ويراد به الإبراء عن نفس الدعوى وإنه صحيح، فدعوى حينئذ من جهة المدعي لا يجوز إبطاله بالشك.b
قالوا: وهذا لا يقوى؛ لأنه وضع المسألة في دعوى الدين، والإبراء عن المدعى به إذا كان ديناً صحيح، ولو كان وضع المسألة في دعوى العين فالإبراء عن الأعيان لا يصح، بمعنى: أن لا تصير العين ملكاً للمدعى عليه، أما لا تصح دعوى المدعي ذلك العين بعد ذلك، ولكن الوجه الصحيح لبيان أنه لا يحلف المدعى عليه دعوى الإبراء عن دعوى المال: أن المدعي بالدعوى استحق الجواب على المدعى عليه، والجواب إما الإقرار أو الإنكار وقوله: أبرَأَني عن الدعوى ليس بإقرار ولا إنكار، فلا يكون مسموعاً بل يقال: أجب خصمك ثم ادع عليه ما شئت إن كان لك عليه دعوى، وإذا لم يكن دعوى الإبراء مسموعاً من المدعى عليه لا يترتب عليه التحليف وهذا بخلاف ما إذا قال المدعى عليه في هذه الصورة: أبرأني عن هذه الألف، فإنه يحلف المدعي؛ لأن دعوى البراءة عن المال إقرار بوجوب المال، والإقرار جواب ثم دعوى المسقط وهو الإبراء يصح بعد الدعوى من المدعى عليه فيترتب عليها الاستحلاف، ومن المشايخ من قال: الصحيح أنه يحلف المدعي على دعوى البراءة، كما يحلف على دعوى التحليف وإليه مال شمس الأئمة (98أ4) الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وعليه أكثر قضاة زماننا، لكون هذا استحلاف على وفاق الدعوى، وإنما كان له الاستحلاف على ذلك، لأن المدعى البراءة عن الدعوى، والبراءة عن الدعوى صحيحة، فتسقط به الخصومة، ألا ترى أنه لو أقر بذلك يلزمه وتسقط به خصومته، وألا ترى أنه لو أبرأه عن الدعوى بين يدي القاضي، لا يسمع القاضي خصومته بعد ذلك، فجاز أن يحلف عليه.
وإذا ادعى رجل على رجل أنه قتل ابناً له عمداً أو عبداً له عمداً أو ما أشبهه وأراد استحلافه على ذلك، ذكر في «أدب القاضي» للخصاف: أنه يحلف على الحاصل ولم يزد على هذا.
يجب أن يعلم بأن دعوى الجناية على النفس أو فيما دون النفس، وإما أن تكون دعوى الجناية عمداً أو خطأ، فإن كانت دعوى الجناية على العبد: فإن كانت الجناية في النفس إذا كانت عمداً القصاص، والقصاص يلاقي العبد من حيث أنه مال، والعبد من حيث إنه آدمي حق نفسه لاحق المولى، ولهذا لو أقر العبد على نفسه بالقصاص صح إقراره، ولو أقر المولى عليه بالقصاص لا يصح إقراره، فكان الخصم في ذلك العبد، فيستحلف العبد، فإن كانت الجناية في النفس وكانت خطأ فالخصم هو المولى؛ لأن موجب هذه الجناية الدفع أو الفداء، وكلاهما يختص بالمولى لا تعلق للعبد به، فكان الخصم فيه المولى، فكان اليمين عليه ولكن يحلف على العلم؛ لأنه تحليف على فعل الغير، وإن كانت الجناية فيما دون النفس، فالخصم في ذلك المولى عمداً كانت أو خطأ وهو الخطاب بالدفع أو الفداء، وكل ذلك يختص بالمولى لا تعلق للعبد به فكان الخصم فيه المولى، فيحلف المولى ولكن يحلف على العلم لما ذكرنا، وأما إذا كان دعوى(8/188)
الجناية على الحر، فإن كانت الجناية على النفس وهي عمد. بأن ادعى رجل على رجل أنه قتل ابنه عمداً فالخصم هو المدعى عليه، ويحلف المدعى عليه على الحاصل هكذا ذكر الخصاف ولم يزد على هذا، وذكر في كتاب الاستحلاف أنه يستحلف على السبب، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر الخصاف جواب لظاهر الرواية، وما ذكر في كتاب الاستحلاف رواية أبي يوسف ولكن هذا ليس بصواب، فالمذكور في كتاب الاستحلاف:
وقال أصحابنا: اليمين في القصاص بالنفس بالله ما قتلت إباه الذي يدعى أنك قتلته، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر الخصاف قول الكل، وما ذكر في الاستحلاف قول الكل أيضاً، فصار في القتل روايتان، فعلى ما ذكره الخصاف لا يحتاج إلى الفرق.
والفرق: أن قضيته الدليل أن يكون التحليف على الحاصل في القتل أيضاً؛ لأن في التحليف على السبب ضرر فالإنسان قد يقتل ولي غيره عمداً ولا يجب عليه القصاص بأن قتله لردته أو لدفع قصده قتله، أو ما أشبهه فلو حلف على السبب يمكنه الحلف على انتفاء السبب مع وجوده، ولا يمكنه أن يقر به فيدعي المانع من القصاص؛ لأنه عسى لا يمكنه إثبات ذلك كما فيما تقدم، ولكن تركنا الدليل في باب القتل بالنص، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حلف اليهود على القتل بالله ما قتلتموه ولا علمتم له قاتلاً» ولا نص فيما تقدم فيعمل فيها بقضية الدليل.
وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف فيما تقدم: أن التحليف على السبب لا يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين القتل وفيما تقدم في كتاب الاستحلاف وعلى رواية «أدب القاضي» : يحتاج إلى الفرق، له: أن قضية القياس أن يكون التحليف على السبب في الفصول ليكون التحليف على موافقة الدعوى وما ذكروا من احتمال الضرر يمكن دفعه بالتعريض فأسقطنا اعتبار الاحتمال عمداً مكان الدفع، ليكون التحليف على موافقة الدعوى لكن أسقطنا اعتبار الاحتمال في باب النفس تعظيماً لأمر النفس؛ لأن الإنسان قد يفعل عن التعريض، وإذا فاتت النفس لا يخلفه شيء آخر ولا كذلك المال وفي كتاب «الأقضية» على قول أبي يوسف يحلف على السبب، وعن محمد روايتان.
وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: الصحيح أن يقال بأن على قول أبي حنيفة رحمه الله يحلف على السبب؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه في ذلك؛ لأنه وإن قتله وسقط القصاص ولم يجب بسبب من الأسباب، وامتنع عن الحلف على نفس الفعل لا يقضي عليه بشيء لا بالقصاص ولا بالدية، وعن محمد: يستحلف على الحاصل؛ لأن في التحليف على السبب ضرر بالمدعى عليه، فإنه متى امتنع عن الحلف يقضي عليه بنكوله عند محمد رحمه الله، ولكن بالدية ولكن هذا ليس بصحيح فإنه عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان لا يقضى عليه بنكوله لا بالقصاص ولا بالدية ولكن يحبس حتى يحلف أو يقر وفيه ضرر.(8/189)
ثم إذا حلف على الحاصل يحلف بالله ما لهذا عليك دم وليه ولا له قبلك حق بسبب هذا الدم لجواز أنه عفى عنه على مال، أو كان الدم بين وليين عفى الآخر وانقلب الدم مالاً، فلو لم يذكر ولا له قبلك حق بسبب هذا الدم، يحلف ولا يحنث؛ لأنه لم يبق له عليه الدم، ثم إذا حلف على هذا الوجه، إن حلف برأ عن الخصومة، وإن نكل فعند أبي حنيفة رحمه الله يحبس حتى يقر أو يحلف وعندهما يقضي عليه بنكوله ولكن بالدية.
وإن كانت الجناية فيما دون النفس وكانت عمداً توجب القصاص، فعلى رواية «أدب القاضي» يحلف على الحاصل، وعلى رواية كتاب الاستحلاف يحلف على السبب، واختلف المشايخ فيه على نحو ما ذكرنا في النفس: قال الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله: والصحيح أنه يستحلف في هذه الصورة على الحاصل عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه متى استحلف على السبب ونكل يقضى عليه بالقصاص عند أبي حنيفة رحمه الله وبالدية عند محمد.
وإن كان دعوى الجناية على النفس وهي خطأ أو على الطرف وهي خطأ نحو قطع اليد والموضحة وما أشبه ذلك مما تتحمله العاقلة. ذكر في «أدب القاضي» للخصاف وفي كتاب «الأقضية» : أنه يستحلف على السبب عند أبي يوسف ومحمد في كتاب الاستحلاف أنه يستحلف على السبب عند أصحابنا رحمهم الله؛ وهذا لأن في التحليف على الحاصل ضرراً للمدعي؛ لأن بين العلماء اختلافاً أن الدية تجب على القاتل ابتداء والعاقلة يتحملون عنه، أو تجب على العاقلة ابتداء والعاقلة يتحملون عنه، أو تجب على العاقلة ابتداء فمتى حلفناه على الحاصل بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي عليك من الوجه الذي يدعي يحلف، ويتأول قول من يقول: بأن الدية تجب على العاقلة ابتداء، فلا يحنث في يمينه فلا يفيد الاستحلاف، حتى قلنا: إذا كان موجب الجناية شيئاً لا تتحملها العاقلة بأن كان دون أرش الموضحة يحلف على الحاصل؛ لأنه لا يمكنه التأويل ها هنا، فإن قيل: يمكن التأويل على الحاصل على وجه لا يتضرر به المدعي بأن يحلف بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي ولا شيء منه، وعلى هذا الوجه لا يمكنه التأويل؛ لأن من يقول بوجوب الدية على العاقلة يقول بأن القاتل من جملة العاقلة، فيتأول قول هذا القائل، ومن العلماء من قال: يمكن دفع التأويل مع التحليف على الحاصل بأن يزاد في التحليف زيادة شيء آخر، فيحلف بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي من الوجه الذي يدعي، ولا شيء منه، ويسمى الأرش والدية ولا قبل عاقلته ولا شيء منه وهذا حسن وبه يندفع التأويل.
وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: الصحيح أنه يحلفه على الحاصل بالله ما لهذا قبلك مال بالسبب الذي يدعي، وكان راعى جانب المدعى عليه، والصحيح ما قلنا؛ لأن في كل نوع ضرر لأحد الجانبين فلا بد من رعاية أحد الجانبين، فنقول رعاية جانب المدعى عليه أولى؛ لأنه ليس بجان.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه اشترى داراً بجنب داري وأني شفيعها بداري، وأراد استحلافه، فالقاضي يحلفه على السبب بالله ما اشتريت هذه الدار التي سماها(8/190)
وحدودها كذا وكذا ولا شيء منها، وإنما حلفناه على السبب نظراً للمدعي؛ لأن بين العلماء اختلافاً ظاهراً أن الشفعة هل تستحق بالجوار، فإن حلف على الحاصل ربما يتأول قول من لا يرى الشفعة بالجوار، فلا يلزمه الجنب (98ب4) فيبطل حق المدعي أكثر ما في الباب: أن في التحليف على السبب ضرراً بالمدعى عليه، لجواز أن المدعي لم يطلب الشفعة أو طلبها ثم سلمها ويطلب شفعته، فلو حلف على السبب لا يمكنه أن يحلف المشتري ولو أقر بالشراء وادعى بطلان حقه بعد ذلك عسى لا يمكنه الإثبات بالبينة، فيتضرر به المدعى عليه إلا أن الترجيح لجانب المدعي؛ لأن الشراء سبب استحقاق الشفعة وسقوط الحق بعد وجود السبب إنما يكون لعارض المسقط، فيجب التمسك بالأصل حتى يقوم الدليل على خلافه.
وإن أقر المدعى عليه بالشراء والجوار، إلا أنه يقول: الشفيع لم يطلب الشفعة حين علم بالشراء وقال الشفيع: لا بل طلبت، فالقول قول الشفيع مع اليمين؛ وهذا لأن الشفيع إن كان مدعياً صورة؛ لأنه يدعي الطلب، والطلب عارض إلا أنه منكر معنى، فإن المشتري يدعي على الشفيع إبطال حقه في الشفعة بعد ما أقر له بثبوت حقه والشفيع منكر إذا كان القول قول الشفيع مع اليمين إذا طلب المشتري من القاضي يمين الشفيع، قال: القاضي يحلفه بالله، لقد طلبت شفعة هذه الدار حين بلغك شراؤها، وأشهدت على ذلك بحضرة أحد المتبايعين أو الدار، هكذا ذكر في كتاب الاستحلاف، ولكن هذا إنما يستقيم إذا ادعى المشتري أنه بلغه الشرى وهو بين ملأ من الناس، أما إذا لم يكن عنده من أشهده لم تبطل شفعته بترك الإشهاد للحال، فإذا أقر بذلك حلفه بالله لقد طلبت الشفعة حين علمت بالشراء، وخرجت إلى الشهود حين قدرت وطلبتها بحضرة أحد المتعاقدين أو الدار وأشهدت على ذلك.
وإذا ادعى الشفيع أنه بلغه الخبر ليلاً وأنه طلب الشفعة وأشهد عليها حين أصبح، حلفه القاضي بالله ما بلغك الخبر إلا في الوقت الذي تدعي، وقد طلبت الشفعة وأشهدت على ذلك حين أصبحت؛ لأن الإشهاد إنما يشترط على حسب الإمكان ولا يمكنه أن يطوف على الأبواب ليلاً للإشهاد والطلب، فكان الإمكان إذا أصبح.
وفي كتاب الاستحلاف قال محمد رحمه الله: إذا كان لرجل دار إلى جنب دار رجل فيصدق أحدهما على رجل بالحائط الذي يلي حائط جاره، وقبضه المتصدق عليه ثم اشترى المتصدق عليه ما بقي من الدار من المتصدق فليس للجار فيها شفعة؛ لأن صاحب الحائط أقرب جواراً من الجار الذي وراء الحائط، فإن طلب الجار الذي وراء الحائط يمين البائع والمشتري حلفه بالله ما باع الحائط ضراراً ولا فراراً من الشفعة على وجه التلجئة، وإبطال الشفعة حلفه القاضي على ذلك، يريد بهذا والله أعلم أن الجار الذي وراء الحائط ادعى، وقال: إن صدقة الحائط كانت تلجئة وقد بعت الكل وخاصم المشتري سواء كانت الدار في يده أو لم تكن؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقربه يلزمه، فإذا أنكر يستحلف عليه، فإن حلف لم يثبت تلجئة الحائط وانقطع خصومة الجار عن(8/191)
المتصدق عليه والمشتري، وإن نكل ثبت تلجئة الصدقة في الحائط فكان للجار الشفعة.
قال في كتاب الاستحلاف أيضاً: إذا وكل الرجل رجلاً بطلب شفعته فادعى المشتري على الوكيل أن موكله قد سلم الشفعة وطلب من القاضي أن يحلف الوكيل، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن الوكيل لو حلف حلف بطريق النيابة عن الموكل؛ لأن الشفيع لا يدعي التسليم على الوكيل، إنما يدعيه على الموكل، والاستحلاف لا يجري فيه النيابة؛ وهذا لأن اليمين شرعت بدل حق المدعي بالنص بخلاف القياس؛ لأنه لا مماثلة بين أصل حقه وبين اليمين وما عرف شرعاً بخلاف القياس يراعى لصحة جميع ما ورد به الشرع، والشرع جعلها بدل حقه إذا كان المدعى قبله أصلاً في الحلف، فبينما إذا كان المدعي قبله ثانياً يبقى على حاصل القياس.
ونظير هذه المسألة: ما قالوا في الوكيل بقبض الدين إذا أراد أن يقبض الدين من الغريم أن موكله أبرأني عن هذا الدين أو أدى دينه إليه، وأنكر الوكيل ذلك فطلب الغريم من القاضي أن يحلف الوكيل بالله ما يعلم ذلك من موكلك، فإنه لا يمين على الوكيل ويقول القاضي للغريم: أد الدين إلى الوكيل وأنت على خصومتك مع الموكل، والمعنى ما ذكرنا، هذا إذا ادعى المشتري تسليم الموكل، وإن ادعى تسليم الوكيل، إن ادعي تسليمه في غير مجلس الحكم: لا يحلف الوكيل، وإن كان لو استحلف استحلف بطريق الأصالة؛ لأن المشتري ادعى تسليم الوكيل إلا أنه ادعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه؛ لأن تسليم الوكيل الشفعة في غير مجلس الحكم لا يصح بالإجماع وإذا أقر فإنما أقر بما ليس بصحيح شرعاً فلا يلزمه، وكل من ادعى على آخر معنى لو أقر به لا يلزمه، فإذا أنكر لا يستحلف عليه، وإن ادعى تسليمه في مجلس الحكم، وأنكر الوكيل، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يستحلف؛ لأن تسليمه في مجلس الحكم صحيح عندهما، فإنما ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فيستحلف عند الإنكار وعند محمد: لا يستحلف، لأن تسليمه في مجلس الحكم غير صحيح أيضاً عند محمد رحمه الله فإنما المدعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه فلا يستحلف عند الإنكار.
والمجبرة تختار البلوغ في حق اختيارها نفسها بمنزلة الشفيع في طلب الشفعة، فإنها كما بلغت بالحيض أو بالسن، ينبغي لها أن تختار نفسها كما أن الشفيع إذا بلغه الخبر ينبغي أن يطلب الشفعة، وأشهدت على اختيارها نفسها إن كان عندها من يمكن إشهاده وتقبل شهادته، وإن لم يكن عندها من يمكن إشهاده تخرج إلى الناس واختارت نائباً وأشهدت، وإن الجر في بيتها حتى خرجت إلى الناس بطل اختيارها، والإشهاد ليس بشرط لاختيارها نفسها، لكن شرط الإشهاد حتى يثبت اختيارها نفسها نظير استحلاف الشفيع على طلب الشفعة، فإن قالت للقاضي: قد اخترت نفسي حين بلغت، أو قالت حين بلغت طلبت القرفة قبل قولها مع اليمين، وإذا قالت: بلغت أمس وطلبت الفرقة، لا يقبل قولها وتحتاج إلى إقامة البينة، والجواب في الشفعة هكذا.
إذا قال الشفيع: طلبت حين علمت فالقول قوله ولو قال: علمت أمس وطلبت،(8/192)
كلف إقامة البينة ولا يقبل قوله ذكر المسألتين على هذا الوجه في كتاب الاستحلاف قيل أنهما من خصائص كتاب الاستحلاف، وإنما جاء الفرق باعتبار أنهما إذا أضافا الطلب والاختيار إلى وقت ماض، فقد حكما ما لا يملكان استئنافه للحال، ومن حكى ما لا يملك استئنافه لا يصدق فيما حكى من غير بينة، وإذا لم يضيفا الاختيار والطلب إلى وقت ماض، بل أطلقا الكلام إطلاقاً فقد حكيا ما يملكان استئنافه للحال، لأنما يجعل في الجارية كأنها بلغت الآن واختارت نفسها الآن والشفيع علم بالشراء الآن وطلب الشفعة الآن، فلهذا جعل القول قولهما إذا أطلقا.
وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه آلى منها ومضت أربعة أشهر ولم يفىء إليها، وإنها بانت منه وأنكر الزوج الإيلاء، فالقاضي لا يحلف الزوج علي الحاصل بالله ما هي بائنة منك اليوم، وهذا لأن بين العلماء اختلافاً ظاهراً أن تمضي مدة الإيلاء هل تقع الفرقة؟ بعضهم قالوا: لا تقع ويقال للزوج إما أن تفيء إليها أو يفرق القاضي بينكما، فلو حلفناه على الحاصل يؤول قول هذا القائل، ويكون صادقاً في يمينه فلا يلزمه حكم الحنث، وتتضرر به المرأة فيحلف على السبب: بالله ما قلت لها: والله لا أقربك أربعة أشهر على ما ادعت دفعاً للضرر عن المرأة، أكثر ما في الباب، أن في التحليف على السبب ضرراً للزوج فإنه قد (99أ4) يفيء إليها ولا تقع الفرقة بمضي المدة بأن يفيء إليها في المدة، إلا أن الترجيح لجانب المرأة، لأن الإيلاء إذا وجد تصير الفرقة مستحقة نظراً إلى السبب وهو الإيلاء، فامتناع الفرقة بعد ذلك يكون بعارض أمر ولا يعتبر بالعوارض، فإن أقر الزوج بالإيلاء وادعى أنه فاء إليها في المدة، وأنكرت هي الفيء في المدة فالقول قولها مع اليمين؛ لأنها تنكر ثبوت ملك الزوج عليها بعد وجود سبب البينونة، وتحلف على الحاصل عند محمد رحمه الله، فتحلف بالله لست بامرأة له اليوم بالسبب الذي يدعي ولا تحلف بالله لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر؛ وهذا لأنه يجوز أنه آلى منها ولم يفىء إليها حتى مضت أربعة أشهر وبانت منه ثم تزوجها ثم آلى منها وفاء إليها في المدة، فمتى استحلف بالله لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر يحلف ويتأول عدم الفيء في النكاح الأول، فيبطل حق الزوج فيستحلف على الحاصل لهذا.
وفي كتاب الاستحلاف قال بشر: سمعت أبا يوسف قال: يستحلف بالله أنه لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر، قال بشر: والأحوط على قوله: أن يزاد في اليمين فيحلف بالله لم يفىء إليك في الأربعة الأشهر في النكاح الذي يدعيه الزوج حتى لا يتأتى المعنى الذي قلنا لمحمد رحمه الله.
ولو أن امرأة ادعت على زوجها نفقة العدة وأنكر الزوج فالقاضي لا يحلف الزوج بالله ما عليك تسليم النفقة إليها من الوجه الذي يدعي؛ لأن الشافعي رحمه الله: لا يرى النفقة للبينونة، فلو حلفناه على الحاصل يتأول قول الشافعي رحمه الله، فيحلف على السبب بالله ما هي معتدة عنك من الوجه الذي تدعي.(8/193)
وحكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله أنه قال: خرجت حاجّاً فدخلت على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله وهو يدرس، والخليفة يحكم، فادعت امرأة على زوجها نفقة العدة وأنكر الزوج، فحلّف الخليفة الرجل بالله ما عليك تسليم النفقة من الوجه الذي يدعي فيها الرجل ليحلف، فنظرت إلى القاضي، فعلم القاضي أني لماذا أنظر فنادى الخليفة إن يسأل الرجل من أي المحلة هو حتى إنه إن كان من أصحاب الحديث حلفه بالله ما هي معتدة منك.
وفي كتاب الاستحلاف: امرأة اختلعت من زوجها بمهرها، وجحد الزوج ذلك فالقول قول الزوج ثم كيف يحلف الزوج؟ فعلى ما روي عن أبي يوسف يستحلف على السبب بالله، ما خلعتها منذ ملكتها، وعلى ظاهر الرواية يستحلف على الحاصل.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه خرق ثوباً له، فإن كان الثوب حاضراً ينظر إلى الخرق، فإن كان يسيراً فموجبه النقصان بلا خلاف يقوم الثوب صحيحاً، ويقوم منخرقاً، فتفاوت ما بينهما موجبه بلا خلاف فيحلف المدعى عليه بالله ما له عليك هذا القدر من المال الذي ادعى، ولا يحلف على السبب، نظراً للمدعى عليه، لجواز أن المدعى عليه خرقه إلا أنه لا شيء عليه؛ لأن صاحب الثوب أبرأه عنه أو صالحه على شيء أو أعطاه النقصان، وليس في التحليف على الحاصل ضرر للمدعي؛ لأن موجب هذا الخرق النقصان فلا يمكنه التأويل، هكذا ذكر الخصاف وصاحب «الأقضية» رحمهما الله، وذكر هذه المسألة في كتاب الاستحلاف وقال: يحلف على السبب؛ لأن انفساخ السبب هنا لا يتصور، والصحيح ما ذكر الخصاف وصاحب «الأقضية» ؛ لأن انفساخ السبب إن كان لا يتصور فبطلان الحكم بالإبراء وما أشبهه يتصور، وإذا كان الخرق فاحشاً، فالقاضي يحلفه على السبب؛ لأن عندنا مثل هذا الخرق يوجب الخيار للمالك إن شاء ترك الثوب على الجاني وضمنه جميع القيمة، وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان، وعند الشافعي رحمه الله يوجب النقصان لا محالة، فمتى حلفنا على الحاصل يتأول قول الشافعي رحمه الله، عسى يتضرر المدعي فيحلف على الحاصل نظراً للمدعي، وإن كان الثوب غائباً فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي إلا بعد بيان قدر النقصان حتى يصير المدعى معلوماً؛ لأن الدعوى لا تصح إذا لم يكن المدعى معلوماً.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه وضع على حائط له خشباً، أو نصب على سطحه ميزاباً في داره، أو بنى على حائط له بناء، أو أخرج من داره تراباً ورمى به في أرضه، أو ألقى في أرضه دابة ميتة، أو ما أشبه ذلك مما يكون فساداً في أرضه، ويجب على صاحب الأرض نقله، وأراد أن يحلفه حلفه (على) السبب، إذ ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه وفيه موافقة دعوى المدعى عليه.g
بيانه: أن بعدما ثبت للمدعي حق مطالبة المدعى عليه برفع هذه الأشياء لا يتصور سقوطه بسبب من الأسباب، فإنه لو أذن له في الابتداء بذلك كان ذلك منه إعارة للحائط والأرض، فمتى بدا له كان له أن يطالبه بالرفع؛ لأن الإعارة ليست بلازمه وإن باع منه(8/194)
ذلك لا يجوز؛ لأن هذا بيع الحق وبيع الحق لا يجوز، وكذلك لو أجر لا يجوز؛ لأن إجارة رأس الحائط لوضع الخشبة عليه، وإجارة الأرض لإلقاء الميتة أو التراب فيها لا يجوز عرف ذلك في كتاب الإجارات، وكذلك لو صالح عليه لا يجوز؛ لأن الصلح على مال ليضع الخشبة على رأس الحائط وما أشبه ذلك بمنزلة الإجارة والإجارة لا تجوز، فكذا الصلح دل أنه ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه، فيحلف على السبب جرياً على موجب الدعوى.
ولو كان صاحب الخشبة هو المدعي وقدم صاحب الحائط إلى القاضي، وقال: كان لي على هذا الحائط خشبة فوقع أو قال قلعتها لأعمل غيرها، وقد منعني صاحب الحائط وهو حق لي في هذا الحائط، وأنكر صاحب الحائط دعواه، فطلب صاحب الخشبة من القاضي أن يحلف المدعى عليه ولا يقول: بأن القاضي يأمر المدعي بتصحيح دعواه، وذلك أن يبين أن له حق وضع خشبة أو خشبتين أو ما أشبه ذلك، ويبين موضع الخشبة ويبين غلظ الخشبة؛ لأن الدعوى لا تصح إلا بعد بيان المدعى به، وبيانه في هذه الصورة ببيان ما ذكرنا، ثم إذا بين هذه الأشياء حتى صح دعواه وطلب من القاضي أن يحلفه، فالقاضي يحلفه؛ لأن هذا حق لازم قد يكون الحائط مملوك الإنسان ولغيره حق وضع الخشب عليه، ثم يحلف بالله ما لهذا المدعي في هذا الحائط حق وضع خشبة كذا وكذا ولا يحلفه بالله ما كان له عليه خشبة، أو بالله ما طرحت الخشبة لجواز أنه كان، إلا أنه لم يكن بحق وجواز أنه طرح الخشبة ولم يكن له حق وضع الخشبة فلا يمكنه أن يحلف على ذلك، ولكن يحلف على نحو ما بينا، فإن حلف انقطعت الخصومة، وإن نكل صار مقراً بما ادعى فيلزمه دعواه.
قال: ولو ادعى مسيل ماء في أرض رجل، فالقاضي يأمره أن يصحح دعواه وتصحيح الدعوى في أن يبين أن له مسيل ماء المطر أو ماء الوضوء، فإن هذا مما يتفاوت، فإن المطر لا يكون أدوم ويكون أكثر، وماء الوضوء والغسالات يكون أدوم، ويكون أقل وينبغي أن يبين موضع مسيل الماء في مقدم البيت أو في مؤخره.
وكذلك إذا ادعى طريقاً في دار رجل فالقاضي يأمره أن يصحح دعواه، وتصحيح الدعوى أن يبين مقدار عرضه وطوله، يبين موضعه من الدار، فإذا بين ذلك وصحح دعواه حلفه على الحاصل بالله: ما لهذا هذا الحق الذي ادعاه في هذه الأرض الذي في يديك أو في هذه الدار التي في يدك.
وذكر في كتاب الدعوى: إذا ادعى مسيل ماء في دار رجل، أو ادعى طريقاً في دار رجل وشهد الشهود أن له مسيل ماء في هذه الدار أو طريقاً في هذه الدار وقع في بعض النسخ أنه يقبل البينة، وإن لم يبينوا ووقع في بعض النسخ أنه لا يقبل البينة ما لم يبينوا. قال شمس الأئمة الحلواني: تأويل ما وقع في بعض النسخ أنه يقبل البينة إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار؛ لأن جهالة المقر به لا يمنع صحة الإقرار، وتأويل ما وقع في بعض النسخ أنه لا يقبل البينة إذا شهدوا على نفس الطريق وعلى(8/195)
نفس المسيل لا على إقرار المدعى عليه.
قال: ولو ادعى على رجل أنه شق في أرضه نهراً وساق الماء فيه إلى أرضه أمره أن يصحح دعواه وذلك بأن يبين الأرض الذي شق فيها النهر، ويبين قدر طول النهر وعرضه، فإذا بين ذلك وصحح دعواه وجحد المدعى عليه دعواه حلفه القاضي على (99ب4) السبب بالله ما أخذ من أرض هذا الرجل هذا النهر الذي وصف ولا يحلف على الحاصل؛ لأنه ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه؛ لأنه إذا ثبت لا يسقط حق صاحب الأرض في مطالبة حافر النهر بسبب من الأسباب من الإذن في الابتداء والبيع والإجارة وغير ذلك، فإنه لو أذن له في الابتداء كان إعارة، فكان له أن يطالبه بذلك متى بدا له ذلك، ولا يجوز بيع ذلك؛ لأنه بيع الحق وبيع الحق لا يجوز، ولا تجوز الإجارة، ولا ضرر للمدعى عليه في التحليف على السبب ليكون التحليف على وفق الدعوى.
ولو ادعى رجل على رجل أنه حفر حفيرة في أرض له أضر ذلك بأرضه وأراد استحلافه على ذلك، فيقول: لا بد من معرفة حكم هذه المسألة أولاً، فعند علمائنا رحمهم الله: يلزم الحافر النقصان، فيحلفه على الحاصل بالله ماله عليك هذا الحق الذي يدعي من الوجه الذي يدعي، لا يحلفه على السبب بالله ما فعلت كذا؛ لأن في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه لجواز أنه فعل ذلك، إلا أن صاحب الأرض أبرأه عن النقصان أو الفاعل أَوْفاه ضمان النقصان مرة، ولا ضرر للمدعي في التحليف على الحاصل فيحلف على الحاصل.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من العلماء من قال من حفر حفرة في أرض غيره لا يضمن النقصان ولكن يؤمر بكبس الحفيرة، فلو حلفناه على الحاصل، ربما يؤول قول هذا القائل، ثم قوله في الكتاب: أضر ذلك بأرضه، إشارة إلى أنه لو لم يضر ذلك بأرضه أنه لا شيء عليه، فاعلم بأن من رفع التراب من أرض إنسان وكان ذلك في موضع للتراب قيمة فيه، ضمن فيه التراب، سواء تمكن النقصان في الأرض أو لم يتمكن؛ لأن الأرض بجميع أجزائها مملوكة، ومن أخذ ملك غيره يضمن قيمته.
وقد روي عن محمد رحمه الله: أنه إذا أدخل الماء في أرض رجل واجتمع الطين في أرضه بذلك لا يكون لأحد أن يأخذ ذلك الطين ويرفعه عن أرضه، لأنه صار مملوكه تبعاً لأرضه فهذا كذلك على أن الأرض مملوكة بجميع أجزائها وهذا بخلاف ما لو دخل صيد في ملكه كان لكل أحد أن يأخذه؛ لأنه لم يصر مملوكاً لصاحب الأرض تبعاً لأرضه، وكذلك إذا دخل في أرض لرجل ودخل معه السمك كان لكل أحد أن يأخذ السمك؛ لأنه لم يصر ملكاً له تبعاً لأرضه بخلاف الطين على ما بينا، هذا إذا أخذ التراب من أرض الغير وله قيمة في ذلك الموضع، فأما إذا لم يكن قيمة له في ذلك الموضع ينظر إن تمكن النقصان في الأرض بذلك الصنع، ضمن النقصان وما لا فلا، إذا عرفت حكم المسألة فنقول: إذا كان للتراب قيمة في ذلك الموضع يحلف المدعى عليه وما لا فلا.(8/196)
ومن هذا الجنس: إذا ادعى رجل على رجل أنه نقض حائطاً له، وأراد استحلافه فنقول: من هدم جدار غيره لا يجبر على بنيانه؛ لأن الجدار ليس من ذوات الأمثال ويكون لصاحب الحائط الخيار، إن شاء ضمنه قيمة الحائط والنقص للضامن، وإن شاء أخذ النقص وضمنه النقصان، لأن الحائط قائم من وجه هالك من وجه فيميل إلى أي الوجهين شاء فإن أراد تحليفه حلفه على الحاصل، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله.
قال شمس الأئمة الحلواني: ينبغي للقاضي أن يحلفه على السبب ولا يحلفه على الحاصل هو الصحيح؛ لأن مذهب بعض العلماء أن الحائط إذا كان جديداً يجب عليه الإعادة، وإذا كان خلقاً عتيقاً لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه لو أعاده كان أفضل من الأول وضمان العدوان مقيد بالمثل. فلو حلفناه على الحاصل ربما يؤول قول هذا القائل فيحلف ويكون صادقاً في حلفه، فيتضرر المدعي، فيحلف على السبب كيلا يتأول قول هذا القائل.
قال: ولو ادعى رجل على رجل ألف درهم، وللمدعى عليه عند المدعي رهن بالمال، فخاف المدعى عليه أنه إن أقر بالمال جحد المدعي الرهن، ينبغي للمدعى عليه أن يطلب من القاضي حتى يسأل المدعي: هل عنده بهذا المال الذي يدعيه رهن، فإن قال: نعم فقد حصل مقصود المدعى عليه وإن قال: لا رهن له، وأراد استحلاف المدعى عليه، فالقاضي لا يحلفه بالله ماله عليك هذا المال الذي يدعي؛ لأنه لا يمكنه أن يحلف على هذا الوجه؛ لأن المال واجب عليه فلو حلف يكون كاذباً، ولو أقر بالمال وادعى الرهن ربما لا يمكنه إثبات الرهن فيتضرر به، ولكن يحلفه بالله ما لفلان عليك ألف درهم لا رهن بها، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ وهذا لأن المال الذي ليس له رهن ليس عليه، فإذا حلف على هذا الوجه لهذا.
وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: يحلفه بالله ليس عليك أداء هذا المال وتسليمه إلى المدعي هذا، ولا ضرر للمدعي في ذلك؛ لأنه يمكنه أن يحلف كذلك؛ لأنه إنما يجب على الراهن أداء الدين إذا أحضر المرتهن الرهن، فأما قبل إحضاره فلا يجب عليه تسليم الدين، فإذا لم يكن الرهن حاضراً يمكن للمدعى عليه أن يحلف بالله ليس عليه أداء هذا المال، وتسليمه إلى هذا المدعي، فيحلف على هذا الوجه ولا حاجة إلى ما وراءه. وبعض مشايخنا قالوا: لا حاجة إلى هذه التكلفات؛ لأن جحود الرهن إهلاك الرهن وهلاك الرهن يصير المرتهن مستوفياً دينه، وبعد الاستيفاء لا يبقى له عليه شيء فيمكنه أن يحلف ولا شيء لهذا المدعى عليه، فيحلفه القاضي بالله ماله عليك هذا المال الذي يدعي.
قال في كتاب الاستحلاف: رجل وهب ثوباً له من رجل أو عبد وأقر أن الموهوب له قبضه في المجلس أو بعده بأمره ثم قال الواهب بعد ذلك: إن الموهوب له ما قبضه، وكتب أقررت بقبضه كاذباً، وسأل القاضي أن يحلف الموهوب له بالله لقد قبضته عن هذه الهبة التي يدعي، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد القاضي لا يحلفه؛ لأن التحليف يترتب(8/197)
على دعوى صحيحة، والدعوى لم تصح هنا لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يحلفه بالله لقد قبضته بحكم الهبة التي يدعى.
وعلى هذا الخلاف إذا اشترى شيئاً وأقر المشتري بقبض المشترى، ثم ادعى أنه لم يقبضه وطلب من القاضي أن يحلف البائع بالله لقد سلمته إلى المشتري بحكم هذا الشراء الذي يدعيه. وعلى هذا الخلاف إذا أقر البائع بالبيع ثم أنكر البيع وقال: أقررت بالبيع كاذباً، وأراد تحليف المشتري. وعلى هذا الخلاف رب الدين إذا أقر بقبض الدين من المديون وأشهد عليه ثم أنكر القبض، فأراد تحليف المديون. وعلى هذا الخلاف إذا أقر رجل على نفسه بالدين لرجل ثم أنكر الدين وقال: لا شيء له علي، وإنما أقررت بذلك كاذباً وطلبت يمين المقر.
أبو يوسف رحمه الله يقول: المعروف المعتاد فيما بين الناس أن البائع يقر بقبض الثمن والمشتري بقبض المشترى للإشهاد، وإن لم يكن قبض حقيقة، وكذلك المعتاد فيما بين الناس أن من استقرض من غيره شيئاً، فالمقروض أولاً يأمره بكتابة الصك والإشهاد عليه قبل دفع المال، فلو اعتبرنا التناقض في هذه الصورة مانعاً صحة الدعوى والاستحلاف لبطلت حقوق الناس، وإن أشهد البائع على البيع وقبض الثمن ثم ادعى أن البيع كان تلجئة وطلب تحليف المشتري، ذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف عندهم جميعاً؛ لأن البائع لم يصر متناقضاً في الدعوى؛ لأنه لم يوجد منه إلا الإقرار بالبيع مطلقاً والبيع قد يكون تلجئة وقد يكون جداً، وإذا لم يصر متناقضاً صحت الدعوى منه فيترتب عليه التحليف.
ثم كيفية التحليف بالله ما شرطت أن يكون هذا البيع الذي تلجية.
وفي كتاب الأقضية أن في هذه المسألة روايتين عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية قال: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية مطلقاً، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فهذا البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية مطلقاً، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فهذا البيع تلجئة وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فعلى هذا يستحلف المشتري؛ لأن البائع يدعي ما يوجب حق الفسخ والمشتري ينكر، وفي رواية أخرى قال: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فالعقد صحيح، فعلى هذا لا يستحلف المشتري؛ لأن أكثر ما فيه أنه نكل فيصير مقراً بما ادعاه البائع إلا أنه لو كان الأمر كما ادعاه البائع، فالعقد (100أ4) صحيح فلا معنى للاستحلاف.
قال أبو يوسف في كتاب الاستحلاف: أربعة أشياء يستحلف القاضي الخصم فيها قبل أن يسأل المدعي ذلك:
أحدها: الشفعة، فإن الشفيع إذا طلب من القاضي أن يقضي بالشفعة، فالقاضي يحلفه بالله: لقد طلبت الشفعة حين علمت بالشراء، وإن لم يكن يطلب الشراء وهذا قول ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يستحلفه القاضي ما لم يدع المشتري ذلك.(8/198)
الثاني: البكر إذا بلغت، فاختارت الفرقة وطلبت من القاضي أن يفرق بينهما، يستحلفها القاضي بالله لقد اخترت الفرقة حين بلغت وإن لم يدع الزوج ذلك.
الثالث: إذا أراد المشتري أن يرد المشترى بالعيب، فالقاضي يحلفه بالله لم يرض بهذا ولا عرضه على البيع منذ رأيته.
والرابع: المرأة إذا سألت من القاضي أن يفرض لها النفقة في مال الزوج، والزوج غائب يستحلف بالله ما أعطاك نفقتك حين خرج، ويجب أن تكون مسألة النفقة على قولهم جميعاً؛ لأن الزوج عاجز عن طلب اليمين بنفسه، إذا كان غائباً.
رجل ادعى على رجل ألف درهم وإقرار هذه الألف بيني وبين فلان، فقال المقر له بعد ذلك: إن المدعي وهو المقر قد قبض الألف المشترك بيني وبينه وطالبه بالخمسمائة، التي قبضته، وقال المقر: ما قبضت، فالقول قول المقر مع يمينه، فيستحلف بالله ما قبضت الألف التي لكما على فلان لا قليل ولا كثير منها، ويستحلف بالله ماله قبلك ما يدعي ولا شيء منها يستحلف على الحاصل لجواز أنه قبض ثم يملك من جهته بسبب من الأسباب.
وإذا ادعى على ميت مالاً وله ورثة فله أن يحلف الورثة كلهم على علمهم ولا يكتفي بيمين واحد منهم.
ولو ادعى الورثة مالاً للميت على رجل وحلف أحدهم المدعى عليه عند القاضي اكتفى به حتى لم يكن لبقية الورثة أن يحلفوه، والفرق أن الدعوى إذا وقعت على الميت لو اكتفى بيمين أحد الورثة إنما يكتفي إذا صار هو نائباً عن بقية الورثة في الحلف إلا أن النيابة لا تجري في الحلف وإذا وقعت الدعوى للميت لو اكتفى باستحلاف أحد الورثة إنما يكتفي من حيث إنه صار نائباً عن بقية الورثة في الاستحلاف، والنيابة تجري في استحلاف أحد الورثة. وهو نظير ما لو ادعى أحد شريكي العنان أو أحد شريكي المفاوضة حقاً على رجل للشركة، وحلف المدعى عليه لا يكون للشريك الآخر أن يحلفه وبمثله لو ادعى رجل حقاً من شركتهما حتى يوجه اليمين عليهما وحلف أحدهما كان له أن يحلف الآخر، والطريق ما قلنا وفرق بين الورثة إذا ادعوا على رجل حقاً بحكم الميراث وبين جماعة ادعوا على رجل حقاً بحكم بالشراء، فإن أحد الورثة إذا حلف المدعى عليه لم يكن لبقية الورثة أن يحلفوه وأحد المشتريين إذا حلف المدعى عليه كان لبقية المشتريين أن يحلفوه، والفرق: أن أحد الورثة ينصب خصماً عن بقية الورثة فيما يدعي للميت، فصار استحلاف أحدهم كاستحلاف الباقين، فإنما أحد المشتريين لا ينتصب خصماً عن الباقين فلا يكون استحلاف أحدهم كاستحلاف الباقين.
وإذا ادعى الرق مطلقاً ففي قول من يرى الاستحلاف في الرق: يحلف المدعى عليه مطلقاً بالله ماله في رقبتك رق، أو يحلفه بالله ما أنت برقيق له وإن ادعى الرق بسبب بأن قال: ولدت من أمتي أو قال كنت حربياً فاسترققتك، يذكر السبب في الحلف، فيستحلف بالله ماله في رقبتك رق بهذا السبب الذي يدعي.(8/199)
قال محمد رحمه الله: لا يمين في حد إلا أن السارق يستحلف لأخذ المال، فإن نكل ضمن ولم يقطع.
يجب أن يعلم بأن الحدود أنواع.
نوع هو خالص حق الله تعالى نحو حد الزنا وحد السرقة وحد شرب الخمر، وفي هذا النوع لا يجري الاستحلاف؛ لأن اليمين فيما سوى القصاص في النفس ما شرعت نفسها بل القضاء بالنكول؛ لأن اليمين شرعت حقاً للمدعي، واليمين حق المدعي من حيث أن المدعى عليه ينكل فيقضى عليه بالنكول فيحيى حقه لا من حيث أن يحلف فلا يقضى عليه، فعلمنا أن اليمين شرع للقضاء بالنكول والقضاء بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى متعذر؛ لأن النكول عند أبي حنيفة رحمه الله بدل، وعندهما بدل عن الإقرار فالقضاء بالحدود الخالصة لله تعالى بكلا الأمرين متعذر، وأما في السرقة يستحلف السارق لأجل المال يريد به إذا أراد المسروق منه أخذ المال دون القطع؛ لأن المال حق العبد، والاستحلاف يجري في حقوق العباد.
وعن محمد رحمه الله في «النوادر» : أن القاضي يقول للمدعي: ماذا تريد فإن قال أريد القطع يقول له القاضي: إن في الحدود لا يستحلف فليس لك عليه يمين، فإن قال: أنا أريد المال، فالقاضي يقول له: دع ذكر السرقة وادع تناول ما لك فيكون عليه يمين.
وفي كتاب الاستحلاف يقول: إذا طلب المسروق منه ضمان السرقة لا القطع يستحلف بالله ما عليك تسليم هذا المال الذي يدعي ولا قيمته، بالسبب الذي يدعي، فإن حلف برئ وإن نكل ضمنه السرقة.
ونوع آخر: هو خالص حق العبد نحو القصاص في النفس والطرف وقد مر الكلام فيه قبل هذا.
ونوع آخر: هو حق الله تعالى وحق العبد وهو حد القذف، وفي هذا النوع لا يجري الاستحلاف عندنا حتى إن من ادعى على آخر أنه قذفه وأنكر المدعى عليه ذلك لا يستحلف عندنا؛ لأن المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى فالتحق بالحدود الخالصة حقاً لله تعالى.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قال له: يا منافق يا زنديق يا كافر، أو ادعى أنه ضربه أو لطمه أو ما أشبه ذلك من الأمور التي توجب التعزير وأراد تحليفه، فالقاضي يحلفه؛ لأن التعزير محض حق العبد، ولهذا ملك العبد إسقاطه بالعفو، والصغر لا يمنع وجوبه عليه إن أمكن صاحب الحق منه أقامه، ولو كان حق الله سبحانه وتعالى لكانت هذه الأحكام على عكس هذا، والاستحلاف يجري في حقوق العباد سواء كان عقوبة أو مالاً، فإن حلف لا شيء عليه وإن نكل يقضى عليه بالتعزير؛ لأن التعزير يثبت مع الشبهات، فجاز أن يقضى عليه بالنكول، ويكون التحليف فيه على الحاصل؛ لأن في التحليف على السبب ضرراً للمدعى عليه لجواز أن المدعى عليه فعل ذلك الفعل إلا أن المدعي أبرأه وعفى عنه، وهذا مما يسقط بالعفو فلو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، فيحلف على الحاصل لهذا وأدنى التعزير مفوض إلى رأي القاضي يقيمه بقدر ما يرى حصول الانزجار به.(8/200)
وفي «السير الكبير» : إذا أمر الأمير أهل العسكر بشيء، فعصاه في ذلك واحد من أهل العسكر، فالأمير لا يؤدبه في أول الوهلة ولكن ينصحه حتى لا يعود إلى مثل ذلك، وإن عصاه بعد ذلك أدبه لأنه ارتكب مالا يحل شرعاً، ومن ارتكب ما لا يحل شرعاً يؤدب عليه زجراً له، فإن بين في ذلك عذراً فالإمام يخلي سبيله، لأن ارتكاب مالا يحل شرعاً إذا كان بعذر لا يوجب التعزير ولكن يحلفه بالله، لقد فعلت هذا بعذر؛ لأنه يدعي ما يمنع وجوب التعزير عليه ولا يعرف ذلك إلا بقوله، والتعزير يدخل في القضاء فلا يصدق من غير يمين.
وإذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً، وأقر الغاصب بذلك، ثم اختلفا في قيمته ولكن علم أن قيمته لم تكن مائة فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويؤمر بالبيان؛ لأنه أقرّ بقيمة مجهول، وإن لم يبين يحلف الغاصب على ما ادعاه المغصوب منه، من الزيادة فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه: ذكر في كتاب الاستحلاف أن المغصوب منه يحلف أن قيمة الثوب مائة، ويأخذ من الغاصب مائة.
وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول ما ذكر من تحليف المغصوب منه وأخذ المائة من الغاصب بيمينه لا يكاد يصح؛ لأن المغصوب منه يدعي، واليمين عندنا لم يشرع حجة للمدعي، وكان يقول الصحيح من الجواب أن يقال: القاضي يوقف الغاصب ويذكر له كل ما يصلح قيمة الثوب، فيقول أولاً: أكانت قيمته مائة فإن قال: لا، يقول: أكان خمسون، فإن قال: لا، يقول: أكانت خمسة وعشرون، هكذا إلى أن ينتهي إلى أقل مالا يجوز أن ينقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه كالجواب فيمن أقر بحق مجهول في عين في يديه لغيرٍ، فالقاضي يأمره ببيان مقداره وإذا لم يبين فالقاضي يسمي السهام إلى أن ينتهي إلى أقصى السهام الذي لا يقصد دونه (100ب4) بالتملك في العرف والعادة فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه.
ومن المشايخ من اشتغل بتصحيح ما ذكر في الكتاب وقال: الإقرار من الغاصب بقيمة مجهولة قد صح ووجب على القاضي إيصال المقر له إلى حقه، وقد عجز القاضي عن إيصال المائة إليه كما يدعيه المغصوب منه؛ لأن الغاصب قد حلف على ذلك ولا وجه إلى أن يوقفه وسمى له قيمة كل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب؛ لأن الغاصب في إقراره ذكر الثوب مطلقاً ولم يبين الجنس ولا النوع، والثياب أجناس مختلفة فلا يدري القاضي أقل ما تكون قيمة الثوب؛ لأنه لا يدري أن الثوب المقر به من أي نوع بخلاف ما لو أقر بحق مجهول في عين في يده؛ لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك عرفاً وعادة، يكون معلوماً فأمكن إلزام ذلك على المقر له أما هنا بخلافه، فلم يبق للقاضي طريق يوصل المقر له وهو المغصوب منه إلى حقه سوى يمينه، حتى لو كان النوع سمي في الإقرار.Y
وفي الدعوى يقول بأن القاضي يوقعه ويسمي له كل ما يصلح قيمة الثوب، كما قال(8/201)
الحاكم الإمام رحمه الله، وما يقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي، ويمين المدعي لم تشرع حجة، قلنا: يمين المغصوب منه يمين المدعي من وجه من حيث أنه يدعي أن قيمة الثوب مائة، ولم يثبت ذلك لما أنكره الغاصب ويمين المدعى عليه من وجه من حيث أن الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمته مجهولة صحيحة والحاجة إلى فصل الخصومة لا غير، واليمين شرع في الأصل لفصل الخصومات، فمن هذا الوجه يكون بمنزلة يمين المدعى عليه ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة فكذا يمين المدعى عليه من وجه، قالوا: يجب أن تحفظ هذه المسألة فإنها من الغرائب.
وإذا اشترك الرجلان على أن ما اشتريا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة ومضا صفاً من التجارة ووقتا أو لم يوقتا فهذه الشركة جائزة على ما عرف في موضعه، فإن قال أحدهما: اشتريت متاعاً فهلك، وأراد أن يبيع شريكه بنصف الثمن وأنكر الشريك الشراء، فالقول قول الشريك مع يمينه؛ لأن هذا وكيل من جهة صاحبه في نصف ما اشترى والوكيل بالشراء إذا قال: اشتريت وهلك عندي، ولم يكن الثمن مفقوداً، أو أراد أن يرجع بالثمن على الموكل وأنكر الموكل الشراء كان القول قول الموكل مع يمينه كذا ها هنا، فيحلف المنكر الشراء بالله ما لم يعلم أنه اشترى ذلك المتاع، يحلفه على العلم؛ لأنه يحلفه على فعل الغير.
وكان الحاكم أبو محمد رحمه الله يقول: يجب أن يزاد على هذا فيحلف بالله ما يعلم أنه اشترى ذلك المتاع على شركتكما؛ لأن بدون هذه الزيادة يتضرر منكر الشراء لجواز أنه كان اشترى ذلك المتاع قبل شركتهما، وعلم بذلك منكر الشراء فمتى حلفناه على مطلق الشراء لا يمكنه أن يحلف، فيمتنع عن اليمين، فيقضي عليه بنكول ويرجع بالثمن عليه فيتضرر منكر الشراء فيزاد ما قلنا دفعاً للضرر عنه.
ولو أن رجلاً اشترى من آخر جارية بألف درهم وتقابضا ثم طعن المشتري بشجة في رأسها، فاستحلف القاضي البائع على ذلك بالجارية، وقال: هذه الجارية حبلى وهذا الحبل حدث عند المشتري، فالقاضي يسأل المشتري عن ذلك أنها حبلى وهذا الحبل حدث عند المشتري، فإن أقر به قيل للبائع: أنت بالخيار إن شئت حبستها ولا شيء لك وإن شئت رددتها على المشتري ورددت عليه نقصان الشجة؛ وهذا لأن من شرط الرد على البائع الرد على الوجه الذي خرج عن ملكه، وقد خرج عن ملكه معيباً بعيب واحد ورد عليه معيباً بعيبين، فإن شاء البائع رضي بالعيب الزائد وحبس الجارية، وإن شاء ردها على المشتري ورد معها نقصان الشجة التي كانت عنده، وإن قال المشتري: مالي بهذا علم، فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: هي حبلى فالقاضي يحلف المشتري بالله ما حدث هذا الحبل عندك، فإن حلف لا شيء عليه والرد ماض؛ لأنه تبين أن المشتري ردها على الوجه الذي خرج من ملك البائع، وإن نكل صار مقراً أن الحبل كان عنده، وقد ذكرنا الكلام في فصل الإقرار، وإن قال المشتري للقاضي: قد كان هذا الحبل عند البائع،(8/202)
فإقراره عند البائع إقرار منه أنه عنده، فيثبت الحبل عند المشتري ولا يثبت عند البائع؛ لأن إقراره حجة على نفسه غير حجة على البائع، فيستحلف البائع بالله لقد بعتها من هذا المشتري وسلمتها إليه وما بها هذا الحبل، فإن حلف ردها على المشتري ورد عليه نقصان الشجة، وإن نكل لزمته الجارية؛ لأنه تبين أن كلا العيبين كانا في يد البائع هكذا قال الخصاف رحمه الله.
وطعنوا على الخصاف وقالوا: ينبغي أن لا يحلف بالله لقد بعتها من هذا المشتري وسلمتها إليه وما بها هذا الحبل؛ لأن شرط الحنث في هذا اليمين وجود الحبل عند الأمرين عند البيع وعند التسليم، ويجوز أن يكون الحبل حادثاً بعد البيع قبل التسليم، وذلك يثبت حق الرد فلو حلفناه على هذا الوجه، فعلى تقدير أن يكون الحبل حادثاً بعد البيع قبل التسليم يحلف، ولا يحنث في يمينه، فيتضرر به المشتري فلا يحلف على هذا الوجه، ولكن يحلف بالله لقد سلمتها بحكم هذا البيع وما بها هذا العيب.
قالوا: ولو كانت الجارية في يد المشتري فخاصم البائع في الشجة التي بها فلما حكم الحاكم على البائع بردها عليه بالشجة قال البائع: إنها حبلى فهذا الحبل حادث عند المشتري وقال المشتري: لا بل كان عندك، فإن القاضي يحلف البائع على ذلك ولا يحلف المشتري بخلاف المسألة الأولى، والفرق من وجهين:
أحدهما: أشار إليه صاحب «الكتاب» أن القاضي في المسألة الأولى قضى برد الجارية على البائع بعيب الشجة، فصارت الجارية في يد البائع، فالبائع بعد ذلك يريد أن يرد ما صارت في يده على المشتري بحبل ظهر عند المشتري، فلا يمكنه الرد بيمين نفسه، بل كان اليمين على المشتري بالله ما حدث هذا الحبل عندك، أما ها هنا المشتري هو الذي لم يرد على البائع؛ لأن الجارية في يد المشتري والبائع ينكر أن يكون له حق الرد بهذا السبب فيكون اليمين على البائع ولكن هذا الفرق ليس بسديد، فإن في الوجه الثاني قضى القاضي بالرد على البائع وصارت الجارية في يد البائع مع هذا يحلف البائع، وإنما الفرق السديد أن في المسألة الأولى المشتري ينكر كون الحبل عنده، فيحلف على ذلك وفي هذه المسألة المشتري مقر بكون الحبل عنده؛ لأنه ادعى كونه عند البائع فيكون مقراً بكونه عنده، فلا يحلف على ذلك لكن ادعى حدوث هذا القائم عنده عند البائع، والبائع ينكر فيحلف على ذلك كما في الوجه الثاني.
قال: ولو أن رجلاً في يده غلام أو جارية أو عرض من العروض، فقدمه رجلان إلى القاضي، وادعى كل واحد منهما أنه اشتراه من الذي هو في يده، فسأله القاضي عن دعواهما فهذه المسألة على وجهين: إما إن أقر أنه باع ذلك من أحدهما بعينه وهو هذا، أو جحد لهما، فإن أقر أنه باع من أحدهما بعينه، فالقاضي يأمره بالتسليم إليه فإن قال الآخر للقاضي: حلفه أنه لم يبعه مني، فلا يمين عليه في ذلك؛ لأن بعد ما أقر بالبيع من هذا لو أقر به الآخر أو نكل لا يملك فلا يفيد الاستحلاف، وكذلك لو جحد لهما جميعاً فحلفه القاضي لأحدهما ونكل عن اليمين وجعله القاضي له، فقال الآخر: حلفه لي فإنه(8/203)
لا يمين له عليه في ذلك؛ لأن القاضي مع أنه لا ينبغي له أن يقضي للأول حتى يحلف للثاني لما جعل للأول، فالقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه على ما مر فنفذ قضاؤه، فصار المدعى عليه خارجاً فلا يملك الإقرار والبدل ولا يتوجه عليه اليمين.
قال: ولو ادعى رجلان على امرأة نكاحاً وقدماها إلى الحاكم، فأقرت بالنكاح لأحدهما لا يستحلف الآخر، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله فلأن الاستحلاف لا يجري في النكاح عنده أصلاً، وأما على قولهما، فلأنها لو أقرت للثاني بالنكاح بعدما أقرت للأول لا يصح إقرارها، فلا يفيد الاستحلاف.
وهل يستحلف الزوج المقر له ذكر؟ فخر الإسلام علي رحمه الله في «شرحه» أن فيه اختلاف المشايخ، بعضهم قالوا: لا يستحلف؛ لأنه لو أقرت بالنكاح للثاني لا يصح، فلا يفيد استحلافه، وبعضهم قالوا: يستحلف لرجاء النكول الذي هو إقرار معنى، لأنه لو أقر به يلزمه ويأمره القاضي أن يخلي عنها، فإن حلف لا تستحلف المرأة بعد (101أ4) ذلك، وإن نكل تستحلف المرأة؛ لأنها لو أقرت بالنكاح للآخر في هذه الحالة يلزمها حكم إقرارها، فإن نكلت قضي بالنكاح للثاني، وبطل نكاح الأول؛ لأنه ثبت بنكولها تقدم نكاح الثاني فكان نكاح المقر له أولاً باطلاً، وإن نكلت لأحدهما وحلفت (للآخر) يقضى بالنكاح للذي نكلت له وإن نكلت لهما لا يقضى بنكاح أحدهما؛ لأنه يصير كأنها أقرت بنكاحهما جميعاً، فلا يثبت نكاحها ولا نكاح أحدهما بل يتوقف إلى إقامة البينة.
قال: وإذا ادعى كل واحد منهما هبة العبد والأمة من الذي في يده وأنه قد قبضه منه، أو ادعى كل واحد منهما الصدقة مع القبض، فهو مثل الشراء في حق الحكم الذي ذكرنا أنه إذا ثبت الملك لأحدهما بإقرار أو نكول فلا يمين للآخر عليه.
ولو ادعى أحدهما أنه اشتراه من صاحب اليد بألف، وادعى الآخر أنه ارتهنه منه بألف أو استأجره منه بألف، فسأله القاضي فأقربه للمرتهن أو للمستأجر أولاً يحلف لمدعي الشراء إذا طلب ذلك؛ لأن بعد ما أقر بالرهن والإجارة لو أقر بالبيع يصح إقراره؛ لأن بيع المرهون والمستأجر ينعقد صحيحاً لازماً في حق البائع، وإذا كان بيعه ينعقد صحيحاً لازماً في حقه يملك البائع الإقرار به فيفيد استحلافه، ثم إذا حلف إن حلف انتهى الكلام وإن نكل يثبت البيع، وكان للمشتري الخيار إن شاء صبر إلى وقت النكال في الرهن، وفي الإجارة إلى مضي وقت الإجارة، وإن شاء فسخ؛ لأنه لم يرض بتأخير حقه هذا الذي ذكرنا إذا أقر للمرتهن أو للمستأجر أولاً، وإن أقر لمدعي الشراء أولاً، لا يحلف لمدعي الإجارة والرهن بعد ذلك؛ لأنه بعد ذلك أقر بالبيع لو أقر بالإجارة أو بالرهن لا يصح؛ لأن بعد البيع لا يملك الإجارة والرهن فلا يفيد استحلافه.
ولو ادعى كل واحد منهما الإجارة وأقر به لأحدهما لا يحلف للآخر؛ لأنه بعد ما أقر بالإجارة لأحدهما لو أقر بها للآخر لا يصح؛ لأن إجارة المستأجر غير صحيح فلا يفيد الاستحلاف، فلا يحلف.(8/204)
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: هذا اشترى الدار التي في موضع كذا حدها الأول والثاني والثالث والرابع كذا بألف درهم، وأنا شفيعها بدار لي تلاصقها، فقال القاضي للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعى، فقال المدعى عليه: هذه الدار في يدي لابني هذا الطفل صح إقراره لابنه؛ لأن الدار في يده واليد دليل الملك، فكانت الدار مملوكة له فكان هذا إقراراً على نفسه، فيصح، فإن قال الشفيع للقاضي: حلفه بالله ما أنا شفيعها، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن إقرار الأب بالشفعة على ابنه الصغير لا يصح فلا يفيد الاستحلاف، وهذا من جملة الحيل والمخارج في دفع الخصومة وسيأتي من جنس هذا إن شاء الله تعالى.
وإن أراد الشفيع أن يقيم على الأب البينة على الشركاء كان الأب خصماً وسمع البينة عليه؛ لأن الأب قائم مقام الابن شرعاً، ولو كان الابن كبيراً كان خصماً للمدعي حتى يسمع بينته عليه ويقضى للشفيع بالشفعة، هكذا إذا كان الأب قائماً مقامه شرعاً.
ولو كان رجل ادعى على رجل أن فلاناً مات وأوصى إلى هذا الرجل وقال المدعى عليه: لم يوص إلي فإنه لا يستحلف، وكذلك لو ادعى رجل على غيره أن فلاناً وكل هذا وقال المدعى عليه: لم يوكلني لا يستحلف المدعى عليه، لأنه لو أقر به لا يصح؛ لأنه إقرار على الغير فلا يفيد الاستحلاف، وإن أقام المدعي بينة على أنه وصيّ فلان أو على أنه وكيل فلان قبلت بينته فقد جعله خصماً في حق سماع البينة، ولم يجعله خصماً في حق الاستحلاف.
وكذلك لو أن وصي الميت قدم رجلاً إلى القاضي وقال: إن فلاناً الميت أوصى إليّ وإلى هذا الرجل أو قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: إن فلاناً وكلني وهذا الرجل بقبض ديونه، وأنكر ذلك الرجل فالقاضي لا يحلفه، وإن كان المدعي للوصاية أقام بينة أن فلاناً أوصى إليّ وإلى هذا الرجل فالقاضي يقبل بينته، فقد جعله خصماً في حق سماع البينة، ولم يجعله خصماً في الاستحلاف ومثل هذا جائز. ألا ترى أن الأب فيما يدعي على ابنه الصغير خصم في حق سماع البينة حتى يسمع البينة عليه، ولا يكون خصماً في حق اليمين كذلك ها هنا.
ولو أن رجلاً حلف بعتق عبده أن لا يزني أبداً فقدمه العبد إلى القاضي، وقال: إن هذا حلف بعتقي أن لا يزني، وقد أتى بالذي حلف عليه وحنث وعتقت، فالقاضي يحلف المولى بالله ما زنيت بعدما حلفت بعتق عبدك أن لا تزني أبداً، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وذكر الخصاف في شرح هذا الكتاب أن المولى لا يستحلف بالله ما زنيت على ما يدعيه العبد.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الرواية محفوظة في الكتب أن القاذف إذا ادعى على المقذوف أنه صدقه أنه قد زنى، وأقام البينة على ذلك تقبل بينته، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف المقذوف بالله ما صدقه في ذلك القذف يسقط الحد عن نفسه، فإنه لا يستحلف المقذوف على ذلك، ولا فرق بين المسألتين فإن(8/205)
مقصود القاذف من هذه الدعوى إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد على المقذوف، كما أن مقصود العبد هاهنا إثبات الحرية لنفسه لا إيجاب الحد عليه فلا فرق بينهما.
فتصير الرواية في القذف أن المقذوف لا يستحلف. رواية في مسألة العبد، أن المولى يستحلف رواية في مسألة المقذوف أنه يستحلف فيصير في كل مسألة روايتان.
وجه الرواية التي قال يستحلف: إن مقصود العبد إثبات الحرية لنفسه لإيجاب الحد على المولى، ومقصود القاذف إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد على المقذوف وإثبات الحرية وإسقاط الحد ممكن مع الشبهة، ألا ترى أن القاذف إذا أقام رجلاً وامرأتين على تصديق المقذوف، أو العبد إذا أقام رجلاً وامرأتين على العتق، يقبل وكل حكم يثبت مع الشبهات يجري فيه الاستحلاف.
وجه الرواية التي قال لا يستحلف: إنه لا عبرة لمقصود العبد والقاذف وإنما العبرة لأصل ما يتعلق به من الحكم وأصل ما تعلق بالزنا من الحكم الحد، وإنه مما لا يجري فيه الاستحلاف ثم لم يذكر في «الكتاب» نصاً أن العبد هل يصير قاذفاً للمولى بما ذكر ولكن أشار إلى أنه لا يصير قاذفاً؛ لأنه قال: وقد أتى بالذي حلف عليه ولم يقل وقد زنى ولو صار قاذفاً بهذا القول لما ترك قوله: وقد زنى، ولما تحول إلى قوله وقد أتى بالذي حلف عليه وقد نص في كتاب الحدود: أن من قذف غيره بالزنا وقال آخر: هو كما قلت يصير قاذفاً؛ لأنه تقدم ذكر الزنا فيصرف قوله: هو كما قلت إلى الزنا، وصار كأنه قذفه صريحاً بالزنا، فقياس هذه المسألة على تلك المسألة أن يصير قاذفاً؛ لأنه تقدم ذكر الزنا فإن موضوع المسألة أن العبد قال في دعواه: إن هذا حلف بعتقي أن لا يزني وقد أتى بالذي حلف أي الزنا وصار كأنه قال: وقد زنى، فينبغي أن يصير قاذفاً.
ثم ذكر كيفية التحليف على المولى، فقال: يحلف بالله ما زنيت بعدما حلفت بعتق عبدك أن لا تزني أبداً، فقد حلفه على السبب، أما على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فظاهر، وأما على ظاهر الرواية فلأن العتق في العبد المسلم لا يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون في التحليف على السبب ضرر المدعى عليه وهو المولى.
