظرفية والشرط قريب
من الظرف فيحمل عليه .
قال : ( ولو قال أنت طالق غدا تقع بطلوع الفجر ) لأنه وصفها بالطالقية في جميع الغد
فلزم أن تكون طالقا في جميعه ولا ذلك إلا بوقوعه في أول جزء منه ( ولو نوى آخر النهار
تصدق ديانة ) لا قضاء لأنه مخالفة للظاهر ، إلا أنه يحتمله لأنه تخصيص فيصدق ديانة ( ولو
قال في غد صحت قضاء أيضا ) لأنه حقيقة كلامه لأن الظرف لا يوجب استيعاب المظروف ،
وإنما يتعين الجزء الأول عند عدم النية لعدم المزاحمة ، وقالا : هو والأول سواء ، لأن المراد
منهما الظرفية لأن نصب غدا على الظرفية فلا فرق . وجوابه أن قوله غدا للاستيعاب ، ونظيره
قوله لا أكلمك شهرا وفي الشهر ، ودهرا وفي الدهر ؛ وإذا كان للاستيعاب فإذا نوى البعض
فقد نوى التخصيص كما بينا ، وعلى هذا الخلاف أنت طالق في رمضان ونوى آخره .
( ولو قال أنت طالق اليوم غدا ، أو غدا اليوم يؤخذ بأولهما ذكرا ) لأن قوله اليوم تنجيز
فلا يتأخر ، وقوله غدا إضافة ، والتنجيز إبطال للإضافة فيلغو . قال : ( لو قال أنت طالق قبل
أن أتزوجك فليس بشيء ) وكذا أمس وقد تزوجها اليوم لأنه أسند إلى حالة منافية لوقوع
الطلاق فلا يقع كقوله قبل أن أخلق ، ولو كان تزوجها أول من أمس وقع الساعة في الفصل
الثاني لأنه أوقع الطلاق في ملكه فيقع ( ولو قال أنت طالق ما لم أطلقك ، أو متى ما لم(3/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
أطلقك ، أو متى لم أطلقك وسكت طلقت ) لوجود شرط الوقوع بالسكوت ، وهو زمان خال
عن التطليق ، لأن هذه الألفاظ للوقت ؛ أما متى ومتى ما فحقيقة فيه ، وأما ما فإنه يستعمل
فيه ، قال تعالى : ) ما دمت حيا ( [ مريم : 31 ] وقت الحياة .
( وإن قال إن لم أطلقك ، أو إذا لم أطلقك ، أو إذا ما لم أطلقك لم تطلق حتى تموت )
لأن هذه الألفاظ للشرط فكان الطلاق معلقا بعدم التطليق فلا يتحقق العدم إلا بالموت ، أما
إن فظاهر ، وأما إذا وإذا ما فكذلك عنده ، وقالا : هما بمعنى متى ، قال تعالى : ) إذا ما
السماء انشقت ( [ الانشقاق : 1 ] وأمثالها والمراد الوقت ، ولأبي حنيفة أنها تستعمل للشرط
أيضا ، قال :
وإذا تصبك خصاصة فتحمل
جزم بها وهي دليل الشرطية ، وإذا استعملت في الأمرين لا يقع الطلاق بالشك
لاحتمال إرادة كل واحد منهما على الانفراد ، بخلاف قوله طلقي نفسك إذا شئت حيث لا
يخرج الأمر من يدها بالقيام عن المجلس ويحمل على الوقت لأنه لما احتملهما وقد ملكها
فلا يخرج الأمر من يدها بالشك ( ولو قال أنت طالق ثلاثا ما لم أطلقك أنت طالق فهي طالق
هذه الوحدة ) لأنه وجد شرط البر وهو عدم الوقت الخالي عن التطليق ( ولو قال أنا منك
طالق لم يقع شيء وإن نوى ، ولو قال أنا منك بائن أو عليك حرام ونوى الطلاق فواحدة
بائنة ) والفرق أن الطلاق إزالة القيد ، والقيد قائم بالمرأة دون الرجل ، أو لإزالة الملك وهي
المملوكة وهو المالك ؛ أما الإبانة فلقطع الوصلة والتحريم لرفع الحل والوصلة ، والحل
مشترك بينهما فصح إضافتهما إليهما دون الطلاق .
( ولو قال أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه الثلاث فثلاث ، وبالواحدة واحدة ، وبالثنتين
ثنتان ، والمعتبر المنشورة ) لأنها للإعلام بالعدد ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الشهر هكذا(3/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
وهكذا وهكذا وخنس إبهامه ' وأراد في النوبة الثالثة التسعة وعليه العرف ، ولو أراد
المضمومتين أو الكف لم يصدق قضاء لأنه خلاف الظاهر ( وإن أشار بظهورها فالمعتبر
المضمومة ) لأنه يريد إعلام العدد بقدر المضمومة رجوعا إلى العادة بين الناس ؛ ولو وقال
أنت طالق ولم يقل هكذا وقعت واحدة ، لأنه لما لم يذكر العدد بقي مجرد قوله أنت طالق
فتقع واحدة ؛ ولو قال أنت طالق واحدة أو قال ثنتين أو قال ثلاثا فماتت بعد قوله أنت طالق
قبل ذكر العدد لم يقع شيء ، لأنه متى ذكر العدد فالواقع هو العدد ، فإذا ماتت قبل ذكر
العدد فات المحل قبل الإيقاع فبطل ؛ وفي الفتاوى : إذا قال أنت طلقت كذا كذا طلقت ثلاثا ،
لأنه إذا أقر بكذا كذا لزمه أحد عشر على ما عرف ، فكأنه قال أنت طالق أحد عشر ؛ ولو
قال كذلك طلقت ثلاثا كذلك هنا .
فصل في وصف الطلاق
أصله أنه متى وصف الطلاق بوصف لا يوصف به ولا يحتمله وقع الطلاق وبطل
الوصف كقوله أنت طالق طلاقا لم يقع ، فإنه يقع واحدة لأن الطلاق لم يوصف بذلك ،
ومتى وقع الطلاق لا يرتفع ؛ وكذا إذا قال أنت طالق وأنا بالخيار ثلاثة أيام يقع ويبطل
الشرط ، ومتى وصفه بوصف يوصف به ، فلا يخلو إما إن كان ينبئ عن زيادة شدة وغلظة
أو لا ، فإن كان لا ينبئ عن ذلك فهو رجعي ، وإن كان ينبئ فهو بائن ؛ مثال الأول : أنت
طالق أفضل الطلاق أو أكمله أو أحسنه أو أعدله أو أسنه أو خيره فإنه تقع واحدة رجعية ،
لأنه لا وصف لها ينبئ عن الشدة ، والبينونة وصف شدة فلا يقع .
( و ) مثال الثاني ( لو قال : أنت طالق بائن أو أفحش الطلاق أو أخبثه أو أشده أو أعظمه
أو أكبره أو أشره أو أسوأه أو طلاق الشيطان أو البدعة أو كالجبل أو ملء البيت ، أو تطليقة
شديدة أو طويلة أو عريضة فهي واحدة بائنة ) لأن هذه الأوصاف تنبئ عن الشدة ، والبائن :
هو الشديد الذي لا يقدر على رجعتها ، بخلاف الرجعي لأنه ليس بشديد عليه حتى يملك
رجعتها بدون أمرها . قال : ( وإن نوى الثلاث فثلاث ) لأن الشدة والبدعة وطلاق الشيطان
يتنوع إلى نوعين : شدة ضعيفة وقوية ، فالضعيفة الواحدة البائنة ، فعند عدم النية يتصرف إليها(3/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
للتيقن ؛ وإذا نوى الثلاث فقد نوى أحد نوعيه فيصدق ، وكذا لو قال أنت طالق كألف لأنه
يشبه بها في القوة . قال :
وواحد كالألف إن أمر عنى
ويشبه بها في العدد فأيهما نوى صح ، وعند عدمها يثبت الأقل لما مر . وعند محمد
أنه يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد فالظاهر هو التشبيه في العدد . ثم عند أبي حنيفة
ومحمد متى شبه الطلاق فهو بائن ، لأن التشبيه يقتضي زيادة الوصف وذلك بالبينونة ، لأن
عند عدم التشبيه يكون رجعيا ، وعند أبي يوسف ، وقيل هو قول محمد إن ذكر العظم كان
بائنا وإلا فلا ، وسواء كان المشبه به عظيما في نفسه أو لا لأنه يحتمل التشبيه في نفس
التوحيد ، فإذا ذكر العظم علمنا أنه أراد الزيادة .
وعند زفر إن شبهه بما هو عظيم في نفسه كان بائنا وإلا فهو رجعي ، والخلاف يظهر
في قوله : أنت طالق مثل رأس الإبرة ، مثل عظم رأس الإبرة ، مثل الجبل ، مثل عظم
الجبل ، فعند أبي حنيفة هو بائن في الجميع ، وعند أبي يوسف هو بائن في الثانية والرابعة ،
رجعي في الباقي ؛ وعند زفر هو بائن في الثالثة والرابعة ، رجعي في الباقي ؛ ولو قال أنت
طالق مثل عدد كذا لشيء لا عدد له كالشمس والقمر فواحدة بائنة عند أبي حنيفة ، رجعية
عند أبي يوسف ؛ ولو قال كالنجوم فواحدة عند محمد ، لأن معناه كالنجوم ضياء إلا أن ينوي
العدد فثلاث ؛ ولو قال أنت طالق لا قليل ولا كثير يقع ثلاثا ؛ ولو قال لا كثير ولا قليل تقع
واحدة فيثبت ضد ما نفاه أولا ، لأن بالنفي ثبت ضده فلا يرتفع ؛ ولو طلق امرأته واحدة
رجعية ثم قال جعلتها بائنة أو ثلاثا يكون كذلك عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف : يصير بائنا
لا ثلاثا لأن الواحدة لا تحتمل العدد وتحتمل التبديل إلى صفة أخرى . وقال محمد : لا
يكون بائنا ولا ثلاثا لأنه إذا وقع بصفة لا يملك تغييره لأن تغيير الواقع لا يصح . ولأبي
حنيفة أن الإبانة مملوكة له فيملك إثباتها بعد الإيقاع ويملك إيقاع العدد فيملك إلحاق الثنتين
بالواحدة وضمهما إليها .
فصل
( ومن طلق امرأته قبل الدخول ثلاثا وقعن ) لأن قوله أنت طالق ثلاثا إيقاع لمصدر
محذوف تقديره طلاقا ثلاثا فيقعن جملة ، وليس قوله أنت طالق إيقاعا على حدة ( ولو قال
أنت طالق وطالق ، أو طالق طالق ، أو واحدة وواحدة ، أو واحدة قبل واحدة ، أو بعدها واحدة
وقعت واحدة ) لأنه ما لم يعلق الكلام بشرط أو يذكر في آخره ما يغير صدره كان كل لفظ
إيقاعا على حدة ، فيقع الأول وتبين لا إلى عدة فتصادفها الثانية وهي بائن فلا تقع . وأما(3/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
القبلة والبعدية فالأصل فيها أنه متى ذكر حرف الظرف مقرونا بهاء الكناية بين طلاقين كان
الظرف صفة للمذكور آخرا ، وإن لم يقرنه بهاء الكناية فهو صفة للمذكور أولا ، مثاله جاءني
زيد قبله عمرو ، وجاءني زيد قبل عمرو ، فالقبلية في الأول صفة لعمرو ، وفي الثاني صفة
لزيد ، فقوله أنت طالق واحدة قبل واحدة ، فالقبلية صفة للأولى ، والإيقاع في الماضي إيقاع
للحال ، لأن الإخبارات إنشاءات شرعا فوقعت الواحدة فبانت بها فلا يقع ما بعدها ، وقوله
بعدها واحدة فالبعدية صفة للأخيرة وقد حصلت الإبانة قبلها فلا يقع .
( ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة ، أو بعد واحدة فثنتان ) لأن القبلية صفة للأخرى
فاقتضى إيقاعها في الماضي وإيقاع الأولى في الحال ، وقد بينا أن الإيقاع في الماضي إيقاع
في الحال فيقترنان . وفي المسألة الثانية البعدية صفة للأولى فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال
وإيقاع أخرى قبلها فيقترنان ( ولو قال مع واحدة أو معها واحدة فثنتان أيضا ) لأن كلمة مع
للمقارنة ( ولو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة فدخلت وقعت واحدة ) وقالا
ثنتان ( ولو قال أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار فدخلت وقعت ثنتان ) بالإجماع .
