المجلد الأول
مقدمة
...
" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "
حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه وأظهر شعائر الشرع وأحكامه وبعث رسلا وأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين إلى سبل الحق هادين وأخلفهم علماء إلى سنن سنتهم داعين يسلكون فيما لم يؤثر عنهم مسلك الاجتهاد مسترشدين منه في ذلك وهو ولي الإرشاد وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد والاعتبار بالأمثال من صنعة الرجال وبالوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ.
وقد جرى علي الوعد في مبدإ بداية المهتدي أن أشرحها بتوفيق الله تعالى شرحا أرسمه بـ كفاية المنتهى فشرعت فيه والوعد يسوغ بعض المساغ وحين أكاد أتكئ عنه اتكاء الفراغ تبينت فيه نبذا من الإطناب وخشيت أن يهجر لأجله الكتاب فصرفت العنان والعناية إلى شرح آخر موسوم بـ الهداية أجمع فيه بتوفيق الله تعالى بين عيون الرواية ومتون الدراية تاركا للزوائد في كل باب معرضا عن هذا النوع من الإسهاب مع ما أنه يشتمل على أصول ينسحب عليها فصول وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمامها ويختم لي بالسعادة بعد اختتامنها حتى أن من سمت همته إلى مزيد الوقوف يرغب في الأطول والأكبر ومن أعجله الوقت عنه يقتصر على الأقصر والأصغر وللناس فيما يعشقون مذاهب والفن خير كله ثم سألني بعض إخواني أن أملي عليهم المجموع الثاني فافتتحه مستعينا بالله تعالى في تحرير ما أقاوله متضرعا إليه في التيسير لما أحاوله إنه الميسر لكل عسير وهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/14)
كتاب الطهارات
باب: الوضوء
مدخل
...
كتاب الطهارات
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، " ففرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس " بهذا النص والغسل هو الإسالة والمسح هو الإصابة وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها " والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل " عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى هو يقول الغاية لا تدخل تحت المغيا كالليل في باب الصوم.
ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل وفي باب الصوم لمد الحكم إليها إذ الاسم يطلق على الإمساك ساعة والكعب هو العظم الناتئ هو الصحيح ومنه الكاعب.
قال: " والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس " لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه والكتاب مجمل فالتحق بيانا به وهو حجة على الشافعي في التقدير بثلاث شعرات وعلى مالك في اشتراط الاستيعاب وفي بعض الروايات قدره بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى بثلاث أصابع من أصابع اليد لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح.
قال: "وسنن الطهارة: غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء إذا استيقظ المتوضئ من نومه" لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " ولأن اليد آلة التطهير فتسن البداءة بتنظيفها وهذا الغسل إلى الرسغ لوقوع الكفاية به في التنظيف.
قال: " وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا وضوء لمن لم يسم الله " والمراد به نفي الفضيلة. والأصح أنها مستحبة وإن سماها في الكتاب سنة ويسمى قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح.
قال: " والسواك " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يواظب عليه وعند فقده يعالج(1/15)
بالأصبع، لأنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك والأصح أنه مستحب.
قال: " والمضمضة والاستننشاق " لأنه عليه الصلاة والسلام فعلهما على المواظبة.
وكيفيته أن يمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك هو المحكي عن وضوئه صلى الله عليه وسلم " ومسح الأذنين " وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: " الأذنان من الرأس " والمراد بيان الحكم دون الخلقة.
قال: " وتخليل اللحية " لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمره جبريل عليه السلام بذلك وقيل هو سنة عند أبي يوسف رحمه الله جائز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن السنة إكمال الفرض في محله والداخل ليس بمحل الفرض.
قال: " وتخليل الأصابع " لقوله عليه الصلاة والسلام: " خللوا أصابعكم كي لا تتخللها نار جهنم " ولأنه إكمال الفرض في محله.
قال: " وتكرار الغسل إلى الثلاث " لأن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به " وتوضأ مرتين مرتين وقال: " هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين " وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم " والوعيد لعدم رؤيته سنة.
قال: " ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة " فالنية في الوضوء سنة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى فرض لأنه عبادة فلا تصح بدون النية كالتيمم ولنا أنه لا يقع قربة إلا بالنية ولكنه يقع مفتاحا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة أو هو ينبئ عن القصد " ويستوعب رأسه بالمسح " وهو سنة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول ولنا أن أنسا رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولأن المفروض هو المسح وبالتكرار يصير غسلا ولا يكون مسنونا فصار كمسح الخف بخلاف الغسل لأنه لا يضره التكرار.
قال: " ويرتب الوضوء فيبدأ بما بدأ الله تعالى بذكره وبالميامن " فالترتيب في الوضوء سنة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى فرض لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية والفاء للتعقيب ولنا أن المذكور فيها حرف الواو وهي لمطلق الجمع بإجماع أهل اللغة فتقتضي إعقاب غسل جملة الأعضاء والبداءة بالميامن(1/16)
فضيلة لقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل ".(1/17)
فصل في نواقض الوضوء
" المعاني الناقضة للوضوء كل ما يخرج من السبيلين " لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الحدث قال: " ما يخرج من السبيلين " وكلمة ما عامة فتتناول المعتاد وغيره " والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير والقي ملء الفم " وقال الشافعي رحمه الله: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قاء فلم يتوضأ ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " الوضوء من كل دم سائل " وقوله عليه الصلاة والسلام: " من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته مالم يتكلم " ولأن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير وبملء الفم في القيء لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية لا خارجة بخلاف السبيلين لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة فيستدل بالظهور على الانتقال والخروج وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف لأنه يخرج ظاهرا فاعتبر خارجا وقال زفر رحمه الله تعالى قليل الفيء وكثيره سواء وكذا لا يشترط السيلان عنه اعتبارا بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: " القلس حدث " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا " وقول علي رضي الله تعالى عنه حين عد الأحداث جملة أو دسعة تملأ الفم وإذا تعارضت الأخبار يحمل ما رواه الشافعي رحمه الله على القليل وما رواه زفر رحمه الله على الكثير والفرق بين المسلكين قد بيناه ولو قاء متفرقا بحيث لو جمع يملأ الفم فعند أبي يوسف رحمه الله يعتبر اتحاد المجلس وعند محمد رحمه الله يعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان ثم مالا يكون حدثا لا يكون نجسا يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو الصحيح لأنه ليس بنجس حكما حيث لم تنتقض به الطهارة " وهذا إذا قاء مرة أو طعاما أو ماء فإن قاء بلغما فغير ناقض " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: ناقض إذا كان ملء الفم والخلاف في المرتقى من الجوف أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق لأن الرأس ليس بموضع النجاسة لأبي يوسف رحمه الله أنه نجس بالمجاورة(1/17)
ولهما أنه لزج لا تتخلله النجاسة وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض " ولو قاء دما هو علق يعتبر فيه ملء الفم لأنه سودءا محترقة " وإن كان مائعا فكذلك عند محمد رحمه الله اعتبارا بسائر أنواعه وعندهما إن سال بقوة نفسه ينتقض الوضوء وإن كان قليلا لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحه في الجوف " ولو نزل " من الرأس " إلى ما لأن من الأنف نقض بالإتفاق " لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج " والنوم مضطجعا أو متطئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل عنه لسقط " لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المافصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة والثابت عادة كالمتيقن به والاتكاء يزيل مسكة اليقظة لزوال المقعد عن الأرض ويبلغ الاسترخاء عايته بهذا النوع من الاستناد غير أن السند يمنعه من السقوط بخلاف النوم حالة القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة وغيرهما في الصحيح لأن بعض الاستمساك باق إذ لو زال لسقط فلم يتم الإسترخاء والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا وضوء على من نام قائما أو قاعدا أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا " فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصلة " والغلبة على العقل بالإغماء والجنون " لأنه فوق النوم مضطجعا في الاسترخاء والإغماء حدث في الأحوال كلها وهو القياس في النوم إلا أنا عرفناه بالأثر والإغماء فوقه فلا يقاس عليه " والقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود " والقياس أنها لا تنقض وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأنه ليس بخارج نجس ولهذا لم يكن حدثا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وخارج الصلاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعا " وبمثله يترك القياس والأثر ورد في صلاة مطلقة فيقتصر عليها والقهقهة ما يكون مسموعا له ولجيرانه والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه وهو على ما قيل يفسد الصلاة دون الوضوء " والدابة تخرج من الدبر ناقضة فإن خرجت من رأس الجرح أو سقط اللحم لا تنقض " والمراد بالدابة الدودة وهذا لأن النجس ما عليها وذلك قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما فأشبه الجشاء والفساء بخلاف الريح الخارجة من قبل المرأة وذكر الرجل لأنها لا تنبعث عن محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة يستحب لها الوضوء لاحتمال خروجها من الدبر " فإن قشرت نقطة فسال منها ماء أو صديد أو غيره إن سال عن رأس الجرح نقض وإن لم يسل لا ينقض " وقال زفر رحمه الله تعالى ينقض في الوجهين. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا ينقض في الوجهين وهي مسألة الخارج من غير السبيلين، وهذه الجملة نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا ثم يزداد نضجا فيصير صديدا ثم يصير ماء، هذا(1/18)
إذا قشرها فخرج بنفسه أما إذا عصرها فخرج بعصره لا ينقض لأنه مخرج وليس بخارج والله أعلم.(1/19)
فصل في الغسل
" وفرض الغسل: المضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن " وعند الشافعي رحمه الله تعالى هما سنتان فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: " عشر من الفطرة " أي من السنة وذكر منها " المضمضة والاستنشاق " ولهذا كانا سنتين في الوضوء ولنا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وهو أمر بتطهير جميع البدن إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن النص بخلاف الوضوء لأن الواجب فيه غسل الوجه والمواجهة فيهما منعدمة والمواد بما روي حالة الحدث بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء ".
قال: " وسنته أن يبدأ المغتسل فيغسل يديه وفرجه ويزيل نجاسة إن كانت على بدنه ثم يتوضأوضوءه للصلاة إلا رجليه ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا ثم يتنحى عن ذلك المكان فيغسل رجليه " هكذا حكت ميمونة رضي الله عنها اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع الماء المستعمل فلا يفيد الغسل حتى لو كان على لوح لا يؤخر وإنما يبدأ بإزالة النجاسة الحقيقية كيلا تزداد بإصابة الماء " وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل إذا بلغ الماء أصول الشعر " لقوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة رضي الله عنها: " أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك " وليس عليها بل ذوائبها هو الصحيح بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها.
قال: " والمعاني الموجبة للغسل إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة " وعند الشافعي رحمه الله تعالى خروج المني كيفما كان يوجب الغسل لقوله عليه الصلاة والسلام: " الماء من الماء " أي الغسل من المني ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة يقال أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة والحديث محمول على خروج المني عن شهوة ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انفصاله عن مكانه على وجه الشهوة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة إذ الغسل يتعلق بهما ولهما أنه مني وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب " والتقاء الختانين من غير إنزال " لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل "(1/19)
ولأنه سبب الإنزال ونفسه يتغيب عن بصره وقد يخفى عليه لقلته فيقام مقامه وكذا الإيلاج في الدبر لكمال السببية ويجب على المفعول به احتياطا بخلاف البهيمة وما دون الفرج لأن السببية ناقصة. قال: " والحيض " لقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد وكذا النفاس للإجماع.
قال: " وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام " نص على السنية وقيل هذه الأربعة مستحبة وسمى محمد رحمه الله تعالى الغسل يوم الجمعة حسنا في الأصل وقال مالك رحمه الله هو واجب لقوله عليه الصلاة والسلام: " من أتى الجمعة فليغتسل " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل " وبهذا يحمل ما رواه على الاستحباب أو على النسخ ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى هو الصحيح لزيادة فضيلتها على الوقت واختصاص الطهارة بها وفيه خلاف الحسن والعيدان بمنزلة الجمعة لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى قال: " وليس في المذي والودي غسل وفيهما الوضوء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " كل فحل يمذي وفيه الوضوء "، والودي الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه خروجا فيكون معتبرا به. والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله والتفسير مأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها.(1/20)
باب: الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز
مدخل
...
باب الماء الذي يجوز به الوضوء ومالا يجوز
" الطهارة من الأحداث جائزة بماء السماء والأودية والعيون والآبار والبحا ر" لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وقوله عليه الصلاة والسلام " الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ومطلق الاسم ينطلق على هذه المياه قال: " ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر " لأنه ليس بماء مطلق والحكم عند فقده منقول إلى التيمم والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه وأما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضي به لأنه ماء يخرج من غير علاج ذكره في جوامع أبي يوسف رحمه الله وفي الكتاب إشارة إليه حيث شرط الاعتصار. قال: " ولا " يجوز " بماء غلب عليه غيره فأخرجه عن طبع الماء كالأشربة والخل وماء الباقلا والمرق وماء الورد وماء(1/20)
الزردج " لأنه لا يسمى ماء مطلقا والمراد بماء الباقلا وغيره ما تغير بالطبخ فإن تغير بدون الطبخ يجوز التوضي به.
قال: " وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه كماء المد والماء الذي اختلط به اللبن أو الزعفران أو الصابون أو الأشنان " قال الشيخ الإمام: أجري في المختصر ماء الزردج مجرى المرق والمروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه بمنزلة ماء الزعفران وهو الصحيح كذا اختاره الناطفي والإمام السرخسي رحمه الله تعالى وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز التوضي بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض لأنه ماء مقيد ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران بخلاف أجزاء الأرض لأن الماء لا يخلو عنها عادة ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة وإضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين ولأن الخلط القليل لا معتبر به لعدم إمكان الإحتراز عنه كما في أجزاء الأرض فيعتبر الغالب والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح " فإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضي به " لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته إلا إذا طبخ فيه ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه لأن الميت قد يغسل بالماء الدي أغلى بالسدر بذلك وردت السنة إلا أنيغلب ذلك على الماء فيصير كالسويق المخلوط لزوال اسم الماء عنه " وكل ماء وقعت فيها لنجاسة لم يجز الوضوء به قليلا كانت النجاسة أو كثيرا " وقال مالك رحمه الله: يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه لما روينا وقال الشافعي رحمه الله يجوز إذا كان الماء قلتين لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " ولنا حديث المستيقظ من منامه، وقوله عليه الصلاة والسلام " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة " من غير فصل والذي رواه مالك رحمه الله تعالى ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا في البساتين وما رواه الشافعي رحمه الله ضعفه أبو داود وهو يضعف عن احتمال النجاسة "والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر لأنها لا تستقر مع جريان الماء " والأثر: هو الرائحة أو الطعم أو اللون والجاري: مالا يتكرر استعماله، وقيل ما يذهب بتبنة قال: " والغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه " إذ أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة ثم عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يعتبر التحريك بالاغتسال وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعنه التحريك باليد وعن محمد رحمه الله تعالى بالتوضي ووجه الأول أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضي،(1/21)
وبعضهم قدروا بالمساحة عشرا في عشر بذراع الكرباس توسعة للأمر على الناس وعليه الفتوى والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف هو الصحيح وقوله في الكتاب جاز الوضوء من الجانب الآخر إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا ينجس إلا بظهور أثر النجاسة فيه كالماء الجاري.
قال: " وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها " وقال الشافعي رحمه الله تعالى يفسده لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة بخلاف دود الخل وسوس الثمار لأن فيه ضرورة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام فيه " هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه " ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكى لانعدام الدم فيه ولا دم فيها والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين. قال: " وموت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان " وقال الشافعي رحمه اله يفسده إلا السمك لما مر ولنا أنه مات في معدنه فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما ولأنه لا دم فيها إذ الدموي لا يسكن الماء والدم هو المنجس وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن وقيل لا يفسده لعدم الدم وهو الأصح والضفدع البحري والبري فيه سواء وقيل البري مفسد لوجود الدم وعدم المعدن وما يعيش في الماء ما يكون توالده ومثواه في الماء ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد.
قال: " والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث " خلافا لمالك والشافعي رحمهما الله هما يقولان إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع وقال زفر رحمه الله وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله إن كان المستعمل متوضئا فهو طهور وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور لأن العضو طاهر حقيقة وباعتباره يكون الماء طاهرا لكنه نجس حكما وباعتباره يكون الماء نجسا فقلنا بانتفاء الطهورية وبقاء الطهارة عملا بالشبهين وقال محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو طاهر غير طهور لأن ملاقاة الطاهر لا توجب التنجس إلا أنه أقيمت به قربة فتغيرت به صفته كمال الصدقة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى هو نجس، لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " الحديث، ولأنه ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس نجاسة غليظة اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية وفي رواية أبي يوسف عنه رحمه الله تعالى وهو قوله إنه نجس نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف.(1/22)
قال: " والماء المستعمل: هو ماء أزيل به حدث أو استعمل في البدن على وجه القربة " قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي يوسف رحمه الله وقيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضا وقال محمد رحمه الله لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه وأنها تزال بالقرب وأبو يوسف رحمه الله يقول إسقاط الفرض مؤثر أيضا فيثبت الفساد بالأمرين ومتى يصير الماء مستعملا الصحيح أنه كما زايل العضو صار مستعملا لأن سقوط حكم الاستعمال قبل الانفصال للضرورة ولا ضرورة بعده والجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الرجل بحاله لعدم الصب وهو شرط عنده لإسقاط الفرض والماء بحاله لعدم الأمرين وعند محمد رحمه الله تعالى كلاهما طاهران الرجل لعدم اشتراط الصب والماء لعدم نية القربة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كلاهما نجسان الماء لإسقاط الفرض عن البعض بأول الملاقاة والرجل لبقاء الحدث في بقية الأعضاء وقيل عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل وعنه أن الرجل طاهر لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال وهو أوفق الروايات عنه.
قال: " وكل إهاب دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه إلا جلد الخنزير والآدمي " لقوله عليه الصلاة والسلام " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وهو بعمومه حجة على مالك رحمه الله في جلد الميتة ولا يعارض بالنهي الوارد عن الإنتفاع من الميتة بإهاب وهو قوله عليه الصلاة والسلام " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب " لأنه اسم لغير المدبوغ وحجة على الشافعي رحمه الله تعالى في جلد الكلب وليس الكلب بنجس العين ألا يرى أنه ينتفع به حراسة واصطيادا بخلاف الخنزير لأنه نجس العين إذ الهاء في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] منصرف إليه لقربه وحرمة الإنتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته فخرجا عما روينا ثم ما يمنع النتن والفساد فهو دباغ وإن كان تشميسا أو تتريبا لأن المقصود يحصل به فلا معنى
لاشتراط غيره ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة لأنها تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة وكذلك يطهر لحمه هو الصحيح وإن لم يكن مأكولا. قال: " وشعر الميتة وعظمها طاهر " وقال الشافعي رحمه الله تعالى نجس لأنه من أجزاء الميتة ولنا أنه لا حياة فيهما ولهذا لا يتألم بقطعهما فلا يحلهما الموت إذ الموت زوال الحياة " وشعر الإنسان وعظمه طاهر " وقال الشافعي نجس لأنه لا ينتفع به ولا يجوز بيعه ولنا أن عدم الإنتفاع والبيع لكرامته فلا يدل على نجاسته والله أعلم.(1/23)
فصل في البئر
" وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها " بإجماع السلف ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس " فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم تفسد الماء " استحسانا. والقياس أن تفسده لوقوع النجاسة في الماء القليل وجه الاستحسان أن آبار الفلوات ليست لها رؤوس حاجزة والمواشي تبعر حولها فتلقيها الريح فيها فجعل القليل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير وهو ما يستكثره الناظر إليه في المروي عن أبي حنيفة رحمه الله وعليه الاعتماد ولا فرق بين الرطب واليابس والصحيح والمنكسر والروث والخثى والبعر لأن الضرورة تشمل الكل وفي الشاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين قالوا ترمى البعرة ويشرب اللبن لمكان الضرورة ولا يعفى القليل في الإناء على ما قيل لعدم الضرورة وعن أبي حنيفة رحمه الله له أنه كالبئر في حق البعرة والبعرتين " فإن وقع فيها خرء الحمام أو العصفور لا يفسده " خلافا للشافعي رحمه الله له أنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد مع ورود الأمر بتطهيرها واستحالته لا إلى نتن رائحة فأشبه الحمأة " فإن بالت فيها شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا ينزح إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا " وأصله أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده نجس عندهما له أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر العرنيين بشرب ابوال الإبل وألبانها ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " من غير فصل ولأنه يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول مالا يؤكل لحمه وتأويل ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عرف شفاءهم فيه وحيا ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل شربه للتداوي ولا لغيره لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض عن الحرمة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يحل للتداوي للقصة وعند محمد يحل للتداوي وغيره لطهارته عنده، قال: " وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها " يعني بعد إخراج الفأرة لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها نزح منها عشرون دلوا والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها والعشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب. قال: " فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين وفي الجامع الصغير أربعون أو خمسون " وهو الأظهر، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه(1/24)
قال في الدجاجة: إذا ماتت في البئر نزح منها أربعون دلوا وهذا لبيان الإيجاب والخمسون بطريق الاستحباب ثم المعتبر في كل بئر دلوها الذي يستقى به منها وقيل دلو يسع فيها صاع ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود. قال: " وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي نزح جميع ما فيها من الماء " لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم " فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر " لانتشار البلة في أجزاء الماء. قال: " وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء " وطريق معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة ويجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء مثلا ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء وهذان عن أبي يوسف رحمه الله وعن محمد رحمه الله نزح مائتا دلو إلى ثلثمائة فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده وعن أبي حنيفة رحمه الله في الجامع الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه وقيل يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء وهذا أشبه بالفقه. قال: " وإن وجدوا في البئر فأرة أو غيرها ولا يدري متى وقعت ولم تنتفخ ولم تتفسخ أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها وإن كانت قد إنتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس عليهم إعادة شيء حتى يتتحققوا متى وقعت " لأن اليقين لا يزول بالشك وصار كن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن للموت سببا ظاهرا وهو الوقوع في الماء فيحال به عليه إلا أن الانتفاخ والتفسخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث وعدم الإنتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى هي على الخلاف فيقدر بالثلاث في البالي وبيوم وليلة في الطري ولو سلم فالثوب بمرأى عينه والبئر عائبة عن بصره فيفترقان.(1/25)
فصل في الأسآر وغيرها
" وعرق كل شيء معتبر بسؤره " لأنهما يتولدان من لحمه فأخذ أحدهما حكم صاحبه.
قال: " وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر " لأن المختلط به اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر " وسؤر الكلب نجس " ويغسل الإناء من ولوغه ثلاثا لقوله عليه الصلاة والسلام " يغسل الإناء من ولوغ(1/25)
الكلب ثلاثا " ولسانه يلاقي الماء دون الإناء فلما تنجس الإناء فالماء أولى وهذا يفيد النجاسة والعدد في الغسل وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط السبع ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث فما يصيبه سؤره وهو دونه أولى والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام " وسؤر الخنزير نجس " لأنه نجس العين على ما مر " وسؤر سباع البهائم نجس " خلافا للشافعي رحمه الله فيما سوى الكلب والخنزير لأن لحمها نجس ومنه يتولد اللعاب وهو المعتبر في الباب " وسؤر الهرة طاهر مكروه " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه غير مكروه لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ به ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " الهرة سبع " والمراد بيان الحكم دون الخلقة والصورة إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطوف فبقيت الكراهة وما رواه محمول على ما قبل التحريم ثم قيل كراهته لحرمة اللحم وقيل لعدم تحاميها النجاسة وهذا يشير إلى التنزه والأول إلى القرب من التحريم ولو أكلت فأرة ثم شربت على فوره الماء تنجس إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها والاستثناء على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويسقط اعتبار الصب للضرورة " و "سؤر " الدجاجة المخلاة " مكروه لأنها تخالط النجاسة ولو كانت محبوسة بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة " و " كذا سؤر " سباع الطير " لأنها تأكل الميتات فأشبه المخلاة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها إذا كانت محبوسة ويعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها لا يكره واستحسن المشايخ هذه الرواية " و "سؤر " ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه " لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطوف فبقيت الكراهة والتنبيه على العلة في الهرة. قال " وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه " قيل الشك في طهارته لأنه لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء وقيل الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه وكذا لبنه طاهر وعرقه لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش فكذا سؤره وهو الأصح ويروى نص محمد رحمه الله على طهارته وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس ترجيحا للحرمة والنجاسة والبغل من نسل الحمار فيكون بمنزلته " فإن لم يجد غيرهما يتوضأ بهما ويتيمم ويجوز أيهما قدم " وقال زفر رحمه الله: لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء لأنه ماء واجب الاستعمال فأشبه الماء المطلق ولنا أن المطهر أحدهما فيفيد الجمع دون الترتيب " وسؤر الفرس طاهر عندهما " لأن لحمه مأكول " وكذا عنده في الصحيح " لأن الكراهة لإظهار شرفه " فإن لم يجد(1/26)
إلا نبيذ التمر. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يتوضأبه ولا يتيمم " لحديث ليلة الجن فإن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ به حين لم يجد الماء وقال أبو يوسف رحمه الله يتيمم ولا يتوضأ به وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبه قال الشافعي رحمه الله عملا بآية التيمم لأنها أقوى أو هو منسوخ بها لأنها مدنية وليلة الجن كانت مكية وقال محمد رحمه الله تعالى يتوضأبه ويتيمم لأن في الحديث اضطرابا وفي التاريخ جهالة فوجب الجمع احتياطا قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة فلا يصح دعوى النسخ والحديث مشهور عملت به الصحابة رضي الله عنهم وبمثله يزاد على الكتاب وأما الاغتسال به فقد قيل يجوز عنده اعتبارا بالوضوء وقيل لا يجوز لأنه فوقه والنبيذ المختلف فيه أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضي به وإن غيرته النار فما دام حلوا رقيقا فهو على الخلاف وإن اشتد فعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز التوضي به لأنه يحل شربه عنده وعند محمد رحمه الله لا يتوضأبه لحرمة شربه عنده ولا يجوز التوضي بما سواه من الأبنذة جريا على قضية القياس.(1/27)
باب التيمم
" ومن لم يجد ماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر نحو ميل أو أكثر يتيمم بالصعيد " لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] وقوله عليه الصلاة والسلام " التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء " والميل هو المختار في المقدار لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة والمعتبر المسافة دون خوف الفوت لأن التفريط يأتي من قبله " ولو كان يجد الماء إلا أنه مريض يخاف إن استعمل الماء اشتد مرضه يتيمم " لما تلونا، ولأن الضرر في زيادة المرض فوق الضرر في زيادة ثمن الماء وذلك يبيح التيمم فهذا أولى ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك أو بالاستعمال واعتبر الشافعي رحمه الله تعالى خوف التلف وهو مردود بظاهر النص " ولو خاف الجنب إن اغتسل أن يقتله البرد أو يمرضه يتيمم بالصعيد " وهذا إذا كان خارج المصر لما بينا ولو كان في المصر فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى خلافا لهما هما يقولان إن تحقق هذه الحالة نادر في المصر فلا يعتبر وله أن العجز ثابت حقيقة فلا بد من اعتباره.
" والتيمم ضربتان: يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين " لقوله عليه الصلاة والسلام " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين " وينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كيلا يصير مثلة ولا بد من الإستيعاب في ظاهر الرواية لقيامه مقام الوضوء ولهذا(1/27)
قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح " والحديث والجنابة فيه سواء " وكذا الحيض والنفاس لما روي أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا قوم نسكن هذه الرمال ولا نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال عليه الصلاة والسلام " عليكم بأرضكم ".
" ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة والكحل والزرنيخ وقال أبو يوسف لا يجوز إلا بالتراب والرمل " وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب المنبت وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] أي ترابا منبتا قاله ابن عباس رضي الله عنه غير أن أبا يوسف زاد عليه الرمل بالحديث الذي رويناه ولهما أن الصعيد اسم لوجه الأرض سمي به لصعوده والطيب يحتمل الطاهر فحمل عليه لأنه
أليق بموضع الطهارة أو هو مراد بالإجماع " ثم لا يشترط أن يكون عليه غبار عند أبي حنيفة رحمه الله " لإطلاق ما تلونا " وكذا يجوز بالغبار مع القدرة على الصعيد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " لأنه تراب رقيق.
" والنية فرض في التيمم " وقال زفر رحمه الله تعالى: ليست بفرض لأنه خلف عن الوضوء فلا يخالفه في وصفه ولنا أنه ينبئ عن القصد فلا يتحقق دونه أو جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه على ما مر " ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه ولا يشترط نية التيمم للحدث أو للجنابة " هو الصحيح من المذهب " فإن تيمم نصراني يريد به الإسلام ثم أسلم لم يكن متيمما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هو متيمم " لأنه نوى قربة مقصودة بخلاف التيمم لدخول المسجد ومس المصحف لأنه ليس بقربة مقصودة ولهما أن التراب ما جعل طهورا إلا في حال إرادة قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة والإسلام قربة مقصودة تصح بدونها بخلاف سجدة التلاوة لأنها قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة " وإن توضأ لا يريد به الإسلام ثم أسلم فهو متوضئ " خلافا للشافعي رحمه الله بناء على اشتراط النية " فإن تيمم مسلم ثم ارتد ثم أسلم فهو على تيممه " وقال زفر رحمه الله: بطل تيممه لأن الكفر ينافيه فيستوي فيه الإبتداء والبقاء كالمحرمية في النكاح ولنا أن الباقي بعد التيمم صفة كونه طاهرا فاعتراض الكفر عليه لا ينافيه كما لو اعترض على الوضوء وإنما لا يصح من الكافر ابتداء لعدم لعدم النية منه.
" وينقض التيمم كل شيء ينقض الوضوء " لأنه خلف عنه فأخذ حكمه " وينقضه أيضا رؤية الماء إذا قدر على استعماله " لأن القدرة هي المراد بالوجود الذي هو غاية لطهورية(1/28)
التراب، وخائف السبع والعدو والعطش عاجز حكما والنائم عند أبي حنيفة رحمه الله قادر تقديرا حتى لو مر النائم المتيمم على الماء بطل تيممه عنده والمراد ماء يكفي للوضوء لأنه لا معتبر بما دونه ابتداء فكذا انتهاء " ولا يتيمم إلا بصعيد طاهر " لأن الطيب أريد به الطاهر في النص ولأنه آلة التطهير فلا بد من طهارته في نفسه كالماء.
" ويستحب لعادم الماء وهو يرجوه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فإن وجد الماء توضأ وإلا تيمم وصلى " ليقع الأداء بأكمل الطهارتين فصار كالطامع في الجماعة وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى في غير رواية الأصول أن التأخير حتم لأن غالب الرأي كالمتحقق وجه الظاهر أن العجز ثابت حقيقة فلا يزول حكمه إلا بيقين مثله " ويصلى بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل " وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتيمم لكل فرض لأنه طهارة ضرورية ولنا أنه طهور حال عدم الماء فيعمل عمله ما بقي شرطه.
" ويتيمم الصحيح في المصر إذا حضرت جنازة والولي غيره فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته الصلاة " لأنها لا تقضى فيتحقق العجز " وكذا من حضر العبد فخاف إن اشتغل بالطهارة أن يفوته العيد يتيمم " لأنها لا تعاد وقوله والولي غيره إشارة إلى أنه لا يجوز للولي وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو الصحيح لأن للولي حق الإعادة فلا فوات في حقه " وإن أحدث الإمام أو المقتدي في صلاة العيد تيمم وبنى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يتيمم " لأن اللاحق يصلي بعد فراغ الإمام فلا يخاف الفوت وله أن الخوف باق لأنه يوم زحمة فيعتريه عارض يفسد عليه صلاته والخلاف فيما إذا شرع بالوضوء ولو شرع بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق لأنا لو أوجبنا الوضوء يكون واجدا للماء في صلاته فيفسد " ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لو توضأ فإن أدرك الجمعة صلاها وإلا صلى الظهر أربعا " لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر بخلاف العيد " وكذا إذا خاف فوت الوقت لو توضأ لم يتيمم ويتوضأ ويقضي ما فاته " لأن الفوات إلى خلف وهو القضاء.
" والمسافر إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكر الماء لم يعدها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: يعيدها " والخلاف فيما إذا وضعه بنفسه أو وضعه غيره بأمره وذكره في الوقت وبعده سواء له أنه واجد للماء فصار كما إذا كان في رحله ثوب فنسيه ولأن رحل المسافر معدن للماء عادة فيفترض الطلب عليه ولهما أنه لا قدرة بدون العلم وهو المراد بالوجود وماء الرحل معد للشرب لا للاستعمال ومسألة الثوب على الاختلاف ولو كان على الاتفاق ففرض الستر يفوت(1/29)
لا إلى خلف والطهارة بالماء تفوت إلى خلف وهو التيمم " وليس على المتيمم طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء " لأن الغالب عدم الماء في الفلوات ولا دليل على الوجود فلم يكن واجدا للماء "وإن غلب على ظنه أن هناك ماء لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه " لأنه واجد للماء نظرا إلى الدليل ثم يطلب مقدار الغلوة ولا يبلغ ميلا كيلا ينقطع عن رفقته " وإن كان مع رفيقه ماء طلب منه قبل أن يتيمم " لعدم المنع غالبا فإن منعه منه تيمم لتحق العجز " ولو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى " لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير وقالا لا يجزئه لأن الماء مبذول عادة " ولو أبي أن يعطيه إلا بثمن المثل وعنده ثمنه لا يجزئه التيمم " لتحقق القدرة ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش لأن الضرر مسقط والله أعلم.(1/30)
باب: المسح على الخفين
...
من الأصابع استحباب اعتبارا بالأصل وهو الغسل " وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصابع اليد " وقال الكرخي رحمه الله تعالى من أصابع الرجل والأول أصح اعتبارا لآلة المسح " ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يبين منه قدر ثلاث أصابع من أصابع الرجل فإن كان أقل من ذلك جاز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يجوز وإن قل لأنه لما وجب غسل البادي وجب غسل الباقي ولنا أن الخفاف لا تخلو عن قليل خرق عادة فيلحقهم الحرج في النزع وتخلو عن الكبير فلا حرج والكبير أن ينكشف قدر ثلاثة أصابع من أصابع الرجل أصغرها هو الصحيح لأن الأصل في القدم هو الأصابع والثلاث أكثرها فيقام مقام الكل واعتبار الأصغر للاحتياط ولا معتبر بدخول الأنامل إذا كان لا ينفرج عند المشي ويعتبر هذا المقدار في كل خف على حدة فيجمع الخرق في خف واحد ولا يجمع في خفين لأن الخرق في أحدهما لا يمنع قطع السفر بالآخر بخلاف النجاسة المتفرقة لأنه حامل للكل وانكشاف العورة نظير النجاسة.
" ولا يجوز المسح لمن وجب عليه الغسل " لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها لا عن جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم ولأن الجنابة لا تتكرر عادة فلا حرج في النزع بخلاف الحدث لأنه يتكرر.
" وينقض المسح كل شيء ينقض الوضوء " لأنه بعض الوضوء " وينقضه أيضا نزع الخف " لسراية الحدث إلى القدم حيث زال المانع " وكذا نزع أحدهما " لتعذر الجمع بين الغسل والمسح في وظيفة واحدة " وكذا مضي المدة " لما روينا " وإذا تمت المدة نزع خفيه وغسل رجليه وصلى وليس عليه إعادة بقية الوضوء " وكذا إذا نزع قبل المدة لأن عند النزع يسري الحدث السابق إلى القدمين كأنه لم يغسلهما وحكم النزع يثبت بخروج القدم إلى الساق لأنه لا معتبر به في حق المسح وكذا بأكثر القدم هو الصحيح " ومن ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثة أيام ولياليها " عملا بإطلاق الحديث ولأنه حكم متعلق بالوقت فيعتبر فيه آخره بخلاف ما إذا استكمل المدة للإقامة ثم سافر لأن الحدث قد سرى إلى القدم والخلف ليس برافع " ولو أقام وهو مسافر إن استكمل مدة الاقامة نزع " لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه " وإن لم يستكمل أتمها " لأن هذه مدة الاقامة وهو مقيم.
قال: " ومن لبس الجرموق فوق الخف مسح عليه " خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فإنه يقول البدل لا يكون له بدل.(1/31)
ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح على الجرموقين ولأنه تبع للخف استعمالا وغرضا فصارا كخف ذي طاقين وهو بدل عن الرجل لا عن الخف بخلاف ما إذا لبس الجرموق بعد ما أحدث لأن الحدث حل بالخف فلا يتحول إلى غيره ولو كان الجرموق من كرباس لا يجوز المسح عليه لأنه لا يصلح بدلا عن الرجل إلا أن تنفد البلة إلى الخف " ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين وقالا يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح على جوربيه ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف وله أنه ليس في معنى الخف لأنه لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلا وهو محمل الحديث وعنه أنه رجع إلى قولهما وعليه الفتوى " ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة والبرقع والقفازين " لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء والرخصة لدفع الحرج " ولا يجوز المسح على الجبائر وإن شدها على غير وضوء " لأنه عليه الصلاة والسلام فعله وأمر عليا رضي الله عنه به ولأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح ويكتفى بالمسح على أكثرها ذكره الحسن رحمه الله تعالى ولا يتوقت لعدم التوقيف بالتوقيت " وإن سقطت الجبيرة عن غير برء لا يبطل المسح " لأن العذر قائم والمسح عليها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقيا وإن سقطت عن برء بطل لزوال العذر وإن كان في الصلاة استقبل لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل والله أعلم.(1/32)
باب: الحيض والاستحاضة
مدخل
...
باب الحيض والاستحاضة
" أقل الحيض ثلاثة ايام ولياليها وما نقص من ذلك فهو استحاضة " قوله عليه الصلاة والسلام " أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها وأكثره عشرة أيام " وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في التقدير بيوم وليلة.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث إقامة للأكثر مقام الكل قلنا هذا نقص عن تقدير الشرع " وأكثره عشرة أيام ولياليها والزائد استحاضة " لما روينا وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في التقدير بخمسة عشر يوما ثم الزائد والناقص استحاضة لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به " وما تراه المرأة من الحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض " حتى ترى البياض خالصا " وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم " لأنه لو كان من الرحم لتأخر خروج الكدر عن الصافي ولهما ما روي أن عائشة رضي الله عنها جعلت ما سوى البياض الخالص حيضا وهذا لا يعرف(1/32)
إلا سماعا، وفم الرحم منكوس فيخرج الكدر أولا كالجرة إذا ثقب أسفلها.
وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء تكون حيضا ويحمل على فساد الغداء وإن كانت كبيرة لا ترى غير الخضرة تحمل على فساد المنبت فلا تكون حيضا " والحيض يسقط عن الحائض الصلاة ويحرم عليها الصوم وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة " لقول عائشة رضي الله عنها كانت إحدانا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ولأن في قضاء الصلاة حرجا لتضاعفها ولا حرج في قضاء الصوم " ولا تدخل المسجد " وكذا الجنب لقوله عليه الصلاة والسلام " فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في إباحة الدخول على وجه العبور والمرور " ولا تطوف بالبيت " لأن الطواف في المسجد " ولا يأتيها زوجها " لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] " وليس للحائض والجنب والنفساء قراءة القرآن " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن " وهو حجة على مالك رحمه الله في الحائض وهو بإطلاقه يتناول ما دون الآية فيكون حجة على الطحاوي في إباحته " وليس لهم مس المصحف إلا بغلافه ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن إلا بصرته وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يمس القرآن إلا طاهر " ثم الحدث والجنابة حلا اليد فيستويان في حكم المس والجنابة حلت الفم دون الحدث فيفترقان في حكم القراءة وغلافه ما يكون متجافيا عنه دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح ويكره مسه بالكم هو الصحيح لأنه تابع له بخلاف كتب الشريعة لأهلها حيث يرخص في مسها بالكم لأن فيه ضرورة ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حفظ القرآن وفي الأمر بالتطهير حرجا بهم وهذا هو الصحيح.
قال: " وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام لم يحل وطؤها حتى تغتسل " لأن الدم يدر تارة وينقطع أخرى فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع " ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقدر أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حل وطؤها " لأن الصلاة صارت دينا في ذمتها فطهرت حكما " ولو كان انقطع الدم دون عادتها فوق الثلاث لم يقربها حتى تمضي عادتها وإن إغتسلت " لأن العود في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب " وإن انقطع الدم لعشرة أيام حل وطؤها قبل الغسل " لأن الحيض لا مزيد له على العشرة إلا أنه لا يستحب قبل الاغتسال للنهي في القراءة بالتشديد.
قال: " والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو كالدم المتوالي ". قال(1/33)
رضي الله تعالى عنه: وهذه إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله ووجهه أن استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في باب الزكاة وعن أبي يوسف رحمه الله وهو روايته عن أبي حنيفة رحمه الله وقيل هو آخر أقواله إن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يفصل وهو كله كالدم المتوالي لأنه طهر فاسد فيكون بمنزلة الدم والأخذ بهذا القول أيسر وتمامه يعرف في كتاب الحيض " وأقل الطهر خمسة عشر يوما " هكذا نقل عن إبراهيم النخعي وأنه لا يعرف إلا توقيفا "ولا غاية لأكثره " لأنه يمتد إلى سنة وسنتين فلا يتقدر بتقدير إلا إذا استمر بها الدم فاحتيج إلى نصب العادة ويعرف ذلك في كتاب الحيض " ودم الاستحاضة كالرعاف الدائم لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء " لقوله عليه الصلاة والسلام " توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير " وإذا عرف حكم الصلاة ثبت حكم الصوم والوطء بنتيجة الإجماع " ولو زاد الدم على عشرة أيام ولها عادة معروفة دونها ردت إلى أيام عادتها والذي زاد استحاضة " لقوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها " ولأن الزائد على العادة يجانس ما زاد على العشرة فيلحق به وإن ابتدأت مع البلوغ مستحاضة فحيضها عشرة أيام من كل شهر والباقي استحاضة لأنا عرفناه حيضا فلا يخرج عنه بالشك والله أعلم.(1/34)
فصل في الاستحاضة
" والمستحاضة ومن به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ يتوضئون لوقت كل صلاة فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل " وقال الشافعي رحمه الله تتوضأ المستحاضة لكل مكتوبة لقوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تتوضأ لكل صلاة " ولأن اعتبار طهارتها ضرورة أداء المكتوبة فلا تبقى بعد الفراغ منها.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة " وهو المراد بالأول لأن اللام تستعار للوقت يقال آتيك لصلاة الظهر أي وقتها ولأن الوقت أقيم مقام الأداء تيسيرا فيدار الحكم عليه " وإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم واستأنفوا الوضوء لصلاة أخرى " وهذا عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر رضي الله عنه استأنفوا إذا دخل الوقت " فإن توضئوا حين تطلع الشمس أجزأهم عن فرض الوقت حتى يذهب وقت الظهر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله أجزأهم حتى يدخل وقت الظهر.
وحاصله: أن طهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت أي عنده بالحدث السابق عند(1/34)
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وبدخوله عند زفر وبأيهما كان عند أبي يوسف رحمه الله وفائدة الاختلاف لا تظهر إلا فيمن توضأ قبل الزوال كما ذكرنا أو قبل طلوع الشمس لزفر رحمه الله أن اعتبار الطهارة مع المنافي للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت فلا تعتبر ولأبي يوسف أن الحاجة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده ولهما أنه لا بد من تقديم الطهارة على الوقت ليتمكن من الأداء كما دخل الوقت وخروج الوقت دليل زوال الحاجة فظهر اعتبار الحدث عنده والمراد بالوقت وقت المفروضة حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به عندهما وهو الصحيح لأنها بمنزلة صلاة الضحى ولو توضأ مرة للظهر في وقته وأخرى فيه للعصر فعندهما ليس له أن يصلي العصر به لانتقاضه بخروج وقت المفروضة والمستحاضة هي التي لا يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه وكذا كل من هو في معناها وهو من ذكرناه ومن به استطلاق بطن وانفلات ريح لأن الضرورة بهذا تتحقق وهي تعمم الكل.(1/35)
فصل في النفاس
" النفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة " لأنه مأخوذ من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس بمعنى الولد " أو بمعنى الدم والدم الذي تراه الحامل ابتداء أو حال ولادتها قبل خروج الولد استحاضة " وإن كان ممتدا وقال الشافعي رحمه الله حيض اعتبارا بالنفاس إذ هما جميعا من الرحم.
ولنا أن بالحبل ينسد فم الرحم كذا العادة والنفاس بعد انفتاحه بخروج الولد ولهذا كان نفاسا بعد خروج بعض الولد فيما روي عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه ينفتح فيتنفس به " والسقط الذي استبان بعد خلقه ولد " حتى تصير المرأة به نفساء وتصير الأمة أم ولد به وكذا العدة تنقضي به " وأقل النفاس لا حد له " لأن تقدم الولد علم الخروج من الرحم فأغنى عن امتداد جعل علما عليه كما في الحيض " وأكثره أربعون يوما والزائد عليه استحاضة " لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام وقت للنفساء أربعين يوما وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اعتبار الستين " فإن جاوز الدم الأربعين وقد كانت ولدت قبل ذلك ولها عادة في النفاس ردت إلى أيام عادتها " لما بينا في الحيض " وإن لم تكن لها عادة فابتداء نفاسها أربعون يوما " لأنه أمكن جعله نفاسا " فإن ولدت ولدين في بطن واحد فنفاسها من الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وإن كان بين الولدين اربعون يوما وقال محمد رحمه الله من الولد الأخير " وهو قول زفر رحمه الله، لأنها(1/35)
حامل بعد وضع الأول فلا تصير نفساء كما أنها لا تحيض ولهذا تنقضي العدة بالولد الأخير بالاجماع ولهما أن الحامل إنما لا تحيض لانسداد فم الرحم على ما ذكرنا وقد انفتح بخروج الأول وتنفس بالدم فكان نفاسا والعدة تعلقت بوضع حمل مضاف إليها فيتناول الجميع.(1/36)
باب: الأنجاس وتطهيرها
مدخل
...
باب الأنجاس وتطهيرها
" تطهير النجاسة واجب من بدن المصلي وثوبه والمكان الذي يصلي عليه " لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال عليه الصلاة والسلام " حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء، ولا يضرك أثره " وإذا وجب التطهير بما ذكرنا في الثوب وجب في البدن والمكان فإن الإستعمال في حالة الصلاة يشمل الكل " ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع طاهر يمكن إزالتها به كالخل وماء الورد ونحوه مما إذا عصر إنعصر " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله لا يجوز إلا بالماء لأنه يتنجس بأول الملاقاة والنجس لا يفيد الطهارة إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة ولهما أن المائع قالع والطهورية بعلة القلع والإزالة والنجاسة للمجاورة فإذا إنتهت أجزاء النجاسة يبقى طاهرا وجواب الكتاب لا يفرق بين الثوب والبدن وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وعنه أنه فرق بينهما فلم يجوز في البدن بغير الماء " وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث والعذرة والدم والمني فجفت فدلكه بالأرض جاز " وهذا استحسان " وقال محمد رحمه الله: لا يجوز " وهو القياس " إلا في المني خاصة " لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف والدلك بخلاف المني على ما نذكره ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور " ولأن الجلد لصلابته لا تتداخله أجزاء النجاسة إلا قليلا ثم يجتذبه الجرم إذا جف فإذا زال زال ما قام به " وفي الرطب لا يجوز حتى يغسله " لأن المسح بالأرض يكثره ولا يطهره وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا مسحه بالأرض حتى لم يبق أثر النجاسة يطهر لعموم البلوى وإطلاق ما يروى وعليه مشايخنا رحمهم الله " فإن أصابه بول فيبس لم يجز حتى يغسله " وكذا كل ما لا جرم له كالخمر لأن الأجزاء تتشرب فيه ولا جاذب يجذبها وقيل ما يتصل به من الرمل والرماد جرم له " والثوب لا يجزي فيه إلا الغسل وإن يبس " لأن الثوب لتخلخله يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها إلا الغسل "والمني نجس يجب غسله إن كان رطبا فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك" لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " فاغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان(1/36)
يابسا " وقال الشافعي رحمه الله المني طاهر والحجة عليه ما رويناه وقال عليه الصلاة والسلام إنما يغسل الثوب من خمس وذكر منها المني ولو أصاب البدن.
قال مشايخنا رحمهم الله: يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يطهر إلا بالغسل لأن حرارة البدن جاذبة فلا يعود إلى الجرم والبدن لا يمكن فركه " والنجاسة إذا أصابت المرآة أو السيف إكتفى بمسحهما " لأنه لا تتداخله النجاسة وما على ظاهره يزول بالمسح " وإن أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا تجوز لأنه لم يوجد المزيل " و " لهذا " لا يجوز التيمم به " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " زكاة الأرض يبسها " وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا تتأذى بما ثبت بالحديث " وقدر الدرهم وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاجة وبول الحمار جازت الصلاة معه وإن زاد لم تجز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله: قليل النجاسة وكثيرها سواء لأن النص الموجب للتطهير لم يفصل ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا وقدرناه بقدر الدرهم أخذا عن موضع الاستنجاء ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة وهو قدر عرض الكف في الصحيح ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال وهو ما يبلغ وزنه مثقالا وقيل في التوفيق بينهما إن الأولى في الرقيق والثانية في الكثيف وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت بدليل مقطوع به " وإن كانت مخففة كبول ما يؤكل لحمه جازت الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب " يروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش والربع ملحق بالكل في حق بعض الأحكام وعنه ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر وقيل ربع الموضع الذي اصابه كالذيل والدخريص وعن أبي يوسف رحمه الله شبر في شبر وإنما كان مخففا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لمكان الاختلاف في نجاسته أو لتعارض النصين على اختلاف الأصلين " وإذا أصاب الثوب من الروث أو " من " أخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام رمى بالروثة وقال " هذا رجس أو ركس " لم يعارضه غيره وبهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض " وقالا يجزئه حتى يفحش " لأن للاجتهاد فيه مساغا وبهذا يثبت التخفيف عندهما ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها هي مؤثرة في التخفيف بخلاف بول الحمار لأن الأرض تنشفه.
قلنا الضرورة في النعال قد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فتكفي مؤنتها.(1/37)
ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وزفر رحمه الله فرق بينما فوافق أبا حنيفة رحمه الله في غير مأكول اللحم ووافقهما في المأكول وعن محمد رحمه الله أنه لما دخل الري ورأى البلوى أفتى بأن الكثير الفاحش لا يمنع أيضا وقاسوا عليه طين بخارى وعند ذلك رجوعه في الخف يروى " وإن أصابه بول الفرس لم يفسده حتى يفحش عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محد رحمه الله لا يمنع وإن فحش " لأن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده مخفف نجاسته عند أبي يوسف رحمه الله ولحمه مأكول عندهما وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالتخفيف لتعارض الآثار "وإن أصابه خرء مالا يؤكل لحمه من الطيور أكثر من قدر الدرهم جازت الصلاة فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى لا تجوز" فقد قيل إن الاختلاف في النجاسة وقد قيل في المقدار وهو الأصح هو يقول إن التخفيف للضرورة ولا ضرورة لعدم المخالطة فلا يخفف ولهما أنها تذرق من الهواء والتخامي عنه متعذر فتحققت الضرورة ولو وقع في الإناء قيل يفسده وقيل لا يفسده لتعذر صون الأواني عنه " وإن أصابه من دم السمك أو " من " لعاب البغل أو الحمار أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه " أما دم السمك فلأنه ليس بدم على التحقيق فلا يكون نجسا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه اعتبر فيه الكثير الفاحش فاعتبره نجسا وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه فلا يتنجس به الطهر " فإن انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فذلك ليس بشيء " لأنه لا يستطاع الامتناع عنه.
قال: " والنجاسة ضربان مرئية وغير مرئية فما كان منها مرئيا فطهارته زوال عينها " لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها " إلا أن يبقى من أثرها ما تشق إزالته " لأن الحرج مدفوع وهذا يشير إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال العين وإن زال بالغسل مرة واحدة وفيه كلام " وما ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر " لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده فأقيم السبب لظاهر مقامه تيسيرا ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه ثم لا بد من العصر في كل مرة في ظاهر الرواية لأنه هو المستخرج.(1/38)
فصل في الاستنجاء
" الاستنجاء سنة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه " ويجوز فيه الحجر وما قام مقامه يمسحه حتى ينقيه " لأن المقصود هو الإنقاء فيعتبر ما هو المقصود وليس فيه(1/38)
عدد مسنون " وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من الثلاث لقوله عليه الصلاة والسلام: " وليستنج بثلاثة أحجار ".
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من استجمر فليوتر فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج " والإيتار يقع على الواحد وما رواه متروك الظاهر فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع " وغسله بالماء أفضل " لقوله تعالى: {فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] نزلت في أقوام كانوا يتبعون الحجارة الماء ثم هو أدب وقيل هو سنة في زماننا ويستعمل الماء إلى أن يقع في غالب ظنه أنه قد طهر ولا يقدر بالمرات إلا إذا كان موسوسا فيقدر بالثلاث في حقه وقيل بالسبع " ولو جاوزت النجاسة مخرجها لم يجز فيه إلا الماء " وفي بعض النسخ إلا المائع وهذا يقق اختلاف الروايتين في تطهير العضو بغير الماء على ما بينا وهذا لأن المسح غير مزيل إلا أنه اكتفي به في موضع الاستنجاء فلا يتعداه ثم يعتبر المقدار المانع وراء موضع الاستنجاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لسقوط اعتبار ذلك الموضع وعند محمد رحمه الله مع موضع الاستنجاء اعتبارا بسائر المواضع " ولا يستنجى بعظم ولا بروث " لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك ولو فعل يجزيه لحصول المقصود ومعنى النهي في الروث النجاسة وفي العظم كونه زاد الجن، " ولا " يستنجى " بطعام " لأنه إضاعة وإسراف " ولا بيمينه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الاستنجاء باليمين.(1/39)
كتاب الصلاة
باب: المواقيت
مدخل
...
كتاب الصلاة
باب المواقيت
" أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس " لحديث إمامة جبريل عليه السلام فإنه أم رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا وكادت الشمس أن تطلع ثم قال في آخر الحديث " ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك " ولا معتبر بالفجر الكاذب وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، وإنما الفجر المستطير في الأفق " أي المنتشر فيه " وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس " لإمامة جبريل عليه السلام في اليوم الأول حين زالت الشمس " وآخر وقتها عند أبي حنيفة رحمه الله إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال وقالا إذا صار الظل مثله " وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال لهما إمامة جبريل عليه السلام في اليوم الأول في هذا الوقت ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم " وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك " وأول وقت العصر إذ خرج وقت الظهر على القولين وآخر وقتها مالم تغرب الشمس " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها " " وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخر وقتها مالم يغب الشفق " وقال الشافعي رحمه الله مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام أم في اليومين في وقت واحد.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق " وما رواه كان للتحرز عن الكراهة " ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو الحمرة " وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام " الشفق الحمرة " ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق " وما رواه موقوف على(1/40)
ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك رحمه الله في الموطأ وفيه اختلاف الصحابة " وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وآخر وقتها مالم يطلع الفجر الثاني " لقوله عليه الصلاة والسلام " وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر " وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في تقديره بذهاب ثلث الليل " وأول وقت الوتر بعد العشاء وآخره مالم يطلع الفجر " لقوله عليه الصلاة والسلام في الوتر " فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر " قال رضي الله عنه: هذا عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقته وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكر للترتيب.(1/41)
فصل
" ويستحب الإسفار بالفجر " لقوله عليه الصلاة والسلام " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " وقال الشافعي رحمه الله يستحب التعجيل في كل صلاة والحجة عليه ما رويناه وما نرويه.
قال: " والإبراد بالظهر في الصيف وتقديمه في الشتاء "لما روينا ولرواية أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشتاء بكر بالظهر وإذا كان في الصيف أبرد بها " وتأخير العصر مالم تتغير الشمس في الصيف والشتاء " لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده والمعتبر تغير القرص وهو أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين هو الصحيح والتأخير إليه مكروه " و " يستحب " تعجيل المغرب " لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود وقال عليه الصلاة والسلام " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء " قال " وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل " لقوله عليه الصلاة والسلام " لولا أن اشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل " ولأن فيه قطع السمر المنهي عنه بعده وقيل في الصيف تعجل كيلا تتقلل الجماعة والتأخير إلى نصف الليل مباح لأن دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة فتثبت الإباحة وإلى النصف الأخير مكروه لما فيه من تقليل الجماعة وقد انقطع السمر قبله " ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل أن يؤخره إلى آخر الليل فإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره " " فإذا كان يوم غيم فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها وفي العصر والعشاء تعجيلهما " لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر، وفي(1/41)
تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه ولا توهم في الفجر لأن تلك المدة مديدة وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى التأخير في الكل للاحتياط ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله.(1/42)
فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة
" لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها " لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال ثلاثة أوقات نهانا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند زوالها حتى تزول وحين تضيف للغروب حتى تغرب والمراد بقوله وأن نقبر صلاة الجنازة لأن الدفن غير مكروه والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في تخصيص الفرائض وبمكة في حق النوافل وحجة على أبي يوسف رحمه الله تعالى في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال. قال: " ولا صلاة جنازة " لما روينا " ولا سجدة تلاوة " لأنها في معنى الصلاة إلا عصر يومه عند الغروب لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت لأنه لو تعلق بالكل لوجب الأداء بعده ولو تعلق بالجزء الماضي فالمؤدى في آخر الوقت قاض وإذا كان كذلك فقد أداها كما وجبت بخلاف غيرها من الصلوات لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالنقص.
قال رضي الله عنه: والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة الكراهة حتى لو صلاها فيه أو تلا فيه آية السجدة فسجدها جاز لأنها أديت ناقصة كما وجبت إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة.
" ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك " ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة ويصلي على الجنازة " لأن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير الوقت كالمشغول به لا لمعنى في الوقت فلم تظهر في حق الفرائض وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة وظهرت في حق المنذور لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته وفي حق ركعتي الطواف وفي الذي شرع فيه ثم أفسده لأن الوجوب لغيره وهو ختم الطواف وصيانة المؤدي عن البطلان " ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر " لأنه عليه الصلاة والسلام لم يزد عليهما مع حرصه على الصلاة " ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض " لما فيه من تأخير المغرب " ولا إذا(1/42)
خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة إلى أن يفرغ من خطبته " لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة.(1/43)
باب الأذان
" الأذان سنة للصلوات الخمس والجمعة دون ما سواها " للنقل المتواتر " وصفة الأذان معروفة " وهو كما أذن الملك النازل من السماء " ولا ترجيع فيه " وهو أن يرجع فيرفع صوته بالشهادتين بعد ما خفض بهما وقال الشافعي رحمه الله تعالى فيه ذلك لحديث أبي محذورة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بالترجيع ولنا أنه لا ترجيع في المشاهير وكان ما رواه تعليما فظنه ترجيعا " ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين " لأن بلالا رضي الله عنه قال الصلاة خير من النوم مرتين حين وجد النبي عليه الصلاة والسلام راقدا فقال عليه الصلاة والسلام " ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك " وخص الفجر به لأنه وقت نوم وغفلة " والإقامة مثل الأذان إلا أنه يزيد فيها بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين " هكذا فعل الملك النازل من السماء وهو المشهور ثم هو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في قوله إنها فرادى فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة مرتين " ويترسل في الأذان ويحدر في الإقامة " لقوله عليه الصلاة والسلام لبلال " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر " وهذا بيان الاستحباب " ويستقبل بهما القبلة " لأن الملك النازل من السماء أذن مستقبل القبلة ولو ترك الاستقبال جاز لحصول المقصود ويكره لمخالفته السنة " ويحول وجهه للصلاة والفلاح يمنة ويسرة " لأنه خطاب للقوم فيواجههم به " وإن استدار في صومعته فحسن " مراده إذا لم يستطع تحويل الوجه يمينا وشمالا " مع ثبات قدميه " مكانهما كما هو السنة بأن كانت الصومعة متسعة فأما من غير حاجة فلا " والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه " بذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالا رضي الله عنه ولأنه أبلغ في الإعلام " فإن لم يفعل فحسن " لأنها ليست بسنة أصلية " والتثويب في الفجر: حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة حسن " لأنه وقت نوم وغفلة " وكره في سائر الصلوات " ومعناه العود إلى الإعلام بعد الإعلام وهو على حسب ما تعرفوه وهذا التثويب أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم لتغير أحوال الناس وخصوا الفجر به لما ذكرنا والمتأخرون استحسنوه في الصلوات كلها لظهور التواني في الأمور الدينية.
وقال أبو يوسف رحمه الله: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن للأمير في الصلوات كلها:(1/43)
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله واستبعده محمد رحمه الله لأن الناس سواسية في أمر الجماعة. وأبو يوسف رحمه الله خصهم بذلك لزيادة اشتغالهم بأمور المسلمين كيلا تفوتهم الجماعة وعلى هذا القاضي والمفتي " ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يجلس في المغرب أيضا جلسة خفيفة " لأنه لا بد من الفصل إذ الوصل مكروه ولا يقع الفصل بالسكتة لوجودها بين كلمات الأذان فيفصل بالجلسة كما بين الخطبتين ولأبي حنيفة رحمه الله أن التأخير مكروه فيكتفى بأدنى الفصل احترازا عنه والمكان في مسألتنا مختلف وكذا النغمة فيقع الفصل بالسكتة ولا كذلك الخطبة وقال الشافعي رحمه الله يفصل بركعتين اعتبارا بسائر الصلوات والفرق قد ذكرناه " قال يعقوب رأيت أبا حنيفة رحمه الله يؤذن في المغرب ويقيم ولا يجلس بين الأذان والإقامة " وهذا يفيد ما قلناه وأن المستحب كون المؤذن عالما بالسنة لقوله عليه الصلاة والسلام " ويؤذن لكم خياركم " " ويؤذن للفائتة ويقيم " لأنه عليه الصلاة والسلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بأذان وإقامة وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اكتفائه بالإقامة " فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام " لما روينا " وكان مخيرا في الباقي إن شاء أذن وأقام " ليكون القضاء على حسب الأداء " وإن شاء اقتصر على الإقامة " لأن الأذان للاستحضار وهم حضور.
قال رضي الله عنه: وعن محمد رحمه الله أنه يقيم لما بعدها ولا يؤذن قالوا يجوز أن يكون هذا قولهم جميعا " وينبغي أن يؤذن ويقيم على طهر فإن أذن على غير وضوء جاز " لأنه ذكر وليس بصلاة فكان الوضوء فيه استحبابا كما في القراءة " ويكره أن يقيم على غير وضوء " لما فيه من الفصل بين الإقامة والصلاة.
ويروى أنه لا تكره الإقامة أيضا لأنها أحد الأذانين ويروى أنه يكره الأذان أيضا لأنه صير داعيا إلى مالا يجيب بنفسه " ويكره أن يؤذن وهو جنب " رواية واحدة ووجه الفرق على إحدى الروايتين أن للأذان شبها بالصلاة فتشترط الطهارة عن أغلظ الحدثين لا دون أخفهما عملا بالشبهين.
وفي الجامع الصغير: إذا أذن وأقام على غير وضوء لا يعيد والجنب أحب إلى أن يعيد " ولو لم يعد أجزأه " أما الأول فلخفة الحدث وأما الثاني ففي الإعادة بسبب الجنابة روايتان والأشبه أن يعاد الأذان دون الإقامة لأن تكرار الأذان مشروع دون الإقامة وقوله لو لم يعد أجزأه يعني الصلاة لأنها جائزة بدون الأذان والإقامة. قال " وكذلك المرأة تؤذن " معناه يستحب أن يعاد ليقع على وجه السنة.(1/44)
" ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ويعاد في الوقت " لأن الأذان للإعلام وقبل الوقت تجهيل " وقال ابو يوسف " وهو قول الشافعي رحمه الله " يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل " لتوارث أهل الحرمين. والحجة على الكل قوله عليه الصلاة والسلام لبلال رضي الله عنه " لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يده عرضا " " والمسافر يؤذن ويقيم " لقوله عليه الصلاة والسلام لابني أبي مليكة رضي الله عنهما " إذا سافرتما فأذنا وأقيما " " فإن تركهما جميعا يكره " ولو اكتفى بالإقامة جاز لأن الأذان لاستحضار الغائبين والرفقة حاضرون والإقامة لإعلام الإفتتاح وهم إليه محتاجون " فإن صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة " ليكون الأداء على هيئة الجماعة " وإن تركهما جاز " لقول ابن مسعود رضي الله عنه أذان الحي يكفينا.(1/45)
باب شروط الصلاة التي تتقدمها
" يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمناه " قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] " ويستر عورته " لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [لأعراف: 31] أي ما يواري عورتكم عند كل صلاة وقال عليه الصلاة والسلام " لا صلاة لحائض إلا بخمار " أي لبالغة " وعورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة " لقوله عليه الصلاة والسلام " عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته " ويروى " ما دون سرته حتى تجاوز ركبته " وبهذا تبين أن السرة ليست من العورة خلافا لما يقول الشافعي رحمه الله " والركبة من العورة " خلافا له أيضا وكلمة إلى تحملها على كلمة مع عملا بكلمة حتى أو عملا بقوله عليه الصلاة والسلام " الركبة من العورة ".
" وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها " لقوله عليه الصلاة والسلام " المرأة عورة مستورة " واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما.
قال رضي الله عنه: وهذا تنصيص على أن القدم عورة ويروى أنها ليست بعورة وهو الأصح " فإن صلت وربع ساقها أو ثلثه مكشوف تعيد الصلاة " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " وإن كان أقل من الربع لا تعيد وقال أبو يوسف رحمه الله لا تعيد إن كان أقل من النصف " لأن الشيء إنما يوصف بالكثرة إذا كان ما يقابله أقل منه إذ هما من أسماء المقابلة " وفي النصف عنه روايتان " فاعتبر الخروج عن حد القلة أو عدم الدخول في ضده ولهما أن الربع يحكي حكاية الكمال كما في مسح الرأس والحلق في الإحرام. ومن رأى(1/45)
وجه غيره يخبر عن رؤيته وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة " والشعر والبطن والفخذ كذلك " يعني على هذا الاختلاف لأن كل واحد عضو على حدة والمراد به النازل من الرأس هو الصحيح وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج والعورة الغليظة على هذا الاختلاف والذكر يعتبر بانفراده وكذا الأنثيان وهذا هو الصحيح دون الضم " وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة وبطنهاه وظهرها عورة وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة " لقول عمر رضي الله عنه ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعا للحرج.
قال: " ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها ولم يعد " وهذا على وجهين إن كان ربع الثوب أو أكثر منه طاهرا يصلي فيه ولو صلى عريانا لا يجزئه لأن ربع الشيء يقوم مقام كله وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك عند محمد رحمه الله وهوأحد قولي الشافعي رحمه الله لأن في الصلاة فيه ترك فرض واحد وفي الصلاة عريانا ترك لفروض وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلى فيه وهو الأفضل لأن كل واحد منهما مانع جواز الصلاة حالة الاختيار ويستويان في حق المقدار فيستويان في حكم الصلاة وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا والأفضلية لعدم اختصاص الستر بالصلاة واختصاص الطهارة بها " ومن لم يجد ثوبا صلى عريانا قاعدا يومئ بالركوع والسجود " هكذا فعله أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام " فإن صلى قائما أجزأه " لأن في القعود ستر العورة الغليظة وفي القيام أداء هذه الأركان فيميل إلى أيهما شاء " إلا أن الأول أفضل " لأن الستر وجب لحق الصلاة وحق الناس ولأنه لا خلف له والإيماء خلف عن الأركان.
قال: " وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " الأعمال بالنيات " ولأن ابتداء الصلاة بالقيام وهو متردد بين العادة والعبادة ولا يقع التمييز بالنية والمتقدم على التكبير كالقائم عنده إذا لم يوجد ما يقطعه وهو عمل لا يليق بالصلاة ولا معتبرة بالمتأخرة منها عنه لأن ما مضى لا يقع عبادة لعدم النية وفي الصوم جوزت للضرورة والنية هي الإرادة والشرط أن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي أما الذكر باللسان فلا معتبر به ويحسن ذلك لاجتماع عزيمته ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية وكذا إن كانت سنة في الصحيح وإن كانت فرضا فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا لاختلاف الفروض " وإن كان مقتديا بغيره ينوي الصلاة ومتابعته " لأنه يلزمه فساد الصلاة من جهته فلا بد من التزامه.(1/46)
قال: " ويستقبل القبلة " لقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ثم من كان بمكة ففرضه إصابة عينها ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح لأن التكليف بحسب الوسع ومن كان خائفا يصلي إلى أي جهة قدر لتحقق العذر فأشبه حالة الاشتباه " فإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها اجتهد وصلى " لأن الصحابة رضوان الله عليهم تحروا وصلوا ولم ينكر عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه والاستخبار فوق التحري " فإن علم أنه أخطأ بعد ما صلى لا يعيدها " وقال الشافعي رحمه الله تعالى يعيدها إذا استدبر لتيقنه بالخطأ ونحن نقول ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري والتكليف مقيد بالوسع " وإن علم ذلك في الصلاة استدار إلى القبلة وبنى عليه " لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيئتهم في الصلاة واستحسنه النبي عليه الصلاة والسلام وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقض المؤدي قبله.
قال: " ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم " لوجود التوجه إلى جهة التحري وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة " ومن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته " لأنه اعتقد أن إمامه على الخطأ " وكذا لو كان متقدما على الإمام " لتركه فرض المقام.(1/47)
باب: صفة الصلاة
مدخل
...
باب صفة الصلاة
" فرائض الصلاة ستة: التحريمة " لقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] والمراد تكبيرة الافتتاح " والقيام " لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] " والقراءة " لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والركوع والسجود لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] " والقعدة في آخر الصلاة مقدار التشهد " لقوله عليه الصلاة والسلام لابن مسعود رضي الله عنه حين علمه التشهد " إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك " علق التمام بالفعل قرأ أو لم يقرأ.
قال: " وما سوى ذلك فهو سنة " أطلق اسم السنة وفيها واجبات كقراءة الفاتحة وضم السورة إليها ومراعاة الترتيب فيما شرع مكررا من الأفعال والقعدة الأولى وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة والقنوت في الوتر وتكبيرات العيدين والجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت فيه ولهذا تجب عليه سجدتا السهو بتركها هذا هو الصحيح(1/47)
وتسميتها سنة في الكتاب لما أنه ثبت وجوبها بالسنة.
قال: " وإذا شرع في الصلاة كبر " لما تلونا وقال عليه الصلاة والسلام " تحريمها التكبير " وهو شرط عندنا خلافا للشافعي رحمه الله حتى إن من تحرم للفرض كان له أن يؤدي بها التطوع عندنا وهو يقول إنه يشترط لها ما يشترط لسائر الأركان وهذا آية الركنية ولنا أنه عطف الصلاة عليه في قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] ومقتضاه المغايرة ولهذا لا يتكرر كتكرار الأركان ومراعاة الشرائط لما يتصل به من القيام " ويرفع يديه مع التكبير وهو سنة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه وهذا اللفظ يشير إلى اشتراط المقارنة وهو المروي عن أبي يوسف والمحكي عن الطحاوي والأصح أنه يرفع يديه أولا ثم يكبر لأن فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى والنفي مقدم على الإثبات " ويرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه " وعند الشافعي رحمه الله يرفع إلى منكبيه وعلى هذا تكبيرة القنوت والأعياد والجنازة له حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه ولنا رواية وائل بن حجر والبراء وأنس رضي الله عنهم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كبر رفع يديه حذاء أذنيه ولأن رفع اليد لإعلام الأصم وهو بما قلناه وما رواه يحمل على حالة العذر " والمرأة ترفع يديها حذاء منكبيها " هو الصحيح لأنه أستر لها " فإن قال بدل التكبير الله أجل أو أعظم أو الرحمن أكبر أو لا إله إلا الله أو غيره من أسماء الله تعالى أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن كان يحسن التكبير لم يجزئه إلا قوله الله أكبر أو الله الأكبر أو الله الكبير "وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا بالأولين وقال مالك رحمه الله تعالى لا يجوز إلا بالأول لأنه هو المنقول والأصل فيه التوقيف والشافعي رحمه الله يقول إدخال الألف واللام فيه أبلغ في الثناء فقام مقامه وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول إن أفعل وفعيلا في صفات الله تعالى سواء بخلاف ما إذا كان لا يحسن لأنه لا يقدر إلا على المعنى ولهما أن التكبير هو التعظيم لغة وهو حاصل " فإن افتتح الصلاة بالفارسية أو قرأ فيها بالفارسية أو ذبح وسمى بالفارسية وهو يحسن العربية أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يجزئه إلا في الذبيحة وإن لم يحسن العربية أجزأه "، أما الكلام في الافتتاح فمحمد مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى في العربية ومع أبي يوسف في الفارسية لأن لغة العرب لها من المزية ما ليس لغيرها.
وأماالكلام في القراءة فوجه قولهما إن القرآن اسم لمنظوم عربي كما نطق به النص إلا أن عند العجز يكتفى بالمعنى كالإيماء بخلاف التسمية لأن الذكر يحصل بكل لسان.(1/48)
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] ولم يكن فيها بهذه اللغة ولهذا يجوز عند العجز إلا أنه يصير مسيئا لمخالفته السنة المتوارثة ويجوز بأي لسان كان سوى الفارسية هو الصحيح لما تلونا.
والمعنى: لا يختلف باختلاف اللغات والخلاف في الاعتداد ولا خلاف في أنه لا فساد ويروى رجوعه في أصل المسألة إلى قولهما وعليه الاعتماد والخطبة والتشهد على هذا الاختلاف وفي الأذان يعتبر التعارف " ولو افتتح الصلاة باللهم اغفر لي لا يجوز " لأنه مشوب بحاجته فلم يكن تعظيما خالصا ولو افتتح بقوله اللهم فقد قيل يجزئه لأن معناه يا الله وقيل لا يجزئه لأن معناه ياألله آمنا بخير فكان سؤالا.
قال: " ويعتمد بيده اليمنى على اليسرى تحت السرة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة " وهو حجة على مالك رحمه الله تعالى في الإرسال وعلى الشافعي رحمه الله تعالى في الوضع على الصدر لأن الوضع تحت السرة أقرب إلى التعظيم وهو المقصود ثم الاعتماد سنة القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى حتى لا يرسل حالة الثناء والأصل أن كل قيام فيه ذكر مسنون يعتمد فيه ومالا فلا هو الصحيح فيعتمد في حالة القنوت وصلاة الجنازة ويرسل في القومة وبين تكبيرات الأعياد " ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يضم إليه قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] إلى آخره لرواية علي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول ذلك ولهما رواية أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا افتتح الصلاة كبر وقرأ سبحانك الله وبحمدك إلى آخره ولم يزد على هذا وما رواه محمول على التهجد وقوله وجل ثناؤك لم يذكر في المشاهير فلا يأتي به في الفرائض والأولى أن لا يأتي بالتوجه قبل التكبير لتتصل النية به هو الصحيح " ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] معناه إذا أردت قراءة القرآن والأولى أن يقول أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب منه أعوذ بالله ثم التعوذ تبع للقراءة دون الثناء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لما تلونا حتى يأتي به المسبوق دون المقتدي ويؤخر عن تكبيرات العيد خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى.
قال: " ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " هكذا نقل في المشاهير " ويسر بهما " لقول ابن مسعود رضي الله عنه أربع يخفيهن الإمام وذكر منها التعوذ والتسمية وآمين وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجهر بالتسمية عند الجهر بالقراءة لما روي أن النبي عليه الصلاة(1/49)
والسلام جهر في صلاته بالتسمية " قلنا: هو محمول على التعليم لأن أنسا رضي الله عنه أخبر أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يجهر بها ثم عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يأتي بها في أول كل ركعة كالتعوذ وعنه أنه يأتي بها احتياطا وهو قولهما ولا يأتي بها بين السورة والفاتحة إلا عند محمد رحمه الله تعالى فإنه يأتي بها في صلاة المخافتة " ثم يقرأ فاتحة الكتاب وسورة أو ثلاث آيات من أي سورة شاء " فقراءة الفاتحة لا تتعين ركنا عندنا وكذا ضم السورة إليها خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في الفاتحة ولمالك رحمه الله تعالى فيهما له قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها " وللشافعي رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والزيادة عليه بخبر الواحد لا تجوز لكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبهما " وإذا قال الإمام ولا الضالين قال آمين ويقولها المؤتم " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا أمن الإمام فأمنوا " ولا متمسك لمالك رحمه الله تعالى في قوله عليه الصلاة والسلام " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " من حيث القسمة لأنه قال في آخره " فإن الإمام يقولها ".
قال: " ويخفونها " لما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولأنه دعاء فيكون مبناه على الإخفاء والمد والقصر فيه وجهان والتشديد فيه خطأ فاحش قال: " ثم يكبر ويركع " وفي الجامع الصغير: ويكبر مع الانحطاط لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند كل خفض ورفع " ويحذف التكبير حذفا " لأن المد في أوله خطأ من حيث الدين لكونه استفهاما وفي آخره لحن من حيث اللغة " ويعتمد بيديه على ركبتيه ويفرج بين أصابعه " لقوله عليه الصلاة والسلام لأنس رضي الله عنه " إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك " ولا يندب إلى التفريج إلا في هذه الحالة ليكون أمكن من الأخذ ولا إلى الضم إلا في حالة السجود وفيما وراء ذلك يترك على العادة " ويبسط ظهره " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع بسط ظهره " ولا يرفع رأسه ولا ينكسه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لا يصوب رأسه ولا يقنعه ويقول " سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه " أي أدنى كمال الجمع " ثم يرفع رأسه ويقول سمع الله لمن حمده ويقول المؤتم ربنا لك الحمد ولا يقولها الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا يقولها في نفسه " لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الذكرين(1/50)
ولأنه حرض غيره فلا ينسى نفسه. لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد " هذه قسمة وإنها تنافي الشركة ولهذا لا يأتي المؤتم بالتسميع عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ولأنه يقع تحميده بعد تحميد المقتدي وهو خلاف موضوع الإمامة وما رواه محمول على حالة الانفراد " والمنفرد يجمع بينهما في الأصح " وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع ويروى بالتحميد والإمام بالدلالة عليه آت به معنى.
قال: " ثم إذا استوى قائما كبر وسجد " أما التكبير والسجود فلما بينا وأما الاستواء قائما فليس بفرض وكذا الجلسة بين السجدتين والطمأنينة في الركوع والسجود وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف يفترض ذلك كله وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام " قم فصل فإنك لم تصل " قاله لأعرابي حين أخف الصلاة ولهما أن الركوع هو الانحناء والسجود هو الانخفاض لغة فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما وكذا في الانتقال إذ هو غير مقصود وفي آخر ما روي تسميته إياه صلاة حيث قال " وما نقصت من هذا شيئا فقد نقصت من صلاتك " ثم القومة والجلسة سنة عندهما
وكذا الطمأنينة في تخريج الجرجاني رحمه الله تعالى وفي تخريج الكرخي رحمه الله واجبة حتى تجب سجدتا السهو بتركها ساهيا عنده " ويعتمد بيديه على الأرض " لأن وائل بن حجر رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد وأدعم على راحتيه ورفع عجيزته قال: " ووضع وجهه بين كفيه ويديه حذاء أذنيه " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك.
قال: " وسجد على أنفه وجبهته " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه " فإن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر " وهو رواية عنه لقوله عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وعد منها الجبهة " ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن السجود يتحقق بوضع بعض الوجه وهو المأمور به إلا أن الخد والذقن خارج بالإجماع والمذكور فيما روي الوجه في المشهور ووضع اليدين والركبتين سنة عندنا لتحقق السجود بدونهما وأما وضع القدمين فقد ذكر القدوري رحمه الله تعالى أنه فريضة في السجود.
قال: " فإن سجد على كور عمامته أو فاضل ثوبه جاز " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد على كور عمامته ويروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها " ويبدي ضبعيه " لقوله عليه الصلاة والسلام " وأبد ضبعيك " ويروى " وأبد " من الإبداد وهو المد والأول من الإبداء وهو الإظهار " ويجافي بطنه عن(1/51)
فخذيه " لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سجد جافى حتى إن بهمة لو أرادت أن تمر بين يديه لمرت وقيل إذا كان في الصف لا يحافي كيلا يؤذي جاره " ويوجه أصابع رجليه نحو القبلة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا سجد المؤمن سجد كل عضو منه فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع " " ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه " لقوله عليه الصلاة والسلام " وإذا سجد أحدكم فليقل في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه " أي أدنى كمال الجمع.
ويستحب أن يزيد على الثلاث في الركوع والسجود بعد أن يختم بالوتر لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختم بالوتر وإن كان إماما لا يزيد على وجه يمل القوم حتى لا يؤدي إلى التنفير ثم تسبيحات الركوع والسجود سنة لأن النص تناولهما دون تسبيحاتهما فلا يزاد على النص " والمرأة تنخفض في سجودها وتلزق بطنها بفخذيها " لأن ذلك استر لها.
قال: " ثم يرفع رأسه ويكبر " لما روينا " فإذا اطمأن جالسا كبر وسجد " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأعرابي " ثم ارفع رأسك حتى تستوي جالسا " ولو لم يستو جالسا وكبر وسجد أخرى أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد ذكرناه وتكلموا في مقدار الرفع والأصح أنه إذا كان إلى السجود أقرب لا يجوز لأنه يعد ساجدا وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز لأنه يعد جالسا فتتحقق الثانية.
قال: " فإذا اطمأن ساجدا كبر " وقد ذكرناه " واستوى قائما على صدور قدميه ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض ".
وقال الشافعي رحمه الله: يجلس جلسة خفيفة ثم ينهض معتمدا على الأرض لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك ولنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه وما رواه محمول على حالة الكبر ولأن هذه قعدة استراحة والصلاة ما وضعت لها " ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في " الركعة " الأولى " لأنه تكرار الأركان " إلا أنه لا يستفتح ولا يتعوذ " لأنهما لم يشرعا إلا مرة واحدة " ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى " خلافا للشافعي رحمه الله في الركوع وفي الرفع منه لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن تكبيرة الافتتاح وتكبيرة القنوت وتكبيرات العيدين وذكر الأربع في الحج " والذي يرو من الرفع محمول على الابتداء كذا نقل عن ابن الزبير رضي الله عنه " وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية افترش رجله اليسرى فجلس عليها ونصب اليمنى نصبا ووجه أصابعه نحو(1/52)
القبلة " هكذا وصفت عائشة رضي الله عنها قعود رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصلاة " ووضع يديه على فخذيه وبسط أصابعه وتشهد " يروى ذلك في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه ولأن فيه توجيه أصابع يديه إلى القبلة " فإن كانت امرأة جلست على أليتها اليسرى وأخرجت رجليها من الجانب الأيمن " لأنه أستر لها.
" والتشهد: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي إلى آخره " وهذا تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه قال أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام بيدي وعلمني التشهد كما كان يعلمني سورة من القرآن وقال " قل التحيات لله إلى آخره " والأخذ بهذا أولى من الأخذ بتشهد ابن عباس رضي الله عنهما وهو قوله التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا إلى آخره لأن فيه الأمر وأقله الاستحباب والألف واللام وهما للاستغراق وزيادة الواو وهي لتجديد الكلام كما في القسم وتأكيد التعليم " ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى " لقول ابن مسعود رضي الله عنه علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وآخرها فإذا كان وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد وإذا كان آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء " ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها " لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا بيان الأفضل هو الصحيح لأن القراءة فرض في الركعتين على ما يأتيك من بعد إن شاء الله تعالى " وجلس في الأخيرة كما جلس في الأولى " لما روينا من حديث وائل وعائشة رضي الله عنهما ولأنها أشق على البدن فكان أولى من التورك الذي يميل إليه مالك رحمه الله والذي يرويه أنه عليه الصلاة والسلام قعد متوركا ضعفه الطحاوي رحمه الله أو يحمل على حالة الكبر " وتشهد " وهو واجب عندنا " وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام " وهو ليس بفريضة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت هذا أو فعلت فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد " والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام خارج الصلاة واجبة إما مرة واحدة كما قاله الكرخي أو كلما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كما اختاره الطحاوي فكفينا مؤنة الأمر والفرض المروي في التشهد هو التقدير.
قال: " ودعاء بماشاء مما يشبه ألفاظ القرآن والأدعية المأثورة " لما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال له النبي عليه الصلاة والسلام " ثم اختر من الدعاء أطيبه وأعجبه إليك " ويبدأ بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليكون أقرب إلى الإجابة " ولا يدعو بما يشبه كلام الناس " تحرزا عن الفساد ولهذا يأتي بالمأثور المحفوظ،(1/53)
ومالا يستحيل سؤاله من العباد كقوله اللهم زوجني فلأنه يشبه كلامهم وما يستحيل كقوله اللهم اغفر ليس ليس من كلامهم وقوله اللهم ارزقني من قبيل الأول هو الصحيح لاستعمالها فيما بين العباد يقال رزق الأمير الجيش " ثم يسلم عن يمينه فيقول السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره مثل ذلك " لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر " وينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة وكذلك في الثانية " لأن الأعمال بالنيات ولا ينوي النساء في زماننا ولا من لا شركة له في صلاته هو الصحيح لأن الخطاب حظ الحاضرين " ولا بد للمقتدي من نية إمامه فإن كان الإمام من الجانب الأيمن أو الأيسر نواه فيهم " وإن كان بحذائه نواه في الأولى عند أبي يوسف رحمه الله ترجيحا للجانب الأيمن وعند محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله نواه فيهما لأنه ذو حظ من الجانبين " والمنفرد ينوي الحفظة لا غير " لأنه ليس معه سواهم " والإمام ينوي بالتسليمتين " هو الصحيح ولا ينوي في الملائكة عددا محصورا لأن الأخبار في عددهم قد اختلفت فأشبه الإيمان بالأنبياء عليهم السلام ثم إصابة لفظة السلام واجبة عندنا وليست بفرض خلافا للشافعي رحمه الله هو يتمسك بقوله عليه الصلاة والسلام " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ولنا ما رويناه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والتخبير ينافي الفرضية والوجوب إلا أنا أثبتنا الوجوب بما رواه احتياطا وبمثله لا تثبت الفرضية والله أعلم.(1/54)
بالوقت في حق المنفرد على وجه التخيير ولم يوجد أحدهما " ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد في الأخريين وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة وجهر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقضي واحدة منهما لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل ولهما وهو الفرق بين الوجهين أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة فلو قضاها في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة وهذا خلاف الموضوع بخلاف ما إذا ترك السورة لأنه أمكن قضاؤها على الوجه المشروع ثم ذكر ههنا ما يدل على الوجوب وفي الأصل بلفظة الاستحباب لأنها إن كانت مؤخرة فغير موصولة بالفاتحة فلم يمكن مراعاة موضوعها من كل وجه " ويجهر بهما " هو الصحيح لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع وتغيير النقل وهو الفاتحة أولى ثم المخافتة أن يمسع نفسه والجهر أن يسمع غيره وهذا عند الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله لأن مجرد حركة اللسان لا يسمى قراءة بدون الصوت وقال الكرخي أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ وفي لفظ الكتاب إشارة إلى هذا وعلى هذا الأصل كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق والعتاق والاستثناء وغير ذلك " وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ثلاث آيات قصار أو آية طويلة " لأنه لا يسمى قارئا بدونه فأشبه قراءة ما دون الآية وله قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] من غير فصل إلا أن ما دون الآية خارج والآية ليست في معناه " وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء " لما روي أن النبي عليه الصلا والسلام قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين ولأن السفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى وهذا إذا كان على عجلة من السير وإن كان في أمنة وقرار يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف " ويقرأ في الحضر في الفجر في الركعتين بأربعين آية أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب ". ويروى من أربعين إلى ستين ومن ستين إلى مائة وبكل ذلك ورد الأثر ووجه التوفيق أنه يقرأ بالراغبين مائة وبالكسالى أربعين وبالأوساط ما بين خمسين إلى ستين وقيل ينظر إلى طول الليالي وقصرها وإلى كثرة الأشغال وقلتها.
قال: " وفي الظهر مثل ذلك " لاستوائهما في سعة الوقت وقال في الأصل أو دونه لأنه وقت الاشتغال فينقص عنه تحرزا عن الملال " والعصر والعشاء سواء يقرأ فيهما بأوساط المفصل وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل " والأصل فيه كتاب عمر رضي(1/55)
الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب فيوقت فيهما بالأوساط " ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية " إعانة للناس على إدراك الجماعة.
قال: " وركعتا الظهر سواء " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله أحب إلي أن يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها ولهما أن الركعتين استويا في استحقاق القراءة فيستويان في المقدار بخلاف الفجر لأنه وقت نوم وغفلة والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج " وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها " بحيث لا تجوز بغيرها لإطلاق ما تلونا.
" ويكره أن يوقت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات " لما فيه من هجر الباقي وإبهام التفضيل " ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام " خلافا للشافعي رحمه الله في الفاتحة له أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو ركن مشترك بينهما لكن حظ المقتدي الإنصات والاستماع قال عليه الصلاة والسلام " وإذا قرأالإمام فأنصتوا " ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد رحمه الله ويكره عندهما لما فيه من الوعيد " ويستمع وينصت وإن قرأالإمام آية الترغيب والترهيب " لأن الاستماع والإنصات فرض بالنص والقراءة وسؤال الجنة والتعوذ من النار كل ذلك مخل به " وكذلك في الخطبة وكذلك إن صلى على النبي عليه الصلاة والسلام " لفرضية الاستماع إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] الآية فيصلي السامع في نفسه واختلفوا في النائي عن المنبر، والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الإنصات، والله أعلم بالصواب.(1/56)
فصل في القراءة
قال: " ويجهر بالقراءة في الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان إماما ويخفى في الأخريين " هذا هو المأثور المتوارث " وإن كان منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه " لأنه إمام في حق نفسه " وإن شاء خافت " لأنه ليس خلفه من يسمعه والأفضل هو الجهر ليكون الأداء على هيئة الجماعة " ويخفيها الإمام في الظهر والعصر وإن كان بعرفة " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلاة النهار عجماء " أي ليست فيها قراءة مسموعة وفي عرفة خلاف مالك رحمه الله والحجة عليه ما رويناه " ويجهر في الجمعة والعيدين " لورود النقل المستفيض بالجهر وفي التطوع بالنهار يخافت وفي الليل يتخير اعتبارا بالفرد في حق المنفرد وهذا لأنه مكمل له فيكون تبعا له " ومن فاتته العشاء فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فبها جهر " كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة " وإن كان وحده خافت حتما ولا يتخير هو الصحيح " لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما، أو(1/45)
باب الإمامة
" الجماعة سنة مؤكدة " لقوله عليه الصلاة والسلام " الجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق " " وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة ".(1/56)
وعن أبي يوسف رحمه الله: أقرؤهم لأن القراءة لا بد منها والحاجة إلى العلم إذا نئبت نائبة ونحن نقول القراءة مفتقر إليها لركن واحد والعلم لسائر الأركان " فإن تساووا فأقرؤهم " لقوله عليه الصلاة والسلام " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة وأقرؤهم كان أعلمهم " لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه فقدم في الحديث ولا كذلك في زماننا فقدمنا الأعلم " فإن تساووا فأورعهم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي " " فإن تساووا فأسنهم " لقوله عليه الصلاة والسلام لابني أبي مليكة " وليؤمكما أكبركما سنا " ولأن في تقديمه تكثير الجماعة " ويكره تقديم العبد " لأنه لا يتفرغ للتعلم " والأعرابي " لأن الغالب فيهم الجهل " والفاسق " لأنه لا يهتم لأمر دينه " والأعمى " لأنه لا يتوقى النجاسة " وولد الزنا " لأنه ليس له أب يثقفه فيغلب عليه الجهل ولأن في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة فيكره " وإن تقدموا جاز " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلوا خلف كل بر وفاجر " " ولا يطول الإمام بهم الصلاة " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أم قوما فليصل بهم صلاة أضعفهم فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة " " ويكره للنساء أن يصلين وحدهن الجماعة " لأنها لا تخلو عن ارتكاب محرم وهو قيام الإمام وسط الصف فيكره كالعراة " فإن فعلن قامت الإمام وسطهن " لأن عائشة رضي الله عنها فعلت كذلك وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام ولأن في التقدم زيادة الكشف " ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه " لحديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنه عليه الصلاة والسلام صلى به وأقامه عن يمينه ولا يتأخر عن الإمام وعن محمد رحمه الله أنه يضع أصابعه عند عقب الإمام والأول هو الظاهر فإن صلى خلفه أو في يساره جاز وهو مسيء لأنه خالف السنة " وإن أم اثنين تقدم عليهما " وعن أبي يوسف رحمه الله يتوسطهما ونقل ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ولنا أنه عليه الصلاة والسلام تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما فهذا للأفضلية والأثر دليل الإباحة " ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة أو صبي ".
أما المرأة فلقوله عليه الصلاة والسلام " أخروهن من حيث أخرهن الله " فلا يجوز تقديمها وأما الصبي فلأنه متنفل فلا يجوز اقتداء المفترض به وفي التراويح والسنن المطلقة جوزه مشايخ بلخ رحمهم الله ولم يجوزه مشايخنا رحمهم الله ومنهم من حقق الخلاف في النفل المطلق بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله والمختار أنه لا يجوز في الصلوات كلها لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع ولا يبني القوي على الضعيف بخلاف المظنون لأنه مجتهد فيه فاعتبر العارض عدما.(1/57)
وبخلاف اقتداء الصبي بالصبي لأن الصلاة متحدة " ويصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء " لقوله عليه الصلاة والسلام " ليليني منكم أولو الأحلام والنهى " ولأن المحاذاة مفسدة فيؤخرن " وإن حاذته امرأة وهما مشتركان في صلاة واحدة فسدت صلاته إن نوى الإمام إمامتها " والقياس أن لا تفسد وهو قول الشافعي رحمه الله اعتبارا بصلاتها حيث لا تفسد وجه الاستحسان ما رويناه وأنه من المشاهير وهو المخاطب به دونهها فيكون هو التارك لفرض المقام فتفسد صلاته دون صلاتها كالمأموم إذا تقدم على الإمام " وإن لم ينو إمامتها لم تضره ولا تجوز صلاتها " لأن الاشتراك لا يثبت دونها عندنا خلافا لزفر رحمه الله.
ألا ترى أنه يلزمه الترتيب في المقام فيتوقف على التزامه كالاقتداء وإنما يشترط نية الإمامة إذا ائتمت محاذية وإن لم يكن بجنبها رجل ففيه روايتان والفرق على إحداهما أن الفساد في الأول لازم وفي الثاني محتمل.
" ومن شرائط المحاذاة أن تكون الصلاة مشتركة وأن تكون مطلقة وأن تكون المرأة من أهل الشهوة وأن لا يكون بينهما حائل " لأنها عرفت مفسدة بالنص بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص " ويكره لهن حضور الجماعات " يعني الشواب منهن لما فيه من خوف الفتنة " ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا يخرجن في الصلوات كلها " لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها فلا يكره كما في العيد وله أن فرط الشبق حامل فتقع الفتنة غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة أما في الفجر والعشاء فهم نائمون وفي المغرب بالطعام مشغولون والجبانة متسعة فيمكنها الاعتزال عن الرجال فلا يكره.
قال: " ولا يصلي الطاهر خلف من هو في معنى المستحاضة ولا الطاهرة خلف المستحاضة " لأن الصحيح أقوى حالا من المعذور والشيء لا يتضمن ما هو فوقه والإمام ضامن بمعنى أنه تضمن صلاته صلاة المقتدي " ولا " يصلي " القارئ خلف الأمي ولا المكتسي خلف العاري " لقوة حالهما " ويجوز أن يؤم المتيمم المتوضئين " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: لا يجوز لأنه طهارة ضرورية والطهارة بالماء أصلية ولهما أنه طهارة مطلقة ولهذا لا يتقدر بقدر الحاجة " ويؤم الماسح الغاسلين " لأن الخلف مانع سراية الحدث في القدم وما حل بالخف يزيله المسح بخلاف المستحاضة لأن الحدث لم يعتبر شرعا مع قياسه حقيقة " ويصلي القائم خلف القاعد " وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يجوز(1/58)
وهو القياس لقوة حال القائم ونحن تركناه بالنص وهو ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى آخر صلاته قاعدا والقوم خلفه قيام " ويصلي المومئ خلف مثله " لاستوائهما في الحال إلا أن يومئ المؤتم قاعدا والإمام مضطجعا لأن القعود معتبر فتثبت به القوة " ولا يصلي الذي يركع ويسجد خلف المومئ " لأن حال المقتدي أقوى، وفيه خلاف زفر رحمه الله تعالى " ولا يصلي المفترض خلف المتنفل " لأن الاقتداء بناء ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام فلا يتحقق البناء على المعدوم.
قال: " ولا من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر " لأن الاقتداء شركة وموافقة فلا بد من الاتحاد وعند الشافعي رحمه الله تعالى يصح في جميع ذلك لأن الاقتداء عنده أداء على سبيل الموافقة وعندنا معنى التضمن مراعى " ويصلي المتنفل خلف المفترض " لأن الحاجة في حقه إلى أصل الصلاة وهو موجود في حق الإمام فيتحقق البناء " ومن اقتدى بإمام ثم علم أن إمامه محدث أعاد " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أم قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا " وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى بناء على ما تقدم ونحن نعتبر معنى التضمن وذلك في الجواز والفساد " وإذا صلى أمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى " وقالا صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامة لأنه معذور أم قوما معذورين وغير معذورين فصار كما إذا أم العاري عراة ولابسين وله أن الإمام ترك فرض القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته وهذا لأنه لو اقتدى بالقارئ تكون قراءته قراءة له بخلاف تلك المسئلة وأمثالها لأن الموجود في حق الإمام لا يكون موجودا في حق المقتدي " ولو كان يصلي الأمي وحده والقارئ وحده جاز " هو الصحيح لأنه لم تظهر منهما رغبة في الجماعة "ف إن قرأ الإمام في الأوليين ثم قدم في الأخريين أميا فسدت صلاتهم " وقال زفر رحمه الله تعالى لا تفسد لتأدي فرض القراءة.
ولنا أن كل ركعة صلاة فلا تخلى عن القراءة إما تحقيقا أو تقديرا ولا تقدير في حق الأمي لانعدام الأهلية وكذا على هذا لو قدمه في التشهد والله تعالى أعلم بالصواب.(1/59)
باب الحدث في الصلاة
" ومن سبقه الحدث في الصلاة انصرف فإن كان إماما استخلف وتوضأ وبنى " والقياس أن يستقبل وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأن الحدث ينافيها والمشي والانحراف يفسدانها فأشبه الحدث العمد.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف(1/59)
وليتوضأ وليبن على صلاته مالم يتكلم " وقال عليه الصلاة والسلام " إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه وليقدم من لم يسبق بشيء" والبلوى فيما يسبق دون ما يعتمده فلا يلحق به " والاستئناف أفضل " تحرزا عن شبهة الخلاف وقيل إن المنفرد يستقبل والإمام والمقتدي يبني صيانة لفضيلة الجماعة " والمنفرد إن شاء أتم في منزله وإن عاد إلى مكانه " والمقتدي يعود إلى مكانه إلا أن يكون إمامه قد فرغ أولا يكون بينهما حائل " ومن ظن أنه أحدث فخرج من المسجد ثم علم أنه لم يحدث استقبل الصلاة وإن لم يكن خرج من المسجد يصلي ما بقي " والقياس فيهما الاستقبال وهو رواية عن محمد رحمه الله لوجود الانصراف من غير عذر وجه الاستحسان أنه انصرف على قصد الإصلاح ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه بنى على صلاته فألحق قصد الإصلاح بحقيقته مالم يختلف المكان بالخروج وإن كان استخلف فسدت لأنه عمل كثير من غير عذر وهذا بخلاف ما إذا ظن أنه افتتح الصلاة على غير وضوء فانصرف ثم علم أنه على وضوء حيث تفسد وإن لم يخرج لأن الانصراف على سبيل الرفض ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه يستقبله فهذا هو الحرف ومكان الصفوف في الصحراء له حكم المسجد ولو تقدم قدامه فالحد هو السترة وإن لم تكن فمقدار الصفوف خلفه وإن كان منفردا فموضع سجوده من كل جانب " وإن جن أو نام فاحتلم أو أغمي عليه استقبل " لأنه يندر وجود هذه العوارض فلم يكن معنى ما ورد به النص وكذلك إذا قهقه لأنه بمنزلة الكلام وهو قاطع " وإن حصر الإمام عن القراءة فقدم غيره أجزأهم عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجزئهم " لأنه يندر وجوده فأشبه الجنابة في الصلاة وله أن الاستخلاف لعلة العجز وهو هنا ألزم والعجز عن القراءة غير نادر فلا يلحق بالجنابة " ولو قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة لا يجوز الاستخلاف بالإجماع " لعدم الحاجة إلى الاستخلاف " وإن الحدث بعد التشهد توضأوسلم " لأن التسليم واجب فلا بد من التوضي ليأتي به " وإن لحدث في هذه الحالة أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة تمت صلاته " لأنه يتعذر البناء لوجود القاطع لكن لا إعادة عليه لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان " فإن رأى المتيمم الماء في صلاته بطلت " وقد مر من قبل " وإن رآه بعد ما قعد قدر التشهد أو كان ماسحا فانقضت مدة مسحه او خلع خفيه بعمل يسير أو كان أميا فتعلم سورة أو عريانا فوجد ثوبا أو موميا فقدر على الركوع والسجود أو تذكر فائتة عليه قبل هذه أو أحدث الإمام القارئ فاستخلف أميا أو طلعت الشمس في الفجر أو دخل وقت العصر وهو في الجمعة أو كان ماسحا على الجبيرة فسقطت عن برء أو كان صاحب عذر فانقطع عذره كالمستحاضة ومن بمعناها بطلت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقالا(1/60)
تمت صلاته " وقيل الأصل فيه أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله وليس بفرض عندهما فاعتراض هذه العوارض عنده في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة وعندهما كاعتراضها بعد التسليم لهما ما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وله أنه لا يمكنه أداء صلاة أخرى إلا بالخروج من هذه وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا ومعنى قوله تمت قاربت التمام والاستخلاف ليس بمفسد حتى يجوز في حق القارىء وإنما الفساد ضرورة حكم شرعي وهو عدم صلاحية الإمامة " ومن اقتدى بإمام بعد ما صلى ركعة فأحدث الإمام فقدمة أجزأه " لوجود المشاركة في التحريمة والأولى للإمام أن يقدم مدركا لأنه أقدر على إتمام صلاته وينبغي لهذا المسبوق أن لا يتقدم لعجزه عن التسليم " فلو تقدم يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام " لقيامه مقامه " وإذا إنتهى إلى السلام يقدم مدركا يسلم بهم فلو أنه حين أتم صلاة الإمام قهقه أو أحدث متعمدا أو تكلم أو خرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة القوم تامة " لأن المفسد في حقه وجد في خلال الصلاة وفي حقهم بعد تمام أركانها "والإمام الأول إن كان فرغ لا تفسد صلاته وإن لم يفرغ تفسد" وهو الأصح " فإن لم يحدث الإمام الأول وقعد قدر التشهد ثم قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاة الذي لم يدرك أول صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا تفسد وإن تكلم أو خرج من المسجد لم تفسد في قولهم جميعا " لهما أن صلاة المقتدى بناء على صلاة الإمام جوازا وفسادا ولم تفسد صلاة الإمام فكذا صلاته وصار كالسلام والكلام وله أن القهقهة مفسدة الجزء الذي يلاقيه من صلاة الإمام فيفسد مثله من صلاة المقتدى غير أن الإمام لا يحتاج إلى البناء والمسبوق محتاج إليه والبناء على الفاسد فاسد بخلاف السلام لأنه منه والكلام في معناه وينتقض وضوء الإمام لوجود القهقهة في حرمة الصلاة " ومن أحدث في ركوعه أو سجوده توضأ وبنى ولا يعتد بالتي أحدث فيها " لأن إتمام الركن بالانتقال ومع الحدث لا يتحقق فلا بد من الاعادة ولو كان إمام فقدم غيره دام المقدم على الركوع لأنه يمكنه الإتمام بالاستدامة " ولو تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة فانحط من ركوعه أو رفع رأسه من سجوده فسجدها يعيد الركوع والسجود " وهذا بيان الأولى لتقع أفعال الصلاة مرتبة بالقدر الممكن وإن لم يعد أجزأه لأن الإنتقال مع الطهارة شرط وقد وجد وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تلزمه إعادة الركوع لأن القومة فرض عنده.
قال: " ومن أم رجلا واحدا فأحدث وخرج من المسجد فالمأموم إمام نوى أو لم ينو " لما فيه من صيانة الصلاة وتعيين الأول لقطع المزاحمة ولا مزاحمة ههنا ويتم الأول صلاته(1/61)
مقتديا بالثاني كما إذا إستخلفه حقيقة " ولو لم يكن خلفه إلا صبي أو إمرأة قيل تفسد صلاته " لاستخلاف من يصلح للإمامة " وقيل لا تفسد " لأنه لم يوجد الاستخلاف قصدا وهو لا يصلح للإمامة والله أعلم.(1/62)
باب: ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
مدخل
...
باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
" ومن تكلم في صلاته عامدا أو ساهيا بطلت صلاته " خلافا للشافعي رحمه الله في الخطأ والنسيان ومفزعة الحديث المعروف.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن " وما رواه محمول على رفع الإثم بخلاف السلام ساهيا لأنه من الأذكار فيعتبر ذكرا في حالة النسيان وكلاما في حالة التعمد لما فيه من كاف الخطاب " فان أن فيها أو تأوه أو بكى فارتفع بكاؤه فإن كان من ذكر الجنة أو النار لم يقطعها " لأنه يدل على زيادة الخشوع " وإن كان من وجع أو مصيبة قطعها " لأن فيه إظهار الجزع والتأسف فكان من كلام الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أن قوله آه لا يفسد في الحالين وأوه يفسد وقيل الأصل عنده أن الكلمة إذا إشتملت على حرفين وهما زائدان أو إحداهما لا تفسد وإن كانتا أصليتين تفسد وحروف الزوائد جمعوها في قولهم اليوم تنساه وهذا لا يقوى لأن كلام الناس في متفاهم العرف يتبع وجود حروف الهجاء وإفهام المعنى ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد " وإن تنحنح بغير عذر " بأن لم يكن مدفوعا إليه " وحصل به الحروف ينبغي أن يفسد عندهما وإن كان بعذر فهو عفو كالعطاس " والجشاء إذا حصل به حروف " ومن عطس فقال له آخر يرحمك الله وهو في الصلاة فسدت صلاته " لأنه يجري في مخاطبات الناس فكان من كلامهم بخلاف ما إذا قال العاطس أو السامع الحمد لله على ما قالوا لأنه لم يتعارف جوابا " وإن إستفتح ففتح عليه في صلاته تفسد " ومعناه أن يفتح المصلي على غير إمامه لأنه تعليم وتعلم فكان من جنس كلام الناس ثم شرط التكرار في الأصل لأنه ليس من أعمال الصلاة فيعفى القليل منه ولم يشترط في الجامع الصغير لأن الكلام بنفسه قاطع وإن قل " وإن فتح على إمامه لم يكن كلاما فاسدا " استحسانا لأنه مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا من أعمال صلاته معنى " وينوي الفتح على إمامه دون القراءة " هو الصحيح لأنه مرخص فيه وقراءته ممنوع عنها " ولو كان الإمام إنتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله " لوجود التلقين والتلقن من غير ضرورة وينبغي للمقتدي أن لا يعجل بالفتح وللإمام أن لا يلجئهم إليه(1/62)
بل يركع إذا جاء أوانه أو ينتقل إلى آية أخرى " ولو أجاب رجلا في الصلاة بلا إله إلا الله فهذا كلام مفسد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يكون مفسدا " وهذا الخلاف فيما إذا أراد به جوابه له أنه ثناء بصيغته فلا يتغير بعزيمته ولهما أنه أخرج الكلام مخرج الجواب وهو يحتمله فيجعل جوابا كالتشميت والاسترجاع على الخلاف في الصحيح " وإن أراد " به " إعلامه أنه في الصلاة لم تفسد بالاجماع " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا نابت أحدكم نائبة في الصلاة فليسبح ".
" ومن صلى ركعة من الظهر ثم افتتح العصر أو التطوع فقد نقض الظهر " لأنه صح شروعه في غيره فيخرج عنه " ولو افتتح الظهر بعد ما صلى منها ركعة فهي هي ويجتزأ بتلك الركعة " لأنه نوى الشروع في عين ما هو فيه فلغت نيته وبقى المنوي على حاله " وإذا قرأ الإمام من المصحف فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا هي تامة " لأنها عبادة انضافت إلى عبادة أخرى " إلا أنه يكره " لأنه تشبه بصنيع أهل الكتاب ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير ولأنه تلقن من المصحف فصار كما إذا تلقن من غيره وعلى هذا لا فرق بين المحمول والموضوع وعلى الأول يفترقان ولو نظر إلى مكتوب وفهمه فالصحيح انه لا تفسد صلاته بالإجماع بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان حيث يحنث بالفهم عند محمد رحمه الله تعالى لأن المقصود هنالك الفهم أما فساد الصلاة فبالعمل الكثير ولم يوجد " وإن مرت إمرأة بين يدي المصلي لم تقطع صلاته " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يقطع الصلاة مرور شيء " " إلا أن المار آثم " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين " وإنما يأثم إذا مر في موقع سجوده على ما قيل ولا يكون بينهما حائل وتحاذى أعضاء المار أعضاءه لو كان يصلي على الدكان " وينبغي لمن يصلي في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا صلى أحدكم في الصحراء فليجعل بين يديه سترة " " ومقدارها ذراع فصاعدا " لقوله عليه الصلاة والسلام " أيعجز أحدكم إذا صلى في الصحراء أن يكون أمامه مثل مؤخرة الرحل " " وقيل ينبغي أن تكون في غلظ الأصبع " لأن ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد فلا يحصل المقصود " ويقرب من السترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " من صلى إلى سترة فليدن منها " " ويجعل السترة على حاجبه الأيمن أو على الأيسر به " ورد الأثر ولا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق " وسترة الإمام سترة للقوم " لأنه عليه الصلاة والسلام صلى ببطحاء مكة إلى عنزة ولم يكن للقوم سترة " ويعتبر الغرز دون الالقاء والخط " لأن المقصود لا يحصل به " ويدرأ المار إذا لم يكن بين(1/63)
يديه سترة أو مر بينه وبين السترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ادرءوا ما استطعتم " " ويدرأ بالاشارة " كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بولد أم سلمة رضي الله عنها " أو يدفع بالتسبيح " لما روينا من قبل " ويكره الجمع بينهما " لأن بأحدهما كفاية.(1/64)
فصل: ويكره للمصلي إلخ
...
فصل
" ويكره للمصلي أن يعبث بثوبه أو بجسده " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى كره لكم ثلاثا وذكر منها العبث في الصلاة " ولأن العبث خارج الصلاة حرام فما ظنك في الصلاة " ولا يقلب الحصا " لأنه نوع عبث " إلا أن لا يمكنه السجود فيسويه مرة واحدة " لقوله عليه الصلاة والسلام " مرة يا أبا ذر وإلا فذر " ولأن فيه إصلاح صلاته " ولا يفرقع أصابعه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي " " ولا يتخصر " وهو وضع اليد على الخاصرة لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الاختصار في الصلاة ولأن فيه ترك الوضع المسنون " ولا يلتفت " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو علم المصلي من يناجي ما التفت " " ولو نظر بمؤخر عينيه يمنة ويسرة من غير أن يلوي عنقه لا يكره " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يلاحظ أصحابه في صلاته بموق عينيه " ولا يقعى ولا يفترش ذراعيه " لقول أبي ذر رضي الله عنه نهاني خليلي عن ثلاث أن أنقر نقر الديك وأن أقعى إقعاء الكلب وأن أفترش افتراش الثعلب والإقعاء أن يضع أليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا هو الصحيح " ولا يرد السلام بلسانه " لأنه كلام " ولا بيده " لأنه سلام معنى حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صلاته " ولا يتربع إلا من عذر " لأن فيه ترك سنة القعود " ولا يعقص شعره " وهو أن يجمع شعره على هامته ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلي الرجل وهو معقوص " ولا يكف ثوبه " لأنه نوع تجبر " ولا يسدل ثوبه " لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن السدل وهو أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه " ولا يأكل ولا يشرب " لأنه ليس من أعمال الصلاة " فإن أكل أو شرب عامدا أو ناسيا فسدت صلاته " لأنه عمل كثير وحالة الصلاة مذكرة ولا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد وسجوده في الطاق ويكره أن يقوم في الطاق " لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق " ويكره أن يكون الإمام وحده على الدكان " لما قلنا " وكذا على القلب في ظاهر الرواية " لأنه ازدراء بالإمام " ولا بأس بأن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يتحدث " لأن ابن عمر رضي الله عنهما ربما كان يستتر بنافع في بعض أسفاره " ولا بأس بأن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق " لأنهما لا يعبدان وباعتباره تثبت الكراهة " ولا بأس بأن يصلي على بساط فيه تصاوير " لأن فيه استهانة بالصور(1/64)
" ولا يسجد على التصاوير " لأنه يشبه عبادة الصورة وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلى معظم " ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف أو بين يديه أو بحذائه تصاوير أو صورة معلقة " لحديث جبريل إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة ولو كانت الصورة صغيرة بحيث لا تبدو للناظر لا يكره لأن الصغار جدا لا تعبد " وإذا كان التمثال مقطوع الرأس " أي ممحو الرأس " فليس بتمثال " لأنه لا يعبد بدون الرأس وصار كما إذا صلى إلى شمع أو سراج على ما قالوا " ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو على بساط مفروش لا يكره " لأنها تداس وتوطأ بخلاف ما إذا كانت الوسادة منصوبة أو كانت على السترة لأنه تعظيم لها وأشدها كراهة أن تكون أمام المصلي ثم من فوق رأسه ثم على يمينه ثم على شماله ثم خلفه " ولو لبس فيه ثوبا فيه تصاوير يكره " لأنه يشبه حامل الصنم والصلاة جائزة في جميع ذلك لاستجماع شرائطها وتعاد على وجه غير مكروه وهذا الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة " ولا يكره تمثال غير ذي الروح " لأنه لا يعبد " ولا بأس بقتل الحية والعقرب في الصلاة " لقوله عليه الصلاة والسلام " اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة " ولأن فيه إزالة الشغل فأشبه درءالمار ويستوي جميع أنواع الحيات هو الصحيح لإطلاق ما روينا " ويكره عد الآي والتسبيحات باليد في الصلاة " وكذلك عد السور لأن ذلك ليس من أعمال الصلاة وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه لا بأس بذلك في الفرائض والنوافل جميعا مراعاة لسنة القراءة والعمل بما جاءت به السنة قلنا يمكنه أن يعد ذلك قبل الشروع فيستغنى عن العد بعده والله أعلم.(1/65)
فصل
" ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء " لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك والاستدبار يكره في رواية لما فيه من ترك التعظيم ولا يكره في رواية لأن المستدبر فرجه غير مواز للقبلة وما ينحط منه ينحط إلى الأرض بخلاف المستقبل لأن فرجه موازلها وما ينحط منه ينحط إليها " وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي " لأن سطح المسجد له حكم المسجد حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه ولا يحل للجنب الوقوف عليه " ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد " والمراد ما أعد للصلاة في البيت لأنه لم يأخذ حكم المسجد وإن ندبنا إليه " ويكره أن يغلق باب المسجد " لأنه يشبه المنع من الصلاة وقيل لا بأس به إذا خيف على متاع المسجد في غير أوان الصلاة " ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب " وقوله لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه لكنه لا يأثم به وقيل هو قربة وهذا إذا فعل من مال نفسه أما المتولي(1/65)
فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن والله أعلم بالصواب.(1/66)
باب صلاة الوتر
" الوتر واجب عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنة " لظهور آثار السنن فيه حيث لا يكفر جاحده ولا يؤذن له ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر " أمر وهو للوجوب ولهذا وجب القضاء بالإجماع وإنما لا يكفر جاحده لأن وجوبه ثبت بالسنة وهو المعني بما روي عنه أنه سنة وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذانه وإقامته.
قال: " الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام " لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يوتر بثلاث وحكى الحسن رحمه الله إجماع المسلمين على الثلاث وهذا أحد أقوال الشافعي رحمه الله تعالى وفي قول يوتر بتسليمتين وهو قول مالك رحمه الله تعالى والحجة عليهما ما رويناه " ويقنت في الثالثة قبل الركوع " وقال الشافعي رحمه الله تعالى بعده لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قنت في آخر الوتر وهو بعد الركوع.
ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قنت قبل الركوع وما زاد على نصف الشيء آخره ويقنت في جميع السنة خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في غير النصف الأخير من رمضان لقوله عليه الصلاة والسلام للحسن بن علي رضي الله عنهما حين علمه دعاء القنوت " اجعل هذا في وترك من غير فصل " " ويقرأ في كل ركعة " من الوتر " فاتحة الكتاب وسورة " لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] " وإن أراد أن يقنت كبر " لأن الحالة قد اختلفت " ورفع يديه وقنت " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وذكر منها القنوت " " ولا يقنت في صلاة غيره " خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في الفجر لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه " فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يتابعه " لأنه تبع لإمامه والقنوت مجتهد فيه ولهما أنه منسوخ ولا متابعة فيه ثم قيل يقف قائما ليتابعه فيما تجب متابعته وقيل يقعد تحقيقا للمخالفة لأن الساكت شريك الداعي والأول أظهر ودلت المسئلة على جواز الاقتداء بالشفعوية وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر وإذا علم(1/66)
المقتدي منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا يجزئه الاقتداء به والمختار في القنوت الإخفاء لأنه دعاء والله أعلم.(1/67)
باب: النوافل
مدخل
...
باب النوافل
" السنة ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وبعدها ركعتان وأربع قبل العصر وإن شاء ركعتين وركعتان بعد المغرب وأربع قبل العشاء وأربع بعدها وإن شاء ركعتين" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة " وفسر على نحو ما ذكر في الكتاب غير أنه لم يذكر الأربع قبل العصر فلهذا سماه في الأصل حسنا وخير لاختلاف الآثار والأفضل هو الأربع
ولم يذكر الأربع قبل العشاء فلهذا كان مستحبا لعدم المواظبة وذكر فيه ركعتين بعد العشاء وفي غيره ذكر الأربع فلهذا خير إلا أن الأربع أفضل خصوصا عند أبي حنيفة على ما عرف من مذهبه والأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة عندنا كذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه خلاف للشافعي.
قال: " ونوافل النهار إن شاء صلى بتسليمة ركعتين وإن شاء أربعا وتكره الزيادة على ذلك وأما نافلة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله إن صلى ثمان ركعات بتسليمة جاز وتكره الزيادة على ذلك وقالا لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة " وفي الجامع الصغير لم يذكر الثماني في صلاة الليل ودليل الكراهة أنه عليه الصلاة والسلام لم يزد على ذلك ولولا الكراهة لزاد تعليما للجواز والأفضل في الليل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله مثنى مثنى وفي النهار أربع أربع وعند الشافعي رحمه الله فيهما مثنى مثنى" وعند أبي حنيفة فيهما أربع أربع للشافعي رحمه الله قوله عليه الصلا والسلام " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ولهما الاعتبار بالتراويح ولأبي حنيفة رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بعد العشاء أربعا أربعا روته عائشة رضي الله عنها وكان عليه الصلاة والسلام يواظب على الأربع في الضحى ولأنه أدوم تحريمة فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة ولهذا لو نذر أن يصلي أربعا بتسليمة لا يخرج عنه بتسليمتين وعلى القلب يخرج والتراويح تؤدى بجماعة فيراعى فيها جهة التيسير ومعنى ما رواه شفعا لا وترا والله أعلم.(1/67)
فصل في القراءة
" القراءة في الفرض واجبة في الركعتين " وقال الشافعي رحمه الله في الركعات كلها لقوله(1/67)
عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بقراءة وكل ركعة صلاة " وقال مالك رحمه الله في ثلاث ركعات إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرا.
ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار وإنما أوجبنا في الثانية استدلالا بالأولى لأنهما يتشاكلان من كل وجه فأما الأخريان فيفارقانهما في حق السقوط بالسفر وصفة القراءة وقدرها فلا يلحقان بهما والصلاة فيما روي مذكورة صريحا فتنصرف إلى الكاملة وهي الركعتان عرفا كمن حلف لا يصلى صلاة بخلاف ما إذا حلف لا يصلى " وهو مخير في الأخريين " معناه إن شاء سكت وإن شاء قرأ وإن شاء سبح كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم إلا أن الأفضل أن يقرأ لأنه عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك ولهذا لا يجب السهو بتركها في ظاهر الرواية " والقراءة واجبة في جميع ركعات النفل وفي جميع الوتر " أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة ولهذا لا يجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان في المشهور عن أصحابنا رحمهم الله ولهذا قالوا يستفتح في الثالثة أي يقول سبحانك اللهم وأما الوتر فللاحتياط.
قال: " ومن شرع في نافلة ثم أفسدها قضاها " وقال الشافعي رحمه الله لا قضاء عليه لأنه متبرع فيه ولا لزوم على المتبرع ولنا أن المؤدي وقع قربة فيلزم الإتمام ضرورة صيانته عن البطلان " وإن صلى أربعا وقرأ في الأوليين وقعد ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين " لأن الشفع الأول قد تم والقيام إلى الثالثة بمنزلة تحريمة مبتدأة فيكون ملزما هذا إذا أفسد الأخريين بعد الشروع فيهما ولو أفسد قبل الشروع في الشفع الثاني لا يقضي الأخريين وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضي اعتبارا للشروع بالنذر ولهما أن الشروع يلزم ما شرع فيه ومالا صحة له إلا به وصحة الشفع الأول لا تتعلق بالثاني بخلاف الركعة الثانية وعلى هذا سنة الظهر لأنها نافلة وقيل يقضي أربعا احتياطا لأنها بمنزلة صلاة واحدة " وإن صلى أربعا ولم يقرأفيهن شيئا أعاد ركعتين " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي أربعا وهذه المسئلة على ثمانية أوجه.
والأصل فيها أن عند محمد رحمه الله ترك القراءة في الأوليين أو في إحداهما يوجب بطلان التحريمة لأنها تعقد للأفعال وعند أبي يوسف رحمه الله ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة وإنما يوجب فساد الأداء لأن القراءة ركن زائد.(1/68)
ألا ترى أن للصلاة وجودا بدونها غير أنه لا صحة للأداء إلا بها وفساد الأداء لا يزيد على تركه فلا يبطل التحريمة وعند أبي حنيفة رحمه الله ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة وفي إحداهما لا يوجب لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة وفسادها بترك القراءة في ركعة واحدة مجتهد فيه فقضينا بالفساد في حق وجوب القضاء وحكمنا ببقاء التحريمة في حق لزوم الشفع الثاني احتياطا إذا ثبت هذا نقول إذا لم يقرأ في الكل قضى ركعتين عندهما لأن التحريمة قد بطلت بترك القراءة في الشفع الأول عندهما فلم يصح الشروع في الشفع الثاني وبقيت عند أبي يوسف رحمه الله فصح الشروع في الشفع الثاني ثم إذا فسد الكل بترك القراءة فيه فعليه قضاء الأربع عنده " ولو قرأ في الأوليين لا غير فعليه قضاء الأخريين بالإجماع " لأن التحريمة لم تبطل فصح الشروع في الشفع الثاني ثم فساده بترك القراءة لا يوجب فساد الشفع الأول " ولو قرأ في الأخريين لا غير فعليه قضاء الأوليين بالإجماع " لأن عندهما لم يصح الشروع في الشفع الثاني وعند أبي يوسف رحمه الله إن صح فقد أداها " ولو قرأ في الأوليين وإحدى الأخريين فعليه قضاء الأخريين بالإجماع ولو قرأ في الأخريين وإحدى الأوليين فعليه قضاء الأوليين بالإجماع ولو قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين على قول أبي يوسف رحمه الله عليه قضاء الأربع وكذا عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن التحريمة باقية وعند محمد رحمه الله عليه قضاء الأوليين لأن التحريمة قد ارتفعت عنده وقد أنكر أبو يوسف رحمه الله هذه الرواية عنه وقال رويت لك عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يلزمه قضاء ركعتين ومحمد رحمه الله لم يرجع عن روايته عنه " ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير قضى أربعا عندهما وعند محمد رحمه الله قضى ركعتين ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير قضى أربعا عند أبي يوسف رحمه الله وعندهما ركعتين ".
قال: " وتفسير قوله عليه الصلاة والسلام " لا يصلي بعد صلاة مثلها " يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة فيكون بيان فرضية القراءة في ركعات النفل كلها ويصلي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " ولأن الصلاة خير موضوع وربما يشق عليه القيام فيجوز له تركه كيلا ينقطع عنه.
واختلفوا في كيفية القعود والمختار أن يقعد كما يقعد في حالة التشهد لأنه عهد مشروعا في الصلاة " وإن افتتحها قائما ثم قعد من غير عذر جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وهذا استحسان وعندهما لا يجزيه وهو قياس لأن الشروع معتبر بالنذر له أنه لم يباشر القيام فيما بقي ولما باشر صحت بدونه بخلاف النذر لأنه التزمه نصا حتى لو لم ينص على القيام(1/69)
لا يلزمه القيام عند بعض المشايخ رحمهم الله " ومن كان خارج المصر تنفل على دابته إلى أي جهة توجهت يومئ إيماء " لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر يومئ إيماء ولأن النوافل غير مختصة بوقت فلو ألزمناه النزول والاستقبال تنقطع عنه القافلة أو ينقطع هو عن القافلة.
أما الفرائض فمختصة بوقت والسنن الرواتب نوافل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزل لسنة الفجر لأنها آكد من سائرها والتقييد بخارج المصر ينفي اشتراط السفر والجواز في المصر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز في المصر أيضا ووجه الظاهر أن النص ورد خارج المصر والحاجة إلى الركوب فيه أغلب " فإن افتتح التطوع راكبا ثم يبني وإن صلى ركعة نازلا ثم ركب استقبل " لأن إحرام الراكب انعقد مجوزا للركوع والسجود لقدرته على النزول فإذا أتى بهما صح وإحرام النازل انعقد لوجوب الركوع والسجود فلا يقدر على ترك ما لزمه من غير عذر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل إذا نزل أيضا وكذا عن محمد رحمه الله إذا نزل بعد ما صلى ركعة والأصح هو الأول وهو الظاهر.(1/70)
فصل في قيام شهر رمضان
" يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات كل ترويحة بتسليمتين ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة ثم يوتر بهم " ذكر لفظ الاستحباب والأصح أنها سنة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه واظب عليها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم والنبي عليه الصلاة والسلام بين العذر في تركه المواظبة وهو خشية أن تكتب علينا " والسنة فيها الجماعة " لكن على وجه الكفاية حتى لو امتنع أهل المسجد كلهم عن إقامتها كانوا مسيئين ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة لأن أفراد الصحابة رضي الله عنهم روي عنهم التخلف والمستحب في الجلوس بين الترويحتين مقدار الترويحة وكذا بين الخامسة وبين الوتر لعادة أهل الحرمين واستحسن البعض الاستراحة على خمس تسليمات وليس بصحيح وقوله ثم يوتر بهم يشير إلى أن وقتها بعد العشاء قبل الوتر وبه قال عامة المشايخ رحمهم الله والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده لأنها نوافل سنت بعد العشاء ولم يذكر قدر القراءة فيها وأكثر المشايخ رحمهم الله على أن السنة فيها الختم مرة فلا يترك لكسل القوم بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات حيث يتركها لأنها ليست بسنة " ولا يصلي الوتر بجماعة في غير " شهر " رمضان " وعليه إجماع المسلمين والله أعلم.(1/70)
باب إدراك الفريضة
" ومن صلى ركعة من الظهر ثم أقيمت يصلي أخرى " صيانة للمؤدي عن البطلان " ثم يدخل مع القوم " إحرازا لفضيلة الجماعة " وإن لم يقيد الأولى بالسجدة يقطع ويشرع مع الإمام هو الصحيح " لأنه بمحل الرفض وهذا القطع للإكمال بخلاف ما إذا كان في النفل لأنه ليس للإكمال ولو كان في السنة قبل الظهر والجمعة فأقيم أو خطب يقطع على رأس الركعتين يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله وقد قيل يتمها " وإن كان قد صلى ثلاثا من الظهر يتمها " لأن للأكثر حكم الكل فلا يحتمل النقض بخلاف ما إذا كان في الثالثة بعد ولم يقيدها بالسجدة حيث يقطعها لأنه محل الرفض ويتخير إن شاء عاد فقعد وسلم وإن شاء كبر قائما ينوي الدخول في صلاة الإمام " وإذا أتمها يدخل مع القوم والذي يصلي معهم نافلة " لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد " فإن صلى من الفجر ركعة ثم أقيمت يقطع ويدخل معهم " لأنه لو أضاف إليها أخرى تفوته الجماعة وكذا إذا قام إلى الثانية قبل أن يقيدها بالسجدة وبعد الإتمام لا يشرع في صلاة الإمام لكراهة التنفل بعد الفجر وكذا بعد العصر لما قلنا وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية لأن التنفل بالثلاث مكروه وفي جعلها أربعا مخالفة لإمامه " ومن دخل مسجدا قد أذن فيه يكره له أن يخرج حتى يصلي " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يخرج من المسجد بعد النداء إلا منافق " أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجوع.
قال: " إلا إذا كان ممن ينتظم به أمر جماعة " لأنه ترك صورة تكميل معنى " وإن كان قد صلى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج " لأنه أجاب داعي الله مرة " إلا إذا أخذ المؤذن في الإقامة " لأنه يتهم بمخالفة الجماعة عيانا " وإن كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج وإن أخذ المؤذن فيها " لكراهة التنفل بعدها " ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل " لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين " وإن خشي فوتهما دخل مع الإمام " لأن ثواب الجماعة أعظم والوعيد بالترك ألزم بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين لأنه يمكنه أداؤها في الوقت بعد الفرض هو الصحيح وإنما الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في تقديمها على الركعتين وتأخيرها عنهما ولا كذلك سنة الفجر على ما نبين إن شاء الله تعالى والتقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة(1/71)
في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل هو المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: " وإذا فاتته ركعتا الفجر لا يقضيهما قبل طلوع الشمس " لأنه يبقى نفلا مطلقا وهو مكروه بعد الصبح " ولا بعد ارتفاعها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى أحب إلي أن يقضيهما إلى وقت الزوال " لأنه عليه الصلاة والسلام قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس ولهما أن الأصل في السنة أن لا تقضى لاختصاص القضاء بالواجب والحديث ورد في قضائها تبعا للفرض فبقي ما رواه على الأصل وإنما تقضى تبعا له وهو يصلي بالجماعة أو وحده إلى وقت الزوال وفيما بعده اختلاف المشايخ رحمهم الله تعالى وأما سائر السنن سواها فلا تقضى بعد الوقت وحدها واختلف المشايخ رحمهم الله تعالى في قضائها تبعا للفرض " ومن أدرك من الظهر ركعة ولم يدرك الثلاث فإنه لم يصل الظهر بجماعة وقال محمد رحمه الله تعالى قد أدرك فضل الجماعة " لأن من أدرك آخر الشيء فقد أدركه فصار محرزا ثواب الجماعة لكنه لم يصلها بالجماعة حقيقة ولهذا يحنث به في يمينه لا يدرك الجماعة ولا يحنث في يمينه لا يصلي الظهر بالجماعة "ومن أتى مسجدا قد صلى فيه فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له ما دام في الوقت " ومراده إذا كان في الوقت سعة وإن كان فيه ضيق تركه قيل هذا في غير سنة الظهر والفجر لأن لهما زيادة مزية قال عليه الصلاة والسلام في سنة الفجر " صلوها ولو طردتكم الخيل " وقال في الأخرى " من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي " وقيل هذا في الجميع لأنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها عند أداء المكتوبات بجماعة ولا سنة دون المواظبة والأولى أن لا يتركها في الأحوال كلها لكونها مكملات الفرائض إلا إذا خاف فوت الوقت " ومن انتهى إلى الإمام في ركوعه فكبر ووقف حتى رفع الإمام رأسه لا يصير مدركا لتلك الركعة خلافا لزفر رحمه الله " هو يقول أدرك الإمام فيما له حكم القيام فصار كما لو أدركه في حقيقة القيام ولنا أن الشرط هو المشاركة في أفعال الصلاة ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع " ولو ركع المقتدي قبل إمامه فأدركه الإمام فيه جاز " وقال زفر رحمه الله: لا يجزئه لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به فكذا ما يبنيه عليه ولنا أن الشرط هو المشاركة في جزء واحد كما في الطرف الأول والله أعلم.(1/72)
باب قضاء الفوائت
" ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها وقدمها على فرض الوقت " والأصل فيه أن الترتيب(1/72)
بين الفوائت وفرض الوقت عندنا مستحق وعند الشافعي رحمه الله مستحب، لأن كل فرض أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام " " ولو خاف فوت الوقت يقدم الوقتية ثم يقضيها " لأن الترتيب يسقط بضيق الوقت وكذا بالنسيان وكثرة الفوائت كيلا يؤدي إلى تفويت الوقتية ولو قدم الفائتة جاز لأن النهي عن تقديمها لمعنى في غيرها بخلاف ما إذا كان في الوقت سعة وقدم الوقتية حيث لا يجوز لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث " ولو فاتته صلوات رتبها في القضاء كما وجبت في الأصل " لأن النبي عليه الصلاة والسلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتبا ثم قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " " إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات " لأن الفوائت قد كثرت " فيسقط الترتيب فيما بين الفوائت " نفسها كما سقط بينها وبين الوقتية وحد الكثرة أن تصير الفوائت ستا لخروج وقت الصلاة السادسة وهو المراد بالمذكور في الجامع الصغير وهو قوله " وإن فاتته أكثر من صلاة يوم وليلة أجزأته التي بدأبها " لأنه إذا زاد على يوم وليلة تصير ستا وعن محمد رحمه الله أنه اعتبر دخول وقت السادسة والأول هو الصحيح لأن الكثرة بالدخول في حد التكرار وذلك في الأول ولو اجتمعت الفوائت القديمة والحديثة قيل تجوز الوقتية مع تذكر الحديثة لكثرة الفوائت وقيل لا تجوز ويجعل الماضي كأن لم يكن زجرا له عن التهاون ولو قضى بعض الفوائت حتى قل ما بقي عاد الترتيب عند البعض وهو الأظهر فإنه روي عن محمد رحمه الله فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية فائتة فالفوائت جائزة على كل حال والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة وإن أخرها فكذلك إلا العشاء الأخيرة لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها " ومن صلى العصر وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر فهي فاسدة إلا إذا كان في آخر الوقت " وهي مسئلة الترتيب " وإذا فسدت الفرضية لا يبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يبطل " لأن التحريمة عقدت للفرض فإذا بطلت الفرضية بطلت التحريمة أصلا ولهما أنها عقدت لأصل الصلاة بوصف الفرضية فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل "ثم العصر يفسد فسادا موقوفا حتى لو صلى ست صلوات ولم يعد الظهر انقلب الكل جائزا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يفسد فسادا باتا لا جواز له بحال" وقد عرف ذلك في موضعه " ولو صلى الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فهي فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله " خلافا لهما وهذا بناء على أن الوتر واجب عنده سنة عندهما ولا ترتيب فيما بين الفرائض والسنن وعلى هذا(1/73)
إذا صلى العشاء ثم توضأوصلى السنة والوتر ثم تبين أنه صلى العشاء بغير طهارة فعنده يعيد العشاء والسنة دون الوتر لأن الوتر فرض على حدة عنده وعندهما يعيد الوتر أيضا لكونه تبعا للعشاء والله أعلم.(1/74)
باب سجود السهو
" يسجد للسهو في الزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ثم يسلم " وعند الشافعي رحمه الله يسجد قبل السلام لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سجد للسهو قبل السلام ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لكل سهو سجدتان بعد السلام " وروي أنه عليه الصلاة والسلام سجد سجدتي السهو بعد السلام فتعارضت روايتا فعله فبقي التمسك بقوله سالما ولأن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام حتى لو سها عن السلام ينجبر به وهذا الخلاف في الأولوية ويأتي بتسليمتين هو الصحيح صرفا للسلام المذكور إلى ما هو المعهود ويأتي بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام والدعاء في قعدة السهو هو الصحيح لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة.