وقد ذكرنا أن في مثل هذا، التحليف على الحاصل، ثم إذا حلف المولى، إن حلف لا شيء عليه، وإن نكل لزمه العتق ولا يلزمه الحد، وإن أقر بالزنا؛ لأنه إنما أقر به مرة.
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل جراب هروي بمائة درهم فقبضه المشتري فوجد فيه أحد عشر ثوباً، فقال البائع: بعت منك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمئة درهم، وقال المشتري: لا بل اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوباً بمائة درهم، وأراد كل واحد منهما تحليف صاحبه، فالقاضي يحلف البائع بالله ما بعته هذا الجراب على أن فيه أحد عشر ثوباً لأن المشتري يدعي العقد في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، ولو أنكر العقد في جميع الأثواب كان القول قوله مع اليمين، فكذا إذا أنكر العقد في الثوب الحادي عشر، فإذا حلف إن نكل لزمه، وإن حلف رد المشتري الجراب على البائع؛ لأنه(8/206)
لما حلف فسد البيع في الجراب؛ لأنه انتفى البيع عن الثوب الحادي عشر بحلفه ومبين أنه باع عشرة أثواب من أحد عشر من الجراب، وإنها مجهولة وجهالة المبيع يوجب فساد العقد وفي هذه المسألة إشكال من وجهين:
أحدهما: أنه قال: يحلف البائع، ولم يقل يتحالفان وكان ينبغي أن يتحالفا لأنهما اختلفا (101ب4) في مقدار المعقود عليه، والاختلاف في مقدار المعقود عليه بمنزلة الاختلاف في مقدار الثمن، ولو اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان، فكذا إذا اختلفا في مقدار المعقود عليه.
والثاني: أنه جعل القول قول البائع مع اليمين فكان ينبغي أن يقول: القول قول المشتري، لأن المشتري يزعم جواز العقد والبائع يزعم فساده، والمتبايعان إذا اختلفا في جواز العقد وفساده كان القول قول من يدعي الصحة.
والجواب: أما الإشكال الأول قلنا: إنما لم يقل يتحالفان؛ لأن بحلف البائع يفسد العقد وبعدما فسد العقد لا يفيد تحليف المشتري، لأن التحليف لرجاء النكول الذي هو إقرار، ولو أقر بما ادعاه البائع صريحاً كان العقد فاسداً، لأن فيه ثوباً أبداً لم يدخل تحت العقد فلم يكن في تحليفه فائدة، فلهذا لا يحلف المشتري وأما الإشكال الثاني، قلنا: الاختلاف هاهنا ما وقع في فساد العقد وجوازه، وإنما وقع في وجود العقد وعدمه في الثوب الحادي عشر، فهو المقصود من هذه الخصومة.
والاختلاف إذا وقع في وجود العقد وعدمه، كان القول قول من ينكر الوجود، والمنكر لوجود العقد في الثوب الحادي عشر هو البائع، فيجعل القول قوله، وإذا جعل القول قول البائع ينتفي البيع عن الثوب الحادي عشر، ومن ضرورته فساد العقد في الباقي، ففساد العقد في الباقي من نتائج اختلافهما في وجود العقد وعدمه في الثوب الحادي عشر، لا أن يكون الاختلاف في صحة العقد وفساده.
وفي كتاب «الأقضية» : سئل أبو سليمان عن رجل قال: اشهدوا أن امرأتي فلانة بنت فلان طالق، فجاءت امرأة وخاصمته في المهر والنفقة، فقال الزوج: هذه ليست هي التي كانت امرأتي، ولا هي فلانة بنت فلان، فإن كانت لها بينة على ذلك أخذ بينتها وإن لم يكن لها بينة وأرادت استحلافه لا يحلف على أنها ليست فلانة بنت فلان وإنما يحلف على حاصل الدعوى فيحلف بالله مالها قبلك حق في المهر والنفقة التي تدعي.
وهذا لأن الاستحلاف إنما يكون على أصل الحق وعلى سبب الحق والسبب ليس بحقها، وليس بسبب لاستحقاق المهر والنفقة، فلا يستحلف عليه، ولكن يستحلف على الحاصل وبه يقع الاستغناء عما سواه، ويحصل النظر من الجانبين.
وكذلك إذا أقر رجل عند القاضي أن لفلان بن فلان علي ألف درهم، فجاء رجل وقال: أنا فلان بن فلان، وقال المقر: هذا ليس بفلان بن فلان، والمال ليس له فالقاضي لا يحلف المقر على السبب وإنما يحلفه على أصل الحق، والمعنى ما ذكرنا.
وقال ابن سماعة: في رجل أقر أن فلان بن فلان أودعني ألفاً ثم جاء رجل وادعى(8/207)
أنه فلان بن فلان، وأن الوديعة له، وأنكر المقر أنه فلان وأن الوديعة له، فالقاضي يحلف المقر بالله ما لهذا قبلك حق من الوجه الذي يدعيه في هذه الوديعة، ولا يحلفه على السبب لما ذكرنا، وإذا طلب المدعى عليه من القاضي أن يحلف المدعي بالله أن ما يأخذ، يأخذ بحق فالقاضي لا يجيبه إليه، لأنه لو أجابه إليه وحلفه كان له أن يطلب من القاضي أن يحلفه بالله أنك حلفت صادقاً، ثم وثم إلى ما لا يتناهى.
وإذا وقعت الدعوى في دار، واحتيج إلى تحليف المدعى عليه يحلف بالله ما هذه الدار ولا بعضها ملك هذا المدعي، ولا يحلف بالله ما لهذا المدعي في هذه الدار حق، ولو حلف على هذا الوجه، ونكل وقضى القاضي بالدار للمدعي لا ينفذ قضاؤه، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، إذ يجوز أن لا تكون الدار ملكاً للمدعي ويكون له فيها حقاً من حيث التطرق أو ما أشبهه، فبنكوله لا يصير مقراً بالدار للمدعي لا محالة، فلا يجوز القضاء بملكية الدار للمدعي.
وإذا ادعى الرجل عيناً في يدي رجل وأراد استحلافه، فقال صاحب اليد: هذا العين لفلان الغائب لا تندفع عنه اليمين ما لم يقم البينة على ذلك، بخلاف ما إذا قال: هذا لابني الصغير.
والفرق: أن إقراره للغاصب يوقف عمله على تصديق الغائب، فلا تصير العين مملوكاً للغائب بمجرد إقرار صاحب اليد فلا يندفع عنه اليمين فأما إقراره للصبي لا يتوقف على تصديق الصبي، فتصير العين ملكاً للصبي بمجرد إقراره، فلا يصح إقراره بعد ذلك لغيره فلا يفيد التحليف؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار.
وذكر في موضع آخر إذا قال صاحب اليد: هذا العين لابني الصغير أو قال لفلان الغائب يحلف بالاتفاق، فإن نكل يقضى له به ثم ينتظر بلوغ الصبي في مسألة الصبي، فإن صدق المدعي في دعواه فالأمر ماض، وإن كذبه تؤخذ العين من يد المدعي وتدفع إلى الصبي ويضمن للمدعي قيمة العين.
بعض مشايخ زماننا فرقوا بين الإقرار للصبي، وبين الإقرار للغائب، كما ذكر في بعض المواضع، وبعضهم سووا بينهما وقالوا: يحلف في الفصلين جميعاً كما ذكر في بعض المواضع دفعاً للحيلة، وهذا القائل يستدل بمسألة الوقف.g
وصورة مسألة الوقف: دار في يدي رجل ادعاها رجل أنها ملكه، فقال صاحب اليد: إنه وقف على كذا، فإقراره بالوقف جائز، ويصير المنزل وقفاً لكن لا يندفع اليمين عن صاحب اليد، فيحلف للمدعي، فإن حلف برئ عن دعواه، وإن نكل ضمن قيمة المنزل للمدعي، ولو جاء صاحب اليد ببينة شهدوا على وقفيته لا تندفع اليمين بهذا عن المدعي ولا تندفع خصومة المدعي، لأنه صار وقفاً قبل إقامة البينة بإقراره فصار وجود هذه البينة وعدمه بمنزلة، وإذا ادعى على تركة ميت ديناً وقدم الوصي إلى القاضي ولا بينة له فإن كان الوصي وارثاً يحلف؛ لأن إقراره في نصيبه جائز، وإن لم يكن وارثاً لا يحلف؛ لأن إقراره في هذه الصورة لا يصح أصلاً؛ لأنه إقرار على الغير من كل وجه،(8/208)
وإذا أنكر الشاهد الشهادة فالقاضي لا يحلفه؛ لأنه لا فائدة في تحليفه.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال المدعى عليه: إن الشاهد كاذب، وأراد تحليف المدعي بالله ما يعلم أنه كاذب، فالقاضي لا يحلفه إذا طعن المدعى عليه في الشاهد وقال: أين كواه بس إز كواهر بقوا هذه أست له أين محدود ملك منست وأراد تحليف الشاهد والمدعي على ذلك لا يحلف.
وكذلك إذا قال المدعى عليه: ابن شاهد ابن محدود يدعي به راد دعوى كريه أست برين بيس لزاين كواهي، وأراد أن يحلف الشاهد أو المدعي على ذلك لا يحلف.
قال أبو يوسف رحمه الله في رجل جاء بعبد آبق فأخذه السلطان فسجنه، فجاء رجل وأقام البينة أنه عبده فإن القاضي ينتصب خصماً له، ثم القاضي لا يقضي للمدعي ما لم يستحلفه بالله ما بعته ولا وهبته، ولا أذنت في بيعه وهبته وهذا عندهم جميعاً لأن الخصم عاجز عن طلب اليمين من المدعي على هذا الوجه بنفسه، وكان للقاضي أن يطلب ذلك من المدعي نظراً للغائب؛ لأن القاضي نصب ناظراً لمن عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وقد نص على هذا في كتاب جعل الآبق.
قال مشايخنا رحمهم الله: والاحتياط أن يزاد على هذا حرف بالله ما بعته ولا وهبته ولا أذنت بهما، ولا هو خارج من ملكي للحال بجواز أن يكون باع ثم تملك وأذن ثم نهى، فمتى حلف على ذلك يمتنع عن اليمين، لأنه يحنث في يمينه فيقضى عليه فيتضرر به، والاحتياط أن يزاد في هذا ولا هو خارج عن ملكه للحال حتى إذا كان باع ثم تملك أو أذن ثم نهى لا يحنث إذا حلف؛ لأن شرط حنثه شيئان البيع والخروج عن ملكه للحال، ووجد أحدهما ولم يوجد الآخر وبأحد شطري الحنث، لا يثبت الحنث ثم ذكر في كتاب الاستحلاف أن المدعي إذا حلف فإن القاضي يدفع إليه، ولم يقل يأخذ منه كفيلاً أصلاً.
وذكر في كتاب جعل الآبق في رواية أبي سليمان وقال: ما أحب أن يأخذ منه كفيلاً، وقد ذكرنا هذا في كتاب جعل الآبق.
قال ولو أن رجلاً: أعار من رجل دابة أو أودعها إياه أو آجرها منه فهلكت في يده فجاء مدع وأقام البينة أنها كانت له، قال أبو يوسف رحمه الله لا يقضي له بشيء حتى يحلف بالله ما بعت ولا وهبت ولا أذنت فيها، ولا هي خارج عن ملكك للحال، قالوا وهذا يجب (102أ4) أن يكون على قول أبي يوسف خاصة، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد فإنه لا يستحلف المدعي بالله ما بعت حتى يطلب صاحب الدابة يمينه، وذلك لأن موضوع المسألة أن صاحب العبد حاضر بدليل أنه سمع خصومة المدعي، ولو كان غائباً لا يسمع خصومته؛ لأن اليمين لا ينتصب خصماً للمدعي إذا كان من يجعل بالخصومة عليه معلوماً، فحين سمع خصومة المدعي علمنا أنه إنما سمع لأن صاحب المال وهو المعير والمؤاجر حاضر، وإذا كان صاحب المال حاضراً أمكن لصاحب المال طلب اليمين من المدعي، ومهما أمكن للذي المال في يده طلب اليمين من المدعي، فإن(8/209)
القاضي لا يستحلف المدعي بالله ما بعت ولا أذنت في بيعه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإنما يستحلف على قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله.
بخلاف مسألة أول الفصل؛ لأن صاحب العبد هناك غائب عاجز عن طلب اليمين بنفسه، فكان للقاضي أن يطلب اليمين من المدعي نظراً له، ولكن الصحيح أن ما ذكر قول الكل وما قالوا: بأن موضوع المسألة أن صاحب المال حاضر هذا ممنوع مطلقاً، وعلى قولهما عند طلب المدعي على ما قالوا، وقولهم: بأن القاضي سمع خصومة المدعي، والأمين لا ينتصب خصماً للمدعي حال غيبة المالك قلنا: الأمين، إنما لا ينتصب (خصماً) للمدعي إذا ثبت كونه مودعاً أو مستعيراً إذ لو أقام صاحب اليد البينة على ذلك لا يدفع خصومته المدعي.
ولما احتيج إلى تحليف المدعي بالله ما بعت وما وهبت، فإن حلف على قول أبي يوسف رحمه الله، وقضى بالمال للمدعي، فقبل أن يقبضه المدعي هلك، فالمدعي بالخيار إن شاء ضمن الدافع وإن شاء ضمن القابض؛ لأن كل واحد منهما جانٍ متعد في حقه، فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في الغاصب وغاصب الغاصب، فإن ضمن الدافع، فالدافع لا يرجع على أحد لأنه ملك المضمون بالضمان، فصار معيراً ومؤاجراً ومودعاً ملك نفسه، وإن ضمن القابض إن كان القابض مودعاً أو مستأجراً، فإنه يرجع بما ضمن على الدافع؛ لأنه كان عاملاً للدافع، وقد لحقه في ذلك ضمان فيكون قرار ذلك على المعمول له وإن كان مستعيراً، فإنه لا يرجع بما ضمن على أحد؛ لأنه كان عاملاً لنفسه، ومن عمل لنفسه عملاً ولحقه بسبب ذلك ضمان لا يرجع بما ضمن على أحد.
رجل في يديه عبد جاء رجل وادعاه وأقام البينة أنه عبده، والذي في يديه العبد يدعي أنه اشتراه من فلان، يعني رجلاً آخر وسلم لي والمدعى به المبيع، فالمدعي يستحلف على دعواه؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فإذا أنكر يستحلف.
ثم على قياس ما روي عن أبي يوسف: يستحلف بالله ما أذنت له في بيع دارك هذه أو في بيع غلامك هذا، وعلى ظاهر الرواية: يحلف على الحاصل بالله ما هذا العين لذي اليد وإنما يحلف على الحاصل نظراً للمدعي، إذ يجوز أن يكون المدعي أذن في البيع ثم تملك بعد ذلك بوجه من الوجوه، فمتى حلف بالله ما أذنت يحنث في يمينه، فيمتنع عن اليمين فيقضى عليه بالعين والعين له فيتضرر.
وإذا أخذ رجل من رجل مالاً وقال: كان لي عنده فإنما أخذت مالي، وقال المأخوذ منه: المال مالي، ولم يكن للآخذ بينة فإنه يرد المال على المأخوذ منه؛ لأن أخذ المال من يدي الغير يوجب الرد على المأخوذ منه، فالآخذ بقوله: المأخوذ مالي، يريد إسقاط ما يوجب عليه من الرد فلا يصدق إلا بحجة، ثم إذا رد المال على المأخوذ منه طلب الآخذ من القاضي أن يحلف المردود عليه على دعواه، أجابه القاضي إليه، ويحلف بالله ما كان لفلان عليك أو عندك شيء قالوا: والأحوط أن يستحلف بالله ما هذا المال ماله من الوجه الذي ادعاه.(8/210)
وإذا أدان رجل ما أعيره رجلاً وادعى المدين أن رب المال أذن له في الإدانة وطلب يمينه، يحلف بالله ما أذنت له بالإدانة وأنه ملكك للحال، بجواز أن يكون أذن بالإدانة ثم نهى عنها، فمتى حلف على الإذن لا يمكنه أن يحلف فيقضي عليه فيتضرر به.
وإن ادعى غريم الميت إيفاء الدين إلى الميت يحلف الورثة بالله ما يعلم أن أباهم قبض هذا المال ولا شيئاً منه، ولا برئ إليه منه.
القاضي إذا حلف المدعى عليه بالطلاق فنكل لا يقضي عليه بنكوله؛ لأن طريق القضاء بالنكول أن المدعى عليه بالنكول منع بدل حقه، فيعاد إلى أصل حقه، واليمين بالطلاق ليس بدل حقه، بل هو منهي عنه شرعاً.
وعن هذا قلنا: إن القاضي إذا حلف المدعى عليه وحلف ثم حلفه بالله: له أين سوكندرا ست خوردي فنكل عن هذه اليمين لا يقضي عليه، لأن طريق القضاء بالنكول أن المدعى عليه بالنكول منع بدل حقه.
وبالنكول في اليمين الثانية ما منع بدل حقه لأن حقه في اليمين مرة وقد حلفه مرة.
رجل ادعى على آخر أنك بعت مني الدار التي كانت لك وبين حدود الدار بكذا، وقد سلمت الثمن إليك، وطلب من القاضي أن يأمره بتسليم الدار إليه فأنكر المدعى عليه البيع، فحلفهُ القاضي فنكل عن اليمين وقضى القاضي عليه بنكوله ثم إنه قال بعد ذلك: ما قبضت الثمن، هل يسمع قوله؟ فالمسألة على وجهين:
إن حلفه القاضي على نفس البيع ولم يتعرض اليمين بأن حلفه بالله ما بعت هذه الدار التي ادعاها هذا المدعي يسمع قوله؛ لأنه منكر بقبض الثمن حقيقة وجعله مقراً بالبيع وبالنكول عن البيع لا يوجب جعله مقراً لقبض الثمن، وإن كان القاضي يعرض الثمن في التحليف فإن حلفه بالله ما بعتها من هذا المدعي وما قبضت ثمنها منه، لا يسمع قوله؛ لأنه كما نكل عن البيع ينكل عن الثمن فكما صار مقراً بالبيع يصير مقراً بقبض الثمن فلا يسمع قوله بعد ذلك أنه لم يقبض الثمن في كتاب الاستحلاف.
رجل أوصى إلى رجل، وله مائة دينار فدفعها إليه وأوصاه أن يتصدق عنه بعشرين منها ففعل، ثم إن الورثة خاصموا الوصي عند القاضي وادعوا أن المتروك من الميت كان مئة، وأنكر الوصي ذلك فأرادوا تحليفه فالقاضي يحلفه بالله ما لهم قبلك من تركة أبيهم إلا ثمانين دينار، ولا يستحلفه بالله ما ترك أبوهم إلا ثمانين؛ لأنه ترك أكثر من ثمانين ولكن يستحلفهم على نحو ما بينا، ثم ذكر بالله ما لهم قبلك لأن كلمة عند تستعمل في الأمانات وكلمة على تستعمل في الديون وكلمة قبل تعم الأمرين، فيكون تفسير ما لهم قبلك ما لهم في يدك أو في ذمتك من تركة أبيهم إلا ثمانين ديناراً.
رجل ادعى على آخر شيء من العروض والدراهم والدنانير والضياع وأنكر المدعى عليه ذلك كله فالقاضي يجمع الكل ويحلفه يميناً واحدة ذكره في «الفتاوي» وستأتي بعض مسائل اليمين في فصل المتفرقات.
قال في «أدب القاضي» : ولو أن رجلاً اشترى من آخر جارية، ثم إن رجلاً آخر(8/211)
ادعى أنه اشترى ذلك من البائع قبل أن يشتريه هذا منه، وقدم هذا المشتري للقاضي وأراد تحليفه فالقاضي يحلفه على العلم بالله ما يعلم أن هذا اشترى من هذا البائع قبل شرائك إياها منه، لأنه يدعي عليه سبق تاريخ شرائه وهو لو أقر بذلك يلزمه فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، ولكن يحلف على العلم لأن هذا تحليف على فعل الغير، فإن عرض المدعى عليه للقاضي وقال: إن الرجل قد يشتري شيئاً ثم ينتقض البيع بينهما بإقالة أو غيره، ولا يمكنه أن يقر مخافة أن يلزمه شيء، فالقاضي يحلف المدعى عليه بالله ما يعلم أن بينهما شراء قائم في الساعة في هذه الجارية، وهذا لأن المدعى عليه لما عرض للقاضي فقد طلب من القاضي أن ينظر له فينظر له.
حكي عن القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أنه قال: تمام النظر في أن يحلفه بالله ما هذا الشيء لهذا المدعي من الوجه الذي يدعي، ثم ما ذكر في «أدب القاضي» إنما يتأتى هذا على قول أبي يوسف رحمه الله، فأما على ظاهر الرواية فالتحليف على الحاصل على كل حال على ما مر والله أعلم.
الفصل السادس والعشرون: في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وادعى أن عليه ألف درهم باسم فلان بن فلان الفلاني وأن هذا المال لي، فإن فلاناً الذي باسمه المال أقر أن هذا المال لي، وأن اسمه عارية في ذلك وإنه قد وكلني بقبض ذلك منه بالخصومة فيه فالقاضي يسأل المدعى عليه عن هذه الدعوى، فإن أقر بجميع ذلك أمره القاضي بدفع المال إلى المدعي وهذا لما عرف أن الديون تقضى من مال المديون، فإقراره بذلك تصرف منه على نفسه وفي ماله فينفذ، فقد شرط الخصاف أن يدعي أن فلاناً الذي باسمه المال وكله بقبض المال وهذا جواب ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف أن ذلك ليس بشرط بل إذا أقر أن المال الذي عليه باسم فلان ملك هذا المدعي أمره بالدفع إليه.
وذكر هذه المسألة في كتاب الأقضية وذكر جوابها على نحو ما ذكر الخصاف عن أبي يوسف إلا أن في الأقضية لم ينسب هذا الجواب إلى أحد.
ووجه ذلك: أن الدين في الذمة مال مملوك كالعين، ثم لو ثبت كون العين مملوكاً (102ب4) للمدعي بأن ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه وأقر المدعى عليه بذلك أمر بالدفع إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة أحد، فكذا إذا ثبت كون الدين مملوكاً للمدعي في الذمة يجب أن يؤمر بالدفع إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة أحد.
يوضحه: أن المقر أقر له بالدين مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل وهو الثلث(8/212)
من كل وجه، وإنما يكون الدين مملوكاً للمقر له من كل وجه إذا كان مملوكاً له رقبة وتصرفاً في كل شيء.
وجه ظاهر الرواية: أن أصل الدين قد يكون مملوكاً لإنسان ولا يكون له حق القبض حتى لو امتنع المشتري عن تسليم الثمن إلى الموكل كان له ذلك إذا ثبت هذا فنقول: إن ثبت كون المال مملوكاً للمدعي بإقرار المدعى عليه ما ثبت له حق القبض لا محالة، فيحتاج إلى دعوى الوكالة بالقبض، وإذا أقر المدعى عليه بذلك أيضاً فله حق القبض كما يثبت له الملك، ثم إذا أقر المدعى عليه بجميع ذلك، وأمره القاضي بدفع المال إلى المدعي، لا يكون هذا قضاء على الغائب حتى لو جاء الغائب، وأنكر التوكيل كان له أن يأخذ ماله من المدعى عليه وهذا لأن إقرار الإنسان حجة عليه وليس بحجة على غيره، فثبت التوكيل بإقرار المدعى عليه في حقه فأمرناه بالتسليم إلى المدعي؛ لأن ذلك أمر عليه ولم يتعد ذلك إلى الغائب لأنه أمر على غيره، وإن جحد المدعى عليه الدعوى كلها فقال المدعي للقاضي: حلفه لي فالقاضي يقول للمدعي: ألك بينة على ما ادعيت من إقرار الرجل بالمال، ومن توكيله بقبض ذلك المال لأنه يدعي لنفسه حق الخصومة وحق القبض، والمدعى عليه ينكر ذلك كله، فيحتاج المدعي إلى إقامة البينة عليه.
ثم شرط في الكتاب أن يقيم المدعي بينة على إقرار ذلك الرجل بالمال، وعلى توكيله إياه بالقبض، وإقامة البينة على المال ليس بشرط لثبوت حق الخصومة وإنما الشرط إقامة البينة على الوكالة، فيطلب للقاضي منه البينة على الوكالة بعد هذا المسألة على وجهين:
إن أقام بينة على الوكالة ثبت كونه خصماً فيطلب القاضي منه البينة على المال على نحو ما ادعى، فإن أقام أحد المال منه وتعدى هذه القضاء إلى الغائب حتى لو جاء الغائب وأنكر التوكيل لا يكون له أن يأخذ المال من المدعى عليه لأن التوكيل ثبت بالبينة والبينة حجة في حق الناس كافة، والمدعى عليه انتصب خصماً عن الغائب في إثبات هذه الوكالة لأن المدعي على الغائب سبب للمدعي على الحاضر، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فكما ثبتت الوكالة في حق المدعى عليه تثبت الوكالة في حق الغائب أيضاً.
وإن لم يكن للمدعي بينة على المال وأراد استحلاف المدعى عليه حلفه القاضي بالله ما لفلان بن فلان الفلاني ولا باسمه عليك هذا المال الذي سماه فلان بن فلان ولا شيء منه، وهذا لأن المدعي لما أثبت وكالته بالبينة، صار خصماً للمدعى عليه في دعوى المال، فهذا خصم ادعى مالاً على من هو خصم له فكان له أن يحلفه.
هذا إذا أقام المدعي البينة على الوكالة وإن لم يكن للمدعي بينة على الوكالة، فقال للقاضي: إن هذا المدعى عليه يعلم أن فلاناً الذي باسمه المال قد وكلني بقبض هذا المال فاستحلفه لي على ذلك، فالقاضي يستحلفه بالله على ذلك ما يعلم أن فلان بن فلان الفلاني وكل هذا بقبض المال على ما ادعى.
هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وأضاف هذا الجواب إلى أبي يوسف ومحمد.(8/213)
واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: هذا الجواب على قول الكل إلا أن الخصاف رحمه الله خص أبا يوسف ومحمداً بالذكر لأنه لم يحفظ قول أبي حنيفة رحمه الله، لا لأن قوله بخلاف قولهما وإلى هذا مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
ومنهم من قال: ما ذكر في «الكتاب» قولهما أما أبي حنيفة ينبغي أن لا يحلف المدعى عليه بناء على مسألة ذكرها في «الجامع الكبير» أن من اشترى عبداً وطعن المشتري فيه بعيب الإباق أو غيره، وجحد البائع أن يكون به هذا العيب فالقاضي يأمر المدعي إقامة البينة على وجود هذا العيب به في الحال، فإن أقام بينة على ذلك ثبت العيب للحال وصار البائع خصماً له وإن لم يكن له بينة فأراد استحلاف البائع بالله ما لم يعلم وجود هذا العيب به للحال، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يستحلف وعلى قولهما يستحلف ولا فرق بين المسألتين، فإن وجود العيب بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن الوكالة بالقبض ها هنا شرط سماع الخصومة، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
ثم إذا حلف إما على اتفاق أو على اختلاف إن حلف انتهى الأمر، وإن نكل صار مقراً بالوكالة فيقضي القاضي بالوكالة بحكم إقراره، ثم سأله القاضي عن المال فإن أقر بالمال على الوجه الذي ادعى أمره بالتسليم، وإن أنكر المال صار خصماً للمدعي في حق استحلافه على المال وأخذ المال، ولا يصير خصماً في حق إثبات المال عليه بالبينة حتى لو أراد المدعي أن يقيم عليه البينة بالمال، فالقاضي لا يسمع بينته، وكذلك لو كان المدعى عليه أقر بالوكالة من الابتداء صريحاً إلا أنه أنكر المال صار خصماً للمدعي في حق الاستحلاف، وأخذ المال لا في حق إثبات المال عليه بالبينة، وإنما كان كذلك لأن المدعى عليه إنما صار خصماً بالوكالة، والوكالة إنما تثبت بإقرار المدعى عليه، وإقراره حجة على نفسه وليس بحجة على غيره، فثبتت وكالة المدعي في حق استحلافه على المال، إن كان جاحداً المال وفي حق أخذ المال منه إن كان مقراً بالمال، لأنه يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره ولا تثبت وكالته في حق إثبات المال عليه بالبينة، لأنه لو ثبت تعدى قوله إلى الغائب وفي ذلك قضاء على الغائب، وإنه لا يجوز.
ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في رجل ادعى أن فلان بن فلان الفلاني وكله بطلب كل حق له قبل هذا وأن له عليه ألف درهم فأقر المدعى عليه بالوكالة، وأنكر المال فقال المدعي: أنا أقيم البينة أن هذا المال عليه، لم يكن خصماً له في ذلك ولكن يكون خصماً في حق استحلافه وفي حق أخذ المال منه إن أقر بالمال، والمعنى ما بينا، وإن كان المدعى عليه أقر بالمال وجحد الوكالة فالقاضي يسأل من المدعي بينة على الوكالة فإن أقام تثبت الوكالة بالبينة وصار خصماً مطلقاً، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه على الوكالة حلفه وهو على الاختلاف الذي قلنا، فإن حلف فقد انتهى الأمر وإن نكل ثبتت الوكالة، ولكن في حق أخذ المال عنه لا في حق القضاء على الغائب لما قلنا.(8/214)
قال: ولو أن رجلاً جاء إلى القاضي فأحضر معه رجلاً آخر وادعى أنه وكيل فلان الغائب وكله بقبض الدين الذي له على هذا، وبقبض العين الذي في يد هذا، والخصومة فيه وديعة وصدقه المدعى عليه في جميع ذلك، فإنه يؤمر بدفع الدين إلى المدعي ولم يؤمر بدفع العين إليه، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤمر بدفع الوديعة أيضاً كما يؤمر بدفع الدين.
وهكذا روي عن محمد، فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين العين والدين، وعلى ظاهر الرواية يحتاج إلى الفرق بينهما.
والفرق: أن الدين إنما يقضى من مال المديون فإقراره بالوكالة في فصل الدين إقرار بثبوت حق القبض للوكيل في مال نفسه، فيكون إقراراً على نفسه فيصح أما إقراره بالوكالة في فصل العين إقرار بثبوت حق القبض له في ملك الغير، ليكون إقراراً على الغير فلا يصح فإن كذبه المدعى عليه في جميع ما ادعى أو صدقه في دعوى الوكالة وكذبه في المال أو صدقه في المال، فهو على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة، فإن كذبه في جميع ذلك فأقام الوكيل البينة على الوكالة والمال جملة، ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: القاضي لا يقبل الشهادة على المال بل يقبل، وعلى قول أبي يوسف: القاضي يقبل البينة على الوكالة وعلى المال فإذا عدلت البينة يقضي بالوكالة أولاً ثم بالمال، ولم يذكر قول محمد رحمه الله ثمة.
وفي موضع آخر أن على قول محمد: القاضي يقبل البينة على الوكالة والمال جميعاً، وذكر فيه: لأن قول أبي يوسف رحمه الله مضطرب.
وجه من قال بقول البينة على الوكالة والمال: أن البينة لا توجب الحق بنفسها، وإنما توجب بواسطة إيصال القضاء بها فيعتبر هذا الترتيب في القضاء فلا جرم عندي، القاضي يقضي بالوكالة أولاً، ثم بالمال، ولكن يقبل البينة على الأمرين في الابتداء.b
وجه قول أبي حنيفة: أن البينة وإن كانت لا توجب الحق بنفسها ولكن إنما يسمع من الخصم، وإنما يصير المدعي خصماً في دعوى المال إذا كان وكيلاً ولم يثبت ذكر بعد هذا ما إذا وكله بقبض الدين، ولم يتعرض للخصومة فجحد المديون الوكالة والمال، قبلت بينة الوكيل على الوكالة والمال عند أبي حنيفة وعندهما (103أ4) قبل بينته على الوكالة ولا تقبل بينته على المال، بناء على أن الوكيل بقبض الدين هل يملك الخصومة؟ عند أبي حنيفة رحمه الله يملك، وعندهما لا يملك.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل وكل رجلاً بالخصومة في كل حق له على الناس، فأحضر الوكيل رجلاً يدعي قبله حقاً للموكل، وهو جاحد الوكالة مقر بالحق، وأقام عليه البينة بالوكالة، فقبل أن تظهر عدالة الشهود غاب الرجل، ثم عدلت الشهود، فالقاضي لا يقضي بالوكالة ما لم يحضر، لأن القضاء لا بد له من خصم حاضر ليقضي عليه، فإن أحضر رجلاً آخر يدعي عليه حقاً للموكل، وهو جاحد الوكالة، فيقضي القاضي عليه بالبينة الأولى، كان المدعى عليه الأول خصماً عن جميع الناس في حق سماع البينة عليه، لأن مدعي الوكالة يحتاج إلى إثبات الوكالة على الجميع لكون الوكالة واحدة،(8/215)
وانتصب الذي أحضر خصماً عن الناس كافة، وصار إقامة البينة عليه كإقامة البينة على الكل، ولو أقام على الكل ثم غاب واحد منهم أليس أنه يقضي بها على الحاضر كذا ها هنا.
واعتبره في «الكتاب» بينة فإن قامت على الوكيل، فغاب الوكيل أو قامت على المورث حال حياته، فمات وحضر الوارث أو قامت على وارث فغاب هذا الوارث وحضر وارث آخر، فإن في هذه الفصول يقضي بتلك البينة على الذي حضر ثانياً، والمعنى ما ذكرنا في «الزيادات» أيضاً.
وإذا أقام بينة على رجل أن فلاناً وكله بالخصومة وطلب ماله من الحق عليه، فلم تظهر عدالة الشهود حتى أقام الوكيل بينة على رجل بحق للموكل. القياس: أن لا يقبل بينته، وفي الاستحسان: يقبل وهكذا القياس والاستحسان إنما يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله إن كان الخلاف فيما إذا أقام البينة على الوكالة والمال جملة، بين أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: أما لا يتأتى على قول أبي حنيفة رحمه الله وقد مر الكلام فيه، فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن زكيت البينتان قضى بالأمرين، ولكن على الترتيب الذي شهد به الشهود يقضي بالوكالة أولاً، ثم بالمال، وإن زكيت بينة الوكالة ولم تزك بينة الحق يقضي بالوكالة، ويؤمر إعادة البينة على الحق له، فإن لم تزك بينة الحق صار كأنه لم يقمها، وإن زكيت بينة الحق ولم تزك بينة الوكالة، لم يقض بالحق، لأنه لما لم تزك بينة الوكالة ظهر أن بينة الحق قامت على غير خصم.
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: إن أبي فلان مات ولم يترك وارثاً غيري وله على هذا كذا كذا من المال، فاعلم بأن هذه المسألة على وجهين.
أحدهما: يدعي ديناً على نحو ما بيننا أو يدعي عيناً في يده أنه كان لأبيه عليه هذا من أبيه، أو أودعه إياه أبوه أولاً تعرض لشيء فذكر أنه لأبيه، مات أبوه وترك ميراثاً له لا وارث له غيره، فإن القاضي يسأل المدعى عليه عن ذلك، فإن أقر بجميع ما ادعى المدعي صح إقراره وأمر بتسليم الدين والعين إليه، أما صحة إقراره بالدين، فلما ذكرنا في فصل الوكالة، وأما صحة الإقرار بالعين بخلاف مسألة الوكيل.
والفرق أن العين الذي في يديه صار ملكاً للذي حضر بسبب الوراثة في زعم صاحب اليد، فإنه زعم أنه وارث الميت، وإنما أقر له بحق القبض في ملكه فيؤمر بالتسليم إليه ولا كذلك، فصل الوكيل هذا أقر بذلك، فأما إذا أنكر ذلك كله، فإن أقام المدعي بينة على ما ادعى قبلت بينته، وأمر المدعى عليه بتسليم الدين والعين جميعاً؛ لأنه أثبت بالحجة موت فلان ووراثة نصيبه، وكون المدعي به متروك فلان ومتروك الإنسان يصرف إلى ورثته، وينبغي أن يقيم البينة أولاً على الموت والنسب حتى يعتبر، ثم يقيم البينة على المال، ولو أقام البينة على الموت والنسب والمال فهو على الخلاف على ما ذكرنا في فصل الوكالة.
إذا أقام مدعي الوكالة البينة على الوكالة والمال جملة، وإن لم يكن للمدعي بينة(8/216)
وأراد أن يحلف المدعى عليه على ما ادعى ذكر الخصاف أنه روي عن بعض أصحابنا أنه لا يحلف، قال الخصاف: وفيها قول آخر أنه يحلف ولم يبين القائل.
بعض مشايخنا قالوا: الأول: قول أبي حنيفة، والثاني: قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بناء على مسألة «الجامع الكبير» : على ما مر فإن قيام العيب بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن موت المورث يعد، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي، فهو جعل مسألة الوارث نظير مسألة الوكيل على ما مر.
وقال الشيخ الإمام علي الرازي والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمهما الله: القول الثاني أنه يحلف قول الكل أيضاً قالا: وهو الصحيح، فهما جعلا هذه المسألة نظير مسألة الوكالة أيضاً، وذكر في موضع آخر أن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول أولاً لا يستحلف ثم رجع وقال يستحلف، فعلى ما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن مسألة الوكالة على الخلاف يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة بين مسألة الوكالة وبين مسألة الوراثة على قوله الآخر، على ما ذكره في بعض المواضع.
والفرق أن الوارث يدعي العين والدين فينتصب خصماً في الاستحلاف؛ لأن الاستحلاف في دعوى الإنسان لنفسه حقه، والإنسان ينتصب خصماً في حقوقه، وأما في مسألة الوكالة فقد أقر بالحق للغائب فلا ينتصب خصماً إلا بعد إثبات الوكالة والنيابة عنه، ولم يثبت عنه بعد فلا يكون له حق الاستحلاف، ثم إذا استحلف يستحلف على حاصل الدعوى، وإنه جواب ظاهر الرواية على ما ذكرنا.
وإن أقام المدعي بينة على النسب والموت يثبت كون المدعي خصماً له فيحلف بدعواه كما في سائر الدعاوى، وإن أقام البينة على المال دون الموت والنسب لا تقبل بينته، لأنه إنما ينتصب خصماً في المال بواسطة النسب دون الموت والمال لا تقبل بينته لما قلنا، ثم إذا أقر بدعوى المدعي كله وأمر بتسليم الدين والعين إلى المدعي لا يكون هذا على الأب حتى لو ظهر الابن حياً كان له أن يبيع المدعى عليه بحقه، والمدعى عليه يبيع الابن، وإنما كان كذلك؛ لأن بالإرث لا يتجدد الملك بل يتقرر الملك الذي كان للمورث؛ لأن الوارث يخلف المورث في ملاكه، فكان هذا تقرير ملك الموت، ولا يتصور أن يكون قضاء عليه، ولو أقر بالوراثة والموت وأنكر المال يحلف على المال؛ لأنه يثبت كونه خصماً بإقراره بالموت والوراثة، فالدعوى صدر من الخصم فيحلف كما في سائر الدعاوى.
ولو أقر بالمال وأنكر النسب والموت لا يحلف؛ لأنه إنما ينتصب خصماً بواسطة ثبوت النسب والموت، ولم يثبت بعد، واليمين لا يتوجه إلا بعد دعوى صحيحة من الخصم، وهذا الجواب قول أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكر شمس الأئمة السرخسي أو على قول أبي حنيفة أو على ما ذكر في بعض المواضع.
أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. أو قول أبي حنيفة إجراءٌ على ما ذكره في بعض المواضع ينبغي أن يحلف، ولكن يحلف على العلم؛ لأن هذا(8/217)
تحليف لا على فعل نفسه، والتحليف لا، فعلى فعل نفسه يكون على العلم.
المحيط البرهانى
قال: لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: إن أب هذا قد مات ولي عليه ألف درهم دين، فإنه ينبغي للقاضي أن يسأل المدعى عليه أولاً أنه هل مات أبوه، ولا يأمره بجواب دعوى المدعي أولاً، وهذا لأن الجواب إنما يتوجه على الخصم، وإنما ينتصب الابن خصماً إذا مات الأب، فبعد ذلك المسألة على وجهين:
أما إن أقر الابن، فقال: نعم مات أبي أو أنكر موت الأب، فإن أقر وقال: نعم مات أبي سأله القاضي عن دعوى الرجل على أبيه؛ لأنه صار خصماً والجواب يتوجه على الخصم، فإن أقر له بالدين على أبيه استوفى الدين من نصيبه لإقراره على نفسه بذلك.
وإن أنكر فأقام المدعي بينة على ذلك قبلت بينته وقضى بالدين ويستوفي الدين من جميع التركة لا من نصيب هذا الوارث خاصة؛ وهذا لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن جميع الورثة فيما يدعى على الميت، فصارت البينة القائمة على هذا الوارث بمنزلة البينة على سائر الورثة، وعلى الميت لو كان حياً، فيثبت الدين بهذه البينة في جميع التركة بخلاف الإقرار.
ثم إنما يقضي القاضي بالدين في تركة الميت بهذه البينة بعد ما يستحلف المدعي على القبض والإبراء، وإن لم يدع الوارث ذلك؛ لأن القاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر بنفسه وهذه الدعوى في الحقيقة على الميت وهو عاجز عن النظر لنفسه، فينظر له القاضي باستحلاف المدعي بخلاف ما إذا وقع الدعوى على الحي؛ لأن الحي قادر على الدعوى فلا يستحلف بدون دعواه، بخلاف الميت. هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
وذكر في «أدب القاضي» : من «أجناس الناطفي» في الجنس الرابع أن من ادعى ديناً في تركة الميت، وأقام بينة على ذلك، فالقاضي لا يحلفه على الاستيفاء عند أبي حنيفة ما لم يدع ذلك أحد الورثة وعلى (103ب4) قول أبي يوسف ومحمد يحلف فيما ذكر الخصاف قولهما، وهو اختيار الخصاف، ثم إذا أراد استحلافه يستحلفه بالله ما قبضت ولا شيئاً منه، ولا ارتهنت به منه رهناً ولا شيء منه، ولا احتلت به على أحد ولا لشيء منه، ولا يعلم رسولاً أو وكيلاً لك قبض هذا المال ولا شيء منه، وإن ذكر مع ذلك ولا وصل إليك بوجه من الوجوه كان أحوط.
وروى الحسن بن زياد رحمه الله أنه قال: يستحلف بالله أنك تأخذه بحق؛ لأن في الأسباب المسقطة للدين كثيرة فلا يمكن حصرها، فيحلف على هذا الوجه، وإن لم يكن للمدعي بينة، وأراد استحلاف هذا الوارث، يستحلف على العلم عند علمائنا رحمهم الله بالله ما يعلم أن لهذا على أبيك هذا المال الذي ادعى وهو ألف درهم ولا شيئاً منه، فإن حلف انتهى الأمر، وإن نكل يستوفي الدين من نصيبه، فإن كان هذا الوارث المدعى عليه أقر بالدين على الأب وأنكر، فلما حلف نكل حتى صار مقراً بالدين، إلا أنه قال: لم(8/218)
يصل إلي شيء من تركة الأب، فإن صدقه المدعي في ذلك فلا شيء له؛ وهذا لأن الدين كان في ذمة المورث وبالموت يتحول إلى التركة فيوفى من تركته، فإذا لم يصل إلى هذا الابن شيء أو أخذناه ليوفي دين الأب من مال نفسه، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه.
وإن كذبه وقال: لا بل وصل إليه ألف درهم أو أكثر وأراد أن يحلفه، يحلفه على الثبات بالله ما وصل إليك من مال أبيك هذا الألف ولا شيء منه، لأنه يحلف على فعل نفسه والتحليف على فعل نفسه يكون على الثبات لما مر.
فإن نكل لزمه القضاء؛ لأنه ثبت وصول التركة إليه، والدين في التركة يقدم على الميراث، وإن حلف لا شيء عليه، هذا إذا حلف المدعي على الدين أولاً ثم حلفه على الوصول، فلو أن المدعي من الابتداء حين أراد أن يحلف هذا الوارث على الدين قال له الوارث: ليس لك علي يمين، فإنه لم يصل إلي من تركة الأب شيء، وكذبه المدعي وقال: لا بل وصل إليك من تركة الأب كذا وكذا أو صدقه في ذلك، إلا أنه مع هذا أراد استحلافه على الدين، فالقاضي لا يلتفت إلى قول الوارث ويحلفه على الدين؛ لأن الحاجة إلى إثبات الدين وفي إثبات الدين لا عبرة لوصول شيء من التركة إلى يده، وإنما العبرة الفائدة وفي إثبات الدين فائدة، فإنه إذا ثبت الدين بأن نكل عن اليمين حتى صار مقراً به لو ظهر للميت وديعة أو بضاعة عند إنسان يستوفي الدين منها من غير أن يحتاج إلى الإثبات، فكان فيه فائدة، فيحلف لهذه الفائدة وإن كانت منتظرة.
ألا ترى أن هذا العبد المحجور يستحلف وإنما يستحلف لاستيفاء الدين بعد العتق، وإنه فائدة منتظرة كذا هاهنا، وإن أنكر الابن الدين ووصول شيء من التركة إلى يده وكذبه المدعي في ذلك كله، وأراد استحلافه على الدين والوصول جميعاً لم يذكر الخصاف رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .
وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يحلف يميناً واحدة بالله ما وصل إليك ألف درهم ولا شيء منه من تركة أبيك، ولا يعلم أن لهذا الرجل على أبيك دين من الوجه الذي ادعى، فقد جمع بين اليمين على الثبات وبين اليمين على العلم أنه جائز كما في حديث القسامة وعامتهم على أنه يحلف مرتين، لأنه إنما يجوز الجمع بين اليمينين إذا كانا من جنس واحد، وإن كانا من جنسين لكن سببهما واحد، ولا مجانسة بين اليمين على العلم وبين اليمين على الثبات، والسبب مختلف ها هنا أيضاً؛ لأن سبب الوجوب المداينة السابقة وسبب الاستيفاء من الوارث وصول التركة إليه، فلا يجمع بينهما بل يحلف مرتين مرة على الوصول على الثبات ومرة على الدين على العلم، بخلاف القسامة؛ لأن السبب هناك متحد وهو القتل هذا الذي ذكرنا، إذا أقر بموت الأب.
وأما إذا أنكر موت الأب ووصول التركة إليه وأراد الغريم استحلافه وقع هذه المسألة في بعض نسخ هذا الكتاب، وأجاب فيها أنه يحلف على الوصول والموت يميناً واحداً، لكن على الموت على العلم وعلى الوصول على الثبات بالله ما تعلم أن أباك مات، ولا وصل إليك شيء من ميراثه، وبه أخذ أولئك المشايخ وعامة المشايخ على أنه(8/219)
يحلف مرتين مرة على الموت على العلم، ومرة على الوصول على الثبات، فإن نكل حتى ثبت الموت وثبت وصول الميراث إليه، يحلف على الدين على علمه لما مر.
فلو أنه أقر بالدين والموت، وإن هذه الألف تركة إلا أنه أحضر جماعة وقال: هؤلاء إخوتي، فهذه المسألة على وجوه: إما إن بدأ وقال: هذه الألف تركة ثم قال: هؤلاء إخوتي، وفي هذا الوجه يؤمر بتسليم الألف إلى رب الدين؛ لأنه بإقراره أولاً صار الألف مستحقاً لرب الدين؛ لأن الدين متعلق بالتركة بعد الموت، فلا يصح إقراره بالإخوة بعد ذلك فيما يرجع إلى إبطال الاستحقاق الثابت له، وإن بدأ بالإقرار بالإخوة ثم بالتركة والدين، فقد أقر لهم بالشركة معه في التركة فصارت التركة مقسومة بينهم بالحصص، فإذا أقر بالدين والتركة بعد ذلك، فإنما يعمل إقراره في حقه فيسبق في الدين من نصيبه خاصة.
قال: ولو أن رجلاً مات فادعى وارثه على رجل أنه كان لأبيه عليه ألف درهم دين وصار ميراثاً له، وأقر المدعى عليه بالموت وأنكر الدين، فأراد الوارث أن يحلفه، حلفه بالله ما كان لأبي عليك ألف درهم ولا شيء منه من الوجه الذي ادعى، وعلى قول شريح رضي الله عنه يحلف الوارث أولاً على الثبات بالله ما قبض الأب منه شيئاً، هو يقول: بأن الدين إنما ينتقل إلى الابن إذا لم يقبضه الأب منه، أما إذا قبض فلا.
وإنا نقول: إذا ثبت الدين للأب على المديون يبقى إلى أن يوجد المسقط والقبض مسقط، وأنه ليس بمعلوم فيبقى الدين يقبضه الأصل، ألا ترى أن في حالة الحياة الأب يحلف المدعى عليه على الدين، ولا يحلف الأب بالله ما قبض المال وطريقه ما قلنا، وكذلك إذا أقام الابن بينة على الدين لا يحلف الابن على قبض الأب عندنا، خلافاً لشريح على ما بينا، وإن أقر المديون بالدين وادعى أن الأب قد قبض منه الدين أو عرض المديون، فقال: قد يكون على الإنسان دين ثم لا يقضي باعتبار أن صاحب الدين يقبض ذلك، وأنا لا أحب أن أقر بشيء مخافة أن يلزمني، وأراد استحلافه فيحلف الابن حينئذ على العلم بالله ما يعلم أن أباه قد قبض هذا المال، أما إذا ادعى المدعى عليه القبض فلأنه انقلب مدعياً والمدعي انقلب مدعى عليه، وأما إذا عرض المدعى عليه، فلأنه طلب من القاضي أن ينظر له، فينظر له.
قال في «الزيادات» : رجل مات، فجاء رجل وادعى أنه وارث الميت، لا وارث له غيره، وإن قاضي بلد كذا قضى بكونه وارث الميت، وجاء شاهدين شهدا أن قاضي بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا وارث فلان الميت لا وارث له غيره، وقال الشهود: لا ندري بأي سبب قضى، فإن القاضي الثاني يجعله وارثاً؛ وهذا لأنه ثبت بالبينة قضاء القاضي الأول بوراثته، وقضاء القاضي إذا ثبت يحمل على الصحة وعلى موافقة الشرع، وذلك ها هنا في أن يحمل على أنه استقضى في سبب وراثته على الميت، ولم يقدم على القضاء إلا بعدما علم بالحجة سبب وراثته، وينبغي للقاضي الثاني أن يسأل المدعي ما نسبه عن الميت، وهذا السؤال ليس بشرط لتنفيذ القضاء حتى لو لم يبين المدعي شيئاً نفذ(8/220)
القاضي الثاني قضاء الأول حملاً له على الحق، ولكن هذا السؤال من القاضي الثاني على سبيل الاحتياط ليعلم أنه بأي سبب يستحق، حتى لو ظهر وارث آخر يعرف القاضي الثاني أن أيهما أولى بالميراث؛ ولأنه ربما يبين سبباً لا يستحق الميراث بأن جيرانه مولى الميت من أسفل، فيبطل قضاء الأول؛ لأن هذا خطأ عندنا وقد ظهر فيما هو حجة عليه وهو إقراره، فإن أخبر المدعي بسبب يكون وارثاً على وجه من الوجوه أمضى قضاء الأول بالميراث ودفع الميراث إليه، ولكن لا يقضي بالسبب الذي ادعى؛ لأن الموجود في حق السبب ليس إلا مجرد الدعوى إذا لم يعرف قضاء القاضي بهذا السبب.
أما القضاء بأصل الوراثة ثابت بشهادة الشاهدين، فلهذا قضى القاضي الثاني بالميراث دون السبب، فإن جاء رجل بعد ذلك وادعى أنه أب الميت لا وارث له غيره، وأقام على ذلك بينة، ينظر إن كان الأول بين سبباً لا يرث مع الأب بذلك السبب، جعل القاضي الثاني الميراث كله للثاني؛ لأن أبوة الثاني ثبت عند هذا القاضي بالبينة، والأول لما بين سبباً لا يرث مع الأب بذلك السبب صار مقراً أنه (104أ4) لا حق له في الميراث، وإقرار كل مقر حجة في حقه.
وإن كان الأول بين سبباً يرث مع الأب بذلك، فإن بين أنه ابن الميت جعل القاضي للأب سدس الميراث؛ لأن القاضي الأول قضى للأول بكل الميراث، فإنما ينقض قضاؤه بالقدر المتيقن، والقدر المتيقن ها هنا السدس، فإن احتمال كون الأول ابناً كما ذكر قائم ومع الاحتمال ابنه تيقن بالخطأ، وإن ذكر الأول أنه أب الميت، وأقام الثاني أنه ابن الميت يعطى الثاني خمسة الأسداس؛ لأنه بين خطأ القاضي الأول بهذا القدر ينتقض قضاؤه، والسدس سالم للأول، وإن ذكر أنه أب الميت، وادعى الثاني أنه أب الميت وأقام على ذلك بينة قضى القاضي بأبوته جعل الميراث له؛ لأن أبوة الثاني ثبت بالقضاء بالبينة وأبوة الأب لم يثبت إلا بإقراره، وما يثبت بالبينة المفردة أقوى، فكيف إذا اتصل بها القضاء، فإن قيل: ينبغي أن يقضي القاضي بالميراث بينهما؛ لأن القاضي الأول قضى بكل الميراث الأول، فلا ينقض قضاؤه إلا بقدر المتيقن، والتيقن في مقدار النصف، فإن احتمال كون الأول أباً قائم إذ يجوز أن يكون للشخص الواحد أبوان.
ألا ترى أن الجارية المشتركة بين رجلين إذا جاءت بولد فادعياه كان الولد لهما وهما أبوه، قلنا لا يجوز أن يكون للشخص الواحد أبوان؛ لأن الأبوة بسبب الإلحاق من الماء، ولا يتصور إلا بخلاف من ماء الذكرين، ألا ترى أن في مسألة الجارية المشتركة لو مات يرثانه ميراث أب واحد، إلا أن أحكام الأبوة تثبت بينهما عند الدعوى لاستوائهما في الحجة وعدم الأولوية، وفي مسألتنا لا مساواة؛ لأن أبوة الأول تثبت بالدعوى، وأبوة الثاني تثبت بالبينة، ولا مساواة بين الدعوى والبينة حتى لو تحققت المساواة يقضى بالميراث بينهما على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
واستوضح هذا بما لو جاء رجل وأقام بينة أنه أب هذا الميت، وقضى القاضي(8/221)
بأبوته، وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام بينة أنه أب الميت، فالقاضي لا يقبل بينته ولا يدخل مع الأول، ولو جاز أن يكون واحد منهما أباً، لدخل الثاني مع الأول كما في الأبناء مع البنات.
قال في «الكتاب» : ولو أن القاضي الثاني حين قضى بالميراث الثاني قال الأول: أنا أقيم بينة عندك أني أب الميت لا يلتفت إليه، لأن تقدم الحكم للثاني بالأبوة يمنع دعوة الأول الأبوة والقضاء له بها، وإن أقام الأول بينة على أن القاضي الأول قضى بأبوته، جعل القاضي الثاني الميراث للأول إذ تبين أنه تقدم الحكم للأول بالأبوة وأنه يمنع الحكم للثاني بالأبوة.
ولو أن القاضي لم يقض بأبوة الثاني حتى أقام الأول بينة على أبوته قضى القاضي بالميراث بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة.
والجواب في ولاء العتق: كالجواب في الأبوة، بأن ادعى الأول أنه متولي الميت أعتقه، وأن القاضي الثاني إنما قضى له بالميراث لذلك، وادعى الثاني أنه متولي الميت أعتقه؛ لأنه لا يتصور أن يكون الشخص معتقاً من الاثنين مَنَّ كل واحد منهما عليه؟ فصار الولاء كالنسب من هذا الوجه، إن سبق الحكم لأحدهما بالميراث بسبب الولاء فهو أولى، وإن اجتمعا قضى بينهما على نحو ما ذكرنا وإن زعم الأول أنه ابن الميت في الميراث وإن سبق الحكم لأحدهما؛ لأن سبق الحكم لأحدهما لا يدفع الثاني، لإمكان الجمع بخلاف فصل الأبوة، لأن هناك الجمع غير ممكن على ما مر.s
وإن زعم الأول أنه ابن الميت فأقامت المرأة بينة أنها بنت الميت، فالميراث بينهما أثلاثاً، وإن تقدم الحكم للأول لأن تقدم الحكم للأول؛ لا يدفع الثاني لإمكان الجمع.
ولو ادعى الأول أنه ابن أو أب وأقام الآخر بينة، أنه أخو الميت لا شيء للثاني؛ لأن الإخوة لا يرثون مع الابن والأب، ولو كان المقضي له امرأة زعمت أنها زوجة الميت، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت أخذ منها ما زاد على الربع؛ لأنه كان وصار الحاصل أن القاضي الأول إذا قضى بوراثة الأول ولم يبين سبب الوراثة، وأقام الآخر بينة عند القاضي الثاني على نسبه عن الميت، سأل القاضي الثاني الأول عن نسبه، إن ذكر نسباً لا يرث مع الثاني فالميراث كله للثاني، وإن ذكر نسباً لا يرث الثاني معه فلا شيء للثاني، وإن ذكر نسباً يرث مع الثاني يجمع بينهما في الميراث.
قال: فإن كان المقضي له الأول معتوهاً أو صغيراً لا يعبر عن نفسه، فأقام بعض من ذكرنا بينة على أنه وارثه وبين نسبه عن الميت، فإن كان الثاني ممن يحتمل السقوط بحال نحو الأخ والعم جعله القاضي ساقطاً بالأول، وإن كان الثاني لا يحتمل السقوط، فإن القاضي يجعل للأول أفضل الأشياء ويقضي للثاني بأقل ما يكون.
بيانه: فيما إذا كان الأول ذكراً يجعل ابن الميت حتى لو كان الثاني إنما يعطى له السدس لكونه أقل، ولو كان الثاني زوجة الميت يعطى لها الثمن لكونه أقل؛ لأن الأول(8/222)
يرجح تقدم الحكم له، وإبطال القضاء لا يجوز إلا في القدر المتيقن، والتيقن في الأقل.
قال: ولو أن امرأة أقامت بينة أن قاضي بلد كذا، قضى بأنها وارث هذا الميت، وجعل كل الميراث لها، نفذ القاضي الثاني ذلك كما ينفذ للرجل؛ لأن المرأة قد تستحق جميع الميراث، ألا ترى أن مولاة المعتق تستحق جميع الإرث لمولى المعتق، وكذلك البنت تستحق جميع الميراث، النصف بالفرض، والنصف بالرد إذا لم يكن ثمة صاحب فرض أو عصبة.
فلعل القاضي الأول إنما قضى لها بجميع الميراث لهذا، وهو الظاهر، فلهذا نفذ القاضي الثاني ذلك، فإن أقام بعد ذلك رجل بينة أنه ابن الميت أو أبوه، أو أقامت امرأة بينة أنها زوجته، سأل القاضي الثاني المرأة الأولى عن سبب القضاء لها، فإن زعمت أنها بنت الميت عامل معها بزعمها، وإن كانت المرأة الأولى صغيرة لا تعبر عن نفسها، أو كانت معتوهة جعل القاضي لها أكثر ما يكون لها، وجعل لهؤلاء أقل ما يكون لهم مع المرأة الأولى حتى لا ينتقض القضاء الأول إلا في القدر المتيقن.
وإذا ادعى رجل على ورثة ميت ديناً على الميت وقال: إن أب هؤلاء قد مات ولي عليه كذا وكذا، وقد أقر بذلك في حياته طائعاً، ومات قبل أن يوفي شيئاً من ذلك، وخلف من التركة في يد هؤلاء ما بقي بالدين المدعى به وزيادة ولم يبين أعيان التركة، فالقاضي هل يسمع منه هذه الدعوى؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الأصل» وفي شيء من الكتب.
وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم شرطوا بيان أعيان التركة شيئاً، فشيء لسماع القاضي دعواه. والحاكم الإمام أحمد السمرقندي ذكر في شروطه في سجل إثبات الدين: أن المدعي إن أجمل التركة كان كافياً، وإن بين وفسر كان أحوط، والفقيه أبو الليث رحمه الله لم يشترط بيان أعيان التركة واكتفى بذكر الوفاء بالدين.
والخصاف رحمه الله ذكر في «أدب القاضي» في باب اليمين على العلم: مثل ما ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله، والمختار في الفتوى هذا أن لا يشترط بيان أعيان التركة لإثبات الدين والقضاء به، ولكن إنما يأمر القاضي الوارث بقضاء الدين إذا ثبت وصول التركة إليهم، وعند إنكارهم وصول التركة إليهم، لا يمكن للمدعي إثباته إلا بعد بيان أعيان التركة في أيديهم بما يحصل به الإعلام.
وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: رجل ادعى داراً في يد رجل وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان، مات وتركها ميراثاً بيني وبين أختي فلانة لا وارث له غيرنا، وترك مع هذه الدار مالاً ودواباً فقسمنا الميراث ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة، واليوم جميع الدار ملكي بهذا السبب، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع الدار لنفسه بسبب صحيح ادعى ثلثاها(8/223)
بسبب الميراث وادعى الثلث بسبب القسمة، وكل ذلك سبب صحيح للملك، ولكن لا بد وأن يقول أخذت أختي نصيبها من تلك الأموال حتى يصح منه مطالبة المدعى عليه بتسليم كل الدار إليه.
ولو قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي ثم أقرت أختي بجميعها لي وصدقتها في ذلك، حكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله أن دعواه صحيحة والصحيح من الجواب أن القاضي لا يسمع دعواه في الثلث؛ لأن هذه دعوى الملك في الثلث بسبب الإقرار، ودعوى الملك بسبب الإقرار غير صحيح، عليه فتوى عامة المشايخ، والمسألة في الأقضية: من له الدين المؤجل إذا أراد إثباته فله ذلك، وإن لم يكن له حق المطالبة بالأداء في الحال، إذا أرادت إثبات بقية مهرها على الزوج فلها ذلك، وإن لم يكن لها حق المطالبة به في الحال؛ وهذا لأن إثبات الحق لا يعتمد المطالبة لا محالة، ألا ترى أن إثبات الدين على الميت من وارث لم يصل إليه شيء من التركة، وإن لم يكن لرب الدين حق المطالبة من هذا الوارث (104ب4) إذا لم يصل إليه شيء من تركة الميت وإنما يعتمد الفائدة، وفي إثبات الدين المؤجل في الحال فائدة، وكذلك في إثبات بقية مهرها في الحال فائدة، فإن شهوده عسى يغيبون ولا يقدر على إثباته عند محل الأجل، سأل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله: عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: هذا كان ملك أبي مات وتركها ميراثاً لي ولفلان، وسمى عدد الورثة ولم يبين حصة نفسه، قال: صح منه هذه الدعوى، وإذا أقام البينة على دعواه، فالقاضي يسمع بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لا بد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بين حصته ولم يبين عدد الورثة، بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي وحصتي منه كذا، وطالبه تسليم ذلك قال: لا تصح منه هذه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص.
قال في «الأقضية» : وإذا وقع الدعوى في دار في يدي رجل بسبب الميراث عن الأب وللميت ورثة سوى هذا المدعي وطلب من القاضي أن يكتب له يعني محضر الدعوى، فالقاضي يكتب: حضر فلان وأحضر معه فلان يصف المدعي والمدعى عليه، ثم يكتب: وذكر فلان الذي حضر أن أباه فلان، يذكر اسم أبيه وينسبه إلى أبيه وجده؛ لأنه يريد إثبات الملك للأب ليمكنه النقل إلى نفسه بالإرث، فلا بد وأن يصير الأب معلوماً ليمكن إثبات الملك له، والنقل منه بالدعوى وأنه غائب والغائب لا يعلم إلا بذكر الاسم والنسب، ثم يكتب: أنه مات وخلف من الورثة ابناً له وهو هذا الذي حضر، وزوجة له وهي فلانة بنت فلان بن فلان وبنت له وهي فلانة لا وارث له سواه؛ وهذا لأنه يريد إثبات الوراثة لنفسه فلا بد من بيان سببها لنفسه، والبنوة سبب، ولا بد من بيان عدد الورثة، ليعلم نصيبه فيقع القضاء بما هو معلوم، ثم يكتب وترك من ماله الدار التي في بلدة كذا في محلة كذا في سكة كذا، أحد حدودها كذا والثاني والثالث والرابع كذا، ثم يذكر في الحد لزيق دار فلان، وإن شاء يذكر دار فلان، وقد مر هذا في فصل جلوس(8/224)
القاضي، بعد ذلك ينظر إن كان في ذكر الحد ذكر إلى دار فلان لا يكتب بحدودها؛ لأنه بين من جوز ذكر دار فلان في الحد اختلافاً أنه إذا كتب بحدودها هل تجوز الدعوى؟ وهل يصح المكتوب؟ بعضهم قالوا: لا يصح؛ لأن دار فلان تدخل في الدعوى، وقال علماؤنا: يصح ولا تدخل دار فلان في الدعوى؛ لأن الناس في عرفهم وعاداتهم لا يريدون به أن يكون دار فلان داخلاً في الدعوى، واعتبار العرف واجب وإن كان بين العلماء اختلاف على نحو ما قلنا.
والكتابة للتوثيق يجب أن يكون على أحوط الوجوه ليقع الأمن عن إبطاله، وإن كان في ذكر الحد لزيق دار فلان يكتب بحدودها إن شاء ويجوز بلا خلاف؛ لأنه لا يؤدي إلى أن تدخل دار فلان في الدعوى، ثم إذا كتب في الحد الزيق لا فرق بين أكثر جماعة من أهل الشروط أن يكتب لزيق دار فلان، وبين أن يكتب لزيق دار تنسب إلى فلان، كل ذلك جائز وقال بعضهم: ينبغي أن يكتب لزيق دار تنسب إلى فلان حتى أنها إذا لم تكن مملوكة لفلان لا يكون كاذباً فيه، وعامة مشايخنا جوزوا ذلك، لأن الإضافة بحكم الظاهر جائزة.
ألا ترى أن في الشهادة جوزنا الإضافة بالظاهر، وأكثر أحكام الشرع مبنية على الظواهر، ثم يكتب بحدودها كلها وحقوقها؛ لأن بدون ذكر الحدود والحقوق لا يدخل المسيل والطريق، فلا يفيده استحقاق الدار؛ لأنها تتعطل عليه، ولا يمكنه الانتفاع بها، ولا ينبغي أن يكتب وطريقها ومسيل مائها؛ لأنه لو كان باب الدار على طريق العامة يصير مدعياً ملكية ذلك الموضع لنفسه، وأنه لا يجوز، ثم يكتب ومرافقها التي هي لها من حقوقها، لأن الخلاف ظاهر في تفسير المرافق، فعلي قول أبي يوسف المرافق غير الحقوق وإنها عبارة عن منافع الدار، وفي ظاهر الرواية المرافق عبارة عن الحقوق، فكان الأحوط أن يكتب من حقوقها ليكون ذكراً للحقوق بالاتفاق، ثم يكتب وكل قليل وكثير هو فيها ومنها، هكذا ذكر محمد رحمه الله: في كتاب الشفعة، وذكر في موضع آخر: وكل قليل وكثير هو فيها ومنها، وهكذا ذكر في كتاب الوقف.