لهما أن حرف الواو للجمع المطلق ، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ، ولا فرق
بينهما إذا أخر الجزاء أو قدمه لأنه تعليق بحرف الجمع . وله أن الشرط إذا تأخر بغير صدر
الكلام فيتوقف عليه جميع الكلام فتقع جملة ، أما إذا تقدم لا مغير له فلا يتوقف ، والجميع
يحتمل الترتيب ويحتمل القران ، فعلى تقدير احتمال الترتيب لا تقع إلا واحدة كما إذا صرح
به فلا يقع الزائد عليه بالشك ؛ ولو عطف بحرف الفاء .
قال الكرخي : هو على الخلاف ، وقال أبو الليث : تقع واحدة بالإجماع لأن الفاء
للتعقيب ، قالوا : وهو الأصح ، ولو قال لغير المدخول بها أنت طالق طالق إن دخلت الدار
بانت بالأولى ولم تتعلق بالثانية ، وفي المدخول بها تقع واحدة للحال وتتعلق الثانية
بالدخول .
فصل
( وكنايات الطلاق لا يقع بها إلا بنية أو بدلالة الحال ) لاحتمالها الطلاق وغيره لأنها غير
موضوعة له فلا يتعين إلا بالتعيين ، وهو أن ينوبه أو تدل عليه الحال فتترجح إرادته . قال : ( ويقع(3/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
بائنا ) لأنه يملك إيقاع البائن وأنه أحد نوعي البينونة فيملكه كالثلاث وقد أوقعه بقوله أنت
بائن أو أنت طالق بائن أو أبنتك بطلقة ونحو ذلك ، فإن هذه الألفاظ تدل على البينونة
بصريحها ومعناها ، فإن قوله بائن صريح : وبتة وبتلة ينبئان عن القطع وذلك في البائن دون
الرجعي ، وكذا سائر الألفاظ إذا تأملت معناها .
قال : ( إلا اعتدّي واستبرئي رحمك وأنت واحدة فيقع بها واحدة رجعية ) لأن قوله
اعتدّي يحتمل اعتدّي نعم الله تعالى ، ويحتمل اعتدّي عدة الطلاق فإذا نواها يصير كأنه قال
طلقتك فاعتدّي ، وذلك يوجب الرجعة . وأما قوله استبرئي رحمك فلأنه يستعمل للعدة إذ هو
المقصود منها ، ويحتمل استبرئي لأطلقك ، فإن نوى الأول كان في معناه فيكون رجعيا لما
مر ، وقوله أنت واحدة يصلح نعتا لمصدر محذوف ويصلح وصفا لها بالتوحيد عنده ، فإذا
نوى الطلاق تعين الأول ومثله جائز كقوله : أعطيتك جزيلا : أي عطاء جزيلا ، وإذا احتمله
فإذا نواه تعين مجملا فيصير كأنه قال أنت طالق طلقة واحدة ؛ ولو قال ذلك كان رجعيا فكذا
هذا ، ولهذا قال بعض أصحابنا : إذا أعرب الواحدة بالرفع لا يقع شيء وإن نوى لأنه صفة
لشخصها ، وإن أعرب بالنصب تقع واحدة من غير نية لأنه نعت مصدر محذوف ، وإن سكن
يحتاج إلى نيته ، وعامة المشايخ قالوا : الكل سواء ، لأن العامة لا يميزون بين ذلك فلا يبنى
حكم يرجع إليهم عليه ، ولا يقع بهذه الألفاظ الثلاثة إلا واحدة ، لأن قوله أنت طالق مضمر
فيها أو مقتضى ، ولو أظهر لا يقع إلا واحدة لما بينا ، كذا هذا .
قال : ( وألفاظ البائن قوله : أنت بائن ، بتة ، بتلة ، حرام ، حبلك على غاربك ، خلية ،
برية ، الحقي بأهلك ، وهبتك لأهلك ، سرحتك ، فارقتك ، أمرك بيدك ، تقنعي ، استتري ، أنت
حرة ، اغربي ، اخرجي ابتغي الأزواج ؛ ويصح فيها نية الواحدة والثلاث ) لأن البينونة خفيفة
وغليظة فأيهما نوى صح ، وإن نوى نفس الطلاق فواحدة لأنه الأدنى ( ولو نوى الثنتين
فواحدة ) لأنهما عدد واللفظ لا يدل على العدد ، وفيه خلاف زفر وقد تقدم ، ولا يقع إلا
بالنية أو في حال مذاكرة الطلاق لأنه دليل عليه فيقع في القضاء ولا يقع ديانة إلا بالنية ،
وتقع واحدة لأنه أدنى .
ثم هي ثلاثة أقسام : منها ما يصلح جوابا لا غير ، وهي ثلاثة : أمرك بيدك ، اختاري ،
اعتدّي . ومنها ما يصلح جوابا وردا لا غير وهي سبعة : اخرجي ، اذهبي ، اغربي ، قومي ،
تقنعي ، استتري ، تخمري . ومنها ما يصلح جوابا وردا وشتيمة وهي خمسة : خلية ، برية ،(3/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
بتة ، بائن ، حرام . وعن أبي يوسف أنه ألحق بالقسم الأول خمسة أخرى : خليت سبيلك ،
سرحتك ، لا ملك لي عليك ، لا سبيل لي عليك ، الحقي بأهلك . والأحوال ثلاثة : حالة
مطلقة وهي حالة الرضا ، وحالة مذاكرة طلاقها ، وحالة غضب . أما حالة الرضا فلا يقع
الطلاق بشيء من ذلك إلا بالنية لما تقدم ، والقول قول الزوج في عدم النية لأنه لا يطلع
غيره عليه والحال لا يدل عليه . وفي حال مذاكرة الطلاق يقع الطلاق قضاء ولا يصدق على
عدمه إلا فيما يصلح جوابا وردا لأنه لا يحتمل الرد وهو الأدنى فيصدق فيه . وفي حالة
الغضب يصدق إلا فيما يصلح جوابا لا غير ، لأنه يصلح للطلاق الذي يدل عليه الغضب
فيجعل طلاقا .
قال : ( ولو قال لها اختاري ينوي الطلاق فلها أن تطلق نفسها في مجلس علمها ) فإن
كانت حاضرة فبسماعها ، وإن كانت غائبة فبالإخبار لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة
رضي الله عنهم ، ولأنه ملكها فعل الاختيار ، والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كالبيع
والهبة ونحوهما ( ويبطل خيارها بالقيام ) لأنه دليل الإعراض ( وبتبدل المجلس ) حقيقة بالانتقال
إلى مجلس آخر ، ومعنى بتبدل الأفعال فمجلس الأكل غير مجلس القتال ، ومجلس القتال
غير مجلس البيع والشراء ؛ ويبطل بتبدل المجلس . وإن كانت معذورة فإن محمدا رحمه الله
قال : إذا أخذ الزوج بيدها وأقامها من المجلس بطل خيارها ، ولو كانت في صلاة مكتوبة أو
وتر فأتمها لا يبطل ، وكذا في التطوع إن تمت ركعتين لأنها ممنوعة عن قطعها ، وإن تمت
أربعا بطل لأن الزيادة على ركعتين في النفل كالدخول في صلاة أخرى . وعن محمد في
الأربع قبل الظهر لا تبطل وإن أتمتها أربعا ، وهو الصحيح ، ولو كانت قائمة فقعدت فهي
على خيارها لأنه دليل التروي ، فإن القعود أجمع للرأي ، وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت ، أو
متكئة فقعدت ، لأنه انتقال من جلسة إلى جلسة وليس بإعراض ، كما إذا تربعت بعد أن كانت
محتبية . وقيل إذا كانت قاعدة فاتكأت بطل خيارها لأنه إظهار للتهاون بالأمر فكان إعراضا ،
والأول أصح ، ولو كانت قاعدة فاضطجعت فعن أبي يوسف روايتان ، وإن كانت تسير على
دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها ، وإن سارت بطل خيارها ، إلا أن تختار مع
سكوت الزوج ، لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها ، فإذا سارت كان كمجلس آخر .
( فإذا اختارت نفسها فهي واحدة بائنة ) لأن اختيارها نفسها يوجب اختصاصها بها دون
غيرها وذلك بالبينونة ( ولا يكون ثلاثا وإن نواها ) لأن الاختيار لا يتنوع ( ولا بد من ذكر
النفس أو ما يدل عليه في كلامه أو كلامها ) مثل أن يقول اختاري نفسك فتقول اخترت ، أو(3/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
يقول لها اختاري فتقول اخترت نفسي لأن ذلك عرف بإجماع الصحابة ، وأنه المفسر من أحد
الجانبين ، ولأن المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم ، حتى لو قال لها اختاري ، فقالت اخترت
فليس بشيء ، لأن الاختيار ليس من ألفاظ الطلاق وضعا ، وإنما جعل بالسنة فيما إذا كان
مفسرا ، فإذا لم يكن كذلك لا يقع به شيء ، ولأن قوله اختاري ، وقولها اخترت ليس له
مخصص بها فلا يقع الطلاق ، فإذا ذكرت النفس تخصص الاختيار لها فيقع . وقال في
المحيط : ولا بد من ذكر النفس أو التطليقة أو الاختيارة في أحد الكلامين لوقوع الطلاق ؛
أما ذكر النفس فلما ذكرنا ؛ وأما ذكر التطليقة فظاهر ؛ وأما الاختيارة فلأن الهاء تنبئ عن
التفرد ، واختيارها نفسها هو الذي يتحد مرة ويتعدد أخرى ، فصار مفسرا من جانبه . والقياس
أن لا يقع بالتخيير طلاق وإن نوى ، لأنه لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ فلا يملك
التفويض إلى غيره ، ولأن قولها أنا أختار نفسي يحتمل الوعد فلا يكون جوابا مع الاحتمال .
وجه الاستحسان إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولأن الشرع جعل هذا إيجابا وجوابا لما
روي أنه لما نزل قوله تعالى : ) يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا
وزينتها ( [ الأحزاب : 28 ] الآية ، ' بدأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعائشة رضي الله عنها ، فقال : إني
أخبرك بشيء فما عليك إلا تجيبيني حتى تستأمري أبويك ثم أخبرها بالآية ، فقالت : أفي هذا
أستأمر أبوي يا رسول الله ؟ لا ، بل أختار الله ورسوله ' وأرادت بذلك الاختيار للحال ،
وأعده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جوابا وإيجابا ، ولأن له أن يستديم النكاح وله أن يفارقها ، فله أن
يقيمها مقام نفسه في ذلك .
( ولو قال لها : اختاري اختاري اختاري ، فقالت : اخترت اختيارة ، أو قالت : اخترت
الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهي ثلاث ) ولا يحتاج إلى نية الزوج ، لأن تكرار هذا الكلام إنما
يكون في الطلاق دون غيره . أما قولها اختيارة فلأنها للمرة ، ولو صرحت بالمرة كانت ثلاثا
فكذا هذا ، ولأنها للتأكيد والتأكيد بوقوع الثلاث . وأما قولها الأولى أو الوسطى أو الأخيرة
فمذهب أبي حنيفة . وقالا تقع واحدة ، لأن ذكر الأولى أو الوسطى أو الأخيرة إن كان لا يفيد
الترتيب يفيد الإفراد لأنه يدل عليه فيعتبر فيه . وله أنها إنما تنصرف فيما ملكته ، إذ المجتمع
في الملك كالمجتمع في المكان ، وذلك لا يحتمل الترتيب ، فإن القوم المجتمعين في مكان
لا يقال هذا أول وهذا آخر ، ويقال هذا جاء أولا وهذا آخرا ، فيكون الترتيب في مجيئهما لا
في ذاتهما ، وإذا كان كذلك لغا قولها الأولى أو الوسطى فبقي قولها اخترت ؛ ولو قالت
اخترت وسكتت وقعت الثلاث كذا هذا . ( ولو قالت : طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة(3/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
فهي رجعية ) لأنها اختارت نفسها بعد انقضاء العدة ، لأن هذا يوجب الانطلاق بعد انقضاء
العدة ( ولو قال : اختاري نفسك أو أمرك بيدك بتطليقة فاختارت نفسها فهي واحدة رجيعة )
لأن ذكر الطلاق يعقب الرجعة ، وصار كأنه قال : طلقي نفسك ( ولو خيرها فقالت : اخترت
نفسي لا بل زوجي لا يقع ) لأنه للإضراب عن الأول فلا يقع ( ولو قالت : نفسي أو زوجي لا
يقع ) لأن أو للشك فلا يقع الطلاق بالشك ، وخرج الأمر من يدها لاشتغالها بشيء آخر ( ولو
قالت : نفسي وزوجي طلقت ) ولا يصح العطف ( والأمر باليد كالتخيير يتوقف على المجلس )
على ما ذكرنا ( إلا أنه إذا قال : أمرك بيدك ونوى الثلاث صح ) لأنه يحتمل العموم
والخصوص ، والاختيار لا يحتمل العموم ، فإن الأمر باليد ينبئ عن التمليك وضعا ، قال
تعالى : ) والأمر يومئذ لله ( [ الانفطار : 19 ] والاختيار عرف تمليكا شرعا لا وضعا ،
والإجماع انعقد في الطلقة الواحدة لا غير ، فلهذا صحت نية الثلاث في الأمر باليد دون
التخيير .