قال: " ويلزمه السهو إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها ليس منها " وهذا يدل على أن سجدة السهو واجبة هو الصحيح لأنها تجب لجبر نقص تمكن في العبادة فتكون واجبة كالدماء في الحج وإذا كان واجبا لا يجب إلا بترك واجب أو تأخيره أو تأخير ركن ساهيا هذا هو الأصل وإنما وجب بالزيادة لأنها لا تعرى عن تأخير ركن أو ترك واجب.
قال: " ويلزمه إذا ترك فعلا مسنونا " كأنه أراد به فعلا واجبا إلا أنه أراد بتسميته سنة أن وجوبها ثبت بالسنة. قال: " أو ترك قراءة الفاتحة " لأنها واجبة " أو القنوت أو التشهد أو تكبيرات العيدين " لأنها واجبات فإنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها من غير تركها مرة وهي أمارة الوجوب ولأنها تضاف إلى جميع الصلاة فدل على أنها من خصائصها وذلك بالوجوب ثم ذكر التشهد يحتمل القعدة الأولى والثانية والقراءة فيهما وكل ذلك واجب وفيها سجدة السهو هو الصحيح " ولو جهر الإمام فيما يخافت أو خافت فيما يجهر تلزمه سجدتا السهو " لأن الجهر في موضعه والمخافتة في موضعها من الواجبات واختلفت الرواية في المقدار والأصح قدر ما تجوز به الصلاة في الفصلين لأن اليسير من الجهر والإخفاء لا يمكن الاحتراز عنه وعن الكثير ممكن وما يصح به الصلاة كثير غير أن ذلك عنده آية واحدة وعندهما ثلاث آيات وهذا في حق الإمام دون المنفرد لأن الجهر والمخافتة من خصائص الجماعة.(1/74)
قال: " وسهو الإمام يوجب على المؤتم السجود " لتقرر السبب الموجب في حق الأصل ولهذا يلزمه حكم الإقامة بنية الإمام " فإن لم يسجد الإمام لم يسجد المؤتم " لأنه يصير مخالفا لإمامه وما التزم الأداء إلا متابعا " فإن سها المؤتم لم يلزم الإمام ولا المؤتم السجود " لأنه لو سجد وحده كان مخالفا لإمامه ولو تابعه الإمام ينقلب الأصل تبعا " ومن سها عن القعدة الأولى ثم تذكر وهو إلى حالة القعود أقرب عاد وقعد وتشهد " لأن ما يقرب من الشيء يأخذ حكمه ثم قيل يسجد للسهو للتأخير والأصح أنه لا يسجد كما إذا لم يقم " ولو كان إلى القيام أقرب لم يعد " لأنه كالقائم معنى " ويسجد للسهو " لأنه ترك الواجب " وإن سها عن القعدة الأخيرة حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة مالم يسجد " لأن فيه إصلاح صلاته وأمكنه ذلك لأن ما دون الركعة بمحل الرفض.
قال: " وألغى الخامسة " لأنه رجع إلى شيء محله قبلها فترتفض " وسجد للسهو " لأنه أخر واجبا " وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه " عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لأنه استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان المكتوبة ومن ضرورته خروجه عن الفرض وهذا لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة حتى يحنث بها في يمينه لا يصلي " وتحولت صلاته نفلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله " خلافا لمحمد رحمه الله على ما مر " فيضم إليها ركعة سادسة ولو لم يضم لا شيء عليه " لأنه مظنون ثم إنما يبطل فرضه بوضع الجبهة عند أبي يوسف رحمه الله لأنه سجود كامل وعند محمد رحمه الله يرفعه لأن تمام الشيء بآخره وهو الرفع ولم يصح مع الحدث وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا سبقه الحدث في السجود بنى عند محمد خلافا لأبي يوسف رحمه الله " ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة مالم يسجد للخامسة وسلم " لأن التسليم في حالة القيام غير مشروع وأمكنه الإقامة على وجهه بالقعود لأن ما دون الركعة بمحل الرفض " وإن قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى وتم فرضه " لأن الباقي إصابة لفظة السلام وهي واجبة وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلا لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه عليه الصلاة والسلام عن البتيراء ثم لا تنوبان عن سنة الظهر وهو الصحيح لأن المواظبة عليها بتحريمة مبتدأة " ويسجد لسهو استحسانا " لتمكن النقصان في الفرض بالخروج لا على الوجه المسنون وفي النفل بالدخول لا على الوجه المسنون ولو قطعها لم يلزمه القضاء لأنه مظنون ولو اقتدى به إنسان فيهما يصلي ستا عند محمد رحمه الله لأنه المؤدي بهذه التحريمة وعندهما ركعتين لأنه استحكم خروجه عن الفرض ولو أفسده المقتدي فلا قضاء عليه عند(1/75)
محمد رحمه الله اعتبارا بالإمام وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي ركعتين لأن السقوط بعارض يخص الإمام.
قال: " ومن صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وسجد للسهو ثم أراد أن يصلي أخريين لم يبن " لأن السجود يبطل لوقوعه في وسط الصلاة بخلاف المسافر إذا سجد للسهو ثم نوى الإقامة حيث يبني لأنه لو لم يبن يبطل جميع الصلاة ومع هذا لو أدى صح لبقاء التحريمة ويبطل سجود السهو هو الصحيح " ومن سلم وعليه سجدتا السهو فدخل رجل في صلاته بعد التسليم فإن سجد الإمام كان داخلا وإلا فلا " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد لأن عنده سلام من عليه السهو لا يخرجه عن الصلاة أصلا لأنها وجبت جبرا للنقصان فلا بد من أن يكون في إحرام الصلاة وعندهما يخرجه على سبيل التوقف لأنه محلل في نفسه وإنما لا يعمل لحاجته إلى أداء السجدة فلا يظهر دونها ولا حاجة على اعتبار عدم العود ويظهر الإختلاف في هذا وفي انتقاض الطهارة بالقهقهة وتغير الفرض بنية الإقامة في هذه الحالة " ومن سلم يريد به قطع الصلاة وعليه سهو فعليه أن يسجد لسهوه " لأن هذا السلام غير قاطع ونيته تغيير المشروع فلغت " ومن شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وذلك أول ما عرض له استأنف " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة " " وإن كان يعرض له كثيرا بنى على أكبر رأيه " لقوله عليه الصلاة والسلام " من شك في صلاته فليتحر الصواب " " وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين " لقوله عليه الصلاة والسلام " من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا بنى على الأقل " والاستقبال بالسلام أولى لأنه عرف محللا دون الكلام ومجرد النية يلغو وعند البناء على الأقل يقعد في كل موضع يتوهم آخر صلاته كيلا يصير تاركا فرض القعدة والله أعلم.(1/76)
باب صلاة المريض
" إذا عجز المريض عن القيام صلى قاعدا يركع ويسجد " لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين رضي الله عنه " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء " ولأن الطاعة بحسب الطاقة.
قال: " فإن لم يستطع الركوع والسجود أومأ إيماء " يعني قاعدا لأنه وسع مثله " وجعل سجوده أخفض من ركوعه " لأنه قائم مقامهما فأخذ حكمهما " ولا يرفع إلى وجهه شيئا يسجد عليه " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم(1/76)
برأسك " فإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه لوجود الإيماء وإن وضع ذلك على جبهته لا يجزئه لانعدامه " فإن لم يستطع القعود استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة وأومأ بالركوع والسجود " لقوله عليه الصلاة والسلام " يصلي المريض قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء فإن لم يستطع فالله تعالى أحق بقبول العذر منه ".
قال: " وإن استلقى على جنبه ووجهه إلى القبلة فأومأجاز " لما روينا من قبل إلا أن الأولى هي الأولى عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة وإشارة المضطجع على جنبه إلى جانب قدميه وبه تتأدى الصلاة " فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت الصلاة عنه ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه " خلافا لزفر رحمه الله لما روينا من قبل ولأن نصب الأبدال بالرأي ممتنع ولا قياس على الرأس لأنه يتأدى به ركن الصلاة دون العين وأختيها وقوله أخرت عنه إشارة إلى أنه لا تسقط الصلاة عنه وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقا هو الصحيح لأنه يفهم مضمون الخطاب بخلاف المغمى عليه.
قال: " وإن قدر على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزمه القيام ويصلي قاعدا يومئ إيماء " لأن ركنية القيام للترسل به إلى السجدة لما فيها من نهاية التعظيم فإذا كان لا يتعقبه السجود لا يكون ركنا فيتخير والأفضل هو الإيماء قاعدا لأنه أشبه بالسجود " وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائما ثم حدث به مرض يتمها قاعدا يركع ويسجد أو يومئ إن لم يقدر " أو مستلقيا إن لم يقدر لأنه بنى الأدنى على الأعلى فصار كالاقتداء " ومن صلى قاعدا يركع ويسجد لمرض ثم صح بنى على صلاته قائما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله استقبل " بناء على اختلافهم في الاقتداء وقد تقدم بيانه " وإن صلى بعض صلاته بإيماء ثم قدر على الركوع والسجود استأنف عندهم جميعا " لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ فكذا البناء " ومن افتتح التطوع قائما ثم أعيا لا بأس بأن يتوكأ على عصا أو حائط أو يقعد " لأن هذا عذر وإن كان الاتكاء بغير عذر يكره لأنه إساءة في الأدب وقيل لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لو قعد عنده بغير عذر يجوز فكذا لا يكره الاتكاء وعندهما يكره لأنه لا يجوز القعود عندهما فيكره الاتكاء " وإن قعد بغير عذر يكره بالإتفاق " وتجوز الصلاة عنده ولا تجوز عندهما وقد مر في باب النوافل " ومن صلى في السفينة قاعدا من غير علة أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله والقيام أفضل وقالا لا يجزئه إلا من عذر " لأن القيام مقدور عليه فلا يترك إلا لعلة وله أن الغالب فيها(1/77)
دوران الرأس وهو كالمتحقق إلا أن القيام أفضل لأنه أبعد عن شبهة الخلاف والخروج أفضل إن أمكنه لأنه أسكن لقلبه والخلاف في غير المربوطة والمربوطة كالشط هو الصحيح " ومن أغمي عليه خمس صلوات أو دونها قضى وإن كان أكثر من ذلك لم يقض " وهذا استحسان والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الإغماء وقت صلاة كاملا لتحقق العجز فأشبه الجنون وجه الاستحسان أن المدة إذا طالت كثرت الفوائت فيتحرج في الأداء وإذا قصرت قلت فلا حرج والكثير أن تزيد على يوم وليلة لأنه يدخل في حد التكرار والجنون كالإغماء كذا ذكره أبو سليمان رحمه الله بخلاف النوم لأن امتداده نادر فيلحق بالقاصر ثم الزيادة تعتبر من حيث الأوقات عند محمد رحمه الله لأن التكرار يتحقق به وعندهما من حيث الساعات هو المأثور عن علي وابن عمر رضي الله عنهم والله أعلم بالصواب.(1/78)
باب سجود التلاوة
قال: " سجود التلاوة في القرآن أربع عشرة سجدة في آخر الأعراف وفي الرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والأولى في الحج والفرقان والنمل وآلم تنزيل وص وحم السجدة والنجم وإذا السماء انشقت واقرأ " كذا كتب في مصحف عثمان رضي الله عنه وهو المعتمد والسجدة الثانية في الحج للصلاة عندنا وموضع السجدة في حم السجدة عند قوله: {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] في قول عمر رضي الله عنه وهو المأخوذ للاحتياط " والسجدة واجبة في هذه المواضع على التالي والسامع سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد " لقوله عليه الصلاة والسلام " السجدة على من سمعها وعلى من تلاها " وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد.
" وإذا تلا الإمام آية السجدة سجدها وسجدها المأموم معه " لالتزامه متابعته " وإذ تلا المأموم لم يسجد الإمام ولا المأموم في الصلاة ولا بعد الفراغ " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يسجدونها إذا فرغوا لأن السبب قد تقرر ولا مانع بخلاف حالة الصلاة لأنه يؤدي إلى خلاف وضع الإمامة أو التلاوة ولهما أن المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه وتصرف المحجور لا حكم له بخلاف الجنب والحائض لأنهما منهيان عن القراءة إلا أنه لا يجب على الحائض بتلاوتها كما لا يجب بسماعها لانعدام أهلية الصلاة بخلاف الجنب " ولو سمعها رجل خارج الصلاة سجدها " هو الصحيح لأن الحجر ثبت في حقهم فلا يعدوهم " وإن سمعوا وهم في الصلاة سجدة من(1/78)
رجل ليس معهم في الصلاة لم يسجدوها في الصلاة " لأنها ليست بصلاتية لأن سماعهم هذه السجدة ليس من أفعال الصلاة " وسجدوها بعدها " لتحقق سببها " ولو سجدوها في الصلاة لم يجزهم " لأنه ناقص لمكان النهي فلا يتأدى به الكامل. قال " وأعادوها " لتقرر سببها " ولم يعيدوا الصلاة " لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة وفي النوادر أنها تفسد لأنهم زادوا فيها ما ليس منها وقيل هو قول محمد رحمه الله " فإن قرأها الإمام وسمعها رجل ليس معه في الصلاة فدخل معه بعدما سجدها الإمام لم يكن عليه أن يسجدها " لأنه صار مدركا لها بإدراك الركعة " وإن دخل معه قبل أن يسجدها سجدها معه " لأنه لو لم يسمعها سجدها معه فههنا أولى " وإن لم يدخل معه سجدها وحده " لتحقق السبب " وكل سجدة وجبت في الصلاة فلم يسجدها فيها لم تقض خارج الصلاة " لأنها صلاتية ولها مزية الصلاة فلا تتأدى بالناقص.
" ومن تلا سجدة فلم يسجدها حتى دخل في صلاة فأعادها وسجد أجزأته السجدة عن التلاوتين " لأن الثانية أقوى لكونها صلاتية فاستتبعت الأولى وفي النوادر يسجد أخرى بعد الفراغ لأن للأولى قوة السبق فاستويا قلنا للثانية قوة اتصال المقصود فترجحت بها " وإن تلاها فسجد ثم دخل في الصلاة فتلاها سجد لها " لأن الثانية هي المستتبعة ولا وجه إلى إلحاقها بالأولى لأنه يؤدي إلى سبق الحكم على السبب " ومن كرر تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحدة أجزأته سجدة واحدة فإن قرأها في مجلسه فسجدها ثم ذهب ورجع فقرأها سجدها ثانية وإن لم يكن سجد للأولى فعليه السجدتان " فالأصل أن مبنى السجدة على التداخل دفعا للحرج وهو تداخل في السبب دون الحكم وهذا أليق بالعبادات والثاني بالعقوبات وإمكان التداخل عند اتحاد المجلس لكونه جامعا للمتفرقات فإذا اختلف عاد الحكم إلى الأصل ولا يختلف بمجرد القيام بخلاف المخيرة لأنه دليل الإعراض وهو المبطل هنالك وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب وفي المنتقل من غصن إلى أغصن كذلك في الأصح وكذا في الدياسة للاحتياط " ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب على السامع " لأن السبب في حقه السماع " وكذا إذا تبدل مجلس التالي دون السامع " على ما قيل والأصح أنه لا يتكرر الوجوب على السامع لما قلنا " ومن أراد السجود كبر ولم يرفع يديه وسجد ثم كبر ورفع رأسه " اعتبارا بسجدة الصلاة وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه " ولا تشهد عليه ولا سلام " لأن ذلك للتحلل وهو يستدعي سبق التحريمة وهي منعدمة.
قال: " ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة " لأنه يشبه(1/79)
الإستنكاف عنها " ولا بأس بأن يقرأ آية السجدة ويدع ما سواها " لأنه مبادرة إليها قال محمد رحمه الله أحب إلي أن يقرأ قبلها آية أو آيتين دفعا لوهم التفضيل واستحسنوا إخفاءها شفقة على السامعين والله أعلم.(1/80)
باب صلاة المسافر
" السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام " لقوله عليه الصلاة والسلام " يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " عمت الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير وقدر أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر اليوم الثالث والشافعي بيوم وليلة في قول وكفى بالسنة حجة عليهما " والسير المذكور هو الوسط " وعن أبي حنيفة رحمه الله التقدير بالمراحل وهو قريب من الأول ولا معتبر بالفراسخ هو الصحيح " ولا يعتبر السير في الماء " معناه لا يعتبر به السير في البر فأما المعتبر في البحر فما يليق بحاله كما في الجبل.
قال: " وفرض المسافر في الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما " وقال الشافعي رحمه الله فرضه الأربع والقصر رخصة اعتبارا بالصوم ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى ولا يأثم على تركه وهذا آية النافلة بخلاف الصوم لأنه يقضى " وإن صلى أربعا وقعد في الثانية قدر التشهد أجزأته الأوليان عن الفرض والأخريان له نافلة " اعتبارا بالفجر ويصير مسيئا لتأخير السلام " وإن لم يقعد في الثانية قدرها بطلت " لاختلاط النافلة بها قبل إكمال أركانها " وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين " لأن الإقامة تتعلق بدخولها فيتعلق السفر بالخروج عنها وفيه الأثر عن علي رضي الله عنه لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا " ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما أو أكثر وإن نوى أقل من ذلك قصر " لأنه لا بد من اعتبار مدة لأن السفر يجامعه اللبث فقدرناها بمدة الطهر لأنهما مدتان موجبتان وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم والأثر في مثله كالخبر والتقييد بالبلدة والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة وهو الظاهر " ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي على ذلك سنين قصر " لأن ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك " وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا وكذا إذا حاصروا فيها مدينة أو حصنا " لأن الداخل بين أن يهزم فيقر وبين أن ينهزم فيفر فلم تكن دار إقامة " وكذا إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر(1/80)
أو حاصروهم في البحر " لأن حالهم مبطل عزيمتهم وعند زفر رحمه الله يصح في الوجهين إذا كانت الشوكة لهم للتمكن من القرار ظاهرا وعند أبي يوسف رحمه الله يصح إذا كانوا في بيوت المدر لأنه موضع إقامة " ونية الإقامة من أهل الكلإ وهم أهل الأخبية قيل لا تصح والأصح أنهم مقيمون " يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى " وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت أتم أربعا " لأنه يتغبر فرضه إلى أربع للتبعية كما يتغير بنية الإقامة لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت " وإن دخل معه في فائتة لم تجزه " لأنه لا يتغير بعد الوقت لانقضاء السبب كما لا يتغير بنية الإقامة فيكون اقتداء المفترض بالمتننفل في حق القعدة أو القراءة " وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم وأتم المقيمون صلاتهم " لأن المقتدي التزم الموافقة في الركعتين فينفرد في الباقي كالمسبوق إلا أنه لا يقرأ في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلا والفرض صار مؤدى فيتركها احتياطا بخلاف المسبوق لأنه أدرك قراءة نافلة فلم يتأد الفرض فكان الإتيان أولى.
قال: " ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " لأنه عليه الصلاة والسلام قاله حين صلى بأهل مكة وهو مسافر " وإذا دخل المسافر في مصره أتم الصلاة وإن لم ينو المقام فيه " لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد " ومن كان له وطن فانتقل عنه واستوطن غيره ثم سافر فدخل وطنه الأول قصر " لأنه لم يبق وطنا له ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون السفر ووطن الإقامة يبطل بمثله وبالسفر وبالأصلي " وإذا نوى المسافر أن يقيم بمكة ومنى خمسة عشر يوما لم يتم الصلاة " لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في مواضع وهو ممتنع لأن السفر لا يعرى عنه إلا إذا نوى المسافر أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه لأن إقامة المرء مضافة إلى مبيته " ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين ومن فاتته في الحضر قضاها في السفر أربعا " لأن القضاء بحسب الأداء والمعتبر في ذلك آخر الوقت لأنه المعتبر في السببية عند عدم الأداء في الوقت " والعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء " وقال الشافعي رحمه الله سفر المعصية لا يفيد الرخصة لأنها تثبت تخفيفا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ ولنا إطلاق النصوص ولأن نفس السفر ليس بمعصية وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح بتعلق الرخصة والله أعلم.(1/81)
باب صلاة الجمعة
" لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ولا تجوز في القرى " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود وهذا عند أبي يوسف رحمه الله وعنه أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم والأول اختيار الكرخي وهو الظاهر والثاني اختيار الثلجي والحكم غير مقصور على المصلي بل تجوز في جميع أفنية المصر لأنها بمنزلته في حوائج أهله " وتجوز بمنى إن كان الأمير أمير الحجاز أو كان الخليفة مسافرا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا جمعة بمنى " لأنها من القرى حتى لا يعيد بها ولهما أنها تتمصر في أيام الموسم وعدم التعييد للتخفيف ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا لأنها فضاء وبمنى أبنية والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز لأن الولاية لهما أما أمير الموسم فيلي أمور الحج لا غير " ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان " لأنها تقام بجمع عظيم وقد تقع المنازعة في التقدم والتقديم وقد تقع في غيره فلا بد منه تتميما لأمره.
" ومن شرائطها الوقت فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة " " ولو خرج الوقت وهو فيها استقبل الظهر ولا يبنيه عليها " لاختلافهما " ومنها الخطبة " لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلاها بدون الخطبة في عمره " وهي قبل الصلاة بعد الزوال " به وردت السنة " ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة " به جرى التوارث " ويخطب قائما على طهارة " لأن القيام فيهما متوارث ثم هي شرط الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان " ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز " لحصول المقصود إلا أنه يكره لمخالفته التوارث وللفصل بينهما وبين الصلاة " فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة " لأن الخطبة هي الواجبة والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة وقال الشافعي رحمه الله لا تجوز حتى يخطب خطبتين اعتبارا للمتعارف وله قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] من غير فصل وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال الحمد لله فأرتج عليه فنزل وصلى. " ومن شرائطها الجماعة " لأن الجمعة مشتقة منها " وأقلهم عند أبي حنيفة رحمه الله ثلاثا سوى الإمام وقالا اثنان سواه " قال رضي الله عنه والأصح أن هذا قول أبي يوسف رحمه الله وحده له أن في المثنى معنى الاجتماع وهي منبئة عنه ولهما أن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث لأنه(1/82)
جمع تسمية ومعنى والجماعة شرط على حدة وكذا الإمام فلا يعتبر منهم " وإن نفر الناس قبل أن يركع الإمام ويسجد ولم يبق إلا النساء والصبيان استقبل الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إذا نفروا عنه بعد ما افتتح الصلاة صلى الجمعة فإن نفروا عنه بعد ما ركع ركعة وسجد سجدة بنى على الجمعة " خلافا لزفر رحمه الله هو يقول إنها شرط فلا بد من دوامها كالوقت ولهما أن الجماعة شرط الانعقاد فلا يشترط دوامها كالخطبة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامها إليها بخلاف الخطبة فإنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها ولا معتبر ببقاء النسوان وكذا الصبيان لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تتم بهم الجماعة " ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى " لأن المسافر يحرج في الحضور وكذا المريض والأعمى والعبد مشغول بخدمة المولى والمرأة بخدمة الزوج فعذروا دفعا للحرج والضرر " فإن حضروا وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت " لأنهم تحملوه فصاروا كالمسافر إذا صام " ويجوز للمسافر والعبد المريض أن يؤم في الجمعة " وقال زفر رحمه الله لا يجزئه لأنه لا فرض عليه فأشبه الصبي والمرأة ولنا أن هذه رخصة فإذا حضروا يقع فرضا على ما بيناه أما الصبي فمسلوب الأهلية والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال وتنعقد بهم الجمعة لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى " ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته " وقال زفر رحمه الله لا يجزئه لأن عنده الجمعة هي الفريضة أصالة والظهر كالبدل عنها ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل ولنا أن أصل الفرض هو الظهر في حق الكافة هذا هو الظاهر إلا أنه مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة وهذا لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده وعلى التمكن بدور التكليف " فإن بدا له أن يحضرها فتوجه إليها والإمام فيها بطل ظهره عند أبي حنيفة رحمه الله بالسعي وقالا لا يبطل حتى يدخل مع الإمام " لأن السعي دون الظهر فلا ينقضه بعد تمامه والجمعة فوقها فينقضها وصار كما إذا توجه بعد فراغ الإمام وله أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطا بخلاف ما بعد الفراغ منها لأنه ليس بسعي إليها.
" ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر وكذا أهل السجن " لما فيه من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد لأنه لا جمعة عليهم " ولو صلى قوم أجزأهم " لاستجماع شرائطه " ومن أدرك(1/83)
الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه وبنى عليها الجمعة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " " وإن كان أدركه في التشهد أو في سجود السهو بنى عليها الجمعة عندهما وقال محمد رحمه الله إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر " لأنه جمعة من وجه ظهر من وجه لفوات بعض الشرائط في حقه فيصلي أربعا اعتبارا للظهر ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتبارا للجمعة ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية ولهما أنه مدرك للجمعة في هذه الحالة حتى يشترط نية الجمعة وهي ركعتان ولا وجه لما ذكر لأنهما مختلفان فلا يبنى أحدهما على تحريمة الآخر " وإذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته " قال رضي الله عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبر لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع ولا استماع هنا بخلاف الصلاة لأنها قد تمتد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام من غير فصل " ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة " وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع والشراء وتوجهوا إلى الجمعة " لقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان ولهذا قيل هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع والأصح أن المعتبر هو الأول إذا كان بعد الزوال لحصول الإعلام به والله أعلم.(1/84)
باب: صلاة العيدين
مدخل
...
باب صلاة العيدين
قال: " وتجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة " وفي الجامع الصغير عيدان اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة والثاني فريضة ولا يترك واحد منهما قال وهذا تنصيص على السنة والأول على الوجوب وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وجه الأول مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ووجه الثاني قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي عقيب سؤاله قال هل علي غيرهن فقال " لا إلا أن تطوع " والأول أصح وتسميته سنة لوجوبه بالسنة " ويستحب في يوم الفطر أن يطعم قبل الخروج إلى المصلى ويغتسل ويستاك ويتطيب " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم في يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى وكان يغتسل في العيدين ولأنه يوم اجتماع فيسن فيه الغسل والطيب كما في الجمعة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له جبة فنك أو صوف يلبسها في الأعياد " ويؤدي صدقة الفطر " إغناء للفقير ليتفرغ قلبه للصلاة " ويتوجه إلى المصلى ولا يكبر عند أبي حنيفة رحمه الله في طريق(1/84)
المصلى وعندهما يكبر " اعتبارا بالأضحى وله أن الأصل في الثناء الإخفاء والشرع ورد به في الأضحى لأنه يوم تكبير ولا كذلك يوم الفطر " ولا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك مع حرصه على الصلاة ثم قيل الكراهة في المصلى خاصة وقيل فيه وفي غيره عامة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله " وإذا حلت الصلاة بارتفاع الشمس دخل وقتها إلى الزوال فإذا زالت الشمس خرج وقتها " لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين ولما شهدوا بالهلال بعد الزوال أمر بالخروج إلى المصلى من الغد " ويصلي الإمام بالناس ركعتين يكبر في الأولى للافتتاح وثلاثا بعدها ثم يقرأ الفاتحة وسورة ويكبر تكبيرة يركع بها ثم يبتدئ في الركعة الثانية بالقراءة ثم يكبر ثلاثا بعدها ويكبر رابعة يركع بها " وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه وهو قولنا وقال ابن عباس رضي الله عنه يكبر في الأولى للافتتاح وخمسا بعدها وفي الثانية يكبر خمسا ثم يقرأوفي رواية يكبر أربعا وظهر عمل العامة اليوم بقول ابن عباس رحمه الله لأمر بنيه الخلفاء فأما المذهب فالقول الأول لأن التكبير ورفع الأيدي خلاف المعهود فكان الأخذ بالأقل أولى ثم التكبيرات من أعلام الدين حتى يجهر به فكان الأصل فيه الجمع وفي الركعة الأولى يجب إلحاقها بتكبيرة الافتتاح لقوتها من حيث الفرضية والسبق وفي الثانية لم يوجد إلا تكبيرة الركوع فوجب الضم إليها والشافعي أخذ بقول ابن عباس رضي الله عنه إلا أنه حمل المروي كله على الزوائد فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة.
قال: " ويرفع يديه في تكبيرات العيدين " يريد به ما سوى تكبيرتي الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن " وذكر من جملتها تكبيرات الأعياد وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرفع والحجة عليه ما روينا.
قال: " ثم يخطب بعد الصلاة خطبتين " بذلك ورد النقل المستفيض " يعلم الناس فيها صدقة الفطر وأحكامها " لأنها شرعت لأجله " ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام لم يقضها لأن الصلاة بهذه الصفة لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد فإن غم الهلال وشهدوا عند الإمام برؤية الهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد " لأن هذا تأخير بعذر وقد ورد فيه الحديث " فإن حدث عذر يمنع من الصلاة في اليوم الثاني لم يصلها بعده " لأن الأصل فيها أن لا تقضى كالجمعة إلا أنا تركناه بالحديث وقد ورد بالتأخير إلى اليوم الثاني عند العذر.
" ويستحب في يوم الأضحى أن يغتسل ويتطيب " لما ذكرناه " ويؤخر الأكل حتى يفرغ من الصلاة " لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطعم في يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته " ويتوجه إلى المصلى وهو يكبر " لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الطريق " ويصلي ركعتين(1/85)
نقل " ويخطب بعدها خطبتين " لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل " ويعلم الناس فيها الأضحية وتكبير التشريق " لأنه مشروع الوقت والخطبة ما شرعت إلا لتعليمه " فإن كان عذر يمنع من الصلاة في يوم الأضحى صلاها من الغد وبعد الغد ولا يصليها بعد ذلك " لأن الصلاة مؤقتة بوقت الأضحية فتتقيد بأيامها لكنه مسيء في التأخير من غير عذر لمخالفة المنقول " والتعريف الذي يصنعه الناس ليس بشيء " وهو أن يجتمع الناس يوم عرفة في بعض المواضع تشبيها بالواقفين بعرفة لأن الوقوف عرف عبادة مختصة بمكان مخصوص فلا يكون عبادة دونه كسائر المناسك.(1/86)
فصل في تكبيرات التشريق
" ويبدأ بتكبير التشريق بعد صلاة الفجر من يوم عرفة ويختم عقيب صلاة العصر من يوم النحر " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق والمسئلة مختلفة بين الصحابة فأخذا بقول علي رضي الله عنه أخذا بالأكثر إذ هو الاحتياط في العبادات وأخذا بقول ابن مسعود أخذا بالأقل لأن الجهر بالتكبير بدعة والتكبير أن يقول مرة واحدة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد هذا هو المأثور عن الخليل صلوات الله عليه " وهو عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمصار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة رحمه الله وليس على جماعات النساء إذا لم يكن معهن رجل ولا على جماعة المسافرين إذا لم يكن معهم مقيم وقالا هو على كل من صلى المكتوبة " لأنه تبع للمكتوبة وله ما روينا من قبل والتشريق هو التكبير كذا نقل عن الخليل بن أحمد ولأن الجهر بالتكبير خلاف السنة والشرع ورد به عند استجماع هذه الشرائط إلا أنه يجب على النساء إذا اقتدين بالرجال وعلى المسافرين عند اقتدائهم بالمقيم بطريق التبعية.
قال يعقوب رحمه الله: صليت بهم المغرب يوم عرفة فسهوت أن أكبر فكبر أبو حنيفة رضي الله عنه دل أن الإمام وإن ترك التكبير لا يتركه المقتدي وهذا لأنه لا يؤدي في حرمة الصلاة فلم يكن الإمام فيه حتما وإنما هو مستحب.(1/86)
باب صلاة الكسوف
قال: " إذ اانكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين كهيئة النافلة في كل ركعة ركوع واحد " وقال الشافعي ركوعان له ما روت عائشة رضي الله عنها ولنا رواية ابن عمر رضي الله عنه وألحال أكشف على الرجال لقربهم فكان الترجيح لروايته " ويطول(1/86)
القراءة فيهما ويخفى عند أبي حنيفة وقالا يجهر " وعن محمد مثل قول أبي حنيفة.
أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل ويخفف إن شاء لأن المسنون استيعاب الوقت بالصلاة والدعاء فإذا خفف أحدهما طول الآخر وأما الإخفاء والجهر فلهما رواية عائشة أنه صلى الله عليه وسلم جهر فيها ولأبي حنيفة رواية ابن عباس وسمرة بن جندب رضي الله عنهم والترجيح قد مر من قبل كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء " ويدعو بعدها حتى تنجلي الشمس " لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء " " والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة " ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة فإن لم يحضر صلى الناس فرادى تحرزا عن الفتنة " وليس في خسوف القمر جماعة " لتعذر الاجتماع في الليل أو لخوف الفتنة وإنما يصلي كل واحد بنفسه لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا رايتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة " " وليس في الكسوف خطبة " لأنه لم ينقل.(1/87)
باب الاستسقاء
" قال أبو حنيفة رحمه الله ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة فإن صلى الناس وحدانا جاز وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار " لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى ولم ترو عنه الصلاة " وقالا يصلي الإمام ركعتين " لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد رواه ابن عباس رضي الله عنه.
قلنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة وقد ذكر في الأصل قول محمد وحده " ويجهر فيهما بالقراءة " اعتبارا بصلاة العيد " ثم يخطب " لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب " ثم هي كخطبة العيد عند محمد وعند أبي يوسف خطبة واحدة " ولا خطبة عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنها تبع للجماعة ولا جماعة عنده " ويستقبل القبلة بالدعاء " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة وحول رداءه " ويقلب رداءه " لما روينا قال وهذا قول محمد رحمه الله أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يقلب رداءه لأنه دعاء فيعتبر بسائر الأدعية وما رواه كان تفاؤلا " ولا يقلب القوم أرديتهم " لأنه لم ينقل أنه أمرهم بذلك " ولا يحضر أهل الذمة الاستسقاء " لأنه لاستنزال الرحمة وإنما تنزل عليهم اللعنة.(1/87)
باب صلاة الخوف
" إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين طائفة إلى وجه العدو وطائفة خلفه فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة(1/87)
إلى وجه العدو وجاءت تلك الطائفة فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم ولم يسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة وسجدتين وحدانا بغير قراءة " لأنهم لاحقون " وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة " لأنهم مسبوقون " وتشهدوا وسلموا " والأصل فيه رواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الخوف على الصفة التي قلنا وأبو يوسف رحمه الله وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا.
قال: " وإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعتين " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين " ويصلي بالطائفة الأولى من المغرب ركعتين وبالثانية ركعة واحدة " لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن فجعلها في الأولى أولى بحكم السبق " ولا يقاتلون في حال الصلاة فإن فعلوا بطلت صلاتهم " لأنه صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها " فإن اشتد الخوف صلوا ركبانا فرادى يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة " لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] وسقط التوجه للضرورة وعن محمد أنهم يصلون بجماعة وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان.(1/88)
باب: الجنائز
مدخل
...
باب الجنائز
" إذ ااحتضر الرجل وجه إلى القبلة على شقه الأيمن " اعتبارا بحال الوضع في القبر لأنه أشرف عليه والمختار في بلادنا الاستلقاء لأنه أيسر لخروج الروح والأول هو السنة " ولقن الشهادتين " لقوله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله " والمراد الذي قرب من الموت " فإذا مات شد لحياه وغمص عيناه " بذلك جرى التوارث ثم فيه تحسينه فيستحسن.(1/88)
فصل في الغسل
" وإذا أرادوا غسله وضعوه على سرير " لينصب الماء عنه " وجعلوا على عورته خرقة " إقامة لواجب الستر ويكتفى بستر العورة الغليظة هو الصحيح تيسيرا " ونزعوا ثيابه " ليمكنهم التنظيف " ووضئوه من غير مضمضة واستنشاق " لأن الوضوء سنة الاغتسال غير أن إخراج الماء منه متعذر فيتركان " ثم يفيضون الماء عليه " اعتبارا بحال الحياة " ويجمر سريره وترا " لما فيه من تعظيم الميت وإنما يوتر لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله وتر يحب الوتر " " ويغلى الماء بالسدر أو بالحرض " مبالغة في التنظيف " فإن لم يكن فالماء القراح " لحصول أصل المقصود " ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي " ليكون أنظف له " ثم يضجع على شقه الأيسر فيغسل بالماء(1/88)
والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه " لأن السنة هو البداءة بالميامن " ثم يجلسه ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا " تحرزا عن تلويث الكفن " فإن خرج منه شيء غسله ولا يعيد غلسه ولا وضوءه " لأن الغسل عرفناه بالنص وقد حصل مرة " ثم ينشفه بثوب " كيلا تبتل أكفانه " ويجعله " أي الميت " في أكفانه ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته والكافور على مسجده " لأن التطيب سنة والمساجد أولى بزيادة الكرامة " ولا يسرح شعر الميت ولا لحيته ولا يقص ظفره ولا شعره " لقول عائشة رضي الله عنها علام تنصون ميتكم ولأن هذه الأشياء للزينة وقد استغنى الميت عنها وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته وصار كالختان.(1/89)
فصل في التكفين
" السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار وقميص ولفافة " لما روي " أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية " ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته فكذا بعد مماته " فإن اقتصروا على ثوبين جاز والثوبان إزار ولفافة " وهذا كفن الكفاية لقول أبي بكر رضي الله عنه اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما ولأنه أدنى لباس الأحياء والإزار من القرن إلى القدم واللفافة كذلك والقميص من أصل العنق إلى القدم " فإذا أرادوا لف الكفن ابتدءوا بجانبه الأيسر فلفوه عليه ثم بالأيمن " كما في حال الحياة وبسطه أن تبسط اللفافة أولا ثم يبسط عليها الإزار ثم يقمص الميت ويضوع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار ثم من قبل اليمين ثم اللفافة كذلك " وإن خافوا أن ينتشر الكفن عنه عقدوه بخرقة " صيانة عن الكشف " وتكفن المرأة في خمسة أثواب درع وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها " لحديث أم عطية أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب ولأنها تخرج فيها حالة الحياة فكذا بعد الممات ثم هذا بيان كفن السنة " وإن اقتصروا على ثلاثة أثواب جاز " وهي ثوبان وخمار وهو كفن الكفاية " ويكره أقل من ذلك وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد إلا في حالة الضرورة " لأن مصعب بن عمير حين استشهد كفن في ثوب واحد وهذا كفن الضرورة " وتلبس المرأة الدرع أولا ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع ثم الخمار فوق ذلك ثم الإزار تحت اللفافة قال وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا " لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بإجمار أكفان ابنته وترا والإجمار هو التطييب فإذا فرغوا منه صلوا عليه لأنها فريضة.(1/89)
فصل في الصلاة على الميت
" وأولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر " لأن في التقدم عليه ازدراء به " فإن لم يحضر فالقاضي " لأنه صاحب ولاية " فإن لم يحضر فيستحب تقديم إمام الحي " لأنه رضيه في حال حياته.
قال: " ثم الولي والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح فإن صلى غير الولي والسلطان أعاد الولي " يعني إن شاء لما ذكرنا أن الحق للأولياء " وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده " لأن الفرض يتأدى بالأولى والتنفل بها غير مشروع ولهذا رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وهو اليوم كما وضع " وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره " لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على قبر امرأة من الأنصار " ويصلى عليه قبل أن يفسخ " والمعتبر في معرفة ذلك أكبر الرأي هو الصحيح لاختلاف الحال والزمان والمكان " والصلاة أن يكبر تكبيرة يحمد الله عقيبها ثم يكبر تكبيرة يصلي فيها على النبي عليه الصلاة والسلام ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين ثم يكبر الرابعة ويسلم " لأنه عليه الصلاة والسلام كبر أربعا في آخر صلاة صلاها فنسخت ما قبلها " ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم " خلافا لزفر لأنه منسوخ لما روينا وينتظر تسليمة الإمام في رواية وهو المختار والإتيان بالدعوات استغفار للميت والبداءة بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء ولا يستغفر للصبي ولكن يقول اللهم اجعله لنا فرطا واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا مشفعا " ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر أخرى بعد حضوره " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف يكبر حين يحضر لأن الأولى للافتتاح والمسبوق يأتي به ولهما أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ ولو كان حاضرا فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية بالاتفاق لأنه بمنزلة المدرك.
قال: " ويقوم الذي يصلي على الرجل والمرأة بحذاء الصدر " لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها لأن أنسا رضي الله عنه فعل كذلك وقال هو السنة قلنا تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة فحال بينها وبينهم " فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس " لأنها دعاء وفي الاستحسان لا تجزئهم لأنها صلاة من وجه لوجود التحريمة فلا يجوز تركه من غير عذر احتياطا " ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة "(1/90)
لأن التقدم حق الولي فيملك إبطاله بتقديم غيره وفي بعض النسخ لا بأس بالأذان أي الإعلام وهو أن يعلم بعضهم بعضا ليقضوا حقه " ولا يصلي على ميت في مسجد جماعة " لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له " ولأنه بنى لأداء المكتوبات ولأنه يحتمل تلويث المسجد وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ رحمهم الله " ومن استهل بعد الولادة سمى وغسل وصلي عليه " لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا استهل المولود صلي عليه وإن لم يستهل لم يصل عليه " ولأن الاستهلال دلالة الحياة فتحقق في حقه سنة الموتى " وإن لم يستهل أدرج في خرقة " كرامة لبني آدم " ولم يصل عليه " لما روينا. ويغسل في غير الظاهر من الرواية لأنه نفس من وجه وهو المختار " وإذا سبي صبي مع أحد أبويه ومات لم يصل عليه " لأنه تبع لهما " إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل " لأنه صح إسلامه استحسانا " أو يسلم أحد أبويه " لأنه يتبع خير الأبوين دينا "وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه " لأنه ظهرت تبعية الدار فحكم بالإسلام كما في اللقيط " وإذا مات الكافر وله ولي مسلم فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه " بذلك أمر علي رضي الله عنه في حق أبيه أبي طالب لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة وتحفر حفيرة من غير مراعاة سنة التكفين واللحد ولا يوضع فيها بل يلقى.(1/91)
فصل في حمل الجنازة
" وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع " بذلك وردت السنة وفيه تكثير الجماعة وزيادة الإكرام والصيانة وقال الشافعي السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني على أعلى صدره لأن جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه هكذا حملت قلنا كان ذلك لازدحام الملائكة عليه " ويمشون به مسرعين دون الخبب " لأنه صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه قال " ما دون الخبب " " وإذا بلغوا إلى قبره يكره أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال " لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون والقيام أمكن منه.
قال: وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن وهذا في حالة التناوب.(1/91)
فصل في الدفن
" ويحفر القبر ويلحد " لقوله عليه الصلاة والسلام " اللحد لنا والشق لغيرنا " " ويدخل الميت مما يلي القبلة " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده يسل سلا لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سل سلا ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه واضطربت الروايات في إدخال النبي(1/91)
عليه الصلاة والسلام " فإذا وضع في لحده يقول واضعه باسم الله وعلى ملة رسول الله " كذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع أبا دجانة رضي الله عنه في القبر " ويوجه إلى القبلة " بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتحل العقدة " لوقوع الأمن من الانتشار " ويسوى اللبن على اللحد " لأنه عليه الصلاة والسلام جعل على قبره اللبن " ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد ولا يسجى قبر الرجل " لأن مبنى حالهن على الستر ومبنى حال الرجال على الانكشاف " ويكره الآجر والخشب " لأنهما لأحكام البناء والقبر موضع البلى ثم بالآجر أثر الناو فيكره تفاؤلا " ولا بأس بالقصب ".
وفي الجامع الصغير:
ويستحب اللبن والقصب لأنه صلى الله عليه وسلم جعل على قبره طن من قصب " ثم يهال التراب ويسنم القبر ولا يسطح " أي لا يربع لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تربيع القبور ومن شاهد قبره عليه الصلاة والسلام أخبر أنه مسنم.(1/92)
باب الشهيد
" الشهيد من قتله المشركون أو وجد في المعركة وبه أثر أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل " لأنه في معنى شهداء أحد وقال صلى الله عليه وسلم فيهم " زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم " فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم فيلحق بهم والمراد بالأثر الجراحة لأنها دلالة القتل وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة ويقول السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة ونحن نقول الصلاة على الميت لإظهار كرامته والشهيد أولى بها والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي " ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل " لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح " وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا لا يغسل لأن ما وجب بالجنابة سقط بالموت والثاني لم يجب للشهادة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة فلا ترفع الجنابة وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا وكذا قبل الانقطاع في الصحيح من الرواية وعلى هذا الخلاف الصبي لهما أن الصبي أحق بهذه الكرامة وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة ولا ذنب على الصبي فلم يكن في معناهم " ولا يغسل عن الشهيد دمه ولا ينزع عنه ثيابه " لما روينا(1/92)
" وينزع عنه الفرو والحشو والقلنسوة والسلاح والخف " لأنها ليست من جنس الكفن " ويزيدون وينقصون ما شاءوا " إتماما للكفن.
قال: " ومن ارتث غسل " وهو من صار خلقا في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة لأن ذلك يخف أثر الظلم فلم يكن في معنى شهداء أحد " والارتثاث أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى أو ينقل من المعركة حيا " لأنه نال بعض مرافق الحياة وشهداء أحد ماتوا عطشا والكأس تدار عليهم فلم يقبلوا خوفا من نقصان الشهادة إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول لأنه ما نال شيئا من الراحة ولو آواه فسطاط أو خيمة كان مرتثا لما بينا " ولو بقي حيا حتى مضى وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث " لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو من أحكام الأحياء قال وهذا مروي عن أبي يوسف رحمه الله ولو أوصي بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عند أبي يوسف رحمه الله لأنه ارتفاق وعند محمد رحمه الله لا يكون لأنه من أحكام الأموات " ومن وجد قتيلا في المصر غسل " لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم " إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما " لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة والقاتل لا يتخلص عنها ظاهرا إما في الدنيا وإما في العقبى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ما لا يلبث بمنزلة السيف ويعرف في الجنايات إن شاء الله تعالى " ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلى عليه " لأنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يلحق بهم " ومن قتل من البغاة أو قطاع الطريق لم يصل عليه " لأن عليا رضي الله عنه لم يصل على البغاة.(1/93)
باب الصلاة في الكعبة
" الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها " خلافا للشافعي رحمه الله فيهما ولمالك في الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة يوم الفتح ولأنها صلاة استجمعت شرائطها لوجود استقبال القبلة لأن استيعابها ليس بشرط " فان صلى الإمام بجماعة فيها فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز " لأنه متوجه إلى القبلة ولا يعتقد إمامه على الخطأ بخلاف مسئلة التحري " ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته " لتقدمه على إمامه " وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاة الإمام فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام " لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب " ومن صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته " خلافا(1/93)
للشافعي رحمه الله لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان السماء عندنا دون البناء لأنه ينقل ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز ولا بناء بين يديه إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم وقد ورد النهي عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.(1/94)
كتاب الزكاة
التكليف
...
كتاب الزكاة
" الزكاة واجبة على الحر العاقل البالغ المسلم إذا ملك نصابا ملكا تاما وحال عليه الحول " أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ولقوله صلى الله عليه وسلم " أدوا زكاة أموالكم " وعليه إجماع الأمة.
والمراد بالواجب الفرض لأنه لا شبهة فيه واشتراط الحرية لأن كمال الملك بها والعقل والبلوغ لما نذكره والإسلام لأن الزكاة عبادة ولا تتحقق العبادة من الكافر ولا بد من ملك مقدار النصاب لأنه صلى الله عليه وسلم قدر السبب به ولا بد من الحول لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء وقدرها الشرع بالحول لقوله صلى الله عليه وسلم " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " ولأنه المتمكن به من الاستنماء لاشتماله على الفصول المختلفة والغالب تفاوت الأسعار فيها فأدير الحكم عليه ثم قيل هي واجبة على الفور لأنه مقتضى مطلق الأمر وقيل على التراخي لأن جميع العمر وقت الأداء ولهذا لا تضمن بهلاك النصاب بعد التفريط " وليس على الصبي والمجنون زكاة " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول هي غرامة مالية فتعتبر بسائر المؤن كنفقة الزوجات وصار كالعشر والخراج.
ولنا أنها عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء ولا اختيار لهما لعدم العقل بخلاف الخراج لأنه مؤنة الأرض وكذلك الغالب في العشر معنى المؤنة ومعنى العبادة تابع ولو أفاق في بعض السنة فهو بمنزلة إفاقته في بعض الشهر في الصوم وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الحول ولا فرق بين الأصلي والعارض وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا بلغ مجنونا يعتبر الحول من وقت الإفاقة بمنزلة الصبي إذا بلغ " وليس على المكاتب زكاة " لأنه ليس بمالك من كل وجه لوجود المنافي وهو الرق ولهذا لم يكن من أهل أن يعتق عبده " ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه " وقال الشافعي رحمه الله تجب لتحقق السبب وهو ملك نصاب تام ولنا أنه مشغول بحاجته الأصلية فاعتبر معدوما كظماء المستحق بالعطش وثياب البذلة والمهنة " وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل إذا بلغ نصابا " لفراغه عن الحاجة والمراد به دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب لأنه ينتقص به(1/95)
النصاب، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر فيهما ولأبي يوسف رحمه الله في الثاني على ما روى عنه لأن له مطالبا وهو الإمام في السوائم ونائبه في أموال التجارة فإن الملاك نوابه " وليس في دور السكنى وثياب البدن وأثاث المنازل ودواب الركوب وعبيد الخدمة وسلاح الاستعمال زكاة " لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وليست بنامية أيضا وعلى هذا كتب العلم لأهلها وآلات المحترفين لما قلنا " ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له به بينة لم يزكه لما مضى " معناه صارت له بينة بأن أقر عند الناس وهي مسئلة مال الضمار وفيه خلاف زفر والشافعي رحمهما الله ومن جملته المال المفقود والآبق والضال والمغصوب إذا لم يكن عليه بينة والمال الساقط في البحر والمدفون في المفازة إذا نسي مكانه والذي أخذه السلطان مصادرة ووجوب صدقة الفطر بسبب الآبق والضال والمغصوب على هذا الخلاف لهما أن السبب قد تحقق وفوات اليد غير مخل بالوجوب كمال ابن السبيل ولنا قول علي رضي الله عنه لا زكاة في مال الضمار ولأن السبب هو المال النامي ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف ولا قدرة عليه وابن السبيل يقدر بنائبه والمدفون في البيت نصاب لتيسر الوصول إليه وفي المدفون في أرض أو كرم اختلاف المشايخ ولو كان الدين على مقر مليء أو معسر تجب الزكاة لإمكان الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل وكذا لو كان على جاحد وعليه بينة أو علم به القاضي لما قلنا ولو كان على مقر مفلس فهو نصاب عند أبي حنيفة رحمه الله لأن تفليس القاضي لا يصح عنده وعند محمد لا تجب لتحقق الإفلاس عنده بالتفليس وأبو يوسف مع محمد في تحقق الإفلاس ومع أبي حنيفة رحمه الله في حكم الزكاة رعاية لجانب الفقراء " ومن اشترى جارية للتجارة ونواها للخدمة بطلت عنها الزكاة " لاتصال النية بالعمل وهو ترك التجارة " وإن نواها للتجارة بعد ذلك لم تكن للتجارة حتى يبيعها فيكون في ثمنها زكاة " لأن النية لم تتصل بالعمل إذ هو لم يتجر فلم تعتبر ولهذا يصير المسافر مقيما بمجرد النية ولا يصير المقيم مسافرا إلا بالسفر " وإن اشترى شيئا ونواه للتجارة كان للتجارة لاتصال النية بالعمل بخلاف ما إذا ورث ونوى التجارة " لأنه لا عمل منه ولو ملكه بالهبة أو بالوصية أو النكاح أو الخلع أو الصلح عن القود ونواه للتجارة كان للتجارة عند أبي يوسف رحمه الله لاقترانها بالعمل وعند محمد لا يصير للتجارة لأنها لم تقارن عمل التجارة وقيل الاختلاف على عكسه " ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب " لأن الزكاة عبادة فكان من شرطها النية والأصل فيها الاقتران إلا أن الدفع يتفرق فاكتفى بوجودها حالة العزل تيسيرا كتقديم النية في الصوم " ومن تصدق بجميع ماله لا ينوي الزكاة سقط(1/96)
فرضها عنه استحسانا " لأن الواجب جزء منه فكان متعينا فيه فلا حاجة إلى التعيين " ولو أدى بعض النصاب سقط زكاة المؤدى عند محمد رحمه الله لأن الواجب شائع في الكل وعند أبي يوسف رحمه الله " لا تسقط لأن البعض غير متعين لكون الباقي محلا للواجب بخلاف الأول والله أعلم بالصواب.(1/97)
باب صدقة السوائم
فصل في الإبل
قال رضي الله عنه " ليس في أقل من خمس ذود صدقة فإذا بلغت خمسا سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى تسع فإذا كانت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض " وهي التي طعنت في الثانية " إلى خمس وثلاثين فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون " وهي التي طعنت في الثالثة " إلى خمس وأربعين فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة " وهي التي طعنت في الرابعة " إلى ستين فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة " وهي التي طعنت في الخامسة " إلى خمس وسبعين فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين " بهذا اشتهرت كتب الصدقات من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم " إذا زادت على مائة وعشرين " تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى مائة وخمس فيكون فيها ثلاث حقاق ثم تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وفي ست وثلاثين بنت لبون فإذا بلغت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين ثم تستأنف الفريضة أبدا كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين " وهذا عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون ثم يدار الحساب على الأربعينات والخمسينات فتجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كتب " إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون من غير شرط عود ما دونها " ولنا أنه عليه الصلاة والسلام كتب في آخر ذلك في كتاب عمرو بن حزم فما كان أقل من ذلك ففي كل خمس ذود شاة"(1/97)
فنعمل بالزيادة والبخت والعراب سواء في وجوب الزكاة لأن مطلق الاسم يتناولهما والله أعلم بالصواب.(1/98)
فصل في البقر
" ليس في أقل من ثلاثين من البقر السائمة صدقة فإذا كانت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة " وهي التي طعنت في الثانية " وفي أربعين مسن أو مسنة " وهي التي طعنت في الثالثة بهذا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام معاذا رضي الله عنه " فإذا زادت على أربعين وجب في الزيادة يقدر ذلك إلى ستين " عند أبي حنيفة رحمه الله ففي الواحدة الزائدة ربع عشر مسنة وفي الاثنين نصف عشر مسنة وفي الثلاثة ثلاثة أرباع عشر مسنة وهذه رواية الأصل لأن العفو ثبت نصا بخلاف القياس ولا نص هنا.
وروى الحسن عنه أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن مبنى هذا النصاب على أن يكون بين كل عقدين وقص وفي كل عقد واجب.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " لا تأخذ من أوقاص البقر شيئا " وفسروه بما بين أربعين إلى ستين قلنا قد قيل إن المراد منها هنا الصغار " ثم في الستين تبيعان أو تبيعتان وفي سبعين مسنة وتبيع وفي ثمانين مسنتان وفي تسعين ثلاثة أتبعة وفي المائة تبيعان ومسنة وعلى هذا يتغير الفرض في كل عشر من تبيع إلى مسنة ومن مسنة إلى تبيع " لقوله عليه الصلاة والسلام " في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسن أو مسنة " " والجواميس والبقر سواء " لأن اسم البقر يتناولهما إذ هو نوع منه إلا أن أوهام الناس لا تسبق إليه في ديارنا لقلته فلذلك لا يحنث به في يمينه لا يأكل لحم بقر والله أعلم.(1/98)
فصل في الغنم
" ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة فإذا كانت أربعين سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة شاة " هكذا ورد البيان في كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وفي كتاب أبي بكر رضي الله عنه وعليه انعقد الإجماع " والضأن والمعز سواء " لأن لفظة الغنم شاملة للكل والنص ورد به،(1/98)
ويؤخذ الثنى في زكاتها ولا يؤخذ الجذع من الضأن إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله والثنى منها ما تمت له سنة والجذع ما أتى عليه أكثرها وعن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما إنه يؤخذ الجذع لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما حقنا الجذع والثنى " ولأنه يتأدى به الأضحية فكذا الزكاة وجه الظاهر حديث علي رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا " لا يؤخذ في الزكاة إلا الثنى فصاعدا " ولأن الواجب هو الوسط وهذا من الصغار ولهذا لا يجوز فيها الجذع من المعز وجواز التضحية به عرف نصا والمراد بما روي الجذعة من الابل " ويؤخذ في زكاة الغنم الذكور والإناث " لأن اسم الشاة ينتظمهما وقد قال عليه الصلاة والسلام " في أربعين شاة شاة " والله أعلم.(1/99)
فصل في الخيل
" إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا فصاحبها بالخيار إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر رحمه الله وقالا لا زكاة في الخيل لقوله عليه الصلاة والسلام " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة " وله قوله عليه الصلاة والسلام " في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم " وتأويل ما روياه فرس الغازي وهو المنقول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه والتخيير بين الدينار والتقويم مأثور عن عمر رضي الله عنه " وليس في ذكورها منفردة زكاة " لأنها لا تتناسل " وكذا في الإناث المنفردات في رواية " وعنه الوجوب فيها لأنها تتناسل بالفحل المستعار بخلاف الذكور وعنه أنها تجب في الذكور المنفردة أيضا " ولا شيء في البغال والحمير " لقوله عليه الصلاة والسلام " لم ينزل علي فيهما شيء " والمقادير تثبت سماعا " إلا أن تكون للتجارة " لأن الزكاة حينئذ تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة والله أعلم.(1/99)
فصل
" وليس في الفصلان والحملان والعجاجيل صدقة " عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون معها كبار وهذا آخر أقواله وهو قول محمد رحمه الله.
وكان يقول أولا يجب فيها ما يجب في المسان وهو قول زفر ومالك رحمهما الله ثم رجع وقال فيها واحدة منها وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله.
وجه قوله الأول: أن الاسم المذكور في الخطاب ينتظم الصغار والكبار ووجه الثاني تحقيق النظر من الجانبين كما يجب في المهازيل واحد منها ووجه الأخير أن المقادير(1/99)
لا يدخلها القياس فإذا امتنع إيجاب ما ورد به الشرع امتنع أصلا وإذا كان فيها واحد من المسان جعل الكل تبعا له في انعقادها نصابا دون تأدية الزكاة ثم عند أبي يوسف رحمه الله لا يجب فيما دون الأربعين من الحملان وفيما دون الثلاثين من العجاجيل شيء ويجب في خمس وعشرين من الفصلان واحد ثم لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثنى الواجب ثم لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثلث الواجب ولا يجب فيما دون خمس وعشرين في الرواية وعنه أنه يجب في الخمس خمس فصيل وفي العشر خمسا فصيل على هذا الاعتبار وعنه أنه ينظر إلى قيمة خمس فصيل وسط وإلى قيمة شاة في الخمس فيجب أقلهما وفي العشر إلى قيمة شاتين وإلى قيمة خمسي فصيل على هذا الاعتبار.
قال: " ومن وجب عليه سن فلم توجد أخذ المصدق أعلى منها ورد الفضل أو أخذ دونها وأخذ الفضل " وهذا يبتني على أن أخذ القيمة في باب الزكاة جائز عندنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى إلا أن في الوجه الأول له أن لا يأخذ ويطالب بعين الواجب أو بقيمته لأنه شراء وفي الوجه الثاني يجبر لأنه لا بيع فيه بل هو إعطاء بالقيمة " ويجوز دفع القيم في الزكاة " عندنا وكذا في الكفارات وصدقة الفطر والعشر والنذر.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز اتباعا للمنصوص كما في الهدايا والضحايا ولنا أن الأمر بالأداء إلى الفقير إيصال الرزق الموعود إليه فيكون إبطالا لقيد الشاة فصار كالجزية بخلاف الهدايا لأن القربة فيها إراقة لدم وهو لا يعقل ووجه القربة في المتنازع فيه سد خلة المحتاج وهو معقول " وليس في العوامل والحوامل والعلوفة صدقة " خلافا لمالك رحمه الله له ظواهر النصوص ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس في الحوامل والعوامل ولا في البقرة المثيرة صدقة " ولأن السبب هو المال النامي ودليله الإسامة أو الإعداد للتجارة ولم يوجد ولأن في العلوفة تتراكم المؤنة فينعدم النماء معنى ثم السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول حتى لو علفها نصف الحول أو أكثر كانت علوفة لأن القليل تابع للأكثر " ولا يأخذ المصدق خيار المال ولا رذالته ويأخذ الوسط " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تأخذوا من حزرات أموال الناس أي كرائمها وخذوا من حواشي أموالهم " أي أوساطها ولأن فيه نظرا من الجانبين.
قال: " ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه وزكاه به " وقال الشافعي رحمه الله لا يضم لأنه أصل في حق الملك فكذا في وظيفته بخلاف الأولاد والأرباح لأنها تابعة في الملك حتى ملكت بملك الأصل ولنا أن المجانسة هي العلة في(1/100)
الأولاد والأرباح لأن عندها يتعسر الميز فيعسر اعتبار الحول لكل مستفاد وما شرط الحول إلا للتيسير.
قال: " والزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في النصاب دون العفو " وقال محمد وزفر رحمهما الله فيهما حتى لو هلك العفو وبقي النصاب بقي كل الواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد وزفر يسقط بقدره لمحمد وزفر رحمهما الله أن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال والكل نعمة ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " وفي خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا " وهكذا قال في كل نصاب ونفى الوجوب عن العفو لأن العفو تبع للنصاب فيصرف الهلاك أولا إلى التبع كالربح في مال المضاربة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله يصرف الهلاك بعد العفو إلى النصاب الأخير ثم إلى الذي يليه إلى أن ينتهي لأن الأصل هو النصاب الأول وما زاد عليه تابع وعند أبي يوسف رحمه الله يصرف إلى العفو أولا ثم إلى النصاب شائعا " وإذا أخذ الخوارج الخراج وصدقة السوائم لا يثنى عليهم " لأن الإمام لم يحمهم والجناية بالحماية وأفتوا بأن يعيدوها دون الخراج فيما بينهم وبين الله تعالى لأنهم مصارف الخراج لكونهم مقاتلة والزكاة مصرفها الفقراء فلا يصرفونها إليهم وقيل إذا نوى بالدفع التصدق عليهم سقط عنه وكذا ما دفع إلى كل جائر لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء والأول أحوط " وليس على الصبي من بني تغلب في سائمته شيء وعلى المرأة منهم ما على الرجل " لأن الصلح قد جرى على ضعف ما يؤخذ من المسلمين ويؤخذ من نساء المسلمين دون صبيانهم " وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة ".
وقال الشافعي رحمه الله: يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء لأنه الواجب في الذمة فصار كصدقة الفطر ولأنه منعه بعد الطلب فصار كالاستهلاك ولنا أن الواجب جزء من النصاب تحقيقا للتيسير فيسقط بهلاك محله كدفع العبد الجاني بالجناية يسقط بهلاكه والمستحق فقير يعينه المالك ولم يتحقق منه الطلب وبعد طلب الساعي قيل يضمن وقيل لا يضمن لانعدام التفويت وفي الاستهلاك وجد التعدي وفي هلاك البعض يسقط بقدره اعتبارا له بالكل " وإن قدم الزكاة على الحول وهو مالك للنصاب جاز " لأنه أدى بعد سبب الوجوب فيجوز كما إذا كفر بعد الجرح وفيه خلاف مالك رحمه الله " ويجوز التعجيل لأكثر من سنة " لوجود السبب ويجوز لنصب إذا كان في ملكه نصاب واحد خلافا لزفر رحمه الله لأن النصاب الأول هو الأصل في السببية والزائد عليه تابع له والله أعلم.(1/101)
باب زكاة المال
فصل في الفضة
" ليس فيما دون مائتي درهم صدقة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " والأوقية أربعون درهما " فإذا كانت مائتين وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم " لأنه عليه الصلاة والسلام كتب إلى معاذ رضي الله عنه " أن خذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين مثقالا من ذهب نصف مثقال ".
قال: " ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما فيكون فيها درهم ثم في كل أربعين درهما درهم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ما زاد على المائتين فزكاته بحسابه وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه " وما زاد على المائتين فبحسابه " ولأن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال واشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى وبعد النصاب في السوائم تحرزا عن التشقيص ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة السلام في حديث معاذ رضي الله عنه " لا تأخذ من الكسور شيئا " وقوله في حديث عمرو بن حزم " وليس فيما دون الأربعين صدقة " ولأن الحرج مدفوع في إيجاب الكسور ذلك لتعذر الوقوف والمعتبر في الدراهم وزن سبعة وهو أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل بذلك جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه واستقر الأمر عليه " وإذا كان الغالب على الورق الفضة فهو في حكم الفضة وإذا كان الغالب عليها الغش فهو في حكم العروض يعتبر أن تبلغ قيمته نصابا " لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها لا تنطبع إلا به وتخلو عن الكثير فجعلنا الغلبة فاصلة وهو أن يزيد على النصف اعتبارا للحقيقة وسنذكره في الصرف إن شاء الله تعالى إلا أن في غالب الغش لا بد من نية التجارة كما في سائر العروض إلا إذا كان تخلص منها فضة تبلغ نصابا لأنه لا يعتبر في عين الفضة القيمة ولا نية التجارة والله أعلم.(1/102)
فصل في الذهب
" ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة فإذا كانت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال " لما روينا. والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة دراهم وهو المعروف " ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان " لأن الواجب ربع العشر وذلك فيما قلنا إذ كل مثقال عشرون قيراطا " وليس فيما دون أربعة مثاقيل صدقة " عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما تجب(1/102)
بحساب ذلك وهي مسألة الكسور وكل دينار عشرة دراهم في الشرع فيكون أربعة مثاقيل في هذا كأربعين درهما.
قال: " وفي تبر الذهب والفضة وحليهما وأوانيهما الزكاة " وقال الشافعي رحمه الله لا تجب في حلي النساء وخاتم الفضة للرجال لأنه مبتذل في مباح فشابه ثياب البذلة ولنا أن السبب مال نام ودليل النماء موجود وهو الإعداد للتجارة خلقة والدليل هو المعتبر بخلاف الثياب.(1/103)
فصل في العروض
" الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابا من الورق أو الذهب " لقوله عليه الصلاة والسلام فيها " يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم " ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد.
ثم قال: " يقومها بما هو أنفع للمساكين " احتياطا لحق الفقراء قال رضي الله عنه وهذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وفي الأصل خيره لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء وتفسير الأنفع أن يقومها بما يبلغ نصابا.
وعن أبي يوسف أنه يقومها بما اشترى إن كان الثمن من النقود لأنه أبلغ في معرفة المالية وإن اشتراها بغير النقود قومها بالنقد الغالب.
وعن محمد رحمه الله أنه يقومها النقد الغالب على كل حال كما في المغصوب والمستهلك " وإذا كان النصاب كاملا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة " لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه أما لا بد منه في ابتدائه للانعقاد وتحقق الغنى وفي انتهائه للوجوب ولا كذلك فيما بين ذلك لأنه حالة البقاء بخلاف ما لو هلك الكل حيث يبطل حكم الحول ولا تجب الزكاة لانعدام النصاب في الجملة ولا كذلك في المسألة الأولى لأن بعض النصاب باق فيبقى الانعقاد.
قال: " وتضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب " لأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد " ويضم الذهب إلى الفضة " للمجانسة من حيث الثمنية ومن هذا الوجه صار سببا ثم يضم بالقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما بالأجزاء وهو رواية عنه حتى إن من كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل ذهب تبلغ قيمتها مائة درهم فعليه الزكاة عنده خلافا لهما هما يقولان المعتبر فيهما القدر دون القيمة حتى(1/103)
لا تجب الزكاة في مصوغ وزنه أقل من مائتين وقيمته فوقها وهو يقول إن الضم للمجانسة وهي تتحقق باعتبار القيمة دون الصورة فيضم بها والله أعلم.(1/104)
باب فيمن يمر على العاشر
" إذا مر على العاشر بمال فقال أصبته منذ أشهر أو علي دين وحلف صدق " والعاشر من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار فمن أنكر منهم تمام الحول أو الفراغ من الدين كان منكرا للوجوب والقول قول المنكر مع اليمين " وكذا إذا قال أديتها إلى عاشر آخر " ومراده إذا كان في تلك السنة عاشر آخر لأنه ادعى وضع الأمانة موضعها بخلاف ما إذا لم يكن عاشر آخر في تلك السنة لأنه ظهر كذبه بيقين " وكذا إذا قال أديتها أنا " يعني إلى الفقراء في المصر لأن الأداء كان مفوضا إليه فيه وولاية الأخذ بالمرور لدخوله تحت الحماية وكذا الجواب في صدقة السوائم في ثلاثة فصول.
وفي الفصل الرابع: وهو ما إذا قال أديت بنفسي إلى الفقراء في المصر لا يصدق وإن حلف وقال الشافعي رضي الله عنه يصدق لأنه أوصل الحق إلى المستحق ولنا أن حق الأخذ للسلطان فلا يملك إبطاله بخلاف الأموال الباطنة ثم قيل الزكاة هو الأول والثاني سياسة وقيل هو الثاني والأول ينقلب نفلا وهو الصحيح ثم فيما يصدق في السوائم وأموال التجارة لم يشترط إخراج البراءة في الجامع الصغير وشرطه في الأصل وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه ادعى ولصدق دعواه علامة فيجب إبرازها وجه الأول أن الخط يشبه الخط فلا يعتبر علامة.
قال: " وما صدق فيه المسلم صدق فيه الذمي " لأن ما يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم فتراعى تلك الشرائط تحقيقا للتضعيف " ولا يصدق الحربي إلا في الجواري يقول هن أمهات أولادي أو غلمان معه يقول هم أولادي " لأن الأخذ منه بطريق الحماية وما في يده من المال يحتاج إلى الحماية غير أن إقراره بنسب من في يده منه صحيح فكذا بأمومية الولد لأنها تبتني عليه فانعدمت صفة المالية فيهن والأخذ لا يجب إلا من المال.
قال: " ويؤخذ من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر " هكذا أمر عمر رضي الله عنه سعاته " وإن مر حربي بخمسين درهما لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها " لأن الأخذ منهم بطريق المجازاة بخلاف المسلم والذمي لأن المأخوذ زكاة أو ضعفها فلا بد من النصاب وهذا في الجامع الصغير وفي كتاب الزكاة:(1/104)
لا نأخذ من القليل وإن كانوا يأخذون منا منه لأن القليل لم يزل عفوا ولأنه لا يحتاج إلى الحماية.
قال: " وإن مر حربي بمائتي درهم ولا يعلم كم يأخذون منا نأخذ منه العشر " لقول عمر رضي الله عنه فإن أعياكم فالعشر " وإن علم أنهم يأخذون منا ربع عشر أو نصف عشر نأخذ بقدره وإن كانوا يأخذون الكل لا يأخذ الكل " لأنه غدر " وإن كانوا لا يأخذون أصلا لا نأخذ " ليتركوا الأخذ من تجارنا ولأنا أحق بمكارم الأخلاق.
قال: " وإن مر الحربي على عاشر فعشره ثم مر مرة أخرى لم يعشره حتى يحول الحول " لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال وحق الأخذ لحفظه ولأن حكم الأمان الأول باق وبعد الحول يتجدد الأمان لأنه لا يمكن من الإقامة إلا حولا والأخذ بعده لا يستأصل المال " وإن عشره فرجع إلى دار الحرب ثم خرج من يومه ذلك عشره أيضا " لأنه رجع بأمان جديد وكذا الأخذ بعده لا يفضي إلى الاستئصال " وإن مر ذمي بخمر أو خنزير عشر الخمر دون الخنزير " وقوله عشر الخمر: أي من قيمتها.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يعشرهما لأنه لا قيمة لهما وقال زفر رحمه الله يعشرهما لاستوائهما في المالية عندهم وقال أبو يوسف رحمه الله يعشرهما إذا مر بهما جملة كأنه جعل الخنزير تبعا للخمر فإن مر بكل واحد على الانفراد عشر الخمر رده الخنزير ووجه الفرق على الظاهر أن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين والخنزير منها وفي ذوات الأمثال ليس لها هذا الحكم والخمر منها ولأن حق الأخذ للحماية والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل فكذا يحميها على غيره ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسبيبه بالإسلام فكذا لا يحميه على غيره " ولو مر صبي أو امرأة من بني تغلب بمال فليس على الصبي شيء وعلى المرأة ما على الرجل " لما ذكرنا في السوائم " ومن مر على عاشر بمائة درهم وأخبره أن له في منزله مائة أخرى قد حال عليها الحول لم يزك التي مر بها " لقلتها وما في بيته لم يدخل تحت حمايته " ولو مر بمائتي درهم بضاعة لم يعشرها " لأنه غير مأذون بأداء زكاته. قال: " وكذا المضاربة " يعني إذا مر المضارب به على العاشر.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولا يعشرها لقوة حق المضارب حتى لا يملك رب المال نهيه عن التصرف فيه بعد ما صار عروضا فنزل منزلة المالك ثم رجع إلى ما ذكرنا في الكتاب وهو قولهما لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه في أداء الزكاة إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصابا فيؤخذ منه لأنه مالك له " ولو مر عبد مأذون له بمائتي درهم وليس عليه(1/105)
دين عشره " وقال أبو يوسف رحمه الله لا أدري أن أبا حنيفة رحمه الله رجع عن هذا أم لا وقياس قوله الثاني في المضاربة وهو قولهما إنه لا يعشره لأن الملك فيما في يده للمولى وله التصرف فصار كالمضارب وقيل في الفرق بينهما أن العبد يتصرف لنفسه حتى لا يرجع بالعهدة على المولى فكان هو المحتاج إلى الحماية والمضارب يتصرف بحكم النيابة حتى يرجع بالعهدة على رب المال فكان رب المال هو المحتاج فلا يكون الرجوع في المضارب رجوعا منه في العبد وإن كان مولاه معه يؤخذ منه لأن الملك له إلا إذا كان على العبد دين يحيط بماله لانعدام الملك أو للشغل.
قال: " ومن مر على عاشر الخوارج في أرض قد غلبوا عليها فعشره يثني عليه الصدقة " معناه إذا مر على عاشر أهل العدل لأن التقصير جاء من قبله من حيث أنه مر عليه.(1/106)
باب في المعادن والركاز
قال: " معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وجد في أرض خراج أو عشر ففيه الخمس " عندنا. وقال الشافعي رحمه الله لا شيء عليه فيه لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد إلا إذا كان المستخرج ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة ولا يشترط الحول في قول لأنه نماء كله والحول للتنمية ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " وفي الركاز الخمس " وهو من الركز فأطلق على المعدن ولأنها كانت في أيدي الكفرة فحوتها أيدينا غلبة فكانت غنيمة وفي الغنائم الخمس بخلاف الصيد لأنه لم يكن في يد أحد إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر وأما الحقيقية فللواجد فاعتبرنا الحكمية في حق الخمس والحقيقية في حق الأربعة الأخماس حتى كانت للواجد "ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا فيه الخمس لإطلاق ما روينا وله أنه من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء فكذا في هذا الجزء لأن الجزء لا يخالف الجملة بخلاف الكنز لأنه غير مركب فيها.
قال: " وإن وجده في أرضه فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان " ووجه الفرق على إحداهما وهو رواية الجامع الصغير أن الدار ملكت خالية عن المؤن دون الأرض ولهذا وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار فكذا هذه المؤنة " وإن وجد ركازا " أي كنزا " وجب فيه الخمس " عندهم لما روينا واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز وهو الإثبات ثم إن كان على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة وقد عرف حكمها في موضعه وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه(1/106)
الصنم ففيه الخمس على كل حال لما بينا ثم إن وجده في أرض مباحة فأربعة أخماسه للواجد لأنه تم الإحراز منه إذ لا علم به للغانمين فيختص هو به وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم عند أبي يوسف رحمه الله لأن الاستحقاق بتمام الحيازة وهي منه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هو للمختط له وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح لأنه سبقت يده إليه وهي يد الخصوص فيملك بها ما في الباطن وإن كانت على الظاهر كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع لم تخرج عن ملكه لأنه مودع فيها بخلاف المعدة لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف في الإسلام على ما قالوا ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه الأصل وقيل يجعل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد " ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم " تحرزا عن الغدر لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا " وإن وجده في الصحراء فهو له " لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا ولا شيء فيه لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر " وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا خمس في الحجر " " وفي الزئبق الخمس " في قول أبي حنيفة رحمه الله آخرا وهو قول محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف " ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله فيهما وفي كل حلية تخرج من البحر خمس لأن عمر رضي الله عنه أخذ الخمس من العنبر ولهما أن قعر البحر لم يرد عليه القهر فلا يكون المأخوذ منه غنيمة وإن كان ذهبا أو فضة والمروي عن عمر رضي الله عنه فيما دسره البحر وبه نقول " متاع وجد ركازا فهو للذي وجده وفيه الخمس " معناه إذا وجد في أرض لا مالك لها لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة والله أعلم.(1/107)
باب زكاة الزروع والثمار
" قال أبو حنيفة رحمه الله في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره العشر سواء سقى سيحا أو سقته السماء إلا الحطب والقصب والحشيش وقالا لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا بصاع النبي عليه الصلاة والسلام وليس في الخضروات عندهما عشر " فالخلاف في موضعين: في اشتراط النصاب وفي اشتراط البقاء لهما في الأول قوله عليه الصلاة والسلام " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ولأنه صدقة فيشترط فيه النصاب لتحقق الغنى ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " ما أخرجت الأرض ففيه العشر من غير فصل " وتأويل ما روياه زكاة التجارة، لأنهم كانوا(1/107)
يتبايعون بالأوساق وقيمة الوسق أربعون درهما ولا معتبر بالمالك فيه فكيف بصفته وهو الغني ولهذا لا يشترط الحول لأنه للاستنماء وهو كله نماء ولهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام " ليس في الخضروات صدقة " والزكاة غير منفية فتعين العشر وله ما روينا ومرويهما محمول على صدقة بأخذها العاشر وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله فيه ولأن الأرض قد تستنمي بما لا يبقى والسبب هي الأرض النامية ولهذا يجب فيها الخراج.
اما الحطب والقصب والحشيش فلا تستنبت في الجنان عادة بل تنقى عنها حتى لو اتخذها مقصبة أو مشجرة أو منبتا للحشيش يجب فيها العشر والمراد بالمذكور القصب الفارسي.
أما قصب السكر وقصب الذريرة ففيهما العشر لأنه يقصد بهما استغلال الأرض بخلاف السعف والتبن لأن المقصود الحب والتمر دونهما
قال: " وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر على القولين " لأن المؤنة تكثر فيه وتقل فيما يسقى بالسماء أو سيحا وإن سقي سيحا وبدالية فالمعتبر أكثر السنة كما مر في السائمة " وقال أبو يوسف رحمه الله فيما لا يوسق كالزعفران والقطن يجب فيه العشر إذا بلغت قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يوسق " كالذرة في زماننا لأنه لا يمكن التقدير الشرعي فيه فاعتبرت قيمته كما في عروض التجارة " وقال محمد رحمه الله يجب العشر إذا بلغ الخارج خمسة أعداد من أعلى ما يقدر به نوعه فاعتبر في القطن خمسة أحمال كل حمل ثلثمائة منء وفي الزعفران خمسة أمناء " لأن التقدير بالوسق كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به نوعه " وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب لأنه متولد من الحيوان فأشبه الإبريسم ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " في العسل العشر " ولأن النحل يتناول من الأنوار والثمار وفيهما العشر فكذا فيما يتولد منهما بخلاف دود القز لأنه يتناول الأوراق ولا عشر فيها ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يجب فيه العشر قل أو كثر لأنه لا يعتبر النصاب وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر فيه قيمة خمسة أوسق كما هو أصله وعنه أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب لحديث بني شبابة أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وعنه خمسة أمناء وعن محمد رحمه الله خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا لأنه أقصى ما يقدر به وكذا في قصب السكر وما يوجد في الجبال من العسل والثمار ففيه العشر وعن أبي يوسف أنه لا يجب لانعدام السبب وهو الأرض النامية وجه الظاهر أن المقصود حاصل وهو الخارج.(1/108)
قال: " وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر " لأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة فلا معنى لرفعها.
قال: " تغلبي له أرض عشر فعليه العشر مضاعفا " عرف ذلك بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم وعن محمد رحمه الله أن فيما اشتراه التغلبي من المسلم عشرا واحدا لأن الوظيفة عنده لا تتغير بتغير المالك " فإن اشتراها منه ذمي فهي على حالها عندهم " لجواز التصحيف عليه في الجملة كما إذا مر على العاشر " وكذا إذا اشتراها منه مسلم أو أسلم التغلبي عند أبي حنيفة رحمه الله " سواء كان التضعيف أصليا أو حادثا لأن التضعيف صار وظيفة لها فتنتقل إلى المسلم بما فيها كالخراج " وقال أبو يوسف رحمه الله يعود إلى عشر واحد " لزوال الداعي إلى التضعيف.
قال في الكتاب وهو قول محمد فيما صح عنه قال رضي الله عنه اختلفت النسخ في بيان قوله والأصح أنه مع أبي حنيفة في بقاء التضعيف إلا أن قوله لا يتأتى إلا في الأصل لأن التضعيف الحادث لا يتحقق عنده لعدم تغير الوظيفة " ولو كانت الأرض لمسلم باعها من نصراني " يريد به ذميا غير تغلبي " وقبضها فعليه الخراج عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنه أليق بحال الكافر " وعند أبي يوسف رحمه الله عليه العشر مضاعفا " ويصرف مصارف الخراج اعتبارا بالتغلبي وهذا أهون من التبديل " وعند محمد رحمه الله هي عشرية على حالها " لأنه صار مؤنة لها فلا يتبدل كالخراج ثم في رواية يصرف مصارف الصدقات وفي رواية يصرف مصارف الخراج " فإن أخذها منه مسلم بالشفعة أو ردت على البائع لفساد البيع فهي عشرية كما كانت " أما الأول فلتحول الصفقة إلى الشفيع كأنه اشتراها من المسلم وأما الثاني فلأنه بالرد والفسخ بحكم الفساد جعل البيع كأن لم يكن ولأن حق المسلم لم ينقطع بهذا الشراء لكونه مستحق الرد.
قال: " وإذا كانت لمسلم دار خطة فجعلها بستانا فعليه العشر " معناه إذا سقاه بماء العشر وأما إذا كانت تسقى بماء الخراج ففيها الخراج لأن المؤنة في مثل هذا تدور مع الماء " وليس على المجوسي في داره شيء " لأن عمر رضي الله عنه جعل المساكن عفوا " وإن جعلها بستانا فعليه الخراج " وإن سقاها بماء العشر لتعذر إيجاب العشر إذ فيه معنى القربة فيتعين الخراج وهو عقوبة تليق بحاله وعلى قياس قولهما يجب العشر في الماء العشري إلا أن عند محمد رحمه الله عشر واحد وعند أبي يوسف عشران وقد مر الوجه فيه،(1/109)
ثم الماء العشري ماء السماء والآبار والعيون والبحار التي لا تدخل تحت ولاية أحد والماء الخراجي ماء الأنهار التي شقها الأعاجم وماء جيحون وسيحون ودجلة والفرات عشري عند محمد رحمه الله لأنه لا يحميها أحد كالبحار وخراجي عند أبي يوسف رحمه الله لأنه يتخذ عليها القناطر من السفن وهذا يدل عليها " وفي أرض الصبي والمرأة التغلبيين ما في أرض الرجل التغلبي " يعني العشر المضاعف في العشرية والخراج الواحد في الخراجية لأن الصلح قد جرى على تضعيف الصدقة دون المؤنة المحضة ثم على الصبي والمرأة إذا كانا من المسلمين العشر فيضعف ذلك إذا كانا منهم.
قال: " وليس في عين القبر والنفط في أرض العشر شيء " لأنه ليس من إنزال الأرض وإنما هو عين فوارة كعين الماء " وعليه في أرض الخراج خراج " وهذا " إذا كان حريمه صالحا للزراعة " لأن الخراج يتعلق بالتمكن من الزراعة.(1/110)
باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز
قال رحمه الله: " الأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية فهذه ثمانية أصناف وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم " وعلى ذلك انعقد الإجماع " والفقير من له أدنى شيء والمسكين من لا شيء له " وهذا مروي عن أبي حنيفة رحمه الله وقد قيل على العكس ولكل وجه ثم هما صنفان أو صنف واحد سنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.
" والعامل يدفع الإمام إليه إن عمل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه وأعوانه غير مقدر بالثمن " خلافا للشافعي رحمه الله لأن استحقاقه بطريق الكفاية ولهذا يأخذ وإن كان غنيا إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام عن شبهة الوسخ والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة فلم تعتبر الشبهة في حقه.
قال: " وفي الرقاب يعان المكاتبون منها في فك رقابهم " وهو المنقول " والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه " وقال الشافعي: من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين "وفي سبيل الله منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله " لأنه هو المتفاهم عند الإطلاق " وعند محمد رحمه الله منقطع الحاج " لما روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحمل عليه الحاج ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا لأن المصرف هو الفقراء " وابن السبيل من كان له مال في وطنه " وهو في مكان آخر لا شيء له فيه.(1/110)
قال: " فهذه جهات الزكاة فللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد " وقال الشافعي: لا يجوز أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق ولنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق وهذا لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى وبعلة الفقر صاروا مصارف فلا يبالي باختلاف جهاته والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم " ولا يجوز أن يدفع الزكاة إلى ذمي " لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم ".
قال: " ويدفع " إليه " ما سوى ذلك من الصدقة " وقال الشافعي رحمه الله: لا يدفع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله اعتبارا بالزكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " تصدقوا أهل الأديان كله ا" ولولا حديث معاذ رضي الله عنه لقلنا بالجواز في الزكاة "ولا يبنى بها مسجد ولا يكفن بها ميت " لانعدام التمليك وهو الركن " ولا يقضى بها دين ميت " لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه لا سيما من الميت " ولا تشترى بها رقبة تعتق " خلافا لمالك حيث ذهب إليه في تأويل قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ولنا أن الإعتاق إسقاط الملك وليس بتمليك " ولا تدفع إلى غني " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحل الصدقة لغني " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في غني الغزاة وكذا حديث معاذ رضي الله عنه على ما روينا.
قال: " ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل " لأن منافع الأملاك بينهم متصلة فلا يتتحقق التمليك على الكمال " ولا إلى امرأته " للاشتراك في المنافع عادة " ولا تدفع المرأة إلى زوجها " عند أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا. وقالا: تدفع إليه لقوله عليه الصلاة والسلام " لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة " قاله لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد سألته عن التصدق عليه قلنا هو محمول على النافلة.
قال: " ولا يدفع إلى مدبره ومكاتبه وأم ولده " لفقدان التمليك إذ كسب المملوك لسيده وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك " ولا إلى عبد قد أعتق بعضه " عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة المكاتب عنده وقالا يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما " ولا يدفع إلى مملوك غني " لأن الملك واقع لمولاه " ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا " لأنه يعد غنيا بيسار أبيه بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت(1/111)
نفقته عليه وبخلاف امرأة الغني لأنها إن كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تصير موسرة " ولا تدفع إلى بني هاشم " لقوله عليه الصلاة والسلام " يا بني هاشم إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس " بخلاف التطوع لأن المال ههنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض أما التطوع فبمنزلة التبرد بالماء.
قال: " وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم " أما هؤلاء فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف ونسبة القبيلة إليه وأما مواليهم فلما روي أن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أتحل لي الصدقة فقال: " لا أنت مولانا " بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبدا نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية ويعتبر حال المعتق لأنه القياس والإلحاق بالمولى بالنص وقد خص الصدقة " قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا ثم بان أنه غني أو هاشمي أو كافر أو دفع في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه وقال أبو يوسف رحمه الله عليه الإعادة " لظهور خطئه بيقين وإمكان الوقوف على هذه الأشياء وصار كالأواني والثياب ولهما حديث معن بن يزيد فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيه " يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت " وقد دفع إليه وكيل أبيه صدقته ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع فيبتنى الأمر فيها على ما يقع عنده كما إذا اشتبهت عليه القبلة وعن أبي حنيفة رحمه الله في غير الغني أنه لا يجزئه والظاهر هو الأول وهذا إذا تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه مصرف أما إذا شك ولم يتحر أو تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه إلا إذا علم أنه فقير هو الصحيح " ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه عبده أو مكاتبه لا يجزئه " لانعدام التمليك لعدم أهلية الملك وهو الركن على ما مر " ولا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابا من أي مال كان " لأن الغني الشرعي مقدر به والشرط أن يكون فاضلا عن الحاجة الأصلية وإنما النماء شرط الوجوب " ويجوز دفعها إلى من يملك أقل من ذلك وإن كان صحيحا مكتسبا " لأنه فقير والفقراء هم المصارف ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب " ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا وإن دفع جاز " وقال زفر رحمه الله لا يجوز لأن الغني قارن الأداء فحصل الأداء إلى الغني ولنا أن الغني حكم الأداء فيتعقبه لكنه يكره لقرب الغني منه كمن صلى وبقربه نجاسة قال " وأن يغنى بها إنسانا أحب إلي " معناه الإغناء عن السؤال يومه ذلك لأن الإغناء مطلقا مكروه.
قال: " ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد " وإنما يفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه وفيه رعاية حق الجوار " إلا أن ينقلها الإنسان إلى قرابته(1/112)
أو إلى قوم هم أحوج من أهل بلده " لما فيه من الصلة أو زيادة دفع الحاجة ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص والله أعلم.(1/113)
باب: صدقة الفطر
مدخل
...
باب صدقة الفطر
قال رحمه الله: " صدقة الفطر واجبة على الحر المسلم إذا كان مالكا لمقدار النصاب فاضلا عن مسكنه وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبيده " أما وجوبها فلقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته " أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير " رواه ثعلبة بن صعير العدوي أو صعير العذري وبمثله يثبت الوجوب لعدم القطع وشرط الحرية ليتحقق التمليك والإسلام ليقع قربة واليسار لقوله عليه الصلاة والسلام " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله تجب على من يملك زيادة عن قوت يومه لنفسه وعياله وقدر اليسار بالنصاب لتقدير الغني في الشرع به فاضلا عما ذكر من الأشياء لأنها مستحقة بالحاجة الأصلية والمستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم ولا يشترط فيه النمو ويتعلق بهذا النصاب حرمان الصدقة ووجوب الأضحية والفطرة.
قال: " يخرج ذلك عن نفسه " لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الذكر والأنثى الحديث " و "يخرج عن " أولاده الصغار " لأن السبب رأس يمونه ويلي عليه لأنها تضاف إليه يقال زكاة الرأس وهي أمارة السببية والإضافة إلى الفطر باعتبار أنه وقته ولهذا تتعدد بتعدد الرأس مع اتحاد اليوم والأصل في الوجوب رأسه وهو يمونه ويلي عليه فيلحق به ما هو في معناه كأولاده الصغار لأنه يمونهم ويلي عليهم " ومماليكه " لقيام الولاية والمؤنة وهذا إذا كانوا للخدمة ولا مال للصغار فإن كان لهم مال يؤدي من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلاف لمحمد رحمه الله لأن الشرع أجراه مجرى المؤنة فأشبه النفقة " ولا يؤدي عن زوجته " لقصور الولاية والمؤنة فإنه لا يليها في غير حقوق النكاح ولا يمونها في غير الرواتب كالمداواة " ولا عن أولاده الكبار وإن كانوا في عياله " لانعدام الولاية ولو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم أجزأه استحسانا لثبوت الإذن عادة " ولا " يخرج " عن مكاتبه " لعدم الولاية " ولا المكاتب عن نفسه " لفقره وفي المدبر وأم الولد ولاية المولى ثابتة فيخرج عنهما " ولا " يخرج " عن مماليكه للتجارة " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده وجوبها على العبد ووجوب الزكاة على المولى فلا تنافي وعندنا وجوبها على المولى بسببه كالزكاة فيؤدي إلى الثني " والعبد بين شريكين(1/113)
لا فطرة على واحد منهما " لقصور الولاية والمؤنة في حق كل واحد منهما " وكذا العبيد بين اثنين عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا على كل واحد منهما ما يخصه من الرءوس دون الأشقاص بناء على أنه لا يرى قسمة الرقيق وهما يريانها وقيل هو بالإجماع لأنه لا يجتمع النصيب قبل القسمة فلم تتم الرقبة لكل واحد منهما " ويؤدي المسلم الفطر عبده الكافر " لإطلاق ما روينا ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي " الحديث ولأن السبب قد تحقق والمولى من أهله وفيه خلاف الشافعي رحمه الله لأن الوجوب عنده على العبد وهو ليس من أهله ولو كان على العكس فلا وجوب بالاتفاق.
قال: " ومن باع عبدا وأحدهما بالخيار ففطرته على من يصير له " معناه أنه إذا مر يوم الفطر والخيار باق وقال زفر رحمه الله على من له الخيار لأن الولاية له وقال الشافعي رحمه الله على من له الملك لأنه من وظائفه كالنفقة ولنا أن الملك موقوف لأنه لو رد يعود إلى قديم ملك البائع ولو أجيز يثبت الملك للمشتري من وقت العقد فيتوقف ما يبتني عليه بخلاف النفقة لأنها للحاجة الناجزة فلا تقبل التوقف وزكاة التجارة على هذا الخلاف.(1/114)
فصل في مقدار الواجب ووقته
" الفطرة تصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب أو صاع من تمر أو شعير " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الزبيب بمنزلة الشعير وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله والأول رواية الجامع الصغير وقال الشافعي رضي الله عنه من جميع ذلك صاع لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنا نخرج ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنا ما روينا وهو مذهب جماعة من الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أجمعين وما رواه محمول على الزيادة تطوعا ولهما في الزبيب أنه والتمر يتقاربان في المقصود وله أنه والبر يتقاربان في المعنى لأنه يؤكل كل واحد منهما بجميع أجزائه بخلاف الشعير والتمر لأن كل واحد منهما يؤكل ويلقى من التمر النواة ومن الشعير النخالة وبهذا ظهر التفاوت بين البر والتمر ومراده من الدقيق والسويق ما يتخذ من البر أما دقيق الشعير فكالشعير والأولى أن يراعى فيهما القدر والقيمة احتياطا وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار ولم يبين ذلك في الكتاب اعتبارا للغالب والخبز تعتبر فيه القيمة هو الصحيح ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله. وعن(1/114)
محمد رحمه الله أنه يعتبر كيلا والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله لأنه أدفع للحاجة وأعجل به وعن أبي بكر الأعمش رحمه الله تفضيل الحنطة لأنه أبعد من الخلاف إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي رحمه الله.
قال: " والصاع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ثمانية أرطال بالعراقي " وقال أبو يوسف رحمه الله خمسة أرطال وثلث رطل وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام " صاعنا أصغر الصيعان " ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال وهكذا كان صاع عمر ضي الله عنه وهو أصغر من الهاشمي وكانوا يستعملون الهاشمي.
قال: " ووجوب الفطرة يتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر " وقال الشافعي رحمه الله بغروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان حتى إن من أسلم أو ولد ليلة الفطر تجب فطرته عندنا وعنده لا تجب وعلى عكسه من مات فيها من مماليكه أو ولده له أن يختص بالفطر وهذا وقته ولنا أن الإضافة للاختصاص واختصاص الفطر باليوم دون الليل " والمستحب أن يخرج الناس الفطرة يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج قبل أن يخرج للمصلى ولأن الأمر بالإغناء كي لا يتشاغل الفقير بالمسئلة عن الصلاة وذلك بالتقديم " فإن قدموها على يوم الفطر جاز " لأنه أدى بعد تقرر السبب فأشبه التعجيل في الزكاة ولا تفصيل بين مدة ومدة هو الصحيح وقيل يجوز تعجيلها في النصف الأخير من رمضان وقيل في العشر الأخير " وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط وكان عليهم إخراجها " لأن وجه القربة فيها معقول فلا يتقدر وقت الأداء فيها بخلاف الأضحية والله أعلم.(1/115)
كتاب الصوم
ضروب الصوم
مدخل
...
كتاب الصوم
قال رحمه الله: " الصوم ضربان واجب ونفل والواجب ضربان منه ما يتعلق بزمان بعينه كصوم رمضان والنذر المعين فيجوز بنية من الليل وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال " وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجزيه.
اعلم أن صوم رمضان فريضة لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وعلى فرضيته انعقد الإجماع ولهذا يكفر جاحده والمنذور واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وسبب الأول الشهر ولهذا يضاف إليه ويتكرر بتكرره وكل يوم سبب لوجوب صومه وسبب الثاني النذر والنية من شرطه وسنبينه ونفسره إن شاء الله تعالى وجه قوله في الخلافية قوله عليه الصلاة والسلام " لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل " ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية فسد الثاني ضرورة أنه لا يتجزأ بخلاف النفل لأنه متجزئ عنده.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال "ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم " وما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل ولأنه يوم صوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره كالنفل وهذا لأن الصوم ركن واحد ممتد والنية لتعيينه لله تعالى فتترجح بالكثرة جنبة الوجود بخلاف الصلاة والحج لأن لهما أركانا فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما وبخلاف القضاء لأنه يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل وبخلاف ما بعد الزوال لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر فترجحت جنبة الفوات ثم قال في المختصر ما بينه وبين الزوال وفي الجامع الصغير قبل نصف النهار وهو الأصح لأنه لا بد من وجود النية في أكثر النهار ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى لا إلى وقت الزوال فتشترط النية قبلها لتتحقق في الأكثر ولا فرق بين المسافر والمقيم عندنا خلافا لزفر رحمه الله لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل وهذا الضرب من الصوم يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر وقال الشافعي رحمه الله في نية النفل عابث وفي مطلقها له قولان لأنه بنية النفل معوض عن الفرض فلا يكون له الفرض.(1/116)
ولنا أن الفرض متعين فيه فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه وإذا نوى النفل أو واجبا آخر فقد نوى أصل الصوم وزيادة جهة وقد لغت الجهة فبقي الأصل وهو كاف ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن الرخصة كي لا تلزم المعذور مشقة فإذا تحملها التحق بغير المعذور وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا صام المريض والمسافر بنية واجب آخر يقع عنه لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة وعنه في نية التطوع روايتان والفرق على إحداهما أنه ما صرف الوقت إلى الأهم.
قال: " والضرب الثاني ما ثبت في الذمة كقضاء شهر رمضان والنذر المطلق وصوم الكفارة فلا يجوز إلا بنية من الليل " لأنه غير متعين ولا بد من التعيين من الابتداء " والنفل كله يجوز بنية قبل الزوال " خلافا لمالك رحمه الله فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يصبح غير صائم " إني إذا لصائم " ولأن المشروع خارج رمضان هو النفل فيتوقف الإمساك في أول اليوم على صيرورته صوما بالنية على ما ذكرنا ولو نوى بعد الزوال لا يجوز وقال الشافعي رحمه الله يجوز ويصير صائما من حين نوى إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنيا على النشاط ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك في أول النهار وعندنا يصير صائما من أول النهار لأنه عبادة قهر النفس وهي إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره.(1/117)
فصل في رؤية الهلال
قال: " وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان فإن رأوه صاموا وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا " لقوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد " ولا يصومون يوم الشك إلا تطوعا " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعا " وهذه المسئلة على وجوه:
أحدها: أن ينوي صوم رمضان وهو مكروه لما روينا ولأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه لأنه شهد الشهر وصامه وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعا وإن أفطر لم يقضه لأنه في معنى المظنون.
والثاني: أن ينوي عن واجب آخر وهو مكروه أيضا لما روينا إلا أن هذا دون الأول
في الكراهة ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزئه لوجود أصل النية وإن ظهر أنه من شعبان(1/117)
فقد قيل يكون تطوعا لأنه منهي عنه فلا يتأدى به الواجب وقيل يجزئه عن الذين نراه وهو الأصح لأن المنهي عنه وهو التقدم على رمضان بصوم رمضان لا يقوم بكل صوم بخلاف يوم العيد لأن المنهي عنه وهو ترك الإجابة يلازم كل صوم والكراهية ههنا لصورة النهي.
والثالث: أن ينوي التطوع وهو غير مكروه لما روينا وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله يكره على سبيل الابتداء والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم " لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين " الحديث التقدم بصوم رمضان لأنه يؤديه قبل أوانه ثم إن وافق صوما كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعدا وإن أفرده فقد قيل الفطر أفضل احترازا عن ظاهر النهي وقد قيل الصوم أفضل اقتداء بعلي وعائشة رضي الله عنهما فإنهما كانا يصومانه والمختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفيا للتهمة.
والرابع: أن يضجع في أصل النية بأن ينوي أن يصوم غدا إن كان من رمضان ولا يصومه إن كان من شعبان وفي هذا الوجه لا يصير صائما لأنه لم يقطع عزيمته فصار كما إذا نوى أنه إن وجد غدا غذاء يفطر وإن لم يجد يصوم.
والخامس: أن يضجع في وصف النية بأن ينوي إن كان غدا من رمضان يصوم عنه وإن كان من شعبان فعن واجب آخر وهذا مكروه لتردده بين أمرين مكروهين ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه لعدم التردد في أصل النية وإن ظهر أنه من شعبان لا يجزيه عن واجب آخر لأن الجهة لم تثبت للتردد فيها وأصل النية لا يكفيه لكنه يكون تطوعا غير مضمون بالقضاء لشروعه فيه مسقطا وإن نوى عن رمضان إن كان غدا منه وعن التطوع إن كان من شعبان يكره لأنه ناو للفرض من وجه ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه لما مر وإن ظهر أنه من شعبان جاز عن نفله لأنه يتأدى بأصل النية ولو أفسده يجب أن لا يقضيه لدخول الإسقاط في عزيمته من وجه.
قال: " ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته " لقوله عليه الصلاة والسلام " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقد رأى ظاهرا وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة وقال الشافعي رحمه الله عليه الكفارة إن أفطر بالوقاع لأنه أفطر في رمضان حقيقة لتيقنه به وحكما لوجوب الصوم عليه.
ولنا أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الغلط فأورث شبهة وهذ الكفارة تندرئ بالشبهات ولو أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته اختلف المشايخ فيه ولو أكمل هذا(1/118)
الرجل ثلاثين يوما لم يفطر إلا مع الإمام لأن الوجوب عليه للاحتياط الاحتياط بعد ذلك من تأخير الإفطار ولو أفطر لا كفارة عليه اعتبارا للحقيقة التي عنده.
قال: " وإذا كان بالسماء علة قبل الإمام شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا " لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار ولهذا لا يختص بلفظة الشهادة وتشترط العدالة لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول وتأويل قول الطحاوي عدلا كان أو غير عدل أن يكون مستورا والعلة غيم أو غبار أو نحوه وفي إطلاق جواب الكتاب يدخل المحدود في القذف بعد ما تاب وهو ظاهر الرواية لأنه خبر ديني وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها لا تقبل لأنها شهادة من وجه وكان الشافعي في أحد قوليه يشترط المثنى والحجة عليه ما ذكرنا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الواحد في رؤية هلال رمضان ثم إذا قبل الإمام شهادة الواحد وصاموا ثلاثين يوما لا يفطرون فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله للاحتياط ولأن الفطر لا يثبت بشهادة الواحد وعن محمد رحمه الله أنهم يفطرون ويثبت الفطر بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد وإن كان لا يثبت بهذا ابتداء كاستحقاق الإرث بناء على النسب الثابت بشهادة القابلة.
قال: " وإذا لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم " لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة يوهم الغلط فيجب التوقف فيه حتى يكون جمعا كثيرا بخلاف ما إذا كان بالسماء علة لأنه قد ينشق الغيم عن موضع القمر فيتفق للبعض النظر ثم قيل في حد الكثير أهل المحلة وعن أبي يوسف رحمه الله خمسون رجلا اعتبارا بالقسامة ولا فرق بين أهل المصر ومن ورد من خارج المصر وذكر الطحاوي أنه تقبل شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر لقلة الموانع وإليه الإشارة في كتاب الاستحسان وكذا إذا كان على مكان مرتفع في المصر.
قال: " ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطا وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب.
قال: " وإذا كان بالسماء علة لم يقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين " لأنه تعلق به نفع العبد وهو الفطر فأشبه سائر حقوقه والأضحى كالفطر في هذا في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كهلال رمضان لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي " وإن لم يكن بالسماء علة لم يقبل إلا شهادة جماعة يقع العلم بخبرهم " كما ذكرنا.(1/119)
قال: " ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس " لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] إلى أن قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والخيطان بياض النهار وسواد الليل " والصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارا مع النية " لأنه في حقيقة اللغة هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع لورود الاستعمال فيه إلا أنه زيد على النية في الشرع لتتميز بها العبادة من العادة واختص بالنهار لما تلونا ولأنه لما تعذر الوصال كان تعيين النهار أولى ليكون على خلاف العادة وعليه مبنى العبادة والطهارة عن الحيض والنفاس شرط لتحقق الأداء في حق النساء.(1/120)
باب ما يوجب القضاء والكفارة
مدخل
...
باب ما يوجب القضاء والكفارة
قال: " وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع نهارا ناسيا لم يفطر " والقياس أن يفطر وهو قول مالك رحمه الله لوجود ما يضاد الصوم فصار كالكلام ناسيا في الصلاة ووجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام الذي أكل وشرب ناسيا " تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك " وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية بخلاف الصلاة لأن هيئة الصلاة مذكرة فلا يغلب النسيان ولا مذكر في الصوم فيغلب ولا فرق بين الفرض والنفل لأن النص لم يفصل " ولو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يعتبر بالناسي ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب ولأن النسيان من قبل من له الحق والإكراه من قبل غيره فيفترقان كالمقيد والمريض في قضاء الصلاة.
قال: " فإن نام فاحتلم لم يفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام " ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة " وكذا إذا نظر إلى امرأة فأمنى " لما بينا فصار كالمتفكر إذا أمنى وكالمستمني بالكف على ما قالوا " ولو ادهن لم يفطر " لعدم المنافي " وكذا إذا احتجم " لهذا ولما روينا " ولو اكتحل لم يفطر " لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق والداخل من المسام لا ينافي كما لو اغتسل بالماء البارد " ولو قبل امرأة لا يفسد صومه " يريد به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى بخلاف الرجعة والمصاهرة لأن الحكم هناك أدير على السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله " ولو أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة " لوجود معنى الجماع ووجود المنافي صورة أو معنى يكفي لإيجاب القضاء(1/120)
احتياطا، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود " ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه " أي الجماع أو الإنزال " ويكره إذا لم يأمن " لأن عينه ليس بمفطر وربما يصير فطرا بعاقبته فإن أمن يعتبر عينه وأبيح له وإن لم يأمن تعتبر عاقبته وكره له والشافعي رحمه الله أطلق فيه في الحالين والحجة عليه ما ذكرنا والمباشرة الفاحشة مثل التقبيل في ظاهر الرواية وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة " ولو دخل حلقه ذباب هو ذاكر لصومه لم يفطر " وفي القياس يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصاة ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الاحتراز عنه فأشبه الغبار والدخان.
واختلفوا في المطر والثلج والأصح أنه يفسد لإمكان الامتناع عنه إذا آواه خيمة أو سقف " ولو أكل لحما بين أسنانه فإن كان قليلا لم يفطر وإن كان كثيرا يفطر " وقال زفر يفطر في الوجهين لأن الفم له حكم الظاهر حتى لا يفسد صومه بالمضمضة.
ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان والفاصل مقدار الحمصة وما دونها قليل " وإن أخرجه وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه " لما روي عن محمد رحمه الله أن الصائم إذا ابتلع سمسمة بين أسنانه لا يفسد صومه ولو أكلها ابتداء يفسد صومه ولو مضغها لا يفسد لأنها تتلاشى وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف رحمه الله وعند زفر رحمه الله عليه الكفارة أيضا لأنه طعام متغير ولأبي يوسف رحمه الله أنه يعافه الطبع " فإن ذرعه القيء لم يفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء عامدا فعليه القضاء " ويستوي فيه ملء الفم فما دونه فلو عاد وكان ملء الفم فسد عند أبي يوسف رحمه الله لأنه خارج حتى انتقض به الطهارة وقد دخل وعند محمد رحمه الله لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه لأنه لا يتغذى به عادة وإن أعاده فسد بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف رحمه الله لعدم الخروج وعند محمد رحمه الله يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال " فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء " لما روينا والقياس متروك به ولا كفارة عليه لعدم الصورة وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد رحمه الله لإطلاق الحديث وعند أبي يوسف رحمه الله لا يفسد لعدم الخروج حكما ثم إن عاد لم يفسد عنده لعدم سبق الخروج وإن أعاده فعنه أنه لا يفسده لما ذكرنا وعنه أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع.(1/121)
قال: " ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر " لوجود صورة الفطر " ولا كفارة عليه " لعدم المعنى " ومن جامع في أحد السبيلين عامدا فعليه القضاء " استدراكا للمصلحة الفائتة " وللكفارة " لتكامل الجناية ولا يشترط الإنزال في المحلين اعتبارا بالاغتسال وهذا لأن قضاء الشهوة يتحقق دونه وإنما ذلك شبع وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه اعتبارا بالحد عنده والأصح أنها تجب لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة " ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل " خلافا للشافعي رحمه الله لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة وقال الشافعي رحمه الله في قول لا تجب عليها لأنها متعلقة بالجماع وهو فعله وإنما هي محل الفعل وفي قول تجب ويتحمل الرجل عنها اعتبارا بماء الاغتسال.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر " وكلمة " من " تنتظم الذكور أو الإناث ولأن السبب جناية الإفساد لا نفس الوقاع وقد شاركته فيها ولا يتحمل لأنها عبادة أو عقوبة ولا يجري فيها التحمل " ولو أكل أو شرب ما يتغذى به أو ما يداوى به فعليه القضاء والكفارة " وقال الشافعي رحمه الله لا كفارة عليه لأنها شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة فلا يقاس عليه غيره.
ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار في رمضان على وجه الكمال وقد تحققت وبإيجاب الإيمان تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية.
ثم قال: " والكفارة مثل كفارة الظهار " لما روينا ولحديث الأعرابي فإنه قال يا رسول الله هلكت وأهلكت فقال ماذا صنعت قال واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا فقال صلى الله عليه وسلم " أعتق رقبة " فقال لا أملك إلا رقبتي هذه فقال " صم شهرين متتابعين " فقال وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم فقال " أطعم ستين مسكينا " فقال لا أجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بفرق من تمر ويروى بعرق فيه خمسة عشر صاعا وقال " فرقها على المساكين " فقال والله ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي فقال " كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك " وهو حجة على الشافعي في قوله يخير لأن مقتضاه الترتيب وعلى مالك في نفي التتابع للنص عليه " ومن جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء " لوجود الجماع معنى " ولا كفارة عليه " لانعدامه صورة " وليس في إفساد صوم غير رمضان كفارة " لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية فلا يحلق به غيره(1/122)
" ومن احتقن أو استعط أو أقطر في أذنه أفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " الفطر مما دخل " ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف " ولا كفارة عليه " لانعدامه صورة " ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخلهما لا يفسد صومه " لانعدام المعنى والصورة بخلاف ما إذا دخله الدهن " ولو داوى جائفة أو آمة بدواء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر " عند أبي حنيفة رحمه الله والذي يصل هو الرطب وقالا لا يفطر لعدم التيقن بالوصول لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى كما في اليابس من الدواء وله أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل فيصل إلى الجوف بخلاف اليابس لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها " ولو أقطر في إحليله لم يفطر " عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله يفطر وقول محمد رحمه الله مضطرب فيه فكأنه وقع عند أبي يوسف رحمه الله أن بينه وبين الجوف منفذا ولهذا يخرج منه البول ووقع عند أبي حنيفة رحمه الله أن المثانة بينهما حائل والبول يترشح منه وهذا ليس من باب الفقه " ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر " لعدم الفطر صورة ومعنى " ويكره له ذلك " لما فيه من تعريض الصوم على الفساد " ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد " لما بينا " ولا بأس إذا لم تجد منه بدا " صيانة للولد ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها " ومضغ العلك لا يفطر الصائم " لأنه لا يصل إلى جوفه وقيل إذا لم يكن ملتئما يفسد لأنه يصل إليه بعض أجزائه وقيل إذا كان أسود يفسد وإن كان ملتئما لأنه يتفتت " إلا أنه يكره للصائم " لما فيه من تعريض الصوم للفساد ولأنه يتهم بالإفطار ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن ويكره للرجال على ما قيل إذا لم يكن من علة وقيل لا يستحب لما فيه من التشبه بالنساء " ولا بأس بالكحل ودهن الشارب " لأنه نوع ارتفاق وهو ليس من محظورات الصوم وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاكتحال يوم عاشوراء وإلى الصوم فيه ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة لأنه يعمل عمل الخضاب ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة " ولا بأس بالسواك الرطب بالغداة والعشي للصائم " لقوله صلى الله عليه وسلم " خير حلال الصائم السواك من غير فصل " وقال الشافعي يكره بالعشي لما فيه من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف فشابه دم الشهيد قلنا هو أثر العبادة والأليق به الإخفاء بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء لما روينا.(1/123)
فصل في من كان مريضا في رمضان إلخ
...
فصل
" ومن كان مريضا في رمضان فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر وقضى " وقال(1/123)
الشافعي رحمه الله: لا يفطر هو يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو كما يعتبر في التيمم ونحن نقول إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه " وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل وإن أفطر جاز " لأن السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذرا بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم فشرط كونه مفضيا إلى الحرج وقال الشافعي رحمه الله الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصيام في السفر ".
ولنا أن رمضان أفضل الوقتين فكان الأداء فيه أولى وما رواه محمول على حالة الجهد " وإذا مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم يلزمهما القضاء " لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر " ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة " لوجود الإدراك بهذا المقدار وفائدته وجوب الوصية بالإطعام وذكر الطحاوي خلافا فيه بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وبين محمد رحمه الله وليس بصحيح وإنما الخلاف في النذر والفرق لهما أن النذر سبب فيظهر الوجوب في حق الخلف وفي هذه المسئلة السبب إدارك العدة فيتقدر بقدر ما أدرك " وقضاء رمضان إن شاء فرقه وإن شاء تابعه " لإطلاق النص لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب " وإن أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني " لأنه في وقته " وقضى الأول بعده " لأنه وقت القضاء " ولا فدية عليه " لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع " والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما أفطرتا وقضتا " دفعا للحرج " ولا كفارة عليهما " لأنه إفطار بعذر " ولا فدية عليهما " خلافا للشافعي رحمه الله فيما إذا خافت على الولد هو يعتبره بالشيخ الفاني.
ولنا أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني والفطر بسبب الولد ليس في معناه لأنه عاجز بعد الوجوب والولد لا وجوب عليه أصلا " والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا كما يطعم في الكفارات " والأصل فيه قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قيل معناه لا يطيقونه ولو قدر على الصوم يبطل حكم الفداء لأن شرط الخلفية استمرار العجز " ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير " لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني ثم لا بد من الإيصاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله وعلى هذا الزكاة هو يعتبره بديون العباد إذ كل ذلك حق مالي تجري فيه النيابة.
ولنا أنه عبادة ولا بد فيه من الاختيار وذلك في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية، ثم(1/124)
هو تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح " ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يصوم احد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد " " ومن دخل في صلاة التطوع أو في صوم التطوع ثم أفسده قضاه " خلافا للشافعي رحمه الله له أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه مالم يتبرع به.
ولنا أن المؤدي قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا ويباح بعذر والضيافة عذر لقوله صلى الله عليه وسلم " أفطر واقض يوما مكانه " " وإذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر في رمضان أمسكا بقية يومهما " قضاء لحق الوقت بالتشبه " ولو أفطرا فيه لا قضاء عليهما " لأن الصوم غير واجب فيه " وصاما ما بعده " لتحقق السبب والأهلية " ولم يقضيا يومهما ولا ما مضى " لعدم الخطاب وهذا بخلاف الصلاة لأن السبب فيها الجزء المتصل بالأداء فوجدت الأهلية عنده وفي صوم الجزء الأول والأهلية منعدمة عنده وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا زال الكفر أو الصبا قبل الزوال فعليه القضاء لأنه أدرك وقت النية وجه الظاهر أن الصوم لا يتجزأ وجوبا وأهلية الوجوب منعدمة في أوله إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة دون الكافر على ما قالوا لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا والصبي أهل له " وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه " لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب ولا صحة الشروع " وإن كان في رمضان فعليه أن يصوم " لزوال المرخص في وقت النية ألا ترى أنه لو كان مقيما في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة لهذا أولى إلا أنه إذا أفطر في المسئلتين لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح " ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء " لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية إذ الظاهر وجودها منه " وقضى ما بعده " لانعدام النية " وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة " لما قلنا. وقال مالك رحمه الله لا يقضي ما بعده لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف وعندنا لا بد من النية لكل يوم لأنها عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان لهذه العبادة بخلاف الاعتكاف " ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه " لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى فيصير عذرا في التأخير لا في الإسقاط " ومن جن في رمضان كله لم يقضه " خلافا لمالك رحمه الله هو يعتبره بالإغماء.
ولنا أن المسقط هو الحرج والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج والجنون يستوعبه فيتحقق الحرج " وإن أفاق المجنون في بعضه مضى ما قضى " خلافا لزفر والشافعي(1/125)
رحمهما الله هما يقولان لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية والقضاء مرتب عليه وصار كالمستوعب.
ولنا أن السبب قد وجد وهو الشهر والأهلية بالذمة وفي الوجوب فائدة وهو صيرورة مطلوبا على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة وتماما في الخلافيات ثم لا فرق بين الأصلي والعارض قيل هذا في ظاهر الرواية وعن محمد رحمه الله أنه فرق بينهما لأنه إذا بلغ مجنونا التحق بالصبي فانعدم الخطاب بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا مختار بعض المتأخرين " ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه " وقال زفر رحمه الله يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه كما إذا وهب كل النصاب من الفقير.
ولنا أن المستحق الإمساك بجهة العبادة ولا عبادة إلا بالنية وفي نية النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة " ومن أصبح غير ناو للصوم فأكل لا كفارة عليه " عند أبي حنيفة رحمه الله وقال زفر رحمه الله عليه الكفارة لأنه يتأدى بغير النية عنده وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة لأنه فوت إمكان التحصيل فصار كغاصب الغاصب ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفارة تعلقت بالإفساد وهذا امتناع إذ لا صوم إلا بالنية " وإذا حاضت المرأة أو نفست أفطرت وقضت " بخلاف الصلاة لأنها تحرج في قضائها وقد مر في الصلاة " وإذا قدم المسافر أو طهرت الحائض في بعض النهار أمسكا بقية يومهما " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب الإمساك وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلا للزوم ولم يكن كذلك في أول اليوم هو يقول التشبه خلف فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدا أو مخطئا.
ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت لا خلفا لأنه وقت معظم بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق المانع عن التشبه حسب تحققه عن الصوم.
قال: " وإذا تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه " قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن أو نفيا للتهمة " وعليه القضاء " لأنه حق مضمون بالمثل كما في المريض والمسافر(1/126)
" ولا كفارة عليه " لأن الجناية قاصرة لعدم القصد وفيه قال عمر رضي الله عنه ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير والمراد بالفجر الفجر الثاني وقد بيناه في الصلاة " ثم التسحر مستحب " لقوله عليه الصلاة والسلام " تسحروا فإن في السحور بركة " والمستحب تأخيره لقوله عليه الصلاة والسلام " ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك " " إلا أنه إذا شك في الفجر " ومعناه تساوي الظنين " الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم ولا يجب عليه ذلك ولو أكل فصومه تام " لأن الأصل هو الليل وعن أبي حنيفة رحمه الله إذا كان في موضع لا يستبين الفجر أو كانت الليلة مقمرة أو متغيمة أو كان ببصره علة وهو يشك لا يأكل ولو أكل فقد أساء لقوله عليه الصلاة والسلام " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع فعليه قضاؤه عملا بغالب الرأي وفيه الاحتياط وعلى ظاهر الرواية لاقضاء عليه لأن اليقين لا يزال إلا بمثله " ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه " لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية " ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر " لأن الأصل هو النهار " ولو أكل فعليه القضاء " عملا بالأصل وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة لأن النهار هو الأصل ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب ينبغي أن تجب الكفارة نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار " ومن أكل في رمضان ناسيا وظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا عليه القضاء دون الكفارة " لأن الاشتباه استند إلى القياس فتحقق الشبهة وإن بلغه الحديث وعلمه فكذلك في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها تجب وكذا عنهما لأنه لا اشتباه فلا شبهة وجه الأول قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه "ولو احتجم وظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا عليه القضاء والكفارة" لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد لأن الفتوى دليل شرعي في حقه ولو بلغه الحديث فاعتمده فكذلك عند محمد رحمه الله لأن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينزل عن قول المفتي وعن أبي يوسف رحمه الله خلاف ذلك لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث وإن عرف تأويله تجب الكفارة لانتفاء الشبهة وقول الأوزاعي رحمه الله لا يورث الشبهة لمخالفتة القياس " ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان " لأن الفطر يخالف القياس والحديث مؤول بالإجماع " وإذا جومعت النائمة أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا قضاء عليهما اعتبارا بالناسي والعذر هنا أبلغ لعدم القصد ولنا أن النسيان يغلب وجوده وهذا نادر ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية.(1/127)
فصل فيما يوجبه على نفسه
" وإذا قال لله علي صوم يوم النحر أفطر وقضى " فهذا النذر صحيح عندنا خلافة لزفر والشافعي رحمهما الله هما يقولان إنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام.
ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي اسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أداه كما التزمه " وإن نوى يمينا فعليه كفارة يمين " يعني إذا أفطر وهذه المسئلة على وجوه ستة إن لم ينو شيئا أو نوى النذر لا غير أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا لأنه نذر بصيغته كيف وقد قرره بعزيمته وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا لأن اليمين محتمل كلامه وقد عينه ونفى غيره وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يكون نذرا ولو نوى اليمين فكذلك عندهما وعنده يكون يمينا لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية ويتوقف الثاني فلا ينتظمهما ثم المجاز يتعين بنيته وعند نيتهما تترجح الحقيقة ولهما أنه لا تتنافى بين الجهتين لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره فجمعنا بينهما عملا بالدليلين كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعارضة في الهبة بشرط العوض " ولو قال لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها " لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع لأن المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولة تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان ويأتي في هذا خلاف زفر والشافعي رحمهما الله للنهي عن الصوم فيها وهو قوله عليه الصلاة والسلام " ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال " وقد بينا الوجه فيه والعذرعنه ولو لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام لأن الأصل فيما يلتزمه الكمال والمؤدى ناقص لمكان النهي بخلاف ما إذا عينها لأنه التزم بوصف النقصان فيكون الأداء بالوصف الملتزم.
قال: " وعليه كفارة يمين إن أراد به يمينا " وقد سبقت وجوهه " ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في النوادر أن عليه القضاء " لأن الشروع ملزوم كالنذر وصار كالشرع في الصلاة في الوقت المكروه والفرق لأبي حنيفة رحمه الله وهو ظاهر الرواية أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما حتى يحنث(1/128)
به الحالف على العموم فيصير مرتكبا للنهي فيجب إبطاله فلا تجب صيانته ووجوب القضاء يبنى عليه ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر وهو الموجب ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة ولهذا لا يحنث به الحالف على الصلاة فتجب صيانه المؤدي ويكون مضمونا بالقضاء وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجب القضاء في فضل الصلاة أيضا والأظهر هو الأول والله أعلم بالصواب.(1/129)
باب الاعتكاف
قال: " الاعتكاف مستحب " والصحيح أنه سنة مؤكدة لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان والمواظبة دليل السنة " وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف " أما اللبث فركنه لأنه ينبئ عنه فكان وجوده به والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والنية شرط في سائر العبادات هو يقول إن الصوم عبادة وهو أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره.
ولنا قول عليه الصلاة والسلام " لا إعتكاف إلا بالصوم " والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول ثم الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لظاهر ما روينا وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم وفي رواية الأصل وهو قول محمد رحمه الله أقله ساعة فيكون من غير صوم لأن مبنى النفي على المساهلة ألا ترى أن يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام ولو شرع فيه ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل لأنه غير مقدر فلم يكن القطع إبطالا وفي رواية الحسن يلزمه لأنه مقدر باليوم كالصوم ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة لقول حذيفة رضي الله عنه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس لأنه عبادة إنتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعا فيه فتعتكف فيه " ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة " أما الحاجة فلحديث عائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان ولأنه معلوم وقوعها ولا بد من الخروج في تقضيتها فيصير الخروج لها مستثنى ولا يمكث بعد فراغه من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه وهي معلوم وقوعها وقال الشافعي رحمه الله الخروج إليها مفسد لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع ونحن نقول(1/129)
الاعتكاف في كل مسجد مشروع وإذا صح الشروع فالضرورة مطلقة في الخروج ويخرج حين تزول الشمس لأن الخطاب يتوجه بعده وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها ويصلي قبلها أربعا وفي رواية ستا الأربع سنة والركعتان تحية المسجد وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة وسننها توابع لها فألحقت بها ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك لا يفسد اعتكافه لأنه موضع اعتكاف إلا أنه لا يستحب لأنه إلتزم أداءه في مسجد واحد فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة " ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه " عند أبي حنيفة رحمه الله لوجود المنافى وهو القياس وقالا لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم وهو الاستحسان لأن في القليل ضرورة قال " وأما الأكل والشرب والنوم يكون في معتكفه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لمأوى إلا المسجد ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج " ولا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة " لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته إلا أنهم قالوا يكره إحضار السلعة للبيع والشراء لأن المسجد محرز من حقوق العباد وفيه شغله بها ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه لقوله عليه الصلاة والسلام " جنبوا مساجدكم صبيانكم " إلى أن قال " وبيعكم وشراءكم ".
قال: " ولا يتكلم إلا بخير ويكره له الصمت " لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا لكنه يتجانب ما يكون مأثما " ويحرم على المعتكف الوطء " لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] " و " كذا " اللمس والقبلة " لأنه من دواعيه فيحرم عليه إذ هو محظوره كما في الإحرام بخلاف الصوم لأن الكف ركنه لا محظوره فلم يتعد إلى دواعيه " فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل اعتكافه " لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان " ولو جامع فيما دون الفرج فأنزل أو قبل أو لمس فأنزل بطل اعتكافه " لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم ولو لم ينزل لا يفسد إن كان محرما لأنه ليس في معنى الجماع وهو المفسد ولهذا لا يفسد به الصوم.
قال: " ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمه اعتكافها بلياليها " لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بازائها من الليالي يقال ما رأيتك منذ أيام والمراد بلياليها وكانت " متتابعة وان لم يشترط التتابع " لأن مبنى الاعتكاف على التتابع لأن الأوقات كلها قابلة له بخلاف الصوم لأن مبناه على التفرق لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع "وإن نوى الأيام خاصة صحت نيته " لأنه نوى الحقيقة " ومن أوجب على(1/130)
نفسه اعتكاف يومين يلزمه بليلتيهما قال أبو يوسف رحمه الله لا تدخل الليلة الأولى " لأن المثنى غير الجمع وفي المتوسطة ضرورة الاتصال وجه الظاهر أن في المثنى معنى الجمع فيلحق به احتياطا لأمر العبادة والله أعلم.(1/131)
كتاب الحج
وجوب الحج
مدخل
...
كتاب الحج
" الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاصلا عن المسكن وما لا بد منه وعن نفقة عياله إلى حين عوده وكان الطريق آمنا " وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية " ولا يجب في العمر الا مرة واحدة " لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل عام أم مرة واحدة فقال " لا بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع " ولأن سببه البيت وإنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه وعند محمد والشافعي رحمهما الله على التراخي لأنه وظيفة العمر فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة وجه الأول أنه يختص بوقت خاص والموت في سنة واحدة غير نادر فيتضيق احتياطا ولهذا كان التعجيل أفضل بخلاف وقت الصلاة لأن الموت في مثله نادر وإنما شرط الحرية والبلوغ لقوله عليه الصلاة والسلام " أيما عبد حج عشر حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام " ولأنه عبادة والعبادات بأسرها موضوعة عن الصبيان والعقل شرط لصحة التكليف وكذا صحة الجوارح لأن العجز دونها لازم والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد مر في كتاب الصلاة وأما المقعد فعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب لأنه مستطيع بغيره فأشبه المستطيع بالراحلة وعن محمد رحمه الله أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء بنفسه بخلاف الأعمى لأنه لو هدى يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة وهو قدر ما يكترى به شق محمل أو رأس زاملة وقدر النفقة ذاهبا وجائيا لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل إليه فقال " الزاد والراحلة " وإن أمكنه أن يكترى عقبة فلا شئ عليه لأنهما إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن وعما لا بد منه كالخادم وأثاث البيت وثيابه لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله إلى حين عوده لأن النفقة حق مستحق للمرأة وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره وليس من شرط(1/132)
الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة لأنه لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي الى الجمعة ولا بد من أمن الطريق لأن الاستطاعة لا تثبت دونه ثم قيل هو شرط الأداء دون الوجوب لأن النبي عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير.
قال: " ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به أو زوج ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام " وقال الشافعي رحمه الله يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تحجن امرأة الا ومعها محرم " ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة وتزداد بانضمام غيرها اليها ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم " وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها " وقال الشافعي رحمه الله له أن يمنعها لأن في الخروج تفويت حقه.
ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض والحج منها حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها ولو كان المحرم فاسقا قالوا لا يجب عليها لأن المقصود لا يحصل به " ولها أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون مجوسيا " لأنه يعتقد إباحة مناكحتها ولا عبرة بالصبي والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة حتى لا يسافر بها من غير محرم ونفقة المحرم عليها لأنها تتوسل به إلى أداء الحج.
واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق " وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم أو أعتق العبد فمضيا لم يجزهما عن حجة الاسلام " لأن إحرامهما إنعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض " ولو جدد الصبي الاحرام قبل الوقوف ونوى حجة الاسلام جاز والعبد لو فعل ذلك لم يجز " لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية أما إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج عنه بالشروع في غيره والله أعلم.(1/133)
فصل في المواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما
...
فصل
" والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة لأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل العراق ذات عرق ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم " هكذا وقت رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت لهؤلاء.
وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام عنها لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق " ثم(1/133)
الأفاقى إذا إنتهى إليها على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج أو العمرة أو لم يقصد عندنا " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما " ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما " ومن كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته " لأنه يكثر دخوله مكة وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين فصار كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها ثم دخولها بغير إحرام لحاجتهم بخلاف ما إذا قصد أداء النسك لأنه يتحقق أحيانا فلا حرج " فإن قدم الإحرام على هذه المواقيت جاز " لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله كذا قاله علي وابن مسعود رضي الله عنهما والأفضل التقديم عليها لأن إتمام الحج مفسر به والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر وعن أبي حنيفة رحمه الله إنما يكون أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور " ومن كان داخل الميقات فوقته الحل معناه الحل " الذي بين المواقيت وبين الحرم لأنه يجوز إحرامه من دويرة أهله وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد ومن كان بمكة فوقته في الحج الحرم وفي العمرة الحل لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه رضي الله عنهم أن يحرموا بالحج من جوف مكة وأمر أخا عائشة رضي الله عنهما أن يعمرها من التنعيم وهو في الحل ولأن أداء الحج في عرفة وهي في الحل فيكون الاحرام من الحرم ليتحقق نوع سفر وأداء العمرة في الحرم فيكون الإحرام من الحل لهذا إلا أن التنعيم أفضل لورود الأثر به والله أعلم.(1/134)
باب الإحرام
مدخل
...
باب الإحرام
" وإذا أراد الإحرام اغتسل أو توضأ والغسل أفضل " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض وإن لم يقع فرضها عنها فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة لكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أتم ولأنه عليه الصلاة والسلام اختاره.
قال: " ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزارا ورداء " لأنه عليه السلام ائتزر وارتدى عند إحرامه ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد وذلك فيما عيناه والجديد أفضل لأنه أقرب إلى الطهارة.
قال: " ومس طيبا إن كان له " وعن محمد رحمه الله أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام ووجه المشهور حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أطيب رسول الله عليه الصلاة والسلام(1/134)
لإحرامه قبل أن يحرم والممنوع عنه التطيب بعد الإحرام والباقي كالتابع له لاتصاله به بخلاف الثوب لأنه مباين عنه.
قال: " وصلى ركعتين " لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه قال: " وقال اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني " لأن أداءه في أزمنة متفرقة وأماكن متباينة فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير وفي الصلاة لم يذكر مثل هذا الدعاء لأن مدتها يسيرة وأداءها عادة متيسر.
قال: " ثم يلبي عقيب صلاته " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لبى في دبر صلاته وإن لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل لما روينا " وإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج " لأنه عبادة والأعمال بالنيات " والتلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وقوله: إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداء لا بناء إذ الفتحة صفة الأولى وهو إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه على ما هو المعروف في القصة " ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات " لأنه هو المنقول باتفاق الرواة فلا ينقص عنه " ولو زاد فيها جاز " خلافا للشافعي رحمه الله في رواية الربيع رحمه الله عنه هو اعتبره بالأذان واستشهد من حيث إنه ذكر منظوم.
ولنا أن أجلاء الصحابة كابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم زادوا على المأثور ولأن المقصود الثناء وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة عليه.
قال: " وإذا لبى فقد أحرم " يعني إذا نوى لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج " ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكركما في تحريمة الصلاة ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية هذا هو المشهور عن أصحابنا رحمهم الله والفرق بينه وبين الصلاة على أصلهما أن باب الحج أوسع من باب الصلاة حتى يقام غير الذكر مقام الذكر كتقليد البدن فكذا غير التلبية وغير العربية.