قال أبو زيد الشروطي رحمه الله: لا ينبغي أن يكتب أو لها بها للتشكيك، فكان المراد به أحد المذكورين، وباعتباره يصير المدعى به مجهولاً ولكن يقول كلمة أو يراد بها في مثل هذا الموضع الجمع لا التشكيك عرفاً، ومعناه: أن جميع الحقوق داخلة في الدعوى، قلت أو كثر يقال: وهبت لك ما في كيسي درهماً كان أو ديناراً، ثم يكتب في آخره من حقوقها؛ لأنه لو لم يذكر ذلك، ففي ظاهر الرواية إن كان هذا منصرفاً إلى ما كان من موانع الدار فعند أبي يوسف رحمه الله: يدخل فيه كل ما في الدار، مما يحتمل التملك حتى أن عند أبي يوسف: يدخل فيه جواري المدعى عليه اللاتي في الدار ومتاعه الموضوع فيها من حقوقها لينتفي به ما توهمه أبو يوسف، ثم يكتب: وكل حق لها داخل فيها وخارج منها، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله، وينبغي أن يكتب أرضها وبنائها سفلها وعلوها ولا يكتب سفله وعلوه، ثم العلو والسفل يدخلان في دعوى الدار من غير ذلك،(8/225)
وفي دعوى المنزل لا يدخل العلو إلا بالذكر أو يذكر الحقوق، وفي دعوى البيت لا يدخل بذكر الحقوق، ويشترط ذكره، والكشف الشارع يدخل في دعوى الدار من غير ذلك، والظلة وهي الساباط الذي على الطريق أحد جانبيه على هذه الدار، عند أبي حنيفة: لا يدخل من غير ذكر الحقوق، وعند أبي يوسف ومحمد: يدخل إذا كان مفتحها إلى الدار، والمربط والمطبخ يدخلان في دعوى الدار إذا ذكر الحقوق والمرافق، ثم يكتب ميزاباً عنه لورثته هؤلاء المسمون على فرائض الله تعالى كذا بينهما نصيب المرأة كذا وكذا الابن كذا ونصيب البنت كذا؛ وهذا لأنه يريد إثبات الاستحقاق لنفسه بالإرث ولا يمكنه ذلك إلا من الميراث عند أبي حنيفة ومحمد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وهو أن يقول تركها ميراثاً لورثته فلهذا يكتب ميراثاً عنه لورثته ثم يسمي الفريضة وأنصباء الورثة من ذلك، ليعلم قدر ما نصيب المدعي من ذلك، فيكون المدعي به معلوماً، ثم بعد ذلك لا يخلو إما أن يدعي لنفسه نصيبه من الدار، أو يدعي جميع الدار بحكم القسمة مع الورثة، فإن ادعى نصيبه من الدار يكفيه هذا المقدار الذي ذكر في الكتاب، وإن ادعى جميع الدار يكتب، وترك أيضاً مع الدار سواها من العقار والعروض والأراضي والنقود، وقد جرت القسمة الصحيحة بين هؤلاء الورثة بالتراضي، فوقعت هذه الدار في نصيب هذا الابن المدعي وأنها اليوم ملك هذا الابن المدعي بهذين السهمين، ويذكر أيضاً: قبض باقي الورثة حصصهم على ما مر قبل هذا، وأنها في يدي فلان بن فلان هذا المدعى عليه الذي أحضره بغير حق وأنه يمنع جميع ذلك منه، إن كان يدعي جميعها وإن كان يدعي نصيبه يذكر: وأنه يمنع نصيبه بغير حق، فواجب عليه قصر يده عما ادعى، وتسليمه إلى هذا المدعي.
وإنما شرطنا أن يقول في الدعوى وأنها في يد هذا المدعى عليه الذي أحضره؛ لأن الذي أحضره إنما يكون خصماً باعتبار يده، فلا بد من أن يثبت يده عليها، حتى ينتصب خصماً، فسمع القاضي الدعوى عليه، وإن شئت كتبت من وجه آخر.
فكتبت: حضر وأحضر فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه: أن جميع الدار التي في محلة كذا في سكة كذا حدودها كذا بحدودها وحقوقها، أرضها، وبنائها، سفلها وعلوها، وكل حق هو لها داخل فيها، وكل حق هو لها خارج منها، كانت ملكاً لفلان ابن فلان والد هذا المدعي وحقه وملكه إلى أن توفي، وخلف من الورثة أبناء له هذا المدعي وورثة أخرى من البنين فلان وفلان ومن البنات: فلانة وفلانة لا وارث له سواهم، وصارت هذه الدار المحدودة الموصوفة فيه ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المسمون فيه، على فرائض الله تعالى على كذا سهماً.
ثم يتم كتاب الدعوى على نحو ما بيننا، ثم إذا صح الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عن دعواه، فإن أجابه بالإقرار أثبت إقراره في محضر الدعوى بلفظه، وألزمه الخروج عن دعواه، فإن أجابه بالإنكار لجميع ما ادعى، سأل المدعي البينة، فإن زعم المدعي أن(8/226)
له بينة أمره أن يحضرهم مجلس القاضي، ثم على رسم القضاة اليوم في ديارنا يكتب أسامي الشهود وأنسابهم وحلاهم ومساكنهم وما يعرفون به.
فيكتب: وأحضر من الشهود رجلاً ذكر أنه فلان وبحليته ويستقصي في تعريفه، وهذا إذا كان لا يعرفه القاضي. وإن كان يعرفه يكتب فأحضر من الشهود فلان بن فلان ينسبه إلى (105أ4) أبيه وجده، ويستغني عن التحلية ويجعل بين كل سهم شاهدين، فرجة من البياض يمكنه كتابة لفظة الشهادة التي سمعها منه فيها، ثم إن كان الشهود ممن لا يقدرون على أداء الشهادة عن ظهر القلب يحضرهم، أو لهيبته مجلس القضاء يكتب الكاتب لفظة الشهادة على موافقة الدعوى كما ذكره الشاهد للكاتب في بياض.
وإن كانوا ممن لا يعرفهم حضر ولا يهيبه مجلس القضاء، فالقاضي يتولى كتابة الشهود في تلك الفرصة، ويسأل شهود المدعي واحداً بعد واحد عن شهادته بحضرة المدعى عليه؛ لأنه يحتاج إلى تصحيح شهادته، والإشارة إلى المدعى عليه فلا بد من حضرة المدعي ليمكنه الإشارة إليه، ثم إذا شهد شهود المدعي، فالقاضي يسألهم هل كانوا يعرفون فلاناً والد المدعي؛ لأن المدعي يحتاج إلى إثبات ثلاثة أشياء، موت المورث ووراثته منه، وانتقال الدار إليه منه بالإرث، وإثبات الملك للمورث فيها يوم الموت.
وإنما تصح الشهادة على الموت ممن يعرف الميت، وكذلك الشهادة على وراثة المدعي من الميت بالإرث، إنما تصح ممن يعرف الميت، فأما من لا يعرف كيف يشهد على ذلك كله؟ فيسأله عن والد المدعي لهذا، فإن قالوا نعرفه: سألهم عن الموت، فإن شهدوا بذلك كتب فشهدوا أن فلان بن فلان الفلاني المعروف بكذا من التجارة من الصباغة توفي، وكأنه يعرفونه معرفة قديمة باسمه ونسبه، وإنهم يشهدون عن معرفة قديمة ثم سأل عن وارثه، فإن شهدوا بذلك كتب وترك من البنين فلاناً الذي حضر وهو هذا المدعي وفلان وفلان، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأته فلانة بنت فلان بن فلان بن فلان، وهذا إذا كانوا يعرفون جميع الورثة، فأما إذا كانوا يعرفون بعض الورثة كتب شهادتهم عمن يعرفون من الورثة، ثم يكتب لا يعرفون له وارثاً غير هؤلاء، ويكون وارثه من سوى المدعي الذي أقر له المدعي بالوراثة ثابتاً بإقرار المدعي؛ لأنه صار وارثاً بالبينة، وإقرار الوارث بورثة أخر صحيح في حقه، فإذا شهدوا بذلك سألهم هل تعرفون الدار التي ادعاها أنها كانت لوالده؟ فإن ذكروا معرفتها وشهدوا أنها كانت لوالده إلى أن مات وتركها ميراثاً لورثته هؤلاء، وأتوا بالشهادة على وجهها كتب ذلك على ما شهدوا به وأنها اليوم في يد المدعى عليه، ولا بد لتصحيح الشهادة من حر الميراث عند أبي حنيفة ومحمد.
وكذلك لا بد لتصحيح الشهادة على ملكية الدار أن يذكر الشهود في شهادتهم أنها في يد المدعى عليه، والإقرار لا يكفي، حجة لإثبات يده، حتى أن المدعي والمدعى عليه إذا تصادقا أن الدار المدعى به في يد المدعى عليه لا تقبل البينة على ملكية الدار إلا(8/227)
بعد شهادة الشهود على يد المدعى عليه، بأن شهدوا أنها في يده اليوم، هكذا ذكر الخصاف بخلاف المنقول.
فإنه إذا أقر المدعى عليه أنه في يده يكفي؛ لأن في المنقول لا يخلو إما أن يكون العين قائماً أو مستهلكاً في يد المدعى عليه، فإن كان قائماً فلا بد من الإحضار لتصحيح الدعوى والشهادة، وعند الإحضار يعرف القاضي معاينة أنه في يد المدعى عليه، وإن كان مستهلكاً وقال المدعى عليه: استهلكتها، أو قال: هلك عندي، فقد أقر على نفسه بوجوب الضمان، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فلا حاجة إلى الشهادة على أنه في يده.
فأما في العقار يمكن تهمة المواضعة، ووجه ذلك أن المدعي ربما تواضع رجلاً ويحضره مجلس القضاء، ويدعي عليه العقار، فيقر بأن العقار في يده فيقضي القاضي عليه، والعقار في يد غيره، فيكون قضاء على الغائب؛ لأن العقار لم يكن في يد المدعى عليه حقيقة، فلمكان هذه التهمة لا يكتفي القاضي بمجرد الإقرار حتى يشهد الشهود على ذلك، فتنتفي هذه الرتبة بخلاف المنقول على ما ذكرنا، فإن شهدوا أنها في يد المدعى عليه، هل يسألهم القاضي عن سماع يشهدون أنها في يده أو عن معاينه؟
حكي عن القاضي الإمام الخليل بن أحمد أن القاضي يسألهم وهو الصحيح؛ لأنهم ربما سمعوا إقراره أنها في يده فظنوا أن ذلك يطلق لهم أداء الشهادة على يده عليها وإنه موضع الاشتباه، فقد اشتبه على كثير من الفقهاء اشتراط إقامة البينة لإثبات يده، وما لم يعاينوا يد المدعى عليه لا يحل لهم أداء الشهادة على أنها في يده، فلهذا أوجب السؤال، فإن ذكروا أنهم يشهدون عن معاينة قبلها وإلا لم يقبل.
قال القاضي هذا رحمه الله: وهكذا إذا شهدوا على البيع والتسليم، فالقاضي يسألهم أيشهدون على التسليم بإقرار البائع أو عن معاينة؛ لأن الحكم فيها يختلف فإنهم إذا شهدوا عن معاينة البيع والتسليم كانت شهادته بملك البائع يوم البيع، وإن شهدوا على إقراره لا تكون شهادة على ملك البائع فوجب السؤال إزالة لهذه الشبهة.
ولو أن الشهود لم يشهدوا أن هذه الدار في يد المدعى عليه، وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أنها في يد المدعى عليه، فإن القاضي يقبل منه؛ لأن الحاجة إلى القضاء بالملك للمدعي بسبب الوراثة باليد للمدعى عليه لينتصب لإثبات دعواه، ولا فرق بين أن يثبت كلا الأمرين بشهادة فريق واحد، وبين أن يثبت كل أمر بشهادة فريق واحد، هذا كما ذكروا أن الشهود إذا شهدوا بالملك في المحدود وشهد فريق آخر على الحدود أنه يقبل الشهادتان جميعاً.
وكذلك إذا شهد شاهدان على الاسم والنسب ولم يعرفا الرجل بعينه، وشهد آخران أن هذا الرجل هو المسمى بذلك الاسم والنسب أنه يقبل ذلك، ويجعل كما لو ثبت الإقراران بشهادة فريق واحد كذلك ها هنا، ولو قالت الشهود: نشهد أن الدار التي بالكوفة في بني فلان ويذكر حدودها الأربعة ملك المدعي بهذا السبب ولكنا لا نعرف(8/228)
حدودها ولا نقف عليها. وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار المدعى بها على هذه الحدود ويعرفون لذلك، هل يقبل القاضي ذلك منه؟ فهذه ثلاث مسائل.
إحداها هذه، وجوابها أنه ذكر في بعض الروايات أنه لا يقبل، وذكر في عامة الروايات أنه يقبل وهو الأصح، وجه ذلك أن تحمل الشهادة على الأملاك غالباً يكون على هذا الوجه؛ لأن الشاهد إنما يتحمل الشهادة على الملك إذا علم بسبب الملك، والبائع يقر بين يدي الشاهد ببيع الدار التي في محلة كذا في سكة كذا، ويذكر الحدود الأربعة، والشهود في الغائب لا يعرفون جميع ذلك، لو اعتبرنا علمهم بالحدود يحتاجون إلى الذهاب إلى موضع الدار، وعسى لا يذهبون فيؤدي ذلك إلى الجرح، فإذا قالوا للقاضي: تحملنا هذه الشهادة بهذه الحدود ولكنا لا نقف على الحدود وما رأيناها، وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار المدعى بها بهذه الحدود، فالقاضي يقبل ذلك منه، وإن لم يأت المدعي بشهود آخرين يشهدون أن هذه الدار المدعى به على هذه الحدود، فطلب من القاضي أن يبعث أمينين من أمنائه إلى الدار حتى يتعرفا عن حدودها وأسماء جيرانها، أجابه القاضي إلى ذلك، فإذا أقامهما القاضي وتعرفا عن حدود الدار وأسماء جيرانها، فوافق ذكر الحدود التي ذكرها الشهود، قضى القاضي بالدار للمدعي بشهادتهم، لأنهم شهدوا بملكية دار معلومة؛ لأن العقار إذا كان غائباً فإعلامه بذكر الحدود وقد وجد، فبعد ذلك الحاجة إلى تعيين الدار المحدودة للتسليم، فإذا علم القاضي بإخبار الأمينين أن هذه الدار المعينة التي في يد المدعى عليه هي ما شهدت به الشهود فقد علم بوجوب تسليمها إلى المدعي، فيقضي بها للمدعي، ويأمر المدعى عليه بتسليمها إلى المدعي.f
وإن خالف ذلك الحدود التي ذكرها الشهود وأخبر الأمينان القاضي بذلك لا يقضي بشهادتهم؛ لأنهم شهدوا بما لم يعلموا؛ ولأن الدار التي في يد المدعى عليه إذا لم تكن بتلك الحدود ظهر أن الشهود شهدوا بما ليس في يد المدعى عليه، فكانت هذه شهادة على غير خصم، فلا يقبل.
والمسألة الثانية: لو قال الشهود: نحن نعرف الدار ونقف عليها، ونشير إلى حدودها إذا قمنا ثمة ولكن لا ندري من جيرانها، فالروايات مضطربة في هذه المسألة، ذكر في بعضها يبعث القاضي أمينين من أمنائه مع المدعي والمدعى عليه إلى الدار حتى يشهد الشهود بحضرة الدار، ويشيروا إلى حدودها، ثم يتعرف الأمينان أسماء الجيران ويخبران القاضي، فإن وافق ما قاله المدعي يحكم القاضي بذلك، وذكر في بعضها أنه يبعث الأمينين مع الشهود حتى يسيروا إليهما بالدار وحدودها، فيتعرفان أسماء جيرانها ثم يشهدوا جميعاً عند القاضي، فيقضي بشهادتهم التي كانت عنده، وأظهر الجواب شهادة الشهود بحضرة الأمينين والدار؛ لأن الأمين نائب القاضي فكانت الشهادة عنده كالشهادة عند القاضي، ولو كانوا بحضرة العقار لا يحتاج إلى بيان الحدود؛ لأن الإشارة كافية(8/229)
للتعريف كما في المنقول، إلا أن يتعرف الأمينان لأسماء الجيران (105ب4) لكتابة السجل لا لتنفيذ القضاء، فالقضاء بدونه ماض على المدعى عليه.
المسألة الثالثة: إذا قال الشهود نحن نعرف أن هذه الدار ميراث لهؤلاء الورثة عن هذا المورث، ولكن لا نعلم أسماء الجيران إنما نعرف أن تلك الدار في محلة كذا في سكة كذا بحضرة مسجد كذا يلاصق دار فلان في زيقه كذا، وجاء المدعي بشاهدين يشهدان على الحدود، فإن القاضي لا يقضي بشيء؛ لأن الذين شهدوا بالملك لم يشهدوا إلا بحد واحد، فاللذان شهدوا بالحدود لم يشهدوا بالملك، فلا يمكن القضاء بها أصلاً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إنما شهدوا بملك الدار عند معاينة الدار بالإشارة إليها، فوقع الاستغناء عن ذكر الحدود للقضاء بالملك أما ها هنا بخلافه، ثم إذا شهد شهود المدعي عند القاضي، وكان فيمن شهد رجلان عدلان يعرفهما القاضي بالعدالة والرضى، سأل القاضي المدعى عليه عن حجة يدفع بها ما شهد به الشاهدان ويبين أنه عرفهما بالعدالة، وأنه يريد القضاء عليه، حتى لو كانت له حجة يأتي بها أن القاضي إنما ينبغي له أن يقضي بحجة المدعي إذا لم يأت المدعى عليه بحجة تعارضها، وإن لم يعرفهما القاضي وعدلهما شاهدان في السر والعلانية تبين للخصم أنه سأل عنهما المزكين فنسبوهما إلى العدالة، ثم يسأله الدفع إن كان له، فإن أحضر حجة صلحت دافعة لدعوى المدعي قبلها، ودفع دعوى المدعي به وذلك مثلاً بأن كان المدعي يدعي ملكاً مطلقاً ويقيم عليه البينة، فيدعي المدعى عليه أنه اشتراه منه، ويقيم البينة عليه، وإن ذكر في ذلك كله أن له حجة يحضرها، يمهله بقدر ثلاثة أيام، وما أشبهه مما لا يبطل به حق المدعي أنه إن أتى بدفع في هذه المدة قبل منه، وأبطل دعوى المدعي.
وإن لم يأت بدفع حتى مضت هذه المدة وجه عليه القضاء؛ وهذا لأنه لا يمكنه إقامة الحجة إلا بمدة؛ لأن الشهود ربما كانا غيباً، فيحتاج إلى مدة ليمكنه إحضارهم، فيمهله ثلاثة أيام أو ما أشبهه، فإن مضى الوقت ولم يأت بحجة أمر المدعي حتى يحضر المدعى عليه؛ لأنه جاء أوان الحكم ولا بد لصحة الحكم من حضرتهما، ثم يكتب حضورهما في الكتاب لما ذكرنا أن حضرتهما شرط لصحة القضاء ويكتب، فسأل فلان المدعي هذا المذكور اسمه ونسبه في هذا الكتاب هذا القاضي إنفاذ القضاء بما يثبت عنده على فلان بن فلان؛ لأن القضاء حق المدعي وحق الإنسان لا يوفى إلا بطلبه، ثم يكتب فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان، وأنه ترك من الورثة فلان وفلان وجعل الدار المحدودة المذكورة في هذا الكتاب ميراثاً منه لورثته فلان بن فلان؛ لأن القضاء بالميراث يقع لهم، فلا بد من ذكرهم لبيان المقضي له ثم يكتب، وكان ذلك مني بعدما استحلفت المدعي بالله ما يعلم أن أباك قد باع هذه الدار، ولا وهبها، ولا خرجت عن ملكه، ولا شيء منها بوجه من الوجوه، حتى توفي وفي هذا الاستحلاف إنما يتأتى على قول أبي يوسف.
وإن كان المدعي ادعى ديناً دراهم أو دنانير كتب بعد سؤال المدعي إنفاذ القضاء، فاستحلف القاضي فلان هذا المدعي الذي حضر أنه ما قبض من الألف الدراهم أو(8/230)
الدنانير التي ادعت على فلان بن فلان هذا الذي أحضر معه قليلاً ولا كثيراً، ولكن هذا التفريع على قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه يستحلف المدعي من غير طلب المدعى عليه.
فأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يريان ذلك بدون طلب المدعى عليه، وفرقا بين هذا وبينما إذا ادعى رجل على ميت ديناً، فإن القاضي يستحلف المدعى عليه الإبراء والقبض على ما وصفناه، وإن لم يدعيه الوارث؛ لأن الدعوى هناك في الحقيقة على الميت، والميت عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فيمكنه أن يطلب من القاضي أن يحلف المدعى عليه فلا يحلفه القاضي بدون طلبه.
ولو كان إنما ادعى داراً أو ثوباً أو غير ذلك من العروض سوى الدور. كتب: فسأل فلان الذي حضر يعني المدعي إنفاذ القضاء بما ثبت له على فلان بن فلان المدعى عليه في الدار المحدودة في هذا الكتاب أو في الثوب، فاستحلف القاضي فلان بن فلان المدعي بالله ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا تصدق بها ولا خرجت عن ملكه بوجه من الوجوه ولا شيء منها، وهذا الاستحلاف على قول أبي يوسف أيضاً على ما مر.
وإن كان إنما يدعى ميراثاً إنما كتب: فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان وأنه ترك من الورثة جماعة وهم فلان المدعي هذا وفلان وفلان حتى يسمع جميع الورثة ما شهد به الشهود، ثم يكتب واستحلف القاضي المدعي بالله ما يعلم أن أباه فلان ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا خرجت عن ملكه ولا شيء منها بوجه من الوجوه حتى توفي، وهذا أيضاً على قول أبي يوسف رحمه الله في دعوى الدين إذا كتب تحليف المدعي يكتب بعد ذلك: فأنفذ القاضي القضاء لفلان المدعي هذا على فلان المدعى عليه هذا بألف درهم وزن سبعة وضحا؛ لأنه لا بد من إعلام ما صار مقضياً به لتصحيح القضاء، وذلك بذكر الجنس وهو الدراهم، وبالقدر وهو الألف، وبالنوع وهو وزن سبعة، والصفة وهو قوله وضحا، فالدين يصير معلوماً بهذه الأشياء، ولا يصير معلوماً دونها، أصله: السلم والمراد من الوضح: الجيد الصافي، فهذه إشارة إلى الجودة، والجودة صفة.
وقوله: وزن سبعة اختلفوا في تفسيره، قال بعضهم: ما كل مائة منها سبع مثاقيل، والأصح أن المراد منه ما يزن كل عشرة منها سبع مثاقيل وهو وزن الدراهم في ديارنا.
واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: أنها كانت على وزن سبعة، وقال أهل الحديث: أنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة، وكذلك على عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه، ثم صار وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه هو المشهور، وكذلك اختلفوا أن الدرهم متى صارت مدورة على عهد عمر رضي الله عنه، وقبل ذلك كانت شبيه النواة.
وإن كانت الدعوى في الميراث كتب وأنفذ القاضي القضاء لفلان بن فلان الميت يعني أب المدعي على فلان بن فلان الذي أحضره يعني المدعى عليه بالدار المحدود في هذا الكتاب؛ لأن المقضي له هو الميت والوارث يحلف الميت في حقوقه، فيكون(8/231)
القضاء للأصل لكن عند دعوى الحلف، ولهذا المعنى يقضي منه ديون الميت وينفذ وصاياه، ثم يكتب: في ذلك على ما شهد به الشهود؛ لأن القضاء بناء على الحجة وهي الشهادة، فينبغي أن يكتب: أن القضاء حصل على موافقة الشهادة ليعلم أنه على نهج الحجة، ثم يكتب: وجعل فلان بن فلان الذي أحضر يعني المدعى عليه على حجته إن كانت له حجة في ذلك، أو مخرج؛ لأن بينة الدفع بعد القضاء مشروعة، فتبين للخصم ذلك حتى أنه إذا كان جاهلاً بذلك يصير معلوماً له تحقيقاً لمعنى العدل، ثم يكتب: وأنفذ ذلك كله وقضى به على ما سمى ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان وفلان، يعني المدعي والمدعى عليه بالإشارة إليهما ليتحقق إعلامه المقضي والمقضي عليه، وإنما يمكنه الإشارة إذا كانا حاضرين.
وإن كان ميراثاً يكتب بعد قوله: على ما شهد به الشاهدان عنده في ذلك وجعلتها ميراثاً منه لورثته المسلمين في هذا الكتاب، لأنه إنما يقع القضاء بالميراث لهم، فلا بد من ذكرهم لبيان المقضي له، ثم يكتب بعد ذلك: وجعل فلاناً المدعى عليه على حجة ودفعه متى أتى به يوماً من الدهر أنفذ القاضي ذلك، وقضى به بمحضر من فلان بن فلان يذكر المدعي والمدعى عليه ثم يذكر وأمره يعني المدعي بقبض الدار؛ لأن تمام القضاء بملك الدار بتسليم إلى المقضي له، فهو المقصود من دعوى الدار؛ وهذا لأن الملك لا يثبت للمدعي بقضاء القاضي؛ لأن الملك ثابت له قبل القضاء فلا حاجة إلى الدعوى والقضاء لأجله، وإنما الحاجة إليه لأجل التسليم؛ لأن يده قاصرة عن ردها فيرفع الأمر إلى القاضي فيثبت حقه إلى الدار ليوصله القاضي إلى الدار، وإن كتب وأمر فلاناً المدعى عليه بتسليم هذه الدار المحدودة في هذا الكتاب إلى فلان المدعي هذا، فسلمها إليه بأمر القاضي كان أبلغ ليعلم تمام القضاء بإيصال الحق إلى المدعي بالتسليم إليه، ثم يكتب في آخره وذلك كله في مجلس القضاء بين الناس في كورة، يكتب الكورة لما ذكرنا أن المصر شرط صحة القضاء في ظاهر الرواية، فكتب الكورة حتى لا يبقى للطاعن مجال الطعن.
ومن جنس هذه المسائل رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم دين، وأنه مات قبل أن يؤديها إليه، وأن في يدك ألف درهم من ماله وطالبه بقضاء الدين من ذلك المال، فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأن الدعوى إنما تسمع على الخصم والمدعى عليه ليس بخصم له في هذه (106آ4) الصورة؛ لأنه لا يدعي عليه شيئاً ولا في يده شيء، وإنما يدعي ديناً على الغير وأنه ليس يحلف عن ذلك الغير ليسمع الدعوى عليه بطريق الخلافة فلا يسمع دعواه، وإذا لم يسمع دعواه لا يحلف المدعى عليه، ولو أقام بينة لا تسمع بينته والله أعلم.
الفصل السابع والعشرون: في الحبس والملازمة
يجب أن يعلم بأن الحبس لأجل الدين مشروع ثبت شرعيته بقوله عليه السلام(8/232)
«لصاحب الحق اليد واللسان» ، والمراد من اليد الحبس وقال عليه السلام: «مطل الغني ظلم يحل عقوبته» ، والحبس نوع عقوبة، والخلفاء الراشدون حبسوا من غير نكير منكر، والمعنى في ذلك أن المديون تعدى على صاحب الحق بمنع ماله عنه، وحال بينه وبين منافع ماله، فيحال بينه وبين منافع نفسه، ليكون حيلولة بإزاء حيلولة قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 149) .
وإذا جاء رجل برجل إلى القاضي وأثبت عليه ماله ببية أو أقر الرجل له، فالقاضي لا يحبسه من غير سؤال المدعي هذا هو مذهبنا.
وقال شريح رضي الله عنه: يحبسه من غير سؤال المدعي، وإذا سأل المدعي عن ذلك، ذكر في كتاب «الأقضية» إن القاضي لا يحبسه في أول الوهلة ولكن يقول له قم فارضه، فإن عاد مرة أخرى حبسه، ولم يفصل بين الدين الثابت بالإقرار، وبين الدين الثابت بالبينة وهو اختيار الخصاف رحمه الله؛ لأن الحبس جزاء الظلم بمنع الحق، وذلك لا يظهر في أول الوهلة؛ لأن من حجة المديون أن يقول في فصل الإقرار إنما لم أؤد الدين لظني أنك تمهلني، فإن أثبت أن يمهلني أؤدي في الحال، وفي فصل البينة يقول ما كنت عالماً بالدين قبل هذا.
والمذهب عندنا أن في فصل البينة يحبس في أول الوهلة، وفي فصل الإقرار لا يحبس في أول الوهلة؛ لأن الحبس جزاء الظلم ولم يظهر الظلم في فصل الإقرار لما مر، وفي فصل البينة ظهر الظلم؛ لأنه ظهر المماطلة، حتى احتيج إلى البينة.
ثم في فصل الإقرار إذا لم يحبسه في أول الوهلة هل يحبسه في المرة الثانية؟ ذكر في بعض الروايات أنه يحبسه، وذكر في بعضها أنه لا يحبسه إنما يحبسه في المرة الثالثة.
وفي «نوادر هشام» قال سألت محمد رحمه الله عن الحاكم إذا تقدم إليه الرجل وعليه دين أقر به، فأخبرني أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: لا أحبسه أول ما قدم به، قال: وهو قول محمد رحمه الله، إلا أن محمداً رحمه الله قال: أقدم وأقول: إن أعادك إليّ ولم تعطه حبستك، قلت: فإن أعاده إليك من يومه ولم يعطه قال: هذا قريب قلت: قرب وقت ثلاثة أيام فكأنه لم يره إلا أنه قال: هو حسن ثم إذا جاء أوان الحبس، فإن عرف القاضي يساره حبسه، وإن لم يعرف يساره لا يسأله ألك مال هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله.
وقال الخصاف رحمه الله: الصواب عندي أن القاضي يحبسه حتى يسأله ألك مال ويستحلف على ذلك، فإن أقر أن له مالاً حبسه وإن قال: لا مال لي قال للطالب أثبت أن(8/233)
له مالاً حتى أحبسه وهو مذهب بعض القضاة، وهكذا روي في «النوادر» : عن أصحابنا رحمهم الله أن القاضي يسأله ألك مال وهل يسأل المدعي أله مال؟ فظاهر مذهب أصحابنا أنه لا يسأل إلا إذا طلب المدعى عليه ذلك، فإن طلب المدعى عليه ذلك، وسأل القاضي المدعي، فإن قال: لا مال له ثبتت عسرته بإقراره، والمعسر ينظر بإنظار الله تعالى.
وإن قال المدعي: إنه موسر وقال المطلوب: لا بل أنا معسر فقد اختلفت الروايات فيه، واختلف فيه المشايخ أيضاً: فاختيار الخصاف وهو رواية عن أصحابنا أن القول قول المديون؛ لأنه متمسك بالأصل؛ لأن الفقر أصل في الآدمي، فإنه يولد ولا مال له وصاحب الدين يدعي أمراً عارضاً والتمسك بالأصل واجب، حتى يظهر خلافه، وكان القول قول المديون مع اليمين وهو اختيار أبي عبد الله البلخي.
وهكذا روي في بعض الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أن كل دين أصله مالاً كثمن البياعات والعروض، فالقول قول المدعي في يساره وعسرته؛ لأنه عرف دخول شيء في ملكه وعرف قدرته على قضاء الدين بما دخل في ملكه وزوال ذلك عن قضاء الدين بما دخل في ملكه، وزوال ذلك عن ملكه محتمل، فكان القول فيه قول المدعي وكل دين لم يكن أصلاً مال كالمهر وبدل الخلع وما أشبه ذلك، فالقول فيه قول المدعى عليه؛ لأنه لما لم يدخل شيء في ملكه لم يعرف قدرته على قضاء الدين، فبقي متمسكاً بالأصل وهو العسار، فيكون القول قوله.
وذكر محمد رحمه الله في النكاح والعتاق ما يدل على هذا، فإنه قال في النكاح: وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه موسر، وادعت نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، فالقول قول الزوج لأنه لم يدخل بسبب وجوب النفقة في ملكه ما يثبت به يساره.
وقال في العتاق في أحد الشريكين إذا أعتق العبد المشترك وزعم أنه معسر فالقول قوله؛ لأنه لم يدخل في ملكه شيء يثبت به قدرته على قضاء الدين بما وجب عليه من الضمان، فكان متمسكاً بأصل العسرة، فيكون القول قوله، وقال بعضهم: ما كان سبيله سبيل البر والصلة، فالقول فيه قوله أنه معسر كما في نفقة المحارم وما أشبه ذلك، وفيما سوى ذلك القول قول المدعي.
وقال بعضهم: كل دين لزم بمعاقدته، فالقول فيه قول المدعي، وإن لزم حكماً لا لمباشرته العقد، فالقول فيه قول المديون، والفرق أن فيما لزمه بمعاقدته وجد ما يدل على قدرته على قضائه ظاهراً؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يشرع في أمر لا يقدر على الخروج منه، ولا يلتزم ما لا يمكنه الوفاء به، فإذا ادعى أنه عاجز، فقد ادعى أمر الخلاف الظاهر فلا يقبل ذلك منه، فأما فيما يلزمه حكماً لا بمباشرته، فلم يوجد ما يدل على قدرته، ومسألة النفقة بالموت وكذلك ضمان العتق صلة على قول أبي حنيفة.
وقال الفقيه أبو جعفر البلخي: يحكم فيه الزّي والهيئة إن كان عليه ثياب رديئة، وأتى الحاكم حافياً على صفة تشهد أنه فقير كان القول قوله أنه فقير، وإن رآه حسن(8/234)
الثياب مرتفع السلب، فالقول قول المدعي في أنه موسر إلا في أهل العلم والأشراف كالعلوية والعباسية، فإنهم يتكلفون للباسهم مع حاجتهم حتى لا يذهب ماء وجههم فلا يكون الزيّ فيهم دليلاً على اليسار.
وتحكيم الزي ممهد في أصول الشرع حتى حكم الزي في باب الزكاة في جواز الصرف إلى من رأى عليه زي الفقر فكذلك هذا، فإن كان على المطلوب زي الفقر، فادعى الطالب أنه قد كان عليه زي الأغنياء ولكن غير زيه حين حضر مجلس الحكم، فإن القاضي يسأله البينة، فإن أقام البينة سمع منه وكان القول قوله، وإن لم يقم يحكم زيه في الحال ويكون القول قول المديون.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: ويحبس في الديون كلها كائناً من كان من أم أو عم أو خال أو زوج أو زوجة أو امرأة، أو رجل مسلماً كان أو ذمياً أو حربياً مستأمناً أو صحيحاً أو زمنا أو مقعداً أو أشل أو أقطع اليدين؛ لأن الدين على هؤلاء، وبهذه العوارض لا تسقط المطالبة، فكان الامتناع منهم مع القدرة على الأداء ظلماً فاستوجب، قال إلا أن يكون أباً أو أماً فإنه لا يحبس واحد من الأبوين بدين الابن، وكذلك لا يحبس الجد والجدة وإن علوا.
عن أبي يوسف رحمه الله أنه يحبس؛ لأن سبب الحبس الظلم لمنع الحق عن المستحق، وقد وجد، وجه ظاهر الرواية أن الحبس هلاك معنى باعتبار انقطاع منافع نفسه عنه. ولا يجوز للابن أن يسعى إلى إهلاك واحد من أبويه وأجداده، قال: إلا أن تجب عليها نفقته فكل من أجبرته على النفقة، وإني حبسته أباً أو أماً أو جداً أو جدة أو زوجاً؛ لأن في ترك الإنفاق عليهم سعي إلى إهلاكهم، ويجوز أن يحبس الوالد لقصد إتلاف الولد، أو يعاقب لدفع التلف عن ولده، يوضحه: أن النفقة إنما تجب عليه، لأولاده الصغار أو الإناث أو الرجال الكبار الزمنى إذا كانوا معسرين؛ لأنهم عاجزون عن الكسب فبمنع الإنفاق عليهم سعى إلى إهلاكهم، فلهذا يحبسون بذلك.
والمكاتب والعبد التاجر والصبي الحر المأذون له في الحبس بمنزلة ما وصفت لك، أما المكاتب فلأنه هو بدأ فإذا كان عنده من الكسب ما يقدر على قضاء الدين، ولم يقض صار ظالماً فيستحق العقوبة، وكذلك العبد التاجر؛ لأنه هو المخاطب بقضاء من كسبه، وأما الصبي الحر فقد ذكر في بعض المواضع: الغلام التاجر الذي لم يحتلم بمنزلة الرجل في الحبس.
وذكر في بعض المواضع لو أن غلاماً لم يراهق الحلم (106ب4) استهلك مالاً لرجل وله دار وأرض ولا أب له ولا وصي لم يحبس لذلك، ولكن إن شاء القاضي جعل له وكيلاً ببيع بعض ماله حتى يوفي الطالب دينه، وإن كان له أب أو وصي ممن يجوز بيعه بأنه يحبس، وبعض مشايخنا رحمهم الله مالوا إلى الحبس مطلقاً وجعلوه كالبائع؛ لأنه لزمه قضاء الدين، وبالامتناع صار ظالماً فيحبس؛ ولأنه لو لم يحبس وعرف الناس منه ذلك لا يبايعونه حتى لا يمتنع من قضاء الدين، فلا يمكنهم الوصول إلى حقهم، فشرع(8/235)
الحبس تتميماً لمعنى الإذن كما جوزنا الإعادة والضيافة اليسيرة منه، حتى لا تفسد عليه التجارة فها هنا أولى أو يقول: يحبس تأديباً حتى ينزجر ولا يعود لمثله لا أن يكون عقوبة، فإنه ليس من أهله هذا كما قلنا: إنه يضرب على ترك الصلاة تأديباً حتى يعتاد الصلاة هكذا قاله بعض مشايخنا.
وكان شيخ الإسلام يقول: تحبس الصغير إذا كان له وصي تأديباً حتى لا يعود لمثله، وينصح الوصي حتى يتسارع إلى قضاء الدين؛ (لأن الوصي يلازم على إيفاء الوصي في الحبس، فيصح لأجله) ، فيعجل في قضاء الدين وحبس الصبي أولى من حبسه؛ لأن الجناية إنما وجدت من الصبي لا منه، وإن لم يكن له أب أو وصي لا يحبس لنا ثمة أن أحبس تأديباً وإضجاراً للأب أو الوصي وهنا لا يمكن تحقيق معنى الإضجار والحبس في الصبي، فلم يشرع للتأديب وحده بدون الإضجار، فلم يحبس لهذا.
فأما إذا كان محجوراً عليه واستهلك لرجل مالاً فإن كان له أب أو وصي يحبس بدينه؛ لأن قضاء الدين الذي على الصغير على أبيه ووصيه فبالامتناع يصير ظالماً فيحبس، وإن لم يكن له أب أو وصي نصب القاضي قيماً ليبيع ما له بقدر الدين ويوفي الغرماء حقهم؛ لأن الحبس جزاء منع المال مع القدرة عليه عند استحقاق القضاء، ولم يستحق عليه لمكان حجره فلا يعاقب بالحبس، ولكن القاضي يوفي الغرماء حقوقهم بالطريق الذي قلنا.
والعبد لا يحبس لمولاه، لأن المولى لا يستوجب على عبده ديناً، وكذلك لا يحبس المولى لعبده إذا لم يكن عليه، فكسبه ملك المولى، فكيف يستحق على المولى قضاء الدين إياه، وإن كان مديوناً حبس فيه؛ لأن اكتسابه حق الغرماء فإنما يحبس المولى بحق الغرماء حتى يصلوا إلى ديونهم مما عليه، ويجوز حبس المولى لجانب الأجانب، ويحبس مولى المكاتب للمكاتب إذا لم يكن الدين من جنس بدل الكتابة؛ لأنه إذا كان من جنس بدل الكتابة، فقد ظفر بحبس حقه فيلتقيان قصاصاً، فلم يكن للمكاتب ولاية مطالبته بذلك الدين.v
فأما إذا كان من غير جنس بدل الكتابة فلا تقع المقاصة، والمكاتب في حق اكتسابه بمنزلة الحر، فيكون له مطالبة المولى بذلك فيحبس له عند مطله.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ينبغي أن لا يحبس المولى فيه أصلاً؛ لأن للمولى في مكاتبه حقاً، فلم يتحقق الظلم من كل وجه بالمنع، والأصح ما ذكرنا أنه ليس للمولى استخلاص شيء من المكاتبة لنفسه، والمكاتب أحق من المولى يطالبه متى شاء، فإذا منع حقه يحبس له ولا يحبس المكاتب لمولاه بدين الكتابة؛ لأنه لا يصير ظالماً بالامتناع عن بدل الكتابة، فإن له أن لا يؤدي ويرد نفسه في الرق والحبس جزاء الظلم ولم يوجد، وإن كان عليه دين غير بدل الكتابة يحبس فيه؛ لأنه لا يتمكن من فسخ بسبب ذلك الدين.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يجب أن يكون الجواب فيهما سواء، فإن في جميع الأحكام لم يفرق بينهما في حق المولى، ألا ترى أن الكفالة ببدل الكتابة للمولى كما لا تجوز الكفالة بدين آخر للمولى عليه، والجامع بينهما أنه متمكن من إسقاط الدين(8/236)
عن نفسه، فإن تعجزه نفسه يرد رقيقاً فيسقط الدين عنه، ولكن في ظاهر الرواية لم يعتبر ديناً على الحقيقة، فإنه صلة من وجه بخلاف سائر الديون، فلا يحبس فيه ويحبس في سائر الديون؛ ولأن القاضي إنما يحبس المديون إذا عجز القاضي عن إيصال حق المدعي إليه بدون الحبس، حتى إذا قدر لم يكن له أن يحبسه؛ لأنه لا حاجة إلى الحبس، وها هنا قدر على ذلك؛ لأنه متى امتنع عن أداء بدل الكتابة، فللقاضي أن يفسخ الكتابة فيصل إليه الرقية ووصول الرقية كوصول بدل الكتابة بخلاف دين آخر؛ لأنه متى امتنع عن أداء ذلك الدين ولم يمتنع عن أداء بدل الكتابة ليس للقاضي أن يفسخ الكتابة، حتى تصل إليه الرقية، فتعين الحبس طريقاً للوصول إلى حقه.
فأما في الكفالة فالكفيل إنما يتحمل ما على الأصيل والأصيل مخير في جميع الديون إن شاء أدى وإن شاء عجز، وأسقط عن ذمته ولا يمكن إيجابه على الكفيل على هذا الوجه؛ لأنه لا يفيد فيطلب الكفالة وهذا المعنى يشتمل دين الكتابة وسائر الديون، فلهذا سوي بينهما.
ويحبس في الحدود القصاص إذا قامت البينة حتى يسأل عن الشهود؛ لأنه صار بهما، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبس رجلاً بالتهمة» ، فأما قبل إقامة البينة فإنه لا يحبسه؛ لأن الحبس عقوبة، فلا يجوز أن يثبت بمجرد الدعوى، فإن شهد شاهد واحد عدل بذلك حبسه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا يحبسه في حد القذف والقصاص؛ لأن عندهما في حد القذف والقصاص يأخذ منه كفيلاً، فقد حصل التوثق فلا حاجة إلى الحبس، وعند أبي حنيفة لا تجوز الكفالة في جميع الحدود، فيحتاج إلى التوثق فحبسه؛ لأنه صار متهماً بارتكاب الكبيرة بشهادة هذا الشاهد؛ لأنه وجد أحد شطري الشهادة وهي العدالة إن لم يوجد العدد دون العدالة، بأن شهد شاهدان مستوران وثمة يحبسه كذا هاهنا، ولا يحبس العاقلة في الدية والأرش؛ لأنه وجب ليؤخذ من عطائهم وقد أمكن إذا كانوا من أهل الديوان فلا معنى للحبس حتى إذا لم يكونوا من أهل الديوان ولا عطاء لهم فيه يحبسون؛ لأن الدية في أموالهم فحبسون إذا امتنعوا عن الأداء، لأنه تحقق ظلمهم يمنع الحق عن المستحق، فصار كسائر الديون، فيحبسون.
وإن طلب المدعي اليمين في القصاص، فامتنع عنه المدعى عليه ونكل، فإنه يحبس عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقد مرت المسألة؛ لأنه يقضي عليه بالمال بالنكول عن اليمين في القصاص بالنفس، فكان اليمين مستحقاً عليه، لعيبه فيحبس عند الامتناع منه وكذلك في اليمين في القسامة ويحبس الدعار، والذين هم مخوفون على المسلمين وأهل الفساد حتى يعرف منهم التوبة، والداعر من يقصد إتلاف أموال الناس وأنفسهم أوكلاهما، فإذا كان يخاف على الناس منه في النفس والمال حبس في السجن، حتى(8/237)
تظهر منه التوبة؛ لأنه إنما يندفع شره عن الناس بالحبس.
ألا ترى أن الله تعالى أمر في حق قطاع الطريق بالحبس الدائم، قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (المائدة: 33) لما أنه يخاف الناس منهم على أموالهم في الطريق، فكذا ها هنا يحبس أيضاً؛ لأنه يخاف منه وينبغي أن يكون للنساء محبس على حدة تحرزاً عن الفتنة.
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن المرأة تحبس في مجلس النساء ولكن يحفظها الرجال؛ لأن الرجال أقدر على الحفظ من النساء ولا تتحقق معنى الفتنة في الحفظ.
وإذا حبس كفيل الرجل بأمره بالمال فللكفيل أن يحبس الذي عليه الأصل؛ لأن الأصيل هو الذي أوقعه في هذه الورطة، فكان له أن يحبسه حتى يخلصه عنها.
ألا ترى أن الكفيل لو طولب بالمال كان له أن يطالب الأصيل، فإذا لوزم كان له أن يلازم الأصيل، وإذا أخذ من الكفيل كان له أن يأخذ من الأصيل وطريقه ما قلنا.
فإن حبس رجل في دين فجاء آخر يطالبه بالدين، فإن القاضي يخرج المطلوب حتى يجمع بينه وبين المدعي، لأنه إنما يحبس بدين الأول نظراً للأول حتى يصل إلى حقه، فلا ينظر له على وجه يضر بغيره؛ ولأنه لا ضرر على الأول في الإخراج من السجن لسماع الدعوى عليه ثم يعاد فيه، فقلنا: بأنه يخرج من السجن ويجمع بينه وبين المدعي، فإن قامت للمدعي بينة عادلة أو أقر أعاده إلى السجن، وكتب في ديوانه أنه محبوس بحق هذا المدعي أيضاً مع الأول؛ لأنه ظهر أنه ظلمه بمنع حقه عنه، فاستحق الحبس ليضجر فيسارع إلى قضاء دينه ولا تنافي بين أن يكون محبوس الأول والثاني، فلهذا يحبسه لهما حتى يقضي دينهما جميعاً، ولكن ينبغي أن يكتب في ديوانه أنه محبوس بدين فلان وفلان يسميهما حتى إذا قضى دين أحدهما يبقى محبوساً بالآخر.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: إذا حبس الرجل بالدين شهرين أو ثلاثة سأل القاضي عنه في السر وإن شاء سأل عنه في السر أول ما يحبسه، ذكر في كتاب الحوالة شهرين أو ثلاثة، وذكر في بعض المواضع أربعة أشهر، وفي رواية الحسن عن أبي (107أ4) حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر.
وفي رواية الطحاوي عن أبي حنيفة رضي الله عنه شهراً، وكثير من مشايخنا أخذوا برواية الطحاوي، وبعض مشايخنا قالوا: القاضي ينظر إلى المحبوس إن رأى عليه زي أهل الفقر وهو صاحب عيال، فشكوا عياله إلى القاضي البؤس وضيق النفقة وكان ليناً عند جواب خصمه خلاه شهراً، ثم يسأل وإن رأى في عمل جواب خصمه وعرف تمرده ورأى أن عليه علامة اليسار حبسه أربعة أشهر إلى ستة أشهر، ثم يسأل وإن كان فيما بين ذلك حبسه شهرين إلى ثلاثة أشهر ثم يسأل وبه يفتي الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغنياني، وكثير من مشايخنا قالوا: ليس في هذا التقدير تقدير لازم.
وفي رواية هشام عن محمد رحمه الله ما يدل على هذا القول، فقد روى هشام عن محمد رحمه الله أن القاضي يسأل عن حال المحبوس ولا يعتبر في ذلك مدة؛ وهذا لأن(8/238)
الحبس للإضجار وذلك مما يختلف فيه أحوال الناس، فيكون ذلك مفوضاً إلى رأي القاضي، فإن وقع في رأيه أن هذا الرجل يضجر بهذه المدة ويظهر المال إن كان له مال ولم يظهر فيسأل عن حاله بعد ذلك، فإن سأل عنه وقام البينة على عسرته أخرجه القاضي من السجن ولا يحتاج إلى لفظة الشهادة، بل إذا أخبر بذلك كفى وإن أخبره بذلك ثقة عدل أخرجه بقوله من السجن، لأن ما سبيله سبيل الأخيار يكتفي فيه بقول الواحد كالأخبار بالتوكيل والعزل وأشباه ذلك، ثم إذا سأل القاضي عنه فإنما يسأل عنه أهل الجيرة من جيرانه ومن يخالطهم في المعاملة؛ لأن الجيران أعرف بحاله؛ لأنهم يعرفون أنه يتَصدق أو يتصدق عليه، ويعرفون مدخله ومخرجه، وكذلك من يخالطه في المعاملة والتجارة؛ لأنه أعلم بيساره وعسرته، وكذلك أصدقاؤه وإنما يسأل الثقاة منهم؛ لأنه لا يجوز الاعتماد على خبر الفساق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : هذا السؤال بالنفي والشهادة، بالنفي ليست بحجة، وكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه، ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط وأنفى للتهمة عن القاضي، ثم إذا أخبر أنه معسر، وأخرجه القاضي من السجن لا يحول بين الطالب وبين ملازمته عند بابه، ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يظهر له مال، فإذا لازمه أمكنه الوصول إلى حقه، ثم تفسير الملازمة أن يدور معه حيث دار ويكون معه لا يفارقه، وليس له أن يحبسه في موضع جلوسه؛ لأن ذلك حبس وليس له حق الحبس؛ هكذا ذكر في الأصل.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله أنه قال للمدعي: أن يحبسه في مسجد حيه، وإن شاء في بيته؛ لأنه ربما يطوف به في الأسواق والسكك من غير حاجة وفي ذلك ضرر للمدعي، وعن عمرو ابن أبي عمر عن محمد رحمه الله قال: قالوا في المصر: لصاحب الحق أن يلزمه حيث أحب من المصر، فإن كان الملزوم لا معيشة له إلا من كد يده لم يكن لصاحب الحق أن يمنعه من أن يسعى في مقدار قوته يوماً فيوماً، فإذا اكتسب في ذلك القدر في يومه، فله أن يمنعه من الذهاب في ذلك ويحبسه.
قال هشام: سألت محمد رحمه الله عن رجل أخرج من الحبس على تفلس، فرأى محمد رحمه الله الملازمة مع التفليس، وأشار إلى المعنى فقال لعل عنده شيء لا علم لنا به، ذكر الملازمة وأراد بها الحبس في موضع، بدليل تفريعات المسألة قال هشام: قلت له: فإن كانت الملازمة تضير بعياله وهو ممن يكتسب في سقي الماء في طوفه، قال: آمر صاحب الحق أن يوكل غلاماً له يكون معه ولا يمنعه عن طلب قدر قوت يومه له ولعياله، وكذلك إن كان يعمل في سوقه قال: وإن شاء تركه أياماً يعني هذا المفلس ثم لازمه على قدر ذلك، قلت: فإن كان عاملاً يعمل بيده قال: إن كان عملاً يقدر أن يعمله حيث يحبس لازموه، ويعمل هو ثمة، وإن كان عملاً لا يقدر إلا على الطلب خرج وطلب، فإن كان في ملازمته ذهاب قوته وقوت عياله أمر به أن يقيم له كفيلاً بنفسه ثم يخلي سبيله فليسترزق الله تعالى.(8/239)
وفي كتاب «الأقضية» : إن كان العمل سقي الماء ونحوه ليس لصاحب الحق أن يمنعه من ذلك، ولكن إما أن يلزمه أو يلزمه نائبه أو أجيره أو غلامه إلا إذا كفاه نفقته ونفقة عياله، وأعطاه حينئذٍ كان له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر على الملزوم في هذه الصورة، وفيه أيضاً ليس لصاحب الحق أن يمنع الملزوم أن يدخل في بيته لغائط أو غداء إلا إذا أعطاه الغداء وأعد موضعاً آخر له لأجل الغائط حينئذٍ أن يمنعه من ذلك حتى لا يهرب.
وفي نوادر أبي يوسف رحمه الله إذا لازم الطالب المطلوب بغلامه، فأبى الغريم أن يحبس مع الغلام وقال: لا أحبس إلا مع الطالب، فله ذلك، وفيه أيضاً إذا كان المطلوب يطوف بالطالب من غير حاجة وعلم ذلك منه كان للطالب أن يهيئ له بيتاً ويلزمه فيه، ولكن إذا أعطاه نفقته ونفقة عياله؛ لأنه لا ضرر على المطلوب حينئذٍ.
وحكى عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أن الطالب لا يلازم المطلوب بالليالي؛ لأن الملازمة بالليالي لا تفيد؛ لأن فائدة الملازمة أن المطلوب إذا اكتسب شيئاً فالطالب يأخذ ذلك، والليالي ليست وقت الكسب، فلا يتوجه وقوع المال في يده فيها، حتى لو كان الرجل ممن يكتسب في الليالي يلازمه وسيأتي بعد هذا في حق المرأة الملازمة في الليالي من غير فصل.
وعن محمد رحمه الله أن للطالب أن يلازم الغريم، وإن لم يأمره القاضي بملازمته، ولأفلته إذا كان مقراً بحقه، فإن قال الغريم: احبسني وأبى الطالب إلا الملازمة قال: يلازمه، وعنه أنه سئل عن ملازمة المرأة، فقال: آمر غريمها أن يأمر امرأة حتى تلازمها، فقيل إن لم يقدر الغريم على امرأة تلازمها قال أقول لغريمها: اجعل معها امرأة تكون معها في بيتها وتكون أنت على الباب أو تكون المرأة في بيت نفسها وحدها ويكون الغريم على الباب، قيل له: إذا هربت المرأة وتذهب قال: ليس له إلا ذلك.
وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله أنه يلازم في موضع لا يخاف عليها الفتنة كالمساجد والأسواق ونحو ذلك إن شاء برجال، وإن شاء بنساء، وهذا في النهار، فأما في الليل فيلازمها بالنساء لا محالة والحاصل أنها تلازم على وجه يقع الأمن عن الفتنة من كل وجه.
ذكر هلال في كتاب الوقف إذا شهد الشهود بعد مضي المدة أنه فقير، فالقاضي لا يخلي سبيله حتى يسأل في السر وأنه حسن، فإن وافق خبر السر شهادة والشهود لا يخلي سبيله أيضاً: حتى يستحلف المحبوس؛ لأنه لا يعرف مال المحبوس وغناه على الحقيقة غيره إنما يعرفه هو فيستحلف، ثم يخلي سبيله، وإن خالف خبر السر بشهادة الشهود أخذ بخبر العدل في السر؛ لأنه مثبت والشهادة باقية، فإن أقام المحبوس بينة على عسرته، وأقام صاحب الحق بينة على يساره أخذ بينته؛ لأنه يثبت أمراً أصلياً وهو الفقر، وكانت بينة صاحب الحق أكثر إثباتاً، فكانت أولى بالقبول، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب كيفية الشهادة على الإفلاس.(8/240)
وذكر الخصاف رحمه الله في «كتاب الوقف» أنه ينبغي أن يشهدوا أنه فقير لا يعلم له مالاً ولا عرضاً من العروض يخرج بذلك عن حالة الفقر.
وحكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يقولوا: إنه مفلس معدم لا نعلم له مالاً سوى كسوته التي عليه وثياب ليله، وقد اختبرنا أمره في السر والعلانية وهذا أتم وأبلغ، ثم إذا ثبت عسرته، فالقاضي لا يحبسه بعد ذلك ما لم يعرف له مالاً؛ لأنه علم أنه ينظر بأنظار الله تعالى.
وإن قامت البينة على عسرته قبل الحبس هل يقبلها القاضي؟ فيه روايتان:
في رواية يقبل وهو اختيار الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
وفي رواية أخرى لا يقبل وهو اختيار المشايخ؛ لأنها قامت على النفي، فلا يقبل إلا إذا تأيدت بمؤيد، فإذا مضت في الحبس مدة لو كان قادراً على القضاء لما تحمل مرارة الحبس إلى هذه المدة، ولتسارع إلى قضاء الدين ولم يقض، فالظاهر أنه معسر فقد تأيدت هذه البينة بمؤيد فيقبل، وإن قامت البينة على عسرته بعدما مضت مدة في الحبس، وكان الطالب غائباً فالقاضي لا ينتظر حضور الغائب بل يخرجه من السجن؛ لأنه إذا ثبت عسرته كان استدامة حبسه ظلماً، والقاضي نصب لدفع الظلم إلا لأسبابه فيخلي سبيله، ولكن يأخذ منه كفيلاً؛ لأنه لو لم يأخذ منه كفيلاً ربما يهرب (فبقي حضر) الغائب لا يتوصل إلى حقه بالملازمة وغيرها.
وإذا كان الرجل محبوساً بدين رجلين، فأدى إلى أحدهما لم يخرج من السجن حتى يؤدي حق الآخر حتى لو تفرد بالدعوى كان له أن يحبسه؛ لأنه ظلمه بمنع حقه عنه، فكان له أن يديم الحبس لذلك.
وفي نوادر «ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إذا مات الرجل وفي الورثة صغير وكبير وللميت على رجل دين، فحبسه الابن الكبير ثم أراد أن يطلقه لم يطلقه القاضي حتى يستوثق للصغار؛ لأن للصغار فيه نصيباً (107ب4) .
والقاضي نصب ناظراً لهم، فيستوثق لهم لإحياء حقوقهم، ولا يسقط حقهم بإسقاط الكبير؛ لأنه لا ولاية للكبير عليهم، ولا يخرج المحبوس في الدين لمجيء شهر رمضان، ولا لفطر ولا لأضحى ولا لجمعة ولا لصلاة مكتوبة ولا لحجة مفروضة ولا لحضور جنازة بعض أهله، وإن أعطى كفيلاً بنفسه؛ لأن الحبس إنما شرع ليضجر، فيتسارع إلى قضاء الدين، وإنما يلحقه الضجر إذا منع عن الخروج أصلاً.
وذكر علي بن يزيد الطبري في «نوادره» ، فقال: سألت محمد بن الحسن رحمه الله عن المحبوس إذا مات له والد أو ولد، هل يخرج من حبسه؟ قال: لا إلا أن لا يجد من يكفنه ويغسله ولم يكن بحضرته أحد فليخرج حينئذٍ، وهذا صحيح؛ لأنه لزم القياس بذلك(8/241)
لحق الوالدين، وليس في هذا القدر من الإخراج شيء كثير ضرر بالطالب فيخرج، أما إذا كان ثمة من يقوم بذلك لا معنى لإخراجه من السجن، لأن من حقوق الميت تصير مقاماً بغيره وفي الخروج تفويت حق الطالب في الحبس.
قال علي بن زيد: ولا يخرج لغير الوالدين والمولودين؛ لأنه لا حق لهم عليه في ذلك، ألا ترى إذا مات للمسلم أب كافر يتولى غسله ويكفنه ويدفنه، ولا يفعل لغيرهما، فكذلك لا يخرج. وحكي عن الشيخ أبي بكر الإسكاف أنه قال في المحبوس في السجن إذا جن: لم يخرجه الحاكم من السجن، فقيل له: أليس قد رفع القلم عنه قال: النائم قد رفع عنه القلم، ومع هذا لا يخرج، قيل له: المقضي عليه بالقصاص إذا جن لا يمضي عليه القصاص، فإذا سقط عنه القصاص بحياته لم لا يسقط عنه عقوبة الحبس بعذر الجنون، قال: لأن القصاص يندرئ بالشبهات، ولعله لو كان مغيباً يدعي ما يوجب سقوط القصاص، فأوجب ذلك شبهة، فأما الحبس بالدين بخلافه؛ لأنه لا يندرئ بالشبهات.
وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : أن المحبوس في السجن إذا مرض مرضاً أعياه إن كان له خادم يخدمه لا يخرج من السجن؛ لأن الحبس إنما شرع ليضجر قلبه، فيتسارع إلى قضاء الدين وبالمرض يزداد الضجر فيزداد مسارعته إلى قضاء الدين، فلا يخرج من السجن لهذا. ولا يخرج للمعالجة، فإن المعالجة في السجن وفي منزله سواء.
وهكذا روي عن محمد حتى قيل له: وإن مات فيها، قال: وإن مات فيها، فقيل له: وإن لم يكن له من يخدمه وإن أخرجوه احتسبوا عليه قال: أخرجوه إذاً، لأنه إذا لم يكن ثمة من يمرضه ربما يموت بسببه، ولا يجوز إهلاكه لمكان الدين، ألا ترى أنه إذا توجه الهلاك عليه بالمخمصة، كان له أن يدفع بمال الغير، فكيف يجوز إهلاكه لأجل مال الغير، عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يخرجه من السجن؛ لأن الهلاك لو كان، إنما يكون بسبب المرض، وهو في الحبس وغيره سواء، فلا معنى للإخراج.
وذكر في «الكيسانيات» قال محمد رحمه الله: والمحبوس يبول في السجن ولا يخرج إلى الحمّام؛ لأنه ليس في التبويل إبطال حق المدعي، وفيه إزالة التفت عنه فأما لا يخرج إلى الحمام كما لا يخرج لسائر الحوائج ولو احتاج إلى الجماع، لا بأس بأن يدخل زوجته وجاريته في السجن فيطأهما حيث لا يطلع عليه أحد؛ لأنه غير ممنوع عن اقتضاء شهوة البطن، فلذلك لا يمنع من اقتضاء شهوة الفرج.
وذكر ابن شجاع في «نوادره» عن الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم، قال: يمنع المحبوس عن وطء الحرائر والإماء؛ لأنه ليس من أصول الحوائج، ألا ترى أن بدون ذلك يعيش ويبقى، فيمنع ليضجر قلبه، فيتسارع إلى قضاء الدين، بخلاف الأكل والشرب؛ لأنه لا حياة بدونهما، فلو منع منهما كان سعياً إلى إهلاكه وإنه لا يجوز.(8/242)
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ولا يترك المحبوس حتى يأتي بوطاء فتلقى تحته في السجن حتى يكون ذلك أشق عليه، وأبلغ في الضجر، فيحصل المقصود.
وهل يترك ليكتسب في السجن؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يمنع من الاكتساب في السجن؛ لأن فيه نظراً من الجانبين من جانب المديون، لأنه ينفق على نفسه وعياله، ولرب الدين فإنه إذا فضل منه يصرف ذلك إليه، وقال بعضهم: يمنع عن ذلك، وهو الأصح وإليه أشار الخصاف رحمه الله؛ لأن المقصود من الحبس أن يضجر فيتسارع إلى قضاء الدين. ولو ترك يكتسب في السجن لا يلحقه الضجر؛ لأن الحبس يصير بمنزلة الحانوت، فلا يضجر بالمقام فيه، فلا يحصل المقصود.
ولا يمنع المسجون من دخول أغلمه وجيرانه عليه؛ لأنه يحتاج إلى دخولهم عليه ليشاورهم في قضاء الدين، ولا يتضرر الطالب بذلك فلا يمنع عنه، ولكن لا يمكنون من أن يمكثوا فيه طويلاً ولا أن يسكنوا معه؛ لأنه يستأنس بهم ويزيل الوحشة عن نفسه، فلا يلحقه الضجر في الحبس.
ولا ينبغي للقاضي أن يضرب محبوساً في دين، ولا يقيده ولا يقيمه، به ورد الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عن أبي حنيفة رضى الله عنه ما يدل على أن للقاضي أن يقيده، والذي روي عنه: إذا حبس القاضي رجلاً في أمر قد استوجب الحبس، فأقر بمال أوحد أو قصاص لزمه ذلك، وكذلك إن قيد مع ذلك.
ولو قال: لا أخرجك من السجن، أو قال: لا أحل القيد عنك أو تصدق، وقد قيده وحبسه في حق مما أقر به لزمه، وإن كان حبسه في غير حق فهذا القول منه تهديد، فلا يجوز ما أمر به في تلك الحالة. قال هشام: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال المدعي: لا أقر ولا أنكر فإن حبسه من يرى حبسه إذا قال لا أقر ولا أنكر حتى يقر أو ينكر، فأقر في الحبس ألزمته المال، قال: وكان أبو يوسف رحمه الله قال قبل ذلك: لا ألزمه المال، ثم رجع عن قوله لا ألزمه، قال: لأني حبسته ليقر أو لينكر، فإن شاء أنكر، قال: إنما يبطل إقراره إذا حبسه ليقر، هذا لفظ أبي يوسف رحمه الله إشارة إلى أن الحبس إذا كان لأجل الإقرار، كان المحبوس مجبراً على الإقرار؛ لأن له أن ينكر فيصح إقراره، فإن كان هذا المحبوس لا يزال يهرب من السجن، يؤدّبه القاضي بأسواط؛ لأنه ظهر منه هتك حرمة سجن القاضي وتمرده وعناده، فيؤدبه بأسواط حتى يمتنع عن ذلك، ويكون عظة لغيره، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا خاف على المحبوس أن يفر من سجنه، حق له إلى سجن اللصوص إذا كان لا يخاف عليه منهم؛ لأن القاضي يحتاج إلى حفظه وسجن اللصوص أحصن، والرقباء ثمة أكثر فيحوله إليه، فإن كان يخاف عليه من جهة اللصوص لما أن بينه وبين اللصوص عداوة وعرف أنه لو حوله إليهم، لقصدوه لا يحوله؛ لأن فيه إهلاكه وما استحق عليه الهلاك.g
قال محمد رحمه الله عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل حبسه القاضي في دين(8/243)
لرجل عليه ألف درهم وله دنانير، قال: يبيعها القاضي ويوفي الغريم، ولو كان عرضاً لم يبعها، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يبيع العروض والعقار حتى يوفي الغريم حقه.
اعلم بأن المحبوس في الدين إذا امتنع عن قضاء الدين وله أموال، فإن كان ماله من جنس الدين بأن كان ماله دراهم والدين دراهم، فالقاضي يقضي من دراهمه بلا خلاف؛ لأن صاحب الدين لو ظفر بهذه الدراهم له أن يأخذها قضاء من دينه؛ لأنه ظفر بجنس حقه، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فكان قضاء القاضي دينه بهذه الدراهم إعانة له على حقه، وللقاضي ولاية إعانة صاحب الحق على استيفاء حقه.
وإن كان ماله من خلاف جنس دينه بأن كان الدين دراهم، وماله عروض أو عقار أو دنانير، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يبيع العروض والعقار، وفي بيع الدنانير قياس واستحسان، ولكنه يستديم حبسه إلى أن يبيع بنفسه ويقضي الدين، وعندها ببيع القاضي دنانيره وعروضه رواية واحدة، وفي العقار روايتان، ويكون البيع على الترتيب يبيع الدنانير أولاً ثم العروض ثم وثم على ما يأتي بيانه.