( ولو قالت في جواب الأمر باليد : اخترت نفسي بواحدة فهي ثلاث ) لأنها صفة
الاختيارة ، لأن الاختيارة تصلح جوابا للأمر باليد لكونه تمليكا كالتخيير فصار كما إذا
قالت : اخترت نفسي مرة واحدة ، وبذلك يقع الثلاث ( ولو قال لها : أمرك بيدك فاختارت
نفسها ) قيل لا يقع ، والأصح أنه ( يقع ) ولو قال لها : إن دخلت الدار فأمرك بيدك إن
طلقت نفسها كما وقعت قدمها فيها طلقت ، وإن طلقت بعد ما مشت خطوتين لم تطلق
( ولو قال لها : طلقي نفسك فلها أن تطلق في المجلس ) لأن المرأة لا تكون وكيلة في حق
نفسها فكان تمليكا .
( وتقع واحدة رجعية ، وليس له أن يرجع عنه ) لأنه تمليك فيه معنى التعليق ، لأنه علّق
الطلاق بتطليقها ، وكذا قوله أنت طالق إن شئت أو أحببت أو هويت أو أردت أو رضيت ،
لأن كله تعليق بفعل القلب فهو كالخيار ( وإن طلقت نفسها ثلاثا وقد أرادها الزوج وقعن ) لأن
معناه افعلي الطلاق وهو اسم جنس فيتناول الأدنى مع الجميع كسائر أسماء الأجناس فتصح
نية الثلاث وينصرف إلى الأدنى عند عدمها على ما مر ( ولا تصح نية الثنتين ) لأنه عدد خلافا(3/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
لزفر وقد بيناه ( إلا أن تكون أمة فيصح ) لأنه الجنس في حقها ( ولو كانت حرة وقد طلقها
واحدة لا تصح نية الثنتين ) لأنه ليس بجنس في حقها .
( ولو قالت : أبنت نفسي طلقت واحدة رجعية ) لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق ، إلا أنها
زادت فيها وصف الإبانة فيلغو ، كما إذا قالت طلقت نفسي بائنة . وعن أبي حنيفة : لا يقع
شيء لأنها أتت بغير ما فوض إليها ، ويتقيد بالمجلس كما في المخيرة لأنه تمليك أيضا ( ولو
قال لها : أمرك بيدك ، فقالت : أنت عليّ حرام ، أو أنت مني بائن ، أو أنا عليك حرام ، أو أنا
منك بائن ، فهو جواب وطلقت ) لأن هذه الألفاظ تفيد الطلاق كما إذا قالت طلقت نفسي ،
وله قالت أنت مني طالق لم يقع شيء ( ولو قالت : أنا منك طالق ، أو أنا طالق وقع ) لأن
المرأة توصف بالطلاق دون الرجال ( ولو قال لها : طلقي نفسك متى شئت ، أو متى ما شئت ،
أو إذا شئت ، أو إذا ما شئت لا يتقيد بالمجلس ) لأنها لعموم الأوقات كأنه قال : في أي وقت
شئت ، وهذا في متى ومتى ما ظاهر ؛ وأما إذا وإذا ما فقد سبق الكلام فيه والعذر عنه .
( ولو ردته لا يرتد ) لأنه ملكها الطلاق في أي وقت شاءت فلم يكن تمليكا قبل المشيئة
فلا يرتد بالرد ( وكذا لو قال لغيره : طلق امرأتي ) لا يتقيد بالمجلس لأنه توكيل ( ولو قال له :
إن شئت اقتصر على المجلس ) وقال زفر : هو والأول سواء لأنه توكيل كما إذا سكت عن
المشيئة . ولنا أنه تمليك حيث علقه بالمشيئة ، والمالك يتصرف بالمشيئة ، والتمليك يقتصر
على المجلس لما عرف ؛ ولو قال لها : أنت طالق إن أحببت ، فقالت : شئت وقع ؛ ولو قال
إن شئت فقالت : أحببت لا يقع ؛ والفرق أن المشيئة إرادة وإيجاب وفيها معنى المحبة وزيادة
فقد وجد الشرط في الأولى وزيادة والمحبة ليس فيها إيجاب فلم يوجد في المسألة الثانية
المشيئة بتلك الصفة فلم يوجد الشرط .
( ولو قال لها : طلقي نفسك كلما شئت فلها أن تفرق الثلاث ) لأن كلما تقتضي تكرار
الفعل ويقتصر على المملوك من الطلاق في النكاح القائم حتى لو طلقها ثلاثا عادت إليه بعد
زوج آخر لا تملك التطليق ( وليس لها أن تجمعها ) لأنها توجب عموم الانفراد لا عموم
الاجتماع وقال زفر : لا يقتصر على المملوك في النكاح حتى كان لها أن تطلق نفسها بعد(3/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
زوج آخر عملا بحقيقة كلمة كلما . ولنا أنه تمليك فلا يصح إلا فيما هو في ملكه ، ولا
يملك أكثر من الثلاث ، وعلى هذا الإيلاء إذا وقع به ثلاث طلقات ثم عادت إليه لا يعود
الإيلاء عندنا ، وعنده يعود ( ولو قال : طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة فهي واحدة ) لأنها
أوقعت بعض ما ملكت ( ولو قال : واحدة فطلقت ثلاثا لم يقع شيء ) عند أبي حنيفة ، وقالا :
تقع واحدة لأنها ملكت الواحدة ، وقد أتت بالزيادة عليها فتلغو كما إذا قال لها أنت طالق
أربعا ، فإنه يقع الثلاث ويلغو الزائد . وله أن الواحدة غير الثلاث لفظا ومعنى فقد أتت بغير
ما ملكها فكان كلاما مبتدأ فلا يقع ، بخلاف الزوج لأنه يملك الثلاث فيتصرف فيها بحكم
الملك ، والزائد عليها لغو فبطل .
( ولو قال لها : طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة ، فقالت : طلقت نفسي واحدة بائنة
فهي رجعية ) لأنها أتت بالأصل فصح ووقع ما أمرها به ثم أتت بزيادة وصف فيلغو إذ لا
حاجة له ( ولو قال : واحدة بائنة ، فقالت : طلقت رجعية فهي بائنة ) لما قلنا ( ولو قال لها :
أنت طالق كيف شئت وقعت واحدة رجعية وإن لم تشأ ، فإن شاءت بائنة أو ثلاثا وقد أراد
الزوج ذلك وقع ) للاتفاق بين إرادته ومشيئتها ( وإن اختلفت مشيئتها وإرادته فواحدة رجعية )
لأنها لما خالفته لغا تصرفها فبقي أصل الإيقاع . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يقع شيء ما لم
توقع المراد فتشاء ثلاثا أو واحدة رجعية أو بائنة والعتق على هذا الخلاف . لهما أنه فوّض
إليها التطليق على أي صفة شاءت فوجب أن يتعلق بمشيئتها أصل الطلاق حتى تملك ذلك
قبل الدخول وبعده ، ولو وقع بمجرد إيقاعه لا يملك قبل الدخول . ولأبي حنيفة أن كيف
للاستيصاف فتقتضي ثبوت أصل الطلاق ، ويكون التفويض إليها في الصفة عملا بحقيقة كلمة
كيف .
( ولو قال : أنت طالق ما شئت أو كم شئت فلها أن تطلق نفسها ما شاءت ) لأنهما
يستعملان للعدد فقد فوض إليها أي شيء شاءت من العدد ( ولو قال لها : طلقي نفسك من
ثلاث ما شئت فليس لها أن تطلق ثلاثا وتطلق ما دونها ) وقالا : لها أن تطلق ثلاثا إن شاءت ،
لأن ما للعموم ومن تستعمل للتمييز فيحمل على تمييز الجنس كقوله : كل من طعامي ما(3/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
شئت . ولأبي حنيفة أن من حقيقة للتبعيض ، وما للتعميم فيعمل بهما ، فجعلنا المفوض إليها
بعض الثلاث ، لكن بعضا له عموم وهو ثنتان ، وإنما ترك التبعيض في النظير لدلالة الحال ،
وهو إظهار السماحة والكرم .
ولو قال : إن شئت فأنت طالق إذا شئت ، فهما مشيئتان : إحداهما على المجلس ،
والثانية مطلقة معلقة بالوقت ، فإن قامت بطلتا أما المؤقتة فلتوقتها بالمجلس ، وأما المطلقة
فلتعلقها بها ، وإن شاءت يصير كأنه قال لها في ذلك الوقت : أنت طالق إذا شئت ، ولو قيل
له : ألك امرأة ؟ قال : لا ونوى الطلاق وقع ، ذكره في المحيط وقال هو الصحيح ؛ وكذا لو
قالت : لست لي بزوج ، فقال الزوج : صدقت ونوى الطلاق ؛ وكذا قوله : لست لي بامرأة ،
أو ما أنت لي بامرأة ، أو لست لك بزوج ، أو ما أنا لك بزوج ونوى الطلاق يقع ؛ وقالا : لا
يقع لأنه إخبار كذب فلا يقع وإن نوى . وله أنه يحتمل الطلاق بالإضمار تقديره : لست لي
بامرأة لأني طلقتك ، وإذا احتمل ذلك ونواه صحت نيته فيقع الطلاق .
ولو قال له آخر : هل امرأتك إلا طالق ؟ فقال الزوج : لا طلقت ولو قال نعم لا تطلق ،
لأن قوله نعم معناه نعم امرأتي غير طالق ، وقوله لا معناه ليس امرأتي إلا طالق ؛ ولو قال
لامرأته : قولي أنا طالق لم تطلق حتى تقول لأنه أمر بالإنشاء ؛ ولو قال لغيره : قل لامرأتي
إنها طالق طلقت قال أو لم يقل ، لأنه أمره بالإخبار وأنه يستدعي سبق المخبر به ؛ ولو قال
له آخر : إن لم تقض حقي اليوم فامرأتك طالق ، قال نعم وأراد جوابه انعقدت يمينه ، لأن
الجواب يستدعي إعادة السؤال ، فكأنه قال : نعم امرأتي طالق إن لم أقض حقك ؛ ولو قال
لها : اعتدي اعتدي اعتدي وقال نويت واحدة صدق ديانة ويقع ثلاثا في القضاء ؛ ولو قال :
عنيت بالثانية العدة صدق قضاء ؛ ولو قال : نويت بالأولى طلاقا ولم أنو بالثانية والثالثة شيئا
فهي ثلاث لأنهما في حال مذاكرة الطلاق فتتعين له .
ومن الكنايات الكتابة ، فإذا كتب طلاق امرأته في كتاب أو لوح أو على حائط أو أرض
لا يقع إلا بنية . وأصله أن الكتابة حروف منظومة تدل على معان مفهومة كالكلام ، وكتب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قامت مقام قوله في الدعاء إلى الإسلام حتى وجب على كل ممن بلغته ،
فنقول : إذا كتب ما لا يستبين أو كتب في الهواء فليس بشيء ، لأن ما لا يستبين في الكتابة
كالمجمجة والكلام الغير المفهوم ، وإذا كتب ما يستبين فلا يخلو إما إن كان على وجه
المخاطبة أو لا ، فإن لم يكن على وجه المخاطبة مثل أن يكتب امرأته طالق فإنه يتوقف على
النية ، لأن الكتابة تقوم مقام الكلام كالكتابة مع الصريح ، وإن كتب على وجه الخطاب(3/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
والرسالة مثل أن يقول : يا فلانة أنت طالق ، أو إذا وصل إليك كتابي فأنت طالق ، فإنه يقع به
الطلاق من غير نية ، ولا يصدق لأنه ما نوى أنه ظاهر فيه ، ثم إن كان بغير تعليق وقع للحال
كأنه قال لها أنت طالق ، وإن كان معلقا بأن كتب إذا جاءك كتابي فأنت طالق لا يقع حتى
يصل إليها ، لأنه علق الوقوع بالشرط فلا يقع قبله ، كما إذا علقه بدخول الدار ، فإن وصل
الكتاب إلى أبيها فمزقه ولم يدفعه إليها إن كان هو المتصرف في أمورها وقع الطلاق لأنه
كالوصول إليها ، وإن لم يكن هو المتصرف في أمورها لا يقع وإن أخبرها ما لم يدفعه إليها
كأنه كالأجنبي .