قال: " ويتقى ما نهى الله تعالى عنه من الرفث والفسوق والجدال " والأصل فيه قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فهذا نهي بصيغة النفي والرفث الجماع أو الكلام الفاحش أو ذكر الجماع بحضرة النساء والفسوق: المعاصي(1/135)
وهو في حال الإحرام أشد حرمة والجدال أن يجادل رفيقه وقيل مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره " ولا يقتل صيدا " لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] " ولا يشير إليه ولا يدل عليه " لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه أصاب حمار وحش وهو حلال وأصحابه محرمون فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه "أهل أشرتم هل دللتم هل أعنتم " فقالوا لا فقال " إذا فكلوا " ولأنه إزالة الأمن عن الصيد لأنه آمن بتوحشه وبعده عن الأعين.
قال: " ولا يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء وقال في آخره " ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين " والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند مقعد الشراك دون الناتيء فيما روى هشام عن محمد رحمه الله.
قال: " ولا يغطي وجهه ولا رأسه " وقال الشافعي يجوز للرجل تغطية الوجه لقوله عليه السلام " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ".
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " قاله في محرم توفى ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة فالرجل بالطريق الأولى وفائدة ما روى الفرق في تغطية الرأس.
قال: " ولا يمس طيبا" لقوله عليه الصلاة والسلام " الحاج الشعث التفل " " وكذا لا يدهن " لما روينا " ولا يحلق رأسه ولا شعر بدنه " لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] الآية " ولا يقص من لحيته " لأنه في معنى الحلق ولأن فيه إزالة الشعث وقضاء التفث.
قال: " ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران ولا عصفر " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران ولا ورس ".
قال: " إلا أن يكون غسيلا لا ينفض " لأن المنع للطيب لا للون وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بلبس المعصفر لأنه لون لا طيب له ولنا أن له رائحة طيبة.
قال: " ولا بأس بأن يغتسل ويدخل الحمام " لأن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم ولا بأس بأن "يستظل بالبيت والمحمل " وقال مالك رحمه الله يكره أن يستظل بالفسطاط وما أشبه ذلك لأنه يشبه تغطية الرأس.(1/136)
ولنا أن عثمان رضي الله عنه كان يضرب له فسطاط في إحرامه ولأنه لا يمس بدنه فأشبه البيت " ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهة فلا بأس به " لأنه استظلال " و " لا بأس بأن " يشد في وسطه الهميان " وقال مالك رحمه الله يكره إذا كان فيه نفقة غيره لأنه لا ضرورة.
ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت فيه الحالتان " ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى " لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس.
قال: " ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار " لأن أصحاب رسول الله عليه السلام رضي الله عنهم كانوا يلبون في هذه الأحوال والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة فيؤتى بها عند الإنتقال من حال إلى حال " ويرفع صوته بالتلبية " لقوله عليه الصلاة والسلام " أفضل الحج العج والثج " فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدم.
قال: " فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام كما دخل مكة دخل المسجد ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا لأنه دخول بلدة فلا يختص بأحدهما " وإذا عاين البيت كبر وهلل " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا لقي البيت باسم الله والله أكبر ومحمد رحمه الله لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات لأن التوقيت يذهب بالرقة وإن تبرك بالمنقول منها فحسن.
قال: " ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله وكبر وهلل.
قال: " ويرفع يديه " لقوله عليه السلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن وذكر من جملتها استلام الحجر ".
قال: " واستلمه إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل الحجر الأسود ووضع شفتيه عليه وقال لعمر رضي الله عنه " إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه وإن لا فاستقبله وهلل وكبر " ولأن الإستلام سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب.
قال: " وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده " كالعرجون وغيره " ثم قبل ذلك فعل " لما روى أنه عليه الصلاة والسلام طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن لم(1/137)
يستطع شيئا من ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: " ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب وقد اضطبع رداءه قبل ذلك فيطوف بالبيت سبعة أشواط " لما روى أنه عليه الصلاة والسلام استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف سبعة أشواط " والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على كتفه الأيسر " وهو سنة وقد نقل ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: " ويجعل طوافه من وراء الحطيم " وهو اسم لموضع فيه الميزاب سمي به لأنه حطم من البيت أي كسر وسمي حجرا لأنه حجر منه أي منع وهو من البيت لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها " فإن الحطيم من البيت " فلهذا يجعل الطواف من ورائه حتى لو دخل الفرجة التي بينه وبين البيت لا يجوز إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه.
قال: " ويرمل في الثلاثة الأول من الأشواط " والرمل أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين وذلك مع الاضطباع وكان سببه إظهار الجلد للمشركين حين قالوا أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي عليه السلام وبعده.
قال: " ويمشي في الباقي على هينته " على ذلك اتفق رواة نسك رسول الله عليه السلام " والرمل من الحجر إلى الحجر " وهو المنقول من رمل النبي عليه السلام " فإن زحمه الناس في الرمل قام فإذا وجد مسلكا رمل " لأنه لا بدل له فيقف حتى يقيمه على وجه السنة بخلاف الإستلام لأن الاستقبال بدل له.
قال: " ويستلم الحجر كلما مر به إن استطاع " لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة فكما يفتتح كل ركعة بالتكبير يفتتح كل شوط باستلام الحجر وإن لم يستطع الإستلام استقبل وكبر وهلل على ما ذكرنا " ويستلم الركن اليماني " وهو حسن في ظاهر الرواية وعن محمد رحمه الله أنه سنة " ولا يستلم غيرهما " فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستلم هذين الركنين ولا يستلم غيرهما " ويختم الطواف بالإستلام " يعني استلام الحجر.
قال: " ثم يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين أو حيث تيسر من المسجد " وهي واجبة عندنا وقال الشافعي رحمه الله سنة لإنعدام دليل الوجوب ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين " والأمر للوجوب " ثم يعود إلى الحجر فيستلمه " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر، والأصل أن كل طواف(1/138)
بعده سعي يعود إلى الحجر لأن الطواف لما كان يفتتح بالإستلام فكذا السعي يفتتح به بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي.
قال: " وهذا الطواف طواف القدوم " ويسمى طواف التحية " وهو سنة وليس بواجب " وقال مالك رحمه الله إنه واجب لقوله عليه الصلاة والسلام " من أتى البيت فليحيه بالطواف ".
ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف والأمر المطلق لا يقتضي التكرار وقد تعين طواف الزيارة بالإجماع وفيما رواه سماه تحية وهو دليل الاستحباب " وليس على أهل مكة طواف القدوم " لانعدام القدوم في حقهم.
قال: " ثم يخرج إلى الصفا فيصعد عليه ويستقبل البيت ويكبر ويهلل ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع يديه ويدعو الله لحاجته " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل القبلة يدعو الله ولأن الثناء والصلاة يقدمان على الدعاء تقريبا إلى الإجابة كما في غيره مع الدعوات والرفع سنة الدعاء وإنما يصعد بقدر ما يصير البيت بمرأى منه لأن الاستقبال هو المقصود بالصعود ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم وهو الذي يسمى باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا إلا أنه سنة.
قال: " ثم ينحط نحو المروة ويمشي على هينته فإذا بلغ بطن الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا ثم يمشي على هينته حتى يأتي المروة فيصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل من الصفا وجعل يمشي نحو المروة وسعى في بطن الوادي حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط.
قال: " وهذا شوط واحد فيطوف سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ويسعى في بطن الوادي في كل شوط " لما روينا وإنما يبدأ بالصفا لقوله عليه الصلاة والسلام فيه " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " ثم السعي بين الصفا والمروة واجب وليس بركن وقال الشافعي رحمه الله إنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا ".
ولنا قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ومثله يستعمل للإباحة فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه في الإيجاب ولأن الركنية لا تثبت(1/139)
إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد ثم معنى ما روى كتب استحبابا كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الآية.
قال: " ثم يقيم بمكة حراما " لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله قال " ويطوف بالبيت كلما بدا له " لأنه يشبه الصلاة قال عليه الصلاة والسلام " الطواف بالبيت صلاة والصلاة خير موضوع " فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى عقيب هذه إلا طوفة في هذه المدة لأن السعي لا يجب فيه إلا مرة والتنقل بالسعي غير مشروع ويصلى لكل أسبوع ركعتين وهي ركعتا الطواف على ما بينا.
قال: " فإذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب الامام خطبة يعلم فيها الناس الخروج إلى منى والصلاة بعرفات والوقوف والافاضة ".
والحاصل أن في الحج ثلاث خطب أولها ما ذكرنا والثانية بعرفات يوم عرفة والثالثة بمنى في اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وقال زفر رحمه الله يخطب في ثلاثة أيام متوالية أولها يوم التروية لأنها أيام الموسم ومجتمع الحاج.
ولنا أن المقصود منها التعليم ويوم التروية ويوم النحر يوما اشتغال فكان ما ذكرناه أنفع وفي القلوب أنجع " فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى فيقيم بها حتى يصلي الفجر من يوم عرفة " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم راح إلى عرفات " ولو بات بمكة ليلة عرفة وصلى بها الفجر ثم غدا إلى عرفات ومر بمنى أجزأه " لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك ولكنه أساء بتركه الاقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: " ثم يتوجه إلى عرفات فيقيم بها " لما روينا وهذا بيان الأولوية أما لو دفع قبله جاز لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم قال في الأصل وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ تجبر والحال حال تضرع والإجابة في الجمع أرجى وقيل مراده أن لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على المارة.
قال: " وإذا زالت الشمس يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر فيبتديء بالخطبة فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة " هكذا فعله رسول الله عليه الصلاة(1/140)
والسلام، وقال مالك رحمه الله يخطب بعد الصلاة لأنها خطبة وعظ وتذكير فأشبه خطبة العيد.
ولنا ما روينا ولأن المقصود منها تعليم المناسك والجمع منها وفي ظاهر المذهب إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في الجمعة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤذن قبل خروج الإمام وعنه أنه يؤذن بعد الخطبة والصحيح ما ذكرنا لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة لأنه أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة.
قال: " ويصلي بهم الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين " وقد ورد النقل المستفيض باتفاق الرواة بالجمع بين الصلاتين وفيما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين ثم بيانه أنه يؤذن للظهر ويقيم للظهر ثم يقيم للعصر لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود فيفرد بالإقامة إعلاما للناس ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلا لمقصود الوقوف ولهذا قدم العصر على وقته فلو أنه فعل فعل مكروها وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية خلافا لما روى عن محمد رحمه الله لأن الاشتغال بالتطوع أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول فيعيده للعصر فإن صلى بغير خطبة أجزأه لأن هذه الخطبة ليست بفريضة.
قال: " ومن صلى الظهر في رحله وحده صلى العصر في وقته عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يجمع بينهما المنفرد لأن جواز الجمع للحاجة إلى امتداد الوقوف والمنفرد محتاج إليه ولأبي حنيفة رحمه الله أن المحافظة على الوقت فرض بالنصوص فلا يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به وهو الجمع بالجماعة مع الإمام والتقديم لصيانة الجماعة لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا في الموقف لا لما ذكراه إذ لا منافاة ثم عند أبي حنيفة رحمه الله الإمام شرط في الصلاتين جميعا وقال زفر رحمه الله في العصر خاصة لأنه هو المغير عن وقته وعلى هذا الخلاف الاحرام بالحج ولأبي حنيفة رحمه الله أن التقديم على خلاف القياس عرفت شرعيته فيما إذا كانت العصر مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه ثم لا بد من الإحرام بالحج قبل الزوال في رواية تقديما للاحرام على وقت الجمع وفي أخرى يكتفي بالتقديم على الصلاة لأن المقصود هو الصلاة.
قال: " ثم يتوجه إلى الموقف فيقف بقرب الجبل والقوم معه عقيب انصرافهم من(1/141)
الصلاة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام راح إلى الموقف عقيب الصلاة والجبل يسمى جبل الرحمة والموقف الموقف الأعظم.
قال: " وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة " لقوله عليه الصلاة والسلام " عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن وادي محسر ".
قال: " وينبغي للامام أن يقف بعرفة على راحلته " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف على ناقته " وإن وقف على قدميه جاز " والأول أفضل لما بينا " وينبغي أن يقف مستقبل القبلة " لأن النبي عليه السلام وقف كذلك وقال النبي عليه السلام " خير المواقف ما استقبلت به القبلة " " ويدعو ويعلم الناس المناسك " لما روى أن النبي عليه السلام كان يدعو يوم عرفة مادا يديه كالمستطعم المسكين " ويدعو بما شاء " وإن ورد الآثار ببعض الدعوات وقد أوردنا تفصيلها في كتابنا المترجم بعدة الناسك في عدة من المناسك بتوفيق الله تعالى.
قال: " وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام " لأنه يدعو ويعلم فيعوا ويسمعوا وينبغي أن يقف وراء الإمام ليكون مستقبل القبلة وهذا بيان الأفضلية لأن عرفات كلها موقف على ما ذكرنا.
قال: " ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف بعرفة ويجتهد في الدعاء " أما الإغتسال فهو سنة وليس بواجب ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين وعند الإحرام وأما الاجتهاد فلأنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم " ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة " وقال مالك رحمه الله يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان ولنا ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة ولأن التلبية فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام.
قال: " وإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا المزدلفة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام دفع بعد غروب الشمس ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين وكان النبي عليه الصلاة والسلام يمشي على راحلته في الطريق على هيئته فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه لأنه لم يفض من عرفة والأفضل أن يقف في مقامه كي لا يكون آخذا في الأداء قبل وقتها " فلو مكث قليلا بعد غروب الشمس وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس به " لما روى أن عائشة رضي الله عنها بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت.(1/142)
قال: " وإذا أتى مزدلفة فالمستحب أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة يقال له قزح " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف عند هذا الجبل وكذا عمر رضي الله عنه ويتحرز في النزول عن الطريق كي لا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره ويستحب أن يقف وراء الإمام لما بينا في الوقوف بعرفة.
قال: " ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة " وقال زفر رحمه الله بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة ولنا رواية جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة علاما بخلاف العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته فأفرد بها لزيادة الإعلام.
" ولا يتطوع بينهما " لأنه يخل بالجمع. ولو تطوع أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة لوقوع الفصل وكان ينبغي أن يعيد الأذان كما في الجمع الأول بعرفة إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء " ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن المغرب مؤخرة عن وقتها بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على وقته.
قال: " ومن صلى المغرب في الطريق لم تجزه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر " وقال أبو يوسف رحمه الله يجزيه وقد أساء وعلى هذا الخلاف إذا صلى بعرفات لأبي يوسف رحمه الله أنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه ولهما ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأسامة رضي الله عنه في طريق المزدلفة " الصلاة أمامك " معناه وقت الصلاة وهذا إشارة إلى أن التأخير واجب وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فسقطت الإعادة.
قال: " وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس " لرواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها يومئذ بغلس ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز كتقديم العصر بعرفة " ثم وقف ووقف معه الناس ودعا " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في هذا الموضع يدعو حتى روى في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم ثم هذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى لو تركه بغير عذر يلزمه الدم وقال الشافعي رحمه الله إنه ركن لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا(1/143)
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وبمثله تثبت الركنية.
ولنا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قدم ضعفة أهله بالليل ولو كان ركنا لما فعل ذلك والمذكور فيما تلا الذكر وهو ليس بركن بالإجماع وإنما عرفنا الوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام " من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات فقد تم حجه " علق به تمام الحج وهذا يصلح أمارة للوجوب غير أنه إذا تركه بعذر بأن يكون به ضعف أو علة أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه لما روينا.
قال: " والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر " لما روينا من قبل قال: " فإذا طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه حتى يأتوا منى " قال العبد الضعيف عصمه الله تعالى هكذا وقع في نسخ المختصر وهذا غلط والصحيح أنه إذا أسفر أفاض الإمام والناس لأن النبي عليه الصلاة والسلام دفع قبل طلوع الشمس.
قال: " فيبتديء بجمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة وقال عليه الصلاة والسلام " عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضا " " ولو رمى بأكبر منه جاز " لحصول الرمي غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى به غيره " ولو رماها من فوق العقبة أجزأه " لأن ما حولها موضع النسك والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا " ويكبر مع كل حصاة " كذا روى ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم " ولو سبح مكان التكبير أجزأه " لحصول الذكر وهو من آداب الرمي " ولا يقف عندها " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقف عندها ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبحة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا كذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأن ما دون ذلك يكون طرحا " ولو طرحها طرحا أجزأه " لأنه رمى إلى قدميه إلا أنه مسيء لمخالفته السنة " ولو وضعها وضعا لم يجزه " لأنه ليس برمي " ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه " لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه " ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه " لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص " ولو رمى بسبع حصيات جملة فهذه واحدة " لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال " ويأخذ الحصى من أي موضع شاء إلا من عند الجمرة فإن ذلك يكره " لأن ما عندها من الحصى مردود هكذا جاء في الأثر فيتشاءم به ومع هذا لو فعل أجزأه لوجود فعل الرمي " ويجوز الرمي بكل ما كان من(1/144)
أجزاء الأرض عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأن المقصود فعل الرمي وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة لأنه يسمى نثرا لا رميا.
قال: " ثم يذبح إن أحب ثم يحلق أو يقصر " لما روى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال " إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق " ولأن الحلق من أسباب التحلل وكذا الذبح حتى يتحلل به المحصر فيقدم الرمي عليهما ثم الحلق من محظورات الإحرام فيقدم عليه الذبح وإنما علق الذبح بالمحبة لأن الدم الذي يأتي به المفرد تطوع والكلام في المفرد " والحلق أفضل " لقوله عليه الصلاة والسلام " رحم الله المحلقين " الحديث ظاهر بالترحم عليهم ولأن الحلق أكمل في قضاء التفث وهو المقصود وفي التقصير بعض التقصير فأشبه الاغتسال مع الوضوء ويكتفي في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام والتقصير أن يأخذ من رءوس شعره مقدار الأنملة " وقد حل له كل شيء إلا النساء " وقال مالك رحمه الله وإلا الطيب أيضا لأنه من دواعي الجماع ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " فيه حل له كل شيء إلا النساء " وهو مقدم على القياس " ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال " ثم الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه يتوقت بيوم النحر كالحلق فيكون بمنزلته في التحليل ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه كالحلق والرمي ليس بجناية في غير أوانه بخلاف الطواف لأن التحلل بالحلق السابق لا به.
قال: " ثم يأتي مكة من يومه ذلك أو من الغد أو من بعد الغد فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى " ووقته أيام النحر " لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فكان وقتهما واحدا " وأول وقته بعد طلوع الفجر من يوم النحر " لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة والطواف مرتب عليه وأفضل هذه الأيام أولها كما في التضحية وفي الحديث: " أفضلها أولها " " فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه وإن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى بعده " لأن السعي لم يشرع إلا مرة والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي " ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف " لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا لما بيناه.(1/145)
قال: " وقد حل له النساء " ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف إلا أنه أخر عمله في حق النساء.
قال: " وهذا الطواف هو المفروض في الحج " وهو ركن فيه إذ هو المأمور به في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ويسمى طواف الإفاضة وطواف يوم النحر ويكره تأخيره عن هذه الأيام لما بينا أنه موقت بها وإن أخره عنها لزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله وسنبينه في باب الجنايات إن شاء الله تعالى.
قال: " ثم يعود إلى منى فيقيم بها " لأن النبي عليه الصلاة والسلام رجع إليها كما روينا ولأنه بقي عليه الرمي وموضعه بمنى " فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عندها ثم يرمي التي تليها مثل ذلك ويقف عندها ثم يرمي جمرة العقبة كذلك ولا يقف عندها " هكذا روى جابر رضي الله عنه فيما نقل من نسك رسول الله عليه الصلاة والسلام مفسرا " ويقف عند الجمرتين في المقام الذي يقف فيه الناس ويحمد الله ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام ويدعو بحاجته ويرفع يديه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن " وذكر من حملتها عند الجمرتين والمراد رفع الأيدي بالدعاء وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه في هذه المواقف لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال " اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج " ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت ولهذا لا يقف بعد جمرة العقبة في يوم النحر أيضا.
قال: " وإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس كذلك وإن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر وإن أراد أن يقيم رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد زوال الشمس " لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] " والأفضل أن يقيم " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صبر حتى رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع فإذا طلع الفجر لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي وفيه خلاف الشافعي رحمه الله " وإن قدم الرمي في هذا اليوم " يعني اليوم الرابع " قبل الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وهذا استحسان وقالا لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام وإنما التفاوت في(1/146)
رخصة النفر فإذا لم يترخص التحق بها ومذهبه مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى بخلاف اليوم الأول والثاني حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد الزوال في المشهور من الرواية لأنه لا يجوز تركه فيهما فبقي على الأصل المروي " فأما يوم النحر فأول وقت الرمي فيه من وقت طلوع الفجر " وقال الشافعي أوله بعد نصف الليل لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص للرماء أن يرموا ليلا.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين " ويروى " حتى تطلع الشمس " فيثبت أصل الوقت بالأول والأفضلية بالثاني وتأويل ما روى الليلة الثانية والثالثة ولأن ليلة النحر وقت الوقوف والرمي يترتب عليه فيكون وقته بعده ضرورة ثم عند أبي حنيفة يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام " إن أول نسكنا في هذا اليوم الرمي " جعل اليوم وقتا له وذهابه بغروب الشمس وعن أبي يوسف أنه يمتد إلى وقت الزوال والحجة عليه ما روينا " وإن أخر إلى الليل رماه ولا شيء عليه " لحديث الدعاء " وإن أخر إلى الغد رماه " لأنه وقت جنس الرمي " وعليه دم " عند أبي حنيفة رحمه الله لتأخيره عن وقته كما هو مذهبه.
قال: " فإن رماها راكبا أجزأه " لحصول فعل الرمي " وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا وإلا فيرميه راكبا " لأن الأول بعده وقوف ودعاء على ما ذكرنا فيرميه ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف رحمه الله " ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي " لأن النبي عليه الصلاة والسلام بات بها وعمر رضي الله عنه كان يؤدب على ترك المقام بها " ولو بات في غيرها متعمدا لا يلزمه شيء عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه فلم يكن من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر.
قال: " ويكره أن يقدم الرجل ثقله إلى مكة ويقيم حتى يرمي " لما روى أن عمر رضي الله عنه كان يمنع منه ويؤدب عليه ولأنه يوجب شغل قلبه " وإذا نفر إلى مكة نزل بالمحصب " وهو الأبطح وهو اسم موضع قد نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نزوله قصدا هو الأصح حتى يكون النزول به سنة على ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه " إنا نازلون غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم " يشير إلى عهدهم على هجران بني هاشم فعرفنا أنه نزل به إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به فصار سنة كالرمل في الطواف.(1/147)
قال: " ثم دخل مكة وطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها وهذا طواف الصدر " ويسمى طواف الوداع وطواف آخر عهده بالبيت لأنه يودع البيت ويصدر به " وهو واجب عندنا " خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام " من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف " ورخص للنساء الحيض تركه " إلا على أهل مكة " لأنهم لا يصدرون ولا يودعون ولا رمل فيه لما بينا أنه شرع مرة واحدة ويصلي ركعتي الطواف بعده لما قدمنا " ثم يأتي زمزم ويشرب من مائها " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى دلوا بنفسه فشرب منه ثم أفرغ باقي الدلو في البئر " ويستحب أن يأتي الباب ويقبل العتبة ثم ياتي الملتزم " وهو ما بين الحجر إلى الباب " فيضع صدره ووجهه عليه ويتشبث بالأستار ساعة ثم يعود إلى أهله " هكذا روى أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل بالملتزم ذلك قالوا وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد فهذا بيان تمام الحج.(1/148)
فصل
" وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها " على ما بينا " سقط عنه طواف القدوم " لأنه شرع في ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال فلا يكون الإتيان به على غير ذلك الوجه سنة " ولا شيء عليه بتركه " لأنه سنة وبترك السنة لا يجب الجابر " ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يومها إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج " فأول وقت الوقوف بعد الزوال عندنا لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعد الزوال وهذا بيان أول الوقت وقال عليه الصلاة والسلام " من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج " وهذا بيان آخر الوقت ومالك رحمه الله إن كان يقول إن أول وقته بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس فهو محجوج عليه بما روينا " ثم إذا وقف بعد الزوال وأفاض من ساعته أجزأه " عندنا لأنه عليه الصلاة والسلام ذكره بكلمة أو فإنه قال " الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه " وهي كلمة التخيير وقال مالك رحمه الله لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل ولكن الحجة عليه ما رويناه " ومن اجتاز بعرفات نائما أو مغمى عليه أو لا يعلم أنها عرفات جاز عن الوقوف " لأن ما هو الركن قد وجب وهو الوقوف ولا يمتنع ذلك بالإغماء والنوم كركن الصوم بخلاف الصلاة لأنها لا تبقى مع الإغماء والجهل يخل بالنية وهي ليست بشرط لكل ركن " ومن أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا(1/148)
" لا يجوز، ولو أمر إنسانا بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه أو نام فأحرم المأمور عنه صح " بالإجماع حتى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحج جاز لهما أنه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به وهذا لأنه لم يصرح بالإذن والدلالة تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثير من الفقهاء فكيف يعرفه العوام بخلاف ما إذا أمر غيره بذلك صريحا وله أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه والإحرام هو المقصود بهذا السفر فكان الإذن به ثابتا دلالة والعلم ثابت نظرا إلى الدليل والحكم يدار عليه.
قال: " والمرأة في جميع ذلك كالرجل " لأنها مخاطبة كالرجل " غير أنها لا تكشف رأسها " لأنه عورة " وتكشف وجهها " لقوله عليه الصلاة والسلام " إحرام المرأة في وجهها " " ولو سدلت شيئا على وجهها وجافته عنه جاز " هكذا روى عن عائشة رضي الله عنها ولأنه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " ولا ترفع صوتها بالتلبية " لما فيه من الفتنة " ولا ترمل ولا تسعى بين الميلين " لأنه مخل بستر العورة " ولا تحلق ولكن تقصر " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير ولأن حلق الشعر في حقها مثله كحلق اللحية في حق الرجل وتلبس من المخيط ما بدا لها لأن في لبس غير المخيط كشف العورة قالوا ولا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال إلا أن تجد الموضع خاليا.
قال: " ومن قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد أو شيئا من الأشياء وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من قلد بدنة فقد أحرم " ولأن سوق الهدى في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام.
وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجرة " فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما " لما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أفتل قلائد هدى رسول الله عليه الصلاة والسلام فبعث بها وأقام في أهله حلالا " فإن توجه بعد ذلك لم يصر محرما حتى يلحقها " لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدى يسوقه لم يوجد منه إلا مجرد النية وبمجرد النية لا يصير محرما " فإذا أدركها وساقها أو أدركها فقد اقترنت نيته بعمل هو من خصائص الإحرام فيصير محرما " كما لو ساقها في الابتداء.(1/149)
قال: " إلا في بدنة المتعة فإنه محرم حين توجه " معناه إذا نوى الإحرام وهذا استحسان وجه القياس فيه ماذكرنا ووجه الاستحسان أن هذا الهدى مشروع على الابتداء نسكا من مناسك الحج وضعا لأنه مختص بمكة ويجب شكرا للجمع بين أداء النسكين وغيره قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة فلهذا اكتفى فيه بالتوجه وفي غيره توقف على حقيقة الفعل " فإن جلل بدنة أو اشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما " لأن التجليل لدفع الحر والبرد والذباب فلم يكن من خصائص الحج والإشعار مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يكون من النسك في شيء وعندهما إن كان حسنا فقد يفعل للمعالجة بخلاف التقليد لأنه يختص بالهدى وتقليد الشاة غير معتاد وليس بسنة أيضا.
قال: " والبدن من الإبل والبقر " وقال الشافعي رحمه الله من الإبل خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الجمعة فالمتعجل منهم كالمهدي بدنة والذين يليه كالمهدي بقرة فصل بينهما.
ولنا أن البدنة تنبئ عن البدانة وهي الضخامة وقد اشتركا في هذا المعنى ولهذا يجزئ كل واحد منهما عن سبعة والصحيح من الرواية في الحديث كالمهدي جزورا والله تعالى أعلم بالصواب.(1/150)
باب القران
" القران أفضل من التمتع والإفراد " وقال الشافعي رحمه الله الإفراد أفضل وقال مالك رحمه الله التمتع أفضل من القران لأن له ذكرا في القرآن ولا ذكر للقران فيه وللشافعي رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " القران رخصة " ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا " ولأن فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا يترجح بما ذكر والمقصود بما روي نفي قول أهل الجاهلية إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وللقران ذكر في القرآن لأن المراد من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل ثم فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من الميقات إلى إن يفرغ منهما ولا كذلك التمتع فكان القران أولى منه وقيل الاختلاف بيننا(1/150)
وبين الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنده طوافا واحدا وسعيا واحدا.
قال: " وصفة القران أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول عقيب الصلاة اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني " لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم العمرة على الحج فيه ولذلك يقول لبيك بعمرة وحجة معا لأنه يبدأ بأفعال العمرة فكذلك يبدأ بذكرها وإن أخر ذلك في الدعاء والتلبية لا بأس به لأن الواو للجمع ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة " فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا والمروة وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد ويقدم أفعال العمرة " لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 96] والقران في معنى المتعة ولا يحلق بين العمرة والحج لأن ذلك جناية على إحرام الحج وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد ثم هذا مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا لقوله عليه الصلاة والسلام " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفي فيه بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك في الأركان.
ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة والسفر للتوسل والتلبية للتحريم والحلق للتحلل فليست هذه الأشياء بمقاصد بخلاف الأركان ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان وبتحريمة واحدة يؤديان ومعنى ما رواه " دخل وقت العمرة في وقت الحج ".
قال: " فإن طاف طوافين لعمرته وحجته وسعى سعيين يجزيه " لأنه أتى بما هو المستحق عليه وقد أساء بتأخير سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه شيء أما عندهما فظاهر لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده طواف التحية سنة وتركه لا يوجب الدم فتقديمه أولى والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف " وإذا رمى الجمرة يوم النحر ذبح شاة أو بقرة أو بدنة(1/151)
أو سبع بدنة فهذا دم القران " لأنه في معنى المتعة والهدي منصوص عليه فيهما والهدي من الإبل والبقر والغنم على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى وأراد بالبدنة ههنا البعير وإن كان اسم البدنة يقع عليه وعلى البقرة على ما ذكرنا وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة " فإذا لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله " لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه مرتفق بأداء التسكين والمراد بالحج والله أعلم وقته لأن نفسه لا يصلح ظرفا إلا أن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لأن الصوم يدل على الهدي فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل " وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج جاز " ومعناه بعد مضي أيام التشريق لأن الصوم فيها منهي عنه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنه معلق بالرجوع إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجزيه لتعذر الرجوع.
ولنا أن معناه رجعتم عن الحج أي فرغتم إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله فكان الأداء بعد السبب فيجوز " فإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم " وقال الشافعي رحمه الله يصوم بعد هذه الأيام لأنه صوم موقت فيقضي كصوم رمضان وقال مالك رحمه الله يصوم فيها لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وهذا وقته.
ولنا: النهي المشهور عن الصوم في هذه الأيام فيتقيد به النص أو يدخله النقص فلا يتأدى به ما وجب كاملا " ولا يؤدى بعدها " لأن الصوم بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي " فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف " لأنه تعذر عليه أداؤها لأنه يصير باتيا أفعال العمرة على أفعال الحج وذلك خلاف المشروع ولا يصير رافضا بمجرد التوجه هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أيضا والفرق
له بينه وبين مصلى الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا.
قال: " وسقط عنه دم القران " لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق بأداء التسكين " وعليه دم لرفض عمرته " بعد الشروع فيها " وعليه قضاؤها " لصحة الشروع فيها فأشبه المحصر والله أعلم.(1/152)
باب التمتع
" التمتع أفضل من الإفراد عندنا " وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الإفراد أفضل لأن المتمتع سفره واقع لعمرته والمفرد سفره واقع لحجته وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه القران ثم فيه زيادة نسك وهي إراقة الدم وسفره واقع لحجته وإن تخللت العمرة لأنها تبع للحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي إليها " والمتمتع على وجهين متمتع يسوق الهدي ومتمتع لا يسوق الهدي " ومعنى التمتع الترفق بأداء التسكين في سفر واحد من غير أن يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا ويدخله اختلافات نبينها إن شاء الله تعالى " وصفته أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل من عمرته " وهذا هو تفسير العمرة وكذلك إذا اراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا هكذا فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء وقال مالك رحمه الله لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي وحجتنا عليه ما روينا وقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} [الفتح: 27] الآية نزلت في عمرة القضاء ولأنها لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل بالحلق كالحج " ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف " وقال مالك رحمه الله كما وقع بصره على البيت لأن العمرة زيارة البيت وتتم به.
ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر ولأن المقصود هو الطواف فيقطعها عند افتتاحه ولهذا يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي قال: " ويقيم بمكة حلالا " لأنه حل من العمرة.
قال: " فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد " والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس بلازم وهذا لأنه في معنى المكي وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا " وفعل ما يفعله الحاج المفرد " لأنه مؤد للحج إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده لأن هذا أول طواف له في الحج بخلاف المفرد لأنه قد سعى مرة ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده لأنه قد أتى بذلك مرة " وعليه دم التمتع " للنص الذي تلوناه " فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " على الوجه الذي بيناه في القران " فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن الثلاثة " لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع لأنه بدل عن الهدي وهو في هذه الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه " وإن صامها " بمكة " بعد ما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله له قوله تعالى:(1/153)
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ولنا أنه أداء بعد انعقاد سببه والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا " والأفضل تأخيرها إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة " لما بينا في القران " وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه " وهذا أفضل لأن النبي عليه الصلاة والسلام ساق الهدايا مع نفسه ولأن فيه استعدادا ومسارعة " فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل " لحديث عائشة رضي الله عنها على ما رويناه والتقليد أولى من التجليل لن له ذكرا في الكتاب ولأنه للإعلام والتجليل للزينة ويلبي ثم يقلد لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ويسوق الهدي وهو أفضل من أن يقودها لأنه عليه الصلاة والسلام أحرم بذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه ولأنه أبلغ في التشهير إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها.
قال: " وأشعر البدنة عند أبي يوسف ومحمد " رحمهما الله " ولا يشعر عند أبي حنيفة " رحمه الله " ويكره " والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة " وصفته أن يشق سنامها " بأن يطعن في أسفل السنام " من الجانب الأيمن أو الأيسر " قالوا: والأشبه هو الأيسر لأن النبي عليه الصلاة والسلام طعن في جانب اليسار مقصودا وفي جانب الأيمن اتفاقا ويلطخ سنامها بالدم إعلاما وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حسن وعند الشافعي رحمه الله سنة لأنه مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء أو كلأ أو يرد إذا ضل وأنه في الإشعار أتم لأنه ألزم فمن هذا الوجه يكون سنة إلا أنه عارضته جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مثلة وأنه منهي عنه ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم وإشعار النبي عليه الصلاة والسلام كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به وقيل إن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية وقيل إنما كره إيثاره على التقليد.
قال: " فإذا دخل مكة طاف وسعى " وهذا للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي " إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التروية " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها " وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي " ويحرم بالحج يوم التروية " كما يحرم أهل مكة على ما بينا " وإن قدم الإحرام قبله جاز وما عجل المتمتع من الإحرام بالحج فهو أفضل " لما فيه من المسارعة وزيادة المشقة وهذه الأفضلية في حق من ساق الهدي وفي حق من لم يسق " وعليه دم " وهو دم(1/154)
التمتع على ما بينا " وإذا حلق يوم النحر فقد حل من الإحرامين " لأن الحلق محلل في الحج كالسلام في الصلاة فيتحلل به عنهما.
قال: " وليس لأهل مكة تمتع ولا قران وإنما لهم الإفراد خاصة " خلافا للشافعي رحمه الله والحجة عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ولأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين وهذا في حق الأفاقي " ومن كان داخل المواقيت فهو بمنزلة المكي حتى لا يكون له متعة ولا قران " بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الأفاقي " وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه " لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا وبذلك يبطل التمتع كذا روي عن عدة من التابعين " وإذا ساق الهدي فإلمامه لا يكون صحيحا ولا يبطل تمتعه " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يبطل لأنه أداهما بسفرتين ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية التمتع لأن السوق يمنعه من التحلل فلم يصح إلمامه بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وأحرم بعمرة وساق الهدي حيث لم يكن متمتعا لأن العود هناك غير مستحق عليه فصح إلمامه بأهله " ومن أحرم بعمرة قبل أشهر الحج فطاف لها أقل من أربعة أشواط ثم دخلت أشهر الحج فتممها وأحرم بالحج كان متمتعا " لأن الإحرام عندنا شرط فيصح تقديمه على أشهر الحج وإنما يعتبر أداء الأفعال فيها وقد وجد الأكثر وللأكثر حكم الكل " وإن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعدا ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا " لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج وهذا لأنه صار بحال لا يفسد نسكه بالجماع فصار كما إذا تحلل منها قبل اشهر الحج ومالك رحمه الله يعتبر الإتمام في أشهر الحج والحجة عليه ما ذكرنا ولأن الترفق بأداء الأفعال والمتمتع المترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج.
قال: " واشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " كذا روي عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] شهران وبعض الثالث لا كله " فإن قدم الإحرام بالحج عليها جاز إحرامه وانعقد حجا " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده يصير محرما بالعمرة لأنه ركن عنده وهو شرط عندنا فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء وذلك يصح في كل زمان فصار كالتقديم على المكان.(1/155)
قال: " وإذا قدم الكوفي بعمرة في اشهر الحج وفرغ منها وحلق أو قصر ثم اتخذ مكة أو البصرة دارا وحج من عامه ذلك فهو متمتع " أما الأول فلأنه ترفق بنسكين في سفر واحد في أشهر الحج وأما الثاني فقيل هو بالاتفاق وقيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يكون متمتعا لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ونسكاه هذان ميقاتيان وله أن السفرة الأولى قائمة مالم يعد إلى وطنه وقد اجتمع له نسكان فيها فوجب دم التمتع " فإن قدم بعمرة فأفسدها وفرغ منها وقصر ثم اتخذ البصرة دارا ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا هو متمتع " لأنه إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين وله أنه باق على سفره مالم يرجع إلى وطنه " فإن كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا " لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول وقد اجتمع له نسكان صحيحان فيه " ولو بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة حتى اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لا يكون متمتعا بالاتفاق " لأن عمرته مكية والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة ولا تمتع لأهل مكة " ومن اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فأيهما أفسد مضى فيه " لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال " وسقط دم المتعة " لأنه لم يترفق بأداء نسكين صحيحين في سفرة واحدة " وإذا تمتعت المرأة فضحت بشاة لم يجزها عن دم المتعة " لأنها أتت بغير الواجب وكذا الجواب في الرجل " وإذا حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر " لحديث عائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف ولأن الطواف في المسجد والوقوف في المفازة وهذا الاغتسال للإحرام لا للصلاة فيكون مفيدا " فإن حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة انصرفت من مكة ولا شيء عليها لطواف الصدر لأنه عليه الصلاة والسلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر " ومن اتخذ مكة دارا فليس عليه طواف الصدر " لأنه على من يصدر إلا إذا اتخذها دارا بعد ما حل النفر الأول فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله ويرويه البعض عن محمد رحمه الله لأنه وجب عليه بدخول وقته فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك والله أعلم بالصواب.(1/156)
باب الجنايات
مدخل
...
باب الجنايات
" وإذا تطيب المحرم فعليه الكفارة فإن طيب عضوا كاملا فما زاد فعليه دم " وذلك مثل الرأس والساق والفخذ وما اشبه ذلك لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق وذلك في العضو الكامل فيترتب عليه كمال الموجب " وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة " لقصور(1/156)
الجناية. وقال محمد رحمه الله يجب بقدره من الدم اعتبارا للجزء بالكل وفي المنتقى أنه إذا طيب ربع العضو فعليه دم اعتبارا بالحلق ونحن نذكر الفرق بينهما من بعد إن شاء الله تعالى ثم واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين نذكرهما في باب الهدي إن شاء الله تعالى " وكل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة " هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: " فإن خضب رأسه بحناء فعليه دم " لأنه طيب قال عليه الصلاة والسلام " الحناء طيب " وإن صار ملبدا فعليه دمان دم للتطيب ودم للتغطية " ولو خضب رأسه بالوسمة لا شيء عليه " لأنها ليست بطيب وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه وهذا هو الصحيح ثم ذكر محمد في الأصل رأسه ولحيته واقصتر على ذكر الرأس في الجامع الصغير دل أن كل واحد منهما مضمون " فإن ادهن بزيت فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه الصدقة " وقال الشافعي رحمه الله إذا استعمله في الشعر فعليه دم لإزالة الشعث وإن استعمله في غيره فلا شيء عليه لانعدامه ولهما أنه من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا بمعنى قتل الهوام وإزالة الشعث فكانت جناية قاصرة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أصل الطيب ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث فتتكامل الجناية بهذه الجملة فتوجب الدم وكونه مطعوما لا ينافيه كالزعفران وما أشبههما يجب باستعماله الدم بالاتفاق لأنه طيب وهذا إذا استعمله على وجه التطيب " ولو داوى به جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه " لأنه ليس بطيب في نفسه إنما هو أصل الطيب أو هو طيب من وجه فيشترط استعماله على وجه التطيب بخلاف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه " وإن لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه دم وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة " وعن أبي يوسف رحمه الله انه إذا لبس أكثر من نصف يوم فعليه دم وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولا وقال الشافعي رحمه الله يجب الدم بنفس اللبس لأن الارتفاق يتكامل بالاشتمال على بدنه ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس فلا بد من اعتبار المدة ليحصل على الكمال ويجب الدم فقدر باليوم لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة وتتقاصر فيما دونه الجناية فتجب الصدقة غير أن أبا يوسف رحمه الله أقام الأكثر مقام الكل " ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به " لأنه لم يلبسه لبس المخيط " وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في الكمين " خلافا لزفر رحمه الله لأنه ما لبسه لبس القباء ولهذا يتكلف في حفظه والتقدير في تعطية الرأس من حيث(1/157)
الوقت ما بيناه ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما كاملا يجب عليه الدم لأنه ممنوع عنه ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر الربع اعتبارا بالحلق والعورة وهذا لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة " وإذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة " وقال مالك رحمه الله لا يجب إلا بحلق الكل وقال الشافعي رحمه الله يجب بحلق القليل اعتبارا بنبات الحرم.
ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد فتتكامل به الجناية وتتقاصر فيما دونه بخلاف تطيب ربع العضو لأنه غير مقصود وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب " وإن حلق الرقبة كلها فعليه دم " لأنه عضو مقصود بالحلق " وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم " لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لدفع الأذى ونيل الراحة فأشبه العانة ذكر في الإبطين الحلق ههنا وفي الأصل النتف وهو السنة " وقال أبو يوسف ومحمد " رحمهما الله " إذا حلق عضوا فعليه دم وإن كان أقل فطعام " أراد به الصدر والساق وما أشبه ذلك لأنه مقصود بطريق التنور فتتكامل بحلق كله وتتقاصر عند حلق بعضه " وإن أخذ من شاربه فعليه طعام حكومة عدل " ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية فيجب عليه الطعام بحسب ذلك حتى لو كان مثلا مثل ربع الربع تلزمه قيمة ربع الشاة ولفظة الأخذ من الشارب تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق والسنة أن يقص حتى يوازي الإطار.
قال: " وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا عليه صدقة " لأنه إنما يحلق لأجل الحجامة وهي ليست من المحظورات فكذا ما يكون وسيلة إليها إلا أن فيه إزالة شيء من التفث فتجب الصدقة ولأبي حنيفة رحمه الله أن حلقه مقصود لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به وقد وجد إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم " وإن حلق رأس محرم بأمره أو بغير أمره فعلى الحالق الصدقة وعلى المحلوق دم " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب إن كان بغير أمره بأن كان نائما لأن من أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ منه وعندنا بسبب النوم والإكراه ينتفي المأثم دون الحكم وقد تقرر سببه وهو ما نال من الراحة والزينة فيلزمه الدم حتما بخلاف المضطر حيث يتخير لأن الآفة هناك سماوية وههنا من العباد ثم لا يرجع المحلوق رأسه على الحالق لأن الدم إنما لزمه بما نال من الراحة فصار كالمغرور في حق العقر وكذا إذا كان الحالق حلالا لا يختلف الجواب في حق المحلوق رأسه وأما الحالق تلزمه الصدقة(1/158)
في مسئلتنا في الوجهين وقال الشافعي رحمه الله لا شيء عليه وعلى هذا الخلاف إذا حلق المحرم رأس حلال له أن معنى الارتفاق لا يتحقق بحلق شعر غيره وهو الموجب.
ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام لاستحقاقه الأمان بمنزلة نبات الحرم فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره إلا أن كمال الجناية في شعره " فإن أخذ من شارب حلال أو قلم أظافيره أطعم ما شاء " والوجه فيه ما بينا ولا يعرى عن نوع ارتفاق لأنه يتأذى بتفث غيره وإن كان أقل من التأذي بتفث نفسه فيلزمه الطعام " وإن قص أظافير يديه ورجليه فعليه دم " لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث وإزالة ما ينمو من البدن فإذا قلمها كلها فهو ارتفاق كامل فيلزمه الدم " ولا يزاد على دم إن حصل في مجلس واحد " لأن الجناية من نوع واحد فإن كان في مجالس فكذلك عند محمد رحمه الله لأن مبناها على التداخل فأشبه كفارة الفطر إلا إذا تخللت الكفارة لارتفاع الأولى بالتكفير وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تجب أربعة دماء إن قلم في كل مجلس يدا أو رجلا لأن الغالب فيه معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس كما في آي السجدة " وإن قص يدا أو رجلا فعليه دم " إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق " وإن قص أقل من خمسة أظافير فعليه صدقة " معناه تجب بكل ظفر صدقة وقال زفر رحمه الله يجب الدم بقص ثلاثة منها وهو قول أبي حنيفة الأول لأن في أظافير اليد الواحدة دما والثلاث أكثرها وجه المذكور في الكتاب أن أظافير كف واحد أقل ما يجب الدم بقلمه وقد أقمناها مقام الكل فلا يقام أكثرها مقام كلها لأنه يؤدي إلى مالا يتناهي " وإن قص خمسة أظافير متفرقة من يديه ورجليه فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف " رحمهما الله " وقال محمد " رحمه الله " عليه دم " اعتبارا بما لو قصها من كف واحد وبما إذا حلق ربع الرأس من مواضع متفرقة ولهما أن كمال الجناية بنيل الراحة والزينة وبالقلم على هذا الوجه يتأذى ويشينه ذلك بخلاف الحلق لأنه معتاد على ما مر وإذا تقاصرت الجناية تجب فيها الصدقة فيجب بقلم كل ظفر طعام مسكين وكذلك لو قلم أكثر من خمسة متفرقا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص عنه ما شاء.
قال: " وإن انكسر ظفر المحرم وتعلق فأخذه فلا شيء عليه " لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من شجر الحرم " وإن تطيب أو لبس مخيطا أو حلق من عذر فهو مخير إن شاء ذبح شاة وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع من الطعام وإن شاء صام ثلاثة أيام " لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكلمة أو للتخيير وقد فسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام بما ذكرنا والآية نزلت في المعذور،(1/159)
ثم الصوم يجزئه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل مكان وكذلك الصدقة عندنا لما بينا.
وأما النسك فيختص بالحرم بالاتفاق لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان " ولو اختار الطعام أجزأه فيه التعذية والتعشية عند أبي يوسف " رحمه الله اعتبارا بكفارة اليمين وعند محمد رحمه الله لا يجزئه لأن الصدقة تنبئ عن التمليك وهو المذكور.(1/160)
فصل فإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة إلخ
...
فصل
" فإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة فأمنى لا شيء عليه " لأن المحرم هو الجماع ولم يوجد فصار كما لو تفكر فأمنى " وإن قبل أو لمس بشهوة فعليه دم " وفي الجامع الصغير يقول إذا مس بشهوة فأمى ولا فرق بين ما إذا أنزل أو لم ينزل ذكره في الأصل وكذا الجواب في الجماع فيما دون الفرج وعن الشافعي رحمه الله أنه إنما يفسد إحرامه في جميع ذلك إذا أنزل واعتبره بالصوم.
ولنا أن فساد الحج يتعلق بالجماع ولهذا لا يفسد بسائر المحظورات وهذا ليس بجماع مقصود فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع إلا أن فيه معنى الاستمتاع والارتفاق بالمرأة وذلك محظور الإحرام فيلزمه الدم بخلاف الصوم لأن المحرم فيه قضاء الشهوة ولا يحصل بدون الإنزال فيما دون الفرج " وإن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة ويمضي في الحج كما يمضي من لم يفسده وعليه القضاء " والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال " يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل " وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الشافعي رحمه الله تجب بدنة اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف والحجة عليه إطلاق ما روينا ولأن القضاء لما وجب ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة خف معنى الجناية فيكتفي بالشاة بخلاف ما بعد الوقوف لأنه لا قضاء ثم سوى بين السبيلين وعن أبي حنيفة رحمه الله أن في غير القبل منهما لا يفسد لتقاصر معنى الوطء فكان عنه روايتان " وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه عندنا " خلافا لمالك رحمه الله إذا خرجا من بيتهما ولزفر رحمه الله إذا أحرما وللشافعي إذا انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه لهم أنهم يتذاكران ذلك فيقعان في المواقعة فيفترقان.
ولنا أن الجامع بينهما وهو النكاح قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقاع ولا بعده لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة يسيرة فيزدادان ندما(1/160)
وتحرزا فلا معنى للافتراق " ومن جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه وعليه بدنة " خلافا للشافعي فيما إذا جامع قبل الرمي لقوله عليه الصلاة والسلام " من وقف بعرفة فقد تم حجه " وإنما تجب البدنة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أو لأنه على أنواع الارتفاق فيتغلظ موجبه " وإن جامع بعد الحلق فعليه شاة " لبقاء إحرامه في حق النساء دون لبس المخيط وما أشبه فخفت الجناية فاكتفى بالشاة.
"ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط فسدت عمرته فيمضي فيها ويقضيها وعليه شاة وإذا جامع بعد ما طاف أربعة أشواط أو أكثر فعليه شاة ولا تفسد عمرته " وقال الشافعي تفسد في الوجهين وعليه بدنة اعتبارا بالحج إذ هي فرض عنده كالحج ولنا أنها سنة فكانت أحط رتبة منه فتجب الشاة ف فيها والبدنة في الحج إظهارا للتفاوت.
" ومن جامع ناسيا كان كمن جامع متعمدا " وقال الشافعي رحمه الله جماع الناسي غير مفسد للحج وكذا الخلاف في جماع النائمة والمكرهة هو يقول الحظر ينعدم بهذه العوارض فلم يقع الفعل جناية ولنا أن الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقا مخصوصا وهذا لا ينعدم بهذه العوارض والحج ليس في معنى الصوم لأن حالات الإحرام مذكرة بمنزلة حالات الصلاة بخلاف الصوم والله أعلم.(1/161)
فصل " ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة " وقال الشافعي رحمه الله لا يعتد به لقوله عليه الصلاة والسلام " الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق " فتكون الطهارة من شرطه ولنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا ثم قيل هي سنة والأصح أنها واجبة لأنه يجب بتركها الجابر ولأن الخبر يوجب العمل فيثبت به الوجوب فإذا شرع في هذا الطواف وهو سنة يصير واجبا بالشروع ويدخله نقص بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله وهو طواف الزيارة وكذا الحكم في كل طواف هو تطوع " ولو طاف طواف الزيارة محدثا فعليه شاة " لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول فيجبر بالدم " وإن كان جنبا فعليه بدنة " كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ولأن الجنابة أغلظ من الحدث فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت وكذا إذا طاف أكثره جنبا أو محدثا لأن أكثر الشيء له حكم كله " والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه " وفي بعض النسخ: وعليه أن يعيد. والأصح أنه يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا، وفي الجنابة إيجابا لفحش(1/161)
النقصان بسبب الجنابة وقصوره بسبب الحدث ثم إذا أعاده وقد طافه محدثا لا ذبح عليه وإن أعاده بعد أيام النحر لأن بعد الإعادة لا يبقى إلا شبهة النقصان وإن أعاده وقد طافه جنبا في أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أعاده في وقته وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله بالتأخير على ما عرف من مذهبه ولو رجع إلى أهله وقد طافه جنبا عليه أن يعود لأن النقص كثير فيؤمر بالعود استدراكا له ويعود بإحرام جديد وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه لما بينا أنه جابر له إلا أن الأفضل هو العود ولو رجع إلى أهله وقد طافه محدثا إن عاد وطاف جاز وإن بعث بالشاة فهو أفضل لأنه خف معنى النقصان وفيه نفع للفقراء ولو لم يطف طواف الزيارة أصلا حتى رجع إلى أهله فعليه أن يعود بذلك الإحرام لانعدام التحلل منه وهو محرم عن النساء أبدا حتى يطوف " ومن طاف طواف الصدر محدثا فعليه صدقة " لأنه دون طواف الزيارة وإن كان واجبا فلا بد من إظهار التفاوت وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب شاة إلا أن الأول أصح " ولو طاف جنبا فعليه شاة " لأنه نقص كثير ثم هو دون طواف الزيارة فيكتفى بالشاة.
" ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها فعليه شاة " لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فتلزمه شاة فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود ويبعث بشاة لما بينا.
" ومن ترك أربعة أشواط بقي محرما أبدا حتى يطوفها " لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا.
" ومن ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط منه فعليه شاة " لأنه ترك لواجب الأكثر منه وما دام بمكة يؤمر بالإعادة إقامة للواجب في وقته.
" ومن ترك ثلاثة أشواط من طواف الصدر فعليه الصدقة ومن طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان بمكة أعاده " لأن الطواف وراء الحطيم واجب على ما قدمناه والطواف في جوف الحجر أن يدور حول الكعبة ويدخل الفرجتين اللتين بينها وبين الحطيم فإذا فعل ذلك فقد أدخل نقصا في طوافه فما دام بمكة أعاده كله ليكون مؤديا للطواف على الوجه المشروع " وإن أعاد على الحجر " خاصة " أجزأه " لأنه تلافي ما هو المتروك وهو أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر هكذا يفعله سبع مرات " فإن رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم " لأنه تمكن نقصان في طوافه بترك ما هو قريب من الربع ولا تجزيه الصدقة " ومن طاف طواف الزيارة(1/162)
على غير وضوء وطواف الصدر في آخر أيام التشريق طاهرا فعليه دم فإن كان طاف طواف الزيارة جنبا فعليه دمان عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا: عليه دم واحد " لأن في الوجه الأول لم ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه واجب وإعادة طواف الزيارة بسبب الحدث غير واجب وإنما هو مستحب فلا ينقل إليه وفي الوجه الثاني ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه مستحق الإعادة فيصير تاركا لطواف الصدر مؤخرا لطواف الزيارة عن أيام النحر فيجب الدم بترك الصدر بالاتفاق وبتأخير الآخر على الخلاف إلا أنه يؤمر بإعادة طواف الصدر ما دام بمكة ولا يؤمر بعد الرجوع على ما بينا.
" ومن طاف لعمرته وسعى على غير وضوء وحل فما دام بمكة يعيدهما ولا شيء عليه " أما إعادة الطواف فلتمكن النقص فيه بسبب الحدث وأما السعي فلأنه تبع للطواف وإذا أعادهما لا شيء عليه لارتفاع النقصان " وإن رجع إلى أهله قبل أن يعيد فعليه دم " لترك الطهارة فيه ولا يؤمر بالعود لوقوع التحلل بأداء الركن إذ النقصان يسير وليس عليه في السعي شيء لأنه أتى به على أثر طواف معتد به وكذا إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي في الصحيح.
" ومن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه تام " لأن السعي من الواجبات عندنا فيلزم بتركه الدم دون الفساد.
" ومن أفاض قبل الإمام من عرفات فعليه دم " وقال الشافعي رحمه الله: لا شيء عليه لأن الركن أصل الوقوف فلا يلزمه بترك الإطالة شيء ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام " فادفعوا بعد غروب الشمس " فيجب بتركه الدم بخلاف ما إذا وقف ليلا لأن استدامة الوقوف على من وقف نهارا لا ليلا فإن عاد إلى عرفة بعد غروب الشمس لا يسقط عنه الدم في ظاهر الرواية لأن المتروك لا يصير مستدركا واختلفوا فيما إذا عاد قبل الغروب.
" ومن ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم " لأنه من الواجبات " ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها فعليه دم " لتحقق ترك الواجب " ويكفيه دم واحد " لأن الجنس متحد كما في الحلق والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي لأنه لم يعرف قربة إلا فيها وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف ثم بتأخيرها يجب الدم عند أبي حنيفة خلافا لهما " وإن ترك رمي يوم واحد فعليه دم " لأنه نسك تام.
" ومن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث فعليه الصدقة " لأن الكل في هذا اليوم نسك(1/163)
واحد، فكان المتروك أقل إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر " وإن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم " لأنه كل وظيفة هذا اليوم رميا وكذا إذا ترك الأكثر منها " وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا تصدق لكل حصاة نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص ما شاء " لأن المتروك هو الأقل فتكفيه الصدقة.
" ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند أبي حنيفة وكذا إذا أخر طواف الزيارة " حتى مضت أيام التشريق " فعليه دم عنده وقالا لا شيء عليه في الوجهين " وكذا الخلاف في تأخير الرمي وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي ونحر القارن قبل الرمي والحلق قبل الذبح لهما أن ما فات مستدرك بالقضاء ولا يجب مع القضاء شيء آخر وله حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من قدم نسكا على نسك فعليه دم ولأن التأخير عن المكان يوجب الدم فيما هو موقت بالمكان كالإحرام فكذا التأخير عن الزمان فيما هو موقت بالزمان " وإن حلق في أيام النحر في غير الحرم فعليه دم ومن اعتمر فخرج من الحرم وقصر فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد " رحمهما الله تعالى " وقال أبو يوسف " رحمه الله " لا شيء عليه ".
قال رضي الله عنه: ذكر في الجامع الصغير قول أبي يوسف في المعتمر ولم يذكره في الحاج قيل هو بالاتفاق لأن السنة جرت في الحج بالحلق بمنى وهو من الحرم والأصح أنه على الخلاف هو يقول الحلق غير مختص بالحرم لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم ولهما أن الحلق لما جعل محللا صار كالسلام في آخر الصلاة فإنه من واجباتها وإن كان محللا فإذا صار نسكا اختص بالحرم كالذبح وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم حلقوا فيه فالحاصل أن الحلق يتوقت بالزمان والمكان عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما وعند محمد يتوقت بالمكان دون الزمان وعند زفر يتوقت بالزمان دون المكان وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم وأما في حق التحلل فلا يتوقت بالاتفاق " والتقصير والحلق في العمرة غير موقت بالزمان بالإجماع " لأن أصل العمرة لا يتوقت به بخلاف المكان لأنه موقت به.
قال: " فإن لم يقصر حتى رجع وقصر فلا شيء عليه في قولهم جميعا " معناه إذا خرج المعتمر ثم عاد لأنه أتى به في مكانه فلا يلزمه ضمانه " فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان " عند أبي حنيفة رحمه الله دم بالحلق في غير أوانه لأن أوانه بعد الذبح ودم بتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول ولا يجب بسبب التأخير شيء على ما قلنا.(1/164)
فصل جزاء الصيد
...
فصل
اعلم أن صيد البر محرم على المحرم وصيد البحر حلال لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] إلى آخر الآية وصيد البر ما يكون توالده ومثواه في البر وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في الماء والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل الخلقة واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس الفواسق وهي الكلب العقور والذئب والحدأة والغراب والحية والعقرب فإنها مبتدئات بالأذى والمراد به الغراب الذي يأكل الجيف هو المروي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: " وإذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء" أما القتل فلقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] الآية نص على إيجاب الجزاء وأما الدلالة ففيها خلاف الشافعي رحمه الله هو يقول الجزاء تعلق بالقتل والدلالة ليست بقتل فأشبه دلالة الحلال حلالا.
ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه وقال عطاء رحمه الله أجمع الناس على أن على الدال الجزاء ولأن الدلالة من محظورات الإحرام ولأنه تفويت الأمن على الصيد إذ هو آمن بتوحشه وتواريه فصار كالإتلاف ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما التزمه كالمودع بخلاف الحلال لأنه لا التزام من جهته على أن فيه الجزاء على ما روي عن أبي يوسف وزفر رحمهما الله والدلالة الموجبة للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد وأن يصدقه في الدلالة حتى لو كذبه وصدق غيره لا ضمان على المكذب " ولو كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء " لما قلنا " وسواء في ذلك العامد والناسي " لأنه ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف فأشبه غرامات الأموال " والمبتدئ والعائد سواء " لأن الموجب لا يختلف " والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية فيقومه ذوا عدل ثم هو مخبر في الفداء إن شاء ابتاع بها هديا وذبحه إن بلغت هديا وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير وإن شاء صام " على ما نذكر. وقال محمد والشافعي يجب في الصيد النظير فيما له نظير ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة لأن القيمة لا تكون نعما والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا النظير(1/165)
من حيث الخلقة والمنظر في النعامة والظبي وحمار الوحش والأرنب على ما بينا وقال عليه الصلاة والسلام "الضبع صيد وفيه الشاة " وما ليس له نظير عند محمد تجب فيه القيمة مثل العصفور والحمام وأشباههما وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما والشافعي رحمه الله تعالى يوجب في الحمامة شاة ويثبت المشابهة بينهما من حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل معنى لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق العباد أو لكونه مرادا بالإجماع أو لما فيه من التعميم وفي ضده التخصيص والمراد بالنص والله أعلم.
فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي واسم النعم يطلق على الوحشي والأهلي كذا قاله أبو عبيدة والأصمعي رحمهما الله والمراد بما روي التدقير به دون إيجاب المعين ثم الخيار إلى القاتل في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد والشافعي رحمهما الله الخيار إلى الحكمين في ذلك فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما ذكرنا وإن حكما بالطعام أو بالصيام فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف لهما أن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين ولمحمد والشافعي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [المائدة: 95] الآية ذكر الهدي منصوبا لأنه تفسير لقوله: {يَحْكُمُ بِهِ} أو مفعول لحكم الحكم ثم ذكر الطعام والصيام بكلمة أو فيكون الخيار إليهما قلنا الكفارة عطفت على الجزاء لا على الهدي بدليل أنه مرفوع وكذا قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] مرفوع فلم يكن فيها دلالة اختيار الحكمين وإنما يرجع إليهما في تقويم المتلف ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه " ويقومان في المكان الذي أصابه " لاختلاف القيم باختلاف الأماكن فإن كان الموضع برا لا يباع فيه الصيد يعتبر أقرب المواضع إليه مما يباع فيه ويشترى قالوا والواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد عن الغلط كما في حقوق العباد وقيل يعتبر المثنى ههنا بالنص " والهدي لا يذبح إلا بمكة " لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] " ويجوز الإطعام في غيرها " خلافا للشافعي رحمه الله هو يعتبره بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم ونحن نقول الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة قربة معقولة في كل زمان ومكان.
" والصوم يجوز في غير مكة " لأنه قربة في كل مكان " فإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام " معناه إذا تصدق باللحم وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه " وإذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية " لأن مطلق اسم الهدي منصرف إليه،(1/166)
وقال محمد والشافعي يجزي صغار الغنم فيها لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عناقا وجفرة وعند ابي حنيفة وأبي يوسف يجوز الصغار على وجه الإطعام يعني إذا تصدق وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم التلف بالطعام عندنا لأنه هو المضمون المعتبر قيمته.
" وإذا اشترى بالقيمة طعاما تصدق على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ولا يجوز أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع " لأن الطعام المذكور ينصرف إلى المعهود في الشرع " وإن اختار الصيام يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير يوما " لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في باب الفدية " فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء تصدق به وإن شاء صام عنه يوما كاملا " لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع وكذلك إن كان الواجب دون طعام مسكين يطعم قدر الواجب أو يصوم يوما كاملا لما قلنا.
" ولو جرح صيد أو نتف شعره أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه " اعتبارا للبعض بالكل كما في حقوق العباد " ولو نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فخرج من حيز الامتناع فعليه قيمته كاملة " لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع فيغرم جزاءه.
" ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته " وهذا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه اصل الصيد وله عرضية أن يصير صيدا فنزل منزلة الصيد احتياطا مالم يفسد " فإن خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيا " وهذا استحسان والقياس أن لا يغرم سوى البيضة لأن حياة الفرخ غير معلومة وجه الاستحسان أن البيض معد ليخرج منه الفرخ الحي والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه احتياطا وعلى هذا إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت فعليه قيمتهما.
" وليس في قتل الغراب والحدأة والذئب والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور جزاء " لقوله عليه الصلاة والسلام " خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور " وقال عليه الصلاة والسلام " يقتل المحرم الفأرة والغراب والحدأة والعقرب والحية والكلب العقور " وقد ذكر الذئب في بعض الروايات وقيل المراد بالكلب العقور الذئب أو يقال إن الذئب في معناه والمراد بالغراب الذي يأكل الجيف ويخلط لأنه يبتدئ بالأذى أما العقعق فغير مستثنى لأنه لا يسمى غرابا ولا يبتدئ بالأذى وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الكلب العقور وغير العقور(1/167)
والمستأنس، والمتوحش منهما سواء لأن المعتبر في ذلك الجنس وكذا الفأرة الأهلية والوحشية سواء والضب واليربوع ليسا من الخمس المستثناة لأنهما لا يبتدئان بالأذى " وليس في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء " لأنها ليست بصيود وليست بمتولدة من البدن ثم هي مؤذية بطباعها والمراد بالنمل السود أو الصفر التي تؤذي ومالا يؤذي لا يحل قتلها ولكن لا يجب الجزاء للعلة الأولى.
" ومن قتل قملة تصدق بما شاء " مثل كف من إطعام لأنها متولدة من التفث الذي على البدن " وفي الجامع الصغير أطعم شيئا " وهذا يدل على أنه يجزيه أن يطعم مسكينا شيئا يسيرا على سبيل الإباحة وإن لم يكن مشبعا.
" ومن قتل جرادة تصدق بما شاء " لأن الجراد من صيد البر فإن الصيد ما لا يمكن أخذه إلا بحيلة ويقصده الآخذ " وتمرة خير من جرادة " لقول عمر رضي الله عنه تمرة خير من جرادة " ولا شيء عليه في ذبح السلحفاة " لأنه من الهوام والحشرات فأشبه الخنافس والوزغات ويمكن أخذه من غير حيلة وكذا لا يقصد بالأخذ فلم يكن صيدا.
" ومن حلب صيد الحرم فعليه قيمته " لأن اللبن من أجزاء الصيد فأشبه كله.
" ومن قتل مالا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع ونحوها فعليه الجزاء " إلا ما استثناه الشرع وهو ما عددناه وقال الشافعي رحمه الله لا يجب الجزاء لأنها جبلت على الإيذاء تدخلت في الفواسق المستثناة وكذا اسم الكلب يتناول السباع بأسرها لغة.
ولنا أن السبع صيد لتوحشه وكونه مقصودا بالأخذ إما لجلده أو ليصطاد به أو لدفع أذاه والقياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا والعرف أملك " ولا يجاوز بقيمته شاة " وقال زفر رحمه الله: تجب قيمته بالغة ما بلغت اعتبارا بمأكول اللحم.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " الضبع صيد وفيه الشاة " ولأن اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده لا لأنه محارب مؤذ ومن هذا الوجه لا يزداد على قيمة الشاة ظاهرا.
" وإذا صال السبع على المحرم فقتله لا شيء عليه " وقال زفر رحمه الله يجب الجزاء اعتبارا بالجمل الصائل.
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعا وأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه ولأن المحرم ممنوع عن التعرض لا عن دفع الأذى ولهذا كان مأذونا في دفع المتوهم من الأذى كما في الفواسق فلأن يكون مأذونا في دفع المتحقق منه أولى ومع وجود الإذن من(1/168)
الشارع لا يجب الجزاء حقا له بخلاف الجمل الصائل لأنه لا إذن من صاحب الحق وهو العبد " وإن اضطر المحرم إلى قتل صيد فقتله فعليه الجزاء " لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص على ما تلوناه من قبل.
" ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة والبقرة والبعير والدجاجة والبط الأهلي " لأن هذه الأشياء ليست بصيود لعدم التوحش والمراد بالبط الذي يكون في المساكن والحياض لأنه ألوف بأصل الخلقة.
" ولو ذبح حماما مسرولا فعليه الجزاء " خلافا لمالك رحمه الله له أنه ألوف مستأنس ولا يمتنع بجناحيه لبطء نهوضه ونحن نقول الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه وإن كان بطيء النهوض والاستئناس عارض فلم يعتبر " وكذا إذا قتل ظبيا مستأنسا " لأنه صيد في الأصل فلا يبطله الاستئناس كالبعير إذا ند لا يأخذ حكم الصيد في الحرمة على المحرم.
" وإذا ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها " وقال الشافعي رحمه الله يحل ما ذبحه المحرم لغيره لأنه عامل له فانتقل فعله إليه.
ولنا أن الذكاة فعل مشروع وهذا فعل حرام فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي وهذا لأن المشروع هو الذي قام مقام الميز بين الدم واللحم تيسيرا فينعدم بانعدامه " فإن أكل المحرم الذابح من ذلك شيئا فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا ليس عليه جزاء ما أكل وإن أكل منه محرم آخر فلا شيء عليه في قولهم جميعا " لهما أن هذه ميتة فلا يلزمه بأكلها إلا الاستغفار وصار كما إذا أكله محرم غيره ولأبي حنيفة أن حرمته باعتبار كونه ميتة كما ذكرنا وباعتبار أنه محظور إحرامه لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية في حق الذكاة فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط مضافة إلى إحرامه بخلاف محرم آخر لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه.
" ولا بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه ولا أمره بصيده " خلافا لمالك رحمه الله فيما إذا اصطاده لأجل المحرم له قوله عليه الصلاة والسلام " لا بأس بأكل المحرم لحم صيد مالم يصده أو يصاد له " ولنا ما روي أن الصحابة رضي الله عنهم تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم فقال عليه الصلاة والسلام " لا بأس به " واللام فيما روي لام تمليك فيحمل على أن يهدى إليه الصيد دون اللحم أو معناه أن يصاد بأمره ثم شرط عدم الدلالة وهذا تنصيص على أن الدلالة محرمة قالوا فيه روايتان(1/169)
ووجه الحرمة حديث أبي قتادة رضي الله عنه وقد ذكرناه " وفي صيد الحرم إذا ذبحه الحلال قيمته يتصدق بها على الفقراء " لأن الصيد استحق الأمن بسبب الحرم قال عليه الصلاة والسلام في حديث فيه طول " ولا ينفر صيدها " " ولا يجزئه الصوم " لأنها غرامة وليست بكفارة فأشبه ضمان الأموال وهذا لأنه يجب بتفويت وصف في المحل وهو الأمن والواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله لأن الحرمة باعتبار معنى فيه وهو إحرامه والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحال وقال زفر رحمه الله يجزئه الصوم اعتبارا بما وجب على المحرم والفرق قد ذكرناه وهل يجزئه الهدي ففيه روايتان.
" ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله فيه إذا كان في يده " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول حق الشرع لا يظهر في مملوك العبد لحاجة العبد.
ولنا أنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم إذ صار هو من صيد الحرم فاستحق الأمن لما روينا " فإن باعه رد البيع فيه إن كان قائما " لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد وذلك حرام " وإن كان فائتا فعليه الجزاء " لأنه تعرض للصيد بتفويت الأمن الذي استحقه " وكذلك بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال " لما قلنا.
" ومن أحرم وفي بيته أو في قفص معه صيد فليس عليه أن يرسله " وقال الشافعي رحمه الله يجب عليه أن يرسله لأنه متعرض للصيد بإمساكه في ملكه فصار كما إذا كان في يده.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرمون وفي بيوتهم صيود ودواجن ولم ينقل عنهم إرسالها وبذلك جرت العادة الفاشية وهي من إحدى الحجج ولأن الواجب ترك التعرض وهو ليس بمتعرض من جهته لأنه محفوظ بالبيت والقفص لا به غير أنه في ملكه ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا معتبر ببقاء الملك وقيل إذا كان القفص في يده لزمه إرساله لكن على وجه لا يضيع.
قال: " فإن أصاب حلال صيدا ثم أحرمه فأرسله من يده غيره يضمن عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا لا يضمن " لأن المرسل آمر بالمعروف ناه عن المنكر وما على المحسنين من سبيل وله أنه ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما فلا يبطل احترامه بإحرامه وقد أتلفه المرسل فيضمنه بخلاف ما إذا أخذه في حالة الإحرام لأنه لم يملكه والواجب عليه ترك التعرض ويمكنه ذلك بأن يجليه في بيته فإذا قطع يده عنه كان متعديا ونظيره الاختلاف في كسر المعازف " وإن أصاب محرم صيدا فأرسله من يده غيره لا ضمان عليه(1/170)
بالاتفاق " لأنه لم يملكه بالأخذ فإن الصيد لم يبق محلا للتملك في حق المحرم لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فصار كما إذااشترى الخمر "فإن قتله محرم آخر في يده فعلى كل واحد منهما جزاؤه " لأن الآخذ متعرض للصيد الآمن والقاتل مقرر لذلك والتقرير كالابتداء في حق التضمين كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا " ويرجع الآخذ على القاتل " وقال زفر رحمه الله لا يرجع لأن الآخذ مؤاخذ بصنعه فلا يرجع على غيره ولنا أن الآخذ إنما يصير سببا للضمان عند اتصال الهلاك به فهو بالقتل جعل فعل الآخذ علة فيكون في معنى مباشرة علة العلة فيحال بالضمان عليه.
" فإن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما لا ينبته الناس فعليه قيمته إلا فيما جف منه " لأن حرمتهما ثبتت بسبب الحرم قال عليه الصلاة والسلام " لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها " ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما بينا ويتصدق بقيمته على الفقراء وإذا أداها ملكه كما في حقوق العباد ويكره بيعه بعد القطع لأنه ملكه بسبب محظور شرعا فلو أطلق له في بيعه لتطرق الناس إلى مثله إلا أنه يجوز البيع مع الكراهة بخلاف الصيد والفرق ما نذكره والذي ينبته الناس عادة عرفناه غير مستحق للأمن بالإجماع ولأن المحرم المنسوب إلى الحرم والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى غيره بالإنبات ومالا ينبت عادة إذا أنبته إنسان التحق بما ينبت عادة ولو نبت بنفسه في ملك رجل فعلى قاطعه قيمتان قيمة لحرمة الحرم حقا للشرع وقيمة أخرى ضمانا لمالكه كالصيد المملوك في الحرم وما جف من شجر الحرم لا ضمان فيه لأنه ليس بنام " ولا يرعى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر " وقال أبو يوسف رحمه الله لا بأس بالرعي لأن فيه ضرورة فإن منع الدواب عنه متعذر ولنا ما روينا والقطع بالمسافر كالقطع بالمناجل وحمل الحشيش من الحل ممكن فلا ضرورة بخلاف الإذخر لأنه استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز قطعه ورعيه وبخلاف الكمأة لأنها ليست من جملة النبات " وكل شيء فعله القارن مما ذكرنا أن فيه على المفرد دما فعليه دمان دم لحجته ودم لعمرته " وقال الشافعي رحمه الله دم واحد بناء على أنه محرم بإحرام واحد عنده وعندنا بإحرامين وقد مر من قبل.
قال: "إ لا أن يتجاوز الميقات غير محرم بالعمرة أو الحج فيلزمه دم واحد " خلافا لزفر رحمه الله لما أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد وبتأخير واجب واحد لا يجب إلا جزاء واحد.
" وإذا اشترك محرمان في قتل صيد فعلى كل واحد منهما جزاء كامل " لأن كل واحد(1/171)
منهما بالشركة يصير جانيا جناية تفوق الدلالة فيتعدد الجزاء بتعدد الجناية.
" وإذا اشترك حلالات في قتل صيد الحرم فعليهما جزاء واحد " لأن الضمان يدل عن المحل لا جزاء عن الجناية فيتحد باتحاد المحل كرجلين قتلا رجلا خطأ تجب عليهما دية واحدة وعلى كل واحد منهما كفارة.
" وإذا باع المحرم الصيد أو اتباعه فالبيع باطل " لأن بيعه حيا تعرض للصيد الآمن وبيعه بعد ما قتله بيع ميتة.
" ومن أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا فماتت هي وأولادها فعليه جزاؤهن " لأن الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحقا للأمن شرعا ولهذا وجب رده إلى مأمنه وهذه صفة شرعية فتسرى إلى الولد " فإن أدى جزاءها ثم ولدت ليس عليه جزاء الولد " لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة لأن وصول الخلف كوصول الأصل والله أعلم بالصواب.(1/172)
باب مجاوزة الوقت بغير إحرام
" وإذا أتى الكوفي بستان بني عامر فأحرم بعمرة فإن رجع إلى ذات عرق ولبى بطل عنه دم الوقت وإن رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة وطاف لعمرته فعليه دم " وهذا عند أبي حنيفة وقالا إن رجع إليه محرما فليس عليه شيء لبى أو لم يلب وقال زفر رحمه الله تعالى لا يسقط لبى أو لم يلب لأن جنايته لم ترتفع بالعود وصار كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد الغروب.
ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم بخلاف الإفاضة لأنه لم يتدارك المتروك على ما مر غير أن التدارك عندهما بعوده محرما لأنه أظهر حق الميقات كما إذا مر به محرما ساكتا وعنده رحمه الله بعوده محرما ملبيا لأن العزيمة في الإحرام من دويرة أهله فإذا ترخص بالتأخير إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية فكان التلافي بعوده ملبيا وعلى هذا الخلاف إذا أحرم بحجة بعد المجاوزة مكان العمرة في جميع ما ذكرناه ولو عاد بعد ما ابتدأ بالطواف واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق ولو عاد إليه قبل الإحرام يسقط بالاتفاق " وهذا " الذي ذكرنا " إذا كان يريد الحج أو العمرة فإن دخل البستان لحاجة فله أن يدخل مكة بغير إحرام ووقته البستان وهو وصاحب المنزل سواء " لأن البستان غير واجب التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصده وإذا دخله التحق بأهله وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له والمراد بقوله ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل فكذا وقت الداخل الملحق به " فإن(1/172)
أحرما من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء " يريد به البستاني والداخل فيه لأنهما أحرما من ميقاتهما.
" ومن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت وأحرم بحجة عليه أجزأه " ذلك " من دخوله مكة بغير إحرام " وقال زفر رحمه الله لا يجزيه وهو القياس اعتبارا بما لزمه بسبب النذر وصار كما إذا تحولت السنة.
ولنا أنه تلافي المتروك في وقته لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام كما إذا أتاه محرما بحجة الإسلام في الابتداء بخلاف ما إذا تحولت السنة لأنه صار دينا في ذمته فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني.
" ومن جاوز الوقت فأحرم بعمرة وأفسدها مضى فيها وقضاها " لأن الإحرام يقع لازما فصار كما إذا أفسد الحج " وليس عليه دم لترك الوقت " وعلى قياس قول زفر رحمه الله لا يسقط عنه وهو نظير الاختلاف في فائت الحج إذا جاوز الوقت بغير إحرام وفيمن جاوز الوقت بغير إحرام وأحرم بالحج ثم أفسد حجته هو يعتبر المجاوزة هذه بغيرها من المحظورات.
ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه في القضاء وهو يحكي الفائت ولا ينعدم به غيره من المحظورات فوضح الفرق " وإذا خرج المكي يريد الحج فأحرم ولم يعد إلى الحرم ووقف بعرفة فعليه شاة " لأن وقته الحرم وقد جاوزه بغير إحرام فإن عاد إلى الحرم ولبى أو لم يلب فهو على الاختلاف الذي ذكرناه في الأفاقي.
" والمتمتع إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم فأحرم ووقف بعرفة فعليه دم " لأنه لما دخل مكة وأتى بأفعال العمرة صار بمنزلة المكي وإحرام المكي من الحرم لما ذكرنا فيلزمه الدم بتأخيره عنه " فإن رجع إلى الحرم فأهل فيه قبل أن يقف بعرفة فلا شيء عليه " وهو على الخلاف الذي تقدم في الأفاقي.(1/173)
باب إضافة الإحرام إلى الإحرام
" قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا أحرم المكي بعمرة وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج وعليه لرفضه دم وعليه حجة وعمرة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله رفض العمرة أحب إلينا وقضاؤها وعليه دم " لأنه لا بد من رفض أحدهما لأن الجمع بينهما في حق المكي غير مشروع والعمرة أولى بالرفض لأنها أدنى حالا وأقل أعمالا وأيسر(1/173)
قضاء لكونها غير مؤقتة وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج ولم يأت بشيء من أفعال العمرة لما قلنا.
فإن طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج بلا خلاف لأن للأكثر حكم الكل فتعذر رفضها كما إذا فرغ منها ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وله أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها وإحرام الحج لم يتأكد ورفض غير المتأكد أيسر ولأن في رفض العمرة والحالة هذه إبطال العمل وفي رفض الحج امتناع عنه وعليه دم بالرفض أيهما رفضه لأنه تحلل قبل أوانه لتعذر المضي فيه فكان في معنى المحصر إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير وفي رفض الحج قضاؤه وعمرة لأنه في معنى فائت الحج " وإن مضى عليهما أجزأه " لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما غير أنه منهي عنهما والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا " وعليه دم لجمعه بينهما " لأنه تمكن النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه وهذا في حق المكي دم جبر وفي حق الأفاقي دم شكر.
" ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى فإن حلق في الأولى لزمته الأخرى ولا شيء عليه وإن لم يحلق في الأولى لزمته الأخرى وعليه دم قصر أو لم يقصر عند ابي حنيفة " رحمه الله " وقالا إن لم يقصر فلا شيء عليه " لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول فهو جناية على الثاني لأنه في غير أوانه فلزمه الدم بالإجماع وإن لم يحلق حتى حج في العام القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا فلهذا سوى بين التقصير وعدمه عنده وشرط التقصير عندهما.
" ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى فعليه دم لإحرامه قبل الوقت " لأنه جمع بين إحرامي العمرة وهذا مكروه فيلزمه الدم وهو دم جبر وكفارة.
" ومن أهل بالحج ثم أحرم بعمرة لزماه " لأن الجمع بينهما مشروع في حق الأفاقي والمسئلة فيه فيصير بذلك قارنا لكنه أخطأ السنة فيصير مسيئا " فلو وقف بعرفات ولم يأت بأفعال العمرة فهو رافض لعمرته " لأنه تعذر عليه أداؤها إذ هي مبنية على الحج غير مشروعة " فإن توجه إليها لم يكن رافضا حتى يقف " وقد ذكرناه من قبل " فإن طاف للحج ثم أحرم بعمرة فمضى عليهما لزماه وعليه دم لجمعه بينهما " لأن الجمع بينهما مشروع على ما مر فصح الإحرام بهما والمراد بهذا الطواف طواف التحية وأنه سنة وليس بركن حتى(1/174)
لا يلزمه بتركه شيء وإذا لم يأت بما هو ركن يمكنه أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج فلهذا لو مضى عليهما جاز وعليه دم لجمعه بينهما وهو دم كفارة وجبر هو الصحيح لأنه بان أفعال العمرة على أفعال الحج من وجه " ويستحب أن يرفض عمرته " لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله بخلاف ما إذا لم يطف للحج " وإذا رفض عمرته بقضيها " لصحة الشروع فيها " وعليه دم " لرفضها.
" ومن أهل بعمرة في يوم النحر أو في ايام التشريق لزمته " لما قلنا " ويرفضها " أي يلزمه الرفض لأنه قد أدى ركن الحج فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا على ما نذكر فلهذا يلزمه رفضها فإن رفضها فعليه دم لرفضها " وعمرة مكانها " لما بينا " فإن مضى عليها أجزأه " لأن الكراهة لمعنى في غيرها وهو كونه مشغولا في هذه الأيام بأداء بقية أعمال الحج فيجب تخليص الوقت له تعظيما " وعليه دم لجمعه بينهما " إما في الإحرام أو في الأعمال الباقية قالوا وهذا دم كفارة أيضا وقيل إذا حلق للحج ثم أحرم لا يرفضها على ظاهر ما ذكر في الأصل وقيل يرفضها احترازا
عن النهي قال الفقيه أبو جعفر ومشايخنا رحمهم الله تعالى على هذا " فإن فاته الحج ثم أحرم بعمرة أو بحجة فإنه يرفضها " لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة على ما يأتيك في باب الفوات إن شاء الله فيصير جامعا بين العمرتين من حيث الأفعال فعليه أن يرفضها كما لو أحرم بعمرتين وإن أحرم بحجة يصير جامعا بين الحجتين إحراما فعليه أن يرفضها كما لو أحرم بحجتين وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها ودم لرفضها بالتحلل قبل أوانه والله أعلم.(1/175)
باب الإحصار
" وإذا أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي جاز له التحلل " وقال الشافعي رحمه الله لا يكون الإحصار إلا بالعدو لأن التحلل بالهدي شرع في حق المحصر لتحصيل النجاة وبالإحلال ينجو من العدو لا من المرض.
ولنا أن آية الإحصار وردت في الإحصار بالمرض بإجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الإحصار بالمرض والحصر بالعدو والتحلل قبل أوانه لدفع الحرج الآتي من قبل امتداد الإحرام والحرج في الاصطبار عليه مع المرض أعظم.
" وإذا جاز له التحلل يقال له ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل " وإنما يبعث إلى الحرم لأن دم الإحصار قربة، والإراقة لم تعرف قربة إلا في(1/175)
زمان أو مكان على ما مر فلا يقع قربة دونه فلا يقع به التحلل وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم وقال الشافعي رحمه الله لا يتوقت به لأنه شرع رخصة والتوقيت يبطل التخفيف قلنا المراعى أصل التخفيف لا نهايته وتجوز الشاة لأن المنصوص عليه الهدي والشاة أدناه وتجزيه البقرة والبدنة أو سبعهما كما في الضحايا وليس المراد بما ذكرنا بعث الشاة بعينها لأن ذلك قد يتعذر بل له أن يبعث بالقيمة حتى تشترى الشاة هنالك وتذبح عنه وقوله ثم تحلل إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق أو التقصير وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف عليه ذلك ولو لم يفعل لا شيء عليه لأنه عليه الصلاة والسلام حلق عام الحديبية وكان محصرا بها وأمر أصحابه رضي الله عنهم بذلك ولهما أن الحلق إنما عرف قربة مرتبا على أفعال الحج فلا يكون نسكا قبلها وفعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ليعرف استحكام عزيمتهم على الانصراف.
قال: " وإن كان قارنا بعث بدمين " لاحتياجه إلى التحلل من إحرامين " فإن بعث بهدي واحد ليتحلل عن الحج ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل عن واحد منهما " لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة.
" ولا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم ويجوز ذبحه قبل يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء " اعتبارا بهدي المتعة والقران وربما يعتبر أنه بالحلق إذ كل واحد منهما محلل ولأبي حنيفة رحمه الله أنه دم كفارة حتى لا يجوز الأكل منه فيختص بالمكان دون الزمان كسائر دماء الكفارات بخلاف دم المتعة والقران لأنه دم نسك وبخلاف الحلق لأنه في أوانه لأن معظم أفعال الحج وهو الوقوف ينتهي به.
قال: " والمحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة " هكذا روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ولأن الحجة يجب قضاؤها لصحة الشروع فيها والعمرة لما أنه في معنى فائت الحج " وعلى المحصر بالعمرة القضاء " والإحصار عنها يتحقق عندنا وقال مالك رحمه الله لا يتحقق لأنها لا تتوقت.
ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم أحصروا بالحديبية وكانوا عمارا ولأن شرع التحلل لدفع الحرج وهذا موجود في إحرام العمرة وإذا تحقق الإحصار فعليه القضاء إذا تحلل كما في الحج " وعلى القارن حجة وعمرتان " أما الحج(1/176)
وإحداهما فلما بينا وأما الثانية فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها " فإن بعث القارن هديا وواعدهم أن يذبحوه في يوم بعينه ثم زال الإحصار فإن كان لا يدرك الحج والهدي لا يلزمه أن يتوجه بل يصبر حتى يتحلل بنحر الهدي " لفوات المقصود من التوجه وهو أداء الأفعال وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة له ذلك لأنه فائت الحج " وإن كان يدرك الحج والهدي لزمه التوجه " لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف " وإذا أدرك هدية صنع به ما شاء " لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود استغنى عنه " وإن كان يدرك الهدي دون الحج يتحلل " لعجزه عن الأصل " وإن كان يدرك الحج دون الهدي جاز له التحلل " استحسانا وهذا التقسيم لا يستقيم على قولهما في المحصر بالحج لأن دم الإحصار عندهما يتوقت بيوم النحر فمن يدرك الحج يدرك الهدي وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق لعدم توقت الدم بيوم النحر.
وجه القياس وهو قول زفر رحمه الله أنه قدر على الأصل وهو الحج قبل حصول المقصود بالبدل وهو الهدي.
وجه الاستحسان أنا لو ألزمناه التوجه لضاع ماله لأن المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا يحصل مقصوده وحرمة المال كحرمة النفس وله الخيار إن شاء صبر في ذلك المكان أو في غيره ليذبح عنه فيتحلل وإن شاء توجه ليؤدي النسك الذي التزمه بالإحرام وهو أفضل لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد.
" ومن وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرا" لوقوع الأمن عن الفوات " ومن أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف فهو محصر " لأنه تعذر عليه الإتمام فصار كما إذا أحصر في الحل "وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر " أما على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به والدم بدل عنه في التحلل وأما على الوقوف فلما بينا وقد قيل في هذه المسئلة خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والصحيح ما أعلمتك من التفصيل والله تعالى أعلم.(1/177)
باب الفوات
" ومن أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج " لما ذكرنا أن وقت الوقوف يمتد إليه " وعليه أن يطوف ويسعى ويتحلل ويقضي الحج من قابل ولا دم عليه " لقوله عليه الصلاة والسلام " من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة " وعليه الحج من قابل والعمرة ليست إلا الطواف والسعي ولأن الإحرام بعدما انعقد(1/177)
صحيحا لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما في الإحرام المبهم وههنا عجز عن الحج فتتعين عليه العمرة ولا دم عليه لأن التحلل وقع بأفعال العمرة فكانت في حق فائت الحج بمنزلة الدم في حق المحصر فلا يجمع بينهما.
" والعمرة لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها وهي يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق " لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينة له وعن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله والأظهر من المذهب ما ذكرناه ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها لأن الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له فيصح الشروع.
" والعمرة سنة " وقال الشافعي رحمه الله فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام " العمرة فريضة كفريضة الحج " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " الحج فريضة والعمرة تطوع " ولأنها غير موقتة بوقت وتتأدى بنية غيرها كما في فائت الحج وهذا أمارة النفلية وتأويل ما رواه أنها مقدرة بأعمال الحج إذ لا تثبت الفرضية مع التعارض في الآثار. قال: " وهي الطواف والسعي " وقد ذكرناه في باب التمتع والله أعلم بالصواب.(1/178)
باب الحج عن الغير
الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله تعالى وشهد له بالبلاغ جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته والعبادات أنواع مالية محضة كالزكاة وبدنية محضة كالصلاة ومركبة منهما كالحج والنيابة تجري في النوع الأول في حالتي الاختيار والضرورة لحصول المقصود بفعل النائب ولا تجري في النوع الثاني بحال لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل به وتجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى الثاني وهو المشقة بتنقيص المال ولا تجري عند القدرة لعدم إتعاب النفس والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت لأن الحج فرض العمر وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة لأن باب النفل أوسع ثم ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه وبذلك تشهد الأخبار الواردة في الباب كحديث الخثعمية فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيه " حجي عن(1/178)
أبيك واعتمري " وعن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن الحاج وللآمر ثواب النفقة لأنه عبادة بدنية وعند العجز أقيم الإنفاق مقامه كالفدية في باب الصوم.
قال: " ومن أمره رجلان بأن يحج عن كل واحد منها حجة فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة " لأن الحج يقع عن الأمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من غير اشتراك ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية فيقع عن المأمور ولا يمكنه أن يجعله عن أحدهما بعد ذلك بخلاف ما إذا حج عن أبويه فإن له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما فيبقى على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه وهنا يفعل بحكم الآمر وقد خالف أمرهما فيقع عنه " ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما " لأنه صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه.
" وإن أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين فإن مضى على ذلك صار مخالفا " لعدم الأولوية وإن عين أحدهما قبل المضي فكذلك عند أبي يوسف رحمه الله وهو القياس لأنه مأمور بالتعيين والإبهام يخالفه فيقع عن نفسه بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين ما شاء لأن الملتزم هناك كمجهول وههنا المجهول من له الحق وجه الاستحسان أن الإحرام شرع وسيلة إلى الأفعال لا مقصودا بنفسه والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين فاكتفي به شرطا بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام لأن المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا. قال: " فإن أمره غيره أن يقرن عنه فالدم على من أحرم " لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين النسكين والمأمور هو المختص بهذه النعمة لأن حقيقة الفعل منه وهذه المسئلة تشهد بصحة المروي عن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن المأمور " وكذلك إن أمره واحد بأن يحج عنه والآخر بأن يعتمر عنه وأذنا له بالقران فالدم عليه " لما قلنا.
" ودم الإحصار على الآمر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد " وقال أبو يوسف على الحاج " لأنه وجب للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام وهذا الضرر راجع إليه فيكون الدم عليه ولهما أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه " فإن كان يحج عن ميت فأحصر فالدم في مال الميت " عندهما خلافا لأبي يوسف رحمه الله ثم قيل هو من ثلث مال الميت لأنه صلة كالزكاة وغيرها وقيل من جميع المال لأنه وجب حقا للمأمور فصار دينا.
" ودم الجماع على الحج " لأنه دم جناية وهو الجاني عن اختيار " ويضمن النفقة " معناه إذا جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه لأن الصحيح هو المأمور به، بخلاف ما إذا فاته الحج(1/179)
حيث لا يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره أما إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة لحصول مقصود الآمر وعليه الدم في ماله لما بينا وكذلك سائر دماء الكفارات على الحج لما قلنا.
" ومن أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا فلما بلغ الكوفة مات أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا يحج عنه من حيث مات الأول " فالكلام ههنا في اعتبار الثلث وفي مكان الحج أما الأول فالمذكور قول أبي حنيفة رحمه الله أما عند محمد يحج عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين الموصي إذ تعيين الوصي كتعيينه وعند أبي يوسف رحمه الله يحج عنه بما بقي من الثلث الأول لأنه هو المحل لنفاذ الوصية لأبي حنيفة أن قسمة الوصي وعزله المال لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي لأنه لا خصم له ليقبض ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل فيحج بثلث ما بقي وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة رحمه الله وهو القياس أن القدر الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا قال عليه الصلاة والسلام " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج وجه قولهما وهو الإستحسان أن سفره لم يبطل لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية وقال عليه الصلاة والسلام " من مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة " وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك المكان وأصل الاختلاف في الذي يحج بنفسه وينبني على ذلك المأمور بالحج.
قال: " ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما " لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء بخلاف المأمور على ما فرقنا من قبل والله تعالى أعلم بالصواب.(1/180)
باب الهدي
" الهدي أدناه شاة " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الهدي فقال " أدناه شاة " قال: " وهو من ثلاثة أنواع الإبل والبقر والغنم " لأنه عليه الصلاة والسلام لما جعل الشاة أدنى فلا بد أن يكون له أعلى وهو البقر والجزور ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب(1/180)
به فيه والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى " ولا يجوز في الهدايا إلا ما جاز في الضحايا " لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم كالأضحية فيتخصصان بمحل واحد " والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين من طاف طواف الزيارة جنبا ومن جامع بعد الوقوف بعرفة فإنه لا يجوز فيهما إلا البدنة " وقد بينا المعنى فيما سبق.
" ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران " لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الأضحية وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أكل من لحم هديه وحسا من المرقة " ويستحب له أن يأكل منها " لما روينا وكذلك يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا.
" ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا " لأنها دماء كفارات وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أحصر بالحديبية وبعث الهدايا على يدي ناجية الأسلمي قال له " لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا "
" ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في يوم النحر " قال العبد الضعيف " وفي الأصل يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر وذبحه يوم النحر أفضل وهذا هو الصحيح " لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم " فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غيره يوم النحر وفي أيام النحر أفضل " لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها أظهر أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 28، 29] وقضاء التفث يختص بيوم النحر ولأنه دم نسك فيختص بيوم النحر كالأضحية.
" ويجوز ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا في يوم النحر اعتبارا بدم المتعة والقران فإن كل واحد دم جبر عنده.
ولنا أن هذه دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر لأنها لما وجبت لجبر النقصان كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير بخلاف دم المتعة والقران لأنه دم نسك قال " ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم " لقوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فصار أصلا في كل دم هو كفارة ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه الحرم قال عليه الصلاة والسلام " منى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر " " ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم " خلافا للشافعي رحمه الله لأن الصدقة قربة معقولة والصدقة على كل فقير قربة.(1/181)
قال: " ولا يجب التعريف بالهدايا " لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دمه فيه لا عن التعريف فلا يجب " فإن عرف بهدي المتعة فحسن " لأنه يتوقت بيوم النحر فعسى أن لا يجد من يمسكه فيحتاج إلى أن يعرف به ولأنه دم نسك فيكون مبناه على التشهير بخلاف دماء الكفارات لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا وسببها الجناية فيليق بها الستر.
قال: " والأفضل في البدن النحر وفي البقر والغنم الذبح " لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] قيف في تأويله الجزور وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] والذبح ما أعد للذبح وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نحر الإبل وذبح البقر والغنم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها وأي ذلك فعل فهو حسن والأفضل أن ينحرها قياما لما روي أنه عليه الصلاة والسلام " نحر الهدايا قياما " وأصحابه رضي الله عنهم كانوا ينحرونها قياما معقولة اليد اليسرى " ولا يذبح البقر والغنم قياما " لأن في حالة الاضطجاع المذبح أبين فيكون الذبح أيسر والذبح هو السنة فيهما.
قال: " والأولى أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يحسن ذلك " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ولأنه قربة والتولي في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع إلا أن الإنسان قد لا يهتدي لذلك ولا يحسنه فجوزنا توليته غيره.
قال: " ويتصدق بجلالها وخطامها ولا يعطي أجرة الجزار منها " لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه "تصدق بجلالها وبخطمها ولا تعطي أجرة الجزار منها".
" ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها وإن استغنى عن ذلك لم يركبها " لأنه جعلها خالصة لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه إلى أن يبلغ محله إلا أن يحتاج إلى ركوبها لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة فقال "اركبها ويلك" وتأويله أنه كان عاجزا محتاجا ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص من ذلك " وإن كان لها لبن لم يحلبها " لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه " وينضح ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن " ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح فإن كان بعيدا منه يحلبها ويتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله أو بقيمته لأنه مضمون عليه.(1/182)
" ومن ساق هديا فعطب فإن كان تطوعا فليس عليه غيره " لأن القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات " وإن كان عن واجب فعليه أن يقيم غيره مقامه " لأن الواجب باق في ذمته " وإن أصابه عيب كبير يقيم غيره مقامه " لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب فلا بد من غيره "وصنع بالمعيب ما شاء" لأنه التحق بسائر أملاكه " وإذا عطبت البدنة في الطريق فإن كان تطوعا نحرها وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء منها " بذلك أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام ناجية الأسلمي رضي الله عنها والمراد بالنعل قلادتها وفائدة ذلك ان يعلم الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء وهذا لأن الإذن بتناوله معلق بشرط بلوغه محله فينبغي أن لا يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه جزرا للسباع وفيه نوع تقرب والتقرب هو المقصود " فإن كانت واجبة أقام غيرها مقامها وصنع بها ما شاء " لأنه لم يبق صالحا لما عينه وهو ملكه كسائر أملاكه " ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران " لأنه دم نسك وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به " ولا يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات " لأن سببها الجناية والستر أليق بها ودم الاحصار جابر فيلحق بجنسها ثم ذكر الهدي ومراده البدنة لأنه لا يقلد الشاة عادة ولا يسن تقليده عندنا لعدم فائدة التقليد على ما تقدم والله أعلم.(1/183)
مسائل منثورة
" أهل عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم " والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية وهذا لأنه عبادة تختص بزمان ومكان فلا يقع عبادة دونهما وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم لأن المقصود منها نفي حجهم والحج لا يدخل تحت الحكم فلا تقبل ولأن فيه بلوى عاما لتعذر الإحتراز عنه والتدارك غير ممكن وفي الأمر بالاعادة حرج بين فوجب أن يكتفي به عند الاشتباه بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة ولأن جواز المؤخر له نظير ولا كذلك جواز المقدم قالوا ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا لأنه ليس فيها إلا إيقاع الفتنة وكذا إذا شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال ولا يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة.
قال: " ومن رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة ولم يرم الأولى فان رمى الأولى ثم الباقيتين فحسن " لأنه راعى الترتيب المسنون " ولو رمى الأولى وحدها أجزأه " لأنه(1/183)
تدارك المتروك في وقته وإنما ترك الترتيب وقال الشافعي رحمه الله لا يجزيه ما لم يعد الكل لأنه شرع مرتبا فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة قبل الصفا.
ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسه فلا يتعلق الجواز بتقديم البعض على البعض بخلاف السعي لأنه تابع للطواف لأنه دونه والمروة عرفت منتهى السعي بالنص فلا تتعلق بها البداءة.
قال: " ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة " وفي الأصل خيره بين الركوب والمشي وهذا إشارة إلى الوجوب وهو الأصل لأنه التزم القربة بصفة الكمال فتلزمه بتلك الصفة كما إذا نذر الصوم متتابعا وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة فيمشي إلى أن يطوفه ثم قيل يبتدئ المشي من حين يحرم وقيل من بيته لأن الظاهر أنه هو المراد ولو ركب أراق دما لأنه أدخل نقصا فيه قالوا إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي وإذا قربت والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا يركب " ومن باع جارية محرمة قد أذن لها مولاها في ذلك فللمشتري أن يحللها ويجامعها " وقال زفر: ليس له ذلك لأن هذا عقد سبق ملكه فلا يتمكن من فسخه كما إذا اشترى جارية منكوحة ولنا أن المشتري قائم مقام البائع وقد كان للبائع أن يحللها فكذا المشتري إلا أنه يكره ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد وهذا المعنى لم يوجد في حق المشتري بخلاف النكاح لأنه ما كان للبائع أن يفسخه إذا باشرت بإذنه فكذا لا يكون ذلك للمشتري وإذا كان له أن يحللها لا يتمكن من ردها بالعيب عندنا وعند زفر يتمكن لأنه ممنوع من غشيانها " و " ذكر " في بعض النسخ أو يجامعها " والأول: يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص شعر أو بقلم ظفر ثم يجامع والثاني: يدل على أنه يحللها بالمجامعة لأنه لا يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر الحج والله أعلم.(1/184)
كتاب النكاح
العقد
مدخل
...
كتاب النكاح
قال: " النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظين يعبر بهما عن الماضي " لأن الصيغة وإن كانت للإخبار وضعا فقد جعلت للإنشاء شرعا دفعا للحاجة " وينعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي وبالآخر عن المستقبل مثل أن يقول زوجني فيقول زوجتك " لأن هذا توكيل بالنكاح والواحد يتولى طرفي النكاح على ما نبينه إن شاء الله تعالى " وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة " وقال الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج لأن التمليك ليس حقيقة فيه ولا مجازا عنه لأن الترويج للتلفيق والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة أصلا.
ولنا أن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز " وينعقد بلفظ البيع " هو الصحيح لوجود طريق المجاز " ولا ينعقد بلفظ الإجارة " في الصحيح لأنه ليس بسبب لملك المتعة " و " لا بلفظ " الإباحة والإحلال والإعارة " لما قلنا " و " لا بلفظ " الوصية " لأنها توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت.
قال: " ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين حرين عاقلين بالغين مسلمين رجلين أو رجل وامرأتين عدولا كانوا أو غير عدول أو محدودين في القذف " قال رضي الله عنه اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح لقوله عليه الصلاة والسلام " لا نكاح إلا بشهود " وهو حجة على مالك رحمه الله في اشتراط الإعلان دون الشهادة ولا بد من اعتبار الحرية فيها لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأنه لا ولاية بدونهما ولا بد من اعتبار الإسلام في أنكحة المسلمين لأنه لا شهادة للكافر على المسلم ولا يشترط وصف الذكورة حتى ينعقد بحضور رجل وامرأتين وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وستعرف في الشهادات إن شاء الله تعالى ولا تشترط العدالة حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله له أن الشهادة من باب الكرامة والفاسق من أهل الإهانة.
ولنا أنه من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة وهذا لأنه لما لم يحرم الولاية على نفسه لإسلامه لا يحرم على غيره لأنه من جنسه ولأنه صلح مقلدا فيصلح مقلدا، وكذا(1/185)
شاهد والمحدود في القذف من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة تحملا وإنما الفائت ثمرة الأداء بالنهي لجريمته فلا يبالي بفواته كما في شهادة العميان وابني العاقدين.
قال: " وإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر رحمهما الله لا يجوز " لأن السماع في النكاح شهادة ولا شهادة للكافر على المسلم فكأنهما لم يسمعا كلام المسلم ولهما أن الشهادة شرطت في النكاح على اعتبار إثبات الملك لوروده على محل ذي خطر لا على اعتبار وجوب المهر إذ لا شهادة تشترط في لزوم المال وهما شاهدان عليها بخلاف ما إذا لم يسمعا كلام الزوج لأن العقد ينعقد بكلاميهما والشهادة شرطت على العقد.
قال: " ومن أمر رجلا بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر بشهادة رجل واحد سواهما جاز النكاح " لأن الأب يجعل مباشرا للعقد لاتحاد المجلس فيكون الوكيل سفيرا أو معبرا فيبقى المزوج شاهدا " وإن كان الأب غائبا لم يجز " لأن المجلس مختلف فلا يمكن أن يجعل الأب مباشرا وعلى هذا إذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد إن كانت حاضرة جاز وإن كانت غائبة لم يجز.(1/186)
فصل في بيان المحرمات
قال: " لا يحل للرجل أن يتزوج بأمه ولا بجداته من قبل الرجال والنساء " لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] والجدات أمهات إذ الأم هي الأصل لغة أو ثبتت حرمتهن بالإجماع.
قال: " ولا ببنته " لما تلونا " ولا ببنت ولده وإن سفلت " للإجماع " ولا بأخته ولا ببنات أخته ولا ببنات أخيه ولا بعمته ولا بخالته " لأن حرمتهن منصوص عليها في هذه الآية وتدخل فيها العمات المتفرقات والخالات المتفرقات وبنات الإخوة المتفرقين لأن جهة الاسم عامة.
قال: " ولا بأم امرأته التي دخل بها أو لم يدخل " لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] من غير قيد الدخول " ولا ببنت امرأته التي دخل بها " لثبوت قيد الدخول بالنص " سواء كانت في حجره أو في حجر غيره " لأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة لا مخرج الشرط ولهذا اكتفي في موضع الإحلال بنفي الدخول.
قال: " ولا بامرأة أبيه وأجداده " لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] " ولا بامرأة ابنه وبني أولاده " لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ(1/186)
مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة " ولا بأمه من الرضاعة ولا بأخته من الرضاعة " لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] لقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
" ولا يجمع بين أختين نكاحا ولا يملك يمين وطأ " لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ولقوله عليه الصلاة والسلام " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين " " فإن تزوج أخت أمة له قد وطئها صح النكاح " لصدوره من أهله مضافا إلى محله " و " إذا جاز " لا يطأ الأمة وإن كان لم يطأ المنكوحة " لأن المنكوحة موطوءة حكما ولا يطأ المنكوحة للجمع إلا إذا حرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع وطأ ويطأ المنكوحة إن لم يكن وطئ المملوكة لعدم الجمع وطأ إذ المرقوقة ليست موطوءة حكما " فإن تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى فرق بينه وبينهما " لأن نكاح إحداهما باطل بيقين ولا وجه إلى التعيين لعدم الأولوية ولا إلى التنفيذ مع التجهيل لعدم الفائدة أو للضرر فتعين التفريق " ولهما نصف المهر " لأنه وجب للأولى منهما وانعدمت الأولوية للجهل بالأولية فيصرف إليهما وقيل لا بد من دعوى كل واحدة منهما أنها الأولى أو الاصطلاح لجهالة المستحقة " ولا يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها ولا على ابنة أختها " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها أو ابنة أختها " وهذا مشهور تجوز الزيادة على الكتاب بمثله.
" ولا يجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى " لأن الجمع بينهما يفضي إلى القطيعة والقرابة المحرمة للنكاح محرمة للقطع ولو كانت المحرمية بينهما بسبب الرضاع يحرم لما روينا من قبل " ولا بأس بأن يجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل " لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع وقال زفر رحمه الله لا يجوز لأن ابنة الزوج لو قدرتها ذكرا لا يجوز له التزوج بامرأة أبيه قلنا امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له التزوج بهذه والشرط أن يصور ذلك من كل جانب.
قال: " ومن زنا بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها " وقال الشافعي رحمه الله الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بالمحظور.
ولنا أن الوطء سبب الجزئية بواسطة الولد حتى يضاف إلى كل واحد منهما كملا(1/187)
فتصير أصولها وفروعها كأصوله وفروعه وكذلك على العكس والاستمتاع بالجزء حرام إلا في موضع الضرورة وهي الموطوءة والوطء محرم من حيث إنه سبب الولد لا من حيث إنه زنا.
" ومن مسته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها " وقال الشافعي رحمه الله لا تحرم وعلى هذا الخلاف مسه امرأة بشهوة ونظره إلى فرجها ونظرها إلى ذكره عن شهوة له أن المس والنظر ليسا في معنى الدخول ولهذا لا يتعلق بهما فساد الصوم والإحرام ووجوب الاغتسال فلا يلحقان به.
ولنا أن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه في موضع الاحتياط ثم إن المس بشهوة أن تنتشر الآلة أو تزداد انتشارا هو الصحيح والمعتبر النظر إلى الفرج الداخل ولا يتحقق ذلك إلا عند اتكائها ولو مس فأنزل فقد قيل إنه يوجب الحرمة والصحيح أنه لا يوجبها لأنه بالإنزال تبين أنه غير مفض إلى الوطء وعلى هذا إتيان المرأة في الدبر.
" وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا لم يجز له أن يتزوج بأختها حتى تنقضي عدتها " وقال الشافعي رحمه الله إن كانت العدة عن طلاق بائن أو ثلاث يجوز لانقطاع النكاح بالكلية إعمالا للقاطع ولهذا لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب الحد.
ولنا أن نكاح الأولى قائم لبقاء أحكامه كالنفقة والمنع والفراش والقاطع تأخر عمله ولهذا بقي القيد والحد لا يجب على إشارة كتاب الطلاق وعلى عبارة كتاب الحدود يجب لأن الملك قد زال في حق الحل فيتحقق الزنا ولم يرتفع في حق ما ذكرنا فيصير جامعا " ولا يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها " لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا ثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة.
" ويجوز تزويج الكتابيات " لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] أي العفائف ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما تبين من بعد إن شاء الله " ولا يجوز تزويج المجوسيات " لقوله عليه الصلاة والسلام " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ".
قال: " ولا الوثنيات " لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] " ويجوز تزويج الصابئيات إن كانوا يؤمنون بدين نبي ويقرون بكتاب " لأنهم من أهل الكتاب "وإ ن كانوا يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم لم تجز مناكحتهم " لأنهم مشركون(1/188)
والخلاف المنقول فيه محمول على اشتباه مذهبهم فكل أجاب على ما وقع عنده وعلى هذا حل ذبيحتهم.
قال: " ويجوز للمحرم والمحرمة أن يتزوجا في حالة الإحرام " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وتزويج الولي المحرم وليته على هذا الخلاف له قوله عليه الصلاة والسلام " لا ينكح المحرم ولا ينكح " ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج بميمونة وهو محرم وما رواه محمول على الوطء.
" ويجوز تزويج الأمة مسلمة كانت أو كتابية " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز للحر أن يتزوج بأمة كتابية لأن جواز نكاح الإماء ضروري عنده لما فيه من تعريض الجزء على الرق وقد اندفعت الضرورة بالمسلمة ولهذا جعل طول الحرة مانعا منه وعندنا الجواز مطلق لإطلاق المقتضى وفيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر لا إرقاقه وله أن لا يحصل الأصل فيكون له أن لا يحصل الوصف " ولا يتزوج أمة على حرة " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تنكح الأمة على الحرة " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في تجويزه ذلك للعبد وعلى مالك رحمه الله في تجويزه ذلك برضا الحرة ولأن للرق أثرا في تنصيف النعمة على ما نقرره في كتاب الطلاق إن شاء الله فيثبت به حل المحلية في حالة الانفراد دون حالة الانضمام.
" ويجوز تزويج الحرة عليها " لقوله عليه الصلاة والسلام " وتنكح الحرة على الأمة " ولأنها من المحللات في جميع الحالات إذ لا منصف في حقها " فإن تزوج أمة على حرة في عدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله ويجوز عندهما " لأن هذا ليس بتزوج عليها وهو المحرم ولهذا لو حلف لا يتزوج عليها لم يحنث بهذا ولأبي حنيفة رحمه الله أن نكاح الحرة باق من وجه لبقاء بعض الأحكام فيبقى المنع احتياطا بخلاف اليمين لأن المقصود أن لا يدخل غيرهما في قسمها " وللحر أن يتزوج أربعا من الحرائر والإماء وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك " لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والتنصيص على العدد يمنع الزيادة عليه وقال الشافعي رحمه الله لا يتزوج إلا أمة واحدة لأنه ضروري عنده والحجة عليه ما تلونا إذ الأمة المنكوحة ينتظمها اسم النساء كما في الظهار " ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين " وقال مالك يجوز لأنه في حق النكاح بمنزلة الحر عنده حتى ملكه بغير إذن المولى.
ولنا أن الرق منصف فيتزوج العبد اثنتين والحر أربعا إظهارا لشرف الحرية.(1/189)
" فإن طلق الحر إحدى الأربع طلاقا بائنا لم يجز له أن يتزوج رابعة حتى تنقضي عدتها " وفيه خلاف الشافعي وهو نظير نكاح الأخت في عدة الأخت.
قال: " وإن تزوج حبلى من زنا جاز النكاح ولا يطؤها حتى تضع حملها " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله النكاح فاسد "وإن كان الحمل ثابت النسب فالنكاح باطل بالإجماع " لأبي يوسف رحمه الله أن الامتناع في الأصل لحرمة الحمل وهذا الحمل محترم لأنه لا جناية منه ولهذا لم يجز إسقاطه ولهما أنها من المحللات بالنص وحرمة الوطء كيلا يسقي ماءه زرع غيره والامتناع في ثابت النسب لحق صاحب الماء ولا حرمة للزاني " فان تزوج حاملا من السبي فالنكاح فاسد " لأنه ثابت النسب " وإن زوج أم ولده وهي حامل منه فالنكاح باطل " لأنها فراش لمولاها حتى يثبت نسب ولدها منه من غير دعوة فلو صح النكاح لحصل الجمع بين الفراشين إلا أنه غير متأكد حتى ينتفي الولد بالنفي من غير لعان فلا يعتبر ما لم يتصل به الحمل.
قال: " ومن وطيء جاريته ثم زوجها جاز النكاح " لأنها ليست بفراش لمولاها فإنها لو جاءت بولد لا يثبت نسبه من غير دعوة إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائه " وإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاستبراء " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا أحب له أن يطأها حتى أن يستبرئها لأنه احتمل الشغل بماء المولى فوجب التمزه كما في الشراء ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ فلا يؤمر بالاستبراء لا استحبابا ولا وجوبا بخلاف الشراء لأنه يجوز مع الشغل " وكذا إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما وقال محمد لا أحب له أن يطأها ما لم يستبرئها " والمعنى ما ذكرنا.
قال: " ونكاح المتعة باطل " وهو أن يقول لامرأة أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال وقال مالك هو جائز لأنه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه قلنا ثبت النسخ باجماع الصحابة رضي الله عنهم وابن عباس رضي الله عنهما صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع " والنكاح المؤقت باطل " مثل أن يتزوج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيام وقال زفر هو صحيح لازم لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة.
ولنا أنه أتى بمعنى المتعة والعبرة في العقود للمعاني ولا فرق بين ما إذا طالت مدة التأقيت أو قصرت لأن التأقيت هو المعين لجهة المتعة وقد وجد " ومن تزوج امرأتين في عقدة واحدة وإحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي يحل نكاحها وبطل نكاح الأخرى "(1/190)
لأن المبطل في إحداهما بخلاف ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع لأنه يبطل بالشروط الفاسدة وقبول العقد في الحر شرط فيه ثم جميع المسمى للتي يحل نكاحها عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقسم على مهر مثليهما وهي مسئلة الأصل " ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها وأقامت بينة فجعلها القاضي امرأته ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه وأن تدعه يجامعها " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا وفي قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله لا يسعه أن يطأها وهو قول الشافعي رحمه الله لأن القاضي أخطأ الحجة إذ الشهود كذبة فصار كما إذا ظهر أنهم عبيد أو كفار ولأبي حنيفة أن للشهود صدقة عنده وهو الحجة لتعذر الوقوف على حقيقة الصدق بخلاف الكفر والرق لأن الوقوف عليهما متيسر وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنا بتقديم النكاح نفذ قطعا للمنازعة بخلاف الأملاك المرسلة لأن في الأسباب تزاحما فلا إمكان والله أعلم.(1/191)
باب في الأولياء والأكفاء
مدخل
...
باب في الأولياء والأكفاء
" وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولى بكرا كانت أو ثيبا عند أبي حنيفة وأبي يوسف " رحمهما الله " في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف " رحمه الله " أنه لا ينعقد إلا بولي وعند محمد ينعقد موقوفا " وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا لأن النكاح يراد لمقاصد والتفويض إليهن مخل بها إلا أن محمدا رحمه الله يقول يرتفع الخلل باجازة الولي ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج وإنما يطالب الولي بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز في غير الكفء لأنه كم من واقع لا يرفع ويروي رجوع محمد إلى قولهما " ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح " خلافا للشافعي رحمه الله له الاعتبار بالصغيرة وهذا لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها.
ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار والولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب فصار كالغلام وكالتصرف في المال وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة ولهذا لا يملك مع نهيها.
قال: " وإذا استأذنها الولي فسكتت أو ضحكت فهو إذن " لقوله عليه الصلاة والسلام:(1/191)
" البكر تستأمر في نفسها فإن سكتت فقد رضيت " ولأن جنية الرضا فيه راجحة لأنها تستحيي عن إظهار الرغبة لا عن الرد والضحك أدل على الرضا من السكوت بخلاف ما إذا بكت لأنه دليل السخط والكراهية وقيل إذا ضحكت كالمستهزئة بما سمعت لا يكون رضا وإذا بكت بلا صوت لم يكن ردا.
قال: " وإن فعل هذا غير الولي " يعني استأمر غير الولي " أو ولى غيره أولى منه لم يكن رضا حتى تتكلم به " لأن هذا السكوت لقلة الإلتفات إلى كلامه فلم يقع دلالة على الرضا ولو وقع فهو محتمل والاكتفاء بمثله للحاجة ولا حاجة في حق غير الأولياء بخلاف ما إذا كان المستأمر رسول الولي لأنه قائم مقامه ويعتبر في الاستثمار تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة لتظهر رغبتها فيه من رغبتها عنه " ولا تشترط تسمية المهر هو الصحيح " لأن النكاح صحيح بدونه.
" ولو زوجها فبلغها الخبر فسكتت فهو على ما ذكرنا " لأن وجه الدلالة في السكوت لا يختلف ثم المخبر إن كان فضوليا يشترط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما ولو كان رسولا لا يشترط إجماعا وله نظائر.
" ولو استأذن الثيب فلا بد من رضاها بالقول " لقوله عليه الصلاة والسلام " الثيب تشاور " ولأن النطق لا يعد عيبا منها وقل الحياء بالممارسة فلا مانع من النطق في حقها " وإذا زالت بكارتها بوثبة أو حيضة أو جراحة أو تعنيس فهي في حكم الأبكار " لأنها بكر حقيقية لأن مصيبها أول مصيب لها ومنه الباكورة والبكرة ولأنها تستحيي لعدم الممارسة.
" ولو زالت " بكارتها " بزنا فهي كذلك عند أبي حنيفة " رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لا يكتفي بسكوتها لأنها ثيب حقيقية لأن مصيبها عائد إليها ومنه المثوبة والمثابة والتثويب ولأبي حنيفة رحمه الله أن الناس عرفوها بكرا فيعيبونها بالنطق فتمتنع عنه فيكتفي بسكوتها كيلا تتعطل عليها مصالحها بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو بنكاح فاسد لأن الشرع أظهره حيث علق به أحكاما أما الزنا فقد ندب إلى ستره حتى لو اشتهر حالها لا يكتفي بسكوتها.
" وإذا قال الزوج بلغك النكاح فسكتت وقالت رددت فالقول قولها " وقال زفر رحمه الله القول قوله لأن السكوت أصل والرد عارض فصار كالمشروط له الخيار إذا ادعى الرد بعد مضي المدة ونحن نقول إنه يدعى لزوم العقد وتملك البضع والمرأة تدفعه فكانت منكرة كالمودع إذا ادعى رد الوديعة بخلاف مسئلة الخيار لأن اللزوم قد ظهر بمضي المدة(1/192)
" وإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح " لأنه نور دعواه بالحجة وإن لم تكن له بينة فلا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة وستأتيك إن شاء الله.
" ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا والولي هو العصبة " ومالك رحمه الله يخالفنا في غير الأب والشافعي رحمه الله في غير الأب والجد وفي الثيب الصغيرة أيضا وجه قول مالك إن الولاية على الحرة باعتبار الحاجة ولا حاجة هنا لانعدام الشهوة إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس والجد ليس في معناه فلا يلحق به قلنا لا بل هو موافق للقياس لأن النكاح يتضمن المصالح ولا تتوفر إلا بين المتكافئين عادة ولا يتفق الكفء في كل زمان فأثبتنا الولاية في حالة الصغر إحرازا للكفء وجه قول الشافعي رحمه الله أن النظر لا يتم بالتفويض إلى غير الأب والجد لقصور شفقته وبعد قرابته ولهذا لا يملك التصرف في المال مع انه أدنى رتبة فلأن لا يملك التصرف في النفس وأنه أعلى أولى.
ولنا أن القرابة داعية إلى النظر كما في الأب والجد وما فيه من القصور أظهرناه في سلب ولاية الإلزام بخلاف التصرف في المال فإنه يتكرر فلا يمكن تدارك الخلل فلا تفيد الولاية إلا ملزمة ومع القصور لا تثبت ولاية الإلزام وجه قوله في المسئلة الثانية أن الثيابة سبب لحدوث الرأي لوجود الممارسة فأدرنا الحكم عليها تيسيرا.
ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة ووفور الشفقة ولا ممارسة تحدث الرأي بدون الشهوة فيدار الحكم على الصغر ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم قوله عليه الصلاة والسلام " النكاح إلى العصبات" من غير فصل والترتيب في العصبات في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب.
قال: " فإن زوجهما الأب أو الجد " يعني الصغير والصغيرة " فلا خيار لهما " بعد بلوغهما لأنهما كاملا الرأي وافرا الشفقة فيلزم العقد بمباشرتهما كما إذا باشراه برضاهما بعد البلوغ " وإن زوجهما غير الأب والجد فلكل واحد منهما الخيار إذا بلغ إن شاء اقام على النكاح وإن شاء فسخ " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا خيار لهما اعتبارا بالأب والجد ولهما أن قرابة الأخ ناقصة والنقصان يشعر بقصور الشفقة فيتطرق الخلل إلى المقاصد عسى والتدارك ممكن بخيار الإدراك وإطلاق الجواب في غير الأب والجد يتناول الأم والقاضي وهو الصحيح من الرواية لقصور(1/193)
الرأي في أحدهما ونقصان الشفقة في الآخر فيتخير.
قال: " ويشترط فيه القضاء " بخلاف خيار العتق لأن الفسخ ههنا لدفع ضرر خفي وهو تمكن الخلل ولهذا يشمل الذكر والأنثى فجعل إلزاما في حق الآخر فيفتقر إلى القضاء وخيار العتق لدفع ضرر جلي وهو زيادة الملك عليها ولهذا يختص بالأنثى فاعتبر دفعا والدفع لا يفتقر إلى القضاء " ثم عندهما إذا بلغت الصغيرة وقد علمت بالنكاح فسكتت فهو رضا وإن لم تعلم بالنكاح فلها الخيار حتى تعلم فتسكت " شرط العلم بأصل النكاح لأنها لا تتمكن من التصرف إلا به والولي ينفرد به فعذرت بالجهل ولم يشترط العلم بالخيار لأنها تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع والدار دار العلم فلم تعذر بالجهل بخلاف المعتقة لأن الأمة لا تتفرغ لمعرفتها فتعذر بالجهل بثبوت الخيار " ثم خيار البكر يبطل بالسكوت ولا يبطل خيار الغلام مالم يقل رضيت أو يجيىء منه ما يعلم أنه رضا وكذلك الجارية إذا دخل بها الزوج قبل البلوغ " اعتبارا لهذه الحالة بحالة ابتداء النكاح " وخيار البلوغ في حق البكر لا يمتد إلى آخر المجلس ولا يبطل بالقيام في حق الثيب والغلام " لأنه ما ثبت بإثبات الزوج بل لتوهم الخلل فإنما يبطل بالرضا غير أن سكوت البكر رضا بخلاف خيار العتق لأنه ثبت بإثبات المولى وهو الإعتاق فيعتبر فيه المجلس كما في خيار المخيرة " ثم الفرقة بخيار البلوغ ليست بطلاق " لأنها تصح من الأنثى ولا طلاق إليها وكذا بخيار العتق لما بينا بخلاف المخيرة لأن الزوج هو الذي ملكها وهو مالك للطلاق " فإن مات أحدهما قبل البلوغ ورثه الآخر " وكذا إذا مات بعد البلوغ قبل التفريق لأن أصل العقد صحيح والملك ثابت به وقد انتهى بالموت بخلاف مباشرة الفضولي إذا مات أحد الزوجين قبل الإجازة لأن النكاح ثمة موقوف فيبطل بالموت وههنا نافذ فيتقرر به.
قال: " ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون " لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فأولى أن لا تثبت على غيرهم ولأن هذه ولاية نظرية ولا نظر في التفويض إلى هؤلا " ولا " ولاية "لكافر على مسلم" لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولهذا لا تقبل شهادته عليه ولا يتوارثان أما الكافر فتثبت له ولاية الإنكاح على ولده الكافر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [لأنفال: 73] ولهذا تقبل شهادته عليه ويجري بينهما التوارث " ولغير العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند أبي حنيفة " رحمه الله معناه عند عدم العصبات وهذا استحسان وقال محمد رحمه الله لا تثبت وهو القياس وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقول أبي يوسف في ذلك مضطرب والأشهر أنه مع محمد لهما ما روينا ولأن الولاية إنما تثبت صونا للقرابة عن نسبة غير(1/194)
الكفء إليها وإلى العصبات الصيانة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الولاية نظرية والنظر يتحقق بالتفويض إلى من هو المختص بالقرابة الباعثة على الشفقة " ومن لا ولي لها " يعني العصبة من جهة القرابة " إذا زوجها مولاها الذي أعتقها جاز " لأنه آخر العصبات " وإذا عدم الأولياء فالولاية إلى الإمام والحاكم " لقوله عليه الصلاة والسلام " السلطان ولي من لا ولي له " " فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة جاز لمن هو أبعد منه أن يزوج " وقال زفر لا يجوز لأن ولاية الأقرب قائمة لأنها ثبتت حقا له صيانة للقرابة فلا تبطل بغيبته ولهذا لو زوجها حيث هو جاز ولا ولاية للأبعد مع ولايته.
ولنا أن هذه ولاية نظرية وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه ففوضناه إلى الأبعد وهو مقدم على السلطان كما إذا مات الأقرب ولو زوجها حيث هو فيه منع وبعد التسليم نقول للأبعد بعد القرابة وقرب التدبير وللأقرب عكسه فنزلا منزلة وليين متساويين فأيهما عقد نفذ ولا يرد " والغيبة المنقطعة أن يكون في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة إلا مرة واحدة " وهو اختيار القدوري.
وقيل: أدنى مدة السفر لأنه لا نهاية لأقصاه وهو اختيار بعض المتأخرين وقيل إذا كان بحال يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه وهذا اقرب إلى الفقه لأنه لا نظر في إبقاء ولايته حينئذ " وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها فالولي في إنكاحها ابنها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله أبوها " لأنه أوفر شفقة من الابن ولهما أن الابن هو المقدم في العصوبة وهذه الولاية مبنية عليها ولا معتبر بزيادة الشفقة كأبي الأم مع بعض العصبات والله أعلم.(1/195)
فصل في الكفاءة
" الكفاءة في النكاح معتبرة " قال عليه الصلاة والسلام " ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء " ولأن انتظام المصالح بين المتكافئين عادة لأن الشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس فلا بد من اعتبارها بخلاف جانبها لأن الزوج مستفرش فلا تغيظه دناءة الفراش " وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما " دفعا لضرر العار عن أنفسهم " ثم الكفاءة تعتبر في النسب " لأنه يقع به التفاخر " فقريش بعضهم أكفاء لبعض والعرب بعضهم أكفاء لبعض " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " قريش بعضهم أكفاء لبعض بطن بيطن والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل " ولا يعتبر التفاضل فيما بين قريش لما روينا وعن(1/195)
محمد رحمه الله كذلك إلا أن يكون نسبا مشهورا كأهل بيت الخلافة كأنه قال تعظيما للخلافة وتسكينا للفتنة وبنو باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب لأنهم معروفون بالخساسة.
" وأما الموالي فمن كان له أبوان في الإسلام فصاعدا فهو من الأكفاء " يعني لمن له آباء فيه " ومن أسلم بنفسه أو له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام " لأن تمام النسب بالأب والجد وأبو يوسف ألحق الواحد بالمثنى كما هو مذهبه في التعريف " ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام " لأن التفاخر فيما بين الموالي بالإسلام والكفاءة في الحرية نظيرها في الإسلام في جميع ما ذكرنا لأن الرق أثر الكفر وفيه معنى الذل فيعتبر في حكم الكفاءة.
قال: " وتعتبر أيضا في الدين " أي الديانة وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هو الصحيح لأنه من أعلى المفاخر والمرأة تعير بفسق الزوج فوق ما تعير بضعة نسبه وقال محمد رحمه الله لا تعتبر لأنه من أمور الآخرة فلا تبتنى أحكام الدنيا عليه إلا إذا كان يصفع ويسخر منه أو يخرج إلى الأسواق سكران ويلعب به الصبيان لأنه مستخف به.
قال: " و " تعتبر " في المال وهو أن يكون مالكا للمهر والنفقة " وهذا هو المعتبر في ظاهر الرواية حتى إن من لا يملكهما أو لا يملك أحدهما لا يكون كفؤا لأن المهر بدل البضع فلا بد من إيفائه وبالنفقة قوام الازدواج ودوامه والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله لأن ما وراءه مؤجل عرفا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر لأنه تجري المساهلة في المهور ويعد المرء قادرا عليه بيسار أبيه فأما الكفاءة في الغنى فمعتبرة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى إن الفائقة في اليسار لا يكافئها القادر على المهر والنفقة لأن الناس يتفاخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر وقال أبو يوسف رحمه الله لا يعتبر
لأنه لا ثبات له إذ المال غاد ورائح " و " تعتبر " في الصنائع " وهذا عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان وعن أبي يوسف أنه لا تعتبر إلا أن تفحش كالحجام والحائك والدباغ وجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدناءتها وجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها.
قال: " وإذا تزوجت المرأة ونقصت عن مهر مثلها فللأولياء الاعتراض عليها " عند أبي حنيفة رحمه الله " حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها " وقالا ليس لهم ذلك وهذا الوضع إنما يصح على قول محمد رحمه الله على اعتبار قوله المرجوع إليه في النكاح بغير الولي وقد صح(1/196)
ذلك، وهذه شهادة صادقة عليه لهما أن ما زاد على العشرة حقها ومن أسقط حقه لا يعترض عليه كما بعد التسمية ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأولياء يفتخرون بغلاء المهر ويتعيرون بنقصانه بأشبه الكفاءة بخلاف الإبراء بعد التسمية لأنه لا يتعير به.
" وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها أو ابنه الصغير وزاد في مهر امرأته جاز ذلك عليهما ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز الحط والزيادة إلا بما يتغابن الناس فيه " ومعنى هذا الكلام أنه لا يجوز العقد عندهما لأن الولاية مقيدة بشرط النظر فعند فواته يبطل العقد وهذا لأن الحط عن مهر المثل ليس من النظر في شيء كما في البيع ولهذا لا يملك ذلك غيرهما ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحكم يدار على دليل النظر وهو قرب القرابة وفي النكاح مقاصد تربو على المهر أما المالية فهي المقصودة في التصرف المالي والدليل عدمناه في حق غيرهما.
" ومن زوج ابنته وهي صغيرة عبدا أو زوج ابنه وهو صغير أمة فهو جائز " قال رضي الله عنه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا " لأن الإعراض عن الكفاءة لمصلحة تفوقها وعندهما هو ضرر ظاهر لعدم الكفاءة فلا يجوز والله أعلم.(1/197)
فصل في الوكالة بالنكاح وغيرها
" ويجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه " وقال زفر رحمه الله لا يجوز " وإذا أذنت المرأة للرجل أن يزوجها من نفسه فعقد بحضرة شاهدين جاز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز لهما أن الواحد لا يتصور أن يكون مملكا ومتملكا كما في البيع إلا أن الشافعي رحمه الله يقول في الولي ضرورة لأنه لا يتولاه سواه ولا ضرورة في حق الوكيل.
ولنا أن الوكيل في النكاح معبر وسفير والتمانع في الحقوق دون التعيير ولا ترجع الحقوق إليه بخلاف البيع لأنه مباشر حتى رجعت الحقوق إليه وإذا تولى طرفيه فقوله زوجت يتضمن الشطرين فلا يحتاج إلى القبول.
قال: " وتزويج العبد والأمة بغير إذن مولاهما موقوف فإن أجازه المولى جاز وإن رده بطل وكذلك لو زوج رجل امرأة بغير رضاها أو رجلا بغير رضاه " وهذا عندنا فإن كل عقد صدر من الفضولي وله مجيز انعقد موقوفا على الإجازة وقال الشافعي رحمه الله تصرفات الفضولي كلها باطلة لأن العقد وضع لحكمه والفضولي لا يقدر على إثبات الحكم فيلغو ولنا أن ركن التصرف صدر من أهله مضافا إلى محله ولا ضرر في انعقاده فينعقد موقوفا حتى إذا رأى المصلحة فيه ينفذه وقد يتراخي حكم العقد عن العقد.(1/197)
" ومن قال اشهدوا أني قد تزوجت فلانة فبلغها الخبر فأجازت فهو باطل وإن قال آخر اشهدوا أني قد زوجتها منه فبلغها الخبر فأجازت جاز وكذلك إن كانت المرأة هي التي قالت جميع ذلك " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله إذا زوجت نفسها غائبا فبلغه فأجازه جاز.