فالأصل عندها: أن كل من وجب عليه حق وامتنع من إيفاء ما صار مستحقاً عليه، وذلك مما يجري فيه النيابة، فإن القاضي يقوم مقامه في إيفاء ذلك الحق المستحق عليه كالذمي إذا أسلم عنده، فإن القاضي يجبره على البيع، فإن امتنع عن ذلك، فإن القاضي يبيعه عليه، وكالعنين بعد مضي المدة يأمر القاضي بالتفريق، فإن امتنع يفرق بينهما وكذلك امرأة الذمي إذا أسلمت، فإن القاضي يعرض الإسلام على الزوج، فإن أبى أمره بالتفريق، فإن امتنع ناب منابه في التفريق كذا هنا، ولكن أبا حنيفة يقول: المستحق عليه قضاء الدين، أما بيع ماله فغير مستحق عليه؛ لأن القدرة على قضاء الدين يثبت بأسباب: منها الاستفراش (108أ4) والاستيهاب وقبول الصدقة والبيع بالنسبة والاكتساب، فليس للقاضي أن يعين عليه البيع؛ لأن في ذلك إضراراً بالمدعى عليه، ألا ترى أن القاضي لا يزوج المديونة ليقضي الدين من مهرها، وإن كان يتوصل إلى قضاء الدين بذلك؛ لأن النكاح عليها لم يتعين لقضاء الدين، وكذلك لا يؤاجر المديون ليقضي الدين من الأجرة، وإن كان يتوصل إلى قضاء الدين منه؛ لأن الإجارة لم يتعين طريقاً لقضاء الدين، كذا هنا. وهذا لأنه ما دام حياً فالدين واجب في ذمته لا تعلق له بماله، فلا يثبت القاضي اليد عليه فلا يملك البيع.
وإن كان الدين دراهم وماله دنانير، فالقياس أن لا يقضي منه دينه في قول أبي(8/244)
حنيفة، وفي الاستحسان: يبيع الدنانير بالدراهم، ويقضي دينه منها.
وجه القياس: أنهما جنسان مختلفان حقيقة وحكماً، فلا يكون له أن يبيعها بذلك الدين كالعروض، ولا شك في اختلاف المجانسة بينهما حقيقة، وكذلك الحكم فإنه لا تجري الربا منهما، وفي مسألتنا ليس لصاحب الدين أن يأخذ الدنانير مكان الدراهم، ولو كانا جنساً واحداً لأخذها كما قلنا فيما إذا كان مال المديون دراهم، فإذا ثبت اختلاف المجانسة بينهما ينبغي أن لا يكون للقاضي ولاية البيع والمبادلة؛ لأنه تصرف في ملك المديون بغير رضاه، وإنه لا يجوز وصار كالعروض والعقار.
وجه الاستحسان: أنهما جنسان مختلفان من حيث العين، ولهذا لا يجري الربا بينهما، ولكنهما من حيث المالية جنس واحد، فإنهما خلقا للتقلب والتصرف، ولهذا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، وكل حكم يرجع إلى العين فهما جنسان وغيران فيه، وكل حكم يرجع إلى المالية جعلا فيه جنساً واحداً، وحق صاحب الدين في العين ثابت، ولهذا لم يكن له ولاية المطالبة إلا لعين الدراهم، وإن كان له حق في المالية من وجه، ولكن من حيث أن حقه في العين لا يثبت له حق الأخذ، وباعتبار حقه في المالية يثبت له حق الأخذ، فلا يثبت له الأخذ بالشك، فأما ولاية القاضي إنما تثبت من حيث المالية، وهما في المالية كشيء واحد، فكان له ولاية المصارفة وقضاء الدين.
وقد ذكرنا في «الجامع» في باب المساومة ذكر في كتاب العين والدين: أن صاحب الدنانير إذا ظفر بدراهم من عليه الدين أو على العكس، كان له أن يأخذ هذا بيان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: القاضي يبيع مال المديون بدينه، لكن هذا بدنانيره إذا كان الدين دراهم، فإن فضل الدين عن ذلك يبيع العروض أولاً دون العقار؛ لأن العروض معدة للتقلب والتصرف والاسترباح عليه، فلا يلحقه كسر ضرر في بيعه، فإن لم يف ثمنه بدينه وفضل عنه الدين حينئذٍ يبيع العقار، أما بدون ذلك لا يبيع العقار لأن العقار أعد للاقتناء، فيلحقه ضرر بين في بيعها، فلا يبيع العقار من غير ضرورة، فإذا فضل الدين عن ثمن العروض تحققت الضرورة فيبيع العقار ويقضي الدين من ثمن العقار، وهذا على إحدى الروايتين عنهما.
وفي رواية أخرى: لا يبيع العقار أصلاً؛ لأنه غير معدة للبيع، وإنه ما جرى العادة باستحداث الملك في العقار في كل وقت، فأما العروض مال معد للبيع، فإذا امتنع من بيعها ناب القاضي منابه في البيع. وقال بعضهم: يبدأ ببيع ما يخشى عليه التوى والتلف من عروضه، ثم يبيع ما يخشى عليه التلف، ثم يبيع العقار.
والحاصل: أن القاضي نصب ناظراً فينبغي أن ينظر للمديون، كما ينظر للغرماء فيبيع ما كان انظر إليه، وبيع ما يخشى عليه التلف أنظر من بيع مالا يخشى عليه فيبدأ به، فإن لم يف ثمنه بالديون يبيع مالا يخشى عليه التلف من العروض؛ لأنه أنظر من بيع العقار، فإن لم يف ثمنه بالديون حينئذ يبيع العقار.(8/245)
وإذا كان للمديون ثياب يلبسها، ويمكنه أن يجري بدون ذلك، فإنه يبيع ثيابه ويقضي الدين ببعض ثمنها، ويشتري بما بقي ثوباً يلبسه؛ لأن لبس ذلك للتجمل، وقضاء الدين فرض عليه وعلى هذا القياس، ويمكنه أن يجري بما دون ذلك المسكن يبيع ذلك المسكن، ويصرف بعض الثمن إلى الغرماء ويشتري بالباقي سكناً لنفسه، وعن هذا قال مشايخنا: إنه يبيع ما لا يحتاج إليه للحال حتى إنه يبيع اللبد في الصيف والنطع في الشتاء، وإذا كان له كانوناً من حديد أو صفر يبيعه ويتخذ كانوناً من طين، وعن محمد رحمه الله: أن المديون إذا وجد من يدينه إلى أجل، ولا يستدين ولا يقضي يدخل تحت قوله عليه السلام: «لي الواجد يحل عرضه وماله» ، وهذا لأن الواجد ليس هو الغني، بل الواجد من يمكنه قضاء الدين، وقد أمكنه قضاء الدين بهذا الطريق.
ثم أي قدر يترك للمديون من ماله ويباع ما سواه؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب، وقدروي عن عمر بن عبد العزيز ثلاث روايات: في رواية قال: يترك ثيابه وسكنه وخادمه ومركبه؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كله، وفي رواية أخرى قال: يترك ثيابه ومسكنه وخادمه، وبهذه الرواية أخذ بعض القضاة، وفي رواية قال: يباع جميع ماله ويؤاجر ويصرف غلته إلى غرمائه.
وفي ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله: لا يؤاجر إلا رواية روي عن أبي يوسف رحمه الله وجه ظاهر الرواية أنه لم يتعلق حق الغرماء بمنافع يديه، فلا يؤاجر ولكن إن أجر هو نفسه وأخذ الأجرة ترك له قوت يومه وعياله، ويصرف ما سوى ذلك إلى رب الدين، ومن القضاة من قال: إن كان في موضع الحر يباع ما فوق الإزار، لأن هناك الحاجة إلى ستر العورة لا غير وإنه يحصل بالإزار، وإن كان في موضع البرد يترك له ما يدفع به من البرد حتى لا تباع جبته وعمامته ويباع ما سوى ذلك، ومن المشايخ من قال: يترك له دستاً من الثياب، ويباع ما سوى ذلك، وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ومنهم من قال يترك له دستين من الثياب حتى إذا غسل أحدهما لبس الآخر، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل عليه دين وهو معسر وله دين على رجل مليء، فإن الحاكم يحبس المعسر حتى يتقاضى ماله على غريمه الموسر، فإن فعل وحبس غريمه الموسر، فإن الحاكم لا يحبس المعسر بما عليه؛ لأنه قضى ما عليه في تقاضي دينه، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان للمعسر دين على غريمه أخذ القاضي غريمه بدينه، وقضى دين غرمائه.
وفيه أيضاً: رجل حبس في الكفالة بنفس رجل، ثم علم أن المكفول بنفسه غائب(8/246)
ببعض الأمصار، قال: آمره أن يأخذ كفيلاً بنفسه ويخرجه من السجن حتى يجيء بالذي كفل به، وكذلك المحبوس بالدين إذا علم أنه لا مال له في هذه البلدة وله مال ببلدة أخرى يؤمر رب الدين أن يخرجه من السجن، ويأخذ منه كفيلاً بنفسه على قدر المسافة، ويأمر أن يبيع ماله ويقضي دينه، ولم يذكر ههنا أن رب الدين لو كان غائباً، ورأيت في موضع آخر أن القاضي يخرج المحبوس من السجن، ويأخذ منه كفيلاً.
الحسن عن أبي يوسف: إذا باع أمين القاضي عروض المديون في دينه وقبض الثمن، وهلك، ثم استحق المبيع، رجع المشتري على الغريم، ويرجع الغريم على المطلوب، ويجوز إقرار المحبوس بالدين لغيره بعد أن يحلف بالله ما أقر به على وجه التلجئة، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، وإذا أقر المحبوس بالبيع يحلف المشتري بالله أنه اشترى منه شراء صحيحاً ودفع الثمن إليه، وما كان ذلك تلجئة والله أعلم.
الفصل الثامن والعشرون: فيما يقضي به القاضي ويرد قضاؤه، وما لا يرد
ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان، أحدهما: أن قضاء القاضي متى اعتمد سبباً صحيحاً ثم بطل السبب من بعد لا يبطل القضاء؛ لأن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء القضاء، ألا ترى أن بقاء السبب لم يشترط لبقاء الحكم، فكذا لا يشترط لبقاء القضاء، وإذا ثبت عدم السبب من الأصل بعد وجوده من حيث الظاهر، فكذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، وعند أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله: يبطل القضاء، وهي مسألة قضاة القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور، والمسألة معروفة.
والثاني: أن استحقاق المبيع على المشتري، يوجب توقف البيع السابق على إجازة المستحق، ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الخصومة من المستحق، وطلب الحكم من القاضي ذلك النقض فينقض به البيع كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا يعمل إجازة المستحق بعد ذلك، عن أبي يوسف رحمه الله أن أخذه العين بحكم القاضي دليل الفسخ والنقض، فينتقض به حتى لا يعمل إجازته بعد ذلك، وفي ظاهر الرواية لا يكون شيء من ذلك دليل النقض أما الخصومة وطلب (108ب4) الحكم، فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتاً ظاهراً وقت البيع لا يمنع انعقاد البيع، فظهوره في الانتهاء، لأن لا يوجب النقض والفسخ أولى، والأخذ بحكم القاضي أيضاً محتمل يحتمل التلوم ويحتمل النقض والفسخ والعقد جائز بيقين، فلا يثبت النقض بالشك.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى من آخر جارية ولم يقبضها حتى استحقها رجل بالبينة، والبائع والمشتري حاضران، وقضى القاضي بها للمستحق، ثم ادعى البائع والمشتري أن المستحق باعها من هذا البائع وسلمها إليه، ثم باعها البائع من(8/247)
المشتري وأقام البينة قبلت بينته، فقد شرط محمد رحمه الله في «الكتاب» للقضاء بالجارية للمستحق حضرة البائع والمشتري، وأنه شرط لازم حتى لو حضر البائع دون المشتري، أو حضر المشتري دون البائع، فالقاضي لا يقضي بها للمستحق وإنما كان كذلك لأن للبائع يداً وللمشتري ملكاً، والقاضي بالقضاء يبطل الملك واليد، فيكون قضاء عليهما، والقضاء على الغائب لا يجوز، فيشترط حضرتهما ثم إذا قضى القاضي بالجارية للمستحق، فأقام البائع أو المشتري بينة على ما بينا قبلت بينته؛ لأن القضاء بالاستحقاق لم ينقض ذلك البيع في ظاهر الرواية فيبقى البيع بين البائع والمشتري، فكانا خصمين في إثبات هذا البيع، أما البائع فلأنه يؤكد يده في الجارية، وهو محتاج إلى تأكيد يده لمقدرتها على التسليم، وليؤكد حقه في الثمن قبل المشتري.
وأما المشتري فلأنه يؤكد ملكه في الجارية، فإنه يثبت الانتقال إلى بائعه، فانتصب خصماً عن بائعه في حق إثبات الانتقال إليه، فهذه بينة صدرت عن خصم على خصم، فقبلت وإذا قبلت هذه البينة تبين أن البائع باع ملك نفسه، وأنها صارت مملوكة للمشتري، فيؤمر بتسليمها إلى المشتري، وإن لم يكن لهما بينة على ما ادعيا، وطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن التسليم أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأن عجز البائع عن التسليم مطلق للفسخ.
أصله: إذا أبق المبيع أو غصب قبل القبض، فإن فسخ القاضي العقد بينهما ثم وجد البائع بينته، وأقامها على المستحق أنه كان اشتراها وقبضها من المستحق قبل أن يبيعها من هذا المشتري قضى القاضي بالجارية للبائع فظاهر، وأما عدم إلتزام المشتري باعتبار أن القاضي فسخ العقد بينهما بسبب قائم، وهو عجز البائع عن التسليم فصح الفسخ ونفذ، وبثبوت الملك للبائع في الحال لا يستبين أن العجز لم يكن، بل كان ثم ارتفع وارتفاع سبب القضاء بعد نفاذ القضاء وصحته لا يوجب بطلان القضاء، كما لو قضى القاضي بفسخ البيع بسبب العيب ثم زال العيب، أو قضى بالفرقة بسبب العنة ثم زالت العنة.
وقول محمد في الكتاب ثم وجد البائع البينة، وأقامها على المشتري. يشير إلى أن شرط قبول هذه البينة إقامتها على المستحق، ولو كان المشتري قبض الجارية من البائع واستحقها مستحق بالبينة قضى بها للمستحق، ويشترط ههنا حضرة المشتري لا غير، لاجتماع ملك الرقبة واليد له، وينقض القاضي البيع بينهما على ظاهر الرواية، وإذا طلب المشتري، ويرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن المبيع استحق من يد المشتري بسبب سابق على الشراء فإن أقام البائع بعد ذلك بينة على المستحق أنه كان اشتراها منه وقبضها قبل أن يبيعها قضى القاضي بها للبائع، وبطل نقض القاضي حتى كان للبائع أن يلزم الجارية المشتري؛ لأن الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري لم يكن قضاء القاضي بالفسخ بسبب عجز البائع عن التسليم، وإنما كان باستحقاق الملك على المشتري، وبإقامة البائع البينة تبين أن الملك لم يكن مستحقاً عليه، فانعدم سبب الفسخ من الأصل،(8/248)
فأوجب بطلان القضاء بالفسخ، وهذا قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله.
أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لا يبطل قضاء القاضي بالفسخ، ولا يكون للبائع أن يلزم المشتري لما مر في أول الفصل، ثم عند محمد رحمه الله لما كان للبائع أن يلزم المشتري الجارية وإن أبى، هل للمشتري أن يأخذها من البائع إذا أبى البائع ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل هنا. قال مشايخنا: وينبغي أن لا يكون له ذلك، وإليه أشار بعد هذا؛ لأن المشتري لما طلب من القاضي أن يفسخ العقد بينهما، فقد رضي بانفساخ البيع وانفسخ العقد في حقه إن لم ينفسخ في حق البائع فلهذا كان للبائع أن يلزم المشتري ولا يكون للمشتري أن يلزم البائع.
هذا إذا فسخ القاضي العقد بينهما، فلو أن القاضي لم يفسخ العقد بينهما، ولكن البائع مع المشتري أجمعا على الفسخ حين استحقت الجارية من يد المشتري، ثم أقام البائع بينة على المستحق على ما قلنا، وقضى القاضي له بالجارية لا يكون له أن يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأن الفسخ بالتراضي يثبت مطلقاً، فلا يبطل بعد ذلك، وإن أراد المشتري أن ينقض البيع بعد الاستحقاق من غير قضاء ولا رضى، ليس له ذلك، فالمذهب أنه لا بد لصحة النقض ههنا من قضاء أو تراض منهما، وهذا لأن حق المشتري في العين بعد الاستحقاق على ظاهر الرواية إذ العقد لم ينتقض بمجرد الاستحقاق على ظاهر الرواية، فالمشتري بالنقض يريد نقض حقه من العين إلى الثمن، فلا يملك إلا بقضاء القاضي أو برضى خصمه، وهو نظير ما قلنا في العبد المغصوب إذا أبق من يد الغاصب، وأراد المالك أن يضمنه قيمته ليس له ذلك إلا بقضاء القاضي أو برضى الغاصب، وكذلك المغصوب إذا كان شيئاً مثلياً وانقطع أوانه وأراد المالك أن يضمن الغاصب قيمته ليس له ذلك إلا بقضاء أو رضى الغاصب، والمعنى في الكل ما بينا.
وإن كان المشتري لم يطلب من القاضي فسخ العقد بعد الاستحقاق، ولكن طلب من البائع أن يرد الثمن عليه، ورده عليه ثم أقام البائع بينة على المستحق على ما ذكرنا، وأخذ الجارية من المستحق ليس له أن يلزم المشتري إياها؛ لأن الإلزام ينبني على البيع، والبيع قد انفسخ بينهما بتراضيهما؛ لأن المشتري بطلب الثمن رضي بالفسخ، وكذلك باليد بإعطاء الثمن رضي بالفسخ، والفسخ ينفذ بالتراضي ويصح بالتعاطي ظاهراً وباطناً فلا يبقى للبائع ولاية الإلزام بعد ذلك.
ولو كان البائع لم يرد الثمن حتى خاصمه المشتري إلى القاضي ففسخ العقد بينهما وألزم البائع الثمن للمشتري فيأخذه منه أو لم يأخذه حتى أقام بينة على المستحق على ما قلنا، وأخذ الجارية، كان له أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول؛ لأن الفسخ ههنا لو ثبت ثبت بالقضاء، والقضاء حصل بناء على سبب ظهر انعدامه من الأصل، فأوجب بطلان القضاء عند محمد وأبي يوسف الأول على ما مر.
فرع محمد رحمه الله على الفصل الأخير، وهو ما إذا رجع المشتري بالثمن على البائع بقضاء القاضي، فقال: لو أقر البائع أنه نوى الفسخ حين رجع المشتري(8/249)
عليه وباقي المسألة بحاله لم يكن للبائع أن يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأنه حين نوى الفسخ فقد رضي بالفسخ، والعقد متى انفسخ بالتراضي لا يعود أصلاً، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد النية.
وذكر في «الجامع الصغير» : في مشتري الجارية: إذا جحد الشري، وعزم البائع على الفسخ، وهذا مشكل؛ لأن فسخ شيء من العقود لا يقع بمجرد النية، ألا ترى أنه لو كان في البيع خيار شرط أو خيار رؤية، ونوى بقلبه فسخ العقد لا ينفسخ بمجرد نيته، من مشايخنا من قال: لم يرد محمد نوى الفسخ أن يقصد بقلبه الفسخ، وإنما أراد به أن يظهر منه أمارات الرضى بالفسخ بأن عرض الجارية على البيع أو وطئها بعد ما استردها من يد المستحق بإقامة البينة على نحو ما بينا، ولكن هذا بعيد فإنه وضع المسألة فيما إذا أقر البائع أنه نوى الفسخ حين رجع المشتري عليه بالثمن والعرض على البيع والوطء، لا يتصور في تلك الحالة؛ لأن في تلك الحالة الجارية ملك المستحق وفي يديه.
ومنهم من قال: تأويله أن البائع حين رد الثمن على المشتري نوى فسخ العقد، وفي مسألة «الجامع الصغير» : عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل اقترن به النية لا بمجرد النية، وقوله في «الكتاب» : نوى الفسخ حين رجع عليه المشتري أراد به رجوعاً اتصل به الرد. ومنهم من قال الفسخ هنا وقع بقضاء القاضي، إلا أن للبائع أن يبين بالبينة أن الفسخ لم يقع عند محمد وأبي يوسف الأول على نحو ما بينا، وهذا حق له فله تركه وله استيفاؤه فإذا عزم على الفسخ فقد ترك هذا الحق، فعملت بينته في هذا.
أما الفسخ بقضاء القاضي رجل اشترى من آخر عبداً بمائة دينار وقبضه وباعه من آخره وقبضة المشتري الثاني، ثم (109أ4) استحقها رجل على المشتري الثاني، فأقام المشتري بينة على المستحق أنه كان باعه من البائع الأول بكذا وسلمه إليه، قبلت بينته في ظاهر الرواية، لأن بالاستحقاق لا تفسخ العقود، فبقيت العقود موقوفة، فيحتاج المشتري الأخير إلى تقرير الملك للبائع الأول والثاني ليتقرر ملكه، فينتصب خصماً فيه، فهذه بينة قامت من خصم على خصم، وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل فيه تقرير له وقد أقامها لا على الوجه الذي استحق عليه، فقبلت بينته، وقضى بالغلام له بهذا، فإن لم يقم المشتري بينة علىه ولكن خاصم بائعة، وهو المشتري الأول في الثمن وقضى عليه بذلك ثم إن المشتري الأول أقام بينة على أن المستحق باعه من البائع الأول، وسلمه إليه قبل أن يبيعه منه، وأخذ الغلام منه، هل له أن يلزم المشتري الثاني؟ على قول محمد وأبي يوسف الأول له ذلك، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر (له) ذلك لما ذكرنا، فإن لم يجد المشتري الأول بينة على ذلك، ورجع على البائع الأول بالثمن وقضي له به عليه، فأقام البائع الأول بينة على المستحق على ما ذكرنا، ويأخذ العبد من المستحق كان له أن يلزم المشتري الثاني عند محمد وأبي يوسف الأول لما مر.H
وهل للمشتري الأول أن يلزم المشتري الثاني؟ لما رجع على المشتري الأول فقد رضى بانفساخ العقد بينه وبين المشتري الأول، فانفسخ العقد في حقه، لكن لم يظهر الانفساخ في حق المشتري الأول(8/250)
لعدم الرضى فيه، ولهذا احتيج إلى القضاء عليه بالثمن فإذا رجع هو على البائع الأول فقد رضي بانفساخ العقد، فتم الفسخ بينهما بتراضيهما، وقد ذكرنا أن الفسخ الحاصل بالتراضي يثبت مطلقاً فلا يبطل بعد ذلك.
رجل اشترى من آخر غلاماً وقبضه ونقد الثمن، فجاء مستحق واستحقه من يد المشتري بالبينة وقضى القاضي بالغلام للمستحق، ثم أقام المشتري بينة على المستحق أنه كان أمر البائع ببيعه، فباعه بأمره قبلت بينته، لأنه خصم فيه؛ لأنه بهذه البينة تقرر ملكه؛ فإنه يثبت كون البائع وكيلاً من جهة المستحق، وبيع الوكيل يوجب الملك للمشتري، وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل هو تقرير له؛ لأن بيع العبد بأمر المستحق إنما ينفذ باعتبار ملكه فقبلت لهذا، فإن لم يقم المشتري بينة على ذلك، ورجع بائعة بالثمن وقضى به، ثم إن البائع أقام بينة على المستحق أنه كان أمره ببيع هذا العبد قبل أن يبيعه ينظر إن كان ما دفع المشتري عين ما قبضه منه أو أمسك المقبوض وردّ مثله، أو استهلك المقبوض وضمن مثله لا تقبل بينته؛ لأنه لا فائدة في قبول هذه البينة؛ لأن فائدة القبول في هذه الصورة، إما إلزام المشتري الغلام أو استرداد ما وقع إلى المشتري، وكل ذلك ممتنع هنا، أما إلزام المشتري الغلام، فلأن البائع لما أثبت الوكالة ظهر أن المستحق كان موكلاً، وقد فسخ العقد مع المشتري حين جحد الشراء، والمشتري قد رضى بذلك الفسخ حين رجع بالثمن على البائع، والعقد متى انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فالوكيل لا يتمكن من إلزام المشتري ذلك العقد عرف ذلك في موضعه.
ولا وجه إلى الثاني؛ لأن العقد لما انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما عاد الثمن إلى ملك المشتري، فإن كان قائماً وجب على البائع وهو الوكيل أن يرد عينه، وإن شاء أمسكه ورد مثله، وإن كان الوكيل قد استهلكه ضمن مثله؛ لأن الوكيل يضمن بالاستهلاك فإنما دفع الوكيل للمشتري ما هو عين حقه فلا يكون له ولاية الاسترداد، وإن كان الثمن قد هلك عند الوكيل وضمن الوكيل للمشتري مثله من ماله قبلت بينته؛ لأن له في هذه البينة فائدة، وهو استرداد ما دفع إلى المشتري؛ لأن بهذه البينة يثبت أنه كان وكيلاً، وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، فيظهر أن المشتري أخذ ما أخذ بغير حق، فكان للوكيل ولاية الاسترداد، فلهذا قبلت بينته، وإذا قبلت بينته يسترد من المشتري ما دفع إليه، فيأخذ الغلام من المستحق ويدفعه إلى المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول.
فإن قيل: ينبغي أن لا يكون للوكيل ولاية أخذ الغلام من المستحق لأن العقد انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فلا يعود بعد ذلك فيقبل بينته على استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ويرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري، لا على أخذ الغلام من المستحق، ويرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري؛ لأنه تبين أنه كان للقبض عاملاً للمستحق، فعند عدم سلامة الغلام للمشتري يكون ضمان المقبوض على من وقع القبض له وهو المستحق.(8/251)
قلنا: الموكل إنما رضي بالفسخ بشرط أن لا يلحقه الغرم في الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أن يلحقه غرم في الآخرة لا يكون راضياً، والمشتري إنما رضي بالفسخ بشرط أن المقبوض له، فإذا آل الأمر إلى أن لا يسلم له لا يكون راضياً، فلا ينفسخ العقد بتراضيهما، لو انفسخ إنما ينفسخ بقضاء القاضي وقد ظهر أن قضاء القاضي وقع باطلاً من الأصل عند محمد وأبى يوسف الآخر. وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول: قضاء القاضي بالفسخ نفذ من كل وجه، فلا يعود العقد بعد ذلك فتقبل بينة الوكيل على استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ثم يرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن، ويدفعه إلى المشتري لما ذكرنا.
وإن كان المشتري باع الغلام من آخر ثم استحق من يد المشتري الأخير بالبينة، ويرجع المشتري الأخير على المشتري الأول بالثمن قضى له، فأقام المشتري الأول بينة على أمر المستحق البائع بالبيع قبلت بينته لما ذكرنا، ويأخذ العبد من يد المستحق ويلزمه المشتري الأخير عند محمد وأبي يوسف الآخر؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ اعتمد سبباً ظاهر وقد انعدم ما يوجب بطلان القضاء وارتفاع الفسخ، ولو أن المشتري الأول لم يجد بينة على ذلك ولكن رجع على بائعه بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي، وأقام البائع الأول بينة على أمر المستحق، فهو على الوجوه التي ذكرنا في المسألة الأولى؛ لأن العقد الثاني انفسخ بين المشتري الثاني وبين المشتري الأول بتراضيهما على وجه لا يحتمل العود، فخرج هو من البين، بقي الكلام في العقد الأول وقد مر الوجه فيه.
رجل رهن من آخر جارية بألف درهم عليه للمرتهن، وقبضها المرتهن ثم أخذها الراهن بغير إذن المرتهن وباعها من إنسان وسلمها إليه، ثم إن المرتهن أقام بينة على الرهن قبلت بينته؛ لأن عقد الرهن باق، فكان خصماً فيه فقبلت بينته، ويدفع العبد إليه فيكون رهناً عنده؛ لأنه أثبت فيها ملك اليد لنفسه وحق الحبس، وبهذا كان أحق، من البائع فيكون أحق ممن يلقي الملك من جهته، وهل يتمكن المرتهن من فسخ هذا البيع؟ روي عن محمد رحمه الله أنه تمكن.
ووجه ذلك: أن حق المرتهن بمنزلة الملك، فإن الثابت له ملك اليد والحبس ومن باع ملك الغير فإن أجازه المالك يتم البيع، وإن فسخه ينفسخ، فهذا مثله والصحيح أنه لا يتمكن؛ لأنه لاحق له حتى إذا أجازه كان المشتري متملكاً العين على الراهن لا على المرتهن، وإنما الثابت للمرتهن حق دفع الضرر عن نفسه بالحبس إلى أن يصل دينه إليه، وهذا المعنى يوجب توقيف العقد أما لا يثبت حق الفسخ، والمشتري بالخيار إن شاء فسخ؛ لأن التسليم فات بسبب كان عند البائع فجعل كأن لم يكن، وإن شاء صبر حتى يفكها الراهن فيأخذها؛ لأن فوات التسليم بسبب يرجى زواله، فله أن ينتظر ذلك، كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض، فإن اختار المشتري فسخ العقد، وفسخ القاضي العقد وقضى له بالثمن على البائع، ثم إن البائع قضى المرتهن المال واستردها ليس له أن يلزم(8/252)
المشتري؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ اعتمد سبباً ظاهراً، وهو كونها مرهونة، وهذا لم ينعدم من الأصل بل زال بعد تحققه، فلا يوجب بطلان القضاء على ما مر.
ولو كان الراهن قد قضى الدين وقبض الجارية ثم باعها من هذا المشتري، ثم إن المرتهن جحد القضاء، وقضى القاضي له بالعبد رهناً، وطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد، وفسخ ورد الثمن على المشتري، ثم أقام البائع بينة على قضاء الدين واستردادها قبل البيع وبأخذها، وأراد أن يلزم المشتري هل له ذلك؟ وقع في بعض نسخ محمد رحمه الله أن المسألة على التفصيل.
ولو كان المشتري (109ب4) لم يقبضها حتى استحقها المرتهن ليس له ذلك؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ كان باعتبار سبب قائم، وهو عجز البائع عن التسليم، وهذا لم ينعدم من الأصل، بل ارتفع بعد تحققه، فلا يوجب بطلان القضاء، وإن كان المشتري قبضها فله أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول، خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهم الله؛ لأن الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري لم يكن قضاء القاضي بالفسخ باعتبار العجز عن التسليم، بل لكونها مرهونة، وهذا قد انعدم من الأصل، فيبطل قضاء القاضي عند محمد وأبي يوسف الأول على ما مر.
ووقع في بعض النسخ أن له أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول مطلقاً من غير تفصيل، وهكذا ذكر صاحب «الكتابٍ» فهذا الإطلاق يدل على ولاية الإلزام عند محمد وأبي يوسف الأول، سواء كانت الجارية مسلمة إلى المشتري أو لم تكن، وهو الصحيح، أما إذا كانت الجارية مسلمة فلما قلنا، وأما إذا لم تكن مسلمة فلأن عجز البائع عن التسليم قد انعدم من الأصل؛ لأن عجز البائع عن التسليم لكونها مرهونة، وقد انعدم ذلك من الأصل، والله أعلم.
الفصل التاسع والعشرون: في بيان ما يحدث بعد إقامة البينة قبل القضاء
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد في يدي رجل جاء رجل وادعى أنه عبده، وأنكر صاحب اليد دعواه، فذهب المدعي ليأتي بالشهود فباع صاحب اليد العبد من رجل وسلمه إليه، ثم أودع المشتري العبد من البائع، وغاب ثم إن المدعي أعاد صاحب اليد عند القاضي هذا ليقيم عليه البينة بحقه، فهذه المسألة على وجوه:
إما إن علم القاضي بما صنع ذو اليد أو لم يعلم، ولكن أقر المدعي بذلك، وفي الوجهين جميعاً لا خصومة للمدعي مع صاحب اليد، وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي بذلك؛ لأن الثابت بالبينة إذا صحت كالثابت عياناً، فكأن القاضي عاين إقرار المدعي بذلك؛ وإن لم يكن شيء من(8/253)
ذلك ولكن صاحب اليد أقام بينة على ما صنع، وذكر أنه وديعة في يده لفلان بشراء كان بعد الخصومة، فإن القاضي لا يقبل بينته ولا تندفع عنه الخصومة، وإذا لم تندفع عنه خصومة المدعي، وقضى القاضي عليه بالعبد ببينة المدعي لو حضر المشتري بعد ذلك، وأقام البينة على الشراء من صاحب اليد لا تسمع بينته، لا يدعي تلقياً من جهة ذي اليد، وذو اليد صار مقضياً عليه بالملك المطلق، فكذا من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد، والذي ذكرنا من دعوى البيع من الغائب، وإيداع الغائب منه كذلك في دعوى الهبة والصدقة.
ولو كان القاضي لم يقض بشهادة شهود المدعي حتى حضر المشتري دفع ذو اليد العبد إليه، ويجعل القاضي المشتري خصماً للمدعي، ولا يكلف المدعي إقامة البينة؛ لأن إقامتها على ذي اليد صحت ظاهراً، فلا يبطل بإقرار ذي اليد، ويجعل المشتري كالوكيل من ذي اليد، وإذا قضى القاضي بالعبد على المشتري للمدعي يبطل البيع الذي جرى بينه وبين ذي اليد، ورجع عليه المشتري بالثمن لاستحقاق المبيع من يده.
وكذلك لو شهد على صاحب اليد رجل واحد، ثم حضر المشتري ودفع العبد إليه فأقام المدعي شاهداً آخر على المشتري قضى له بالعبد، ولا يكلفه إعادة الشاهد الأول وكذلك لو أن ذا اليد باع العبد من غيره، ولم يسلمه إلى المشتري حتى حضر المدعي، فأقام الذي في يده البينة أنه باع من فلان، ولم يسلمه إليه لا يلتفت إلى بينة ذي اليد، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا أقام البينة على البيع والقبض ثم الإيداع منه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة على أنه عبده اشتراه من الذي في يده بألف درهم ونقده الثمن، وأقام ذو اليد بينة إنه عبد فلان أودعه، فإن الخصومة لا تندفع عنه، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها في كتاب الدعوى، فلو لم يقض القاضي بالعبد حتى حضر المقر له وصدق ذو اليد فيما أقر له به، فالقاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن الإقرار من ذي اليد وجد في حال العبد مملوك له ظاهراً ثم يقضي القاضي لمدعي الشراء بالعبد، ولا يكلفه إعادة البينة على المقر له، لأن بينته صحت ظاهراً لكون ذي اليد خصماً له من حيث الظاهر، ولم يبطل بإقرار ذي اليد بالعبد للمقر له؛ لأن إقراره حجة في حقه لا في حق غيره، ويصير الغائب إذا حضر كأنه هو الوكيل بالخصومة عن ذي اليد؛ لأنه لما أقر له بالملك والخصومة يكون إلى المالك فقد فوض الخصومة إليه، وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كأنه أقام شاهدين على ذي اليد بالشري منه، فقبل: إن ترك بينته ويقضي له بالعبد، وكلَّ ذي اليد رجلاً حتى تخاصم مع المدعي، ولو كان كذلك كان لا يكلف المدعي إعادة البينة ثانياً كذا هنا.
فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي عليه في هذه الحالة المقر له إلا ذو اليد، بخلاف ما إذا قال المدعي: أنا لا أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد لا المقر له.
والفرق: أن المدعي إذا لم يرض بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي(8/254)
كيلا يلزمه إعادة البينة، فكأن صاحب اليد لم يقر بذلك، ولو لم يقر كان المدعى عليه ذو اليد، لأن البينة قامت عليه وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال أنا أعيد البينة، فقد رضي ببطلان ما أقام من البينة على ذي اليد، فنفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي، فصار المقضي عليه في هذه الصورة المقر له، فلو أن القاضي لم يقض بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام للذي حضر بينته ويطلب بينته ويطلب بينة مدعي الشراء؛ لأن ببينته بين أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وهذه البينة من رب العبد ما قبلت لإثبات الملك لرب العبد؛ لأن العبد في يده والملك ثابت له بظاهر اليد، فلا حاجة له إلى البينة لإثبات الملك لنفسه في العبد، وإنما قبل لإبطال بينة المدعي، فإن رب العبد بما أقام من البينة أثبت أن المدعي أقام البينة على غير خصم، والبينة من صاحب اليد على إبطال بينة المدعي مقبولة، كما لو أقام البينة أن شهود المدعي كفار أو عبيد أو محدودون في قذف، فإن أقام رب العبد بينة على ما قلنا، ثم أعاد مدعي الشراء البينة على رب العبد أن العبد كان للذي في يديه، وأنه اشتراه منه بألف درهم، ونقده الثمن، فهذا على وجهين.
إما أن أعاد البينة على رب العبد بعدما قضى القاضي لرب العبد ببنيته وفي هذا الوجه لا تقبل بينته؛ لأن مدعي الشراء صار مقضياً عليه من جهة رب العبد؛ لأن رب العبد إنما أقام البينة على مدعي الشراء، والمقضي عليه إذا أقام البينة في عين ما قضى عليه لا تقبل بينته إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له، ولم يوجد كذا ههنا. وإن كان قبل القضاء تقبل بينة مدعي الشراء متى أعادها على المقر له، ثم هنا ثلاث مسائل.
أحدها: ما ذكرنا أن مدعي الشراء أقام شاهدين فقبل القضاء له أقر صاحب اليد بالعبد لإنسان، وصدقه المقر له.
المسألة الثانية: إذا أقام المدعي شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد، وأقر ذو اليد بالعبد لفلان الغائب، ثم حضر فلان وصدق المقر في إقراره، فإنه يؤمر بدفع العبد إلى المقر له لما مر في المسألة الأولى، فإن أقام مدعي الشراء شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلفه القاضي إعادة الشاهد الأول على المقر له لما قلنا في الشاهدين في المسألة الأولى، ويكون المقضي عليه ذو اليد دون المقر له؛ لأن الشاهد الأول قام على ذي اليد، والشاهد الثاني قام على المقر له، وأمكن جعل المقر له تابعاً لذي اليد؛ لأنه رضي بتفويض الخصومة إليه، فجعل الشاهد القائم على المقر له قائماً على ذي اليد كالقائم على المقر له؛ لأن المقر له لم يرض بكون ذي اليد نائباً عنه في الخصومة، فلهذا جعلنا المقضي عليه ذو اليد دون المقر له، وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أن القاضي يقضي بشهادة شاهدين على رب العبد أراد بذلك القضاء في حق الأخذ والانتزاع من يده، لا في حق القضاء بالملك، بدليل أنه ذكر أن المقر له لو أقام بينة أن العبد عبده قبلت بينته، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته.(8/255)
المسألة الثالثة: مدعي الشراء إذا لم يقم البينة على ذي اليد حتى أقر ذو اليد أن العبد لفلان الغائب أودعه إياه، ثم حضر المقر له وصدقه ودفع العبد إليه، ثم أقام مدعي الشراء البينة على المقر له، وقضى القاضي بذلك، كان المقضي عليه في هذه الصورة المقر له (110أ4) لأن إقرار ذي اليد قبل إقامة مدعي الشراء البينة أصلاً صحيح في حق المدعي، إذ ليس فيه إضرار بالمدعي، فصح وصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة.
ولو ثبت بالبينة أن الملك له ثم ادعى أن العبد كان لفلان اشتراه منه يقضى به له، ويصير المقر له مقضياً عليه دون ذي اليد كذا هنا، بخلاف المسألة الأولى والثانية؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي، لأنه لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، هذه الجملة في الباب الثاني من دعوى «الجامع» .
وفي آخر دعوى الجامع رجل في يده دار، جاء رجل ادعى أنها داره، فطلب القاضي من المدعي البينة، فقاما من عند القاضي وباع المدعي عليه الدار من رجل فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي وجاء المدع بشهود يشهدون على الدار له، وقد علم القاضي ببيع المدعي عليه، أو أقر المدعي بذلك فلا خصومة بينهما، وإن كانت الدار في يد المدعي عليه.
ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، ثم قاما من عند القاضي فباع المدعى عليه الدار من رجل فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي، وجاء المدعي بالشاهد الآخر، فالقاضي لا يسمع خصومة المدعي إذا علم القاضي بالبيع أو أقر المدعي بذلك.
ولو كان المدعي أقام شاهدين فعدلا، فلم يقض القاضي بشهادتهما، ثم قاما من عند القاضي، وباع المدعي عليه الدار من المدعي لا يصح بيعه، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، وإن أقر المدعي ببيعه أو علم القاضي بذلك فرق بين الشاهد وبين الشاهدين.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أنه سوى بين الشاهد الواحد وبين الشاهدين، وأبطل بيع المدعى عليه وبينته في الفصلين جميعاً، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: أن بإقامة الشاهدين إن لم يثبت حقيقة الملك للمدعي في المدعى به يثبت حق الملك لوجود الحجة بكمالها، ولا حق الملك للمدعي في المدعى به بمنع صحة بيع المدعى عليه صيانة لحق المدعي، فالمدعي إنما أقر ببيع باطل، والقاضي علم بيعاً باطلاً، فلا يصلح ذلك دافعاً خصومة المدعي لها بإقامة الشاهد الواحد، كما لم يثبت حقيقة الملك للمدعي لم يثبت حق الملك لنقصان في الحجة، فكان تصرف المدعى عليه حاصلاً في خالص ملكه فصح، فالمدعي أقر ببيع صحيح، والقاضي علم بيعاً صحيحاً فصلح دافعاً خصومة المدعي.
وقد فرق في هذه المسألة بين الشاهد الواحد وبين الشاهدين وفي مسألة الإقرار التي تقدم ذكرها، وهو ما إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل وأقام المدعي بالدار لرجل آخر، ثم جاء المدعي بالشاهد الآخر أو ظهرت عدالة الشاهدين والدار في يد المقر بعد،(8/256)
فالقاضي يقضي على المقر، وسوى بين الشاهدين وبين الشاهد الواحد، والفرق أن الإقرار إخبار، وفي الإخبار الأصل أنه إذا تضمن إلحاق الضرر بالغير أن يعتبر كذباً في حق ذلك الغير، والإقرار بعد الشاهد الواحد يضمن إلحاق الضرر بالمدعي، فإنه متى صح الإقرار يلزم المدعي إعادة ما أقام من الشاهد الواحد على المقر له، عسى يمكنه ذلك وعسى لا يمكنه، فاعتبر كذباً في حق المدعي فلم يصح، فأما البيع وما أشبهه أشياء تصرف، وتهمة الكذب لا تتأتى في الأنساب، فلا يمكننا رد بيعه من هذا الوجه، وطلبنا للرد وجهاً آخر، فقلنا: إذا تضمن تصرف المدعى عليه إبطال ملك أو حق ملك أو يد استحقه على الغير يرد ومالا فلا، وبعد إقامة الشاهد الواحد لم يضمن تصرفه إبطال شيء من ذلك فلم يصح.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله رجل: ادعى داراً في يدي رجل وجحد المدعى عليه، فسئل الطالب البينة فذهب في طلب البينة وباع المدعى عليه الدار فالبيع جائز، وإن كان قد أقام المدعي البينة، ثم باعها المدعى عليه، قال محمد رحمه الله: إن قدرت على المشتري أبطلت البيع، وإن لم أقدر عليه وعدلت البينة خيرت المدعي، فإن شاء أخذ من البائع قيمتها، وإن شاء وقف الأمر حتى يقدم المشتري به.
قال: رجل في يديه عبد ادعاه رجلان، كل واحد منهما يقيم البينة أنه عبده، أودعه الذي هو في يديه، وذو اليد يجحد ذلك أولا يجحد، ولا يقر بل يسكت، فلم يقض القاضي بشهادة الشهود، لعدم ظهور عدالتهم، حتى أقر ذو اليد لأحدهما بعينه أنه عبده أودعنيه، فإن القاضي يدفع العبد إلى المقر له لما مر.
فإذا عدلت الشهود قضى بالعبد بينهما نصفين، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن المقر له لما صدق ذا اليد فيما أقر وأخذ العبد صار العبد ملكاً له رقبة ويداً، فصار المقر له مع صاحبه بمنزلة الخارج مع ذي اليد إذا أقاما البينة على الملك المطلق، فيقضى بكل العبد للخارج.f
واعتبره بما لو أقر ذو اليد لأحدهما قبل أن يقيما البينة، ثم أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعى كان العبد كله للذي لم يقر له ذو اليد، لما قلنا فههنا كذلك.
والجواب: وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة وبينما بعدها أن التزكية لا تجعل البينة حجة، بل يظهر من ذلك الوقت أن كونها حجة مبنية للاستحقاق من ذلك الوقت، فمتى كان الإقرار بعد إقامة البينة، فعند ظهور العدالة يظهر الاستحقاق قبل الإقرار، فيظهر أن الإقرار كان باطلاً لصدوره عن شخص ظهر أنه ليس بمالك، ومتى بطل الإقرار بطل التصديق ضرورة؛ لأنه مبني عليه، فصار وجود الإقرار وعدمه بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار فبظهور العدالة لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار، فلا يتبين بطلان الإقرار، وإذا لم يبطل الإقرار صار المقر له صاحب يد، وغير المقر له خارجاً، فيقضي ببينة الخارج.
ولو أقام كل واحد من المدعيين شاهداً واحداً على ما ادعاه، ثم أقر ذو اليد بالعبد لأحدهما يدفع العبد إليه، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد الواحد، فإن أقام(8/257)
غير المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد له؛ لأن الشاهد الثاني يضاف إلى الشاهد الأول، فصار كأنه أقام شاهدين، ولم يقم الآخر إلا شاهداً واحداً، فإن لم يقض له حتى جاء المقر له بشاهد آخر قضى بالعبد بينهما نصفان؛ لأن إقرار المقر يلحق بالعدم فيما يرجع إلى إبطال ما أدى من الشهادة، ولو انعدم حقيقة، وأضاف كل واحد منهما إلى شهادة شاهد آخر قضى بينهما كذا هنا، إلا أن يقول الذي لم يقر له ذو اليد قبل أن يقضي القاضي بالعبد نصفان: أنا أعيد شاهدي الأول وأقيمها مع الشاهد الآخر على المقر له قبل أن يقضي القاضي بالعبد بينهما فحينئذٍ يقضي بكل العبد له؛ لأنه حينئذٍ إيراد اليد عن الخصومة، وأبطل ما أقام عليه من الشهادة، وعدم نفاذ إقرار ذي اليد في حق غير المقر له، إنما كان نظراً له كيلا يبطل ما أقام من الشهادة، فإذا رضي به نفذ ووقع الدعوى بين المقر له وهو ذو اليد وبين غير المقر له وهو الخارج، فعند إقامتهما البينة يقضى للخارج.
ولو قال غير المقر له قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هات بشاهد آخر على المقر له يقضى لك بكل العبد؛ لأن شهادة الأول لم يبطل بالموت والغيبة، فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً على السواء، فإذا أقام شاهداً آخر مع شهادة الأول أو يقيم شاهدين مستقلين، فيكون بينهما فرق، بينما لو أقام غير المقر له شاهدين مستقلين على المقر له وبينما لو أقام المقر له، شاهدين مستقلين يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقلين يقضى بالبينة بينهما، والفرق بينهما: وهو أن لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر له ويبرئ المقر عن الخصومة؛ لأن ما يدعيه غير المقر له، في يد المقر له فإذا أقام شاهدين مستقلين فقد أبرأ المقر، وخاصم المقر له، فصار المقر له خصماً، وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر له لا يمكنه أن يجعل للذي ليس بمقر له خصماً، فيستأنف الخصومة معه لأنه لا يد لغير المقر له، فاعتبر إقامة الشاهدين على الخصومة الأولى فبقيا خارجين فيقضي بالعبد بينهما.
لهذا فإن قيل: إن لم يمكن أن يجعل إقامة شاهدين مستقلين من المقر له على سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما جعل فيما تقدم.
وهو ما إذا ادعى رجل على ذي اليد الشراء منه وأقام البينة على ذلك وادعى ذو اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء، حضر فلان وأقام البينة أنه له أودعه (110ب4) من ذي اليد حيث يبطل به بينة مدعي الشراء فهاهنا كذلك، والجواب ثمة أمكن، فيقول بينته على إبطال بينة مدعي الشراء؛ لأن المقر له بينته تثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته لإبطال بينة المدعي، أما في مسألتنا لا يمكن قبول بينة المقر له على إبطال ما أقام على المقر له من الشاهد؛ لأن أكثر ما في الباب أنه يثبت أن غير المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على المودع حال حضرة المودع مقبولة، ولهذا افترقا.(8/258)
عبد في يدي رجل أقام رجلان كل واحد منهما البينة على أنه عبده، أودعه إياه وذو اليد جاحد أو ساكت، فقضى بالعبد بينهما نصفان، ثم إن أحدهما أقام على صاحبه تلك البينة أو غيرهما أن العبد عبده لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضي له على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد منهما صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه، لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه لقضي له بكل العبد، فإنما حرم كل واحد عن النصف بينة صاحبه، فصار هو مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً له في غير ذلك الشيء.
فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار لصاحبه، ولم يكن له في ذلك النصف ملك قبل القضاء لصاحبه؟
قلنا: إن لم يكن فيه ملك كان له حق الملك؛ لأنه أقام البينة أن الكل له، وإنها توجب حقيقة الملك عند اتصال القضاء بها يوجب حق الملك، وحق الملك معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه، فكذا هنا ولو عدلت بينة أحدهما ولم تعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً أصلاً أو أقام شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدل بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة قضى له به لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه؛ لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك ولا حق الملك لعدم الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له كيف يتصور إزالته؟ فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه، فيسمع دعواه وبينته بعد ذلك، فلو أقام أحدهما البينة، فلم تزكَ بينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها وأخذ صاحب البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينته أنه عبده أودعه إياه ذو اليد، قبلت بينته وقضى له بالعبد؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر له، قامت على ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل له لما مر.
فإن قيل: الملك يثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وتصديق المقر له إياه، ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي، فيجعل المقر له مقضياً عليه، قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي البينة على ذي اليد، وعند ظهور عدالة الشهود يثبت الاستحقاق من وقت الشهادة، فيظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه بناء عليه، وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجوده والعدم بمنزلة.
ولو عدما وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده، دون المقر له كذا هنا.
وكذا لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته، يقضي للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً.
فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على مودع المقر له إنما يبطل إذا كان المقر له(8/259)
غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما إذا كان حاضراً كانت مقبولة فيما تقدم كإقامة البينة على المقر له، وهنا المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة.
قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يده حقيقة هنا لكنه غائب حكماً، لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة؛ لأنه لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولا حق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له، فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، لكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، وكانت خصومته معتبرة وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فكان حاضراً حقيقة واعتباراً بخلاف ما نحن فيه على ما مر.
فإن قال المدعي فهو غير المقر له أنا أعيد شهودي على المقر له، هل يقبل بينته؟ فهذا على وجهين:
إن كان ذلك قبل القضاء بينة المقر له قبلت بينة المدعي؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه، ثم يقضي له بجميع العبد؛ لأنه لما أعاد البينة فقد أراد اليد عن الخصومة، ورضي بنفاذ إقراره واستأنف الخصومة، مع المقر له على ما مر، فتقررت يد المقر له واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج أولى بالقبول.
الفصل الثلاثون: في بيان من يشترط حضرته لسماع الخصومةوالبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك
إذا استحق العبد من يد مشتريه بالملك المطلق، وقضى القاضي بالعبد للمستحق، وقصر يد المشتري عن العبد، ورجع المشتري على بائعه بالثمن، فأقام البائع البينة أن هذا العبد نتج في ملكي من أمتي، وإن القضاء للمستحق وقع باطلاً، وليس لك حق الرجوع علي بالثمن، قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق.
إليه أشار في «السير الكبير» في آخر باب صاحب الساق وإنما قبلت بينته؛ لأنه بهذه البينة يدفع استحقاق الثمن، فكان خصماً في إقامتها فقبلت بينته.
وكذلك إذا أقام البائع البينة على أن هذا العبد نتج في ملك بائعي من أبيه قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق لما قلنا.
فإن قيل: كيف يقبل بينة البائع في هاتين الصورتين وإن البائع صار مقضياً عليه بالقضاء على المشتري لما مر أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء عليه، وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته.
قلنا: نعم، البائع صار مقضياً عليه ولكن بالملك المطلق لا بالنتاج، والبائع هنا لا يقيم البينة على الملك المطلق، وإنما يقيم البينة على النتاج، والمقضي عليه بجهة إنما لا يقبل بينته في الجهة التي صار مقضياً عليه، لا في جهة أخرى، ألا ترى أن من ادعى دابة(8/260)
في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وصاحب اليد يدعي النتاج، فلم يجد بينة على النتاج، حتى قضى القاضي بالدابة للمستحق، ثم وجد صاحب اليد بينة على النتاج، وأقامها قبل بينته وقضى بالدابة له، وإن صار ذو اليد مقضياً عليه؛ لأنه صار مقضياً عليه بالملك لا بالنتاج، فقبلت بينته على النتاج لهذا.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط حضرة المستحق لقبول هذه البينة من البائع.
وبعض مشايخنا أبو ذلك، وقالوا: ينبغي أن لا يشترط حضرة المستحق، وهكذا حكى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله نوعان وهذا لأن هذه البينة من البائع لدفع استحقاق المشتري الثمن عن نفسه، وهذا معنى يخص المشتري، فلا حاجة إلى إشراط حضرة المستحق، وبعض مشايخنا قالوا: لا بل حضرة المستحق شرط، كما أشار محمد رحمه الله؛ لأن هذه البينة تتعدى إلى المستحق، فإن هذه البينة متى قبلت بأخذ المشتري العبد من المستحق، فلا بد من حضرته وقيل على قياس قول محمد وأبي يوسف الآخر: حضرة المستحق شرط، وعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول رحمهما الله: لا يشترط حضرته، وهذا القول أشبه وأظهر.
ووجه ذلك أن قضاء القاضي بالعبد للمستحق في هذه الصورة نفذ ظاهراً لا باطناً، وانفسخ العقد ظاهراً لا باطناً، فكان للمشتري أن يأخذ العبد من المستحق، فهذه البينة تتعدى إلى المستحق، فيشترط حضرته، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول فقضاء القاضي نفذ ظاهراً وباطناً وانفسخ العقد ظاهراً وباطناً، فلا يتمكن المشتري من أخذ العبد من المستحق، فهذه البينة لا تتعدى إلى المستحق، فلا يشترط حضرته.
قال في الزيادات: وإذا اشترى الرجل من أخر جارية، ولم يقبضها حتى استحقها رجل بالبينة، فالقاضي لا يسمع بينة المستحق، ولا يقضي له بالجارية، ما لم يحضر البائع المشتري، وقد مرت هذه المسألة في الفصل المتقدم.
ولو كان الاستحقاق (111أ4) بعد القبض لا يشترط حضرة البائع، وفي دعوى المستأجر يشترط حضرة الآجر والمستأجر؛ لأن الملك للآجر، واليد للمستأجر، وكذلك في دعوى الرهن يشترط حضرة الراهن والمرتهن؛ لأن الملك للراهن واليد للمرتهن، وإذا أراد الشفيع الأخذ بالشفعة، وكان ذلك قبل قبض المشتري المشترى يشترط حضرة البائع والمشتري للقضاء بالشفعة؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع، وإذا استحق المستعار رجل بالبينة يشترط للقضاء له حضرة المعير والمستعير جميعاً.
وفي دعوى الضياع هل يشترط حضرة الزارعين؟ اختلف المشايخ فيه.
بعضهم شرطوا وبعضهم لم يشترطوا، وبعضهم قالوا: إن كان البذر من قبلهم يشترط حضرتهم؛ لأنهم مستأجرون للأراضي، وإن كان البذر من قبل رب الأرض لا يشترط حضرتهم؛ لأنهم أجروا رب الأرض، وكذلك اختلف المشايخ في اشتراط حضرة غلة (داد در) دعوى بقمحها.(8/261)
وإذا ادعى رجل نكاح امرأة ولها زوج ظاهر يشترط حضرة الزوج الظاهر لسماع الدعوى والبينة، وإذا مات الرجل وترك أشياء يمكن نقلها وعليه دين مستغرق لتركته، وليس له وارث ولا وصي، فالقاضي ينصب له وصياً ليبيع تركته، ولا يشترط إحضار التركة لنصب الوصي، وهل يشترط إحضارها لإثبات التركة؟ فقد قيل: يشترط، وقد قيل: لا يشترط وإذا قامت البينة على إفلاس المحبوس لا يشترط لسماعها حضرة رب الدين، ولكن إن كان رب الدين حاضراً أو وكيله حاضراً، فالقاضي يطلقه بكفيل.
ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل قدم رجلاً إلى القاضي، وقال إني زوجت أمتي هذا على صداق كذا بأمرها وهي بكر، وأنا أريد صداقها، فإن أقر الزوج بالنكاح والمهر ولم يدع الدخول بها، فالقاضي يأمر الزوج أن يدفع المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول. وقال زفر: يشترط حضرتها، وهو قول أبي يوسف آخراً، والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن العادة الظاهرة فيما بين الناس أن الزوج يسلم الصداق أولاً، ويجهز الولي المرأة بذلك، ثم يسلمها مع جهازها إلى الزوج، فصار الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة، فلا معنى لاشتراط إحضارها.
ولو ادعى رجل على صغير شيئاً وله وصي حاضر يريد به الصغير المحجور عليه، لا يشترط حضرة الصغير، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة، ولم يفصل بينما، إذا كان المدعى به ديناً أو عيناً وجب الدين بمباشرة هذا الوصي، أو وجب لا بمباشرته، وذكر الناطفي في «أجناسه» : إذا كان الدين واجباً بمباشرة هذا الوصي لا يشترط إحضار الصغير.
وفي «أدب القاضي» للخصاف: إذا وقع الدعوى على الصبي المحجور إن لم يكن للمدعي بينة لا يكون له حق إحضار الصغير، وإن كان للمدعي بينة، والمدعي يدعى الاستهلاك فله حق إحضاره؛ لأن الصبي مؤاخذ بأفعاله، والشهود يحتاجون إلى الإشارة إليه، فكان له حق إحضاره، ولكن يحضر معه أبوه حتى إذا لزم الصبي شيء يؤدي عنه أبوه من ماله. وفي كتاب «الأقضية» : أن إحضار الصبي في الدعاوى شرط، وبعض المتأخرين من مشايخنا من شرط ذلك، سواء كان الصغير مدعياً أو مدعى عليه، ومنهم من أبى ذلك.
وإذا لم يكن للصبي وصي يطلب المدعي من القاضي أن ينصب عنه وصياً، أجابه القاضي إلى ذلك، ويشترط حضرة الصغير عند نصب الوصي للإشارة إليه هكذا ذكر في «الفتاوى» وفي كتاب «الأقضية» : ومن مشايخ زماننا من أبى ذلك وقال: أو كان الصبي في المهد اشترط إحضار المهد لا شك أن اشتراط بعيد، وقال: ألا ترى أنه لو وقع الدعوى على امرأة مخدرة أو على مريض لا يشترط إحضارهما، والصبي أعذر، والأول أقرب إلى الصواب وأشبه بالفقه؛ لأن المعنى الذي لأجله شرط حضرة البائع إذا كان مدعياً أو مدعى عليه، وهو قطع الشبهة والتهمة بالإشارة، وذلك المعنى موجود في حق(8/262)
الصبي، ولا يبعد إحضار المهد إذا وقعت الحاجة إليه.
وفيما إذا وقع الدعوى على مريض أو امرأة مخدرة، فقد ذكرنا قبل هذا أن القاضي يبعث أميناً من أمنائه مع شاهدين، يشهدان على إقرارهما ونكولهما، فإذا أقرا أو نكلا أمرهما الأمين أن يوكلا وكيلاً، ويكون توكيلهما بمحضر من الأمين بمنزلة توكيلهما بمحضر من القاضي، فتنقطع الشبهة والتهمة على أن ثمة ضرورة، وهو إيفاء الستر على المرأة، وصيانة المريض عن ضرر زائد يلحقه بسبب الحضور بمجلس الحكم، ولا ضرورة في الصبي، حتى لو انعدمت الضرورة ثمة أيضاً بأن كانت بزرة تخالط الرجال، ولا يلحق المريض ضرر زائد بالحضور مجلس الحكم، يشترط إحضارهما أيضاً.
وفي «المأذون الكبير:» العبد المأذون إذا لحقه دين التجارة، وطلب الغرماء من القاضي بيع العبد، فالقاضي لا يبيع العبد إلا بحضرة المولى، فرق بين رقبة العبد وبين كسبه، فإن كسب العبد يباع وإن لم يكن المولى حاضراً، والفرق أن الخصم في رقبة العبد المأذون المولى دون العبد، ألا ترى أنه لو ادعى إنسان حقاً في رقبة العبد كان الخصم هو المولى، فيشترط حضرة المولى أو حضرة نائبه لبيع العبد لهذا، فأما الخصم في كسب العبد هو العبد دون المولى، ألا ترى أنه لو ادعى إنسان في كسبه حقاً كان الخصم في ذلك هو العبد، ولما كان الخصم في أكساب العبد هو العبد يشترط حضرة العبد.
وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على العبد المأذون بغصب اغتصبه أو بوديعة استهلكها أو جحدها، أو شهدوا عليه ببيع أو شراء أو بإجارة، وأنكر العبد ذلك ومولاه غائب قبلت شهادتهما، ولا يشترط حضور المولى؛ لأنهم شهدوا على المأذون بضمان التجارة، لأن ما يجب بالأسباب التي شهد بها الشهود ضمان التجارة، والخصم في ضمان التجارة المأذون.
ولو كان مكان العبد المأذون عبد محجور عليه إذا شهد عليه شاهدان باستهلاك مال أو غصب اغتصبه، وجحد العبد ذلك لا تقبل هذه الشهادة، إلا بحضرة المولى؛ لأن العبد المحجور فيما يدعى عليه من استهلاك المال ليس بخصم، وقول محمد في هذه المسألة: إن الشهادة لا تقبل.
معناه: أنها لا تقبل على المولى، حتى لا يخاطب المولى ببيع العبد، أما تقبل الشهادة على العبد، ويقضي القاضي عليه حتى يؤاخذ به بعد العتق، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المأذون» ، وهذا لأن المدعي ادعى على العبد الاستهلاك ووجوب الدين في ذمته، وادعى على المولى بيع العبد بالدين، فلئن تعذر القضاء على المولى لغيبته أمكن القضاء على العبد، فيقضي القاضي على العبد، حتى إذا عتق يؤاخذ به.
وإن كان المولى حاضراً مع العبد فإن كان المدعي ادعى استهلاك الوديعة أو استهلاك بضاعة على العبد المحجور، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي لا يسمع هذه البينة على المولى؛ لأن المدعي لا يدعى شيئاً على المولى في هذه(8/263)
الصورة، فإن العبد المحجور إذا استهلك وديعة عنده، أو بضاعة عنده لا يجب على المولى شيء، ولكن يؤاخذ به بعد العتق، وعند أبي يوسف رحمه الله تسمع البينة على المولى؛ لأن المدعي يدعي على المولى بيع العبد في الدين، أو قضاء الدين من ماله، ألا ترى أنه لو ثبت ذلك من العبد معاينة يؤاخذ المولى عبده ببيع العبد، وإن شهد الشهود على إقرار العبد بذلك لا يقضي على المولى بهذه البينة، سواء كان حاضراً أو غائباً، ألا ترى أنه لو ثبت إقرار العبد بذلك معاينة لا يؤاخذ المولى بشيء، فكذلك إذا ثبت بالبينة، والصبي الذي أذن له أبوه أو وصي أبيه في التجارة بمنزلة العبد المأذون له في التجارة، إذا شهد الشهود عليه بما هو من ضمان التجارات قبلت شهادتهم عليه، وإن كان الذي أذن له غائباً.
وإذا شهد الشهود على العبد المأذون بقتل عمد أو قذف امرأة أو زنى أو بشرب خمر والعبد ينكر، فإن كان المولى حاضراً قضى بذلك على العبد بلا خلاف، وإن كان العبد حاضراً والمولى غائباً، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي لا يقضي عليه بشيء، لأن المستحق بعض هذه الأشياء دم العبد ومال المولى، وبعضها نفس العبد ومال المولى، فكان الخصم العبد والمولى جميعاً وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يقضي عليه بالحد والقصاص، كما لو أقام البينة عليه بالحد أو القصاص قبل الإذن، وإن كان الشهود شهدوا على إقرار العبد، وإن شهدوا على إقراره بالحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا، وشرب الخمر، لا تقبل هذه الشهادة بالإجماع، لأنهم شهدوا على إقرار مرجوع عنه، وإن شهدوا على إقراره بالقذف أو بالقتل العمد تقبل البينة حال حضرة المولى، ويقضي بالقصاص، وحد القذف وإن كان المولى غائباً فالمسألة على الخلاف، وإن قامت البينة على إقرار العبد؛ لأن إقرار الذي هو سبب لثبوت القصاص على.g
....... ثبت بالبينة فيعتبر كما لو قامت البينة على (111ب4) القتل والقذف، وهناك يشترط حضرة المولى عندهما، خلافاً لأبي يوسف كذا هنا.
ولو شهد الشهود على صبي مأذون له، أو معتوه مأذون له بقتل عمد أو قذف أو شرب خمر أو زنى، ففيما عدا القتل لا تقبل الشهادة، سواء كان الآذن حاضراً أو غائباً، وفيما إذا شهدوا بالقتل إن كان الآذن حاضراً تقبل الشهادة، ويقضى بالدية على العاقلة، وإن كان الآذن غائباً لا تقبل الشهادة؛ لأن القتل غير داخل تحت الآذن؛ لأن الداخل تحت الإذن التجارة والقتل ليس بتجارة، وما لم يدخل تحت الإذن، فالحال فيه بعد الإذن والحال فيه قبله سواء، وقبل الآذن قامت البينة وقضى بالدية على العاقلة، وإن كان غائباً لا تقبل، فكذا بعد الآذن.
وإن شهدوا على إقرار الصبي والمعتوه بعض ما ذكرنا لا تقبل الشهادة، سواء كان الآذن حاضراً أو غائباً، وإن شهدوا على عبد مأذون له بسرقة عشرة دراهم أو أكثر وهو(8/264)
يجحد، فإن كان مولاه حاضراً قطع عندهم جميعاً، وهل يضمن السرقة إن كان استهلكها؟ لا يضمن، وإن كانت قائمة ردها على المسروق منه، وإن كان المولى غائباً لا يقطع العبد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ويضمن السرقة الخصم في القطع المولى والعبد، والخصم في مال العبد، وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي بالقطع؛ لأن الخصم في حق القطع العبد لا غير والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا بسرقة أقل من عشرة دارهم قضى القاضي بالمال، ولا يقضي بالقطع سواء كان المولى حاضراً أو غائباً.
وإن كان الشهود شهدوا على إقرار المأذون بسرقة عشرة دراهم والمولى غائب، فالقاضي يقضي بالمال على العبد، ولا يقضي بالقطع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه بالله: يقضي بالقطع ولو شهدوا على عبد محجور بسرقة عشرة دراهم أو أكثر، فإن كان المولى غائباً، فالقاضي لا يقضي عليه بشيء لا بالقطع ولا بالمال عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله؛ لأن الخصم في حق القطع العبد لا غير، والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا على إقرار العبد المحجور بالسرقة، فالقاضي لا يقبل هذه البينة أصلاً، إن كان المولى غائباً وإن كان حاضراً لا يسمع البينة على المولى حتى لا يقطع العبد، ولا يؤاخذ المولى ببيعه لأجل المال، ولكن يؤاخذ العبد به بعد العتق.