قال : ( وألفاظ الشرط : إن وإذا وإذا ما ومتى ومتى مما وكل وكلما ) لأنها مستعملة فيه
وضعا . أما إن فشرط محض ليس فيه معنى الوقت وما وراءها فيها معنى الوقت على ما
بيناه ؛ وكلمة كل ليست بشرط لأنها يليها الاسم ، والشرط ما يليه الفعل لأنه يتعلق به الجزاء
وهو فعل ، إلا أنه لتعلق الفعل بالاسم الذي يليها ألحق بالشرط مثل قوله : كل عبد اشتريته
فهو حر .
قال : ( فإذا علق الطلاق بشرط وقع عقيبه وانحلت اليمين وانتهت ) لأن الفعل إذا وجد
ثم الشرط فلا تبقى اليمين ( إلا في كلما ) فإنها لعموم الأفعال ، قال تعالى : ) كلما نضجت
جلودهم ( [ النساء : 56 ] الآية ، وإذا كانت للعموم يلزم التكرار ضرورة حتى تقع الثلاث
المملوكات في النكاح القائم ، فلو تزوجها بعد زوج آخر ووجد الشرط لم يقع شيء خلافا
لزفر لمقتضى العموم . ولنا أنه إنما علق ما يملكه من الطلقات ، وقد انتهى ذلك وهو الجزاء
فتنتهي اليمين ضرورة .
قال : ( ولا يصح التعليق إلا أن يكون الحالف مالكا كقوله لامرأته : إن دخلت النار
فأنت طالق ، أو يقول لعبده : إن كلمت زيدا فأنت حر ، أو يضيفه إلى ملك كقوله لأجنبية :
إن تزوجتك فأنت طالق ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، أو كل عبد أشتريه فهو حر ) لأنه
لا بد أن يكون الجزاء ظاهرا ليكون مخوفا ليتحقق معنى اليمين وهو القوة على المنع أو
الحمل ، ولا ظهور له إلا بأحد هذين . قال ( وزوال الملك لا يبطل اليمين ) لأنه لم يوجد
الشرط ( فإن وجد الشرط في ملك انحلت ) اليمين ( ووقع الطلاق ) لأن الشرط وجد والمحل(3/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
قابل للجزاء فينزل وينتهي اليمين لما مر ( وإن وجد في غير ملك انحلت ) لوجود الشرط ( ولم
يقع شيء ) لعدم قبول المحل ؛ في كلما لا تنحل اليمين بوجود الشرط حتى يقع الثلاث
على ما بيناه ( وإذا اختلفا في وجود الشرط فالقول للزوج ) لأنه منكر ومتمسك بالأصل وهو
العدم ( والبينة للمرأة ) لأنها مدعية مثبتة . قال : ( وما لا يعلم إلا من جهتها فالقول في حق
نفسها ، كقوله : إن حضت فأنت طالق وفلانة ، فقالت حضت طلقت هي خاصة ) والقياس أن
لا تطلق لأنه شرط كغيره من الشروط . وجه الاستحسان أنها أمينة في ذلك ولا يعرف إلا من
جهتها ، وقد اعتبر الشرع قولها في ذلك في العدة والوطء ، فكذا هذا إلا أنه في حق ضرتها
شهادة وهي متهمة فلا يقبل قولها وحدها . قال : ( وكذا التعليق بمحبتها ) وهو أن يقول : إن
كنت تحبيني فأنت طالق وفلانة ، فقالت أحبك طلقت وحدها ( ولو قال : إن كنت تحبين أن
يعذبك الله بنار جهنم فأنت طالق وعبد حر ، فقالت أحب طلقت ولم يعتق العبد ) لما ذكرنا ،
ولا يتيقن كذبها لأنها قد تؤثر العذاب على صحبته لبغضها إياه ؛ ولو قال لها : إن كنت
تحبيني بقلبك فأنت طالق ، فقالت أحبك وهي كاذبة طلقت . وقال محمد : لا تطلق لأن
المحبة إذا علقت بالقلب يراد بها حقيقة الحب ولم يوجد . ولهما أن المحبة فعل القلب فيلغو
ذكر القلب فصار كما إذا أطلق ، ولو أطلق تعلق بالإخبار عن المحبة كذا هذا .
قال : ( ولو قال : إن ولدت غلاما ، فأنت طالق واحدة ، وإن ولدت جارية فثنتين
فولدتهما ولا يدري أيهما أولا طلقت واحدة ، وفي التنزه ثنتين ) لأن الواحدة متيقنة وفي الثانية
شك فلا يقع في القضاء ، والأحوط أن يأخذ بوقوع الثنتين وانقضت العدة بيقين ، لأن الطلاق
وقع بالولد الأول وانقضت العدة بالثاني . قال : ( ولو قال لها : إن جامعتك فأنت طالق ثلاثا
فأولجه ولبث ساعة فلا شيء عليه ، وإن نزعه ثم أولجه فعليه مهر ، ولو كان الطلاق رجعيا
تحصل المراجعة بالإيلاج الثاني ) .(3/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وعن أبي يوسف : أنه يجب المهر باللبث في الثلاث ويصير مراجعا به في الواحدة
لوجود الجماع بالدوام عليه ، إلا أنه لا يجب الحد للاتحاد . ولهما أن الجماع إدخال الفرج
ولا دوام للإدخال . أما إذا أخرج ثم أدخل وبطل الاستثناء ، ولو قال : أنت طالق ثلاثا ،
وثلاثا إلا أربعا وقع ثلاث ، فقد وجد الإدخال بعد الطلاق ، ولم يجب الحد لشبهة الاتحاد
من حيث المجلس والمقصود ، وإذا لم يجب الحد لم يجب العقر ، لأن الوطء لا يخلو عن
أحدهما .
فصل
( ولو قال لها : أنت طالق إن شاء الله ، أو ما شاء الله ، أو ما لم يشإ الله ، أو إلا أن
يشاء الله لا يقع شيء إن وصل ) والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : ' من حلف بطلاق
أو عتاق وقال إن شاء الله متصلا به لا حنث عليه ' ولأنه تعليق بشرط لا يعلم وجوده فلا
يقع بالشك ، إذ المعلق بالشرط عدم قبله ، وكذا إذا علقه بمشيئة من لا تعلم مشيئته من
الخلق كالملائكة والشيطان والجن ؛ ويصح الاستثناء موصولا لا مفصولا لما روينا ، ولأنه إذا
سكت ثبت حكم الأول ، فيكون الاستثناء أو التعليق بعده رجوعا عنه فلا يقبل ، ولو سكت
قدر ما تنفس أو عطس أو تجشأ أو كان بلسانه ثقل فطال تردده ثم قال إن شاء الله صح
الاستثناء ، وإن تنفس باختياره بطل ؛ ولو حرك لسانه بالاستثناء صح عند الكرخي وإن لم يكن
مسموعا . وقال الهندواني : لا يصح ما لم يكن مسموعا .
ولو قال أنت طالق فجرى على لسانه إن شاء الله من غير قصد بلا يقع كما لو قال أنت
طالق فجرى لسانه أو غير طالق ؛ ولو قال : أنت طالق ثلاثا ، وثلاثا إن شاء الله ، أو ثلاثا
وواحدة إن شاء الله بطل الاستثناء ، وقالا : هو صحيح ، وكذا لو قال لعبده : أنت حر وحر
إن شاء الله ، لأن الكلام واحد إنما يتم بآخره وأنه متصل . ولأبي حنيفة أنه استثناء منقطع لأن
قوله وثلاثا أو واحدة أو حر لغو لا فائدة فيه فكان قاطعا ؛ ولو قال : أنت طالق واحدة وثلاثا
إن شاء الله صح بالإجماع ، وكذلك أنت طالق وطالق وطالق إن شاء الله لأنه يتخلل بينهما
كلام لغو .
( ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة طلقت ثنتين ، ولو قال : إلا ثنتين طلقت واحدة )
وأصله أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا لأنه بيان أنه أراد ما تكلم بما وراء المستثنى .(3/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
( ولا يصح استثناء الكل من الكل ، فلو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا وقع الثلاث )
وبطل الاستثناء ، ولو قال : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا وقع ثلاث عند أبي حنيفة ، وعلى
قياس قولهما تقع واحدة بناء على ما تقدم ( ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة
وواحدة بطل الاستثناء ) لأنه استثنى الكل ( ولو قال : أنت طالق عشرة إلا تسعة وقعت واحدة ،
ولو قال : إلا ثمانية فثنتان ) وأصله أنه إذا أوقع أكثر من الثلاث ثم استثنى والكلام كله صحيح
فالاستثناء عامل في جملة الكلام ولا يكون مستثنيا من جملة الثلاث التي يصح وقوعها فيقع
الاستثناء من جملة الكلام ويقع ما بقي إن كان ثلاثا أو أقل ، لأن الاستثناء يتبع اللفظ ولا
يتبع الحكم . والجملة المتلفظ بها جملة واحدة فيدخل الاستثناء عليها فيسقط ما تضمنه
الاستثناء ، وتقع بقية الجملة إن كان مما يصح وقوعه .
ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة وقعت واحدة لأنه يجعل كل استثناء مما
يليه ، فإذا استثنيت الواحدة من الثلاثة بقيت ثنتان ، وإذا استثنيتهما من الثلاث بقيت واحدة ،
كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين ، فإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة
تقع واحدة لأنه استثنى الواحدة من الثنتين فتبقى واحدة فيستثنيها من الثلاث يبقى ثنتان
يستثنيهما من الثلاث تبقى واحدة ، وكذا لو قال : عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة تقع ثنتان
لأنه استثنى السبعة من الثمانية تبقى واحدة ، ثم استثنى الواحدة من التسعة تبقى ثمانية ، ثم
استثنى الثمانية من العشرة تبقى ثنتان ، وعلى هذا جميع هذا النوع ، وتقريبه أن تعقد العدد
الأول بيمينك والثاني بيسارك والثالث بيمينك والرابع بيسارك ، ثم أسقط ما اجتمع في يسارك
مما اجتمع بيمينك فما بقي فهو الموقع .
فصل
( ومن أبان امرأته في مرضه ثم مات ورثته إن كانت في العدة ، وإن انقضت عدتها
لم ترث ) وأصله أن الزوجية في مرض الموت سبب يفضي إلى الإرث غالبا ، فإبطاله
يكون ضررا بصاحبه ، فوجب رده دفعا لهذا الضرر في حق الإرث ما دامت في العدة
كما في الطلاق الرجعي وتعذر إبقاء الزوجية بعد انقضاء العدة لأنه لم يبق له أثر ولا
حكم .(3/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
قال : ( وإن أبانها بأمرها ، أو جاءت الفرقة من جهتها في مرضه لم ترث كالمخيرة ،
والمخيرة بسبب الجب والعنة والبلوغ والعتق ) لأنا إنما اعتبرنا قيام الزوجية مع المبطل نظرا
لها ، فإذا رضيت بالمبطل لم تبق مستحقة للنظر فعمل المبطل وهو الطلاق عمله ( ولو فعلت
ما ذكرنا من الخيارات وهي مريضة ورثها إذا ماتت وهي في العدة ) لأنها ممنوعة من إبطال
حقه فبقينا النكاح في حق الإرث دفعا للضرر عنه إلا في الجب والعنة فإنه لا يرثها لأنه
طلاق وهو مضاف إلى الزوج .