وحاصل هذا أن الواحد لا يصلح فضوليا من الجانبين أو فضوليا من جانب وأصيلا من جانب عندهما خلافا له ولو جرى العقد بين الفضوليين أو بين الفضولي والأصيل جاز بالإجماع هو يقول لو كان مأمورا من الجانبين ينفذ فإذا كان فضوليا بتوقف وصار كالخلع والطلاق والإعتاق على مال ولهما أن الموجود شطر العقد لأنه شطر حالة الحضرة فكذا عند الغيبة وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس كما في البيع بخلاف المأمور من الجانبين فإنه ينتقل كلامه إلى العاقدين وما جرى بين الفضوليين عقد تام وكذا الخلع وأختاه لأنه تصرف يمين من جانبه حتى يلزم فيتم به.
" ومن أمر رجلا أن يزوجه امرأة فزوجه اثنتين في عقدة لم تلزمه واحدة منهما " لأنه لا وجه إلى تنفيذهما للمخالفة ولا إلى التنفيذ في إحداهما غير عين للجهالة ولا إلى التعيين لعدم الأولوية فتعين التفريق.
" ومن أمره أمير بأن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " رجوعا إلى إطلاق اللفظ وعدم التهمة " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز إلا أن يزوجه كفؤا " لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف وهو التزوج بالأكفاء قلنا العرف مشترك أو هو عرف عملي فلا يصلح مقيدا وذكر في الوكالة أن اعتبار الكفاءة في هذا استحسان عندهما لأن كل أحد لا يعجز عن التزوج بمطلق الزوج فكانت الاستعانة في التزوج بالكفء والله أعلم.(1/198)
باب المهر
مدخل
...
باب المهر
" ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرا " لأن النكاح عقد انضمام وازدواج لغة فيتم بالزوجين ثم المهر واجب شرعا إبانة لشرف المحل فلا يحتاج إلى ذكره لصحة النكاح وكذا إذا تزوجها بشرط أن لا مهر لها لما بينا وفيه خلاف مالك رحمه الله.
" وأقل المهر عشرة دراهم " وقال الشافعي رحمه الله ما يجوز أن يكون ثمنا في البيع يجوز أن يكون مهرا لها لأنه حقها فيكون التقدير إليها ولنا قوله عليه الصلاة والسلام(1/198)
" ولا مهر أقل من عشرة " ولأنه حق الشرع وجوبا إظهارا لشرف المحل فيتقدر بماله خطر وهو العشرة استدلالا بنصاب السرقة.
" ولو سمي أقل من عشرة فلها العشرة " عندنا وقال زفر رحمه الله لها مهر المثل لأن تسمية مالا يصلح مهرا كانعدامه ولنا أن فساد هذه التسمية لحق الشرع وقد صار مقضيا بالعشرة فأما ما يرجع إلى حقها فقد رضيت بالعشرة لرضاها بما دونها ولا معتبر بعدم التسمية لأنها قد ترضى بالتمليك من غير عوض تكرما ولا ترضى فيه بالعوض اليسير ولو طلقها قبل الدخول بها تجب خمسة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وعنده تجب المتعة كما إذا لم يسم شيئا.
" ومن سمى مهرا عشرة فما زاد فعليه المسمى إن دخل بها أو مات عنها " لأنه بالدخول يتحقق تسليم المبدل وبه يتأكد البدل وبالموت ينتهي النكاح نهايته والشيء بانتهائه يتقرر ويتأكد فيتقرر بجميع مواجبه " وإن طلقها قبل الدخول بها والخلوة فلها نصف المسمى " لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، والأقيسة متعارضة ففيه تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره وفيه عود المعقود عليه إليها سالما فكان المرجع فيه النص وشرط أن يكون قبل الخلوة لأنها كالدخول عندنا على ما نبينه إن شاء الله تعالى قال: " وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا أو تزوجها على أن لا مهر لها فلها مهر مثلها إن دخل بها أو مات عنها " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب شيء في الموت وأكثرهم على أنه يجب في الدخول له أن المهر خالص حقها فتتمكن من نفيه ابتداء كما تتمكن من إسقاطه انتهاء ولنا أن المهر وجوبا حق الشرع على ما مر وإنما يصير حقا لها في حالة البقاء فتملك الإبراء دون النفي "ولو طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة" لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] الآية ثم هذه المتعة واجبة رجوعا إلى الأمر وفيه خلاف مالك رحمه الله.
" والمتعة ثلاثة أثواب من كسوة مثلها " وهي درع وخمار وملحفة وهذا التقدير مروي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وقوله من كسوة مثلها إشارة إلى أنه يعتبر حالها وهو قول الكرخي رحمه الله في المتعة الواجبة لقيامها مقام مهر المثل والصحيح أنه يعتبر حاله عملا بالنص وهو قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ثم هي لا تزاد على نصف مهر مثلها ولا تنقص عن خمسة دراهم ويعرف ذلك في الأصل " وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم تراضيا على تسميته فهي لها إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة " وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الأول نصف(1/199)
هذا المفروض وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه مفروض فيتنصف بالنص ولنا أن هذا الفرض تعيين للواجب بالعقد وهو مهر المثل وذلك لا يتنصف فكذا ما نزل منزلته والمراد بما تلا الفرض في العقد إذ هو الفرض المتعارف.
قال: " فإن زاد لها في المهر بعد العقد لزمته الزيادة " خلافا لزفر رحمه الله وسنذكره في زيادة الثمن والمثمن إن شاء الله وإذا صحت الزيادة " تسقط بالطلاق قبل الدخول " وعلى قول أبي يوسف رحمه الله أولا تتنصف مع الأصل لأن التنصيف عندهما يختص بالمفروض في العقد وعنده المفروض بعده كالمفروض فيه على ما مر " وإن حطت عنه من مهرها صح الحط " لأن المهر بقاء حقها والحط يلاقيه حالة البقاء "وإذا خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء ثم طلقها فلها كمال المهر " وقال الشافعي رحمه الله لها نصف المهر لأن المعقود عليه إنما يصير مستوفى بالوطء فلا يتأكد المهر دونه.
ولنا أنها سلمت المبدل حيث رفعت الموانع وذلك وسعها فيتأكد حقها في البدل اعتبارا بالبيع " وإن كان أحدهما مريضا أو صائما في رمضان أو محرما بحج فرض أو نفل أو بعمرة أو كانت حائضا فليست الخلوة صحيحة " حتى لو طلقها كان لها نصف المهر لأن هذه الأشياء موانع.
أما المرض فالمراد منه ما يمنع الجماع أو يلحقه به ضرر وقيل مرضه لا يعري عن تكسر وفتور وهذا التفصيل في مرضها وصوم رمضان لما يلزمه من القضاء والكفارة والإحرام لما يلزمه من الدم وفساد النسك والقضاء والحيض مانع طبعا وشرعا " وإن كان أحدهما صائما تطوعا فلها المهر كله " لأنه يباح له الإفطار من غير عذر في رواية المنتقي وهذا القول في المهر هو الصحيح وصوم القضاء والمنذور كالتطوع في رواية لأنه لا كفارة فيه والصلاة بمنزلة الصوم فرضها كفرضه ونفلها كنفله.
" وإذا خلا المجبوب بامرأته ثم طلقها فلها كمال المهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه نصف المهر " لأنه أعجز من المريض بخلاف العنين لأن الحكم أدير على سلامة الآلة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المستحق عليها التسليم في حق السحق وقد أتت به. قال: " وعليها العدة في جميع هذه المسائل " احتياطا استحسانا لتوهم الشغل والعدة حق الشرع الولد فلا يصدق في إبطال حق الغير بخلاف المهر لأنه مال لا يحتاط في إيجابه وذكر القدوري رحمه الله في شرحه أن المانع إن كان شرعيا كالصوم والحيض تجب العدة لثبوت التمكن حقيقة وإن كان حقيقيا كالمرض والصغر لا تجب لانعدام التمكن حقيقة.(1/200)
قال: " وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا لمطلقة واحدة وهي التي طلقها الزوج قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرا " وقال الشافعي رحمه الله تجب لكل مطلقة إلا لهذه لأنها وجبت صلة من الزوج لأنه أوحشها بالفراق إلا أن في هذه الصورة نصف المهر طريقه المتعة لأن الطلاق فسخ في هذه الحالة والمتعة لا تتكرر.
ولنا أن المتعة خلف عن مهر المثل في المفوضة لأنه سقط مهر المثل ووجبت المتعة والعقد يوجب العوض فكان خلفا والخلف لا يجامع الأصل ولا شيئا منه فلا تجب مع وجوب شيء من المهر وهو غير جان في الإيحاش فلا تلحقه الغرامة به فكان من باب الفضل " وإذا زوج الرجل بنته على أن يزوجه الآخر بنته أو أخته ليكون أحد العقدين عوضا عن الآخر فالعقدان جائزان ولكل واحدة منهما مهر مثلها " وقال الشافعي رحمه الله بطل العقدان لأنه جعل نصف البضع صداقا والنصف منكوحة ولا اشتراك في هذا الباب فبطل الإيجاب.
ولنا أنه سمى مالا يصح صداقا فيصح العقد ويجب مهر المثل كما إذا سمى الخمر والخنزير ولا شركة بدون الاستحقاق " وإن تزوج حر امرأة على خدمته إياها سنة أو على تعليم القرآن فلها مهر مثلها وقال محمد رحمه الله لها قيمة خدمته سنة وإن تزوج عبد امرأة بإذن مولاه على خدمته سنة جاز ولها خدمته " وقال الشافعي رحمه الله لها تعليم القرآن والخدمة في الوجهين لأن ما يصح أخذ العوض عنه بالشرط يصلح مهرا عنده لأن بذلك تتحقق المعاوضة وصار كما إذا تزوجها على خدمة حر آخر برضاه أو على رعي الزوج غنمها.
ولنا أن المشروع إنما هو الإبتغاء بالمال والتعليم ليس بمال وكذلك المنافع على أصلنا وخدمة العبد ابتغاء بالمال لتضمنه تسليم رقبته ولا كذلك الحر ولأن خدمة الزوج الحر لا يجوز استحقاقها بعقد النكاح لما فيه من قلب الموضوع بخلاف خدمة حر آخر برضاه لأنه لا مناقضة وبخلاف خدمة العبد لأنه يخدم مولاه معنى حيث يخدمها بإذنه وبأمره وبخلاف رعي الأغنام لأنه من باب القيام بأمور الزوجية فلا مناقضة على أنه ممنوع في رواية ثم على قول محمد رحمه الله تجب قيمة الخدمة لأن المسمى مال إلا أنه عجز عن التسليم لمكان المناقضة فصار كالتزوج على عبد الغير وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجب مهر المثل لأن الخدمة ليست بمال إذ لا تستحق فيه بحال فصار كتسمية الخمر والخنزير وهذا لأن تقومه بالعقد للضرورة فإذا لم يجب تسليمه بالعقد لم يظهر(1/201)
تقومه فيبقى الحكم للأصل وهو مهر المثل " فإن تزوجها على ألف فقبضتها ووهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بخمسمائة " لأنه لم يصل إليه بالهبة عين ما يستوجبه لأن الدراهم والدنانير لا تتعينان في العقود والفسوخ وكذا إذا كان المهر مكيلا أو موزونا أو شيئا آخر في الذمة لعدم تعينها " فإن لم تقبض الألف حتى وهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء " وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق وهو قول زفر رحمه الله لأنه سلم المهر له بالإبراء فلا تبرأعما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وجه الاستحسان أنه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وهو براءة ذمته عن نصف المهر ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود " ولو قبضت خمسمائة ثم وهبت الألف كلها المقبوض وغيره أو وهبت الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يرجع عليها بنصف ما قبضت " اعتبارا للبعض بالكل ولأن هبة البعض حط فيلتحق بأصل العقد ولأبي حنيفة رحمه الله أن مقصود الزوج قد حصل وهو سلامة نصف الصداق بلا عوض فلا يستوجب الرجوع عند الطلاق والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق حتى لا تتنصف ولو كانت وهبت أقل من النصف وقبضت الباقي فعنده يرجع عليها إلى تمام النصف وعندهما ينصف المقبوض " ولو كان تزوجها على عرض فقبضته أو لم تقبض فوهبت له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء " وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله يرجع عليها بنصف قيمته لأن الواجب فيه رد نصف عين المهر على ما مر تقريره وجه الاستحسان أن حقه عند الطلاق سلامة نصف المقبوض من جهتها وقد وصل إليه ولهذا لم يكن لها دفع شيء آخر مكانه بخلاف ما إذا كان المهر دينا وبخلاف ما إذا باعت من زوجها لأنه وصل إليه ببدل.
" ولو تزوجها على حيوان أو عروض في الذمة فكذلك الجواب " لأن المقبوض متعين في الرد وهذا لأن الجهالة تحملت في النكاح فإذا عين فيه يصير كأن التسمية وقعت عليه.
" وإذا تزوجها على ألف على أن لا يخرجها من البلدة أو على أن لا يتزوج عليها أخرى فإن وفى بالشرط فلها المسمى " لأنه صلح مهرا وقد تم رضاها به " وإن تزوج عليها أخرى أو أخرجها فلها مهر مثلها " لأنه سمى مالها فيه نفع فعند فواته ينعدم رضاها بالألف فيكمل مهر مثلها كما في تسمية الكرامة والهدية مع الألف.
" ولو تزوجها على ألف إن أقام بها وعلى ألفين إن أخرجها فإن أقام بها فلها الألف وإن أخرجها فلها مهر المثل لا يزاد على الألفين ولا ينقص عن الألف وهذا عند(1/202)
أبي حنيفة رحمه الله وقالا الشرطان جميعا جائزان " حتى كان لها الألف إن أقام بها والألفان إن أخرجها وقال زفر رحمه الله الشرطان جميعا فاسدان ويكون لها مهر مثلها لا ينقص من ألف ولا يزاد على ألفين وأصل المسئلة في الإجارات في قوله إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم وسنبينها فيه إن شاء الله.
" ولو تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد فإذا أحدهما أوكس والآخر أرفع فإن كان مهر مثلها أقل من أوكسهما فلها الأوكس وإن كان أكثر من أرفعهما فلها الأرفع وإن كان بينهما فلها مهر مثلها " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لها الأوكس في ذلك كله " فإن طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الأوكس في ذلك كله بالإجماع " لهما أن المصير إلى مهر المثل لتعذر إيجاب المسمى وقد أمكن إيجاب الأوكس إذ الأقل متيقن فصار كالخلع والإعتاق على مال ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموجب الأصلي مهر المثل إذ هو الأعدل والعدول عنه عند صحة التسمية وقد فسدت لمكان الجهالة بخلاف الخلع والإعتاق على مال لأنه لا موجب له في البدل إلا أن مهر المثل إذا كان أكثر من الأرفع فالمرأة رضيت بالحط وإن كان أنقص من الأوكس فالزوج رضي بالزيادة والواجب في الطلاق قبل الدخول في مثله المتعة ونصف الأوكس يزيد عليها في العادة فوجب لاعترافه بالزيادة.
" وإذا تزوجها على حيوان غير موصوف صحت التسمية ولها الوسط منه والزوج مخير إن شاء أعطاها ذلك وإن شاء أعطاها قيمته " قال رحمه الله معنى هذه المسئلة أن يسمى جنس الحيوان دون الوصف بأن يتزوجها على فرس أو حمار أما إذا لم يسم الجنس بأن يتزوجها على دابة لا تجوز التسمية ويجب مهر المثل وقال الشافعي رحمه الله يجب مهر المثل في الوجهين جميعا لأن عنده مالا يصلح ثمنا في البيع لا يصلح مسمى في النكاح إذ كل واحد منهما معاوضة.
ولنا أنه معاوضة مال بغير مال فجعلنا التزام المال ابتداء حتى لا يفسد بأصل الجهالة كالدية والأقارير وشرطنا أن يكون المسمى مالا وسطه معلوم رعاية للجانبين وذلك عند إعلام الجنس لأنه يشتمل على الجيد والرديء والوسط ذو حظ منهما بخلاف جهالة الجنس لأنه لا وسط له لاختلاف معاني الأجناس وبخلاف البيع لأن مبناه على المضايقة والمماكسة أما النكاح فمبناه على المسامحة وإنما يتخير لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة فصارت أصلا في حق الإيفاء والعبد أصل تسمية فيتخير بينهما.(1/203)
" وإن تزوجها على ثوب غير موصوف فلها مهر المثل " ومعناه أنه ذكر الثوب ولم يزد عليه ووجهه أن هذه جهالة الجنس لأن الثياب أجناس ولو سمى جنسا بأن قال هروي يصح التسمية ويخير الزوج لما بينا وكذا إذا بالغ في وصف الثوب في ظاهر الرواية لأنها ليست من ذوات الأمثال وكذا إذا سمى مكيلا أو موزونا وسمى جنسه دون صفته وإن سمى جنسه وصفته لا يخير لأن الموصوف منهما يثبت في الذمة ثبوته صحيحا.
" وإن تزوج مسلم على خمر أو خنزير فالنكاح جائز ولها مهر مثلها " لأن شرط قبول الخمر شرط فاسد فيصح النكاح ويلغو الشرط بخلاف البيع لأنه يبطل بالشروط الفاسدة لكن لم تصح التسمية لما أن المسمى ليس بمال في حق المسلم فوجب مهر المثل.
" فإن تزوج امرأة على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر فلها مهر مثلها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لها مثل وزنه خلا وإن تزوجها على هذا العبد فإذا هو حر يجب مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف تجب القيمة " لأبي يوسف أنه أطمعها مالا وعجز عن تسليمه فتجب قيمته أو مثله إن كان من ذوات الأمثال كما إذا هلك العبد المسمى قبل التسليم وأبو حنيفة رحمه الله يقول اجتمعت الإشارة والتسمية فتعتبر الإشارة لكونها أبلغ في المقصود وهو التعريف فكأنه تزوج على خمر أو حر ومحمد رحمه الله يقول الأصل أن المسمى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلق العقد بالمشار إليه لأن المسمى موجود في المشار إليه ذاتا والوصف يتبعه وإن كان من خلاف جنسه يتعلق بالمسمى لأن المسمى مثل للمشار إليه وليس بتابع له والتسمية أبلغ في التعريف من حيث إنها تعرف الماهية والإشارة تعرف الذات ألا ترى أن من اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد لاختلاف الجنس ولو اشترى على أنه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر ينعقد العقد لاتحاد الجنس وفي مسئلتنا العبد مع الحر جنس واحد لقلة التفاوت في المنافع والخمر مع الخل جنسان لفحش التفاوت في المقاصد.
" فإن تزوجها على هذين العبدين فإذا أحدهما حر فليس لها إلا الباقي إذا ساوى عشرة دراهم عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنه مسمى ووجوب المسمى وإن قل يمنع وجوب مهر المثل " وقال أبو يوسف لها العبد وقيمة الحر لو كان عبدا " لأنه أطمعها سلامة العبدين وعجز عن تسليم أحدهما فتجب قيمته " وقال محمد " رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله " لها العبد الباقي وتمام مهر مثلها إن كان مهر مثلها أكثر من قيمة العبد " لأنهما لو كانا حرين يجب تمام مهر المثل عنده فإذا كان أحدهما عبدا يجب العبد وتمام مهر المثل.(1/204)
" وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها " لأن المهر فيه لا يجب بمجرد العقد لفساده وإنما يجب باستيفاء منافع البضع " وكذا بعد الخلوة " لأن الخلوة فيه لا يثبت بها التمكن فلا تقام مقام الوطء " فإن دخل بها فلها مهر مثلها لا يزاد على المسمى " عندنا خلافا لزفر رحمه الله هو يعتبره بالبيع الفاسد.
ولنا أن المستوفى ليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية فإذا زادت على مهر المثل لم تجب
الزيادة لعدم صحة التسمية وإن نقصت لم تجب الزيادة على المسمى لانعدام التسمية بخلاف البيع لأنه مال متقوم في نفسه فيتقدر بدله بقيمته " وعليها العدة " إلحاقا للشبهة بالحقيقة في موضع الاحتياط وتحرزا عن اشتباه النسب " ويعتبر ابتداؤها من وقت التفريق لا من آخر الوطآت " هو الصحيح لأنها تجب باعتبار شبهة النكاح ورفعها بالتفريق " ويثبت نسب ولدها " لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد فيترتب على الثابت من وجه وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد رحمه الله وعليه الفتوى لأن النكاح الفاسد ليس بداع إليه والإقامة باعتباره.
قال: " ومهر مثلها يعتبر بأخواتها وعماتها وبنات أعمامها " لقول ابن مسعود رحمه الله لها مهر مثل نسائها لا وكس فيه ولا شطط وهن أقارب الأب ولأن الإنسان من جنس قوم أبيه وقيمة الشيء إنما تعرف بالنظر في قيمة جنسه " ولا يعتبر بأمها وخالتها إذا لم تكونا من قبيلتها " لما بينا " فإن كانت الأم من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه فحينئذ يعتبر بمهرها " لما أنها من قوم ابيها " ويعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والمال والعقل والدين والبلد والعصر " لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف وكذا يختلف باختلاف الدار والعصر قالوا ويعتبر التساوي أيضا في البكارة لأنه يختلف بالبكارة والثيوبة.
" وإذا ضمن الولي المهر صح ضمانه " لأنه من أهل الالتزام وقد أضافه إلى ما يقبله فيصح " ثم المرأة بالخيار في مطالبتها زوجها أو وليها " اعتبارا بسائر الكفالات ويرجع الولي إذا أدى على الزوج إن كان بأمره كما هو الرسم في الكفالة وكذلك يصح هذا الضمان وإن كانت الزوجة صغيرة بخلاف ما إذا باع الأب مال الصغير وضمن الثمن لأن الولي سفير ومعبر في النكاح وفي البيع عاقد ومباشر حتى ترجع العهدة عليه والحقوق إليه ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويملك قبضه بعد بلوغه فلو صح الضمان يصير(1/205)
ضامنا لنفسه وولاية قبض المهر للأب بحكم الأبوة باعتبار أنه عاقد ألا ترى أنه لا يملك القبض بعد بلوغها فلا يصير ضامنا لنفسه.
قال: " وللمرأة أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر وتمنعه أن يخرجها " أي يسافر بها ليتعين حقها في البدل كما تعين حق الزوج في المبدل وصار كالبيع " وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر كله " أي المعجل منه لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق وليس له حق الاستيفاء قبل الإيفاء " ولو كان المهر كله مؤجلا ليس لها أن تمنع نفسها " لإسقاطها حقها بالتأجيل كما في البيع وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله وإن دخل بها فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس لها أن تمنع نفسها والخلاف فيما إذا كان الدخول برضاها حتى لو كانت مكرهة أو كانت صبية أو مجنونة لا يسقط في حقها الحبس بالاتفاق وعلى هذا الخلاف الخلوة بها برضاها ويبتني على هذا استحقاق النفقة لهما أن المعقود عليه كله قد صار مسلما إليه بالوطأة الواحدة وبالخلوة ولهذا يتأكد بها جميع المهر فلم يبق لها حق الحبس كالبائع إذا سلم البيع وله أنها منعت منه ما قابل البدل لأن كل وطأة تصرف في البضع المحترم فلا يخلى عن العوض إبانة لخطره والتأكيد بالواحدة لجهالة ما وراءها فلا يصلح مزاحما للمعلوم ثم إذا وجد آخر وصار معلوما تحققت المزاحمة وصار المهر مقابلا بالكل كالعبد إذا جنى جناية يدفع كله بها ثم إذا جنى جناية أخرى وأخرى يدفع بجميعها " وإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء " لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وقيل لا يخرجها إلى بلد غير بلدها لأن الغريبة تؤذى وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة.
قال: " ومن تزوج امرأة ثم اختلفا في المهر فالقول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها والقول قول الزوج فيما زاد على مهر المثل وإن طلقها قبل الدخول بها فالقول قوله في نصف المهر وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف القول قوله بعد الطلاق وقبله إلا أن يأتي بشيء قليل " ومعناه مالا يتعارف مهرا لها هو الصحيح لأبي يوسف أن المرأة تدعي الزيادة والزوج ينكر والقول قول المنكر مع يمينه إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فيه وهذا لأن تقوم منافع البضع ضروري فمتى أمكن إيجاب شيء من المسمى لا يصار إليه ولهما أن القول في الدعاوي قول من يشهد له الظاهر والظاهر شاهد لمن يشهد له مهر المثل لأنه هو الموجب الأصلي في باب النكاح وصار كالصباغ مع رب الثوب إذا اختلفا في مقدار الأجر يحكم فيه قيمة الصبغ ثم ذكر ههنا أن بعد الطلاق(1/206)
قبل الدخول القول قوله في نصف المهر وهذا رواية الجامع الصغير والأصل وذكر في الجامع الكبير أنه يحكم متعة مثلها وهو قياس قولهما لأن المتعة موجبة بعد الطلاق كمهر المثل قبله فتحكم كهو ووجه التوفيق أنه وضع المسئلة في الأصل في الألف والألفين والمتعة لا تبلغ هذا المبلغ في العادة فلا يفيد تحكيمها ووضعها في الجامع الكبير في العشرة والمائة ومتعة مثلها عشرون فيفيد تحكيمها والمذكور في الجامع الصغير ساكت عن ذكر المقدار فيحمل على ما هو المذكور في الأصل وشرح قولهما فيما إذا اختلفا في حال قيام النكاح أن الزوج إذا ادعى الألف والمرأة الألفين فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فالقول قوله وإن كان ألفين أو أكثر فالقول قولها وأيهما اقام البينة في الوجهين تقبل وإن أقاما البينة في الوجه الأول تقبل بينتها لأنها تثبت الزيادة وفي الوجه الثاني بينته لأنها تثبت الحط وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة تحالفا وإذا حلفا يجب ألف وخمسمائة هذا تخريج الرازي وقال الكرخي رحمه الله يتحالفان في الفصول الثلاثة لم يحكم مهر المثل بعد ذلك " ولو كان الاختلاف في أصل المسمى يجب مهر المثل بالإجماع " لأنه هو الأصل عندهما وعنده تعذر القضاء بالمسمى فيصار إليه " ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما فالجواب فيه كالجواب في حياتهما " لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط بموت أحدهما " ولو كان الاختلاف بعد موتهما في المقدار فالقول قول ورثة الزوج " عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يستثنى القليل وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الورثة إلا أن يأتوا بشيء قليل وعند محمد الجواب فيه كالجواب في حالة الحياة وإن كان في أصل المسمى فعند أبي حنيفة رحمه الله القول قول من أنكره.
فالحاصل أنه لا حكم لمهر المثل عنده بعد موتهما على ما نبينه من بعد إن شاء الله " وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا فلورثتها أن يأخذوا ذلك من ميراث الزوج وإن لم يسم لها مهرا فلا شيء لورثتها عند أبي حنيفة وقالا لورثتها المهر في الوجهين " معناه المسمى في الوجه الأول ومهر المثل في الوجه الثاني.
أما الأول: فلأن المسمى دين في ذمته وقد تأكد بالموت فيقضى من تركته إلا إذا علم أنها ماتت أولا فيسقط نصيبه من ذلك.
وأما الثاني: فوجه قولهما أن مهر المثل صار دينا في ذمته كالمسمى فلا يسقط بالموت كما إذا مات أحدهما ولأبي حنيفة رحمه الله أن موتهما يدل على انقراض أقرانهما فبمهر من يقدر القاضي مهر المثل " ومن بعث إلى امرأته شيئا فقالت هو هدية وقال الزوج(1/207)
هو من المهر فالقول قوله " لأنه هو المملك فكان أعرف بجهة التمليك كيف وأن الظاهر أنه يسعى في إسقاط الواجب.
قال: " إلا في الطعام الذي يؤكل فإن القول قولها " والمراد منه ما يكون مهيأ للأكل لأنه يتعارف هدية فأما في الحنطة والشعير فالقول قوله لما بينا وقيل ما يجب عليه من الخمار والدرع وغيرهما ليس له أن يحتسبه من المهر لأن الظاهر يكذبه والله أعلم.(1/208)
فصل إذا تزوج النصراني النصرانية على ميتة وغيرها
...
فصل
" وإذا تزوج النصراني نصرانية على ميتة أو على غير مهر وذلك في دينهم جائز ودخل بها أو طلقها قبل الدخول بها أو مات عنها فليس لها مهر وكذلك الحربيان في دار الحرب " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما في الحربيين وأما في الذمية فلها مهر مثلها إن مات عنها أو دخل بها والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها وقال زفر رحمه الله لها مهر المثل في الحربيين أيضا له أن الشرع ما شرع ابتغاء النكاح إلا بالمال وهذا الشرع وقع عاما فيثبت الحكم على العموم ولهما أن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام وولاية الإلزام منقطعة لتباين الدار بخلاف أهل الذمة لأنهم التزموا أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالربا والزنا وولاية الإلزام متحققة لاتحاد الدار ولأبي حنيفة رحمه الله أن أهل الذمة لا يلتزمون أحكامنا في الديانات وفيما يعتقدون خلافه في المعاملات وولاية الإلزام بالسيف وبالمحاجة وكل ذلك منقطع عنهم باعتبار عقد الذمة فإنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فصاروا كأهل الحرب بخلاف الزنا لأنه حرام في الأديان كلها والربا مستثنى عن عقودهم لقوله عليه الصلاة والسلام " ألا من أربى فليس بيننا وبينه عهد " وقوله في الكتاب أو على غير مهر يحتمل نفي المهر ويحتمل السكوت وقد قيل في الميتة والسكوت روايتان والأصح أن الكل على الخلاف.
" فإن تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير ثم اسلما أو اسلم أحدهما فلها الخمر والخنزير " ومعناه إذا كانا بأعيانهما والإسلام قبل القبض وإن كانا بغير أعيانهما فلها في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله لها مهر المثل في الوجهين وقال محمد لها القيمة في الوجهين وجه قولهما أن القبض مؤكد للملك في المقبوض فيكون له شبه بالعقد فيمتنع بسبب الإسلام كالعقد وصار كما إذا كانا بغير أعيانهما وإذا التحقت حالة القبض بحالة العقد فأبو يوسف رحمه الله يقول لو كانا مسلمين وقت العقد يجب مهر المثل فكذا ههنا(1/208)
ومحمد رحمه الله يقول صحت التسمية لكون المسمى مالا عندهم إلا أنه امتنع التسليم للإسلام فتجب القيمة كما إذا هلك العبد المسمى قبل القبض ولأبي حنيفة رحمه الله أن الملك في الصداق المعين يتم بنفس العقد ولهذا تملك التصرف فيه وبالقبض ينتقل من ضمان الزوج إلى ضمانها وذلك لا يمتنع بالإسلام كاسترداد الخمر المغصوبة وفي غير المعين القبض يوجب ملك العين فيمتنع بالإسلام بخلاف المشتري لأن ملك التصرف فيه إنما يستفاد بالقبض وإذا تعذر القبض في غير المعين لا تجب القيمة في الخنزير لأنه من ذوات القيم فيكون أخذ قيمته كأخذ عينه ولا كذلك الخمر لأنها من ذوات الأمثال ألا ترى أنه لو جاء بالقيمة قبل الإسلام تجبر على القبول في الخنزير دون الخمر ولو طلقها قبل الدخول بها فمن أوجب مهر المثل أوجب المتعة ومن أوجب القيمة أوجب نصفها والله أعلم.(1/209)
باب نكاح الرقيق
" لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما " وقال مالك رحمه الله يجوز للعبد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ولأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه بدون إذن مولاهما " وكذلك المكاتب " لأن الكتابة أوجبت فك الحجر في حق الكسب فبقي في حق النكاح على حكم الرق ولهذا لا يملك المكاتب تزويج عبده ويملك تزويج أمته لأنه من باب الاكتساب وكذا المكاتبة لا تملك تزويج نفسها بدون إذن المولى وتملك تزويج أمتها لما بينا " و " كذا " المدبر وأم الولد " لأن الملك فيهما قائم.
" وإذا تزوج العبد بإذن مولاه فالمهر دين في رقبته يباع فيه " لأن هذا دين وجب في رقبة العبد لوجود سببه من أهله وقد ظهر في حق المولى لصدور الإذن من جهته فيتعلق برقبته دفعا للمضرة عن أصحاب الديون كما في دين التجارة " والمدبر والمكاتب يسعيان في المهر ولا يباعان فيه " لأنهما لا يحتملان النقل من ملك إلى ملك مع بقاء الكتابة والتدبير فيؤدي من كسبهما لا من نفسهما.
" وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فقال المولى طلقها أو فارقها فليس هذا بإجازة " لأنه يحتمل الرد لأن رد هذا العقد ومتاركته يسمى طلاقا ومفارقة وهو أليق بحال العبد المتمرد أو هو أدنى فكان الحمل عليه أولى " وإن قال طلقها تطليقة تملك الرجعة فهو إجازة " لأن الطلاق الرجعي لا يكون إلا في نكاح صحيح فتتعين الإجازة.(1/209)
" ومن قال لعبده تزوج هذه الأمة فتزوجها نكاحا فاسدا ودخل بها فإنه يباع في المهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يؤخذ منه إذا عتق " وأصله أن الإذن في النكاح ينتظم الفاسد والجائز عنده فيكون هذا المهر ظاهرا في حق المولى وعندهما ينصرف إلى الجائز لا غير فلا يكون ظاهرا في حق المولى فيؤاخذ به بعد العتاق لهما أن المقصود من النكاح في المستقبل الإعفاف والتحصين وذلك بالجائز ولهذا لو حلف لا يتزوج ينصرف إلى الجائز بخلاف البيع لأن بعض المقاصد حاصل وهو ملك التصرفات وله أن اللفظ مطلق فيجري على إطلاقه كما في البيع وبعض المقاصد في النكاح الفاسد حاصل كالنسب ووجوب المهر والعدة على اعتبار وجود الوطء ومسئلة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة.
" ومن زوج عبدا مأذونا له مديونا امرأة جاز والمرأة أسوة للغرماء في مهرها " ومعناه إذا كان النكاح بمهر المثل ووجهه أن سبب ولاية المولى ملكه الرقبة على ما نذكره والنكاح لا يلاقي حق الغرماء بالإبطال مقصودا إلا أنه إذا صح النكاح وجب الدين بسبب لا مرد له فشابه دين الاستهلاك وصار كالمريض المديون إذا تزوج امرأة فبمهر مثلها أسوة للغرماء.
" ومن زوج أمته فليس عليه أن يبوئها بيت الزوج لكنها تخدم المولى ويقال للزوج متى ظفرت بها وطئتها " لأن حق المولى في الاستخدام باق والتبوئة إبطال له " فإن بوأها معه بيتا فلها النفقة والسكنى وإلا فلا " لأن النفقة تقابل الاحتباس " ولو بوأها بيتا ثم بدا له أن يستخدمها له ذلك " لأن الحق باق لبقاء الملك فلا يسقط بالتبوئة كما لا يسقط بالنكاح.
قال رضي الله عنه: " ذكر تزويج المولى عبده وأمته ولم يذكر رضاهما " وهذا يرجع إلى مذهبنا أن للمولى إجبارهما على النكاح وعند الشافعي رحمه الله لا إجبار في العبد وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله لأن النكاح من خصائص الآدمية والعبد داخل تحت ملك المولى من حيث إنه مال فلا يملك إنكاحه بخلاف الأمة لأنه مالك منافع بضعها فيملك تمليكها ولنا أن الإنكاح إصلاح ملكه لأن فيه تحصينه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك أو النقصان فيملكه اعتبارا بالأمة بخلاف المكاتب والمكاتبة لأنهما التحقا بالأحرار تصرفا فيشترط رضاهما.
قال: " ومن زوج أمته ثم قتلها قبل أن يدخل بها زوجها فلا مهر لها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه المهر لمولاها " اعتبارا بموتها حتف أنفها وهذا لأن المقتول ميت بأجله فصار كما إذا قتلها أجنبي وله أنه منع المبدل قبل التسليم فيجازى بمنع(1/210)
البدل كما إذا ارتدت الحرة والقتل في أحكام الدنيا جعل إتلافا حتى وجب القصاص والدية فكذا في حق المهر " وإن قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها فلها المهر " خلافا لزفر رحمه الله هو يعتبره بالردة وبقتل المولى أمته والجامع ما بيناه ولنا أن جناية المرء على نفسه غير معتبرة في حق أحكام الدنيا فشابه موتها حتف أنفها بخلاف قتل المولى أمته لأنه معتبر في حق أحكام الدنيا حتى تجب الكفارة عليه.
" وإذا تزوج أمة فالإذن في العزل إلى المولى " عند أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن الإذن في العزل إليها لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة وفي العزل تنقيص حقها فيشترط رضاها كما في الحرة بخلاف الأمة المملوكة لأنه لا مطالبة لها فلا يعتبر رضاها وجه ظاهر الرواية أن العزل يخل بمقصود الولد وهو حق المولى فيعتبر رضاه وبهذا فارقت الحرة.
" وإن تزوجت أمة بإذن مولاها ثم أعتقت فلها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا " لقوله عليه الصلاة والسلام لبريرة حين عتقت " ملكت بضعك فاختاري " فالتعليل بملك البضع صدر مطلقا فينتظم الفصلين والشافعي رحمه الله يخالفنا فيما إذا كان زوجها حرا وهو محجوج به ولأنه يزداد الملك عليها عند العتق فيملك الزوج بعده ثلاث تطليقات فتملك رفع أصل العقد دفعا للزيادة " وكذلك المكاتبة " يعني إذا تزوجت بإذن مولاها ثم عتقت وقال زفر رحمه الله لا خيار لها لأن العقد نفذ عليها برضاها وكان المهر لها فلا معنى لإثبات الخيار بخلاف الأمة لأنه لا يعتبر رضاها ولنا أن العلة ازدياد الملك وقد وجدناها في المكاتبة لأن عدتها قرءان وطلاقها ثنتان.
" وإن تزوجت أمة بغير إذن مولاها ثم أعتقت صح النكاح " لأنها من أهل العبارة وامتناع النفوذ لحق المولى وقد زال " ولا خيار لها " لأن النفوذ بعد العتق فلا تتحقق زيادة الملك كما إذا زوجت نفسها بعد العتق " فإن كانت تزوجت بغير إذنه على ألف ومهر مثلها مائة فدخل بها زوجها ثم أعتقها مولاها فالمهر للمولى لأنه استوفى منافع مملوكة للمولى وإن لم يدخل بها حتى أعتقها فالمهر لها " لأنه استوفى منافع مملوكة لها والمراد بالمهر الألف المسمى لأن نفاذ العقد بالعتق استند إلى وقت وجود العقد فصحت التسمية ووجب المسمى ولهذا لم يجب مهر آخر بالوطء في نكاح موقوف لأن العقد قد اتحد باستناد النفاذ فلا يوجب إلا مهرا واحدا.
" ومن وطئ أمة ابنه فولدت منه فهي أم ولد له وعليه قيمتها ولا مهر عليه " ومعنى المسئلة أن يدعيه الأب ووجهه أن له ولاية تملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء فله تملك(1/211)
جاريته الحاجة إلى صيانة الماء غير أن الحاجة إلى إبقاء نسله دونها إلى إبقاء نفسه فلهذا يتملك الجارية بالقيمة والطعام بغير القيمة ثم هذا الملك يثبت قبيل الاستيلاد شرطا له إذ المصحح حقيقة الملك أو حقه وكل ذلك غير ثابت للأب فيها حتى يجوز له التزوج بها فلا بد من تقديمه فتبين أن الوطء يلاقي ملكه فلا يلزمه العقر وقال زفر والشافعي رحمهما الله يجب المهر لأنهما يثبتان الملك حكما للاستيلاد كما في الجارية المشتركة وحكم الشيء يعقبه والمسئلة معروفة. قال: " ولو كان الابن زوجها أباه فولدت لم تصر أم ولد له ولا قيمة عليه وعليه المهر وولدها حر " لأنه صح التزوج عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لخلوها عن ملك الأب ألا يرى أن الابن ملكها من كل وجه فمن المحال أن يملكها الأب من وجه وكذا يملك من التصرفات مالا يبقى معه ملك الأب لو كان فدل ذلك على انتفاء ملكه إلا أنه يسقط الحد للشبهة فإذا جاز النكاح صار ماؤه مصونا به فلم يثبت ملك اليمين فلا تصير أم ولد له ولا قيمة عليه فيها ولا في ولدها لأنه لم يملكهما وعليه المهر لالتزامه بالنكاح وولدها حر لأنه ملكة أخوه فيعتق عليه بالقرابة.
قال: " وإذا كانت الحرة تحت عبد فقالت لمولاة أعتقه عني بألف ففعل فسد النكاح " وقال زفر رحمه الله لا يفسد وأصله أنه يقع العتق عن الآمر عندنا حتى يكون الولاء له ولو نوى به الكفارة يخرج عن عهدتها وعنده يقع عن المأمور لأنه طلب أن يعتق المأمور عبده عنه وهذا محال لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فلم يصح الطلب فيقع العتق عن المأمور ولنا أنه أمكن تصحيحه بتقديم الملك بطريق الاقتضاء إذ الملك شرط لصحة العتق عنه فيصير قوله أعتق طلب التمليك منه بالألف ثم أمره بإعتاق عبد الآمر عنه وقوله أعتقت تمليكا منه ثم الإعتاق عنه وإذا ثبت الملك للآمر فسد النكاح للتنافي بين الملكين.
" ولو قالت أعتقه عني ولم تسم مالا لم يفسد النكاح والولاء للمعتق " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هذا والأول سواء لأنه يقدم التمليك بغير عوض تصحيحا لتصرفه ويسقط اعتبار القبض كما إذا كان عليه كفارة ظهار فأمر غيره أن يطعم عنه ولهما أن الهبة من شرطها القبض بالنص فلا يمكن إسقاطه ولا إثباته اقتضاء لأنه فعل حسي بخلاف البيع لأنه تصرف شرعي وفي تلك المسئلة الفقير ينوب عن الأمر في القبض أما العبد فلا يقع في يده شيء لينوب عنه.(1/212)
باب نكاح أهل الشرك
" وإذا تزوج الكافر بغير شهود أو في عدة كافر وذلك في دينهم جائز ثم أسلما أقرا(1/212)
عليه " وهذا عند أبي حنيفة وقال زفر رحمه الله النكاح فاسد في الوجهين إلا أنه لا يتعرض لهم قبل الإسلام والمرافعة إلى الحكام وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في الوجه الأول كما قال أبو حنيفة رحمه الله وفي الوجه الثاني كما قال زفر رحمه الله له أن الخطابات عامة على ما مر من قبل فتلزمهم وإنما لا يتعرض لهم لذمتهم إعراضا لا تقريرا فإذا ترافعوا أو أسلموا والحرمة قائمة وجب التفريق ولهما أن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليها فكانوا ملتزمين لها وحرمة النكاح بغير شهود مختلف فيها ولم يلتزموا أحكامنا بجميع الاختلافات ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحرمة لا يمكن إثباتها حقا للشرع لأنهم لا يخاطبون بحقوقه ولا وجه إلى إيجاب العدة حقا للزوج لأنه لا يعتقده بخلاف ما إذا كانت تحت مسلم لأنه يعتقده وإذا صح النكاح فحالة المرافعة والإسلام حالة البقاء والشهادة ليست شرطا فيها وكذا العدة لا تنافيها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة " فإذا تزوج المجوسي أمه أو ابنته ثم أسلما فرق بينهما " لأن نكاح المحارم له حكم البطلان فيما بينهم عندهما كما ذكرنا في العدة ووجب التعرض بالإسلام فيفرق وعنده له حكم الصحة في الصحيح إلا أن المحرمية تنافي بقاء النكاح فيفرق بخلاف العدة لأنها لا تنافيه ثم بإسلام أحدهما يفرق بينهما وبمرافعة أحدهما لا يفرق عنده خلافا لهما والفرق أن استحقاق أحدهما لا يبطل بمرافعة صاحبه إذ لا يتغير به اعتقاده أما اعتقاد المصر بالكفر لا يعارض إسلام المسلم لأن الإسلام يعلو ولا يعلى ولو ترافعا يفرق بالإجماع لأن مرافعتهما كتحكيمهما.
" ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة " لأنه مستحق للقتل والإمهال ضرورة التأمل والنكاح يشغله عنه فلا يشرع في حقه " وكذا المرتدة لا يتزوجها مسلم ولا كافر " لأنها محبوسة للتأمل وخدمة الزوج تشغلها عنه ولأنه لا ينتظم بينهما المصالح والنكاح ما شرع لعينه بل لمصالحه " فإن كان أحد الزوجين مسلما فالولد على دينه وكذلك إن أسلم أحدهما وله ولد صغير صار ولده مسلما بإسلامه " لأن في جعله تبعا له نظرا له " ولو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا فالولد كتابي " لأنه فيه نوع نظر له إذ المجوسية شر والشافعي رحمه الله يخالفنا فيه للتعارض ونحن بينا الترجيح.
" وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض القاضي عليه الإسلام فإن أسلم فهي امرأته وإن أبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليها الإسلام فإن أسلمت فهي امرأته وإن أبت فرق القاضي بينهما ولم تكن الفرقة بينهما طلاقا " وقال أبو يوسف رحمه الله لا تكون الفرقة طلاقا في الوجهين أما العرض فمذهبنا وقال الشافعي رحمه الله لا يعرض الإسلام لأن فيه تعرضا لهم، وقد(1/213)
ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم إلا أن ملك النكاح قبل الدخول غير متأكد فينقطع بنفس الإسلام وبعده متأكد فيتأجل إلى انقضاء ثلاث حيض كما في الطلاق.
ولنا أن المقاصد قد فاتت فلا بد من سبب يبتني عليه الفرقة والإسلام طاعة لا يصلح سببا لها فيعرض الإسلام لتحصل المقاصد بالإسلام أو تثبت الفرقة بالإباء وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الفرقة بسبب يشترك فيه الزوجان فلا يكون طلاقا كالفرقة بسبب الملك ولهما أن بالإباء امتنع الزوج عن الإمساك بالمعروف مع قدرته عليه بالإسلام فينوب القاضي منابه في التسريح كما في الجب والعنة.
أما المرأة فليست بأهل للطلاق فلا ينوب القاضي منابها عند إبائها " ثم إذا فرق القاضي بينهما بإبائها فلها المهر إن كان دخل بها " لتأكده بالدخول " وإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها " لأن الفرقة من قبلها والمهر لم يتأكد فأشبه الردة والمطاوعة " وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر أو أسلم الحربي وتحته مجوسية لم تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض ثم تبين من زوجها " وهذا لأن الإسلام ليس سببا للفرقة والعرض على الإسلام متعذر لقصور الولاية ولا بد من الفرقة دفعا للفساد فأقمنا شرطها وهو مضي الحيض مقام السبب كما في حفر البئر ولا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها والشافعي رحمه الله يفصل كما مر له في دار الإسلام وإذا وقعت الفرقة والمرأة حربية فلا عدة عليها وإن كانت هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وسيأتيك إن شاء الله تعالى.
" وإذا أسلم زوج الكتابية فهما على نكاحهما " لأنه يصح النكاح بينهما ابتداء فلأن يبقى أولى قال: " وإذا خرج أحد الزوجين إلينا من دار الحرب مسلما وقعت البينونة بينهما " وقال الشافعي لا تقع " ولو سبي أحد الزوجين وقعت البينونة بينهما بغير طلاق وإن سبيا معا لم تقع البينونة " وقال الشافعي رحمه الله وقعت.
فالحاصل أن السبب هو التباين دون السبي عندنا وهو يقول بعكسه له أن التباين أثره في انقطاع الولاية وذلك لا يؤثر في الفرقة كالحربي المستأمن والمسلم المستأمن أما السبي فيقتضي الصفاء للسابي ولا يتحقق إلا بانقطاع النكاح ولهذا يسقط الدين عن ذمة المسبي.
ولنا أن مع التباين حقيقة وحكما لا تنتظم المصالح فشابه المحرمية والسبي يوجب ملك الرقبة وهو لا ينافي النكاح ابتداء فكذلك بقاء فصار كالشراء ثم هو يقتضي الصفاء في محل عمله وهو المال لا في محل النكاح وفي المستأمن لم تتباين الدار حكما لقصده(1/214)
الرجوع " وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة جاز لها أن تتزوج ولا عدة عليها " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليها العدة لأن الفرقة وقعت بعد الدخول في دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام ولأبي حنيفة رحمه الله أنها أثر النكاح المتقدم وجبت إظهارا لخطره ولا خطر لملك الحربي ولهذا لا تجب العدة على المسبية " وإن كانت حاملا لم تتزوج حتى تضع حملها " وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح النكاح ولا يقربها زوجها حتى تضع حملها كما في الحبلى من الزنا وجه الأول أنه ثابت النسب فإذا ظهر الفراش في حق النسب يظهر في حق المنع من النكاح احتياطا.
قال: " وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة بغير طلاق " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله إن كانت الردة من الزوج فهي فرقة بطلاق هو يعتبره بالإباء والجامع ما بيناه وأبو يوسف رحمه الله مر على ما أصلنا له في الإباء وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينهما ووجه الفرق أن الردة منافية للنكاح لكونها منافية للعصمة والطلاق رافع فتعذر أن تجعل طلاقا بخلاف الإباء لأنه يفوت الإمساك بالمعروف فيجب التسريح بالإحسان على ما مر ولهذا تتوقف الفرقة بالإباء على القضاء ولا تتوقف بالردة " ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها كل المهر إن دخل بها ونصف المهر إن لم يدخل بها وإن كانت هي المرتدة فلها كل المهر إن دخل بها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها ولا نفقة " لأن الفرقة من قبلها.
قال: " وإذا ارتدا معا ثم أسلما معا فهما على نكاحهما " استحسانا. وقال زفر رحمه الله يبطل لأن ردة أحدهما منافية وفي ردتهما ردة أحدهما.
ولنا ما روي أن بني حنيفة ارتدوا ثم أسلموا ولم يأمرهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بتجديد الأنكحة والارتداد منهم واقع معا لجهالة التاريخ ولو أسلم أحدهما بعد الارتداد معا فسد النكاح بينهما لإصرار الآخر على الردة لأنه مناف كابتدائها.(1/215)
باب القسم
" وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما في القسم بكرين كانتا أو ثيبين أو إحداهما بكرا والأخرى ثيبا " لقوله عليه الصلاة والسلام " من كانت له امرأتان ومال إلى إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وشقه مائل " وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعدل في القسم بين نسائه وكان يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك " يعني زيادة المحبة ولا فصل فيما روينا، والقديمة والجديدة(1/215)
سواء لإطلاق ما روينا ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج لأن المستحق هو التسوية دون طريقة والتسوية المستحقة في البيتوتة لا في المجامعة لأنها تبتني على النشاط " وإذا كانت إحداهما حرة والأخرى أمة فللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث " بذلك ورد الأثر ولأن حل الأمة أنقص من حل الحرة فلا بد من إظهار النقصان في الحقوق والمكاتبة والمدبرة وأم الولد بمنزلة الأمة لأن الرق فيهن قائم.
قال: " ولا حق لهن في القسم حالة السفر فيسافر الزوج بمن شاء منهن والأولى أن يقرع بينهن فيسافر بمن خرجت قرعتها " وقال الشافعي رحمه الله القرعة مستحقة لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه إلا أنا نقول إن القرعة لتطييب قلوبهن فيكون من باب الاستحباب وهذا لأنه لا حق للمرأة عند مسافرة الزوج ألا يرى أن له أن لا يستصحب واحدة منهن فكذا له أن يسافر بواحدة منهن ولا يحتسب عليه بتلك المدة " وإن رضيت إحدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز " لأن سودة بنت زمعة رضي الله عنها سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يراجعها وتجعل يوم نوبتها لعائشة رضي الله عنها " ولها أن ترجع في ذلك " لأنها أسقطت حقا لم يجب بعد فلا يسقط والله أعلم.(1/216)
كتاب الرضاع
ما يحرم بالرضاع
...
كتاب الرضاع
قال: " قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع تعلق به التحريم " وقال الشافعي رحمه الله لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان " ولنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الآية وقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " من غير فصل ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية الثابتة بنشوز العظم وإنبات اللحم لكنه أمر مبطن فتعلق الحكم بفعل الإرضاع وما رواه مردود بالكتاب أو منسوخ به وينبغي أن يكون في مدة الرضاع لما نبين " ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنتان " وهو قول الشافعي رحمه الله وقال زفر رحمه الله ثلاثة أحوال لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فيقدر به ولهما قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] ومدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان وقال النبي عليه الصلاة والسلام " لا رضاع بعد حولين " وله هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين إلا انه قام المنقص في أحدهما فبقي في الثاني على ظاهره ولأنه لا بد من تغير الغذاء لينقطع الإنبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيره فقدرت بأدنى مدة الحمل لأنها مغيرة فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع كما يغاير غذاء الفطيم والحديث محمول على مدة الاستحقاق وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب.
قال: " وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا رضاع بعد الفصال " ولأن الحرمة باعتبار النشوء وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله إذا استغنى عنه ووجهه انقطاع النشوء بتغير الغذاء وهل يباح الإرضاع بعد المدة فقيل لا يباح لإن إباحته ضررية لكونه جزء الآدمي.
قال: " ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " للحديث الذي روينا " إلا أم أخته من(1/217)
الرضاع فإنه يجوز أن يتزوجها ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب" لأنها تكون أمه أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع.
"ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع ولا يجوز ذلك من النسب " لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع " وامرأة أبيه أو امرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك من النسب " لما روينا وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما بيناه "ولبن الفحل يتعلق به التحريم وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها وعلى آبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبا للمرضعة " وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لبن الفحل لا يحرم لأن الحرمة لشبهة البعضية واللبن بعضها لا بعضه ولنا ما روينا والحرمة بالنسب من الجانبين فكذا بالرضاع وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة " ولأنه سبب لنزول اللبن منها فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطا.
" ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع " لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب وذلك مثل الأخ من الأب إذا كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها " وكل صبيين اجتمعا على ثدي امرأة واحدة لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى " هذا هو الأصل لأن أمهما واحدة فهما أخ وأخت "ولا يتزوج المرضعة أحد من ولد التي أرضعت " لأنه أخوها " ولا ولد ولدها " لأنه ولد أخيه " ولا يتزوج الصبي المرضع أخت زوج المرضعة " لأنها عمته من الرضاع.
" وإذا اختلط اللبن بالماء واللبن هو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه موجود فيه حقيقة ونحن نقول المغلوب غير موجود حكما حتى لا يظهر في مقابلة الغالب كما في اليمين " وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم " وإن كان اللبن غالبا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إذا كان اللبن غالبا يتعلق به التحريم قال رضي الله عنه قولهما فيما إذا لم تمسه النار حتى لو طبخ بها لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعا لهما أن العبرة للغالب كما في الماء إذا لم يغيره شيء عن حاله ولأبي حنيفة رحمه الله أن الطعام أصل واللبن تابع له في حق المقصود فصار كالمغلوب ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده هو الصحيح لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل " وإن اختلط بالدواء واللبن غالب تعلق به التحريم " لأن اللبن يبقى مقصودا فيه إذ الدواء لتقويته على الوصول " وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة وهو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب لبن الشاة لم يتعلق به التحريم " اعتبارا للغالب كما في الماء " وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق(1/218)
التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف رحمه الله " لأن الكل صار شيئا واحدا فيجعل الأقل تابعا للأكثر في بناء الحكم عليه " وقال محمد " وزفر رحمهما الله " يتعلق التحريم بهما " لأن الجنس لا يغلب الجنس فإن الشيء لا يصير مستهلكا في جنسه لاتحاد المقصود وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان وأصل المسئلة في الأيمان.
" وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا تعلق به التحريم " لإطلاق النص ولأنه سبب النشوء فتثبت به شبهة البعضية " وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها فأوجر الصبي تعلق به التحريم " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول الأصل في ثبوت الحرمة إنما هو المرأة ثم تتعدى إلى غيرها بواسطتها وبالموت لم تبق محلا لها ولهذا لا يوجب وطؤها حرمة المصاهرة ولنا أن السبب هو شبهة الجزئية وذلك في اللبن لمعنى الإنشاز والإنبات وهو قائم باللبن وهذه الحرمة تظهر في حق الميتة دفنا وتيمما أما الحرمة في الوطء لكونه ملاقيا لمحل الحرث وقد زال بالموت فافترقا.
" وإذا احتقن الصبي باللبن لم يتعلق به التحريم " وعن محمد رحمه الله أنه تثبت به الحرمة كما يفسد به الصوم ووجه الفرق على الظاهر أن المفسد في الصوم إصلاح البدن ويوجد ذلك في الدواء فأما المحرم في الرضاع فمعنى النشوء ولا يوجد ذلك في الاحتقان لأن المغذى وصوله من الأعلى.
" وإذا نزل للرجل لبن فأرضع به صبيا لم يتعلق التحريم " لأنه ليس بلبن على التحقيق فلا يتعلق به النشوء والنمو وهذا لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة " وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم " لأنه لا جزئية بين الآدمي والبهائم والحرمة باعتبارها.
" وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج " لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا وذلك حرام كالجمع بينهما نسبا " ثم إن لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها " لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها " وللصغيرة نصف المهر " لأن الفرقة وقعت لا من جهتها والاتضاع وإن كان فعلا منها لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها " ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد وإن لم تتعمد فلا شيء عليها وإن علمت بأن الصغيرة امرأته " وعن محمد رحمه الله أنه يرجع في الوجهين والصحيح ظاهر الرواية لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر وذلك يجري مجرى الإتلاف لكنها مسببة فيه إما لأن الإرضاع ليس(1/219)
بإفساد للنكاح وضعا وإنما ثبت ذلك باتفاق الحال أو لأن إفساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر بل هو سبب لسقوطه إلا أن نصف المهر يجب بطريق المتعة على ما عرف لكن من شرطه إبطال النكاح وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح وقصدت بالإرضاع الفساد أما إذا لم تعلم بالنكاح أو علمت بالنكاح ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الفساد لا تكون متعدية لأنها مأمورة بذلك ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا وهذا منا اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد لا لدفع الحكم.
" ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات وإنما تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين " وقال مالك رحمه الله تثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة لأن الحرمة حق من حقوق الشرع فتثبت بخبر الواحد كمن اشترى لحما فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي ولنا أن ثبوت الحرمة لا يقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين بخلاف اللحم لأن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك فاعتبر أمرا دينيا والله أعلم بالصواب.(1/220)
كتاب الطلاق
باب طلاق السنة
مدخل
...
كتاب الطلاق
باب طلاق السنة
قال: " الطلاق على ثلاثة أوجه حسن وأحسن وبدعي فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها " لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه أبعد من الندامة وأقل ضررا بالمرأة ولا خلاف لأحد في الكراهة.
" والحسن هو طلاق السنة وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار " وقال مالك رحمه الله إنه بدعة ولا يباح إلا واحدة لأن الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص وقد اندفعت بالواحدة.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما " إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة " ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع فالحاجة كالمتكررة نظرا إلى دليلها ثم قيل الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر احترازا عن تطويل العدة والأظهر أن يطلقها كما طهرت لأنه لو أخر ربما يجامعها ومن قصده التطليق فيبتلى بالإيقاع عقيب الوقاع " وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو ثلاثا في طهر واحد فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيا " وقال الشافعي رحمه الله كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكم والمشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في حالة الحيض لأن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاق.
ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث وهي في المفرق على الأطهار ثابتة نظرا إلى دليلها والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها والمشروعية في ذاته من حيث أنه إزالة الرق لا تنافي الحظر لمعنى في غيره وهو(1/221)
ما ذكرناه وكذا إيقاع الثنتين في الطهر الواحد بدعة لما قلنا.
واختلفت الرواية في الواحدة البائنة قال في الأصل إنه أخطأ السنة لأنه لا حاجة إلى إثبات صفة زائدة في الخلاص وهي البينونة وفي الزيادات أنه لا يكره للحاجة إلى الخلاص ناجزا " والسنة في الطلاق من وجهين سنة في الوقت وسنة في العدد فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها " وقد ذكرناها " والسنة في الوقت تثبت في المدخول بها خاصة وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه " لأن المراعى دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع.
أما زمان الحيض فزمان النفرة وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة " وغير المدخول بها يطلقها في حالة الطهر والحيض " خلافا لزفر رحمه الله وهو يقيسها على المدخول بها.
ولنا أن الرغبة في غير المدخول بها صادقة لا تقل بالحيض مالم يحصل مقصوده منها وفي المدخول بها تتجدد بالطهر.
قالك " وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر فأراد أن يطلقها ثلاثا للسنة طلقها واحدة فإذا مضى شهر طلقها أخرى فإذا مضى شهر طلقها أخرى " لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى أن قال: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ] [الطلاق: 4] والإقامة في حق الحيض خاصة حتى يقدر الاستبراء في حقها بالشهر وهو بالحيض لا بالطهر ثم إن كان الطلاق في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة وإن كان في وسطه فبالأيام في حق التفريق وفي حق العدة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يكمل الأول بالأخير والمتوسطان بالأهلة وهي مسئلة الإجارات.
قال: " ويجوز أن يطلقها ولا يفصل بين وطئها وطلاقها بزمان " وقال زفر رحمه الله يفصل بينهما بشهر لقيامه مقام الحيض ولأن بالجماع تفتر الرغبة وإنما تتجدد بزمان وهو الشهر.
ولنا أنه لا يتوهم الحبل فيها والكراهية في ذوات الحيض باعتباره لأن عند ذلك يشتبه وجه العدة والرغبة وإن كانت تفتر من الوجه الذي ذكر لكن تكثر من وجه آخر لأنه يرغب في وطء غير معلق فرارا عن مؤن الولد فكان الزمان زمان رغبة فصار كزمان الحبل " وطلاق الحامل يجوز عقب الجماع " لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة وزمان الحبل زمان الرغبة في الوطء لكونه غير معلق أو يرغب فيها لمكان ولده منها فلا تقل الرغبة بالجماع " ويطلقها(1/222)
للسنة ثلاثا يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله " وقال محمد رحمه الله وزفر " لا يطلقها للسنة إلا واحدة " لأن الأصل في الطلاق الحظر وقد ورد الشرع بالتفريق على فصول العدة والشهر في حق الحامل ليس من فصولها فصار كالممتد طهرها ولهما أن الإباحة بعلة الحاجة والشهر دليلها كما في حق الآيسة والصغيرة وهذا لأنه زمان تجدد الرغبة على ما عليه الجبلة السلمية فصلح علما ودليلا بخلاف الممتد طهرها لأن العلم في حقها إنما هو الطهر وهو مرجو فيها في كل زمان ولا يرجى مع الحبل " وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق " لأن النهي عنه لمعنى في غيره وهو ما ذكرناه فلا ينعدم مشروعيته " ويستحب له أن يراجعها " لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر " مر ابنك فليراجعها وقد طلقها في حالة الحيض " وهذا يفيد الوقوع والحث على الرجعة ثم الاستحباب قول بعض المشايخ والأصح أنه واجب عملا بحقيقة الأمر ورفعا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره وهو العدة ودفعا لضرر تطويل العدة.
قال: " فإذا طهرت وحاضت ثم طهرت فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها " قال رضي الله عنه " وهكذا ذكر في الأصل وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الأولى " قال أبو الحسن الكرخي ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة وما ذكر في الأصل قولهما ووجه المذكور في الأصل أن السنة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة والفاصل ههنا بعض الحيضة فتكمل بالثانية ولا تتجزأ فتتكامل وإذا تكاملت الحيضة الثانية فالطهر الذي يليه زمان السنة فأمكن تطليقها على وجه السنة.
ووجه القول الآخر أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة فصار كأنه لم يطلقها في الحيض فيسن تطليقها في الطهر الذي يليه " ومن قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة " لأن اللام فيه للوقت ووقت السنة طهر لا جماع فيه " وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة أو عند رأس كل شهر واحدة فهو على ما نوى " سواء كانت في حالة الحيض أو في حالة الطهر وقال زفر رحمه الله لا تصح نية الجمع لأنه بدعة وهي ضد السنة.
ولنا أنه محتمل لفظه لأنه سني وقوعا من حيث أن وقوعه بالسنة لا إيقاعا فلم يتناوله مطلق كلامه وينتظمه عند نيته " وإن كانت آيسة أو من ذوات الأشهر وقعت الساعة واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى " لأن الشهر في حقها دليل الحاجة كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بينا " وإن نوى أن يقع الثلاث الساعة وقعن عندنا خلافا لزفر لما قلنا " بخلاف ما إذا قال أنت طالق للسنة ولم ينص على الثلاث حيث لا تصح نية الجمع فيه لأن نية(1/223)
الثلاث إنما صحت فيه من حيث إن اللام فيه للوقت فيفيد تعميم الوقت ومن ضرورته تعميم الواقع فيه فإذا نوى الجمع بطل تعميم الوقت فلا تصح نية الثلاث.(1/224)
فصل ويقع طلاق كل زوج ألخ
...
فصل
" ويقع طلاق كل زوج إذا كان عاقلا بالغا ولا يقع طلاق الصبي والمجنون والنائم " لقوله عليه الصلاة والسلام " كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون " ولأن الأهلية بالعقل المميز وهما عديما العقل والنائم عديم الاختيار.
" وطلاق المكره واقع " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إن الإكراه لا يجامع الاختيار وبه يعتبر التصرف الشرعي بخلاف الهازل لأنه مختار في التكلم بالطلاق ولنا أنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته فلا يعرى عن قضيته دفعا لحاجته اعتبار بالطائع وهذا لأنه عرف الشرين واختار أهونهما وهذا آية القصد والاختيار إلا أنه غير راض بحكمه وذلك غير مخل به كالهازل.
" وطلاق السكران واقع " واختيار الكرخي والطحاوي رحمهما الله انه لا يقع وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله لأن صحة القصد بالعقل وهو زائل العقل فصار كزواله بالبنج والدواء.
ولنا أنه زال بسبب هو معصية فجعل باقيا حكما زجرا له حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع نقول إنه لا يقع طلاقه.
" وطلاق الأخرس واقع بالإشارة " لأنها صارت معهودة فأقيمت مقام العبارة دفعا للحاجة وستأتيك وجوهه في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى " وطلاق الأمة ثنتان حرا كان زوجها أو عبدا وطلاق الحرة ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا " وقال الشافعي رحمه الله عدد الطلاق معتبر بحال الرجال لقوله عليه الصلاة والسلام " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء " ولأن صفة المالكية كرامة والآدمية مستدعية لها ومعنى الآدمية في الحر أكمل فكانت مالكيته أبلغ وأكثر.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان " ولأن حل المحلية نعمة في حقها وللرق أثر في تنصيف النعم إلا أن العقدة لا تتجزأ فتكاملت عقدتان وتأويل ما روى أن الإيقاع بالرجال.
" وإذا تزوج العبد امراة بإذن مولاه وطلقها وقع طلاقه ولا يقع طلاق مولاه على امرأته " لأن ملك النكاح حق العبد فيكون الإسقاط إليه دون المولى.(1/224)
باب ايقاع الطلاق
مدخل
...
باب إيقاع الطلاق
" الطلاق على ضربين صريح وكناية فالصريح قوله أنت طالق ومطلقة وطلقتك فهذا يقع به الطلاق الرجعي " لأن هذه الألفاظ تستعمل في الطلاق ولا تستعمل في غيره فكان صريحا وأنه يعقب الرجعة بالنص " ولا يفتقر إلى النية " لأنه صريح فيه لغلبة الاستعمال " وكذا إذا نوى الإبانة " لأنه قصد تنجيز ما علقه الشرع بانقضاء العدة فيرد عليه.
" ولو نوى الطلاق عن وثاق لم يدين في القضاء " لأنه خلاف الظاهر " ويدين فيما بينه وبين الله تعالى " لأنه نوى ما يحتمله " ولو نوى به الطلاق عن العمل لم يدين في القضاء فيما بينه وبين الله تعالى " لأن الطلاق لرفع القيد وهي غير مقيدة بالعمل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يستعمل للتخليص.
" ولو قال أنت مطلقة " بتسكين الطاء " لا يكون طلاقا إلا بالنية " لأنها غير مستعملة فيه عرفا فلم يكن صريحا.
قال: " ولا يقع به إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك " وقال الشافعي رحمه الله يقع ما نوى لأنه محتمل لفظه فإن ذكر الطالق ذكر للطلاق لغة كذكر العالم ذكر للعلم ولهذا يصح قران العدد به فيكون نصبا على التمييز.
ولنا أنه نعت فرد حتى قيل للمثنى طالقان وللثلاث طوالق فلا يحتمل العدد لأنه ضده وذكر الطالق ذكر لطلاق هو صفة للمرأة لا لطلاق هو تطليق والعدد الذي يقترن به نعت لمصدر محذوف معناه طلاقا ثلاثا كقولك أعطيته جزيلا أي عطاء جزيلا.
" ولو قال أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق أو أنت طالق طلاقا فإن لم تكن له نية أو نوى واحدة أو ثنتين فهي واحدة رجعية وإن نوى ثلاثا فثلاث " ووقوع الطلاق باللفظة الثانية والثالثة ظاهر لأنه لو ذكر النعت وحده يقع به الطلاق فإذا ذكره وذكر المصدر معه وأنه يزيده وكادة أولى.
وأما وقوعه باللفظة الأولى فلأن المصدر قد يذكر ويراد به الاسم يقال رجل عدل أي عادل فصار بمنزلة قوله أنت طالق وعلى هذا لو قال أنت طلاق يقع الطلاق به أيضا ولا يحتاج فيه إلى النية ويكون رجعيا لما بينا أنه صريح الطلاق لغلبة الاستعمال فيه وتصح نية الثلاث لأن المصدر يحتمل العموم والكثرة لأنه اسم جنس فيعتبر بسائر أسماء الأجناس فيتناول الأدنى مع احتمال الكل ولا تصح نية الثنتين فيها خلافا لزفر رحمه الله هو يقول إن الثنتين بعض الثلاث فلما صحت نية الثلاث صحت نية بعضها ضرورة ونحن نقول نية(1/225)
الثلاث إنما صحت لكونها جنسا حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين باعتبار معنى الجنسية أما الثنتان في حق الحرة فعدد واللفظ لا يحتمل العدد وهذا لأن معنى التوحد يراعى في ألفاظ الوحدان وذلك بالفردية أو الجنسية والمثنى بمعزل منهما.
" ولو قال أنت طالق الطلاق وقال أردت بقولي طالق واحدة وبقولي الطلاق أخرى يصدق " لأن كل واحد منهما صالح للايقاع فكأنه قال أنت طالق وطالق فتقع رجعيتان إذا كانت مدخولا بها.
" وإذا أضاف الطلاق إلى جملتها أو إلى ما يعبر به عن الجملة وقع الطلاق " لأنه أضيف إلى محله " وذلك مثل أن يقول أنت طالق " لأن التاء ضمير المرأة " أو " يقول " رقبتك طالق أو عنقك " طالق أو رأسك طالق " أو روحك أو بدنك أو جسدك أو فرجك أو وجهك " لأنه يعبر بها عن جميع البدن أما الجسد والبدن فظاهر وكذا غيرهما قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقال: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وقال عليه الصلاة والسلام " لعن الله الفروج على السروج " ويقال فلان رأس القوم ويا وجه العرب وهلك روحه بمعنى نفسه ومن هذا القبيل الدم في رواية يقال دمه هدر ومنه النفس وهو ظاهر " وكذلك إن طلق جزءا شائعا منها مثل أن يقول نصفك أو ثلثك طالق " لأن الجزء الشائع محل لسائر التصرفات كالبيع وغيره فكذا يكون محلا للطلاق إلا أنه لا يتجزأ في حق الطلاق فيثبت في الكل ضرورة.
" ولو قال يدك طالق أو رجلك طالق لم يقع الطلاق " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يقع وكذا الخلاف في كل جزء معين لا يعبر به عن جميع البدن لهما أنه جزء مستمتع بعقد النكاح وما هذا حاله يكون محلا لحكم النكاح فيكون محلا للطلاق فيثبت الحكم فيه قضية للإضافة ثم يسري إلى الكل كما في الجزء الشائع بخلاف ما إذا أضيف إليه النكاح لأن التعدي ممتنع إذ الحرمة في سائر الأجزاء تغلب الحل في هذا الجزء وفي الطلاق الأمر على القلب.
ولنا أنه أضاف الطلاق إلى غير محله فيلغو كما إذا أضافه إلى ريقها أو ظفرها وهذا لأن محل الطلاق ما يكون فيه القيد لأنه ينبي عن رفع القيد ولا قيد في اليد ولهذا لا تصح إضافة النكاح إليه بخلاف الجزء الشائع لأنه محل للنكاح عندنا حتى تصح إضافته إليه فكذا يكون محلا للطلاق واختلفوا في الظهر والبطن والأظهر أنه لا يصح لأنه لا يعبر بهما عن جميع البدن " وإن طلقها نصف تطليقة أو ثلثها كانت طالقا تطليقة واحدة" لأن الطلاق(1/226)
لا يتجزأ وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل وكذا الجواب في كل جزء سماه لما بينا.
" ولو قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثا " لأن نصف التطليقتين تطليقة فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات ضرورة " ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة قيل يقع تطليقتان " لأنها طلقة ونصف فيتكامل وقيل يقع ثلاث تطليقات لأن كل نصف يتكامل في نفسه فتصير ثلاثا " ولو قال أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة إلى ثنتين فهي واحدة ولو قال من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان وهذا عند أبي حنيفة وقالا في الأولى هي ثنتان وفي الثانية ثلاث " وقال زفر رحمه الله في الأولى لا يقع شيء وفي الثانية تقع واحدة وهو القياس لأنه الغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية كما لو قال بعت منك من هذا الحائط الى هذا الحائط وجه قولهما الإستحسان أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف يراد به الكل كما تقول لغيرك خذ من مالي من درهم إلى مائة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المراد به الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر فإنهم يقولون سني من ستين إلى سبعين وما بين ستين إلى سبعين ويريدون به ما ذكرنا وإرادة الكل فيما طريقه طريق الإباحة كما ذكر إذ الأصل في الطلاق هو الحظر ثم الغاية الأولى لا بد أن تكون موجودة ليترتب عليها الثانية ووجودها بوقوعها بخلاف البيع لأن الغاية فيه موجودة قبل البيع ولو نوى واحدة بدين ديانة لا قضاء محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر " ولو قال أنت طالق واحدة في ثنتين ونوى الضرب والحساب أو لم تكن له نية فهى واحدة" وقال زفر رحمه الله تقع ثنتان لعرف الحساب وهو قول الحسن بن زياد رحمه الله.
ولنا أن عمل الضرب أثره في تكثير الأجزاء لا في زيادة المضروب وتكثير أجزاء التطليقة لا يوجب تعددها " فإن نوى واحدة وثنتين فهي ثلاث " لأنه يحتمله فإن حرف الواو للجمع والظرف يجمع المظروف ولو كانت غير مدخول بها تقع واحدة كما في قوله واحدة وثنتين وإن نوى واحدة مع ثنتين تقع الثلاث لأن كلمة في تأتي بمعنى مع كما هو قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي.
" ولو نوى الظرف تقع واحدة " لأن الطلاق لا يصلح ظرفا فيلغو ذكر الثاني " ولو قال إثنتين في إثنتين ونوى الضرب والحساب فهي ثنتان " وعند زفر رحمه الله ثلاث لأن قضيته أن تكون أربعا لكن لا مزيد للطلاق على الثلاث وعندنا الإعتبار للمذكور الأول على ما بيناه " ولو قال أنت طالق من هنا الى الشام فهي واحدة ويملك الرجعة " وقال زفر رحمه الله هي بائنة لأنه وصف الطلاق بالطول قلنا لا بل وصفه بالقصر لأنه متى وقع وقع في الأماكن كلها.(1/227)
" ولو قال أنت طالق بمكة أو في مكة فهي طالق في الحال في كل البلاد وكذلك لو قال أنت طالق في الدار " لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان وإن عنى به إذا أتيت مكة يصدق ديانة لا قضاء لأنه نوى الإضمار وهو خلاف الظاهر وكذا إذا قال أنت طالق وأنت مريضة وإن نوى إن مرضت لم يدين في القضاء.
" ولو قال أنت طالق إذا دخلت مكة لم تطلق حتى تدخل مكة " لأنه علقه بالدخول ولو قال أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بالفعل لمقاربة بين الشرط والظرف فحمل عليه عند تعذر الظرفية.(1/228)
فصل في إضافة الطلاق الى الزمان
" ولو قال أنت طالق غدا وقع عليها الطلاق بطلوع الفجر " لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد وذلك بوقوعه في أول جزء منه ولو نوى به آخر النهار صدق ديانة لا قضاء لأنه نوى التخصيص في العموم وهو يحتمله لكنه مخالف للظاهر.
" ولو قال أنت طالق اليوم غدا أو غدا اليوم فإنه يؤخذ بأول الوقتين الذي تفوه به " فيقع في الأول في اليوم وفي الثاني في الغد لأنه لما قال اليوم كان تنجيزا والمنجز لا يحتمل الإضافة وإذا قال غدا كان إضافة والمضاف لا يتنجز لما في من إبطال الإضافة فلغا اللفظ الثاني في الفصلين " ولو قال أنت طالق في غد وقال نويت آخر النهار دين في القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يدين في القضاء خاصة " لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد فصار بمنزلة قوله غدا على ما بيناه ولهذا يقع في أول جزء منه عند عدم النية وهذا لأن حذف في وإثباته سواء لأنه ظرف في الحالين ولأبي حنيفة رحمة الله أنه نوى حقيقة كلامه لأن كلمة في للظرف والظرفية لا تقضي الإستيعاب وتعين الجزء الأول ضرورة عدم المزاحم فإذا عين آخر النهار كان التعيين القصدي أولى بالإعتبار من الضرورى بخلاف قوله غدا لأنه يقتضي الإستيعاب حيث وصفها بهذه الصفة مضافا الى جميع الغد نظيره إذا قال والله لأصومن عمري ونظير الأول والله لأصومن في عمري وعلى هذين الدهر وفي الدهر.
" ولو قال أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم لم يقع شيء " لأنه أسند الى حالة معهودة منافية لمالكية الطلاق فيلغو كما إذا قال أنت طالق قبل أن أخلق ولأنه يمكن تصحيحه إخبارا عن عدم النكاح أو عن كونها مطلقة بتطليق غيره من الأزواج " ولو تزوجها أول من أمس وقع الساعة " لأنه ما أسنده إلى حالة منافية ولا يمكن تصحيحه إخبارا أيضا فكان(1/228)
إنشاء والإنشاء في الماضي إنشاء في الحال فيقع الساعة.
" ولو قال أنت طالق قبل أن أتزوجك لم يقع شيء " لأنه أسنده إلى حالة منافية فصار كما إذا قال طلقتك وأنا صبي أو نائم أو يصح إخبارا على ما ذكرنا " ولو قال أنت طالق ما لم أطلقك أو متى لم أطلقك أو متى ما لم أطلقك وسكت طلقت " لأنه أضاف الطلاق إلى زمان خال عن التطليق وقد وجد حيث سكت وهذا لأن كلمة متى ومتى ما صريح في الوقت لأنهما من ظروف الزمان وكذا كلمة ما للوقت قال الله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] أي وقت الحياة.
" ولو قال أنت طالق إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت " لأن العدم لا يتحقق إلا باليأس عن الحياة وهو الشرط كما في قوله إن لم آت البصرة وموتها بمنزلة موته هو الصحيح " ولو قال أنت طالق إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك لم تطلق حتى يموت عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تطلق حين سكت " لأن كلمة إذا للوقت قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] وقال قائلهم:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
فصار بمنزلة متى ومتى ما ولهذا لو قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لا يخرج الأمر من يدها بالقيام من المجلس كما في قوله متى شئت ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة إذا تستعمل في الشرط أيضا قال قائلهم:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
فإن أريد به الشرط لم تطلق في الحال وإن أريد به الوقت تطلق فلا تطلق بالشك والاحتمال بخلاف مسئلة المشيئة لأنه على اعتبار أنه للوقت لا يخرج الأمر من يدها وعلى اعتبار أنه للشرط يخرج والأمر صار في يدها فلا يخرج بالشك والاحتمال وهذا الخلاف فيما إذا لم تكن له نية ألبتة أما إذا نوى الوقت يقع في الحال ولو نوى الشرط يقع في آخر العمر لأن اللفظ يحتملهما.
" ولو قال أنت طالق ما لم أطلقك أنت طالق فهي طالق بهذه التطليقة معناه قال ذلك موصولا به والقياس أن يقع المضاف فيقعان إن كانت مدخولا بها وهو قول زفر رحمه الله لأنه وجد زمان لم يطلقها فيه وإن قل وهو زمان قوله أنت طالق قبل أن يفرغ منها وجه الاستحسان أن زمان البر مستثنى عن اليمين بدلالة الحال لأن البر هو المقصود ولا يمكنه تحقيق البر إلا أن يجعل هذا القدر مستثنى وأصله من حلف لا يسكن هذه الدار فاشتغل(1/229)
بالنقلة من ساعته وأخواته على ما يأتيك في الأيمان إن شاء الله تعالى.
" ومن قال لامرأة يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلا طلقت " لأن اليوم يذكر ويراد به بياض النهار فيحمل عليه إذا قرن بفعل يمتد كالصوم والأمر باليد لأنه يراد به المعيار وهذا أليق به ويذكر ويراد به مطلق الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال: 16] والمراد به مطلق الوقت فيحمل عليه إذا قرن بفعل لا يمتد والطلاق من هذا القبيل فينتظم الليل والنهار ولو قال عنيت به بياض النهار خاصة دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه والليل لا يتناول إلا السواد والنهار لا يتناول إلا البياض خاصة وهذا هو اللغة.(1/230)
فصل
" ومن قال لامرأته أنا منك طالق فليس بشيء وإن نوى طلاقا ولو قال أنا منك بائن أو أنا عليك حرام ينوي الطلاق فهي طالق " وقال الشافعي رحمه الله يقع الطلاق في الوجه الأول أيضا إذا نوى لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى ملكت هي المطالبة بالوطء كما يملك هو المطالبة بالتمكين وكذا الحل مشترك بينهما والطلاق وضع لإزالتهما فيصح مضافا إليه كما صح مضافا إليها كما في الإبانة والتحريم.
ولنا أن الطلاق لإزالة القيد وهو فيها دون الزوج ألا ترى أنها هي الممنوعة عن التزوج بزوج آخر والخروج ولو كان لإزالة الملك فهو عليها لأنها مملوكة والزوج مالك ولهذا سميت منكوحة بخلاف الإبانة لأنها لإزالة الوصلة وهي مشتركة بينهما وبخلاف التحريم لأنه لإزالة الحل وهو مشترك بينهما فصحت إضافتهما إليهما ولا تصح إضافة الطلاق إلا إليها.
" ولو قال أنت طالق واحدة أو لا فليس بشيء " قال رضي الله عنه هكذا ذكر في الجامع الصغير من غير خلاف وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله آخرا وعلى قول محمد وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا تطلق واحدة رجعية ذكر قول محمد رحمه الله في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته أنت طالق واحدة أو لا شيء ولا فرق بين المسئلتين ولو كان المذكور ههنا قول الكل فعن محمد رحمه الله روايتان له أنه أدخل الشك في الواحدة لدخول كلمة أو بينها وبين النفي فيسقط اعتبار الواحدة ويبقى قوله أنت طالق بخلاف قوله أنت طالق أولا لأنه أدخل الشك في أصل الإيقاع فلا يقع ولهما أن الوصف متى قرن بالعدد كان الوقوع بذكر العدد ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها أنت(1/230)
طالق ثلاثا تطلق ثلاثا ولو كان الوقوع بالوصف للغا ذكر الثلاث وهذا لأن الواقع في الحقيقة إنما هو المنعوت المحذوف معناه أنت طالق تطليقة واحدة على ما مر وإذا كان الواقع ما كان العدد نعتا له كان الشك داخلا في أصل الإيقاع فلا يقع شيء " ولو قال أنت طالق مع موتي أو مع موتك فليس بشيء " لأنه أضاف الطلاق إلى حالة منافية له لأن موته ينافي الأهلية وموتها ينافي المحلية ولا بد منهما.
" وإذا ملك الزوج امرأته أو شقصا منها أو ملكت المرأة زوجها أو شقصا منه وقعت الفرقة " للمنافاة بين الملكين أما ملكها إياه فللاجتماع بين المالكية والمملوكية وأما ملكه إياها فلأن ملك النكاح ضروري ولا ضرورة مع قيام ملك اليمين فينتفي النكاح " ولو اشتراها ثم طلقها لم يقع شيء " لأن الطلاق يستدعي قيام النكاح ولا بقاء له مع المنافي لا من وجه ولا من كل وجه وكذا إذا ملكته أو شقصا منه لا يقع الطلاق لما قلنا من المنافاة وعن محمد رحمه الله أنه يقع لأن العدة واجبة بخلاف الفصل الأول لأنه لا عدة هنالك حتى حل وطؤها له.
" وإن قال لها وهي أمة لغيره أنت طالق ثنتين مع عتق مولاك إياك فأعتقها مولاها ملك الزوج الرجعة " لأنه علق التطليق بالإعتاق أو العتق لأن اللفظ ينتظمهما والشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وللحكم تعلق به والمذكور بهذه الصفة والمعلق به التطليق لأن في التعليقات يصير التصرف تطليقا عند الشرط عندنا وإذا كان التطليق معلقا بالإعتاق أو العتق يوجد بعده ثم الطلاق يوجد بعد التطليق فيكون الطلاق متأخرا عن العتق فيصادفها وهي حرة فلا تحرم حرمة غليظة بالثنتين بقي شيء وهو أن كلمة مع للقران قلنا قد تذكر للتأخر كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5، 6] فتحمل عليه بدليل ما ذكرنا من معنى الشرط.
" ولو قال إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين وقال المولى إذا جاء غد فأنت حرة فجاء الغد لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعدتها ثلاث حيض وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله زوجها يملك الرجعة " عليها لأن الزوج قرن الإيقاع بإعتاق المولى حيث علقه بالشرط الذي علق به المولى العتق وإنما ينعقد المعلق سببا عند الشرط والعتق يقارن الإعتاق لأنه علته أصله الاستطاعة مع الفعل فيكون التطليق مقارنا للعتق ضرورة فتطلق بعد العتق فصار كالمسئلة الأولى ولهذا تقدر عدتها بثلاث حيض ولهما أنه علق الطلاق بما علق به المولى العتق ثم العتق يصادفها وهي أمه فكذا الطلاق والطلقتان تحرمان الأمة حرمة غليظة بخلاف المسئلة الأولى لأنه علق التطليق بإعتاق المولى فيقع(1/231)
الطلاق بعد العتق على ما قررناه وبخلاف العدة لأنه يؤخذ فيها بالاحتياط وكذا الحرمة الغليظة يؤخذ فيها بالاحتياط ولا وجه إلى ما قال لأن العتق لو كان يقارن الإعتاق لأنه علته فالطلاق يقارن التطليق لأنه علته فيقترنان.(1/232)
فصل في تشبيه الطلاق ووصفه
" ومن قال لامرأته أنت طالق هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى فهي ثلاث " لأن الإشارة بالأصابع تفيد العلم بالعدد في مجرى العادة إذا اقترنت بالعدد المبهم قال عليه الصلاة والسلام " الشهر هكذا وهكذا " وهكذا الحديث وإن اشار بواحدة فهي واحدة وإن أشار بالثنتين فهي ثنتان لما قلنا والإشارة تقع بالمنشورة منها وقيل إذا أشار بظهورها فبالمضمومة منها وإذا كان تقع الإشارة بالمنشورة منها فلو نوى الإشارة بالمضمومتين يصدق ديانة لا قضاء وكذا إذا نوى الإشارة بالكف حتى يقع في الأولى ثنتان ديانة وفي الثانية واحدة لأنه يحتمله لكنه خلاف الظاهر ولو لم يقبل هكذا تقع واحدة لأنه لم يقترن بالعدد المبهم فبقي الاعتبار بقوله أنت طالق " وإذا وصف الطلاق بضرب من الزيادة أو الشدة كان نائبا مثل أن يقول أنت طالق بائن أو البتة " وقال الشافعي رحمه الله يقع رجعيا إذا كان بعد الدخول بها لأن الطلاق شرع معقبا للرجعة فكان وصفه بالبينونة خلاف المشروع فيلغو كما إذا قال أنت طالق على أن لا رجعة لي عليك.
ولنا أنه وصفه بما يحتمله لفظه ألا ترى أن البينونة قبل الدخول بها وبعد العدة تحصل به فيكون هذا الوصف لتعيين أحد المحتملين ومسئلة الرجعة ممنوعة فتقع واحدة بائنة إذا لم تكن له نية أو نوى الثنتين أما إذا نوى الثلاث فثلاث لما مر من قبل ولو عنى بقوله أنت طالق واحدة وبقوله بائن أو البتة أخرى تقع تطليقتان بائنتان لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع " وكذا إذا قال أنت طالق أفحش الطلاق " لأنه إنما يوصف باعتبار أثره وهو البينونة في الحال فصار كقوله بائن وكذا إذا قال أخبث الطلاق " أو أسوأه " لما ذكرنا " وكذا إذا قال طلاق الشيطان أو طلاق البدعة " لأن الرجعي هو السني فيكون قوله البدعة وطلاق الشيطان بائنا وعن أبي يوسف في قوله أنت طالق البدعة أنه لا يكون بائنا إلا بالنية لأن البدعة قد تكون من حيث الإيقاع في حالة حيض فلا بد من النية وعن محمد رحمه الله أنه إذا قال أنت طالق للبدعة أو طلاق الشيطان يكون رجعيا لأن هذا الوصف قد يتحقق بالطلاق في حالة الحيض فلا تثبت البينونة بالشك " وكذا إذا قال كالجبل " لأن التشبيه به يوجب زيادة لا محالة وذلك بإثبات زيادة الوصف وكذا إذا قال مثل الجبل لما(1/232)
قلنا وقال أبو يوسف رحمه الله يكون رجعيا لأن الجبل شيء واحد فكان تشبيها به في توحده.
" ولو قال لها أنت طالق أشد الطلاق أو كألف أو ملء البيت فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا " أما الأول فلأنه وصفه بالشدة وهو البائن لأنه لا يحتمل الانتقاض والارتفاض أما الرجعي فيحتمله وإنما تصبح نية الثلاث لذكره المصدر وأما للثاني فلأنه قد يراد بهذا التشبيه في القوة تارة وفي العدد أخرى يقال هو كألف رجل ويراد به القوة فتصح نية الأمرين وعند فقدانها يثبت أقلهما وعن محمد رحمه الله أنه يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد فيراد به التشبيه في العدد ظاهرا فصار كما إذا قال أنت طالق كعدد ألف وأما الثالث فلأن الشيء قد يملأ البيت لعظمه في نفسه وقد يملؤه لكثرته فأي ذلك نوى صحت نيته وعند انعدام النية يثبت الأقل ثم الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أنه متى شبه الطلاق بشيء يقع بائنا أي شيء كان المشبه به ذكر العظم أو لم يذكر لما مر أن التشبيه يقتضي زيادة وصف وعند أبي يوسف رحمه الله أن ذكر العظم يكون بائنا وإلا فلا أي شيء كان المشبه به لأن التشبيه قد يكون في التوحيد على التجريد أما ذكر العظم فللزيادة لا محالة وعند زفر رحمه الله إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس يقع بائنا وإلا فهو رجعي وقيل محمد رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله وقيل مع أبي يوسف رحمه الله وبيانه في قوله مثل رأس الإبرة مثل عظم رأس الإبرة ومثل الجبل مثل عظم الجبل.
" ولو قال أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة أو طويلة فهي واحدة بائنة " لأن مالا يمكن تداركه يشتد عليه وهو البائن وما يصعب تداركه يقال لهذا الأمر طول وعرض وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقع بها لأن هذا الوصف لا يليق به فيلغو ولو نوى الثلاث في هذه الفصول صحت نيته لتنوع البينونة على ما مر والواقع بها بائن.(1/233)
فصل في الطلاق قبل الدخول
" وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل الدخول بها وقعن عليها " لأن الوقاع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا على ما بيناه فلم يكن قوله أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة " فإن فرق الطلاق بانت بالأولى ولم تقع الثانية والثالثة " وذلك مثل أن يقول أنت طالق طالق طالق لأن كل واحدة إيقاع على حدة إذا لم يذكر في آخر كلامه ما يغير صدره حتى يتوقف عليه فتقع الأولى في الحال فتصادفها الثانية وهي مبانة " وكذا إذا قال لها أنت طالق واحدة وواحدة وقعت واحدة " لما ذكرنا أنا بانت بالأولى " ولو قال لها أنت طالق واحدة فماتت(1/233)
قبل قوله واحدة كان باطلا " لأنه قرن الوصف بالعدد فكان الواقع هو العدد فإذا ماتت قبل ذكر العدد فات المحل قبل الإيقاع فبطل " وكذا إذا قال أنت طالق ثنتين أو ثلاثا " لما بينا وهذه تجانس ما قبلها من حيث المعنى.
" ولو قال أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة " والأصل أنه متى ذكر شيئين وأدخل بينهما حرف الظرف إن قرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور آخر كقوله جاءني زيد قبله عمرو إن لم يقرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور أولا كقوله جاءني زيد قبل عمرو وإيقاع الطلاق في الماضي إيقاع في الحال لأن الإسناد ليس في وسعه فالقبلية في قوله أنت طالق واحدة قبل واحدة صفة للأولى فتبين بالأولى فلا تقع الثانية والبعدية في قوله بعدها واحدة صفة للأخيرة فحصلت الإبانة بالأولى " ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان " لأن القبلية صفة للثانية لاتصالها بحرف الكناية فاقتضى إيقاعها في الماضي وإيقاع الأولى في الحال غير أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال أيضا فيقترنان فيقعان " وكذا إذا قال أنت طالق واحدة بعد واحدة يقع ثنتان " لأن البعدية صفة للأولى فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال وإيقاع الأخرى قبل هذه فتقترنان.
" ولو قال أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة تقع ثنتان " لأن كلمة مع للقران.
وعن أبي يوسف رحمه الله في قوله معها واحدة أنه تقع واحدة لأن الكناية تقتضي ضيق المكنى عنه لا محالة " وفي المدخول بها تقع ثنتان في الوجوه كلها لقيام المحلية بعد وقوع الأولى ولو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة فدخلت وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تقع ثنتان ولو قال لها أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار فدخلت طلقت ثنتين " بالاتفاق لهما أن حرف الواو للجمع المطلق فتعلقن جملة كما إذا نص على الثلاث أو أخر الشرط وله أن الجمع المطلق يحتمل القران والترتيب فعلى اعتبار الأول تقع ثنتان وعلى اعتبار الثاني لا تقع إلا واحدة كما إذا نجز بهذه اللفظة فلا يقع الزائد على الواحدة بالشك بخلاف ما إذا أخر الشرط لأنه مغير صدر الكلام فيتوقف الأول عليه فيقعن جملة ولا مغير فيما إذا قدم الشرط فلم يتوقف ولو عطف بحرف الفاء فهو على هذا الخلاف فيما ذكر الكرخي رحمه الله وذكر الفقيه أبو الليث أنه يقع واحدة بالاتفاق لأن الفاء للتعقيب وهو الأصح " وأما الضرب الثاني وهو الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال " لأنها غير موضوعة للطلاق بل تحتمله وغيره فلا بد من التعيين أو دلالته.(1/234)
قال: " وهي على ضربين منها ثلاثة ألفاظ يقع بها الطلاق الرجعي ولا يقع بها إلا واحدة وهي قوله اعتدى واستبرئي رحمك وأنت واحدة ".
أما الأولى: فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح وتحتمل اعتداد نعم الله تعالى فإن نوى الأول تعين بنيته فيقتضي طلاقا سابقا والطلاق يعقب الرجعة.
وأما الثانية: فلأنها تستعمل بمعنى الاعتداد لأنه تصريح بما هو المقصود منه فكان بمنزلته وتحتمل الاستبراء ليطلقها.
وأما الثالثة: فلأنها تحتمل أن تكون نعتا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة فإذا نواه جعل كأنه قاله والطلاق يعقب الرجعة ويحتمل غيره وهو أن تكون واحدة عنده أو عند قومه ولما احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغيره تحتاج فيه إلى النية ولا تقع إلا واحدة لأن قوله أنت طالق فيها مقتضى أو مضمر ولو كان مظهرا لا تقع بها إلا واحدة فإذا كان مضمرا أولى وفي قوله واحدة وإن صار المصدر مذكورا لكن التنصيص على الواحدة ينافي نية الثلاث ولا معتبر بإعراب الواحدة عند عامة المشايخ وهو الصحيح لأن العوام لا يميزون بين وجوه الإعراب.
قال: " وبقية الكنايات إذا نوى بها الطلاق كانت واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا كانت بثلاث وإن نوى ثنتين كانت واحدة بائنة وهذا مثل قوله أنت بائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غلوبك الحقي بأهلك وخلية وبرية ووهبتك لأهلك وسرحتك وفارقتك وأمرك بيدك واختاري وأنت حرة وتقنعي وتخمري واستتري واغربي واخرجي واذهبي وقومي وابتغي الأزواج " لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلا بد من النية.
قال: " إلا أن يكون في حال مذاكرة الطلاق فيقع بها الطلاق في القضاء ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن ينويه " قال رضي الله عنه " سوى بين هذه الألفاظ وقال ولا يصدق في القضاء إذا كان في حال مذاكرة الطلاق " قالوا " وهذا فيما لا يصلح ردا " والجملة في ذلك أن الأحوال ثلاثة حالة مطلقة وهي حالة الرضا وحالة مذاكرة الطلاق وحالة الغضب.
والكنايات ثلاثة أقسام ما يصلح جوابا وردا وما يصلح جوابا لا ردا وما يصلح جوابا وسبا وشتيمة ففي حالة الرضا لا يكون شيء منها طلاقا إلا بالنية فالقول قوله في إنكار النية لما قلنا وفي حالة مذاكرة الطلاق لم يصدق فيما يصلح جوابا ولا يصلح ردا في القضاء مثل قوله خلية برية بائن بتة حرام اعتدي أمرك بيدك اختاري لأن الظاهر أن مراده(1/235)
الطلاق عند سؤال الطلاق ويصدق فيما يصلح جوابا وردا مثل قوله اذهبي اخرجي قومي تقنعي تخمري وما يجري هذا المجرى لأنه يحتمل الرد وهو الأدنى فحمل عليه وفي حالة الغضب يصدق في جميع ذلك لاحتمال الرد والسب إلا فيما يصلح للطلاق ولا يصلح للرد والشتم كقوله اعتدي واختاري وأمرك بيدك فإنه لا يصدق فيها لأن الغضب يدل على إرادة الطلاق وعن أبي يوسف رحمه الله في قوله لا ملك لي عليك ولا سبيل لي عليك وخليت سبيلك وفارقتك أنه يصدق في حالة الغضب لما فيها من احتمال معنى السب ثم وقوع البائن بما سوى الثلاثة الأول مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله يقع بها رجعي لأن الواقع بها طلاق لأنها كنايات عن الطلاق ولهذا تشترط النية وينتقص به العدد والطلاق معقب للرجعة كالصريح.
ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية ولا خفاء في الأهلية والمحلية والدلالة على الولاية أن الحاجة ماسة إلى إثباتها كيلا ينسد عليه باب التدارك ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد وليست بكنايات على التحقيق لأنها عوامل في حقائقها والشرط تعيين أحد نوعي البينونة دون الطلاق وانتقاص العدد لثبوت الطلاق بناء على زوال الوصلة وإنما تصح نية الثلاث فيها لتنوع البينونة إلى غليظة وخفيفة وعند انعدام النية يثبت الأدنى " ولا تصح نية الثنتين عندنا خلافا لزفر رحمه الله " لأنه عدد وقد بيناه من قبل " وإن قال لها اعتدي اعتدي وقال نويت بالأولى طلاقا وبالباقي حيضا دين في القضاء " لأنه نوى حقيقة كلامه ولأنه يأمر امرأته في العادة بالاعتداد بعد الطلاق فكان الظاهر شاهدا له " وإن قال لم أنو بالباقي شيئا فهي ثلاث " لأنه لما نوى بالأولى الطلاق صار الحال حال مذاكرة الطلاق فتعين الباقيان للطلاق بهذه الدلالة فلا يصدق في نفي النية بخلاف ما إذا قال لم أنو بالكل الطلاق حيث لا يقع شيء لأنه لا ظاهر يكذبه وبخلاف ما إذا قال نويت بالثالثة الطلاق دون الأولين حيث لا يقع إلا واحدة لأن الحال عند الأوليين لم تكن حال مذاكرة الطلاق وفي كل موضع يصدق الزوج على نفي النية إنما يصدق مع اليمين لأنه أمين في الإخبار عما في ضميره والقول قول الأمين مع اليمين.(1/236)
باب تفويض الطلاق
فصل في الاختيار
" وإذا قال لامرأته اختاري ينوي بذلك الطلاق أو قال لها طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر(1/236)
من يدها " لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولأنه تمليك الفعل منها والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة واحدة إلا أن المجلس تارة يتبدل بالذهاب عنه وتارة بالاشتغال بعمل آخر إذ مجلس الأكل غير مجلس المناظرة ومجلس القتال غيرهما " ويبطل خيارها بمجرد القيام " لأنه دليل الإعراض بخلاف الصرف والسلم لأن المفسد هناك الافتراق من غير قبض ثم لا بد من النية في قوله اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره " فإن اختارت نفسها في قوله اختاري كانت واحدة بائنة " والقياس أن لا يقع بهذا شيئ وإن نوى الزوج الطلاق لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ فلا يملك التفويض إلى غيره إلا أنا استحسناه لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأنه بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم ثم الواقع بها بائن لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها وذلك في البائن " ولا يكون ثلاثا وإن نوى الزوج ذلك " لأن الاختيار لا يتنوع بخلاف الإبانة لأن البينونة قد تتنوع قال: " ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو في كلامها حتى لو قال لها اختاري فقالت قد اخترت فهو باطل " لأنه عرف بالإجماع وهو في المفسرة من أحد الجانبين ولأن المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم الآخر ولا تعيين مع الإبهام.
" ولو قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت تقع واحدة بائنة " لأن كلامه مفسر وكلامها خرج جوابا له فيتضمن إعادته " وكذا لو قال اختاري اختيارة فقالت اخترت " لأن الهاء في الاختيارة تنبئ عن الاتحاد والانفراد واختيارها نفسها هو الذي يتحد مرة ويتعدد أخرى فصار مفسرا من جانبه.
" ولو قال اختاري فقالت قد اخترت نفسي يقع الطلاق إذا نوى الزوج " لأن كلامها مفسر وما نواه الزوج من محتملات كلامه.
" ولو قال اختاري فقالت أنا أختار نفسي فهي طالق " والقياس أن لا تطلق لأن هذا مجرد وعد أو يحتمله فصار كما إذا قال لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي وجه الاستحسان حديث عائشة رضي الله عنها فإنها قالت لا بل أختار الله ورسوله اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام جوابا منها ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال وتجوز في الاستقبال كما في كلمة الشهادة وأداء الشاهد الشهادة بخلاف قولها أطلق نفسي لأنه تعذر حمله على الحال لأنه ليس بحكاية عن حالة قائمة ولا كذلك قولها أنا أختار نفسي لأنه حكاية عن حالة قائمة وهو اختيارها نفسها.(1/237)
" ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحتاج إلى نية الزوج وقالا تطلق واحدة " وإنما لا يحتاج إلى نية الزوج لدلالة التكرار عليه إذ الاختيار في حق الطلاق هو الذي يتكرر لهما أن ذكر الأولى وما يجري مجراه إن كان لا يفيد من حيث الترتيب يفيد من حيث الإفراد فيعتبر فيما يفيد وله أن هذا وصف لغو لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه كالمجتمع في المكان والكلام للترتيب والإفراد من ضروراته فإذا لغا في حق الأصل لغا في حق البناء.
" ولو قالت اخترت اختيارة فهي ثلاث في قولهم جميعا " لأنها للمرة فصار كما إذا صرحت بها ولأن الاختيارة للتأكيد وبدون التأكيد تقع الثلاث فمع التأكيد أولى " ولو قالت قد طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بملك الرجعة " لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق بعد انقضاء العدة فكأنها اختارت نفسها بعد العدة " وإن قال لها أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة فاختارت نفسها فهي واحدة بملك الرجعة " لأنه جعل لها الاختيار لكن بتطليقة وهي معقبة للرجعة بالنص.(1/238)
فصل في الأمر باليد
" وإن قال لها أمرك بيدك ينوي ثلاثا فقالت قد اخترت نفسي بواحدة فهي ثلاث " لأن الاختيار يصلح جوابا للأمر باليد لكونه تمليكا كالتخيير والواحدة صفة للاختيارة لصار كأنها قالت اخترت نفسي بمرة واحدة وبذلك يقع الثلاث.
" ولو قالت قد طلقت نفسي بواحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة " لأن الواحدة نعت لمصدر محذوف وهو في الأولى الاختيارة وفي الثانية التطليقة إلا أنها تكون بائنة لأن التفويض في البائن ضرورة ملكها أمرها وكلامها خرج جوابا له فتصير الصفة المذكورة في التفويض مذكورة في الإيقاع وإنما تصح نية الثلاث في قوله أمرك بيدك لأنه يحتمل العموم والخصوص ونية الثلاث نية التعميم بخلاف قوله اختاري لأنه لا يحتمل العموم وقد حققناه من قبل.
" ولو قال لها أمرك بيدك اليوم وبعد غد لم يدخل فيه الليل وإن ردت الأمر في يومها بطل أمر ذلك اليوم وكان الأمر بيدها بعد غد " لأنه صرح بذكر وقتين بينهما وقت من جنسهما لم يتناوله الأمر إذ ذكر اليوم بعبارة الفرد لا يتناول الليل فكانا أمرين فبرد أحدهما لا يرتد الآخر وقال زفر رحمه الله هما أمر واحد بمنزلة قوله أنت طالق اليوم وبعد غد قلنا الطلاق(1/238)
لا يحتمل التأقيت والأمر باليد يحتمله فيوقت الأمر بالأول ويجعل الثاني أمرا مبتدأ.
" ولو قال أمرك بيدك اليوم وغدا يدخل الليل في ذلك فإن ردت الأمر في يومها لا يبقى الأمر في يدها في غد " لأن هذا أمر واحد لأنه لم يتخلل بين الوقتين المذكورين وقت من جنسهما لم يتناوله الكلام وقد يهجم الليل ومجلس المشورة لا ينقطع فصار كما إذا قال أمرك بيدك في يومين وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا ردت الأمر في اليوم لها أن تختار نفسها غدا لأنها لا تملك رد الأمر كما لا تملك رد الإيقاع وجه الظاهر أنها إذا اختارت نفسها اليوم لا يبقى لها الخيار في الغد فكذا إذا اختارت زوجها برد الأمر لأن المخير بين الشيئين لا يملك إلا اختيار أحدهما وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا قال أمرك بيدك اليوم وأمرك بيدك غدا أنهما أمران لما أنه ذكر لكل وقت خبرا على حدة بخلاف ما تقدم " وإن قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان فقدم فلان ولم تعلم بقدومه حتى جن الليل فلا خيار لها " لأن الأمر باليد مما يمتد فيحمل اليوم المقرون به على بياض النهار وقد حققناه من قبل فيتوقت به ثم ينقضي بانقضاء وقته.
" وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها مالم تأخذ في عمل آخر " لأن هذا تمليك التطليق منها لأن المالك من يتصرف برأي نفسه وهي بهذه الصفة والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه من قبل " ثم إذا كانت تسمع يعتبر مجلسها ذلك وإن كانت لا تسمع فمجلس علمها وبلوغ الخبر إليها " لأن هذا تمليك فيه معنى التعليق فيتوقف على ما وراء المجلس ولا يعتبر مجلسه لأن التعليق لازم في حقه بخلاف البيع لأنه تمليك محض لا يشوبه التعليق وإذا اعتبر مجلسها فالمجلس تارة يتبدل بالتحول ومرة بالأخذ في عمل آخر على ما بيناه في الخيار ويخرج الأمر من يدها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض إذ القيام يفرق الرأي بخلاف ما إذا مكثت يوما لم تقم ولم تأخذ في عمل آخر لأن المجلس قد يطول وقد يقصر فيبقى إلى أن يوجد ما يقطعه أو ما يدل على الإعراض وقوله مكثت يوما ليس للتقدير به وقوله مالم تأخذ في عمل آخر يراد به عمل يعرف أنه قطع لما كان فيه لا مطلق العمل.
" ولو كانت قائمة فجلست فهي على خيارها " لأنه دليل الإقبال فإن القعود أجمع للرأي " وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت " لأن هذا انتقال من جلسة إلى جلسة فلا يكون إعراضا كما إذا كانت محتبية فتربعت قال رضي الله عنه هذا رواية الجامع الصغير وذكر في غيره أنها إذا كانت قاعدة فاتكأت لا خيار لها لأن الاتكاء إظهار التهاون(1/239)
بالأمر فكان إعراضا والأول هو الأصح ولو كانت قاعدة فاضطجعت ففيه روايتان عن أبي يوسف رحمه الله.
" ولو قالت ادع أبي أستشيره أو شهودا أشهدهم فهي على خيارها " لأن الاستشارة لتحري الصواب والإشهاد للتحرز عن الإنكار فلا يكون دليل الإعراض " وإن كانت تسير على دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها وإن سارت بطل خيارها " لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها " والسفينة بمنزلة البيت " لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها ألا ترى أنه لا يقدر على إيقافها وراكب الدابة يقدر.(1/240)
فصل في المشيئة
" ومن قال لامرأته طلقي نفسك ولا نية له أو نوى واحدة فقالت طلقت نفسي فهي واحدة رجعية وإن طلقت نفسها ثلاثا وقد أراد الزوج ذلك وقعن عليها " وهذا لأن قوله طلقي معناه افعلي فعل التطليق وهو اسم جنس فيقع على الأدنى مع احتمال الكل كسائر أسماء الأجناس فلهذا تعمل فيه نية الثلاث وينصرف إلى واحدة عند عدمها وتكون الواحدة رجعية لأن المفوض إليها صريح الطلاق ولو نوى الثنتين لا تصح لأنه نية العدد إلا إذا كانت المنكوحة أمة لأنه جنس في حقها.
" وإن قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي طلقت ولو قالت قد اخترت نفسي لم تطلق " لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته أبنتك ينوي به الطلاق أو قالت أبنت نفسي فقال الزوج قد أجزت ذلك بانت فكانت موافقة التفويض في الأصل إلا أنها زادت فيه وصفا وهو تعجيل الإبانة فيلغو الوصف الزائد ويثبت الأصل كما إذا قالت طلقت نفسي تطليقة بائنة وينبغي أن تقع تطليقة رجعية بخلاف الاختيار لأنه ليس من ألفاظ الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته اخترتك أو اختاري ينوي الطلاق لم يقع ولو قالت ابتداء اخترت نفسي فقال الزوج قد أجزت لا يقع شيء إلا أنه عرف طلاقا بالإجماع إذا حصل جوابا للتخيير وقوله طلقي نفسك ليس بتنجيز فيلغو وعن أبي حنيفة أنه لا يقع شيء بقولها أبنت نفسي لأنها أتت بغير ما فوض إليها إذ الإبانة تغاير الطلاق.
" ولو قال لها طلقي نفسك فليس له أن يرجع عنه " لأن فيه معنى اليمين لأنه تعليق الطلاق بتطليقها واليمين تصرف لازم ولو قامت عن مجلسها بطل لأنه تمليك بخلاف ما إذا قال لها طلقي ضرتك لأنه توكيل وإنابة فلا يقتصر على المجلس ويقبل الرجوع " وإن قال لها طلقي نفسك متى شئت فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده " لأن كلمة متى عامة(1/240)
في الأوقات كلها فصار كما إذا قال في أي وقت شئت " وإذا قال لرجل طلق امرأتي فله أن يطلقها في المجلس وبعده " وله أن يرجع عنه لأنه توكيل وأنه استعانة فلا يلزم ولا يقتصر على المجلس بخلاف قوله لامراته طلقي نفسك لأنها عاملة لنفسها فكان تمليكا لا توكيلا.
" ولو قال لرجل طلقها إن شئت فله أن يطلقها في المجلس خاصة " وليس للزوج أن يرجع وقال زفر رحمه الله هذا والأول سواء لأن التصريح بالمشيئة كعدمه لأنه يتصرف عن مشيئته فصار كالوكيل بالبيع إذا قيل له بعه إن شئت ولنا أنه تمليك لأنه علقه بالمشيئة والمالك هو الذي يتصرف عن مشيئته والطلاق يحتمل التعليق بخلاف البيع لأنه لا يحتمله.
" ولو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة فهي واحدة " لأنها ملكت إيقاع الثلاث فتملك إيقاع الواحدة ضرورة.
" ولو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء عند أبي حنيفة وقالا تقع واحدة " لأنها أتت بما ملكته وزيادة فصار كما إذا طلقها الزوج ألفا ولأبي حنيفة أنها أتت بغير ما فوض إليها فكانت مبتدئة وهذا لأن الزوج ملكها الواحدة والثلاث غير الواحدة لأن الثلاث اسم لعدد مركب مجتمع والواحدة فرد لا تركيب فيه فكانت بينهما مغايرة على سبيل المضادة بخلاف الزوج لأنه يتصرف بحكم الملك وكذا هي في المسئلة الأولى لأنها ملكت الثلاث أما ههنا لم تملك الثلاث وما أتت بما فوض إليها فلغت.
" وإن أمرها بطلاق يملك الرجعة فطلقت بائنة أو أمرها بالبائن فطلقت رجعية وقع ما أمر به الزوج " فمعنى الأول أن يقول لها الزوج طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة فتقول طلقت نفسي واحدة بائنة فتقع رجعية لأنها أتت بالأصل وزيادة وصف كما ذكرنا فيلغو الوصف ويبقى الأصل ومعنى الثاني أن يقول لها طلقي نفسك واحدة بائنة فتقول طلقت نفسي واحدة رجعية فتقع بائنة لأن قولها واحدة رجعية لغو منها لأن الزوج لما عين صفة المفوض إليها فحاجتها بعد ذلك إلى إيقاع الأصل دون تعيين الوصف فصار كأنها اقتصرت على الأصل فيقع بالصفة التي عينها الزوج بائنا أو رجعيا " وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثا إن شئت فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء " لأن معناه إن شئت الثلاث وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثلاث فلم يوجد الشرط.(1/241)
" ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فطلقت ثلاثا فكذلك عند أبي حنيفة " لأن مشيئة الثلاث ليست بمشيئة الواحدة كإيقاعها " وقالا تقع واحدة " لأن مشيئة الثلاث مشيئة الواحدة كما أن إيقاعها إيقاع للواحدة فوجد الشرط.
" ولو قال لها أنت طالق إن شئت فقالت شئت إن شئت فقال الزوج شئت ينوي الطلاق بطل الأمر " لأنه علق طلاقها بالمشيئة المرسلة وهي أتت بالمعلقة فلم يوجد الشرط وهو اشتعال مالا يعنيها فخرج الأمر من يدها ولا يقع الطلاق بقوله شئت وإن نوى الطلاق لأنه ليس في كلام المرأة ذكر الطلاق ليصير الزوج شائيا طلاقها والنية لا تعمل في غير المذكور حتى لو قال شئت طلاقك يقع إذا نوى لأنه إيقاع مبتدأ إذ المشيئة تنبئ عن الوجود بخلاف قوله أردت طلاقك لأنه لا ينبئ عن الوجود " وكذا إذا قالت شئت إن شاء أبى أو شئت إن كان كذا لأمر لم يجئ بعد " لما ذكرنا أن المأتي به مشيئة معلقة فلا يقع الطلاق وبطل الأمر " وإن قالت قد شئت إن كان كذا لأمر قد مضى طلقت " لأن التعليق بشرط كائن تنجيز.
" ولو قال لها أنت طالق إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى شئت أو متى ما شئت فردت الأمر لم يكن ردا ولا يقتصر على المجلس " أما كلمة متى ومتى ما فلأنهما للوقت وهي عامة في الأوقات كلها كأنه قال في أي وقت شئت فلا يقتصر على المجلس بالإجماع ولو ردت الأمر لم يكن ردا لأنه ملكها الطلاق في الوقت الذي شاءت فلم يكن تمليكا قبل المشيئة حتى يرتد بالرد ولا تطلق نفسها إلا واحدة لأنها تعم الأزمان دون الأفعال فتملك التطليق في كل زمان ولا تملك تطليقا بعد تطليق وأما كلمة إذا وإذا ما فهما ومتى سواء عندهما وعند أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وإن كان يستعمل للشرط كما يستعمل للوقت لكن الأمر صار بيدها فلا يخرج بالشك وقد مر من قبل.
" ولو قال لها أنت طالق كلما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة بعد واحدة حتى تطلق نفسها ثلاثا " لأن كلمة كلما توجب تكرار الأفعال إلا أن التعليق ينصرف إلى الملك القائم " حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر فطلقت نفسها لم يقع شيء " لأنه ملك مستحدث " وليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا بكلمة واحدة " لأنها توجب عموم الانفراد لا عموم الاجتماع فلا تملك الإيقاع جملة وجمعا.
" ولو قال لها أنت طالق حيث شئت أو أين شئت لم تطلق حتى تشاء وإن قامت من مجلسها فلا مشيئة لها " لأن كلمة حيث وأين من أسماء المكان والطلاق لا تعلق له(1/242)
بالمكان فيلغو ويبقى ذكر مطلق المشيئة فيقتصر على المجلس بخلاف الزمان لأن له تعلقا به حتى تقع في زمان دون زمان فوجب اعتباره عموما وخصوصا " وإن قال لها أنت طالق كيف شئت طلقت تطليقة يملك الرجعة " ومعناه قبل المشيئة فإن قالت قد شئت واحدة بائنة أو ثلاثا وقال الزوج ذلك نويت فهو كما قال لأن عند ذلك تثبت المطابقة بين مشيئتها وإرادته أما إذا أرادت ثلاثا والزوج واحدة بائنة أو على القلب تقع واحدة رجعية لأنه لغا تصرفها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج وإن لم تحضره النية تعتبر مشيئتها فيما قالوا جريا على موجب التخيير.
" قال رضي الله تعالى عنه وقال في الأصل هذا قول أبي حنيفة " رحمه الله " وعندهما لا يقع مالم توقع المرأة رجعية أو بائنة أو ثلاثا " وعلى هذا الخلاف العتاق لهما أنه فوض التطليق إليها على أي صفة شاءت فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها لتكون لها المشيئة في جميع الأحوال أعني قبل الدخول وبعده ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة كيف للاستيصاف يقال كيف اصبحت والتفويض في وصفه يستدعي وجود أصله ووجود الطلاق لوقوعه " وإن قال لها أنت طالق كم شئت أو ما شئت طلقت نفسها ما شاءت " لأنهما يستعملان للعدد فقد فوض إليها أي عدد شاءت " فإن قامت من المجلس بطل وإن ردت الأمر كان ردا " لأن هذا أمر واحد وهو خطاب في الحال فيقتضي الجواب في الحال " وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت " لأن كلمة "ما" محكمة في التعميم وكلمة "من" قد تستعمل للتمييز فيحمل على تمييز الجنس كما إذا قال كل من طعامي ما شئت أو طلق من نسائي من شاءت ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة من حقيقة للتبعيض وما للتعميم فعمل بهما وفيما استشهدا به ترك التبعيض بدلالة إظهار السماحة أو لعموم الصفة وهي المشيئة حتى لو قال من شئت كان على هذا الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب.(1/243)
باب الأيمان في الطلاق
مدخل
...
باب الأيمان في الطلاق
" وإذا أضاف الطلاق إلى النكاح وقع عقيب النكاح مثل أن يقول لامرأة إن تزوجتك فأنت طالق أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق " وقال الشافعي رحمه الله: لا يقع لقوله عليه الصلاة والسلام " لا طلاق قبل النكاح ".
ولنا أن هذا تصرف يمين لوجود الشرط والجزاء فلا يشترط لصحته قيام الملك في(1/243)
الحال لأن الوقوع عند الشرط والملك متيقن به عنده وقبل ذلك أثره المنع وهو قائم بالمنصرف والحديث محمول على نفي التنجيز والحمل مأثور عن السلف كالشعبي والزهري وغيرهما.
" وإذا أضافه إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق " وهذا بالاتفاق لأن الملك قائم في الحال والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط فيصح يمينا أو إيقاعا " ولا تصح إضافة الطلاق إلا أن يكون الحالف مالكا أو يضيفه إلى ملك " لأن الجزاء لا بد أن يكون ظاهرا ليكون مخيفا فيتحقق معنى اليمين وهو القوة والظهور بأحد هذين والإضافة إلى سبب الملك بمنزلة الإضافة إليه لأنه ظاهر عند سببه " فإن قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها فدخلت الدار لم تطلق " لأن الحالف ليس بمالك ولا أضافه إلى الملك أو سببه ولا بد من واحد منهما.
" وألفاظ الشرط: إن وإذا وإذا ما وكل وكلما ومتى ومتى ما " لأن الشرط مشتق من العلامة وهذه الألفاظ مما تليها أفعال فتكون علامات على الحنث ثم كلمة إن حرف للشرط لأنه ليس فيها معنى الوقت وما وراءها ملحق بها وكلمة كل ليست شرطا حقيقة لأن ما يليها اسم والشرط ما يتعلق به الجزاء والأجزية تتعلق بالأفعال إلا أنه ألحق بالشرط لتعلق الفعل بالاسم الذي يليها مثل قولك كل عبد اشتريته فهو حر قال " ففي هذه الألفاظ إذا وجد الشرط انحلت وانتهت اليمين " لأنها غير مقتضية للعموم والتكرار لغة فبوجود الفعل مرة يتم الشرط ولا بقاء لليمين بدونه " إلا في " كلمة " كلما فإنها تقتضي تعميم الأفعال " قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} [النساء: 56] الآية ومن ضرورة التعميم التكرار.
قال: " فإن تزوجها بعد ذلك " أي بعد زوج آخر " وتكرر الشرط لم يقع شيء " لأن باستيفاء الطلقات الثلاث المملوكات في هذا النكاح لم يبق الجزاء وبقاء اليمين به وبالشرط وفيه خلاف زفر رحمه الله وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى.
" ولو دخلت على نفس التزوج بأن قال كلما تزوجت امرأة فهي طالق يحنث بكل مرة وإن كان بعد زوج آخر " لأن انعقادها باعتبار ما يملك عليها من الطلاق بالتزوج وذلك غير محصور قال " وزوال الملك بعد اليمين لا يبطلها " لأنه لم يوجد الشرط فبقي والجزاء باق لبقاء محله فبقي اليمين " ثم إن وجد الشرط في ملكه انحلت اليمين ووقع الطلاق " لأنه وجد الشرط والمحل قابل للجزاء فينزل الجزاء ولا تبقى اليمين لما قلنا " وإن وجد في غير(1/244)
الملك انحلت اليمين " لوجود الشرط " ولم يقع شيء " لانعدام المحلية.
" وإن اختلفا في وجود الشرط فالقول قول الزوج إلا أن تقيم المرأة البينة " لأنه متمسك بالأصل وهو عدم الشرط ولأنه ينكر وقوع الطلاق وزوال الملك والمرأة تدعيه " فإن كان الشرط لا يعلم إلا من جهتها فالقول قولها في حق نفسها مثل أن يقول إن حضت فأنت طالق وفلانة فقالت قد حضت طلقت هي ولم تطلق فلانة " ووقوع الطلاق استحسان والقياس أن لا يقع لأنه شرط فلا تصدق كما في الدخول وجه الاستحسان أنها أمينة في حق نفسها إذ لا يعلم ذلك إلا من جهتها فيقبل قولها كما قبل في حق العدة والغشيان لكنها شاهدة في حق ضرتها بل هي متهمة فلا يقبل قولها في حقها " وكذلك لو قال إن كنت تحبين أن يعذبك الله في نار جهنم فأنت طالق وعبدي حر فقالت أحبه أو قال إن كنت تحبيني فأنت طالق وهذه معك فقالت أحبك طلقت هي ولم يعتق العبد ولا تطلق صاحبتها " لما بينا ولا يتيقن بكذبها لأنها لشدة بغضها إياه قد تحب التخليص منه بالعذاب وفي حقها إن تعلق الحكم بإخبارها وإن كانت كاذبة ففي حق غيرها بقي الحكم على الأصل وهي المحبة.
" وإذا قال لها إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لم يقع الطلاق حتى يستمر بها ثلاثة أيام " لأن ما ينقطع دونها لا يكون حيضا " فإذا تمت ثلاثة أيام حكمنا بالطلاق من حين حاضت " لأنه بالامتداد عرف أنه من الرحم فكان حيضا من الابتداء.
" ولو قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من حيضتها " لأن الحيضة بالهاء هي الكاملة منها ولهذا حمل عليه في حديث الاستبراء وكمالها بانتهائها وذلك بالطهر " وإذا قال أنت طالق إذا صمت يوما طلقت حين تغيب الشمس في اليوم الذي تصوم " لأن اليوم إذا قرن بفعل ممتد يراد به بياض النهار بخلاف ما إذا قال لها إذا صمت لأنه لم يقدره بمعيار وقد وجد الصوم بركنه وشرطه.
" ومن قال لامرأته إذا ولدت غلاما فأنت طالق واحدة وإذا ولدت جارية فأنت طالق ثنتين فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما أول لزمه في القضاء تطليقة وفي التنزه تطليقتان وانقضت العدة بوضع الحمل " لأنها لو ولدت الغلام أولا وقعت واحدة وتنقضي عدتها بوضع الجارية ثم لا تقع أخرى به لأنه حال انقضاء العدة ولو ولدت الجارية أولا وقعت تطليقتان وانقضت عدتها بوضع الغلام ثم لا يقع شيء آخر به لما ذكرنا أنه حال انقضاء العدة فإذا في حال تقع واحدة وفي حال تقع ثنتان فلا تقع الثانية بالشك والاحتمال والأولى أن يؤخذ بالثنتين تنزها واحتياطا والعدة منقضية بيقين لما بينا " وإن قال لها إن كلمت(1/245)
أبا عمرو وأبا يوسف فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها واحدة فبانت وانقضت عدتها فكلمت أبا عمرو ثم تزوجها فكلمت أبا يوسف فهي طالق ثلاثا مع الواحدة الأولى وقال زفر رحمه الله لا يقع " وهذه على وجوه أما إن وجد الشرطان في الملك فيقع الطلاق وهذا ظاهر أو وجدا في غير الملك فلا يقع أو وجد الأول في الملك والثاني في غير الملك فلا يقع أيضا لأن الجزاء لا ينزل في غير الملك فلا يقع أو وجد الأول في غير الملك والثاني في الملك وهي مسئلة الكتاب الخلافية له اعتبار الأول بالثاني إذ هما في حكم الطلاق كشيء واحد.
ولنا أن صحة الكلام بأهلية المتكلم إلا أن الملك يشترط حالة التعليق ليصير الجزاء غالب الوجود لاستصحاب الحال فتصح اليمين وعند تمام الشرط لينزل الجزاء لأنه لا ينزل إلا في الملك وفيما بين ذلك الحال حال بقاء اليمين فيستغنى عن قيام الملك إذ بقاؤه بمحله وهو الذمة " وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها ثنتين وتزوجت زوجا آخر ودخل بها ثم عادت إلى الأول فدخلت الدار طلقت ثلاثا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله هي طالق ما بقي من الطلقات " وهو قول زفر رحمه الله وأصله أن الزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث عندهما فتعود إليه بالثلاث وعند محمد وزفر رحمهما الله لا يهدم ما دون الثلاث فتعود إليه بما بقي وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى " وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم قال لها أنت طالق ثلاثا فتزوجت غيره ودخل بها ثم رجعت إلى الأول فدخلت الدار لم يقع شيء " وقال زفر رحمه الله يقع الثلاث لأن الجزاء ثلاث مطلق لإطلاق اللفظ وقد بقي احتمال وقوعها فتبقى اليمين.
ولنا أن الجزاء طلقات هذا الملك لأنها هي المانعة لأن الظاهر عدم ما يحدث واليمين تعقد للمنع أو الحمل وإذا كان الجزاء ما ذكرناه وقد فات بتنجيز الثلاث المبطل للمحلية فلا تبقى اليمين بخلاف ما إذا أبانها لأن الجزاء باق لبقاء محله.
" ولو قال لامرأته إذا جامعتك فأنت طالق ثلاثا فجامعها فلما التقى الختانان طلقت ثلاثا وإن لبث ساعة لم يجب عليه المهر وإن أخرجه ثم أدخله وجب عليه المهر " وكذا إذا قال لأمته إذا جامعتك فأنت حرة " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أوجب المهر في الفصل الأول أيضا لوجود الجماع بالدوام عليه إلا أنه لا يجب عليه الحد للاتحاد " وجه الظاهر أن الجماع إدخال الفرج في الفرج ولا دوام للإدخال بخلاف ما إذا أخرج ثم أولج لأنه وجد الإدخال بعد الطلاق إلا أن الحد لا يجب بشبهة الاتحاد بالنظر إلى المجلس والمقصود وإذا لم يجب الحد وجب العقر إذ الوطء لا يخلو عن أحدهما ولو كان الطلاق رجعيا يصير(1/246)
مراجعا باللبث عند أبي يوسف رحمه الله لمحمد رحمه الله لوجود المساس ولو نزع ثم أولج صار مراجعا بالإجماع لوجود الجماع والله تعالى أعلم بالصواب.(1/247)
فصل في الاستثناء
" وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله تعالى متصلا لم يقع الطلاق " لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف بطلاق أو عتاق وقال إن شاء الله تعالى متصلا به فلا حنث عليه " ولأنه أتى بصورة الشرط فيكون تعليقا من هذا الوجه وأنه إعدام قبل الشرط والشرط لا يعلم ههنا فيكون إعداما من الأصل ولهذا يشترط أن يكون متصلا به بمنزلة سائر الشروط " ولو سكت يثبت حكم الكلام الأول " فيكون الاستثناء أو ذكر الشرط بعده رجوعا عن الأول.
قال: " وكذا إذا ماتت قبل قوله إن شاء الله تعالى " لأن بالاستثناء خرج الكلام من أن يكون إيجابا والموت ينافي الموجب دون المبطل بخلاف ما إذا مات الزوج لأنه لم يتصل به الاستثناء " وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة طلقت ثنتين وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين طلقت واحدة " والأصل أن الاستثناء تكلم بالحاصل بعد الثنيا هو الصحيح ومعناه أنه تكلم بالمستثنى منه إذ لا فرق بين قول القائل لفلان علي درهم وبين قوله عشرة إلا تسعة فيصح استثناء البعض من الجملة لأنه يبقى التكلم بالبعض بعده ولا يصح استثناء الكل من الكل لأنه لا يبقى بعده شيء ليصير متكلما به وصارفا للفظ إليه وإنما يصح الاستثناء إذا كان موصولا به كما ذكرنا من قبل وإذا ثبت هذا ففي الفصل الأول المستثنى منه ثنتان فيقعان وفي الثاني واحدة فتقع واحدة ولو قال إلا ثلاثا يقع الثلاث لأنه استثناء الكل من الكل فلم يصح الاستثناء والله أعلم.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله
باب طلاق المريض.(1/247)
المجلد الثاني
تابع كتاب الطلاق
باب طلاق المريض
...
" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "
حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم
باب طلاق المريض
" وإذ طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقا بائنا فمات وهي في العدة ورثته وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها " وقال الشافعي رحمه الله لا ترث في الوجهين لأن الزوجية قد بطلت بهذا العارض وهي السبب ولهذا لا يرثها إذا ماتت ولنا أن الزوجية سبب إرثها في مرض موته والزوج قصد إبطاله فيرد عليه قصده بتأخير عمله إلى زمان انقضاء العدة دفعا للضرر عنها وقد أمكن لأن النكاح في العدة يبقى في حق بعض الآثار فجاز أن يبقى في حق إرثها عنه بخلاف ما بعد الانقضاء لأنه لا إمكان والزوجية في هذه الحالة ليست بسبب لإرثه عنها فتبطل في حقه خصوصا إذا رضي به " وإن طلقها ثلاثا بأمرها أو قال لها اختاري فاختارت نفسها أو اختلعت منه ثم مات وهي في العدة لم ترثه " لأنها رضيت بإبطال حقها والتأخير لحقها وإن قالت طلقني للرجعة فطلقها ثلاثا ورثته لأن الطلاق الرجعي لا يزيل النكاح فلم تكن بسؤالها راضية ببطلان حقها " وإن قال لها في مرض موته كنت طلقتك ثلاثا في صحتي وانقضت عدتك فصدقته ثم أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية فلها الأقل من ذلك ومن الميراث عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز إقراره ووصيته وإن طلقها ثلاثا في مرضه بأمرها ثم أقر لها بدين أو أوصى بوصية فلها الأقل من ذلك ومن الميراث في قولهم جميعا " إلا على قول زفر رحمه الله فإن لها جميع ما أوصى وما أقربه لأن الميراث لما بطل بسؤالها زال المانع من صحة الأقرار والوصية.
وجه قولهما في المسألة الأولى أنهما لما تصادقا على الطلاق وانقضاء العدة صارت أجنبية عنه حتى جاز له أن يتزوج أختها فانعدمت التهمة الا ترى أنه تقبل شهادته لها،(2/251)
ويجوز وضع الزكاة فيها بخلاف المسئلة الثانية لأن العدة باقية وهي سبب التهمة والحكم يدار على دليل التهمة ولهذا يدار على النكاح والقرابة ولاعدة في المسئلة الأولى.
ولأبي حنيفة رحمه الله في المسئلتين أن التهمة قائمة لأن المرأة قد تختار الطلاق لينفتح باب الاقرار والوصية عليها فيزيد حقها والزوجان قد يتواضعان على الأقرار بالفرقة وانقضاء العدة ليبرها الزوج بماله زيادة على ميراثها وهذه التهمة في الزيادة فرددناها ولا تهمة في قدر الميراث فصححناه ولا مواضعة عادة في حق الزكاة والتزويج والشهادة فلا تهمة في حق هذه الأحكام.
قال: " ومن كان محصورا أو في صف القتال فطلق امرأته ثلاثا لم ترثه وان كان قد بارز رجلا أو قدم ليقتل في قصاص أو رجم ورثت إن مات في ذلك الوجه أو قتل " وأصله ما بينا أن امرأة الفار ترث استحسانا وإنما يثبت حكم الفرار بتعلق حقها بماله وإنما يتعلق بمرض يخاف منه الهلاك غالبا كما إذا كان صاحب الفراش وهو أن يكون بحال لا يقوم بحوائجه كما يعتاده الأصحاء وقد يثبت حكم الفرار بما هو في معنى المرض في توجه الهلاك الغالب وما يكون الغالب منه السلامة لا يثبت به حكم الفرار فالمحصور والذي في وصف القتال الغالب منه السلامة لأن الحصن لدفع بأس العدو وكذا المنعة فلا يثبت به حكم الفرار والذي بارز أو قدم ليقتل الغالب منه الهلاك فيتحقق به الفرار ولهذا أخوات تخرج على هذا الحرف وقوله إذا مات في ذلك الوجه أو قتل دليل على أنه لا فرق بين ما إذا مات بذلك السبب أو بسبب آخر كصاحب الفراش بسبب المرض إذا قتل.
" وإذا قال الرجل لامرأته وهو صحيح إذا جاء رأس الشهر أو إذا دخلت الدار أو إذا صلى فلان الظهر أو إذا دخل فلان الدار فأنت طالق فكانت هذه الأشياء والزوج مريض لم ترث وإن كان القول في المرض ورثت إلا في قوله إذا دخلت الدار " وهذا على وجوه إما أن يعلق الطلاق بمجيء الوقت أو بفعل الأجنبي أو بفعل نفسه أو بفعل المرأة وكل وجه على وجهين أما إن كان التعليق في الصحة والشرط في المرض أو كلاهما في المرض.