وإذا وهب الرجل لعبد رجل جارية، ثم أراد الدخول فيها، واختصموا إلى القاضي، ومولى العبد غائب فإن كان العبد مأذوناً فالقاضي يقضي له بالرجوع، وإن كان محجوراً لا يقضي له بالرجوع ما لم يحضر المولى.
أما الأول فلأن الواهب يدعي حقاً فيما في يد المأذون من كسبه، ويده يد معتبرة على ما في يده، ولهذا لو باع ما في يده يجوز، فكان رجوع الواهب إبطال يد العبد فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى.
وأما الثاني فلأن يد المحجور على ما في يده ليست بيد معتبرة، ألا ترى أنه لو باع ما في يده لا يجوز، بل يده يد المولى حكماً، فكان رجوع الواهب إبطال يد المولى حكماً، فيشترط حضرة المولى، فإن قال العبد: أنا محجور، وقال الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع يمينه استحساناً؛ لأن الهبة حين وقعت وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا محجور يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى أن يحضر المولى، والتأخير نوع إبطال، فكان القول قول الواهب، وإن أقام العبد البينة أنه محجور لا تقبل بينته، هذا إذا كان المولى غائباً والعبد حاضر، فإن كان المولى حاضراً والعبد غائب، فإن كان الموهوب في يد العبد لم يكن المولى خصماً، لأن الواهب لا يدعي على المولى عيناً في يده، ولا حقاً في عين في يده ولا ديناً في ذمته، والإنسان إنما ينتصب خصماً لغيره، يأخذ هذه الوجوه، وإن كانت الهبة في يد المولى، فهو خصم، لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه؛ لأن الموهوب من العبد ملك المولى إذا لم يكن على العبد دين، ولم يعرف دين هنا.(8/265)
ومن ادعى حقاً في عين في يد إنسان، وذو اليد يدعى أنه ملك له ينتصب خصماً للمدعي وإن قال المولى: أودعني هذه الجارية عبدي فلان، ولا أدري أوهبتها له أم لا، فأقام المدعي بينة على الهبة، فالمولى خصم؛ لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه، فينتصب خصماً لمن يدعي أنه ملكه، والله أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون: في نصب الوصي والقيم وإثبات الوصاية عند القاضي
وإذا ترك الرجل مالاً في البلدة التي فيها، وورثته في بلدة أخرى، فادعى عليه قوم حقوقاً وأموالاً، هل ينصب القاضي عن الميت وصياً ليثبت الغرماء الديون والحقوق على الميت؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أن هذه البلدة إن كانت منقطعة عن تلك البلدة، ولا يذهب الغير من ههنا إلى ثمة، ولا يأتي كتاب، للقاضي أن ينصب وصياً.
وذكر الخصاف في «نفقاته» في باب نفقة المرأة إذا مات الرجل، ولم يوصي إلى أحد، وله أولاد صغار وكبار، فالقاضي ينصب وصياً في ما له.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وللقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في ثلاث مواضع.
أحدها: أن يكون على الميت دين، أو يكون الورثة صغار، أو يكون الميت أوصى بوصايا، فينصب وصياً لينفذ وصاياه، فإنما ينصب الوصي في هذه المواضع، وفيما عداها فلا. وما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لا يخالف ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله؛ لأن المراد مما ذكره شمس الأئمة نصب الوصي لقضاء الدين، والمراد مما ذكر الخصاف ونصب الوصي لإثبات الدين.
وإذا هلك الرجل وترك عروضاً وعقاراً، وعليه ديون وله ورثة كبار، فامتنعت الورثة عن قضاء الدين وعن بيع التركة، وقالوا لرب الدين سلمها التركة إليك وأعلم به فالقاضي هل ينصب وصياً للميت؟ فقد قيل: ينصب، وقد قيل: لا ينصب، ويأمر الورثة بالبيع، فإن أبوا حبسهم حتى يبيعوا، وهذا القائل يقيس هذا على العدل في باب الرهن إذا كان سلطان على البيع وأبى البيع فالقاضي يجبره على البيع بالحبس؛ لأنه امتنع عن إيفاء ما هو مستحق عليه كذا هنا، فإذا حبسه القاضي ولم يبع الآن يبيع بنفسه أو ينصب وصياً للميت ليبيع الوصي إيفاء صاحب الدين بقدر الممكن، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن مات ولم يترك شيئاً، وعليه دين وأراد الغريم إثبات دينه فله ذلك، يقيم البينة على الورثة إن كان له ورثة وكانوا حضوراً، وإن لم يكن له ورثة إذا كانوا غيباً، فالقاضي ينصب له وصياً حتى يثبت الدين عليه، وهذا الجواب يخالف ما ذكره الخصاف رحمه الله في المسألة المتقدمة.
وإذا انصب القاضي وصياً في تركة الأيتام والأيتام في ولايته، ولم تكن التركة في ولايته أو كانت التركة في ولايته، حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه(8/266)
الله إنه قال: يصح النصب على كل حال، ويعتبر التظالم والاستعداء، ويصير الوصي وصياً في جميع التركة، أينما كانت التركة. وقال القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله: ما كان من التركة في ولايته يصير وصياً فيه ومالا فلا، وقيل أيضاً: شرط صحة النصب كون اليتيم في ولايته، ولا يشترط كون التركة في ولايته.
وإذا نصب القاضي متولياً في وقف ولم يكن الوقف والموقوف عليه في ولايته، قال شمس الأئمة هذا إذا وقعت المطالبة في مجلسه صح النصب، وقال ركن الإسلام رحمه الله: لا يصح، وإن كان الموقوف عليهم في ولايته بأن كانوا طلبة العلم أو أهل قرية أو أهل بلدة أو...... معدودين أو كان رباطاً أو مسجداً، ولم تكن الضيعة الموقوفة في ولايته قال شمس الأئمة رحمه الله: تعتبر المرافعة والتظالم، وقال ركن الإسلام: إن كان المقضي عليه حاضراً يجوز عما قدمه تقدموا إلى القاضي، وقالوا: إن فلاناً مات ولم يوص إلى أحد، والحاكم لا يعلم بذلك، فيقول لهم إن كنتم صادقين فقد جعلت هذا وصياً، فإنه يصير وصياً إن كان يعرف هو بالعدالة.
في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل جاء إلى قاض من القضاة، وقال: إن أبي فلانا مات وعليه ديون وترك عروضاً وعقاراً ولم يوص إلى أحد، وأنا لا أستطيع بيع ما ترك لأقضي دينه، لأن أهل الناحية لا يعرفونه، لا بأس للقاضي أن يقول: إن كنت صادقاً فبع المال، واقض الدين، إن كان صادقاً وقع ترفعه، وإن كان كاذباً لا يعمل أمر القاضي، وإذا مات الرجل وقد كان أوصى إلى رجل، أي: جعله وصياً وقبل الوصي الوصاية في حياته أو بعد وفاته، وجاء إلى القاضي يريد إثبات وصايته، فالقاضي ينظر فيه (112أ4) إن كان أهلاً للوصاية تسمع دعواه إذا أحضر مع نفسه من يصلح خصماً، حتى إن المدعي إذا كان عبداً أو صبياً، فالقاضي لا يسمع دعواهما؛ لأنهما ليسا من أهل الوصاية، أما العبد فلأنه مشغول بخدمة المولى، وأما الصبي فلأنه لا يهتدي إلى التجارات، وهل ينفذ تصرفهما اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا ينفذ؛ لأنه لو نفذ تصرفهما: إما أن ترجع العهدة إلى الميت ولا وجه إليه وإنه ظاهر، وإما أن ترجع إليهما، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأنهما ليسا من أهل لزوم العهدة، فإن عتق العبد، فالقاضي يسمع دعواه بعد ذلك، ويقضي بوصايته.
وإن كبر الصبي فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يسمع دعواه وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يسمع، وهنا كلمات كثيرة تأتي في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى، والخصم في ذلك وارث أو موصى له، أو رجل للميت عليه دين، أو رجل له على الميت دين، أما الوارث فلأن الوصي يدعي أن يده فوق يد الوارث في مال الميت رأياً وتدبيراً وتصرفاً، والوارث ينكر ذلك، فيكون خصماً له، وأما الموصى له فلأنه بمنزلة الوارث، وأما الغريم الذي للميت عليه دين فلأنه يدعي حق استيفاء ما عليه من الدين(8/267)
وهو ينكر، وأما الغريم الذي له على الميت دين، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: إنه لا يكون خصماً له، وقال الخصاف: يكون خصماً؛ لأنه يريد أن يدفع خصومته في الدين، وإنما يكون له ذلك بعد إثبات الوصاية. هذه الجملة من كتاب «الأقضية» .
وفي «المنتقى» رواية إبراهيم: رجل مات وعليه دين وأوصى بثلث ماله أو بدراهم مسماة لرجل، وأخذه الموصى له ثم جاء الغريم، والورثة شهوداً وغيب وقدم الموصى له إلى القاضي، فالموصى له لا يكون خصماً له وأشار إلى أن الوصية متى حصلت بقدر الثلث فالموصى له لا يعتبر بالوارث، وإذا حصلت الوصية بما زاد على الثلث وصحت الوصية بأن لم يكن ثمة وارث فالموصى له خصم الغريم في هذه الحالة، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث؛ لأن استحقاق ما زاد على الثلاث من خصائص الوارث، والوارث ينتصب خصماً للغريم، ففي حق الوصي يجب أن يكون الجواب كذلك، وصاحب «الأقضية» ذكر الموصى له مطلقاً من غير فصل، بينما إذا كان موصى له بالثلث أو بالزيادة على الثلاث، فيحتمل أن يكون المراد منه ما إذا كان موصى له بالزيادة على الثلث.
ثم إذا أقام بينة على بعض هؤلاء أن الميت قد أوصى إليه، وأنه قد قبل وصايته، نظر فيه القاضي: فإن كان عدلاً مرضي السيرة مهتدياً في التجارة جعله القاضي وصياً، وقضى بوصايته، وإن عرفه بالفسق والخيانة لا يمضي إيصاءه. وإن عرف منه ضعف رأي وقلة هداية في التصرف يمضي وصايته، ولكن يضم إليه أميناً مهتدياً في التجارة حتى يتظاهر في التجارة، فلا يتلف مال الصبي. وإن لم يظهر منه فسق، ولم يعرف بذلك لكن يتهم به، فالقاضي يسد بمسرف أو يضم إليه وصياً آخر، حتى لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فيظهر النظر لليتيم، ثم إذا أثبت وصايته بالبينة.
وفي كتاب «الوصاية» : إن أقر الميت بالديون، وأوصى بأنواع البر وحضر غريم، وقضى له بحقه، ثم حضر آخر هل يقضى له بتلك البينة؟ قال أبو حنيفة رضي الله: عنه لا يقضى، وقال أبو يوسف: يقضي، ولم يذكر قول محمد في الكتاب، فأما في الوصايا بأنواع البر يكتفي بهذه البينة بالإجماع، وقال أبو يوسف رحمه الله ليس هذا على الوصية بأنواع البر، ووجهه أن ثمة إنما اكتفى بتلك الوصية؛ لأن الوصي انتصب خصماً في إثبات كتاب الوصية، فإذا ثبت ذلك ينتصب جميع ما في «الكتاب» ، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول بأن الغريم الآخر لم يكن حاضراً وقت إثبات كتاب الوصية ولا حضر نائبة، فلا يصح ذلك أما هنا بخلافه.
قال في كتاب «الأقضية» : ولو أن رجلاً حضر عند القاضي وادعى أن أخاه فلان بن فلان مات وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأته فلانة بنت فلان، لا وارث له غيرهم، وأنه أوصى إلي في صحة عقله وجواز أموره في جميع تركته، وأني قبلت منه هذه الوصية، وتوليت القيام بذلك، وأنه كان لأخي هذا على هذا الرجل الذي حضر كذا من الدين،(8/268)
وإن أخي هذا مات قبل قبضه شيئاً من هذا الدين، وإنّ على هذا الذي حضر قضاء هذا الدين إلي لأصرفه إلى ورثته، وإلى امرأته، فالقاضي يسمع دعواه ويسأل الخصم أولاً عن الموت؛ لأنه لا يصير وصياً قبل الموت، فإن أقر بالموت توجهت عليه المطالبة من جهة الوصي؛ لأن حق المطالبة كان ثابتاً للميت، وبالموت يحول إلى الوصي، ثم يسأله عن الدين؛ لأنه إنما يصير خصماً له في إثبات الوصاية لكونه غريم الميت، فإن أقر بالدين حينئذٍ يسأله عن الوصاية، فإن أقر بها أيضاً لا يؤمر بدفع المال إليه حتى يثبت وصايته بالبينة.
وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل ادعى أن فلاناً مات وأنه كان أوصى إليه بقبض دينه الذي له على هذا الرجل، والعين الذي في يديه وصدقه المدعى عليه في جميع ذلك، أمر بتسليم الدين والعين إليه، وفرق بين الوصي والوكيل على ظاهر الرواية، والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت، وأمر المديون والمودع بقضاء الدين وتسليم الوديعة إليه من غير إقرارهما، فلا يكون الأمر بالتسليم في هذه الصورة بحكم إقرارهما ليقال بأن إقراره في حق العين صادف ملك الغير، أما ليس للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، وأمر المودع والمديون بقضاء الدين، وتسليم الوديعة إليه فكان الأمر بالتسليم بحكم إقرار المدعى عليه، وإقراره في حق العين صادف ملك الغير فلهذا افترقا.
وفي «الجامع الكبير» أن على قول محمد رحمه الله أولاً: يؤمر المدعى عليه بتسليم الدين التي أوصى، ولا يؤمر بتسليم العين، فما ذكر في «الأقضية» يوافق قول محمد رحمه الله آخراً على ما ذكر في «الجامع» ، فعلى هذا القول يحتاج إلى الفرق بين الوكالة وبين الوصاية في الدين، والفرق وهو: أن الوصاية لا تثبت إلا بعد موت الوصي، فلو قضينا بإقراره وأمرناه بتسليم الدين إليه، فقد حكمنا بموت الوصي متعدية إلى الميت من عتق أمهات أولاده وغير ذلك، فيؤدي إلى إثبات تلك الأحكام وإقرار رجوع الموكل على المديون إذا حضر وجحد الوكالة، وهذا الحكم غير ثابت، فإن صاحب الدين إذا حضر وجحد الوكالة كان له أن يرجع على المديون، فالعمل بإقراره لا يؤدي إلى إثبات أحكام متعدية إلى الغير، فلهذا افترقا.
ولو كان الغريم أقر بالموت وأنكر الوصاية والمال، كلف المدعي إقامة البينة على الوصاية أولاً؛ لأن دعوى المال إنما تسمع من الخصم، وإنما ينتصب هذا المدعي خصماً بإثبات الوصاية، فإذا ثبت الوصاية بالبينة حينئذٍ يقيم البينة على المال، وكذلك إذا أنكر جميع ذلك كلف الوصي إقامة البينة على الوصاية والموت جميعاً، فينتصب خصماً، فإذا أقامها حينئذٍ يسمع البينة منه على المال ولو أقام البينة أولاً على المال، ثم أقام البينة على الوصاية لا تقبل بينته على المال لما مر، ويؤمر بإعادتها، لأنها قامت من غير خصم؛ لأنه لم يثبت كونه خصماً في تلك الحالة، وإن كان الشهود على الوصاية والموت والمال فريقاً واحداً، فأقام بينة على ذلك كله جملة، قال أبو حنيفة رضى الله: عنه لا(8/269)
تقبل بينته على المال ويؤمر بإعادتها، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقبل بينته عليهما، ولا يؤمر بالإعادة، ولكن إذا آل الأمر إلى القضاء، فالقاضي يقضي بالوصاية أولاً ثم بالمال، هكذا ذكر الخصاف، وفي موضع آخر أن القاضي لا يقبل البينة على المال عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند محمد يقبل، قال: ثمة، وقول أبي يوسف رحمه الله مضطرب على نحو ما ذكرنا في الوصاية.
وإن أقر بالوصاية والموت فأنكر المال ولم يكن للمدعي بينة، وطلب من القاضي أن يحلفه على المال أجابه القاضي إليه، وإن أقر بالمال والموت وأنكر الوصاية، كان للقاضي أن ينصب وصياً، ولو لم ينصب ليس له أن يستحلفه لأنه لم يصر خصماً بعد، وإن أقر بالوصاية والمال، وأنكر الموت هل يستحلف عليه؟ فالجواب فيه: نظير الجواب في الوارث قبل هذا، ولو كان المدعى عليه أقر بالمال وأنكر الوصاية والموت، وأقام المدعي البينة عليهما وقضى القاضي بالوصاية وبالموت بالشرائط التي ذكرنا؛ وأراد أن يكتب بذلك كتاباً يكتب: هذا كتاب أشهد عليه القاضي فلان بن فلان إلى قولك حضر في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا فلان بن فلان، ويثبت (112ب4) معرفته عنده باسمه ونسبه ووجهه وذكر: وحضر معه فلان، أثبت معرفة المدعى عليه بالاسم والنسب؛ لأن المدعى عليه حاضر مشار إليه يلزمه ما أقر به المدعي، هذا الذي حضر أن أخاه فلان بن فلان ينسبه إلى أبيه وجده.
عند أبي حنيفة رضي الله عنه توفي وترك من الورثة أباه فلان وأمه فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة لا وارث غيرهم إنما يذكر الورثة؛ لأن التركة بعد الموت صارت حقاً وملكاً للورثة، فهو يدعي ديناً على غيره لهم، فلا بد من بيان مستحقيه، ثم ذكر فإنه أوصى إليه في صحة عقله وبدنه وجواز أمره، لا بد من ذكر صحة العقل وجواز الأمر، لأن الإيصاء تصرف قولي، والتصرفات القولية لا تتحقق إلا ممن له عقل، ولا يعتبر شرعاً إلا ممن هو جائز الأمر، فأما ذكر صحة البدن غير محتاج إليه؛ لأن الإيصاء يصح في المرض كما يصح في الصحة.
ثم ذكر في جميع تركته وما يخلف بعده من قليل وكثير إنما قال: في جميع تركته احترازاً عن قول محمد، فإن عنده الوصاية لا تقبل التخصيص.
ثم ذكر وقبل وصيته إليه وتولى القيام بذلك؛ لأن الوصاية تمامها بالقبول فلا بد من القبول ليعلم أنها تممت، ثم ذكر وإن لأخيه فلان الميت هذا على فلان بن فلان، هذا الذي أحضره معه كذا درهماً وزن سبعة حالاً إنما يذكر حلول الدين؛ لأنه إنما ينتصب خصماً باعتبار حق المطالبة إياه وذلك إذا كان الدين حالاً، أما إذا كان مؤجلاً لا يثبت له حق المطالبة، فلا تسمع دعواه ولا بينته على الوصاية.
ثم ذكر: وإن البينة على ما ادعى ولم يبدأ الجواب المدعى عليه؛ لأنه وإن أقر بالوصاية فإنها لا تثبت بإقراره على أدائه كتاب «الأقضية» ، وهو قول محمد رحمه الله حتى لا يبرأ عن الدين بالدفع إليه، ولأن الجواب إنما يستحق بعد دعوى الخصم، وإنما(8/270)
يعرف كونه خصماً بإثبات الوصاية.
ثم ذكر وأحضر من الشهود رجلين، فشهدا أن فلان بن فلان أخا فلان بن فلان الوصي حضر وقد عرفاه معرفة قديمة باسمه ونسبه ووجهه إنما ذكرا لمعرفة ليعلم أنهم إنما شهدوا لمعلوم معروف عندهم، فالقضاء بالدين والوصاية نفع للميت، فلا بد من معرفتهم ليمكنهم الشهادة بذلك الاسم والنسب بعد الموت.
ثم ذكر توفي وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلان وابنتين يقال لهما: فلانة وفلانة، وابنين يقال لهما فلان وفلان وامرأة اسمها فلانة بنت فلان ولم يحضروا لا يعرفان له وارثاً غيرهم، فعرف القاضي هذين الشاهدين بالعدالة والرضى فقبل شهادتهما فيما شهدا به، وشهد أحد هذين الشاهدين وشاهد آخر، فشهدوا جميعاً أن فلان ابن فلان أشهدهم في صحة عقله وبدنه وجواز أمره أنه جعل أخاه فلان بن فلان الذي حضر وهو حاضر في مجلس الإشهاد ووصيه بعد وفاته، في جميع ما يخلف، فقيل فلأن الذي حضر وصيته إليه، وإنما ذكر وصيته بعد وفاته، وإن كان ينصرف مطلق لفظ الإيصاء إلى ما بعد الموت، ولكن لو قيده بحال حياته بأن قال: وصيي في حياتي كان توكيلالاً فذكر بعد وفاته ليعلم أنه لم يرد به الوكيل بل أراد به كونه وصياً بعد الموت.
ثم ذكر فعرف هذا القاضي هذين الشاهدين بالعدالة والرضى في الشهادة وإنما قيد الرضى في الشهادة؛ لأنه يجوز أن يكون مرضياً ولا تقبل شهادته لمكان عقلية قال الحسن البصري رحمه الله: من الناس من أرجو شفاعته ولا أقبل شهادته.x
ثم ذكر فسأل القاضي فلان بن فلان يعني المدعى عليه عما ادعى عليه فلان بن فلان لأخيه فلان من الدراهم الموصوفة فيه، أما سؤال المدعى عليه عما ادعى عليه فلان؛ لأنه لما ثبت الوصاية وثبت موت الموصي بهاتين الشهادتين توجهت الخصومة عليه؛ لأنه ظهر أن الدعوى صدرت عن الخصم، فيلزمه الجواب فيسأله عن ذلك، وأما لأخيه لأنه قد ثبت الموت والوصاية وعدة ورثته بهاتين، فلا حاجة إلى السؤال عن ذلك إنما الحاجة إلى السؤال عن الدين الذي يطالب بها المدعى، وإنما يطالب لأجل الميت، فلهذا قال لأخيه فلان بن فلان.
ثم ذكر: فأقر عنده يعني المدعى عليه أن لفلان بن فلان أخي هذا الذي حضر عليه كذا وكذا درهماً وزن سعة نفذ كذا حاله، فيسأل فلان الذي حضر يعني المدعي القاضي إنفاذ القضاء بما ثبت عنده من وفاة أخيه وعدة ورثته ووصيته إليه، وإلزام فلان يعني المدعى عليه، ما أقر به عنده لفلان بن فلان من الدراهم الموصوفة فيه والقضاء بذلك كله عليه ويأمره بدفعها إليه، وإنما خصم وثبت وصايته بالبينة وصار القضاء بالمال مستحقاً عليه إلا أن القاضي إنما يقضي ويلزم المدعى عليه ما أقر به عنده بطلب الخصم، فذكر سؤال المدعي لهذا.
ثم ذكر وأنفذ القاضي فلان بن فلان إلى أخيه فلان في جميع تركته وقبوله هذه الوصاية بما اجتمع عليه الشاهدان اللذان شهدا بذلك عنده في شهادتهم، وهذا لأن شهود(8/271)
الوصاية لما كان غير شهود الوفاة، وعدة الورثة والقضاء بناء على الشهادة بذكر القاضي القضاء بما اجتمع عليه كل فريق على حدة ليعلم أن القضاء واقع بأي شهادة، ثم قال: وذلك بعد أن انتهت إليه عدالته وأمانته وإنه موضع لذلك؛ لأن القاضي لو عرف فسقه أو خيانته لا يقضي بوصايته، فيذكر ذلك ليعلم أن قضاءه وقع في محله.
ثم ذكر وأنه أمره أن يقوم في جميع تركة أخيه فلان بن فلان مقام الوصي فيما يجب في ذلك ثبت عليه، وألزام القاضي فلان بن فلان الذي حضر يعني المدعى عليه ما أقر به عنده لفلان من الدراهم الموصوفة فيه، وقضى بذلك كله عليه، وأمره بدفعها إلى فلان بن فلان الذي حضر وصي أخيه فلان، وهذا لأن المال قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، فيكون الدين للميت، فلهذا أضاف الدين إليه، ولكن إذا آل الأمر إلى الآمر بالدفع، يأمر القاضي بدفعها إلى الوصي لأنه قائم مقام الميت في قبض حقوقه.
ثم يذكر وأنفذ ذلك كله وقضى به على ما سمى، ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان وفلان، وهو يومئذ قاضي عبد الله فلان أمير المؤمنين على مدينة كذا، إنما ذكر ذلك لأن الإشهاد على الحكم إنما يصح من القاضي، والقضاء لا ينفذ إلا من القاضي، فشرط أن يذكر أنه قاض يوم الحكم ليعلم أن القضاء وقع صحيحاً ثم يكتب التاريخ والله أعلم.
وليس للقاضي ولاية نصب الأوصياء، ولا ولاية نصب قيّم الأوقاف إذا لم يكن في منشوره ذلك إذا قال القاضي لرجل جعلتك وكيلاً في تركة فلان فهو وكيل بالحفظ خاصة، إلا أن يكون به ما يدل على الوكالة بأن يقول: تبيع ونشتري فحينئذٍ يكون وكيلاً تاماً، ولو قال جعلتك وصياً في تركة فلان فهو وصي تام، وهذا لأن القاضي بمنزلة المالك ولو قال المالك لرجل أنت وكيل في مالي فهو وكيل بالحفظ، ولو قال أنت وصي في مالي فهو وصي تام له بعد الموت، فكذا إذا قال القاضي ذلك.
القاضي إذا خرج إلى القرية ونصب فيما في أمور الصبي أو في وقف أو في نكاح أيتام، حكى فتوى ظهير الدين رحمه الله أنه يجوز لأنه ليس بقضاء ولا هو من عمل القضاء، فلا يشترط له المصر وإنه مشكل عندنا لأن القاضي إنما يفعل ذلك بولاية القضاء، ألا ترى أنه لو لم يؤذن له في ذلك لا يملك فكان من جملة القضاء والله أعلم.
الفصل الثاني والثلاثون: في القضاء على الغائب والقضاء الذي ينفذ به إلى غير المقضي عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في إقامة البينة
قال: القضاء على الغائب وللغائب لا يجوز إلا إذا كان عنه خصم حاضر، أما قصدي في ذلك بتوكيل الغائب أما هو إما حكمي، وذلك بأن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة أو شرطاً له على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله، وعند عامة المشايخ أن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعى عليه على(8/272)
الحاضر لا محالة، وإليه أشار محمد رحمه الله في الكتب في مواضع، وقد ذكرنا هذا الأصل بتمامه في كتاب النكاح من «الفتاوي» وبعض المتأخرين من مشايخنا وافقوا فخر الإسلام في انتصاب الحاضر خصماً عن الغائب إذا كان المدعي على الغائب شرطاً لثبوت المدعي على الحاضر، وبه كان يفتى شمس الإسلام محمود الأوزجندي.
حكى عنه ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وذكر في طلاق «الجامع الأصغر» رجل قال لامرأته إن طلق فلان امرأته فأنت طالق، ثم إن امرأة الحالف ادعت على الحالف أن فلاناً طلق امرأته وفلان غائب وأقامت البينة لا تقبل بينتها هذه، ولا يحكم بوقوع الطلاق عليها، وقد أفتى بعض المتأخرين بقبول هذه البينة وبوقوع الطلاق.
فإن قيل أليس إنه لو قال لامرأته إن دخل فلان الدار، فأنت طالق ثم إن المرأة أقامت البينة أن فلاناً دخل ليس بقضاء على الغائب إذ ليس فيه إبطال حق على الغائب، بخلاف مسألة «الجامع الأصغر» ، لأن ذلك قضاء على الغائب، لأن فيه إبطال نكاح الغائب والحاصل أن الإنسان إذا أقام البينة على شرط حقه بإثبات فعل على الغائب، فإن لم يكن فيه إبطال حق على الغائب أفتى بعض المتأخرين أنه تقبل البينة، ويقضي على الحاضر والغائب جميعاً والأصح أنه لا تقبل (113أ4) هذه البينة ولا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وبه كان يفتى ظهير الدين المرغيناني، ومسألة «الجامع الأصغر» تدل على صحة هذا القول.
وما يفعله الوكلاء على باب القضاة اليوم من إثبات البيع أو الوقف أو الطلاق على الغائب يجعله شرطاً لوكالة الحاضر، وصورته: أن يقول زيد مثلاً لجعفر: إن كان عمرو مثلاً باع داره أو طلق امرأته أو وقف ضياعه على سبيل كذا فأنت وكيلي في إثبات حقوقي على الناس، والخصومة فيها وقبضها، ثم إن جعفراً يحضر رجلاً لزيد عليه مال ويدعي أن زيداً قد وكله بقبض حقوقه على الناس وإثباتها والخصومة وكالة معلقة بشرط كامن، وهو بيع عمرو ضياعه من فلان أو طلاق عمرو امرأته، وإن عمراً قد كان باع ضياعه أو طلق امرأته قبل توكيل زيد إياي، وقد صرت وكيلاً من زيد بالخصومة في حقوقه وقبضها، وإن لزيد عليك كذا وكذا فيقول المدعى عليه نعم، إن زيداً قد وكلك على الوجه الذي قلت، إلا أني لا أعلم أن هذا الشرط هل كان؟ وهل صرت أنت وكيلاً؟ فيقيم جعفر البينة على بيع عمرو داره أو على طلاق امرأته، فيقضي القاضي بالبيع على عمرو وبوكالة الحاضر، فهذا فتوى بعض المتأخرين.
وذكر في كتاب الحوالة والكفالة: إذا كفل رجل عن رجل بألف درهم وغاب المكفول عنه، فادعى الكفيل على الطالب أن الألف التي كفلت بها دين فلان من ثمن الخمر، وقال الطالب: لا بل كان من ثمن عبد، فالقول قول الطالب. فإن أراد الكفيل أن يقيم بينة على الطالب بذلك لا تقبل بينته، ولا ينصب الطالب خصماً له في ذلك بخلاف ما لو كان المطلوب حاضراً، وأقام البينة على الطالب على أن الألف التي يدعي عليَّ من(8/273)
ثمن خمر، حيث تقبل بينته؛ لأن المطلوب عاقد، فإن المدامة جرت بين الطالب والمطلوب وأحد المتعاقدين إذا ادعى فساد العقد وأقر صاحبه، كان له الإثبات على صاحبه بالبينة، وأما الكفيل أجنبيٌّ عن العقد الذي جرى بين الطالب والمطلوب، والأجنبي إذا ادعى فساد عقد الغير وأراد إثباته بالبينة لا يسمع منه، لأنه ليس يدعي لنفسه حقاً بدعوى هذا الفساد، فأما الكفيل بدعوى الفساد يدعى لنفسه حقاً، وهو براءة نفسه عن ضمان الكفالة، فإنه يقول الألف التي كفلت بها عن الأصيل كان من ثمن خمر وثمن الخمر لا يصير ديناً للمسلم على المسلم، ومتى لم يكن الدين واجباً على الأصيل لا يصح الكفالة، فالكفيل بما يدعى من فساد عقد الغير يدعي براءة نفسه عن الكفالة فكان دعوى الفساد سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من براءته عن ضمان الكفالة.
والأصل: أن من ادعى حقاً على حاضر بسبب على الغائب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب ويقوم إنكار الحاضر مقام إنكار الغائب، كما لو ادعى عيناً في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب وأنكر ذو اليد وأقام البينة على الشراء والملك للغائب، فإنه يقبل بينته وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إثبات الشراء، حتى لو حضر الغائب وأنكر الشراء لا يكلف إقامة البينة؛ لأنه ادعى حقاً على الحاضر، وهو استحقاق يده بسبب ادعاه على الغائب إذا كان ما يدعى من سبب حقه على الغائب دعوى على الغائب، فأما إذا كان ما يدعي من سبب حقه دعوى للغائب من كل وجه، فأما ما كان يدعي من سبب حقه دعوى على الغائب يمكنه الإثبات بإنكار الغائب متى حضر، فأمكنه الإثبات بإنكار الحاضر الذي قام مقامه.
والدليل على الأصل الأول مسألة الشراء، فإن الحاضر انتصب خصماً في دعوى الشراء على الغائب؛ لأن الشراء من الغائب سبب لثبوت حقه على الحاضر، وإنه دعوى على الغائب، لأنه بالشراء يدعي عليه استحقاق، ويمكنه الإثبات على الغائب بإنكاره متى حضر، فكذا بإنكار ذي اليد الذي قام مقامه.
والدليل على الأصل الثاني: ما قالوا فيمن اشترى عبداً من إنسان شراء فاسداً، فجاء البائع يريد أن يسترده من المشتري فقال المشتري أقررت به لفلان الغائب، وانقطع حقك في الاسترداد، وأنكر البائع ذلك فأراد إقامة البينة على إقراره للغائب لم تسمع بينته ولا ينتصب الحاضر * وهو البائع * خصماً عن الغائب، لأن ما يدعى من سبب الحق وهو الإقرار للغائب دعوى للغائب من كل وجه لا عليه بوجه ما، ولهذا لا يمكنه إثبات ما ادعى على الغائب متى حضر وأنكر بالبينة، وإن كان لو ثبت ذلك للغائب كان سبباً لثبوت ما يدعي من الحق على الحاضر وهو انقطاع حقه في الاسترداد.
إذا ثبت هذا فنقول: ما يدعي الكفيل من فساد العقد الذي بين الطالب والمطلوب وإن كان سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من براءته عن ضمان الكفالة، إلا أنه ليس(8/274)
بدعوى على الغائب بل له، فإنه يقر له ببراءته عن اليمين وإنه دعوى له من كل وجه ألا ترى أنه لو حضر المطلوب، وأنكر أن يكون عليه من ثمن خمر، وإنما كان من ثمن عبد لا يمكن للكفيل إثبات ذلك عليه بالبينة، وإذا لم يمكنه إثبات ما ادعى من سبب الحق على الغائب لو حضر وأنكر، فبإنكار الطالب الذي يقوم إنكاره مقام إنكاره أولى، وإذا لم تصح دعوى الكفيل؛ لأن الطالب لم ينتصب خصماً له، فصار دعوى الكفيل فساد العقد، ودعوى أجنبي آخر سواء.
قال في «الأقضية» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل ادعى على رجل ألف درهم لنفسه ولغائب من ثمن عبد أو ثوب باعاه وأقام البينة. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، حتى لو حضر الغائب كلف إعادة البينة، وقال أبو يوسف يقضى بنصيب الحاضر والغائب جميعاً، حتى لا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة إذا حضر قال صاحب «شرح الأقضية» وذكر بعد هذا ما يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة ومحمد في الظاهر، وعلى ما عليه عامة الروايات مع أبي حنيفة، وذكر في «المنتقى» قول محمد مع أبي يوسف قال في «المنتقى» : وإن كان الألف ميراثاً بينه وبين الغائب لا يكلف الغائب إعادة البينة إذا حضر بلا خلاف.
قال في «المنتقى» : والحاصل أن الدين إذا كان مشتركاً بين رجلين لا بجهة الوراثة بل بجهة أخرى، فأحد الشريكين لا ينتصب خصماً عن الآخر عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وإن كان مشتركاً بجهة الإرث ينتصب خصماً، وعند أبي يوسف ينتصب خصماً على كل حال.
قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : ما قال أبو حنيفة قياس، وما قاله أبو يوسف استحسان، ومحمد رحمه الله أخذ بالاستحسان كأبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» : أن الحاضر لا يتمكن من إثبات حقه إلا بإثبات حق الغائب، لأن البينة قامت على إثبات دين مشترك بينه وبين الغائب، ولا يتمكن من إثبات حقه في ذلك الدين إلا بإثبات حق الغائب فيه ليكون الدين مشتركاً، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن البينة إنما تقبل على الخصم من الخصم، وهنا لا خصم في حق نصيب الغائب، لأن الخصم على طريق الأصالة من الغائب لم بوجد وبطريق النيابة كذلك؛ لأنه لم توجد الإنابة من جهته، ولا ينتصب خصماً باعتبار إيصال حقه بحق الغائب؛ لأن حقه يمتاز عن حق الغائب في الجملة، فلم يكن من ضرورة الحكم له الحكم للغائب، فيقتصر القضاء له.
ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» إذا حضر الغائب وصدق الحاضر فيما ادعى كان بالخيار: إن شاء شارك المدعي فيما قبض ثم يتبعان المطلوب، وإن شاء اتبع المطلوب ويأخذ نصيبه منه.
وإن لم يحضر الغائب حتى رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن على قول أبي حنيفة(8/275)
رضي الله عنه: يبطل حق الغائب ولا يقضى له بشيء لأن القضاء لم ينفذ في حق الغائب، ورجوع الشاهد قبل القضاء يمنع القضاء، ولا يعمل هذا الرجوع في حق الحاضر، لأنه بعد تمام القضاء له. ثم يشارك الغائب إذا حضر فيما قبض؛ لأنهما تصادقا على الشركة بينهما، وأحد الشريكين إذا قبض نصيبه من الدين المشترك كان للآخر حق المشاركة معه، ثم إذا شاركه فالحاضر لا يرجع على المطلوب بشيء؛ لأن حق المشاركة إنما ثبت بإقرار الحاضر. وإنه ليس بحجة في حق المطلوب.
قال في «إملاء بشر بن الوليد» : قال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار الشاهدان بحال لا يجوز القضاء بشهادتهما بأن عمي أو خرس قبل قدوم الغائب، ثم قدم (113ب4) الغائب لم يقض له بشيء، وهذا يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة لأنه لو نفذ القضاء له قبل حضرته لم يبطل باعتراض هذه العوارض في الشهود.
وإذا ادعى رجل أني وفلان الغائب اشترينا هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم ونقدنا له الثمن، وأقام البينة على ذلك، فعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يقضي للحاضر بنصف الدار، فإذا قدم الغائب كلف إعادة البينة، وعلى قول أبي يوسف: يقضي بالدار كلها للحاضر والغائب، ويدفع إلى الحاضر نصف الدار ويوضع النصف الباقي على يدي رجل ثقة. قال أبو يوسف ولا أقسمها حتى يحضر الغائب، قال في «المنتقى» : فإن قدم الغائب وجحد الشراء بطل نصيبه من ذلك، وجاز نصيب الحاضر، وهذا بلا خلاف وذكر أصل المسألة في «المنتقى» على الخلاف، وذكر هذه المسألة في «المبسوط» : وقال: يقبل هذه البينة في حق الحاضر، ولا يقبل في حق الغائب، ولم يذكر فيها خلافاً، وذكر الجصاص المسألة على الخلاف على حسب ما ذكرنا، وذكرنا في «المنتقى» على قول أبي يوسف: ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا وصل الثمن إلى البائع، أما إذا لم يصل لا ينزع؛ لأنه لو كان حاضراً، وأراد قبض نصيبه قبل إعطاء الثمن لم يكن له ذلك، فحال غيبته أولى، وبعضهم قالوا: نقد الثمن يحتاج إليه للدفع إلى المشتري، ونحن لا ندفعه إلى المشتري، بل نضعه على يدي العدل، ويد العدل في الحبس نظير يد البائع، كما أن يد العدل في يد الرهن نظير يد المرتهن في الحبس.
قال في كتاب «الأقضية» : وإذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي على هذا الرجل ألف درهم، وقد مات أبي قبل استيفاء شيء منها وترك من الورثة أباً وابناً آخر هو غائب، وأقام البينة وطلب نصيبه منه فالقاضي يقضي بنصيب الحاضر والغائب حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة ولم يحك خلافاً، وذكر في كتاب «المبسوط» أن أحد الورثة إذا أقام البينة على القصاص على رجل يثبت ذلك في حق جميع الورثة، حتى لا يكلف بقية الورثة على إقامة البينة إذا حضروا عند أبي يوسف ومحمد. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يثبت حق الحاضر بهذه البينة، ولا يثبت حق الغائب حتى يكلف الغائب إذا حضر إعادة البينة.
وذكر في دعوى «المبسوط» : دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أن أباه مات وترك(8/276)
هذه الدار ميراثاً له ولأخيه فلان، لا وارث له غيرهما وأخوه غائب، فإن القاضي يقضي بحصة الحاضر وينزع نصيبه من يده ويسلمه إليه، وأما نصيب الغائب، فيترك في يد ذي اليد حتى يحضر الغائب في قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن كان صاحب اليد منكراً كما هو موضوع المسألة حتى احتيج إلى إقامة البينة يخرج نصيب الغائب من يده، ويضعه على يدي عدل. وإن كان مقراً يترك نصيب الغائب في يده، قالا: وهذا استحسان.
فإن ترك نصيب الغائب في يد ذي اليد ثم حضر الغائب، هل يكلف إعادة البينة؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتاب الدعوى، واختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، منهم من قال: يكلفه إعادة البينة كما في مسألة القصاص، ومنهم من قال: لا يكلفه إعادة البينة، وجعل هذه المسألة على الوفاق، وهو الصحيح. وقيل مسألة دعوى الدين بالإرث يحتمل أن تكون على الاختلاف أيضاً كمسألة القصاص، وصاحب «الأقضية» ذكرها مطلقة من غير ذكر خلاف، ولكن هذا ليس بصحيح، فقد حكينا آنفا عن «المنتقى» أنها على الوفاق، فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق (بين مسألة القصاص و) بين الدين الموروث، ويحتاج أيضاً إلى الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث.
أما الفرق بين الدين الموروث وبين القصاص أن في فصل الدين الوارث يثبت الدين لمورثه؛ لأن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت على ما عرف في موضعه، فالدعوى تقع للمورث، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعي للميت أو يدعى عليه، فيثبت بدعواه وبينته جميع الدين للورثة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن الصحيح في مسألة الدار أن الغائب لا يكلف إعادة البينة على قول أبي حنيفة.
فأما في فصل القصاص، فالوارث لا يثبت القصاص للمورث؛ لأن ملك القصاص ملك استيفاء، فيستحيل ثبوته لمن لا يقدر على الاستيفاء، وإنما يثبت القصاص للورثة ابتداء، وأحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يثبت لهم ابتداء.
وأما الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث أن في الدين المشترك بجهة الإرث الوارث يثبت الدين للمورث، وهو خصم عن المورث في جميع ما يثبته له، فأما في الدين المشترك لا بجهة الإرث يثبت الملك لهما ابتداء، وأحد الشريكين ليس بخصم عن الآخر في إثبات ذلك له.
ومن جنس هذه المسائل مسألة الهبة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه وهب له ولفلان هذا وسلمه إليهما، فإن كان الموهوب شيئاً لا يحتمل القسمة صحت هذه الدعوى وقبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقبل بينته في حق الحاضر دون الغائب أيضاً، كما في الشراء، وإن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة بأن كانت داراً لم تصح هذه الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن عنده هبة الدار من رجلين فاسدة، وعندها هبة الدار من رجلين صحيحة، فتصح هذه الدعوى.(8/277)
ومن جنس هذا: مسألة الرهن، وصورتها: رجل (ادعى) أني وفلان الغائب ارتهنا من هذا الرجل الدار التي في يديه بدين لهما عليه، ثم إنه استولى عليها وأقام على ذلك بينة، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا تقبل هذه البينة؛ لأن عنده إنما تقبل البينة في نصيب الحاضر لا غير، وذلك متعذر ههنا؛ لأنه يصير رهن المشاع، ورهن المشاع لا يجوز، ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة فيه على السواء.
ومن هذا الجنس مسألة الوصية: رجل مات وأوصى بوصايا بشيء لأناس مختلفين في كتاب وصيته، فحضر واحد منهم، وقدم بعض الورثة، وأقام البينة على الوصية، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، وعلى قول أبي يوسف: يقضى بجميع الوصية، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة ثانياً.t
ذكر في كتاب «الأقضية» عن أبي يوسف: لو أن رجلاً ادعى على رجلين مالاً في صك، أحدهما حاضر فجحد والآخر غائب، وأقام على ذلك بينة، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: أقضي بالمال على الشاهد والغائب جميعاً، قال الشيخ أبو بكر الرازي الكبير رحمه الله: هذا الجواب على أصل أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن الحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب عنده في جنس هذه المسائل.
قال المصنف: ورأيت في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: أقضي على الحاضر بنصف المال، وقال أبو يوسف: أقضي على الحاضر والغائب بجميع المال، واعلم بأن محمداً رحمه الله ذكر هذه المسائل في «المبسوط» وأجاب في الكل على نمط واحد أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه القضاء على الحاضر وللحاضر يقتصر عليه، وصاحب «الأقضية» ذكر في بعض هذه المسائل أن على قول أبي حنيفة: القضاء على الحاضر، وذكر في بعضها أنه يتعدى القضاء إلى الغائب وتارة ذكر قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة، وتارة ذكر قول محمد مع أبي يوسف بخلاف قول أبي حنيفة فكان عن أبي حنيفة فيه روايتان.
وأما الفرق فلا وجه له، قال: وكذلك عن أبي يوسف روايتان، وأما الفرق فلا وجه له، قال: وكذلك لو كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه، أو كان الحاضر كفيلاً عن الغائب، أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيل عنه، فهذا كله سواء وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، هكذا ذكر في «الأقضية» .
قال الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله: إن كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه بأمره، فالجواب كما ذكر في «الكتاب» ، وينتصب الحاضر عن الغائب؛ لأن المال الذي (114أ4) يدعيه على الكفيل عين ما يثبت على المكفول عنه؛ لأنه يثبت حق الرجوع بذلك، فيكون خصماً عن الغائب في إثبات الدين عليه، ألا ترى أن من ادعى عبداً في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغائب، فإن الحاضر خصم عنه؛ لأن ما يدعيه على الغائب عين ما يدعيه على الحاضر، فكذلك ههنا فتقبل بينته على الحاضر، ويقضى عليه بالألف،(8/278)
النصف عليه بالأصالة، والنصف بما على صاحبه بحكم الكفالة بأمره، ولأن هذه الكفالة ما كانت موجبة حق الرجوع على الغائب.
وأما إذا كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه بغير أمر صاحبه، فالحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب، لأن ما يدعي على الكفيل الحاضر ليس بسبب لما يدعي على الغائب، ألا ترى أنه لا يرجع به على الغائب، فلم ينتصب الحاضر خصماً عنه، وقوله: أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيلٌ عنه فيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون المال على الأصيل دون الكفيل، كما قبل الكفالة، بخلاف ما إذا كان الأصل على الغائب والحاضر كفيل عنه؛ لأنه لا يجوز أن يكون المال على الكفيل دون الأصيل، فكان من ضرورة وجوب المال على الكفيل وجوبه على الأصيل، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله من هذا الجنس مسألة، وصورتها: رجل باع عبداً من رجلين بألف درهم على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، ثم إن البائع لقي أحد الرجلين وأقام عليه البينة أن له على هذا وعلى فلان الغائب ألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بأمره، فإنه يقضي له على الحاضر بألف درهم، فإن حضر الغائب قبل أن يأخذ البائع من الحاضر شيئاً لا يكون للبائع أن يأخذ الذي حضر إلا بالخمسمائة، وهي الأصلية عليه؛ لأن القضاء على كفيله له بها قضاء عليه، والقضاء على المكفول عنه لا يكون قضاء على الكفيل.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم، وبها كفيل بأمر الطالب، والطالب لقي الأصيل قبل أن يلقى الكفيل، وأقام عليه بينة أن لي عليك ألفاً وفلان كفيل بها بأمرك، فإنه يقضى عليه بألف درهم ولا يكون هذا قضاء على الكفيل، حتى لو لقي الكفيل ليس له أن يأخذ منه شيء قبل أن يعيد البينة عليه. قال ابن سماعة رحمه الله: وقد يلزم الذي عليه الأصيل، ولا يلزم الكفيل، ألا ترى أنه إذا أبرأ الكفيل لا يبرأ الكفيل، أمالا يجوز أن يلزم الكفيل بحكم الكفالة، ولا يلزم الأصيل، ألا ترى أنه إذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل، وإذا لم يكن من ضرورة القضاء بالمال على الأصيل وجوبه على الكفيل لا ينتصب الأصيل خصماً عن الكفيل في إثبات الكفالة عنه وإذا كان من ضرورة وجوب المال على الكفيل بحكم الكفالة وجوبه على الأصيل ينتصب الكفيل خصماً عن الأصيل.
ولو ادعى رجل على رجل أنك كفلت لي وفلان الغائب عن رجل بألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه وأقام على ذلك بينة وقضى له عليه بألف درهم ثم حضر الغائب، فله أن يأخذ الغائب بجميع الألف؛ لأنه حين قضى بها على الحاضر قضى بها على أنه كفيل عن المطلوب وعن الكفيل، ألا ترى أني لو لم أجعله كفيلاً عن كل واحد منهما لم يكن له إذا أدى أن يرجع بها كلها على الذي عليه الأصيل.
وفي «نوادر بشربن الوليد» عن أبي يوسف في رجل ادعى شراء دار من نفر هي في أيديهم، وبعضهم حضور وبعضهم غيب، والحاضر مقر للغائب بنصيبه جاحد للبيع، فأقام المدعي بينة على دعواه، فالقاضي لا يقضي إلا على الحاضر في حصته عند أبي حنيفة(8/279)
رضي الله عنه، وهو قول أبي يوسف أيضاً فأبو حنيفة رضي الله عنه مر على أصله، فإن من أصله أن الحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب في مثل هذا، فلا يكون القضاء على الحاضر قضاء على الغائب، ألا ترى أن البائع لو كان واحداً، والمشتري اثنان حاضر وغائب، فالحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب.
وأبو يوسف رحمه الله فرق بينما إذا كان المشتري واحداً، والبائع اثنان، وبينما إذا كان البائع واحداً والمشتري اثنان، فقال فيما إذا كان المشتري واحداً والبائع اثنان: إن القضاء لا يتعدى إلى الغائب، والفرق أن البائع إذا كان اثنين فحق الغائب غير متصل بحق الحاضر؛ لأن الصفقة متفرقة، فلا ينتصب الحاضر خصماً عن ذلك، فأما إذا كان المشتري اثنين فحق الحاضر متصل بحق الغائب، ألا ترى أنه لو خاطب اثنين بالبيع، فقبل أحدهما لم يصح، فجاز أن ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
هذا إذا كان الحاضر مقراً بنصيب الغائب، وإن كان جاحداً نصيب الغائب، فالقاضي يقضي بالدار كلها للمدعي، أما في نصيب الحاضر فلا يشكل، وأما في نصيب الغائب، فلأن ذا اليد انتصب خصماً في نصيب الغائب في إثبات الملك له في نصيبه؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ملكه على الحاضر في نصيب الغائب إلا بإثبات الملك للغائب ثم بإثبات الشراء عليه.
وإذا ادعى هبة أو صدقة أو رهناً من رجلين، وأحد الرجلين حاضر، والدار في يد الحاضر، فأقام بينة على الهبة والقبض، أو على الصدقة والقبض، فإن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا تقبل هذه البينة في فصل الرهن؛ لأن عنده القضاء يقتصر على نصيب الحاضر، ورهن المشاع باطل. فأما في الهبة، فإن كان مما لا يحتمل القسمة قبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب؛ لأن القضاء بنصيب الحاضر ههنا ممكن؛ لأن الشيوع فيه لا يمنع جواز الهبة.
وأما على قول أبي يوسف رحمه الله ففي فصل الرهن: القاضي لا يقبل هذه البينة أصلاً، وفي الهبة والصدقة إن كانت الهبة والصدقة مما لا يقسم يقضي على الحاضر والغائب جميعاً، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف المدعي إعادة البينة عليه، ويقضي عليه بتلك البينة، وإن كانت الهبة والصدقة مما يقسم، فالقاضي يقضي بهبة الملك، ولكن ينفذ في النصف في الحال، وفي النصف الآخر يتوقف حتى يحضر الغائب، فينفذ عليه.
والفرق له بين الرهن والهبة: أن إثبات الملك في الشائع بالهبة ممكن في الجملة، ألا ترى أنه إذا وهب داره من رجلين، وسلم إليهما صح على قولهما، وثبت لكل واحد منهما الملك في النصف بالهبة شائعاً، وإذا أجاز هذا في الجملة جاز القبول في القضاء بالهبة بجميعها ولكنه لا ينفذ على الغائب حتى يحضر فإذا حضر نفذ عليه، فأما الرهن فلا يجوز بيع الشيوع بحال ما فلا يجوز القول بنفاذ القضاء وثبوته في البعض دون البعض، فلهذا يبطل في الكل.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل مالاً، فقضى(8/280)
القاضي له على المدعى عليه ببينة أقامها، ثم غاب المقضي عليه أو مات، وله ورثة وله مال في المصر في يد أقوام وهم مقرون به للمقضي عليه، قال: لا أدفع إلى المدعي من ذلك شيئاً، حتى يحضر هو إن كان غائباً أو ورثته إن كان ميتاً؛ لأن القاضي نصب ناظراً، وليس من النظر في حق الغائب دفع ماله إلى المقضي له، فلعل أنه قضى هذا الدين أو وارثه فوقفنا الأمر لهذا، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، حيث قال: لأني لا أدري لعل الذي قضيت عليه قضاه إياه أو وارثه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: وإذا غاب المدعى عليه أو مات بعد إقامة البينة عليه قبل قضاء القاضي عليه وقد زكيت البينة في السر والعلانية، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة حتى يحضر الغائب أو نائبه أو يحضر وارث الميت، فإذا حضر واحد من هؤلاء، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، ولا يحتاج إلى إعادة البينة للقضاء.
ولو كان المدعى عليه أقر بما ادعاه المدعي ثم غاب، فالقاضي يقضي عليه بإقراره في حال غيبته، بعد هذا ينظر إن كان المقر له عيناً، فالقاضي يأمر من في يديه بالتسليم إذا كان الذي في يديه مقراً أنه ملك المقر، وفي الدين إذا ظفر بجنس حقه يأمره بالأخذ، ولا يبيع في ذلك العروض والعقار، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمه الله، قال محمد رحمه الله: وقال أبو يوسف: لا يقضي القاضي حتى يحضر الغائب في البينة والإقرار جميعاً، ذكر قول أبي يوسف رحمه الله هكذا، والمحفوظ عن قول أبي يوسف رحمه الله المذكور عنه في عامة الكتب غير هذا، فالمذكور عنه في عامة الكتب أنه كان يقول أولاً: إن القاضي (114ب4) لا يقضي في فصل البينة حتى يحضر الغائب، وفي فصل الإقرار يقضي، ثم رجع حين ابتلي بالقضاء وقال: يقضي فيها جميعاً استحسن ذلك حفظاً لأموال الناس وصيانة لحقوقهم.
وجه ما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله في «نوادر ابن سماعة» : أن القضاء احتمل الولاية، ولا ولاية للقاضي على الغائب فلا ينفذ قضاؤه عليه، ألا ترى أنه لو قضى عليه في المصر الذي هو فيه، وإنه ليس بقاضي ذلك المصر لا ينفذ قضاؤه عليه لعدم الولاية، كذا هنا.
وجه ما ذكر من قول أبي يوسف في عامة الكتب: أن القاضي يقضي على الغائب في البينة والإقرار جميعاً إن حضره المدعى عليه، إنما كان شرطاً ليسمع القاضي كلام الخصمين، فيقضي عن علم أو ليعلم إنكاره الذي هو شرط سماع البينة وقد وجد، فلا معنى لتوقيف القضاء.
يوضحه: أن كل مدعى عليه لا يعجز من أن يخفي نفسه متى توجه عليه الحكم، لو لم يجز القضاء حال غيبته تضيع حقوق الناس.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه في الفرق بين الإقرار والبينة: أن للمدعى عليه حق الطعن في الشهود والقضاء عليه حال غيبته لا يبطل عليه حقاً، فلهذا افترقا.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : أمة في يدي رجل يقال له عبد الله، فقال(8/281)
رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له محمد: يا محمد، الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم، وسلمتها إليك، إلا أن عبد الله قد غصبها منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد الله؛ لأن اليد عليها لعبد الله، ويقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما تصادقا على البيع والتسليم وتصادقهما حجة في حقهما، فلو استحق رجل الأمة من يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد، فأراد محمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وقال: الجارية التي اشتريتها منك ورد عليها الاستحقاق لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد.
والأصل: أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، قضاء على ذي اليد، وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته، ولا يكون قضاء على الناس كافة لما يتبين بعد هذا، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، وما لم يصر محمد مقضياً عليه، لا يرجع بالثمن على إبراهيم.
والدليل على أن محمداً لم يصر مقضياً عليه في هذه الصورة: أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها قبلت بينته ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، وكذلك لو أن الذي استحقها على عبد الله استحقها بالنتاج بأن أقام بينة على أنها جاريته، ولدت في ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وإن ظهر بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على عبد الله، ولم يصر محمد مقضياً عليه.
بيانه: وهو دعوى النتاج هنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج ألا ترى أنه لو أقام البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج ونفى دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق لا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، فكذا هنا، قال في «الكتاب» ألا ترى أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم بكذا، وهو يملكها أن يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما قضى له.
فرّع على مسألة الاستشهاد، فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها أمته ولدت في ملكة، قضى بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة النتاج لا تعارضها بينة الملك المطلق؛ لأن بينة النتاج أكثر إثباتاً فيما يرجع إلى إثبات أولوية الملك، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء.
قال: ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن محمداً صار مقضياً عليه في هذه الصورة، والقضاء بالحرية وما ألحق بها قضاء على الناس كافة، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم لا تقبل بينته، ولو لم يثبت عليه(8/282)
بالاستحقاق لقبلت بينته، واستحقاق المشتري على المشترى بسبب سابق على الشراء، يوجب الرجوع على البائع بالثمن.
ثم إنما وقع الفرق بين القضاء بالملك المطلق على ذي اليد وبين القضاء بالحرية وما لحق بها، حتى اقتصر القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، وتعدى القضاء بالحرية وما لحق بها إلى الناس كافة؛ لأن الحرية تعلق بها أحكام متعدية إلى الناس من أهلية الشهادة والقضاء والولاية وغير ذلك، فانتصب ذو اليد خصماً عن الناس كافة، فكان القضاء على ذي اليد قضاء على الناس كافة أما الملك المطلق فلم يتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة، فلم ينتصب ذو اليد خصماً عن الناس كافة.
وكذلك لو أقامت بالبينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها، وقضى القاضي بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك هنا ليست بمقصود، إنما المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى دعوى العتق، ولما كان المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض لما أنه لم يعين وقتاً في الدعوى، فكان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء.
وأما القضاء بالوقفية على ذي اليد، هل يكون قضاء على الناس كافة؟ وصورتها: رجل (ادعى أرضاً) في يدي رجل أنها وقف على جهة كذا وقفها فلان، وأنا متولي أوقافها، وأثبت الوقفية بالبينة وقضى القاضي بها على ذي اليد هل يكون قضاء على الناس كافة؟ حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أنه يكون قضاء على الناس كافة، حتى لو ادعى رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه لا يسمع دعواه وإلحاقه بالقضاء بحرية الأصل. وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أنه لا يكون قضاء على الناس كافة، حتى لو ادعاه رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه ملكاً مطلقاً يسمع دعواه وألحقه بالقضاء بالملك المطلق، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله، وذكر في شهادات «الجامع» : أن في دعوى العين أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت للمدعي في عين في يد ذلك الوارث، لا في عين ليس في يده، حتى إن من ادعى عيناً من التركة وأحضر وارثاً ليس ذلك العين في يد هذا الوارث الذي أحضره، لا تسمع دعواه عليه، وفي دعوى الدين أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وإن لم يصل إليه شيء من التركة.
عبد مأذون ادعى داراً في يدي رجل، واستحقها ببينة أقامها، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار العبد أنه لاحق له في الدار ليبطل بينة العبد وحقه، فإن جاء مولاه بعد ذلك، وقال: عبدي استحق الدار بالبينة ولست أجيز إقراره، لأنه كان محجوراً عليه، فإنه يقال له أعد البينة على المدعى عليه، فإن أعادها (و) استحقها وما لا فلا.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولأخيه فلان، وأخوه منكر دعواه، ويزعم أنه لا شيء له من الدار، فأقام المدعي البينة على دعواه وقضى له بنصف الدار، ثم رجع أخوه إلى تصديقه، لم يقض له بشيء، فإن جاء غريم للميت بعد(8/283)
ذلك، وأثبت دينه بمحضر من الوارث ببينته، وسأل القضاء للميت بالدار، فإن القاضي يستقبل القضاء، فيقضي للميت بالدار كلها بالشهادة الأولى، فتباع الدار ويقضى الغريم حقه من ثمنها، فإن فضل شيء من ثمنها يجعل نصفه للابن المدعي، ويرد الباقي على المقضي عليه بالدار، ولا أجعل للابن المنكر من الفضل شيئاً.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أب هذا الذي في يديه غصبها إياه، وقال الذي في يديه: الدار داري وله أخوة غيب فأقام المدعي بينة على ما ادعى، وقضى له بالدار، ثم حضر إخوة الذي كان الدار في يديه، لا يكلف المقضي له إعادة البينة عليهم، ولكن يقال لهم: أنتم على حجتكم.
إبراهيم عن محمد: رجلان ورثا داراً عن أبيهما، باع أحدهما نصفها من رجل، ثم أقام رجل بينة أنها داره ورثها من أبيه قال: القضاء على المشتري قضاء على البائع، والقضاء على الأخ قضاء على المشتري إلا أن يقول المشتري: لم يرث هذا عن أبيه.
رجل ادعى أن ميتاً غصب منه شيء وأحضر بعض ورثته وأقام عليه (115أ4) البينة بذلك، وبعض هذا الشيء في يد هذا الذي حضر، وبعضه في يد وكيل الغائب، ولو كان ذلك في يد هذا الذي حضر قضيت عليه بذلك كله، ودفعته إلى المدعي، فإن قدم الغائب، فقال: كان هذا في يد أخ لنا من غير الوالد لم يقبل قوله، وهذه المسألة إشارة إلى أن في دعوى العين من التركة أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت إذا كان العين في يديه.
هشام قال سألت محمداً رحمه الله عن قناة في يد قوم كثير، فيهم الشاهد والغائب والصغير والكبير، فأقام رجل البينة على بعضهم أنهم احتفروا هذه القناة في أرضه غصباً، وهم قوم كثير لا يقدر على أن يجمعهم، قال: جعلت لهم وكيلاً وقضيت على وكيلهم.
ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم، وقبض المشتري العبد، ثم أخذ البائع العبد بالثمن، فأقام المشتري بينة أنه قد أحاله بالثمن على فلان بن فلان الفلاني وفلان المحتال عليه غائب فحضر، فإن المال لازم له بالبينة التي قامت على الحوالة والله أعلم.
الفصل الثالث والثلاثون: في المتفرقات
شفعوي المذهب إذا جاء إلى القاضي، وادعى الشفعة بالجوار، فالقاضي هل يقضي له بالشفعة؟ لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيها، قال: بعضهم لا يقضي؛ لأن المدعي يزعم أنه لاحق له فيما يدعي، فيتعامل القاضي معه بزعمه واعتقاده، ومنهم من قال: يقضي؛ لأنه لما طلب الشفعة بالجوار فقد ركن إلى مذهبنا في هذه المسألة، فتقبل دعواه ويقضي له.(8/284)
هذا كما قلنا في أحد الزوجين من أهل الذمة إذا رفع إلى القاضي أنه محرم صاحبه، فالقاضي يفرق بينهما عند أبي يوسف؛ لأنه ركن إلى ديننا، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي يفرق بينهما بلا خلاف، والمعنى ما قلنا، ومنهم من قال: إذا تقدم إلى القاضي، فالقاضي يقول له: هل تعتقد الشفعة بالجوار، (فإن) قال: نعم يقضي له بها، وإن قال لا، أقامه من ذلك الموضع ولم يسمع كلامه قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: هذا أوجه الأقاويل وأحسنها.h
وفي «المنتقى» : قضاة ثلاثة ببغداد كل قاض على موضع معلوم، فادعى رجل على رجل دعوى واختلفا فيمن يتخاصمان إليه منهم، فإن كان منزل المدعي والمدعى عليه في موضع واحد يختصمان إلى القاضي الذي هو في موضعهما، وإن كان منزلهما مختلفاً، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من ذلك الجانب، قال أبو يوسف رحمه الله: ذلك إلى المدعى عليه.
القاضي يقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه، خلافاً لهما، ويقبل البينة على عتق الأمة وطلاق المرأة حسبة من غير الدعوى.
ولا يحلف على عتق العبد حسبة بدون الدعوى بالاتفاق، وهل يحلف على عتق الأمة وطلاق المرأة حسبة بدون الدعوى؟ أشار محمد رحمه الله في آخر كتاب التحري إلى أنه يحلف، فإنه قال: إذا طلق الرجل واحدة من نسائه بعينها ثلاثاً ونسيها، فتبين كلهن إلا واحدة، فالقاضي يمنعه عنها حتى يخبر أنها ليست بمطلقة، فالقاضي يحلفه البتة بالله أنها ليست بمطلقة، ولم يشترط دعواها، وهكذا ذكر في «شرح القدوري» : وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي في مقدمة باب السلسلة أنه لا يحلف، فيتأمل عند الفتوى.
وإذا قضى القاضي بحضرة وكيل الغائب أو بحضرة وصي الميت؛ يقضى على الغائب وعلى الميت، ولا يقضي على الوكيل والوصي ويكتب في السجل أنه قضى على الميت وعلى الغائب ولكن بحضرة وصيه وبحضره وكيله.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : في باب العدوى: إذا أمر القاضي رجلاً بملازمة المدعى عليه، لاستخراج المال، ويسمى بالفارسية موكل فمؤنته على المدعى عليه، كذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وعليه بعض القضاة، وبعض مشايخ زماننا قالوا: هي على المدعي وهو الأصح؛ لأن منفعته تعود إلى المدعي المديون إذا كان له عقار يحبس لبيعه، ويقضى الدين، وإن كان لا يشترى إلا بثمن قليل، كذا ذكره الخصاف في باب الحبس.
وإن امتنع المديون عن البيع بنفسه، فالقاضي هل يبيعه؟ ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» : أن القاضي لا يبيع مال المديون المحبوس لا العروض ولا العقار عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لكن يحبسه ويأمره بالبيع، ويستديم الحبس ليبيع بنفسه، وعندهما يبيع العروض رواية واحدة، وفي بيع العقار روايتان، ذكر الروايتين في شرح كتاب «الأقضية» .(8/285)
وإذا أقر رجل لإنسان بمال ومات المقر، فقال ورثته بعد موته: إن أبانا قد أقر بما أقر كاذباً، فلم يصح إقراره، وأنت أيها المقر له عالم بذلك، وأرادوا تحليفه على ذلك لم يكن لهم أن يحلفوه؛ لأن وقت الإقرار حق الورثة لم يكن متعلقاً بمال المقر، فصح الإقرار وحيث تعلق حقهم لم يتعلق بما صار حقاً للمقر له، فلا يكون لهم ولاية تحليفه.
وإذا حبست المرأة زوجها بدين المهر أو بدين آخر، فقال الزوج للقاضي: احبسها معي في السجن، فإن لي موضعاً في المحبس، فتكون معي، فالقاضي لا يحبسها، ولكنها تصير إلى منزل الزوج، ذكره الخصاف في مطالبة المهر، وقيل: ينبغي للقاضي أن يحبسها؛ لأنها إذا حبست زوجها فلم تحبس هي تذهب حيث تريد، وقيل: القاضي يقول لها: إذا أردت حبس الزوج لو حبست زوجك بحقك (و) لحبستك معه وإلا لا أحبس الزوج، وعلى التقديرين جميعاً يقع الأمن عن ذهابها إلى ما تريد.