( ومرض الموت هو المرض الذي أضناه وأعجزه عن القيام بحوائجه ، فأما من يجيء
ويذهب بحوائجه ويحم فلا ) وقيل إن أمكنه القيام بحوائجه في البيت وعجز عنها خارج البيت
فهو مريض . وعن أبي حنيفة إذا كان مضني لا يقوم إلا بشدة وتتعذر عليه الصلاة جالسا فهو
مريض ، والمحصور والواقف في صف القتال والمحبوس للرجم والقصاص وراكب السفينة
والنازل في مسبعة يخاف الهلاك كالصحيح لأن الغالب فيه السلامة ، ومن قدم للقصاص
والرجم أو بارز رجلا أو انكسرت السفينة وبقي على لوح أو وقع في فم سبع كالمريض ،
وكذلك المرأة إذا ضربها الطلق . أما المقعد والمفلوج ومن في معناه كالصحيح ؛ وإذا كان
أحد الزوجين ممن لا يرث الآخر كالعبد والمكاتب مع الحرة ، والحرة الكتابية مع المسلم ،
فطلقها ثلاثا في مرضه ثم صار في حال يتوارثان لو لم يقع الطلاق لا ترثه ، لأنه لم يتعلق
حقها بماله حالة الطلاق فلم يكن فارا فلا يتهم .
( ولو علق طلاق امرأته بفعله وفعله في المرض ورثت ) سواء كان التعليق في الصحة أو
المرض لأنه قصد إضرارها حيث باشر شرط الحنث في المرض ، وسواء كان له بد من الفعل
أو لم يكن ، أما إذا كان فظاهر ، وأما إذا لم يكن فلأن له بدا من التعليق فكان مضافا إليه
( وإن علقه بفعل أجنبي أو بمجيء الوقت في المرض مثل قوله : إذا جاء رأس الشهر فأنت
طالق ، أو إن دخل فلان الدار أو صلى الظهر فأنت طالق ، فإن كان التعليق والشرط في
المرض ورثت ) لأنه قصد إضرارها بمباشرة التعليق في المرض حال تعلق حقها بماله .
( وإن كان التعليق في الصحة والشرط في المرض لم ترث ) خلافا لزفر ، لأن المعلق(3/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
بالشرط ينزل عند الشرط فصار كالمنجز في المرض . ولنا أنه إنما يصير تطليقا عند الشرط
حكما لا قصدا ولا ظلم إلا عند القصد ( وإن علقه بفعلها ولها منه بد لم ترث على كل حال )
لأنها راضية ( وإن لم يكن لها منه بد كالصلاة وكلام الأقارب وأكل الطعام واستيفاء الدين
ورثت ) .
وقال محمد : إذا كان التعليق في الصحة لا ترث لأنه لا صنع له في إبطال الشرط فلم
يقصد إبطال حقها . ولهما أنها مضطرة إلى المباشرة في هذه الأشياء لما يتعلق بتركها من
العقاب في الآخرة والضرر في الدنيا والزوج هو الذي ألجأها إلى المباشرة فينتقل فعلها إليه
وتصير كالآلة كما قلنا في الإكراه ، وإنما يكون مرض الموت إذا مات منه ، أما لو برأ ثم
مات انقطع حكم المرض الأول .
فصل في طلاق المجهولة
أصله إن إضافة الطلاق إلى مجهولة ليس إلا تعليق الطلاق في المعينة بالبيان لأنه لا
يقع على مجهولة وإنما يقع على المعينة ، وإنما ينزل بالبيان مقصورا عليه فكان للبيان حكم
الإنشاء في حق المعينة ، والإنشاء لا يملك إلا بملك المحل ، فلو قال لامرأتيه إحداكما
طالق طلقت واحدة منهما بغير عينها إذا لم يكن له نية في معينة منهما لقوله عليه الصلاة
والسلام : ' كل طلاق جائز ' الحديث ، ولأن الجهالة مع الخطأ أجريا مجرى واحد ، ألا
ترى أنهما يمنعان البيع ، ثم الطلاق يقع مع الحظر فكذا مع الجهالة ، ولأن البيع مع ضعفه
يصح مع هذا الضرب من الجهالة حتى جاز بيع قفيز من صبرة فلأن يصح الطلاق معه
أولى ، وللنساء أن يخاصمنه ويستعدين عليه إلى القاضي حتى يبين إذا كان الطلاق ثلاثا
أو بائنا ، لأن لكل واحدة منهن حقا في استيفاء منافع النكاح وأحكامه ، أو التوصل إلى
التزوج بزوج آخر ، وكان على الزوج البيان والقول قوله لأنه المجمل كمن أقر بشيء غير
معين ، ويجبره القاضي أن يوقع الطلاق على معينة لتحصل الفائدة ، وعليها العدة من
حين بين لما تقدم ، فإن لم يبين حتى ماتت إحداهما طلقت الباقية ، لأنه لم يبق من
يستحق الطلاق غيرها .
وإن قال أردت الميتة لم يرثها وطلقت الباقية ، فيصدق في الميتة على نفسه في
إسقاط إرثه ، ولا يصدق على الباقية في صرف الطلاق عنها ، فإن ماتتا واحدة بعد(3/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
الأخرى فقال أردت الأولى لم يرث منهما لأنه سقط من الثانية بطريق الحكم ومن
الأولى باعترافه ، ولو ماتتا معا ورث من كل واحدة منهما نصف ميراث ، فإن قال أردت
إحداهما سقط حقه من ميراثها ويرث من الأخرى نصف ميراثها لأنه لا يصدق في زيادة
الاستحقاق ؛ ولو جامع إحداهما تعينت الأخرى للطلاق ، لأن الجماع دليل على تعيين
الأخرى للطلاق لاستحالة أن يطأ المطلقة ، وكذلك لو قبلها أو حلف بطلاقها أو ظاهر
منها ، لأن هذه الأحكام من خواص الزوجية فصارت كالجماع ؛ ولو طلق إحداهما بعينها
وعنى به البيان صدق .
وإن لم ينو به البيان تعينت الأخرى للطلاق الأول . وعن محمد : لو كان الطلاق
واحدة رجعية لم يكن وطء إحداهما بيانا للأخرى ؛ ولو مات الزوج قبل البيان فالميراث بينهم
الربع أو الثمن ، لأن إحداهما زوجة قطعا وليست إحداهما أولى من الأخرى ؛ ولو طلق
إحدى نسائه الأربع ثلاثا ثم اشتبهت وأنكرت كل واحدة أن تكون هي المطلقة لا يقرب
واحدة منهن لأنه حرمت عليه إحداهن ، ويجوز أن تكون كل واحدة .
وقد قال أصحابنا : كل ما يباح عند الضرورة لا يجوز التحري فيه والفروج من هذا
الباب ، ولهذا قالوا : إذا اختلطت الميتة بالمذبوحة إنه يتحرى لأن الميتة تباح عند
الضرورة .
وإن استعدين عليه لأن الحاكم في النفقة والجماع أعدى عليه وحبسه حتى يبين التي
طلق منهن ، ويلزمه نفقتهن لأن لكل واحدة منهن حق المطالبة بأحكام النكاح ، فكان على
الحاكم إلزامه إيفاء للحق ، ويقضي عليه بنفقتهن لأنها تجب للمعتدة وللزوجة . وينبغي أن
يطلق كل واحدة طلقة واحدة ، فإذا تزوجن بغيره جاز له التزوج بهن ، فإن لم يتزوجن
فالأفضل أن لا يتزوجن بواحدة ، ولو تزوج بالثلاث صح نكاحهن وتعينت الرابعة للطلاق ؛
وليس له أن يتزوج بالكل قبل أن يتزوجن بزوج آخر ، فإن تزوجت واحدة منهن بزوج ودخل
بها ثم تزوج الكل ذكر في الجامع أنه يجوز نكاح الكل ، لأن الظاهر من حال المتزوجة إنما
هي المطلقة ثلاثا حيث أقدمت على النكاح للتحليل ؛ ولو ادعت كل واحدة أنها المطلقة ثلاثا
يحلف الزوج فإن نكل وقع على كل واحدة الثلاث ، لأنه بالنكول صار باذلا أو مقرا لها
بالثلاث .
وإن حلف لهن فالحكم كما قلنا قبل اليمين . وعن محمد : إذا حلف لإحدى المرأتين
طلقت الأخرى ، وإن لم يحلف للأولى طلقت ، وإن تشاحا على اليمين حلف لهما بالله ما
طلق واحدة منهما ، فإن حلف فالأمر على ما كان ، وإن نكل طلقتا على ما بينا ، فإن وطئ
إحداهما فالتي لم يطأها مطلقة حملا لأمره على الصلاح أنه لم يطأها حراما .(3/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
باب الرجعة
وهي مصدر رجعه يرجعه رجعا ورجعة : إذا أعاده ورده ، يقال : رجعت الأمر إلى
أوائله : إذا رددته إلى ابتدائه . قال :
عسى الأيام أن يرجعن
قوما كالذي كانوا
وفي الشرع رد الزوجة إلى زوجها وإعادتها إلى الحالة التي كانت عليها . قال :
( الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء ) وهو أن يطلق الحرة واحدة أو ثنتين بصريح الطلاق من
غير عوض والدليل عليه قوله تعالى : ) وبعولتهن أحق بردهن ( [ البقرة : 228 ] والبعل هنا
الزوج ، ولا زوج إلا بقيام الزوجية ، وقيام الزوجية يوجب حل الوطء بالنص والإجماع ،
ولأن الله تعالى أثبت للزوج حق الرد من غير رضاها ، والإنسان إنما يملك رد المنكوحة
إلى الحالة التي كانت عليها قبل الطلاق فلا يكون النكاح زائدا ما دامت العدة باقية فيحل
الوطء . قال : ( وللزوج مراجعتها في العدة بغير رضاها ) لما تلونا ولا خلاف فيه ، ولأن
قوله تعالى : ) في ذلك ( أي في العدة لأنها مذكورة قبله ، ولقوله تعالى : ) فأمسكوهن
بمعروف ( [ البقرة : 231 ] والمراد الرجعة لأنه ذكره بعد الطلاق ، ثم قال : ) أو فارقوهن
بمعروف ( [ البقرة : 231 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمر : ' مر ابنك فليراجعها ' .
قال : ( وتثبت الرجعة بقوله : راجعتك ورجعتك ورددتك ، وأمسكتك ) لأنه صريح فيه .
قال : ( وبكل فعل تثبت به حرمة المصاهرة من الجانبين ) لقوله تعالى : ) فأمسكوهن
بمعروف ( والإمساك بالفعل أقوى منه بالقول ، ولأن الرجعة استدامة النكاح واستبقاؤه
وهذه الأفعال تدل على ذلك ، وليست الرجعة بابتداء نكاح على ما زعمه بعضهم ، لأنا
أجمعنا على أنه يملكها من غير رضاها ولا يشترط فيها الإيجاب والقبول ، ولا يجب فيها(3/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
مهر ولا عوض ، لأن العوض إنما يجب عوضا عن ملك البضع ، والبضع في ملكه ، ولو
كان نكاحا مبتدأ لوجب ، والخلوة ليست برجعة ، لأنه لم يوجد ما يدل على الرجعة لا
قولا ولا فعلا ، ولا يصح تعليق الرجعة بالشرط لأنه استدراك فلا يصح بالتعليق كإسقاط
الخيار ، ولو قال لها : أنت عندي كما كنت أو أنت امرأتي ونوى الرجعة صح وإلا فلا ،
ويستحب أن يعلمها بالرجعة لتتخلص من قيد العدة ، وإن لم يعلمها جاز ؛ وليس له أن
يسافر بها حتى يشهد على رجعتها لأنه لا يجوز للمعتدة الخروج من منزلها ، فإذا راجعها
لم تبق معتدة فيجوز لها الخروج ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ) لا تخرجوهن من
بيوتهن ( [ الطلاق : 1 ] .
قال : ( ويستحب أن يشهد على الرجعة ) لأن النصوص الدالة على الرجعة خالية عن قيد
الشهادة ، ولما تقدم أنها استدامة للنكاح ، والشهادة ليست بشرط حالة الاستدامة ، وإنما
استحببناه تحرزا عن التجاحد ، وهو محمل قوله تعالى عقيب ذكر الرجعة والطلاق ) وأشهدوا
ذوي عدل منكم ( [ الطلاق : 2 ] وهكذا هو محمول في الطلاق أيضا توفيقا بينه وبين
النصوص الدالة على جواز الرجعة ووقوع الطلاق الخالية عن قيد الإشهاد .