أما الوجهان الأولان وهو ما إن كان التعليق بمجيء الوقت بأن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو بفعل الأجنبي بأن قال إذ دخل فلان الدار أو صلى فلان الظهر فإن كان التعليق والشرط في المرض فلها الميراث لأن القصد إلى الفرار قد تحقق منه بمباشرة التعليق في حال تعلق حقها بماله وإن كان التعليق بالصحة والشرط في المرض لم ترث وقال زفر رحمه الله ترث لأن المعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز فكان إيقاعا في(2/252)
المرض. ولنا أن التعليق السابق يصير تطليقا عند الشرط حكما لا قصدا ولا ظلم إلا عن قصد فلا يرد تصرفه.
وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا علقه بفعل نفسه فسواء كان التعليق في الصحة والشرط في المرض أو كانا في المرض والفعل مما له عنه بد أو لا بد له منه يصير فارا لوجود قصد الابطال إما بالتعليق أو بمباشرة الشرط في المرض وإن لم يكن له من فعل الشرط بد فله من التعليق ألف بد فيرد تصرفه دفعا للضرر عنها.
وأما الوجه الرابع: وهو ما إذا علقه بفعلها فإن كان التعليق والشرط في المرض والفعل مما لها منه بد ككلام زيد ونحوه لم ترث لأنها راضية بذلك وإن كان الفعل مما بد لها منه كأكل الطعام وصلاة الظهر وكلام الأبوين ترث لأنها مضطرة في المباشرة لما لها في الامتناع من خوف الهلاك في الدنيا أو في العقبى ولا رضا مع الاضطرار وأما إذا كان التعليق في الصحة والشرط في المرض فإن كان الفعل مما لها منه بد فلا إشكال أنه لا ميراث لها وإن كان مما لا بد لها منه فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله وهو قول زفر لأنه لم يوجد من الزوج صنع بعدما تعلق حقها بماله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ترث لأن الزوج ألجأها إلى المباشرة فينتقل الفعل إليه كأنها آلة له كما في الإكراه.
قال: " وإذا طلقها ثلاثا وهو مريض ثم صح ثم مات لم ترث " وقال زفر رحمه الله ترث لأنه قصد الفرار حين أوقع في المرض وقد مات وهي في العدة ولكنا نقول المرض إذا تعقبه برء فهو بمنزلة الصحة لأنه ينعدم به مرض الموت فتبين أنه لا حق لها يتعلق بماله فلا يصير الزوج فارا ولو طلقها فارتدت والعياذ بالله ثم أسلمت ثم مات الزوج من مرضه وهي في العدة لم ترث وإن لم ترتد بل طاوعت ابن زوجها في الجماع ورثت ووجه الفرق أنها بالردة أبطلت أهلية الارث إذا المرتد لا يرث أحدا ولا بقاء له بدون الأهلية وبالمطاوعة ما أبطلت الأهلية لأن المحرمية لا تنافي الإرث وهو الباقي بخلاف ما إذا طاوعت في حال قيام النكاح لأنها تثبت الفرقة فتكون راضية ببطلان السبب وبعد الطلقات الثلاث لا تثبت الحرمة بالمطاوعة لتقدمها عليها فافترقا.
" ومن قذف امرأته وهو صحيح ولا عن في المرض ورثت وقال محمد رحمه الله لا ترث وإن كان القذف في المرض ورثته في قولهم جميعا " وهذا ملحق بالتعليق بفعل لا بد لها منه إذ هي ملجأة إلى الخصومة لدفع عار الزنا عن نفسها وقد بينا الوجه فيه " وإن آلى من امرأته(2/253)
وهو صحيح ثم بانت بالإيلاء وهو مريض لم ترث وإن كان الإيلاء أيضا في المرض ورثت " لأن الإيلاء في معنى تعليق الطلاق بمضي أربعة أشهر خالية عن الوقاع فيكون ملحقا بالتعليق بمجيء الوقف وقد ذكرنا وجهه.
قال رضي الله تعالى عنه: " والطلاق الذي يملك فيه الرجعة ترث به في جميع الوجوه " لما بينا أنه لا يزيل النكاح حتى يحل الوطء فكان السبب قائما قال " وكل ما ذكرنا أنها ترث إنما ترث إذا مات وهي في العدة " وقد بيناه والله تعالى أعلم بالصواب.(2/254)
باب الرجعة
مدخل
...
باب الرجعة
" وإذا طلق الرجل امرأته تطليقة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها في عدتها رضيت بذلك أو لم ترض " لقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] من غير فصل ولا بد من قيام العدة لأن الرجعة استدامة الملك ألا ترى أنه سمى إمساكا وهو الإبقاء وإنما يتحقق الاستدامة في العدة لأنه لا ملك بعد انقضائها " والرجعة أن يقول راجعتك أو راجعت امرأتي " وهذا صريح في الرجعة ولا خلاف فيه بين الأئمة.
قال: " أو يطأها أو يقبلها أو يلمسها بشهوة أو بنظر إلى فرجها بشهوة " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا تصح الرجعة إلا بالقول مع القدرة عليه لأن الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح حتى يحرم وطؤها وعندنا هو استدامة النكاح على ما بيناه وسنقرره إن شاء الله والفعل قد يقع دلالة على الاستدامة كما في إسقاط الخيار والدلالة فعل يختص بالنكاح وهذه الأفاعيل تختص به خصوصا في حق الحرة بخلاف المس والنظر بغير شهوة لأنه قد يحل بدون النكاح كما في القابلة والطبيب وغيرهما والنظر إلى غير الفرج قد يقع بين المساكنين والزوج يساكنها في العدة فلو كان رجعة لطلقها فتطول العدة عليها.
قال: " ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين فإن لم يشهد صحت الرجعة " وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه لا تصح وهو قول مالك رحمه الله لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] والأمر للايجاب ولنا إطلاق النصوص عن قيد الاشهاد ولأنه استدامة للنكاح والشهادة ليست شرطا فيه في حالة البقاء كما في الفيء في الإيلاء إلا أنها تستحب لزيادة الاحتياط كيلا يجري التناكر فيها وما تلاه محمول عليه ألا ترى أنه قرنها بالمفارقة وهو فيها مستحب ويستحب أن يعلمها كيلا تقع في المعصية.
" وإذا انقضت العدة فقال كنت راجعتها في العدة فصدقته فهي رجعة وإن كذبته فالقول قولها " لأنه أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال فكان متهما إلا أن بالتصديق ترتفع(2/254)
التهمة ولا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهي مسئلة الاستحلاف في الأشياء الستة وقد مر في كتاب النكاح.
" وإذا قال الزوج قد راجعتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي لم تصح الرجعة عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا تصح الرجعة لأنها صادفت العدة إذ هي باقية ظاهرا إلى أن تخبر وقد سبقته الرجعة ولهذا لو قال لها طلقتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي يقع الطلاق ولأبي حنيفة رحمه الله أنها صادفت حالة الانقضاء لأنها أمينة في الإخبار عن الانقضاء فإذا أخبرت دل ذلك على سبق الانقضاء وأقرب أحواله حال قول الزوج ومسئلة الطلاق على الخلاف ولو كانت على الاتفاق فالطلاق يقع بإقراره بعد الانقضاء والمراجعة لا تثبت به.
" وإذا قال زوج الأمة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتها وصدقه المولى وكذبته الأمة فالقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا القول قول المولى " لأن بضعها مملوك له فقد أقر بما هو خالص حقه للزوج فشابه الإقرار عليها بالنكاح وهو يقول حكم الرجعة يبتني على العدة والقول في العدة قولها فكذا فيما يبتني عليها ولو كان على القلب فعندهما القول قول المولى وكذا عنده في الصحيح لأنها منقضية العدة في الحال وقد ظهر ملك المتعة للمولى فلا يقبل قولها في إبطاله بخلاف الوجه الأول لأن المولى بالتصديق في الرجعة مقر بقيام العدة عندها ولا يظهر ملكه مع العدة " وإن قالت قد انقضت عدتي وقال الزوج والمولى لم تنقض عدتك فالقول قولها " لأنها أمينة في ذلك إذ هي العالمة به.
" وإذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل وإن انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل " لأن الحيض لا مزيد له على العشرة فبمجرد الانقطاع خرجت من الحيض فانقضت العدة وانقطعت الرجعة وفيما دون العشرة يحتمل عود الدم فلا بد أن يعتضد الانقطاع بحقيقة الاغتسال أو بلزوم حكم من أحكام الطاهرات بمضي وقت الصلاة بخلاف ما إذا كانت كتابية لأنه لا يتوقع في حقها أمارة زائدة فاكتفى بالانقطاع وتنقطع إذا تيممت وصلت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهذا استحسان وقال محمد رحمه الله إذا تيممت انقطعت وهذا قياس لأن التيمم حال عدم الماء طهارة مطلقة حتى يثبت به من الأحكام ما يثبت بالاغتسال فكان بمنزلته ولهما أنه ملوث غير مطهر وإنما اعتبر طهارة ضرورة أن لا تتضاعف الواجبات وهذه الضرورة تتحقق حال أداء الصلاة لا فيما قبلها من الأوقات والأحكام الثابتة أيضا ضرورية اقتضائية ثم قيل تنقطع بنفس الشروع عندهما وقيل بعد الفراغ ليتقرر حكم جواز الصلاة.(2/255)
" وإذا اغتسلت ونسيت شيئا من بدنها لم يصبه الماء فإن كان عضوا فما فوقه لم تنقطع الرجعة وإن كان أقل من عضو انقطعت ".
قال رضي الله عنه وهذا استحسان والقياس في العضو الكامل أن لا تبقى الرجعة لأنها غسلت الأكثر والقياس فيما دون العضو أن تبقى لأن حكم الجنابة والحيض لا يتجزأ ووجه الاستحسان وهو الفرق أن ما دون العضو يتسارع إليه الجفاف لقلته فلا يتيقن بعدم وصول الماء إليه فقلنا بأنه تنقطع الرجعة ولا يحل لها التزوج أخذا بالاحتياط فيهما بخلاف العضو الكامل لأنه لا يتسارع إليه الجفاف ولا يغفل عنه عادة فافترقا.
وعن أبي يوسف رحمه الله أن ترك المضمضة والاستنشاق كترك عضو كامل وعنه وهو قول محمد رحمه الله هو بمنزلة ما دون العضو لأن في فرضيته اختلافا بخلاف غيره من الأعضاء " ومن طلق امرأته وهي حامل أو ولدت منه وقال لم أجامعها فله الرجعة " لأن الحبل متى ظهر في مدة يتصور أن يكون منه جعل منه لقوله عليه الصلاة والسلام " الولد للفراش " وذلك دليل الوطء منه وكذا إذا ثبت نسب الولد منه جعل واطئا وإذا ثبت الوطء تأكد الملك والطلاق في ملك متأكد يعقب الرجعة ويبطل زعمه بتكذيب الشرع ألا ترى أنه يثبت بهذا الوطء الإحصان فلأن تثبت به الرجعة أولى وتأويل مسئلة الولادة أن تلد قبل الطلاق لأنها لو ولدت بعده تنقضي العدة بالولادة فلا تتصور الرجعة.
قال: " فإن خلا بها وأغلق بابا أو أرخى سترا وقال لم أجامعها ثم طلقها لم يملك الرجعة " لأن تأكد الملك بالوطء وقد أقر بعدمه فيصدق في حق نفسه والرجعة حقه ولم يصر مكذبا شرعا بخلاف المهر لأن تأكد المهر المسمى يبتني على تسليم المبدل لا على القبض بخلاف الفصل الأول " فإن راجعها " معناه بعد ما خلا بها وقال لم أجامعها " ثم جاءت بولد لأقل من سنتين بيوم صحت تلك الرجعة " لأنه يثبت النسب منه إذ هي لم تقر بانقضاء العدة والولد يبقى في البطن هذه المدة فأنزل واطئا قبل الطلاق دون ما بعده لأن على اعتبار الثاني يزول الملك بنفس الطلاق لعدم الوطء قبله فيحرم الوطء والمسلم لا يفعل الحرام.
" فإن قال لها إذا ولدت فأنت طالق فولدت ثم أتت بولد آخر فهي رجعة " معناه من بطن آخر وهو أن يكون بعد ستة أشهر وإن كان أكثر من سنتين إذا لم تقر بانقضاء العدة لأنه وقع الطلاق عليه بالولد الأول ووجبت العدة فيكون الولد الثاني من علوق حادث منه في(2/256)
العدة لأنها لم تقر بانقضاء العدة فيصير مراجعا " وإن قال كلما ولدت ولدا فأنت طالق لولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فالولد الأول طلاق والولد الثاني رجعة وكذا الثالث " لأنها إذا جاءت بالولد الأول وقع الطلاق وصارت معتدة وبالثاني صار مراجعا لما بينا أنه يجعل العلوق بوطء حادث في العدة ويقع الطلاق الثاني بولادة الولد الثاني لأن اليمين معقودة بكلمة كلما ووجبت العدة وبالولد الثالث صار مراجعا لما ذكرنا وتقع الطلقة الثالثة بولادة الثالث ووجبت العدة بالأقراء لأنها حائل من ذوات الحيض حين وقع الطلاق.
" والمطلقة الرجعية تتشوف وتتزين " لأنها حلال للزوج إذ النكاح قائم بينهما ثم الرجعة مستحبة والتزين حامل له عليها فيكون مشروعا.
" ويستحب لزوجها أن لا يدخل عليها حتى يؤذنها أو يسمعها خفق نعليه " معناه إذا لم يكن من قصده المراجعة لأنها ربما تكون متجردة فيقع بصره على موضع يصير به مراجعا ثم يطلقها فتطول عليها العدة.
" وليس له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها " وقال زفر رحمه الله له ذلك لقيام النكاح ولهذا له أن يغشاها عندنا ولنا قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآية ولأن تراخي عمل المبطل لحاجته إلى المراجعة فإذا لم يراجعها حتى انقضت العدة ظهر أنه لا حاجة له فتبين أن البطل عمل عمله من وقت وجوده ولهذا تحتسب الأقراء من العدة فلم يملك الزوج الإخراج إلا أن يشهد على رجعتها فتبطل العدة ويتقرر ملك الزوج وقوله حتى يشهد على رجعتها معناه الاستحباب على ما قدمناه.
" والطلاق الرجعي لا يحرم الوطء " وقال الشافعي رحمه الله يحرمه لأن الزوجية زائلة لوجود القاطع وهو الطلاق ولنا أنها قائمة حتى يملك مراجعتها من غير رضاها لأن حق الرجعة ثبت نظرا للزوج ليمكنه التدارك عند اعتراض الندم وهذا المعنى يوجب استبداده به وذلك يؤذن بكونه استدامة لا إنشاء إذ الدليل ينافيه والقاطع أخر عمله إلى مدة إجماعا أو نظرا له على ما تقدم.(2/257)
فصل فيما تحل به المطلقة
" وإذا كان الطلاق بائنا دون الثلاث فله أن يتزوجها في العدة وبعد انقضائها " لأن حل المحلية باق لأن زواله معلق بالطلقة الثالثة فينعدم قبله ومنع الغير في العدة لاشتباه النسب ولا اشتباه في إطلاقه " وإن كان الطلاق ثلاثا في الحرة أو ثنتين في الأمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويدخل بها ثم يطلقها أو يموت عنها " والأصل فيه(2/257)
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فالمراد الطلقة الثالثة والثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة لأن الرق منصف لحل المحلية على ما عرف ثم الغاية نكاح الزوج مطلقا والزوجية المطلقة إنما ثبتت بنكاح صحيح وشرط الدخول ثبت بإشارة النص وهو أن يحمل النكاح على الوطء حملا للكلام على الإفادة دون الإعادة إذ العقد استفيد بإطلاق اسم الزوج أو يزاد على النص بالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر روي بروايات ولا خلاف لأحد فيه سوى سعيد بن المسيب رضي الله عنه وقوله غير معتبر حتى لو قضى به القاضي لا ينفذ والشرط الإيلاج دون الإنزال لأنه كمال ومبالغة فيه والكمال قيد زائد.
" والصبي المراهق في التحليل كالبالغ " لوجود الدخول في نكاح صحيح وهو الشرط بالنص ومالك رحمه الله يخالفنا فيه والحجة عليه ما بيناه وفسروه في الجامع الصغير وقال غلام لم يبلغ ومثله يجامع جامع امرأته وجب عليها الغسل وأحلها على الزوج الأول.
ومعنى هذا الكلام أن تتحرك آلته ويشتهي وإنما وجب الغسل عليها لإلتقاء الختانين وهو سبب لنزول مائها والحاجة إلى الإيجاب في حقها أما لا غسل على الصبي وإن كان يؤمر به تخلقا.
قال: " ووطء المولى أمته لا يحلها " لأن الغاية نكاح الزوج " وإذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح مكروه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لعن الله المحلل والمحلل له " وهذا هو محمله " فإن طلقها بعد ما وطئها حلت للأول " لوجود الدخول في نكاح صحيح إذ النكاح لا يبطل بالشرط وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يفسد النكاح لأنه في معنى الموقت فيه ولا يحلها على الأول لفساده وعن محمد رحمه الله أنه يصح النكاح لما بينا ولا يحلها على الأول لأنه استعجل ما أخره الشرع فيجازى بمنع مقصوده كما في قتل المورث " وإذا طلق الحرة تطليقة أو تطليقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول عادت بثلاث تطليقات ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يهدم ما دون الثلاث " لأنه غاية للحرمة بالنص فيكون منهيا ولا إنهاء للحرمة قبل الثبوت ولهما قوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل والمحلل له سماه محللا وهو المثبت للحل " وإذا طلقها ثلاثا(2/258)
فقالت قد انقضت عدتي وتزوجت ودخل بي الزوج وطلقني وانقضت عدتي والمدة تحتمل ذلك جاز للزوج أن يصدقها إذا كان في غالب ظنه أنها صادقة لأنه معاملة أو أمر ديني لتعلق الحل به وقول الواحد فيهما مقبول وهو غير مستنكر إذا كانت المدة تحتمله واختلفوا في أدنى هذه المدة وسنبينها في باب العدة.(2/259)
باب الإيلاء
" وإذا قال الرجل لامرأته والله لا أقربك أو قال والله لا أقربك أربعة أشهر فهو مول " لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} [البقرة: 226] الآية " فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة " لأن الكفارة موجب الحنث " وسقط الإيلاء " لأن اليمين ترتفع بالحنث " وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة ".
وقال الشافعي رحمه الله تبين بتفريق القاضي لأنه مانع حقها في الجماع فينوب القاضي منابه في التسريح كما في الجب والعنة ولنا أنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة وهو المأثور عن عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة
وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين وكفى بهم قدوة ولأنه كان طلاقا في الجاهلية فحكم الشرع بتأجيله إلى انقضاء المدة " فإن كان حلف على أربعة أشهر فقد سقطت اليمين " لأنها كانت مؤقتة به " وإن كان حلف على الأبد فاليمين باقية " لأنها مطلقة ولم يوجد الحنث لترتفع به إلا أنه لا يتكرر الطلاق قبل التزوج لأنه لم يوجد منع الحق بعد البينونة " فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء فإن وطئها وإلا وقعت بمضي اربعة أشهر تطليقة أخرى " لأن اليمين باقية لإطلاقها وبالتزوج ثبت حقها فيتحقق الظلم ويعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج " فإن تزوجها ثالثا عاد الإيلاء ووقعت بمضي أربعة أشهر أخرى إن لم يقربها " لما بيناه " فإن تزوجها بعد زوج آخر لم يقع بذلك الإيلاء طلاق " لتقيده بطلاق هذا الملك وهي فرع مسئلة التنجيز الخلافية وقد مر من قبل " واليمين باقية " لإطلاقها وعدم الحنث " فإن وطئها كفر عن يمينه " لوجود الحنث " فإن حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا " لقول ابن عباس رضي الله عنه لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ولأن الامتناع عن قربانها في أكثر المدة بلا مانع وبمثلة لا يثبت حكم الطلاق فيه " ولو قال والله لا أقربك شهرين وشهرين بعد هذين الشهرين فهو مول " لأنه جمع بينهما بحرف الجمع فصار كجمعه بلفظ الجمع " ولو مكث يوما ثم قال والله لا أقربك شهرين بعد الشهرين الأولين لم يكن موليا " لأن الثاني(2/259)
إيجاب مبتدأ وقد صار ممنوعا بعد اليمين الأولى شهرين وبعد الثانية أربعة أشهر إلا يوما مكث فيه فلم تتكامل مدة المنع " ولو قال والله لا أقربك سنة إلا يوما لم يكن موليا " خلافا لزفر رحمه الله هو يصرف الاستثناء إلى آخرها اعتبارا بالإجارة فتمت مدة المنع ولنا أن المولي من لا يمكنه القربان أربعة أشهر إلا بشيء يلزمه وههنا يمكنه لأن المستثنى يوم منكر بخلاف الإجارة لأن الصرف إلا الآخر لتصحيحها فإنها لا تصح مع التنكير ولا كذلك اليمين " ولو قربها في يوم والباقي أربعة أشهر أوأكثر صار موليا " لسقوط الاستثناء " ولو قال وهو بالبصرة والله لا أدخل الكوفة وامرأته بها لم يكن موليا " لأنه يمكنه القربان من غير شيء يلزمه بإخراج من الكوفة.
قال: " ولو حلف بحج أو بصوم أو صدقة أو عتق أو طلاق فهو مول " لتحقق المنع باليمين وهو ذكر الشرط والجزاء وهذه الأجزية مانعة لما فيها من المشقة.
وصورة الحلف بالعتق أن يعلق بقربانها عتق عبده وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول يمكنه البيع ثم القربان فلا يلزمه شيء وهما يقولان البيع موهوم فلا يمنع المانعية فيه والحلف بالطلاق أن يعلق بقربانها طلاقها أو طلاق صاحبتها وكل ذلك مانع " وإن آلى من المطلقة الرجعية كان موليا وإن آلى من البائنة لم يكن موليا " لأن الزوجية قائمة في الأولى دون الثانية ومحل الإيلاء من تكون من نسائنا بالنص فلو انقضت العدة قبل انقضاء مدة الإيلاء سقط الإيلاء لفوات المحلية " ولو قال لأجنبية والله لا أقربك أو أنت علي كظهر أمي ثم تزوجها لم يكن موليا ولا مظاهرا " لأن الكلام في مخرجه وقع باطلا لانعدام المحلية فلا ينقلب صحيحا بعد ذلك " وإن قربها كفر " لتحقق الحنث إذا اليمين منعقدة في حقه " ومدة إيلاء الأمة شهران " لأن هذه مدة ضربت أجلا للبينونة فتتنصف بالرق كمدة العدة " وإن كان المولى مريضا لا يقدر على الجماع أو كانت مريضة أو رتقاء أو صغيرة لا تجامع أو كانت بينهما مسافة لا يقدر أن يصل إليها في مدة الإيلاء ففيؤه أن يقول بلسانه فئت إليها في مدة الإيلاء فإن قال ذلك سقط الإيلاء ".
وقال الشافعي رحمه الله: لا فيء إلا بالجماع وإليه ذهب الطحاوي لأنه لو كان فيئا لكان حنثا ولنا أنه آذاها بذكر المنع فيكون إرضاؤها بالوعد باللسان وإذا ارتفع الظلم لا يجازى بالطلاق " ولو قدر على الجماع في المدة بطل ذلك الفيء وصار فيؤه بالجماع " لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالحلف "وإ ذا قال لامرأته أنت علي حرام سئل عن نيته فإن قال أردت الكذب فهو كما قال " لأنه نوى حقيقة كلامه وقيل لا يصدق في القضاء لأنه يمين ظاهرا " وإن قال أردت الطلاق فهي تطليقة بائنة إلا أن ينوي الثلاث " وقد(2/260)
ذكرناه في الكنايات " وإن قال أردت الظهار فهو ظهار " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله ليس بظهار لانعدام التشبيه بالمحرمة وهو الركن فيه ولهما أنه أطلق الحرمة وفي الظهار نوع حرمة المطلق يحتمل المقيد " وإن قال أردت التحريم أو لم أرد به شيئا فهو يمين يصير به موليا " لأن الأصل في تحريم الحلال إنما هو يمين عندنا وسنذكره في الأيمان إن شاء الله ومن المشايخ من يصرف لفظة التحريم إلى الطلاق من غير نية بحكم العرف والله أعلم بالصواب.(2/261)
باب الخلع
" وإذا تشاق الزوجان وخافا أن لا يقيما حدود الله فلا بأس بأن تفتدي نفسها منه بمال يخلعها به " لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] " فإذا فعلا ذلك وقع بالخلع تطليقة بائنة ولزمها المال " لقوله عليه الصلاة والسلام: " الخلع تطليقة بائنة " ولأنه يحتمل الطلاق حتى صار من الكنايات والواقع بالكنايات بائن إلا أن ذكر المال أغنى عن النية هنا ولأنها لا تسلم المال إلا لتسلم لها نفسها وذلك بالبينونة " وإن كان النشوز من قبله يكره له أن يأخذ منها عوضا " لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلى أن قال {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: من الآية20] ولأنه أوحشها بالاستبدال فلا يزيد في وحشتها بأخذ المال " وإن كان النشوز منها كرهنا له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ".
وفي رواية الجامع الصغير: طاب الفضل أيضا لإطلاق ما تلونا بدءا ووجه الأخرى قوله عليه الصلاة والسلام في امرأة ثابت بن قيس بن شماس أما الزيادة فلا وقد كان النشوز منها " ولو أخذ الزيادة جاز في القضاء " وكذلك إذا أخذ والنشوز منه لأن مقتضى ما تلوناه شيآن الجواز حكما والإباحة وقد ترك العمل في حق الإباحة لمعارض فبقي معمولا في الباقي " وإن طلقها على مال فقبلت وقع الطلاق ولزمها المال " لأن الزوج يستبد بالطلاق تنجيزا وتعليقا وقد علقه بقبولها والمرأة تملك التزام المال لولايتها على نفسها وملك النكاح مما يجوز الاعتياض عنه وإن لم يكن مالا كالقصاص " وكان الطلاق بائنا " لما بينا ولأنه معاوضة المال بالنفس وقد ملك الزوج أحد البدلين فتملك هي الآخر وهو النفس تحقيقا للمساواة.
قال: " وإن بطل العوض في الخلع مثل أن يخالع المسلم على خمر أو خنزير أو ميتة فلا شيء للزوج والفرقة بائنة وإن بطل العوض في الطلاق كان رجعيا " فوقوع الطلاق في الوجهين للتعليق بالقبول وافتراقهما في الحكم لأنه لما بطل العوض كان العامل في الأول(2/261)
لفظ الخلع وهو كناية وفي الثاني الصريح وهو يعقب الرجعة وإنما لم يجب للزوج شيء عليها لأنها ما سمت مالا متقوما حتى تصير غارة له ولأنه لا وجه إلى إيجاب المسمى للإسلام ولا إلى إيجاب غيره لعدم الالتزام بخلاف ما إذا خالع على خل بعينه فظهر أنه خمر لأنها سمت مالا فصار مغرورا وبخلاف ما إذا كاتب أو أعتق على خمر حيث تجب قيمة العبد لأن ملك المولى فيه متقوم وما رضي بزواله مجانا.
أما ملك البضع في حالة الخروج فغير متقوم على ما نذكر وبخلاف النكاح لأن البضع في حالة الدخول متقوم والفقه أنه شريف فلم يشرع تملكه إلا بعوض إظهارا لشرفه فأما الإسقاط فنفسه شرف فلا حاجة إلى إيجاب المال.
قال: " وما جاز أن يكون مهرا جاز أن يكون بدلا في الخلع " لأن ما يصلح عوضا للمتقوم أولى أن يصلح عوضا لغير المتقوم " فإن قالت له خالعني على ما في يدي فخالعها فلم يكن في يدها شيء فلا شيء له عليها " لأنها لم تغره بتسمية المال " وإن قالت خالعني على ما في يدي من مال فخالعها فلم يكن في يدها شيء ردت عليه مهرها " لأنها لما سمت مالا لم يكن الزوج راضيا بالزوال إلا بعوض ولا وجه إلى إيجاب المسمى وقيمته للجهالة ولا إلى قيمة البضع أعني مهر المثل لأنه غير متقوم حالة الخروج فتعين إيجاب ما قام به على الزوج دفعا للضرر عنه.
" ولو قالت خالعني على ما في يدي من دراهم أو من الدراهم ففعل فلم يكن في يدها شيء فعليها ثلاثة دراهم " لأنها سمت الجمع وأقله ثلاثة وكلمة من ههنا للصلة دون التبعيض لأن الكلام يختل بدونه " فإن اختلعت على عبد لها آبق على أنها بريئة من ضمانه لم تبرأ وعليها تسليم عينه إن قدرت وتسليم قيمته إن عجزت " لأنه عقد المعاوضة فيقتضي سلامة العوض واشتراط البراءة عنه شرط فاسد فيبطل إلا أن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة وعلى هذا النكاح.
" وإذا قالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف " لأنها لما طلبت الثلاث بألف فقد طلبت كل واحدة بثلث الألف وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض والعوض ينقسم على المعوض والطلاق بائن لوجوب المال " وإن قالت طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها عند أبي حنيفة رحمه الله ويملك الرجعة وقالا هي واحدة بائنة بثلث الألف " لأن كلمة على بمنزلة الباء في المعاوضات حتى إن قولهم احمل هذا الطعام بدرهم أو على درهم سواء وله أن كلمة على للشرط قال الله تعالى:(2/262)
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12]
ومن قال لامرأته أنت طالق على أن تدخلي الدار كان شرطا وهذا لأنه للزوم حقيقة واستعير للشرط لأنه يلازم الجزاء وإذا كان للشرط فالمشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط بخلاف الباء لأنه للعوض على ما مر وإذا لم يجب المال كان مبتدأ فوقع الطلاق ويملك الرجعة.
" ولو قال الزوج طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء " لأن الزوج ما رضي بالبينونة إلا لتسلم له الألف كلها بخلاف قولها طلقني ثلاثا بألف لأنها لما رضيت بالبينونة بألف كانت ببعضها أرضى.
" ولو قال أنت طالق على ألف فقبلت طلقت وعليها الألف وهو كقوله أنت طالق بألف " ولا بد من القبول في الوجهين لأن معنى قوله بألف بعوض ألف يجب لي عليك ومعنى قوله على ألف على شرط ألف يكون لي عليك والعوض لا يجب بدون قبوله والمعلق بالشرط لا ينزل قبل وجوده والطلاق بائن لما قلنا.
" ولو قال لامرأته أنت طالق وعليك ألف فقبلت أو قال لعبده أنت حر وعليك ألف فقبل عتق العبد وطلقت المرأة ولا شيء عليهما عند أبي حنيفة رحمه الله " وكذا إذا لم يقبلا " وقالا على كل واحد منهما الألف إذا قبل " وإذا لم يقبل لا يقع الطلاق والعتاق لهما أن هذا الكلام يستعمل للمعاوضة فإن قولهم احمل هذا المتاع ولك درهم بمنزلة قولهم بدرهم وله أنه جملة تامة فلا ترتبط بما قبله إلا بدلالة إذ الأصل فيها الاستقلال ولا دلالة لأن الطلاق والعتاق ينفكان عن المال بخلاف البيع والإجارة لأنهما لا يوجدان دونه.
" ولو قال أنت طالق على ألف على أني بالخيار أو على أنك بالخيار ثلاثة ايام فقبلت فالخيار باطل إذا كان للزوج وهو جائز إذا كان للمرأة فإن ردت الخيار في الثلاث بطل وإن لم ترد طلقت ولزمها الألف " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا الخيار باطل في الوجهين والطلاق واقع وعليها ألف درهم " لأن الخيار للفسخ بعد الانعقاد لا للمنع من الانعقاد والتصرفان لا يحتملان الفسخ من الجانبين لأنه في جانبه يمين ومن جانبها شرط.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخلع في جانبها بمنزلة البيع حتى يصح رجوعها ويتوقف على ما وراء المجلس فيصح اشتراط الخيار فيه أما في جانبه يمين حتى لا يصح رجوعه ويتوقف على ما وراء المجلس ولا خيار في الأيمان وجانب العبد في العتاق مثل جانبها في الطلاق " ومن قال لامرأته طلقتك أمس على ألف درهم فلم تقبل فقالت قبلت(2/263)
فالقول قول الزوج ومن قال لغيره بعت منك هذا العبد بألف درهم أمس فلم تقبل فقال قبلت فالقول قول المشتري " ووجه الفرق أن الطلاق بالمال يمين من جانبه فالإقرار به لا يكون إقرارا بالشرط لصحته بدونه أما البيع فلا يتم إلا بالقبول والإقرار به إقرار بما لا يتم إلا به فإنكاره القبول رجوع منه.
قال: " والمبارأة كالخلع كلاهما يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح عند أبي حنيفة " رحمه الله وقال محمد رحمه الله لا يسقط فيهما إلا ما سمياه وأبو يوسف رحمه الله معه في الخلع ومع أبي حنيفة رحمه الله في المبارأة لمحمد رحمه الله أن هذه معاوضة وفي المعاوضات يعتبر المشروط لا غيره ولأبي يوسف رحمه الله أن المبارأة مفاعلة من البراءة فتقتضيها من الجانبين وأنه مطلق قيدناه بحقوق النكاح لدلالة الفرض.
أما الخلع فمقتضاه الانخلاع وقد حصل في نقض النكاح ولا ضرورة إلى انقطاع الأحكام ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخلع ينبئ عن الفصل ومنه خلع النعل وخلع العمل وهو مطلق كالمبارأة فيعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه.
قال: " ومن خلع ابنته وهي صغيرة بمالها لم يجز عليها " لأنه لا نظر لها فيه إذ البضع في حالة الخروج غير متقوم والبدل متقوم بخلاف النكاح لأن البضع متقوم عند الدخول ولهذا يعتبر خلع المريضة من الثلث ونكاح المريض بمهر المثل من جميع المال وإذا لم يجز لا يسقط المهر ولا يستحق مالها ثم يقع الطلاق في رواية وفي رواية لا يقع والأول أصح لأنه تعليق بشرط قبوله فيعتبر بالتعليق بسائر الشروط.
" وإن خالعها على ألف على أنه ضامن فالخلع واقع والألف على الأب " لأن اشتراط بدل الخلع على الأجنبي صحيح فعلى الأب أولى ولا يسقط مهرها لأنه لم يدخل تحت ولاية الأب " وإن شرط الألف عليها توقف على قبولها إن كانت من أهل القبول فإن قبلت وقع الطلاق " لوجود الشرط " ولا يجب المال " لأنها ليست من أهل الغرامة فإن قبله الأب عنها ففيه روايتان "وكذا إن خالعها على مهرها ولم يضمن الأب المهر توقف على قبولها فإن قبلت طلقت ولا يسقط المهر " فإن قبل الأب عنها فعلى الروايتين " وإن ضمن الأب المهر وهو ألف درهم طلقت " لوجود قبوله وهو الشرط ويلزمه خمسمائة استحسانا وفي القياس يلزمه الألف وأصله في الكبيرة إذا اختلعت قبل الدخول على ألف ومهرها ألف ففي القياس عليها خمسمائة زائدة وفي الاستحسان لا شيء عليها لأنه يراد به عادة حاصل ما يلزم لها.(2/264)
باب الظهار
مدخل
...
باب الظهار
" وإذا قال الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي فقد حرمت عليه لا يحل له وطؤها ولا مسها ولا تقبيلها حتى يكفر عن ظهاره " لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} إلى أن قال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: 3] .
والظهار كان طلاقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونقل حكمه إلى تحريم موقت بالكفارة غير مزيل للنكاح وهذا لأنه جناية لكونه منكرا من القول وزورا فيناسب المجازاة عليها بالحرمة وارتفاعها بالكفارة ثم الوطء إذا حرم حرم بدواعيه كيلا يقع فيه كما في الإحرام بخلاف الحائض والصائم لأنه يكثر وجودهما فلو حرم الدواعي يفضي إلى الحرج ولا كذلك الظهار والإحرام " فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله تعالى ولا شيء عليه غير الكفارة الأولى ولا يعود حتى يكفر " لقوله عليه الصلاة السلام للذي واقع في ظهاره قبل الكفارة " استغفر الله ولا تعد حتى تكفر " ولو كان شيء آخر واجبا لنبه عليه قال " وهذا اللفظ لا يكون إلا ظهارا " لأنه صريح فيه " ولو نوى به الطلاق لا يصح " لأنه منسوخ فلا يتمكن من الإتيان به.
" وإذا قال أنت علي كبطن أمي أو كفخذها أو كفرجها فهو مظاهر " لأن الظهار ليس إلا تشبيه المحللة بالمحرمة وهذا المعنى يتحقق في عضو لا يجوز النظر إليه " وكذا إذا شبهها بمن لا يحل له النظر إليها على التأبيد من محارمه مثل أخته أو عمته أو أمه من الرضاعة " لأنهن في التحريم المؤبد كالأم " وكذلك إذا قال رأسك علي كظهر أمي أو فرجك أو وجهك أو رقبتك أو نصفك أو ثلثك أو بدنك " لأنه يعبر بها عن جميع البدن ويثبت الحكم في الشائع ثم يتعدى كما بيناه في الطلاق.
" ولو قال أنت علي مثل أمي أو كأمي يرجع إلى نيته " لينكشف حكمه " فإن قال أردت الكرامة فهو كما قال " لأن التكريم بالتشبيه فاش في الكلام " وإن قال أردت الظهار فهو ظهار " لأنه تشبيه بجميعها وفيه تشبيه بالعضو لكنه ليس بصريح فيفتقر إلى النية " وإن قال أردت الطلاق فهو طلاق بائن " لأنه تشبيه بالأم في الحرمة فكأنه قال أنت علي حرام ونوى الطلاق " وإن لم تكن له نية فليس بشيء " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لاحتمال الحمل على الكرامة وقال محمد رحمه الله يكون ظهارا لأن التشبيه بعضو منها لما كان ظهارا فالتشبيه بجميعها أولى وإن عنى به التحريم لا غير فعند(2/265)
أبي يوسف رحمه الله هو إيلاء ليكون الثابت به أدنى الحرمتين وعند محمد رحمه الله ظهار لأن كاف التشبيه تختص به.
" ولو قال أنت علي حرام كأمي ونوى ظهارا أو طلاقا فهو على ما نوى " لأنه يحتمل الوجهين الظهار لمكان التشبيه والطلاق لمكان التحريم والتشبيه تأكيد له وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي يوسف رحمه الله إيلاء وعلى قول محمد رحمه الله ظهار والوجهان بيناهما " وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي ونوى به طلاقا أو إيلاء لم يكن إلا ظهارا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو على ما نوى " لأن التحريم يحتمل كل ذلك على ما بينا غير أن عند محمد رحمه الله إذا نوى الطلاق لا يكون ظهارا وعند أبي يوسف رحمه الله يكونان جميعا وقد عرف في موضعه ولأبي حنيفة رحمه الله أنه صريح في الظهار فلا يحتمل غيره ثم هو محكم فيرد التحريم إليه.
قال: " ولا يكون الظهار إلا من الزوجة حتى لو ظاهر من أمته لم يكن مظاهرا " لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} ولأن الحل في الأمة تابع فلا تلحق بالمنكوحة ولأن الظهار منقول عن الطلاق ولا طلاق في المملوكة " فإن تزوج امرأة بغير أمرها ثم ظاهر منها ثم أجازت النكاح فالظهار باطل " لأنه صادق في التشبيه وقت المتصرف فلم يكن منكرا من القول والظهار ليس بحق من حقوقه حتى يتوقف بخلاف إعتاق المشتري من الغاصب لأنه من حقوق الملك " ومن قال لنسائه أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا منهن جميعا " لأنه أضاف الظهار إليهن فصار كما إذا أضاف الطلاق " وعليه لكل واحدة كفارة " لأن الحرمة تثبت في حق كل واحدة والكفارة لإنهاء الحرمة فتتعدد بتعددها بخلاف الإيلاء منهن لأن الكفارة فيه لصيانة حرمة الاسم ولم يتعدد ذكر الاسم.(2/266)
فصل في الكفارة
قال: " وكفارة الظهار عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " للنص الوارد فيه فإنه يفيد الكفارة على هذا الترتيب.
قال: " وكل ذلك قبل المسيس " وهذا في الإعتاق والصوم ظاهر للتنصيص عليه وكذا في الإطعام لأن الكفارة فيه منهية للحرمة فلا بد من تقديمها على الوطء ليكون الوطء حلالا.
قال: " وتجزئ في العتق الرقبة الكافرة والمسلمة والذكر والأنثى والصغير والكبير " لأن اسم الرقبة ينطلق على هؤلاء إذ هي عبارة عن الذات المرقوق المملوك من كل وجه(2/266)
والشافعي رحمه الله يخالفنا في الكافرة ويقول الكفارة حق الله تعالى فلا يجوز صرفه إلى عدو الله كالزكاة ونحن نقول المنصوص عليه إعتاق الرقبة وقد تحقق وقصده من الإعتاق التمكن من الطاعة ثم مقارفته المعصية يحال به إلى سوء اختياره " ولا تجزئ العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين " لأن الفائت جنس المنفعة وهي البصر أو البطش أو المشي وهو المانع أما إذا اختلت المنفعة فهو غير مانع حتى يجوز العوراء ومقطوعة إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف لأنه ما فات جنس المنفعة بل اختلت بخلاف ما إذا كانت مقطوعتين من جانب واحد حيث لا يجوز لفوات جنس منفعة المشي إذ هو عليه متعذر ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه سمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزيه " ولا يجوز مقطوع إبهامي اليدين " لأن قوة البطش بهما فبفواتهما يفوت جنس المنفعة " ولا يجوز المجنون الذي لا يعقل " لأن الانتفاع بالجوارح لا يكون إلا بالعقل فكان فائت المنافع " والذي يجن ويفيق يجزئه " لأن الاختلال غير مانع " ولا يجزئ عتق المدبر وأم الولد " لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصا وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال لأن إعتاقه يكون ببدل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجزئه لقيام الرق من كل وجه ولهذا تقبل الكتابة الانفساخ بخلاف أمومية الولد والتدبير لأنهما لا يحتملان الانفساخ فإن أعتق مكاتبا لم يؤد شيئا جاز خلافا للشافعي رحمه الله له أنه استحق الحرية بجهة الكتابة فأشبه المدبر ولنا أن الرق قائم من كل وجه على ما بينا ولقوله عليه الصلاة والسلام المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والكتابة لا تنافيه فإنه فك الحجر بمنزلة الإذن في التجارة إلا أنه بعوض فيلزم من جانبه ولو كان مانعا ينفسخ بمقتضى الإعتاق إذ هو يحتمله إلا أنه تسلم له الأكساب والأولاد لأن العتق في حق المحل بجهة الكتابة أو لأن الفسخ ضروري لا يظهر في حق الولد والكسب.
" وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وعلى هذا الخلاف كفارة اليمين والمسئلة تأتيك في كتاب الأيمان إن شاء الله " وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر وضمن قيمة باقيه لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله ويجوز عندهما " لأنه يملك نصيب صاحبه بالضمان فصار معتقا كل العبد عن الكفارة وهو ملكه بخلاف ما إذا كان المعتق معسرا لأنه وجب عليه السعاية في نصيب الشريك فيكون إعتاقا بعوض ولأبي حنيفة رحمه الله أن نصيب صاحبه ينتقص على ملكه ثم يتحول إليه بالضمان ومثله يمنع الكفارة " وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم أعتق باقيه عنها جاز "(2/267)
لأنه أعتقه بكلامين والنقصان متمكن على ملكه بسبب الإعتاق بجهة الكفارة ومثله غير مانع كمن أضجع شاة للأضحية فاصاب السكين عينها بخلاف ما تقدم لأن النقصان تمكن على ملك الشريك وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله أما عندهما فالإعتاق لا يتجزأ فإعتاق النصف إعتاق الكل فلا يكون إعتاقا بكلامين " وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع التي ظاهر منها ثم أعتق باقيه لم يجز عند أبي حنيفة " رحمه الله لأن الإعتاق يتجزأ عنده وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص وإعتاق النصف حصل بعده وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس.
" وإذا لم يجد المظاهر ما يعتق فكفارته صوم شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان ولا يوم الفطر ولا يوم النحر ولا أيام التشريق " أما التتابع فلأنه منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطال ما أوجبه الله والصوم في هذه الأيام منهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل " فإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد " وقال أبو يوسف رحمه الله لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط وإن كان تقديمه على المسيس شرطا ففيما ذهبنا إليه تقديم البعض وفيما قلتم تأخير الكل عنه ولهما أن الشرط في الصوم أن يكون قبل المسيس وأن يكون خاليا عنه ضرورة بالنص وهذا الشرط ينعدم به فيستأنف " وإن أفطر منها يوما بعذر أو بغير عذر استأنف " لفوات التتابع وهو قادر عليه عادة.
" وإن ظاهر العبد لم يجز في الكفارة إلا الصوم " لأنه لا ملك له فلم يكن من أهل التكفير بالمال " وإن أعتق المولى أو أطعم عنه لم يجزه " لأنه ليس من أهل الملك فلا يصير مالكا بتمليكه.
" وإذا لم يستطع المظاهر الصيام أطعم ستين مسكينا " لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] " ويطعم كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير أو قيمة ذلك " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أوس بن الصامت وسهل بن صخرك " لكل مسكين نصف صاع من بر " ولأن المعتبر دفع حاجة اليوم لكل مسكين فيعتبر بصدقة الفطر وقوله أو قيمة ذلك مذهبنا وقد ذكرناه في الزكاة.
" فإن أعطى منا من بر ومنوين من تمر أو شعير جاز " لحصول المقصود لا الجنس متحد " وإن أمر غيره أن يطعم عنه من ظهاره ففعل أجزأه " لأنه استقراض معنى والفقير قابض له أولا ثم لنفسه فتحقق تملكه ثم تمليكه " فإن غداهم وعشاهم جاز قليلا كان ما أكلوا(2/268)
أو كثيرا " وقال الشافعي رحمه الله لا يجزئه إلا التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة ولنا أن المنصوص عليه هو الإطعام وهو حقيقة في التمكين من الطعم وفي الإباحة ذلك كما في التمليك.
أما الواجب في الزكاة الإيتاء وفي صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك حقيقة " ولو كان فيمن عشاهم صبي فطيم لا يجزئه " لأنه لا يستوفى كاملا ولا بد من الإدام في خبز الشعير ليمكنه الإستيفاء إلى الشبع وفي خبز الحنطة لا يشترط الإدام " وإن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه " لأن المقصود سد خلة المحتاج والحاجة تتجدد في كل يوم فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره وهذا في الإباحة من غير خلاف وأما التمليك من مسكين واحد في يوم واحد بدفعات فقد قيل لا يجزئه وقد قيل يجزئه لأن الحاجة إلى التمليك تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة واحدة لأن التفريق واجب بالنص " وإن قرب التي ظاهر منها في خلال الإطعام لم يستأنف " لأنه تعالى ما شرط في الإطعام أن يكون قبل المسيس إلا أنه يمنع من المسيس قبله لأنه ربما يقدر على الإعتاق أو الصوم فيقعان بعد المسيس والمنع لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية في نفسه " وإذا أطعم عن ظهارين ستين مسكينا كل مسكين صاعا من بر لم يجزه إلا عن واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يجزئه عنهما وإن أطعم ذلك عن إفطار وظهار أجزأه عنهما " له أن بالمؤدى وفاء بهما والمصروف إليه محل لهما فيقع عنهما كما لو اختلف السبب أو فرق في الدفع ولهما أن النية في الجنس الواحد لغو وفي الجنسين معتبرة وإذا لغت النية والمؤدى يصلح كفارة واحدة لأن نصف الصاع أدنى المقادير فيمنع النقصان دون الزيادة فيقع عنها كما إذا نوى أصل الكفارة بخلاف ما إذا فرق في الدفع لأنه في الدفعة الثانية في حكم مسكين آخر " ومن وجبت عليه كفارتا ظهار فأعتق رقبتين لا ينوي عن إحداهما بعينها جاز عنهما وكذا إذا صام أربعة أشهر أو أطعم مائة وعشرين مسكينا جاز لأن الجنس متحد فلا حاجة إلى نية معينة وإن أعتق عنهما رقبة واحدة أو صام شهرين كان له أن يجعل ذلك عن أيهما شاء وإن أعتق عن ظهار وقتل لم يجز عن واحد منهما ".
وقال زفر رحمه الله: لا يجزئه عن أحدهما في الفصلين وقال الشافعي رحمه الله له أن يجعل ذلك عن أحدهما في الفصلين لأن الكفارات كلها باعتبار اتحاد المقصود جنس واحد وجه قول زفر رحمه الله أنه أعتق عن كل ظهار نصف العبد وليس له أن يجعل عن أحدهما بعد ما أعتق عنهما لخروج الأمر من يده ولنا أن نية التعيين في الجنس المتحد غير(2/269)
مفيد فتلغو وفي الجنس المختلف مفيد واختلاف الجنس في الحكم وهو الكفارة ههنا باختلاف السبب نظير الأول إذا صام يوما في قضاء رمضان عن يومين يجزئه عن قضاء يوم واحد ونظير الثاني إذا كان عليه صوم القضاء والنذر فإنه لا بد فيه من التمييز والله أعلم.(2/270)
باب اللعان
قال: " إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وهما من أهل الشهادة والمرأة ممن يحد قاذفها أو نفي نسب ولدها وطالبته بموجب القذف فعليه اللعان " والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] والاستثناء إنما يكون من الجنس وقال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] نص على الشهادة واليمين فقلنا الركن هو الشهادة المؤكدة باليمين ثم قرن الركن في جانبه باللعن لو كان كاذبا وهو قائم مقام حد القذف وفي جانبها بالغضب وهو قائم مقام حد الزنا.
إذا ثبت هذا نقول لا بد أن يكونا من أهل الشهادة لأن الركن فيه الشهادة ولا بد أن تكون هي ممن يحد قاذفها لأنه قائم في حقه مقام حد القذف فلا بد من إحصانها ويجب بنفي الولد لأنه لما نفي ولدها صار قاذفا لها ظاهرا ولا يعتبر احتمال أن يكون الولد من غيره بالوطء من شبهة كما إذا نفى أجنبي نسبه عن أبيه المعروف وهذا لأن الأصل في النسب الفراش الصحيح والفاسد ملحق به فنفيه عن الفراش الصحيح قذف حتى يظهر الملحق به ويشترط طلبها لأنه حقها فلا بد من طلبها كسائر الحقوق " فإن امتنع منه حبسه الحاكم حتى يلاعن أو يكذب نفسه " لأنه حق مستحق عليه وهو قادر على إيفاته فيحبس به حتى يأتي بما هو عليه أو يكذب نفسه ليرتفع السبب " ولو لاعن وجب عليها اللعان " لما تلونا من النص إلا انه يبتدأ بالزوج لأنه هو المدعي " فإن امتنعت حبسها الحاكم حتى تلاعن أو تصدقه " لأنه حق مستحق عليها وهي قادرة على أيفائه فتحبس فيه " وإذا كان الزوج عبدا أو كافرا أو محدودا في قذف فقذف امرأته فعليه الحد " لأنه تعذر اللعان لمعنى من جهته فيصار إلى الموجب الأصلي وهو الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية واللعان خلف عنه " وإن كان من أهل الشهادة وهي أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو كانت ممن لا يحد قاذفها " بأن كانت صبية أو مجنونة أو زانية " فلا حد عليه ولا لعان " لانعدام أهلية الشهادة وعدم الإحصان في جانبها وامتناع اللعان لمعنى من جهتها فيسقط الحد كما إذا صدقته.(2/270)
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك ولو كانا محدودين في قذف فعليه الحد لأن امتناع اللعان من جهته إذ هو ليس من أهله " وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا يشير إليها في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا " والأصل فيه ما تلوناه من النص وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يأتي بلفظة المواجهة يقول فيما رميتك به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وجه ما ذكر في الكتاب أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال.
قال: " وإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرق القاضي بينهما " وقال زفر تقع بتلاعنهما لأنه تثبت الحرمة المؤبدة بالحديث ولنا أن ثبوت الحرمة يفوت الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فإذا امتنع ناب القاضي منابه دفعا للظلم دل عليه قول ذلك الملاعن عند النبي عليه الصلاة والسلام كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا قاله بعد اللعان " وتكون الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " لأن فعل القاضي انتسب إليه كما في العنين " وهو خاطب إذا أكذب نفسه " عندهما وقال أبو يوسف رحمه الله هو تحريم مؤبد لقوله عليه الصلاة والسلام: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " نص على التأبيد ولهما أن الإكذاب رجوع والشهادة بعد الرجوع لا حكم لها ولا يجتمعان ما داما متلاعنين ولم يبق التلاعن ولا حكمه بعد الإكذاب فيجتمعان " ولو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه " وصورة اللعان أن يأمر الحاكم الرجل فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي الولد وكذا في جانب المرأة.
" ولو قذفها بالزنا ونفى الولد ذكر في اللعان الأمرين ثم ينفي القاضي نسب الولد ويلحقه بأمه " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة هلال بن أمية عن هلال وألحقه بها ولأن المقصود من هذا اللعان نفي الولد فيوفر عليه مقصوده فيتضمنه القضاء بالتفريق وعن أبي يوسف رحمه الله أن القاضي يفرق ويقول قد ألزمته أمه وأخرجته من نسب الأب لأنه ينفك عنه فلا بد من ذكره " فإن عاد الزوج وأكذب نفسه حده القاضي " لإقراره بوجوب الحد عليه " وحل له أن يتزوجها " وهذا عندهما لأنه لما حد لم يبق أهلا(2/271)
للعان فارتفع حكمه المنوط به وهو التحريم " وكذلك إن قذف غيرها فحد به " لما بينا وكذا إذا زنت فحدت لانتفاء أهلية اللعان من جانبها.
" وإذا قذف امرأته وهي صغيرة أو مجنونة فلا لعان بينهما " لأنه لا يحد قاذفها لو كان أجنبيا فكذا لا يلاعن الزوج لقيامه مقامه " وكذا إذا كان الزوج صغيرا أو مجنونا " لعدم أهلية الشهادة " وقذف الأخرس لا يتعلق به اللعان " لأنه يتعلق بالصريح كحد القذف وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وهذا لأنه لا يعرى عن الشبهة والحدود تندرئ بها.
" وإذا قال الزوج ليس حملك مني فلا لعان بينهما " وهذا قول أبي حنيفة زفر رحمهما الله لأنه لا يتيقن بقيام الحمل فلم يصر قاذفا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله اللعان يجب بنفي الحمل إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر وهو معنى ما ذكر في الأصل لأنا تيقنا بقيام الحمل عنده فيتحقق القذف قلنا إذا لم يكن قذفا في الحال يصير كالمعلق بالشرط فيصير كأنه قال إن كان بك حمل فليس مني والقذف لا يصح تعليقه بالشرط " فإن قال لها زنيت وهذا الحمل من الزنا تلاعنا " لوجود القذف حيث ذكر الزنا صريحا " ولم ينف القاضي الحمل " وقال الشافعي رحمه الله ينفيه لأنه عليه الصلاة والسلام نفى الولد عن هلال وقد قذفها حاملا ولنا أن الأحكام لا تترتب عليه إلا بعد الولادة لتمكن الاحتمال قبله والحديث محمول على أنه عرف قيام الحبل بطريق الوحي.
" وإذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة أو في الحالة التي تقبل التهنئة وتبتاع آلة الولادة صح نفيه ولاعن به وإن نفاه بعد ذلك لاعن ويثبت النسب هذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يصح نفيه في مدة النفاس " لأن النفي يصح في مدة قصيرة ولا يصح في مدة طويلة ففصلنا بينهما بمدة النفاس لأنه أثر الولادة وله أنه لا معنى للتقدير لأن الزمان للتأمل وأحوال الناس فيه مختلفة فاعتبرنا ما يدل عليه وهو قبوله التهنئة أو سكوته عند التهنئة أو ابتياعه متاع الولادة أو مضي ذلك الوقت فهو ممتنع عن النفي ولو كان غائبا ولم يعلم بالولادة ثم قدم تعتبر المدة التي ذكرناها على الأصلين.
قال: " وإذا ولدت ولدين في بطن واحد فنفى الأول واعترف بالثاني يثبت نسبهما " لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد " وحد الزوج " لأنه أكذب نفسه بدعوى الثاني " وإن اعترف بالأول ونفى الثاني يثبت نسبهما " لما ذكرنا " ولاعن " لأنه قاذف بنفي الثاني ولم يرجع عنه والإقرار بالعفة سابق على القذف فصار كما إذا قال إنها عفيفة ثم قال هي زانية وفي ذلك التلاعن كذا هذا.(2/272)
باب العنين وغيره
" وإذا كان الزوج عنينا أجله الحاكم سنة فإن وصل إليها فبها وإلا فرق بينهما إذا طلبت المرأة ذلك " هكذا روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ولأن الحق ثابت لها في الوطء ويحتمل أن يكون الامتناع لعلة معترضة ويحتمل لآفة أصلية فلا بد من مدة معرفة لذلك وقدرناها بالسنة لاشتمالها على الفصول الأربعة فإذا مضت المدة ولم يصل إليها تبين أن العجز بآفة أصلية ففات الإمساك بالمعروف ووجب عليه التسريح بالإحسان فإذا امتنع ناب القاضي منابه ففرق بينهما ولا بد من طلبها لأن التفريق حقها " وتلك الفرقة تطليقة بائنة " لأن فعل القاضي أضيف إلى فعل الزوج فكأنه طلقها بنفسه وقال الشافعي رحمه الله هو فسخ لكن النكاح لا يقبل الفسخ عندنا وإنما تقع بائنة لأن المقصود وهو دفع الظلم عنها لا يحصل إلا بها لو لم تكن بائنة تعود معلقة بالمراجعة " ولها كمال مهرها إن كان خلا بها " إن خلوة العنين صحيحة " ويجب العدة " لما بينا من قبل هذا إذا اقر الزوج أنه لم يصل إليها.
" ولو اختلف الزوج والمرأة في الوصول إليها فإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه " لأنه ينكر استحقاق حق الفرقة والأصل هو السلامة في الجبلة " ثم إن حلف بطل حقها وإن نكل يؤجل سنة وإن كانت بكرا نظر إليها النساء فإن قلن هي بكر أجل سنة " لظهور كذبه " وإن قلن هي ثيب يحلف الزوج فإن حلف لا حق لها وإن نكل يؤجل سنة وإن كان مجبوبا فرق بينهما في الحال إن طلبت " لأنه لا فائدة في التأجيل " والخصي يؤجل كما يؤجل العنين " لأن وطأه مرجو.
" وإذا أجل العنين سنة وقال قد جامعتها وأنكرت نظر إليها النساء فإن قلن هي بكر خيرت " لأن شهادتهن تأيدت بمؤيد وهي البكارة " وإن قلن هي ثيب حلف الزوج فإن نكل خيرت " لتأيدها بالنكول.
" وإن حلف لا تخير وإن كانت ثيبا في الأصل فالقول قوله مع يمينه " وقد ذكرناه " فإن اختارت زوجها لم يكن لها بعد ذلك خيار " لأنها رضيت ببطلان حقها وفي التأجيل تعتبر السنة القمرية هو الصحيح ويحتسب بأيام الحيض وبشهر رمضان لوجود ذلك في السنة ولا يحتسب بمرضه ومرضها لأن السنة قد تخلو عنه " وإذا كان بالزوجة عيب فلا خيار للزوج ".
وقال الشافعي رحمه الله: ترد بالعيوب الخمسة: وهي الجذام، والبرص، والجنون،(2/273)
والرتق والقرن لأنها تمنع الاستيفاء حسا أو طبعا والطبع مؤيد بالشرع قال عليه الصلاة والسلام فر من المجذوم فرارك من الأسد ولنا أن فوت الاستيفاء أصلا بالموت لا يوجب الفسخ فاختلاله بهذه العيوب أولى وهذا الأن الاستيفاء من الثمرات والمستحق هو التمكن وهو حاصل.
" وإذا كان بالزوج جنون أو برص أو جذام فلا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لها الخيار " دفعا للضرر عنها كما في الجب والعنة بخلاف جانبه لأنه متمكن من دفع الضرر بالطلاق ولهما أن الأصل عدم الخيار لما فيه من إبطال حق الزوج وإنما يثبت في الجب والعنة لأنهما يخلان بالمقصود المشروع له النكاح وهذه العيوب غير مخلة به فافترقا والله أعلم بالصواب.(2/274)
باب العدة
" وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا أو وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق وهي حرة ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقراء " لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والفرقة إذا كانت بغير طلاق فهي في معنى الطلاق لأن العدة وجبت للتعرف عن براءة الرحم في الفرقة الطارئة على النكاح وهذا يتحقق فيها والأقراء الحيض عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله الأطهار واللفظ حقيقة فيهما إذ هو من الأضداد كذا قاله ابن السكيت ولا ينتظمهما جملة للاشتراك والحمل على الحيض أولى إما عملا بلفظ الجمع لأنه لو حمل على الأطهار والطلاق يوقع في طهر لم يبق جمعا أو لأنه معرف لبراءة الرحم وهو المقصود أو لقوله عليه الصلاة والسلام: " وعدة الأمة حيضتان " فيلتحق بيانا به " وإن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر " لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: من الآية4] الآية وكذا التي بلغت بالسن ولم تحض بآخر الآية.
" وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها " لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: من الآية4] " وإن كانت أمة فعدتها حيضتان " لقوله عليه الصلاة والسلامك " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " ولأن الرق منصف والحيضة لا تتجزأ فكملت فصارت حيضتين وإليه أشار عمر رضي الله عنه بقوله لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا " وإن كانت لا تحيض فعدتها شهر ونصف " لأنه متجز فأمكن تنصيفه عملا بالرق.(2/274)
" وعدة الحرة في الوفاة أربعة أشهر وعشر " لقوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] " وعدة الأمة شهران وخمسة أيام " لأن الرق منصف " وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها " لإطلاق قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة وقال عمر رضي الله عنه لو وضعت وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج.
" وإذا ورثت المطلقة في المرض فعدتها أبعد الأجلين " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله ثلاث حيض ومعناه إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا.
أما إذا كان رجعيا فعليها عدة الوفاة بالإجماع لأبي يوسف رحمه الله أن النكاح قد انقطع قبل الموت بالطلاق ولزمتها ثلاث حيض وإنما تجب عدة الوفاة إذا زال النكاح في الوفاة إلا أنه بقي في حق الإرث لا في حق تغير العدة بخلاف الرجعي لأن النكاح باق من كل وجه ولهما أنه لما بقي في حق الإرث يجعل باقيا في حق العدة احتياطا فيجمع بينهما ولو قتل على ردته حتى ورثته امرأته فعدتها على هذا الاختلاف وقيل عدتها بالحيض بالإجماع لأن النكاح حينئذ ااعتبر باقيا إلى وقت الموت في حق الإرث لأن المسلمة لا ترث من الكافر " فإذا عتقت الأمة في عدتها من طلاق رجعي انتقلت عدتها إلى عدة الحرائر " لقيام النكاح من كل وجه " وإن أعتقت وهي مبتوتة أو متوفى عنها زوجها لم تنتقل عدتها " إلى عدة الحرائر لزوال النكاح بالبينونة أو الموت " وإن كانت آيسة فاعتدت بالشهور ثم رأت الدم انتقض ما مضى من عدتها وعليها أن تستأنف العدة بالحيض " ومعناه إذا رأت الدم على العادة لأن عودها يبطل الإياس هو الصحيح فظهر أنه لم يكن خلفا وهذا لأن شرط الخلفية تحقق اليأس وذلك باستدامة العجز إلى الممات كالفدية في حق الشيخ الفاني.
" ولو حاضت حيضتين ثم أيست تعتد بالشهور " تحرزا عن الجمع بين البدل والمبدل " والمنكوحة نكاحا فاسدا والموطوءة بشبهة عدتهما الحيض في الفرقة والموت " لأنها للتعرف عن براءة الرحم لا لقضاء حق النكاح والحيض هو المعرف.
" وإذا مات مولى أم الولد عنها أو أعتقها بعدتها ثلاث حيض وقال الشافعي رحمه الله حيضة واحدة " لأنها تجب بزوال ملك اليمين فشابهت الاستبراء ولنا أنها وجبت بزوال الفراش فأشبه عدة النكاح ثم إمامنا فيه عمر رضي الله عنه فإنه قال عدة أم الولد ثلاث(2/275)
حيض " ولو كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر " كما في النكاح.
" وإذا مات الصغير عن امرأته وبها حبل فعدتها أن تضع حملها " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله عدتها أربعة أشهر وعشر وهو قول الشافعي رحمه الله لأن الحمل ليس بثابت النسب منه فصار كالحادث بعد الموت ولهما إطلاق قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأنها مقدرة بمدة وضع الحمل في أولات الأحمال قصرت المدة أو طالت لا للتعرف عن فراغ الرحم لشرعها بالأشهر مع وجود الأقراء لكن لقضاء حق النكاح وهذا المعنى يتحقق في الصبي وإن لم يكن الحمل منه بخلاف الحمل الحادث لأنه وجبت العدة بالشهور فلا تتغير بحدوث الحمل وفيما نحن فيه كما وجبت وجبت مقدرة بمدة الحمل فافترقا ولا يلزم امرأة الكبير إذا حدث لها الحبل بعد الموت لأن النسب يثبت منه فكان كالقائم عند الموت حكما " ولا يثبت نسب الولد في الوجهين " لأن الصبي لا ماء له فلا يتصور منه العلوق والنكاح يقوم مقامه في موضع التصور.
" وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق " لأن العدة مقدرة بثلاث حيض كوامل فلا ينقص عنها.
" وإذا وطئت المعتدة بشبهة فعليها عدة أخرى وتداخلت العدتان ويكون ما تراه المرأة من الحيض محتسبا منهما جميعا وإذا انقضت العدة الأولى ولم تكمل الثانية فعليها تمام العدة الثانية " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا تتداخلان لأن المقصود هو العبادة فإنها عبادة كف عن التزوج والخروج فلا تتداخلان كالصومين في يوم واحد ولنا أن المقصود التعرف عن فراغ الرحم وقد حصل بالواحدة فتتداخلان ومعنى العبادة تابع ألا ترى أنها تنقضي بدون علمها ومع تركها الكف.
" والمعتدة عن وفاة إذا وطئت بشبهة تعتد بالشهور وتحتسب بما تراه من الحيض فيها " تحقيقا للتداخل بقدر الإمكان " وإبتداء العدة في الطلاق عقيب الطلاق وفي الوفاة عقيب الوفاة فإن لم تعلم بالطلاق أو الوفاة حتى مضت مدة العدة فقد انقضت عدتها " لأن سبب وجوب العدة الطلاق أو الوفاة فيعتبر ابتداؤها من وقت وجود السبب ومشايخنا رحمهم الله يفتون في الطلاق أن ابتداءها من وقت الإقرار نفيا لتهمة المواضعة " والعدة في النكاح الفاسد عقيب التفريق أو عزم الواطئ على ترك وطئها " وقال زفر رحمه الله من آخر الوطآت لأن الوطء هو السبب الموجب ولنا أن كل وطء وجد في العقد الفاسد يجري(2/276)
مجرى الوطأة الواحدة لاستناد الكل إلى حكم عقد واحد ولهذا يكتفى في الكل بمهر واحد فقبل المتاركة أو العزم لا تثبت العدة مع جواز وجود غيره ولأن التمكن على وجه الشبهة أقيم مقام حقيقة الوطء لخفائه ومساس الحاجة إلى معرفة الحكم في حق غيره.
" وإذا قالت المعتدة انقضت عدتي وكذبها الزوج كان القول قولها مع اليمين " لأنها أمينة في ذلك وقد اتهمت بالكذب فتحلف كالمودع.
" وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا ثم تزوجها في عدتها وطلقها قبل الدخول بها فعليه مهر كامل وعليها عدة مستقبلة وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله عليه نصف المهر وعليها إتمام العدة الأولى " لأن هذا طلاق قبل المسيس فلا يوجب كمال المهر ولا استئناف العدة وإكمال العدة الأولى إنما يجب بالطلاق الأول إلا أنه لم يظهر حال التزوج الثاني فإذا ارتفع بالطلاق الثاني ظهر حكمه كما لو اشترى أم ولده ثم أعتقها ولهما أنها مقبوضة في يده حقيقة بالوطأة الأولى وبقي أثره وهو العدة فإذا جدد النكاح وهي مقبوضة ناب ذلك القبض عن القبض المستحق في هذا النكاح كالغاصب يشتري المغصوب الذي في يده يصير قابضا بمجرد العقد فوضح بهذا أنه طلاق بعد الدخول.
وقال زفر رحمه الله: لا عدة عليها أصلا لأن الأولى قد سقطت بالتزوج فلا تعود والثانية لم تجب وجوابه ما قلنا.
" وإذا طلق الذمي الذمية فلا عدة عليها وكذا إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة فإن تزوجت جاز إلا أن تكون حاملا وهذا كله عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليها وعلى الذمية العدة " أما الذمية فالاختلاف فيها نظير الاختلاف في نكاحهم محارمهم وقد بيناه في كتاب النكاح وقول أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا كان معتقدهم أنه لا عدة عليها.
وأما المهاجرة فوجه قولهما إن الفرقة لو وقعت بسبب آخر وجبت العدة فكذا بسبب التباين بخلاف ما إذا هاجر الرجل وتركها لعدم التبليغ وله قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] ولأن العدة حيث وجبت كان فيها حق بني آدم والحربي ملحق بالجماد حتى كان محلا للتملك إلا أن تكون حاملا لأن في بطنها ولدا ثابت النسب وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز نكاحها ولا يطؤها كالحبلى من الزنا والأول أصح.(2/277)
فصل وعلى المبتونة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد
...
فصل
قال: " وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد " أما المتوفى عنها زوجها فلقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا " وأما المبتوتة فمذهبنا وقال الشافعي رحمه الله لا حداد عليها لأنه وجب إظهارا للتأسف على فوت زوج وفى بعهدها إلى مماته وقد أوحشها بالإبانة فلا تأسف بفوته ولنا ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال " الحناء طيب " ولأنه يجب إظهارا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنها والإبانة أقطع لها من الموت حتى كان لها أن تغسله ميتا قبل الإبانة لا بعدها.
" والحداد " ويقال الإحداد وهما لغتان "أن تترك الطيب والزينة والكحل والدهن والمطيب وغير المطيب إلا من عذر وفي الجامع الصغير إلا من وجع ".
والمعنى فيه وجهان: أحدهما ما ذكرناه من إظهار التأسف والثاني أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة عن النكاح فتجتنبها كيلا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن للمعتدة في الاكتحال والدهن لا يعرى عن نوع طيب وفيه زينة الشعر ولهذا يمنع المحرم عنه قال إلا من عذر لأن فيه ضرورة والمراد الدواء لا الزينة ولو اعتادت الدهن فخافت وجعا فإن كان ذلك أمرا ظاهرا يباح لها لأن الغالب كالواقع وكذا لبس الحرير إذا احتاجت إليه لعذر لا بأس به " ولا تختضب بالحناء " لما روينا " ولا تلبس ثوبا مصبوغا بعصفر ولا بزعفران " لأنه يفوح منه رائحة الطيب.
قال: " ولا حداد على كافرة " لأنها غير مخاطبة بحقوق الشرع " ولا على صغيرة " لأن الخطاب موضوع عنها " وعلى الأمة الإحداد " لأنها مخاطبة بحقوق الله تعالى فيما ليس فيه إبطال حق المولى بخلاف المنع من الخروج لأن فيه إبطال حقه وحق العبد مقدم لحاجته.
قال: " وليس في عدة أم الولد ولا في عدة النكاح الفاسد إحداد " لأنها ما فاتها نعمة النكاح لتظهر التأسف والإباحة أصل.
" ولا ينبغي أن تخطب المعتدة ولا بأس بالتعريض في الخطبة " لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى أن قال {وَلَكِنْ(2/278)
لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة: 235] وقال عليه الصلاة والسلام " السر النكاح " وقال ابن عباس رضي الله عنهما التعريض أن يقول إني أريد أن أتزوج وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه في القول المعروف إني فيك لراغب وإني أريد أن نجتمع.
" ولا يجوز للمطلقة الرجعية والمبتوتة الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا والمتوفى عنها زوجها تخرج نهارا وبعض الليل ولا تبيت في غير منزلها " أما المطلقة فلقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قيل الفاحشة نفس الخروج وقيل الزنا ويخرجن لإقامة الحد.
وأما المتوفى عنها زوجها فلأنه لا نفقة لها فتحتاج إلى الخروج نهارا لطلب المعاش وقد يمتد إلى أن يهجم الليل ولا كذلك المطلقة لأن النفقة دارة عليها من مال زوجها حتى لو اختلعت على نفقة عدتها قيل إنها تخرج نهارا وقيل لا تخرج لأنها أسقطت حقها فلا يبطل به حق عليها.
" وعلى المعتدة أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة والمو ت" لقوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} والبيت المضاف إليها هو البيت الذي تسكنه ولهذا لو زارت أهلها وطلقها زوجها كان عليها أن تعود إلى منزلها فتعتد فيه وقال عليه الصلاة والسلام للتي قتل زوجها " اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " " وإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها فأخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت " لأن هذا انتقال بعذر والعبادات تؤثر فيها الأعذار فصار كما إذا خافت على متاعها أو خافت سقوط المنزل أو كانت فيها بأجر ولا تجد ما تؤديه " ثم إن وقعت الفرقة بطلاق بائن أو ثلاث لا بد من سترة بينهما ثم لا بأس به " لأنه معترف بالحرمة إلا أن يكون فاسقا يخاف عليها منه فحينئذ تخرج لأنه عذر ولا تخرج عما انتقلت إليه والأولى أن يخرج هو ويتركها.
" وإن جعلا بينهما امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فحسن وإن ضاق عليهما المنزل فلتخرج والأولى خروجه وإذا خرجت المرأة مع زوجها إلى مكة فطلقها ثلاثا أو مات عنها في غير مصر فإن كان بينها وبين مصرها أقل من ثلاثة أيام رجعت إلى مصرها " لأنه ليس بابتداء الخروج معنى بل هو بناء "وإن كانت مسيرة ثلاثة أيام إن شاءت رجعت وإن شاءت مضت سواء كان معها ولي أو لم يكن " معناه إذا كان إلى المقصد ثلاثة أيام أيضا،(2/279)
لأن المكث في ذلك المكان أخوف عليها من الخروج إلا أن الرجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزوج قال: " إلا أن يكون طلقها أو مات عنها زوجها في مصر فإنها لا تخرج حتى تعتد ثم تخرج إن كان لها محرم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن كان معها محرم فلا بأس بأن تخرج من المصر قبل أن تعتد " لهما أن نفس الخروج مباح دفعا لأذى الغربة ووحشة الوحدة وهذا عذر وإنما الحرمة للسفر وقد ارتفعت بالمحرم وله أن العدة أمنع من الخروج من عدم المحرم فإن للمراة أن تخرج إلى ما دون السفر بغير محرم وليس للمعتدة ذلك فلما حرم عليها الخروج إلى السفر بغير المحرم ففي العدة أولى.(2/280)
باب ثبوت النسب
" ومن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها فولدت ولدا لستة أشهر من يوم تزوجها فهو ابنه وعليه المهر " أما النسب فلأنها فراشه لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح فقد جاءت به لأقل منها من وقت الطلاق فكان العلوق قبله في حالة النكاح والتصور ثابت بأن تزوجها وهو يخالطها فوافق الإنزال النكاح والنسب يحتاط في إثباته وأما المهر فلأنه لما ثبت النسب منه جعل واطئا حكما فتأكد المهر به.
قال: " ويثبت نسب ولد المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر مالم تقر بانقضاء عدتها " لاحتمال العلوق في حالة العدة لجواز أنها تكون ممتدة الطهر " وإن جاءت به لأقل من سنتين بانت من زوجها بانقضاء العدة وثبت نسبه " لوجود العلوق في النكاح أو في العدة فلا يصير مراجعا لأنه يحتمل العلوق قبل الطلاق ويحتمل بعده فلا يصير مراجعا بالشك " وإن جاءت به لأكثر من سنتين كانت رجعية " لأن العلوق بعد الطلاق والظاهر أنه منه لانتفاء الزنا منها فيصير بالوطء مراجعا.
" والمثبوتة يثبت نسب ولدها إذا جاءت به لأقل من سنتين " لأنه يحتمل أن يكون الولد قائما وقت الطلاق فلا يتيقن زوال الفراش قبل العلوق فيثبت النسب إحتياطا " وإذا جاءت به لتمام سنتين من وقت الفرقة لم يثبت " لأن الحمل حادث بعد الطلاق فلا يكون منه لأن وطأها حرام " إلا أن يدعيه " لأنه لتزمه وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة " فإن كانت المبتونة صغيرة يجامع مثلها فجاءت بولد لتسعة أشهر لم يلزمه حتى تأتي به لأقل من تسعة أشهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يثبت النسب منه إلى سنتين " لأنها معتدة يحتمل أن تكون حاملا ولم تقر بانقضاء العدة فأشبهت الكبيرة، ولهما أن لانقضاء(2/280)
عدتها جهة متعينة وهو الأشهر فبمضيها يحكم الشرع بالانقضاء وهو في الدلالة فوق إقرارها لأنه لا يحتمل الخلاف والإقرار يحتمله وإن كانت مطلقة طلاقا رجعيا فكذلك الجواب عندهما وعنده يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا لأنه يجعل واطئا في آخر العدة وهي الثلاثة الأشهر ثم تأتي به لأكثر مدة الحمل وهو سنتان وإن كانت الصغيرة ادعت الحبل في العدة فالجواب فيها وفي الكبيرة سواء لأن بإقرارها يحكم ببلوغها.
" ويثبت نسب ولد المتوفى عنها زوجها ما بين الوفاة وبين السنتين " وقال زفر رحمه الله إذا جاءت به بعد انقضاء عدة الوفاة لستة أشهر لا يثبت النسب لأن الشرع حكم بانقضاء عدتها بالشهور لتعين الجهة فصار كما إذا أقرت بالانقضاء كما بينا في الصغيرة إلا أنا نقول لانقضاء عدتها جهة أخرى وهو وضع الحمل بخلاف الصغيرة لأن الأصل فيها عدم الحبل لأنها ليست بمحل قبل البلوغ وفيه شك.
" وإذا اعترفت المعتدة بانقضاء عدتها ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر يثبت نسبه " لأنه ظهر كذبها بيقين فبطل الإقرار " وإن جاءت به لستة أشهر لم يثبت " لأنا لم نعلم ببطلان الإقرار لاحتمال الحدوث بعده وهذا اللفظ بإطلاقه يتناول كل معتدة.
" وإذا ولدت المعتدة ولدا لم يثبت نسبه عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يشهد بولادتها رجلان أو رجل وامرأتان إلا أن يكون هناك حبل ظاهر أو اعتراف من قبل الزوج فيثبت النسب من غير شهادة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت في الجميع بشهادة امرأة واحدة " لأن الفراش قائم بقيام العدة وهو ملزم للنسب والحاجة إلى تعيين الولد أنه منها فيتعين بشهادتها كما في حال قيام النكاح ولأبي حنيفة رحمه الله تنقضي بإقرارها بوضع الحمل والمنقضي ليس بحجة فمست الحاجة إلى إثبات النسب ابتداء فيشترط كمال الحجة بخلاف ما إذا كان ظهرالحبل أو صدر الاعتراف من الزوج لأن النسب ثابت قبل الولادة والتعين يثبت بشهادتها " فإن كانت معتدة عن وفاة فصدقها الورثة في الولادة ولم يشهد على الولادة أحد فهو ابنه في قولهم جميعا " وهذا في حق الإرث ظاهر لأنه خالص حقهم فيقبل فيه تصديقهم أما في حق النسب هل يثبت في حق غيرهم قالوا إذا كانوا من أهل الشهادة يثبت لقيام الحجة ولهذا قيل تشترط لفظة الشهادة وقيل لا تشترط لأن الثبوت في حق غيرهم تبع للثبوت في حقهم بإقراراهم وما ثبت تبعا لا يراعى فيه الشرائط.
" وإذا تزوج الرجل امرأة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ يوم تزوجها لم يثبت نسبه " لأن العلوق سابق على النكاح فلا يكون منه " وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا يثبت(2/281)
نسبه اعترف به الزوج أو سكت " لأن الفراش قائم والمدة تامة " فإن جحد الولادة يثبت بشهادة امرأة واحدة تشهد بالولادة حتى لو نفاه الزوج يلاعن " لأن النسب يثبت بالفراش القائم واللعان إنما يجب بالقذف وليس من ضرورته وجود الولد فإنه يصح بدونه " فإن ولدت ثم اختلفا فقال الزوج تزوجتك منذ أربعة وقالت هي منذ ستة أشهر فالقول قولها وهو ابنه " لأن الظاهر شاهد لها فإنها تلد ظاهرا من نكاح لا من سفاح ولم يذكر الاستحلاف وهو على الاختلاف.
" وإن قال لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فشهدت امرأة على الولادة لم تطلق عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تطلق " لأن شهادتها حجة في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: " شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه " ولأنها لما قبلت في الولادة تقبل فيما يبتنى عليها وهو الطلاق.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنها ادعت الحنث فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأن شهادتهن ضرورية في حق الولادة فلا تظهر في حقا الطلاق لأنه ينفك عنها " وإن كان الزوج قد أقر بالحبل طلقت من غير شهادة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تشترط شهادة القابلة " لأنه لا بد من حجة لدعواها الحنث وشهادتها حجة فيه على ما بينا وله أن الإقرار بالحبل إقرار بما يفضي إليه وهو الولادة ولأنه أقر بكونها مؤتمنة فيقبل قولها في رد الأمانة.
قال: " وأكثر مدة الحمل سنتان " لقول عائشة رضي الله عنها الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو بطل مغزل " وأقله ستة أشهر " لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] ثم قال {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فبقي للحمل ستة أشهر والشافعي رحمه الله يقدر الأكثر بأربع سنين والحجة عليه ما رويناه والظاهر أنها قالته سماعا إذ العقل لا يهتدى إليه.
" ومن تزوج أمة فطلقها ثم اشتراها فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ يوم اشتراها لزمه وإلا لم يلزمه " لأنه في الوجه الأول ولد المعتدة فإن العلوق سابق على الشراء وفي الوجه الثاني ولد المملوكة لأنه يضاف الحادث إلى أقرب وقته فلا بد من دعوة وهذا إذا كان الطلاق واحدا بائنا أو خلعا أو رجعيا أما إذا كان اثنتين يثبت النسب إلى سنتين من وقت الطلاق لأنها حرمت عليه حرمة غليظة فلا يضاف العلوق إلا إلى ما قبله لأنها لا تحل بالشراء.
" ومن قال لأمته إن كان في بطنك ولد فهو مني فشهدت على الولادة امرأة فهي(2/282)
أم ولده لأن الحاجة إلى تعيين الولد ويثبت ذلك بشهادة القابلة بالإجماع.
" ومن قال الغلام هو ابني ثم مات فجاءت أم الغلام وقالت أنا امرأته فهي امرأته وهو ابنه يرثانه " وفي النوادر جعل هذا جواب الاستحسان والقياس أن لا يكون لها الميراث لأن النسب كما يثبت بالنكاح الصحيح يثبت بالنكاح الفاسد وبالوطءعن شبهة وبملك اليمين فلم يكن قوله إقرارا بالنكاح وجه الاستحسان أن المسألة فيما إذا كانت معروفة بالحرية وبكونها أم الغلام والنكاح الصحيح هو المتعين لذلك وضعا وعادة " ولو لم يعلم بأنها حرة فقالت الورثة أنت أم ولد فلا ميراث لها " لأن ظهور الحرية باعتبار الدار حجة في دفع الرق لا في استحقاق الميراث والله أعلم.(2/283)
باب الولد من أحق به
" وإذا وقعت الفرقة ين الزوجين فالأم أحق بالولد " لما روى أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال عليه الصلاة والسلام: " أنت أحق به مالم تتزوجي " ولأن الأم أشفق وأقدر على الحضانة فكان الدفع إليها أنظر وإليه أشار الصديق رضي الله عنه بقوله ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر قاله حين وقعت الفرقة بينه وبين امرأته والصحابة حاضرون متوافرون.
" والنفقة على الأب " على ما نذكر " ولا تجبر الأم عليه " لأنها عست تعجز عن الحضانة " فإن لم تكن له أم فأم الأم أولى من أم الأب وإن بعدت " لأن هذه الولاية تستفاد من قبل الأمهات " فإن لم تكن أم الأم فأم الأب أولى من الأخوات " لأنها من الأمهات ولهذا تحرز ميراثهن السدس ولأنها أوفر شفقة للأولاد " فإن لم تكن له جدة فالأخوات أولى من العمات والخالات " لأنهن بنات الأبوين ولهذا قدمن في الميراث وفي رواية الخالة أولى من الأخت لأب لقوله عليه الصلاة والسلام " الخالة والدة " وقيل في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] أنها كانت خالته " وتقدم الأخت لأب وأم " لأنها أشفق " ثم الأخت من الأم ثم الأخت من الأب " لأن الحق لهن من قبل الأم " ثم الخالات أولى من العمات " ترجيحا لقرابة الأم " وينزلن كما نزلنا الأخوات " معناه ترجيح ذات قرابتين ثم قرابة الأم " ثم العمات ينزلن كذلك وكل من تزوجت من هؤلاء يسقط حقها " لما روينا ولأن زوج الأم إذا كان أجنبيا يعطيه نزرا وينظر إليه شزرا فلا نظر قال " إلا الجدة إذا كان زوجها(2/283)
الجد " لأنه قام مقام أبيه فينظر له " وكذلك كل زوج هو ذو رحم محرم منه " لقيام الشفقة نظرا إلى القرابة القريبة.
" ومن سقط حقها بالتزوج يعود إذا ارتفعت الزوجية " لأن المانع قد زال " فإن لم تكن للصبي امرأة من أهله فاختصم فيه الرجال فأولاهم أقربه تعصيبا " لأن الولاية للأقرب وقد عرف الترتيب في موضعه غير أن الصغيرة لا تدفع إلى عصبة غير محرم كمولى العتاقة وابن العم تحرزا عن الفتنة.
" والأم والجدة أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ويستنجي وحده وفي الجامع الصغير حتى يستغني فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده " والمعنى واحد لأن تمام الاستغناء بالقدرة على الاستنجاء.
ووجهه أنه إذا استغنى يحتاج إلى التأدب والتخلق بآداب الرجال وأخلاقم والأب أقدر على التأديب والتثقيف والخصاف رحمه الله قدر الاستغناء بسبع سنين اعتبارا للغالب " والأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض " لأن بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء والمرأة على ذلك أقدر وبعد البلوغ تحتاج إلى التحصين والحفظ والأب فيه أقوى وأهدى وعن محمد رحمه الله أنها تدفع ألى الأب إذا بلغت حد الشهوة لتحقق الحاجة إلى الصيانة " ومن سوى الأم والجدة أحق بالجارية حتى تبلغ حدا تشتهى وفي الجامع الصغير حتى تستغنى " لأنها لا تقدر على استخدامها ولهذا لا تؤاجراها للخدمة فلا يحصل المقصود بخلاف الأم والجدة لقدرتهما عليه شرعا.
قال: " والأمة إذا أعتقها مولاها وأم الولد إذا أعتقت كالحرة في حق الولد " لأنهما حرتان أو أن ثبوت الحق " وليس لهما قبل العتق حق في الولد " لعجزهما عن الحضانة بالاشتغال بخدمة المولى.
" والذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعق الأديان أويخاف أن يألف الكفر " للنظر قبل ذلك واحتمال الضرر بعده " ولا خيار للغلام والجارية " وقال الشافعي رحمه الله لهما الخيار لأن النبي عليه الصلاة والسلام خير ولنا أنه لقصور عقله يختار من عنده الدعة لتخليته بينه وبين اللعب فلا يتحقق النظر وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم لم يخيروا وأما الحديث فقلنا قد قال عليه الصلاة والسلام اللهم اهده فوفق لاختياره الأنظر بدعائه عليه الصلاة والسلام أو يحمل على ما إذا كان بالغا.(2/284)
فصل
وإذا أرادت المطلقة أن تخرج بولدها من المصر فليس لها ذلك " لما فيه من الإضرار بالأب " إلا أن تخرج به إلى وطنها وقد كان الزوج تزوجها فيه " لأنه التزم المقام فيه عرفا وشرعا.
قال عليه الصلاة والسلام: " من تأهل ببلدة فهو منهم " ولهذا يصير الحربي به ذميا وإن أرادت الخروج إلى مصر غير وطنها وقد كان التزوج فيه أشار في الكتاب إلى أنه ليس لها ذلك وهذه رواية كتاب الطلاق وقد ذكر في الجامع الصغير أن لها ذلك لأن العقد متى وجد في مكان يوجب أحكامه فيه كما يوجب البيع التسليم في مكانه ومن جملة ذلك حق إمساك الأولاد وجه الأول أن التزوج في دار الغربة ليس التزاما للمكث فيه عرفا وهذا أصح.
والحاصل: أنه لا بد من الأمرين جميعا الوطن ووجود النكاح وهذا كله إذا كان بين المصرين تفاوت أما إذا تقاربا بحيث يمكن للوالد أن يطالع ولده ويبيت في بيته فلا بأس به وكذا الجواب في القريتين ولو انتقلت من قرية المصر إلى المصر لا بأس به لأن فيه نظرا للصغيرحيث يتخلف بأخلاق أهل المصر وليس فيه ضرر بالأب وفي عكسه ضرر بالصغير لتخلقه بأخلاق السواد فليس لها ذلك.(2/285)
باب النفقة
مدخل
...
باب النفقة
قال: " النفقة واجبة للزوجة على زوجها مسلمة كانت أو كافرة إذا سلمت نفسها إلى منزله فعليه نفقتها وكسوتها وسكناها " والأصل في ذلك قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: من الآية7] وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث حجة الوداع: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولأن النفقة جزاء الاحتباس وكل من كان محبوسا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه أصله القاضي والعامل في الصدقات وهذه الدلائل لا فصل فيها فتستوي فيها المسلمة والكافرة " ويعتبر في ذلك حالهما جميعا " قال العبد الضعيف وهذا اختيار الخصاف وعليه الفتوى وتفسيره أنهما إذا كانا موسرين تجب نفقة اليسار وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار وإن كانت معسرة والزوج موسرا فنفقتها دون نفقة الموسرات وفوق نفقة المعسرات وقال الكرخي رحمه الله يعتبر حال الزوج وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] .(2/285)
وجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: " خذي من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالمعروف " اعتبر حالها وهو الفقه فإن النفقة تجب بطريق الكفاية والفقيرة لا تفتقر إلى كفاية الموسرات فلا معنى للزيادة.
وأما النص فنحن نقول بموجبه أنه يخاطب بقدر وسعه والباقي دين في ذمته ومعنى قوله بالمعروف الوسط وهو الواجب وبه يتبين أنه لا معنى للتقدير كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أنه على الموسر مدان وعلى المعسر مد وعلى المتوسط مد ونصف مد لأن ما يوجب كفاية لا يتقدر شرعا في نفسه " وإن امتنعت من تسليم نفسها حتى يعطيها مهرها فلها النفقة " لأنه منع بحق فكان فوت الاحتباس بمعنى من قبله فيجعل كلا فائت " وإن نشزت لا نفقة لها حتى تعود إلى منزله " لأن فوت الاحتباس منها وإذا عادت جاء الاحتباس قائم والزوج يقدر على الوطء كرها " وإن كانت صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها " لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها والاحتباس الموجب ما يكون وسيلة إلى مقصود مستحق بالنكاح ولم يوجد بخلاف المريضة على ما نبين.
وقال الشافعي رحمه الله لها النفقة لأنها عوض عن الملك عنده كما في المملوكة بملك اليمين ولنا أن المهر عوض عن الملك ولا يجتمع العوضان عن معوض واحد فلها المهر دون النفقة " وإن كان الزوج صغيرا لا يقدر على الوطء وهي كبيرة فلها النفقة من ماله " لأن التسليم قد تحقق منها وإنما العجز من قبله فصار كالمجبوب والعنين.
" وإذا حبست المرأة في دين فلا نفقة لها " لأن فوت الاحتباس منها بالمماطلة وإن لم يكن منها بأن كانت عاجزة فليس منه وكذا إذا غصبها رجل كرها فذهب بها.
وعن أبي يوسف أن لها النفقة والفتوى على الأول لأن فوت الاحتباس ليس منه ليجعل باقيا تقديرا وكذا إذا حجت مع محرم لأن فوت الاحتباس منها وعن أبي يوسف رحمه الله أن لها النفقة لأن إقامة الفرض عذر ولكن تجب عيه نفقة الحضر دون السفرلأنها هي المستحقة عليه ولو سافر معها الزوج تجب النفقة بالاتفاق لأن الإحتباس قائم لقيامه عليها وتجب نفقة الحضر دون السفر ولا يجب الكراء لما قلنا.
" وإن مرضت في منزل الزوج فلها النفقة " والقياس أن لا نفقة لها إذا كان مرضا يمنع من الجماع لفوت الاحتباس للاستمتاع وجه الاستحسان أن الاحتباس قائم فإنه يستأنس بها ويمسها وتحفظ البيت والمانع يعارض فأشبه الحيض وعن أبي يوسف رحمه الله أنها إذا(2/286)
سلمت نفسها ثم مرضت بجب النفقة لتحقق التسليم ولو مرضت ثم سلمت لا تجب لأن التسليم لم يصح قالوا هذا حسن وفي لفظ الكتاب ما يشير إليه.
قال: " وتفرض على الزوج النفقة إذا كان موسرا ونفقة خادمها " والمراد بهذا بيان نفقة الخادم ولهذا ذكر في بعض النسخ وتفرض على الزوج إذا كان موسرا نفقة خادمها ووجهه أن كفايتها واجبة عليه وهذا من تمامها إذ لا بد لها منه.
" ولا تفرض لأكثر من نفقة خادم واحد " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله تفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل وإلى الآخر لمصالح الخارج ولهما أن الواحد يقوم بالأمرين فلا ضرورة إلى اثنين ولأنه لو تولى كفايتها بنفسه كان كافيا فكذا إذا أقام الواحد مقام نفسه وقالوا إن الزوج الموسر يلزمه من نفقة الخادم ما يلزم المعسر من نفقة امرأته وهو أدنى الكفاية وقوله في الكتاب إذا كان موسرا إشارة إلى أنه لا تجب نفقة الخادم عند إعساره وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وهو الأصح خلافا لما قاله محمد رحمه الله لأن الواجب على المعسر أدنى الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة نفسها.
" ومن أعسر بنفقة امرأته لم يفرق بينهما ويقال لها استديني عليه " وقال الشافعي رحمه الله يفرق لأنه عجز عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التفريق كما في الجب والعنة بل أولى لأن الحاجة إلى النفقة أقوى ولنا أن حقه يبطل وحقها يتأخر والأول أقوى في الضرر وهذا لأن النفقة تصير دينا بفرض القاضي فتستوفى في الزمان الثاني وفوت المال وهو تابع في النكاح لا يلحق بما هو المقصود وهو التناسل وفائدة الأمر بالاستدانة مع الفرض أن يمكنها إحالة الغريم على الزوج فأما إذا كانت الاستدانة بغير أمر القاضي كانت المطالبة عليها دون الزوج.
" وإذا قضى القاضي لها بنفقة الإعسار ثم أيسر فخاصمته تمم لها نفقة الموسر " لأن النفقة تختلف بحسب اليسار والإعسار وما قضى به تقدير لنفقة لم تجب فإذا تبدل حاله فلها المطالبة بتمام حقها.
" وإذا مضت مدة لم ينفق الزوج عليها وطالبته بذلك فلا شيء لها إلا أن يكون القاضي فرض لها النفقة أو صالحت الزوج على مقدار نفقتها فيقضي لها بنفقة ما مضى " لأن النفقة صلة وليست بعوض عندنا عل مامر من قبل فلا يستحكم الوجوب فيها إلا بالقضاء،(2/287)
لا توجب الملك إلا بمؤكد وهو القبض والصلح بمنزلة القضاء لأن ولايته على نفسه أقوى من ولاية القاضي بخلاف المهر لأنه عوض.
" وإن مات الزوج بعد ما قضي عليه بالنفقة ومضى شهور سقطت النفقة " وكذا إذا ماتت الزوجة لأن النفقة صلة والصلات تسقط بالموت كالهبة تبطل بالموت قبل القبض وقال الشافعي رحمه الله تصير دينا قبل القضاء ولا تسقط بالموت لأنه عوض عنده فصار كسائر الديون وجوابه قد بيناه.
" وإن أسلفها نفقة السنة " أي عجلها " ثم مات لم يسترجع منها شيء وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحتسب لها نفقة ما مضى وما بقي فهو للزوج " وهو قول الشافعي رحمه الله وعلى هذا الخلاف الكسوة لأنها استعجلت عوضا عما تستحقه عليه بالاحتباس وقد بطل الاستحقاق بالموت فيبطل العوض بقدره كرزق القاضي وعطاء المقاتلة ولهما أنه صلة وقد اتصل به القبض ولا رجوع في الصلات بعد الموت لانتهاء حكمها كما في الهبة ولهذا لو هلكت من غير استهلاك لا يسترد شيء منها بالإجماع وعن محمد رحمه الله أنها إذا قبضت نفقة الشهر أو ما دونه لايسترجع منها شيء لأنه يسير فصار في حكم الحال.
" وإذا تزوج العبد حرة فنفقتها دين عليه يباع فيها " ومعناه إذا تزوج بإذن المولى لأنه دين وجب في ذمته لوجود سببه وقد ظهر وجوبه في حق المولى فيتعلق برقبته كدين التجارة في العبد التاجر وله أن يفدى لأن حقها في النفقة لا في عين الرقبة ولو مات العبد سقطت وكذا إذا قتل في الصحيح لأنه صلة.
" وإن تزوج الحر أمة فبوأها مولاها معه منزلا فعليه النفقة " لأنه تحقق الاحتباس " وإن لم يبوئها فلا نفقة لها " لعدم الاحتباس والتبوئه أن يخلي بينها وبينه في منزله ولا يستخدمها ولو استخدمها بعد التبوئه سقطت النفقة لأنه فات الاحتباس والتبوئه غير لازمة على ما مر في النكاح ولو خدمته الجارية أحيانا من غير أن يستخدمها لا تسقط النفقة لأنه لم يستخدمها ليكون استردادا والمدبرة وأم الولد في هذا كالأمة والله تعالى أعلم بالصواب.(2/288)
فصل
" وعلى الزوج أن يسكنها في دار مفردة ليس فيها أحد من أهله إلا أن تختار ذلك " لأن السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة وقد أوجبه الله تعالى مقرونا بالنفقة وإذا أوجب(2/288)
حقا لها ليس له أن يشرك غيرها فيه لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها ويمنعها ذلك عن المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار لأنها رضيت بانتقاص حقها " وإن كان له ولد من غيرها فليس له أن يسكنه معها " لما بينا ولو أسكنها في بيت من الدار مفرد وله غلق كفاها لأن المقصود قد حصل " وله أن يمنع والديها وولدها من غيره وأهلها من الدخول عليها " لأن المنزل ملكه فله حق المنع من دخول ملكه " ولا يمنعهم من النظر إليها وكلامها في أي وقت اختاروا " لما فيه من قطيعة الرحم وليس له في ذلك ضرر وقيل لا يمنعهم من الدخول والكلام وإنما يمنعهم من القرار والدوام إن الفتنة في اللباث وتطويل الكلام وقيل لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين ولا يمنعهما من الدخول عليها في كل جمعة وفي غيرهما من المحارم التقدير بسنة وهو الصحيح.
" وإذا غاب الرجل وله مال في يد رجل يعترف به وبالزوجية فرض القاضي في ذلك المال نفقة زوجة الغائب وولده الصغار ووالديه وكذا إذا علم القاضي ذلك ولم يعترف به " لأنه لما أقر بالزوجية والوديعة فقد أقر أن حق الأخذ لها لأن لها أن تأخذ من مال الزوج حقها من غير رضاه وإقرار صاحب اليد مقبول في حق نفسه لا سيما ههنا فإنه لو أنكر أحد الأمرين لا تقبل بينة المرأة فيه لأن المودع ليس بخصم في إثبات الزوجية عليه ولا المرأة خصم في إثبات حقوق الغائب فإذا ثبت في حقه تعدى إلى الغائب وكذا إذا كان المال في يده مضاربه وكذا الجواب في الدين وهذا كله إذا كان المال من جنس حقها دراهم أو دنانير أو طعاما أو كسوة من جنس حقها أما إذا كان من خلاف جنسه لا تفرض النفقة فيه لأنه يحتاج إلى البيع ولا يباع مال الغائب بالاتفاق أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه لا يباع على الحاضر وكذا على الغائب وأما عندهما فلأنه إن كان يقضي على الحاضر لأنه يعرف امتناعه لا يقضى على الغائب لأنه لا يعرف امتناعه.
قال: " ويأخذ منها كفيلا بها " نظرا للغائب لأنها ربما استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها فرق بين هذا وبين الميراث إذا قسم بين ورثة حضور البينة ولم يقولوا لا نعلم له وارثا آخر حيث لا يؤخذ منهم الكفيل عند أبي حنيفة رحمه الله لأن هناك المكفول له مجهول وههنا معلوم وهو الزوج ويحلفها بالله ما أعطاها النفقة نظرا للغائب.
قال: " ولا يقضى بنفقة في مال غائب إلا لهؤلاء " ووجه الفرق هو أن نفقة هؤلاء واجبة قبل قضاء القاضي ولهذا كان لهم أن يأخذوا قبل القضاء فكأن قضاء القاضي إعانة لهم أما غيرهم من المحارم فنفقتهم إنما تجب بالقضا لأنه مجتهد فيه والقضاء على الغائب لا يجوز ولو لم يعلم القاضي بذلك ولم يكن مقرا به فأقامت البينة على الزوجية(2/289)
أو لم يخلف مالا فأقامت ألبينة ليفرض القاضي نفقتها على الغائب ويأمرها بالاستدانة لا يقضى القاضي بذلك لأن في ذلك قضاء على الغائب.
وقا زفر رحمه الله: يقضى فيه لأن فيه نظرا لها ولا ضرر فيه على الغائب فإنه لو حضر وصدقها فقد أخذت حقها وإن جحد يحلف فإن نكل فقد صدق وإن أقامت بينة فقد ثبت حقها وإن عجزت يضمن الكفيل أو المرأة وعمل القضاة اليوم على هذا أنه يقضى بالنفقة على الغائب لحاجة الناس وهو مجتهد فيه وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها فلم يذكرها.(2/290)
فصل
" وإذا طلق الرجل امرأته فلها النفقة والسكنى في عدتها رجعيا كان أو بائنا " وقال الشافعي رحمه الله لا نفقة للمبتوتة إلا إذا كانت حاملا أما الرجعى فلأن النكاح بعده قائم لا سيما عندنا فإنه يحل له الوطء وأما البائن فوجه قوله ما روى عن فاطمة بنت قيس قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة ولأنه لا ملك له وهي مرتبة على الملك ولهذا لا تجب للمتوفي عنها زوجها لانعدامه بخلاف ما إذا كانت حاملا لأنا عرفناه بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: من الآية6] الآية ولنا أن النفقة جزاءاحتباس على ما ذكرنا والاحتباس قائم في حق حكم مقصود بالنكاح وهو الولد إذ العدة واجبة لصيانة الولد فتجب النفقة ولهذا كان لها السكنى بالإجماع وصار كما إذا كانت حاملا وحديث فاطمة بنت قيس رده عمر رضي الله عنه فإنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسبت سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: " للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة " ورده أيضا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأسامة بن زيد وجابر وعائشة رضي الله عنهم.
" ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها " لأن احتباسها ليس لحق الزوج بل لحق الشرع فإن التربص عبادة منها ألا ترى أن معنى التعرف عن براءة الرحم ليس بمراعى فيه حتى لا يشترط فيها الحيض فلا تجب نفقتها عليه ولأن النفقة تجب شيئا فشيئا ولا ملك له بعد الموت فلا يمكن إيجابها في ملك الورثة.
" وكل فرقة جاءت من قبل المرأة بمعصية مثل الردة وتقبيل ابن الزوج فلا نفقة لها " لأنها صارت حابسة نفسها بغير حق فصارت كما إذا كانت ناشزة بخلاف المهر بعد الدخول(2/290)
لأنه وجد التسليم في حق المهر بالوطء وبخلاف ما إذا جاءت الفرقة من قبلها بغير معصية كخيار العتق وخيار البلوغ والتفريق لعدم الكفاءة لأنها حبست نفسها بحق وذلك لا يسقط النفقة كما إذا حبست نفسها لاستيفاء المهر.
" وإن طلقها ثلاثا ثم ارتدت والعياذ بالله سقطت نفقتها وإن مكنت ابن زوجها من نفسها فلها النفقة " معناه مكنت بعد الطلاق لأن الفرقة تثبت بالطلقات الثلاث ولا عمل فيها للردة والتمكين إلا أن المرتدة تحبس حتى تتوب ولا نفقة للمحبوسة والممكنة لا تحبس فلهذا يقع الفرق.(2/291)
فصل
" ونفقة الأولاد الصغار على الأب لا يشاركه فيها أحد كما لا يشاركه في نفقة الزوجة " لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] والمولود له هو الأب " وإن كان الصغير رضيعا فليس على أمه أن ترضعه " لما بينا أن الكفاية على الأب وأجرة الرضاع كالنفقة ولأنها عساها لا تقدر عليه لعذر بها فلا معنى للجبر عليه وقيل في تأويل قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] بإلزامها الإرضاع مع كراهتها وهذا الذي ذكرنا بيان الحكم وذلك إذا كان يوجد من ترضعه أما إذا كان لا توجد من ترضعه تجبر الأم على الإرضاع صيانة للصبي عن الضياع.
قال: " ويستأجر الأب من ترضعه عندها " أما استئجار الأب فلأن الأجر عليه وقوله عندها معناه إذا أرادت ذلك لأن الحجر لها " وإن استأجرها وهي زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز " لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلا أنها عذرت لاحتمال عجزها فإذا أقدمت عليه بالأجر ظهرت قدرتها فكان الفعل واجبا عليها فلا يجوز أخذ الآجر عليه وهذا في المعتدة عن طلاق رجعي رواية واحدة لأن النكاح قائم وكذا في المبتوتة في رواية وفي رواية أخر جاز استئجارها لأن النكاح قد زال وجه الأولى أنه باق في حق بعض الأحكام.
" ولو استأجرها وهي منكوحته أو معتدته لإرضاع ابن له من غيرها جاز " لأنه غير مستحق عليها " وإن انقضت عدتها فاستأجرها " يعني لإرضاع ولدها " جاز " لأن النكاح قد زال بالكلية وصارت كالأجنبية " فإن قال الأب لا أستأجرها وجاء بغيرها فرضيت الأم بمثل أجر الأجنبية أو رضيت بغير أجر كانت هي أحق " لأنها أشفق فكان نظرا للصبي في الدفع إليها " وإن التمست زيادة لم يجبر الزوج عليها " دفعا للضرر عنه وإليه الإشارة بقوله تعالى:(2/291)
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أي بإلزامه لها أكثر من أجرة الأجنبية.
" ونفقة الصغير واجبة على أبيه وإن خالفه في دينه " كما تجب نفقة الزوجة على الزوج وإن خالفته في دينه أما الولد فلإطلاق ما تلونا ولأنه جزؤه فيكون في معنى نفسه وأما الزوجة فلأن السبب هو العقد الصحيح فإنه بإزاء الاحتباس الثابت به وقد صح العقد بين المسلم والكافرة وترتب عليه الاحتباس فوجبت النفقة وفي جميع ما ذكرنا إنما تجب النفقة على الأب إذا لم يكن للصغير مال أما إذا كان فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه صغيرا كان أو كبيرا.(2/292)
فصل
" وعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجدته إذا كانوا فقراء وإن خالفوه في دينه " أما الأبوان فلقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: من الآية15] نزلت الآية في الأبوين الكافرين وليس من المعروف أن يعيش في نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعا وأما الأجداد والجدات فلأنهم من الآباء والأمهات ولهذا يقوم الجد مقام الأب عند عدمه ولأنهم سببوا لإحياءه فاستوجبوا عليه الإحياء بمنزلة الأبوين وشرط الفقر لأنه لو كان ذا مال فإيجاب نفقته في ماله أولى من إيجابها في مال غيره ولا يمنع ذلك باختلاف الدين لما تلونا.
" ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين للزوجة والأبوين والأجداد والولد وولد الولد " أما الزوجة فلما ذكرنا أنها واجبة لها بالعقد لاحتباسها لحق له مقصود وهذا يتعلق باتحاد الملة وأما غيرها فلآن الجزئية ثابتة وجزء المرء في معنى نفسه فكما لا يمتنع نفقة نفسه لكفره لا يمتنع نفقة جزئه إلا أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين لأنا نهينا عن البر في حق من يقاتلنا في الدين.
" ولا تجب على النصراني نفقة أخيه المسلم وكذا لا تجب على المسلم نفقة أخيه النصراني " لأن النفقة متعلقة بالإرث بالنص بخلاف العتق عند الملك لأنه متعلق بالقرابة والمحرمية بالحديث ولأن القرابة موجبة للصلة ومع الاتفاق في الدين آكد ودوام ملك اليمين أعلى في القطيعة من حرمان النفقة فاعتبرنا في الأعلى أصل العلة وفي الأدنى العلة المؤكدة فلهذا افترقا " ولا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد " لأن لهما تأويلا في مال الولد بالنص ولا تأويل لهما في مال غيره ولأنه أقرب الناس إليهما فكان أولى باستحقاق نفقتهما(2/292)
عليه وهي على الذكور والإناث بالسوية في ظاهر الرواية وهو الصحيح لآن المعنى يشملهما.
" والنفقة لكل ذي رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا أو كانت امرأة بالغة فقيرة أو كان ذكرا بالغا فقيرا زمنا أو أعمى " لأن الصلة في القرابة القريبة واجبة دون البعيدة والفاصل أن يكون ذا رحم محرم وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وفي قراءة عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ثم لا بد من الحاجة والصغر والأنوثة والزمانة والعمى أمارة الحاجة لتحقق العجز فإن القادر على الكسب غني بكسبه بخلاف الأبوين لأنه يلحقهما تعب الكسب والولد مأمور بدفع الضرر عنهما فتجب نفقتهما مع قدرتهما على الكسب.
قال: " ويجب ذلك على مقدار الميراث ويجبر عليه " لأن التنصيص على الوارث تنبيه على اعتبار المقدار ولأن الغرم بالغنم والجبر لإيفاء حق مستحق.
قال: " وتجب نفقة الابنة البالغة والابن الزمن على أبويه أثلاثا على الأب الثلثان وعلى الأم الثلث " لأن الميراث لهما على هذا المقدار قال العبد الضعيف هذا الذي ذكره رواية الخصاف والحسن رحمه الله وفي ظاهر الرواية كل النفقة على الأب لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] وصار كالولد الصغير ووجه الفرق على الرواية الأولى أنه اجتمعت للأب في الصغير ولاية ومؤنة حتى وجبت عليه صدقة فطره فاختص بنفقته ولا كذلك الكبير لانعدام الولاية فيه فتشاركه الأم وفي غير الوالد يعتبر قدر الميراث حتى تكون نفقة الصغير على الأم والجد أثلاثا ونفقة الأخ المعسر على الأخوات المتفرقات الموسرات أخماسا على قدر الميراث غير أن المعتبر أهلية الإرث في الجملة لا إحرازه فإن المعسر إذا كان له خال وابن عم تكون نفقته على خاله وميراثه يحرزه ابن عمه " ولا تجب نفقتهم مع اختلاف الدين " لبطلان أهلية الإرث ولا بد من اعتباره " ولا تجب على الفقير " لأنها تجب صلة وهو يستحقها على غيره فكيف تستحق عليه بخلاف نفقة الزوجة وولده الصغير لأنه التزمها بالإقدام على العقد إذا المصالح لا تنتظم دونها ولا يعمل في مثلها الإعسار ثم اليسار مقدر بالنصاب فيما روي عن أبي يوسف وعن محمد رحمه الله أنه قدره بما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهرا أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم لأن المعتبر في حقوق العباد إنما هو القدرة دون النصاب فإنه للتيسير والفتوى على الأول لكن النصاب نصاب حرمان الصدقة.(2/293)
" وإذا كان للابن الغائب مال قضى فيه بنفقة أبويه " وقد بينا الوجه فيه.
" وإذا باع أبوه متاعه في نفقته جاز " عند أبي حنيفة رحمه الله وهذا استحسان " وإن باع العقار لم يجز " وفي قولهما لا يجوز في ذلك كله وهو القياس لأنه لا ولاية له لانقطاعها بالبلوغ ولهذا لا يملك في حال حضرته ولا يملك البيع في دين له سوى النفقة وكذا لا تملك الأم في النفقة ولأبي حنيفة رحمه الله أن للأب ولاية الحفظ في مال الغائب ألا ترى أن للوصي ذلك فالأب أولى لوفور شفقته وبيع المنقول من باب الحفظ ولا كذلك العقار لأنها محصنة بنفسها وبخلاف غير الأب من الأقارب لأنه لا ولاية لهم أصلا في التصرف حالة الصغر ولا في الحفظ بعد الكبر وإذا جاز بيع الأب والثمن من جنس حقه وهو النفقة فله الاستيفاء منه كما لو باع العقار والمنقول على الصغير جاز لكمال الولاية ثم له أن يأخذ منه بنفقته لأنه من جنس حقه " وإن كان للابن الغائب مال في يد أبويه وأنفقا منه لم يضمنا " لأنهما استوفيا حقهما لأن نفقتهما واجبة قبل القضاء على ما مر وقد أخذا جنس الحق " وإن كان له مال في يد أجنبي فأنفق عليهما بغير إذن القاضي ضمن " لأنه تصرف في مال الغير بغير ولاية لأنه نائب في الحفظ لا غير بخلاف ما إذا أمره القاضي لأن أمره ملزم لعموم ولايته وإذا ضمن لا يرجع على القابض لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه كان متبرعا به.
" وإذا قضى القاضي للولد والوالدين وذوي الأرحام بالنفقة فمضت مدة سقطت " لأن نفقة هؤلاء تجب كفاية للحاجة حتى لا تجب مع اليسار وقد حصلت بمضي المدة بخلاف نفقة الزوجة إذا قضى بها القاضي لأنها تجب مع يسارها فلا تسقط بحصول الاستغناء فيما مضى.
قال: " إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة عليه " لأن القاضي له ولاية عامة فصار إذنه كأمر الغائب فيصير دينا في ذمته فلا تسقط بمضي المدة والله تعالى أعلم بالصواب.(2/294)
فصل
" وعلى المولى أن ينفق على أمته وعبده " لقوله عليه الصلاة والسلام في المماليك: " إنهم إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تعذبوا عباد الله " " فإن امتنع وكان لهما كسب اكتسبا وأنفقا " لأن فيه نظرا للجانبين حتى يبقى المملوك حيا ويبقى في ملك المالك " وإن لم يكن لهما كسب " بأن كان عبدا زمنا أو جارية لا يؤاجر مثلها " أجبر المولى على بيعهما " لأنهما من أهل الاستحقاق، وفي البيع(2/294)
إيفاء حقهما وإيفاء حق المولى بالخلف بخلاف نفقة الزوجة لأنها تصير دينا فكان تأخيرا على ما ذكرنا ونفقة المملوك لا تصير دينا فكان إبطالا وبخلاف سائر الحيوانات لأنها ليست من أهل الاستحقاق فلا يجبر على نفقتها إلا أنه يؤمر به فيما بينه وبين الله تعالى لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تعذيب الحيوان وفيه ذلك ونهى عن إضاعة المال وفيه إضاعته وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجبر والأصح ما قلنا والله أعلم.(2/295)
كتاب العتاق
شروط الاعتاق
مدخل
...
كتاب العتاق
" الإعتاق تصرف مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام: " أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار "" ولهذا استحبوا أن يعتق الرجل العبد والمرأة الأمة ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء.
قال رضي الله عنه: " العتق يصح من الحر البالغ العاقل في ملكه " شرط الحرية لأن العتق لا يصح إلا في الملك ولا ملك للمملوك والبلوغ لأن الصبي ليس من أهله لكونه ضررا ظاهرا ولهذا لا يملكه الولي عليه والعقل لأن المجنون ليس بأهل للتصرف ولهذا لو قال البالغ أعتقت وأنا صبي فالقول قوله وكذا إذا قال المعتق أعتقت وأنا مجنون وجنونه كان ظاهرا لوجود الإسناد إلى حالة منافية وكذا لو قال الصبي كل مملوك أملكه فهو حر إذا احتلمت لا يصح لأنه ليس بأهل لقول ملزم ولا بد أن يكون العبد في ملكه حتى لو أعتق عبد غيره لا ينفذ عتقه لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ".
" وإذا قال لعبده أو أمته أنت حر أو معتق أو عتيق أو محرر أو قد حررتك أو قد أعتقتك فقد عتق نوى به العتق أو لم ينو " لأن هذه الألفاظ صريحة فيه لأنها مستعملة فيه شرعا وعرفا فأغنى ذلك عن النية والوضع وإن كان في الإخبار فقد جعل إنشاء في التصرفات الشرعية للحاجة كما في الطلاق والبيع وغيرهما.
" ولو قال عنيت به الإخبار الباطل أو أنه حر من العمل صدق ديانة " لأنه يحتمله " ولا يدين قضاء " لأنه خلاف الظاهر " ولو قال له يا حر يا عتيق يعتق " لأنه نداء بما هو صريح في العتق وهو لاستحضار المنادى بالوصف المذكور هذا هو حقيقته فيقتضى تحقق الوصف فيه وأنه يثبت من جهته فيقضى بثبوته تصديقا له فيما أخبر وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى إلا إذا سماه حرا ثم ناداه يا حر لأن مراده الإعلام باسم علمه وهو ما لقبه به ولو ناداه بالفارسية ياآزاد وقد لقبه بالحر قالوا يعتق وكذا عكسه لأنه ليس بنداء باسم علمه فيعتبر إخبارا عن الوصف " وكذا لو قال رأسك حر أو جهك أو رقبتك أو بدنك أو قال(2/296)
لأمته فرجك حر " لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن جميع البدن وقد مر في الطلاق " وإن أضافه إلى جزء شائع يقع في ذلك الجزء " وسيأتيك الاختلاف فيه إن شاء الله تعالى وإن أضافه إلى جزء معين لا يعبر به عن الجملة كاليد والرجل لا يقع عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والكلام فيه كالكلام في الطلاق وقد بيناه.
" ولو قال لا ملك لي عليك ونوى به الحرية عتق وإن لم ينو لم يعتق " لأنه يحتمل أنه أراد لا ملك لي عليك لأني بعتك ويحتمل لأن أعتقتك فلا يتعين أحدهما مرادا إلا بالنية قال رضي الله عنه " وكذا كنايات العتق " وذلك مثل قوله خرجت من ملكي ولا سبيل لي عليك ولا رق لي عليك وقد خليت سبيلك لأنه يحتمل نفي السبيل والخروج عن الملك وتخلية السبيل بالبيع أو الكتابة كما يحتمل بالعتق فلا بد من النية وكذا قوله لأمته قد أطلقنك لأنه بمنزلة قوله قد خليت سبيلك وهو المروي عن أبي يوسف رحمه الله بخلاف قوله طلقتك على ما نبين من بعد إن شاء الله تعالى.
" ولو قال لا سلطان لي عليك ونوى العتق لم يعتق " لأن السلطان عبارة عن اليد وسمى السلطان به لقيام يده وقد بقي الملك دون اليد كما في المكاتب بخلاف قوله لا سبيل لي عليك لأن نفيه مطلقا بانتفاء الملك لأن للمولى على المكاتب سبيلا فلهذا يحتمل العتق.
" ولو قال هذا ابني وثبت على ذلك عتق " ومعنى المسألة إذا كان يولد مثله لمثله فإن كان لا يولد مثله لمثله ذكره بعد هذا ثم إن لم يكن للعبد نسب معروف يثبت نسبه منه لأن ولاية الدعوة بالملك ثابتة والعبد محتاج إلى النسب فيثبت نسبه منه وإذا ثبت عتق لأنه يستند النسب إلى وقت العلوق وإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه للتعذر ويعتق إعمالا للفظ في مجازه عند تعذر إعماله بحقيقته ووجه المجاز نذكره من بعد إن شاء الله تعالى.
" ولو قال هذا مولاي أو يا مولاي عتق " أما الأول فلأن اسم المولى وإن كان ينتظم الناصر وابن العم والموالاة في الدين والأعلى والأسفر في العتاقة إلا أنه تعين الأسفل فصار كاسم خاص له وهذا لأن المولى لا يستنصر بمملوكه عادة وللعبد نسب معروف فانتفى الأول والثاني والثالث نوع مجاز والكلام للحقيقة والإضافة إلى العبد تنافي كونه معتقا فتعين المولى الأسفل فالتحق بالصريح وكذا إذا قال لأمته هذه مولاتي لما بينا ولو قال عنيت به المولى في الدين أو الكذب يصدق فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصدق في القضاء(2/297)
لمخالفته الظاهر وأما الثاني فلأنه لما تعين الأسفل مرادا التحق بالصريح وبالنداء باللفظ الصريح يعتق بأن قال يا حر يا عتيق فكذا النداء بهذا اللفظ وقال زفر رحمه الله لا يعتق في الثاني لأنه يقصد به الإكرام بمنزلة قوله يا سيدي يا مالكي قلنا الكلام لحقيقته وقد أمكن العمل به بخلاف ما ذكره لأنه ليس فيه ما يختص بالعتق فكان إكراما محضا.
" ولو قال يا ابني أو يا أخي لم يعتق " لأن النداء لإعلام المنادي إلا أنه إذا كان بوصف يمكن إثباته من جهته كان لتحقيق ذلك الوصف في المنادى استحضارا له بالوصف المخصوص كما في قوله يا حر على ما بيناه وإذا كان النداء بوصف لا يمكن إثباته من جهته كان للإعلام المجرد دون تحقيق الوصف فيه لتعذره والبنوة لا يمكن إثباتها حالة النداء من جهته لأنه لو انخلق من ماء غيره لا يكون ابنا له بهذا النداء فكان لمجرد الإعلام ويروى عن أبي حنيفة رحمه الله شاذا أنه يعتق فيهما والاعتماد على الظاهر.
" ولو قال يا ابن لا يعتق " لأن الأمر كما أخبر فإنه ابن أبيه " وكذا إذا قال يا بني أو يا بنية " لأنه تصغير للابن والبنت من غير إضافة والأمر كما أخبر " وإن قال لغلام لا يولد مثله لمثله هذا ابني عتق عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا لا يعتق وهو قول الشافعي رحمه الله لهم أنه كلام محال الحقيقة فيرد ويلغو كقوله أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كلام محال بحقيقته لكنه صحيح بمجازه لأنه إخبار عن حريته من حين ملكه وهذا لأن البنوة في المملوك سبب لحريته إما إجماعا أو صلة للقرابة وإطلاق السبب وإرادة المسبب مستجاز في اللغة تجوزا ولأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والمشابهة في وصف ملازم من طرق المجاز على ما عرف فيحمل عليه تحرزا عن الإلغاء بخلاف ما استشهد به لأنه لا وجه له في المجاز فتعين الإلغاء وهذا بخلاف ما إذا قال لغيره قطعت يدك فأخرجهما صحيحتين حيث لم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال والتزامه وإن كان القطع سببا لوجوب المال لأن القطع خطأ سببا لوجوب مال مخصوص وهو الأرش وهو يخالف مطلق المال في الوصف حتى وجب على العاقلة في سنتين ولا يمكن إثباته بدون القطع وما أمكن إثباته فالقطع ليس بسبب له أما الحرية فلا تختلف ذاتا وحكما فأمكن جعله مجازا عنه.
ولو قال: هذا أبي أو أمي ومثله لا يولد لمثلهما فهو على الخلاف لما بينا ولو قال لصبي صغير هذا جدي قيل هو على الخلاف وقيل لا يعتق بالإجماع لأن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة وهو الأب وهي غير ثابتة في كلامه فتعذر أن يجعل مجازا عن الموجب بخلاف الأبوة والبنوة لأن لهما موجبا في الملك من غير واسطة. ولو(2/298)
قال هذا أخي لا يعتق في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتق ووجه الروايتين ما بيناه ولو قال لعبده هذا ابنتي فقد قيل على الخلاف وقيل هو بالإجماع لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى فتعلق الحكم بالمسمى وهو معدوم فلا يعتبر وقد حققناه في النكاح " وإن قال لأمته أنت طالق أو بائن أو تخمري ونوى به العتق لم تعتق " وقال الشافعي رحمه الله تعتق إذا نوى وكذا على هذا الخلاف سائر ألفاظ الصريح والكناية على ما قال مشايخهم رحمه الله له أنه نوى ما يحتمله لفظه لأن بين الملكين موافقة إذ كل واحد منهما ملك العين أما ملك اليمين فظاهر وكذا ملك النكاح في حكم ملك العين حتى كان التأبيد من شرطه والتأقيت مبطلا له وعمل اللفظين في إسقاط ما هو حقه وهو الملك ولهذا يصح التعليق فيه بالشرط.
أما الأحكام فتثبت لسبب سابق وهو كونه مكلف ولهذا يصلح لفظه العتق والتحرير كناية عن الطلاق فكذا عكسه ولنا أنه نوى مالا يحتمله لفظه لأن الإعتاق لغة إثبات القوة والطلاق رفع القيد وهذا لأن العبد ألحق بالجمادات وبالإعتاق يحيا فيقدر ولا كذلك المنكوحة فإنها قادرة إلا أن قيد النكاح مانع وبالطلاق يرتفع المانع فتظهر القوة ولا خفاء أن الأول أقوى ولأن ملك اليمين فوق ملك النكاح فكان إسقاطه أقوى واللفظ يصلح مجازا عما هو دون حقيقته لا عما هو فوقه فلهذا امتنع في المتنازع فيه وانساغ في عكسه.
" وإذا قال لعبده أنت مثل الحر لم يعتق " لأن المثل يستعمل للمشاركة في بعض المعاني عرفا فوقع الشك في الحرية " ولو قال ما أنت إلا حر عتق " لأن الاستثناء من النفي إثبات على وجه التأكيد كما في كلمة الشهادة " ولو قال رأسك رأس حر لا يعتق " لأنه تشبيه بحذف حرفه " ولو قال رأسك رأس حر عتق " لأنه إثبات الحرية فيه إذ الرأس يعبر به عن جمع البدن.(2/299)
فصل
" ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه " وهذا اللفظ مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وقال عليه الصلاة والسلام: " من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر " واللفظ بعمومه ينتظم كل قرابة مؤبدة بالمحرمية ولادا أو غيره والشافعي رحمه الله يخالفنا في غيره له أن ثبوت العتق من غير مرضاة المالك ينفيه القياس أولا يقتضيه والأخوة وما يضاهيها نازلة عن قرابة الولاد فامتنع الإلحاق أو الاستدلال به ولهذا امتنع التكاتب على المكاتب في(2/299)
غير الولاد ولم يمتنع فيه ولنا ما روينا ولأنه ملك قريبه قرابة مؤثرة في المحرمية فيعتق عليه وهذا هو المؤثر في الأصل والولاد ملغي لأنها هي التي يفترض وصلها ويحرم قطعها حتى وجبت النفقة وحرم النكاح ولا فرق بين ما إذا كان المالك مسلما أو كافرا في دار الإسلام لعموم العلة والمكاتب إذا اشترى أخاه ومن يجري مجراه لا يتكاتب عليه لأنه ليس له ملك تام يقدره على الإعتاق والافتراض عند القدرة بخلاف الولاد لأن العتق فيه من مقاصد الكتابة فامتنع البيع فيعتق تحقيقا لمقصود العقد وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتكاتب على الأخ أيضا وهو قولهما فلنا أن نمنع وهذا بخلاف ما إذا ملك ابنة عمه وهي أخته من الرضاع لأن المحرمية ما ثبتت بالقرابة والصبي جعل أهلا لهذا العتق وكذا المجنون حتى عتق القريب عليهما عند الملك لأنه تعلق به حق العبد فشابه النفقة.
" ومن أعتق عبدا لوجه الله تعالى أو للشيطان أو للصنم عتق " لوجود ركن الإعتاق من أهله في محله ووصف القربة في اللفظ الأول زيادة فلا يختل العتق بعدمه في اللفظين الآخرين.
" وعتق المكره والسكران واقع " لصدور الركن من الأهل في المحل كما في الطلاق وقد بيناه من قبل " وإن أضاف العتق إلى ملك أو شرط صح كما في الطلاق " أما الإضافة إلى الملك ففيه خلاف الشافعي رحمه الله وقد بيناه في كتاب الطلاق وأما التعليق بالشرط فلأنه إسقاط فيجري فيه التعليق بخلاف التمليكات على ما عرف في موضعه.
" وإذا خرج عبد الحربي إلينا مسلما عتق " لقوله عليه الصلاة والسلام في عبيد الطائف حين خرجوا إليه مسلمين: " هم عتقاء الله تعالى " ولأنه أحرز نفسه وهو مسلم ولا استرقاق على المسلم ابتداء " وإن أعتق حاملا عتق حملها تبعا لها " إذ هو متصل بها.
" ولو أعتق الحمل خاصة عتق دونها " لأنه لا وجه إلى إعتاقها مقصودا لعدم الإضافة إليها ولا إليه تبعا لما فيه من قلب الموضوع ثم إعتاق الحمل صحيح ولا يصح بيعه وهبته لأن التسليم نفسه شرط في الهبة والقدرة عليه في البيع ولم يوجد ذلك بالإضافة إلى الجنين وشيء من ذلك ليس بشرط في الإعتاق فافترقا " ولو أعتق الحمل على مال صح ولا يجب المال " إذ لا وجه إلى إلزام المال على الجنين لعدم الولاية عليه ولا إلى إلزامه الأم لأنه في حق العتق نفس على حدة واشتراط بدل العتق على غير المعتق لا يجوز على ما مر في الخلع وإنما يعرف قيام الحبل وقت العتق إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر منه لأنه أدنى مدة الحمل.(2/300)
قال: " وولد الأمة من مولاها حر " لأنه مخلوق من مائه فيعتق عليه هذا هو الأصل ولا معارض له فيه لأن ولد الأمة لمولاها " وولدها من زوجها مملوك لسيدها " لترجح جانب الأم باعتبار الحضانة أو لاستهلاك مائه بمائها والمنافاة متحققة والزوج قد رضي به بخلاف ولد المغرور لأن الوالد ما رضي به " وولد الحرة حر على كل حال " لأن جانبها راجح فيتبعها في وصف الحرية كما يتبعها في المملوكية والمرقوقية والتدبير وأمومية الولد والكتابة والله تعالى أعلم.(2/301)
باب العبد يعتق بعضه
" وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يعتق كله " وأصله أن الإعتاق يتجزأ عنده فيقتصر على ما أعتق وعندهما لا يتجزأ وهو قول الشافعي رحمه الله فإضافته إلى البعض كإضافته إلى الكل فلهذا يعتق كله لهم أن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية وإثباتها بإزالة ضدها وهو الرق الذي هو ضعف حكمي وهما لا يتجزآن فصار كالطلاق والعفو عن القصاص والاستيلاد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإعتاق إثبات العتق بإزالة الملك أو هو إزالة الملك لأن الملك حقه والرق حق الشرع أو حق العامة وحكم التصرف ما يدخل تحت ولاية المتصرف وهو إزالة حقه لا حق غيره.
والأصل أن التصرف يقتصر على موضع الإضافة والتعدي إلى ما وراءه ضرورة عدم التجزي والملك متجزي كما في البيع والهبة فيبقى على الأصل وتجب السعاية لاحتباس مالية البعض عند العبد والمستسعي بمنزلة المكاتب عنده لأن الإضافة إلى البعض توجب ثبوت المالكية في كله وبقاء الملك في بعضه يمنعه فعملنا بالدليلين بإنزاله مكاتبا إذ هو مالك يدا لا رقبة والسعاية كبدل الكتابة فله أن يستسعيه وله خيار أن يعتقه لأن المكاتب قابل للإعتاق غير أنه إذا عجز لا يرد إلى الرق لأنه إسقاط لا إلى أحد فلا يقبل الفسخ بخلاف الكتابة المقصودة لأنه عقد يقال ويفسخ وليس في الطلاق والعفو عن القصاص حالة متوسطة فأثبتناه في الكل ترجيحا للمحرم والاستيلاد متجزي عنده حتى لو استولد نصيبه من مدبرة يقتصر عليه وفي القنة لما ضمن نصيب صاحبه بالإفساد ملكه بالضمان فكمل الاستيلاد.
" وإذا كان العبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه عتق فإن كان موسرا فشريكه بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء ضمن شريكه قيمة نصيبه وإن شاء استسعى العبد فإن ضمن(2/301)
رجع المعتق على العبد والولاء للمعتق وإن أعتق أو استسعى فالولاء بينهما وإن كان المعتق معسرا فالشريك بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد والولاء بينهما في بينهما في الوجهين وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس له إلا الضمان مع اليسار والسعاية مع الإعسار ولا يرجع المعتق على العبد والولاء للمعتق "
وهذه المسئلة تبتني على حرفين:
أحدهما: تجزي الإعتاق وعدمه على ما بيناه.
والثاني: أن يسار المعتق لا يمنع سعاية العبد عنده وعندهما يمنع لهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل يعتق نصيبه إن كان غنيا ضمن وإن كان فقيرا سعى في حصة الآخر قسم والقسمة تنافي الشركة وله أنه احتبست مالية نصيبه عند العبد فله أن يضمنه كما إذا هبت الريح في ثوب إنسان وألقته في صبغ غيره حتى انصبغ به فعلى صاحب الثوب قيمة صبغ الاخر موسرا كان أو معسرا لما قلنا فكذا ههنا إلا أن العبد فقير فيستسعيه ثم المعتبر يسار التيسير وهو أن يملك من المال قدر قيمة نصيب الآخر لإيسار الغني لأن به يعتدل النظر من الجانبين بتحقيق ما قصده المعتق من القربة وإيصال بدل حق الساكت إليه ثم التخريج على قولهما ظاهر فعدم رجوع المعتق بما ضمن على العبد لعدم السعاية عليه في حالة اليسار والولاء للمعتق لأن العتق كله من جهته لعدم التجزي.
وأما التخريج على قوله: فخيار الإعتاق لقيام ملكه في الباقي إذ الإعتاق يتجزأ عنده والتضمين لأن المعتق جان عليه بإفساد نصيبه حيث امتنع عليه البيع والهبة ونحو ذلك مما سوى الإعتاق وتوابعه والاستسعاء لما بينا ويرجع المعتق بما ضمن على العبد لأنه قام مقام الساكت بأداء الضمان وقد كان له ذلك بالاستسعاء فكذلك للمعتق ولأنه ملكه بأداء الضمان ضمنا فيصير كأن الكل له وقد أعتق بعضه فله أن يعتق الباقي أو يستسعي إن شاء والولاء للمعتق في هذا الوجه لأن العتق كله من جهته حيث ملكه بأداء الضمان وفي حال إعسار المعتق إن شاء أعتق لبقاء ملكه وإن شاء استسعى لما بينا والولاء له في الوجهين لأن العتق من جهته ولا يرجع المستسعي على المعتق بما أدى بإجماع بيننا لأنه يسعى لفكاك رقبته أولا يقضي دينا على المعتق إذ لا شيء عليه لعسرته بخلاف المرهون إذا أعتقه الراهن المعسر لأنه يسعى في رقبة قد فكت أو يقضي دينا على الراهن فلهذا يرجع عليه.