وإذا قال المديون: أبيع عبدي هذا وأقضي حقه، ذكر صاحب «شرح مختصر العصام» : في أول مكاتبه أن القاضي لا يحبسه، بل يؤجله يومين أو ثلاثة.
ادعى على آخر مالاً وأنكر المدعى عليه ذلك ثم ادعى عليه ذلك في مجلس آخر أنك استمهلت مني هذا المال، وصرت مقراً بالمال، والمدعى عليه ينكر المال والاستمهال جميعاً، فالقاضي يحلفه على المال أو على الاستمهال، وقد قيل: يحلفه على المال؛ لأنه بالاستمهال يصير مقراً، والإقرار حجة المدعي، والمدعى عليه لا يحلف على حجر المدعي، فإنه لا يحلف بالله ما للمدعي بينة، وألا ترى أنه لو ادعى عليه الاستام أو الإقرار أو ادعى عليه حقاً بسبب الخط، وأنكر المدعى عليه أن يكون هذا خطه، فإنه لا يحلف على ذلك، والمعنى ما ذكرنا.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: رجل قال لآخر: لي عليك ألف درهم، فقال ذلك الرجل: إن حلفت أنها لك علي أديتها، فحلف الرجل فأداها إليه، إن أداها على الشرط الذي شرط كان له أن يرجع فيما دفع إليه.
في «واقعات الناطفي» في كتاب الدعوى: ولو أن السلطان أو الخليفة قلد رجلاً القضاء ورد القاضي ذلك هل له أن يقبل بعد ذلك، لا رواية لهذه المسألة في الكتب. وينبغي أن يكون الجواب على التفصيل: إن قلده مشافهة مواجهة ورد لا يمكنه قبول ذلك الأمر وذلك التقليد بعد ذلك، ولو قلده بطريق المعاينة إن بعث إليه فرده، ثم قبل: كان له ذلك استدلالاً بما ذكر في كتاب النكاح أن امرأة لو كتبت إلى رجل أني زوجت نفسي منك، فلم يقبل الزوج في ذلك المجلس، وقبل في مجلس آخر كان له ذلك؛ لأن الخطاب بالكتاب، والكتاب باق معه، فيكون الخطاب باقياً، فكان له أن يقبل، فكذا في حق المنشور للقاضي، ولو كان بطريق المعاينة ولكن بالرسالة لا بالكتابة فكذلك أيضاً: استدلالاً بالموكَّل والموصى إليه إذا ردّا في غير وجه الموكل والموصي كان لهما أن يقبلا بعد ذلك ما لم يعلم الموكل برده والموصي بالرد؛ لأن الرد من غير علم الموكل والموصي لم يصح، وإذا لم يصح الرد كان حكم التوكيل والإيصاء باقياً، فيعمل قبولهما،(8/286)
فكذا أيضاً ههنا يجب أن يكون كذلك.
رجل أخرج صكاً بإقرار رجل، فقال المقر: قد أقررت لك بهذا المال، إلا أنك رددت إقراري، يحلف المقر له، كمن ادعى البيع على إنسان، فقال البائع: بعته منك إلا أنك أقلتني، فإنه يحلف مدعي الشراء.
التحليف بالطلاق والأيمان المغلظة لم يجوزه أكثر مشايخنا رحمهم الله، وإن بالغ المستفتي في ذلك نفتي بأن الرأي فيه للقاضي.
رجل تزوج امرأة وابنتها في عقدين، وقال: لا يدري أيتهما أولى؛ يحلف لكل واحدة منهما بالله ما تزوجتها قبل صاحبتها، فالقاضي في التحليف يبدأ (115ب4) بأيتهما شاء، فإذا حلّف لأحدهما وحلف ثبت نكاح الأخرى، وإن نكل لزمه نكاح هذه وبطل نكاح الأخرى، وهذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا (يحترف) الاستحلاف في النكاح، فلا يتأتى هذا الفصل على قوله.
المدعى عليه الدار إذا قال: أنا بنيت بناء هذه الدار، والمدعي يعلم بذلك، وطلب يمين المدعي لا يحلف المدعي، لجواز أن يكون المدعى عليه هو الباني، ويكون البناء للمدعي، فإن بنى المدعى عليه بأمر المدعي حتى لو قال المدعى عليه: بنيت الدار لنفسي بغير أمر المدعي يحلف المدعي الحاكم.
المحكم إذا حلف المدعى عليه وحلف ثم ترافعا إلى قاض متولى، فالقاضي المولى لا يحلفه ثانياً.
دار في يد رجل ادعاها رجل أنه غصبها منه، وقال المدعى عليه: هذه الدار كانت لي وقفتها على كذا وكذا، وأراد المدعي تحليفه يحلف عند محمد رحمه الله، خلافاً لهما بناء على أن غصب الدار يتحقق عند محمد رحمه الله، فكان في التحليف فائدة، حتى لو نكل يقضي عليه بالقيمة. ولو أراد أن يحلفه ليأخذ العين لا يأخذ بالاتفاق؛ لأن الدار صارت مستهلكة لصيرورتها وقفاً، والفتوى على قول محمد رحمه الله دفعاً للحيلة، وهذا كرجل في يديه عبد قال: هذا العبد لفلان اغتصبه من فلان، ويصدق في حق نفسه حتى يضمن قيمته للثاني.
رجل في يديه ضيعة يزعم أنها وقف جده، ووقفه على ابنه وأولاد ابنه خاصة فجاء رجل وادعاها، وقال: إن الواقف هذا وقفها على جميع أولاده، وأنا من جملة أولاده وأراد تحليف صاحب اليد لا يحلف، فإن كان في يد صاحب اليد شيء من غلة هذه الضيعة فحينئذٍ يحلف على نصيب المدعي؛ لأنه يدعي ملك ذلك القدر لنفسه، وذو اليد ينكر، فيحلف على ذلك، ولا كذلك الوجه الأول، وهذا الجواب مستقيم على قول من يقول: ليس له حق الخصومة ينبغي أن تكون الدعوى من المتولي حتى يحلف المدعى عليه في الوجه الثاني، والقاضي إذا حلف المدعى عليه على العلم في موضع وجب التحليف على الثبات يبقى للمدعي حق التحليف على الثبات، ولا يحتسب بما حلف.
ولو نكل عن اليمين في هذه الصورة وقضى القاضي عليه بنكوله لا ينفذ قضاؤه،(8/287)
وبمثله لو حلفه القاضي على الثبات في موضع وجب التحليف على العلم يحتسب بما حلف لا أوفى المستحق عليه، وزيادة طلب المدعي يمين المدعى عليه أخرج كراسة حسابك لأنظر فيه، والتمس من القاضي أن يأمره بذلك أجابه القاضي إليه، ولكن لو أبى لا يجبر عليه، وهو نظير ما لو طلب المدعى عليه من القاضي أن يأمر المدعي ببيان السبب.
قاضي العسكر لا ولاية له على غير أهل العسكر، ولا ينفذ قضاؤه على غير أهل العسكر إلا إذا شرط ذلك عند التقليد، وإذا كان الرجل من أهل العسكر وهو يعمل في السوق ويحترف فهو من أهل العسكر.
سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن وقف ضيعة على علماء خواقند، وسلم إلى المتولي، ثم ادعى على المتولي فساد الوقفية بسبب الشيوع بين يدي قاضي خواقند، فحكم بصحة الوقفية على قول من يرى ذلك وقاضي خواقند من علماء خواقند، هل ينفذ قضاؤه؟ قال ينفذ قضاؤه؛ لأنه يصلح شاهداً في هذا، فيصلح قاضياً، وإنما يصلح شاهداً في هذا استدلالاً بما ذكر هلال في «وقفه» إذا وقف الرجل على فقراء جيرانه، ثم شهد بعض فقراء جيرانه على الوقف قبلت شهادتهم؛ لأن الجوار ليس بلا زم.
القاضي لا يملك تزويج الصغار إلا إذا كتب في منشوره ذلك.
إذا مات القاضي قبل استيفاء الرزق من بيت المال يسقط رزقه، ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أول النفقات من «أدب القاضي» .
قاضي كرخ وقاضي حسر إذا ألتقيا وقال أحدهما للآخر: إن فلاناً أقر لفلان بكذا لا يقضي به حتى يبعث إليه الرقعة اتباعاً للسنة في كتاب القاضي إلى القاضي، قالوا: هذا إذا لم يكن كل واحد منهما زمان الإخبار في مكان هو قاض فيه، أما إذا كان كل واحد منهما في مكان هو قاض فيه ينبغي أن يقضي به؛ لأن القول أقوى من الرقعة، والله أعلم.(8/288)
كتاب الشهادات
هذا الكتاب يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً:
1 * في تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك.
2 * في أقسام الشهادة وفي شهادة النساء.
3 * في بيان من تقبل شهادته، ومن لا تقبل.
4 * في الاستماع إلى الشهود وصفة أداء الشهادة.
5 * في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته.
6 * في شهادة الرجل على فعل من أفعال ابنه وشهادته لأبيه أو لأمه
7 * فيما يجوز من الشهادات، وما لا يجوز.
8 * في الشهادات في المواريث.
9 * في الشهادة على الشهادة.
10 * في شهادة الشهود بعضهم لبعض.
11 * في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم.
12 * في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به.
13 * في شهادة الوارث على الوصية والرجوع عنها.
14 * في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها، ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى.
15 * في الشهادة على الوكالة والوصاية.
16 * في شهادة ولد الملاعنة.
17 * في التهاتر بين الشهادات.
18 * في ترجيح أحد البينتين على الأخرى والعمل بالشيئين المتضادين.
19 * في شاهدي الزور.(8/289)
20 * في الدعوى إذا خالف الشهادة.
21 * في الاختلاف الواقع بين الشاهدين.
22 * في التناقض في الدعوى والشهادة.
23 * في الشهادة على النسب.
24 * في المتفرقات.(8/290)
الفصل الأول: في بيان تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك
في «فتاوي أهل سمرقند» ذكر أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد؛ لأن بدونه يخاف تلف المال وفي تلف الأموال تلف الأبدان، وحرام على الآدمي إتلاف البدن، فيفرض عليه الإشهاد الذي هو طريق الصيانة، إلا إذا كان شيئاً حقيراً لا يخاف عليه التلف، وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب، وليس بفرض، وهذا القائل يحمل الأمر المذكور في كتاب الله تعالى نحو قوله: {استشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) ونحو قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2) على الندب.
واختلف المشايخ في أنه هل يصح تحمل الشهادة على المرأة إذا كانت منتقبة؟ بعض مشايخنا وسعوا وقالوا: يصح عند التعريف، وقالوا: تعريف الواحد كاف، كما في المزكي والمترجم، والاثنان أحوط، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام خواهرزاده رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يصح التحمل عليها بدون رؤية وجهها، وبه كان يفتي القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني.
ووجه ذلك: أن العلم شرط جواز الشهادة، قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف: 86) وقال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» العلم لا يحصل إلا بالدليل القطعي، غير أن في كل موضع تعذر الوصول إلى الدليل القطعي يكتفى بالدليل الظاهر، وههنا الوصول إلى العلم وإلى معرفة وجهها ممكن بكشف وجهها، فلا ضرورة إلى إقامة التعريف من الواحد أو المثنى مقامه.
والدليل عليه: أنا أجمعنا على أنه يجوز النظر إلى وجهها للتحمل، والنظر إلى الأجنبية مع ما فيه من خوف الفتنة لا يجوز إلا لضرورة، لو صح تحمل الشهادة عليها بدون رؤية وجهها لتحمل الشهادة، فأما معرفة الاسم والنسب للشهادة حالة الغيبة والعلم بذلك لا يحصل بالمعاينة، فتجوز الشهادة على النسب والاسم بإخبار الغير، ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أخبره عدلان أنها فلانة فذلك يكفي، ألا ترى أنهما لو شهدا عند القاضي كان للقاضي أن يقضي بشهادتهما، والقضاء فوق الشهادة، فلأن يجوز الشهادة بإخبارهما أولى، وعلى قول أبي حنيفة: لا يحل له الشهادة على الاسم ما لم يسمع من جماعة لا يتصور تواطئهم على الكذب؛ لأنا قد ذكرنا أن الشهادة بناء على العلم، ولا يقع العلم إلا بالخبر المتواتر، فأما خبر المثنى ففيه احتمال، والفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله كان يفتى بقولهما في هذه المسألة، وهو اختيار نجم الدين النسفي رحمه الله، وعليه الفتوى.
فإن عرفها باسمها ونسبها عدلان فينبغي للعدلين أن يشهدا على شهادتهما، وهؤلاء(8/291)
الشهود كما هو طريق الإشهاد على الشهادة حتى شهدوا عند القاضي على شهادتهما بالاسم والنسب، وشهدوا بأصل الحق بطريق الأصالة، فيجوز ذلك بلا خلاف.
وفي «الجامع الأصغر» قال أبو بكر الإسكاف رحمه الله: المرأة إذا ضرب وجهها، وقالت: أنا فلانة بنت فلان وقد (116أ4) وهبت زوجي مهري فإن الشهود لا يحتاجون إلى شهادة عدلين أنها فلانة بنت فلان ما دامت حية؛ لأنه يمكن للشاهدين أن يسرا لها، فإن ماتت حينئذٍ يحتاج الشهود إلى شهادة شاهدين أنها كانت فلانة بنت فلان.
قال نجم الدين النسفي: ويصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لها كان الإشهاد لها أو عليها؛ لأن هذا خبر وليس بشهادة، ولهذا لم يشترط لفظة الشهادة، وفي الخبر الحاجة إلى موثق يوثق به، ومن المشايخ من قال: إذا كان الإشهاد لها لا يصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لهما.
وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: إذا سمع الرجل صوت امرأة من وراء الحجاب، وشهد عنده اثنان أنه فلانة بنت فلان لا يجوز أن يشهد عليها أطلق الجواب إطلاقاً وكان الفقيه أبو الليث رحمه الله يقول: إذا أقرت المرأة من وراء حجاب وشهد عنده اثنان أنها فلانة لا يجوز لمن سمع إقرارها أن يشهد على إقرارها، إلا إذا رأى شخصها يعني حال ما أقرت فحينئذٍ يجوز له أن يشهد على إقرارها بشرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا أراد الرجل أن يعرف المرأة التي تريد أن يشهد لها بوكالة أو بأمر من الأمور ينبغي أن يدخل عليها وعندها جماعة من النساء ممن يوثق بهن ذلك الرجل، فيسألهن: أهذه فلانة بنت فلان؟ فإن قلن نعم يتركها أياماً، ثم نظر إليها بحضرة نسوة أخرى، فيصنع بها مثل ذلك، وكذلك يتردد إليها مراراً شهرين أو ثلاثة، فإذا وقع معرفتها في قلبه بقول نساء ورجال ومن أمكنه شهد عليها بذلك.
وفي «فتاوى النسفي» : إذا شهدا على امرأة سمياها ونسبا وكانت حاضرة وقال القاضي للمشهود: هل تعرفون المدعى عليها؟ فقالوا: لا فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو قالا: تحملنا الشهادة على امرأة اسمها ونسبها كذا، ولكن لا ندري أن هذه المرأة هل هي تلك المرأة بعينها أم لا؟ صحت شهادتهما على المسماة، فكان على المدعي إقامة البينة أن هذه هي التي سموها ونسبوها بخلاف الأول؛ لأن في الأول أقروا بالجهالة، فبطلت شهادتهم، ولا كذلك هذا الوجه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل نصير رحمهما الله عن الشاهد إذا دعي إلى شهادة وهو في الرستاق، إن كان بحال لو حضر مجلس الحكم وشهد يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه يجب عليه الحضور؛ لأنه لا ضرر عليه في الحضور، وإن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه لا يجب عليه الحضور، وإن كان الشاهد شيخاً كبيراً لا يقدر على المشي بالأقدام، وليس عنده ما يركب فكلف المشهود له بدابة يركب ويحضر فلا بأس به، وهذا من إكرام الشهود.
وعن أبي سليمان الجوزجاني: رجل أخرج شهوداً إلى ضيعة قد اشتراها، فاستأجر(8/292)
دواباً لهم، فركبوا وذهبوا لم تقبل شهادتهم، ولو أكلوا طعامهم قبلت شهادتهم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تقبل شهادتهم فيهما جميعاً.
وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أما في الركوب إذا كان للشهود قوة المشي أو قال: يستكرون به الدواب لا تقبل شهادتهم كما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله.
وأما في الطعام، فإن اتخذها الطعام لأجلهم، فأكلوا تقبل شهادتهم، فإن كان الطعام مهيأ عنده، فقدم إليهم فأكلوا تقبل شهادتهم وفيه نظر، فالكبار من الأئمة يباشرون عقود النكاح في ديارنا، ويحضرون الناس للشهادة ويقدمون لهم ماء السكر، وجرت العادة في بعض البلدان أنهم يعطون الشهود السكر واللوز وغير ذلك، ويرون ذلك حسناً. وقال عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» وكذلك جرت العادة أن من أخرج الشاهد إلى الرستاق يعطيه دابته، خصوصاً إذا لم يكن للشاهد دابة، وإذا ذهب به لا يمكنه من الرجوع قبل أن يطعمه ورأوا ذلك فيما بينهم حسناً أيضاً.
سئل خلق عمن له شهادة وقعت الخصومة عند قاض وهو غير عدل، هل يسعه أن يكتم الشهادة حتى يشهد عند قاض عدل، قال: له ذلك، وسئل أبو بكر الإسكاف عمن له شهادة عند عدل، وهو مماطل في أدائها قال: إن كان يحفظ الشهادة على وجهها ولا يضطرب قلبه على شيء من أمر شهادته لا يسعه ذلك، وإن فعل فهو سيئ، وسئل الفقيه أبو بكر أيضاً: عمن امتنع عن ذلك لأن القاضي لا يعرفه، قال: إن علم أن القاضي لا يقبل شهادته أرجو أن يسعه أن لا يشهد.
في كراهية «العيون» : إذا امتنع الشاهد عن الشهادة، فإن كان في الصك جماعة ممن تقبل شهادتهم سواه وأجابوه يسعه أن يمتنع عن الشهادة، وإن لم يكن في الصك جماعة سواه أو كانوا لكن ممن لا يظهر الحق بشهادتهم عند القاضي، أو كان يظهر لكن شهادة هذا الشاهد أسرع قبولاً لم يسعه الامتناع؛ لأنه عسى يضيع حق المشهود له لو امتنع عن الشهادة.
وفي شرح سرقة شيخ الإسلام رحمه الله: أن في حقوق العباد إذا طلب المدعي الشاهد، فشهد له فاجر من غير عذر ظاهر، ثم أدى لا تقبل شهادته، وأشار إلى المعنى، فقال: لما ترك الأداء مع إمكان الأداء فقد احتمل أنه ترك الأداء بعذر بأن نسي أو كان به شغل مانع، واحتمل أنه ترك الأداء؛ لأنه أراد على الأداء أجراً، ولم يسلم له الأجر، فإذا أخذ الأجر بعد ذلك أدى، فتمكن في شهادته نوع تهمة، والتهمة مانعة قبول الشهادة.
وفي أول الوصايا من «أدب القاضي» : لا بأس للإنسان أن يحترز عن قبول الشهادة ويحملها.
وفي العين من كراهة «الواقعات» : رجل طلب منه أن يكتب شهادة أو يشهد على(8/293)
عقد، فأبى ذلك، فإن كان الطالب يجد غيره، فللشاهد أن يمتنع، وإلا فلا يسعه الامتناع عنه، وعلى هذا أمر التعديل إذا سئل عن إنسان فإن كان هناك سواه من يعدله يسعه أن لا يجيب، وإلا لم يسعه أن لا يقول فيه الحق، حتى لا يكون مبطلاً للحق عسى.l
وفي وصايا «الفتاوي» : كتب صك وصيته وقال للشهود: اشهدوا بما فيه، ولم يقرأ عليهم قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يجوز لهم أن يشهدوا حتى يعلموا ما فيه في قول علمائنا المتقدمين، وفي قول نصير رحمه الله: يجوز، وبه كان يأخذ علي بن أحمد رحمه الله.
وفي «أدب القاضي» للخصاف: رجل أشهد على صك أو كتاب وصية، ولم يقرأ عليه، فإن ذلك لا يجوز وفرق على قول أبي يوسف بين هذا وبين كتاب القاضي، فإن على قوله علم الشهود بما في الكتاب والختم، لا على ما فيه، وقد وجد الإشهاد على الكتاب والختم، أما في الصك والوصية الإشهاد يقع على البيع، أو على الحق الذي في الصك.
والإشهاد على ما في الصك بأحد أمور ثلاثة: بأن يقرأ الكتاب على الشهود حتى يكون ذلك إقراراً منه، أو بأن يقرأان الكتاب بين يدي الكاتب، وهو يقول: اشهدوا علي بما فيه، أو بأن يكتب بين يدي الشاهد، والشاهد يعلم ما كتب فيه.
وفي شهادات «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا كتب الرجل على نفسه لحق، وقال لقوم: اشهدوا عليّ بما في هذا الصك جاز لهم أن يشهدوا عليه، وإن كتب غيره وقال هو اشهدوا علي بما فيه، لم يجز حتى يقرأه عليهم، ثم يشهدهم.
وفي «الأقضية» عن أبي يوسف: إذا كتب الصك والوصية قدام الشاهد ودفعه إليه، وأثبت الشاهد شهادته فيه وبقي الصك في يد الشاهد إلى وقت الشهادة حل له أن يشهد على ذلك؛ لأن الصك إذا كان في يد الشاهد يؤمن على التغيير فيه، بخلاف ما إذا كان في يد غير الشاهد.
وفي «المنتقى» : رجل كتب كتاب رسالة إلى رجل، فكتب من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان سلام عليكم، أما بعد: فإنك قد كتبت إليّ تتقاضى بالألف التي كانت لك علي، وقد كنت قضيت منها خمسمائة وبقي لك علي خمسمائة، جاز لمن علمه أن يشهد عليه بذلك، وإن لم يشهده على نفسه بذلك، وهذا بخلاف ما لو أراه كتب على نفسه ذكر حقاً لرجل، ولم يشهده على نفسه لم يكن له أن يشهد عليه؛ لأن الرجل قد يكتب على نفسه كتاباً لحق قبل أن يلزمه المال، ولا يكتب الرسالة بذلك إلا بعد ما لزم المال.
وإذا رأى الرجل خطه على الصك، ولم يتذكر الحادثة ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الرجل يرى اسمه وخطه: أنه لا يجوز له أن يشهد في قول أصحابنا، وذكر هناك أيضاً لو تذكر مجلس الكتابة، وأنه كتب وختم عليه ولم يتذكر أنه شهد على المال لا يشهد أيضاً، وذكر (116ب4) الفقيه أبو الليث والقاضي المنتسب إلى إسبيجاب، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا(8/294)
يحل له أن يشهد ما لم يتذكر الحادثة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يحل، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وهكذا ذكر في «المنتقى» : والمذكور في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: لا ينبغي للشاهد أن يشهد وإن رأى في الصك خطه واسمه إذا لم يذكر الشهادة قال: وكذلك قال أبو حنيفة.
وإذا سمع الرجل إقرار رجل بحق، وطلب صاحب الحق منه أن يشهد له بالحق، جاز له أن يشهد بالحق، وإن لم يعاين سبب الحق، ويكفيه الإقرار، وكذا إذا سمع إقرار إنسان بحق حل له أن يشهد وإن لم يشهد عليه.
وسئل ابن مقاتل عن اثنين يحاسبا بين يدي جماعة، وقالا لهم: لا تشهدوا علينا بما تسمعون بيننا، ثم أقر أحدهما للآخر، قال: ينبغي للشاهد أن يشهد بما سمع من إقراره، وهو قول ابن سيرين قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه نأخذ.
وإذا دخل في البيت وعلم أنه ليس فيه غير الواحد، ثم خرج وقعد على الباب، وعلم أنه ليس للبيت مسلك آخر، فأقر من في البيت حل له أن يشهد على إقراره.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا أشهدت المرأة شهوداً على نفسها لأبيها أو لأختها بمال تريد بذلك إضرار الزوج، أو أشهد الرجل شهوداً على نفسه لبعض الأولاد، ويريد به إضرار باقي الأولاد، والشهود يعلمون ذلك وسعهم أن يقبلوا الشهادة، ويشهدوا بذلك وفيه نظر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا قال: «هذا جور فإنا لا نشهد على الجور» فالصحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يتحمل هذه الشهادة، ولكن إذا تحمل، فله أن يؤدي.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله سئل أبو الهيثم الصفار رحمه الله عن رجل أجر سوق النحاسين مقاطعة من السلطان، وكتب بذلك كتاباً، وأشهد شهوداً، هل يحل للشهود أن يشهدوا بذلك؟ فقال: لو شهدوا حل بهم اللعن؛ لأنهم شهدوا بباطل، ولو شهدوا على إقراره ولكنهم عرفوا السبب، فهم ملعونون أيضاً، ويجب أن يتحروا تحمل هذه الشهادة، وكذا في كل إقرار هو بناء على الحرام، وهذا يؤيد ما ذكرنا في المسألة المتقدمة.
جاء رجل إلى رجلين مع أعوان السلطان، وأقر عندهما أن لفلان علي دين كذا،(8/295)
وفلان من أناس السلطان، ثم طلب منهما الشهادة على إقرار هذا المقر، والمقر يزعم أنه أقر خوفاً من المقر له، فإن على الشاهدين أن يشهدا عن هذا الأمر، وإن وقفا على أمر فيه خوف أو إكراه امتنعا عن الشهادة لأن قوله تأيد بمؤيد وإن لم يع على ذلك يشهدان على إقراره ويخبران القاضي أنه أقر، ومعه عوان السلطان حتى يتأمل القاضي فيه.
رجل أقر بين يدي قوم إقراراً صحيحاً أن لفلان عليه كذا وكذا درهماً، فمضت على ذلك مدة ثم جاء عدلان أو ثلاثة إلى هؤلاء الشهود، وقال: شهدوا لفلان على فلان بالدين، فإنه قضاه كله، فالشهود بالخيار إن شاؤوا امتنعوا عن الشهادة، وإن شاؤوا شهدوا بذلك وأخبروا الحاكم بالقصة ثم لا يقضي القاضي بالمال حتى يتفحص، كذا ذكره في «فتاوي أبي الليث» عن الفقيه أبي جعفر وأبي نصر ابن سلام.
وفي «العيون» عن محمد: إذا شهد عدلان عند شاهد الدين أن صاحبه قد استوفاه، لا يسعه أن لا يشهد بالدين إذا طلب منه صاحبه، ولكن يشهد أيضاً بما أشهده بالشاهدين على شهادتهما بالاستيفاء، أراد به أنه يخبر القاضي بذلك، أما لا يشهد على شهادتهما لأنهما ما أشهداه على شهادتهما.
وفي «الواقعات» عن محمد أنهما يشهدان أنه كان عليه ذلك ولا يشهدان أن له عليه. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله أنهما بالخيار إن شاءا شهدا، وإن شاءا لم يشهدا.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا شهد الرجل على حق لرجل ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه قد قبض حقه، فليس له أن يمتنع عن أداء الشهادة إذا سأله الطالب أن يشهد بحقه؛ لأنه ليس إليه إن سمع من الشهود أن يحكم به، قال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك في النكاح إذا أشهد الرجل على نكاح امرأة ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه طلقها والمرأة تجحد النكاح، فسأله الرجل أن يشهد له بالنكاح لم يكن له أن يمتنع عن الشهادة ولو كان الطالب أخبره بالطلاق أو القبض ثم دعاه إلى تلك الشهادة لم يشهد بها.
وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: إذا شهدت أقبل البيع أو النكاح أو قبل العمد أو الإقرار بشيء من ذلك، ثم شهد عندك عدلان على الزوج أنه طلقها ثلاثاً بحضرتنا، أو أن امرأة واحدة أرضعتهما وهما صغيران في الحول، أو أن المشتري أعتق الجارية أو أن البائع أعتقها قبل أن يبيعها من هذا المشتري، أو أن الميت قد عفى بنفسه قبل أن يموت، وقد أنكرت المرأة أن تكون امرأته وأنكرت الجارية أن تكون أمة المشتري لم يسعك أن تشهد على أصل القود وأشباه ذلك، ألا ترى أنهما لو شهدا عند الزوجة بالطلاق، أو شهدا عند الأمة بالعتق لم يسعهما أن يدعاهما بجامعاهما، فكذا لا يسع للشاهد أن يشهد وإن كان ذلك بحق قبله. وإن كان الشاهد بذلك واحداً عدلاً لم يسع للشاهدين أن يمتنعا عن أداء الشهادة الأولى، ولم يسع الزوجة والأمة منع الزوج والمولى الجماع.
قال: وما أقر به الرجل من مال أو ما أشير به بين يدي رجل لرجل آخر ثم أنكر(8/296)
وطلب المقر له شهادة، وأخبر الشاهد عدلان بأن ذلك الذي أقر به المقر قد صار له ببيع أو هبة، قال: يشهد الشاهد بما كان يعلم من ذلك، ولا يلتفت إلى قول العدلين، وقيل: لو وقع في قلبه أن المخبرين صادقان لا يسعه أن يشهد بما كان يعلم من ذلك.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا شهد عند شاهد الدين عدلان أن الطالب أبرأ المطلوب لا يسعهما أن يمسكا عن الشهادة، إلا أن يكونا سمعا إقرار الطالب بالإبراء والاستيفاء.
وفي «الواقعات» : إذا علم الشاهدان أن الدار للمدعي، فشهد عندهما شاهدان عدلان أن المدعي باع الدار من الذي في يديه، قال محمد رحمه الله يشهدان بما علما، ولا يلتفتان إلى شاهدي البيع ولو شهد عند شاهدي النكاح أو شاهدي شراء العبد عدلان أنه طلقها ثلاثاً، أو بالعتق على البائع لا يشهدان في هاتين الخصلتين، وبعض مشايخ زماننا اختاروا في هذه المسائل كلها أنه إن شهد عند الشاهد بذلك عدلان ووقع في قلبه أنهما صادقان ليس له أن يشهد بما علم من أصل الحق، فإن شهد عنده شاهد واحد أو شاهدان إلا أنه لم يقع في قلبه صدقهما، فله أن يشهد بما علم من أصل الحق.
وإذا تزوج الرجل امرأة بشهادة شاهدين على مهر مسمى، ومضى على ذلك سنون، وولدت الأولاد أو مضى سنون ثم مات الزوج، ثم إنها استشهدت الشهود أن يشهدوا على ذلك المسمى وهم يتذكرون استحسن مشايخنا أنه لا يسعهم أن يشهدوا بعد اعتراض هذه العوارض، من ولادة الأولاد ومضيّ الزمان؛ لاحتمال سقوط كله أو بعضه، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، ثم أفتى كما هو جواب الكتاب أنه يسعهم أن يشهدوا، وعليه الفتوى.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل باع واشترى وهو على حال فساد يستحق أن يحجر عليه، لم ينبغ للرجل إذا دعي للشهادة على مثل هذا أن يشهد؛ لأن من رأي الحاكم أن لا يجر ذلك، قال: قلت: فإن كان الذي يريد أن يشهدني على دفع المال إلى الوارث وهو على حال فساد، يجب أن يحكم الحاكم عليه، قال: وسعك أن تشهد عليه وسعك أن لا تجيب إلى الشهادة على ذلك، فكأنه خيره بين أن يجيب وبين أن لا يجيب.
وفي «المنتقى» : رجل في يديه عبد لا يقر عن نفسه، قال الذي في يديه (117أ4) هو عبدي وسمع ذلك منه رجل، ثم تكلم الغلام، وقال: أنا حر وسع لذلك الرجل أن يشهد أنه عبده وإن لم يكن سمع منه ذلك لم يسعه أن يشهد أنه عبده.
وفيه أيضاً عن محمد: رجل عنده شهادة لرجل، وهو محدود في قذف أو عبد وسعه أن يشهد ويكتم أنه عبد أو محدود في قذف حتى يقضي للشهود له بالألف الذي يدعيه.
إذا أشهد الرجل على ملك دار بعينها إلا أنه لا يعرف الحدود، يجوز أن يسأل الثقات عن حدودها للشهادة، لكن يشهد بالدار على إقراره، ولا يشهد بالحدود على إقراره حتى لا يكون كذباً، بل يفسر الحدود من ذات نفسه. ونحو ذلك: قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» :(8/297)
رجل في يديه شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له، قد ذكرنا قبل هذا إن علم الشاهد بالمشهود به شرط جواز أداء الشهادة، وأقوى الأدلة التي يحصل بها العلم المعاينة فيجب اعتبارها الأداء إذا تعذر فحينئذٍ يعدل عنها، ويعدل إلى دليل آخر دونها والملك في الأشياء المعينة لأشخاص معنيين لا يعرف من طريق الإحاطة، وإنما يعرف بطريق الظاهر بدليله، واليد بلا منازعة دليل الملك بل لا دليل لمعرفة الملك في حق الشاهد سوى اليد؛ لأن أكثر ما في الباب أن يعاين أسباب الملك من الشراء والهبة أو ما أشبه ذلك، إلا أن الشراء والهبة ما يصل الملك إذا كان البائع أو الواهب مالكاً، وإنما يعرف كون الواهب مالكاً بيده بلا منازعة، وإذا كان اليد بلا منازعة دليلاً على الملك، كان للشاهد أن يعتمد عليه، ويشهد بالملك لصاحب اليد اعتباراً للظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة، ثم إن محمداً رحمه الله على رواية «الجامع» جعل اليد فيما سوى العبد والأمة دليل الملك، ولم يجعله في العبد والأمة دليل الملك، ولم يفصل بين الصغير والكبير، وروى ابن سماعة عنه: أنه فرق بينما إذا كان العبد صغيراً لا يعبر عنه نفسه، وبينما إذا كان كبيراً أو صغيراً يعبر عن نفسه، فجعل اليد على الصغير الذي لا يعبر عن نفسه دليل الملك، ولم يجعل اليد على الكبير وعلى الصغير الذي يعبر عن نفسه دليل الملك.
وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن العبد في يد نفسه حتى إذا ادعى أنه حر الأصل قبل قوله فلا يثبت لغيره عليه يدعى الحقيقة، حتى يعتبر لإطلاق الشهادة والاستخدام لا يصلح دليلاً على الملك أيضاً لأن الحر قد يستخدم الحر، وقد يخدمه طوعاً، إلا إذا كان العبد بحال لا يعبر عن نفسه، كما هو رواية ابن سماعة فحينئذٍ يجوز له أن يشهد بالملك؛ لأنه لا يد له على نفسه، فثبت يد المولى عليه حقيقة، وصار كالثياب والبهائم.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه سوى بين العبد والإماء، وبين سائر الأشياء، وجعل اليد في الكل كيد الملك، وهكذا روي عن محمد، وهكذا روى أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر بعض المشايخ في «شرح الجامع الصغير» : فصل العبد والأمة، وقال: إن كان الرائي يعرف أنه رقيق يسع له أن يشهد لذي اليد بالملك؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، بل يكون في يد من هو مستولي عليه من حيث الظاهر، أما إذا لم يعرف أنه رقيق لا يسعه أن يشهد لذي اليد بالملك مجرد اليد؛ لأن الحر قد يخدم الحر طوعاً كأنه عبده، فلا يصح الاستدلال به على الملك.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط في بعض الروايات مع اليد شيئاً آخر، وهو أن يقع في قلب الرائي أن العين لصاحب اليد، فقال: إذا رأيت في يدي رجل ثوباً أو متاعاً، فوقع في قلبك أنه له، ثم رأيته بعد ذلك في يدي غيره وسعك أن تشهد أنه للأول، فإن لم يقع في قلبك أنه له برؤيتك إياه في يده، لم يسعك أن تشهد أنه له، وهكذا روي عن أبي(8/298)
يوسف، وهذا لأن الأصل اعتبار علم اليقين لجواز الشهادة، فلأن بقدر اعتبار علم اليقين أمكن اعتبار علم الفتوى.
وعن هذا قلنا: إذا رأى درة في يد كناس أو حجام، أو رأى كتاباً في يدي جاهل ليس في آبائه من هو أهل لذلك، لا يحل له أن يشهد بالملك له؛ لأن الذي يشير إلى قلب كل أحد أنه كاذب في دعواه، وأبو حنيفة لم يشترط ذلك في رواية، فإنه روي عنه أنه قال: إذا كانت الدار أو العبد أو الثوب في يدي رجل وسعك أن تشهد أن ذلك له ولم يقل: ووقع في قلبه أنه له، وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «شرح الجامع» في آخره: أنه لا يحل له الشهادة بمجرد اليد، وإنما يحل له إذا رآه في يده يتصرف فيه، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار يقول: إن كان الكوز في يده على ممر الزمان، وكانت الشبهة عنها مرتفعة، ولم يكن رأى هناك خصماً يخاصم فيها، فالشهادة جائزة.
وذكر القدوري في «شرحه» عن أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا رأى الرجل في يدي رجل وعلم أنه له يعرفه بالقلب، ويكتب ذلك عنده زماناً، فليشهد له بالملك، قال القدوري رحمه الله: وإنما اعتبر أن يبقى في يده زماناً، فيحصل تصرفه تصرف المالكين، فيغلب على الظن أنه له، وشرط الخصاف شرائط آخر لم يشترط أحد تلك الشرائط، فقال: إنما يشهد على الملك إذا رآه في الدار يرمها ويبني فيها ويسكنها ويؤاجرها ويحدث فيها أشياء لا يضرب أحد على يده في ذلك، ويقال فيما بين الناس: إن هذا ملكه.
وبعض مشايخنا شرطوا شرطاً آخر، وهو أن يدعي ذو اليد الملك لنفسه بأن يقول حال ما رآه في يده: هذا ملكي، فأما إذا لم يعلم منه دعوى الملك حال ما رآه في يده، فإنه لا يشهد له بالملك وإن رآه يتصرف فيه.
وفي «المنتقى» : لم يشترط هذا الشرط في بعض هذه المسائل، وقال في مسألة منها ولم يقل هو لي، وصورة ذلك: إذا رأى ثوباً في يدي رجل، ولم يقل: هو ثوبي، ثم ادعاه رجل وسعه أن يشهد أنه ثوبه، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: لا بد لحل الشهادة من أن يقع في قلب الرائي أنه ملكه، وكان يقول وإن رآه يتصرف فيه والناس يقولون أنه ملكه، إلا أنه وقع في قلب الرائي أنه ملك غيره لا ملكه، وأنه يتصرف بأمر ذلك الغير لا يحل له أن يشهد بالملك وعليه فتوى كثير من مشايخنا.
ثم هذه المسالة على أربعة أوجه.
أحدها: أن يعاين الشاهد المالك والملك، بأن عرف المالك بوجهه واسمه ونسبه، وعرف الملك بحدوده وحقوقه، ورآه في يده يتصرف تصرف الملاك ويقع في قلبه أن له، حل له أن يشهد له بالملك؛ لأن هذه شهادة عن علم وبصيرة، وإن لم يعاين الملك ولا المالك، ولكن سمع من الناس قالوا: لفلان بن فلان في قرية كذا ضيعة، حدها كذا وكذا، لا يحل له أن يشهد له بالملك؛ لأنه مجازف في هذه الشهادة فإن عاين المالك(8/299)
وعرفه معرفة تامة ولكن لم يعاين الملك، بأن سمع من الناس أن لهذا في قرية كذا ضيعة حدودها كذا، وهو لم يعرف تلك الضيعة، ولم يعاين يده عليها، لا يحل له أن يشهد له بالملك، وإن عاين الملك دون المالك بأن عاين ملكاً محدوداً وينسب هذا الملك إلى فلان بن فلان الفلاني وهو لم يعاين فلاناً بوجهه ولا يعرفه بنسبه، فالقياس: أن لا تحل له الشهادة، وفي الاستحسان تحل لأن الملك معلوم والنسبة تثبت بالشهرة والتسامع، فكانت هذه شهادة بمعلوم.
توضيحه: أن صاحب الملك ربما يكون امرأة لا تبرز ولا تخرج، فلو اعتبرنا تصرفها بنفسها لجواز الشهادة بالملك يبطل حقها فاكتفى فيه بالتسامع، فإذا سمع أن هذه الضيعة لفلانة وفي يدها، ووقع في قلبه أن الأمر كما سمع، حل له أن يشهد بالملك لها، هكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» .
وفي «المنتقى» : إذا رأيت رجلاً على حمار يوماً لم أشهد أنه له، ولو رأيته على حمار خمسين يوماً أو أكثر، ووقع في قلبي أنه له شهدت أنه له، ولو وقع في قلبي أنه عارية لم أشهد له قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : إذا رأيت ثوباً أو متاعاً في يدي رجل، ووقع في قلبك أنه له.
ثم رأيته بعد ذلك في يد غيره فشهد عندك شاهد عدل أنه للذي في يديه اليوم، كأن أودعه الأول بمحضر منها لم يسعك أن تشهد أنه للأول، قال: لأن هذا ينبغي أن يقع في قلبك إذا شهد العدلان بما وصفت لك أنه ليس للأول، فلا يسعك أن تشهد أنه للأول، وإن شهد بذلك عندك واحد وسعك أن تشهد أنه للأول ما لم يقع في قلبك أنه صادق، وإذا وقع في قلبك إنه صادق فلا تشهد به للأول؛ لأن الذي وسعك أن تشهد به للأول لكأنه قد زال عن قلبك بهذه الشهادة، فكأنه لم يقع في قلبك قط أنه للأول.
وفي «شرح شهادات الجامع» : أن من عاين دابة تتبع دابة، وترضع منها حل له أن يشهد بالدابة المرتضعة لصاحب الدابة الأخرى وبالنتاج، وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح دعوى الأصل» (117ب4) .
نوع آخر من هذا الفصل
قال محمد رحمه الله: ولا تجوز الشهادة على الأملاك وعلى أسبابها، نحو: البيع والهبة والصدقة بالشهرة والتسامع.
وتجوز الشهادة بالشهرة والتسامع في أربعة أشياء: النسب والنكاح والقضاء والموت، والقياس في هذه الأشياء أيضاً أن لا تحل الشهادة بالتسامع؛ لأن شرط جواز الشهادة علم معاينة، قال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهدوا وإلا فدع» ، فقد شرط لحل الشهادة علم معاينة، ولم توجد، إلا أنا استحسنا وجوزنا الشهادة بالشهرة(8/300)
والتسامع في هذه الأشياء الأربعة للتوارث والتعامل بين الناس، ولأنه يتعذر الوقوف على حقيقتها فاكتفى فيها بالدليل الظاهر، فهو الشهرة والتسامع فإنه اقترن بهذه الأشياء ما يوجب الشهرة والشهرة أقيمت مقام العيان في بعض الصور، كما في باب الأخبار، فإن الأخبار إذا اشتهرت من رسول الله عليه السلام كانت بمنزلة المسموع من النبي عليه السلام، حتى جاز التخصيص والنسخ بها.
ثم الشهرة التي تقوم مقام المعاينة الشهرة في الطرفين، فإن الأصل في هذا الباب أخبار رسول الله عليه السلام وإنما يثبت حد الشهرة بأخبار النبي عليه السلام، بوجود التواتر في الطرفين، أما في الطرف الأول والأوسط أو في طرف الأوسط والآخر، أو في الطرف الأول والآخر وفي هذه الأشياء وجد الاشتهار في طرفين أيضاً، في طرف الوقوع وفي طرف البقاء فتقام الشهرة مقام المعاينة.
جئنا إلى بيان صور هذه المسائل.
فأما النسب فصورته: إذا سمع الرجل من الناس أن فلان بن فلان الفلاني، وسعه أن يشهد بذلك وإن لم يعاين الولادة على فراشه للتوارث والتعامل، فإنا نشهد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابن قحافة، وعمر رضى الله عنه ابن الخطاب، وعثمان رضي الله عنه ابن عفان، وعلي رضي الله عنه ابن أبي طالب، ونحن ما رأينا أبا قحافة ولا الخطاب ولا أبا طالب، وما أدركناهم، وكذلك الغلام منا إذا أدرك فسمع الناس يقولون: فلان بن فلان ولم يدرك هذا الغلام أباه، فإنه يشهد أنه فلان بن فلان ولأن سبب النسب العلوق منه، وإنه لا يمكن الوقوف عليه حقيقة؛ لأنه أمر باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وسبب العلوق وهو الوطء يكون سراً من الناس لا يعرفه إلا الواطئان، والولادة لا يعرفها غير القابلة، فتعذر الوقوف على حقيقته، فلم يكلف الشهود معرفته حقيقة، واكتفى فيه بالدليل الظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالنسب مشتهر وقوعاً وبقاء، وقوعاً بأن الولادة تكون بين جماعة من النسوان غالباً، ثم يهيأ بعد ذلك لأجلها ويتخذ لذلك وليمة، وهو العقيقة.
وأما بقاء: فلأن بمضي الزمان يشتهر نسبه فيما بين الناس، فيقولون هذا ابن فلان، فيقوم مقام المعاينة.
وأما النكاح فصورته: إذا رأى رجلاً يدخل على امرأة وسمع من الناس أن فلانة زوجة فلان يسعه أن يشهد أنها زوجته وإن لم يعاين عقد النكاح للتوارث، وإنا نشهد أن عائشة رضي الله عنها كانت زوجة النبي عليه السلام، وفاطمة رضي الله عنها كانت زوجة علي رضي الله عنه، ولم نعاين نكاحهما ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن جواز النكاح يبنى على المسألة بدليل أن نكاح المرتد لا يجوز، وإنه لأمر في باطنه؛ لأن اعتقاده لا يقف على حقيقته غير الله تعالى، فاعتبر الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة والنفساء بالشهرة والتسامع فيه فالنكاح يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأنه يكون بمحضر من الشهود ويتخذ لذلك وليمة، وأما بقاء: فلأن الناس يرونه يدخل عليها كما(8/301)
يفعل الأزواج، ويقولون فيما بينهم: هذا زوج هذه.
وأما القضاء فصورته: إذا رأى رجلاً قضى لرجل بحق من الحقوق، ويسمع من الناس أنه قاضي هذه البلدة وسعه أن يشهد أن قاضي بلدة كذا قضى لفلان، وإن لم يعاين تقليد الإمام إياه قضاء هذه البلدة للتوارث، فإنا نشهد أن شريحاً كان قاضياً، وعلياً رضى الله عنه كان قاضياً، ولم ندركهما، ولم نعاين تقليدهما، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن صورته قاضياً ينبني على المسألة، فإنه إذا كان مسلماً صلح قاضياً ونفذ قضاؤه بين المسلمين، وإلا فلا في اعتقاده لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فاعتبر الظاهر وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالقضاء يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأن التقليد غالباً يكون بين يدي جماعة، وبعد ذلك يكتب له منشور، ويقرأ على رؤوس الخلائق ويجتمع الناس إليه كل يوم لفصل الخصومات بينهم، وذلك يفيد من العلم مثل ما يفيد العيان، فجازت الشهادة عليه بالشهرة.
أما الموت فصورته: إذا سمع الناس يقولون: إن فلاناً مات، أو رآهم صنعوا به ما يصنع بالموتى، يسعه أن يشهد على موته وإن لم يعاين ذلك للتوارث، فإنا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وتوفي الصحابة ولم ندرك زمانهم ولم نعاين ذلك، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأنك ترى إنساناً عليه زي الموتى وسيماهم وهو حي حقيقة، كالذي أخذته السكينة ونحوه، ونرى آخر في صورة الأحياء وهو ميت حقيقة، كما كان سليمان عليه السلام، مات ومضى عليه زمان طويل، ولا يعلم به أحد من أصحابه، فإذا تعذر الوقوف على حقيقته اكتفينا بالظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالموت يكون بمحضر جماعة من الناس، وبعد ذلك يجتمع الناس للصلاة عليه، ولدفنه وتعزيته، فيكتفى بها لجواز الشهادة عليها بالتسامع، ولأن لهذه الأشياء أحكاماً تبقى بعد القضاء قروناً، فلو لم تجز الشهادة بالتسامع لتغلظت تلك الأحكام.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الموت: إذا أخبرك واحد عدل بالموت وسعك أن تشهد به، وأما في النسب فلا يسعك أن تشهد به حتى يشهد عندك عدلان، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قول أبي حنيفة رحمهم الله هذا على ما يقع في القلب، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يحل له أن يشهد بالنسب حتى يسمع ذلك من العامة، والجواب في النكاح والقضاء نظير الجواب في النسب، وقد فرقوا جميعاً بين الموت وبين الأشياء الثلاثة، فاكتفوا بخبر الواحد في الموت دون الأشياء الثلاثة.
ووجه الفرق: أن الموت قد يتفق في موضع لا يكون ثمة إلا واحد، فلو قلنا إنه لا يسمع الشهادة على الموت بإخباره ضاعت الحقوق المتعلقة بالموت وبطلت بخلاف هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن الغالب فيها أن تكون بين الجماعة، أما النكاح فلأنه لا ينعقد إلا بشهادة الاثنين، وتقليد الإمام القضاء يكون بين الجماعة في الغالب، وكذلك الولادة، فاشتراط العدد فيها لا يؤدي إلى تضييع الحقوق.(8/302)
وكان الفقيه أبو جعفر البلخي رحمه الله: يفرق بين الموت والنسب من حيث أن الموت مما يعاين، فقد أخبر عن عيان، فكان فيه زيادة قوة، فلا يشترط العدد، فأما النسب فلا يتصور فيه المعاينة، فيمكن في خبره نوع شبهة، فلا يكتفي فيه بقول الواحد ومن المشايخ من قال: لا فرق بين الموت والنسب والقضاء والنكاح، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع مسألة الموت أنه أخبره واحد عدل موثوق به، ولم يذكر العدل والموثوق به في الأشياء الثلاثة، ولو كان الواحد المخبر في الأشياء الثلاثة عدلاً موثوقاً به حل له أن يشهد، ومنهم من قال بالفرق والفرق ما ذكرنا.
ثم عند أبي يوسف ومحمد يجوز الشهادة بخبر المثنى في النسب والقضاء والنكاح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر.
وجه قولهما: أن خبر الاثنين للعدل حجة مطلقة لو شهدا به عند القاضي قضى بشهادتهما، فإذا شهدا عنده حل له أداء الشهادة أيضاً؛ لأن جواز الشهادة يبنى على العلم، كما أن جواز القضاء يبنى على العلم، فإذا جاز القضاء بهذا العلم لأن تجوز الشهادة به والقضاء أقوى؛ لأن فيه إلزاماً أول، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن جواز الشهادة يبنى على العلم، وبخبر المثنى لا يحصل العلم لبقاء شبهة الكذب في خبرهما وإن كانا عدلين، وأما بخبر الجماعة التي لا يتصور تواطؤهم على الكذب يحصل العلم، بحيث لا يشك السامع في وجود المخبر به، فإذا أخبره جماعة يحصل له العلم بخبرهم ويقع في قلبه صدقهم، حل له أداء الشهادة وإلا فلا يحل له، ثم في الأشياء الثلاثة إذا ثبت والشهرة والاستفاضة عندهما بخبر عدلين، بشرط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة، كذا ذكره الخصاف وشيخ الإسلام رحمهما الله، وبه أخذ الصدر الشهيد برهان الدين جدي رحمه الله لأنه إخبار بالشهادة يوجب زيادة علم شرعاً لا توجبه لفظة الخبر، ألا ترى أن القاضي لا يقضي ما لم يأت الشاهد بلفظة الشهادة، وفي فصل (118أ4) .
الموت لما ثبتت الشهرة بخبر الواحد بالإجماع لا يشترط فيه لفظية الشهادة، بل يكتفى فيه بمجرد الإخبار، إما لأن لفظ الشهادة من الواحد لا توجب زيادة العلم حتى لا يقضي القاضي بها، أو لأنه لما سقط اعتبار العدد وتأثير العدد في إفادة زيادة العلم أكثر من تأثير لفظة الشهادة، لأن يسقط اعتبار لفظة الشهادة أولى.
وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه يجوز؛ لأن هذا أمر يشتهر، ويتعلق به أحكام مشهورة من النسب والمهر والعدة وثبوت الإحصان، بخلاف الزنا، حيث لا تجوز الشهادة فيها بالتسامع، لأن الزنا فاحشة، والشهادة بالتسامع إنما جازت احتيالاً لإحياء حقوق الناس؛ لأن الذين عاينوا لو ماتوا ومضى عليه قرن بعد قرن لو لم تجز الشهادة بالتسامع أدى إلى إبطال حقوق الناس، والفاحشة لا يحتال لإثباتها.(8/303)
وأما الشهادة على المهر بالشهرة والتسامع فقد ذكر في نكاح «المنتقى» أنه يجوز، وهكذا ذكر في شهادات «المنتقى» وصورة ما ذكر في الشهادات: قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول في قوم خرجوا من ملاك رجل وفي الخارج قوم يشهدوا الملاك، فأخبروهم أنها زوجت على كذا من المهر وسع الخارجين أن يشهدوا بالمهر، ويثبتون الشهادة أن المهر كذا، وكذا ولو قالوا: سمعنا الذين شهدوا الملاك يقولون: المهر كذا وكذا تقبل شهادتهم.
وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على المهر بالشهرة لا تجوز، وأما الشهادة في الأملاك لا تحل بالشهرة والتسامع في قول علمائنا، إلا في فصل واحد ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وقال الشافعي رحمه الله: يحل.
وأجمعوا على أن الشهادة بالشهرة والتسامع في أسباب ملك اليمين لا تحل، كالبيع والهبة والصدقة، وذهب في ذلك أن الشهرة والاستفاضة تتحقق في الأملاك كما تتحقق في الأشياء الأربعة، وإنا قول: غصباً كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دار أبي نعمان ود السامانية، كما في النسب نقول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والشهرة والاستفاضة أقيم مقام العيان، كما في الأشياء الأربعة، بخلاف الأسباب من البيع وغيره، لأنها لا تبقى في نفسها لتشتهر، لأنها كلام قد انقضى ومضى، ووقوعاً قد يشتهر وقد لا يشتهر، فإنه قد يقع بين جماعة وقد لا يقع، فلا تثبت الشهرة والاستفاضة في حق الأسباب، فأما الملك مما يبقى وما بقي اشتهر واستفاض.
وعلماؤنا ذهبوا في ذلك إلى أن الشهرة أقيم مقام العيان فيما يشتهر وقوعاً وبقاء، والاشتهار في الأملاك إن كان يوجد بقاء لا يوجد وقوعاً في الغالب قد يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب، فيثبت حد الشهرة في الأشياء الأربعة، والشهرة أقيمت مقام العيان كما في الأخبار.
وإذا شهد شاهدان أن فلاناً مات، وترك هذه الدار ميراثاً لابنه، وهذا لا يعلم له وارثاً آخر، إلا أنهما لم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان بالملك للميت بالشهرة والتسامع.
بيانه: أن الوراثة خلافة، فما لم يثبت الملك للميت لا يتصور فيه الخلافة للوارث، والشهود إذا لم يدركوا الميت لم يعاينوا سبب الملك في حقه، ولا اليد المتصرفة، فتعين أن تكون الشهادة بالشهرة والتسامع، والشهادة على الملك بالشهرة والتسامع لا تجوز.
وأما الشهادة في الوقف هل تحل بالشهرة والتسامع؟ فلا رواية لهذا، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تحل بالشهرة والتسامع لأنه مما يشتهر وقوعاً في الغالب، وبقاء لا محالة، فصار كالأشياء الأربعة، وبعضهم قالوا: لا تحل، لأنه إن كان يشتهر بقاء(8/304)
لأن ما بقي اشتهر لا يشتهر وقوعاً لا محالة قد يشتهر وقد لا يشتهر، لأن الوقف قربة يتقرب بها إلى الله تعالى والإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها، فيصير بمنزلة الأملاك من هذا الوجه، ومن المشايخ من قال: تجوز الشهادة على أصل الوقف بالتسامع، أما على شرائط الوقف لا، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح، لأن أصله يشتهر، أما شرائطه لا تشتهر، وأما الشهادة بالعتق بالشهرة والتسامع لا تحل عندنا، وعند الشافعي: تحل، لأنه مما يشتهر بقاء عنده يكفي لحل الشهادة، وعندنا لا يكفي، بل نشترط الشهرة بقاء ووقوعاً، والعتق إن كان يشتهر بقاء لا يشتهر وقوعاً لا محالة، لأن العتق قربة، وقد ذكرنا أن الإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها.
فأما الشهادة بالولاء بالشهرة والتسامع لا تحل عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يعاين عتق المولى، وهو قول أبي يوسف الأول، وعلى قوله الآخر: تحل، وقول محمد مضطرب في بعض الروايات مع أبي حنيفة، وفي بعضها مع أبي يوسف، فأبو يوسف ذهب في ذلك إلى أن الولاء بمنزلة النسب، على ما قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» .
والشهادة في الأنساب تحل بالشهرة والتسامع، وكذا فيما له حكم النسب، ألا ترى أنا نقول: نافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس، كما نقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو حنيفة رحمه الله قال: إنما تحل الشهادة بالشهرة والتسامع في النسب، لأنه يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب على ما بيّنا، فأما الولاء، فإن كان يشتهر بقاء، لأن ما بقي يشتهر لا محالة، لا يشتهر وقوعاً لا محالة في الغالب، لأن الولاء يثبت بالعتق، والعتق قد يوقع على سبيل الشهرة، وقد يقع على سبيل الخفية، لأنهما قربة، والإخفاء في القرب التي يتطوع بها أصل، وإذا كان يشتهر بقاء لا وقوعاً كان الولاء بمنزلة الأملاك من هذا الوجه.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الشهادة على العتق مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، كالشهادة على الولاء، قال في كتاب «الأقضية» : وأما الولاء، فلا أشهد به، وإن كان مشهوراً إذا كان بعض الورثة الذين أضافوا إليه الولاء يزعمون أنه رقيق لهم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإن لم يدّعوا رقه شهدت به، لأنهم إذا ادعوا رقه وهو يدعي الولاء، فقد أقر بملك أبيهم، حيث ادعى الولاء بسبب إعتاقه، فيثبت الملك عليه بإقراره، ولم يثبت الإعتاق مع إنكار الورثة، فحاجته بعد ذلك إلى زوال الملك الثابت لهم، ولا تحل الشهادة على ذلك إلا لمعاينة(8/305)
فأما إذا لم يدعوا رقه لم يثبت لهم عليه ملك، ولا حق ملك، فبعد ذلك هو يدعي عليهم الانتساب إلى أبيهم بسبب الولاء وهم ينكرون، فتقبل الشهادة عليهم بالشهرة، كما في النسب.
وإذا شهد شاهدان على موت رجل، فهذا على وجهين: أما إن أطلقا الشهادة إطلاقاً ولم يثبتا شيئاً، أو قالا: لم نعاين موته، وإنما سمعنا من الناس، ففي الوجه الأول: تقبل شهادتهما، ويحمل على سبب يطلق لهما أداء الشهادة، وهو الشهرة أو المعاينة، وفي الوجه الثاني: إن لم يكن موت فلان مشهوراً لا تقبل الشهادة بلا خلاف؛ لأن المطلق الشهرة ولم توجد المعاينة، والشهرة لم تثبت بقولهما: سمعنا من الناس؛ لأن السماع قد يكون على وجه يثبت به الشهرة بأن سمعا من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب أو سمعا من واحد عدل أو جماعة ليسوا بعدول، فلهذا لا تقبل الشهادة.
وإن كان موت فلان مشهوراً ذكر في «الأصل» وفي كتاب «الأقضية» : أنه لا تقبل الشهادة، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وقد قال بعض مشايخنا: لا تقبل شهادته، وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، فإن قالا: نشهد أن فلاناً مات، أخبرنا بذلك من شهد موته ممن يوثق به جازت شهادتهما، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأنهما بينا أنهما شهدا عند وجود ما يطلق لهما أداء الشهادة، فلا يكون قد جاؤوا طمعاً في شهادتهما، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، بعضهم قالوا: لا تجوز هذه الشهادة؛ لأنهما ما أسندا هذه الشهادة إلى دليل يوجب العلم قطعاً، والعلم قطعاً شرط لجواز الشهادة لما تلونا من نص الكتاب، فإن اكتفى بهذا الدليل مع هذه الشبهة لإطلاق أداء الشهادة لا يدل على أنه إذا بين القاضي أن القاضي يكتفي فيه؛ لأن الضرورة تمكنت في حق الشاهد، لا في حق القاضي.
ونظيره: أن من رأى عيناً في يد إنسان يتصرف تصرف الملاك، حل له أن يشهد بالملك لذي اليد، ولو شهد عند القاضي، وقال: إن هذا العين ملكه، لأني رأيته في يده يتصرف فيه تصرف الملاك لا تقبل شهادته لما ذكرنا، كذا هنا.
وقد عثرنا على الرواية أنه تجوز الشهادة، وهي رواية كتاب «الأقضية» وكذلك إذا قالا: دفناه أو شهدنا جنازته، لأنه لا يدفن إلا الميت ولا يوضع على الجنازة إلا الميت، فكانت شهادة بالموت، فتقبل هذه الشهادة، ولا يقال عليه بأن هذه شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل لأنا نقول: المشهود به في الحقيقة الموت، وأنه ليس من فعلهما، فلا يمنع قبول شهادتهما، وههنا مسألة عجيبة لا رواية لها: أنه إذا لم يعاين. (118ب4) الموت إلا واحد، ولو شهد عند القاضي لا يقضي بشهادته وحده، ماذا يصنع؟ قالوا: يخبر بذلك عدلاً مثله، فإذا سمع منه حل له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشاهد، حتى يقضي القاضي بشهادتهما.
وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى، وصنع أهله ما يصنعون على الميت لم يسع أحداً أن يشهد على موته إلا من شهد موته أو سمع ذلك ممن شهد موته؛ لأن مثل هذا(8/306)
الخبر قد يكون كذباً، وعند بعد المسافة يغلب مثل هذا، فلا يعتمد عليه حتى يخبره من يثق به عن معاينته فحينئذٍ يسعه أن يشهد.
وإذا رأى رجلاً وامرأة سكنا في بيت واحد (وينقط) كل واحد منهما على صاحبه، كما يكون من الأزواج وسعه أن يشهد لهما بالنكاح؛ لأن هذا القدر يكفي لتحمل الشهادَةِ بملك اليمين، فإنه إذا رأى شيئاً في يدي أحد يتصرف فيه تصرف الملاك وسعه أن يشهد بملك ذلك الشيء له، فهذا أولى، ألا ترى لو أن رجلاً يسكن مع امرأة في دار، وحدث بينهما أولاد، وخاصمته في النفقة أو طلقها وراجعها، وقضى القاضي بذلك، أو ظاهر منها وكفّر، ثم مات وجحد أولياؤه ميراثها وأنكروا النكاح لم يسع للجيران ومن معهم في الدار أن يشهدوا أنها امرأته وهذا؛ لأن بعد هذا النوع من الاشتهار الذي يسبق إلى قلب كل أحد قيام النكاح بينهما، لو لم تجز الشهادة على النكاح تعطلت الحقوق، وبطل ميراثها، وإنه أمر قبيح.
وإذا قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب إليه، وأقام معه دهراً لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يشهد له رجلان من أهل بلده عدلان أو يكون النسب مشهوراً، وذكر الخصاف هذه المسألة، وشرط لجواز الشهادة شرطين: أحدهما: أن يشتهر الخبر ويعم، الثاني: أن يمكث فيهم سنة، فإنه قال: لا يسعهم أن يشهدوا على نسبه حتى تقع معرفة ذلك في قلوبهم، وذلك بأن يقيم معهم سنة؛ لأن السنة مدة (معتبرة شرعاً) ، ألا ترى أنه قُدِّرَ به أجل العنّين وكثير من الأحكام، فالظاهر أنه لو كان الأمر على خلافه يظهر في هذه المدة، وإن وقع في قلبه معرفة ذلك قبل مضي السنة، لا يجوز له أن يشهد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدر ذلك بستة أشهر.
والصحيح: أنه إذا سمع من أهل بلده من رجلين عدلين حل له أداء الشهادة وإلا فلا، فإذا سمع ذلك ممن سمع من المدعي لا يحل له أن يشهد وإن اشتهر ذلك بين الناس؛ لأنه لما لم يحل له الشهادة بالسماع منه، فكيف يجوز بإخبار من سمع منه، لكن إنه شهد عنده جماعة حتى تقع الشهرة حقيقة وعرفاً، ووقع عنده أنه ثابت النسب من فلان، أو شهد عنده عدلان حتى يثبت الاشتهار شرعاً حتى له أن يشهد.
الفصل الثاني: في أقسَام الشهادة وفي شهادة النسَاء
أقل ما يجوز في حقوق الناس فيما بينهم من الطلاق والعتاق والنكاح، وكفالة النفس وكفالة الأموال والإبراء، وقضاء القاضي وكتاب القاضي إلى القاضي، والوكالات والرهون والوصايا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، والقياس في ذلك كله: أن يكتفى(8/307)
بشهادة الواحد إذا كان عدلاً لظهور الصدق في شهادته لعدالته، والصدق واجب القبول، وبانضمام شاهد آخر لا يزداد دليل الصدق في خبر الأول، لكن عرفنا اشتراط العدد بالنصوص، منها قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) وقوله: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 20) وقوله عليه السلام: «ليس لك إلا شاهداك أو يمينه» وتقدير الشرع إما يكون لمنع الزيادة، كأكثر مدة الحيض، أو لمنع النقصان. كأقل مدة الحيض والسفر، وهذا التقدير ليس لمنع الزيادة، فيكون لمنع النقصان، ولأن طمأنينة القلب إلى قول العدد أبلغ منه إلى قول الواحد، فشرط العدد صيانة للحقوق المعصومة، لكثرة ما يكون في الخصومات من التلبيس والتزوير.
وإذا ثبت أن العدد شرط فنقول: الحوادث أقسام ثلاثة، في قسم منها يشترط الأربعة، وهو: الزنا الموجب للحد، عرف ذلك بقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) ولا يشترط ذلك في غيره، وفي قسم منها يشترط رجلين، وهو العقوبات التي تقدر بالشبهات، نحو: القصاص وسائر الحدود ما خلا حد الزنا، حتى لا تثبت هذه الأشياء بشهادة رجل وامرأتين، بدليل ما روي عن الزهري رحمه الله أنه قال: مضت السنّة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود.u
وفي قسم منها يكتفى بشهادة رجل وامرأتين، وهو المال وما كان من توابع المال؛ لأن الله تعالى قال في آية المداينة {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (البقرة: 282) وإذا ثبت هذا الحكم في المال ثبت فيما هو تبع المال ضرورة، والحقوق المجردة كالنكاح والطلاق والعتاق والرجعة من هذا القسم، حتى يكتفى فيه بشهادة رجل وامرأتين، بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء في النكاح» ، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما مثل ذلك، وكذلك ما يتوقف عليه كمال العقوبة، وهو الإحصان من هذا القسم، حتى يثبت الإحصان بشهادة رجل وامرأتين عندنا؛ لأن الإحصان عبارة عن خصال حميدة، بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه، فيثبت بشهادة النساء مع الرجال كسائر الحقوق، ولا تقبل شهادة النساء بانفرادهن فيما يطلع عليه الرجال بالإجماع، وفيما لا يطلع عليه الرجال: تقبل شهادتهن بانفرادهن بالإجماع.