( فإن قال لها بعد العدة : كنت راجعتك في العدة فصدقته صحت الرجعة ، وإن كذبته لم
تصح ) لأنه متهم في ذلك وقد كذبته فلا يثبت إلا ببينة ، فإذا صدقته ارتفعت التهمة ( ولا يمين
عليها ) عند أبي حنيفة ، وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة ، وقد سبقت في الدعوى
بتوفيق الله تعالى ( وإن قال لها : راجعتك ، فقالت مجيبة له : انقضت عدتي فلا رجعة ) وقالا :
تصح الرجعة لأن الرجعة لا تتوقف على قبولها ، فلما قال راجعتك صحت الرجعة لأن
الظاهر بقاء العدة ، ولهذا لو قال طلقتك ، فقالت قد انقضت عدتي وقع الطلاق فصار كما إذا
سكت ساعة ثم قالت . ولأبي حنيفة أنها لما أخبرت بانقضاء عدتها فالظاهر تقدم انقطاع الدم
على ذلك لأنها أخبرت بلفظ الماضي ، والظاهر أنها صادقة ، وأقرب أوقات الماضي وقت
قوله ، ومسألة الطلاق على الخلاف ، ولئن سلمت فنقول : الطلاق يقع بناء على إقراره ، ولو
أقر بعد انقضاء العدة حكم به ، بخلاف ما إذا سكتت ساعة لأنها تثبت الرجعة بسكوتها فلا
يقبل قولها بعد ذلك .
قال : ( وإذا قال زوج الأمة : راجعتها في العدة وصدقه المولى وكذبته الأمة أو بالعكس
فلا رجعة ) وقالا : إذا صدقه المولى صحت الرجعة لأنه أقر له بما هو خالص حقه فصار كما(3/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
إذا أقر عليها بالنكاح . ولأبي حنيفة أن القول قولها في العدة والرجعة تنبني عليها ؛ وأما إذا
كذبه المولى وصدقته فعن أبي حنيفة روايتان ، والفرق على إحدى الروايتين أن العدة منقضية
في الحال وصار ملك المتعة للمولى فلا تملك إبطاله . قال : ( وإذا انقطع الدم في الحيضة
الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل ) لأنها خرجت من الحيضة الثالثة فقد انقضت
العدة .
( وإن انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع حتى تغتسل ، أو يمضي عليها وقت صلاة ،
أو تتيمم وتصلي ) لاحتمال عود الدم فلا بد من دخولها في حكم الطاهرات وذلك بالغسل أو
بمضي وقت صلاة لأنها تصير مخاطبة بها ، وهو من أحكام الطاهرات ، وكذا إذا تيممت
وصلّت ، والقياس أن تنقطع بمجرد التيمم ، وهو قول محمد وزفر ، لأن التيمم كالغسل عند
عدم الماء . وجه الاستحسان أن التيمم إنما اعتبر طهارة ضرورة كيلا تتضاعف عليه
الواجبات ، أما إنه مطهر في نفسه فلا بل هو ملوّث ، وهذه الضرورة تتحقق إذا أرادت الصلاة
لا قبل ذلك ولا كذلك الغسل ، ولو تيممت وقرأت القرآن أو مست المصحف أو دخلت
المسجد . قال الكرخي : انقطعت الرجعة لأنها من أحكام الطاهرات . وقال أبو بكر الرازي :
لا لأنها ليست من أحكام الصلاة ولو اغتسلت بسؤر الحمار انقطعت ، ولا تحل للأزواج
أخذا بالاحتياط .
( وفي الكتابية تنقطع الرجعة بمجرد انقطاع الدم ) لأنه لا غسل عليها فصارت كالمسلمة
إذا اغتسلت ( فإن اغتسلت ونسيت شيئا من بدنها ، فإن كان أقل من عضو انقطعت الرجعة ولا
تحل للأزواج ) لأنه قليل يتسارع إليه الجفاف فلم نتيقن بعدم غسله ، فقلنا بانقطاع الرجعة
وعدم حل التزوج أخذا بالاحتياط ( وإن كان عضوا لم تنقطع ) لأنه كثيرا لا يتسارع إليه
الجفاف فافترقا ، والمضمضة والاستنشاق كالعضو عند أبي يوسف لأن الحدث باق في
عضو . وعند محمد لا لوقوع الاختلاف في فرضيتهما فينقطع حق الرجعة ، ولا تحل للأزواج
احتياطا .
قال : ( ومن طلق امرأته وهي حامل وقال لم أجامعها فله الرجعة ) وكذا إذا ولدت منه
لأن الحبل والولادة في وقت يمكن حبله منه يجعل منه ، قال عليه الصلاة والسلام : ' الولد(3/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
للفراش ' وإذا كان منه كان واطئا ، والطلاق بعد الوطء يعقب الرجعة ( وإن قال ذلك بعد
الخلوة الصحيحة فلا رجعة له ) لأن الرجعة إنما تثبت عقيب الطلاق في ملك متأكد
بالوطء ، وقد أقر بعدم الوطء فيثبت فيما له والرجعة حقه ، بخلاف المهر لأن وجوبه بناء
على تسليم المبدل لا على قبضه . قال : ( وإذا قال لها : إذا ولدت فأنت طالق فولدت ثم
ولدت آخر من بطن أخرى فهي رجعة ) لأن الطلاق وقع بالولد الأول ، والولد الآخر يكون
من علوق آخر في العدة حملا لحالهما على الصلاح فيصير مراجعا بالوطء لأنها لم تقر
بانقضاء عدتها .
قال : ( والمطلقة الرجعية تتشوّف وتتزين ) لقيام النكاح بينها وبين الزوج على ما
بينا ، والرجعة مستحبة والزينة حاملة عليها فتجوز ( ويستحب لزوجها أن لا يدخل عليها
حتى يؤذنها ) إذا لم يكن قصده الرجعة لاحتمال أن يقع نظره عليها وهي متجردة فتحصل
الرجعة ثم يطلقها فتطول عليها العدة . قال : ( وله أن يتزوج مطلقته المبانة بدون الثلاث في
العدة وبعدها ) لأن حل المحلية باق إذا زواله بالثالثة ولم توجد ، وإنما لا يجوز لغيره في
العدة تحرزا عن اشتباه الأنساب وهو معدوم في حقه ( والمبانة بالثلاث لا تحل له حتى
تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويدخل بها ثم تبين منه ) لقوله تعالى : ) فإن طلقها (
[ البقرة : 230 ] يعني الثالثة ) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ( [ البقرة : 230 ]
والنكاح المطلق في الشرع ينصرف إلى الصحيح حتى لو دخل بها في نكاح فاسد لا تحل
للأول ، وقوله : ) حتى تنكح ( يقتضي الدخول لما ذكرنا أن النكاح الشرعي هو الوطء
ولقوله زوجا ونكاح الزوج لا يكون إلا بالوطء ، ويدل عليه الحديث المشهور وهو ما روي
في الصحيح أن عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي كانت تحت ابن عمها رفاعة بن
وهب فطلقها ثلاثا فجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالت : يا رسول الله إني كنت
تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة
الثوب ، فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ' أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ ' قالت : نعم ، فقال : ' حتى(3/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ' وسواء دخل بها في حيض أو نفاس أو إحرام لحصول
الدخول .
( ولا تحل للأول بملك اليمين ولا بوطء المولى ) لأن الشرط نكاح زوج غيره ولم
يوجد ( والشرط هو الإيلاج دون الإنزال ) لحصول نكاح زوج غيره ، والحديث ورد على غالب
الحال ، فإن الغالب في الجماع الإنزال أو نقول الكتاب عري عن ذكر الإنزال فلا يزاد عليه .
قال : ( وأن يكون المحلل يجامع مثله ) سواء كان مراهقا أو بالغا لوجود الشرط وهو
الإيلاج ، ولا يجوز صغير لا يقدر على الإيلاج لعدم الوطء المراد من النكاح . قال : ( فإن
تزوجها بشرط التحليل كره وحلت للأول ) وقال أبو يوسف : النكاح فاسد لأنه كالمؤقت ولا
تحل للأول لفساده ، وقال محمد : هو جائز لشروط الجواز ولا تحل للأول لأنه عجّل ما
أخّره الشرع فيعاقب بالمنع كقتل المورث . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : ' لعن الله
المحلل والمحلل له ' ومراده النكاح بشرط التحليل فيكره للحديث وتحل للثاني لأنه عليه
الصلاة والسلام سماه محللا وهو المثبت للحل ، أو نقول وجد الدخول في نكاح صحيح ،
لأن النكاح لا يفسد بالشرط فتحل للأول ، ولو تزوجها بقصد التحليل ولم يشرطه حلت
للأول بالإجماع ، والطلقتان في الأمة كالثلاث في الحرة لما مر .
قال : ( والزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث ) وصورته إذا طلق امرأته طلقة أو طلقتين
وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها الأول
عادت إليه بثلاث طلقات ، وهدم الزوج الثاني الطلقة والطلقتين كما هدم الثلاث . وقال
محمد وزفر : تعود إلى الأول بما بقي من الثلاث في النكاح الأول ، لأن الزوج الثاني إنما
يثبت الحل إذا انتهى ، والحل لم ينته لأنها تحل له بالعقد قبله فلا يكون مثبتا له . ولنا أنه
وطء من زوج ثان فرفع الحكم المتعلق بالطلاق كما في الثلاث .
قال : ( ولو طلقها ثلاثا فقالت : قد انقضت عدتي وتحللت وانقضت عدتي والمدة
تحتمله وغلب على ظنه صدقها جاز له أن يتزوجها ) لأنه إن كان أمرا دينيا فقول الواحد فيه
مقبول كرواية الأخبار والإخبار عن القبلة وطهارة الماء ، وإن كان معاملة فقول الواحد مقبول(3/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
في المعاملات على ما عرف ، وتمامه يعرف في باب العدة إن شاء الله تعالى .
باب الإيلاء
وهو في اللغة : مطلق اليمين ، قال :
قليل الألايا حافظ ليمينه
وإن بدرت منه الألية برّت
وفي الشرع : اليمين على ترك وطء المنكوحة مدة مخصوصة ، وقيل الحلف على ترك
الوطء المكسب للطلاق عند مضي أربعة أشهر ، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة . وألفاظه
صريح وكناية ، فالصريح لا يحتاج إلى نية مثل قوله : لا أقربك ، لا أجامعك ، لا أطؤك ، لا
أغتسل منك من جنابة ، لا أفتضك إن كانت بكرا . والكناية : لا أمسك ، لا آتيك ، لا أدخل
بك ، لا أغشاك ، لا يجمع رأسي ورأسك شيء ، لا أبيت معك على فراش ، لا أضاجعك ،
لا أقرب فراشك ونحوه ، ولا بد فيه من النية . وقال محمد : إذا قال : والله لا يمس جلدي
جلدك لا يكون موليا لأنه يقدر على جماعها بغير مماسة بأن يلف على ذكره حريرة ولأنه
يحنث بغير الجماع ، والمولى من يقف حنثه على الجماع خاصة . والأصل أن المولى من لا
يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه لأن حرمة الوطء إنما تنتهي بالحنث والحنث موجب
للكفارة أو بشيء يلزمه ، ولا يكون الإيلاء إلا بالحلف على ترك الجماع في الفرج لأن حقها
في الجماع في الفرج فيتحقق الظلم .
قال : ( إذا قال : والله لا أقربك ، أو لا أقربك أربعة أشهر فهو مول ) والأصل فيه قوله
تعالى : ) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ( [ البقرة : 226 ] الآية ، فتكون مدة
الإيلاء أربعة أشهر من غير زيادة ولا نقصان ، إذ لو كانت المدة أقل من ذلك أو أكثر لم يكن(3/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
في التنصيص على الأربعة فائدة . قال : ( وكذلك لو حلف بحج أو صوم أو صدقة أو عتق أو
طلاق ) مثل أن يقول : إن قربتك فلله عليّ الحج ، أو يقول : فلله عليّ صوم كذا ، أو يجعل
الجزاء صدقة ، أو عتق عبد ، أو طلاقها أو طلاق غيرها ، لأن اليمين موجودة في ذلك كله ،
لأن اليمين بغير الله تعالى شرط وجزاء ، لأن المقصود منها الحمل أو المنع ، وهذه الأشياء
توجب ذلك لما تتضمنه من المشقة ، ولأنه لا يمكنه قربانها إلا بشيء يلزمه ، وإذا وجدت
اليمين فقد وجدت الإيلاء فدخل تحت التنص ولو قال : إن قربتك فعليّ أن أصلي ركعتين أو
أغزو لم يكن موليا . وقال محمد : هو مول لأنه يصح إيجابها بالنذر كالصوم والصدقة .
ولهما أن الصلاة ليست في حكم اليمين حتى لا يحلف بها عادة فصار كصلاة الجنازة
وسجدة التلاوة .