وقول الشافعي رحمه الله في الموسر كقولهما وقال في المعسر يبقى نصيب الساكت على(2/302)
ملكه يباع ويوهب لأنه لا وجه إلى تضمين الشريك لإعساره ولا إلى السعاية لأن العبد ليس بجان ولا راض به ولا إلى إعتاق الكل للإضرار بالساكت فتعين ما عيناه قلنا إلى الاستسعاء سبيل لأنه لا يفتقر إلى الجناية بل تبتني السعاية على احتباس المالية فلا يصار إلى الجمع بين القوة الموجبة للمالكية والضعف السالب لها في شخص واحد.
قال: " ولو شهد كل واحد من الشريكين على صاحبه بالعتق سعى العبد لكل واحد منهما في نصيبه موسرين كانا أو معسرين عند أبي حنيفة رحمه الله " وكذا إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا لأن كل واحد منهما يزعم أن صاحبه أعتق نصيبه فصار مكاتبا في زعمه عنده وحرم عليه الاسترقاق فيصدق في حق نفسه فيمنع من استرقاقه ويستسعيه لأنا تيقنا بحق الاستسعاء كاذبا كان أو صادقا لأنه مكاتبه أو مملوكه فلهذا يستسعيانه ولا يختلف ذلك باليسار والإعسار لأن حقه في الحالين في أحد شيئين لأن يسار المعتق لا يمنع السعاية عنده وقد تعذر التضمين لإنكار الشريك فتعين الآخر وهو السعاية والولاء لهما لأن كلا منهما يقول عتق نصيب صاحبي عليه بإعتاقه وولاؤه له وعتق نصيبي بالسعاية وولاؤه لي " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن كانا موسرين فلا سعاية عليه " لأن كل واحد منهما يتبرأ عن سعايته بدعوى العتاق على صاحبه لأن يسار المعتق يمنع السعاية عندهما إلا أن الدعوى لم تثبت لإنكار الآخر والبراءة عن السعاية قد ثبتت لإقراره على نفسه " وإن كانا معسرين سعى لهما " لأن كل واحد منهما يدعي السعاية عليه صادقا كان أو كاذبا على ما بيناه إذ المعتق معسر " وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا سعى للموسر منهما " لأنه لا يدعي الضمان على صاحبه لإعساره وإنما يدعي عليه السعاية فلا يتبرأ عنه " ولا يسعى للمعسر منهما " لأنه يدعي الضمان على صاحبه ليساره فيكون مبرئا للعبد عن السعاية والولاء موقوف في جميع ذلك عندهما لأن كل واحد منهما يحيله على صاحبه وهو يتبرأعنه فيبقى موقوفا إلى أن يتفقا على إعتاق أحدهما.
" ولو قال أحد الشريكين إن لم يدخل فلان هذه الدار غدا فهو حر وقال الآخر إن دخل فهو حر فمضى الغد ولا يدري أدخل أم لا عتق النصف وسعى لهما في النصف الآخر وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يسعى في جميع قيمته " لأن المقضي عليه بسقوط السعاية مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فصار كما إذا قال لغيره لك على أحدنا ألف درهم فإنه لا يقضي بشيء للجهالة كذا هذا ولهما أنا تيقنا بسقوط نصف السعاية لأن أحدهما حانث بيقين ومع التيقن بسقوط النصف كيف يقضي بوجوب الكل والجهالة ترتفع بالشيوع والتوزيع كما إذا أعتق أحد عبديه لا بعينه أو بعينه(2/303)
ونسيه ومات قبل التذكر أو البيان ويتأتى التفريع فيه على أن اليسار هل يمنع السعاية أو لا يمنعها على الاختلاف الذي سبق.
" ولو حلفا على عبدين كل واحد منهما لأحدهما بعينه لم يعتق واحد منهما " لأن المقضي عليه بالعتق مجهول وكذلك المقضي له فتفاحشت الجهالة فامتنع القضاء وفي العبد الواحد المقضي له والمقضي به معلوم فغلب المعلوم المجهول.
" وإذا اشترى الرجلان ابن أحدهما عتق نصيب الأب " لأنه ملك شقص قريبه وشراؤه إعتاق على ما مر " ولا ضمان عليه " علم الآخر أنه ابن شريكه أو لم يعلم " وكذا إذا ورثاه والشريك بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا في الشراء يضمن الأب نصف قيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا سعى الابن في نصف قيمته لشريك أبيه وعلى هذا الخلاف إذا ملكاه بهبة أو صدقة أو وصية وعلى هذا إذا اشتراه رجلان وأحدهما قد حلف بعتقه إن اشترى نصفه لهما أنه أبطل نصيب صاحبه بالإعتاق لأن شراء القريب إعتاق وصار هذا كما إذا كان العبد بين أجنبيين فأعتق أحدهما نصيبه وله أنه رضي بإفساد نصيبه فلا يضمنه كما إذا أذن له بإعتاق نصيبه صريحا ودلالة ذلك أنه شاركه فيما هو علة العتق وهو الشراء لأن شراء القريب إعتاق حتى يخرج به عن عهدة الكفارة عندنا وهذا ضمان إفساد في ظاهر قولهما حتى يختلف باليسار والإعسار فيسقط بالرضا ولا يختلف الجواب بين العلم وعدمه وهو ظاهر الرواية عنه لأن الحكم يدار على السبب كما إذا قال لغيره كل هذا الطعام وهو مملوك للآمر ولا يعلم الآمر بملكه " وإن بدأ الأجنبي فاشترى نصفه ثم اشترى الأب نصفه الآخر وهو موسر فالأجنبي بالخيار إن شاء ضمن الأب " لأنه ما رضي بإفساد نصيبه " وإن شاء استسعى الابن في نصف قيمته " لاحتباس ماليته عنده " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن يسار المعتق لا يمنع السعاية عنده وقالا لا خيار له ويضمن الأب نصف قيمته لأن يسار المعتق يمنع السعاية عندهما.
" ومن اشترى نصف ابنه وهو موسر فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن إذا كان موسرا " ومعناه: إذا اشترى نصفه ممن يملك كله فلا يضمن لبائعه شيئا عنده والوجه قد ذكرناه.
" وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر فدبره أحدهم وهو موسر ثم أعتقه الآخر وهو موسر فأرادوا الضمان فللساكت أن يضمن المدبر ثلث قيمته قنا ولا يضمن المعتق وللمدبر أن يضمن المعتق ثلث قيمته مدبرا ولا يضمنه الثلث الذي ضمن وهذا عند(2/304)
أبي حنيفة رحمه الله وقالا العبد كله للذي دبره أول مرة ويضمن ثلثي قيمته لشريكيه موسرا كان أو معسرا ".
وأصل هذا أن التدبير يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما كالإعتاق لأنه شعبة من شعبه فيكون معتبرا به ولما كان متجزئا عنده اقتصر على نصيبه وقد أفسد بالتدبير نصيب الآخرين فلكل واحد منهما أن يدبر نصيبه أو يعتق أو يكاتب أو يضمن المدبر أو يستسعي العبد أو يتركه على حاله لأن نصيبه باق على ملكه فاسدا بإفساد شريكه حيث سد عليه طرق الانتفاع به بيعا وهبة على ما مر فإذا اختار أحدهما العتق تعين حقه فيه وسقط اختياره غيره فتوجه للساكت سببا ضمان تدبير المدبر وإعتاق هذا المعتق غير أن له أن يضمن المدبر ليكون الضمان ضمان معاوضة إذ هو الأصل حتى جعل الغضب ضمان معاوضة على أصلنا وأمكن ذلك في التدبير لكونه قابلا للنقل من ملك إلى ملك وقت التدبير ولا يمكن ذلك في الإعتاق لأنه عند ذلك مكاتب أو حر على اختلاف الأصلين ولا بد من رضا المكاتب بفسخه حتى يقبل الانتقال فلهذا يضمن المدبر ثم للمدبر أن يضمن المعتق ثلث قيمته مدبرا لأنه أفسد عليه نصيبه مدبرا والضمان يتقدر بقيمة المتلف وقيمة المدبر ثلثا قيمته قنا على ما قالوا ولا يضمنه قيمة ما ملكه بالضمان من جهة الساكت لأن ملكه يثبت مستندا وهذا ثابت من وجه دون وجه فلا يظهر في حق التضمين والولاء بين المعتق والمدبر أثلاثا ثلثاه للمدبر والثلث للمعتق لأن العبد عتق على ملكهما على هذا المقدار وإذا لم يكن التدبير متجزئا عندهما صار كله مدبرا للمدبر وقد أفسد نصيب شريكيه لما بينا فيضمنه ولا يختلف باليسار والإعسار لأنه ضمان تملك فأشبه الاستيلاد بخلاف الإعتاق لأنه ضمان جناية والولاء كله للمدبر وهذا ظاهر.
قال: " وإذا كانت جارية بين رجلين زعم أحدهما أنها أم ولد لصاحبه وأنكر ذلك الآخر فهي موقوفة يوما ويوما تخدم المنكر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إن شاء المنكر استسعى الجارية في نصف قيمتها ثم تكون حرة لا سبيل عليها ".
لهما أنه لما لم يصدقه صاحبه انقلب إقرار المقر عليه كأنه استولدها فصار كما إذا أقر المشتري على البائع أنه أعتق المبيع قبل البيع يجعل كأنه أعتق كذا هذا فتمتنع الخدمة ونصيب المنكر على ملكه في الحكم فتخرج إلى الإعتاق بالسعاية كأم ولد النصراني إذا أسلمت ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقر لو صدق كانت الخدمة كلها للمنكر ولو كذب كان له نصف الخدمة فيثبت ما هو المتيقن به وهو النصف ولا خدمة للشريك الشاهد ولا استسعاء لأنه يتبرأعن جميع ذلك بدعوى الاستيلاد والضمان والإقرار بأمومية الولد(2/305)
يتضمن الإقرار بالنسب وهذا أمر لازم لا يرتد بالرد فلا يمكن أن يجعل المقر كالمستولد " وإن كانت أم ولد بينهما فأعتقها أحدهما وهو موسر فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن نصف قيمتها " لأن مالية أم الولد غير متقومة عنده ومتقومة عندهما وعلى هذا الأصل تبتني عدة من المسائل أوردناها في كفاية المنتهى.
وجه قولهما: أنها منتفع بها وطأ وإجارة واستخداما وهذا هو دلالة التقوم وبامتناع بيعها لا يسقط تقومها كما في المدبر ألا ترى أن ولد أم النصراني إذا أسلمت عليها السعاية وهذا آية التقوم غير أن قيمتها ثلث قيمتها قنة على ما قالوا لفوات منفعة البيع السعاية بعد الموت بخلاف المدبر لأن الفائت منفعة البيع.
أما السعاية والاستخدام فباقيان ولأبي حنيفة رحمه الله أن التقوم بالإحراز وهي محرزة للنسب لا للتقوم والإحراز للتقوم تابع ولهذا لا تسعى لغريم ولا لوارث بخلاف المدبر وهذا لأن السبب فيها متحقق في الحال وهو الجزئية الثابتة بواسطة الولد على ما عرف في حرمة المصاهرة إلا أنه لم يظهر عمله في حق الملك ضرورة الانتفاع فعمل السبب في إسقاط التقوم وفي المدبر ينعقد السبب بعد الموت وامتناع البيع فيه لتحقيق مقصوده فافترقا وفي أم ولد النصراني قضينا بتكاتبها عليه دفعا للضرر عن الجانبين وبدل الكتابة لا يفتقر وجوبه إلى التقوم.(2/306)
باب عتق أحد العبدين
" ومن كان له ثلاثة أعبد دخل عليه اثنان فقال أحدكما حر ثم خرج واحد ودخل آخر فقال أحدكما حر ثم مات ولم يبين عتق من الذي أعيد عليه القول ثلاثة أرباعه ونصف كل واحد من الآخرين عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كذلك إلا في العبد الآخر فإنه يعتق ربعه " أما الخارج فلأن الإيجاب الأول دائر بينه وبين الثابت وهو الذي أعيد عليه القول فأوجب عتق رقبة بينهما لاستوائهما فيصيب كلا منهما النصف غير أن الثابت استفاد بالإيجاب الثاني ربعا آخر لأن الثاني دائر بينه وبين الداخل وهو الذي سماه في الكتاب آخرا فيتنصف بينهما غير أن الثابت استحق نصف الحرية بالإيجاب الأول فشاع النصف المستحق بالثاني في نصفيه فما أصاب المستحق بالأول لغا وما أصاب الفارغ بقي فيكون له الربع فتمت له ثلاثة الأرباع ولأنه لو أريد هو بالثاني يعتق نصفه ولو أريد به الداخل لا يعتق هذا النصف فيتنصف فيعتق منه الربع بالثاني والنصف بالأول وأما الداخل فمحمد رحمه الله يقول: لما دار الإيجاب الثاني(2/306)
بينه وبين الثابت وقد أصاب الثابت منه الربع فكذلك يصيب الداخل وهما يقولان إنه دائر بينهما وقضيته التنصيف وإنما نزل إلى الربع في حق الثابت لاستحقاقه النصف بالإيجاب الأول كما ذكرنا ولا استحقاق للداخل من قبل فيثبت فيه النصف.
قال: " فإن كان القول منه في المرض قسم الثلث على هذا " وشرح ذلك أن يجمع بين سهام العتق وهي سبعة على قولهما لأنا نجعل كل رقبة على أربعة لحاجتنا إلى ثلاثة الأرباع فنقول يعتق من الثابت ثلاثة أسهم ومن الآخرين من كل واحد منهما سهمان فيبلغ سهام العتق سبعة والعتق في مرض الموت وصية ومحل نفاذها الثلث فلا بد أن يجعل سهام الورثة ضعف ذلك فيجعل كل رقبة على سبعة وجميع المال أحد وعشرون فيعتق من الثابت ثلاثة ويسعى في أربعة ويعتق من الباقيين من كل واحد منهما سهمان ويسعى في خمسة فإذا تأملت وجمعت استقام الثلث والثلثان وعند محمد رحمه الله يجعل كل رقبة على ستة لأنه يعتق من الداخل عنده سهم فنقصت سهام العتق بسهم وصار جميع المال ثمانية عشر وباقي التخريج ما مر " ولو كان هذا في الطلاق وهن غير مدخولات ومات الزوج قبل البيان سقط من مهر الخارجة ربعه ومن مهر الثابتة ثلاثة أثمانه ومن مهر الداخلة ثمنه " قيل هذا قول محمد رحمه الله خاصة وعندهما يسقط ربعه وقيل هو قولهما أيضا وقد ذكرنا الفرق وتمام تفريعاتها في الزيادات.
" ومن قال لعبديه أحدكما حر فباع أحدهما أو مات أو قال له أنت حر بعد موتي عتق الآخر لأنه لم يبق محلا للعتق أصلا بالموت وللعتق من جهته بالبيع وللعتق من كل وجه بالتدبير فتعين له الآخر " ولأنه بالبيع قصد الوصول إلى الثمن وبالتدبير إبقاء الانتفاع إلى موته والمقصودان ينافيان العتق الملتزم فتعين له الاخر دلالة وكذا إذا استولد إحداهما للمعنيين ولا فرق بين البيع الصحيح والفاسد مع القبض وبدونه والمطلق وبشرط الخيار لأحد المتعاقدين لإطلاق جواب الكتاب والمعنى ما قلنا والعرض على البيع ملحق به في المحفوظ عن أبي يوسف رحمه الله والهبة والتسليم والصدقة والتسليم بمنزلة البيع لأنه تمليك " وكذلك لو قال لامرأتيه إحداكما طالق ثم ماتت إحداهما " لما قلنا وكذلك لو وطئ إحداهما لما تبين.
" ولو قال لأمتيه: إحداكما حرة ثم جامع إحداهما لم تعتق الأخرى عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تعتق " لأن الوطء لا يحل إلا في الملك وإحداهما حرة فكان بالوطء مستبقيا الملك في الموطوءة فتعينت الأخرى لزواله بالعتق كما في الطلاق وله أن الملك قائم في الموطوءة لأن الإيقاع في المنكرة وهي معينة فكان وطؤها حلالا فلا يجعل بيانا(2/307)
ولهذا حل وطؤهما على مذهبه إلا أنه لا يفتى به ثم يقال العتق غير نازل قبل البيان لتعلقه به أو يقال نازل في المنكرة فيظهر في حق حكم تقبله والوطء يصادف المعينة بخلاف الطلاق لأن المقصود الأصلي من النكاح الولد وقصد الولد بالوطء يدل على استبقاء الملك في الموطوءة صيانة للولد أما الأمة فالمقصود من وطئها قضاء الشهوة دون الولد فلا يدل على الاستبقاء.
" ومن قال لأمته إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما ولد أولا عتق نصف الأم ونصف الجارية والغلام عبد " لأن كل واحد منهما تعتق في حال وهو ما إذا ولدت الغلام أول مرة الأم بالشرط والجارية لكونها تبعا لها إذ الأم حرة حين ولدتها وترق في حال وهو ما إذا ولدت الجارية أولا لعدم الشرط فيعتق نصف كل واحدة منهما وتسعى في النصف.
أما الغلام يرق في الحالين فلهذا يكون عبدا وإن ادعت الأم أن الغلام هو المولود أولا وأنكر المولى والجارية صغيرة فالقول قوله مع اليمين لإنكاره شرط العتق فإن حلف لم يعتق واحد منهم وإن نكل عتقت الأم والجارية لأن دعوى الأم حرية الصغيرة معتبرة لكونها نفعا محضا فاعتبر النكول في حق حريتهما فعتقتا ولو كانت الجارية كبيرة ولم تدع شيئا والمسئلة بحالها عتقت الأم بنكول المولى خاصة دون الحارية لأن دعوى الأم غير معتبرة في حق الجارية الكبيرة وصحة النكول تبتني على الدعوى فلم يظهر في حق الجارية ولو كانت الجارية الكبيرة هي المدعية لسبق ولادة الغلام والأم ساكتة يثبت عتق الجارية بنكول المولى دون الأم لما قلنا والتحليف على العلم فيما ذكرنا لأنه استحلاف على فعل الغير وبهذا القدر يعرف ما ذكرنا من الوجوه في كفاية المنتهى.
قال: " وإذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق أحد عبديه فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون في وصية " استحسانا ذكره في كتاب العتاق " وإن شهدا أنه طلق إحدى نسائه جازت الشهادة ويجبر الزوج على أن يطلق إحداهن " وهذا بالإجماع " وقال أبو يوسف ومحمد رحمه الله الشهادة في العتق مثل ذلك " وأصل هذا أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تقبل والشهادة على عتق الأمة وطلاق المنكوحة مقبولة من غير دعوى بالإتفاق والمسئلة معروفة وإذا كان دعوى العبد شرطا عنده لم تتحقق في مسئلة الكتاب لأن الدعوى من المجهول لا تتحقق فلا تقبل الشهادة وعندهما ليس بشرط فتقبل الشهادة وإن انعدم الدعوى أما في الطلاق فعدم الدعوى لا يوجب خللا في الشهادة لأنها ليست بشرط فيها ولو شهدا أنه أعتق إحدى(2/308)
أمتيه لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله وإن لم تكن الدعوى شرطا فيه لأنه إنما لا تشترط الدعوى لما أنه يتضمن تحريم الفرج فشابه الطلاق والعتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده على ما ذكرناه فصار كالشهادة على عتق أحد العبدين وهذا كله إذا شهدا في صحته على أنه أعتق أحد عبديه.
أما إذا شهدا أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته أو شهدا على تدبيره في صحته أو في مرضه وأداء الشهادة في مرض موته أو بعد الوفاة تقبل استحسانا لأن التدبير حيثما وقع وقع وصية وكذا العتق في مرض الموت وصية والخصم في الوصية إنما هو الموصي وهو معلوم وعنه خلف وهو الوصي أو الوارث ولأن العتق في مرض الموت يشيع بالموت فيهما فصار كل واحد منهما خصما متعينا ولو شهدا بعد موته أنه قال في صحته أحد كما حر فقد قيل لا تقبل لأنه ليس بوصية وقيل تقبل للشيوع وهو الصحيح والله أعلم.(2/309)
باب الحلف بالعتق
" ومن قال إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذ فهو حر وليس له مملوك فاشترى مملوكا ثم دخل عتق " لأن قوله يومئذ تقديره يوم إذ دخلت إلا أنه اسقط الفعل وعوضه بالتنوين فكان المعتبر قيام الملك وقت الدخول وكذا لو كان في ملكه يوم حلف عبد فبقي على ملكه حتى دخل عتق لما قلنا قال: " ولو لم يكن قال في يمينه يومئذ لم يعتق " لأن قوله كل مملوك لي للحال والجزاء حرية المملوك في الحال إلا أنه لما دخل الشرط على الجزاء تأخر إلى وجود الشرط فيعتق إذا بقي على ملكه إلى وقت الدخول ولا يتناول من اشتراه بعد اليمين.
" ومن قال كل مملوك لي ذكر فهو حر وله جارية حامل فولدت ذكرا لم يعتق " وهذا إذا ولدت لستة أشهر فصاعدا ظاهر لأن اللفظ للحال وفي قيام الحمل وقت اليمين احتمال لوجود أقل مدة الحمل بعده وكذا إذا ولدت لأقل من ستة أشهر لأن اللفظ يتناول المملوك المطلق والجنين مملوك تبعا للأم لا مقصودا ولأنه عضو من وجه واسم المملوك يتناول الأنفس دون الأعضاء ولهذا لا يملك بيعه منفردا قال العبد الضعيف وفائدة التقييد بوصف الذكورة أنه لو قال كل مملوك لي تدخل الحامل فيدخل الحمل تبعا لها.
" وإن قال كل مملوك أملكه حر بعد غد أو قال كل مملوك لي فهو حر بعد غد وله مملوك فاشترى آخر ثم جاء بعد غد عتق الذي في ملكه يوم حلف " لأن قوله أملكه للحال حقيقة يقال أنا أملك كذا وكذا ويراد به الحال وكذا يستعمل له من غير قرينة، وللاستقبال(2/309)
بقرينة السين أو سوف فيكون مطلقه للحال فكان الجزاء حرية المملوك في الحال مضافا إلى ما بعد الغد فلا يتناول ما يشتريه بعد اليمين.
" ولو قال كل مملوك أملكه أو قال كل مملوك لي حر بعد موتي وله مملوك فاشترى مملوكا آخر فالذي كان عنده وقت اليمين مدبر والآخر ليس بمدبر وإن مات عتقا من الثلث " وقال أبو يوسف رحمه الله في النوادر يعتق ما كان في ملكه يوم حلف ولا يعتق ما استفاد بعد يمينه وعلى هذا إذا قال كل مملوك لي إذا مت فهو حر له أن اللفظ حقيقة للحال على ما بيناه فلا يعتق به ما سيملكه ولهذا صار هو مدبرا دون الآخر ولهما أن هذا إيجاب عتق وإيصاء حتى اعتبر من الثلث وفي الوصايا تعتبر الحالة المنتظرة والحالة الراهنة ألا ترى أنه يدخل في الوصية بالمال ما يستفيده بعد الوصية وفي الوصية لأولاد فلان من يولد له بعدها والإيجاب إنما يصح مضافا إلى الملك أو إلى سببه فمن حيث إنه إيجاب العتق يتناول العبد المملوك اعتبارا للحالة الراهنة فيصير مدبرا حتى لا يجوز بيعه ومن حيث إنه إيصاء يتناول الذي يشتريه اعتبارا للحالة المتربصة وهي حالة الموت وقبل الموت حالة التملك استقبال محض فلا يدخل تحت اللفظ وعند الموت يصير كأنه قال كل مملوك لي أو كل مملوك أملكه فهو حر بخلاف قوله بعد غد على ما تقدم لأنه تصرف واحد وهو إيجاب العتق وليس فيه إيصاء والحالة محض استقبال فافترقا ولا يقال إنكم جمعتم بين الحال والاستقبال لأنا نقول نعم لكن بسببين مختلفين إيجاب عتق ووصية وإنما لا يجوز ذلك بسببب واحد.(2/310)
باب العتق على جعل
" ومن أعتق عبده على مال فقبل العبد عتق " وذلك مثل أن يقول أنت حر على ألف درهم أو بألف درهم وإنما يعتق بقبوله لأنه معاوضة المال بغير المال إذ العبد لا يملك نفسه ومن قضية المعاوضة ثبوت الحكم بقبول العوض للحال كما في البيع فإذا قبل صار حرا وما شرط دين عليه حتى تصح الكفالة بخلاف بدل الكتابة لأنه ثبت مع المنافي وهو قيام الرق على ما عرف وإطلاق لفظ المال ينتظم أنواعه من النقد والعرض والحيوان وإن كان بغير عينه لأنه معاوضة المال بغير المال فشابه النكاح والطلاق والصلح عن دم العمد وكذا الطعام والمكيل والموزون إذا كان معلوم الجنس ولا تضره جهالة الوصف لأنها يسيرة.
قال: " ولو علق عتقه بأداء المال صح وصار مأذونا " وذلك مثل أن يقول إن أديت(2/310)
إلي ألف درهم فأنت حر ومعنى قوله صح أنه يعتق عند الأداء من غير أن يصير مكاتبا لأنه صريح في تعليق العتق بالأداء وإن كان فيه معنى المعاوضة في الانتهاء على ما نبين إن شاء الله تعالى وإنما صار مأذونا لأنه رغبه في الاكتساب بطلبه الأداء منه ومراده التجارة دون التكدي فكان إذنا له دلالة.
" وإن أحضر المال أجبره الحاكم على قبضه وعتق العبد " ومعنى الإجبار فيه وفي سائر الحقوق أنه ينزل قابضا بالتخلية وقال زفر رحمه الله لا يجبر على القبول وهو القياس لأنه تصرف يمين إذ هو تعليق العتق بالشرط لفظا ولهذا لا يتوقف على قبول العبد ولا يحتمل الفسخ ولا جبر على مباشرة شروط الإيمان لأنه لا استحقاق قبل وجود الشرط بخلاف الكتابة لأنه معاوضة والبدل فيها واجب ولنا أنه تعليق نظرا إلى اللفظ ومعاوضة نظرا إلى المقصود لأنه ما علق عتقه بالأداء إلا ليحثه على دفع المال فينال العبد شرف الحرية والمولى المال بمقابلته بمنزلة الكتابة ولهذا كان عوضا في الطلاق في مثل هذا اللفظ حتى كان بائنا فجعلناه تعليقا في الابتداء عملا باللفظ ودفعا للضرر عن المولى حتى لا يمتنع عليه بيعه ولا يكون العبد أحق بمكاسبه ولا يسري إلى الولد المولود قبل الأداء وجعلناه معاوضة في الانتهاء عند الأداء دفعا للضرر عن العبد حتى يجبر المولى على القبول فعلى هذا يدور الفقه وتخرج المسائل نظيره الهبة بشرط العوض ولو أدى البعض يجبر على القبول إلا أنه لا يعتق مالم يؤد الكل لعدم الشرط كما إذا حط البعض وأدى الباقي ثم لو أدى ألفا اكتسبها قبل التعليق رجع المولى عليه وعتق لاستحقاقها ولو كان اكتسبها بعده لم يرجع عليه لأنه مأذون من جهته بالأداء منه ثم الأداء في قوله إن أديت يقتصر على المجلس لأنه تخيير وفي قوله إذا أديت لا يقتصر لأن إذا تستعمل للوقت بمنزلة متى.
" ومن قال لعبده أنت حر بعد موتي على ألف درهم فالقبول بعد الموت " لإضافة الإيجاب إلى ما بعد الموت فصار كما إذا قال أنت حر غدا على ألف درهم بخلاف ما إذا قال أنت مدبر على ألف درهم حيث يكون القبول إليه في الحال لأن إيجاب التدبير في الحال إلا أنه لا يجب المال لقيام الرق قالوا لا يعتق عليه في مسئلة الكتاب وإن قبل بعد الموت مالم يعتقه الوارث لأن الميت ليس بأهل للإعتاق وهذا صحيح.
قال: " ومن أعتق عبده على خدمته أربع سنين فقبل العبد فعتق من مات من ساعته فعليه قيمة نفسه في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله عليه قيمة خدمته أربع سنين " أما العتق فلأنه جعل الخدمة في مدة معلومة عوضا فيتعلق العتق بالقبول وقد وجد ولزمه خدمة أربع سنين لأنه يصلح عوضا فصار كما إذا أعتقه على(2/311)
ألف درهم ثم إذا مات العبد فالخلافية فيه بناء على خلافية أخرى وهي أن من باع نفس العبد منه بجارية بعينها ثم استحقت الجارية أو هلكت يرجع المولى على العبد بقيمة نفسه عندهما وبقيمة الجارية عنده وهي معروفة ووجه البناء أنه كما يتعذر تسليم الجارية بالهلاك والاستحقاق يتعذر الوصول إلى الخدمة بموت العبد وكذا بموت المولى فصار نظيرها.
" ومن قال لآخر أعتق أمتك على ألف درهم على أن تزوجنيها ففعل فأبت أن تتزوجه فالعتق جائز ولا شيء على الآمر " لأن من قال لغيره أعتق عبدك على ألف درهم علي ففعل لا يلزمه شيء ويقع العتق عن المأمور بخلاف ما إذا قال لغيره طلق امرأتك على ألف درهم علي ففعل حيث يجب الألف على الآمر لأن اشتراط البدل على الأجنبي في الطلاق جائز وفي العتاق لا يجوز وقد قررناه من قبل.
" ولو قال أعتق أمتك عني على ألف درهم والمسئلة بحالها قسمت الألف على قيمتها ومهر مثلها فما أصاب القيمة أداه الآمر وما أصاب المهر بطل عنه " لأنه لما قال عني تضمن الشراء اقتضاء على ما عرف وإذا كان كذلك فقد قابل الألف بالرقبة شراء وبالبضع نكاحا فانقسم عليهما ووجبت حصة ما سلم له وهو الرقبة وبطل عنه مالم يسلم وهو البضع فلو زوجت نفسها منه لم يذكره وجوابه أن ما اصاب قيمتها سقط في الوجه الأول وهي للمولى في الوجه الثاني وما أصاب مهر مثلها كان مهرا لها في الوجهين.(2/312)
باب التدبير
" وإذا قال المولى لمملوكه إذا مت فأنت حر أو أنت حر عن دبر مني أو أنت مدبر أو قد دبرتك فقد صار مدبرا " لأن هذه الألفاظ صريح في التدبير فإنه إثبات العتق عن دبر " ثم لا يجوز بيعه ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا إلى الحرية " كما في الكتابة وقال الشافعي رحمه الله يجوز لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يمتنع به البيع والهبة كما في سائر التعليقات وكما في المدبر المقيد ولأن التدبير وصية وهي غير مانعة من ذلك ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث " وهو حر من الثلث ولأنه سبب الحرية لأن الحرية تثبت بعد الموت ولا سبب غيره ثم جعله سببا في الحال أولى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية الصرف فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية بخلاف سائر التعليقات لأن المانع من السببية قائم قبل الشرط لأنه يمين واليمين مانع والمنع هو المقصود وأنه يضاد وقوع الطلاق والعتاق وأمكن تأخير السببية إلى زمان الشرط لقيام الأهلية عنده فافترقا ولأنه وصية والوصية(2/312)
خلافة في الحال كالوراثة وإبطال السبب لا يجوز وفي البيع وما يضاهيه ذلك.
قال: " وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره وإن كانت أمة وطئها وله أن يزوجها " لأن الملك فيه ثابت له وبه تستفاد ولاية هذه التصرفات " فإذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله " لما روينا ولأن التدبير وصية لأنه تبرع مضاف إلى وقت الموت والحكم غير ثابت في الحال فينفذ من الثلث حتى لو لم يكن له مال غيره يسعى في ثلثيه وإن كان على المولى دين يسعى في كل قيمته لتقدم الدين على الوصية ولا يمكن نقض العتق فيجب رد قيمته وولد المدبرة مدبر وعلى ذلك نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم " وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو من مرض كذا فليس بمدين ويجوز بيعه " لأن السبب لم ينعقد في الحال لتردد في تلك الصفة بخلاف المدبر المطلق لأنه تعلق عتقه بمطلق الموت وهو كائن لا محالة "فإن مات المولى على الصفة التي ذكرها عتق كما يعتق المدبر " معناه من الثلث لأنه ثبت حكم التدبير في آخر جزء من أجزاء حياته لتحقق تلك الصفة فيه فلهذا يعتبر من الثلث ومن المقيد أن يقول إن مت إلى سنة أو عشر سنين لما ذكرنا بخلاف ماذا قال إلى مائة سنة ومثله لا يعيش إليه في الغالب لأنه كالكائن لا محالة.(2/313)
باب الاستيلاد
" إذا ولدت الأمة من مولاها فقد صارت أم ولد له لا يجوز بيعها ولا تمليكها " لقوله عليه الصلاة والسلام " أعتقها ولدها " أخبر عن إعتاقها فيثبت بعض مواجبه وهو حرمة البيع ولأن الجزئية قد حصلت بين الواطئ والموطوءة بواسطة الولد فإن الماءين قد اختلطا بحيث لا يمكن الميز بينهما على ما عرف في حرمة المصاهرة إلا أن بعد الانفصال تبقى الجزئية حكما لا حقيقة فضعف السبب فأوجب حكما مؤجلا إلى ما بعد الموت وبقاء الجزئية حكما باعتبار النسب وهو من جانب الرجال فكذا الحرية تثبت في حقهم لا في حقهن حتى إذا ملكت الحرة زوحها وقد ولدت منه لم يعتق الزوج الذي ملكته بموتها وبثبوت عتق مؤجل يثبت حق الحرية في الحال فيمنع جواز البيع وإخراجها لا إلى الحرية في الحال ويوجب عتقها بعد موته وكذا إذا كان بعضها مملوكا له لأن الاستيلاد لا يتجزأ فإنه فرع النسب فيعتبر بأصله.
قال: " وله وطؤها واستخدامها وإجارتها وتزويجها " لأن الملك فيها قائم فأشبهت المدبرة " ولا يثبت نسب ولدها إلا أن يعترف به " وقال الشافعي رحمه الله يثبت نسبه منه وإن لم يدع لأنه لما ثبت النسب بالعقد فلأن يثبت بالوطء وأنه أكثر إفضاء أولى ولنا أن وطء(2/313)
الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد لوجود المانع عنه فلا بد من الدعوة بمنزلة ملك اليمين من غير وطء بخلاف العقد لأن الولد يتعين مقصودا منه فلا حاجة إلى الدعوة " فإن جاءت بعد ذلك بولد ثبت نسبه بغير إقرار " معناه بعد اعتراف منه بالولد الأول لأنه بدعوى الولد الأول تعين الولد مقصودا منها فصارت فراشا كالمعقودة بعد النكاح " إلا أنه إذا نفاه ينتفي بقوله " لأن فراشها ضعيف حتى يملك نقله بالتزويج بخلاف المنكوحة حيث لا ينتفي الولد بنفيه إلا باللعان لتأكد الفراش حتى لا يملك إبطاله بالتزويج وهذا الذي ذكرناه حكم فأما الديانة فإن كان وطئها وحصنها ولم يعزل عنها يلزمه أن يعترف به ويدعي لأن الظاهر أن الولد منه وإن عزل عنها أو لم يحصنها جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف وعن محمد رحمهما الله ذكرناهما في كفاية المنتهى " فإن زوجها فجاءت بولد فهو في حكم أمه " لأن حق الحرية يسري إلى الولد كالتدبير ألا ترى أن ولد الحرة حر وولد القنة رقيق " والنسب يثبت من الزوج " لأن الفراش له وإن كان النكاح فاسدا إذ الفاسد ملحق بالصحيح في حق الأحكام ولو ادعاه المولى لا يثبت نسبه منه لأنه ثابت النسب من غيره ويعتق الولد وتصير أمه أم ولد له لإقراره " وإذا مات المولى عتقت من جميع المال " لحديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعتق أمهات الأولاد وأن لا يبعن في دين ولا يجعلن من الثلث ولأن الحاجة إلى الولد أصلية فتقدم على حق الورثة والدين كالتكفين بخلاف التدبير لأنه وصية بما هو من زوائد الحوائج " ولا سعاية عليها في دين المولى للغرماء " لما روينا ولأنها ليست بمال متقوم حتى لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يتعلق بها حق الغرماء كالقصاص بخلاف المدبر لأنه مال متقوم " وإذا أسلمت أم ولد النصراني فعليها أن تسعى في قيمتها " وهي بمنزلة المكاتبة لا تعتق حتى تؤدي السعاية.
وقال زفر رحمه الله: تعتق في الحال والسعاية دين عليها وهذا الخلاف فيما إذا عرض على المولى الإسلام فأبى فإن أسلم تبقى على حالها له أن إزالة الذل عنها بعد ما أسلمت واجبة وذلك بالبيع أو الإعتاق وقد تعذر البيع فتعين الإعتاق ولنا أن النظر من الجانبين في جعلها مكاتبة لأنه يندفع الذل عنها بصيرورتها حرة يدا والضرر عن الذمي لانبعاثها على الكسب نيلا لشرف الحرية فيصل الذمي إلى بدل ملكه أما لو أعتقت وهي مفلسة تتوانى في الكسب ومالية أم الولد يعتقدها الذمي متقومة فيترك وما يعتقده ولأنها إن لم تكن متقومة فهي محترمة وهذا يكفي لوجوب الضمان كما في القصاص المشترك إذا عفا أحد الأولياء يجب المال للباقين " ولو مات مولاها عتقت بلا سعاية " لأنها أم ولد له ولو عجزت(2/314)
في حياته لا ترد قنة لأنها لو ردت قنة أعيدت مكاتبة لقيام الموجب.
" ومن استولد أمة غيره بنكاح ثم ملكها صارت أم ولد له " وقال الشافعي رحمه الله لا تصير أم ولد له ولو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم ملكها تصير أم ولد له عندنا وله فيه قولان وهو ولد المغرور له أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد له كما إذا علقت من الزنا ثم ملكها الزاني وهذا لأن أمومية الولد باعتبار علوق الولد حرا لأنه جزء الأم في تلك الحالة والجزء لا يخالف الكل ولنا أن السبب هو الجزئية على ما ذكرنا من قبل والجزئية إنما تثبت بينهما بنسبة الولد الواحد إلى كل واحد منهما كملا وقد ثبت النسب فتثبت الجزئية بهذه الواسطة بخلاف الزنا لأنه لا نسب فيه للولد إلى الزاني وإنما يعتق على الزاني إذا ملكه لأنه جزؤه حقيقة بغير واسطة نظيره من اشترى أخاه من الزنا لا يعتق لأنه ينسب إليه بواسطة نسبته إلى الولد وهي غير ثابتة.
" وإذا وطئ جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه وصارت أم ولد له وعليه قيمتها وليس عليه عقرها ولا قيمة ولدها " وقد ذكرنا المسئلة بدلائلها في كتاب النكاح من هذا الكتاب وإنما لا يضمن قيمة الولد لأنه انعلق حر الأصل لاستناد الملك إلى ما قبل الاستيلاد " وإن وطئ أب الأب مع بقاء الأب لم يثبت النسب " لأنه لا ولاية للجد حال بقاء الأب "ولو كان الأب ميتا ثبت من الجد كما يثبت نسبه من الأب " لظهور ولايته عند فقد الأب وكفر الأب ورقه بمنزلة موته لأنه قاطع للولاية.
" وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه " لأنه لما ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق إذ الولد الواحد لا ينعلق من ماءين " وصارت أم ولد له " لأن الاستيلاد لا يتجزأ عندهما.
" وعند أبي حنيفة رحمه الله يصير نصيبه أم ولد له ثم يتملك نصيب صاحبه إذ هو قابل للملك ويضمن نصف قيمتها " لأنه تملك نصيب صاحبه لما استكمل الاستيلاد ويضمن نصف عقرها لأنه وطئ جارية مشتركة إذ الملك يثبت حكما للاستيلاد فيتعقبه الملك في نصيب صاحبه بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه لأن الملك هنالك يثبت شرطا للاستيلاد فيتقدمه فصار واطئا ملك نفسه " ولا يغرم قيمة ولدها " لأن النسب يثبت مستندا إلى وقت العلوق فلم ينعلق شيء منه على ملك الشريك " وإن ادعياه معا ثبت نسبه منهما " معناه إذا حملت على ملكهما.(2/315)
وقال الشافعي رحمه الله يرجع إلى قول القافة لأن إثبات النسب من شخصين معا مع علمنا أن الولد لا ينخلق من ماءين متعذر فعملنا بالشبه وقد سر رسول الله عليه الصلاة والسلام بقول القائف في اسامة رضي الله عنه.
ولنا كتاب عمر رضي الله عنه إلى شريح في هذه الحادثة لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما هو ابنهما يرثهما ويرثانه وهو للباقي منهما وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك ولأنهما استويا في ثبت الاستحقاق فيستويان فيه والنسب وإن كان لا يتجزأ ولكن تتعلق به أحكام متجزئة فما يقبل التجزئة يثبت في حقهما على التجزئة ومالا يقبلها يثبت في حق كل أحد منهما كملا كأن ليس معه غيره إلا إذا كان أحد الشريكين أبا للآخر أو كان أحدهما مسلما والآخر ذميا لوجود المرجح في حق المسلم وهو الإسلام وفي حق الأب وهو ماله من الحق في نصيب الابن وسرور النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي لأن الكفار كانوا يطعنون في نسب أسامة رضي الله عنه وكان قول القائف مقطعا لطعنهم فسر به " وكانت الأمة أم ولد لهما " لصحة دعوة كل واحد منهما في نصيبه في الولد فيصير نصيبه منها أم ولد له تبعا لولدها " وعلى كل واحد منهما نصف العقر قصاصا بماله على الآخر ويرث الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل " لأنه أقر له بميراثه كله وهو حجة في حقه " ويرثان منه ميراث أب واحد " لاستوائهما في النسب كما إذا اقاما البينة.
" وإذا وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه فإن صدقه المكاتب ثبت نسب الولد منه " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يعتبر تصديقه اعتبارا بالأب يدعى ولد جارية ابنه ووجه الظاهر وهو الفرق أن المولى لا يملك التصرف في أكساب مكاتبه حتى لا يتملكه والأب يملك تملكه فلا معتبر بتصديق الابن قال " وعليه عقرها " لأنه لا يتقدمه الملك لأن ماله من الحق كاف لصحة الاستيلاد لما نذكره قال " وقيمة ولدها " لأنه في معنى المغرور حيث إنه اعتمد دليلا وهو أنه كسب كسبه فلم يرض برقه فيكون حرا بالقيمة ثابت النسب منه " ولا تصير الجارية أم ولد له " لأنه لا ملك له فيها حقيقة كما في ولد المغرور.
" وإن كذبه المكاتب في النسب لم يثبت " لما بينا أنه لا بد من تصديقه " فلو ملكه يوما ثبت نسبه منه " لقيام الموجب وزوال حق المكاتب إذ هو المانع والله تعالى أعلم بالصواب.(2/316)
كتاب الأيمان
أضرب الأيمان
...
كتاب الأيمان
قال: " الأيمان على ثلاثة أضرب اليمين العموس ويمين منعقدة ويمين لغو فالغموس هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف كاذبا أدخله الله النار " " ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار ".
وقال الشافعي رحمه الله فيها الكفارة لأنها شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى وقد تحقق بالاستتشهاد بالله كاذبا فأشبه المعقودة ولنا أنها كبيرة محضة والكفارة عبادة تتأدى بالصوم ويشترط فيها النية فلا تناط بها بخلاف المعقودة لأنها مباحة ولو كان فيها ذنب فهو متأخر متعلق باختيار مبتدأوما في الغموس ملازم فيمتنع الإلحاق " والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله وإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة " لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وهو ما ذكرنا " واليمين اللغو أن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كما قال والأمر يخلافه فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها " ومن اللغو أن يقول والله إنه لزيد وهو يظنه زيدا وإنما هو عمرو والأصل فيه قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الآية إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره.
قال: " والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء " حتى تجب الكفارة لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين والشافعي رحمه الله يخالفنا في ذلك وسنبين في الإكراه إن شاء الله تعالى.
" ومن فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا فهو سواء " لأن الفعل الحقيقي لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة ولو كانت الحكمة رفع الذنب فالحكم يدار على دليله وهو الحنث لا على حقيقة الذنب والله تعالى أعلم بالصواب.(2/317)
باب ما يكون يمينا وما لا يكون يمينا
مدخل
...
باب ما يكون يمينا ومالا يكون يمينا
قال: " واليمين بالله تعالى أو باسم آخر من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم أو بصفة من صفاته التي يحلف بها عرفا كعزة الله وجلاله وكبريائه " لأن الحلف بها متعارف ومعنى اليمين وهو القوة حاصل لأنه يعتقد تعظيم الله وصفاته فصلح ذكره حاملا ومانعا.
قال: " إلا قوله وعلم الله فإنه لا يكون يمينا " لأنه غير متعارف ولأنه يذكر ويراد به المعلوم يقال اللهم اغفر علمك فينا أي معلوماتك.
ولو قال: " وغضب الله وسخطه لم يكن حالفا " وكذا ورحمة الله لأن الحلف بها غير متعارف ولأن الرحمة قد يراد بها أثرها وهو المطر أو الجنة والغضب والسخط يراد بهما العقوبة.
" ومن حلف بغير الله لم يكن حالفا كالنبي والكعبة " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر " وكذا إذا حلف بالقرآن لأنه غير متعارف قال رضي الله عنه معناه أن يقول والنبي والقرآن أما لو قال أنا بريء منهما يكون يمينا لأن التبري منهما كفر.
قال: " والحلف بحروف القسم وحروف القسم الواو كقوله والله والباء كقوله بالله والتاء كقوله تالله " لأن كل ذلك معهود في الأيمان ومذكور في القرآن " وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا " لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازا ثم قيل ينصب لانتزاع الحرف الخافض وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف وكذا إذا قال لله في المختار لأن الباء تبدل بها قال الله تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] أي آمنتم به.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال وحق الله فليس بحالف وهو قول محمد رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وعنه رواية أخرى أنه يكون يمينا لأن الحق من صفات الله تعالى وهو حقيته فصار كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف ولهما أنه يراد به طاعة الله تعالى إذ الطاعات حقوقه فيكون حلفا بغير الله قالوا ولو قال والحق يكون يمينا ولو قال حقا لا يكون يمينا لأن الحق من أسماء الله تعالى والمنكر يراد به تحقيق الوعد.
" ولو قال اقسم أو أقسم بالله أو أحلف أو أحلف بالله أو أشهد أو أشهد بالله فهو حالف " لأن هذه الألفاظ مستعملة في الحلف وهذه الصيغة للحال حقيقة وتستعمل(2/318)
للاستقبال بقرينة فجعل حالفا في الحال والشهادة يمين قال الله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ثم قال {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] والحلف بالله هو المعهود المشروع وبغيره محظور فصرف إليه ولهذا قيل لا يحتاج إلى النية وقيل لا بد منها لاحتمال العدة واليمين بغير الله.
" ولو قال بالفارسية سوكند ميخورم بخداي يكون يمينا " لأنه للحال ولو قال سوكندخورم قيل لا يكون يمينا ولو قال بالفارسية سوكندخورم بطلاق زنم لا يكون يمينا لعدم التعارف قال رضي الله عنه " وكذا قوله لعمر الله وأيم الله " لأن عمر الله بقاء الله وأيم الله معناه أيمن الله وهو جمع يمين وقيل معناه والله وأيم صلة كالواو والحلف باللفظين متعارف " وكذا قوله وعهد الله وميثاقه " لأن العهد يمين قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] والميثاق عبارة عن العهد "وكذا إذا قال علي نذر أو نذر الله" لقوله عليه الصلاة والسلام " من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين " " وإن قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينا " لأنه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد اعتقده واجب الامتناع وقد أمكن القول بوجوبه لغيره بجعله يمينا كما تقول في تحريم الحلال ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس ولا يكفر اعتبارا بالمستقبل وقيل يكفر لأنه تنجيز معنى فتصار كما إذا قال هو يهودي والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل.
" ولو قال: إن فعلت كذا فعلي غضب الله أو سخط الله فليس بحالف " لأنه دعاء على نفسه ولا يتعلق ذلك بالشروط ولأنه غير متعارف " وكذا إذا قال إن فعلت كذا فأنا زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا " لأن حرمة هذه الأشياء تحتمل النسخ والتبديل فلم تكن في معنى حرمة الاسم ولأنه ليس بمتعارف.(2/319)
فصل في الكفارة
قال: " كفارة اليمين عتق رقبة يجزي فيها ما يجزي في الظهار وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحد ثوبا فما زاد وأدناه ما يجوز فيه الصلاة وإن شاء أطعم عشرة مساكين كالإطعام في كفارة الظهار " والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية وكلمة أو للتخيير فكان الواجب أحد الأشياء الثلاثة قال: " فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيام متتابعات " وقال الشافعي رحمه الله يخير(2/319)
لإطلاق النص ولنا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات وهي كالخبر المشهور ثم المذكور في الكتاب في بيان أدنى الكسوة مروي عن محمد وعن أبي يوسف وأبي حنيفة رحمهما الله أن أدناه ما يستر عامة بدنه حتى لا يجوز السراويل وهو الصحيح لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزيه عن الكسوة يجزيه عن الطعام باعتبار القيمة " وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه ".
وقال الشافعي رحمه الله يجزيه بالمال لأنه أداها بعد السبب وهو اليمين فأشبه التكفير بعد الجرح ولنا أن الكفارة لستر الجناية ولا جناية ههنا واليمين ليست بسبب لأنه مانع غير مفض بخلاف الجرح لأنه مفض " ثم لا يسترد من المسكين " لوقوعه صدقة.
قال: " ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه " ولأن فيما قلنا تفويت البر إلى جابر وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده.
" وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال كفره أو بعد إسلامه فلا حنث عليه " لأنه ليس بأهل لليمين لأنها تعقد لتعظيم الله تعالى ومع الكفر لا يكون معظما ولا هو أهل للكفارة لأنها عبادة.
" ومن حرم على نفسه شيئا مما يملكه لم يصر محرما وعليه إن استباحه كفارة يمين " وقال الشافعي رحمه الله لا كفارة عليه لأن تحريم الحلال قلب المشروع فلا ينعقد به تصرف مشروع وهو اليمين ولنا أن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة وقد أمكن إعماله بثبوت الحرمة لغيره بإثبات موجب اليمين فيصار إليه ثم إذا فعل مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث ووجبت الكفارة وهو المعنى من الاستباحة المذكورة لأن التتحريم إذا ثبت تناول كل جزء منه.
" ولو قال كل حل علي حرام فهو على الطعام والشراب إلا أن ينوي غير ذلك " والقياس أن يحنث كما فرغ لأنه باشر فعلا مباحا وهو التنفس ونحوه وهذا قول زفر رحمه الله وجه الاستحسان أن المقصود وهو البر لا يتحصل مع اعتبار العموم وإذا سقط اعتباره ينصرف إلى الطعام والشراب للعرف فإنه يستعمل فيما يتناول عادة ولا يتناول المرأة إلا بالنية لإسقاط اعتبار العموم وإذا نواها كان إيلاء ولا تصرف اليمين عن المأكول والمشروب وهذا كله جواب ظاهر الرواية ومشايخنا رحمهم الله قالوا يقع به الطلاق عن غير نية(2/320)
لغلبة الاستعمال وعليه الفتوى وكذا ينبغي في قوله حلال يروى حرام للعرف.
واختلفوا في قوله هرجه بردست راست كيرم بروى حرام أنه هل تشترط النية والأظهر أنه يجعل طلاقا من غير نية للعرف.
" ومن نذر نذرا مطلقا فعليه الوفاء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى " " وإن علق النذر بشرط فوجد الشرط فعليه الوفاء بنفس النذر " لإطلاق الحديث ولأن المعلق بشرط كالمنجز عنده " وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع عنه وقال إذا قال إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة ما أملكه أجزأه من ذلك كفارة يمين وهو قول محمد رحمه الله " ويخرج عن العهدة بالوفاء بما سمى أيضا وهذا إذا كان شرطا لا يريد كونه لأن فيه معنى اليمين وهو المنع وهو بظاهره نذر فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء بخلاف ما إذا كان شرطا يريد كونه كقوله إن شفى الله مريضي لانعدام معنى اليمين فيه وهو المنع وهذا التفصيل هو الصحيح.
قال: " ومن حلف على يمين وقال إن شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث " عليه لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد بر في يمينه " إلا أنه لا بد من الاتصال لأنه بعد الفراغ رجوع ولا رجوع في اليمين والله تعالى أعلم بالصواب.(2/321)
باب اليمين في الدخول والسكنى
" ومن حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث " لأن البيت ما أعد للبيتوتة وهذه البقاع ما بنيت لها " وكذا إذا دخل دهليزا أو ظلة باب الدار " لما ذكرنا والظلة ما تكون على السكة وقيل إذا كان الدهليز بحيث لو أغلق الباب يبقى داخلا وهو مسقف يحنث لأنه يبات فيه عادة " وإن دخل صفة حنث " لأنها تبنى للبيتوتة فيها في بعض الأوقات فصار كالشتوي والصيفي وقيل هذا إذا كانت الصفة ذات حوائط أربعة وهكذا كانت صفافهم وقيل الجواب مجرى على إطلاقه وهو الصحيح.
"ومن حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة لم يحنث ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث " لأن الدار اسم للعرصة عند العرب والعجم يقال دار عامرة ودار غامرة وقد شهدت أشعار العرب بذلك والبناء وصف فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر.
" ولو حلف لا يدخل هذه الدار فخربت ثم بنيت أخرى فدخلها يحنث " لما ذكرنا أن الاسم باق بعد الانهدام " وإن جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا أو بيتا فدخله لم يحنث " لأنه(2/321)
لم يبق دارا لاعتراض اسم آخر عليه وكذا إذا دخله بعد انهدام الحمام وأشباهه لأنه لا يعود اسم الدارية " وإن حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم وصار صحراء لم يحنث " لزوال اسم البيت لأنه لا يبات فيه حتى لو بقيت الحيطان وسقط السقف يحنث لأنه يبات فيه والسقف وصف فيه " وكذا إذا بنى بيتا آخر فدخله لم يحنث " لأن الاسم لم يبق بعد الانهدام.
قال: " ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها حنث " لأن السطح من الدار ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد وقيل في عرفنا لا يحنث وهو اختيار الفقيه أبي الليث قال " وكذا إذا دخل دهليزها " ويجب أن يكون على التفصيل الذي تقدم " وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجا لم يحنث " لأن الباب لإحزاز الدار وما فيها فلم يكن الخارج من الدار.
قال: " ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود حتى يخرج ثم يدخل " استحسانا والقياس أن يحنث لأن الدوام له حكم الابتداء وجه الاستحسان أن الدخول لا دوام له لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل.
" ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث " وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل من ساعته لم يحنث وكذا لو حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة من ساعته وقال زفر رحمه الله يحنث لوجود الشرط وإن قل ولنا أن اليمين تعقد للبر فيستثنى منه زمان تحققه " فإن لبث على حاله ساعة حنث " لأن هذه الأفاعيل لها دوام بحدوث أمثالها ألا يرى أنه يضرب لها مدة يقال ركبت يوما ولبست يوما بخلاف الدخول لأنه لا يقال دخلت يوما بمعنى المدة والتوقيت ولو نوى الابتداء الخالص يصدق لأنه محتمل كلامه.
قال: " ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها ولم يرد الرجوع إليها حنث " لأنه يعد ساكنها ببقاء أهله ومتاعه فيها عرفا فإن السوقي عامة نهاره في السوق ويقول أسكن سكة كذا والبيت والمحلة بمنزلة الدار ولو كان اليمين على المصر لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل فيما روي عن أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يعد ساكنا في الذي انتقل عنه عرفا بخلاف الأول والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب ثم قال أبو حنيفة رحمه الله لا بد من نقل لك المتاع حتى لو بقي وقد يحنث لأن السكنى قد ثبت بالكل فيبقى ما بقي شيء منه وقال أبو يوسف رحمه الله يعتبر نقل الأكثر لأن نقل الكل قد يتعذر وقال محمد رحمه الله يعتبر نقل ما يقوم به كدخدائيته لأن ما وراء(2/322)
ذلك ليس من السكنى قالوا هذا أحسن وأرفق بالناس وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر فإن انتقل إلى السكة إو إلى المسجد قالوا لا يبر دليله في الزيادات أن من خرج بعياله من مصره فما لم يتخذ وطنا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة كذا هذا والله أعلم بالصواب.(2/323)
باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك
قال: " ومن حلف لا يخرج من المسجد فأمر إنسانا فحمله فأخرجه حنث " لأن فعل المأمور مضاف إلى الآمر فصار كما إذا ركب دابة فخرجت " ولو أخرجه مكرها لم يحنث " لأن الفعل لم ينتقل إليه لعدم الأمر " ولو حمله برضاه لا بأمره لا يحنث " في الصحيح لأن الانتقال بالأمر لا بمجرد الرضا.
قال: " ولو حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إليها ثم أتى حاجة أخرى لم يحنث " لأن الموجود خروج مستثنى والمضي بعد ذلك ليس بخروج " ولو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج يريدها ثم رجع حنث " لوجود الخروج على قصد مكة وهو الشرط إذ الخروج هو الانفصال من الداخل إلى الخارج.
" ولو حلف لا يأتيها لم يحنث حتى يدخلها " لأنه عبارة عن الوصول قال الله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} [الشعراء: 16] ولو حلف لا يذهب إليها قيل هو كالإتيان وقيل هو كالخروج وهو الأصح لأنه عبارة عن الزوال " وإن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات حنث في آخر جزء من أجزاء حياته " لأن البر قبل ذلك مرجو.
" ولو حلف ليأتينه غدا إن استطاع فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة وفسره في الجامع الصغير وقال إذا لم يمرض ولم يمنعه السلطان ولم يجئ أمر لا يقدر على إتيانه فلم يأته حنث وإن عنى استطاعة القضاء دين فيما بينه وبين الله تعالى " وهذا لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف فعند الإطلاق ينصرف إليه وتصح نية الأول ديانة لأنه نوى حقيقة كلامه ثم قيل وتصح قضاء أيضا لما بينا وقيل لا تصح لأنه خلاف الظاهر.
قال: " ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث ولا بد من الإذن في كل خروج " لأن المستثنى خروج مقرون بالإذن وما وراءه داخل في الحظر العام ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر.(2/323)
" ولو قال إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة فخرجت ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث " لأن هذه كلمة غاية فتنتهي اليمين به كما إذا قال حتى آذن لك.
" ولو أرادت المرأة الخروج فقال إن خرجت فأنت طالق فجلست ثم خرجت لم يحنث " وكذلك إذا أراد رجل ضرب عبده فقال له آخر إن ضربته فعبدي هو حر فتركه ثم ضربه وهذه تسمى يمين فور وتفرد أبو حنيفة رحمه الله بإظهاره ووجهه أن مراد المتكلم الرد عن تلك الضربة والخرجة عرفا ومبني الأيمان عليه.
" ولو قال له رجل اجلس فتغد عندي فقال إن تغديت فعبدي حر فخرج فرجع إلى منزله وتغدى لم يحنث " لأن كلامه خرج مخرج الجواب فينطبق على السؤال فينصرف إلى الغداء المدعو إليه بخلاف ما إذا قال إن تغديت اليوم لأنه زاد على حرف الجواب فيجعل مبتدئا.
" ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبد مأذون له مديون أو غير مديون لم يحنث " عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أنه إذا كان عليه دين مستغرق لا يحنث وإن نوى لأنه لا ملك للمولى فيه عنده وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه لأن الملك فيه للمولى لكنه يضاف إلى العبد عرفا وكذا شرعا قال عليه الصلاة والسلام " من باع عبدا وله مال فهو للبائع " الحديث فتختل الإضافة إلى المولى فلا بد من النية وقال أبو يوسف رحمه الله في الوجوه كلها يحنث إذا نواه لاختلال الإضافة وقال محمد رحمه الله يحنث وإن لم ينوه لاعتبار حقيقة الملك إذ الدين لا يمنع وقوعه السيد عندهما.(2/324)
باب اليمين في الأكل والشرب
قال: " ومن حلف لا يأكل من هذه النخلة فهو على ثمرها " لأنه أضاف اليمين إلى مالا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه وهو الثمر لأنه سبب له فيصلح مجازا عنه لكن الشرط أن لا يتغير بصنعة جديدة حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ " وإن حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطبا فأكله لم يحنث وكذا إذا حلف لا يأكل من هذا الرطب أو من هذا اللبن فصار تمرا أو صار اللبن شبرازا لم يحنث " لأن صفة البسورة والرطوبة داعية إلى اليمين وكذا كونه لبنا فيتقيد به ولأن اللبن مأكول فلا ينصرف اليمين إلى ما يتخذ منه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ لأن هجران المسلم بمنع الكلام منهي عنه فلا يعتبر الداعي داعيا في الشرع.(2/324)
" ولو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكل بعد ما صار كبشا حنث " لأن صفة الصغر في هذا ليست بداعية إلى اليمين فإن الممتنع عنه أكثر امتناعا عن لحم الكبش قال " ومن حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا لم يحنث " لأنه ليس ببسر " ومن حلف لا يأكل رطبا أو بسرا أو حلف لا يأكل رطبا ولا بسرا فأكل مذنبا حنث عند أبي حنيفة وقالا لا يحنث في الرطب " يعني بالبسر المذنب ولا في البسر بالرطب المذنب لأن الرطب المذنب يسمى رطبا والبسر المذنب يسمى بسرا فصار كما إذا كان اليمين على الشراء وله أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر والبسر المذنب على عكسه فيكون آكله آكل البسر والرطب وكل واحد مقصود في الأكل بخلاف الشراء لأنه يصادف الجملة فيتبع القليل فيه الكثير.
" ولو حلف لا يشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطب لا يحنث " لأن الشراء يصادف الجملة والمغلوب تابع ولو كانت اليمين على الأكل يحنث لأن الأكل يصادفه شيئا فشيئا فكان كل منهما مقصودا وصار كما إذا حلف لا يشتري شعيرا أو لا يأكله فاشترى حنطة فيها حبات شعير وأكلها يحنث في الأكل دون الشراء لما قلنا.
قال: " ومن حلف لا يأكل لحما فأكل لحم السمك لا يحنث " والقياس أن يحنث لأنه يسمى لحما في القرآن وجه الاستحسان أن التسمية مجازية لأن اللحم منشؤه من الدم ولا دم فيه لكونه في الماء " وإن أكل لحم خنزير أو لحم إنسان يحنث " لأنه لحم حقيقي إلا أنه حرام واليمين قد تعقد للمنع من الحرام " وكذا إذا أكل كبدا أو كرشا " لأنه لحم حقيقة فإن نموه من الدم ويستعمل استعمال اللحم وقيل في عرفنا لا يحنث لأنه لا يعد لحما.
قال: " ولو حلف لا يأكل أو لا يشتري شحما لم يحنث إلا في شحم البطن عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يحنث في شحم الظهر أيضا " وهو اللحم السمين لوجود خاصية الشحم فيه وهو الذوب بالنار وله أنه لحم حقيقة ألا ترى أنه ينشأ من الدم ويستعمل استعماله وتحصل به قوته ولهذا يحنث بأكله في اليمين على أكل اللحم ولا يحنث ببيعه في اليمين على بيع الشحم وقيل هذا بالعربية فأما اسم بيه بالفارسية لا يقع على شحم الظهر بحال.
" ولو حلف لا يشتري أو لا يأكل لحما أو شحما فاشترى ألية أو أكلها لم يحنث " لأنه نوع ثالث حتى لا يستعمل استعمال اللحوم والشحوم.
" ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة لم يحنث حتى يقضمها ولو أكل من خبزها لم(2/325)
يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إن أكل من خبزها حنث أيضا " لأنه مفهوم منه عرفا ولأبي حنيفة رحمه الله أن له حقيقة مستعملة فإنها تقلى وتغلى وتؤكل قضما وهي قاضية على المجاز المتعارف على ما هو الأصل عنده ولو قضمها حنث عندهما هو الصحيح لعموم المجاز كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان وإليه الإشارة بقوله في الخبز حنث أيضا.
قال: " ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه حنث " لأن عينه غير مأكول فانصرف إلى ما يتخذ منه " ولو استفه كما هو لا يحنث " هو الصحيح لتعين المجاز مرادا.
" ولو حلف لا يأكل خبزا فيمينه على ما يعتاد أهل المصر أكله خبز ا" وذلك خبز الحنط والشعير لأنه هو المعتاد في غالب البلدان "ولو أكل من خبز القطائف لا يحنث" لأنه لا يسمى خبزا مطلقا إلا إذا نواه لأنه محتمل كلامه " وكذا لو أكل خبز الأرز بالعراق لم يحنث " لأنه غير معتاد عندهم حتى لو كان بطبرستان أو في بلدة طعامهم ذلك يحنث.
" ولو حلف لا يأكل الشواء فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر " لأنه يراد به اللحم المشوي عند الإطلاق إلا أن ينوي ما يشوى من بيض أو غيره لمكان الحقيقة " وإن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم " وهذا استحسان اعتبارا للعرف وهذا لأن التعميم متعذر فيصرف إلى خاص هو متعارف وهو اللحم المطبوخ بالماء إلا إذا نوى غير ذلك لأن فيه تشديدا وإن أكل من مرقه يحنث لما فيه من أجزاء اللحم ولأنه يسمى طبيخا.
" ومن حلف لا يأكل الرؤوس فيمينه على ما يكبس في التنانير ويباع في المصر " ويقال يكنس.
" وفي الجامع الصغير لو حلف لا يأكل رأس فهو على رؤوس البقر والغنم عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على الغنم خاصة " وهذا اختلاف عصر وزمان كان العرف في زمنه فيهما وفي زمنهما في الغنم خاصة وفي زماننا يفتي على حسب العادة كما هو المذكور في المختصر.
قال: " ومن حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رمانا أو رطبا أو قثاء أو خيارا لم يحنث وإن أكل تفاحا أو بطيخا أو مشمشا حنث وهذا عند أبي أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله حنث في العنب والرطب والرمان أيضا " والأصل أن الفاكهة اسم لما يتفكه به قبل الطعام وبعده أي يتنعم به زيادة على المعتاد والرطب واليابس فيه سواء بعد أن يكون التفكه به معتادا حتى لا يحنث بيابس البطيخ وهذا المعنى موجود في التفاح وأخواته فيحنث بها وغير موجود في القثاء والخيار لأنهما من البقول(2/326)
بيعا وأكلا فلا يحنث بهما وأما العنب والرطب والرمان فهما يقولان إن معنى التفكه موجود فيها فإنها أعز الفواكه والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن هذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها فأوجب قصورا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء ولهذا كان اليابس منها من التوابل أو من الأقوات.
قال: " ولو حلف لا يأتدم فكل شيء اصطبغ به فهو إدام والشواء ليس بإدام والملح إدام وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كل ما يؤكل مع الخبز غالبا فهو إدام " وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الإدام من الموادمة وهي الموافقة وكل ما يؤكل مع الخبز موافق له كاللحم والبيض ونحوه ولهما أن الإدام ما يؤكل تبعا والتبعية في الاختلاط حقيقة ليكون قائما به وفي أن لا يؤكل على الانفراد حكما وتمام الموافقة في الامتزاج أيضا والخل وغيره من المائعات لا يؤكل وحده بل يشرب والملح لا يؤكل بانفراده عادة ولأنه يذوب فيكون تبعا بخلاف اللحم وما يضاهيه لأنه يؤكل وحده إلا أن ينويه لما فيه من التشديد والعنب والبطيخ ليسا بإدام هو الصحيح.
" وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل " لأن ما بعد الزوال يسمى عشاء ولهذا تسمى الظهر إحدى صلاتي العشاء في الحديث.
" والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر " لأنه مأخوذ من السحر ويطلق على ما يقرب منه ثم الغداء والعشاء ما يقصد به الشبع عادة وتعتبر عادة أهل كل بلدة في حقهم ويشترط أن يكون أكثر من نصف الشبع.
" ومن قال إن لبست أو أكلت أو شربت فعبدي حر وقال عنيت شيئا دون شيء لم يدين في القضاء وغيره " لأن النية إنما تصح في الملفوظ والثوب وما يضاهيه غير مذكور تنصيصا والمقتضى لا عموم له فلغت نية التخصيص فيه " وإن قال إن لبست ثوبا أو أكلت طعاما أو شربت شرابا لم يدين في القضاء خاصة " لأنه نكرة في محل الشرط فتعم فعملت نية التخصيص فيه إلا أنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء.
قال: " ومن حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناء لم يحنث حتى يكرع منها كرعا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا إذا شرب منها بإناء يحنث لأنه المتعارف المفهوم وله أن كلمة من للتبعيض وحقيقته في الكرع وهي مستعملة ولهذا يحنث بالكرع إجماعا فمنعت المسير إلى المجاز وإن كان متعارفا "وإن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء(2/327)
حنث " لأنه بعد الاغتراف بقي منسوبا إليه وهو الشرط فصار كما إذا شرب من ماء نهر يأخذ من دجلة.
" ومن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق وليس في الكوز ماء لم يحنث فإن كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف يحنث في ذلك كله " يعني إذا مضى اليوم وعلى هذا الخلاف إذا كان اليمين بالله تعالى وأصله أن من شرط انعقاد اليمين وبقائه تصور البر عندهما خلافا لأبي يوسف رحمه الله لأن اليمين إنما تعقد للبر فلا بد من تصور البر ليمكن إيجابه وله أنه أمكن القول بانعقاده موجبا للبر على وجه يظهر في حق الخلف وهو الكفارة قلنا لا بد من تصور الأصل لينعقد في حق الخلف ولهذا لا ينعقد الغموس موجبا للكفارة " ولو كانت اليمين مطلقة ففي الوجه الأول لا يحنث عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث في الحال وفي الوجه الثاني يحنث في قولهم جميعا " فأبو يوسف رحمه الله فرق بين المطلق والمؤقت ووجه الفرق أن التوقيت للتوسعة فلا يجب الفعل إلا في آخر الوقت فلا يحنث قبله وفي المطلق يجب البر كما فرغ وقد عجز فيحنث في الحال وهما فرقا بينهما ووجه الفرق أن في المطلق يجب البر كما فرغ فإذا فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه كما إذا مات الحالف والماء باق أما في المؤقت فيجب البر في الجزء الأخير من الوقت وعند ذلك لم تبق محلية البر لعدم التصور فلا يجب البر فيه فتبطل اليمين كما إذا عقده ابتداء في هذه الحالة.
قال: " ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه وحنث عقيبها " وقال زفر رحمه الله لا تنعقد لأنه مستحيل عادة فأشبه المستحيل حقيقة فلا ينعقد ولنا أن البر متصور حقيقة لأن الصعود إلى السماء ممكن حقيقة ألا ترى أن الملائكة يصعدون السماء وكذا تحول الحجر ذهبا بتحويل الله تعالى وإذا كان متصورا ينعقد اليمين موجبا لخلفه ثم يحنث بحكم العجز الثابت عادة كما إذا مات الحالف فإنه يحنث مع احتمال إعادة الحياة بخلاف مسئلة الكوز لأن شرب الماء الذي في الكوز وقت الحلف ولا ماء فيه لا يتصور فلم ينعقد.(2/328)
باب اليمين في الكلام
مدخل
...
باب اليمين في الكلام
قال: " ومن حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائم حنث " لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه لكنه لم يفهم لنومه فصار كما إذا ناداه وهو بحيث يسمع لكنه لم(2/328)
يفهم لتغافله وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه وعليه عامة مشايخنا لأنه إذا لم يتتبه كان كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته.
" ولو حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له ولم يعلم بالإذن حتى كلمه حنث " لأن الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الإذن وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع وقال أبو يوسف لا يحنث لأن الإذن هو الإطلاق وإنه يتم بالإذن كالرضا قلنا الرضا من أعمال القلب ولا كذلك الإذن على ما مر.
قال: " وإن حلف لا يكلمه شهرا فهو من حين حلف " لأنه لو لم يذكر الشهر لتأبد اليمين فذكر الشهر لإخراج ما وراءه فبقي الذي يلي يمينه داخلا عملا بدلالة حاله بخلاف ما إذا قال والله لأصومن شهرا لأنه لو لم يذكر الشهر لم تتأبد اليمين فكان ذكره لتقدير الصوم به وأنه منكر فالتعيين إليه " وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن في صلاته لا يحنث وإن قرأ في غير صلاته حنث " وعلى هذا التسبيح والتهليل والتكبير وفي القياس يحنث فيهما وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه كلام حقيقة ولنا أنه في الصلاة ليس بكلام عرفا ولا شرعا قال عليه الصلاة والسلام " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " وقيل في عرفنا لا يحنث في غير الصلاة أيضا لأنه لا يسمى متكلما بل قارئا ومسبحا.
" ولو قال يوم أكلم فلانا فامرأته طالق فهو على الليل والنهار " لأن اسم اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يراد به مطلق الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال: 16] والكلام لا يمتد " وإن عنى النهار خاصة دين في القضاء " لأنه مستعمل فيه أيضا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يدين في القضاء لأنه خلاف المتعارف " ولو قال ليلة أكلم فلانا فهو على الليل خاصة " لأنه حقيقة في سواد الليل كالنهار للبياض خاصة وما جاء استعماله في مطلق الوقت.
" ولو قال إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان أو قال حتى يقدم فلان أو قال إلا أن يأذن فلان أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق فكلمه قبل القدوم والإذن حنث ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث " لأنه غاية واليمين باقية قبل الغاية ومنتهية بعدها فلا يحنث بالكلام بعد انتهاء اليمين " وإن مات فلان سقطت اليمين " خلافا لأبي يوسف رحمه الله لأن الممنوع عنه كلام ينتهي بالإذن والقدوم ولم يبق بعد الموت متصور الوجود فسقطت اليمين وعنده التصور ليس بشرط فعند سقوط الغاية تأبد اليمين.
" ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا بعينه أو امرأة فلان أو صديق فلان فباع(2/329)
فلان عبده أو بانت منه امرأته أو عادى صديقه فكلمهم لم يحنث " لأنه عقد يمينه على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان إما إضافة ملك أو إضافة نسبة ولم يوجد فلا يحنث قال رضي الله عنه هذا في إضافة الملك بالاتفاق وفي إضافة النسبة عند محمد رحمه الله يحنث كالمرأة والصديق قال في الزيادات لأن هذه الإضافة للتعريف لأن المرأة والصديق مقصودان بالهجران فلا يشترط دوامها فيتعلق الحكم بعينه كما في الإشارة ووجه ما ذكر ههنا وهو رواية الجامع الصغير أنه يحتمل أن يكون غرضه هجرانه لأجل المضاف إليه ولهذا لم يعينه فلا يحنث بعد زوال الإضافة بالشك " وإن كانت يمينه على عبد بعينه بأن قال عبد فلان هذا أو امرأة فلان بعينها أو صديق فلان بعينه لم يحنث في العبد وحنث في المرأة والصديق وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحنث في العبد أيضا " وهو قول زفر رحمه الله " وإن حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها فهو على هذا الاختلاف " وجه قول محمد وزفر رحمهما الله أن الإضافة للتعريف والإشارة أبلغ منها فيه لكونها قاطعة للشركة بخلاف الإضافة فاعتبرت الإشارة ولغت الإضافة وصار كالصديق والمرأة ولهما أن الداعي إلى اليمين معني في المضاف إليه لأن هذه الأعيان لا تهجر ولا تعادى لذواتها وكذا العبد لسقوط منزلته بل لمعنى في ملاكها فتتقيد اليمين بحال قيام الملك بخلاف ما إذا كانت الإضافة إضافة نسبة كالصديق والمرأة لأنه يعادى لذاته فكانت الإضافة للتعريف والداعي لمعنى في المضاف إليه غير ظاهر لعدم التعيين بخلاف ما تقدم.
قال: " وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث " لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف لأن الإنسان لا يعادى لمعنى في الطيلسان فصار كما إذا أشار إليه.
" ومن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه وقد صار شيخا حنث " لأن الحكم تعلق بالمشار إليه إذ الصفة في الحاضر لغو وهذه الصفة ليست بداعية إلى اليمين على ما مر من قبل.(2/330)
فصل ومن حلف لا يكلمه حينا ولا زمنا إلخ
...
فصل
قال: " ومن حلف لا يكلمه حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر " لأن الحين قد يراد به الزمان القليل وقد يراد به أربعون سنة قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان:1] وقد يراد به ستة أشهر قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا(2/330)
كُلَّ حِينٍ} [ابراهيم: 25] وهذا هو الوسط فينصرف إليه وهذا لأن اليسير لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والمؤبد لا يقصد غالبا لأنه بمنزلة الأبد ولو سكت عنه يتأبد فيتعين ما ذكرنا وكذا الزمان يستعمل استعمال الحين يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ زمان بمعنى وهذا إذا لم تكن له نية أما إذا نوى شيئا فهو على ما نوى لأنه نوى حقيقة كلامه " وكذلك الدهر عندهما وقال أبو حنيفة رحمه الله الدهر لا أدري ما هو " وهذا الاختلاف في المنكر هو الصحيح أما المعرف بالألف واللام يراد به الأبد عرفا لهما أن دهرا يستعمل استعمال الحين والزمان يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ دهر بمعنى وأبو حنيفة رحمه الله توقف في تقديره لأن اللغات لا تدرك قياسا والعرف لم يعرف استمراه لاختلاف في الاستعمال.
" ولو حلف لا يكلمه أياما فهو على ثلاثة أيام " لأنه اسم جمع ذكر منكرا فيتناول أقل الجمع وهو الثلاث ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا على أيام الأسبوع ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عنده وعندهما على اثني عشر شهرا لأن اللام للمعهود وهو ما ذكرنا لأنه يدور عليها وله أنه جمع معرف فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وذلك عشرة " وكذا الجواب عنده في الجمع والسنين " وعندهما ينصرف إلى العمر لأنه لا معهود دونه " ومن قال لعبده إن خدمتني أياما كثيرة فأنت حر فالأيام الكثيرة عند أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام " لأنه أكثر ما يتناوله اسم الأيام وقالا سبعة أيام لأن ما زاد عليها تكرار وقيل لو كان اليمين بالفارسية ينصرف إلى سبعة أيام لأنه يذكر فيها بلفظ الفرد دون الجمع والله أعلم بالصواب.(2/331)
باب اليمين في العتق والطلاق
" ومن قال لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا ميتا طلقت وكذلك إذا قال لأمته إذا ولدت ولدا فأنت حرة " لأن الموجود مولود فيكون ولدا حقيقة ويسمى به في العرف ويعتبر ولدا في الشرع حتى تنقضي به العدة والدم بعده نفاس وأمه أم ولد له فتحقق الشرط وهو ولادة الولد.
" ولو قال إذا ولدت ولدا فهو حر فولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي وحده عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق واحد منهما " لأن الشرط قد تحقق بولادة الميت على ما بينا فتنحل اليمين لا إلى جزاء لأن الميت ليس بمحل للحرية وهي الجزاء ولأبي حنيفة رحمه الله أن مطلق اسم الولد مقيد بوصف الحياة لأنه قصد إثبات الحرية جزاء،(2/331)
وهي قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير ولا تثبت في الميت فيتقيد بوصف الحياة فصار كما إذا قال إذا ولدت ولدا حيا بخلاف جزاء الطلاق وحرية الأم لأنه لا يصلح مقيدا.
" وإذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا عتق " لأن الأول اسم لفرد سابق " فإن اشترى عبدين معا ثم آخر لم يعتق أحد منهم " لانعدام التفرد في الأولين والسبق في الثالث فانعدمت الأولية " وإن قال أول عبد أشتريه وحده فهو حر عتق الثالث " لأنه يراد به التفرد في حالة الشراء لأن وحده للحال لغة والثالث سابق في هذا الوصف " وإن قال آخر عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا ثم مات لم يعتق " لأن الآخر اسم لفرد لاحق ولا سابق له فلا يكون لاحقا " ولو اشترى عبدا ثم عبدا ثم مات عتق الآخر " لأنه فرد لاحق فاتصف بالآخرية " ويعتق يوم اشتراه عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يعتبر من جميع المال وقال يعتق يوم مات " حتى يعتبر من الثلث لأن الآخرية لا تثبت إلا بعدم شراء غيره بعده وذلك يتحقق بالموت فكان الشرط متحققا عند الموت فيقتصر عليه ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموت معرف فأما اتصافه بالآخرية فمن وقت الشراء فيثبت مستندا وعلى هذا الخلاف تعليق الطلقات الثلاث به وفائدته تظهر في جريان حرمان الإرث وعدمه.
" ومن قال كل عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر فبشره ثلاثة متفرقين عتق الأول " لأن البشارة اسم لخبر يغير بشرة الوجه ويشترط كونه سارا بالعرف وهذا إنما يتحقق من الأول " وإن بشروه معا عتقوا " لأنها تحققت من الكل " ولو قال إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجزه " لأن الشرط قران النية بعلة العتق وهي اليمين فأما الشراء فشرطه " وإن اشترى أباه ينوي عن كفارة يمينه أجزأه عندنا " خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله لهما أن الشراء شرط العتق فأما العلة فهي القرابة وهذا لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته وبينهما منافاة ولنا أن شراء القريب إعتاق لقوله عليه الصلاة والسلام " لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " جعل نفس الشراء إعتاقا لأنه لا يشترط غيره فصار نظير قوله سقاه فأرواه " ولو اشترى أم ولده لم يجزه " ومعنى هذه المسئلة أن يقول لأمة قد استولدها بالنكاح إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني ثم اشتراها فإنها تعتق لوجود الشرط ولا يجزيه عن الكفارة لأن حريتها مستحقة بالاستيلاد فلا تضاف إلى اليمين من كل وجه بخلاف ما إذا قال لقنة إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني حيث يجزيه عنها إذا اشتراها لأن حريتها غير مستحقة بجهة أخرى فلم تختل الإضافة إلى اليمين وقد قارنته النية.
" ومن قال إن تسريت جارية فهي حرية فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت " لأن(2/332)
اليمين انعقدت في حقها لمصادفتها الملك وهذا لأن الجارية منكرة في هذا الشرط لتتناول كل جارية على الانفراد " وإن اشترى جارية فتسراها لم تعتق بهذه اليمين " خلافا لزفر رحمه الله فإنه يقول التسري لا يصح إلا في الملك فكان ذكره ذكر الملك وصار كما إذا قال لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر يصير التزوج مذكورا ولنا أن الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري وهو شرط فيتقدر بقدره فلا يظهر في حق صحة الجزاء وهو الحرية وفي مسئلة الطلاق إنما يظهر في حق الشرط دون الجزاء حتى لو قال لها إن طلقتك فأنت طالق ثلاثا فتزوجها وطلقها واحدة لا تطلق ثلاثا فهذه وزان مسألتنا.
" ومن قال كل مملوك لي حر تعتق أمهات أولاده ومدبروه وعبيده " لوجود الإضافة المطلقة في هؤلاء إذ الملك ثابت فيهم رقبة ويدا " ولا يعتق مكاتبوه إلا أن ينويهم " لأن الملك غير ثابت يدا ولهذا لا يملك أكسابه ولا يحل له وطء المكاتبة بخلاف أم الولد والمدبرة فاختلت الإضافة فلا بد من النية.
" ومن قال لنسوة له هذه طالق أو هذه وهذه طلقت الأخيرة وله الخيار في الأوليين " لأن كلمة أو لإثبات أحد المذكورين وقد أدخلها بين الأوليين ثم عطف الثالثة على المطلقة لأن العطف للمشاركة في الحكم فيختص بمحله فصار كما إذا قال إحداكما طالق وهذه " وكذا إذا قال لعبيده هذا حر أو هذا وهذا عتق الأخير " وله الخيار في الأوليين لما بينا والله أعلم بالصواب.(2/333)
باب اليمين في البيع والشراء والتزوج وغير ذلك
" ومن حلف لا يبيع أو لا يشتري أو لا يؤاجر فوكل من فعل ذلك لم يحنث " لأن العقد وجد من العاقد حتى كانت الحقوق عليه ولهذا لو كان العاقد هو الحالف يحنث في يمينه فلم يوجد ما هو الشرط وهو العقد من الآمر وإنما الثابت له حكم العقد " إلا أن ينوي ذلك " لأن فيه تشديدا " أو يكون الحالف ذا سلطان " لا يتولى العقد بنفسه لأنه يمنع نفسه عما يعتاده " ومن حلف لا يتزوج أولا يطلق أولا يعتق فوكل بذلك حنث " لأن الوكيل في هذا سفير ومعبر ولهذا لا يضيفه إلى نفسه بل إلى الآمر وحقوق العقد ترجع إلى الآمر لا إليه " ولو قال عنيت أن لا أتكلم به لم يدين في القضاء خاصة " وسنشير إلى المعنى في الفرق إن شاء الله تعالى " ولو حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر غيره ففعل يحنث في يمينه " لأن المالك له ولاية ضرب عبده وذبح شاته فيملك تولية غيره ثم منفعته راجعة إلى الآمر، فيجعل هو مباشرا إذ لا حقوق له ترجع إلى المأمور " ولو قال عنيت أن لا أتولى ذلك بنفسي(2/333)
دين في القضاء " بخلاف ما تقدم من الطلاق وغيره ووجه الفرق أن الطلاق ليس إلا تكلما بكلام يفضي إلى وقوع الطلاق عليها والأمر بذلك مثل التكلم به واللفظ ينتظمهما فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخصوص في العام فيدين ديانة لا قضاء أما الذبح والضرب ففعل حسي يعرف بأثره والنسبة إلى الآمر بالتسبيب مجاز فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق ديانة وقضاء " ومن حلف لا يضرب ولده فأمر إنسانا فضربه لم يحنث في يمينه " لأن منفعة ضرب الولد عائدة إليه وهو التأدب والتثقف فلم ينسب فعله إلى الآمر بخلاف الأمر بضرب العبد لأن منفعة الائتمار بأمره عائدة إلى الآمر فيضاف الفعل إليه.
" ومن قال لغيره إن بعت لك هذا الثوب فامرأته طالق فدس المحلوف عليه ثوبه في ثياب الحلف فباعه ولم يعلم لم يحنث " لأن حرف اللام دخل على البيع فيقتضي اختصاصه به وذلك بأن يفعله بأمره إذ البيع تجري فيه النيابة ولم توجد بخلاف ما إذا قال إن بعت ثوبا لك حيث يحنث إذا باع ثوبا مملوكا له سواء كان بأمره أو بغير أمره علم بذلك أو لم يعلم لأن حرف اللام دخل على العين لنه أقرب إليه فيقتضي الاختصاص به وذلك بأن يكون مملوكا له ونظيره الصياغة والخياطة وكل ما تجري فيه النيابة بخلاف الأكل والشرب وضرب الغلام لأنه لا يحتمل النيابة فلا يفترق الحكم فيه في الوجهين.
" ومن قال هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق " لوجود الشرط وهو البيع والملك فيه قائم فينزل الجزاء " وكذلك لو قال المشتري إن اشتريته فهو حر فاشتراه على أنه بالخيار عتق " أيضا لأن الشرط قد تحقق وهو الشراء والملك قائم فيه وهذا على أصلهما ظاهر وكذا على أصله لأن هذا العتق بتعليقه والمعلق كالمنجز ولو نجز العتق يثبت الملك سابقا عليه فكذا هذا.
" ومن قال إن لم أبع هذا لعبد أو هذه الأمة فامرأته طالق فأعتق أو دبر طلقت امرأته " لأن الشرط قد تحقق وهو عدم البيع لفوات محلية البيع.
" وإذا قالت المرأة لزوجها تزوجت علي فقال كل امرأة لي طالق ثلاثا طلقت هذه التي حلفته في القضاء " وعن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تطلق لأنه أخرجه جوابا فينطبق عليه ولأن غرضه إرضاؤها وهو بطلاق غيرها فيتقيد به ووجه الظاهر عموم الكلام وقد زاد على حرف الجواب فيجعل مبتدئا وقد يكون غرضه إيحاشها حين اعترضت عليه فيما أحله الشرع ومع التردد لا يصلح مقيدا وإن نوى غيرها يصدق ديانة لا قضاء لأنه تخصيص العام والله أعلم بالصواب.(2/334)
باب اليمين في الحج والصلاة والصوم
قال: " ومن قال وهو في الكعبة أو في غيرها علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى الكعبة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما " وفي القياس لا يلزمه شيء لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة ولا مقصودة في الأصل ومذهبنا مأثور عن علي رضي الله عنه ولأن الناس تعارفوا إيجاب الحج والعمرة بهذا اللفظ فصار كما إذا قال علي زيارة البيت ماشيا فيلزمه ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما وقد ذكرناه في المناسك.
" ولو قال علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله تعالى فلا شيء عليه " لأن التزام الحج أو العمرة بهذا الففظ غير متعارف.
" ولو قال علي المشي إلى الحرم إو إلى الصفا والمروة فلا شيء عليه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في قوله علي المشي إلى الحرم حجة أو عمرة " ولو قال إلى المسجد الحرام فهو على هذا الاختلاف لهما أن الحرم شامل على البيت بالاتصال وكذا المسجد الحرام شامل على البيت فصار ذكره كذكره بخلاف الصفا والمروة لأنهما منفصلان عنه وله أن التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف ولا يمكن إيجابه باعتبار حقيقة اللفظ فامتنع أصلا.
" ومن قال عبدي حر إن لم أحج العام فقال حججت وشهد شاهدان على أنه ضحى العام بالكوفة لم يعتق عبده وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يعتق " لأن هذه شهادة قامت على أمر معلوم وهو التضحية ومن ضرورته انتفاء الحج فيتحقق الشرط ولهما أنها قامت على النفي لأن المقصود منها نفي الحج لا إثبات التضحية لأنه لا مطالب لها فصار كما إذا شهدوا أنه لم يحج العام غاية الأمر أن هذا النفي مما يحيط علم الشاهد به ولكنه لا يميز بين نفي ونفي تيسيرا.
" ومن حلف لا يصوم فنوى الصوم وصام ساعة ثم أفطر من يومه حنث " لوجود الشرط إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب.
" ولو حلف لا يصوم يوما أو صوما فصام ساعة ثم أفطر لا يحنث " لأنه يراد به الصوم التام المعتبر شرعا وذلك بإنهائه إلى آخر اليوم واليوم صريح في تقدير المدة به.
" ولو حلف لا يصلي فقام وقرأ وركع لم يحنث وإن سجد مع ذلك ثم قطع حنث " والقياس أن يحنث بالافتتاح اعتبارا بالشروع في الصوم وجه الاستحسان أن الصلاة عبارة(2/335)
عن الأركان المختلفة فما لم يأت بجميعها لا يسمى صلاة بخلاف الصوم لأنه ركن واحد وهو الإمساك ويتكرر في الجزء الثاني.
" ولو حلف لا يصلي صلاة لا يحنث مالم يصل ركعتين " لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعا وأقلها ركعتان للنهي عن البتيراء والله أعلم.(2/336)
باب اليمين في لبس الثياب والحلي وغير ذلك
" ومن قال لامرأته إن لبست من غزلك فهو هدي فاشترى قطنا لغزلته ونسجته فلبسه فهو هدي عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس عليه أن يهدي حتى تغزل من قطن ملكه يوم حلف " ومعنى الهدي التصدق به بمكة لأنه اسم لما يهدى إليها لهما أن النذر إنما يصح في الملك أو مضافا إلى سبب الملك ولم يوجد لأن اللبس وغزل المرأة ليسا من أسباب ملكه وله أن غزل المرأة عادة يكون من قطن الزوج والمعتاد هو المراد وذلك سبب لملكه ولهذا يحنث إذا غزلت من قطن مملوك له وقت النذر لأن القطن لم يصر مذكورا.
" ومن حلف لا يلبس حليا فلبس خاتم فضة لم يحنث " لأنه ليس بحلي عرفا ولا شرعا حتى أبيح استعماله للرجال والتختم به لقصد الختم " وإن كان من ذهب حنث " لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال.
" ولو لبس عقد لؤلؤ غير مرصع لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يحنث " لأنه حلي حقيقة حتى سمي به في القرآن وله أنه يتحلى به عرفا إلا مرصعا ومبنى الأيمان على العرف وقيل هذا اختلاف عصر وزمان ويفتى بقولهما لأن التحلي به على الإنفراد معتاد.
" ومن حلف لا ينام على فراش فنام عليه وفوقه قرام حنث " لأنه تبع للفراش فيعد نائما عليه " وإن جعل فوقه فراشا آخر فنام عليه لم يحنث " لأن مثل الشيء لا يكون تبعا له فقطع النسبة عن الأول " ولو حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث " لأنه لا يسمى جالسا على الأرض بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض لباسه لأنه تبع له فلا يعتبر حائلا " وإن حلف لا يجلس على سرير فجلس على سرير فوقه بساط أو حصير حنث " لأنه يعد جالسا عليه والجلوس على السرير في العادة كذلك بخلاف ما إذا جعل فوقه سريرا آخر لأنه مثل الأول فقطع النسبة عنه والله أعلم بالصواب.(2/336)
باب اليمين في القتل والضرب وغيره
" ومن قال لآخر: إن ضربتك فعبدي حر فمات فضربه فهو على الحياة " لأن الضرب(2/336)
اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن والإيلام لا يتحقق في الميت ومن يعذب في القبر توضع فيه الحياة في قول العامة وكذلك الكسوة لأنه يراد به التمليك عند الإطلاق ومنه الكسوة في الكفارة وهو من الميت لا يتحقق إلا أن ينوي به الستر وقيل بالفارسية ينصرف إلى اللبس " وكذا الكلام والدخول " لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه والمراد من الدخول عليه زيارته وبعد الموت يزار قبره لا هو.
" ولو قال إن غسلتك فعبدي حر فغسله بعد ما مات يحنث " لأن الغسل هو الإسالة ومعناه التطهير ويتحقق ذلك في الميت " ومن حلف لا يضرب امرأته فمد شعرها أو خنقها أو عضها حنث " لأنه اسم لفعل مؤلم وقد تحقق الإيلام وقيل لا يحنث في حال الملاعبة لأنه يسمى ممازحة لا ضربا " ومن قال إن لم أقتل فلانا فامرأته طالق وفلان ميت وهو عالم به حنث " لأنه عقد يمينه على حياة يحدسها الله تعالى فيه وهو متصور فينعقد ثم يحنث للعجز العادي " وإن لم يعلم به لا يحنث " لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه ولا تتصور فيصير قياس مسئلة الكوز على الاختلاف وليس في تلك المسئلة تفصيل العلم هو الصحيح والله أعلم بالصواب.(2/337)
باب اليمين في تقاضي الدراهم
قال: " ومن حلف ليقضين دينه إلى قريب فهو على ما دون الشهر وإن قال إلى بعيد فهو أكثر من شهر " لأن ما دونه يعد قريبا والشهر وما زاد عليه يعد بعيدا ولهذا يقال عند بعد العهد ما لقيتك منذ شهر " ومن حلف ليقضين فلانا دينه اليوم فقضاه ثم وجد فلان بعضها زيوفا أو نبهرجة أو مستحقة لم يحنث الحالف " لأن الزيافة عيب والعيب لا يعدم الجنس ولهذا لو تجوز به صار مستوفيا فوجد شرط البر وقبض المستحقة صحيح ولا يرتفع برده البر المتحقق " وإن وجدها رصاصا أو ستوقة حنث " لأنهما ليسا من جنس الدراهم حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم " وإن باعه بها عبدا وقبضه بر في يمينه " لأن قضاء الدين طريقه المقاصة وقد تحققت بمجرد البيع فكأنه شرط القبض ليتقرر به " وإن وهبها له " يعني الدين " لم يبر " لعدم المقاصة لأن القضاء فعله والهبة إسقاط من صاحب الدين.
" ومن حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم فقبض بعضه لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقا " لأن الشرط قبض الكل لكنه بوصف التفرق ألا يرى أنه أضاف القبض إلى دين معرف مضاف إليه فينصرف إلى كله فلا يحنث إلا به " فإن قبض دينه في وزنين ولم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث وليس ذلك بتفريق " لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة(2/337)
عادة فيصير هذا القدر مستثنى عنه " ومن قال إن كان لي إلا مائة درهم فامرأته طالق فلم يملك إلا خمسين درهما لم يحنث " لأن المقصود منه عرفا نفي ما زاد على المائة ولأن استثناء المائة استثناؤها بجميع أجزائها " وكذلك لو قال غير مائة أو سوى مائة " لأن كل ذلك أداة الاستثناء والله أعلم بالصواب.(2/338)
مسائل متفرقة
" وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدا " لأنه نفي الفعل مطلقا فعم الامتناع ضرورة عموم النفي " وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرة واحدة بر في يمينه " لأن الملتزم فعل واحد غير عين إذ المقام مقام الإثبات فيبر بأي فعل فعله وإنما يحنث بوقوع اليأس عنه وذلك بموته أو بفوت محل الفعل.
" وإذا استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل داعر دخل البلد فهذا على حال ولايته خاصة " لأن المقصود منه دفع شره أو شر غيره بزجره فلا يفيد فائدته بعد زوال سلطنته والزوال بالموت وكذا بالعزل في ظاهر الرواية " ومن حلف أن يهب عبده لفلان فوهبه ولم يقبل فقد بر في يمينه " خلافا لزفر رحمه الله فإنه يعتبره بالبيع لأنه تمليك مثله ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولهذا يقال وهب ولم يقبل ولأن المقصود إظهار السماحة وذلك يتم به أما البيع فمعاوضة فاقتضى الفعل من الجانبين.
" ومن حلف لا يشم ريحانا فشم وردا أو ياسمينا لا يحنث " لأنه اسم لما لا ساق له ولهما ساق " ولو حلف لا يشتري بنفسجا ولا نية له فهو على دهنه " اعتبارا للعرف ولهذا يسمى بائعه بائع البنفسج والشراء ينبني عليه وقيل في عرفنا يقع على الورق " وإن حلف على الورد فاليمين على الورق " لأنه حقيقة فيه والعرف مقرر له وفي البنفسج قاض عليه والله أعلم بالصواب.(2/338)
كتاب الحدود
حد الزنا
مدخل
...
كتاب الحدود
قال: الحد لغة هو المنع ومنه الحداد للبواب وفي الشريعة هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى حتى لا يسمى القصاص حدا لأنه حق العبد ولا التعزير لعدم التقدير والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد والطهارة ليست أصلية فيه بدليل شرعه في حق الكافر.
قال: " الزنا يثبت بالبينة والإقرار " والمراد ثبوته عند الإمام لأن البينة دليل ظاهر وكذا الإقرار لأن الصدق فيه مرجح لا سيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة والوصول إلى العلم القطعي متعذر فيكتفي بالظاهر.
قال: " فالنية أن تشهد أربعة من الشهود على رجل أو امرأة بالزنا " لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف امرأته " ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك " ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده " وإذا شهدوا يسألهم الإمام عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى ومتى زنى وبمن زنى " ولأن النبي عليه الصلاة والسلام استفسر ماعزا عن الكيفية وعن المزنية ولأن الاحتياط في ذلك واجب لأنه عساه غير الفعل في الفرج عناه أو زنى في دار الحرب أو في المتقادم من الزمان أو كانت له شبهة لا يعرفها هو ولا الشهود كوطء جارية الابن فيستقصى في ذلك احتيالا للدرء.
" فإذا بينوا ذلك وقالوا رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة وسأل القاضي عنهم فعدلوا في السر والعلانية حكم بشهادتهم " ولم يكتف بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء قال عليه الصلاة والسلام " ادرءوا الحدود ما استطعتم " بخلاف سائر الحقوق عند أبي حنيفة رحمه الله وتعديل السر والعلانية نبينه في الشهادات إن شاء الله تعالى.
قال في الأصل يحبسه حتى يسأل عن الشهود للاتهام بالجناية وقد حبس رسول الله(2/339)
عليه الصلاة والسلام رجلا بالتهمة بخلاف الديون حيث لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة وسيأتيك الفرق إن شاء الله تعالى.
قال: " والإقرار أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر كلما أقر رده القاضي " فاشتراط البلوغ والعقل لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر أو هو غير موجب للحد واشتراط الأربع مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله يكتفى بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة ولنا حديث ماعز رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر بما دونها لما أخرها لثبوت الوجوب ولأن الشهادة اختصت فيه بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا ولأن لاتحاد المجلس أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي والاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه عليه الصلاة والسلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة.
قال: " فإذا تم إقراره أربع مرات سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى فإذا بين ذلك لزمه الحد " لتمام الحجة ومعنى السؤال عن هذه الأشياء بيناه في الشهادة ولم يذكر السؤال فيه عن الزمان وذكره في الشهادة لأن تقادم العهد يمنع الشهادة دون الإقرار وقيل لو سأله جاز لجواز أنه زنى في صباه " فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله " وقال الشافعي رحمه الله وهو قول ابن أبي ليلى يقيم عليه الحد لأنه وجب الحد بإقراره فلا يبطل برجوعه وإنكاره كما إذا وجب بالشهادة وصار كالقصاص وحد القذف ولنا أن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه فتتحقق الشبهة في الإقرار بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع.
" ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع فيقول له لعلك لمست أو قبلت " لقوله عليه الصلاة والسلام لماعز رضي الله عنه " لعلك لمستها أو قبلتها " قال في الأصل وينبغي أن يقول له الإمام لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة وهذا قريب من الأول في المعنى والله أعلم.(2/340)
فصل في كيفية الحد وإقامته
" وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت " لأنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وقد أحصن وقال في الحديث المعروف وزنا بعد إحصان وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
قال: " ويخرجه إلى أرض فضاء ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس " كذا روي عن علي رضي الله عنه ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بداءته احتيال للدرء وقال الشافعي رحمه الله لا تشترط بداءته اعتبارا بالجلد.
قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف قال " فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد " لأنة دلالة الرجوع وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط " وإن كان مقرا ابتدأ الإمام ثم الناس " كذا روي عن علي رضي الله عنه ورمى رسول الله عليه الصلاة والسلام الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا " ويغسل ويكفن ويصلى عليه" لقوله عليه الصلاة والسلام في ماعز رضي الله عنه " اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم " ولأنه قتل بحق فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصا وصلى النبي عليه الصلاة والسلام على الغامدية بعد ما رجمت " وإن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة " لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به.
قال: " يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا " لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار " وتنزع عنه ثيايه " معناه دون الإزار لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه " ويفرق الضرب على أعضائه " لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف.
قال: " إلا رأسه ووجهه وفرجه " لقوله عليه الصلاة والسلام للذي أمره بضرب الحد " عاتق الوجه والمذاكير " ولأن الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا.(2/341)
وقال أبو يوسف رحمه الله يضرب الرأس أيضا رجع إليه وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر رضي الله عنه اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا.
قلنا: تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله ويقال إنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والإهلاك فيه مستحق " ويضرب في الحدود كلها قائما غير ممدود " لقول علي رضي الله عنه يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير والقيام أبلغ فيه ثم قوله غير ممدود فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمده بعد الضرب وذلك كله لا يفعل لأنه زيادة على المستحق " وإن كان عبدا جلده خمسين جلدة " لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] نزلت في الإماء ولأن الرق منقص للنعمة فيكون منقصا للعقوبة لأن الجناية عند توافر النعم أفحش فيكون أدنى إلى التغليظ " والرجل والمرأة في ذلك سواء " لأن النصوص تشملهما " غير أن المرأة لا ينزع من ثيابها إلا الفرو والحشو " لأن في تجريدها كشف العورة والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب والستر حاصل بدونهما فينزعان " وتضرب جالسة " لما روينا ولأنه أستر لها.
قال: " وإن حفر لها في الرجم جاز " لأنه عليه الصلاة والسلام حفر للغامدية إلى ثندوتها وحفر علي رضي الله عنه لشراحة الهمدانية وإن ترك لا يضره لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك وهي مستورة بثيابها والحفر أحصن لأنه أستر ويحفر إلى الصدر لما روينا " ولا يحفر للرجل " لأنه عليه الصلاة والسلام ما حفر لماعز رضي الله عنه ولأن مبنى الإقامة على التشهير في الرجال والربط والإمساك غير مشروع " ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام ".
وقال الشافعي رحمه الله له أن يقيمه لأن له ولاية مطلقة عليه كالإمام بل أولى لأنه يملك من التصرف فيه مالا يملكه الإمام فصار كالتعزير ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أربع إلى الولاة وذكر منها الحدود " ولأن الحد حق الله تعالى لأن المقصد منها إخلاء العالم عن الفساد ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه بخلاف التعزير لأنه حق العبد ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه.
قال: " وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان " فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة إذ لا خطاب(2/342)
دونهما وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها وهذه الأشياء من جلائل النعم وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشرف والعلم لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأي متعذر ولأن الحرية ممكنة من النكاح الصحيح والنكاح الصحيح ممكن من الوطء الحلال والإابة شبع بالحلال والإسلام يمكنه من نكاح المسلمة ويؤكد اعتقاد الحرمة فيكون الكل مزجرة عن الزنا والجناية بعد توفر الزواجر أغلظ والشافعي رحمه الله يخالفنا في اشتراط الإسلام وكذا أبو يوسف رحمه الله في رواية لهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين قد زنيا.
قلنا: كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " من أشرك بالله فليس بمحصن " والمعتبر في الدخول الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل.
وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة لأن النعمة بذلك لا تتكامل إذ الطبع ينفر عن صحبة المجنونة وقلما يرغب في الصبية لقلة رغبتها فيه وفي المنكوحة المملوكة حذرا عن رق الولد ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين وأبو يوسف رحمه الله يخالفهما في الكافرة والحجة عليه ما ذكرناه وقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد ".
قال: " ولا يجمع في المحصن بين الرجم والجلد " لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم لأن زجر غيره يحصل بالرجم إذ هو في العقوبة أقصاها وزجره لا يحصل بعد هلاكه.
قال: " ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي " والشافعي رحمه الله يجمع بينهما حدا لقوله عليه الصلاة والسلام " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ولأن فيه حسم باب الزنا لقلة المعارف ولنا قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه قطع مواد البقاء فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحديث منسوخ كشطره، وهو(2/343)
قوله عليه الصلاة والسلام: " الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " وقد عرف طريقه في موضعه.
قال: " إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى " وذلك تعزير وسياسة لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم " وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم " لأن الإتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض " وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ " كيلا يفضي إلى الهلاك ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر والبرد " وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها " كيلا يؤدي إلى هلاك الولد وهو نفس محترمة " وإذا كان حدها الجلد لم تجلد حتى تتعالى من نفاسها " أي ترتفع يريد به تخرج منه لأن النفاس نوع مرضي فيؤخر إلى زمان البرء بخلاف الرجم لأن الأخير لأجل الولد وقد انفصل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للغامدية بعد ما وضعت " ارجعي حتى يستغني ولدك " ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب بخلاف الإقرار لأن الرجوع عنه عامل فلا يفيد الحبس والله أعلم.(2/344)
باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه
قال: " الوطء الموجب للحد هو الزنا " وأنه في عرف الشرع واللسان وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك لأنه فعل محظور والحرمة على الإطلاق عند التعري عن الملك وشبهته يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " ادرءوا الحدود بالشبهات ".
ثم الشبهة نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه وشبهة في المحل وتسمى شبهة حكمية.
فالأولى: تتحقق في حق من اشتبه عليه لأن معناه أن يظن غير الدليل دليلا ولا بد من الظن ليتحقق الاشتباه
والثانية: تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده والحد يسقط بالنوعين لإطلاق الحديث والنسب يثبت في الثانية إذا ادعى الولد ولا يثبت في الأولى وإن ادعاه لأن الفعل تمحض زنا في الأولى وإنما يسقط الحد لأمر راجع إليه وهو اشتباه الأمر عليه ولم يتمحض في الثانية فشبهة الفعل في ثمانية مواضع:(2/344)
جارية أبيه وأمه وزوجته والمطلقة ثلاثا وهي في العدة وبائنا بالطلاق على مال وهي في العدة وأم ولد أعتقها مولاها وهي في العدة وجارية المولى في حق العبد والجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود ففي هذه المواضع لا حد عليه إذا قال ظننت أنها تحل لي ولو قال علمت أنها علي حرام وجب الحد والشبهة في المحل في ستة مواضع جارية ابنه والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات والجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم والممهورة في حق الزوج قبل القبض والمشتركة بينه وبين غيره والمرهونة قي حق المرتهن في رواية كتاب الرهن ففي هذه المواضع لا يجب الحد وإن قال علمت أنها علي حرام ثم الشبهة عند أبي حنيفة رحمه الله تثبت بالعقد وإن كان متفقا على تحريمه وهو عالم به وعند الباقين لا تثبت إذا علم بتحريمه ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى إذا عرفنا هذا.
" ومن طلق امرأته ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام حد " لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة منتفية وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل وعلى ذلك الإجماع ولا يعتبر قول المخالف فيه لأنه خلاف لا اختلاف ولو قال ظننت أنها تحل لي لا يحد لأن الظن في موضعه لأن أثر الملك قائم في حق النسب والحبس والنفقة فاعتبر ظنه في إسقاط الحد وأم الولد إذا أعتقها مولاها والمختلعة والمطلقة على مال بمنزلة المطلقة الثلاث لثبوت الحرمة بالإجماع وقيام بعض الآثار في العدة.
" ولو قال لها أنت خلية أو برية أو أمرك بيدك فاختارت نفسها ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام لم يحد " لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه فمن مذهب عمر رضي الله عنه أنها تطليقة رجعية وكذا الجواب في سائر الكنايات وكذا إذا نوى ثلاثا لقيام الاختلاف مع ذلك.
" ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده وإن قال علمت أنها علي حرام " لأن الشبهة حكمية لأنها نشأت عن دليل وهو قوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك والأبوة قائمة في حق الجد.
قال: " ويثبت النسب منه وعليه قيمة الجارية " وقد ذكرناه.
" وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه ولا على قاذفه وإن قال علمت أنها علي حرام حد وكذا العبد إذا وطئ جارية مولاه " لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع فظنه في الاستمتاع محتمل فكان شبهة اشتباه إلا أنه زنا(2/345)
حقيقة فلا يحد قاذفه وكذا إذا قالت الجارية ظننت أنه يحل لي والفحل لم يدع في الظاهر لأن الفعل واحد " وإن وطئ جارية أخيه أو عمه وقال ظننت أنها تحل لي حد " لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما وكذا سائر المحارم سوى الولاد لما بينا.
" ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء إنها زوجتك فوطئها لا حد عليه وعليه المهر " قضى بذلك علي رضي الله عنه وبالعدة لأنه اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة فصار كالمغرور ولا يحد قاذفه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الملك منعدم حقيقة.
" ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد " لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها وكذا إذا كان أعمى لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره إلا إن كان دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك فواقعها لأن الإخبار دليل.
" ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله " ولكن يوجع عقوبة إذا كان علم بذلك وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله عليه الحد إذا كان عالما بذلك لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه وحكمه الحل وهي من المحرمات ولأبي حنيفة رحمه الله أن العقد صادف محله لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود فكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت إلا أنه ارتكب جريمة وليس فيها حد مقدر فيعزر.
" ومن وطئ أجنبية فيما دون الفرج يعزر " لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر " ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله ويعزر وزاد في الجامع الصغير ويودع في السجن وقالا هو كالزنا فيحد " وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وقال في قول يقتلان بكل حال لقوله عليه الصلاة والسلام " اقتلوا الفاعل والمفعول " ويروى " فارجموا الأعلى والأسفل " ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار وغير ذلك ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد(2/346)
واشتباه الأنساب وكذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي من أحد الجانبين والداعي إلى الزنا من الجانبين وما رواه محمول على السياسة أو على المستجل إلا أنه يعزر عنده لما بيناه.
" ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه " لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود الداعي لأن الطبع السليم ينفر عنه والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق ولهذا لا يجب ستره إلا أنه يعزر لما بينا والذي يروى أنه تذبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع التحدث به وليس بواجب.
" ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا لا يقام عليه الحد " وعند الشافعي رحمه الله يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أينما كان مقامه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تقام الحدود في دار الحرب " ولأن المقصود هو الانزجار وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة ولا تقام بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم تفوض إليهما الإقامة.
" وإذا دخل حربي دارنا بأمان فزنى بذمية أو زنى ذمي بحربية يحد الذمي والذمية عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يحد الحربي والحربية وهو قول محمد رحمه الله في الذمي " يعني إذا زنى بحربية فأما إذا زنى الحربي بذمية لا يحدان عند محمد رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا " وقال أبو يوسف رحمه الله يحدون كلهم " وهو قوله الآخر لأبي يوسف رحمه الله أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا بخلاف حد الشرب لأنه يعتقد إباحته ولهما أنه ما دخل للقرار بل لحاجة كالتجارة ونحوها فلم يصر من أهل دارنا ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب ولا يقتل المسلم ولا الذمي به وإنما التزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده وهو حقوق العباد لأنه لما طمع في الإنصاف يلتزم الانتصاف والقصاص وحد القذف من حقوقهم أما حد الزنا فمحض حق الشرع.
ولمحمد رحمه الله وهو الفرق أن الأصل في باب الزنا فعل الرجل والمرأة تابعة له على ما نذكره إن شاء الله تعالى فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع أما الامتناع في حق التبع لا يوجب الامتناع في حق الأصل.
ونظيره إذا زنى البالغ بصبية أو مجنونة وتمكين البالغة من الصبي والمجنون.(2/347)
ولأبي حنيفة رحمه الله فيه أن فعل الحربي المستأمن زنا لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها بخلاف الصبي والمجنون لأنهما لا يخاطبان ونظير هذا الاختلاف إذا زنى المكره بالمطاوعة تحد المطاوعة عنده وعند محمد رحمه الله لا تحد.
قال: " وإذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته فلا حد عليه ولا عليها " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يجب الحد عليها وهو راوية عن أبي يوسف رحمه الله " قال زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها حد الرجل خاصة " وهذا بالإجماع لهما أن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من حانبه فكذا العذر من جانبه وهذا لأن كلا منهما مؤاخذ بفعله ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه وإنما هي محل الفعل ولهذا يمسى هو واطئا وزانيا والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية في معنى المرضية أو لكونها مسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه ومؤثم على مباشرته وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد.
قال: " ومن أكرهه السلطان حتى زنى فلا حد عليه " وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يحد وهو قول زفر رحمه الله لأن الزنا من الرجل لا يكون إلا بعد انتشار الآلة وذلك دليل الطواعية ثم رجع عنه فقال لا حد عليه لأن سببه الملجئ قائم ظاهرا والانتشار دليل متردد لأنه قد يكون من غير قصد لأن الانتشار قد يكون طبعا لا طوعا كما في النائم فأورث شبهة وإن أكرره غير السلطان حد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يحد لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان لأن المؤثر خوف الهلاك وأنه يتحقق من غيره وله أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين ويمكنه دفعه بنفسه بالسلاح والنادر لا حكم له فلا يسقط به الحد بخلاف السلطان لأنه لا يمكنه الاستعانة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه فافترقا.
" ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة وقالت هي تزوجني أو أقرت بالزنا وقال الرجل تزوجتها فلا حد عليه وعليه المهر في ذلك " لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع.
" ومن زنى بجارية فقتلها فإنه يحد وعليه القيمة " معناه قتلها بفعل الزنا لأنه جنى(2/348)
جنايتين فيوفر على كل واحد منهما حكمه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة فصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها وهو على هذا الاختلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه كما إذا ملك المسروق قبل القطع ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك لأنه ضمان دم ولو كان يوجبه فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث تجب عليه قيمتها ويسقط الحد لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة.
قال: " وكل شيء صنعه الإمام الذي ليس فوقه إمام فلا حد عليه إلا القصاص فإنه يؤخذ به وبالأموال " لأن الحدود حق الله تعالى وإقامتها إليه لا إلى غيره ولا يمكنه أن يقيم على نفسه لأنه لا يفيد بخلاف حقوق العباد لأنه يستوفيه ولي الحق إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين والقصاص والأموال منها وأما حد القذف قالوا المغلب فيه حق الشرع فحكمه كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب.(2/349)
باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها
قال: " وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة وفي الجامع الصغير وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة " والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم خلافا للشافعي رحمه الله هو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو إحدى الحجتين ولنا أن الشاهد مخير بين حسبتين أداء الشهادة والستر فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار فيكون التقادم فيه مانعا وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار والتقادم غير مانع في حقوق العباد ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم بخلاف حد السرقة لأن الدعوى ليست بشرط للحد لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر وإنما شرطت للمال ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل(2/349)
فرد ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفر رحمه الله حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود.
واختلفوا في حد التقادم وأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر فإنه قال بعد حين وهكذا أشار الطحاوي وأبو حنيفة رحمه الله لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر وعن محمد رحمه الله أنه قدره بشهر لأن ما دونه عاجل وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهو الأصح وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر أما إذا كان تقبل شهادتهم لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد رحمه الله وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
" وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة فإنه يحد وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع " والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا يعتبر بالموهوم " وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد " لاحتمال أنها امرأته أو أمته بل هو الظاهر " وأن أقر بذلك حد " لأنه لا يخفى عليه أمته أو امرأته.
" وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعا عند أبي حنيفة رحمه الله " وهو قول زفر رحمه الله " وقالا يحد الرجل خاصة " لاتفاقهما على الموجب وتفرد أحدهما بزيادة جناية وهو الإكراه بخلاف جانبها لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولم يثبت لاختلافهما وله أنه اختلف المشهود عليه لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا خصمين في ذلك " وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا " لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر رحمه الله لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة.
" وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة " معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية وهذا استحسان والقياس أن لا يجب الحد لاختلاف المكان حقيقة. وجه(2/350)
الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر فيشهد بحسب ما عنده.
" وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس وأربعة أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا " أما عنهما فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين غير عين وأم اعن الشهود فلاحتمال صدق كل فريق " وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر درئ الحد عنهما وعنهم " لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة ومعنى المسئلة أن النساء نظرن إليها فقلن إنها بكر وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليست بحجة في إيجابه فلهذا سقط الحد عنهما ولا يجب عليهم.
" وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه " لأنه لا يثبت بشهادتهم المال فكيف يثبت الحد وهم ليسوا من أهل أداء الشهادة والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء فلم تثبت شبهة الزنا لأن الزنا يثبت بالأداء " وإن شهدوا بذلك وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحدو ا" لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدان وسيأتي فيه خلاف الشافعي رحمه الله بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة فهو كالعبد عنده " وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا " لأنهم قذفة إذ لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها.
" وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم ثم وجد أحدهم عبدا أو محدودا في قذف فإنهم يحدون " لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة " وليس عليهم ولا على بيت المال أرش الضرب وإن رجم فديته على بيت المال وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا أرش الضرب أيضا على بيت المال " قال العبد الضعيف عصمه الله معناه إذا كان جرحه وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده وعندهما يضمنون لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره فيضاف إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع وعند عدم الرجوع تجب على بيت المال لأنه يتنقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم فصار كالرجم والقصاص ولأبي حنيفة رحمه الله أن الواجب هو الجلد وهو(2/351)
ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك فلا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب وهو قلة هدايته فاقتصر عليه إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة.
" وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد " لما فيها من زيادة الشبهة ولا ضرورة إلى تحملها فإن جاء الأولون فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان لم يحد أيضا " معناه شهدوا على ذلك الزنا بعينه لأن شهادتهم قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم في الأمر والتحميل ولا يحد الشهود لأن عددهم متكامل وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه.
" وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم فكلما رجع واحد حد الراجع وحده وغرم ربع الدية " أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التألف بشهادة الراجع ربع الحق وقال الشافعي رحمه الله يجب القتل دون المال بناء على أصله في شهود القصاص وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى.
وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمه الله لا يحد لأنه إن كان الراجع قاذف حي فقد بطل بالموت وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي فيورث ذلك شبهة ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع لأن به تفسخ شهادته فجعل للحال قذفا للميت وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما يبتنى عليه وهو القضاء في حقه فلا يورث الشبهة بخلاف ما إذا قذفه غيره لأنه غير محصن في حق غيره لقيام القضاء في حقه " فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا وسقط الحد عن المشهود عليه " وقال محمد رحمه الله حد الراجع خاصة لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلا ينفسخ إلا في حق الراجع كما إذا رجع بعد الإمضاء ولهما أن الإمضاء من القضاء فصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء ولهذا سقط الحد عن المشهود عليه ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا وقال زفر رحمه الله يحد الراجع خاصة لأنه لا يصدق على غيره ولنا أن كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به فإذا لم يتصل به بقي قذفا فيحدون " فإن كانوا خمسة فرجع أحدهم فلا شيء عليه " لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربعة " فإن رجع آخر حدا وغرما ربع الدية " أما الحد فلما ذكرنا وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق والمعتبر بقاء من بقي لا رجوع من رجع على ما عرف.(2/352)
" وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا فرجم فإذا الشهود مجوس أو عبيد فالدية على المزكين عند أبي حنيفة " رحمه الله معناه: إذا رجعوا عن التزكية " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو على بيت المال " وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم لهما أنهم أثنوا على الشهود خيرا فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه وله أن الشهادة إنما تصير حجة عاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة فيضاف الحكم إليها بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط ولا فرق بين ما إذا شهدوا بلفظة الشهادة أو أخبرونا وهذا إذا أخبروا بالحرية والإسلام أما إذا قالوا هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون لأن العبد قد يكون عدلا " ولا ضمان على الشهود " لأنه لا يقع كلامهم شهادة ولا يحدون حد القذف لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث عنه.
" وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية " وفي القياس يجب القصاص لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل فأورث شبهة بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء لأن الشهادة لم تصر حجة بعد ولأنه ظنه مباح الدم معتمدا على دليل مبيح فصار كما إذا ظنه حربيا وعليه علامتهم وتجب الدية في ماله لأنه عمد والعواقل لا تعقل العمد ويجب ذلك في ثلاث سنين لأنه وجب بنفس القتل " وإن رجم ثم وجدوا عبيدا فالدية على بيت المال " لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه ولو باشره بنفسه تجب الدية في بيت المال لما ذكرنا كذا هذا بخلاف ما إذا ضرب عنقه لأنه لم يأتمر أمره " وإذا شهدوا على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر قبلت شهادتهم " لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة.
" وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم " معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ولهذا لو طلقها بعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله " فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالأحصان رجل وامرأتان رجم " خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله فالشافعي رحمه الله مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال وزفر رحمه الله يقول إنه شرط في معنى العلة لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا فلا تقبل لما ذكرنا ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة بخلاف(2/353)
ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادتهما وإنما لا يثبت بسبق التاريخ لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم " فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون " عندنا خلافا لزفر وهو فرع ما تقدم والله تعالى أعلم بالصواب.(2/354)
باب حد الشرب
" ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد وكذلك إذا أقر وريحها موجودة " لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه ".
" وأن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد " وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة قد تكون من غيرن كما قيل:
يقولون لي انكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر يزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال.
وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا " فإن اخذه الشهود وريحها توجد منه أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا " لأن هذا عذر كعبد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم في مثلة.
" ومن سكر من النبيذ حد " لما روي أن عمر رضي الله عنه أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق عليه إن شاء الله تعالى " ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها " لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار.(2/354)
" ولا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا " لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك وكذا شرب المكره لا يوجب الحد " ولا يحد حتى يزول عنه السكر " تحصيلا لمقصود الانزجار.
" وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا " لإجماع الصحابة رضي الله عنهم " يفرق على بدنه كما في حد الزنا على ما مر " ثم يجرد في المشهور من الرواية وعن محمد رحمه الله أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا " وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا " لأن الرق منصف على ما عرف " ومن أقر بشرب الخمر أو السكر ثم رجع لم يحد " لأنه خالص حق الله تعالى.
" ويثبت الشرب بشهادة شاهدين و " يثبت " بالإقرار مرة واحدة " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة وسنبينها هناك إن شاء الله "ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال" لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان.
" والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا لا قليلا ولا كثيرا ولا ولا يعقل الرجل من المرأة " قال العبد الضعيف: " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو الذي يهذى ويختلط كلامه " لأنه هو السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ رحمهم الله وله أنه يؤخذ في اسباب لحدود بأقصاها درءا للحد ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل فيسلبه التمييز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط والشافعي رحمه الله يعتبر ظهور أثره في مشيته وحركاته وأطرافه وهذا مما يتفاوت فلا معنى لاعتباره.
" ولا يحد السكران بإقراره على نفسه " لزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال لدرئه لأنه خالص حق الله تعالى بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي ظاهر الرواية تكون ردة والله أعلم بالصواب.(2/355)
باب حد القذف
مدخل
...
باب حد القذف
" وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا وطالب المقدوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا " لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4](2/355)
إلى أن قال {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية والمراد الرمي بالزنا بالإجماع وفي النص إشارة إليه وهو اشتراط أربعة من الشهداء إذ هو مختص بالزنا ويشترط مطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار وإحصان المقذوف لما تلونا.
قال: " ويفرق على أعضائه " لما مر في حد الزنا " ولا يجرد من ثيابه " لأن سسببه غير مقطوع به فلا يقام على الشدة بخلاف حد الزنا " غير أنه ينزع عنه الفرو والحشو " لأن ذلك يمنع أيصال الألم به " وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا " لمكان الرق.
" والإحصان أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا " أم الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أي الحرائر والعقل والبلوغ لأن العار لا يلحق بالصبي والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما والإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام " من أشرك بالله فليس بمحصن " والعفة لأن غير العفيف لا يلحقه العار وكذا القاذف صادق فيه.
" ومن نفى نسب غيره فقال لست لأبيك فإنه يحد " وهذا إذا كانت أمه حرة مسلمة لأنه في الحقيقة قذف لأمه لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره " ومن قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعة له يحد ولو قال في غير غضب لا يحد " لأن عند الغضب يراد به حقيقته سبا له وفي غيره يراد به المعاتبة بنفي مشابهته إباه في أسباب المروءة.
" ولو قال لست بابن فلان يعني جده لم يحد " لأنه صادق في كلامه ولو نسبه إلى جده لا يحد أيضا لأنه قد ينسب إليه مجازا " ولو قال له يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحده حد القاذف " لأنه قذف محصنة بعد موتها " ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد والولد " لأن العار يلتحق به لمكان الجزئية فيكون القذف متناولا له معنى.
وعند الشافعي رحمه الله يثبت حق المطالبة لكل وارث لأن حد القذف يورث عنده على ما نبين وعندنا ولاية المطالبة ليست بطريق الإرث بل لما ذكرناه ولهذا يثبت عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل ويثبت لولد البنت كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد رحمه الله ويثبت لولد الولد حال قيام الولد خلافا لزفر رحمه الله.
" وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد " خلافا لزفر هو يقول القذف يتناوله معنى لرجوع العار إليه وليس طريقه الإرث عندنا فصار كما إذا كان(2/356)
متناولا له صورة ومعنى ولها أنه عيره بقذف محصن فيأخذه بالحد وهذا لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال ثم يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه لأنه لم يوجد التعيير على الكمال لفقد الإحصان في المنسوب إلى الزنا.
" وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة ولا للابن أن يطالب أباه بقذف أمه الحرة المسلمة " لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده وكذا الأب بسبب ابنه ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده ولو كان لها ابن من غيره له أن يطالب لتحقق السبب وانعدام المانع.
" ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد " وقال الشافعي رحمه الله لا يبطل " ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي " عندنا خلافا له بناء على أنه يورث عنده وعندنا لا يورث ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد ثم إنه شرع زاجرا ومنه سمى حدا والمقصود من شرع الزاجر إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام وإذا تعارضت الجهتان فالشافعي رحمه الله مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيا به ولا كذلك عكسه لآنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه وهذا هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها منها الإرث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع ومنها العفو فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل وعنده لا يجري وعن أبي يوسف رحمه الله في العفو مثل قول الشافعي رحمه الله ومن أصحابنا من قال إن الغالب حق العبد وخرج الأحكام والأول أظهر.
قال: " ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه " لأن للمقذوف فيه حقا فيكذبه في الرجوع بخلاف ما هو خالص حق الله لأنه لا مكذب له فيه " ومن قال لعربي يا نبطي لم يحد " لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة وكذا إذا قال لست بعربي لما قلنا.
" ومن قال لرجل يا ابن ماء السماء فليس بقاذف " لأنه يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء لأن ماء السماء لقب به بصفائه وسخائه " وإن نسبه إلى عمه أو خاله(2/357)
أو إلى زوج أمه فليس بقاذف " لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا. أما الأول فلقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] واسماعيل كان عما له، والثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: " الخال أب " والثالث للتربية.
" ومن قال لغيرة زنأت في الجبل وقال عنيت صعود الجبل حد وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يحد " لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امراة من العرب:
وارق إلى الخيرات زناء في الجبل
وذكر الجبل يقرره مرادا ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا بمنزلة ما إذا قال يا زانىء أو قال زنأت وذكر الجبل إنما بعين الصعود مرادا إذا كان مقرونا بكلمة على إذ هو المستعمل فيه ولو قال زنأت على الجبل قيل لا يحد لما قلنا وقيل يحد للمعنى الذي ذكرناه.
" ومن قال لآخر يازاني فقال لا بل أنت فإنهما يحدان " لأن معناه لا بل أنت زان إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط فيصير الخبر المذكور في الأول مذكورا في الثاني " ومن قال لامرأته يا زانية فقالت لا بل أنت حدت المرأة ولا لعان " لأنهما قاذفان وقذفه يوجب اللعان وقذفها الحد وفي البداءة بالحد إبطال اللعان لأن المحدود في القذف ليس بأهل له وا إبطال في عكسه أصلا فيحتال للدرء إذ اللعان في معنى الحد " ولو قالت زنيت بك فلا حد ولا لعان " معناه قالت بعد ما قال لها يا زانية لوقوع الشك في كل واحد منهما لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فيجب الحد دون اللعان لتصديقها إياه وانعدامه منه ويحتمل انها أرادت زناي ما كان معك بعد النكاح لأني ما مكنت أحدا غيرك وهو المراد في مثل هذه الحالة وعلى هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة لوجود القذف منه وعدمه منها فجاء ما قلنا.
" ومن أقر بولد ثم نفاه فإنه يلاعن " لأن النسب لزمه بإقراره وبالنفي بعده صار قاذفا فيلاعن " وإن نفاه ثم أقر به حد " لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب والأصل فيه حد القذف فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل وفيه خلاف ذكرناه في اللعان " والولد ولده " في الوجهين لإقراره به سابقا أو لاحقا واللعان يصح بدون قطع النسب كما يصح بدون الولد " وإن قال ليس بابني ولا بابنك فلا حد(2/358)
ولا لعان " لأنه أنكر الولادة وبه لا يصير قاذفا.
" ومن قذف امرأة ومعها أولاد لم يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد والولد حي أو قذفها بعد موت الولد فلا حد عليه " لقيام أمارة الزنا منها وهي ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها وهي شرط الإحصان " ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد " لانعدام أمارة الزنا.
قال: " ومن وطىء وطئا حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه " لفوات العفة وهي شرط الإحصان ولأن القاذف صادق والأصل فيه أن من وطىء حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه وإن كان محرما لغيره يحد لأنه ليس بزنا فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا الوطء في الملك والحرمة مؤيدة فإن كانت الحرمة مؤقتة فالحرمة لغيره وأبو حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع أو بالحديث المشهور لتكون ثابتة من غير تردد " وبيانه أن من قذف رجلا وطىء جارية مشتركة بينه وبين آخر فلا حد عليه " لانعدام الملك من وجه " وكذا إذا قذف امرأة زنت في نصرانيتها " لتحقق الزنا منها شرعا لانعدام الملك ولهذا وجب عليها الحد " ولو قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية أو امرأته وهي حائض أو مكاتبة له فعليه الحد " لأن الحرمة مع قيام الملك وهي مؤقتة فكانت الحرمة لغيره فلم يكن زنا وعن أبي يوسف رحمه الله أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان وهو قول زفر رحمه الله لآن الملك زائل في حق الوطء ولهذا يلزمه العقر بالوطء ونحن نقول ملك الذات باق والحرمة لغيره إذ هي مؤقته.
" ولو قذف رجلا وطء أمته وهي أخته من الرضاعة لا يحد " لأن الحرمة مؤبدة وهذا هو الصحيح " ولو قذف مكاتبا مات وترك وفاء لا حد عليه " لتمكن الشبهة في الحرية لكان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم " ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم يحد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا حد عليه " وهذا بناء على أن تزوج المجوسي بالمحارم له حكم الصحة فيما بينهم عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح " وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقذف مسلما حد " لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد ولأنه طمع في أن لا يؤذى فيكون ملتزما أن لا يؤذى وموجب أذاه الحد.
" وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب " وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب وهي تعرف في الشهادات " وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة " لأن له الشهادة على جنسه فترد تتمة لحده " فإن أسلم قبلت شهادته عليهم وعلى المسلمين " لأن(2/359)
هذه شهادة استفادها بعد الإسلام فلم تدخل تحت الرد بخلاف العبد إذا حد حد القذف ثم أعتق حيث لا تقبل شهادته لأنه لا شهادة له أصلا في حال الرق فكان رد شهادته بعد العتق من تمام حده " فإن ضرب سوطا في قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقي جازت شهادته " لأن رد الشهادة متمم للحد فيكون صفة له والمقام بعد الإسلام بعض الحد فلا يكون رد الشهادة صفة له وعن أبي يوسف رحمه الله أنه رد شهادته إذ الأقل تابع للأكثر والأول أصح.
قال: " ومن قذف أو زنى أو شرب غير مرة فحد فهو لذلك كله " أما الأولان فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار واحتمال حصوله بالأول قائم فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وسرق وشرب لأن المقصود من كل جنس غير المقصود من الآخر فلا يتداخل وأما القذف فالمغلب فيه عندنا حق الله ليكون ملحقا بهما وقال الشافعي رحمه الله إن اختلف المقذوف أو المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل لأن المغلب فيه حق العبد عنده.(2/360)
فصل في التعزير
" ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر " لأنه جناية قذف وقد امتنع وجوب الحد لعقد الإحصان فوجب التعزير " وكذا إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو ياسارق " لأنه آذاه وألحق الشين به ولا مدخل للقياس في الحدود فوجب التعزير إلا أنه يبلغ بالتعزير غايته في الجناية الأولى لأنه من جنس ما يجب به الحد وفي الثانية الرأي إلى الإمام.
" ولو قال يا حمار أو يا خنزير لم يعزر " لأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه وقيل في عرفنا يعزر لأنه يعد شينا وقيل إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر لأنه يلحقهم الوحشة بذلك وإن كان من العامة لا يعزر وهذا أحسن.
والتعزيز أكثره تسعة وثلاثون سوطا وأقله ثلاث جلدات وقال أبو يوسف رحمه الله يبلغ التعزير خمسة وسبعين سوطا والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " وإذا تعذر تبليغه حدا فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله نظرا إلى أدنى الحد وهو حد العبد في القذف فصرفاه إليه وذلك أربعون سوطا فنقصا منه سوطا وأبو يوسف رحمه الله اعتبر أقل الحد في الأحرار إذ الأصل هو الحرية ثم نقص سوطا في رواية عنه وهو قول زفر رحمه الله وهو القياس وفي هذه الرواية نقص خمسة وهو مأثور عن علي رضي الله عنه فقلده ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات لأن ما دونها لا يقع به(2/360)
الزجر. وذكر مشايخنا رحمهم الله أن أدناه على ما يراه الإمام فيقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر لأنه يختلف باختلاف الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أنه على قدر عظم الجرم وصغره وعنه أنه يقرب كل نوع من بابه فيقرب اللمس والقبلة من حد الزنا والقذف بغير الزنا من حد القذف قال: " وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل " لأنه صلح تعزيزا وقد ورد الشرع به في الجملة حتى جاز أن يكتفى به فجاز أن يضم إليه ولهذا لم يشرع في التعزير بالتهمة قبل ثبوته كما شرع في الحد لأنه من التعزيز.