والوجه في ذلك: أن القياس يأبى كون شهادة النساء حجة؛ لأنه تمكن في شهادتهن زيادة تهمة بسبب الغفلة أو النسيان يمكن الاحتراز عنها بالرجال، لكن جعلناها حجة فيما يطلع عليه الرجال إذا قامت مع الرجال بالنَصّ، والنص الوارد يجعل شهادتِهنّ حجة مع(8/308)
الرجال، وقد تمكنت زيادة تهمة في شرط الشهادة لا يكون وارداً بجعلها حجة بانفرادهن، وقد تمكنت التهمة في كل الشهادة، وفيما لا يطلع عليه الرجال جعلنا شهادتهن حجة على الانفراد بالنص، وقد روى مجاهد، وسعيد بن المسّيب، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال النظر إليه» ، أي: فيما لا يحل للرجال النظر إليه، والمعنى فيه: أنه لو لم تجز شهادة النساء بانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال أدى إلى إبطال حقوق تعلقت بهذه الأسباب، والعدد ليس بشرط عندنا في هذا الباب، حتى يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة، وإن كانت امرأتان أو ثلاث فذلك أحب.
وهل يشترط لفظة الشهادة؟ قال مشايخ بلخ، ومشايخ بخارى: يشترط، وقال مشايخ عراق: لا يشترط، وأجمعوا على أنه يشترط الحرية والبلوغ عن عقل والإسلام إن قامت على مسلم، وكذلك يشترط العدالة، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما لم يشترط العدد عندنا لما روينا من حديث مجاهد وسعيد بن المسيب.
ووجه الاستدلال به: أن النساء اسم جنس واسم الجنس يتناول الأدنى مع احتمال الكل، فصار تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة الواحد من النساء فيما لا يطلع عليه الرجال» ، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «أجاز شهادة القابلة على الولادة» .
والمعنى في ذلك: أنه إنما سقط اعتبار الذكورة في هذا الباب مع أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع؛ لأن نظر الجنس أخف، فإذا أمكن تحصيل المقصود بالأخف وهو شهادة النساء سقط اعتبار الأغلظ، وهو الذكورة، ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية والعدالة؛ لأن نظر المملوك وغير العدل ليس أخف من نظر الحر والعدل، وهذا المعنى يقتضي سقوط اعتبار العدد؛ لأن نظر الفرد أخف من نظر العدد، وكذا لم يسقط اعتبار الإسلام؛ لأن نظر الكافر ليس أخف من نظر المسلم.
جئنا إلى اشتراط لفظة الشهادة، وفيه اختلاف المشايخ على ما ذكرنا، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة ليست بشرط: أن هذا خبر وليس بشهادة، ألا ترى أنه لم يشترط فيه العدد، فلم تشترط لفظة الشهادة أيضاً، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة شرط: أن هذه شهادة على الحقيقة، وليست بخبر، ألا ترى أنه تقع ملزمة على الغير كان القياس فيه أن يشترط العدد، كما في سائر الشهادات، لكن تركنا القياس في اشتراط العدد، لحديث مجاهد وسعيد بن المسيب على نحو ما بينا، وأنه يقتضي إسقاط اعتبار العدد، أما لا يقتضي إسقاط اعتبار لفظة الشهادة، بل يقتضي اعتبارها؛ لأن تقدير الحديث شهادة(8/309)
الواحدة من النساء فيما لا يحل للرجال النظر حجة، ولو (119أ4) نص على هذا لسقط اعتبار العدد، ولا يسقط اعتبار لفظة الشهادة، لأن النبي عليه السلام سماها شهادة، لما فيها من لفظة الشهادة، وعبارة بعض المشايخ في هذا: إن هذا أخذ شبهاً من أصلين من الشهادات لمعنى الإلزام ومن الإخبارات، حتى لم يشترط فيه صفة الذكورة، فلشبهها بالشهادات شرطنا لفظة الشهادة والحرية والبلوغ عن عقل، ولشبهها بالإخبارات لم يشترط فيه العدد عملاً بالشبهين بقدر الإمكان.
وإن كان مكان المرأة رجلاً واحداً والحادثة مما يطلع عليها الرجال، لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، فإذا قبلت شهادة المرأة الواحدة في هذا الباب، فشهادة الرجل الواحد أولى، وبعضهم قالوا: لا تقبل؛ لأن القياس أن لا تكون شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال كما في سائر الشهادات، وإنما جعلناها حجة بالنص الذي روينا، والنص الوارد بجعل شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال لا يكون وارداً بجعل شهادة الرجل الواحد حجة؛ لأن في حق الرجل نصّ بخلافه، وهو قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتين} (البقرة: 282) ثم متى تجعل شهادة الرجل الواحد حجة في هذا الباب؟ من المشايخ اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: إنما تقبل شهادته إذا قال: فاجأتها واتفق نظري إليها، أما إذا قال: تعمدت النظر إليها لا تقبل شهادته؛ لأنه يصير فاسقاً بالنظر إليها متعمداً، وقال بعضهم: وإن تعمد النظر إليها تقبل شهادته كما في الزنا، وأما شهادة النساء بانفرادهن على استهلال الصبي، وهو: صياح الولد بعد الانفصال عن الأمّ، أو على تحرك عضو من أعضائه بعد الانفصال عن الأم مقبولة في حق الصلاة عليه بالإجماع؛ لأنه أمر من أمور الدين.
وأما في حق الميراث فقد اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل، ويشترط شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وقال أبو يوسف ومحمد: تقبل شهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلة، فهما يقولان: استهلال الصبي صياحه عند الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، وفيما لا يطلع عليه الرجال شهادة المرأة الواحدة حجة، ألا ترى أنه تقبل شهادتها في حق الصلاة عليه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الاستهلال صوت مسموع، وفي السماع الرجال يشاركون النساء بانفرادهن ليست بحجة.
وإن وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كشهادة النساء على الجراحات في حمامات النساء، وأما شهادتهن على تحرك الولد قبل الانفصال عنها، وشهادة رجل وامرأتين أو رجلين على تحرك الولد قبل الانفصال أو على تحركه حالة الانفصال عند الكل لا تقبل؛ لأن تحرك الولد قبل الانفصال قد يكون بحياة نفسه وقد يكون بحياة الأم، إلا أنه ينفصل ميتاً، وكذلك حالة الانفصال قد يكون تحركه بحياة نفسه، وقد يكون بانتقاله من موضع إلى موضع، فلا يدل ذلك على حياته، أما بعد الانفصال فتحركه لا يكون إلا بحياة نفسه.(8/310)
الفصل الثالث: في بيان من تقبل شهادته ومن لا تقبل
يجب أن يعلم أن العدالة شرط لتصير الشهادة واجبة القبول؛ لأنه ما لم يظهر الحق عند القاضي للمدعي لا يجوز له القضاء به، فضلاً عن الوجوب، وظهور الحق بالشهادة باعتبار صدق الشهود، ودليل صدق الشهود العدالة.
وتكلم العلماء في تفسير العدل، منهم من ضيّق فيه غاية التضييق، فشرط انزجار الشاهد عن جميع المحظورات، حتى قال: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته؛ لأنه مشترك بينه وبين غيره، فلا يجوز له أن يمشي عليه من غير رضى ذلك الغير، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: (من زادت) حسناته على سيئاته قبلت شهادته، وقال إبراهيم النخعي: العدل من المسلمين من لم يطعن عليه في بطن أو فرج، وأراد بعدم الطعن في البطن أن لا يقال: إنه أكل مال الربا أوأكل مال المغصوب، وما أشبهه، وأراد بعدم الطعن في الفرج أن لا يقال: أنه زانٍ، وما أشبه ذلك، فموضع الطعن فيهما ولهما توابع، فإذا سلم عنهما وعن توابعهما كان عدلاً مقبول الشهادة.
وقال الشعبي رحمه الله: العدل من لم يعلم منه خير في دينه أو فساد في دينه، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: العدل من كان منزهاً عن الكبائر، منزهاً عن الفواحش، متيقظاً، فغلب حسناته على سيئاته.
وحكي أن عبد الله (بن) سليمان وزير المعتضد بالله سأل القاضي أبا حازم عن العدل في الشهادة، فقال: أحسن ما قيل في هذا الباب ما نقل عن أبي يوسف فإن العدل في الشهادة أن يكون مجتنباً عن الكبائر، ولا يكون مصرّاً على الصغائر، ويكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطئه، وأن يستعمل الصدق ديانة ومروءة، ويجتنب عن الكذب ديانة ومروءة.
والحاصل: أن ارتكاب الكبيرة يوجب زوال العدالة، وارتكاب الصغيرة لا يوجب زوال العدالة؛ لأن ارتكاب الكبيرة يدل على شهادة الزور؛ لأن حرمة ما ارتكب من الكبيرة كحرمة شهادة الزور أيضاً، قياساً واستدلالاً بها، فأما ارتكاب الصغيرة لا يدل على شهادة الزور، لأن شهادة الزور كبيرة، والإنسان قد يجتنب عن الصغائر، فارتكاب الصغائر لا يدل على شهادة الزور، فلا يوجب زوال العدالة، ولا يكون جرحاً إلا أن يصرَّ على ذلك؛ لأن الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار، على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: الناس لا تخلو عن ارتكاب الصغائر،(8/311)
ولا تخلو عن إتيان ما هو مأذون به في الشرع، فيعتبر في ذلك الغالب يريد به في حق الصغائر، فإن كان غالب حاله أن يأتي بما هو مأذون به في الشرع، ويحترز عما لا يحل به في الشرع من الصغائر، كان جائز الشهادة بعد أن يحترز عن كل الكبائر، وإن كان غالب حاله لا يحترز عن الصغائر لا يكون جائز الشهادة، وإن كان يأتي بالمأذون به شرعاً.
ثم اختلفوا في تفسير الكبائر، قال بعضهم: هي السبع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف، وهو الإشراك بالله تعالى، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والزنا، وشرب الخمر، وهو قول أهل الحجاز وأهل الحديث، وزاد بعضهم على السبع التي ذكرها: أكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حق، وقال بعضهم: ما فيه حد أو قتل فهو كبيرة، وقال بعضهم: ما كان حراماً لعينه فهو كبيرة، وما كان حراماً لغيره فهو صغيرة.
وأصح ما قيل في هذا الباب: ما نقل عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله تعالى والدين، فهو من جملة الكبائر، وكذلك الإعانة على المعاصي والفجور والحث عليها من جملة الكبائر يوجب سقوط العدالة، وإذا كان حدّ الكبائر هذه الأشياء كان ما عداها من جملة الصغائر.
قال الخصاف في «أدب القاضي» : إذا تَرك الرجل الصلاة بالجماعة استخفافاً بذلك أو مجانة أو فسقاً لا تجوز شهادته، لم يرد بهذا الاستخفاف بالدين؛ لأن المستخف بالدين كافر، بل أراد به أن لا يستعظم تفويت الجماعة كما يفعله العوام، وإنما تسقط به العدالة؛ لأن الصلاة بالجماعة ألحقت بالفرائض، ولهذا لو ترك أهل بلدة الصلاة بجماعة قوتلوا عليهم بالسلاح، كما لو تركوا فرضاً من الفرائض، وقد صح أن رجلاً سأل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم بالليل ولا يحضر الجماعات، فقال ابن عباس: هو في النار، فاختلف إليه ذلك الرجل شهراً، وكان سأله، فكان يقول: هو في النار.
وقال مكحول رحمه الله: السنة سنتان: سنة أخذها هدي وتركها لا بأس به، وسنة أخذها هدي وتركها ضلالة، وذكر من جملتها الصلاة بجماعة، فثبت أنها ملحقة بالفرائض، وتارك الفرض فاسق، فكذا هذا، هذا إذا تركها استخفافاً أو مجانة أو فسقاً، وإن تركها متأوّلاً بأن كان الإمام فاسقاً، فكره الاقتداء به، ولا يمكنه أن يصرفه، فصلى في بيته وحده، أو كان ممن يضلل الإمام، ولا يرى الاقتداء به جائزاً، فهذا مما لا يسقط العدالة، أما الأول: فلا شك، وأما الثاني: فلأنه صاحب هوى، وشهادة أهل الأهواء مقبولة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك شهادة تارك الصلوات في أوقاتها لا تقبل؛ لأن أداء الصّلاة في الوقت أداء الأمانة في وقتها؛ لأن الصلاة أمانة وأداء الأمانة (119ب4) في وقتها لازم، ولأن أداء الصّلاة في الوقت عهد له عِندَ اللهِ تعالى، قال صَلى الله عليه وسلم «من حافظ الصلوات(8/312)
الخمس في مواقيتها كان له عند الله تعالى عهداً يؤديه إليه يوم القيامة وتلا قوله تعالى {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} (مريم: 87) » فإذا ظهرت منه الخيانة في هذه الأمانة بتفويتها عن الوقت، لا يؤمن به الخيانة في أمانة الشهادة.
وكذلك من ترك الجمعة لا تقبل شهادته لما روى قتادة عن عبد الملك بن يعلى أنه قال: لا أجيز شهادة من تقوم البينة عليه أنه ترك الجمعة ثلاث مرات، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله تعالى على قلبه» ، ولأن شهود الجمعة فرض لقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة: 9) فكان تاركاً الفرض، فصار مرتكباً الكبيرة، فلا تقبل شهادته، فهذا إذا تركها رغبة عنها، أما إذا تركها بعذر كالمرض أو بعده من المصر، أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام أو ما أشبهه، لا ترد شهادته على ما ذكرنا في تارك الجماعة.
ثم إن الخصاف وضع المسألة في ترك الجمعة ثلاث مرات، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: التقدير بالثلاث شرط كما ذكر الخصاف، وقال شمس الأئمة الحلواني: هذا ليس بشرط لازم، بل إذا ترك مرة كفى لرد الشهادة، وإليه أشار الخصاف رحمه الله في بعض المواضع.
ولا تقبل شهادة آكل الربا المشهور بذلك المقيم عليه؛ لأن أكل الربا كبيرة، وإنه حرام بنص الكتاب، وورد النص بالوعيد فيه بنار جهنم، قال الله تعالى {يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} إلى قوله {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} (آل عمران: 130 * 131) وقال عليه السلام: «لعن الله آكل الربا وموكله» وارتكاب الكبيرة توجب سقوط العدالة، ثم شرط لرد الشهادة أن يكون مقيماً عليه مشهوراً بذلك، وكان ينبغي أن تزول العدالة بالأكل مرة، كأكل مال اليتيم؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء كبيرة، مع هذا شرط الإدمان.
واختلف المشايخ رحمهم الله في علته:
قال بعضهم: إنما شرط ذلك؛ لأن الإنسان عسى يبتلى بذلك؛ لأن البياعات الفاسدة كلها ربا، ولا يمكنه التحرز عن جميع الأسباب المفسدة للعقد، فقد لا يهتدي إلى ذلك، فلو ردت شهادته إذا ابتلي به مرّة لا يبقى في الدنيا مقبولة الشهادة، فلهذا شرط أن يكون مشهوراً بذلك مقيماً عليه.
وقال بعضهم: بأن الربا ليس بحرام محض؛ لأن الربا يفيد الملك عندنا بعد اتصال القبض، والملك مبيح للأكل في غير الخمر إن كانت حرمة السبب بمنع الأكل، فلم يكن(8/313)
حراماً محضاً، فكان ناقضاً في كونها كبيرة، فصارت كالملحقة بالصغيرة من هذا الوجه، وهذا لأن حرمة ما ارتكب الشاهد في دينه من التعاطي يجب أن يكون مثل حرمة شهادة الزور حتى يستدل به على شهادة الزور، وشهادة الزور حرام محض؛ لأنه كذب والكذب حرام محض، فارتكاب ما لا يكون حراماً محضاً لا يدل عليه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: آكل الربا إنما يسقط العدالة إذا أكله مع علمه بكونه ربا.
ولا تجوز شهادة مدمن الخمر، فحرمة الخمر ثابتة بالنص، وشرع عليه عقوبة في الدنيا، وهو الحد، فكان من جملة الكبائر، فتسقط العدالة، ثم شرط الإدمان ولم يرد به الإدمان في الشرب؛ لأنه لا يطيق، وإنما أراد به الإدمان في النية، يعني: يشرب ومن نيته أن يشرب بعد ذلك إذا وجده، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ويشترط مع الإدمان أن يظهر ذلك للناس أو يخرج سكراناً، فيسخر منه الصبيان، حتى إن شرب الخمر في السر لا يسقط العدالة، قال في «الأصل» : ولا تجوز شهادة مدمن السكر، وأراد به في سائر الأشربة السكر، فشرط الإدمان على السكر، والمحرم في الخمر نفس الشرب، فشرط الإدمان على الشرب.
وكذلك من يجلس مجالس الفجور والمجانة والشرب، لا تقبل شهادته، وإن لم يشرب؛ لأنه تشبه بهم، وقد قال عليه السلام: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، ولأنه رضي بصنيعهم ولم يحترز أن يظهر عليه ما يظهر عليهم، فلا يحترز عن شهادة الزور.
ولا تقبل شهادة المخنث؛ لأن التخنث معصية، قال عليه السلام: «لعن الله المؤنثين من الرجال، والمذكرات من النساء» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا إذا كان تخنثه باختياره، أو كان يأتي بالأفعال الرديئة، فأما إذا كان في كلامه تكسر، وفي أعضائه لين بأصل الخلقة، ولا يأتي بشيء من الأفعال الرديئة فهو عدل مقبول الشهادة.
ولا تقبل شهادة من يلعب بالحمام ويطيرهن؛ لأنه يرتكب ما هو حرام؛ لأن اللعب حرام، قال عليه السلام: «ما أنا من ددٍ ولا الدد منّي» ولأنه يصعد العوالي من السطوح، فيطلع على العورات، وذلك منه فسق، ولأن قلبه مع ذلك في عامة أحواله ففسد به عقله، وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الكفالة» : في باب الشهادة في الدين: إن كان لا يطيرهن، ولكن يخليهن حتى يخرجن من بيته لا تقبل شهادته، وعلل فقال: لأنه يأتي بيت حمامته حمامات غيره، فيفرخ فيه ثم هو يبيع ذلك ويأكل، ولا يعرف(8/314)
حمامته من حمامة غيره، فيصير حراماً ومرتكباً ما لا يحل، قال ثمة: وهذا كما قال مشايخنا رحمهم الله: إن شهادة صاحب الحمام لا تقبل؛ لأنه ينظر إلى عورات الناس، ويجمع قماسات الأعمار للآثار ولا يبالي بذلك، ومن المشايخ من قال: لا تسقط عدالته في هذه الصورة، ويستدل باتخاذ الناس بروج الحمامات من غير نكير منكر، وإن كان يمسكهن في بيته ولا يطيرهن ولا يخليهن لا تسقط عدالته بلا خلاف.
ولا تقبل شهادة المغنيِّ والمغنيّة إذا كان يجمع الناس ويؤنسهم، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ لأنه ملعون على لسان صاحب الشرع، قال عليه السلام: «لعن المغنيات» ومن يكون ملعوناً على لسان صاحب الشرع يكون ساقط شهادة لا محالة، قال: فأما إذا كان لا يسمع غيره ولكن يسمع نفسه لإزالة الوحشة قبلت شهادته، يجب أن يعلم بأن المغني لإجماع الغير وإيناسه مكروه عند عامة المشايخ، ومن الناس من جوز ذلك في العرس والوليمة، ألا ترى أنّه لا بأس بضرب الدف في العرس والوليمة وإن كان فيه نوع لهو، وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمرنا صاحب الشرع، قال عليه السلام: «أعلنوا النكاح ولو بالدف» فكذا التغني، ومنهم من قال: إذا كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به.
وأما التغني لإسماع نفسه ودفع الوحشة عن نفسه، هل هو مكروه؟ فقد اختلف المشايخ، منهم من قال: لا يكره، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وهذا القائل يحتج بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، والبراء من زهاد الصحابة، ومن المشايخ من قال: جميع ذلك مكروه، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده، وهذا القائل يحمل حديث البراء على أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الوعظ والحكمة، وهذا لأن اسم الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» قلنا: وإنشادنا هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها وكانت حية يكره، وإن كانت ميتة أو كانت امرأة مرسلة لا يكره.
وكذلك لا تقبل شهادة النائحات، ولم يرد به التي تنوح في مصيبتها، وإنما أراد التي تنوح في مصيبة غيرها، اتخذت ذلك مكسبة، وهذا لقوله عليه السلام: «لعن الله النائحات» ولأنها لما ارتكبت ما لا يحل في الشرع، وهو الغناء والنوح لطمعها في(8/315)
المال، لا تؤمن من أن ترتكب شهادة الزور لأجل المال، فذلك أيسر عليها من الغناء والنوح في مدة طويلة.Y
وكذلك لا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج لكن شرط: بانضمام إحدى معاني ثلاثة: إذا قامر عليه، أو شغله عن الصلوات، أو أكثر الحلف عليها بالكذب والباطل؛ لأن القمار حرام وتفويت الصلاة من أعظم الكبائر، واليمين الكاذبة من جملة الكبائر، فأما بدون انضمام إحدى معاني ثلاثة إليه لا تسقط العدالة؛ لأن العلماء اختلفوا في حرمة اللعب بالشطرنج وإباحته عند انعدام هذه المعاني، قال مالك والشافعي: يحل وأبو زيد الحكيم كان يختار قولهما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله فخف حكمه، فمباشرته على الانفراد لا يصلح لسقوط العدالة.
ومن يلعب بالنرد فهو مردود الشهادة على كل حال، قال عليه السلام: «الملعون من لعب بالنرد» ومن كان ملعوناً كيف يكون عدلاً؟ وإذا كان الرجل يلعب بشيء من الملاهي وذلك لا يشغله عن الصّلاة، ولا عمّا (120أ4) يلزمه من الفرائض، ينظر: إن كانت يستشقيه بين الناس، كالمزامير والطنابير لم تجز شهادته؛ لأن أصحاب هذه الملاهي أهل فسق فيما بين الناس، وإن لم يكن يستشقيه نحو الحد أو ضرب القضيب جازت شهادتهم، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر والحادي يحدو بين يديه، فلم ينهه عن ذلك، فلما طلع الفجر قال عليه السلام: «أمسك، فإن هذه ساعة ذكر» وكذلك القضيب، فإن صوته مباح عند البعض، فلا يوجب سقوط العدالة، قال: إلا إن تفاحش بأن يرقصون به فيدخل في حد المعاصي والكبائر فحينئذٍ تسقط به العدالة.
وإذا كان الرجل معروفاً بالكذب الفاحش لم تقبل شهادته، يريد به إذا اعتاد الكذب؛ لأنه إذا اعتاد ذلك لا يصبر عنه فلا يؤمن من أن يكذب في هذه الشهادة، فأما إذا كان يقع فيه أحياناً قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذلك، وفي «الأقضية» : والذي اعتاد الكذب إذا تاب لا تقبل شهادته؛ لأن من اعتاد الكذب قلّ ما يصبر.
وكذلك لا تقبل شهادة الداعر، وهو الفاسق المتهتك الذي لا يبالي ما يصنع؛ لأنه لا يؤمن عليه أن لا يبالي من شهادة الزور، قال محمد رحمه اللهُ في «الأصل» : وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: شهادة أهل الهوى جائزة، قال: هو قول أصحابنا أجمعين.
قال شمس الأئمة السرخسي: ومنهم من يفصل بين من يكفر في هواه، وبين من لا يكفر، فكأنه أراد أبا يوسف، فقد روي عنه أنه قال: من كفر به لم أقبل شهادته، ومن أضللته قبلت شهادته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : وشهادة أهل الهوى مقبولة عندنا(8/316)
إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون ماجناً وَيكون عدلاً في تعاطيه، وهو الصحيح، وما ذكر في «الأصل» ؛ فهو محمول على هذا إلا الخطابية.
واستدل محمد رحمه الله في «الكتاب» لبيان ذلك فقال: أرأيت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ساعدوا معاوية مع مخالفة علي رضي الله عنه، ثم شدوا بين يدي علي رضي الله عنه، أكان يرد شهادتهم؟ ولا شك أن مخالفة عليّ رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بدعة وهوى، فكيف الخروج عليه بالمسايفة لكن لما كان عن تأويل وتدين، لم يمنع قبول الشهادة، فكذا هذا؛ ولأنه مسلم عدل في تعاطيه شهد لغيره من كل وجه، وهو من أهل الشهادة، فتقبل شهادته قياساً على غير صاحب الهوى، وإنما قلنا: مسلم؛ لأن الكلام في هوى لا يكفر به صاحبه، وإنما قلنا: عدل في تعاطيه؛ لأنه لم يرتكب ما هو محرم في دينه واعتقاده حرمته مثل حرمة شهادة الزور، حتى يستدل به ما في شهادة الزور ما وجد من فسق الاعتقاد لا يدل على شهادة الزور، لأنه اعتقده مباحاً، فلا يدل على شهادة الزور الذي يعتقده حراماً، وكان كشهادة الكافر مقبولة على كافر مثله إذا كان عدلاً في تعاطيه، وإن كان فاسقاً من حيث الاعتقاد وهو الكفر؛ لأن اعتقاد الكفر وهو يعتقده مباحاً، وإن كان رأس الفسوق لا يدل على شهادة الزور، وهو يعتقده حراماً في دينه، وكذلك هذا، وليس كالخطابية لأن الخطابية قوم من الروافضة يستجيزون أداء الشهادة بالحلف، ولو تحقق هذا من المسلم لا تقبل شهادته لكونه ماجناً.
وإن لم يكن صاحب هوى، فمن هو صاحب الهوى أولى، وليس كما لو كان ماجناً في هوى، فإنه لا تقبل شهادته لكونه ماجناً لا لهواه، فإن غير صاحب الهوى من المسلمين إذا كان ماجناً لا تقبل شهادته؛ لأن الماجن بين العاقل والمجنون، فإن الماجن من شابه بعض أقواله وأفعاله أقوال العقلاء وأفعالهم.
ولا تجوز شهادة الرجل على الرجل إذا كان بينهما عداوة؛ لأن طبع كل واحد داع إلى الانتقام من عدوه، فعسى يريد بهذه الشهادة الانتقام منه، فتمكنت الشبهة في هذه الشهادة، فلم تقبل. قالوا: هذا إذا كانت العداوة بينهما بسبب شيء من أمر الدنيا، فأما إذا كانت العداوة بسبب شيء من أمر الدين، فإنه تقبل شهادته عليه لانتفاء تهمة الكذب؛ لأن من تحتمله قوة دينه على أن يعادي غيره بمجاوزة حدّ الدين، لا يقدم على شهادة الزور مع ما علم من الوعيد لشاهد الزور.
وفي كتاب «الأقضية» : إذا أسلم الرجل وهو لا يقرأ القرآن، فشهادته جائزة، يريد بقوله: لا يقرأ القرآن لا يتعلم القرآن للحال، فإنما جازت شهادته، لأنه عدل مسلم، فإن لم يتعلّم القرآن للحال لا يصير فاسقاً.(8/317)
وأمّا شهادة عمال السلطان، فهي مسألة «الجامع الصغير» ، وقد ذكر أنها جائزة، من العلماء من قال: أراد به الأُجراء؛ لأنه لا يختار للإمارة إلا عدل، وشهادة العدل مقبولة، ولأن نفس العمل ليس بجرح، إنما الجرح هو الظلم، فإن العامل إذا كان عدلاً يستحق به ثواباً عظيماً، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله» ، وذكر فيه إماماً مقسطاً، وألا ترى أن الكبراء من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا عمالاً، ولو كان نفس العمل جرحاً لتنزهوا عن ذلك.
ومنهم من قال: أراد به أعمال الصدقة، وتقبل شهادته إذا كان عدلاً لما بينا أن العمل ليس بجرح، الجرح هو الظلم أو الجور، وروي عن الحسن البصريّ أنه قال: لا تجوز شهادة العاشر؛ لأنه هو الذي يأخذ بغير حق، وزيادة على قدر الحق.
والحاصل: أن العمال إذا كانوا عدولاً ولا يأخذون من الناس بغير حق تقبل شهادتهم، وإن أخذوا بغير حق من الناس، ولم يكونوا عدولاً، فالصحيح من الجواب أنه لا تقبل شهادتهم، وإن كان قد قال بعض المشايخ بقبولها، وجه الصحيح من الجواب: ظاهر وجه من قبلها أن الفسق لا يمنع قبول الشهادة لعينه، بل لمكان تهمة الكذب، فالغالب منهم الترفع عن الكذب.
وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «واقعاته» : أن شهادة الرئيس والجاني في السكة أو في البلدة الذي يأخذ الدراهم في الجنايات، والصراف الذين يجمعون الدراهم إليه، ويأخذ طوعاً لا تقبل.
وتجوز شهادة شريك المفاوض لشريكه إذا لم يكن المشهود مشتركاً بينهما، كالحدود والقصاص والنكاح والوصية؛ لأنها شهادة عدل لغيره من كل وجه، وإن كان المشهود به مشتركاً بينهما لم تقبل؛ لأنه يصير شاهداً لنفسه في البعض، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وإذا لم تقبل شهادته لنفسه في نصيبه لا تقبل لشريكه أيضاً في نصيب شريكه؛ لأن هذه شهادة واحدة، فإذا بطل بعضها بطل كلها.
وشهادة أحد شريكي العنان لشريكه تقبل فيما ليس من شركتهما، وفيما كان من شركتهما لا تقبل، ذكر المسألة على هذا الوجه في كتاب «الأقضية» ، وفي «الأصل» يقول: شهادة أحد المتفاوضين لصاحبه لا تقبل إلا في الحدود والقصاص والنكاح؛ لأن ما عدا الحدود والقصاص مشتركة بينهما، فكان شاهداً لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تفيد، وشهادة أحد شريكي العنان لصاحبه فيما كان من تجارتهما لا تقبل، وفيما لم يكن من تجارتهما مقبولة، ولم يذكر مثل هذا التفصيل في المفاوضة؛ لأن العنان قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً، فأما المفاوضة لا تكون إلا في جميع الأموال، وقد عرف(8/318)
ذلك في كتاب الشركة.
وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الشركة أن المفاوضة تجوز خاصة يجب أن يكون الجواب في المفاوضة على التفصيل الذي ذكرنا في العنان، وشهادة الأجير المشترك لأستاذه مقبولة، وشهادة أجير الوحد لأستاذه لا تقبل استحساناً، سواء كان أجير مناوبة أو مشاهرة أو مشابهة، وفي كفالة الأصل: لا يجوز شهادة الأجير لأستاذه، وفي كتاب الديات: تجوز شهادة الأجير لأستاذه، والمراد من المذكور في الديات الأجير المشترك.
والقياس: أن تقبل شهادة أجير الوحد أيضاً؛ لأنه عدل شهد لغيره من كل وجه، فتقبل قياساً على الأجير المشترك، وقياساً على شهادة الأستاذ لأجيره، فإنها تقبل، وإن كان أجيراً خاصاً له، ولا شك أنه شهد لغيره من كل وجه؛ لأنه ليس له فيما شهد لا ملك ولا حق ولا شبهة ملك، ولا شبهة اشتباه بسبب اتصال المنافع، ولهذا جاز للأستاذ وضع الزكاة فيه.
وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد رحمه الله فقال: لما بلغنا في ذلك عن شريح، وبحال الناس التي هم عليها اليوم، أشار إلى أنه إنما ترك القياس لقول شريح، والإجماع المنعقد من أهل زمانه على قول شريح، والإجماع المنعقد على قول واحد من السلف حجة، يترك (بها) القياس ويخص بها الأثر، فإنما ترك القياس في الأجير الوحد لهذا، وبنوع من المعنى: أن الأجير الوحد مملوك للأستاذ من وجه، أعني به منفعة، ألا ترى أنه لا يملك أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، فهذا مملوك من وجه شهد لمالكه فلا تقبل، ألا ترى أن شهادة المرأة لزوجها لا تقبل، لأنها مملوكة لزوجها من وجه ملك النكاح، بخلاف الأجير المشترك؛ لأنه غير مملوك للأستاذ منفعة، ألا ترى أن له أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، وبخلاف الأستاذ إذا شهد لأجيره؛ لأنه ليس بمملوك لأجيره أصلاً؛ فهذا هو (120ب4) الحرف المعتمد في المسألة.
ومن مشايخنا من يقول: الأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم النفس في المدة لا بحقيقة العمل، وحال ما يشهد سلم نفسه إلى المستأجر، فيكون مستحقاً بعض الأجر بإزاء ذلك، فيصير شاهداً بأجر، فلا تقبل شهادته، بخلاف الأجير المشترك، إلا أن هذا الوجه لا يكاد يصح؛ لأن الأجير الوحد إنما يستحق الأجر بتسليم نفسه إلى المستأجر في مدة الإجارة إذا سلم نفسه للعمل الذي شرط عليه في العقد، أما إذا سلم نفسه في مدة الإجارة لعمل آخر لا يستحق الأجر، ألا ترى أنه إذا أستأجر إنساناً شهراً ليرعى غنماً له، ثم استخدم في الشهر لا يستحق الأجر، وإنما لا يستحق لما قلنا، كذا هاهنا.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد أجير القاتل على المولى أنه عناد عن الدم، ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز، وفي ديات «الأصل» :(8/319)
أنه يجوز، فيجوز أن يكون المراد من المذكور في «المجرد» الأجير الخاص، ومن المذكور في «الديات» : الأجير المشترك أن لو كان أجيراً خاصاً مشاهرة، فلم يرد القاضي شهادته، ولم تظهر عدالته حتى مضى الشهر، ثم عدّل قال: أبطل شهادته كمن شهد لامرأته ثم طلقها قبل أن تعدل، ولو شهد ولم يكن أجيراً ثم صار أجيراً قبل أن أقضي أبطل شهادته، فإن لم أبطلها حتى بطلت الإجارة، ثم أعادها جاز، هكذا ذكر في «العيون» .
وشهادة أهل الصناعات جائزة إذا كانوا عدولالاً قال بعض العلماء: لا تجوز لكثرة خلافهم وكثرة ما يجري من الأيمان الفاجرة بينهم، وعامة العلماء يقولون: المجوز العدالة وقد وجدت.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : شهادة بائع الأكفان لا تقبل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: عندنا إنما لا تقبل شهادته إذا ابتكر لذلك وترصد لذلك العزل؛ لأنه حينئذٍ يتمنى الموت والطاعون، وأما إذا كان يبيع الثياب هكذا، ويشترى منه الأكفان تجوز شهادتهم، وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في شرح كتاب الشفعة في أوله: وقد قال بعض مشايخنا: إن شهادة الصكاكين لا تقبل؛ لأنهم يكتبون: هذا ما اشترى فلان من فلان، وقبض المشتري ما اشترى وسلم البائع ما باع، وضمن الدرك، وكذا يكتبون مثل هذه الألفاظ في الإجارة، وإن لم يكن شيء من ذلك منهما، فيكون هذا منهم كذباً محضاً، ولا فرق بين الكذب بالقول وبين الكذب بالكتابة، فيكونون فسقة، فلا تقبل شهادتهم، والصحيح أنه تقبل شهادتهم إذا كان غالب حالهم الصلاح.
وإذا كان الرجل يبيع الثياب المصورة، أو ينسج الثياب المصورة لا تقبل شهادته، هكذا ذكر في «الأقضية» .
وفيه أيضاً: ومن كثر لغوه لا تقبل شهادته: قال عليه السلام: «من كثر كلامه كثر سقطه» فكيف إذا كثر لغوه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لا تجوز شهادة أصحاب الحمير، وأراد به النخاسون، وإنما قال ذلك لكثرة ما يكذبون ولأيمانهم الفاجرة، وإن علم من واحد منهم أنه لا يجري منه الكذب واليمين الفاجرة وكان عدلاً قبلت شهادتهم.
وفي مناقب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادة البخيل لا تقبل؛ لأنه لبخله يستقضي فيما يقتص من الناس، فيأخذ زيادة على حقه، فلا يكون عدلاً.
قال أبو يوسف رحمه الله: وتجوز شهادة الأقلف إذا كان عدلاً، وهكذا روى الحسن البصري رحمه الله، وهذا لأن قبول الشهادة يعتمد العدالة، والعدالة لا تنعدم(8/320)
بترك الختان إذا كان ترك الختان بعذر، وهذا لأن الختان وإن كان سنة عندنا إلا أن ترك السنة إنما توجب الفسق إذا كان الترك على وجه الإعراض عن السنة، وعندنا: لو ترك الختان على وجه الإعراض عن السنة لا تقبل شهادته، وإنما تقبل شهادته إذا تركه بعذر، قيل: العذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك.
ثم لا بد من معرفة صفة الختان ووقته، فأما صفته: فقد اختلف العلماء فيه، بعضهم قالوا: إنه فريضة، وقال علماؤنا رحمهم الله: إنه سنة. قال عليه السلام: «الختان للرجال سنة وللنساء مكرمة» ، وأراد به سنة إبراهيم عليه السلام، لأنه أول من ختن واختتن.
وأما وقته: فلم يقدر فيه أبو حنيفة رحمه الله في ذلك تقديراً، لأنه لم ينزل فيه قرآن ولم يدر فيه سنة، ولم ينقل فيه إجماع الصحابة، وطريق معرفة المقادير السماع، فلهذا لم يقدر فيه تقديراً، والمتأخرون من مشايخنا اختلفوا فيه، بعضهم قالوا: من سبع سنين إلى عشر سنين، وبعضهم قالوا: اليوم السابع من ولادته أو بعد السابع، بعد أن يحتمل الصبي ولا يهلك، لما روي أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ختنا يوم السابع أو بعد السابع ولكنه شاذ.
وشهادة الخصي مقبولة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي على قدامة بن مظعون؛ ولأن الذي فات عضو من أعضائه، فصار كما لو فات يده أو عينه، وذلك لا يمنع قبول الشهادة، كذا ههنا.
قال أبو يوسف رحمه الله: وظاهر شهادة من يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقبل) لأنه لو شتم واحداً من الناس لا تجوز شهادته فههنا أولى، وكذلك لا تقبل شهادة قاذف المحصنات؛ لأنه محكوم عليه بالكذب، قال الله تعالى {فإذ لم يأتوا بالشهادة فأولئك عند الله هم الكاذبون} (النور: 13) ثم المتهم بالكذب لا تقبل شهادته، فالمحكوم عليه بالكذب أولى أن لا تقبل، وحكي عن نصر بن يحيى أنه سئل عمن يشتم أهله ومماليكه وأولاده لا تقبل شهادته، قال: إذا كان في كل يوم وكل ساعة، وإن كان أحياناً تقبل إن شاء الله، قال الفقيه أبو الليث: هذا في شتم دون القذف، فأما القذف فكبيرة فتسقط به العدالة.
وإن كان يتبرأ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هوى، وقد بينا حكم شهادة أهل الأهواء، وكان رجل يشتم الناس ويشتمونه، فهذا ماجن ولا شهادة لماجن، ومن سألت عنه، فقالوا: يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أقبل ذلك وأجيز شهادته، ولو قالوا: يتهمه بالفسق والفجور، ويظن ذلك به، ولم يره، قبلت ذلك، ولم أجز شهادته؛ لأنهم إذا اتهموا بالفسق مطلقاً فقد بينوا أنه عندهم غير عدل بوجه، فلم تظهر عدالته بوجهه من الوجوه، بخلاف ما إذا قالوا: يتهمه بشتم(8/321)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك عدلوه فيما سواه، ولم يثبت هذا الجرح بمجرد التهمة، فبقي اعتبار العدالة، ذكر المسألة على هذا الوجه في «الأقضية» .
وتجوز شهادة المحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر إذا تابوا، بخلاف المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته وإن تاب، والفرق: أن رد شهادة المحدود في القذف من تمام الحد، عرف ذلك بالنص، وأصل الحد لا يرتفع بالتوبة، فكذا ما كان من تمام الحد، وأما رد شهادة هؤلاء ليس من تمام الحد؛ لأن النص لم يرد به، ولا يدخل القياس في الحدود، وإنما رد شهادة هؤلاء لفسقهم وقد زال الفسق بالتوبة.
ولا تجوز شهادة المتهم به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولا تجوز شهادة الفاسق عندنا، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إن كان ذا مروءة وكان وجيهاً تقبل شهادته؛ لأنه لو جاء بيته لا يتجاسر أحد على استئجاره، ولمروءته لا يرتكب الكذب من غير منفعة له، إلا أن في ظاهر الرواية لم يفصل، بل أطلق الجواب إطلاقاً وهو الأصح؛ لأن في قبول الشهادة والعمل بها إكرام الشهود، والفاسق يستحق الإهانة، ولو قضى قاض بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه عندنا، والمسألة مرت في كتاب «أدب القاضي» .
ولا تقبل شهادة الأخرس عند علمائنا رحمهم الله، ولا تقبل شهادة الأعمى في شيء من الحقوق في المسموعات والمنقولات عند علمائنا رحمهم الله، وقد صح عن عليّ رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، فهذا قد روي عن علي رضي الله عنه، ولم يرو عن أقرانه خلافاً يحل محل الإجماع، ولأنه تحمل الشهادة من وراء الحجاب وأداها من وراء الحجاب، فلا تقبل شهادته قياساً على البصير إذا تحمل الشهادة وأداها من وراء الحجاب، وإنما لا تقبل ثمة؛ لأنه تتمكن فيها زيادة تهمة لا تتمكن متى عاين المشهود له وعليه؛ لأنه متى لم يعاين إنما يشير إلى المشهود له والمشهود عليه بالسماع والاسم والنسب، وإنه مما لا يقطع الشركة، ومتى عاين حالة التحمل وأشار حالة الأداء ينقطع الشركة، أو لما تمكن زيادة تهمة بالحجاب، وأمكن الاحتراز عنه بأن يتحمل ويؤدي من غير حجاب منع قبول الشهادة، فكذا مما تمكنت زيادة تهمة في شهادة الأعمى يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود وهم البصراء، فإن إشهاد البصراء على الحوادث ممكن من غير حرج.
هذا إذا تحمل الشهادة وهو أعمى وشهد وهو أعمى، فأما إذا تحمل الشهادة وهو بصير، ثم أدى وهو أعمى، هل تقبل شهادته عند علمائنا رحمهم الله؟ أجمعوا على أنه في المنقول لا تقبل؛ لأن الإشارة إلى المنقول شرط لصحة الشهادة، ولا يقوم الوصف مقام الإشارة في المنقول عندهم جميعاً، ولا عبرة لإشارة الأعمى؛ لأنه لا يعاين المشهود به، فصار وجود الإشارة منه والعدم بمنزلة وبدون الإشارة لا تقبل الشهادة في المنقول (121أ4) .
أما إذا كان المشهود به ديناً أو عقاراً اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما(8/322)
الله: لا تقبل هذه الشهادة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقبل، فأبو يوسف جعل العمى مانعاً صحة التحمل، ولم يجعله مانعاً صحة الأداء، وإنما فعل كذلك؛ لأن الاحتراز عن عمى الشاهد ممكن لصاحب الحق حالة التحمل من غير حرج بإشهاد البصراء، فيكون العمى مانعاً صحة التحمل، وإنه حاجز بين المشهود له وبين المشهود عليه، فأما إذا صح التحمل من البصير، فالاحتراز عن العمى غير ممكن لصاحب الحق، فقام الاسم والنسبة حالة الأداء مقام الإشارة كما في الميت والغائب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله احتجا بما روينا من حديث علي رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، ولم يفصل ولم يستفسر أنه تحمل وهو بصير أو عمي، فدل أن الحكم لا يختلف.
والمعنى في ذلك أن التحرز عن العمى حالة الأداء ممكن لصاحب الحق من غير حرج، بأن يشهد على حقه جماعة كثيرة من البصراء، حتى إذا عمي البعض يمكنه إثبات الحق بالبعض، ولما أمكنه الاحتراز عنه من غير حرج لم يسقط اعتبار الإشارة إلى المشهود والمشهود عليه، ولم يكتف بالاسم والنسب، كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب بالاسم والنسب والإشارة إلى نائب من عليه الحق مقام الإشارة إلى من عليه الحق.
ولو كان بصيراً وقت التحمل والأداء إلا أنه إذا عمي قبل القضاء، فكذلك الجواب على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: القاضي لا يقضي بشهادته، وعلى قول أبي يوسف: يقضي.m
وأجمعوا على أن الشاهد إذا خرس أو ذهب عقله أو ارتد بعد الشهادة قبل القضاء أن القاضي لا يقضي بشهادته، والوجه في ذلك: أن المقصود من الشهادة القضاء بما يمنع الأداء يمنع القضاء، والخرس والردة وذهاب العقل يمنع الأداء بالإجماع، فيمنع القضاء، والعمى بعد التحمل يمنع الأداء عندهما، فيمنع القضاء أيضاً، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يمنع الأداء، فلا يمنع القضاء.
قال مشايخنا: وهذا كله فيما لا يجوز الشهادة عليه بالشهرة والتسامع، أما فيما يجوز الشهادة عليها بالشهرة والتسامع فشهادة الأعمى مقبولة بلا خلاف، واستشهد في كتاب «الأقضية» حجة لأبي حنيفة ومحمد على أبي يوسف بمسألة، فقال: ألا ترى أن الشاهدين لو قالا نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان هذا العبد وهذه الدار، وقد عرفناه يومئذ بوجهه واسمه ونسبه، إلا أنا لا نعرفه الساعة؛ لأنه شيخ أو لأنه قد نبتت لحيته، لم يجز القضاء بشهادتهما، ووجه الاحتجاج: أن في تلك المسألة لم يكتف بالمعرفة وقت التحمل، بل شرط المعرفة وقت الأداء، فكذا ههنا لا يكتفي بآلة التمييز وقت التحمل، ويشترط وجودها وقت الأداء.
ثم فرق بين شهادة الأعمى وبين شهادة الشهود على غائب لأجل كتاب القاضي، والفرق: أن ثمة الشهود يعرفون المدعى عليه، ويقولون: لو رأيناه عرفناه، ولا يكون ذلك شهادة على من لا يعلمون بوجوب الحق عليه، حتى لو قالوا: لا نعرفه اليوم لا تقبل(8/323)
شهادتهم، فأما الأعمى لا يشهد على من علم بوجوب الحق على الحقيقة، فلا يصح منه أداء الشهادة. وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية: أن المدعي والمدعى عليه إذا كانا معروفين ليس على اسمهما ونسبهما غيرهما تقبل شهادة الأعمى عند بيان الاسم والنسب.
وإذا كان الرجل يجن ساعة ويفيق ساعة، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، وقدّر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بيومين، وقال: إذا كان جنونه يومين أو أقل من ذلك ثم يفيق هكذا، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، ذكر في «شرح أدب القاضي» في باب شهادة الأعمى.
نوع آخَرَ مِن هذا الفصْل
وتجوز شهادة الرجل لمن أرضعته امرأته؛ لأن الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة دون ما سواه من الأحكام، ألا ترى أنه لا يستحق بها النفقة والإرث، وكذلك حكم الشهادة، وحقيقة النفقة في ذلك أنه ليس لأحدهما تأويل ملك، ولا بسوطة يد في مال صاحبه، فلم تكن التهمة في هذه الشهادة فقبلت، كما في شهادة الأجانب.
وكذلك تقبل شهادته لأخيه وأخته، وعمه وعمته، وخاله وخالته من الرضاع والنسب، أما من الرضاع: لأنه لما قبلت شهادته لهؤلاء من الرضاع أولى، وأما من النسب: فلما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا شهادة الولد لوالده، ولا شهادة الزوج لزوجته، ولا شهادة المرأة لزوجها، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: تمكنت التهمة في هذه الشهادات.
بيان تمكن التهمة في شهادة الوالد لولده. إن كان المشهود به مالاً، فلوجهين: أحدهما أن للأب شبهة الملك في مال الولد قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» فصار الأب كالشاهد لنفسه، والإنسان متهم فيما شهد لنفسه، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود، بأن يشهد له غير الوالد. والثاني: أن الأب وافر الشفقة على ولده، فيتهم بالميل إليه. وإن كان المشهود به نكاحاً أو قصاصاً فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني.
بيان تمكن التهمة في شهادة الولد لوالده: إن كان المشهود به مالاً من وجهين: أحدهما: أن منافع الأملاك متصلة بينهما عرفاً وعادة، فصار الشاهد شاهداً لنفسه من وجه، والثاني: أن الولد وافر الشفقة على والديه، فيتهم بالميل إليه، فإن (كان) المشهود به نكاحاً أو قصاصاً، فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني.
بيان تمكن التهمة في شهادة الزوج لامرأته، وشهادة المرأة لزوجها من وجهين:(8/324)
أحدهما: أن كل واحد من الزوجين شديد الشفقة على صاحبه، وإليه أشار عز وجل، فقال {وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21) فيتهم كل واحد منهما بالميل إلى صاحبه، كما في الوالدين والمولودين، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود بأن يشهد لكل واحد منهما الأجنبي. والثاني: أن الأملاك بينهما متصلة عرفاً وشرعاً في حق المنافع بسبب الزوجية أيضاً؛ لأنه يمنع وضع كل واحد منهما زكاة ماله عند صاحبه عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: يمنع الزوج صرف زكاته إلى امرأته إن كان لا يمنع صرف زكاتها إلى الزوج، ويثبت بسبب هذا الاتصال للزوج شبهة الاشتباه في مال امرأته حتى لو وطئ جارية امرأته وقال: ظننت بأنها تحل لي، فإنه لا يحد، كالابن إذا وطئ جارية أبيه، ثبت أن الأملاك بينهما متصلة في حق المنافع نظير الاتصال فيما بين الوالدين والمولودين، لا نظير الاتصال فيما بين الأخوة والأخوات، فمتى قبلنا شهادة كل واحد منهما لصاحبه حصل لكل واحد منهما نوع منفعة في المشهود به مضافاً إلى الشهادة، وهذا يمنع قبول الشهادة.
والدليل عليه: أن يد كل واحد منهما ثابتة في مال صاحبه، فيصير كل واحد منهما شاهداً لنفسه باليد، ولا يلزم صاحب الدين إذا شهد لغريمه بحبس حقه تقبل شهادته، وإن كان يثبت لنفسه منفعة، فإنه يأخذ المشهود به فيصير ملكاً له؛ لأنا نقول: حصول المنفعة للشاهد فيما شهد به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان حصول المنفعة مضافاً إلى الشهادة، وإذا لم يكن مضافاً إلى الشهادةِ، بل كان مضافاً إلى سبب آخر يحدثه الشاهد بعد الشهادة باختياره، فإنه لا يمنع قبول الشهادة، وفي مسألة الغريم: لا يملك شيئاً من المشهود به بنفس الشهادة، وإنما يملكه أخذ يحدثه بعد الشهادة باختياره، فإن الأخذ في حبس حقه سبب ملك، كقبول الهبة والبيع، وفي مسألتنا: ما يحصل من المنفعة لأحد الزوجين يحصل بنفس الشهادة؛ لأنه يحصل بالزوجيّة والملك، والملك آخرهما وجوداً، فيكون مضافاً إلى الملك الثابت، كما في الوالدين والمولودين ما يحصل من المنفعة يحصل بالولاد والملك، إلا أن الملك آخرهما وجوداً، فكان حصول المنفعة إلى الملك الثابت بالشهادة.
وشهادة الأخ لأخيه مقبولة، والأصل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) من غير فصل بين القريب والأجنبي، فهو على الكل إلا ما صار مخصوصاً عنه، ولما خص عنه شهادة الوالد والمولودين بالإجماع، وتخصيص الوالدين والمولودين لا يوجب تخصيص الأخ والأخت؛ لأن الظاهر فيما بين الأخوة والأخوات العداوة، دليله: قصة يوسف عليه السلام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب مّيت، إنما يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب حيّ، وينبغي أن لا تقبل شهادته، لأن منافع الأملاك بين أبيه وأخيه متصلة، وإذا شهد لأخيه فكأنه شهد لأبيه، والجواب: شهادة الإنسان لأبيه إنما لا تقبل؛ لأن منافع الأملاك بين الأب وبين الابن متصلة، فكانت الشهادة للأب شهادة لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وأما شهادته لأخيه ليست بشهادة لنفسه(8/325)
أصلاً؛ لأن منافع الأملاك بين الأخوين متباينة لا ينتفع الأخ بمال أخيه لا ابتداءً ولا بواسطة الأب، فلم تكن هذه شهادة لنفسه (121ب4) بوجه ما فقبلت.
وإذا ثبت الكلام في الكلام في الأخ ثبت في الأخت؛ لأنهما سيان في القرابة، وثبت الكلام في سائر القرابات، نحو العمّ والخال والعمة والخالة؛ لأن الأخ أقرب من هؤلاء، فإذا قبلت شهادته للأخ، فلهؤلاء أولى.
ولا تجوز شهادة الرجل لولد ولده وإن سفل، ولا لجده وإن علا، وتجوز شهادته لأم امرأته وابنتها، ولزوج ابنته وامرأة أبيه وأخت امرأته؛ لأن الثابت بينه وبين هؤلاء حرمة المناكحة لا غير، وإنها لا تمنع قبول الشهادة كما في الرضاع، ومن لا تجوز شهادته له لا تجوز شهادته لعبده، ولا لمكاتبه ولا أم ولده ولا المدبّر، ولا تجوز شهادة العبد والمكاتب والمدبر وأم الولد في حقوق العباد عندنا، وكذلك شهادة معتق البعض عند أبي حنيفة؛ لأنه بمنزلة المكاتب ما دام يسعى.
نوع آخَر من هذا الفصل
العبد إذا شهد في حادثة، ورد القاضي شهادته، ثم أعتق وأعاد تلك الشهادة قبلت شهادته، وكذلك الصبي والكافر إذا شهدا على مسلم، فرد القاضي شهادتهما، ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، ثم أعاد تلك الشهادة، فإنه تقبل شهادتهما.
فرق بين هذا وبين الفاسق إذا شهد في حادثة ورد القاضي شهادته، ثم زال الفسق بالتوبة، فأعاد تلك الشهادة، فإنه لا تقبل شهادته
وكذلك الزوج إذا شهد لزوجته وهو حر، والزوجة لزوجها وهي حرة، فرد القاضي شهادتهما، ثم ارتفعت الزوجية فأعاد تلكَ الشهادة لا تقبل شهادته.
ووجه الفرق بينهما: أن رد الشهادة في الفاسق والزوج والزوجة إذا كانا حرين محال على تهمة الكذب، غير محال على كونه غير أهل الشهادة؛ لأن الفاسق أهل للشهادة، والزوج والزوجة كذلك؛ لقيام ولاية كل واحد منهم على نفسه على الكمال، إلا أنه تمكنت في شهادتهم زيادة تهمة بسبب الفسق، أو بسبب وصلة الزوجية، فكان الرد محالاً على تهمة الكذب، وإذا كان الرد محالاً إلى تهمة الكذب صار الشاهد بِرَدِّ القاضي شهادته بتهمة الكذب مكذّباً من جهة الشرع فيما شهد به، وتكذيب الشرع ينزل منزلة التكذيب من حيث العيان، ولو ثبت الكذب من حيث العيان لا يكون لشهادته عبرة بعد ذلك، فكذلك هذا.
فأما في العبد إن كان عدلاً، فرد الشهادة غير محال له على تهمة الكذب؛ لأنه عدل فيكون محالاً على كونه غير أهل، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، وقيل خبره إذا صار من أهل الشهادة بالعتق كما قبل الشهادة، وإن كان العبد فاسقاً فقد تمكن في شهادته عدم الأهلية وتهمة الكذب، فكان الرد محالاً على عدم الأهلية، لا على تهمة الكذب، حتى يتوقف الرد ولا يتأبد، فيكون تقليلاً للرد بقدر الإمكان.(8/326)
وفي الصبي عدم الأهلية وتمكن تهمة الكذب أيضاً؛ لأنه لا يبالي من الكذب من حيث إنه لا يحرم عليه.
وفي الكافر تمكن تهمة الكذب؛ لأن عداوته مع المسلم أمر ظاهر وتمكن عدم الأهلية؛ لأنه لا ولاية له على المسلم، فأحيل بالرد على عدم الأهلية لا على تهمة الكذب، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، فقبل خبرُه إذا صار أهلاً.
النصراني إذا حُدَّ حَد القذف ثم أسلم، فإن شهادته جائزة، والعبد إذا حُدَّ حَد القذف ثم عتق، فإن شهادته جائزة، والفرق: أن رد الشهادة موجب القذف، وإنه من تمام الحد، والنصراني حال ما قذف كانت له شهادة أخرى لم تكن، وأما العبد حال ما قذف لم تكن له شهادة، فتوقف كون القذف هو موجباً رد الشهادة على حدوث الشهادة.
وإذا تحمل العبد شهادة لمولاه، فلم يؤدها حتى عتق، ثم شهد بها جازت؛ لأن التحمل منه قد صح؛ لأن التحمل بالمعاينة والسماع والرق لا ينافي ذلك، وعند الأداء هو من أهل الشهادة، ولا تهمة في شهادته، فقلنا بقولها وكذلك إذا تحمل أحد الزوجين شهادة لصاحبه، ثم وقعت الفرقة بينهما، وأدى تلك الشهادة جاز لما قلنا.
ولو شهد لصاحبه حال قيام النكاح، فلم يقبل القاضي شهادته ولم يردها حتى وقعت الفرقة بينهما، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وعن أبي يوسف أن القاضي لا يقضي بتلك الشهادة إلا أن يعيدها.
وإذا شهد المولى لعبده بشيء أو شهد لمكاتبه، فرد القاضي شهادته ثم أعتقا وأعاد المولى تلك الشهادة لا تقبل شهادته؛ لأن رد الشهادة في هذه الصورة محال على تهمة الكذب، لا على عدم الأهلية، فالمولى أهل للشهادة، والتقريب ما ذكرنا. ولو شهد العبد أو المكاتب لمولاه، ورد القاضي شهادته، ثم عتقا، وأعاد تلك الشهادة تقبل شهادتهما، والمعنى ما ذكرنا.
وفي «المنتقى» : إذا أشهد الأعمى على شيء، فشهد به عند القاضي، ورد القاضي شهادته، ثم ذهب العمى، فأشهد المشهود عليه ثانياً، فشهد بها عند القاضي جاز؛ لأنه إنما رد الأولى؛ لأنه لم تكن شهادة. وإن أشهد على شهادة وهو بصير، فشهد عليها عند القاضي في حالة العمى، فردها القاضي ثم ذهب العمى، فشهد بها ثانية، فعلى قول أبي يوسف: لا تقبل؛ لأنها كانت شهادة قاطعة فردت.
وإذا شهد حران مسلمان بالغان في حق من الحقوق، وكانا يوم أشهدا صغيرين أو كافرين أو عبدين قبلت شهادتهما؛ لأن هؤلاء من أهل التحمل للشهادة؛ لأن مبناها وقت السماع والمعاينة، وهؤلاء من أهله لكنهم ليسوا من أهل الأداء بسبب الرق والكفر والصبا، فإذا زال الرق والكفر والصبا صاروا من أهل الأداء، فتحققت الشهادة عن تحمل صحيح ممن هو من أهل الأداء فقبلت الشهادة، والله أعلم.(8/327)
الفَصْل الرابِع: في الاستماع إلىَ الشُهُود وَصِفَةِ أداء الشَّهَادَة
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل بمال، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما شهد عليهما رجلان أنهما رجعا عن شهادتهما، فإن كان الذي أخبر عن رجوعهما ممن يعرفه القاضي ويعدله وقف في أمرهما، ولم ينفذ شهادتهما، وإذا شهد شاهد على الحق مفسراً، وشهد الآخر على شهادته لا تقبل، وكذلك إذا شهد الآخر على مثل شهادته؛ لأن مثلها قد يكون صلة، فصَار هذا وما لو قال: أشهد على شهادته سواء، أما إذا قال الآخر: أشهد بمثل ما شهد به الأول، فعند الخصاف لا تقبل شهادة الشهادة؛ لأن قوله أشهد بمثل ما شهد به الأول محتمل: يحتمل أشهد بمثل ما شهد الأول كملاً، ويحتمل بمثل ما شهد به الأول نقصاً، وعند عامة المشايخ: تقبل هذه الشهادة، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: إن كان الشاهد الأخير فصيحاً يمكنه أداء الشهادة على وجهها إلا أنه دخله حصر بسبب هيبة مجلس القضاء، أو كان عجمياً غير فصيح، إلا أنه يمكنه بيان الشهادة بلسانه على وجهها لولا حشمة مجلس القضاء، لا يكلف تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول يقبل.
وإن كان الشاهد عجمياً لا يمكنه بيان الشهادة بلسانه أصلاً لا يقبل منه الإجمال، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: إن أحس القاضي بخيانة من الشهود لا بد وأن يفسر الثاني الشهادة على الوجه الذي شهد به الأول، وإن لم يحس بخيانة لا يكلفه تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول تقبل، قال الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح أدب القاضي» : وعليه الفتوى، وكان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: إنما يقبل الإجمال من الشاهد الآخر إذا قال في شهادته: لهذا المدعي على هذا المدعى عليه، هذه الجملة في «شرح أدب القاضي» للخصاف، في باب القاضي يقضي في المسجد.
وفي هذا الباب أيضاً: إذا كتب شهادة الشاهدين في بياض وقُرِئ عليه ذلك، فقال: أشهد أن لهذا المدعي جميع ما سمى ووصف في هذا الكتاب على هذا المدعى عليه الذي قرئ ووصف في هذا الكتاب في يد هذا المدعى عليه بغير حق وواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي، فهذه شهادة صحيحة، وهذا لأن الشهادة قد تكون طويلة على وجه لا يمكن للشاهد ضبطها وأداؤها على ظهر القلب، لو لم يجز أداؤها عن نسخة أو صك لتعطلت الحقوق، وحكى فتوى شيخ الإسلام شمس الأئمة السرخسي في رجل ادعى داراً من نسخة أو صك قرأها، فقال الشهود وهم آمنون ما هم جنين كواهي سيد هيم لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: إن شهادتهم صحيحة، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن الشهود إذا قالوا بالفارسية: ما كواهي وهيم كه أين عين مدعي به ملك أين مدعي است، هل تقبل شهادتهم؟ قال: نعم. وقيل: ينبغي أن لا تقبل؛ لأن قوله: ما كواهي(8/328)
دهيم في العرف للاستقبال، وللحال ما كواهي سيد هيم.
وفي «فتاوى المنتقى» : سئل عن شهود كان في لفظ شهادة كل واحد منهم: ما كواهي سيد هيم كه فلان جبرآن فلانست، هل يكون هذا بمنزلة قوله: ملك فلا ينست، قال: نعم؛ لأن الناس اعتادوا استعمال كلا اللفظين استعمالاً واحداً، وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم أنهم أرادوا به الملك أو غيره، فإن فسروا أخذ بتفسيرهم، وإن لم يفسروا (122أ4) وغابوا أو ماتوا، فالقاضي يقضي بشهادتهم بالملك، وسيأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا وقع البيع بين رجلين بالتعاطي، ووقعت الحاجة إلى الشهادة، فالشهود كيف يشهدون قيل: يشهدون على الأخذ والإعطاء ولا يشهدون على البيع؛ لأنّ التعاطي بيع حكمي، وليس ببيع حقيقي، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز.
شهد الشهود بعين في يد رجل أنه ملك هذا المدعي، ولم يشهدوا أنه في يد المدعى عليه بغير حق، حكي عن الشيخ شمس الأئمة الحلواني أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بقبول هذه الشهادة، وهكذا حكى فتوى جماعة من المشايخ، وبعض مشايخنا قالوا: تقبل هذه الشهادة في حق القضايا بالملك، ولا تقبل في حق إيجاب التسليم إلى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى الصواب؛ لأن وجوب التسليم ينفك عن الملك في الجملة، وهذا القائل يقول: لو سأل القاضي الشاهد، أهو في يد هذا المدعى عليه بغير حق، فقال الشاهد: لا أدري، أنه تقبل الشهادة على الملك؛ لأن القضاء بالملك لا يستدعي كون المدعى عليه مبطلاً في يده لا محالة؛ لجواز أن تكون العين ملكاً لإنسان، وتكون في يد غيره بحق، بأن كان رهناً أو مستأجراً أو ما أشبه، وسَيَأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.
في «فتاوى النسفي» : أدعى على آخر عشرة دراهم، وشهد الشهود أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه مبلغ عشرة دراهم أو بمبلغ عشرة دراهم، لا تقبل الشهادة؛ لأن الشهود شهدوا بخلاف ما ادعاه المدعي؛ لأن المدعي أدعى عشرة دراهم، والشهود شهدوا بمبلغ عشرة دراهم، ومبلغ عشرة دراهم مال سوى الدراهم، يبلغ قيمته دراهم، وقيل: يقبل، وهو الأصح؛ لأن المبلغ عبارة عما ينتهي إليه العدد المذكور.
ولو ادعى بالفارسّية: ده درهم، وشهد الشهود بهذه العبارة أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: ده دوازده درهم، لا تقبل لمكان الجهالة، وكذلك: إذا ذكر الشهود التاريخ في شهادتهم على هذا الوجه لا تقبل شهادتهم.
وفي فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي: إذا شهد الشهود أن هذا العين حق هذا المدعي، ولم يقولوا ملكه قبلت الشهادة؛ لأن الحق مع الملك يستعملان استعمالاً واحداً، وقيل: لا تقبل، وقيل: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم عن الحق أرادوا به الملك أو ما هو حقيقة الحق، ويبنى الأمر على ما فسروا.(8/329)
وعلى هذا الاختلاف دعوى الحق إذا ادعى أن هذه الدار حقي، ولم يقل: ملكي، هل تصح منه هذه الدعوى؟
وفي «الفتاوى» : سئل شداد عن ثلاثة نفر شهدوا في حادثة، ثم قال أحدهم قبل القضاء: أستغفر الله قد كذبت في شهادتي، فسمع القاضي ذلك ولم يعلم أيّهم قال ذلك، فسألهم القاضي بعد ذلك، فقالوا: كلنا على شهادتنا، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم، ويقيمهم من عنده حتى ينظر في ذلك، فإن جاء المدعي باثنين في اليوم الثاني يشهدان له بذلك قبلت شهادتهما.
إذا شهد في حادثة قبل الدعوى، ثم أعادها بعد الدعوى قبلت شهادته وإذا شهد الشهود على إقرار رجل بشراء محدود أو ما أشبه ذلك، لا بد وأن يذكروا في الشهادة أنه أقر على نفسه، أو يقولوا: أقر بشرائه لنفسه، أو ببيعه بنفسه؛ لأن إقراره كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، فلا بد من ذكره.