( فإن قربها في الأربعة الأشهر حنث ) لوجود شرطه ) ( وعليه الكفارة ) لأن الحنث
موجب للكفارة ( وبطل الإيلاء ) لما بينا أن اليمين تنحل بالحنث ( وإن لم يقربها ومضت
أربعة أشهر بانت بتطليقة ) هذا مذهب عامة الصحابة وتفسير قوله تعالى : ) وإن عزموا
الطلاق ( [ البقرة : 227 ] أي عزموا الطلاق بالإيلاء السابق وهي قراءة ابن مسعود رضي الله
عنه ، وعنه عن ابن عباس رضي الله عنهم : عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر من غير
فيء . وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ) فإن فاؤوا فيهن ( [ البقرة : 226 ] أي في الأربعة
الأشهر ، ولأنه تعالى قال : ) للذين يؤلون ( ثم قال : ) فإن فاؤوا ( ، ) وإن عزموا الطلاق (
وهذه الفاء للتقسيم ، فأحد القسمين يكون في المدة وهو الفيء ، والآخر بعدها وهو الطلاق
كقوله تعالى : ) وإذا طلقتم النساء ( [ البقرة : 231 ] ثم قال : ) فأمسكوهن بمعروف أو
سرحوهن ( [ البقرة : 231 ] لما ذكر المدة وجاء بالفاء كان للتقسيم ، وكان الإمساك وهو
الرجعة في المدة والتسريح وهو البينونة بعدها فكذلك هنا .
قال : ( فإن كانت اليمين أربعة أشهر فقد انحلت ) لانقضاء المدة ( وإن كانت مؤبدة ، فإن
عاد فتزوجها عاد الإيلاء على الوجه الذي بينا ) لبقاء اليمين ، لأن اليمين لا تنتهي إلا بالحنث
أو بمضي المدة المؤقتة ، وإنما لم يقع طلاق آخر قبل التزوج ، لأن الحرمة مضافة إلى البينونة
لا إلى الإيلاء فلم يوجد المنع باليمين فإذا تزوجها ارتفعت الحرمة الثابتة بالبينونة وبقيت
حرمة الإيلاء ، فوجد منع الحق فترتب عليه حكمه ( فإن وطئها في الأربعة الأشهر من وقت
التزوج حنث وإلا وقعت أخرى ) لما بينا ( فإن عاد فتزوجها فكذلك ) لما مر ( فإن تزوجها بعد
زوج آخر فلا إيلاء ) معناه : أنه لا يقع الطلاق بمضي المدة لانتهاء ما كان يملكه من الطلاق
في النكاح الأول وفيه خلاف زفر وقد تقدم ، إلا أن اليمين باقية لعدم الحنث ( فإن وطئ كفر
للحنث ) .(3/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
قال : ( وأقل مدة الإيلاء في الحرة أربعة أشهر ) فلو آلى أقل من أربع أشهر لا يكون
موليا ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ، ولما مر ( ومدة إيلاء
الأمة شهران ) لما عرف أن الرق منصف ، وأنها مدة ضربت للبينونة فتتنصف كالعدة ، والآية
تناولت الحرائر دون الإماء ، لأن اسم النساء والزوجات عند الإطلاق ينصرف إلى الحرائر
دون الإماء لأن معنى الأزواج في الإماء ناقص ، لأن للمولى أن يستخدمها ولا يبوئها بيت
الزوج ، والاسم عند الإطلاق ينصرف إلى الكامل ، فإن أعتقت في مدة الإيلاء تصير أربعة
أشهر كما في العدة .
قال : ( وإن آلى من المطلقة الرجعية فهو مول ، ومن البائنة لا ) لقيام الزوجية وحل
الوطء في الأولى على ما بينا دون الثانية ، فكانت الأولى من نسائهم دون الثانية ؛ ولو حلف
لا يقرب زوجته وأمته ، أو زوجته وأجنبية لا يصير موليا ما لم يقرب الأجنبية أو أمته ، فإذا
قربها صار موليا ، لأنه لا يمكنه قربانها بعد ذلك إلا بالكفارة ؛ ولو قال لهما : لا أقرب
إحداكما كما لا يكون موليا كما إذا قال لزوجته وأمته : إحداكما طالق ، فإن قرب إحداهما
لزمته الكفارة للحنث ؛ ولو قال لهما : لا أقرب واحدة منكما كان موليا من امرأته ، لأن النكرة
في النفي تعم ، ولو قرب واحدة منهما حنث ؛ ولو قال : أنت عليّ مثل امرأة فلان ، وقد كان
فلان آلى من امرأته ، فإن نوى الإيلاء كان موليا وإلا فلا ؛ ولو قال : أنت عليّ كالميتة ونوى
اليمين يكون موليا لأنه بمنزلة الكناية ؛ ولو آلى من امرأته ثم قال لأخرى : أشركتك في إيلاء
هذه لا يصير موليا ، بخلاف الطلاق والظهار ، لأنه لو اشتركا في الإيلاء يتغير حكم الإيلاء
وهو لزوم الكفارة بقربان الأولى وحدها ، وإذا صح الاشتراك لا تجب الكفارة ما لم يقربهما ،
ولا يمكن تغيير اليمين بعد انعقادها ، ولا كذلك الطلاق والظهار .
وعن الكرخي : لو قال لامرأته : أنت عليّ حرام ، ثم قال لأخرى : أشركتك معها كان
موليا منهما ، لأن إثبات الشركة هنا لا يغير موجب اليمين وهو إثبات الحرمة ، فإنه لو قال :
أنتما عليّ حرام كان موليا من كل واحدة منهما على حدة ، ويلزمه بوطء كل واحدة كفارة ،
بخلاف قوله : والله لا أقربكما لأنه إيلاء لما يلزمه من هتك حرمة الاسم وذلك لا يتحقق إلا
بقربانهما ؛ وإذا آلى العبد من امرأته فملكته لا يبقى الإيلاء ، فلو باعته أو أعتقته ثم تزوجها
عاد الإيلاء كما إذا حلف بعتق عبده إن وطئها فباعه ثم استرده عاد الإيلاء ؛ ولو قال : إن
قربتك فكل مملوك أملكه في المستقبل حر فهو مول .
وقال أبو يوسف : لا يكون موليا لأنه يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه بأن يقربها ولا
يتملّك مملوكا أصلا . ولهما أنه لا يقدر على الامتناع عن جميع أسباب التمليكات كالإرث ،(3/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
إذ في الامتناع عن الجميع مشقة ومضرة ، وعلى هذا لو قال : فكل امرأة أتزوجها فهي
طالق ، وعلى هذا إذا علق وطأها بعتق عبد بعينه ، لأبي يوسف أنه يقدر على وطئها بغير
شيء يلزمه أن يبيعه ثم يطأها . ولهما أنه لا يوصل إلى ذلك إلا بالحنث غالبا أو بالبيع
وأنه مشقة أيضا .
( وإن قال : لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مول ) لأن الجمع بحرف الجمع كالجمع
بلفظ الجمع ؛ ولو سكت ساعة ثم قال : وشهرين بعد الشهرين الأولين لا يكون موليا ، لأن
ابتداء اليمين الثانية حين حلف فقد تخلل بين الأربعة الأشهر وقت ليس موليا فيه فلم توجد
مدة الإيلاء . قال : ( ولو قال : لا أقربك سنة إلا يوما فليس بمول ) خلافا لزفر ، وهو يصرف
اليوم إلى آخر السنة كالإجارة فصار كما إذا تلفظ به . ولنا أنه يمكنه قربانها من غير شيء
يلزمه وذلك في اليوم المستثنى وهو يوم منكر له أن يجعله أيّ يوم شاء ، فإن قربها وقد بقي
من السنة أربعة أشهر صار موليا لسقوط الاستثناء بخلاف الإجارة لأنه يصرف إلى آخر السنة
تصحيحا لها لأنها لا تصح مع التنكير .
فصل
وإذا كان أحد الزوجين مريضا لا يقدر على الجماع ، أو هو مجبوب أو هي رتقاء ،
أو صغيرة ، أو بينهما مسيرة أربعة أشهر ، أو محبوسا لا يقدر عليها ، فقال في مدة الإيلاء :
فئت إليها سقط الإيلاء إن استمر العذر من وقت الحلف إلى آخر المدة ) روي ذلك عن ابن
مسعود رضي الله عنه .
اعلم أن الفيء عبارة عن الرجوع ، يقال : فاء الظل : إذا رجع ، ولما قصد المولى
باليمين منع حقها من الوطء سمي الرجوع عنه فيئا ، قال تعالى : ) فإن فاؤوا ( [ البقرة : 226 ]
أي رجعوا عن قصدهم ، والفيء نوعان بالجماع والقول عند عدمه ؛ فالفيء بالجماع يبطل
الإيلاء في حق الطلاق والحنث جميعا ، والفيء باللسان بدل عن الفيء بالجماع في إبطال
الطلاق دون الحنث حتى لو قربها بعد ذلك لزمته الكفارة ؛ والبدل إنما يعتبر حالة العجز عن
الأصل فيعتبر لعجز عن الجماع مستداما من وقت الإيلاج إلى تمام المدة ، حتى لو قدر على
الجماع في بعض المدة ففيؤه الجماع لا غير ، لأنه لما قدر عليه ولم يفعله فالتقصير جاء من(3/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
قبله فلا يعتبر عاجزا ، روي ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود وجماعة من التابعين
رضي الله عنهم . وصفة الفيء أن يقول : فئت إليك أو رجعت إليك . وروى الحسن عن أبي
حنيفة أنه يقول : اشهدوا أني قد فئت إلى امرأتي وأبطلت إيلاءها ، وهذه الشهادة احتياطا
احترازا عن التجاحد لا شرطا ، وهذا لأنه أوحشها بالكلام بذكر المنع فيرضيها بالرجوع عنه
حقيقة بالوطء ، فإذا لم يقدر عليه يرضيها بغاية ما يقدر عليه وهو الوعد باللسان فيرتفع
الظلم .
( فإذا قدر على الجماع بعد ذلك في المدة لزمه الفيء بالجماع ) لأنه قدر على الأصل
قبل حصول المقصود بالحلف ؛ ولو آلى من امرأته وبينهما أقل من أربعة أشهر إلا أنه يمنعه
السلطان أو العدو أو كان أحدهما محرما واستمر الإحرام أربعة أشهر لا يصح فيؤه إلا
بالجماع لأنه قادر عليه . وقال زفر : في الإحرام فيؤه القول ، لأن المنع من جهة الشرع وهو
الحرمة فكان عذرا . قلنا الحرمة حق الشرع ، والوطء حقها ، وحق العبد مقدم على حق
الشرع بأمره . قال : ( وإن قال لامرأته : أنت عليّ حرام فإن أراد الكذب صدق ) لأنه حقيقة
كلامه ، وقيل لا يصدق لأنه يمين ظاهرا ( وإن أراد الطلاق فواحدة بائنة ) لأنه من الكنايات .
( وإن نوى الثلاث فثلاث ) وقد مر ( وإن أراد الظهار فظهار ) لأن في الظهار نوع حرمة
وقد نواه بالمطلق فيصدق لأنه من باب المجاز . وقال محمد : لا يكون ظهارا لعدم التشبيه
بالمحرمة ( وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فهو إيلاء ) لأن تحريم الحلال يمين هذا هو
الأصل وموضعه كتاب الأيمان ، والمتأخرون من أصحابنا صرفوا لفظة التحريم إلى الطلاق
حتى قالوا يقع بغيره نية ، وألحقوه بالصريح لكثرة الاستعمال فيه والعرف .
باب الخلع
وهو في اللغة : القلع والإزالة ، قال تعالى : ) فاخلع نعليك ( [ طه : 12 ] ومنه خلع
القميص إذا أزاله عنه ، وخلع الخلافة : إذا تركها وأزال عنه كلفها وأحكامها . وفي الشرع :
إزالة الزوجية بما تعطيه من المال ، وهو في إزالة الزوجية بضم الخاء ، وإزالة غيرها بفتحها ،
كما اختص إزالة قيد النكاح بالطلاق وفي غيره بالإطلاق .