قال: " وأشد الضرب التعزيز " لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف كيلا يؤدي إلى فوات المقصود ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء.
قال: " ثم حد الزنا " لأنه ثابت بالكتاب وحد الشرب ثبت بقول الصحابة رضي الله عنهم ولأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم " ثم حد الشرب " لأن سببه متيقن به " ثم حد القذف " لأن سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا ولأنه جرى فيه التغليظ من حيث رد الشهادة فلا يغلظ من حيث الوصف.
" ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر " لأنه فعل ما فعل بأمر الشرع وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد والبزاغ بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لأنه مطلق فيه والإطلاقات تتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في بيت المال لأن الإتلاف خطأ فيه إذ التعزير للتأديب غير أنه تجب الدية في بيت المال لأن نفع عمله يرجع إلى عامة المسلمين فيكون الغرم في ما لهم قلنا لما استوفى حق الله تعالى بأمره صار كأن الله أماته من غير واسطة فلا يجب الضمان.(2/361)
كتاب السرقة
جزاء السارق
...
كتاب السرقة
السرقة في اللغة: أخذ الشيء من الغير على سبيل الخفية والاستسرار ومنه استراق السمع قال الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وقد زيدت عليه أوصاف في الشريعة على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى والمعنى اللغوي مراعى فيها ابتداء وانتهاء أو ابتداء لا غير كما إذا نقب الجدار على الاستسرار وأخذ المال من المالك مكابرة على الجهار وفي الكبرى أعني قطع الطريق مسارقة عين الإمام لآنه هو المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه وفي الصغرى مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه.
قال: " وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب عليه القطع " والأصل فيه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: من الآية38] الآية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأأن الجناية لا تتحقق دونهما والقطع جزاء الجناية ولا بد من التقدير بالمال الخطير لأن الرغبات تفتر في الحقير وكذا أخذه لا يخفى فلا يتحقق ركنه ولا حكمة الزجر لأنها فيما يغلب والتقدير بعشرة دراهم مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله التقدير بربع دينار وعند مالك رحمه الله بثلاثة دراهم لهما أن القطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ما كان إلا في ثمن المجن وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم والأخذ بالأقل وهو المتيقن به أولى غير أن الشافعي رحمه الله يقول كانت قمة الدينار على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام اثني عشر درهما والثلاثة ربعها ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا لدرء الحد وهذا لأن في الأقل شبهة عدم الجناية وهي دارئة للحد وقد تأيد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم " واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفا فهذا يبين لك اشتراط المضروب كما قال في الكتاب وهو ظاهر الرواية وهو الأصح رعاية لكمال الجناية حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع والمعتبر وزن سبعة مثاقيل لأنه هو المتعارق في عامة البلاد وقوله أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم إشارة إلى أن(2/362)
غير الدراهم تعتبر قيمته بها وإن كان ذهبا ولا بد من حرز لا شبهة فيه لأن الشبهة دارئة وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: " والعبد والحر في القطع سواء " لأن النص لم يفصل ولأن التنصيف متعذر فيتكامل صيانة لأموال الناس.
"ويجب القطع بإقراره مرة واحدة وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقطع إلا بالإقرار مرتين " ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا ولهما أن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة فيكتفي به كما في القصاص وحد القذفولا اعتبار بالشهادة لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الإقرار شيئا لأنه لا تهمة وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال لا يصح أصلا لأن صاحب المال يكذبه واشترط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع.
قال: " ويجب بشهادة شاهدين " لتحقق الظهور كما في سائر الحقوق وينبغي أن يسألهما الإمام عن كيفية السرقة وما هيتها وزمانها ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود ويحبسه إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة.
قال: " وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع وإن أصابه أقل لا يقطع " لأن الموجب سرقة النصاب ويجب على كل واحد منهم بجنايته فيعتبر كمال النصاب في حقه والله أعلم.(2/363)
باب ما يقطع فيه ومالا يقطع
مدخل
...
باب ما يقطع فيه ومالا يقطع
" ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة " والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه أي الحقير وما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه والطباع لا تضن به فقلما يوجد أخذه على كره من الملك فلا حاجة إلى شرع الزاحر ولهذا لم يجب القطع في سرقة ما دون النصاب ولأن الحرز فيها ناقص ألا يرى أن الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز والطير يطير والصيد يفر وكلنا الشركة العامة التي كانت فيه وهو على تلك الصفة تورث الشبهة والحد يندرىء بها ويدخل في السمك المالح والطري وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في الطير " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين وهو قول الشافعي رحمه الله والحجة عليهما ما ذكرنا.(2/363)
قال: " ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في تمر ولا كثر " والكثر الجمار وقيل الودى وقال عليه الصلاة والسلام: " لا قطع في الطعام " والمراد والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمر لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا وقال الشافعي رحمه الله يقطع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في ثمر ولا كثر فإذا آواه الجرين أو الجران قطع " قلنا أخرجه على وفاق العادة والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع.
قال: " ولا قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد " لعدم الإحراز " ولا قطع في الأشربة المطربة " لأن السارق يتأول في تناولها الإراقة ولأن بعضها ليس بمال وفي مالية بعضها اختلاف فتتحقق شبهة عدم المالية.
قال: " ولا في الطنبور " لأنه من المعازف " ولا في سرقة المصحف وإن كان عليه حلية " وقال الشافعي رحمه الله يقطع لأنه مال متقوم حتى يجوز بيعه وعن أبي يوسف رحمه الله مثله وعنه أيضا أن يقطع إذا بلغت الحلية نصابا لآنها ليست من المصحف فتعتبر بانفرادها ووجه الظاهر أن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه ولأنه لا مالية له على اعتبار المكتوب وإحرازه لأجله لا للجلد والأوراق والحلية وإنما هي توابع ولا معتبر بالتبع كمن سرق آنية فيها خمر وقيمة الآنية تربو على النصاب " ولا قطع في أبواب المسجد " لعدم الإحراز فصار كباب الدار بل أولى لأنه يحرز بباب الدار ما فيها ولا يحرز بباب المسجد ما فيه حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه.
قال: " ولا الصليب من الذهب ولا الشطرنج ولا النرد " لأنه يتأول من أخذها الكسر نهيا عن المنكر بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال لأنه ما أعد للعبادة فلا تثبت شبهة إباحة الكسر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إن كان الصليب في المصلى لا يقطع لعد الحرز وإن كان في بيت آخر يقطع لكمال المالية والحرز " ولا قطع على سارق الصبي الحر وإن كان عليه حلى " لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلى تبع له ولأنه يتأول في أخذه الصبي إسكاته أو حمله إلى مرضعته وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع إذا كان عليه حلى فهو نصاب لآنه يجب القطع بسرقته وحده فكذا مع غيره وعلى هذا إذا سرق إناء فضة فيه نبيذ أو ثريد والخلاف في صبي لا يمشي ولا يتكلم كيلا يكون في يد نفسه " ولا قطع في سرقة العبد الكبير " لأنه غصب أو خداع " ويقطع في سرقة العبد الصغير " لتحققها بحدها إذا كان يعبر عن(2/364)
نفسه لأنه هو والبالغ سواء في اعتبار يده وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقطع وإن كان صغيرا لا يعقل ولا يتكلم استحسانا لآنه آدمي من وجه مال من وجه ولهما أنه مال مطلق لكونه منتفعا به أو يعرض أن يصير منتفعا به إلا أنه انضم إليه معنى الآدمية " ولا قطع في الدفاتر كلها " لأن المقصود ما فيها وذلك ليس بمال " إلا في دفاتر الحساب " لأن ما فيها لا يقصد بالأخذ فكان المقصود هو الكواغد.
قال: " ولافي سرقة كلب ولا فهد " لأن من جنسهما يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب فأورث شبهة " ولا قطع في دف ولا طبل ولا بربط ولا مزمار " لأن عندهما لا قيمة لها وعند أبي حنيفة رحمه الله آخذها يتأول الكسر فيها " ويقطع في الساج والقنا والآبنوس والصندل " لأنها أموال محرزة لكونها عزيزة عند الناس ولا توجد بصورتها مباحة في دار الإسلام.
قال: " ويقطع في الفصوص الخضر والياقوت والزبرجد " لأنها من أعز الأموال وأنفسها ولا توجد مباحة الأصل في دار إسلام غير مرغوب فيها فصارت كالذهب والفضة " وإذا اتخذ من الخشب أواني وأبوبا قطع فيها " لأنه بالصنعة التحق بالأموال النفيسة ألا ترى أنها تحرز بخلاف الحصير لأن الصنعة فيه لم تغلب على الجنس حتى يبسط في غير الحرز وفي الحصر البغدادية قالوا يجب القطع في سرقتها لغلبة الصنعة على الأصل وإنما يجب القطع في غير المركب وإنما يجب إذا كان خفيفا لا يثقل على الواحد حمله لأن الثقيل منه لا يرغب في سرقته " ولا قطع على خائن ولا خائنة " لقصور في الحرز " ولا منتهب ولا مختلس " لأنه يجاهر بفعله كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا قطع في مختلس ولا منتهب ولا خائن " " ولا قطع على النباش " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله عليه القطع لقوله عليه الصلاة والسلام " من نبش قطعناه " ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " لاقطع على المختفي " وهو النباش بلغة أهل المدينة ولأن الشبهة تمكنت في الملك لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة وإن كان القبر في بيت مقفل فهو على الخلاف في الصحيح لما قلنا وكذا إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بيناه.
" ولا يقطع السارق من بيت المال " لأنه مال العامة وهو منهم قال " ولا من مال للسارق فيه شركة " لما قلنا.(2/365)
" ومن له على آخر دراهم فسرق منه مثلها لم يقطع " لأنه استيفاء لحقه والحال والمؤجل فيه سواء استحسانا لأن التأجيل لتأخير المطالبة وكذا إذا سرق زيادة على حقه لآنه بمقدار حقه يصير شريكا فيه " وإن سرق منه عروضا قطع " لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا بالتراضي وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه أو رهنا بحقه قلنا هذا قول لا يستند إلى دليل ظاهر فلا يعتبر بدون إتصال الدعوى به حتى لو ادعى ذلك درىء عنه الحد لأنه ظن في موضع الخلاف ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير قيل يقطع لأنه ليس له حق الأخذ وقيل لا يقطع لأن النقود جنس واحد.
" ومن سرق عينا فيها فردها ثم عاد فسرقها وهي بحالها لم يقطع " والقياس أن يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن عاد فاقطعوه " من غير فصل ولأن الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل على ما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل وقيل الموجب وهو القطع فيه بخلاف ما ذكر لأن الملك قد اختلف باختلاف سببه ولأن تكرار الجناية منه نادر لتحمله مشقة الزاجر فتعرى الإقامة عن المقصود وهو تقليل الجناية وصار كما إذا قذف المحدود في قذف المقذوف الأول قال: " فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلا فسرقه وقطع فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع " لأن العين قد تبدلت ولهذا يملكه الغاصب به وهذا هو علامة التبدل في كل محل وإذا تبدلت انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع فيه فوجب القطع ثانيا والله أعلم بالصواب.(2/366)
فصل في الحرز والأخذ منه
" ومن سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه لم يقطع " فالأول وهو الولاد للبسوطة في المال وفي الدخول في الحرز والثاني للمعنى الثاني ولهذا أباح الشرع النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها بخلاف الصديقين لأنه عاداه بالسرقة وفي الثاني خلاف الشافعي رحمه الله لأنه ألحقها بالقرابة البعيدة وقد بيناه في العتاق.
" ولو سرق من بيت ذي رحم محرم متاع غيره ينبغي أن لا يقطع ولو سرق ماله من بيت غيره يقطع " اعتبارا للحرز وعدمه " وإن سرق من أمه من الرضاعة قطع "وعن(2/366)
أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يقطع لأنه يدخل عليها من غير استئذان وحشمة بخلاف الأخت من الرضاعة لانعدام هذا المعنى فيها عادة وجه الظاهر أنه لا قرابة والمحرمية بدونها لا تحترم كما إذا ثبتت بالزنا والتقبيل عن شهوة وأقرب من ذلك الأخت من الرضاعة وهذا لأن الرضاع قلما يشتهر فلا بسوطة تحرزا عن موقف التهمة بخلاف النسب.
" وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر أو العبد من سيده أو من امرأة سيده أو من زوج سيدته لم يقطع " لوجود الإذن بالدخول عادة وإن سرق أحد الزوجين من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه فكذلك عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لبسوطة بينهما في الأموال عادة ودلالة وهو نظير الخلاف في الشهادة " ولو سرق المولى من مكاتبه لم يقطع " لأن له في أكسابه حقا " وكذلك السارق من الغنم " لأن له فيه نصيبا وهو مأثور عن علي رضي الله تعالى عنه درءا وتعليلا.
قال: " والحرز على نوعين حرز لمعنى فيه كالبيوت والدور وحرز بالحافظ " قال العبد الضعيف احرز لا بد منه لأن الاستسرار لا يتحقق دونه ثم هو قد يكون بالمكان وهو المكان المعد لإحراز الأمتعة كالدور والبيوت والصندوق والحانوت وقد يكون بالحافظ كمن جلس في الطريق أو في المسجد وعنده متاعه فهو محرز به وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد " وفي المحرز بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ " هو الصحيح لآنه محرز بدونه وهو البيت وإن لم يكن له باب أو كان وهو مفتوح حتى يقطع السارق منه لأن البناء لقصد الإحراز إلا أنه لا يجب القطع إلا بالإخراج منه لقيام يده فيه قبله بخلاف المحرز بالحافظ حيث يجب القطع فيه كما أخذ لزوال يد المالك بمجرد الأخذ فتتم السرقة ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظا أو نائما والمتاع تحته أو عنده هو الصحيح لأنه يعد النائم عند متاعه حافظا له في العادة وعلى هذا لا يضمن المودع والمستعير بمثله لأنه ليس له بتضييع بخلاف ما اختاره في الفتاوى.
قال: " ومن سرق شيئا من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده يحفظه قطع " لأنه سرق مالا محرزا بأحد الحرزين " ولا قطع على من سرق مالا من حمام أو من بيت أذن للناس في دخوله فيه " لوجود الإذن عادة أو حقيقة في الدخول فاختل الحرز ويدخل في ذلك حوانيت التجار والخانات إلا إذا سرق منها ليلا لأنها بنيت لإحراز الأموال وإنما الإذن يختص بالنهار.(2/367)
" ومن سرق من المسجد متاعا وصاحبه عنده قطع " لأنه محرز بالحافظ لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال فلم يكن المال محرزا بالمكان بخلاف الحمام والبيت الذي أذن للناس في دخوله حيث لا يقطع لأنه بني للإحراز فكان المكان حرزا فلا يعتبر الإحراز بالحافظ " ولا قطع على الضيف إذا سرق ممن أضافه " لأن البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في دخوله ولأنه بمنزلة أهل الدار فيكون فعله خيانة لا سرقة.
" ومن سرق سرقة فلم يخرجها من الدار لم يقطع " لأن الدار كلها حرز واحد فلا بد من الإخراج منها ولأن الدار وما فيها في يد صاحبها معنى فتتمكن شبهة عدم الأخذ " فإن كانت دار فيها مقاصير فأخرجها من المقصورة إلى صحن الدار قطع " لأن كل مقصورة باعتبار ساكنها حرز على حدة " وإن أغار إنسان من أهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع " لما بينا " وإذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر خارج البيت فلا قطع عليهما " لأن الأول لم يوجد منه الإخراج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه والثاني لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد وعن أبي يوسف رحمه الله إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج فالقطع على الداخل وإن أدخل الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما القطع وهي بناء على مسئلة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى " وإن ألقاه في الطريق وخرج فأخده قطع " وقال زفر رحمه الله لا يقطع لأن الإلقاء غير موجب للقطع كما لو خرج ولم يأخذ وكذا الأخذ من السكة كما لو أخذه غيره ولنا أن الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع أو ليتفرغ لقتال صاحب الدار أو للفرار ولم تعترض عليه يد معتبرة فاعتبر الكل فعلا واحدا فإذا خرج ولم يأخذه فهو مضيع لا سارق.
قال: " وكذلك إن حمله على حمار فساقه وأخرجه " لأن سيره مضاف إليه لسوقه " وإذا دخل الحرز جماعة فتولى بعضهم الأخذ قطعوا جميعا " قال العبد الضعيف رحمه الله هذا استحسان والقياس أن يقطع الحامل وحده وهو قول زفر رحمه الله لأن الإخراج وجد منه فتمت السرقة به ولنا أن الإخراج من الكل معنى للمعاونة كما في السرقة الكبرى وهذا لأن المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعض المتاع ويتشمر الباقون للدفع فلو امتنع القطع لأدى إلى سد باب الحد.
قال: " ومن نقب البيت وأدخل يده فيه وأخذ شيئا لم يقطع " وعن أبي يوسف رحمه الله في الإملاء أنه يقطع لأنه أخرج المال من الحرز وهو المقصود فلا يشترط الدخول فيه كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي فأخرج الغطريفي ولنا أن هتك الحرز يشترط فيه الكمال(2/368)
تحرزا عن شبهة العدم والكمال في الدخول وقد أمكن اعتباره والدخول هو المعتاد بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال اليد دون الدخول وبخلاف ما تقدم من حمل البعض المتاع لأن ذلك هو المعتاد.
قال: " وإن طر صرة خارجة من الكم لم يقطع وإن أدخل يده في الكم يقطع " لأن في الوجه الأول الرباط من خارج فبالطر يتحقق الأخذ من الظاهر فلا يوجد هتك الحرز وفي الثاني الرباط من داخل فبالطر يتحقق الأخذ من الحرز وهو الكم ولو كان مكان الطر حل الرباط ثم الأخذ في الوجهين ينعكس الجواب لانعكاس العلة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقطع على كل حال لأنه محرز إما بالكم أو بصاحبه.
قلنا الحرز هو الكم لأنه يعتمده وإنما قصده قطع المسافة والاستراحة فأشبه الجوالق " وإن سرق من القطار بعيرا أو حملا لم يقطع " لأنه ليس بمحرز مقصودا فتتمكن شبهة العدم وهذا لأن السائق والقائد والراكب يقصدون قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ حتى لو كان مع الأحمال من يتبعها للحفظ قالوا يقطع " وإن شق الجمل وأخذ منه قطع " لأن الجوالق في مثل هذا حرز لأنه يقصد بوضع الأمتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الأخذ من الحرز فيقطع " وإن سرق جوالقا فيه متاع وصاحبه يحفظه ونائم عليه قطع " ومعناه إذا كان الجوالق في موضع هو ليس بحرز كالطريق ونحوه حتى يكون محرزا بصاحبه لكونه مترصدا لحفظه وهذا لأن المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده والنوم عليه يعد حفظا عادة وكذا النوم بقرب منه على ما اخترناه من قبل وذكر في بعض النسخ وصاحبه نائم عليه أو حيث يكون حافظا له وهذا يؤكد ما قدمناه من القول المختار والله أعلم بالصواب.(2/369)
فصل في كيفية القطع وإثباته
قال: " ويقطع يمين السارق من الزند ويحسم " فالقطع لما تلوناه من قبل واليمين بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومن الزند لأن الاسم يتناول اليد إلى الإبط وهذا المفصل أعني الرسغ متيقن به كيف وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند والحسم لقوله عليه الصلاة والسلام " فاقطعوه واحسموه " ولأنه لو لم يحسم يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف " فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا لم يقطع وخلد في السجن حتى يتوب " وهذا استحسان ويعزر أيضا ذكره المشايخ رحمهم الله وقال الشافعي رحمه الله في الثالثة تقطع يده اليسرى وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى لقوله عليه الصلاة والسلام " من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه "(2/369)
ويروى مفسرا كما هو مذهبه ولأن الثالثة مثل الأولى في كونها جناية بل فوقها فتكون أدعى إلى شرع الحد ولنا قول علي رضي الله عنه فيه إني لأستحي من الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها وبهذا حاج بقية الصحابة رضي الله عنهم فحجهم فانعقد إجماعا ولأنه إهلاك معني لما فيه من تفويت جنس المنفعة والحد زاجر ولأنه نادر الوجود والزجر فيما يغلب وقوعه بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفى ما أمكن جبرا لحقه والحديث طعن فيه الطحاوي رحمه الله أو نحمله على السياسة.
" وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع أو مقطوع الرجل اليمنى لم يقطع " لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا وكذا إذا كانت رجله اليمنى شلاء لما قلنا " وكذا إن كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو الأصبعان منها سوى الإبهام " لأن قوام البطش بالإبهام " فإن كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع " لأن فوات الواحدة لا يوجب خللا ظاهرا في البطش بخلاف فوات الأصبعين لأنهما ينزلان منزلة الإبهام في نقصان البطش.
قال: " وإذا قال الحاكم للحداد اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره عمدا أو خطأ فلا شيء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا شيء عليه في الخطأ ويضمن في العمد " وقال زفر رحمه الله يضمن في الخطأ أيضا وهو القياس والمراد بالخطأ هو الخطأ في الاجتهاد وأما الخطأ في معرفة اليمين واليسار لا يجعل عفوا وقيل يجعل عذرا أيضا له أنه قطع يدا معصومة والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها.
قلنا إنه أخطأ في اجتهاده إذ ليس في النص تعيين اليمين والخطأ في الاجتهاد موضوع ولهما أنه قطع طرفا معصوما بغير حق ولا تأويل لأنه تغمد الظلم فلا يعفى وإن كان في المجتهدات وكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه امتنع للشبهة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه فلا يعد إتلافا كمن شهد على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع وعلى هذا لو قطعه غير الحداد لا يضمن أيضا هو الصحيح ولو أخرج السارق يساره وقال هذه يميني لا يضمن بالاتفاق لأنه قطعه بأمره ثم في العمد عنده عليه أي السارق ضمان المال لأنه لم يقع حدا وفي الخطأ كذلك على هذه الطريقة وعلى طريقة الاجتهاد لا يضمن.
" ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة " لأن الخصومة شرط لظهورها ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا خلافا للشافعي رحمه الله في الإقرار، لأن(2/370)
الجناية على مال الغير لا تظهر إلا بخصومته "وكذا إذا غاب عند القطع عندنا " لأن الاستيفاء من القضاء في باب الحدود.
" وللمستودع والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم ولرب الوديعة أن يقطعه أيضا وكذا المغصوب منه " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى المالك ويقطع بخصومة المالك في السرقة من هؤلاء إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه والشافعي رحمه الله بناه على أصله لا خصومة لهؤلاء في الاسترداد عنده وزفر رحمه الله يقول ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع لأن فيه تفويت الصيانة ولنا أن السرقة موجبة للقطع في نفسها وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة مطلقا إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع والمقصود من الخصومة إحياء حقه وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء فلم يعتبر ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض كما إذا حضر المالك وغاب المؤتمن فإنه يقطع بخصومته في ظاهر الرواية وإن كانت شبهة الإذن في دخول الحرز ثابتة " وإن قطع سارق فسرقت منه لم يكن له ولا لرب السرقة أن يقطع السارق الثاني " لأن المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم تنعقد موجبة في نفسها وللأول ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية لحاجته إذ الرد واجب عليه.
" ولو سرق الثاني قبل أن يقطع الأول أو بعد ما درئ الحد بشبهة يقطع بخصومة الأول " لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصار كالغاصب.
" ومن سرق سرقة فردها على المالك قبل الارتفاع إلى الحاكم لم يقطع " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقطع اعتبارا بما إذا رده بعد المرافعة وجه الظاهر أن الخصومة شرط لظهور السرقة لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع المنازعة وقد انقطعت الخصومة بخلاف ما عبد المرافعة لانتهاء الخصومة لحصول مقصودها فتبقى تقديرا.
" وإذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع " معناه إذا سلمت إليه " وكذلك إذا باعها المالك إياه " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا وبهذا العارض لم يتبين قيام الملك(2/371)
وقت السرقة فلا شبهة ولنا أن الإمضاء من القضاء في هذا الباب لوقوع الاستغناء عنه بالاستيفاء إذ القضاء للإظهار والقطع حق الله تعالى وهو ظاهر عنده وإذا كان كذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء وصار كما إذا ملكها منه قبل القضاء قال " وكذلك إذا نقصت قيمتها من النصاب " يعني قبل الإستيفاء بعد القضاء وعن محمد رحمه الله أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله اعتبارا بالنقصان في العين ولنا أن كمال النصاب لما كان شرطا يشترط قيامه عند الإمضاء لما ذكرنا بخلاف النقصان في العين لأنه مضمون عليه فكمل النصاب عينا ودينا كما إذا استهلك كله أما نقصان السعر فغير مضمون فافترقا.
" وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينة " معناه بعد ما شهد الشاهدان بالسرقة وقال الشافعي رحمه الله لا يسقط بمجرد الدعوى لأنه لا يعجز عنه سارق فيؤدي إلى سد باب الحد ولنا أن الشبهة دارئة تتحقق بمجرد الدعوى للاحتمال ولا معتبر بما قال بدليل صحة الرجوع بعد الإقرار.
" وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم يقطعا " لأن الرجوع عامل في حق الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة " فإن سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما قطع الآخر في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وهو قولهما " وكان يقول أولا لا يقطع لأنه لو حضر ربما يدعي الشبهة وجه قوله الآخر أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب فيبقى معدوما والمعدوم لا يورث الشبهة ولا معتبر بتوهم حدوث الشبهة على ما مر.
" وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع والعشرة للمولى وقال محمد رحمه الله لا يقطع والعشرة للمولى وهو قول زفر رحمه الله ومعنى هذا إذا كذبه المولى.
" ولو أقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده ولو كان العبد مأذونا له يقطع في الوجهين " وقال زفر رحمه الله لا يقطع في الوجوه كلها لأن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح لأنه يرد على نفسه وطرفه وكل ذلك مال المولى والإقرار على الغير غير مقبول إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان والمال لصحة إقراره به لكونه مسلطا عليه من جهته والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضا ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار،(2/372)
لما يشتمل عليه من الإضرار ومثله مقبول على الغير لمحمد رحمه الله في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل ولهذا لا يصح منه الإقرار بالغصب فيبقى مال المولى ولا قطع على العبد في سرقة مال المولى يؤيده أن المال أصل فيها والقطع تابع حتى تسمع الخصومة فيه بدون القطع ويثبت المال دونه وفي عكسه لا تسمع ولا يثبت وإذا بطل فيما هو الأصل بطل في التبع بخلاف المأدون لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في حق القطع تبعا ولأبي يوسف رحمه الله أنه أقر بشيئين بالقطع وهو على نفسه فيصح على ما ذكرناه وبالمال وهو على المولى فلا يصح في حقه فيه والقطع يستحق بدونه كما إذا قال الحر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو وزيد يقول هو ثوبي يقطع يد المقر وإن كان لا يصدق في تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإقرار بالقطع قد صح منه لما بينا فيصح بالمال بناء عليه لأن الإقرار يلاقي حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره فيستوفى القطع بعد استهلاكه بخلاف مسئلة الحر لأن القطع إنما يجب بالسرقة من المودع أما مالا يجب بسرقة العبد مال المولى فافترقا ولو صدقه المولى يقطع في الفصول كلها لزوال المانع.
قال: " وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت إلى صاحبها " لبقائها على ملكه " وإن كانت مستهلكة لم يضمن " وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك وهو رواية أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المشهور وروى الحسن عنه أنه يضمن بالاستهلاك وقال الشافعي رحمه الله يضمن فيهما لأنهما حقان قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان فالقطع حق بالشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهي عنه والضمان حق العبد وسببه أخذ المال فصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم أو شرب خمر مملوكة لذمي ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه " ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ فتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشهبة وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي ولأن المحل لا يبقى معصوما حقا للعبد إذ لو بقي لكان مباحا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا للشرع كالميتة ولا ضمان فيه إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه وكذا الشبهة تعتبر فيما هو السبب دون غيره ووجه المشهور أن الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان لأنه من ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة.
قال: " ومن سرق سرقات فقطع في إحداها فهو لجميعها ولا يضمن شيئا عند(2/373)
أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن كلها إلا التي قطع لها " ومعنى المسئلة إذا حضر أحدهم فإن حضروا جميعا وقطعت يده لخصومتهم لا يضمن شيئا بالاتفاق في السرقات كلها لهما أن الحاضر ليس بنائب عن الغائب ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من الغائبين فلم يقع القطع لها فبقيت أموالهم معصومة وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله تعالى لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة شرط للظهور عند القاضي فإذا استوفى فالمستوفي كل الواجب ألا ترى أنه يرجع نفعه إلى الكل فيقع عن الكل وعلى هذا الخلاف إذا كانت النصب كلها لواحد فخاصم في البعض والله تعالى أعلم بالصواب.(2/374)
باب ما يحدث للسارق في السرقة
" ومن سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم قطع " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع لأن له فيه سبب الملك وهو الخرق الفاحش فإنه يوجب القيمة وتملك المضمون وصار كالمشتري إذا سرق مبيعا فيه خيار للبائع ولهما أن الأخذ وضع سببا للضمان لا للملك وإنما الملك يثبت ضرورة أداء الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد ومثله لا يورث الشبهة كنفس الأخذ وكما إذا سرق البائع معيبا باعه بخلاف ما ذكر لأن البيع موضوع لإفادة الملك وهذا الخلاف فيما إذا اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب فإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ فصار كما إذا ملكه بالهبة فأورث شبهة وهذا كله إذا كان النقصان فاحشا فإن كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك إذ ليس له اختيار تضمين كل القيمة " وإن سرق شاة فذبحها ثم أخرجها لم يقطع " لأن السرقة تمت على اللحم ولا قطع فيه " ومن سرق ذهبا أو فضة يجب فيه القطع فصنعه دراهم أو دنانير قطع وترد الدراهم والدنانير إلى المسروق منه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا سبيل للمسروق منه عليهما " وأصله في الغصب فهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له ثم وجوب الحد لا يشكل على قوله لأنه لم يملكه وقيل على قولهما لا يجب لأنه ملكه قبل القطع وقيل يجب لأنه صار بالصنعة شيئا آخر فلم يملك عينه " فإن سرق ثوبا فصبغه أحمر قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن قيمة الثوب وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ".
" وقال محمد رحمه الله يؤخذ منه الثوب ويعطى ما زاد الصبغ فيه " اعتبارا بالغصب والجامع بينهما كون الثوب أصلا قائما وكون الصبع تابعا ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى حتى لو أراد أخذه مصبوغا يضمن ما زاد الصبغ فيه وحق المالك في الثوب قائم(2/374)
صورة لا معنى ألا ترى أنه غير مضمون على السارق بالهلاك فرجحنا جانب السارق بخلاف الغصب لأن حق كل واحد منهما قائم صورة ومعنى فاستويا من هذا الوجه فرجحنا جانب المالك بما ذكرنا " وإن صبغه أسود أخذ منه في المذهبين " يعني عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله هذا والأول سواء لأن السواد زيادة عنده كالحمرة وعند محمد رحمه الله زيادة أيضا كالحمرة ولكنه لا يقطع حق المالك وعند أبي حنيفة رحمه الله السواد نقصان فلا يوجب انقطاع حق المالك والله أعلم بالصواب.(2/375)
باب قطع الطريق
قال: " وإذا خرج جماعة ممتنعين أو واحد يقدر على الامتناع فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعدا أو ما تبلغ قيمته ذلك قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الإمام حدا " والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [المائدة: 33] الآية
والمراد منه والله أعلم التوزيع على الأحوال وهي أربعة هذه الثلاثة المذكورة والرابعة نذكرها إن شاء الله تعالى ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال فاللائق تغلظ الحكم بتغلظها.
أما الحبس في الأولى فلأنه المراد بالنفي المذكور لأنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها ويغزرون أيضا لمباشرتهم منكرا لإخافة وشرط القدرة على الامتناع لأن المحاربة لا تتحقق إلا بالمنعة والحالة الثانية كما بيناها لما تلوناه وشرط أن يكون المأخوذ مال مسلم أو ذمي لتكون العصمة مؤبدة ولهذا لو قطع الطريق على المستأمن لا يجب القطع وشرط كمال النصاب في حق كل واحد كيلا يستباح طرفه إلا بتناوله ماله خطر والمراد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى كيلا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة والحالة الثالثة كما بيناها لما تلوناه " ويقتلون حدا حتى لو عفا الأولياء عنهم لا يلتفت إلى عفوهم " لأنه حق الشرع " و " الرابعة " إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وإن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وقال محمد رحمه الله يقتل أو يصلب ولا يقطع " لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين ولأن ما دون النفس يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم ولهما أن هذه عقوبة واحدة(2/375)
تغلظت لغلظ سببها وهو تفويت الأمن على التناهي بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل معا في الكبرى حدا واحدا وإن كانا في الصغرى حدين والتداخل في الحدود لا في حد واحد ثم ذكر في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه وهو ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتركه لأنه منصوص عليه والمقصود التشهير ليعتبر به غيره ونحن نقول أصل التشهير بالقتل والمبالغة بالصلب فيخير فيه.
ثم قال: " ويصلب حيا ويبعج بطنه برمح إلى أن يموت " ومثله عن الكرخي رحمه الله وعن الطحاوي رحمه الله أنه يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة وجه الأول وهو الأصح أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع وهو المقصود به.
قال: " ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام " لأنه يتغير بعدها فيتأذى الناس به وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يترك على خشبة حتى يتقطع ويسقط ليعتبر به غيره قلنا حصل الاعتبار بما ذكرناه والنهاية غير مطلوبة.
قال: " وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه " اعتبارا بالسرقة الصغرى وقد بيناه "ف إن باشر القتل أحدهم أجرى الحد عليهم بأجمعهم " لأنه جزاء المحاربة وهي تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم وإنما الشرط القتل من واحد منهم وقد تحقق.
قال: " والقتل وإن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء " لأنه يقع قطعا للطريق بقطع المارة " وإن لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه فيما فيه القصاص وأخذ الأرش منه فيما فيه الأرش وذلك إلى الأولياء " لأنه لا حد في هذه الجناية فظهر حق العبد وهو ما ذكرناه فيستوفيه الولي " وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات " لأنه لما وجب الحد حقا لله سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما تسقط عصمة المال " وإن أخذ بعد ما تاب وقد قتل عمدا فإن شاء الأولياء قتلوه وإن شاءوا عفوا عنه " لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص ولأن التوبة تتوقف على رد المال ولا قطع في مثله فظهر حق العبد في النفس والمال حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلكه " وإن كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين " فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لو باشر العقلاء يحد الباقون وعلى هذا السرقة الصغرى له أن المباشر أصل والردء تابع ولا خلل في مباشرة العاقل(2/376)
ولا اعتبار بالخلل في التبع وفي عكسه ينعكس المعنى والحكم ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض العلة وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد.
وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل تأويله إذا كان المال مشتركا بين المقطوع عليهم والأصح أنه مطلق لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وهو يخصه أما هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة حرز واحد " وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء " لظهور حق العبد على ما ذكرناه " فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد " لأن الحرز واحد فصارت القافلة كدار واحدة " ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة فليس بقاطع الطريق " استحسانا وفي القياس يكون قاطع الطريق وهو قول الشافعي رحمه الله لوجوده حقيقة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجب الحد إذا كان خارج المصر وإن كان بقربه لأنه لا يلحقه الغوث وعنه إن قاتلوا نهارا بالسلاح أو ليلا به أو بالخشب فهم قطاع الطريق لأن السلاح لا يلبث والغوث يبطئ بالليالي ونحن نقول إن قطع الطريق يقطع المارة ولا يتحقق ذلك في المصر ويقرب منه لأن الظاهر لحوق الغوث لأنهم يؤخذون برد المال إيصالا للحق إلى المستحق ويؤدبون ويحبسون لارتكابهم الجناية ولو قتلوا فالأمر فيه إلى الأولياء لما بينا " ومن خنق رجلا حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي حنيفة رحمه الله " وهي مسئلة القتل بالمثقل وسنبين في باب الديات إن شاء الله تعالى " وإن خنق في المصر غير مرة قتل به " لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل. والله تعالى أعلم بالصواب.(2/377)
كتاب السير
الجهاد
...
كتاب السير
السير جمع سيرة وهي الطريقة في الأمور وفي الشرع تختص بسير النبي عليه الصلاة والسلام في مغازيه.
قال: " الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين " أما الفرضية فلقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] ولقوله عليه الصلاة والسلام " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " وأراد به فرضا باقيا وهو فرض على الكفاية لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام " فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه " لأن الوجوب على الكل ولأن في اشتغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية " إلا أن يكون النفير عاما " فحينئذ يصير من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: من الآية41] الآية وقال في الجامع الصغير الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم فأول هذا الكلام إشارة إلى الوجوب على الكفاية وآخره إلى النفير العام وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفترض على الكل " وقتال الكفار واجب " وإن لم يبدءوا للعمومات " ولا يجب الجهاد على صبي " لأن الصبا مظنة المرحمة " ولا عبد ولا امرأة " لتقدم حق المولى والزوج " ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن المولى " لأنه صار فرض عين وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم بخلاف ما قبل النفير لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج.
" ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء" لأنه لا يشبه الأجر ولا ضرورة إليه لأن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين.
قال: " فإذا لم يكن فلا بأس بأن يقوي بعضهم بعضا" لأن فيه دفع الضرر الأعلى(2/378)
بإلحاق الأدنى يؤيده أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من صفوان وعمر رضي الله عنه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد والله أعلم بالصواب.(2/379)
باب كيفية القتال
" وإذا دخل المسملون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام " لما روى ابن عباس رضي الله عنما أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام قال " فإن أجابوا كفوا عن قتالهم " لحصول المقصود وقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " الحديث " وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية " به أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمراء الجيوش ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص وهذا في حق من تقبل منه الجزية ومن لا تقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] " فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " لقول علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا والمراد بالبذل القبول وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن والله أعلم.
" ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا أن يدعوه " لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد " فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ولأنهم بالدعوة يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل النسوان والصبيان.
" ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة " مبالغة في الإندار ولا يجب ذلك لأنه صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق وهم غارون وعهد إلى أسامة رضي الله عنه أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق والغارة لا تكون بدعوة قال " فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سليمان بن بريدة " فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية إلى أن قال فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم " ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان به في كل الأمور قال " ونصبوا عليهم المجانيق " كما نصب رسول الله عليه الصلاة ولاسلام على الطائف(2/379)
" وحرقوهم " لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق اليوبرة قال " وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم " لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا.
" ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر " لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه " وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم " لما بينا " ويقصدون بالرمي الكفار " لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا والطاعة بحسب الطاقة وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقرن بالفروض بخلاف حالة المخمصة لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذار الضمان.
قال: " ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كانوا عسكرا عظيما يؤمن عليه " لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق " ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها " لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو " ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد لأن الظاهر عدم التعرض والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة فأما الشواب فقرارهن في البيوت أدفع للفتنة ولا يباشرن القتال لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة ولا يستحب إخراجهن للمباضعة والخدمة فإن كانوا لا بد مخرجبن فبالإماء دون الحرائر.
" ولا تقاتل المرأة إذ بإذن زوجها ولا العبد إلا بإذن سيده " لما بينا "إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة " وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا " والغلول السرقة من المغنم والغدر الخيانة ونقض العهد والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول " ولا يقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى " لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب ولا يتحقق منهم ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف والشافعي رحمه الله تعالى يخالفنا في الشيخ الفاني والمقعد والأعمى لأن المبيح عنده الكفر والحجة عليه ما بينا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل(2/380)
الصبيان والذراري وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال " هذه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت " قال " إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب أو تكون المرأة ملكة " لتعدي ضررها إلى العباد وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره ولأن القتال مبيح حقيقة " ولا يقتلوا مجنونا " لأنه غير مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا لشره غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح.
" ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله " لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإتفاق فيناقضه الإطلاق في إفنائه " فإن أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره " لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم وإن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به لأن مقصوده الدفع ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا فهذا أولى والله أعلم بالصواب.(2/381)
باب الموادعة ومن يجوز أمانه
مدخل
...
باب الموادعة ومن يجوز أمانه
" وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به " لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [لأنفال: 61] ووادع رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها بخلاف ما إذا لم يكن خيرا لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى.
" وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم " لأنه عليه الصلاة والسلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهادا وإيفاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى فلا بد من النبذ تحرزا عن الغدر وقد قال عليه الصلاة والسلام " في العهود وفاء لا غدر " ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن بذلك ينتفي الغدر.
قال: " وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم " لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق(2/381)
ولا منعة لهم حيث لا يكون هذا نقضا للعهد ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد لأنه باتفاقهم معنى.
" وإذا رأى الإمام موادعة أهل الحرب وأن يأخذ على ذلك مالا فلا بأس به " لأنه لما جازت الموادعة بغير المال فكذا بالمال لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة أما إذا لم تكن لا يجوز لما بينا من قبل والمأخوذ من المال يصرف مصارف الجزية هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم بل أرسلوا رسولا لأنه في معنى الجزية أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها ويقسم الباقي بينهم لأنه مأخوذ بالقهر معنى " وأما المرتدون فيوادعهم الإمام حتى ينظر في أمرهم " لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم.
" ولا يأخذ عليه مالا " لأنه لا يجوز أخذ الجزية منهم لما تبين " ولو أخذه لم يرده " لأنه مال غير معصوم ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية وإلحاق المذلة بأهل الإسلام إلا إذا خاف الهلاك لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن.
ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب ولا يجهز إليهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك وكذا الكراع لما بينا وكذا الحديد لأنه أصل السلاح وكذا بعد الموادعة لأنها على شرف النقض أو الانقض فكانا حربا علينا وهذا هو القياس في الطعام والثوب إلا أنا عرفناه بالنص فإنه عليه الصلاة والسلام أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه.(2/382)
فصل في الأمان
...
فصل
" إذا أمن رجل حرا وامرأة حرا كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يكن لأحد من المسلمين قتالهم " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بدمتهم أدناهم " أي أقلهم وهو الواحد ولأنه من أهل القتال فيخافونه إذ هو من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ثم يتعدى إلى غيره ولأن سببه لا يتجزأ وهو الإيمان وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح.
قال: " إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم " كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى(2/382)
المصلحة في النبذ وقد بيناه ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام الأمان لما بينا ويؤدبه الإمام لا فتيانه على رأيه بخلاف ما إذا كان فيه نظر لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا.
" ولا يجوز أمان ذمي " لأنه متهم بهم وكذا لا ولاية له على المسلمين قال " ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم " لأنهما مقهوران تحت أيديهم فلا يخافونهما والأمان يختص بمحل الخوف ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا.
" ولا يجوز أمان العبد المحجور عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يأذن له مولاه في القتال وقال محمد رحمه الله يصح " وهو قول الشافعي رحمه الله وأبو يوسف رحمه الله معه في رواية ومع أبي حنيفة رحمه الله في رواية لمحمد رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " أمان العبد أمان " رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ولأنه مؤمن ممتنع فيصح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال وبالمؤبد من الأمان فالإيمان لكونه شرطا للعبادة والجهاد عبادة والامتناع لتحقق إزالة الخوف به والتأثير إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين إذ الكلام في مثل هذه الحالة وإنما لا يملك المسايفة لما فيه من تعطيل منافع المولى ولا تعطيل في مجرد القول ولأبي حنيفة رحمه الله أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه فلم يلاق الأمان محله بخلاف المأذون له في القتال لأن الخوف منه متحقق ولأنه إنما لا يملك المسايفة لما أنه تصرف في حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه.
والأمان نوع قتال وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ بل هو الظاهر وفيه سد باب الاستغنام بخلاف المأذون لأنه رضي به والخطأ نادر لمباشرته القتال وبخلاف المؤبد لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إليه ولأنه مقابل بالجزية ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك وإسقاط الفرض نفع فافترقا.
ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق والله أعلم بالصواب.(2/383)
باب الغنائم وقسمتها
مدخل
...
باب الغنائم وقسمتها
" وإذا فتح الإمام بلدة عنوة " أي قهرا " فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين " كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر " وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج " كذلك فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة رضي الله عنهم ولم يحمد من خالفه وفي كل من ذلك قدوة فيتخير وقيل الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين والثاني عند عدم الحاجة ليكون عدة في الزمان الثاني وهذا في العقار.
أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه وفي العقار خلاف الشافعي رحمه الله لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادله والخراج غير معادل لقلته بخلاف الرقاب لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه ولأن فيه نظرا لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع ما أنه يحظى به الذين يأتون من بعد والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة.
قال: " وهو في الأسارى بالخيار إن شاء قتلهم " لأنه عليه الصلاة والسلام قد قتل ولأن فيه حسم مادة الفساد " وإن شاء استرقهم " لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام " وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين " لما بيناه " إلا مشركي العرب والمرتدين " على ما نبين إن شاء الله تعالى.
" ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب " لأن فيه تفويتهم على المسلمين فإن أسلموا لا يقتلهم لاندفاع الشر بدونه " وله أن يسترقهم " توفيرا للمنفعة بعد انعقاد سبب الملك بخلاف إسلامهم قبل الأخذ لأنه لم ينعقد السبب بعد.
" ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يفادى بهم أسارى المسلمين " وهو قول الشافعي رحمه الله لأن فيه تخليص المسلم وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به، وله أن فيه معونة للكفرة لأنه يعود حربا عليا ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضاف إلينا أما المفاداة بمال يأخذه منهم لا يجوز في المشهور من المذاهب لما بينا وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالا بأسارى بدر ولو كان أسلم(2/384)
الأسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامهم.
قال: " ولا يجوز المن عليهم " أي على الأسارى خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول من رسول الله عليه الصلاة والسلام على بعض الأسارى يوم بدر ولنا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه بالأسر والقسر ثبت حق الاسترقاق فيه فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض وما رواه منسوخ بما تلونا.
" وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها " وقال الشافعي رحمه الله يتركها لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة ولنا أن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه وبخلاف العقر لأنه مثلة وتحرق الأسلحة أيضا ومالا يحترق منها يدفن في موضع لا يطلع عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم.
" ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام " وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل للإحراز بدار الإسلام عندنا وعنده يثبت ويبتنى على هذا الأصل عدة من المسائل ذكرناها في كفاية المنتهى له أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح كما في الصيود ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد وقد تحقق ولنا أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب والخلاف ثابت فيه والقسمة بيع معني فتدخل تحته ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا ثم قيل موضع الخلاف ترتب الأحكام على القسمة إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد لأن حكم الملك لا يثبت بدونه وقيل الكراهة وهي كراهة تنزيه عند محمد رحمه الله فإنه قال على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تجوز القسمة في دار الحرب وعند محمد رحمه الله الأفضل أن يقسم في دار الإسلام ووجه الكراهة أن دليل البطلان راجح إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز فلا يتعاقد عن إيراث الكراهة.
قال: " والردء والمقاتل في العسكر سواء " لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة على ما عرف وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو غيره لما ذكرنا " وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها " خلافا(2/385)
للشافعي رحمه الله بعد انقضاء القتال وهو بناء على ما مهدناه من الأصل وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالإحراز أو بقسمة الإمام في دار الحرب أو ببيعه المغانم فيها لأن بكل واحد منها يتم الملك فينقطع حق شركة المدد.
قال: " ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا " وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يسهم له لقوله عليه الصلاة والسلام " الغنيمة لمن شهد الوقعة " ولأنه وجد الجهاد معنى بتكثير السواد ولنا أنه لم توجد المجاوزة على قصد القتال فانعدم السبب الظاهر فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال فيفيد الاستحقاق على حسب حاله فارسا أو راجلا عند القتال وما رواه موقوف على عمر رضي الله عنه أو تأويله أن يشهدها على قصد القتال " وإن لم تكن للإمام حمولة تحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها منهم فيقسمها " قال العبد الضعيف هكذا ذكر في المختصر ولم يشترط رضاهم وهو رواية السير الكبير والجملة في هذا أن الإمام إذا وجد في المغنم حمولة يحمل الغنائم عليها لأن الحمولة والمحمول ما لهم وكذا إذا كان في بيت المال فضل حمولة لأنه مال المسلمين ولو كان للغانمين أو لبعضهم لا يجبهرم في رواية السير الصغير لأنه ابتداء إجارة وصار كما إذا نفقت دابته في مفازة ومع رفيقه فضل حمولة ويجبرهم في رواية السير الكبير لأنه دفع الضرر العام بتحميل ضرر خاص " ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب " لأنه لا ملك قبلها وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وقد بينا الأصل.
" ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته " لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الإحراز وإنما الملك بعده وقال الشافعي رحمه الله من مات منهم بعد استقرار الهزيمة يورث نصيبه لقيام الملك فيه عنده وقد بيناه.
قال: " ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام " قال العبد الضعيف أرسل ولم يقيده بالحاجة وقد شرطها في رواية ولم يشترطها في أخرى وجه الأولى أنه مشترك بين الغانمين فلا يباح الانتفاع به إلا للحاجة كما في الثياب والدواب وجه الأخرى قوله عليه الصلاة والسلام في طعام خيبر " كلوها واعلفوها ولا تحملوها " ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو كونه في دار الحرب لأن الغازي لا يستصحب قوت نفسه وعلف ظهره مدة مقامه فيها والميرة منقطعة فبقي على أصل الإباحة للحاجة بخلاف السلاح لأنه يستصحبه فانعدم دليل الحاجة وقد تمس إليه(2/386)
الحاجة فتعتبر حقيقتها فيستعمله ثم يرده في المغنم إذا استغنى عنه والدابة مثل السلاح والطعام كالخبز واللحم وما يستعمل فيه كالسمن والزيت.
قال: " ويستعملوا الحطب " وفي بعض النسخ الطيب " ويدهنوا بالدهن ويوقحوا به الدابة " لمساس الحاجة إلى جميع ذلك " ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح كل ذلك بلا قسمة " وتأويله إذا احتاج إليه بأن لم يكن له سلاح وقد بيناه.
" ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا ولا يتمولونه " لأن البيع يترتب على الملك ولا ملك على ما قدمناه وإنما هو إباحة وصار كالمباح له الطعام وقوله ولا يتمولونه إشارة إلى أنهم لا يبيعونه بالذهب والفضة والعروض لأنه لا ضرورة إلى ذلك فإن باعه أحدهم رد الثمن إلى الغنيمة لأنه بدل عين كانت للجماعة وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة للاشتراك إلا أنه يقسم الإمام بينهم في دار الحرب إذا احتاجوا إلى الثياب والدواب والمتاع لأن المحرم يستباح للضرورة فالمكروه أولى وهذا لأن حق المدد محتمل وحاجة هؤلاء متيقن بها فكان أولى بالرعاية ولم يذكر القسمة في السلاح ولا فرق في الحقيقة فإنه إذا احتاج واحاد يباح له الانتفاع في الفصلين وإن احتاج الكل يقسم في الفصلين بخلاف ما إذا احتاجوا إلى السبي حيث لا يقسم لأن الحاجة إليه من فضول الحوائج.
قال: " ومن أسلم منهم " معناه في دار الحرب " أحرز بإسلامه نفسه " لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق " وأولاده الصغار " لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا " وكل مال هو في يده " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أسلم على مال فهو له " ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه " أو وديعة في يد مسلم أو ذمي " لأنه في يد صحيحة محترمة ويده كيده " فإن ظهرنا على دار الحرب فعقاره فيء " وقال الشافعي رحمه الله هو له لأنه في يده فصار كالمنقول ولنا أن العقار في يد أهل الدار وسلطانها إذ هو من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله هو كغيره من الأموال بناء على أن اليد حقيقة لا تثبت على العقار عندهما وعند محمد تثبت. " وزوجته فيء " لأنها كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام " وكذا حملها فيء " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه مسلم تبعا كالمنفصل ولنا أنه جزؤها فيرق برقها والمسلم محل للتملك تبعا لغيره بخلاف المنفصل لأنه حر لانعدام الجزئية عند ذلك " وأولاده الكبار فيء " لأنهم كفار حربيون ولا تبعية.(2/387)
" ومن قاتل من عبيده فيء " لأنه لما تمرد على مولاه خرج من يده فصار تبعا لأهل دارهم " وما كان من ماله في يد حربي فهو فيء " غصبا كان أو وديعة لأن يده ليست بمحترمة " وما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة وقال محمد رحمه الله لا يكون فيئا " قال العبد الضعيف رحمه الله كذا ذكر الاختلاف في السير الكبير وذكروا في شروح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع قول محمد رحمهما الله لهما أن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومة بالإسلام ألا ترى أنها ليست بمتقومة إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا وإباحة التعرض بعارض شره وقد اندفع بالإسلام بخلاف المال لأنه خلق عرضة للامتهان فكان محلا للتملك وليست في يده حكما فلم تثبت العصمة.
" وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها " لأن الضرورة قد ارتفعت والإباحة باعتبارها ولأن الحق قد تأكد حتى يورث نصيبه ولا كذلك قبل الإخراج إلى دار الإسلام.
" ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة " معناه إذا لم تقسم وعن الشافعي رحمه الله مثل قولنا وعنه أنه لا يرد اعتبارا بالمتلصص ولنا أن الاختصاص ضرورة الحاجة وقد زالت بخلاف المتلصص لأنه كان أحق به قبل الإحراز فكذا بعده وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا إغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد على الغانمين وإن كانوا انتفعوا به بعد الإحراز ترد قيمته إلى المغنم إن كان لم يقسم وإن قسمت الغنيمة بالغني يتصدق بقيمته والفقير لا شيء عليه لقيام القيمة مقام الأصل فأخذ حكمه والله أعلم بالصواب.(2/388)
فصل في كيفية القسمة
قال: " ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها " لقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [لأنفال: من الآية41] استثنى الخمس " ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين " لأنه عليه الصلاة والسلام قسمها بين الغانمين " ثم للفارس سهمان وللراجل سهم " عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال للفارس ثلاثة أسهم " وهو قول الشافعي رحمه الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما ولأن الاستحقاق بالغناء وغناؤه على ثلاثة أمثال الراجل لأنه للكر والفر والثبات والراجل للثبات لا غير ولأبي حنيفة رحمه الله ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه(2/388)
الصلاة والسلام أعطى الفارس سهمين والراجل سهما فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله وقد قال عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان وللراجل سهم كيف وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره لأن الكر والفر من جنس واحد فيكون غناؤه مثلي غناء الراجل فيفضل عليه بسهم ولأنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة لتعذر معرفته فيدار الحكم على سبب ظاهر وللفارس سببان النفس والفرس وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه على ضعفه.
" ولا يسهم إلا لفرس واحد " وقال أبو يوسف رحمه الله يسهم لفرسين لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر ولهما أن البراء بن أوس قاد فرسين فلم يسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد ولأن القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة فلا يكون السبب الظاهر مفضيا إلى القتال عليهما فيسهم لواحد ولهذا لا يسهم لثلاثة أفراس وما رواه محمول على التنفيل كما أعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل " والبراذين والعتاق سواء " لأن الإرهاب مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [لأنفال: 60] واسم الخيل ينطلق على البراذين والعراب والهجين والمقرف إطلاقا واحدا ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفا ففي كل واحد منهما منفعة معتبرة فاستويا.
" ومن دخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه استحق سهم الفرسان ومن دخل راجلا فاشترى فرسا استحق سهم راجل " وجواب الشافعي رحمه الله على عكسه في الفصلين وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الفصل الثاني أنه يستحق سهم الفرسان.
والحاصل أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة وعنده حالة انقضاء الحرب له أن السبب هو القهر والقتال فيعتبر حال الشخص عنده والمجاوزة وسيلة إلى السبب كالخروج من البيت وتعليق الأحكام بالقتال يدل على إمكان الوقوف عليه ولو تعذر أو تعسر تعلق بشهود الوقعة لأنه أقرب إلى القتال ولنا أن المجاوزة نفسها قتال لأنه يلحقهم الخوف بها والحال بعدها حالة الدوام ولا معتبر بها ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر وكذا على شهود الوقعة لأنه حال التقاء الصفين فتقام المجاوزة مقامه إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرا إذا كان على قصد القتال فيعتبر حال الشخص بحالة المجاوزة فارسا كان أو راجلا ولو دخل فارسا وقاتل راجلا لضيق المكان يستحق سهم الفرسان بالاتفاق ولو دخل فارسا(2/389)
ثم باع فرسه أو وهب أو آجر أو رهن ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يستحق سهم الفرسان اعتبارا للمجاوزة وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة لأن الإقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا ولو باعه بعد الفراغ لم يسقط سهم الفرسان وكذا إذا باع في حالة القتال عند البعض والأصح أنه يسقط لأن البيع يدل على أن غرضه التجارة فيه إلا أنه ينتظر عزته.
" ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الإمام " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم ولما استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة يعني أنه لم يسهم لهم ولأن الجهاد عبادة والذمي ليس من أهل العبادة والصبي والمرأة عاجزان عنه ولهذا لم يلحقهما فرضه والعبد لا يمكنه المولى وله منعه إلا أنه يرضخ لهم تحريضا على القتال مع إظهار انحطاط رتبتهم والمكاتب بمنزلة العبد لقيام الرق وتوهم عجزه فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل لأنه دخل لخدمة المولى فصار كالتاجر والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال بخلاف العبد لأنه قادر على حقيقة القتال والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق ولم يقاتل لأن فيه منفعة للمسلمين إلا أنه يزاد على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة ولا يبلغ به السهم إذا قاتل لأنه جهاد والأول ليس من عمله ولا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد.
" وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون ولا يدفع إلى أغنيائهم " وقال الشافعي رحمه الله لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لقوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [لأنفال: 41] من غير فصل بين الغني والفقير ولنا أن الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه وكفى بهم قدوة وقال عليه الصلاة والسلام " يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس " والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض وهم الفقراء والنبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم للنصرة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام علل فقال " إنهم لن يزالوا معي(2/390)
هكذا في الجاهلية والإسلام وشبك بين أصابعه" دل على أن المراد من النص قرب النصرة لا قرب القرابة.
قال: " فأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنه لافتتاح الكلام تبركا باسمه وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط بموته كا سقط الصفي " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده والصفي شيء كان عليه الصلاة والسلام يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية وقال الشافعي رحمه الله يصرف سهم الرسول إلى الخليفة والحجة عليه ما قدمناه.
" وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي عليه الصلاة والسلام بالنصرة " لما روينا قال " وبعده بالفقر ".
قال العبد الضعيف عصمه الله هذا الذي ذكره قول الكرخي وقال الطحاوي رحمه الله سهم الفقير منهم ساقط أيضا لما روينا من الإجماع ولأن فيه معنى الصدقة نظرا إلى المصرف فيحرمه كما يحرم العمالة وجه الأول وقيل هو الأصح ما روي أن عمر رضي الله عنه أعطى الفقراء منهم والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء أما فقراؤهم فيدخلون في الأصناف الثلاثة.
" وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس " لأن الغنيمة هو المأخوذ قهرا وغلبة لا اختلاسا وسرقة والخمس وظيفتها ولو دخل الواحد أو الاثنان بإذن الإمام ففيه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصار كالمنعة " فإن دخلت جماعة لها منعة فأخذوا شيئا خمس وإن لم يأذن لهم الإمام " لأنه مأخوذ قهرا وغلبة فكان غنيمة ولأنه يجب على الإمام أن ينصرهم إذ لو خذلهم كان فيه وهن المسلمين بخلاف الواحد والاثنين لأنه لا يجب عليه نصرتهم والله أعلم بالصواب.(2/391)
فصل في التنفيل
قال: " ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال فيقول من قتل قتيلا فله سلبه ويقول للسرية قد حعلت لكم الربع بعد الخمس " معناه بعد ما رفع الخمس لأن التحريض مندوب إليه قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [لأنفال: 65] وهذا نوع تحريض ثم قد يكون التنفيل بما ذكر وقد يكون بغيره إلا أنه(2/391)
لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ لأن فيه إبطال حق الكل فإن فعله مع السرية جاز لأن التصرف إليه وقد تكون المصلحة فيه.
" ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام " لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز قال " إلا من الخمس " لأنه لا حق للغانمين في الخمس.
" وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة والقاتل وغيره ذلك سواء " وقال الشافعي رحمه الله السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له وقد قتله مقبلا لقوله عليه الصلاة والسلام " من قتل قتيلا فله سلبه " والظاهر أنه نصب شرع لأنه بعث له ولأن القاتل مقبلا أكثر غناء فيختص بسلبه إظهارا للتفاوت بينه وبين غيره ولنا أنه مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمة الغنائم كما نطق به النص وقال عليه الصلاة والسلام لحبيب بن أبي سلمة " ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك " وما رواه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فنحمله على الثاني لما رويناه وزيادة الغناء لا تعتبر في جنس واحد كما ذكرناه.
" والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وكذا ما كان على مركبه من السرج والآلة وكذا ما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو على وسطه وما عدا ذلك فليس بسلب " وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين فأما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدار الإسلام لم مر من قبل حتى لو قال الإمام من أصاب جارية فهي له فأصابها مسلم واستبرأها لم يحل له وطؤها وكذا لا يبيعها وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله له أن يطأها ويبيعها لأن التنفيل يثبت به الملك عنده كما يثبت بالقسمة في دار الحرب وبالشراء من الحربي ووجوب الضمان بالإتلاف قد قيل على هذا الاختلاف والله أعلم بالصواب.(2/392)
باب استيلاء الكفار
" وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها " لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب على ما نبينه إن شاء الله تعالى " فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك " اعتبارا بسائر أملاكهم.
" وإذا غلبوا على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها " وقال الشافعي رحمه الله لا يملكونها لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد(2/392)
سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل " فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا " لقوله عليه الصلاة والسلام فيه " إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة " ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الأخذ نظرا له إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة " وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه به وإن شاء تركه " لأنه يتضرر بالأخذ مجانا ألا ترى أنه قد دفع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلناه ولو اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض ولو وهبوه لمسلم يأخذه بقيمته لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة ولو كان مغنوما وهو يأخذه قبل القسمة ولا يأخذه بعدها لأن الأخذ بالمثل غير مفيد وكذا إذا كان موهوبا لا يأخذه لما بينا وكذا إذا كان مشترى بمثله قدرا ووصفا قال " فإن أسروا عبدا فاشتراه رجل وأخرجه إلى دار الإسلام ففقئت عينه وأخذ أرشها فإن المولى يأخذه بالثمن الذي أخذ به من العدو " أما الأخذ بالثمن فلما قلنا " ولا يأخذ الأرش " لأن الملك فيه صحيح فلو أخذه أخذه بمثله وهو لا يفيد ولا يحط شيء من الثمن لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بخلاف الشفعة لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشترى في يد المشتري بمنزلة المشترى شراء فاسدا والأوصاف تضمن فيه كما في الغصب أما ههنا الملك صحيح فافترقا " وإن أسروا عبدا فاشتراه رجل بألف درهم فأسروه ثانيا وأدخلوه دار الحرب فاشتراه رجل آخر بألف درهم فليس للمولى الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن " لأن الأسر ما ورد على ملكه.
" وللمشتري الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن " لأن الأسر ورد على ملكه " ثم يأخذه المالك القديم بألفين إن شاء " لأنه قام عليه بالثمنين فيأخذه بهما وكذا إذا كان المأسور منه الثاني غائبا ليس للأول أن يأخذه اعتبارا بحال حضرته.
" ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا ونملك عليهم جميع ذلك " لأن السبب إنما يفيد الملك في محله والمحل المال المباح(2/393)
والحر معصوم بنفسه وكذا من سواه لأنه تثبت الحرية فيه من وجه بخلاف رقابهم لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاء ولا جناية من هؤلاء.
" وإذا أبق عبد لمسلم فدخل إليهم فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يملكونه " لأن العصمة لحق المالك لقيام يده وقد زالت ولهذا لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه وله أنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا لأن سقوط اعتباره لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع وقد زالت يد المولى فظهرت يده على نفسه وصار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للملك بخلاف المتردد لأن يد المولى باقية عليه لقيام يد أهل الدار فمنع ظهور يده وإذا لم يثبت الملك لهم عند أبي حنيفة رحمه الله يأخذه المالك القديم بغير شيء موهوبا كان أو مشترى أو مغنوما قبل القسمة وبعد القسمة يؤدى عوضه من بيت المال لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم وليس له على المالك جعل الآبق لأنه عامل لنفسه إذ في زعمه أنه ملكه " وإن ند بعير إليهم فأخذوه ملكوه " لتحقق الاستيلاء إذ لا بد للعجماء لتظهر عند الخروج من دارنا بخلاف العبد على ما ذكرنا وإن اشتراه رجل وأدخله دار الإسلام فصاحبه يأخذه بالثمن إن شاء" لما بينا " فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله واشترى رجل ذلك كله وأخرجه إلى دار الإسلام فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء والفرس والمتاع بالثمن وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يأخذ العبد وما معه بالثمن إن شاء " اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد وقد بينا الحكم في كل فرد.
" وإذا دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق " لأن الإزالة كانت مستحقة بطريق معين وهو البيع وقد انقطعت ولاية الجبر عليه فبقي في يده عبدا ولأبي حنيفة رحمه الله أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب فيقام الشرط وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الإعتاق تخليصا له كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب.
" وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار " لما روي أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقضى بعتقهم وقال " هم عتقاء الله " ولأنه أحرز نفسه بالخروج إلينا مراغما لمولاه أو بالالتحاق بمنعة المسلمين إذا ظهر على الدار واعتبار يده أولى من اعتبار يد المسلمين لأنها أسبق ثبوتا على نفسه فالحاجة في حقه إلى زيادة توكيد وفي حقهم إلى إثبات اليد ابتداء فلهذا كان أولى والله أعلم بالصواب.(2/394)
باب المستأمن
مدخل
...
باب المستأمن
" وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم " لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا والغدر حرام إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم أو حبسهم أو فعل غيره بعلم الملك ولم يمنعه لأنهم هم الذين نقضوا العهد بخلاف الأسير لأنه غير مستأمن فيباح له التعرض وإن أطلقوه طوعا " فإن غدر بهم " أعني التاجر " أخذ شيئا وخرج به ملكه ملكا محظورا " لورود الاستيلاء على مال مباح إلا أنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثا فيه فيؤمر بالتصدق به وهذا لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه.
" وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه حربي أو أدان هو حربيا أو غصب أحدهما صاحبه ثم خرج إلينا واستأمن الحربي لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء " أما الإدانة فلأن القضاء يعتمد الولاية ولا ولاية وقت الإدانة أصلا ولا وقت القضاء على المستأمن لأنه ما التزم حكم الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنما التزم ذلك في المستقبل وأما الغصب فلأنه صار ملكا للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالا غير معصوم على ما بيناه وكذلك لو كانا حربيين فعلا ذلك ثم خرجا مستأمنين لما قلنا " ولو خرجا مسلمين قضي بالدين بينهما ولم يقض بالغصب " أما المداينة فلأنها وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالإسلام وأما الغصب فلما بينا أنه ملكه ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد.
" وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيا ثم خرجا مسلمين أمر برد الغصب ولم يقض عليه " أما عدم القضاء فلما بينا أنه ملكه وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به فلأنه فسد الملك لما يقارنه من المحرم وهو نقض العهد.
" وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدا أو خطأ فعلى القاتل الدية في ماله وعليه الكفارة في الخطأ " أما الكفارة فلإطلاق الكتاب وأما الدية فلأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان وإنما لا يجب القصاص لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب وإنما تجب الدية في ماله في العمد لأن العواقل لا تعقل العمد وفي الخطأ لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين والوجوب عليهم على اعتبار تركها " وإن كانا أسيرين فقتل أحدهما صاحبه " أو قتل مسلم تاجر أسيرا " فلا شيء على(2/395)
القاتل لا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد " لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر كما لا تبطل بعارض الاستئمان على ما بيناه وامتناع القصاص لعدم المنعة وتجب الدية في ماله لما قلنا ولأبي حنيفة رحمه الله أن بالأسر صار تبعا لهم لصيرورته مقهورا في أيديهم ولهذا يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم فيبطل به الإحراز أصلا وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا وخص الخطأ بالكفارة لأنه لا كفارة في العمد عندنا والله أعلم بالصواب.(2/396)
فصل وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا إلخ
...
فصل
قال: " وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة ويقول له الإمام إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية " والأصل أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية لأنه يصير عينا لهم وعونا علينا فتلتحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة لأن في منعها قطع الميرة والجلب وسد باب التجارة ففصلنا بينهما بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية ثم إن رجع بعد مقالة الإمام قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه وإذا مكث سنة فهو ذمي لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزما للجزية فيصير ذميا وللإمام أن يؤقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين " وإذا أقامها بعد مقالة الإمام يصير ذميا " لما قلنا " ثم لا يترك أن يرجع إلى دار الحرب " لأن عقد الذمة لا ينقض كيف وأن فيه قطع الجزية وجعل ولده حربا علينا وفيه مضرة بالمسلمين " فإن دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي " لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس فإذا التزمه صار ملتزما المقام في دارنا أما بمجرد الشراء فلا يصير ذميا لأنه قد يشتريها للتجارة وإذا لزمه خراج الأرض فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة لأنه يصير ذميا بلزوم الخراج فتعتبر المدة من وقت وجوبه وقوله في الكتاب فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي تصريح بشرط الوضع فيتخرج عليه أحكام جمة فلا تغفل عنه.
" وإذا دخلت حربية بأمان فتزوجت ذميا صارت ذمية " لأنها التزمت المقام تبعا للزوج " وإذا دخل حربي بأمان فتزوج ذمية لم يصر ذميا " لأنه يمكنه أن يطلقها فيرجع إلى بلده فلم يكن ملتزما المقام.
" ولو أن حربيا دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو دينا في ذمتهم فقد صار دمه مباحا بالعود " لأنه أبطل أمانه " وما في دار الإسلام من ماله(2/396)
على خطر فإن أسر أو ظهر على الدار فقتل سقطت ديونه وصارت الوديعة فيئا " أما الوديعة فلأنها في يده تقديرا لأن يد المودع كيده فيصير فيئا تبعا لنفسه وأما الدين فلأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة فيختص به فيسقط " وإن قتل ولم يظهر على الدار فالقرض والوديعة لورثته " وكذلك إذا مات لأن نفسه لم تصر مغنومة فكذلك ماله وهذا لأن حكم الأمان باق في ماله عليه أو على ورثته من بعده.
قال: " وما أوجف المسلمون عليه من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف الخراج " قالوا هو مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها والجزية ولا خمس في ذلك وقال الشافعي رحمه الله فيها الخمس اعتبارا بالغنيمة ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ الجزية وكذا عمر ومعاذ رضي الله عنهما ووضع في بيت المال ولم يخمس ولأنه مال مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال بخلاف الغنيمة لأنه مملوك بمباشرة الغانمين وبقوة المسلمين فاستحق الخمس بمعنى واستحتقه الغانمون بمعنى وفي هذا السبب واحد وهو ما ذكرناه فلا معنى لإيجاب الخمس.
" وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار ومال أودع بعضه ذميا وبعضه حربيا وبعضه مسلما فأسلم ههنا ثم ظهر على الدار فذلك كله فيء " أما المرأة وأولاده الكبار فظاهر لأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملا لما قلنا من قبل وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه لاختلاف الدارين فبقي الكل فيئا وغنيمة " وإن أسلم في دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون " تبعا لأبيهم لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم إذ الدار واحدة " وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له " لأنه في يد محترمة ويده كيده " وما سوى ذلك فيء " أما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا وأما المال الذي في يد الحربي فلأنه لم يصر معصوما لأن يد الحربي ليست يدا محترمة.
" وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون هناك فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ " وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد لأنه أراق دما معصوما " لوجود العاصم وهو الإسلام " لكونه مستجلبا للكرامة وهذا لأن العصمة أصلها المؤثمة لحصول أصل الزجر بها وهي ثابتة إجماعا والمقومة كمال فيه لكمال الامتناع به فيكون وصفا فيه فتتعلق بما علق به الأصل. ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية،(2/397)
جعل التحرير كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء أو إلى كونه كل المذكور فينتفي غيره ولأن العصمة المؤثمة بالآدمية لأن الآدمي خلق متحملا أعباء التكليف والقيام بها بحرمة التعرض والأموال تابعة لها أما المقومة فالأصل فيها الأموال لأن التقوم يؤذن بجبر الفائت وذلك في الأموال دون النفوس لأن من شرطه التماثل وهو في المال دون النفس فكانت النفوس تابعة ثم العصمة المقومة في الأموال بالإحراز بالدار لأن العزة بالمنعة فكذلك في النفوس إلا أن الشرع أسقط اعتبار منعة الكفرة لما أنه أوجب إبطالها والمرتد والمستأمن في دارنا من أهل دارهم حكما لقصدهما الانتقال إليها.
" ومن قتل مسلما خطأ لا ولي له أو قتل حربيا دخل إلينا بأمان فأسلم الدية على عاقلته للإمام وعليه الكفارة " لأنه قتل نفسا معصومة خطأ فتعتبر بسائر النفوس المعصومة ومعنى قوله للإمام أن حق الأخذ له لأنه لا وارث له " وإن كان عمدا فإن شاء الإمام قتله وإن شاء أخذ الدية " لأن النفس معصومة والقتل عمد والولي معلوم وهو العامة أو السلطان قال عليه الصلاة والسلام " السلطان ولي من لا ولي له " وقوله وإن شاء أخذ الدية معناه بطريق الصلح لأن موجب العمد هو القود عينا وهذا لأن الدية أنفع في هذه المسألة من القود فلهذا كان له ولاية الصلح على المال " وليس له أن يعفو " لأن الحق للعامة وولايته نظرية وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض والله أعلم بالصواب.(2/398)
باب العشر والخراج
قال: " أرض العرب كلها أرض عشر وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام والسواد أرض خراج وهو ما بين العذيب إلى عقبة حلوان ومن الثعلبية ويقال من العلث إلى عبادان " لأن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوا الخراج من أراضي العرب ولأنه بمنزلة الفيء فلا يثبت في أراضيهم كما لا يثبت في رقابهم وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وعمر رضي الله عنه حين فتح السواد وضع الخراج عليها بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ووضع على مصر حين افتتحها عمرو بن العاص وكذا اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على وضع الخراج على الشام.
قال: " وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها " لأن الإمام إذا(2/398)
فتح أرضا عنوة وقهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليها وعلى رءوسهم الخراج فتبقى الأراضي مملوكة لأهلها وقد قدمناه من قبل.
قال: " وكل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهي أرض عشر " لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به لما فيه من معنى العبادة وكذا هو أخف حيث يتعلق بنفس الخارج.
" وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج " وكذا إذا صالحهم لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به ومكة مخصوصة من هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف الخراج.
" وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج ومالم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر " لأن العشر يتعلق بالأرض النامية ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج.
قال: " ومن أحيا أرضا مواتا فهي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى معتبرة بحيزها فإن كانت من حيز أرض الخراج " ومعناه بقربه " فهي خراجية وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية " والبصرة عنده عشرية بإجماع الصحابة رضي الله عنهم لأن حيز الشيء يعطي له حكمه كفناء الدار يعطى له حكم الدار حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به وكذا لا يجوز أخذ ما قرب من العامر وكان القياس في البصرة أن تكون خراجية لأنها من حيز أرض الخراج إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وظفوا عليها العشر فترك القياس لإجماعهم " وقال محمد رحمه الله إن أحياها ببئر حفرها أو بعين استخرجها أو ماء دجلة أو الفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد فهي عشرية " وكذا إن أحياها بماء السماء " وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم " مثل نهر الملك ونهر يزدجرد " فهي خراجية " لما ذكرنا من اعتبار الماء إذ هو السبب للنماء ولأنه لا يمكن توظيف الخراج ابتداء على المسلم كرها فيعتبر في ذلك الماء لأن السقي بماء الخراج دلالة التزامية.
قال: " والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل جريب يبلغه الماء قفيز هاشمي وهو الصاع ودرهم ومن جريب الرطبة خمسة دراهم ومن جريب الكرم المتصل والنخيل المتصل عشرة دراهم " وهذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه فإنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق وجعل حذيفة مشرفا عليه فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب ووضع على ذلك ما قلنا وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي(2/399)
الله عنهم من غير نكير فكان إجماعا منهم ولأن المؤن متفاوتة فالكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة والرطاب بينهما والوظيفة تتفاوت بتفاوتها فجعل الواجب في الكرم أعلاها وفي الزرع أدناها وفي الرطبة أوسطها.
قال: " وما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران والبستان وغيره يوضع عليها بحسب الطاقة " لأنه ليس فيه توظيف عمر رضي الله عنه وقد اعتبر الطاقة في ذلك فنعتبرها فيما لا توظيف فيه قالوا ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه لأن التنصيف عين الإنصاف لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين والبستان كل أرض يحوطها حائط وفيها نخيل متفرقة وأشجار أخر وفي ديارنا وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شيء كان.
قال: " فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام " والنقصان عند قلة الريع جائز بالإجماع ألا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق فقالا لا بل حملناها ما تطيق ولو زدنا لأطاقت وهذا يدل على جواز النقصان.
وأما الزيادة عند زيادة الريع يجوز عند محمد رحمه الله اعتبارا بالنقصان وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز لأن عمر رضي الله عنه لم يزد حين أخبر بزيادة الطاقة " وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة فلا خراج عليه " لأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء بالتقديري في بعض الحول وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج.
قال: " وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج " لأن التمكن كان ثابتا وهو الذي فوته.
قالوا: من انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر فعليه خراج الأعلى لأنه هو الذي ضيع الزيادة وهذا يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس " ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله " لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة في حالة البقاء فأمكن إبقاؤه على المسلم " ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي ويؤخذ منه الخراج " لما قلنا وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم عن غير كراهة " ولا عشر في الخارج من أرض الخراج " وقال الشافعي رحمه الله يجمع بينهما لأنهما حقان مختلفان وجبا في محلين بسببين مختلفين فلا يتنافيان ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع(2/400)
عشر وخراج في أرض مسلم " ولأن أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما وكفى بإجماعهم حجة ولأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهرا والعشر في أرض أسلم أهلها طوعا والوصفان لا يجتمعان في ارض واحدة وسبب الحقين واحد وهو الأرض النامية إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقا وفي الخراج تقديرا ولهذا يضافان إلى الأرض وعلى هذا الخلاف الزكاة مع أحدهما " ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج في سنة " لأن عمر رضي الله عنه لم يوظفه مكررا بخلاف العشر لأنه لا يتحقق عشرا إلا بوجوبه في كل خارج والله أعلم بالصواب.(2/401)
باب الجزية
" وهي على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق " كما صالح رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب هو التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق " وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني للظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم وعلى وسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما في كل شهر درهما " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار الغني والفقير في ذلك سواء لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر من غير فصل " ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان وهذا المعنى ينتظم الفقير والغني ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة بالنفس والمال وذلك يتفاوت بكثرة الوفر وقلته فكذا ما هو بدله وما رواه محمول على أنه كان ذلك صلحا ولهذا أمره بالأخذ من الحالمة وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية.
قال: " وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس " لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] الآية ووضع رسول الله عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس.
قال: " وعبدة الأوثان من العجم " وفيه خلاف الشافعي رحمه الله هو يقول إن القتال(2/401)
واجب لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدى إلى المسلمين ونفقته في كسبه " وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء " لجواز استرقاقهم.
" ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين " لأن كفرهما قد تغلظ أما مشركو العرب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعد ما هدى للإسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة وعند الشافعي رحمه الله يسترق مشركو العرب وجوابه ما قلنا.
" وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء " لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين " ومن لم يسلم من رجالهم قتل " لما ذكرنا.
" ولا جزية على امرأة ولا صبي " لأنها وجبت بدلا عن القتل أو عن القتال وهما لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية.
قال: " ولا زمن ولا أعمى " وكذا المفلوج والشيخ الكبير لما بينا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجب إذا كان له مال لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي " ولا على فقير غير معتمل " خلافا للشافعي رحمه الله له إطلاق حديث معاذ رضي الله عنه ولنا أن عثمان رضي الله عنه لم يوظفها على فقير غير معتمل وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولأن خراج الأرض لا يوظف على أرض لا طاقة لها فكذا هذا الخراج والحديث محمول على المعتمل.
" ولا توضع على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد " لأنه بدل عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا وعلى اعتبار الثاني لا تجب فلا تجب بالشك " ولا يؤدى عنهم مواليهم " لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم " ولا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس " كذا ذكر ههنا وذكر محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يوضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف رحمه الله وجه الوضع عليهم أن القدرة على العمل هو الذي ضيعها فصار كتعطيل الأرض الخراجية ووجه الوضع عنهم أنه لا قتل عليهم إذا كانوا(2/402)
لا يخالطون الناس والجزية في حقهم لإسقاط القتل ولا بد أن يكون المعتمل صحيحا ويكتفى بصحته في أكثر السنة.
" ومن أسلم وعليه جزية سقطت عنه " وكذلك إذا مات كافرا خلافا للشافعي رحمه الله فيهما له أنها وجبت بدلا عن العصمة أو عن السكنى وقد وصل إليه المعوض فلا يسقط عنه العوض بهذا العارض كما في الأجرة والصلح عن دم العمد ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس على مسلم جزية " ولأنها وجبت عقوبة على الكفر ولهذا تسمى جزية وهي والجزاء واحد وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام بعد الموت ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع لاشر وقد اندفع بالموت والإسلام ولأنها وجبت بدلا عن النصرة في حقنا وقد قدر عليها بنفسه بعد الإسلام والعصمة تثبت بكونه آدميا والذمي يسكن ملك نفسه فلا معنى لإيجاب بدل العصمة والسكنى " وإن اجتمعت عليه الحولان تداخلت وفي الجامع الصغير ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت سنة أخرى لم يؤخذ " وهذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يؤخذ منه وهو قول الشافعي رحمه الله.
" وإن مات عند تمام السنة لم يؤخذ منه في قولهم جميعا وكذلك إن مات في بعض السنة ".
أما مسألة الموت فقد ذكرناها وقيل خراج الأرض على هذا الخلاف وقيل لا تداخل فيه بالاتفاق لهما في الخلافية أن الخراج وجب عوضا والأعواض إذا اجتمعت وأمكن استيفاؤها تستوفى وقد أمكن فيما نحن فيه بعد توالي السنين بخلاف ما إذا أسلم لأنه تعذر استيفاؤه.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنها وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر على ما بيناه ولهذا لا تقبل منه لو بعث على يد نائبه في أصح الروايات بل يكلف أن يأتي به بنفسه فيعطي قائما والقابض منه قاعد وفي رواية يأخذ بتلبيبه ويهزه هزا ويقول أعط الجزية يا ذمي فثبت أنه عقوبة والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود ولأنها وجبت بدلا عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا كما ذكرنا لكن في المستقبل لا في الماضي لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغنية عنه ثم قول محمد رحمه الله في الجزية في الجامع الصغير وجاءت سنة أخرى حمله بعض المشايخ رحمهم الله على المضي مجازا وقال الوجوب بآخر السنة فلا بد من المضي(2/403)
ليتحقق الاجتماع فتتداخل وعند البعض هو مجرى على حقيقته والوجوب عند أبي حنيفة رحمه الله بأول الحول فيتحقق الاجتماع بمجرد المجيء والأصح أن الوجوب عندنا في ابتداء الحول وعند الشافعي رحمه الله في آخر اعتبارا بالزكاة.
ولنا أن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناه في أوله والله أعلم بالصواب.(2/404)
فصل
" ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة " والمراد إحداثها " وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها " لأن الأبنية لا تبقى دائما ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة إلا أنهم لا يمكنون من نقلها لأنه إحداث في الحقيقة والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة بخلاف موضع الصلاة في البيت لأنه تبع للسكنى وهذا في الأمصار دون القرى لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا تعارض بإظهار ما يخالفها وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا لأن فيها بعض الشعائر والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ".
قال: " ويؤخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم فلا يركبون الخيل ولا يعملون بالسلاح وفي الجامع الصغير ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السروج التي هي كهيئة الأكف " وإنما يؤخذون بذلك إظهارا للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين ولأن المسلم يكرم والذمي يهان ولا يبتدأ بالسلام ويضيق عليه الطريق فلو لم تكن علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين وذلك لا يجوز والعلامة يجب أن تكون خيطا غليظا من الصوف يشده على وسطه دون الزنار من الإبريسم فإنه جفاء في حق أهل الإسلام ويجب أن يتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات ويجعل على دورهم علامات كيلا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة قالوا الأحق أن لا يتركوا أن يركبوا إلا للضرورة وإذا ركبوا للضرورة فلينزلوا في مجامع المسلمين فإن لزمت الضرورة اتخذوا سروجا بالصفة التي تقدمت ويمنعون من لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف.
" ومن امتنع من الجزية أو قتل مسلما أو سب النبي عليه الصلاة والسلام أو زنى(2/404)
بمسلمة لم ينتقض عهده " لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها والالتزام باق وقال الشافعي رحمه الله سب النبي عليه الصلاة والسلام يكون نقضا لأنه لو كان مسلما ينقض إيمانه فكذا ينقض أمانه إذ عقد الذمة خلف عنه ولنا أن سب النبي عليه الصلاة والسلام كفر منه والكفر المقارن لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه قال " ولا ينقض العهد إلا أن يلتحق بدار الحرب أو يغلبوا على موضع فيحاربوننا " لأنهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وهو دفع شر الحراب.
" وإذا نقض الذمي العهد فهو بمنزلة المرتد " معناه في الحكم بموته باللحاق لأنه التحق بالأموات وكذا في حكم ما حمله من ماله إلا أنه لو أسر يسترق بخلاف المرتد والله أعلم بالصواب.(2/405)
فصل ونصارى بني تغلب يؤخذ من أمواهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة
...
فصل
" ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة " لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم " ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم " لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف وقال زفر رحمه الله لا يؤخذ من نسائهم أيضا وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه جزية في الحقيقة على ما قال عمر رضي الله عنه هذه جزية فسموها ما شئتم ولهذا تصرف مصارف الجزية ولا جزية على النسوان ولنا أنه مال وجب بالصلح والمرأة من أهل وجوب مثله عليها والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يختص بالجزية ألا ترى أنه لا يراعى فيه شرائطها " ويوضع على مولى التغلبي الخراج " أي الجزية " وخراج الأرض بمنزلة مولى القرشي " وقال زفر رحمه الله يضاعف لقوله عليه الصلاة والسلام " إن مولى القوم منهم " ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق في حق حرمة الصدقة ولنا أن هذا تخفيف والمولى لا يلحق بالأصل فيه ولهذا توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرانيا بخلاف حرمة الصدقة لأن الحرمات تثبت بالشبهات فألحق المولى بالهاشمي في حقه ولا يلزم مولى الغني حيث لا تحرم عليه الصدقة لأن الغني من أهلها وإنما الغني مانع ولم يوجد في حق المولى أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا لأنه صين لشرفه وكرامته عن أوساخ الناس فألحق به مولاه.
قال: " وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطر إلا الجسور ويعطى(2/405)
قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم " لأنه مال بيت المال فإنه وصل إلى المسلمين من غير قتال وهو معد لمصالح المسلمين وهؤلاء عملتهم ونفقة الذراري على الآباء فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب فلا يتفرغون للقتال.
" ومن مات في نصف السنة فلا شيء له من العطاء " لأنه نوع صلة وليس بدين ولهذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي والله أعلم.(2/406)
باب أحكام المرتدين
قال: " وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة كشفت عنه " لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح وفيه دفع شره بأحسن الأمرين إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب لأن الدعوة بلغته.
قال: " ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل وفي الجامع الصغير المرتد يعرض عليه الإسلام حرا كان أو عبدا فإن أبى قتل " وتأويل الأول أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لإبلاء الأعذار وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وعن الشافعي رحمه الله أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه التأمل فقدرناها بالثلاثة ولنا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال وكذا قوله عليه الصلاة والسلام " من بدل دينه فاقتلوه " ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال وهذا لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام لأنه لا دين له ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود قال " فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره ولا شيء على القاتل " ومعنى الكراهية ههنا ترك المستحب وانتفاء الضمان لأن الكفر مبيح للقتل والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب.
" وأما المرتدة فلا تقتل " وقال الشافعي رحمه الله تقتل لما روينا ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنه جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء ولأن الأصل تأخير الجزية إلى دار الآخرة إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء وإنما عدل عنه دفعا لشر(2/406)
ناجز وهو الحراب ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال فصارت المرتدة كالأصلية قال " ولكن تحبس حتى تسلم " لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفائه بالحبس كما في حقوق العباد.
" وفي الجامع الصغير وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة والأمة يجبرها مولاها " أما الجبر فلما ذكرنا ومن المولى لما فيه من الجمع بين الحقين ويروى تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام.
قال: " ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالا مراعى فإن أسلم عادت إلى حالها قالوا هذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يزول ملكه " لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل يبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل ولا قتل إلا بالحراب وهذا يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه.
قال: " وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله كلاهما لورثته " وقال الشافعي رحمه الله كلاهما فيء لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر ثم هو مال حربي لا أمان له فيكون فيئا ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه فينتقل بموته إلى ورثته ويستند إلى ما قبيل ردته إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها ومن شرطه وجوده ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة وبقي وارثا إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله اعتبارا للاستناد وعنه أنه يرثه من كان وارثا له عند الردة ولا يبطل استحقاقه بموته بل يخلفه وارثه لأن الردة بمنزلة الموت وعنه أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض وترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة لأنه يصير فارا وإن كان صحيحا وقت الردة والمرتدة كسبها لورثتها لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء بخلاف المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت،(2/407)
وهي مريضة لقصدها إبطال حقه وإن كانت صحيحة لا يرثها لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة بخلاف المرتد.
قال: " وإن لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين " وقال الشافعي رحمه الله يبقى ماله موقوفا كما كان لأنه نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام ولنا أنه باللحاق صار من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به وهي ما ذكرناها كما في الموت الحقيقي ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد رحمه الله لأن اللحاق هو السبب والقضاء لتقرره بقطع الاحتمال وقال أبو يوسف رحمه الله وقت القضاء لأنه يصير موتا بالقضاء والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف " وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته " قال العبد الضعيف عصمه الله هذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعنه أنه يبدأ بكسب الإسلام وإن لم يف بذلك يقضى من كسب الردة وعنه على عكسه وجه الأول أن المستحق بالسببين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بالغنم وجه الثاني أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث فيقدم الدين عليه أما كسب الردة فليس بمملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة عنده فلا يقضى دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فحينئذ يقضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك ههنا وجه الثالث أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه فكان قضاء الدين منه أولى إلا إذا تعذر بأن لم يف به فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما والله أعلم.
قال: " وما باعه أو اشتراه أو أعتقه أو وهبه أو رهنه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف فإن أسلم صحت عقوده وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ما صنع في الوجهين.
اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام:(2/408)
نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية.
وباطل بالاتفاق: كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة له.
وموقوف بالاتفاق: كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة بين المسلم والمرتد مالم يسلم.
ومختلف في توقفه وهو ما عددناه لهما أن الصحة تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا وكذا الملك لقيامه قبل موته على ما قررناه من قبل ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه ولو مات ولده بعد الردة قبل الموت لا يرثه فيصح تصرفاته قبل المدة إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله تصح كما تصح من الصحيح لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل وصار كالمرتدة وعند محمد رحمه الله تصح كما تصح من المريض لأن من انتحل إلى نحلة لا سيما معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه فيفضي إلى القتل ظاهرا بخلاف المرتدة لأنها لا تقتل ولأبي حنيفة رحمه الله أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك وتوقف التصرفات بناء عليه وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤخذ ويقهر وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله فكذا المرتد واستحقاقه القتل لبطلان سبب العصمة في الفصلين فأوجب خللا في الأهلية بخلاف الزاني وقاتل العمد لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية وبخلاف المرأة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل " فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلما فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه " لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه وإذا عاد مسلما احتاج إليه فيقدم عليه بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض ولو جاء مسلما قبل أن يقضي القاضي بذلك فكأنه لم يزل مسلما لما ذكرنا.
" وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد فادعاه فهي أم ولد له والولد حر وهو ابنه ولا يرثه وإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب " أما صحة الاستيلاد فلما قلنا وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له لقربه إلى الإسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد والمرتد لا يرث المرتد أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا والمسلم يرث المرتد " وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك المال فهو فيء فإن لحق ثم رجع وأخذ مالا وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال(2/409)
فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم " لأن الأول مال لم يجر فيه الإرث والثاني انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه فكان الوارث مالكا قديما.
" وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة والمكاتبة والولاء للمرتد الذي أسلم " لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ فجعلنا الوارث الذي هو خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه.
" وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا الدية فيما اكتسبه في حالة الإسلام والردة جميعا " لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة فتكون في ماله وعندهما الكسبان جميعا ماله لنفوذ تصرفاته في الحالين ولهذا يجري الإرث فيهما عندهما وعنده ماله المكتسب في الإسلام لنفاذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه ولهذا كان الأولى ميراثا عنه والثاني فيئا عنده.
" وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد والعياذ بالله ثم مات على ردته من ذلك أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فمات من ذلك فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة " أما الأول فلأن السراية حلت محلا غير معصوم فأهدرت بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك لأن الإهدار لا يحلقه الاعتبار أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء فكذا بالردة وأما الثاني وهو ما إذا لحق ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه صار ميتا تقديرا والموت يقطع السراية وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى قال " فإن لم يلحق وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر في جميع ذلك نصف الدية لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان كما إذا قطع يد مرتد فأسلم ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس كما إذا لم تتخلل الردة وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب وفي حال ثبوت الحكم وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين.
" وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ بماله وأبى أن يسلم فقتل فإنه يوفي مولاه مكاتبته وما بقي فلورثته " وهذا ظاهر على أصلهما لأن كسب الردة ملكه إذا(2/410)
كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا وأما عند أبي حنيفة فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة والكتابة لا تتوقف بالردة فكذا أكسابه ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق فكذا بالأدنى بطريق الأولى.
" وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ بالله ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب وولدت ولدا وولد لولدهما ولد فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء" لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها ويجبر الولد الأول على الإسلام ولا يجبر ولد الولد وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يجبر تبعا للجد وأصله التبعية في الإسلام وهي رابعة أربع مسائل كلها على الروايتين والثانية صدقة الفطر والثالثة جر الولاء والأخرى الوصية بالقرابة.
قال: " وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويجبر على الإسلام ولا يقتل وإسلامه إسلام لا يرث أبويه إن كانا كافرين وقال أبو يوسف ارتداده ليس بارتداد وإسلامه إسلام " وقال زفر والشافعي رحمهما الله إسلامه ليس بإسلام وارتداده ليس بارتداد لهما في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا ولأنه يلزمه أحكاما تشوبها المضرة فلا يؤهل له ولنا فيه أن عليا رضي الله عنه أسلم في صباه وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخاره بذلك مشهور ولأنه أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه لأن الإقرار عن طوع دليل على الاعتقاد على ما عرف والحقائق لا ترد وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي ثم يبتنى عليه غيرها فلا يبالي بشوبه ولهم في الردة أنها مضرة محضة بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف رحمه الله لأنه تعلق به أعلى المنافع على ما مر ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فيها أنها موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له ولا يقتل لأنه عقوبة والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم وهذا في الصبي الذي يعقل ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده لأن إقراره لا يدل على تغير العقيدة وكذا المجنون والسكران الذي لا يعقل والله أعلم بالصواب.(2/411)
باب البغاة
" وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم " لأن عليا رضي الله عنه فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم(2/411)
ولأنه أهون الأمرين ولعل الشر يندفع به فيبدأ به " ولا يبدأ بقتال حتى يبدءوه فإن بدءوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم " قال العبد الضعيف هكذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز حتى يبدءوا بالقتال حقيقة لأنه لا يجوز قتل المسلم إلا دفعا وهم مسلمون بخلاف الكافر لأن نفس الكفر مبيح عنده ولنا أن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع والامتناع وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة " فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم وأتبع موليهم " دفعا لشرهم كيلا يلتحقوا بهم " وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم " لاندفاع الشر دونه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز ذلك في الحالين لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعا وجوابه ما ذكرناه أن المعتبر دليله لا حقيقته " ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال " لقول علي رضي الله عنه يوم الجمل ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وهو القدرة في هذا الباب وقوله في الأسير تأويله إذا لم يكن لهم فئة فإن كانت يقتل الإمام الأسير وإن شاء حبسه لما ذكرنا ولأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال.
" ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز والكراع على هذا الخلاف له أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه ولنا أن عليا رضي الله عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة ففي مال الباغي أولى والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الأعلى.
" ويحبس الإمام أموالهم فلا يردها عليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم " أما عدم القسمة فلما بيناه وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم ولهذا يحبسها عنهم وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها.
قال: " وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانيا " لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية ولم يحمهم " فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ(2/412)
من أخذ منه " لوصول الحق إلى مستحقه " وإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك " لأنه لم يصل إلى مستحقه.
قال العبد الضعيف رحمه الله قالوا الإعادة عليهم في الخراج لأنهم مقاتلة فكانوا مصارف وإن كانوا أغنياء وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك لأنه حق الفقراء وقد بيناه في الزكاة وفي المستقبل يأخذه الإمام لأنه يحميهم فيه لظهور ولايته.
" ومن قتل رجلا وهما من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم فليس عليهم شيء " لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب " وإن غلبوا على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلا من أهل المصر عمدا ثم ظهر على المصر فإنه يقتص منه " وتأويله: إذا لم يجر على أهله أحكامهم وأزعجوا قبل ذلك وفي ذلك لم تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص.
" وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه فإن قتله الباغي وقال قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرث الباغي في الوجهين وهو قول الشافعي رحمه الله وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم.
وقال الشافعي رحمه الله في القديم: إنه يجب وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا له أنه أتلف مالا معصوما أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم رواه الزهري رحمه الله ولأنه أتلف عن تأويل فاسد والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم وهذا لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الإلتزام ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة والولاية باقية قبل المنعة وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا بخلاف الإثم لأنه لا منعة في حق الشارع إذا ثبت هذا فنقول قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث ولأبي يوسف رحمه الله في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع والحاجة ههنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه إلا أن من شرطه بقاءه على ديانته فإذا قال كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان.(2/413)
قال: " ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم " لأنه إعانة على المعصية " وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس " لأن الغلبة من الأمصار لأهل الصلاح وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع مالا يقاتل به إلا بصنعة ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب وعلى هذا الخمر مع العنب والله أعلم بالصواب.(2/414)
كتاب اللقيط
اللقيط سمي به باعتبار مآله لما أنه يلقط والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب.
قال: " اللقيط حر " لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية وكذا الدار دار الأحرار ولأن الحكم للغالب " ونفقته في بيت المال " هو المروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما ولأنه مسلم عاجز عن التكسب ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد الذي لا مال له ولا قرابة ولأن ميراثه لبيت المال والخراج بالضمان ولهذا كانت جنايته فيه والملتقط متبرع في الإنفاق عليه لعدم الولاية إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه لعموم الولاية.
قال: " فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه " لأنه ثبت حق الحفظ له لسبق يده " فإن ادعى مدع أنه ابنه فالقول قوله " معناه إذا لم يدع الملتقط نسبه وهذا استحسان والقياس أن لا يقبل قوله لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه ثم قيل يصح في حقه دون إبطال يد الملتقط وقيل يبتنى عليه بطلان يده ولو ادعاه الملتقط قيل يصح قياسا واستحسانا والأصح أنه على القياس والاستحسان وقد عرف في الأصل " وإن ادعاه اثنان ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به " لأن الظاهر شاهد له لموافقة العلامة كلامه وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السبب ولو سبقت دعوة أحدهما فهو ابنه لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه إلا إذا أقام الآخر البينة لأن البينة أقوى.
" وإذا وجد في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلما " وهذا استحسان لأن دعواه تضمن النسب وهو نافع للصغير وإبطال الإسلام ثابت بالدار وهو يضره فصحت دعوته فيما ينفعه دون ما يضره " وإن وجد في قرية من قرى أهل الذمة أو في بيعة أو كنيسة كان ذميا " وهذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة وإن كان الواجد مسلما في هذا المكان أو ذميا في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه ففي رواية كتاب اللقيط اعتبر المكان لسبقه وفي كتاب الدعوى في بعض النسخ(2/415)
اعتبر الواجد وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله لقوة اليد ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما يعتبر كافرا وفي بعض نسخه اعتبر الإسلام نظرا للصغير.
" ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه" لأنه حر ظاهرا إلا أن يقيم البينة أنه عبده "فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه " لأنه ينفعه " وكان حرا " لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك.
" والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد والمسلم أولى من الذمي " ترجيحا لما هو الأنظر في حقه " وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له " اعتبارا للظاهر وكذا إذا كان مشدودا على دابة وهو عليها لما ذكرنا ثم يصرفه الواجد إليه بأمر القاضي لأنه مال ضائع وللقاضي ولاية صرف مثله إليه وقيل يصرفه بغير أمر القاضي لأنه للقيط ظاهرا " وله ولاية الإنفاق وشراء مالا بد له منه " كالطعام والكسوة لأنه من الإنفاق.
" ولا يجوز تزويج الملتقط " لانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة. قال " ولا تصرفه في مال الملتقط " اعتبارا بالأم وهذا لأن ولاية التصرف لتثمير المال وذلك يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجود في كل واحد منهما أحدهما.
قال: " ويجوز أن يقبض له الهبة " لأنه نفع محض ولهذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الأم ووصيها.
قال: " ويسلمه في صناعة " لأنه من باب تثقيفه وحفظ حاله قال: " ويؤاجره " قال العبد الضعيف: وهذا رواية القدوري في مختصره.
وفي الجامع الصغير لا يجوز أن يؤاجره ذكره في الكراهية وهو الأصح وجه الأول أنه يرجع إلى تثقيفه ووجه الثاني أنه لا يملك إتلاف منافعه فأشبه العم بخلاف الأم لأنها تملكه على ما نذكره في الكراهية إن شاء الله تعالى والله أعلم بالصواب.(2/416)
كتاب اللقطة
قال: " اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها " لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو الأفضل عند عامة العلماء وهو الواجب إذا خاف الضياع على ما قالوا وإذا كان كذلك لا تكون مضمونة عليه وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار كالبينة ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع وإن لم يشهد الشهود عليه وقال الآخذ أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يضمن والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ لمالكه وفيه وقع الشك فلا يبرأ وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه ويكفيه في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي واحدة كانت اللقطة أو أكثر لأنه اسم جنس قال " فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا ".
قال العبد الضعيف وهذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقوله أياما معناه على حسب ما يرى وقدره محمد رحمه الله في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لقوله عليه الصلاة والسلام " من التقط شيئا فليعرفه سنة من غير فصل " وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما ففوضنا إلى رأي المبتلى به وقيل الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها(2/417)
كالنواة وقشور الرمان يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف ولكنه مبقى على ملك مالكه لأن التمليك من المجهول لا يصح.
قال: " فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها " إيصالا للحق إلى المستحق وهو واجب بقدر الإمكان وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازة التصدق بها وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها.
قال: " فإن جاء صاحبها " يعني بعد ما تصدق بها " فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة " وله ثواها لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه فتيوقف على إجازته والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه " وإن شاء ضمن الملتقط " لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه إلا أنه بإباحة من جهة الشرع وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حالة المخمصة وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله.
قال: " ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير " وقال مالك والشافعي رحمهما الله إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل وعلى هذا الخلاف الفرس لهما أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع وإذا كان معها ما تدفع عن نفسها يقل الضياع ولكنه يتوهم فيقضي بالكراهة والندب إلى الترك ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة " فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع " لقصور ولايته عن ذمة المالك وإن أنفق بأمره كان ذلك دينا على صاحبها لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين.
" وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه فإن كان للبهيمة منفعة آجرها وأنفق عليها من أجرتها " لأن فيه إبقاء العين على ملكه من غير إلزام الدين عليه وكذلك يفعل بالعبد الآبق " وإن لم تكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها " إبقاء له معنى عند تعذر إبقائه صورة " وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها " لأنه نصب ناظرا وفي هذا نظر من الجانبين قالوا إنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأن دارة النفقة مستأصلة فلا نظر في الإنفاق مدة مديدة.
قال رضي الله عنه: وفي الأصل شرط إقامة البينة وهو الصحيح لأنه يحتمل أن(2/418)
يكون غصبا في يده فلا يأمر فيه بالإنفاف وإنما يأمر به في الوديعة فلا بد من البينة لكشف الحال وليست البينة تقام للقضاء وإن قال لا بينة لي يقول القاضي له أنفق عليه إن كنت صادقا فيما قلت حتى ترجع على المالك إن كان صادقا ولا يرجع إن كان غاصبا وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى أنه إنما يرجع على المالك بعد ما حضر ولم تبع اللقطة إذا شرط القاضي الرجوع على المالك وهذه رواية وهو الأصح.
قال: " وإذا حضر " يعني " المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة " لأنه حي بنفقته فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع وأقرب من ذلك راد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن.
قال: " ولقطة الحل والحرم سواء " وقال الشافعي يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحرم " ولا يحل لقطتها إلا لمنشد " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة " من غير فصل ولأنها لقطة وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها وتأويل ما روي أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا.
قال: " وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم ندفع إليه حتى يقيم البينة فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء " وقال مالك والشافعي يجبر والعلامة مثل أن يسمي وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه ولا تشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة وهو البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه " وهذا للإباحة عملا بالمشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام " البينة على المدعي " الحديث ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعها إليه استيثاقا وهذا بلا خلاف لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده وإذا صدق قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه وقيل يجبر لأن المالك ههنا غير ظاهر والمودع مالك ظاهر.
" ولا يتصدق باللقطة على غني " لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة(2/419)
والسلام: " فإن لم يأت " يعني صاحبها " فليتصدق به " والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة " وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها " وقال الشافعي رحمه الله يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي رضي الله عنه " فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها " وكان من المياسير ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه أو بالإجماع فيبقى ما وراءه على الأصلي والغني محمول على الأخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها وانتفاع أبي رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه " وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها " لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره " وكذا إذا كان الفقير أباه أو ابنه أو زوجته وإن كان هو غنيا " لما ذكرنا والله أعلم.(2/420)
كتاب الإباق
" الآبق أخذه أفضل في حق من يقوى عليه " لما فيه من إحيائه وأما الضال فقد قيل كذلك وقد قيل تركه أفضل لأنه لا يبرح مكانه فيجده المالك ولا كذلك الآبق ثم آخذ الآبق يأتي به إلى السلطان لأنه لا يقدر على حفظه بنفسه بخلاف اللقطة ثم إذا رفع الآبق إليه يحبسه ولو رفع الضال لا يحبسه لأنه لا يؤمن على الآبق الإباق ثانيا بخلاف الضال.
قال: " ومن رد آبقا على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا فله عليه جعله أربعون درهما وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه " وهذا استحسان والقياس أن لا يكون له شيء إلا بالشرط وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه متبرع بمنافعه فأشبه العبد الضال.
ولنا أن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على وجوب أصل الجعل إلا أن منهم من أوجب أربعين ومنه من أوجب ما دونها فأوجبنا الأربعين في مسيرة السفر وما دونها فيما دونه توفيقا وتلفيقا بينهما ولأن إيجاب الجعل أصله حامل على الرد إذ الحسبة نادرة فتحصل صيانة أموال الناس والتقدير بالسمع ولا سمع في الضال فامتنع ولأن الحاجة إلى صيانة الضال دونها إلى صيانة الآبق لأنه لا يتوارى والآبق يختفي ويقدر الرضخ في الرد عما دون السفر باصطلاحهما أو يفوض إلى رأي القاضي وقيل تقسم الأربعون على الأيام الثلاثة إذ هي أقل مدة السفر.
قال: " وإن كانت قيمته أقل من أربعين يقضى له بقيمته إلا درهما " قال رضي الله عنه وهذا قول محمد رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله له أربعون درهما لأن التقدير بها ثبت بالنص فلا ينقص عنها ولهذا لا يجوز الصلح على الزيادة بخلاف الصلح على الأقل لأنه حط منه ولمحمد رحمه الله أن المقصود حمل الغير على الرد ليحيا مال المالك فينقص درهم ليسلم له شيء تحقيقا للفائدة وأم الولد والمدبر في هذا بمنزلة القن إذا كان الرد في حياة المولى لما فيه من إحياء ملكه ولو رد بعد مماته لا جعل فيهما لأنهما يعتقان بالموت بخلاف القن ولو كان الراد أبا المولى أو ابنه وهو في عياله أو أحد الزوجين على الآخر فلا جعل لأن هؤلاء يتبرعون بالرد عادة ولا يتناولهم إطلاق الكتاب.(2/421)
قال: " وإن أبق من الذي رده فلا شيء عليه " لأنه أمانة في يده لكن هذا إذا أشهد وقد ذكرناه في اللقطة.
قال رضي الله عنه: وذكر في بعض النسخ أنه لا شيء له وهو صحيح أيضا لأنه في معنى البائع من المالك ولهذا كان له أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل بمنزلة البائع يحبس المبيع لاستيفاء الثمن وكذا إذا مات في يده لا شيء عليه لما قلنا.
قال: " ولو أعتقه المولى كما لقيه صار قابضا بالإعتاق " كما في العبد المشترى وكذا إذا باعه من الراد لسلامة البدل له والرد وإن كان له حكم البيع لكنه بيع من وجه فلا يدخل تحت النهي الوارد عن بيع مالم يقبض فجاز.
قال: " وينبغي إذا أخذه أن يشهد أنه يأخذه ليرده " فالإشهاد حتم فيه عليه على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى لو رده من لم يشهد وقت الأخذ لا جعل له عندهما لأن ترك الإشهاد أمارة أنه أخذه لنفسه وصار كما إذا اشتراه من الآخذ أو أتهبه أو ورثه فرده على مولاه لا جعل له لأنه رده لنفسه إلا إذا أشهد أنه اشتراه ليرده فيكون له الجعل وهو متبرع في أداء الثمن " وإن كان الآبق رهنا فالجعل على المرتهن " لأنه أحيا ماليته بالرد وهي حقه إذ الاستيفاء منها والجعل بمقابلة إحياء المالية فيكون عليه والرد في حياة الراهن وبعده سواء لأن الرهن لا يبطل بالموت وهذا إذا كانت قيمته مثل الدين أو أقل منه فإن كانت أكثر فبقدر الدين عليه والباقي على الراهن لأن حقه بالقدر المضمون فصار كثمن الدواء وتخليصه عن الجناية بالفداء وإن كان مديونا فعلى المولى إن اختار قضاء الدين وإن بيع بدئ بالجعل والباقي للغرماء لأنه مؤنة الملك والملك فيه كالموقوف فتجب على من يستقر له وإن كان جانيا فعلى المولى إن اختار الفداء لعود المنفعة إليه وعلى الأولياء إن اختار الدفع لعودها إليهم وإن كان موهوبا فعلى الموهوب له وإن رجع الواهب في هبته بعد الرد لأن المنفعة للواهب ما حصلت بالرد بل بترك الموهوب له التصرف فيه بعد الرد وإن كان لصبي فالجعل في ماله لأنه مؤنة ملكه وإن رده وصيه فلا جعل له لأنه هو الذي يتولى الرد فيه والله أعلم بالصواب.(2/422)
كتاب المفقود
" إذا غاب الرجل فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت نصب القاضي من يحفظ ماله ويقوم عليه ويستوفي حقه " لأن القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن النظر لنفسه والمفقود بهذه الصفة وصار كالصبي والمجنون وفي نصب الحافظ لماله والقائم عليه نظر له وقوله يستوفي حقه لإخفاء أنه يقبض غلاته والدين الذي أقر به غريم من غرمائه لأنه من باب الحفظ ويخاصم في دين وجب بعقده لأنه أصيل في حقوقه ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود ولا في نصيب له في عقار أو عروض في يد رجل لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه إنما هو وكيل بالقبض من جهة القاضي وأنه لا يملك الخصومة بلا خلاف إنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة المالك في الدين وإذا كان كذلك يتضمن الحكم به قضاء على الغائب وأنه لا يجوز إلا إذا رآه القاضي وقضى به لأنه مجتهد فيه ثم ما كان يخاف عليه الفساد يبيعه القاضي لأنه تعذر عليه حفظ صورته ومعناه فينظر له بحفظ المعنى.
" ولا يبيع مالا يخاف عليه الفساد في نفقة ولا غيرها " لأنه لا ولاية له على الغائب إلا في حفظ ماله فلا يسوغ له ترك حفظ الصورة وهو ممكن.
قال: " وينفق على زوجته وأولاده من ماله " وليس هذا الحكم مقصورا على الأولاد بل يعم جميع قرابة الأولاد والأصل أن كل من يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي ينفق عليه من ماله عند غيبته لأن القضاء حينئذ يكون إعانة وكل من لا يستحقها في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله في غيبته لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء والقضاء على الغائب ممتنع فمن الأول الأولاد الصغار والإناث من الكبار والزمنى من الذكور الكبار ومن الثاني الأخ والأخت والخال والخالة.
وقوله: من ماله مراده الدراهم والدنانير لأن حقهم في المطعوم والملبوس فإذا لم يكن ذلك في ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان والتبر بمنزلتهما في هذا الحكم لأنه يصلح قيمة كالمضروب وهذا إذا كانت في يد القاضي فإن كانت وديعة أو دينا ينفق عليهم منهما إذا كان المودع والمديون مقرين بالدين والوديعة والنكاح والنسب وهذا إذا لم(2/423)
يكونا ظاهرين عند القاضي فإن كانا ظاهرين فلا حاجة إلى الإقرار وإن كان أحدهما ظاهر الوديعة والدين أو النكاح والنسب يشترط الإقرار بما ليس بظاهر هذا هو الصحيح فإن دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي لأن القاضي نائب عنه وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلا أو كانا جاحدين الزوجية والنسب لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة خصما في ذلك لأن ما يدعيه للغائب لم يتعين سببا لثبوت حقه وهو النفقة لأنها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود.
قال: " ولا يفرق بينه وبين امرأته " وقال مالك إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبين امرأته وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت لأن عمر رضي الله عنه هكذا قضى في الذي استهواه الجن بالمدينة وكفى به إماما ولأنه منع حقها بالغيبة فيفرق القاضي بينهما بعد مضي مدة اعتبارا بالإيلاء والعنة وبعد هذا الاعتبار أخذ المقدار منهما الأربع من الإيلاء والسنين من العنة عملا بالشبهين ولنا قوله صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود: " إنها امرأته حتى يأتيها البيان " وقول علي رضي الله عنه فيها هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع ولأن النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك وعمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه ولا معتبر بالإيلاء لأنه كان طلاقا معجلا فاعتبر في الشرع مؤجلا فكان موجبا للفرقة ولا بالعنة لأن الغيبة تعقب العودة والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة.
قال: " وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته " قال رضي الله عنه:
وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة وقدره بعضهم بتسعين والأقيس أن لا يقدر بشيء والأرفق أن يقدر بتسعين وإذا حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت " ويقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت " كأنه مات في ذلك الوقت معاينة إذ الحكمي معتبر بالحقيقي " ومن مات قبل ذلك لم يرث منه " لأنه لم يحكم بموته فيها فصار كما إذا كانت حياته معلومة " ولا يرث المفقود أحدا مات في حال فقده " لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق " وكذلك لو أوصى المفقود ومات الموصي " ثم الأصل أنه لو كان مع المفقود وارث لا يحجب به ولكنه ينتقص حقه به يعطي أقل النصيبين ويوقف الباقي وإن كان معه وارث يحجب به لا يعطى أصلا.(2/424)
بيانه: رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن والمال في يد الأجنبي وتصادقوا على فقد الابن وطلبت الابنتان الميراث تعطيان النصف لأنه متيقن به ويوقف النصف الآخر ولا يعطى ولد الابن لأنهم يحجبون بالمفقود ولو كان حيا فلا يستحقون الميراث بالشك " ولا ينزع من يد الأجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة " ونظير هذا الحمل فإنه يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى ولو كان معه وارث آخر إن كان لا يسقط بحال ولا يتغير بالحمل يعطى كل نصيبه وإن كان ممن يسقط بالحمل لا يعطى وإن كان ممن يتغير به يعطى الأقل للتيقن به كما في المفقود وقد شرحناه في كفاية المنتهى بأتم من هذا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث
وأوله
كتاب الشركة(2/425)
المجلد الثالث
كتاب الشركة
ضروب الشركة
مدخل
...
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
"حديث شريف"
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشركة
"الشركة جائزة" لأنه صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملون بها فقررهم عليه.
قال: "الشركة ضربان: شركة أملاك، وشركة عقود. فشركة الأملاك: العين يرثها رجلان أو يشتريانها فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بإذنه، وكل منهما في نصيب صاحبه كالأجنبي" وهذه الشركة تتحقق في غير المذكور في الكتاب كما إذا اتهب رجلان عينا أو ملكاها بالاستيلاء أو اختلط مالهما من غير صنع أحدهما أو بخلطهما خلطا يمنع التمييز رأسا أو إلا بحرج، ويجوز بيع أحدهما نصيبه من شريكه في جميع الصور ومن غير شريكه بغير إذنه إلا في صورة الخلط والاختلاط فإنه لا يجوز إلا بإذنه، وقد بينا الفرق في كفاية المنتهى.
"والضرب الثاني: شركة العقود، وركنها الإيجاب والقبول، وهو أن يقول أحدهما شاركتك في كذا وكذا ويقول الآخر قبلت" وشرطه: أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلا للوكالة ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركا بينهما فيتحقق حكمه المطلوب منه "ثم هي أربعة أوجه: مفاوضة، وعنان، وشركة الصنائع، وشركة الوجوه. فأما شركة المفاوضة فهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما" لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق إذ هي من المساواة، قال قائلهم:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
أي متساويين. فلا بد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء وذلك في المال، والمراد به ما تصح الشركة فيه، ولا يعتبر التفاضل فيما لا يصح الشركة فيه، وكذا في التصرف، لأنه لو ملك أحدهما تصرفا لا يملك الآخر لفات التساوي، وكذلك في الدين لما نبين إن شاء الله تعالى، وهذه الشركة جائزة عندنا استحسانا. وفي القياس لا تجوز، وهو قول(3/5)
الشافعي. وقال مالك: لا أعرف ما المفاوضة. وجه القياس أنها تضمنت الوكالة بمجهول الجنس والكفالة بمجهول، وكل ذلك بانفراده فاسد. وجه الاستحسان قوله صلى الله عليه وسلم "فاوضوا فإنه أعظم للبركة" وكذا الناس يعاملونها من غير نكير وبه يترك القياس والجهالة متحملة تبعا كما في المضاربة "ولا تنعقد إلا بلفظة المفاوضة" لبعد شرائطها عن علم العوام، حتى لو بينا جميع ما تقتضيه تجوز لأن المعتبر هو المعنى.
قال: "فتجوز بين الحرين الكبيرين مسلمين أو ذميين لتحقق التساوي، وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا تجوز أيضا" لما قلنا "ولا تجوز بين الحر والمملوك ولا بين الصبي والبالغ" لانعدام المساواة، لأن الحر البالغ يملك التصرف والكفالة، والمملوك لا يملك واحدا منهما إلا بإذن المولى، والصبي لا يملك الكفالة ولا يملك التصرف إلا بإذن الولي.
قال: "ولا بين المسلم والكافر" وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز للتساوي بينهما في الوكالة والكفالة، ولا معتبر بزيادة تصرف يملكه أحدهما كالمفاوضة بين الشفعوي والحنفي فإنها جائزة. ويتفاوتان في التصرف في متروك التسمية، إلا أنه يكره لأن الذمي لا يهتدي إلى الجائز من العقود. ولهما أنه لا تساوي في التصرف، فإن الذمي لو اشترى برأس المال خمورا أو خنازير صح، ولو اشتراها مسلم لا يصح "ولا يجوز بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين" لانعدام صحة الكفالة، وفي كل موضع لم تصح المفاوضة لفقد شرطها، ولا يشترط ذلك في العنان كان عنانا لاستجماع شرائط العنان، إذ هو قد يكون خاصا وقد يكون عاما.
قال: "وتنعقد على الوكالة والكفالة" أما الوكالة فلتحقق المقصود وهو الشركة في المال على ما بيناه، وأما الكفالة: فلتحقق المساواة فيما هو من مواجب التجارات وهو توجه المطالبة نحوهما جميعا.
قال: "وما يشتريه كل واحد منهما يكون على الشركة إلا طعام أهله وكسوتهم" وكذا كسوته، وكذا الإدام لأن مقتضى العقد المساواة، وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف، وكان شراء أحدهما كشرائهما، إلا ما استثناه في الكتاب، وهو استحسان لأنه مستثنى عن المفاوضة للضرورة، فإن الحاجة الراتبة معلومة الوقوع، ولا يمكن إيجابه على صاحبه ولا التصرف من ماله، ولا بد من الشراء فيختص به ضرورة. والقياس أن يكون على الشركة لما بينا "وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء" المشتري بالأصالة وصاحبه بالكفالة(3/6)
ويرجع الكفيل على المشتري بحصته مما أدى لأنه قضى دينا عليه من مال مشترك بينهما.
قال "وما يلزم كل واحد منهما من الديون بدلا عما يصح فيه الاشتراك فالآخر ضامن له" تحقيقا للمساواة، فمما يصح الاشتراك فيه الشراء والبيع والاستئجار، ومن القسم الآخر الجناية والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد وعن النفقة.
قال "ولو كفل أحدهما بمال عن أجنبي لزم صاحبه عند أبي حنيفة، وقالا: لا يلزمه" لأنه تبرع، ولهذا لا يصح من الصبي والعبد المأذون والمكاتب، ولو صدر من المريض يصح من الثلث وصار كالإقراض والكفالة بالنفس. ولأبي حنيفة أنه تبرع ابتداء ومعاوضة بقاء لأنه يستوجب الضمان بما يؤدي على المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره، فبالنظر إلى البقاء تتضمنه المفاوضة، وبالنظر إلى الابتداء لم تصح ممن ذكره وتصح من الثلث من المريض، بخلاف الكفالة بالنفس لأنها تبرع ابتداء وانتهاء. وأما الإقراض فعن أبي حنيفة أنه يلزم صاحبه، ولو سلم فهو إعارة فيكون لمثلها حكم عينها لا حكم البدل حتى لا يصح فيه الأجل فلا يتحقق معاوضة، ولو كانت الكفالة بغير أمره لم تلزم صاحبه في الصحيح لانعدام معنى المفاوضة. ومطلق الجواب في الكتاب محمول على المقيد، وضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة لأنه معاوضة انتهاء.
قال "وإن ورث أحدهما ما لا يصح فيه الشركة أو وهب له ووصل إلى يده بطلت المفاوضة وصارت عنانا" لفوات المساواة فيما يصلح رأس المال إذ هي شرط فيه ابتداء وبقاء، وهذا لأن الآخر لا يشاركه فيما أصابه لانعدام السبب في حقه، إلا أنها تنقلب عنانا للإمكان، فإن المساواة ليست بشرط فيه، ولدوامه حكم الابتداء لكونه غير لازم "وإن ورث أحدهما عرضا فهو له ولا تفسد المفاوضة" وكذا العقار لأنه لا تصح فيه الشركة فلا تشترط المساواة فيه.(3/7)
فصل: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة"
وقال مالك: تجوز بالعروض والمكيل والموزون أيضا إذا كان الجنس واحدا؛ لأنها عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود، بخلاف المضاربة لأن القياس يأباها لما فيها من ربح ما لم يضمن. فيقتصر على مورد الشرع. ولنا أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن؛ لأنه إذا باع كل واحد منهما رأس ماله وتفاضل الثمنان فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم(3/7)
يملك وما لم يضمن، بخلاف الدراهم والدنانير لأن ثمن ما يشتريه في ذمته إذ هي لا تتعين فكان ربح ما يضمن، ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء، وبيع أحدهما ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز، وشراء أحدهما شيئا بماله على أن يكون المبيع بينه وبين غيره جائز. وأما الفلوس النافقة فلأنها تروج رواج الأثمان فالتحقت بها. قالوا: هذا قول محمد لأنها ملحقة بالنقود عنده حتى لا تتعين بالتعيين، ولا يجوز بيع اثنين بواحد بأعيانها على ما عرف، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا تجوز الشركة والمضاربة بها لأن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة. وروي عن أبي يوسف مثل قول محمد، والأول أقيس وأظهر، وعن أبي حنيفة صحة المضاربة بها.
قال: "ولا تجوز الشركة بما سوى ذلك إلا أن يتعامل الناس بالتبر" والنقرة فتصح الشركة بهما، هكذا ذكر في الكتاب "وفي الجامع الصغير: ولا تكون المفاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة" ومراده التبر، فعلى هذه الرواية التبر سلعة تتعين بالتعيين فلا تصلح رأس المال في المضاربات والشركات. وذكر في كتاب الصرف أن النقرة لا تتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بها بهلاكه قبل التسليم، فعلى تلك الرواية تصلح رأس المال فيهما، وهذا لما عرف أنهما خلقا ثمنين في الأصل، إلا أن الأول أصح؛ لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص؛ لأن عند ذلك لا تصرف إلى شيء آخر ظاهرا إلا أن يجري التعامل باستعمالهما ثمنا فنزل التعامل بمنزلة الضرب فيكون ثمنا ويصلح رأس المال. ثم قوله ولا تجوز بما سوى ذلك يتناول المكيل والموزون والعددي المتقارب، ولا خلاف فيه بيننا قبل الخلط، ولكل واحد منهما ربح متاعه وعليه وضيعته، وإن خلطا ثم اشتركا فكذلك في قول أبي يوسف، والشركة شركة ملك لا شركة عقد. وعند محمد تصح شركة العقد. وثمرة الاختلاف تظهر عند التساوي في المالين واشتراط التفاضل في الربح، فظاهر الرواية ما قاله أبو يوسف رحمه الله لأنه يتعين بالتعيين بعد الخلط كما تعين قبله. ولمحمد أنها ثمن من وجه حتى جاز البيع بها دينا في الذمة. ومبيع من حيث إنه يتعين بالتعيين، فعملنا بالشبهين بالإضافة إلى الحالين، بخلاف العروض؛ لأنها ليست ثمنا بحال ولو اختلفا جنسا كالحنطة والشعير والزيت والسمن فخلطا لا تنعقد الشركة بها بالاتفاق. والفرق لمحمد أن المخلوط من جنس واحد من ذوات الأمثال، ومن جنسين من ذوات القيم فتتمكن الجهالة كما في العروض، وإذا لم تصح الشركة فحكم الخلط قد بيناه في كتاب القضاء.(3/8)
قال: "وإذا أراد الشركة بالعروض باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر، ثم عقد الشركة" قال رضي الله عنه: "وهذه الشركة ملك" لما بينا أن العروض لا تصلح رأس مال الشركة، وتأويله إذا كان قيمة متاعهما على السواء، ولو كان بينهما تفاوت يبيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة.
قال: "وأما شركة العنان فتنعقد على الوكالة دون الكفالة، وهي أن يشترك اثنان في نوع بر أو طعام، أو يشتركان في عموم التجارات ولا يذكران الكفالة"، وانعقاده على الوكالة لتحقق مقصوده كما بيناه، ولا تنعقد على الكفالة؛ لأن اللفظ مشتق من الأعراض يقال عن له: أي عرض، وهذا لا ينبئ عن الكفالة وحكم التصرف لا يثبت بخلاف مقتضى اللفظ. "ويصح التفاضل في المال" للحاجة إليه وليس من قضية اللفظ المساواة. "ويصح أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح" وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن التفاضل فيه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن، فإن المال إذا كان نصفين والربح أثلاثا فصاحب الزيادة يستحقها بلا ضمان، إذ الضمان بقدر رأس المال، ولأن الشركة عندهما في الربح للشركة في الأصل، ولهذا يشترطان الخلط، فصار ربح المال بمنزلة نماء الأعيان فيستحق بقدر الملك في الأصل. ولنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين" ولم يفصل، ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة؛ وقد يكون أحدهما أحذق وأهدى وأكثر عملا وأقوى فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة إلى التفاضل، بخلاف اشتراط جميع الربح لأحدهما لأنه يخرج العقد به من الشركة ومن المضاربة أيضا إلى قرض باشتراطه للعامل أو إلى بضاعة باشتراطه لرب المال، وهذا العقد يشبه المضاربة من حيث إنه يعمل في مال الشريك، ويشبه الشركة اسما وعملا فإنهما يعملان فعملنا بشبه المضاربة. وقلنا: يصح اشتراط الربح من غير ضمان ويشبه الشركة حتى لا تبطل باشتراط العمل عليها.
قال: "ويجوز أن يعقدها كل واحد منهما ببعض ماله دون البعض" لأن المساواة في المال ليست بشرط فيه إذ اللفظ لا يقتضيه "ولا يصح إلا بما بينا" أن المفاوضة تصح به للوجه الذي ذكرناه "ويجوز أن يشتركا ومن جهة أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم، وكذا من أحدهما دراهم بيض ومن الآخر سود" وقال زفر والشافعي: لا يجوز، وهذا بناء على اشتراط الخلط وعدمه فإن عندهما شرط ولا يتحقق ذلك في مختلفي الجنس، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.(3/9)
قال: "وما اشتراه كل واحد منهما للشركة طولب بثمنه دون الآخر لما بينا" أنه يتضمن الوكالة دون الكفالة، والوكيل هو الأصل في الحقوق.
قال: "ثم يرجع على شريكه بحصته منه" معناه إذا أدى من مال نفسه؛ لأنه وكيل من جهته في حصته فإذا نقد من مال نفسه رجع عليه، فإن كان لا يعرف ذلك إلا بقوله فعليه الحجة؛ لأنه يدعي وجوب المال في ذمة الآخر وهو ينكر، والقول للمنكر مع يمينه.
قال: "وإذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل أن يشتريا شيئا بطلت الشركة" لأن المعقود عليه في عقد الشركة المال، فإنه يتعين فيه كما في الهبة والوصية، وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع، بخلاف المضاربة والوكالة المفردة؛ لأنه لا يتعين الثمنان فيهما بالتعيين، وإنما يتعينان بالقبض على ما عرف، وهذا ظاهر فيما إذا هلك المالان، وكذا إذا هلك أحدهما؛ لأنه ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات ذلك لم يكن راضيا بشركته فيبطل العقد لعدم فائدته، وأيهما هلك هلك من مال صاحبه؛ إن هلك في يده فظاهر، وكذا إذا كان هلك في يد الآخر لأنه أمانة في يده، بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز فيجعل الهالك من المالين. "وإن اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر قبل الشراء فالمشترى بينهما على ما شرطا" لأن الملك حين وقع وقع مشتركا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء فلا يتغير الحكم بهلاك مال الآخر بعد ذلك، ثم الشركة شركة عقد عند محمد خلافا للحسن بن زياد، حتى إن أيهما باع جاز بيعه؛ لأن الشركة قد تمت في المشترى فلا ينتقض بهلاك المال بعد تمامها.
قال: "ويرجع على شريكه بحصة من ثمنه" لأنه اشترى نصفه بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وقد بيناه، هذا إذا اشترى أحدهما بأحد المالين أولا ثم هلك مال الآخر. أما إذا هلك مال أحدهما ثم اشترى الآخر بمال الآخر، إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة فالمشترى مشترك بينهما على ما شرطا؛ لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة فكان مشتركا بحكم الوكالة، ويكون شركة ملك ويرجع على شريكه بحصته من الثمن لما بيناه، وإن ذكرا مجرد الشركة ولم ينصا على الوكالة فيها كان المشترى للذي اشتراه خاصة؛ لأن الوقوع على الشركة حكم الوكالة التي تضمنتها الشركة، فإذا بطلت يبطل ما في ضمنها، بخلاف ما إذا صرح بالوكالة لأنها مقصودة.
قال: "وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال" وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن الربح فرع المال، ولا يقع الفرع على الشركة إلا بعد الشركة في الأصل وأنه(3/10)
بالخلط، وهذا لأن المحل هو المال ولهذا يضاف إليه، ويشترط تعيين رأس المال، بخلاف المضاربة؛ لأنها ليست بشركة، وإنما هو يعمل لرب المال فيستحق الربح عمالة على عمله، أما هنا بخلافه، وهذا أصل كبير لهما حتى يعتبر اتحاد الجنس. ويشترط الخلط ولا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في المال.
ولا تجوز شركة التقبل والأعمال لانعدام المال. ولنا أن الشركة في الربح مستندة إلى العقد دون المال؛ لأن العقد يسمى شركة فلا بد من تحقق معنى هذا الاسم فيه فلم يكن الخلط شرطا، ولأن الدراهم والدنانير لا يتعينان فلا يستفاد الربح برأس المال، وإنما يستفاد بالتصرف لأنه في النصف أصيل وفي النصف وكيل. وإذا تحققت الشركة في التصرف بدون الخلط تحققت في المستفاد به وهو الربح بدونه، وصار كالمضاربة فلا يشترط اتحاد الجنس والتساوي في الربح، وتصح شركة التقبل.
قال: "ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحدهما دراهم مسماة من الربح" لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة فعساه لا يخرج إلا قدر المسمى لأحدهما، ونظيره في المزارعة.
قال: "ولكل واحد من المتفاوضين وشريكي العنان أن يبضع المال" لأنه معتاد في عقد الشركة، ولأن له أن يستأجر على العمل، والتحصيل بغير عوض دونه فيملكه، وكذا له أن يودعه لأنه معتاد ولا يجد التاجر منه بدا.
قال: "ويدفعه مضاربة"؛ لأنها دون الشركة فتتضمنها. وعن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك لأنه نوع شركة، والأصح هو الأول، وهو رواية الأصل؛ لأن الشركة غير مقصودة، وإنما المقصود تحصيل الربح كما إذا استأجره بأجر بل أولى؛ لأنه تحصيل بدون ضمان في ذمته، بخلاف الشركة حيث لا يملكها لأن الشيء لا يستتبع مثله.
قال: "ويوكل من يتصرف فيه" لأن التوكيل بالبيع والشراء من توابع التجارة والشركة انعقدت للتجارة، بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك أن يوكل غيره لأنه عقد خاص طلب منه تحصيل العين فلا يستتبع مثله.
قال: "ويده في المال يد أمانة" لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة فصار كالوديعة.
قال: "وأما شركة الصنائع" وتسمى شركة التقبل "كالخياطين والصباغين يشتركان على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز ذلك" وهذا عندنا. وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن هذه شركة لا تفيد مقصودها وهو التثمير؛ لأنه لا بد من رأس المال، وهذا لأن الشركة في الربح تبتنى على الشركة في المال على أصلهما على ما قررناه.(3/11)
ولنا أن المقصود منه التحصيل وهو ممكن بالتوكيل، لأنه لما كان وكيلا في النصف أصيلا في النصف تحققت الشركة في المال المستفاد ولا يشترط فيه اتحاد العمل والمكان خلافا لمالك وزفر فيهما؛ لأن المعنى المجوز للشركة وهو ما ذكرناه لا يتفاوت.