قال : ( وهو أن تفتدي المرأة نفسها بمال ليخلعها به ، فإذا فعلا لزمها المال ووقعت(3/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
تطليقة بائنة ) والأصل في جوازه قوله تعالى : ) فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح
عليهما فيما افتدت به ( [ البقرة : 229 ] وإنما تقع تطليقة بائنة لقوله عليه الصلاة والسلام :
' الخلع تطليقة بائنة ' ولأنه كناية فيقع به بائنا لما مر ولا يحتاج إلى نية ، إما لدلالة الحال ،
أو لأنها ما رضيت ببذل المال إلا لتملّك نفسها وتخرج من نكاحه ، وذلك بالبينونة وهو
مذهب عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ؛ والخلع من جانبه تعليق الطلاق
بقبولها فلا يصح رجوعه عنها ، ولا يبطل بقيامه من المجلس ويصح مع غيبتها ، فإذا بلغها
كان لها خيار القبول في مجلس علمها ، ويجوز تعليقه بالشرط والإضافة إلى الوقت كقوله :
إذا قدم فلان أو إذا جاء فلان فقد خالعتك على ألف يصح ، والقبول إليها إذا قدم فلان أو
جاء غد ، والخلع من جانبها تمليك بعوض كالبيع فيصح رجوعها قبل قبوله ويبطل بقيامها من
المجلس ، ولا يتوقف حال غيبته ، ولا يجوز التعليق منها بشرط ولا الإضافة إلى وقت ؛ ولو
خالعها بألف على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالخيار باطل ، وإن قال على أنها بالخيار فكذلك
عندهما لأن الخلع طلاق ويمين ولا خيار فيهما . وعند أبي حنيفة الخيار لها صحيح ، فإن
ردته في الثلاث بطل الخلع ، لأن الخلع طلاق من جانبه تمليك من جانبها فيجوز الخيار لها
دونه .
قال : ( ويكره أن يأخذ منها شيئا إن كان هو الناشز ) قال تعالى : ) وإن أردتم
استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ( [ النساء : 20 ]
فحملناه على الكراهية عملا بالنص الأول ، وقيل هي نهي وتوبيخ لا تحريم ( وإن كانت
هي الناشزة كره له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ) لما روي أن جميلة بنت عبد الله بن أبي
ابن سلول ، وقيل حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فأتت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله لا أنا ولا هو ، فأرسل رسول الله إلى ثابت ، فقال : قد
أعطيتها حديقة ، فقال لها : ' أتردين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ ' فقالت : نعم وزيادة ،
قال : ' أما الزيادة فلا ' ، فقال عليه الصلاة والسلام : ' يا ثابت خذ منها ما أعطيتها ولا
تزدد وخل سبيلها ' ، ففعل وأخذ الحديقة ، فنزل قوله تعالى : ) ولا يحل لكم أن تأخذوا
مما آتيتموهن شيئا ( [ البقرة : 229 ] إلى قوله : ) فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) ) وإن
أخذ منها أكثر مما أعطاها حل له ) بمطلق الآية . قال : ( وكذلك إن طلقها على مال
فقبلت وقع الطلاق بائنا ) لما قلنا ( ويلزمها المال بالتزامها ) ولأنه ما رضي بالطلاق إلا(3/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
ليسلم له المال المسمى ، وقد ورد الشرع به فيلزمها . قال : ( وما صلح مهرا صلح بدلا
في الخلع ) لأن البضع حال الدخول متقوّم دون حال الخروج ، فإذا صالح بدلا للمتقوّم
فلأن يصلح لغير المتقوّم أولى . قال : ( فإذا بطل البدل في الخلع كان بائنا ، وفي الطلاق
يكون رجعيا ) وذلك مثل أن يخالعها على خمر أو خنزير أو ميتة ونحوه ؛ أما وقوع
الطلاق فلأنه علّقه بقبولها وقد وجد .
وأما البينونة في الخلع فلأنه كناية ، والرجعي في الطلاق لأنه صريح ولا يجب للزوج
عليها شيء ، لأن البضع لا قيمة له عند الخروج وهي ما سمت له مالا فيغتر به ، ولأنه لا
سبيل إلى المسمى للإسلام ولا إلى غيره لعدم الالتزام ، بخلاف النكاح ، لأن البضع متقوّم
حالة الدخول ، ومهر المثل كالمسمى شرعا ، وبخلاف ما إذا خالعها على هذا الدنّ من الخلّ
فإذا هو خمر لأنها سمت له مالا فاغتر به ، وبخلاف العتق والكتابة على خمر حيث تجب
قيمة العبد لأنه ملك متقوّم وما رضي بخروجه بغير عوض ، ولا كذلك البضع حالة الخروج
على ما بينا ؛ ولو خلعها على عبد فإذا هو حر رجع بالمهر . وعند أبي يوسف بقيمته لو كان
عبدا ؛ ولو خلعها على ثوب ولم يسم جنسه ، أو على دابة فله المهر ، وفي العبد الوسط كما
في المهر ، وكذا على ثوب هروي فطلع مرويا يرجع بهروي وسط ، ولو خلعها على دراهم
معينة فإذا هي ستوقة رجع بالجياد ، ولا يرد بدل الخلع إلا بعيب فاحش كما في المهر ؛ ولو
خلعها بغير مال وقال لم أنو الطلاق صدق لأنه كناية ، ولا يصدّق إذا كان على مال ، لأن
البدل لا يجب إلا بالبينونة .
( وإن قالت : خالعني على ما في يدي وليس في يدها شيء فلا شيء عليها ) وكذا لو
قالت : على ما في بيتي ولا شيء في بيتها لأنها لم تسم المال لم تغرّه ( ولو قالت : على ما
في يدي من مال ، أو على ما في بيتي من متاع ولا شيء في يدها ولا متاع في بيتها ردت
عليه مهرها ) والأصل في ذلك أنه متى أطمعته في مال متقوّم فلم يسلم له لفقده وعدمه رجع
عليها بالمهر لأنها غرّته حيث أطمعته في مال ، والمغرور يرجع على الغارّ بالمدل ، فإذا فات
المشروط المطمع فيه زال ملكه مجانا فيلزمها أداء المبدل وهو ملك البضع ، وقد عجزت عن
رده فيلزمه رد قيمته وهو المهر ؛ ولو خالعها بما لها عليه من المهر ولم يبق لها عليه شيء
من المهر لزمها رد المهر ، وإن علم الزوج أن لا مهر لها وعليه ولا متاع لها في البيت لا
يلزمها شيء ؛ ولو قالت : على ما في يدي من دراهم أو من الدراهم ولا شيء في يدها لزمها
ثلاثة دراهم لأنها سمت الدراهم وأقل الجمع ثلاثة .(3/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
قال : ( ولو خلع ابنته الصغيرة على مالها لا يلزمها شيء ) لأنه لا نظر لها فيه ، إذ البدل
متقوّم والمبدل لا قيمة له على ما بينا ( وفي الكبيرة يتوقف على قبولها ) لأنه لا ولاية له عليها
فصار كالفضولي ( ولو ضمن المال لزمه في المسألتين ) لأن شرط بدل الخلع على الأجنبي
جائز فعلى الأب والأم أولى ؛ ولو اختلعت الصغيرة نفسها على صداقها وقع الطلاق لأنه
علقه بقبولها ، ولا يسقط الصداق لأنها ليست من أهل الالتزام لما فيه من الضر ، ولو خلعها
أبوها على صداقها لا يسقط ، ثم إن قبلت الصغيرة الخلع وقع الطلاق ، وإن قبل الأب فيه
روايتان : في رواية لا يقع لأنه كالأجنبي إذا لم يضف البدل إلى نفسه ، ويحتمل أن الخلع
مضرة بها فلا يقوم قبولها . وفي رواية يقع لأنه نفع محض بالخلاص عن عهدته
فصار كقبول الهبة ، ولو ضمن الأب الصداق رجع الزوج عليه وإلا فلا ، وكذلك الأجنبي لأنه
متى ضمن البدل فالخلع يتم بقبوله لا بقبولها لأنه يجب البدل عليه بالتزامه من ملكه ولا
يجب عليه إلا إذا وقع العقد معه .
قال : ( ولو قالت : طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف ، ولو قالت :
على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها وهي رجعية ) وقالا : هما سواء لأن على كالباء في
المعاوضات ، لأن قوله احمل هذا بدرهم وعلى درهم سواء . ولأبي حنيفة أن حرف الباء
للمعاوضة وهي تصحب الأعواض فينقسم العوض على المعوض ، وإذا وجب المال كانت
بائنة ، أما على فإنها للشرط قال تعالى : ) يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا (
[ الممتحنة : 12 ] أي بهذا الشرط ، وكذا لو قال : أنت طالق على أن تدخلي الدار كان
شرطا ، والمشروط لا ينقسم على أجزاء الشرط ، لأن وجوب الألف صار معلقا بالتطليق
ثلاثا فلا يلزم قبله ، لأن المعلق عدم قبل وجود الشرط ، وإذا لم يجب المال فقد طلقها
بصريح الطلاق فكانت رجعية .
( ولو قال لها : طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت واحدة لم يقع شيء ) لأنه
ما رضي بالبينونة إلا ليسلم له جميع الألف بخلاف المسألة الأولى لأنها لما رضيت بالبينونة
بالألف فلأن ترضى ببعضها كان أولى ( ولو قال لها : أنت طالق وعليك ألف فقبلت طلقت
ولا شيء عليها ) وكذلك إن لم تقبل ، وقالا : إن قبلت فعليها الألف ، وإلا لا شيء عليها ،
لأن هذا الكلام يستعمل للمعاوضة ، يقال : اعمل هذا ولك درهم كقوله بدرهم ، وله أن قوله(3/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
وعليك ألف لا ارتباط له بما قبله ، إذ الأصل ذلك ولا دلالة على الارتباط ، لأن الطلاق
يوجد بدون المال ، بخلاف البيع والإجارة فإنهما لا ينفكان عن وجوب المال ؛ ولو قال
لعبده : أنت حر وعليك ألف فعلى الخلاف ؛ ولو قالت له : اخلعني على ألف فقال مجيبا
لها : أنت طالق كان كقوله خلعتك ؛ ولو قال : بعت منك طلاقك بمهرك ، فقالت : طلقت
نفسي بانت منه بمهرها بمنزلة قولها اشتريت ؛ ولو قال : بعت منك تطليقة ، فقالت اشتريت
تقع واحدة رجعية مجانا لأنه صريح .
قال : ( والمبارأة كالخلع يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق
بالنكاح حتى لو كان قبل الدخول وقد قبضت المهر لا يرجع عليها بشيء ) ولو لم تقبض شيئا
لا ترجع عليه بشيء ؛ ولو خالعها على مال آخر لزمها وسقط الصداق . وقال محمد : لا
يسقط فيهما إلا ما سمياه وأبو يوسف معه في الخلع ومع شيخه في المبارأة . لمحمد أنه
تعذر العمل بحقيقة اللفظين على ما يأتي فجعلا كناية عن الطلاق على مال فلا يجب إلا ما
سمياه . ولأبي يوسف أن المبارأة مفاعلة من البراءة وقضيتها البراءة من الجانبين مطلقا ، إلا
أنا اقتصرنا على ما وقعت المبارأة لأجله وهو حقوق النكاح . أما الخلع فيقتضي الانخلاع ،
وقد حصل الانخلاع من النكاح فلا حاجة إلى حقوقه . ولأبي حنيفة أن الخلع عبارة عن
الانخلاع والانتزاع على ما مر في أول الباب ، والمبارأة كما قال أبو يوسف تقتضي الانخلاع
والبراءة من الجانبين .
ونفس النكاح لا يحتمل الانخلاع والبراءة ، وحقوقه تقبل ذلك فتقع البراءة عنها
ليحصل ما هو المقصود من الخلع وهو انقطاع المشاجرة بين الزوجين ، أو نقول يعمل
بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه بدلالة العوض ، ولو وقع الخلع بلفظ البيع والشراء
فالأصح أنه يوجب البراءة عند أبي حنيفة ولو اختلعا ولم يذكرا المهر ولا بدلا آخر فالصحيح
أنه يسقط ما بقي من المهر وما قبضته فهو لها ، وإن ذكرا نفقة العدة سقطت وإلا فلا لأنها لم
تجب بعد ، ولا تقع البراءة عن نفقة الولد وهي مؤونة الرضاع إلا بالشرط لأنها لم تجب
لها ، فإن شرط البراءة منها في الخلع ووقتا بأن قال إلى سنة أو سنتين سقطت ، فإن مات
الولد قبل تمام المدة رجع عليها بما بقي من أجر مثل الرضاع إلى تمام المدة ، والحيلة لعدم
الرجوع أن يقول : خالعتك على كذا ، أو على نفقة الولد إلى سنتين ، فإن مات في بعض
المدة فلا رجوع لي عليك .
قال : ( ويعتبر خلع المريضة من الثلث ) لأنه لا قيمة للبضع عند الخروج ، وليس من(3/175)