"ولو شرطا العمل نصفين والمال أثلاثا جاز" وفي القياس: لا يجوز؛ لأن الضمان بقدر العمل، فالزيادة عليه ربح ما لم يضمن فلم يجز العقد لتأديته إليه، وصار كشركة الوجوه، ولكنا نقول: ما يأخذه لا يأخذه ربحا لأن الربح عند اتحاد الجنس، وقد اختلف لأن رأس المال عمل والربح مال فكان بدل العمل والعمل يتقوم بالتقويم فيتقدر بقدر ما قوم به فلا يحرم، بخلاف شركة الوجوه؛ لأن جنس المال متفق والربح يتحقق في الجنس المتفق، وربح ما لم يضمن لا يجوز إلا في المضاربة.
قال: "وما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم شريكه" حتى إن كل واحد منهما يطالب بالعمل ويطالب بالأجر "ويبرأ الدافع بالدفع إليه" وهذا ظاهر في المفاوضة وفي غيرها استحسان. والقياس خلاف ذلك لأن الشركة وقعت مطلقة والكفالة مقتضى المفاوضة. وجه الاستحسان أن هذه الشركة مقتضية للضمان؛ ألا ترى أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الآخر، ولهذا يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه فجرى مجرى المفاوضة في ضمان العمل واقتضاء البدل.
قال: "وأما شركة الوجوه فالرجلان يشتركان ولا مال لهما على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا فتصح الشركة على هذا" سميت به لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من كان له وجاهة عند الناس، وإنما تصح مفاوضة لأنه يمكن تحقيق الكفالة والوكالة في الأبدال، وإذا أطلقت تكون عنانا لأن مطلقه ينصرف إليه وهي جائزة عندنا خلافا للشافعي، والوجه من الجانبين ما قدمناه في شركة التقبل.
قال: "وكل واحد منهما وكيل الآخر فيما يشتريه" لأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو بولاية ولا ولاية فتتعين الوكالة "فإن شرطا أن المشترى بينهما نصفان والربح كذلك يجوز، ولا يجوز أن يتفاضلا فيه، وإن شرطا أن يكون المشترى بينهما أثلاثا فالربح كذلك"، وهذا لأن الربح لا يستحق إلا بالمال أو العمل أو بالضمان فرب المال يستحقه بالمال، والمضارب يستحقه بالعمل، والأستاذ الذي يلقي العمل على التلميذ بالنصف بالضمان، ولا يستحق بما سواها؛ ألا ترى أن من قال لغيره تصرف في مالك على أن لي ربحه لم يحز(3/12)
لعدم هذه المعاني. واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان على ما بينا والضمان على قدر الملك في المشترى وكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن فلا يصح اشتراطه إلا في المضاربة والوجوه ليست في معناها، بخلاف العنان؛ لأنه في معناها من حيث أن كل واحد منهما يعمل في مال صاحبه فيلحق بها، والله أعلم.(3/13)
فصل: في الشركة الفاسدة
"ولا تجوز الشركة في الاحتطاب والاصطياد، وما اصطاده كل واحد منهما أو احتطبه فهو له دون صاحبه"، وعلى هذا الاشتراك في أخذ كل شيء مباح؛ لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المال المباح باطل لأن أمر الموكل به غير صحيح، والوكيل يملكه بدون أمره فلا يصلح نائبا عنه، وإنما يثبت الملك لهما بالأخذ وإحراز المباح، فإن أخذاه معا فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق، وإن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل، وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر، أو قلعه وجمعه وحمله الآخر فللمعين أجر المثل بالغا ما بلغ عند محمد. وعند أبي يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك، وقد عرف في موضعه.
قال: "وإذا اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي عليها الماء فالكسب بينهما لم تصح الشركة، والكسب كله للذي استقى، وعليه أجر مثل الراوية إن كان العامل صاحب البغل، وإن كان صاحب الراوية فعليه أجر مثل البغل" أما فساد الشركة فلانعقادها على إحراز المباح وهو الماء، وأما وجوب الأجر فلأن المباح إذا صار ملكا للمحرز وهو المستقي، وقد استوفى منافع ملك الغير وهو البغل أو الراوية بعقد فاسد فيلزمه أجره "وكل شركة فاسدة فالربح فيهما على قدر المال، ويبطل شرط التفاضل" لأن الربح فيه تابع للمال فيتقدر بقدره، كما أن الريع تابع للبذر في الزراعة، والزيادة إنما تستحق بالتسمية، وقد فسدت فبقي الاستحقاق على قدر رأس المال "وإذا مات أحد الشريكين أو ارتد ولحق بدار الحرب بطلت الشركة" لأنها تتضمن الوكالة، ولا بد منها لتتحقق الشركة على ما مر، والوكالة تبطل بالموت، وكذا بالالتحاق مرتدا إذا قضى القاضي بلحاقه؛ لأنه بمنزلة الموت على ما بيناه من قبل، ولا فرق بين ما إذا علم الشريك بموت صاحبه أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي، وإذا بطلت الوكالة بطلت الشركة، بخلاف ما إذا فسخ أحد الشريكين الشركة ومال الشركة دراهم ودنانير حيث يتوقف على علم الآخر لأنه عزل قصدي، والله أعلم.(3/13)
فصل: ليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه
...
فصل: "وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه"
لأنه ليس من جنس التجارة، "فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه أن يؤدي زكاته. فإن أدى كل واحد منهما فالثاني ضامن علم بأداء الأول أو لم يعلم"، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا لم يعلم وهذا إذا أديا على التعاقب، أما إذا أديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه. وعلى هذا الاختلاف المأمور بأداء الزكاة إذا تصدق على الفقير بعدما أدى الآمر بنفسه. لهما أنه مأمور بالتمليك من الفقير، وقد أتى به فلا يضمن للموكل، وهذا لأن في وسعه التمليك لا وقوعه زكاة لتعلقه بنية الموكل، وإنما يطلب منه ما في وسعه وصار كالمأمور بذبح دم الإحصار إذا ذبح بعدما زال الإحصار وحج الآمر لم يضمن المأمور علم أو لا. ولأبي حنيفة أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدى لم يقع زكاة فصار مخالفا، وهذا لأن المقصود من الأمر إخراج نفسه عن عهدة الواجب؛ لأن الظاهر أنه لا يلتزم الضرر إلا لدفع الضرر، وهذا المقصود حصل بأدائه وعرى أداء المأمور عنه فصار معزولا علم أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي. وأما دم الإحصار فقد قيل هو على هذا الاختلاف، وقيل بينهما فرق. ووجهه أن الدم ليس بواجب عليه فإنه يمكنه أن يصبر حتى يزول الإحصار. وفي مسألتنا الأداء واجب فاعتبر الإسقاط مقصودا فيه دون دم الإحصار.
قال: "وإذا أذن أحد المتفاوضين لصاحبه أن يشتري جارية فيطأها ففعل فهي له بغير شيء عند أبي حنيفة، وقالا: يرجع عليه بنصف الثمن" لأنه أدى دينا عليه خاصة من مال مشترك فيرجع عليه صاحبه بنصيبه كما في شراء الطعام والكسوة "وهذا" لأن الملك واقع له خاصة والثمن بمقابلة الملك. وله أن الجارية دخلت في الشركة على البتات جريا على مقتضى الشركة إذ هما لا يملكان تغييره فأشبه حال عدم الإذن، غير أن الإذن يتضمن هبة نصيبه منه؛ لأن الوطء لا يحل إلا بالملك، ولا وجه إلى إثباته بالبيع لما بينا أنه مخالف مقتضى الشركة فأثبتناه بالهبة الثابتة في ضمن الإذن، بخلاف الطعام والكسوة؛ لأن ذلك مستثنى عنها للضرورة فيقع الملك له خاصة بنفس العقد فكان مؤديا دينا عليه من مال الشركة. وفي مسألتنا قضى دينا عليهما لما بينا "وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء" بالاتفاق لأنه دين وجب بسبب التجارة، والمفاوضة تضمنت الكفالة فصار كالطعام والكسوة.(3/14)
كتاب الوقف
شروط الوقف
مدخل
...
كتاب الوقف
قال أبو حنيفة: "لا يزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته فيقول إذا مت فقد وقفت داري على كذا". وقال أبو يوسف "يزول ملكه بمجرد القول. وقال محمد: لا يزول حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه".
قال رضي الله عنه: الوقف لغة. هو الحبس تقول وقفت الدابة وأوقفتها بمعنى. وهو في الشرع عند أبي حنيفة: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة بمنزلة العارية. ثم قيل المنفعة معدومة فالتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلا عنده، وهو الملفوظ في الأصل. والأصح أنه جائز عنده إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد فيلزم ولا يباع ولا يوهب ولا يورث. واللفظ ينتظمهما والترجيح بالدليل. لهما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى ثمغا: "تصدق بأصلها لا يباع ولا يورث ولا يوهب" ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه ليصل ثوابه إليه على الدوام، وقد أمكن دفع حاجته بإسقاط الملك وجعله لله تعالى. إذ له نظير في الشرع وهو المسجد فيجعل كذلك. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حبس عن فرائض الله تعالى" وعن شريح: جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس لأن الملك باق فيه بدليل أنه يجوز الانتفاع به زراعة وسكنى وغير ذلك والملك فيه للواقف؛ ألا ترى أن له ولاية التصرف فيه بصرف غلاته إلى مصارفها ونصب القوام فيها إلا أنه يتصدق بمنافعه فصار شبيه العارية، ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائما ولا تصدق عنه إلا بالبقاء على ملكه، ولأنه لا يمكن أن يزال ملكه، لا إلى مالك لأنه غير مشروع مع بقائه كالسائبة. بخلاف الإعتاق لأنه إتلاف، وبخلاف المسجد لأنه جعل خالصا لله تعالى ولهذا لا يجوز الانتفاع به، وهنا لم ينقطع حق العبد عنه فلم يصر خالصا لله تعالى.
قال رضي الله عنه: قال في الكتاب: لا يزول ملك الواقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته، وهذا في حكم الحاكم صحيح؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه، أما في تعليقه(3/15)
بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبدا فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدا فيلزم، والمراد بالحاكم المولى، فأما المحكم ففيه اختلاف المشايخ. ولو وقف في مرض موته قال الطحاوي: هو بمنزلة الوصية بعد الموت. والصحيح أنه لا يلزمه عند أبي حنيفة، وعندهما يلزمه إلا أنه يعتبر من الثلث والوقف في الصحة من جميع المال، وإذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو قول الشافعي بمنزلة الإعتاق لأنه إسقاط الملك. وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي لأنه حق الله تعالى، وإنما يثبت فيه في ضمن التسليم إلى العبد لأن التمليك من الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودا، وقد يكون تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة.
قال: "وإذا صح الوقف على اختلافهم" وفي بعض النسخ: وإذا استحق مكان قوله إذا صح "خرج من ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه" لأنه لو دخل في ملك الموقوف عليه لا يتوقف عليه بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه، ولأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط المالك الأول كسائر أملاكه. قال رضي الله عنه: قوله خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق تقريره.
قال: "ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف" لأن القسمة من تمام القبض والقبض عنده ليس بشرط فكذا تتمته. "وقال محمد: لا يجوز" لأن أصل القبض عنده شرط فكذا ما يتم به، وهذا فيما يحتمل القسمة، وأما فيما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشيوع عند محمد أيضا لأنه يعتبر بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة، فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضا عند أبي يوسف، لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى، ولأن المهايأة فيهما في غاية القبح بأن يقبر فيه الموتى سنة، ويزرع سنة ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت، بخلاف الوقف لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة. ولو وقفه الكل ثم استحق جزء منه بطل في الباقي عند محمد لأن الشيوع مقارن كما في الهبة، بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض وقد وهبه أو أوقفه في مرضه وفي المال ضيق، لأن الشيوع في ذلك طارئ. ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ولهذا جاز في الابتداء، وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة.
قال: "ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء(3/16)
وإن لم يسمهم". لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وأنه يتأبد كالعتق، فإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه، فلهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع. ولأبي يوسف أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى وهو موفر عليه، لأن التقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد فيصح في الوجهين وقيل إن التأبيد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد لأن لفظة الوقف والصدقة منبئة عنه لما بينا أنه إزالة الملك بدون التمليك كالعتق، ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم، وهذا هو الصحيح، وعند محمد ذكر التأبيد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وذلك قد يكون مؤقتا وقد يكون مؤبدا فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص.
قال: "ويجوز وقف العقار" لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه "ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول".
قال رضي الله عنه: وهذا على الإرسال قول أبي حنيفة "وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز" وكذا سائر آلات الحراسة لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعا ما لا يثبت مقصودا كالشرب ف البيع والبناء في الوقف، ومحمد معه فيه، لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول بالوقف عنده فلأن يجوز الوقف فيه تبعا أولى. "وقال محمد: يجوز حبس الكراع والسلاح" ومعناه وقفه في سبيل الله، وأبو يوسف معه فيه على ما قالوا، وهو استحسان. والقياس أن لا يجوز لما بيناه من قبل. وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "وأما خالد فقد حبس أدرعا وأفراسا له في سبيل الله تعالى وطلحة حبس دروعه في سبيل الله تعالى" ويروى أكراعه. والكراع: الخيل. ويدخل في حكمه الإبل؛ لأن العرب يجاهدون عليها، وكذا السلاح يحمل عليها وعن محمد أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات كالفأس والمر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والقدور والمراجل والمصاحف. وعند أبي يوسف لا يجوز؛ لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد في الكراع والسلاح فيقتصر عليه. ومحمد يقول: القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، وقد وجد التعامل في هذه الأشياء. وعن نصير بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقا لها بالمصاحف، وهذا صحيح لأن كل واحد يمسك للدين تعليما وتعلما وقراءة، وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمد، وما لا تعامل فيه لا يجوز عندنا وقفه. وقال الشافعي: كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله ويجوز بيعه يجوز وقفه؛ لأنه يمكن(3/17)
الانتفاع به، فأشبه العقار والكراع والسلاح. ولنا أن الوقف فيه لا يتأبد، ولا بد منه على ما بيناه فصار كالدراهم والدنانير، بخلاف العقار، ولا معارض من حيث السمع ولا من حيث التعامل فبقي على أصل القياس. وهذا لأن العقار يتأبد، والجهاد سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى فلا يكون غيرهما في معناهما.
قال: "وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه، إلا أن يكون مشاعا عند أبي يوسف فيطلب الشريك القسمة فيصح مقاسمته" أما امتناع التمليك فلما بينا. وأما جواز القسمة فلأنها تمييز وإفراز، غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون معنى المبادلة، إلا أن في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف فلم تكن بيعا وتمليكا؛ ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه؛ لأن الولاية للواقف وبعد الموت إلى وصية، وإن وقف نصف عقار خالص له فالذي يقاسمه القاضي أو يبيع نصيبه الباقي من رجل، ثم يقاسمه المشتري ثم يشتري ذلك منه لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسما ومقاسما، ولو كان في القسمة فضل دراهم إن أعطى الواقف لا يجوز لامتناع بيع الوقف، وإن أعطى الواقف جاز ويكون بقدر الدراهم شراء.
قال: "والواجب أن يبتدأ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط" لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدا، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاء ولأن الخراج بالضمان وصار كنفقة العبد الموصى بخدمته، فإنها على الموصى له بها. ثم إن كان الوقف على الفقراء لا يظفر بهم، وأقرب أموالهم هذه الغلة فتجب فيها. ولو كان الوقف على رجل بعينه وآخره للفقراء فهو في ماله: أي مال شاء في حال حياته. ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما يستحق العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، وإن خرب يبني على ذلك الوصف؛ لأنها بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليه. فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة فلا يجوز صرفها إلى شيء آخر إلا برضاه، ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض، وعند الآخرين يجوز ذلك، والأول أصح لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة.
قال: "فإن وقف دارا على سكنى ولده فالعمارة على من له سكنى" لأن الخراج بالضمان على ما مر فصار كنفقة العبد الموصى بخدمته "فإن امتنع من ذلك، أو كان فقيرا آجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى" لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف وحق صاحب السكنى، لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا(3/18)
والأول أولى، ولا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من إتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد، ولا تصح إجارة من له السكنى لأنه غير مالك. امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز.
قال: "وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيهما"؛ لأنه لا بد من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف. فإن مست الحاجة إليه في الحال صرفها فيها، وإلا أمسكها حتى لا يتعذر عليه ذلك أوان الحاجة فيبطل المقصود، وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرمة صرفا للبدل إلى مصرف المبدل "ولا يجوز أن يقسمه" يعني النقض "بين مستحقي الوقف" لأنه جزء من العين ولا حق للموقوف عليهم فيه: وإنما حقهم في المنافع، والعين حق الله تعالى فلا يصرف إليهم غير حقهم.
قال: "وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف" قال رضي الله عنه: ذكر فصلين شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه.
أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف، ولا يجوز على قياس قول محمد وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي. وقيل إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز. وقيل هي مسألة مبتدأة، والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء سواء؛ ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين، فقد قيل يجوز بالاتفاق، وقد قيل هو على الخلاف أيضا وهو الصحيح لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه.
وجه قول محمد رحمه الله أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه، فاشتراطه البعض أو الكل لنفسه يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة، وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه. ولأبي يوسف ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته" والمراد منها صدقته الموقوفة، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط، فدل على صحته، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه، فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أنه يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز، كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة، وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه، ولأن مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك، قال عليه(3/19)
الصلاة والسلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة". ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف، وعند محمد الوقف جائز والشرط باطل. ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف وعند محمد الوقف باطل، وهذا بناء على ما ذكرنا.
وأما فصل الولاية فقد نص فيه على قول أبي يوسف، وهو قول هلال أيضا وهو ظاهر المذهب. وذكر هلال في وقفه وقال أقوام: إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له ولاية، وإن لم يشترط لم تكن له ولاية. قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد، لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف، فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه. ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه فيستحيل أن لا يكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، كمن اتخذ مسجدا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه، وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه أقرب الناس إليه. ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها من يده نظرا للفقراء، كما له أن يخرج الوصي نظرا للصغار، وكذا إذا شرط أن ليس للسلطان ولا لقاض أن يخرجها من يده ويوليها غيره لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل.(3/20)
فصل: وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه الخ
...
فصل: "وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال عند أبي حنيفة عن ملكه" أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد، ويشترط تسليم نوعه، وذلك في المسجد بالصلاة فيه، أو لأنه لما تعذر القبض فقام تحقق المقصود مقامه ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة، وكذا عن محمد؛ لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه. وعن محمد أنه يشترط الصلاة بالجماعة؛ لأن المسجد بني لذلك في الغالب "وقال أبو يوسف: يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا" لأن التسليم عنده ليس بشرط؛ لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى بسقوط حق العبد وصار كالإعتاق، وقد بيناه من قبل.
قال: "ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت وجعل باب المسجد إلى الطريق، وعزله عن ملكه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه" لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقا به، ولو كان السرداب لمصالح المسجد جاز كما في مسجد بيت المقدس. وروى(3/20)
الحسن عنه أنه قال: إذا جعل السفل مسجدا وعلى ظهره مسكن فهو مسجد؛ لأن المسجد مما يتأبد، وذلك يتحقق في السفل دون العلو. وعن محمد على عكس هذا؛ لأن المسجد معظم، وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل يتعذر تعظيمه. وعن أبي يوسف أنه جوز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنه اعتبر الضرورة. وعن محمد أنه حين دخل الري أجاز ذلك كله لما قلنا.
قال: "وكذلك إن اتخذ وسط داره مسجدا وأذن للناس بالدخول فيه" يعني له أن يبيعه ويورث عنه؛ لأن المسجد ما لا يكون لأحد فيه حق المنع، وإذا كان ملكه محيطا بجوانبه كان له حق المنع فلم يصر مسجدا، ولأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى "وعن محمد أنه لا يباع ولا يورث ولا يوهب" اعتبره مسجدا، وهكذا عن أبي يوسف أنه يصير مسجدا؛ لأنه لما رضي بكونه مسجدا ولا يصير مسجدا إلا بالطريق دخل فيه الطريق وصار مستحقا كما يدخل في الإجارة من غير ذكر.
قال: "ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه" لأنه تجرد عن حق العباد وصار خالصا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق. ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه، وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وارثه بعد موته؛ لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه، إلا أن أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش إنه ينقل إلى مسجد آخر.
قال: "ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل أو رباطا أو جعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه عن ذلك حتى يحكم به الحاكم عند أبي حنيفة"؛ لأنه لم ينقطع عن حق العبد؛ ألا ترى أن له أن ينتفع به فيسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية، ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء، بخلاف المسجد؛ لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم.
"وعند أبي يوسف يزول ملكه بالقول" كما هو أصله، إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم.
"وعند محمد إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في(3/21)
المقبرة زال الملك" لأن التسليم عنده شرط والشرط تسليم نوعه، وذلك بما ذكرناه. ويكتفى بالواحد لتعذر فعل الجنس كله، وعلى هذا البئر الموقوفة والحوض، ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه كلها؛ لأنه نائب عن الموقوف عليه، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقد قيل لا يكون تسليما؛ لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل يكون تسليما؛ لأنه يحتاج إلى من يكنسه ويغلق بابه، فإذا سلم إليه صح التسليم، والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل؛ لأنه لا متولي له عرفا. وقيل هي بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي؛ لأنه لو نصب المتولي يصح، وإن كان بخلاف العادة، ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله والمعتمرين، أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين، أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين. أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز، ولا رجوع فيه لما بينا إلا أن في الغلة تحل للفقراء دون الأغنياء، وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الغني والفقير، والفارق هو العرف في الفصلين. فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء، وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء، ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول. والغني لا يحتاج إلى صرف هذا الغلة لغناه، والله تعالى أعلم بالصواب.(3/22)
كتاب البيوع
كيفية انعقاد البيع
مدخل
...
كتاب البيوع
قال: "البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظي الماضي" مثل أن يقول أحدهما بعت والآخر اشتريت؛ لأن البيع إنشاء تصرف، والإنشاء يعرف بالشرع والموضوع للإخبار قد استعمل فيه فينعقد به. ولا ينعقد بلفظين أحدهما لفظ المستقبل والآخر لفظ الماضي، بخلاف النكاح، وقد مر الفرق هناك. وقوله رضيت بكذا أو أعطيتك بكذا أو خذه بكذا في معنى قوله بعت واشتريت؛ لأنه يؤدي معناه، والمعنى هو المعتبر في هذه العقود، ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس هو الصحيح لتحقق المراضاة.
قال: "وإذا أوجبأحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد"، وهذا خيار القبول؛ لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه، وإذا لم يفسد لحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله لخلوه عن إبطال حق الغير، وإنما يمتد إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر، والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة، وليس له أن يقبل في بعض المبيع ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لعدم رضا الآخر بتفرق الصفقة، إلا إذا بين كل واحد؛ لأنه صفقات معنى.
قال: "وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأن القيام دليل الإعراض" والرجوع، وله ذلك على ما ذكرناه. وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية.
وقال الشافعي رحمه الله يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولنا أن في الفسخ إبطال حق الآخر فلا يجوز. والحديث محمول على خيار القبول. وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقوال.
قال: "والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع" لأن(3/23)
بالإشارة كفاية في التعريف وجهالة الوصف فيه لا تفضي إلى المنازعة "والأثمان المطلقة لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة"؛ لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز، هذا هو الأصل.
قال: "ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوما" لإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وعنه عليه الصلاة والسلام "أنه اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم ورهنه درعه". ولا بد أن يكون الأجل معلوما؛ لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد، فهذا يطالبه به في قريب المدة، وهذا يسلمه في بعيدها.
قال: "ومن أطلق الثمن في البيع كان على غالب نقد البلد"؛ لأنه المتعارف، وفيه التحري للجواز فيصرف إليه "فإن كانت النقود مختلفة فالبيع فاسد إلا أن يبين أحدهما" وهذا إذا كان الكل في الرواج سواء؛ لأن الجهالة مفضية إلى المنازعة إلا أن ترتفع الجهالة بالبيان أو يكون أحدهما أغلب وأروج فحينئذ يصرف إليه تحريا للجواز، وهذا إذا كانت مختلفة في المالية، فإن كانت سواء فيها كالثنائي والثلاثي والنصرتي اليوم بسمرقند والاختلاف بين العدالى بفرغانة جاز البيع إذا أطلق اسم الدرهم، كذا قالوا، وينصرف إلى ما قدر به من أي نوع كان؛ لأنه لا منازعة ولا اختلاف في المالية.
قال: "ويجوز بيع الطعام والحبوب مكايلة ومجازفة" وهذا إذا باعه بخلاف جنسه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" بخلاف ما إذا باعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا ولأن الجهالة غير مانعة من التسليم والتسلم فشابه جهالة القيمة.
قال: "ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره"؛ لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله بخلاف السلم؛ لأن التسليم فيه متأخر والهلاك ليس بنادر قبله فتتحقق المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا، والأول أصح وأظهر
قال: "ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة إلا أن يسمي جملة قفزانها وقالا يجوز في الوجهين" له أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل وهو معلوم، وإلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان أو بالكيل في المجلس، وصار هذا كما لو أقر وقال لفلان علي كل درهم فعليه درهم واحد بالإجماع. ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثلها غير مانع، وكما إذا باع(3/24)
عبدا من عبدين على أن المشتري بالخيار. ثم إذا جاز في قفيز واحد عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه، وكذا إذا كيل في المجلس أو سمى جملة قفزانها؛ لأنه علم ذلك الآن فله الخيار، كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع.
قال: "ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع في جميعها عند أبي حنيفة، وكذلك من باع ثوبا مذارعة كل ذراع بدرهم ولم يسم جملة الذراعان، وكان كل معدود متفاوت، وعندهما يجوز في الكل لما قلنا، وعنده ينصرف إلى الواحد" لما بينا غير أن بيع شاة من قطيع غنم وذراع من ثوب لا يجوز للتفاوت. وبيع قفيز من صبرة يجوز لعدم التفاوت فلا تفضي الجهالة إلى المنازعة فيه، وتقضي إليها في الأول فوضح الفرق.
قال: "ومن ابتاع صبرة طعام على أنها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء فسخ البيع" لتفرق الصفقة عليه قبل التمام، فلم يتم رضاه بالموجود، "وإن وجدها أكثر فالزيادة للبائع"؛ لأن البيع وقع على مقدار معين والقدر ليس بوصف
"ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم أو أرضا على أنها مائة ذراع بمائة درهم فوجدها أقل فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجملة الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الذراع وصف في الثوب؛ ألا يرى أنه عبارة عن الطول والعرض، والوصف لا يقابله شيء من الثمن كأطراف الحيوان فلهذا يأخذه بكل الثمن، بخلاف الفصل الأول؛ لأن المقدار يقابله الثمن فلهذا يأخذه بحصته، إلا أنه يتخير لفوات الوصف المذكور لتغير المعقود عليه فيختل الرضى.
قال: "وإن وجدها أكثر من الذراع الذي سماه فهو للمشتري ولا خيار للبائع"؛ لأنه صفة، فكان بمنزلة ما إذا باعه معيبا، فإذا هو سليم "ولو قال بعتكها على أنها مائة ذراع بمائة درهم كل ذراع بدرهم فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الوصف وإن كان تابعا لكنه صار أصلا بإفراده بذكر الثمن فينزل كل ذراع منزلة ثوب؛ وهذا لأنه لو أخذه بكل الثمن لم يكن آخذا لكل ذراع بدرهم "وإن وجدها زائدة فهو بالخيار إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع" لأنه إن حصل له الزيادة في الذرع تلزمه زيادة الثمن فكان نفعا يشوبه ضرر فيتخير، وإنما يلزمه الزيادة لما بينا أنه صار أصلا، ولو أخذه بالأقل لم يكن آخذا بالمشروط.
قال: "ومن اشترى عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقالا: هو جائز، وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم جاز في قولهم جميعا"(3/25)
لهما أن عشرة أذرع من مائة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم. وله أن الذراع اسم لما يذرع به، واستعير لما يحله الذراع وهو المعين دون المشاع، وذلك غير معلوم، بخلاف السهم. ولا فرق عند أبي حنيفة بين ما إذا علم من جملة الذراعان أو لم يعلم هو الصحيح خلافا لما يقوله الخصاف لبقاء الجهالة.
ولو اشترى عدلا على أنه عشرة أثواب فإذا هو تسعة أو أحد عشر فسد البيع لجهالة المبيع أو الثمن.
"ولو بين لكل ثوب ثمنا جاز في فصل النقصان بقدره وله الخيار، ولم يجز في الزيادة" لجهالة العشرة المبيعة. وقيل عند أبي حنيفة لا يجوز في فصل النقصان أيضا وليس بصحيح، بخلاف ما إذا اشترى ثوبين على أنهما هرويان فإذا أحدهما مروي حيث لا يجوز فيهما، وإن بين ثمن كل واحد منهما؛ لأنه جعل القبول في المروي شرطا لجواز العقد في الهروي، وهو شرط فاسد ولا قبول يشترط في المعدوم فافترقا.
"ولو اشترى ثوبا واحدا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإذا هو عشرة ونصف أو تسعة ونصف، قال أبو حنيفة رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بعشرة من غير خيار، وفي الوجه الثاني يأخذه بتسعة إن شاء وقال أبو يوسف رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بأحد عشر إن شاء، وفي الثاني يأخذ بعشرة إن شاء. وقال محمد رحمه الله: يأخذ في الأول بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير"؛ لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه بنصفه فيجري عليه حكمها. ولأبي يوسف رحمه الله أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقض. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الذراع وصف في الأصل، وإنما أخذ حكم المقدار بالشرط وهو مقيد بالذراع، فعند عدمه عاد الحكم إلى الأصل. وقيل في الكرباس الذي لا يتفاوت جوانبه لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط؛ لأنه بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل، وعلى هذا لو قالوا: يجوز بيع ذراع منه.(3/26)
فصل: "ومن باع دارا دخل بناؤها في البيع وإن لم يسمه"،
لأن اسم الدار يتناول العرصة والبناء في العرف ولأنه متصل بها اتصال قرار فيكون تبعا له.
"ومن باع أرضا دخل ما فيها من النخل والشجر وإن لم يسمه" لأنه متصل بها للقرار فأشبه البناء "ولا يدخل الزرع في بيع الأرض إلا بالتسمية" لأنه متصل بها للفصل فشابه المتاع الذي فيها.
"ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع" لقوله عليه الصلاة(3/26)
والسلام: "من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" ولأن الاتصال وإن كان خلقة فهو للقطع لا للبقاء فصار كالزرع. "ويقال للبائع اقطعها وسلم المبيع" وكذا إذا كان فيها زرع؛ لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فكان عليه تفريغه وتسليمه، كما إذا كان فيه متاع. وقال الشافعي رحمه الله: يترك حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع؛ لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد، والمعتاد أن لا يقطع كذلك وصار كما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع. قلنا: هناك التسليم واجب أيضا حتى يترك بأجر، وتسليم العوض كتسليم المعوض،. ولا فرق بين ما إذا كان الثمر بحال له قيمة أو لم يكن في الصحيح ويكون في الحالين للبائع؛ لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين على ما تبين فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر. وأما إذا بيعت الأرض وقد بذر فيها صاحبها ولم ينبت بعد لم يدخل فيه؛ لأنه مودع فيها كالمتاع،. ولو نبت ولم تصر له قيمة فقد قيل لا يدخل فيه، وقد قيل يدخل فيه، وكأن هذا بناء على الاختلاف في جواز بيعه قبل أن تناله المشافر والمناجل، ولا يدخل الزرع والثمر بذكر الحقوق والمرافق؛ لأنهما ليسا منهما. ولو قال بكل قليل وكثير هو له فيها ومنها من حقوقها أو قال من مرافقها لم يدخلا فيه لما قلنا، وإن لم يقل من حقوقها أو من مرافقها دخلا فيه. وأما الثمر المجذوذ والزرع المحصود فهو بمنزلة المتاع لا يدخل إلا بالتصريح به.
قال: "ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها أو قد بدا جاز البيع"؛ لأنه مال متقوم، إما لكونه منتفعا به في الحال أو في الثاني، وقد قيل لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها والأول أصح "وعلى المشتري قطعها في الحال" تفريغا لملك البائع، وهذا. إذا اشتراها مطلقا أو بشرط القطع "وإن شرط تركها على النخيل فسد البيع"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وهو شغل ملك الغير أو هو صفقة في صفقة وهو إعارة أو إجارة في بيع، وكذا بيع الزرع بشرط الترك لما قلنا، وكذا إذا تناهى عظمها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما قلنا، واستحسنه محمد رحمه الله للعادة، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها؛ لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو الذي يزيد لمعنى من الأرض أو الشجر. ولو اشتراها مطلقا وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعدما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء. لأن هذا تغير حالة لا تحقق زيادة، وإن اشتراها مطلقا وتركها على النخيل وقد استأجر النخيل إلى وقت الإدراك طاب له الفضل؛ لأن الإجارة باطلة لعدم التعارف والحاجة فبقي الإذن معتبرا، بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وتركه حيث لا يطيب له الفضل؛ لأن الإجارة فاسدة للجهالة فأورثت خبثا، ولو(3/27)
اشتراها مطلقا فأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع؛ لأنه لا يمكنه تسليم المبيع لتعذر التمييز. ولو أثمرت بعد القبض يشتركان فيه للاختلاط، والقول قول المشتري في مقداره؛ لأنه في يده، وكذا في الباذنجان والبطيخ، والمخلص أن يشتري الأصول لتحصل الزيادة على ملكه.
قال: "ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها، أرطالا معلومة" خلافا لمالك رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الاستثناء مجهول،. بخلاف ما إذا باع واستثنى نخلا معينا؛ لأن الباقي معلوم بالمشاهدة. قال رضي الله عنه: قالوا هذه رواية الحسن وهو قول الطحاوي؛ أما على ظاهر الرواية ينبغي أن يجوز؛ لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد، وبيع قفيز من صبرة جائز فكذا استثناؤه، بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان؛ لأنه لا يجوز بيعه، فكذا استثناؤه.
"ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره" وكذا الأرز والسمسم. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، وكذا الجوز واللوز والفستق في قشره الأول عنده. وله في بيع السنبلة قولان، وعندنا يجوز ذلك كله. له أن المعقود عليه مستور بما لا منفعة له فيه فأشبه تراب الصاغة إذا بيع بجنسه. ولنا ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة"؛ ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير والجامع كونه مالا متقوما، بخلاف تراب الصاغة؛ لأنه إنما لا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، حتى لو باعه بخلاف جنسه جاز، وفي مسألتنا لو باعه بجنسه لا يجوز أيضا لشبهة الربا؛ لأنه لا يدري قدر ما في السنابل.
"ومن باع دارا دخل في البيع مفاتيح إغلاقها"؛ لأنه يدخل فيه الإغلاق؛ لأنها مركبة فيها للبقاء والمفتاح يدخل في بيع الغلق من غير تسمية؛ لأنه بمنزلة بعض منه إذ لا ينتفع به بدونه.
قال: "وأجرة الكيال وناقد الثمن على البائع" أما الكيل فلا بد منه للتسليم وهو على البائع ومعنى هذا إذا بيع مكايلة، وكذا أجرة الوزان والزراع والعداد، وأما النقد فالمذكور رواية ابن رستم عن محمد؛ لأن النقد يكون بعد التسليم؛ ألا ترى أنه يكون بعد الوزن والبائع هو المحتاج إليه ليميز ما تعلق به حقه من غيره أو ليعرف المعيب ليرده. وفي رواية ابن سماعة عنه على المشتري؛ لأنه يحتاج إلى تسليم الجيد المقدر، والجودة تعرف بالنقد كما يعرف القدر بالوزن فيكون عليه.(3/28)
قال: "وأجرة وزان الثمن على المشتري" لما بينا أنه هو المحتاج إلى تسليم الثمن وبالوزن يتحقق التسليم.
قال: "ومن باع سلعة بثمن قيل للمشتري ادفع الثمن أولا"؛ لأن حق المشتري تعين في المبيع فيقدم دفع الثمن ليتعين حق البائع بالقبض لما أنه لا يتعين بالتعيين تحقيقا للمساواة.
قال: "ومن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن قيل لهما سلما معا" لاستوائهما في التعين فلا حاجة إلى تقديم أحدهما في الدفع.(3/29)
باب خيار الشرط
خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري "ولهما الخيار ثلاثة أيام فما دونها والأصل" فيه ما روي: أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام". "ولا يجوز أكثر منها عند أبي حنيفة" وهو قول زفر والشافعي. "وقالا: يجوز إذا سمى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين"؛ ولأن الخيار إنما شرع للحاجة إلى التروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن. ولأبي حنيفة أن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد وهو اللزوم، وإنما جوزناه بخلاف القياس لما رويناه من النص، فيقتصر على المدة المذكورة فيه وانتفت الزيادة. "إلا أنه إذا أجاز في الثلاثجاز عند أبي حنيفة" خلافا لزفر، هو يقول: إنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا. وله أنه أسقط المفسد قبل تقرره فيعود جائزا كما إذا باع بالرقم وأعلمه في المجلس. ولأن الفساد باعتبار اليوم الرابع، فإذا أجاز قبل ذلك لم يتصل المفسد بالعقد، ولهذا قيل: إن العقد يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع، وقيل ينعقد فاسدا ثم يرتفع الفساد بحذف الشرط، وهذا على الوجه الأول. "ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما جاز. وإلى أربعة أيام لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز إلى أربعة أيام أو أكثر، فإن نقد في الثلاث جاز في قولهم جميعا".
والأصل فيه أن هذا في معنى اشتراط الخيار إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد تحرزا عن المماطلة في الفسخ فيكون ملحقا به. وقد مر أبو حنيفة على أصله في الملحق به، ونفى الزيادة على الثلاث وكذا محمد في تجويز الزيادة. وأبو يوسف أخذ في(3/29)
الأصل بالأثر. وفي هذا بالقياس، وفي هذه المسألة قياس آخر وإليه مال زفر وهو أنه بيع شرط فيه إقالة فاسدة لتعلقها بالشرط، واشتراط الصحيح منها فيه مفسد للعقد، فاشتراط الفاسد أولى ووجه الاستحسان ما بينا.
قال: "وخيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه"؛ لأن تمام هذا السبب بالمراضاة ولا يتم مع الخيار ولهذا ينفذ عتقه. ولا يملك المشتري التصرف فيه وإن قبضه بإذن البائع "ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار ضمنه بالقيمة"؛ لأن البيع ينفسخ بالهلاك؛ لأنه كان موقوفا، ولا نفاذ بدون المحل فبقي مقبوضا في يده على سوم الشراء وفيه القيمة، ولو هلك في يد البائع انفسخ البيع ولا شيء على المشتري اعتبارا بالبيع الصحيح المطلق.
قال: "وخيار المشتري لا يمنع خروج المبيع عن ملك البائع"؛ لأن البيع في جانب الآخر لازم، وهذا؛ لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل. عن ملك من له الخيار؛ لأنه شرع نظرا له دون الآخر.
قال: "إلا أن المشتري لا يملكه عند أبي حنيفة، وقالا: يملكه" لأنه لما خرج عن ملك البائع فلو لم يدخل في ملك المشتري يكون زائلا لا إلى مالك ولا عهد لنا به في الشرع. ولأبي حنيفة أنه لما لم يخرج الثمن عن ملكه فلو قلنا بأنه يدخل المبيع في ملكه لاجتمع البدلان في ملك رجل واحد حكما للمعاوضة، ولا أصل له في الشرع؛ لأن المعاوضة تقتضي المساواة؛ ولأن الخيار شرع نظرا للمشتري ليتروى فيقف على المصلحة، ولو ثبت الملك ربما يعتق عليه من غير اختياره بأن كان قريبه فيفوت النظر.
قال: "فإن هلك في يده هلك بالثمن، وكذا إذا دخله عيب" بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع. ووجه الفرق أنه إذا دخله عيب يمتنع الرد، والهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب فيهلك، والعقد قد انبرم فيلزمه الثمن، بخلاف ما تقدم؛ لأن بدخول العيب لا يمتنع الرد حكما بخيار البائع فيهلك والعقد موقوف.
قال: "ومن اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح"؛ لأنه لم يملكها لما له من الخيار "وإن وطئها له أن يردها"؛ لأن الوطء بحكم النكاح "إلا إذا كانت بكرا"؛ لأن الوطء ينقصها، وهذا عند أبي حنيفة "وقالا: يفسد النكاح"؛ لأنه ملكها "وإن وطئها لم يردها"؛ لأن وطأها بملك اليمين فيمتنع الرد وإن كانت ثيبا؛ ولهذه المسألة أخوات كلها تبتني على وقوع الملك للمشتري بشرط الخيار وعدمه: منها عتق المشترى على المشتري إذا كان قريبا له في مدة الخيار، ومنها: عتقه إذا كان المشتري حلف إن ملكت عبدا فهو حر. بخلاف(3/30)
ما إذا قال: إن اشتريت فهو حر؛ لأنه يصير كالمنشئ للعتق بعد الشراء فيسقط الخيار، ومنها أن حيض المشتراة في المدة لا يجتزأ به عن الاستبراء عنده، وعندهما يجتزأ؛ ولو ردت بحكم الخيار إلى البائع لا يجب عليه الاستبراء عنده، وعندهما يجب إذا ردت بعد القبض. ومنها إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما،. ومنها إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع ثم أودعه عند البائع فهلك في يده في المدة هلك من مال البائع لارتفاع القبض بالرد لعدم الملك عنده، وعندهما من مال المشتري لصحة الإيداع باعتبار قيام الملك. ومنها لو كان المشتري عبدا مأذونا له فأبرأه البائع من الثمن في المدة بقي على خياره عنده؛ لأن الرد امتناع عن التملك والمأذون له يليه، وعندهما بطل خياره؛ لأنه لما ملكه كان الرد منه تمليكا بغير عوض وهو ليس من أهله. ومنها إذا اشترى ذمي من ذمي خمرا على أنه بالخيار ثم أسلم بطل الخيار عندهما؛ لأنه ملكها فلا يملك ردها وهو مسلم. وعنده يبطل البيع؛ لأنه لم يملكها فلا يتملكها بإسقاط الخيار بعده وهو مسلم.
قال: "ومن شرط له الخيار فله أن يفسخ في المدة وله أن يجيز، فإن أجازه بغير حضرة صاحبها جاز. وإن فسخ لم يجز إلا أن يكون الآخر حاضرا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز" وهو قول الشافعي والشرط هو العلم، وإنما كنى بالحضرة عنه. له أنه مسلط على الفسخ من جهة صاحبه فلا يتوقف على علمه كالإجازة ولهذا لا يشترط رضاه وصار كالوكيل بالبيع. ولهما أنه تصرف في حق الغير وهو العقد بالرفع، ولا يعرى عن المضرة؛ لأنه. عساه يعتمد تمام البيع السابق فيتصرف فيه فتلزمه غرامة القيمة بالهلاك فيما إذا كان الخيار للبائع، أو لا يطلب لسلعته مشتريا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا نوع ضرر فيتوقف على علمه وصار كعزل الوكيل، بخلاف. الإجازة لأنه لا إلزام فيه، ولا نقول إنه مسلط، وكيف يقال ذلك وصاحبه لا يملك الفسخ ولا تسليط في غير. ما يملكه المسلط، ولو كان فسخ في حال غيبة صاحبه وبلغه في المدة تم الفسخ لحصول العلم به، ولو بلغه بعد مضي المدة تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ.
قال: "وإذا مات من له الخيار بطل خياره ولم ينتقل إلى ورثته" وقال الشافعي: يورث عنه؛ لأنه حق لازم ثابت في البيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب والتعيين. ولنا أن الخيار ليس إلا مشيئة وإرادة ولا يتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال. بخلاف خيار العيب؛ لأن المورث استحق المبيع سليما فكذا الوارث، فأما نفس الخيار لا يورث، وأما خيار التعيين يثبت للوارث ابتداء لاختلاط ملكه بملك الغير لا أن يورث الخيار.
قال "ومن اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره فأيهما أجاز الخيار وأيهما نقض(3/31)
انتقض" وأصل هذا أن اشتراط الخيار لغيره جائز استحسانا، وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر؛ لأن الخيار من مواجب العقد وأحكامه، فلا يجوز اشتراطه لغيره كاشتراط الثمن على غير المشتري.. ولنا أن الخيار لغير العاقد لا يثبت إلا بطريق النيابة عن العاقد فيقدر الخيار له اقتضاء ثم يجعل هو نائبا عنه تصحيحا لتصرفه، وعند ذلك يكون لكل واحد منهما الخيار، فأيهما أجاز جاز، وأيهما نقض انتقض "ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر يعتبر السابق" لوجوده في زمان لا يزاحمه فيه غيره، ولو خرج الكلامان منهما معا يعتبر تصرف العاقد في رواية وتصرف الفاسخ في أخرى. وجه الأول أن تصرف العاقد أقوى؛ لأن النائب يستفيد الولاية منه. وجه الثاني أن الفسخ أقوى؛ لأن المجاز يلحقه الفسخ والمفسوخ لا تلحقه الإجازة، ولما ملك كل واحد منهما التصرف رجحنا بحال التصرف. وقيل الأول قول محمد والثاني قول أبي يوسف، واستخراج ذلك مما إذا باع الوكيل من رجل والموكل من غيره معا؛ فمحمد يعتبر فيه تصرف الموكل، وأبو يوسف يعتبرهما.
قال: "ومن باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام فالبيع فاسد، وإن باع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما بعينه جاز البيع" والمسألة على أربعة أوجه:
أحدها: أن لا يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار وهو الوجه الأول في الكتاب وفساده لجهالة الثمن والمبيع؛ لأن الذي فيه الخيار كالخارج عن العقد، إذ العقد مع الخيار لا ينعقد في حق الحكم فبقي الداخل فيه أحدهما وهو غير معلوم.
والوجه الثاني: أن يفصل الثمن ويعين الذي فيه الخيار وهو المذكور ثانيا في الكتاب، وإنما جاز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، وقبول العقد في الذي فيه الخيار وإن كان شرطا لانعقاد العقد في الآخر ولكن هذا غير مكسد للعقد لكونه محلا للبيع كما إذا جمع بين قن ومدبر.
والثالث: أن يفصل ولا يعين.
والرابع: أن يعين ولا يفصل، فالعقد فاسد في الوجهين: إما لجهالة المبيع أو لجهالة الثمن.
قال: "ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز، وكذا الثلاثة، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد" والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع، وهو قول زفر والشافعي. وجه الاستحسان أن شرع الخيار(3/32)
للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة؛ لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله، ولا يمكنه البائع من الحمل إليه إلا بالبيع فكان في معنى ما ورد به الشرع، غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث لوجود الجيد والوسط والرديء فيها، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة في الثلاثة لتعيين من له الخيار، وكذا في الأربع، إلا أن الحاجة إليها غير متحققة والرخصة ثبوتها بالحاجة وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما. ثم قيل: يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين، وهو المذكور في الجامع الصغير. "وقيل لا يشترط وهو المذكور في الجامع الكبير"، فيكون ذكره على هذا الاعتبار وفاقا لا شرطا؛ وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث عنده وبمدة معلومة أيتها كانت عندهما. ثم ذكر في بعض النسخ: اشترى ثوبين وفي بعضها اشترى أحد الثوبين وهو الصحيح؛ لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة، والأول تجوز واستعارة. ولو هلك أحدهما أو تعيب لزمه البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة لامتناع الرد بالتعيب، ولو هلكا جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة فيهما. ولو كان فيه خيار الشرط له أن يردهما جميعا. ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما؛ لأن الباقي خيار التعيين للاختلاط، ولهذا لا يتوقف في حق الوارث. وأما خيار الشرط لا يورث وقد ذكرناه من قبل.
قال: "ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار أخرى بجنبها فأخذها بالشفعة فهو رضا"؛ لأن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها؛ لأنه ما ثبت إلا لدفع ضرر الجوار وذلك بالاستدامة فيتضمن ذلك سقوط الخيار سابقا عليه فيثبت الملك من وقت الشراء فيتبين أن الجوار كان ثابتا، وهذا التقرير يحتاج إليه لمذهب أبي حنيفة خاصة.
قال: "وإذا اشترى الرجلان عبدا على أنهما بالخيار فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده" عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يرده، وعلى هذا الخلاف خيار العيب وخيار الرؤية، لهما أن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما فلا يسقط بإسقاط صاحبه لما فيه من إبطال حقه. وله أن المبيع خرج عن ملكه غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيبا به وفيه إلزام ضرر زائد، وليس من ضرورة إثبات الخيار لهما الرضا برد أحدهما لتصور اجتماعهما على الرد.
قال: "ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك"؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه فيستحق في العقد بالشرط، ثم فواته يوجب التخيير؛ لأنه ما رضي به دونه، وهذا يرجع إلى اختلاف النوع لقلة التفاوت في(3/33)
الأغراض، فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات وصار كفوات وصف السلامة، وإذا أخذه أخذه بجميع الثمن؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد على ما عرف.(3/34)
باب خيار الرؤية
قال: "ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز، وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع الثمن "وإن شاء رده" وقال الشافعي: لا يصح العقد أصلا؛ لأن المبيع مجهول. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه"؛ ولأن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة، لأنه لو لم يوافقه يرده، فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه. "وكذا إذا قال رضيت ثم رآه له أن يرده" لأن الخيار معلق بالرؤية لما روينا فلا يثبت قبلها، وحق الفسخ قبل الرؤية بحكم أنه عقد غير لازم لا بمقتضى الحديث، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه لا يتحقق فلا يعتبر قوله رضيت قبل الرؤية بخلاف قوله رددت.
قال: "ومن باع ما لم يره فلا خيار له" وكان أبو حنيفة يقول: أولا له الخيار اعتبارا بخيار العيب وخيار الشرط وهذا؛ لأن لزوم العقد بتمام الرضا زوالا وثبوتا ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم بأوصاف المبيع، وذلك بالرؤية فلم يكن البائع راضيا بالزوال. ووجه القول المرجوع إليه أنه معلق بالشراء لما روينا فلا يثبت دونه. وروي أن عثمان بن عفان باع أرضا له بالبصرة من طلحة بن عبيد الله فقيل لطلحة: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره. فحكما بينهما جبير بن مطعم. فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم. ثم خيار الرؤية غير مؤقت بل يبقى إلى أن يوجد ما يبطله، وما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفا لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير أو تصرفا يوجب حقا للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم تعذر الفسخ فبطل الخيار وإن كان تصرفا لا يوجب حقا للغير كالبيع بشرط الخيار، والمساومة والهبة من غير تسليم لا يبطله قبل الرؤية؛ لأنه لا يربو على صريح الرضا ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضى.
قال: "ومن نظر إلى وجه الصبرة، أو إلى ظاهر الثوب مطويا أو إلى وجه الجارية أو إلى وجه الدابة وكفلها فلا خيار له" والأصل في هذا أن رؤية جميع المبيع غير مشروط لتعذره فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود. ولو دخل في البيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت(3/34)
آحادها كالمكيل والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يكتفي برؤية واحد منها إلا إذا كان الباقي أردأ مما رأى فحينئذ يكون له الخيار. وإن كان تتفاوت آحادها كالثياب والدواب لا بد من رؤية كل واحد منها، والجوز والبيض من هذا القبيل فيما ذكره الكرخي، وكان ينبغي أن يكون مثل الحنطة والشعير لكونها متقاربة. إذا ثبت هذا فنقول: النظر إلى وجه الصبرة كاف؛ لأنه يعرف وصف البقية؛ لأنه مكيل يعرض بالنموذج، وكذا النظر إلى ظاهر الثوب مما يعلم به البقية إلا إذا كان في طيه ما يكون مقصودا كموضع العلم، والوجه هو المقصود في الآدمي، وهو والكفل في الدواب فيعتبر رؤية المقصود ولا يعتبر رؤية غيره. وشرط بعضهم رؤية القوائم. والأول هو المروي عن أبي يوسف رحمه الله. وفي شاة اللحم لا بد من الجس لأن المقصود وهو اللحم يعرف به. وفي شاة القنية لا بد من رؤية الضرع. وفيما يطعم لا بد من الذوق لأن ذلك هو المعرف للمقصود. قال: "وإن رأى صحن الدار فلا خيار له وإن لم يشاهد بيوتها" وكذلك إذا رأى خارج الدار أو رأى أشجار البستان من خارج. وعند زفر لا بد من دخول داخل البيوت، والأصح أن جواب الكتاب على وفاق عادتهم في الأبنية، فإن دورهم لم تكن متفاوتة يومئذ، فأما اليوم فلا بد من الدخول في داخل الدار للتفاوت، والنظر إلى الظاهر لا يوقع العلم بالداخل.
قال: "ونظر الوكيل كنظر المشتري حتى لا يرده إلا من عيب، ولا يكون نظر الرسول كنظر المشتري، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: هما سواء، وله أن يرده" قال معناه الوكيل بالقبض، فأما الوكيل بالشراء فرؤيته تسقط الخيار بالإجماع.
لهما أنه توكل بالقبض دون إسقاط الخيار فلا يملك ما لم يتوكل به وصار كخيار العيب والشرط والإسقاط قصدا. وله أن القبض نوعان: تام وهو أن يقبضه وهو يراه. وناقص، وهو أن يقبضه مستورا وهذا؛ لأن تمامه بتمام الصفقة ولا تتم مع بقاء خيار الرؤية والموكل ملكه بنوعيه، فكذا الوكيل. ومتى قبض الموكل وهو يراه سقط الخيار فكذا الوكيل لإطلاق التوكيل. وإذا قبضه مستورا انتهى التوكيل بالناقص منه فلا يملك إسقاطه قصدا بعد ذلك، بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام الصفقة فيتم القبض مع بقائه، وخيار الشرط على هذا الخلاف. ولو سلم فالموكل لا يملك التام منه فإنه لا يسقط بقبضه؛ لأن الاختيار وهو المقصود بالخيار يكون بعده، فكذا لا يملكه وكيله، وبخلاف الرسول؛ لأنه لا يملك شيئا وإنما إليه تبليغ الرسالة ولهذا لا يملك القبض، والتسليم إذا كان رسولا في البيع.
قال: "وبيع الأعمى وشراؤه جائز وله الخيار إذا اشترى" لأنه اشترى ما لم يره وقد قررناه من قبل "ثم يسقط خياره بجسه المبيع إذا كان يعرف بالجس، ويشمه إذا كان يعرف(3/35)
بالشم ويذوقه إذا كان يعرف بالذوق" كما في البصير "ولا يسقط خياره في العقار حتى يوصف له" لأن الوصف يقام مقام الرؤية كما في السلم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقف في مكان لو كان بصيرا لرآه وقال: قد رضيت سقط خياره، لأن التشبه يقام مقام الحقيقة في موضع العجز كتحريك الشفتين يقام مقام القراءة في حق الأخرس في الصلاة، وإجراء الموسى مقام الحلق في حق من لا شعر له في الحج. وقال الحسن: يوكل وكيلا بقبضه وهو يراه وهذا أشبه بقول أبي حنيفة لأن رؤية الوكيل كرؤية الموكل على ما مر آنفا.
قال: "ومن رأى أحد الثوبين فاشتراهما ثم رأى الآخر جاز له أن يردهما" لأن رؤية أحدهما لا تكون رؤية الآخر للتفاوت في الثياب فبقي الخيار فيما لم يره، ثم لا يرده وحده بل يردهما كي لا يكون تفريقا للصفقة قبل التمام، وهذا؛ لأن الصفقة لا تتم مع خيار الرؤية قبل القبض وبعده، ولهذا يتمكن من الرد بغير قضاء ولا رضا ويكون فسخا من الأصل.
"ومن مات وله خيار الرؤية بطل خياره" لأنه لا يجري فيه الإرث عندنا، وقد ذكرناه في خيار الشرط.
"ومن رأى شيئا ثم اشتراه بعد مدة، فإن كان على الصفة التي رآه فلا خيار له" لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة، وبفواته يثبت الخيار إلا إذا كان لا يعلمه مرئيه لعدم الرضا به "وإن وجده متغيرا فله الخيار" لأن تلك الرؤية لم تقع معلمة بأوصافه فكأنه لم يره، وإن اختلفا في التغير فالقول للبائع لأن التغير حادث وسبب اللزوم ظاهر، إلا إذا بعدت المدة على ما قالوا لأن الظاهر شاهد للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية لأنها أمر حادث والمشتري ينكره فيكون القول قوله.
قال: "ومن اشترى عدل زطي ولم يره فباع منه ثوبا أو وهبه وسلمه لم يرد شيئا منها إلا من عيب، وكذلك خيار الشرط"؛ لأنه تعذر الرد فيما خرج عن ملكه، وفي رد ما بقي تفريق الصفقة قبل التمام؛ لأن خيار الرؤية والشرط يمنعان تمامها، بخلاف خيار العيب لأن الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض وإن كانت لا تتم قبله وفيه وضع المسألة. فلو عاد إليه بسبب هو فسخ فهو على خيار الرؤية، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن أبي يوسف أنه لا يعود بعد سقوطه كخيار الشرط، وعليه اعتمد القدوري.(3/36)
باب خيار العيب
"وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن(3/36)
شاء رده" لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة، فعند فوته يتخير كي لا يتضرر بلزوم ما لا يرضى به، "وليس له أن يمسكه ويأخذ النقصان" لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد؛ ولأنه لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى فيتضرر به، ودفع الضرر عن المشتري ممكن بالرد بدون تضرره، والمراد عيب كان عند البائع ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك رضا به.
قال: "وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب"؛ لأن التضرر بنقصان المالية، وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله.
"والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ، فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ" ومعناه: إذا ظهرت عند البائع في صغره ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه عين ذلك، وإن حدثت بعد بلوغه لم يرده؛ لأنه غيره، وهذا؛ لأن سبب هذه الأشياء يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة، وبعد الكبر لداء في باطنه، والإباق في الصغر لحب اللعب والسرقة لقلة المبالاة، وهما بعد الكبر لخبث في الباطن، والمراد من الصغير من يعقل، فأما الذي لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا.
قال: "والجنون في الصغر عيب أبدا" ومعناه: إذا جن في الصغر في يد البائع ثم عاوده في يد المشتري فيه أو في الكبر يرده؛ لأنه عين الأول، إذ السبب في الحالين متحد وهو فساد الباطن، وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته وإن كان قلما يزول فلا بد من المعاودة للرد.
"قال: "والبخر والدفر عيب في الجارية"؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش وطلب الولد وهما يخلان به، وليس بعيب في الغلام؛ لأن المقصود الاستخدام ولا يخلان به، إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب.
"والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام"؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد، ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام، إلا أن يكون الزنا عادة له على ما قالوا؛ لأن اتباعهن يخل بالخدمة.
قال: "والكفر عيب فيهما"؛ لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته؛ ولأنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتختل الرغبة، فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه زوال العيب. وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم، وفوات الشرط(3/37)
بمنزلة العيب. قال: "فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب"؛ لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء، ويعتبر في الارتفاع أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها عند أبي حنيفة رحمه الله ويعرف ذلك بقول الأمة فترد إذا انضم إليه نكول البائع قبل القبض وبعده وهو الصحيح.
قال: "وإذا حدث عند المشتري عيب فاطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان ولا يرد المبيع"؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما، ويعود معيبا فامتنع، ولا بد من دفع الضرر عنه فتعين الرجوع بالنقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر.
قال: "ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب"؛ لأنه امتنع الرد بالقطع فإنه عيب حادث "فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له ذلك"؛ لأن الامتناع لحقه وقد رضي به "فإن باعه المشتري لم يرجع بشيء"؛ لأن الرد غير ممتنع برضا البائع فيصير هو بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان "فإن قطع الثوب وخاطه أو صبغه أحمر، أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل بدونها؛ لأنها لا تنفك عنه، ولا وجه إليه معها؛ لأن الزيادة ليست بمبيعة فامتنع أصلا "وليس للبائع أن يأخذه"؛ لأن الامتناع لحق الشرع لا لحقه "فإن باعه المشتري بعدما رأى العيب رجع بالنقصان" لأن الرد ممتنع أصلا قبله فلا يكون بالبيع حابسا للمبيع. وعن هذا قلنا: إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع؛ لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة، وفي الثاني بعدها بالتسليم إليه.
قال: "ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" أما الموت؛ فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي لا يفعله، وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله فصار كالقتل، وفي الاستحسان: يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك؛ لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك فيه موقتا إلى الإعتاق فكان إنهاء فصارت كالموت، وهذا؛ لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر. والتدبير والاستيلاد بمنزلته؛ لأنه تعذر النقل مع بقاء المحل بالأمر الحكمي "وإن أعتقه على مال لم يرجع بشيء" لأنه حبس بدله وحبس البدل كحبس المبدل. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يرجع؛ لأنه إنهاء للملك وإن كان بعوض. "فإن قتل المشتري العبد أو كان طعاما فأكله لم يرجع بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله أما القتل فالمذكور ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرجع" لأن(3/38)
قتل المولى عبده لا يتعلق به حكم دنياوي فصار كالموت حتف أنفه فيكون إنهاء. ووجه الظاهر أن القتل لا يوجد إلا مضمونا، وإنما يسقط الضمان هاهنا باعتبار الملك فيصير كالمستفيد به عوضا، بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة كإعتاق المعسر عبدا مشتركا، وأما الأكل فعلى الخلاف، فعندهما يرجع وعنده لا يرجع استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق لهما أنه صنع في المبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه فأشبه الإعتاق. وله أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل، ولا معتبر بكونه مقصودا؛ ألا يرى أن البيع مما يقصد بالشراء ثم هو يمنع الرجوع، فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الطعام كشيء واحد فصار كبيع البعض، وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل، وعنهما أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض.
قال: "ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله"؛ لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا، ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل لأن ماليته باعتبار اللب "وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده"؛ لأن الكسر عيب حادث "و" لكنه "يرجع بنقصان العيب" دفعا للضرر بقدر الإمكان. وقال الشافعي رحمه الله: يرده؛ لأن الكسر بتسليطه. قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه فصار كما إذا كان ثوبا فقطعه، ولو وجد البعض فاسدا وهو قليل جاز البيع استحسانا؛ لأنه لا يخلو عن قليل فاسد. والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة كالواحد والاثنين في المائة، وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره فصار كالجمع بين الحر والعبد.
قال: "ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار أو بينة أو بإباء يمين له أن يرده على بائعه"؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن غاية الأمر أنه أنكر قيام العيب لكنه صار مكذبا شرعا بالقضاء، ومعنى القضاء بالإقرار أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة، وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب بالبينة حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك واحد والموجود هاهنا بيعان، فيفسخ الثاني والأول لا ينفسخ "وإن قبل بغير قضاء القاضي ليس له أن يرده"؛ لأنه بيع جديد في حق ثالث وإن كان فسخا في حقهما والأول ثالثهما.
"وفي الجامع الصغير: وإن رد عليه بإقراره بغير قضاء بعيب لا يحدث مثله لم يكن له أن يخاصم الذي باعه" وبهذا يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله وفيما لا يحدث سواء وفي بعض(3/39)
روايات البيوع: إن كان فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول.
قال: "ومن اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع أو يقيم المشتري بينة" لأنه أنكر وجوب دفع الثمن حيث أنكر تعين حقه بدعوى العيب، ودفع الثمن أولا ليتعين حقه بإزاء تعين المبيع؛ ولأنه لو قضي بالدفع فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي به صونا لقضائه "فإن قال المشتري شهودي بالشام استحلف البائع ودفع الثمن" يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع، وليس في الدفع كثير ضرر به؛ لأنه على حجته، أما إذا نكل ألزم العيب؛ لأنه حجة فيه.
قال: "ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده" والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده؛ لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره إنما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري ومعرفته بالحجة "فإذا أقامها حلف بالله لقد باعه وسلمه إليه وما أبق عنده قط" كذا قال في الكتاب، وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب ولا بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري؛ لأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد، والأول ذهول عنه والثاني يوهم تعلقه بالشرطين فيتأوله في اليمين عند قيامه وقت التسليم دون البيع، ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع ما يعلم أنه أبق عنده يحلف على قولهما.
واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله لهما أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة فكذا يترتب التحليف. وله على ما قاله البعض أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة، وليست تصح إلا من خصم ولا يصير خصما فيه إلا بعد قيام العيب. وإذا نكل عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد على الوجه الذي قدمناه. قال رضي الله عنه: إذا كانت الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ.
قال: "ومن اشترى جارية وتقابضا فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها وقال المشتري: بعتنيها وحدها فالقول قول المشتري"؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض كما في الغصب "وكذا إذا اتفقا على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض" لما بينا.(3/40)
قال: "ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما"؛ لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون تفريقها قبل التمام وقد ذكرناه، وهذا؛ لأن القبض له شبه بالعقد فالتفريق فيه كالتفريق في العقد. ولو وجد بالمقبوض عيبا اختلفوا فيه. ويروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرده خاصة، والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل فصار كحبس المبيع لما تعلق زواله باستيفاء الثمن لا يزول دون قبض جميعه ولو قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا يرده خاصة خلافا لزفر. هو يقول: فيه تفريق الصفقة ولا يعرى عن ضرر؛ لأن العادة جرت بضم الجيد إلى الرديء فأشبه ما قبل القبض وخيار الرؤية والشرط. ولنا أنه تفريق الصفقة بعد التمام؛ لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به على ما مر، ولهذا لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر.
قال: "ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله" ومراده بعد القبض؛ لأن المكيل إذا كان من جنس واحد فهو كشيء واحد؛ ألا يرى أنه يسمى باسم واحد وهو الكر ونحوه. وقيل هذا إذا كان في وعاء واحد، فإذا كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر.
"ولو استحق بعضه فلا خيار له في رد ما بقي"؛ لأنه لا يضره التبعيض، والاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة؛ لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك، وهذا إذا كان بعد القبض، أما لو كان قبل القبض فله أن يرد ما بقي لتفرق الصفقة قبل التمام. قال "وإن كان ثوبا فله الخيار"؛ لأن التشقيص فيه عيب وقد كان وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق، بخلاف المكيل والموزون. قال: "ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواه أو كانت دابة فركبها في حاجة فهو رضا"؛ لأن ذلك دليل قصده الاستبقاء بخلاف خيار الشرط؛ لأن الخيار هناك للاختبار وأنه بالاستعمال فلا يكون الركوب مسقطا "وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فليس برضا" أما الركوب للرد؛ فلأنه سبب الرد والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه، إما لصعوبتها أو لعجزه أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا.
قال: "ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به فقطع عند المشتري له أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق" وعلى هذا الخلاف إذا قتل بسبب وجد في يد البائع.(3/41)
والحاصل أنه بمنزلة الاستحقاق عنده وبمنزلة العيب عندهما. لهما أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل وأنه لا ينافي المالية فنفذ العقد فيه لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده وصار كما إذا اشترى جارية حاملا فماتت في يده بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل. وله أن سبب الوجوب في يد البائع والوجوب يفضي إلى الوجود فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق، وصار كما إذا قتل المغصوب أو قطع بعد الرد بجناية وجدت في يد الغاصب، وما ذكر من المسألة ممنوع.
ولو سرق في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما عندهما يرجع بالنقصان كما ذكرنا. وعنده لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث ويرجع بربع الثمن، وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع؛ لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين وفي إحداهما رجوع فيتنصف؛ ولو تداولته الأيدي ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة بعضهم على بعض عنده كما في الاستحقاق، وعندهما يرجع الأخير على بائعه ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب. وقوله "في الكتاب ولم يعلم المشتري" يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به، ولا يفيد على قوله في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع.
قال: "ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له أن يرده بعيب وإن لم يسم العيوب بعددها" وقال الشافعي: لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح. هو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد، وتمليك المجهول لا يصح. ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة، ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يدخل فيه الحادث وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن البراءة تتناول الثابت. ولأبي يوسف أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث.(3/42)
باب البيع الفاسد
مدخل
...
باب البيع الفاسد
"وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخنزير والخمر، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر" قال رضي الله عنه: هذه فصول جمعها، وفيها تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى فنقول: البيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال فإنه مال عند البعض والباطل لا يفيد ملك(3/42)
التصرف، ولو هلك المبيع في يد المشتري فيه يكون أمانة عند بعض المشايخ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك وعند البعض يكون مضمونا لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء. وقيل الأول قول أبي حنيفة رحمه الله والثاني قولهما كما في بيع أم الولد والمدبر على ما نبينه إن شاء الله تعالى، والفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به ويكون المبيع مضمونا في يد المشتري فيه. وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وسنبينه بعد هذا. وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل لأنها ليست أموالا فلا تكون محلا للبيع. وأما بيع الخمر والخنزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وغن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير. ووجه الفرق أن الخمر مال، وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة إلا أنه غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه وفي تملكه بالعقد مقصودا إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم فالدراهم غير مقصودة لكونها وسيلة لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود الخمر فسقط التقوم أصلا بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر وفيه إعزاز للثوب دون الخمر فبقي ذكر الخمر معتبرا في تملك الثوب لا في حق نفس الخمر حتى فسدت التسمية ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه مقايضة.
قال: "وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد" ومعناه باطل لأن استحقاق العتق قد ثبت لأم الولد لقوله عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" وسبب الحرية انعقد في المدبر في الحال لبطلان الأهلية بعد الموت، والمكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى، ولو ثبت الملك بالبيع لبطل ذلك كله فلا يجوز، ولو رضي المكاتب بالبيع ففيه روايتان، والأظهر الجواز، والمراد المدبر المطلق دون المقيد، وفي المطلق خلاف الشافعي رحمه الله وقد ذكرناه في العتاق.
قال: "وإن ماتت أم الولد أو المدبر في يد المشتري فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقالا: عليه قيمتهما" وهو رواية عنه لهما أنه مقبوض بجهة البيع فيكون مضمونا عليه كسائر الأموال، وهذا لأن المدبر وأم الولد يدخلان تحت البيع حتى يملك ما يضم إليهما في البيع، بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه فلا يتحقق في حقه القبض وهذا الضمان به وله أن جهة البيع إنما تلحق بحقيقة في محل يقبل الحقيقة وهما لا يقبلان حقيقة البيع فصارا كالمكاتب، وليس دخولهما في البيع في حق أنفسهما، وإنما ذلك ليثبت(3/43)
حكم البيع فيما ضم إليهما فصار كمال المشتري لا يدخل في حكم عقده بانفراده، وإنما يثبت حكم الدخول فيما ضمه إليه، كذا هذا.
قال: "ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصطاد" لأنه باع مالا يملكه "ولا في حظيرة إذا كان لا يؤخذ إلا بصيد"؛ لأنه غير مقدور التسليم، ومعناه إذا أخذه ثم ألقاه فيها لو كان يؤخذ من غير حيلة جاز، إلا إذا اجتمعت فيها بأنفسها ولم يسد عليها المدخل لعدم الملك.
قال: "ولا بيع الطير في الهواء" لأنه غير مملوك قبل الأخذ، وكذا لو أرسله من يده لأنه غير مقدور التسليم "ولا بيع الحمل ولا النتاج" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الحبل وحبل الحبلة ولأن فيه غررا.
قال: "ولا اللبن في الضرع" للغرر فعساه انتفاخ، ولأنه ينازع في كيفية الحلب، وربما يزداد فيختلط المبيع بغيره.
قال: "ولا الصوف على ظهر الغنم" لأنه من أوصاف الحيوان، ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم؛ لأنها تزيد من أعلى، وبخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه، والقطع في الصوف متعين فيقع التنازع في موضع القطع، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم، وعن لبن في ضرع، وعن سمن في لبن" وهو حجة على أبي يوسف رحمه الله في هذا الصوف حيث جوز بيعه فيما يروى عنه.
قال: "وجذع في سقف وذراع من ثوب ذكرا القطع أو لم يذكراه" لأنه لا يمكن التسليم إلا بضرر، بخلاف ما إذا باع عشرة دراهم من نقرة فضة لأنه لا ضرر في تبعيضه، ولو لم يكن معينا لا يجوز لما ذكرنا وللجهالة أيضا، ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري يعود صحيحا لزوال المفسد، بخلاف ما إذا باع النوى في التمر أو البذر في البطيخ حيث لا يكون صحيحا. وإن شقهما وأخرج المبيع لأن في وجودهما احتمالا، أما الجذع فعين موجود. قال: "وضربة القانص" وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة مرة لأنه مجهول ولأن فيه غررا.
قال: "وبيع المزابنة، وهو بيع الثمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصا" لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن المزابنة والمحاقلة" فالمزابنة ما ذكرنا، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا؛ ولأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا تجوز بطريق الخرص كما إذا كانا موضوعين على الأرض، وكذا العنب بالزبيب على هذا.
وقال الشافعي رحمه الله: يجوز فيما دون خمسة أوسق لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن(3/44)
المزابنة ورخص في العرايا", وهو أن يباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق". قلنا: العرية: العطية لغة، وتأويله أن يبيع المعرى له ما على النخيل من المعري بتمر مجذوذ، وهو بيع مجازا لأنه لم يملكه فيكون برا مبتدأ.
قال: "ولا يجوز البيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابزة". وهذه بيوع كانت في الجاهلية، وهو أن يتراوض الرجلان على سلعة: أي يتساومان، فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع؛ فالأول بيع الملامسة والثاني المنابذة، والثالث إلقاء الحجر، وقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الملامسة والمنابذة" ولأن فيه تعليقا بالخطر.
قال: "ولا يجوز بيع ثوب من ثوبين" لجهالة المبيع؛ ولو قال: على أنه بالخيار في أن يأخذ أيهما شاء جاز البيع استحسانا، وقد ذكرناه بفروعه.
قال: "ولا يجوز بيع المراعي ولا إجارتها" المراد الكلأ، أما البيع فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث، وأما الإجارة فلأنها عقدت على استهلاك عين مباح، ولو عقد على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى.
قال: "ولا يجوز بيع النحل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله: يجوز إذا كان محرزا، وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه حيوان منتفع به حقيقة وشرعا فيجوز بيعه وإن كان لا يؤكل كالبغل والحمار. ولهما أنهما من الهوام فلا يجوز بيعه كالزنابير والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه فلا يكون منتفعا به قبل الخروج، حتى لو باع كوارة فيها عسل بما فيها من النحل يجوز تبعا له، كذا ذكره الكرخي رحمه الله. "ولا يجوز بيع دود القز عند أبي حنيفة" لأنه من الهوام، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا له. وعند محمد رحمه الله يجوز كيفما كان لكونه منتفعا به "ولا يجوز بيع بيضة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يجوز" لمكان الضرورة. وقيل أبو يوسف مع أبي حنيفة رحمه الله كما في دود القز والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمها جاز بيعها لأنه مال مقدور التسليم. "ولا يجوز بيع الآبق" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عنه ولأنه لا يقدر على تسليمه "إلا أن يبيعه من رجل زعم أنه عنده" لأن المنهي عنه بيع آبق مطلق وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين وهذا غير آبق في حق المشتري؛ ولأنه إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع، ثم لا يصير قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده وكان أشهد عنده أخذه لأنه(3/45)
أمانة عنده وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع، ولو كان لم يشهد يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب، لو قال هو عند فلان فبعه مني فباعه لا يجوز لأنه آبق في حق المتعاقدين ولأنه لا يقدر على تسليمه. ولو باع الآبق ثم عاد من الإباق لا يتم ذلك العقد؛ لأنه وقع باطلا لانعدام المحلية كبيع الطير في الهواء. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتم العقد إذا لم يفسخ لأن العقد انعقد لقيام المالية والمانع قد ارتفع وهو العجز عن التسليم، كما إذا أبق بعد البيع، وهكذا يروى عن محمد رحمه الله.
قال: "ولا بيع لبن امرأة في قدح" وقال الشافعي رحمه الله يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر، ولنا أنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع، ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها فكذا على جزئها. قلنا: الرق قد حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه لأنه يختص بمحل يتحقق فيه القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن.
قال: "ولا يجوز بيع شعر الخنزير" لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه، ويوجد مباح الأصل فلا ضرورة إلى البيع، ولو وقع في الماء القليل أفسده عند أبي يوسف. وعند محمد رحمه الله لا يفسده لأن إطلاق الانتفاع به دليل طهارته ولأبي يوسف رحمه الله أن الإطلاق للضرورة فلا يظهر إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع تغايرها.
قال: "ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها" لأن الآدمي مكرم لا مبتذل فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا ومبتذلا وقد قال: عليه الصلاة والسلام: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" الحديث، وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن.
قال "ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ" لأنه غير منتفع به، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" وهو اسم لغير المدبوغ على ما عرف في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ" لأنها قد طهرت بالدباغ، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بذلك كله"؛ لأنها طاهرة لا يحلها الموت؛ لعدم الحياة وقد قررناه من قبل. والفيل كالخنزير نجس العين عند محمد رحمه الله وعندهما بمنزلة السباع حتى يباع عظمه وينتفع به.(3/46)
قال: "وإذا كان السفل لرجل وعلوه لآخر فسقطا أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه لم يجز" لأن حق التعلي ليس بمال لأن المال ما يمكن إحرازه والمال هو المحل للبيع، بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات ومفردا في رواية، وهو اختيار مشايخ بلخي رحمهم الله لأنه حظ من الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن على ما نذكره في كتاب الشرب.
قال: "وبيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل" والمسألة تحتمل وجهين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل. فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم لأن له طولا وعرضا معلوما، وأما المسيل فمجهول لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء وإن كان الثاني ففي بيع حق المرور روايتان ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق التسييل أن حق المرور معلوم لتعلقه بمحل معلوم وهو الطريق، أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي وعلى الأرض مجهول لجهالة محله. ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين لا تبقى وهو البناء فأشبه المنافع، أما حق المرور يتعلق بعين تبقى وهو الأرض فأشبه الأعيان.
قال: "ومن باع جارية فإذا هو غلام" فلا بيع بينهما، بخلاف ما إذا باع كبشا فإذا هو نعجة حيث ينعقد البيع ويتخير. والفرق ينبني على الأصل الذي ذكرناه في النكاح لمحمد رحمه الله وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا ففي مختلفي الجنس يتعلق العقد بالمسمى ويبطل لانعدامه، وفي متحدي الجنس يتعلق بالمشار إليه وينعقد لوجوده ويتخير لفوات الوصف كمن اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو كاتب، وفي مسألتنا الذكر والأنثى من بني آدم جنسان للتفاوت في الأغراض، وفي الحيوانات جنس واحد للتقارب فيها وهو المعتبر في هذا دون الأصل كالخل والدبس جنسان. والوذاري والزندنيجي على ما قالوا جنسان مع اتحاد أصلهما.
قال: "ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأن الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض. ولنا قول عائشة رضي الله عنها: لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب؛ ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل(3/47)
إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة.
قال: "ومن اشترى جارية بخمسمائة ثم باعها وأخرى معها من البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة فالبيع جائز في التي لم يشترها من البائع ويبطل في الأخرى" لأنه لا بد أن يجعل بعض الثمن بمقابلة التي لم يشترها منه فيكون مشتريا للأخرى بأقل مما باع وهو فاسد عندنا، ولم يوجد هذا المعنى في صاحبتها ولا يشيع الفساد لأنه ضعيف فيها لكونه مجتهدا فيه أو؛ لأنه باعتبار شبهة الربا، أو؛ لأنه طارئ؛ لأنه يظهر بانقسام الثمن أو المقاصة فلا يسري إلى غيرها.
قال: "ومن اشترى زيتا على أن يزنه بظرفه فيطرح عنه مكان كل ظرف خمسين رطلا فهو فاسد، ولو اشترى على أن يطرح عنه بوزن الظرف جاز"؛ لأن الشرط الأول لا يقتضيه العقد والثاني يقتضيه.
قال: "ومن اشترى سمنا في زق فرد الظرف وهو عشرة أرطال فقال البائع الزق غير هذا وهو خمسة أرطال فالقول قول المشتري"، لأنه إن اعتبر اختلافا في تعيين الزق المقبوض فالقول قول القابض ضمينا كان أو أمينا، وإن اعتبر اختلافا في السمن فهو في الحقيقة اختلاف في الثمن فيكون القول قول المشتري؛ لأنه ينكر الزيادة.
قال: "وإذا أمر المسلم نصرانيا ببيع خمر أو شرائها ففعل جاز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز: على المسلم" وعلى هذا الخلاف الخنزير، وعلى هذا توكيل المحرم غيره ببيع صيده. لهما أن الموكل لا يليه فلا يوليه غيره؛ ولأن ما يثبت للوكيل ينتقل إلى الموكل فصار كأنه باشره بنفسه فلا يجوز. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العاقد هو الوكيل بأهليته وولايته، وانتقال الملك إلى الآمر أمر حكمي فلا يمتنع بسبب الإسلام كما إذا ورثهما، ثم إن كان خمرا يخللها وإن كان خنزيرا يسيبه.
قال: "ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها فالبيع فاسد"؛ لأن هذا بيع وشرط وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع؛ لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، أو؛ لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده إلا أن يكون(3/48)
متعارفا؛ لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده وهو الظاهر من المذهب كشرط أن لا يبيع المشتري الدابة المبيعة لأنه انعدمت المطالبة فلا يؤدي إلى الربا، ولا إلى المنازعة. إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه الشروط لا يقتضيها العقد؛ لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتما، والشرط يقتضي ذلك وفيه منفعة للمعقود عليه، والشافعي رحمه الله وإن كان يخالفنا في العتق ويقيسه على بيع العبد نسمة فالحجة عليه ما ذكرناه، وتفسير المبيع نسمة أن يباع ممن يعلم أنه يعتقه لا أن يشترط فيه، فلو أعتقه المشتري بعدما اشتراه بشرط العتق صح البيع حتى يجب عليه الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبقى فاسدا حتى يجب عليه القيمة؛ لأن البيع قد وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا كما إذا تلف بوجه آخر. ولأبي حنيفة رحمه الله أن شرط العتق من حيث ذاته لا يلائم العقد على ما ذكرناه، ولكن من حيث حكمه يلائمه؛ لأنه منه للملك والشيء بانتهائه يتقرر، ولهذا لا يمنع العتق الرجوع بنقصان العيب، فإذا تلف من وجه آخر لم تتحقق الملاءمة فيتقرر الفساد، وإذا وجد العتق تحققت الملاءمة فيرجح جانب الجواز فكان الحال قبل ذلك موقوفا.
قال: "وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها أو على أن يقرضه المشتري درهما أو على أن يهدي له هدية"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وسلف؛ ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع. وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة
قال: "ومن باع عينا على أن لا يسلمه إلى رأس الشهر فالبيع فاسد"؛ لأن الأجل في المبيع العين باطل فيكون شرطا فاسدا، وهذا؛ لأن الأجل شرع ترفيها فيليق بالديون دون الأعيان.
قال: "ومن اشترى جارية إلا حملها فالبيع فاسد" والأصل أن ما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه من العقد، والحمل من هذا القبيل، وهذا؛ لأنه بمنزلة أطراف الحيوان لاتصاله به خلقة وبيع الأصل يتناولهما فالاستثناء يكون على خلاف الموجب فلا يصح فيصير شرطا فاسدا، والبيع يبطل به والكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع؛ لأنها تبطل الشروط الفاسدة، غير أن المفسد في الكتابة ما يتمكن في صلب العقد منها، والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد لا تبطل باستثناء الحمل، بل يبطل الاستثناء؛ لأن هذه العقود لا تبطل الشروط الفاسدة، وكذا الوصية لا تبطل به، لكن يصح الاستثناء حتى يكون(3/49)
الحمل ميراثا والجارية وصية؛ لأن الوصية أخت الميراث والميراث يجري فيما في البطن، بخلاف ما إذا استثنى خدمتها؛ لأن الميراث لا يجري فيها.
قال: "ومن اشترى ثوبا على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا أو قباء فالبيع فاسد"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه يصير صفقة في صفقة على ما مر.
قال: "ومن اشترى نعلا على أن يحذوها البائع قال أو يشركها فالبيع فاسد" قال رضي الله عنه: ما ذكره جواب القياس، ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان: يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب، وللتعامل جوزنا الاستصناع.
قال: "والبيع إلى النيروز والمهرجان وصوم النصارى وفطر اليهود إذا لم يعرف المتبايعان ذلك فاسد لجهالة الأجل" وهي مفضية إلى المنازعة في البيع لابتنائها على المماكسة إلا إذا كانا يعرفانه لكونه معلوما عندهما، أو كان التأجيل إلى فطر النصارى بعدما شرعوا في صومهم؛ لأن مدة صومهم معلومة بالأيام فلا جهالة فيه.
قال: "ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج"، وكذلك إلى الحصاد والدياس والقطاف والجزاز؛ لأنها تتقدم وتتأخر، ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز؛ لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة وهذه الجهالة يسيرة مستدركة لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها ولأنه معلوم الأصل؛ ألا يرى أنها تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب على فلان ففي الوصف أولى، بخلاف البيع فإنه لا يحتملها في أصل الثمن، فكذا في وصفه، بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز؛ لأن هذا تأجيل في الدين وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة، ولا كذلك اشتراطه في أصل العقد؛ لأنه يبطل بالشرط الفاسد. "ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا وصار كإسقاط الأجل في النكاح إلى أجل" ولنا أن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره وهذه الجهالة في شرط زائد لا في صلب العقد فيمكن إسقاطه، بخلاف ما إذا باع الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد؛ لأن الفساد في صلب العقد، وبخلاف النكاح إلى أجل؛ لأنه متعة وهو عقد غير عقد النكاح، وقوله في الكتاب ثم تراضيا خرج وفاقا؛ لأن من له الأجل يستبد بإسقاطه؛ لأنه خالص حقه.
قال: "ومن جمع بين حر وعبد أو شاة ذكية وميتة بطل البيع فيهما" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن سمى لكل واحد منهما ثمنا جاز في العبد(3/50)
والشاة الذكية "وإن جمع بين عبد ومدبر أو بين عبده وعبد غيره صح البيع في العبد بحصته من الثمن" عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله: فسد فيهما، ومتروك التسمية عامدا كالميتة، والمكاتب وأم الولد كالمدبر له الاعتبار بالفصل الأول، إذ محلية البيع منتفية بالإضافة إلى الكل ولهما أن الفساد بقدر المفسد فلا يتعدى إلى القن، كمن جمع بين الأجنبية وأخته في النكاح، بخلاف ما إذا لم يسم ثمن كل واحد منهما؛ لأنه مجهول ولأبي حنيفة رحمه الله وهو الفرق بين الفصلين أن الحر لا يدخل تحت العقد أصلا؛ لأنه ليس بمال والبيع صفقة واحدة فكان القبول في الحر شرطا للبيع في العبد وهذا شرط فاسد، بخلاف النكاح؛ لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة.
وأما البيع في هؤلاء موقوف وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية ولهذا ينفذ في عبد الغير بإجازته، وفي المكاتب برضاه في الأصح، وفي المدبر بقضاء القاضي، وكذا في أم الولد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله، إلا أن المالك باستحقاقه المبيع وهؤلاء باستحقاقهم أنفسهم ردوا البيع فكان هذا إشارة إلى البقاء، كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وهذا لا يكون شرط القبول في غير المبيع ولا بيعا بالحصة ابتداء ولهذا لا يشترط بيان ثمن كل واحد فيه.(3/51)
فصل: في أحكامه
"وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد بأمر البائع وفي العقد عوضان كل واحد منهما مال ملك المبيع ولزمته قيمته" وقال الشافعي رحمه الله: لا يملكه وإن قبضه؛ لأنه محظور فلا ينال به نعمة الملك؛ ولأن النهي نسخ للمشروعية للتضاد، ولهذا لا يفيده قبض القبض، وصار كما إذا باع بالميتة أو باع الخمر بالدراهم. ولنا أن ركن البيع صدر من أهله. مضافا إلى محله فوجب القول بانعقاده، ولا خفاء في الأهلية والمحلية. وركنه: مبادلة المال بالمال، وفيه الكلام والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور فنفس البيع مشروع، وبه تنال نعمة الملك وإنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء، وإنما لا يثبت الملك قبل القبض كي لا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور إذ هو واجب الرفع بالاسترداد فبالامتناع عن المطالبة أولى؛ ولأن السبب قد ضعف لمكان اقترانه بالقبيح فيشترط اعتضاده بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة، والميتة ليست بمال فانعدم الركن، ولو كان الخمر مثمنا فقد خرجناه وشيء آخر وهو أن في الخمر الواجب هو القيمة وهي تصلح ثمنا لا مثمنا. ثم شرط أن يكون القبض بإذن البائع وهو الظاهر، إلا أنه يكتفي به دلالة كما إذا قبضه في مجلس العقد(3/51)
استحسانا، وهو الصحيح؛ لأن البيع تسليط منه على القبض، فإذا قبضه بحضرته قبل الافتراق ولم ينهه كان بحكم التسليط السابق، وكذا القبض في الهبة في مجلس العقد يصح استحسانا، وشرط أن يكون في العقد عوضان كل واحد منهما مال ليتحقق ركن البيع وهو مبادلة المال فيخرج عليه البيع بالميتة والدم والحر والريح والبيع مع نفي الثمن، وقوله لزمته قيمته، في ذوات القيم، فأما في ذوات الأمثال فيلزمه المثل؛ لأنه مضمون بنفسه بالقبض فشابه الغصب، وهذا؛ لأن المثل صورة ومعنى أعدل من المثل معنى.
قال: "ولكل واحد من المتعاقدين فسخه" رفعا للفساد، وهذا قبل القبض ظاهر؛ لأنه لم يفد حكمه فيكون الفسخ امتناعا منه، وكذا بعد القبض إذا كان الفساد في صلب العقد لقوته، وإن كان الفساد بشرط زائد فلمن له الشرط ذلك دون من عليه لقوة العقد، إلا أنه لم تتحقق المراضاة في حق من له الشرط.
قال: "فإن باعه المشتري نفذ بيعه"؛ لأنه ملكه فملك التصرف فيه وسقط حق الاسترداد لتعلق حق العبد بالثاني ونقض الأول لحق الشرع وحق العبد مقدم لحاجته ولأن الأول مشروع بأصله دون وصفه، والثاني مشروع بأصله ووصفه فلا يعارضه مجرد الوصف؛ ولأنه حصل بتسليط من جهة البائع، بخلاف تصرف المشتري في الدار المشفوعة؛ لأن كل واحد منهما حق العبد ويستويان في المشروعية وما حصل بتسليط من الشفيع.
قال: "ومن اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه وأعتقه أو باعه أو وهبه وسلمه فهو جائز وعليه القيمة" لما ذكرنا أنه ملكه بالقبض فتنفذ تصرفاته، وبالإعتاق قد هلك فتلزمه القيمة، وبالبيع والهبة انقطع الاسترداد على ما مر، والكتابة والرهن نظير البيع؛ لأنهما لازمان. إلا أنه يعود حق الاسترداد بعجز المكاتب وفك الرهن لزوال المانع. وهذا بخلاف الإجارة؛ لأنها تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد عذر؛ ولأنها تنعقد شيئا فشيئا فيكون الرد امتناعا.
قال: "وليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يرد الثمن"؛ لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسا به كالرهن "وإن مات البائع فالمشتري أحق به حتى يستوفي الثمن"؛ لأنه يقدم عليه في حياته، فكذا على ورثته وغرمائه بعد وفاته كالراهن ثم إن كانت دراهم الثمن قائمة يأخذها بعينها؛ لأنها تتعين في البيع الفاسد، وهو الأصح؛ لأنه بمنزلة الغصب، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها لما بينا.
قال: "ومن باع دارا بيعا فاسدا فبناها المشتري فعليه قيمتها" عند أبي حنيفة رحمه الله ورواه يعقوب عنه في الجامع الصغير ثم شك بعد ذلك في الرواية. "وقالا: ينقض البناء وترد(3/52)
الدار" والغرس على هذا الاختلاف. لهما أن حق الشفيع أضعف من حق البائع حتى يحتاج فيه إلى القضاء ويبطل بالتأخير، بخلاف حق البائع، ثم أضعف الحقين لا يبطل بالبناء فأقواهما أولى، وله أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام وقد حصل بتسليط من جهة البائع فينقطع حق الاسترداد كالبيع، بخلاف حق الشفيع؛ لأنه لم يوجد منه التسليط ولهذا لا يبطل بهبة المشتري وبيعه فكذا ببنائه وشك يعقوب في حفظ الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقد نص محمد على الاختلاف في كتاب الشفعة فإن حق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع بالبناء وثبوته على الاختلاف.
قال: "ومن اشترى جارية بيعا فاسدا وتقابضا فباعها وربح فيها تصدق بالربح ويطيب للبائع ما ربح في الثمن" والفرق أن الجارية مما يتعين فيتعلق العقد بها فيتمكن الخبث في الربح، والدراهم والدنانير لا يتعينان على العقود فلم يتعلق العقد الثاني بعينها فلم يتمكن الخبث فلا يجب التصدق، وهذا في الخبث الذي سببه فساد الملك.
أما الخبث لعدم الملك فعند أبي حنيفة ومحمد يشمل النوعين لتعلق العقد فيما يتعين حقيقة، وفيما لا يتعين شبهة من حيث إنه يتعلق به سلامة المبيع أو تقدير الثمن، وعند فساد الملك تنقلب الحقيقة شبهة والشبهة تنزل إلى شبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها.
قال: "وكذلك إذا ادعى على آخر مالا فقضاه إياه، ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء وقد ربح المدعي في الدراهم يطيب له الربح"؛ لأن الخبث لفساد الملك هاهنا؛ لأن الدين وجب بالتسمية ثم استحق بالتصادق، وبدل المستحق مملوك فلا يعمل فيما لا يتعين.(3/53)
فصل: فيما يكره
قال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش" وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب غيره وقال: "لا تناجشوا".
قال: "وعن السوم على سوم غيره" قال عليه الصلاة والسلام: "لا يستم الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه"؛ ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا، وهذا إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمنا في المساومة، فأما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد ولا بأس به على ما نذكره، وما ذكرناه محمل النهي في النكاح أيضا.
قال: "وعن تلقي الجلب" وهذا إذا كان يضر بأهل البلد فإن كان لا يضر فلا بأس به، إلا إذا لبس السعر على الواردين فحينئذ يكره لما فيه من الغرور والضرر.(3/53)
قال: "وعن بيع الحاضر للبادي" فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يبع الحاضر للبادي" وهذا إذا كان أهل البلد في قحط وعوز، وهو أن يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر.
قال: "والبيع عند أذان الجمعة" قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم فيه إخلال بواجب السعي على بعض الوجوه، وقد ذكرنا الأذان المعتبر فيه في كتاب الصلاة.
قال: "وكل ذلك يكره" لما ذكرنا، "ولا يفسد به البيع"؛ لأن الفساد في معنى خارج زائد لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة.
قال "ولا بأس ببيع من يزيد" وتفسيره ما ذكرنا. وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد؛ ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إلى "نوع منه".
قال: "ومن ملك مملوكين صغيرين أحدهما ذو رحم محرم من الآخر لم يفرق بينهما، وكذلك إن كان أحدهما كبيرا" والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". ووهب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه غلامين أخوين صغيرين ثم قال له: "ما فعل الغلامان؟ " فقال: بعت أحدهما، فقال: "أدرك أدرك"، ويروى: "رده رده"؛ ولأن الصغير يستأنس بالصغير وبالكبير والكبير يتعاهده فكان في بيع أحدهما قطع الاستئناس، والمنع من التعاهد وفيه ترك المرحمة على الصغار، وقد أوعد عليه ثم المنع معلول بالقرابة المحرمة للنكاح حتى لا يدخل فيه محرم غير قريب ولا قريب غير محرم، ولا يدخل فيه الزوجان حتى جاز التفريق بينهما؛ لأن النص ورد بخلاف القياس فيقتصر على مورده، ولا بد من اجتماعهما في ملكه لما ذكرنا، حتى لو كان أحد الصغيرين له والآخر لغيره لا بأس ببيع واحد منهما، ولو كان التفريق بحق مستحق لا بأس به كدفع أحدهما بالجناية وبيعه بالدين ورده بالعيب؛ لأن المنظور إليه دفع الضرر عن غيره لا الإضرار به.
قال: "فإن فرق كره له ذلك وجاز العقد" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في قرابة الولاد ويجوز في غيرها. وعنه أنه لا يجوز في جميع ذلك لما روينا، فإن الأمر بالإدراك والرد لا يكون إلا في البيع الفاسد. ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، وإنما الكراهة لمعنى مجاور فشابه كراهة الاستيام "وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما"؛ لأنه ليس في معنى ما ورد به النص، وقد صح "أنه عليه الصلاة والسلام فرق بين مارية وسيرين وكانتا أمتين أختين" والله أعلم.(3/54)
باب الإقالة
"الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة" ولأن العقد حقهما فيملكان رفعه دفعا لحاجتهما "فإن شرطا أكثر منه أو أقل فالشرط باطل ويرد مثل الثمن الأول". والأصل أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما إلا أن لا يمكن جعله فسخا فتبطل، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله هو بيع إلا أن لا يمكن جعله بيعا فيجعل فسخا إلا أن لا يمكن فتبطل. وعند محمد رحمه الله هو فسخ إلا إذا تعذر جعله فسخا فيجعل بيعا إلا أن لا يمكن فتبطل. لمحمد رحمه الله أن اللفظ للفسخ والرفع. ومنه يقال: أقلني عثراتي فتوفر عليه قضيته. وإذا تعذر يحمل على محتمله وهو البيع؛ ألا ترى أنه بيع في حق الثالث: ولأبي يوسف رحمه الله أنه مبادلة المال بالمال بالتراضي. وهذا هو حد البيع ولهذا يبطل بهلاك السلعة ويرد بالعيب وتثبت به الشفعة وهذه أحكام البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن اللفظ ينبئ عن الرفع والفسخ كما قلنا، والأصل إعمال الألفاظ في مقتضياتها الحقيقية، ولا يحتمل ابتداء العقد ليحمل عليه عند تعذره؛ لأنه ضده واللفظ لا يحتمل ضده فتعين البطلان، وكونه بيعا في حق الثالث أمر ضروري؛ لأنه يثبت به مثل حكم البيع وهو الملك لا مقتضى الصيغة، إذ لا ولاية لهما على غيرهما، إذا ثبت هذا نقول: إذا شرط الأكثر فالإقالة على الثمن الأول لتعذر الفسخ على الزيادة، إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال فيبطل الشرط؛ لأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع؛ لأن الزيادة يمكن إثباتها في العقد فيتحقق الربا أو لا يمكن إثباتها في الرفع، وكذا إذا شرط الأقل لما بيناه إلا أن يحدث في المبيع عيب فحينئذ جازت الإقالة بالأقل؛ لأن الحط يجعل بإزاء ما فات بالعيب، وعندهما في شرط الزيادة يكون بيعا؛ لأن الأصل هو البيع عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله جعله بيعا ممكن فإذا زاد كان قاصدا بهذا ابتداء البيع، وكذا في شرط الأقل عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه هو الأصل عنده، وعند محمد رحمه الله هو فسخ بالثمن الأول لا سكوت عن بعض الثمن الأول، ولو سكت عن الكل وأقال يكون فسخا فهذا أولى، بخلاف ما إذا زاد، وإذا دخله عيب فهو فسخ بالأقل لما بيناه. ولو أقال بغير جنس الثمن الأول فهو فسخ بالثمن الأول عند أبي حنيفة رحمه الله ويجعل التسمية لغوا عندهما بيع لما بينا، ولو ولدت المبيعة ولدا ثم تقايلا فالإقالة باطلة عنده لأن الولد مانع من الفسخ، وعندهما تكون بيعا والإقالة قبل القبض في المنقول، وغيره فسخ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله(3/55)
وكذا عند أبي يوسف رحمه الله في المنقول لتعذر البيع، وفي العقار يكون بيعا عنده لإمكان البيع، فإن بيع العقار قبل القبض جائز عنده.
قال: "وهلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة وهلاك المبيع يمنع منها" لأن رفع البيع يستدعي قيامه وهو قائم بالبيع دون الثمن "فإن هلك بعض المبيع جازت الإقالة في الباقي"؛ لقيام البيع فيه، وإن تقايضا تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما ولا تبطل بهلاك أحدهما لأن كل واحد منهما مبيع فكان المبيع باقيا، والله أعلم بالصواب.(3/56)
باب المرابحة والتولية
مدخل
...
باب المرابحة والتولية
قال: "المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح، والتولية نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح" والبيعان جائزان؛ لاستجماع شرائط الجواز، والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع؛ لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ولني أحدهما"، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما بغير ثمن فلا".
قال: "ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل"؛ لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهي مجهولة "ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز" لأنه يقدر على الوفاء بما التزم "وإن باعه بربح الإل يازده لا يجوز" لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال.
"ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ والقتل وأجرة حمل الطعام" لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار؛ ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة؛ لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة إذ القيمة تختلف باختلاف المكان "ويقول قام علي بكذا ولم يقل اشتريته بكذا" كي لا يكون كاذبا وسوق الغنم بمنزلة الحمل، بخلاف أجرة الراعي وكراء بيت الحفظ؛ لأنه لا يزيد في العين والمعنى، وبخلاف أجرة التعليم لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه وهو حذاقته "فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار" عند(3/56)
أبي حنيفة رحمه الله إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه "وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحط فيهما، وقال محمد رحمه الله: يخير فيهما" لمحمد رحمه الله أن الاعتبار للتسمية؛ لكونه معلوما، والتولية والمرابحة ترويج وترغيب فيكون وصفا مرغوبا فيه كوصف السلامة فيتخير بفواته، ولأبي يوسف رحمه الله أن الأصل فيه كونه تولية ومرابحة ولهذا ينعقد بقوله وليتك بالثمن الأول أو بعتك مرابحة على الثمن الأول إذا كان ذلك معلوما فلا بد من البناء على الأول وذلك بالحط، غير أنه يحط في التولية قدر الخيانة من رأس المال وفي المرابحة منه ومن الربح، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو لم يحط في التولية لا تبقى تولية؛ لأنه يزيد على الثمن الأول فيتغير التصرف فتعين الحط وفي المرابحة لو لم يحط تبقى مرابحة وإن كان يتفاوت الربح فلا يتغير التصرف فأمكن القول بالتخيير، فلو هلك قبل أن يرده أو حدث فيه ما يمنع الفسخ يلزمه جميع الثمن في الروايات الظاهرة؛ لأنه مجرد خيار لا يقابله شيء من الثمن كخيار الرؤية والشرط، بخلاف خيار العيب؛ لأنه المطالبة بتسليم الفائت فيسقط ما يقابله عند عجزه.
قال: "ومن اشترى ثوبا فباعه بربح ثم اشتراه، فإن باعه مرابحة طرح عنه كل ربح كان قبل ذلك، فإن كان استغرق الثمن لم يبعه مرابحة، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبيعه مرابحة على الثمن الأخير".
صورته: إذا اشترى ثوبا بعشرة وباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة فإنه يبيعه مرابحة بخمسة ويقول قام علي بخمسة، ولو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين مرابحة ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلا، وعندهما يبيعه مرابحة على العشرة في الفصلين، لهما أن العقد الثاني عقد متجدد منقطع الأحكام عن الأول فيجوز بناء المرابحة عليه، كما إذا تخلل ثالث، ولأبي حنيفة رحمه الله أن شبهة حصول الربح بالعقد الثاني ثابتة؛ لأنه يتأكد به بعدما كان على شرف السقوط بالظهور على عيب الشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطا ولهذا لم تجز المرابحة فيما أخذ بالصلح لشبهة الحطيطة فيصير كأنه اشترى خمسة وثوبا بعشرة فيطرح عنه خمسة، بخلاف ما إذا تخلل ثالث؛ لأن التأكيد حصل بغيره.
قال: "وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة وعليه دين يحيط برقبته فباعه من المولى بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة على عشرة، وكذلك إن كان المولى اشتراه فباعه من العبد" لأن في هذا العقد شبهة العدم بجوازه مع المنافي فاعتبر عدما في حكم المرابحة وبقي الاعتبار للأول فيصير كأن العبد اشتراه للمولى بعشرة في الفصل الأول، وكأنه يبيعه للمولى في الفصل الثاني فيعتبر الثمن الأول.(3/57)
قال: "وإذا كان مع المضارب عشرة دراهم بالنصف فاشترى ثوبا بعشرة وباعه من رب المال بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف" لأن هذا البيع وإن قضي بجوازه عندنا عند عدم الربح خلافا لزفر رحمه الله مع أنه اشترى ماله بماله لما فيه من استفادة ولاية التصرف وهو مقصود والانعقاد يتبع الفائدة ففيه شبهة العدم؛ ألا ترى أنه وكيل عنه في البيع الأول من وجه فاعتبر البيع الثاني عدما في حق نصف الربح.
قال: "ومن اشترى جارية فاعورت أو وطئها وهي ثيب يبيعها مرابحة ولا يبين" لأنه لم يحتبس عنده شيئا يقابله الثمن؛ لأن الأوصاف تابعة لا يقابلها الثمن، ولهذا لو فاتت قبل التسليم لا يسقط شيء من الثمن، وكذا منافع البضع لا يقابلها الثمن، والمسألة فيما إذا لم ينقصها الوطء، وعن أبي يوسف رحمه الله في الفصل الأول أنه لا يبيع من غير بيان، كما إذا احتبس بفعله وهو قول الشافعي رحمه الله "فأما إذا فقأ عينها بنفسه أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يبعها مرابحة حتى يبين" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن، وكذا إذا وطئها وهي بكر لأن العذرة جزء من العين يقابلها الثمن وقد حبسها.
"ولو اشترى ثوبا فأصابه قرض فأر أو حرق نار يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو تكسر بنشره وطيه لا يبيعه مرابحة حتى يبين" والمعنى ما بيناه.
قال: "ومن اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين فعلم المشتري، فإن شاء رده، وإن شاء قبل"؛ لأن للأجل شبها بالمبيع؛ ألا يرى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، والشبهة في هذا ملحقة بالحقيقة فصار كأنه اشترى شيئين وباع أحدهما مرابحة بثمنهما، والإقدام على المرابحة يوجب السلامة عن مثل هذه الخيانة، فإذا ظهرت يخير كما في العيب "وإن استهلكه ثم علم لزمه بألف ومائة"؛ لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن.
قال: "فإن كان ولاه إياه ولم يبين رده إن شاء "؛ لأن الخيانة في التولية مثلها في المرابحة؛ لأنه بناء على الثمن الأول "وإن كان استهلكه ثم علم لزمه بألف حالة" لما ذكرناه، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرد القيمة ويسترد كل الثمن، وهو نظير ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد وعلم بعد الاتفاق، وسيأتيك من بعد إن شاء الله تعالى، وقيل يقوم بثمن حال وبثمن مؤجل فيرجع بفضل ما بينهما، ولو لم يكن الأجل مشروطا في العقد ولكنه منجم معتاد قيل لا بد من بيانه؛ لأن المعروف كالمشروط، وقيل يبيعه ولا يبينه؛ لأن الثمن حال.
قال: "ومن ولى رجلا شيئا بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد" لجهالة الثمن "فإن أعلمه البائع، يعني في المجلس فهو بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء تركه"(3/58)
لأن الفساد لم يتقرر، فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس وبعد الافتراق قد تقرر فلا يقبل الإصلاح، ونظيره بيع الشيء برقمه إذا علم في المجلس، وإنما يتخير؛ لأن الرضا لم يتم قبله لعدم العلم فيتخير كما في خيار الرؤية.(3/59)
فصل: "ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه"
لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك. "ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز" رجوعا إلى إطلاق الحديث واعتبارا بالمنقول وصار كالإجارة، ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، ولا غرر فيه؛ لأن الهلاك في العقار نادر، بخلاف المنقول، والغرر المنهي عنه غرر انفساخ العقد، والحديث معلول به عملا بدلائل الجواز والإجارة، قيل على هذا الخلاف؛ ولو سلم فالمعقود عليه في الإجارة المنافع وهلاكها غير نادر.
قال: "ومن اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشترى منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن" لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاع البائع، وصاع المشتري؛ ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه، بخلاف ما إذا باعه مجازفة؛ لأن الزيادة له، وبخلاف ما إذا باع الثوب مذارعة؛ لأن الزيادة له إذ الذرع وصف في الثوب، بخلاف القدر، ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري؛ لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط، ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري؛ لأن الكيل من باب التسليم؛ لأن به يصير المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته، ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري فقد قيل لا يكتفى به لظاهر الحديث، فإنه اعتبر صاعين والصحيح أنه يكتفى به؛ لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم، ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى، ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما لأنه ليس بمال الربا، وكالموزون فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط.
قال: "والتصرف في الثمن قبل القبض جائز" لقيام المطلق وهو الملك وليس فيه غرر الانفساخ بالهلاك لعدم تعينها بالتعيين، بخلاف المبيع.
قال: "ويجوز للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن ويجوز للبائع أن يزيد للمشتري في(3/59)
المبيع، ويجوز أن يحط من الثمن ويتعلق الاستحقاق بجميع ذلك" فالزيادة والحط يلتحقان بأصل العقد عندنا، وعند زفر والشافعي رحمه الله لا يصحان على اعتبار الالتحاق، بل على اعتبار ابتداء الصلة، لهما أنه لا يمكن تصحيح الزيادة ثمنا؛ لأنه يصير ملكه عوض ملكه فلا يلتحق بأصل العقد، وكذا الحط؛ لأن كل الثمن صار مقابلا بكل المبيع فلا يمكن إخراجه فصار برا مبتدأ، ولنا أنهما بالحط والزيادة يغيران العقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه رابحا أو خاسرا أو عدلا، ولهما ولاية الرفع فأولى أن يكون لهما ولاية التغير، وصار كما إذا أسقطا الخيار أو شرطاه بعد العقد، ثم إذا صح يلتحق بأصل العقد؛ لأن وصف الشيء يقوم به لا بنفسه، بخلاف حط الكل؛ لأنه تبديل لأصله لا تغيير لوصفه فلا يلتحق به، وعلى اعتبار الالتحاق لا تكون الزيادة عوضا عن ملكه، ويظهر حكم الالتحاق في التولية والمرابحة حتى يجوز على الكل في الزيادة ويباشر على الباقي في الحط وفي الشفعة حتى يأخذ بما بقي في الحط، وإنما كان للشفيع أن يأخذ بدون الزيادة لما في الزيادة من إبطال حقه الثابت فلا يملكانه، ثم الزيادة لا تصح بعد هلاك المبيع على ظاهر الرواية؛ لأن المبيع لم يبق على حالة يصح الاعتياض عنه والشيء يثبت ثم يستند، بخلاف الحط لأنه بحال يمكن إخراج البدل عما يقابله فيلتحق بأصل العقد استنادا.
قال: "ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا"؛ لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه، ألا ترى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا، ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح لا يجوز، وإن كانت متقاربة كالحصاد والدياس يجوز؛ لأنه بمنزلة الكفالة وقد ذكرناه من قبل.
قال: "وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا"؛ لما ذكرنا "إلا القرض" فإن تأجيله لا يصح؛ لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظة الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة، إذ لا جبر في التبرع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح؛ لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا، وهذا بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة؛ لأنه وصية بالتبرع بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى فيلزم حقا للموصي، والله تعالى أعلم.(3/60)
باب الربا
قال: "الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا" فالعلة عندنا الكيل(3/60)
مع الجنس والوزن مع الجنس. قال رضي الله عنه: ويقال القدر مع الجنس وهو أشمل. والأصل فيه الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد، والفضل ربا" وعد الأشياء الستة: الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال. ويروى بروايتين بالرفع مثل وبالنصب مثلا. ومعنى الأول بيع التمر، ومعنى الثاني بيعوا التمر، والحكم معلوم بإجماع القائسين لكن العلة عندنا ما ذكرناه. وعند الشافعي رحمه الله: الطعم في المطعومات والثمنية في الأثمان، والجنسية شرط، والمساواة مخلص. والأصل هو الحرمة عنده لأنه نص على شرطين التقابض والمماثلة وكل ذلك يشعر بالعزة والخطر كاشتراط الشهادة في النكاح، فيعلل بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة وهو الطعم لبقاء الإنسان به والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها، ولا أثر للجنسية في ذلك فجعلناه شرطا والحكم قد يدور مع الشرط. ولنا أنه أوجب المماثلة شرطا في البيع وهو المقصود بسوقه تحقيقا لمعنى البيع، إذ هو ينبئ عن التقابل وذلك بالتماثل، أو صيانة لأموال الناس عن التوى، أو تتميما للفائدة باتصال التسليم به، ثم يلزم عند فوته حرمة الربا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوى الذات، والجنسية تسوى المعنى فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا، لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه، ولا يعتبر الوصف لأنه لا يعد تفاوتا عرفا، أو لأن في اعتباره سد باب البياعات، أو لقوله عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع، والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه فلا معتبر بما ذكره. إذا ثبت هذا نقول إذا: بيع المكيل أو الموزون بجنسه مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجوب شرط الجواز، وهو المماثلة في المعيار؛ ألا ترى إلى ما يروى مكان قوله، مثلا بمثل كيلا بكيل، وفي الذهب بالذهب وزنا بوزن "وإن تفاضلا لم يجز" لتحقق الربا "ولا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلا بمثل" لإهدار التفاوت في الوصف "ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين" لأن المساواة بالمعيار ولم يوجد فلم يتحقق الفضل، ولهذا كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف. وعند الشافعي رحمه الله العلة هي الطعم ولا مخلص وهو المساواة فيحرم، وما دون نصف الصاع فهو في حكم الحفنة لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه، ولو تبايعا مكيلا أو موزونا غير مطعوم بجنسه متفاضلا كالجص والحديد لا يجوز عندنا لوجود القدر والجنس. وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية.
قال: "وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه حل التفاضل والنساء" لعدم العلة المحرمة.(3/61)
والأصل فيه الإباحة. وإذا وجدا. حرم التفاضل والنساء لوجود العلة. وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم هرويا في هروي أو حنطة في شعير، فحرمة ربا الفضل بالوصفين وحرمة النساء بأحدهما. وقال الشافعي: الجنس بانفراده لا يحرم النساء لأن بالنقدية وعدمها لا يثبت إلا شبهة الفضل، وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى. ولنا أنه مال الربا من وجه نظرا إلى القدر أو الجنس والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتتحقق شبهة الربا وهي مانعة كالحقيقة، إلا أنه إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه يجوز، وإن جمعهما الوزن لأنهما لا يتفقان في صفة الوزن، فإن الزعفران يوزن بالأمناء وهو مثمن يتعين بالتعيين، والنقود توزن بالسنجات وهو ثمن لا يتعين بالتعيين. ولو باع بالنقود موازنة وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز، فإذا اختلفا فيه صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة.
قال: "وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة" لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى "وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس" لأنها دلالة. وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك لمكان العادة فكانت هي المنظور إليها وقد تبدلت، فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها متساويا وزنا، أو الذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما، وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل على ما هو المعيار فيه، كما إذا باع مجازفة إلا أنه يجوز الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا لوجود الإسلام في معلوم.
قال: "وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني" معناه ما يباع بالأواقي لأنها قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا، بخلاف سائر المكاييل، وإذا كان موزونا فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله لا يجوز لتوهم الفضل في الوزن بمنزلة المجازفة.
قال: "وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس" لقوله عليه الصلاة والسلام: "والفضة بالفضة هاء وهاء" معناه يدا بيد، وسنبين الفقه في الصرف إن شاء الله تعالى.
قال: "وما سواه مما فيه الربا يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي(3/62)
في بيع الطعام". له قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف "يدا بيد" ولأنه إذا لم يقبض في المجلس فيتعاقب القبض وللنقد مزية فتثبت شبهة الربا. ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين، بخلاف الصرف لأن القبض فيه ليتعين به؛ ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام "يدا بيد" عينا بعين، وكذا رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وتعاقب القبض لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا، بخلاف النقد والمؤجل.
قال: "ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين والجوزة بالجوزتين" لانعدام المعيار فلا يتحقق الربا. والشافعي يخالفنا فيه لوجود الطعم على ما مر.
قال: "ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما" عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز لأن الثمنية تثبت باصطلاح الكل فلا تبطل باصطلاحهما، وإذا بقيت أثمانا لا تتعين فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما وكبيع الدرهم بالدرهمين. ولهما أن الثمنية في حقهما تثبت باصطلاحهما إذ لا ولاية للغير عليهما فتبطل باصطلاحهما وإذا بطلت الثمنية تتعين بالتعيين ولا يعود وزنيا لبقاء الاصطلاح على العد إذ في نقضه في حق العد فساد العقد فصار كالجوزة بالجوزتين بخلاف النقود لأنها للثمنية خلقة، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما لأنه كالئ بالكالئ وقد نهي عنه، وبخلاف ما إذا كان أحدهما بغير عينه لأن الجنس بانفراده يحرم النساء.
قال: "ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق" لأن المجانسة باقية من وجه لأنهما من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل، لكن الكيل غير مسو بينهما وبين الحنطة لاكتنازهما فيه وتخلخل حبات الحنطة فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل "ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا" لتحقق الشرط "وبيع الدقيق بالسويق لا يجوز " عند أبي حنيفة متفاضلا، ولا متساويا لأنه لا يجوز بيع الدقيق بالمقلية ولا بيع السويق بالحنطة، فكذا بيع أجزائهما لقيام المجانسة من وجه. وعندهما يجوز لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المقصود. قلنا: معظم المقصود وهو التغذي يشملهما فلا يبالى بفوات البعض كالمقلية مع غير المقلية والعلكة بالمسوسة.
قال: "ويجوز بيع اللحم بالحيوان" عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إذا باعه بلحم من جنسه لا يجوز إلا إذا كان اللحم المفرز أكثر ليكون اللحم بمقابلة ما فيه من اللحم والباقي بمقابلة السقط، إذ لو لم يكن كذلك يتحقق الربا من حيث زيادة(3/63)
السقط أو من حيث زيادة اللحم فصار كالخل بالسمسم. ولهما أنه باع الموزون بما ليس بموزون، لأن الحيوان لا يوزن عادة ولا يمكن معرفة ثقله بالوزن لأنه يخفف نفسه مرة بصلابته ويثقل أخرى، بخلاف تلك المسألة لأن الوزن في الحال يعرف قدر الدهن إذا ميز بينه وبين الثجير، ويوزن الثجير.
قال: "ويجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل عند أبي حنيفة" وقالا: لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام حين سأل عنه "أو ينقص إذا جف؟ فقيل نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا إذا" وله أن الرطب تمر لقوله عليه الصلاة والسلام حين أهدى إليه رطب: "أوكل تمر خيبر هكذا؟ " سماه تمرا. وبيع التمر بمثله جائز لما روينا، ولأنه لو كان تمرا جاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فبآخره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" ومدار ما روياه على زيد بن عياش وهو ضعيف عند النقلة.
قال: "وكذا العنب بالزبيب" يعني على الخلاف والوجه ما بيناه. وقيل لا يجوز بالاتفاق اعتبارا بالحنطة المقلية بغير المقلية، والرطب بالرطب يجوز متماثلا كيلا عندنا لأنه بيع التمر بالتمر، وكذا بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة بمثلها أو باليابسة، أو التمر أو الزبيب المنقع بالمنقع منهما متماثلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله لا يجوز جميع ذلك لأنه يعتبر المساواة في أعدل الأحوال وهو المال، وأبو حنيفة رحمه الله يعتبره في الحال، وكذا أبو يوسف رحمه الله عملا بإطلاق الحديث إلا أنه ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر لما رويناه لهما. ووجه الفرق لمحمد رحمه الله بين هذه الفصول وبين الرطب بالرطب أن التفاوت فيما يظهر مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه العقد، وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما على ذلك فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه، وفي الرطب بالرطب التفاوت بعد زوال ذلك الاسم فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه فلا يعتبر. ولو باع البسر بالتمر متفاضلا لا يجوز لأن البسر تمر، بخلاف الكفرى حيث يجوز بيعه بما شاء من التمر اثنان بواحد لأنه ليس بتمر، فإن هذا الاسم له من أول ما تنعقد صورته لا قبله، والكفرى عددي متفاوت، حتى لو باع التمر به نسيئة لا يجوز للجهالة.
قال: "ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج حتى يكون الزيت والشيرج أكثر مما في الزيتون والسمسم فيكون الدهن بمثله والزيادة بالثجير" لأن عند ذلك يعرى عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون، وهذا لأن ما فيه لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن أو الثجير وحده فضل، ولو لم يعلم مقدار ما فيه لا يجوز لاحتمال الربا، والشبهة فيه(3/64)
كالحقيقة، والجوز بدهنه واللبن بسمنه والعنب بعصيره والتمر بدبسه على هذا الاعتبار. واختلفوا في القطن بغزله، والكرباس بالقطن يجوز كيفما كان بالإجماع.
قال: "ويجوز بيع اللحمان المختلفة بعضها ببعض متفاضلا" ومراده لحم الإبل والبقر والغنم؛ فأما البقر والجواميس جنس واحد، وكذا المعز مع الضأن وكذا العراب مع البخاتي.
قال: "وكذلك ألبان البقر والغنم" وعن الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنها جنس واحد لاتحاد المقصود. ولنا أن الأصول مختلفة حتى لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، فكذا أجزاؤها إذا لم تتبدل بالصنعة.
قال: "وكذا خل الدقل بخل العنب" للاختلاف بين أصليهما، فكذا بين ماءيهما ولهذا كان عصيراهما جنسين. وشعر المعز وصوف الغنم جنسان لاختلاف المقاصد.
قال: "وكذا شحم البطن بالألية أو باللحم" لأنها أجناس مختلفة لاختلاف الصور والمعاني والمنافع اختلافا فاحشا.
قال: "ويجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلا" لأن الخبز صار عدديا أو موزونا فخرج من أن يكون مكيلا من كل وجه والحنطة مكيلة. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا خير فيه، والفتوى على الأول، وهذا إذا كانا نقدين؛ فإن كانت الحنطة نسيئة جاز أيضا، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى، وكذا السلم في الخبز جائز في الصحيح، ولا خير في استقراضه عددا أو وزنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يتفاوت بالخبز والخباز والتنور والتقدم والتأخر. وعند محمد رحمه الله يجوز بهما للتعامل، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز وزنا ولا يجوز عددا للتفاوت في آحاده.
قال: "ولا ربا بين المولى وعبده" لأن العبد وما في يده ملك لمولاه فلا يتحقق الربا، وهذا إذا كان مأذونا له ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لا يجوز لأن ما في يده ليس ملك المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تعلق به حق الغرماء فصار كالأجنبي فيتحقق الربا كما يتحقق بينه وبين مكاتبه.
قال: "ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب" خلافا لأبي يوسف والشافعي رحمهما الله. لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" ولأن مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه(3/65)
المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن فيه غدر، بخلاف المستأمن منهم لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان.(3/66)
باب الحقوق
"ومن اشترى منزلا فوقه منزل فليس له الأعلى إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير هو فيه أو منه. ومن اشترى بيتا فوقه بيت بكل حق لم يكن له الأعلى، ومن اشترى دارا بحدودها فله العلو والكنيف" جمع بين المنزل والبيت والدار، فاسم الدار ينتظم العلو لأنه اسم لما أدير عليه الحدود، والعلو من توابع الأصل وأجزائه فيدخل فيه. والبيت اسم لما يبات فيه، والعلو مثله، والشيء لا يكون تبعا لمثله فلا يدخل فيه إلا بالتنصيص عليه، والمنزل بين الدار والبيت لأنه يتأتى فيه مرافق السكنى مع ضرب قصور إذ لا يكون فيه منزل الدواب، فلشبهه بالدار يدخل العلو فيه تبعا عند ذكر التوابع، ولشبهه بالبيت لا يدخل فيه بدونه. وقيل في عرفنا يدخل العلو في جميع ذلك لأن كل مسكن يسمى بالفارسية خانه ولا يخلو عن علو، وكما يدخل العلو في اسم الدار يدخل الكنيف لأنه من توابعه، ولا تدخل الظلة إلا بذكر ما ذكرنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مبني على هواء الطريق فأخذ حكمه. وعندهما إن كان مفتحه في الدار يدخل من غير ذكر شيء مما ذكرنا لأنه من توابعه فشابه الكنيف.
قال: "ومن اشترى بيتا في دار أو منزلا أو مسكنا لم يكن له الطريق إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير، وكذا الشرب والمسيل" لأنه خارج الحدود إلا أنه من التوابع فيدخل بذكر التوابع، بخلاف الإجارة لأنها تعقد للانتفاع فلا يتحقق إلا به، إذ المستأجر لا يشتري الطريق عادة ولا يستأجره فيدخل تحصيلا للفائدة المطلوبة منه، أما الانتفاع بالمبيع ممكن بدونه لأن المشتري عادة يشتريه، وقد يتجر فيه فيبيعه من غيره فحصلت الفائدة، والله تعالى أعلم.(3/66)
باب الاستحقاق
مدخل
...
باب الاستحقاق
"ومن اشترى جارية فولدت عنده فاستحقها رجل ببينة فإنه يأخذها وولدها، وإن أقر بها لرجل لم يتبعها ولدها" ووجه الفرق أن البينة حجة مطلقة فإنها كاسمها مبينة فيظهر بها ملكه من الأصل والولد كان متصلا بها فيكون له.
أما الإقرار حجة قاصرة يثبت الملك في المخبر به ضرورة صحة الإخبار، وقد اندفعت بإثباته بعد الانفصال فلا يكون الولد له. ثم قيل: يدخل الولد في القضاء بالأم تبعا، وقيل(3/66)
يشترط القضاء بالولد وإليه تشير المسائل، فإن القاضي إذا لم يعلم بالزوائد. قال محمد رحمه الله: لا تدخل الزوائد في الحكم، فكذا الولد إذا كان في يد غيره لا يدخل تحت الحكم بالأم تبعا.
قال: "ومن اشترى عبدا فإذا هو حر وقد قال العبد للمشتري اشترني فإني عبد له، فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة لم يكن على العبد شيء، وإن كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد ورجع هو على البائع وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية فوجده حرا لم يرجع عليه على كل حال". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرجع فيهما لأن الرجوع بالمعاوضة أو بالكفالة والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا فصار كما إذا قال الأجنبي ذلك أو قال العبد ارتهني فإني عبد وهي المسألة الثانية. ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على ما أمره وإقراره أني عبد، إذ القول له في الحرية فيجعل العبد بالأمر بالشراء ضامنا للثمن له عند تعذر رجوعه على البائع دفعا للغرور والضرر، ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه، والبيع عقد معاوضة فأمكن أن يجعل الآمر به ضامنا للسلامة كما هو موجبه، بخلاف الرهن لأنه ليس بمعاوضة بل هو وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى يجوز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال فلا يجعل الأمر به ضمانا للسلامة، وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله فلا يتحقق الغرور. ونظير مسألتنا قول المولى بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له ثم ظهر الاستحقاق فإنهم يرجعون عليه بقيمته، ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده، والتناقض يفسد الدعوى. وقيل إذا كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم. وقيل هو شرط لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق وإن كان الوضع في الإعتاق فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة.
قال: "ومن ادعى حقا في دار" معناه حقا مجهولا "فصالحه الذي في يده على مائة درهم فاستحقت الدار إلا ذراعا منها لم يرجع بشيء" لأن للمدعي أن يقول دعواي في هذا الباقي.
قال: "وإن ادعاها كلها فصالحه على مائة درهم فاستحق منها شيء رجع بحسابه" لأن التوفيق غير ممكن فوجب الرجوع ببدله عند فوات سلامة المبدل، ودلت المسألة على أن الصلح عن المجهول على معلوم جائز لأن الجهالة فيما يسقط لا تفضي إلى المنازعة. والله تعالى أعلم بالصواب.(3/67)
فصل: في بيع الفضولي
قال: "ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار، إن شاء أجاز البيع؛ وإن شاء فسخ" وقال الشافعي رحمه الله: لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية لأنها بالملك أو بإذن المالك وقد فقدا، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية. ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري فثبت للقدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه، كيف وإن الإذن ثابت دلالة لأن العاقل يأذن في التصرف النافع.
قال: "وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما" لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيامه وذلك بقيام العاقدين والمعقود عليه. وإذا أجاز المالك كان الثمن مملوكا له أمانة في يده بمنزلة الوكيل، لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، وللفضولي أن يفسخ قبل الإجازة دفعا للحقوق عن نفسه، بخلاف الفضولي في النكاح لأنه معبر محض، هذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عرضا معينا إنما تصح الإجازة إذا كان العرض باقيا أيضا. ثم الإجازة إجازة نقد لا إجازة عقد حتى يكون العرض الثمن مملوكا للفضولي، وعليه مثل المبيع إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا، لأنه شراء من وجه والشراء لا يتوقف على الإجازة. ولو هلك المالك لا ينفذ بإجازة الوارث في الفصلين لأنه توقف على إجازة المورث لنفسه فلا يجوز بإجازة غيره. ولو أجاز المالك في حياته ولا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف رحمه الله أولا، وهو قول محمد رحمه الله لأن الأصل بقاؤه، ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال: لا يصح حتى يعلم قيامه عند الإجازة لأن الشك وقع في شرط الإجازة فلا يثبت مع الشك.
قال: "ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري ثم أجاز المولى البيع فالعتق جائز" استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمهم الله: لا يجوز لأنه لا عتق بدون الملك، قال عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" والموقوف لا يفيد الملك، ولو ثبت في الآخرة يثبت مستندا وهو ثابت من وجه دون وجه، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا، ولهذا لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان، ولا أن يعتق المشتري والخيار للبائع ثم يجيز البائع ذلك، وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أنه أسرع نفاذا حتى نفذ من الغاصب إذا أدى الضمان(3/68)
وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان. ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك، ولا ضرر فيه على ما مر فتوقف الإعتاق مرتبا عليه وينفذ بنفاذه فصار كإعتاق المشتري من الراهن وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي مستغرقة بالديون يصح، وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك، بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك، وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار البائع لأنه ليس بمطلق، وقران الشرط به يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا، وبخلاف بيع المشتري من الغاصب إذا باع لأن بالإجازة يثبت للبائع ملك بات، فإذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله، وأما إذا أدى الغاصب الضمان ينفذ إعتاق المشتري منه كذا ذكره هلال رحمه الله وهو الأصح.
قال: "فإن قطعت يد العبد فأخذ أرشها ثم أجاز المولى البيع فالأرش للمشتري" لأن الملك قد تم له من وقت الشراء، فتبين أن القطع حصل على ملكه وهذه حجة على محمد، والعذر له أن الملك من وجه يكفي لاستحقاق الأرش كالمكاتب إذا قطعت يده وأخذ الأرش ثم رد في الرق يكون الأرش للمولى، فكذا إذا قطعت يد المشترى في يد المشتري والخيار للبائع ثم أجيز البيع فالأرش للمشتري، بخلاف الإعتاق على ما مر. "ويتصدق بما زاد على نصف الثمن" لأنه لم يدخل في ضمانه أو فيه شبهة عدم الملك.
قال: "فإن باعه المشتري من آخر ثم أجاز المولى البيع الأول لم يجز البيع الثاني" لما ذكرنا، ولأن فيه غرر الانفساخ على اعتبار عدم الإجازة في البيع الأول والبيع يفسد به، بخلاف الإعتاق عندهما لأنه لا يؤثر فيه الغرر.
قال: "فإن لم يبعه المشتري فمات في يده أو قتل ثم أجاز البيع لم يجز" لما ذكرنا أن الإجازة من شروطها قيام المعقود عليه وقد فات بالموت وكذا بالقتل، إذ لا يمكن إيجاب البدل للمشتري بالقتل حتى يعد باقيا ببقاء البدل لأنه لا ملك للمشتري عند القتل ملكا يقابل بالبدل فتحقق الفوات، بخلاف البيع الصحيح لأن ملك المشتري ثابت فأمكن إيجاب البدل له فيكون المبيع قائما بقيام خلفه.
قال: "ومن باع عبد غيره بغير أمره وأقام المشتري البينة على إقرار البائع أو رب العبد أنه لم يأمره بالبيع وأراد رد المبيع لم تقبل بينته" للتناقض في الدعوى، إذ الإقدام على الشراء إقرار منه بصحته، والبينة مبنية على صحة الدعوى "وإن أقر البائع بذلك عند القاضي بطل البيع " إن طلب المشتري ذلك، لأن التناقض لا يمنع صحة الإقرار، وللمشتري أن يساعده(3/69)
على ذلك فيتحقق الاتفاق بينهما، فلهذا شرط طلب المشتري.
قال رحمه الله: وذكر في الزيادات أن المشتري إذا صدق مدعيه ثم أقام البينة على إقرار البائع أنه للمستحق تقبل. وفرقوا أن العبد في هذه المسألة في يد المشتري. وفي تلك المسألة في يد غيره وهو المستحق، وشرط الرجوع بالثمن أن لا يكون العين سالما للمشتري.
قال: "ومن باع دارا لرجل وأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع" عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخرا، وكان يقول أولا: يضمن البائع، وهو قول محمد رحمه الله وهي مسألة غصب العقار وسنبينه إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.(3/70)
باب السلم
السلم: عقد مشروع بالكتاب وهو آية المداينة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون وأنزل فيها أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . وبالسنة وهو ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم", والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه. ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه.
قال: "وهو جائز في المكيلات والموزونات" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا فلا يصح السلم فيهما ثم قيل يكون باطلا، وقيل ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك.
قال: "وكذا في المذروعات" لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم، وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض، لأن العددي المتقارب معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم فيجوز السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء لاصطلاح الناس على إهدار التفاوت، بخلاف البطيخ والرمان لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، وبتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي(3/70)
المتقارب. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية، ثم كما يجوز السلم فيها عددا يجوز كيلا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز كيلا لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت. ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما وكذا في الفلوس عددا. وقيل هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وعند محمد رحمه الله لا يجوز لأنها أثمان. ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا وقد ذكرناه من قبل.
"ولا يجوز السلم في الحيوان" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأنه يصير معلوما ببيان الجنس والسن والنوع والصفة، والتفاوت بعد ذلك يسير فأشبه الثياب. ولنا أنه بعد ذكر ما ذكر يبقى فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة فيفضي إلى المنازعة، بخلاف الثياب لأنه مصنوع العباد فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال واحد. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن السلم في الحيوان" ويدخل فيه جميع أجناسه حتى العصافير.
قال: "ولا في أطرافه كالرءوس والأكارع" للتفاوت فيها إذ هو عددي متفاوت لا مقدر لها.
قال: "ولا في الجلود عددا ولا في الحطب حزما ولا في الرطبة جرزا" للتفاوت فيها، إلا إذا عرف ذلك بأن بين له طول ما يشد به الحزمة أنه شبر أو ذراع فحينئذ يجوز إذا كان على وجه لا يتفاوت.
قال: "ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين المحل، حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس أو منقطعا فيما بين ذلك لا يجوز" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة على التسليم حال وجوبه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلا بد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل. "ولو انقطع بعد المحل فرب السلم بالخيار، إن شاء فسخ السلم، وإن شاء انتظر وجوده" لأن السلم قد صح والعجز الطارئ على شرف الزوال فصار كإباق المبيع قبل القبض.
قال: "ويجوز السلم في السمك المالح وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه معلوم القدر(3/71)