وإذا شهد الشهود أن هذا العين ملك هذا المدعي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يقولوا: فواجب عليه قصر يده عنه، وتسليمه إلى هذا المدعي. حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغديّ أن فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال: لا بد وأن يقولوا ذلك، يعنى للقضاء بالتسليم؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشيء ملك إنسان، ولا يجب على صاحب اليد تسليمه إليه، ويكون معنى قوله: وفي يده بغير حقٍ حقُ الملك، ومنهم من قال: لا حاجة إلى ذكره، وتكون الشهادة مقبولة، ويجبر المدعى عليه على التسليم إذا طلب المدعي ذلك؛ لأن كون العين مملوكة لإنسان تقتضي وجوب التسليم إليه يقتضيه الأصل، إلا لعارض، ولم يثبت العارض كما قالوا، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، وإن كان التسليم واجباً يقضيه الملك، كان قولهم: فواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي بيان هذا الحكم، فلا حاجة إلى ذكره، وعليه أدركنا كثيراً من مشايخ زماننا، قال شيخ الإسلام: هذا، وأنا أفتي أن في تلك الشهادة قصوراً.h
ادعى على آخر عشرة أقفزة حنطة ديناً، وذكر جميع شرائطه، وجاء بشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه أن هذا المدعي أرسل إليه عشرة أقفزة حنطة لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه بمجرد الإرسال لا يثبت وصول العين إلى المدعي، ألا ترى أنه في العرف والعادة يقال: فلان أرسل إلي كذا، ولكن لم يصل إلي، وبعد أن يثبت الوصول إليه لا تثبت جهة الدينية.
وإذا قال المدعي للقاضي: لا بينة لي، وحلَّف القاضي المدعى عليه بطلب المدعي، ثم جاء المدعي ببينة، روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يقبل بينته، وعن محمد رحمه الله: لا يقبل بينته لمكان التناقض، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الجمع بين الكلامين ممكن؛ لجواز أنه لم تكن بينة له حال ما قال: لا بينة لي، ثم حدث له بعد ذلك بأن أقر المدعى عليه بعد ذلك بين يدي الشهود بما ادعاه المدعي، فلا يثبت التناقض.
ذكر الخصّاف هذه المسألة على هذا الوجه في «أدب القاضي» ، وذكر الطحاوي(8/330)
رحمه الله في «مختصره» أن المدعي إذا قال لا بينة لي، أو قال الشهود: ما لنا شهادة، ثم جاء المدعي بشهود، أو شهد الذين قالوا: لا شهادة لنا، أي: على أصحابنا فيه روايتان، في رواية: لا تقبل لمكان التناقض، وفي رواية: تقبل.
وعلى هذا إذا قال المدعي: كل بينة آتي بها فهم شهود زور، ثم أتى ببينة.
وعلى هذا إذا قال: ليس لي عند فلان شهادة فيما ادعى على هذا، فلما حلفه القاضي جاء بفلان شهد.
وعلى هذا الخلاف إذا قال: ما لي عند فلان وفلان شهادة على هذا ثم ادعى بعد ذلك شهادتهما.
رجل له دعوى في عبد في يدي رجل، وله على ذلك شهود، فقال واحد من الشهود عند القاضي لعبد من عبيد المدعى عليه: هذا العبد ليس هو العبد الذي لفلان فيه الدعوى، ثم المدعي ادعى ذلك العبد بعينه لنفسه، وشهد له ذلك الذي قال تلك المقالة بين يدي القاضي، فقد قيل: يجب أن لا تقبل شهادته لمكان التناقض، وقيل: يجب أن تقبل في إحدى الروايتين على ما ذكره الطحاوي؛ لأنه ليس في كلام الشاهد أكثر من أنه لا شهادة لي في هذا العبد، ومن قال: لا شهادة له في هذه الحادثة، ثم شهد بعد ذلك، ففي قبولها روايتان على ما ذكره الطحاوي، وعلى ما ذكره الخصاف تقبل على قول أبي حنيفة رحمه الله، فههنا كذلك.
وفي «فتاوى النسفي» وينبغي للشاهد أن يقول في شهادته: أين عين تلك أين يدعي است وحق ويست، حتى لا يمكن أن يلحق به، وحق وي ني، وكان الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي يقول: إذا قال المدعي فلان جيبر ملك ينست، وحق من، لا يكتفى به، وينبغي أن يقول: وحق ينست، ويقول في قوله: وبدست فلان بنا حق است، وكذلك في نظائره، حتى لا يلتحق به كلمة النفي، قال: الاحتياط في هذا، ولكن هذا الاحتياط في موضع يطالب بالتسليم، وقد ذكرنا جنس هذا قبل هذا.
وفي «فتاوى الفقيه أبي الليث» رحمه الله: إذا ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام البينة على ذلك ينبغي أن يبين الشهود الذكر والأنثى وإن لم يثبتوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر: أخاف أن يبطل الشهادة، ولا يقضي للمدعي بشيء من دعواه، وإن بينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم.
ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأنَّ باختلاف اللون لا تختلف المنافع، فلا يصير المشهود به مجهولاً، ولا كذلك الذكورة والأنوثة، قيل اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم، خصوصاً على أصل أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناءٌ على القضاء بملك المستهلك، لما عرف أن حق المالك باق في العين بعد الاستهلاك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض القيمة أو بقضاء القاضي، وهذا القائل يقول: مع ذكر الأنوثة والذكورة لا بد من ذكر النوع بأن يقولوا فرس أو حمار ونحوه، ولا يكتفى بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللّون كما في الوكالة، ومن المشايخ من أبى ذكر الذكورة والأنوثة، وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلكة القيمة والمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة(8/331)
مقبولة، فلا يشترط بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من أدعى على رجل مالاً مقدراً، وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضِي عن السبب، فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم، وطريقه ما قلنا.
وكذلك الرجلان إذا ادعيا نكاح امرأة معينة (122ب4) وأقاما البيّنة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذر، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث، فقضى بالميراث لهما لهذا، والأول أصح.
ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة النكاح: أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة، فلم يقض بالنكاح حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى أو الشهادة، أما بعد الموت: المقصود هو الميراث، والقضاء لهما بالميراث ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة، لأنهم شهدوا بملك المتلف، والمدعي ادعى ملك المتلف، والقاضي يقضي بذلك، ثم القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المتلف، والقضاء بالمجهول لا يصح، فلا يقضي، وفيما ادعي مقدراً وشهد الشهود بمال مقدر، وأثبتوا السبب استهلاك الدابة نقول: بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم، إنما يقضي إذا أثبتوا صفة الذكورة والأنوثة، وأثبتوا مع ذلك نوع الدابة.
رجل ادعى على غيره أنك أبرأتني عن جميع الدعاوى والخصومات، والمدعى عليه لم يخاصمه بعد، ولم يدع عليه شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين شهدا على ما ادعاه، فقد قيل: لا تقبل هذه الشهادة وقد قيل: تقبل، وعلى قياس مسألة ذكرناها في «أدب القاضي» أن المطلوب إذا ادعى عند القاضي: أن الطالب أبرأني عن كل قليل وكثير، وهو اليوم في بلد كذا، وشهودي ههنا حضور، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي تلك البلدة أن على قول أبي يوسف القاضي لا يسمع من شهوده، ولا يكتب له على ذلك، وعلى قول محمد يسمع ويكتب، يجب أن تكون هذه المسألة على ذلك الخلاف.
ولو قال المدعي في هذه المسألة: خاصمني وجحد الابراء مرة يجب أن تقبل شهادة شهوده بلا خلاف، كما في تلك المسألة.
رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد، ونقدتك الثمن، وهو ألف درهم، فجحد البائع البيع وقبض الثمن، فشهد له شاهدان على إقراره بالبيع، وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد، ولكنه قال لنا: عبدي زيد، وشهد آخران (أن) هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع أن هذا العبد اسمه زيد، فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، فإن حلف رد الثمن، وإن نكل لزمه البيع بنكوله، هكذا قال أبو يوسف رحمه الله، فإن شهد شاهدا البيع أنه أقر أنه باعه عبده زيداً المولود، نسبوه إلى شيء يعرف، من عمل أو صناعة أو حلية، فوافق ذلك هذا العبد، فهذا والأول سواء في(8/332)
القياس، لكني أستحسن إذا نسبوه إلى أمر معروف أن أجيزه، وكذلك الأمة.
وفي «المنتقى» : شهد شاهدان أن لهذا في هذه الدار ألف ذراع، فإذا الدار خمسمائة ذراع أو شهدا أن له في هذا القراح عشرة أجربة، فإذا القراح خمسمائة أجربة، فالشهادة باطلة، ولو كان أقر بذلك أخذ المقر له كلها.
وفيه أيضاً: شاهدان شهدا أن شاة هذا دخل غنم هذا، ولم يعرف الشاة لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا أنه غصب شاة وأدخلها في غنمه قضيت عليه بالقيمة، ولو شهدا أن داره في دار هذا، ولم يجدوا من أي موضع هي، فالشهادة باطلة. ولو شهدوا أنه غصب داره، وأدخلها في داره قضيت عليه بالقيمة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله في ثلاث نفر، لهم على رجل دين بألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه قد أبرأه من حصته لا يجوز؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما شركته إذا قبضا حصتهما، وهو بمنزلة ما لو قبضا نصيبهما، ثم شهدا أنه قد أبرأه عن نصيبه، وقال محمد رحمه الله: إن كانا قد قبضا نصيبهما، فشهادتهما باطلة، وإن كانا لم يقبضا، فشهادتهما جائزة.
إذا شهدا على رجل أنه أقر أن اسمه عارية في هذا الدين، وهو لفلان، وفلان يدعيه فهو جائز.
نوع آخر منه
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا شهد رجلان أن لهما ولفلان على هذا الرجل ألف درهم، فهذا على وجوه:
الأول: أن ينصا على الشركة، بأن شهدا أن لفلان ولهما على هذا الرجل ألف درهم مشترك بينهم، وفي هذا الوجه لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن المشهود به مشترك بينهم، بحيث لا يمكن تمييز نصيب فلان عن نصيبهما، وقد تعذر قبول شهادتهما في نصيبهما، فيمنع قبولهما في نصيب فلان ضرورة.
الثاني: إذا نصا على قطع الشركة، بأن قالا: نشهد أن لفلان على هذا خمسمائة، وجبت بسبب على حدة، ولنا عليه خمسمائة وجبت بسبب على حدة، وفي هذا الوجه تقبل شهادتهما في حق فلان، فهذا ظاهر.
الثالث: إذا أطلقا الشهادة إطلاقاً، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة أصلاً؛ لأنه يحتمل أن المشهود مشترك بينهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهما، فلا تقبل بالشك.
وإذا كان لرجل ألف درهم على ثلاثة نفر شهد اثنان منهم أن صاحب الدين أبرأهما وفلاناً عن الألف التي كانت له عليه وعليهما، فإن كان البعض كفلاً عن البعض لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً؛ لأن براءة فلان عما عليه، وهو أصل في حقهما يوجب براءتهما، وإن لم يكن البعض كفلاً عن البعض، فإن شهدا أنه أبرأهما وفلاناً بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن الشهادة حصلت(8/333)
بكلمة واحدة، وقد بطلت في البعض فيبطل في الباقي ضرورة.
وإن شهدا أنه أبرأهما على حدة، وفلاناً على حدة تقبل شهادتهما في حق فلان، ونظير هذا ما ذكر في كتاب الحدود إذا شهد رجلان أن فلاناً قذف....، وهذه بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما ولو شهدا أنه قذف.... على حدة، وهذا على حدة قبلت شهادتهما في حق هذه، وطريقه ما قلنا.
وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل وامرأتان أن زوج المرأتين قال لنسائه: أنتن طوالق لم تجز الشهادة على طلاقهما وعلى طلاق غيرهما.
ولو شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لفقراء بني تميم، وهما من بني تميم، وهما فقيران جازت الشهادة، ولا يعطيان شيئاً، لأنه لو قسم في بعضهم جاز.
ولو شهدا أنه أوصى بثلث ماله لفقراء أهل بيته وهما فقيران من أهل بيته، أو ولد لهما فقير من أهل بيته لم تجز الشهادة لهما ولا لغيرهما، وإن كانا غنيين ولا ولد لهما فقير جازت الشهادة.
وفي الوصايا لو أوصى بثلث ماله لفقراء جيرانه، فشهد على ذلك رجلان لهما أولاد يحتاجون في جوار الموصي، قال محمد: لا تقبل هذهِ الشهادة أصلالاً أما في حق أولاد الشهود فظاهر، وأما في حق الباقين فلأن الشهادة واحدة.
وفي «وقف هلال» : لو وقف على فقراء جيرانه، فشهد على ذلك شاهدان من فقراء جيرانه قبلت شهادتهما، وإذا شهد أهل مسجد على وقفية كراسة على مسجدهم أو على أهل مسجدهم وهم يحصون، حتى يجوز الوقف، هل تقبل شهادتهم؟ ينظر إن كان الشاهد ممن يقرأ أو له ولد يقرأ لا تقبل شهادته، وإن كان ممن لا يقرأ، وليس له ولد يقرأ تقبل شهادته، وهو نظير أهل مدرسة شهدوا على وقف تلك المدرسة، أو أهل محلة شهدوا على وقف تلك المحلة.
وهناك بعض المشايخ فصلوا الجواب تفصيلاً، فقالوا في شهادة أهل المدرسة إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك الوقف لا تقبل شهادتهم، وإن كانوا لا يأخذون تقبل، وكذلك في أهل المحلة من شهد وهو ممن يأخذ شيئاً من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شهادة جار المغنم، وعلى هذا الشهادة على وقف المكتب وللشاهد صبي في المكتب، أو ليس له صبي في المكتب. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن تقبل الشهادة في هذه المسائل كيف ما كان، لأن كون الفقيه في المدرسة أو كون الداخل في المحلة أو كون الصبيّ في المكتب ليس بأمر لازم، بل ينتقل الفقيه من مدرسة إلى مدرسة، ومن محلة إلى محلة، وينتقل الصبي من مكتب إلى مكتب، ومثل هذا لا يمنع قبول الشهادة، بخلاف ما إذا كان أمراً لازماً، وهذا القائل يقول: ولأجل هذا المعنى وقع الفرق بينما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء جيرانه على ما ذكره هلال، وفيما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء(8/334)
قرابته؛ لأن الجوار ليس بلازم، والقرابة لازمة، ولكن هذا الفرق لا يشكل بما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء بني تميم، وهم من فقراء بني تميم، حيث تقبل شهادتهما، وكونهما من بني تميم أمر لازم.
إذا شهدوا أن جميع ما في قرية فلان من الدور والأراضي وغيرهما، التي هي معروفة لفلان ميراث من جهته لفلان ابنه، هذا المدعي لا وارث له غيره، ذكر الصدر الشهيد في «فتاوى الصغرى» أن الشهود إن كانوا يعرفون حدود ذلك جاز، وإن كانوا لا يعرفون لا يجوز؛ لأنهم شهدوا بالمجهول، وقيل: إذا كان الشهود لا يعرفون حدود ذلك لا يحل لهم أداء الشهادة، وإن عرفوا إلا أنهم لم يشهدوا بها، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، وهو الأصوب.
إذا ادعى على رجل نقرة جيدة موروثة بوزن معلوم، وشهد الشهود بالنقرة بذلك الوزن، ولم يذكروا صفة الجودة في شهادتهم، ولا صفة الرداءة، فالقاضي يقبل (123آ4) شهادتهم، ويقضي بالنقرة الرديئة بذلك الوزن، هكذا كان يفتي بعض مشايخنا؛ لأنهم شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي، وعلى هذا القياس إذا ادعى مقداراً معلوماً من دقيق غير منخول، وشهد الشهود بالدقيق مطلقاً، وقيل: لا بل بينهما فرق؛ لأن الدقيق مع النخالة متفاوت، بخلاف النقرة الرديئة، ولو أدعى دقيقاً مع النخالة وشهد الشهود بدقيق منخول لا تقبل.
الفصل الخامس: في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته
يجب أن يعلم بأن شهادة الإنسان على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته أو نفي ذلك لا تقبل؛ لأنه شهادة لنفسه، والشهادة لنفسه دعوى، وبالدعوى لا يقطع الحكم، قال ابن سماعة عن محمد: كان أبو حنيفة رحمه الله يجيز شهادة القاسمين على قسمتهما، وكان أبو يوسف رحمه الله لا يجيز ذلك، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تجوز شهادتهما، وذكر الخصاف قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما اللهُ، ولم يذكر فيه الاختلاف، قالوا: إن ما ذكره الخصاف آخر قول محمد، فقد رجع إلى قول أبي حنيفة، فأما في ظاهر الرواية، فقول محمد يخالف قولهما في هذه المسألة.
ووجه قول محمد أنهما شهدا على فعل أنفسهما، فلا تقبل شهادتهما، سواء كان فيه منفعة لهما أو لم تكن، كالوكيل بالنكاح إذا شهد بعقده، وكما إذا قال لرجلين: إن كلمهما عبدي فهو حر، فشهدا أنهما كلماه لا تقبل شهادتهما، وإن لم يكن فيه جر منفعة إليهما؛ لأن ما أتيا به دعوى لا شهادة على ما ذكرنا، كذا هذا. كيف وإن ههنا فيه جر منفعة إليهما؛ لأنه إذا ثبتت قسمتهما يستحقان أجر القاسمين، ولا تقبل شهادة من يجرّ إلى نفسه مغنماً.(8/335)
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا: إن هذه الشهادة قامت لإثبات الملك للغير؛ لأنه لا حق له في المقسوم ولا ملك، وقد خلت عن التهمة لانتفاء سبب التهمة من السبب أو اتصال الملكين، فوجب أن تقبل هذه الشهادة، ولأن الحاجة ماسة إلى قبول شهادتهما، لأنه لا يمكن للقاضي أن يبعث معهما شاهدين عدلين يشهدان على فعلهما، ولو فعل يلحق المؤنة على أصحاب القسمة، فلو لم تقبل شهادتهما لضاق الأمر على الناس، ولأن قاسم القاضي أمين القاضي ونائبه في القسمة، فكان فعله كفعل القاضي، والدليل على أن فعله كفعل القاضي أن القاضي وإن لم يكن مأذوناً في الاستخلاف يملك أن يفوض القسمة إلى غيره، فلولا أن فعله كفعل القاضي، وإلا لما ملك التفويض؛ لأنه ليس للقاضي أن يولي غيره الحكم بدون إذن الإمام، فثبت أن فعله منقول إليه حكماً، والدليل عليه أنه لا تلحقه العهدة، ولولا أن فعله منقول إلى القاضي حتى كان من القضاء وإلا للحقه العهدة والدليل على أنه من القضاء أن للقاسم أن يجبر الممتنع من القسمة، ولو لم يكن من القضاء لما كان له ولاية الجبر فإنه ليس لغير القاضي ولاية الجبر.
إذا ثبت هذا فنقول: تقريره من وجهين:
أحدهما: أنه لما كان فعله منقولاً إلى القاضي يعتبر فعله بفعل القاضي بنفسه، ثم القاضي إذا تذكر القضاء لرجل، والمقضي عليه ينكر، كان له أن يلزمه القضاء بقوله، فكذلك القاسم يملك أن يثبته بشهادته.
والثاني: أن فعله لما كان منقولاً إلى القاضي لم تكن هذه شهادة على نفسه من حيث التقدير، بل كان على فعل القاضي حكماً، وشهادتهما على فعل القاضي مسموعة، على أن هذه الشهادة في الحقيقة ما قامت على فعلهما، فإن فعلهما تعيين الأنصباء، فأما ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصيبه لقبوله وقبض نصيبه، وذلك فعل أصحاب الأملاك، وشهادة الإنسان على فعل غيره مقبولة.
وقوله إنهما يجران إلى أنفسهما مغنماً؛ لأنهما يستحقان الأجر بالقسمة، قلنا: إنما تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا كانا لا يطلبان الأجر، وأما إذا طلبا الأجر لا تقبل شهادتهما، هذا كما قلنا في شهادة الشفيعين على بيع الدار: إنهما إن طلبا الشفعة لا تقبل شهادتهما، وإن كانا لا يطلبان الشفعة تقبل شهادتهما إذا شهدا على القسمة لا غير، ثم قالا بعد ذلك: نحن قسمنا واشتغلا بالتفصيل، فأما إذا شهدا على أنفسهما من الابتداء لا تقبل شهادتهما، ولكن إطلاق ما ذكر في «الكتاب» يدل على أنه تقبل شهادتهما في الأحوال كلها، وأن الصحيح ما ذكر من جواز شهادتهما على الإطلاق على قسمة أنفسهما لما ذكرنا من المعاني.
قال: فإن فرزا الأرض وقوماها ثم عرضا ذلك على القاضي، ثم حضرت الورثة وأقروا بالتحديد والقيمة، فأقرع القاضي بينهم، ثم أجبر عن قسمته فذلك جائز؛ لأن هذه قسمة من القاضي، وإنه بمنزلة القضاء منه، والقاضي إذا قال: قضيت على فلان بكذا قبل قوله بالاتفاق كذا هذا، بخلاف شهادة قاسمي القاضي على قول محمد؛ لأنه ليس بقضاء(8/336)
من القاضي، بل هي شهادة على فعلهما.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان أن فلاناً أمرنا أن نبلغ فلاناً أنه قد وكله ببيع عبده وقد أعلمناه، أو أمرنا أن نبلغ امرأته أنه جعل أمرهَا في يدها وبمعناها، وقد طلقت نفسها جازت شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل المرسل، فالرسول ينقل كلام المرسل فقد شهدا على فعل غيرهما، وقوله: فيقبل شهادتهما، وبمثله لو قالا: نشهد أنه قال لنا خيّرا امرأتي فخيرناها فاختارت نفسها، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل أنفسهما، وهو التخيير، فلا تقبل منهما، لأنه دعوى لا شهادة، بخلاف الأول، فإنهما شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا. وفيه أيضاً: إذا شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا.
وفيه أيضاً: إذا شهدا على رجل بمال أنه قبضه من آخر وهو ينكر، فشهدا على قبضه، وقالا: نحن وزناها عليه، قال إن كانا زعما أن ربّ المال كان حاضراً جازت شهادتهما، وإن لم يكن حاضراً عند الوزن لم تقبل شهادتهما، لأنه إذا كان حاضراً ينقل فعل الوزن إليه، فكان شاهداً على فعل غيره، فأما إذا كان غائباً تعذر إضافته إليه، فبقي الفعل مقصوراً عليه، فكان شاهداً على فعل نفسه، فلا تقبل شهادتهما، فالحاصل أن شهادة الإنسان على فعل نفسه لا تقبل إذا لم يكن ذلك الفعل منتقلاً إلى غيره سواء كان له منفعة في المشهود به أو لم يكن، فإذا كان فعله منقولاً إلى غيره تقبل شهادته عليه.
قال في «المنتقى» على طريق الاستشهاد: ألا ترى أنه لو وزن له الغريم ألف درهم ووضعها، وقال: خذها لك قد وفيتك، فقال المقضي له لرجل: ناولني هذه الدراهم فناوله، ثم شهدا على المقضي له أنه هو الذي دفع الدراهم إليه إن شهادته جائزة، وذكر هلال البصري في «الشروط» أنه لا تقبل شهادة الذي كال في المكيل، وتقبل شهادة الذي ذرع في المذروع.
ووجهه: أن الكيل من القبض؛ لأن للكيل أثراً في التعيين؛ لأن قدر المبيع إنما يعرف بالكيل، حتى لا يجوز البيع فيما سواه، ألا ترى أنه إذا اشترى صبرة حنطة على أنها كرّ، فوجدها كرين إن الزيادة لا تكون له بل تكون للبائع، والقبض لا يصح ولا يتم بدون التعيين والتقدير، فكان الكيل من جملة القبض، فكانت الشهادة على التعيين شهادة على فعل نفسه، وهو الكيل فلا تقبل، وأما الذرع لا يفيد التعيين والتقدير، ألا ترى أنه إذا اشترى أرضاً على أنها مائة ذراع، فوجدها مائتي ذراع إن الزيادة للمشتري أيضاً، فلم يكن الذرع من القبض في شيء، فكانت هذه شهادة على فعل غيرهما فقبلت.
وفي «المنتقى» رواية بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن شهادة الكيالين باطلة.
ادعى على آخر أنه أقرضه كر حنطة، وشهد شاهدان بهذا اللفظ: أين كندم بخران ما آورد وماكد أكس بودنم، فقيل: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، وقيل: تقبل؛ لأنهما أضافا الفعل إلى المدعى عليه، حيث قالا: بخران ما آورد حتى لو قالا: ما آورديم بترديك دي بي دستوري دي، لا تقبل هذه الشهادة على قياس(8/337)
مسألة الكيال، وقيل: ينبغي أن يقال: إن قالا: مدعى عليه باما بود تقبل شهادتهما، وإن قالا: بأماني بود لا تقبل على قياس مسألة الوزان.
قال ابن سماعة عن محمد في رجل اشترى من رجل عبدين شراءً صحيحاً أو فاسداً، فقبضهما المشتري وأعتقهما، ثم اختلف والمشتري في ثمن العبدين في البيع الصحيح، وفي قيمتهما في البيع الفاسد يوم قبضهما، فشهد هذان العبدان على ثمنهما أو على قيمتهما يوم قبضهما المشتري، فإنه لا تقبل شهادتهما.
أما إذا شهدا على قيمتهما، فلأن هذه شهادة على صفتهما؛ لأن القيمة تزداد بزيادة وصف مرغوب وتنقص بنقصانه، فكانت الشهادة على زيادة القيمة شهادة على زيادة وصف مرغوب، وعلى نقصان القيمة شهادة بنقصان الوصف، فكانت هذه الشهادة قائمة لإثبات وصف فيهما، فكانت الشهادة لأنفسهما من حيث الحقيقة، فلا تقبل.
وأما إذا شهدا على ثمنهما، فلأن الثمن تقدير لقيمة المبيع والمماثلة في ثمنه في جميع البياعات لتحقق المعادلة، وذلك (123ب4) بأن لا يزول ملكه عن المبيع إلا ببدل يَعْدِله، وهو قدر قيمته، فالمتعاقدان إذا قدرا شيئاً من الأثمان صار ذلك بمنزلة تسمية القيمة التي هي للعين، وقد ذكرنا أن شهادتهما على قيمتهما غير مقبولة.
وروي عن أبي يوسف أنه يقبل شهادتهما على زيادة الثمن أو نقصانه، ووجهه: أن الشهادة على الثمن شهادة على عقد جرى بين البائع والمشتري أوجب ذلك الثمن على المشتري، وذلك العقد وحكمه ليس بواقع للعبد، لتكون شهادته عليه شهادة على فعله، أو وصفه حتى يصير شاهداً لنفسه، يوضحه أن وجوبه وصحته يعتمد صحة القسمة في العقد، لا زيادة وصف ولا نقصانه، وقيام العقد بالعاقدين، فكانت شهادة على فعل غيرهما فتقبل.
قال: ولو شهد العبدان بعد العتق أن المشتري وفّى البائع الثمن وهو يجحد ذلك، قبلت شهادتهما لأن هذه الشهادة لغيرهما، وهو المشتري ببراءته عن الثمن بسبب الإيفاء، وليس بينهما ما يمنع قبول الشهادة، فقبلت شهادتهما، قال: أرأيت لو شهدا أن البائع أبرأه عن الثمن ألم يكن جائزاً؟ وهذا إشارة إلى ما قلنا: إن المشهود به برأه المشتري من حيث الحقيقة، والبراءة عسى تكون بالاستيفاء، وعسى تكون بالإبراء، وكيف ما كان فهذه شهادة لغيرهما، وقد استجمع شرائط الجواز، فقبلت.
قال: ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً أمرهما أن يزوجا فلانة منه فزوجاها، أو شهدا أنه أمرهما أن يخلعا منه فلانة فخلعا، أو أمرهما أن يشتريا له عبداً فاشتريا فكل مسألة من هذه المسائل على ثلاثة أوجه: أن يجحد الموكل الأمر والعقد جميعاً، أو يقر بالأمر ويجحد العقد، أو يقر بهما، وكل وجه على وجهين: إما أن يكون الخصم يدعي العقد مع الوكيل في الفصول كلها أو يجحد.
فإن كان الموكل جحد الأمر والعقد جميعاً لا تقبل هذه الشهادة في الفصول كلها؛ لأنها إن كانت شهادة صورة، فهي دعوى معنى؛ لأن الشاهد من يثبت الحق لغيره وههنا(8/338)
هما يثبتان الوكالة لأنفسهما، فكانا مدعيين لا شاهدين، فلا تقبل شهادتهما.
فإن كان الآمر يقر بهما، فإن كان الخصم مقراً بالعقد، فالقاضي يقضي بذلك لا بشهادتهما، بل بتصادقهم، البيع والنكاح والخلع في ذلك على السواء. وإن كان الخصم يجحد العقد، فالقاضي لا يقضي بالبيع والنكاح، ويقضي في الخلع بالطلاق بغير مال لا بشهادتهما، ولكن بإقرار الزوج، وإنما لا يقضي بسائر العقود بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما، فكانا شاهدين لأنفسهما.
وإن كان الآمر يقر بالأمر ولكن يجحد العقد، فإن (كان) الخصم مقراً، فإنه يقضي لأنفسهما في العقود كلها، إلا في النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوكيل ثبت بتصادقهما، والوكيل في هذه العقود إذا قال: فعلت وساعده الخصم، فإنه يثبت العقد وإن جحد الموكل إلا في النكاح، فإنه لا ينفذ إقرار الوكيل على الموكل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله من غير تصديق الموكل، ويحتاج فيه إلى إثباته بالبينة، وإذا احتيج إلى البينة لا تقبل شهادة الوكيلين؛ لأنه يثبت فعل نفسه، فكان شاهداً لنفسه، وعندهما ينفذ إقرار الوكيل على الموكل، وإن كان الخصم جاحداً لا يقضى بشيء من العقد؛ لأنه إذا كان جاحداً يحتاج لإثباتهما إلى البينة، وشهادة الوكيلين لا تقبل؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما.
وإذا شهد رجلان بالمهر لأختهما بسبب تزويجهما وقالا: نشهد أنا زوجنا هذا أختنا بألف درهم، والزوج يجحد النكاح، أو قال كان المهر خمسمائة، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بالمهر لأختهما بسبب تزويجها، فكان السبب مشهوداً به كالمهر، والشهادة على السبب شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل. ولو أقر الزوج بالمهر والنكاح وادعى البراءة أو الأداء، فشهدا بذلك للزوج قبلت شهادتهما، لأنه لا تعلق لهذه الأشياء بفعلهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا اشترى الرجل عبدين وقبضهما وأعتقهما، وأراد أن يرجع بنقصان عيب قد أنكره البائع، فشهد العبدان أن هذا العيب كان بهما لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة بإثبات وصف فيهما وهو العيب، أو زوال صفة السلامة، وكيف ما كان لا يثبت بهذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان لأنفسهما.
وكذلك لو شهدا لرجل على المشتري أنه كان له نصفهما، فشهادتهما باطلة لوجهين: أحدهما: أنهما يشهدان لأنفسهما، فإنهما يثبتان انتقاض البيع في نصفهما لمكان الاستحقاق، والثاني: أن في قبول شهادتهما ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنا إذا قلنا: شهادتهما أبطلتا الإعتاق عن أنصافهما، فكانا معتقي البعض، ومعتق البعض بمنزلة المكاتب، ولا شهادة للمكاتب. وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده الإعتاق متجزئ.
وكذلك لو شهدا أن المشتري قد كان وهب نصف كل واحد منهما لرجل قبل أن يعتقهما لم أقبل شهادتهما، لأنا لو قبلنا شهادتهما بطل العتق عن أنصافهما، فكان بمنزلة(8/339)
المكاتب ولا شهادة للمكاتب، فكان في تصحيحها في الابتداء إبطالها في الانتهاء، ولأنهما يريدان إبطال العتق عن بعضه بعد ما كان ثابتاً من طريق الحكم، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على إثبات صفة لنفسه، أو على نفي صفة عن نفسه لا تقبل.
وكذلك أم ولد الرجل مات عنها أو أعتقها، فشهدت هي وامرأة ورجل أنها كانت بين الميت ورجل آخر لا أقبل شهادتها، ولا أقضي على المستولد بنصف قيمتها ونصف عقرها وهذه المسألة لا تخرّج على الطريقة الأولى في المسألة المتقدمة؛ لأنه ليس في تصحيح هذه الشهادة ابتداء إبطالها انتهاء، فإن أحد الشريكين إذا استولد الجارية المشتركة بينهما ملك نصيب صاحبه بالضمان، فنفذ الاستيلاد عليه حتى تعتق بموته، فلا يكون في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء، وإنما تخرج على الطريقة الثانية؛ لأنهما بهذه الشهادة ينفيان ملك المستولد عن نصفهما، والملك صفة، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على نفي صفة عن نفسه لا تقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل قال لعبده إن دخلت دار هذين الرجلين أو قال: إن مسست ثوبهما فأنت حر، ففعل العبد ذلك، فجاء الرجلان يشهدان على ذلك، فشهادتهما جائزة، لكن هذه الشهادة قامت على فعل العبد، وهو الدخول والمس، ولا تهمة في شهادتهما للعبد فقبلت، بخلاف ما إذا قال: إن كلمتما عبدي أو مسستما ثوبه فهو حر، فشهدا أنهما فعلا ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما.
ولو قال لعبده: إن كلمت فلاناً وفلاناً فأنت حر، فشهدا أنه كلمهما لا تقبل شهادتهما، بخلاف ما لو قال له: إن دخلت دارهما، فشهدا على الدخول، حيث تقبل شهادتهما، والفرق: أن شهادتهما بكلامهما شهود بحضورهما؛ لأنه لا يتصور الكلام معهما إلا بحضورهما، ألا ترى أن من حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو غائب لا يحنث في يمينه، وحضورهما فعلهما، فكانا شاهدين بفعل أنفسهما، فأما شهادتهما بدخوله الدار شهادة بفعل غيرهما؛ لأنه لا تعلق لدخوله الدار بهما، فكانا شاهدين بفعل غيرهما من كل وجه.
وفي شهادات «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال: إن دخل داري هذه أحد، (فامرأتي طالق) ، فشهد ثلاثة نفر أو أربعة نفر أنهم دخلوا، فهذا على وجهين: إن قالوا دخلنا لا يقبل قولهم، ولا يحكم بحرية العبد؛ لأنهم شهدوا على فعل أنفسهم. وإن قال اثنان منهم: دخلنا ودخل هذا الثالث والرابع معنا قبل قولهم، وحكم بحرية العبد؛ لأن قول كل واحد منهم إخبار وشهادة، فيقبل قول كل واحد منهم في حق القضاء بالحرية من حيث إنه شهادة لا من حيث إنه خبر.
وروى الحسن بن زياد فيمن حلف بعتق مماليكه أن لا يستقرض أبداً شيئاً، فشهد رجلان أنهما أقرضاه لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، ولهما في هذه الشهادة منفعة، وكل ذلك مانع قبول الشهادة. ولو شهدا أنه طلب ذلك منهما، ولم(8/340)
يقرضاه قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما؛ لأن الاستقراض طلب القرض، وإنه فعل المستقرض، ولا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ لأنهما قالا: ما أقرضناه.
ولو كان حلف لا يقرض فلاناً وفلاناً شيئاً، فشهدا أنه أقرضهما حنث في يمينه؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما وهو الإقراض ولا تهمة فيها، فقبلت.
وعن أبي يوسف رحمه الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وشهد له شاهدان بها، وأنه كان أستأجرهما على بنائه وغير ذلك قبلت شهادتهما. ولو قالا: استأجرنا على هدمها، فهدمناها لم تقبل شهادتهما، وضمن المدعى عليه قيمة البناء؛ لأن في الفصل الثاني يدفعان عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما؛ لأنهما يريدان بذلك إسقاط ضمان لزمهما بالهدم؛ لأن البناء للمدعى عليه، فظاهر اليد وهدم بناء الغير سبب للضمان، وشهادة دافع المغرم لا تقبل، فأما في الفصل الأول لا يدفعان عن أنفسهما مغرماً، ولا يجران إلى أنفسهما مغنماً، فقبلت شهادتهما، وعلى هذا يقاس نظائره.
الفصل السادس: في شهادة الرجل على فعل من أفعال (124أ4) ابنه، وشهادته لأبيه وأمّه
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا شهد ابنا القاضي على كتابه إلى قاض آخر من القضاة، أو على قضائه أو على شهادته وهو مدع أو ميت جاز ذلك.
وفي «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد أنه لا يجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وعلى كتابه، كما لا يجوز شهادة الابن على شهادة أبيه. وفي «المنتقى» في باب من لا تجوز شهادته له: رواية الحسن بن مالك عن أبي حنيفة أنه قال: لا تجوز شهادة الولد على قضاء أبيه بأن شهدا أن أباه قضى لفلان بكذا، وتجوز شهادته على شهادة أبيه، قال: وهو قول أبي يوسف رحمه الله: وذكر بعد هذا في هذا الباب أيضاً: لو كان قاضياً يوم ما شهد الابن على قضائه أنه تجوز شهادته. وفي آخر هذا الباب عن أبي حنيفة أنه لا تجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وإن كان الأب قاضياً يوم الشهادة.
والحاصل: أن شهادتهما على فعل أبيهما فعلاً ملزماً لا يقبل إذا كان للأب فيها منفعة بالاتفاق، يعني بها المنفعة المطلوبة من الشهادة، وإن لم يكن للأب فيه منفعة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تقبل شهادتهما، وعن محمد روايتان.
وجه رواية القبول عنه أن شهادة الابن لأبيه إنما تقبل لمكان تهمة الميل، وذلك إنما تحقق فيما للأب فيه منفعة، والمنفعة المطلوبة من الشهادة في هذه الصورة إنما تحصل للمدعي لا للأب، ومنفعة نفاذ القول على الغير وظهور صدقه عند الناس غير معتبرة في إفادة التهمة المانعة من قبول الشهادة، ألا ترى أن الأب إذا شهد مع ابنه في حادثة قبلت(8/341)
شهادتهما، ولولا شهادة الابن لكان لا تقبل شهادة الأب، فالابن بهذه الشهادة يسعى إلى إظهار صدقة، وتنفيذ قوله على الخصم، ولم يمنع ذلك قبول شهادته كذا ههنا.
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف قوله عليه السلام: «لا تقبل شهادة الولد لوالده» ، وإذا شهد على فعل والده فقد شهد له بإثبات فعله، ولأنه متهم في هذه الشهادة، لأن للأب فيه منفعة، وهو نفاذ قضائه وظهور صدقه إذا كان يدعى، ومنفعة ظهور الصدق فوق سائر المنافع، وأقوى في إيراث الشبهة وإيقاع التهمة.
ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف فرقا بين شهادتهما على شهادة أبيهما وبين شهادتهما على قضاء أبيهما، والفرق أن الشهادة ليست بملزمة والقضاء ملزم، وقد احتج أبو يوسف على محمد فقال: الابن جزء الأب، فشهادته على فعل أبيه كشهادة الأب على نفسه من حيث الحكم والاعتبار، وشهادة الأب على فعل نفسه لا تقبل، فكذا شهادة الابن على فعله.
ولو قال لعبده إن كلمك فلان فأنت حر، فادعى فلان أنه كلمه العبد، وشهد ابناه بذلك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي إحدى الروايتين عن محمد تقبل.
وإذا قال لرجلين: إذا دخلتما هذه الدار فعبدي حر فماتا، فشهد ابناهما أن أبويهما قد دخلا الدار فهو على الخلاف الذي ذكرنا، قال: ولو أنكر الأبوان وهما حيان جازت شهادة الابنين على دخولهما بلا خلاف؛ لأنهما صارا مشهوداً عليهما بالدخول عند الجحود، وتلك المنفعة التي صورناها عند دعواهما، وهو ظهور صدقهما، وتنفيذ قولهما لا تتحقق ههنا، فكانت شهادة على الأب فقبلت، وهذا هو الحكم في كل شيء شهد الابن به يثبت بشهادته فعلاً من أبيه: من نكاح أو طلاق أو بيع أو غير ذلك إنه لا تجوز شهادته إذا كان الأب حياً يدعي أو ميتاً كان عندهما، وإن كان حياً وهو ينكر تقبل شهادتهما بلا خلاف؛ لأن مع جحوده لا يمكن أن يجعل هذا شهادة للأب، بل يكون شهادة على الأب.
وإذا شهد ابنا الوكيل على عقد الوكيل، فهو على ثلاثة أوجه، الأول: أن يقر الموكل والوكيل بالأمر والعقد جميعاً، وإنه على وجهين: إن كان الخصم يدعي ذلك كله، فالقاضي يقضي بالعقود كلها، ولكن بتصادقهم لا بالشهادة، وإن كان الخصم ينكر ذلك، فإن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا تقبل شهادتهما، ولا يقضي بشيء من هذه العقود إلا في الخلع، فإن هناك يقضى بالطلاق بغير مال لإقرار الزوج وهو الموكل.
وعلى قول محمد رحمه الله في إحدى الروايتين: يقضى بالعقود كلها إلا بعقد ترجع الحقوق فيه إلى العاقد، كالبيع وما أشبهه؛ لأن الحقوق إذا كانت ترجع إلى الأب كان للأب فيه منفعة، وكان الشهادة واقعة للأب، فأما كل عقد لا ترجع حقوقه إلى العاقد(8/342)
لا يكون للأب فيه منفعة سوى تنفيذ القول، وهذه المنفعة عند محمد رحمه الله لا تصلح مانعة قبول الشهادة في إحدى الروايتين.
وإن كان الوكيل والموكل يجحدان ذلك كله، فإن كان الخصم يجحد أيضاً لا يلتفت إلى هذه الشهادة، لأنها خلت عن الدعوى. وإن كان الخصم يدعي تقبل شهادتهما عندهم جميعاً، لأنه لا منفعة للأب في هذه الشهادة، بل له فيه ضرر؛ لأنه ثبت كذبه، فكانت شهادة على الأب، والشهادة على الأب مقبولة.
وإن كان الوكيل يقر بكلا الأمرين والموكل يدعي الأمر ويجحد العقد، فإن كان الخصم يدعي ذلك، فإنه يقضي بالعقود كلها إلا في النكاح على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده إقرار الوكيل على موكله بالعقود كلها صحيح إلا بالنكاح، فتقع الحاجة إلى إثباته بالبينة، وشهادة ابن الوكيل على ذلك لا تقبل. وعندهما القاضي يقضي بالعقود كلها؛ لأن إقرار الوكيل على الموكل بالعقود كلها صحيح، ولا يحتاج فيه إلى البينة.
وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيد أبيها و (..........) أنه طلقها والآمر حي يدعي ذلك، أو ميت لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة (وأبي) يوسف رحمهما الله، يقول جعل أمر امرأته بيد أجنبي توكيل له بالطلاق، وقد بينا هذه المسألة، ثم جعل موت الموكل بمنزلة ادعائه حال حياته، وعن أبي يوسف أن غيبته بمنزلة موته، ووجه ذلك: أن المانع من القبول وقوع الشهادة للأب، فإذا كان الأب حياً يدعي، فالشهادة واقعة بإثبات فعله، وإذا كان حياً وهو يجحد، فالشهادة واقعة عليه. وإذا لم يعرف جحوده بأن مات أو غاب كانت الشهادة واقعة للأب باعتبار الأصل حيث إن فيها إثبات فعله فلا تقبل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان شهدا أن أباهما طلق أمهما، فإن كان الأب يدعي، فلا حاجة إلى الشهادة؛ لأنه أقر على نفسه بالطلاق، وإن كان الأب يجحد تقبل شهادتهما، لأن الطلاق في حق الأم دائر بين الضرر والنفع، من حيث إن به يحصل لها الخلاص عن حبالة الزوج، ويرتفع عنها قيد النكاح نفع، من حيث إن ثمرات النكاح ومقاصده وحقوقه مشتركة بين الزوجين، والطلاق يبطل ذلك عليها ضرر، وكل منفعة يشوبها ضرر تترجح المنفعة بالدعوى والضرر بالجحود؛ لأن أحداً لا يجحد ما ينفعه ولا يدعي ما يضره، فإن ادعت الأم الطلاق يرجح النفع فيها على الضرر، فكانت الشهادة واقعة للأم، وإن جحدت ذلك يرجح الضرر على النفع، فكانت الشهادة واقعة على الأم فقبلت.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله أن الأم إذا ادعت الطلاق تقبل شهادتهما، قال: وهو الأصح؛ لأن دعواها لغو، فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعواها، فصار دعواها لغواً، فجعل وجودها وعدمها بمنزلة، ولو عدم دعواها تقبل(8/343)
شهادتهما فههنا كذلك. قال مولانا تغمده الله بالرحمة: وعندي أن ما ذكرنا في «الجامع» أصح.
ولو أن رجلين شهدا أن امرأة أبيهما ارتدت عن الإسلام، والمرأة تنكر ذلك، فإن كانت أمّهما حية وهي في نكاح أبيهما لا تقبل الشهادة ادعى الأب ذلك أو جحد، أما إذا ادعى فلأن هذه الشهادة وقعت للأب، بيانه: أن الأب لما ادعى الردّة عليها، فقد ادعى سقوط جميع الصداق إن لم يكن مدخولاً بها، وسقوط نفقة العدة إن كانت مدخولاً بها، إلا أنه لا يصدق على ذلك إذا لم تصدقه المرأة فهما بهذه الشهادة يثبتان ذلك. وأما إذا كان الأب يجحد، فلأن هذه الشهادة وقعت للأم لخلوص الفراش لها، وهذه منفعة لا يشوبها ضرر فمنعت قبول الشهادة ادعت الأم ذلك أو جحدت.
وإن كانت أمهما ميتة، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن جحد تقبل؛ لأنه لا منفعة للأمّ في هذه الشهادة، فتعين جانب الأب، وفي جانب الأب يترجح النفع بالدعوى والضرر بالجحود.
وإن شهدا أن أباهما خالع أمهما على صداقها، فإِن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، لأن الطلاق قد وقع بإقرار الأب، بقيت هذه الشهادة لبراءة الأب عن الصداق كلاً أو بعضاً، فلا تقبل. وإن جحد الأب ذلك، فإِن كانت الأم تدعي ذلك لا تقبل شهادتهما، وإِن كانت تجحد تقبل شهادتهما لما ذكرنا.
وإن شهدا أن أباهما خالع امرأته وأنها ميتة، فإن كان الأب يدعي لا تقبل شهادتهما، وإن كان يجحد تقبل شهادتهما.
ولو أن رجلاً تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها، ثم تزوجها مرة أخرى، فشهد ابناه أنه كان طلقها ثلاثاً في (124ب4) النكاح الأول، وتزوجت ثانياً قبل أن تتزوج بزوج آخر، فهذه المسألة أيضاً لا تخلو من الوجوه التي ذكرناها من دعوى الأب أو إنكاره، ومن دعوى المرأة أو إنكارها، فإن صدقته المرأة ثبتت الفرقة وسقط جميع المهر بتصادقهما، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإن أنكرت المرأة لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه الشهادة واقعة للأب.
بيانه: أن الحرمة وإِن ثبتت بإقرار الزوج إلا أنه لزمه نصف المهر؛ لأن النكاح صحيح بظاهر الحال، فالفرقة فيه بالطلاق قبل الدخول توجب نصف المهر، فلو قبلنا شهادتهما سقط المهر كله؛ لأن النكاح في المطلقة ثلاثاً لا يوجب المهر، إلا إذا اتصل به الدخول، ولم يوجد الدخول، فكانت هذه شهادة للأب من هذا الوجه، فلم يقبل. وإن أنكر الأب تقبل شهادتهما ادعت المرأة بذلك أو أنكرت؛ لأنه إن كان في هذه الشهادة منفعة الأب لسقوط جميع الصداق، ففيه ضرر له أيضاً بزوال ملك النكاح، وقد بينا أن فيما يدور بين النفع والضرر تعتبر الدعوى والإنكار، وعند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على الأب، وسقط جميع الصداق عنه ضرورة قبول الشهادة على الطلاقات.
ثم في هذه المسائل إنما قلنا: (تقبل) شهادتهما وإن لم يسبق دعوى أحد ما شهدا به؛(8/344)
لأنه شهادة على تحريم الفرج، وإنه حق الله تعالى، والشهادة في حقوق الله تعالى تقبل حسبة من غير دعوى.
ولو أن أمة لرجل شهد ابناها وهما حران مسلمان أن مولاها أعتقها على ألف درهم، فإن ادعى المولى ذلك، فالعتق واقع بإقراره، فتمحض هذا شهادة على أمهما بالمال فقبلت، وإن أنكر المولى، فإِن ادعت لا تقبل شهادتهما وإِن أنكرت تقبل شهادتهما؛ لأن العتق على مال دار بين الضرر والنفع في زوال الملك والرق عنها والضرر في لزوم المال عليها، فيعتبر جانب النفع عند الدعوى، فتكون الشهادة لها، ويعتبر جانب الضرر عند الإنكار، فتكون شهادة عليها فتقبل، أكثر ما فيه أن هذه الشهادة خلت عن الدعوى، إلا أن الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير الدعوى، ومتى ثبت العتق وجب المال؛ لأنه بيع المعتق.
وإِن شهد ابنا المولى بذلك، فإن ادعى المولى لا تقبل؛ لأن العتق يقع بإقراره والشهادة بالمال شهادة لأبيهما، وإن أنكر المولى قبلت شهادتهما؛ لأن العتق دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، فيترجح جانب الضرر بالإنكار في حقه، فكان شهادة على الأب.
ولو كان مكان الجارية غلاماً، وقد شهد ابنا المولى بذلك، وأنكر المولى والغلام ذلك لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على عتق، وعنده الدعوى من العبد على شرط قبول الشهادة، وعندهما تقبل الشهادة؛ لأن دعوى العبد عندهما ليس بشرط.
ولو شهد رجلان أن أباهما باع هذه الجارية من هذا الرجل، أو قال هذا العبد، فأعتقه المشتري هذا، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، لما فيه من زوال ملكه إلى خلف، فيعتبر النفع عند الدعوى، فكانت هذه شهادة لأبيهما، ولكن يعتق العبد؛ لأن البائع مالكه ظاهراً وقد أضاف المعتق بإقراره إلى من زعمه مالكاً، فنفذ إقراره عليه، والولاء موقوف؛ لأنه تعذر إثباته من جهة المشتري لإنكاره ومن البائع؛ لأنه أقر بالعتق على غيره، ويعتبر قبول الشهادة على الولاء على المشتري؛ لأنه لا بد لذلك من إثبات الشراء منه، وفي ذلك نفع للبائع، فلا تقبل شهادة ابنيه في ذلك.
وإِن أنكر الأب وادعت الجارية وأنكر المشتري أيضاً أو هو غائب، فشهادتهما جائزة؛ لأن عند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على أبيهما فقبلت، ولا يقال بأنه قضاء على الغائب بالشراء أو للغائب، أو قضاء بالشراء عند حضرة المشتري من غير دعوى، والبينة في الشراء لا تقبل من غير دعوى الخصم؛ لأنه من حقوق العباد؛ لأنا نقول هذه البينة قامت بعد دعوى صحيحة من خصم، وهي الجارية؛ لأنها ادعت العين من جهة المشتري، ولا يتوصل إلى إثبات العتق لنفسه، فكأن هذه البينة قائمة من خصم على خصم فقبلت وقضي بالشراء؛ لأنه يثبت بيعاً للعتق، ووجب للبائع الثمن على المشتري ضرورة إثبات الشراء.(8/345)
وفي كتاب «الأقضية» : ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ضمن لرجل ما باع فلاناً من شيء، فقال الطالب: قد بايعت فلاناً بيعاً بألف درهم، فجحد الضامن ذلك، فشهد عليه ابناه أنه قد بايعه بيعاً بألف درهم، فإن شهادتهما جائزة؛ لأن هذه شهادة على أبيهما فقبلت، وكذلك إذا جحد الضامن، فشهد ابناه أن فلاناً أمرك أن تضمن عنه وأنك ضمنت عنه لفلان ما باعه من شيء، وقد باعه بيعاً بألف درهم، قال: شهادتهما جائزة، ويؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عليه، فقد جوزت شهادتهما على الضمان وعلى الأمر، حتى قال: يؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عنه.
أما قبول الشهادة على الضمان فظاهر، وأما قبول الشهادة على الأمر ورجوع الأب على الأمر بالضمان مشكل، أما الشهادة على الأمر فوجهين: أحدهما: أن الشهادة في حقوق العبد لا تقبل إلا بعد سابقة الدعوى ولم يوجد؛ لأن الضامن يجحد الأمر والضمان جميعاً، ولا حق للطالب في الأمر ليدعيه، فكيف تقبل هذه الشهادة. والثاني: أن الشهادة على الأمر شهادة لأبيهما؛ لأن فيه منفعة خالصة من غير شوب مضرة، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر والشهادة لأبيهما لا يجوز أن تقبل.
وأما رجوع الأب على الذي عليه الأصل مشكل؛ لأن في زعمه أنه لا رجوع له على الذي عليه الأصل الجواب عنه: أما الأول فنقول هذه شهادة بعدَ دعوى صحيحة من الطالب، فإنه يدعي الضمان بأمر، وهو أحد نوعي الضمان، وقد أثبت ذلك بهذه البينة.
قوله: لا حق للطالب في الأمر، فكيف يعتبر دعواه، قلنا: ليس كذلك، بل للطالب فيه حق، فإنه لو ثبت الأمر بتساهل الكفيل في الأداء لأنه إنما يؤدي بعوض، وإذا لم يثبت الأمر يؤدي بغير عوض، فيتعاسر في المدا فثبت أن له حقاً في الكفالة والأمر جميعاً، فصحت دعواه وقبلت هذه البينة لما قلنا إنهما شهادة على أبيهما.
قوله: بأن الشهادة بالأمر شهادة لأبيهما، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر، قلنا: فيه روايتان، في رواية: لا يرجع به عند الأداء، ووجهه ما ذكرنا في الإشكال، وعلى هذه الرواية يرجع به، ووجه قبول هذه الشهادة أن هذه شهادة على الأب؛ لأن الكفالة بأمر دائر بين الضرر والنفع من حيث إنه يجب عليه الأداء من ماله فيه ضرر، ومن حيث إنه يستوجب الرجوع به على الأصيل فيه نفع، ولكن قد ذكرنا أن المنفعة المجحودة لا عبرة لها، وهي مجحودة ههنا، فلهذا اعتبرناها شهادة على أبيهما. وقوله: بأن من زعمه أنه ليس له حق الرجوع على الأصيل، فكيف يرجع إليه، قلنا: صار مكذباً في زعمه، حيث قضى القاضي بخلافه عليه، فلا يعتبر زعمه أصلاً.
قال في كتاب «الحوالة» : رجل كفل عن رجل بمال بأمره، فشهد على ذلك ابنا المطلوب الذي عليه الأصل، فهو جائز ويؤاخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى يرجع على الذي عليه الأصل، أما جواز شهادتهما في حق الكفيل، فلأنهما أجنبيان عنه غير متهمين في حقه، فقبلت شهادتهما، وأما في حق الأصيل بالرجوع عليه؛ لأنها شهادة على أبيهما، فقبلت.(8/346)
ولو كان الشهود أبناء الكفيل، فإِن ادعى الكفيل ذلك فقد ثبتت الكفالة بإقراره، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإنما يحتاج إلى الشهادة لإثبات الأمر، وإنه شهادة لأبيهما من حيث إنه يثبت له حق الرجوع على الذي عليه الأصل، فلم تقبل. وإن جحد الكفالة قبلت شهادتهما، لأنها شهادة على أبيهما، فإِن أدى رجع على الأصيل؛ لأن الثابت بشهادتهما أحد نوعي الكفالة، وهو الكفالة بأمر، وقد ثبتت شهادتهما؛ لأنها عليه؛ لأن هذه الكفالة وإن ترددت بين الضرر والنفع في حقه باعتبار حق الرجوع عند الأداء، ولكنها لما كانت مجحودة لم يعتبر النفع، فبقي شهادة على أبيهما فقبلت لهذا. وإذا ثبتت الكفالة والأمر استحق الرجوع لما ذكرنا من الأمثلة.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ادعى أن له على رجل ألف درهم، وضمنها عنه ثلاثة نفر، قال ابن سماعة: وكل واحد منهم كفيل ضامن عن صاحبه بأمره، فأخذ الطالب أحد الضمناء الثلاثة، فشهد عليه ابنا الضامنين الأخيرين أن لهذا الطالب على فلان ألف درهم، وأن أبوينا وهذا ضمنوا عنه لهذا بأمره، وكل واحد منهم ضامن عن صاحبه بأمره، وأبواهما غائبين، فإني أقضي الساعة على هذا الضامن الحاضر بألف درهم، وإذا (125أ4) أدى رجع بها على الذي عليه الأصل؛ لأنه لا تهمة في شهادتهما لا على الحاضر ولا على الأصيل؛ لأنهما أجنبيان عنه لا ينتفعان بشهادتهما بوجه ما، فلا يكونان متهمين فيها، فقبلت شهادتهما ثبت المشهود به، والمشهود به الكفالة بأمره، وإنه يقتضي الرجوع عند الأداء، فإذا أدى رجع بها على الأصيل، وأما شهادتهما على أبويهما بالضمان، فحكمها موقوف؛ لأن الكفالة بأمرهِ مترددة بين النفع والضرر، وإنما يترجح أحدهما على الآخر بالدعوى أو الإنكار، فيوقف إلى حضورهما حتى يُنظر أيقران بذلك أم ينكران؟ فإذا حضرا فإن جحدا ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه يرجح جانب الضرر، فكانت شهادة عليهما وإن ادعيا لم تقبل؛ لأنه ترجح جانب النفع في شهادتهما، فكانت شهادة لأبيهما فلا تقبل، ولكن بقيت الشهادة على الضامن الثالث مقبولة لخلوها عن التهمة، فإن أداها الثالث وأراد أن يرجع على أبوي الشاهدين بحصتهما كان له ذلك؛ لأنهما قد أقرا بالضمان والأمر، وإقرارهما حجة عليهما، فإن رجع عليهما لم يرجعا على الأصيل بشيء إذا جحد الأصيل أن يكونا ضمنا عنه بأمره؛ لأن إقرارهما بالضمان صح؛ لأنه إقرار على أنفسهما، فأما بالأمر فلأنه إقرار على الأصيل، ولا يجوز أن يكون الإقرار حجة على غير المقر، وكذلك إذا ضمنهما الطالب لم يرجعا على الأصيل، ولا على الضامن الثالث إذا جحد الأمر؛ لأن ضمانهما إنما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة، فلا يعدوهما، فلا يثبت الأمر به، والرجوع من حكم
الأمر بالضمان.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في رجل اشترى من رجل عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه فمات المولى الأسفل، والأوسط والأعلى حيان، فأقام رجل البينة أن الميت عبده، وأراد أخذ تركته، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه، فأعتقه جازت شهادتهما؛ لأن(8/347)
هذه الشهادة إنما قامت من حيث الحقيقة لإثبات الولاء لمولى أبيهما دون أبيهما فقبلت، أقصى ما في الباب أنه يثبت نسبة الولاء إلى أبيهما إذا ثبت الولاء لمولى أبيهما، ولكن المعتبر في رد الشهادة وقبولها النظر إلى ما وقعت عليه الشهادة دون غيرهما، وباعتباره ما قامت هذه الشهادة لأبيهما فقبلت.
ألا ترى أنه إذا شهدا لأخيه بمال تقبل شهادته، والمشهود به إذا ثبت للأخ ثبت للأب فيه حق بملك، وشهادته لأبيه غير مقبولة، لكن لما كان نفس المشهود به حق الأخ دون الأب تقبل شهادته، وإن كان يفضي إلى إثبات الحق للأب، كذا هذا.
وإن كان المولى الأوسط مات أيضاً ولم يترك وارثاً إلا المولى الأعلى؛ لأن بموت الأوسط أنجز الولاء إلى الأعلى فقد شهدا لأبيهما بالميراث فلا تقبل، ولا تعتبر الدعوى والإنكار من المولى الأعلى؛ لأن هذه شهادة بما ينفعه من كل وجه، وإنما يعتبر الإنكار والدعوى فيما يدور بين الضرر والنفع.
ولو مات المولى الأوسط ثم مات المولى الأسفل، ولم يترك وارثاً إلا ابنتاً له والمولى الأعلى، فادعى رجل أن المولى الأسفل كان عبداً له، وأقام البينة وادعت الابنة أنه كان حراً، وأن المولى الأوسط اعتقه وهو يملكه، والمولى الأعلى ينكر ذلك، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه ثم أعتقه، فإني أجيز شهادتهما وأجعله حراً من المولى الأوسط، ويكون الميراث بين ابنته والمولى الأعلى نصفان، وإنما شرط إنكار الأب لجواز شهادتهما؛ لأن عند إنكاره تمحض هذه الشهادة للأبنة فوجب قبولها. وإذا قضى بها ثبت الولاء للمولى الأعلى بواسطة الأوسط، فكان الميراث للابنة ونصفه للمولى الأعلى بالعصوبة من جهة الولاء.
واستشهد لهذا برجل شهد عليه ابناه أن هذا ابنه وهو ينكر ذلك، إني أجيز شهادتهما لأن شهادتهما؛ قامت على الأب، وإذا جازت شهادتهما ثبت نسبه منه، فإن مات هذا الابن ورثه منه وإن أنكر ثبوته؛ لأنه صار مكذباً بقضاء القاضي، فلا يبقى لزعمه عبرة.
وإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه ودفع الثمن، فادعى العبد أن البائع كان اعتقه قبل أن يبيعه منه، وشهد له بذلك ابنا البائع، فإني لا أعجل بعتق العبد حتى يقدم البائع وأسأله؛ لأن فيه منفعة للبائع، من حيث ثبوت الولاء له، ومضرة له، فإنه يسترد الثمن من يده لبطلان البيع، وقد ذكرنا أن شهادة الابن فيما يتردد بين الضرر والنفع يتوقف على إنكار الأب. وإِذا حضر وأنكر العتق قبلت شهادتهما وبطل البيع؛ لأنه ظهر أنه باع الحر، ووجب على البائع رد الثمن؛ لأنه قبضه على جهة الوجوب بحكم البيع، وقد ظهر أنه لم يكن فيرده عليه، وليس لأحد أن يقول: ينبغي أن يقضي القاضي بعتق العبد للحال؛ لأن الحال لا يخلو إما أن يكون البائع مقراً بالعتق أو كان جاحداً له، إن كان جاحداً له كانت البينة مقبولة عليه، فيقضي القاضي عليه بالعتق بالبينة، وإن كان مقراً فالقاضي يقضي عليه بإقراره، فجواز القضاء بالعتق عليه متيقن؛ لأنا نقول: حكم الإقرار يخالف حكم البينة، فيتوقف القاضي في القضاء بالعتق إلى حضرة البائع ليعلم أنه يقضي بالإقرار أو بالبينة.(8/348)
قال في كتاب «الأقضية» رجل عليه مال لرجل شهد ابنا المطلوب أن الطالب أبرأ أبانا عنه، أو احتال به على فلان والطالب منكر، فنقول: لا شك أن شهادتهما بالإبراء لا تقبل؛ لأنهما يشهدان للأب، وأما الشهادة بالحوالة، فإن كانت الحوالة بغير أمر لا تقبل؛ لأنهما شهدا بإبراء الأب بغير عوض؛ لأن الحوالة إذا كانت بغير أمر حتى أدى المحتال عليه المال لا يرجع على الأصيل بشيء، وإن كانت الحوالة بأمر، فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما وبين (حيث) أن يرجع المحتال عليه عند الأداء إن لم يكن له على المحتال عليه دين، ويسقط دينه عن المحتال عليه إن كان له دين عليه كانت شهادة على أبيهما، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار للرد والقبول، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» : وعندي أن الشهادة لا تقبل في هذه الصورة ادعى الأب أو جحد، إن ادعى فلأن هذه شهادة للأب، وإن جحد فلأن هذه شهادة خلت عن الدعوى.
ولو كان المال على غير أبيهما، فشهدا أن الطالب احتال به على أبيهما والطالب ينكر، والمطلوب يدعي، إن كانت الحوالة بغير أمر تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة على أبيهما، فإنه لا رجوع له عند الأداء، وإن كانت الحوالة بأمر فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما أو على أبيهما، فإن ادعى لا تقبل شهادتهما، وإِن أنكر تقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع داراً ولم يقبضها المشتري حتى جاء شفيع الدار وخاصم فيها، فشهد ابنا البائع أن المشتري قد سلم الدار للشفيع بشفعته، ثم اشتراه منه بالثمن لا تقبل شهادتهما، أما على قول من لا يرى بيع العقار قبل القبض، فلأنهما بهذه الشهادة يدفعان خصومة الشفيع عن أبيهما؛ لأن الخصم في الشفعة قبل قبض البائع، ولهذا كانت العهدة عليه. وكذلك لو شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، وهذا إذا دعي الأب ما شهدا به، فأما إذا جحد ما شهدا به تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على الأب بوجوب تسليم الدار إلى المشتري، فكانت شهادة على أبيهما من هذا الوجه، ولو كان المشتري قبض الدار من البائع، ثم شهد ابنا البائع على تسليم المشتري الدار إلى الشفيع بشفعة لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يريدان تنفيذ العهدة عن أبيهما، فكانا شاهدين لأبيهما، وسواء ادعى البائع ما شهدا به أو جحد ذلك، لأن تسليم المشتري للدار إلى الشفيع محض منفعة في حق البائع، لا يشوبه ضرر.
وإِن شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار للمشتري تقبل الشهادة؛ لأن هذه الشهادة على الأب بتقريب العهدة إليه.
قال في كتاب «الحوالة» : رجلان عليهما مال لرجل أحالا به على غريم لهما، وجحد الطالب الحوالة، فشهد على الطالب ابناه أو أبواه أو أمه أو امرأته قبلت شهادتهم؛ لأن هذه شهادة على الطالب بسقوط مطالبته عن الأولين، فلم تتمكن التهمة في شهادتهم فقبلت.
ولو شهد ابنا المطلوبين الأولين، فإن ادعى أبوهما ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن(8/349)
جحدا ذلك تقبل شهادتهما؛ لأنها دائرة في حق أبيهما بين النفع، وهو براءتهما وبين الضرر وهو ثقل الدين لو كان لهما على المحتال عليه دين وثبوت حق الرجوع عليهما، ولو لم يكن لهما عليه دين، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. وأما شهادة ابني المحتال عليه إن ادعى ذلك أبوهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يدور بين النفع في حق أبيّهما وهو سقوط مطالبة المحتالين عنه، والضرر، فهو يوجه مطالبة المحتال له نحوه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار.
وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : جارية في يدي رجل ادعى رجل أنه اشترى هذه الجارية من فلان بمائة دينار، وأن فلاناً ذلك اشتراها منك بألف درهم، وقبضها قبل أن تبيعها مني، وأنكر الذي في يده الجارية، والمشتري الأول فشهد ابنا الذي في يديه الجارية بذلك قبلت شهادتهما؛ لأنهما شهدا بمعنى اشتمل على النفع والضرر والمنفعة مجحودة فقبلت (125ب4) .
شهادتهما على أبيهما وعلى المشتري الأول بالبيع، وإذا قبلت قضي لصاحب اليد على المشتري الأول بألف درهم، وقضى للمشتري الأول على المشتري الثاني بمائة دينار، وإن كان المولى والمشتري الأول ينكران ذلك بصيرورتهما مكذبين في إنكارهما بالبينة العادلة، وإن كان الذي في يديه الجارية مالك الجارية ظاهراً وقد أقر بكونها مملوكة للمشتري الأخير، فصح إقراره بذلك ولا يقضي للذي في يديه على المشتري الأول بشيء، لأن الشهادة إن لم تقبل خرجت من البين، بقي إقرار الذي في يديه، وإقرار الإنسان حجة عليه، وليس بحجة على غيره ولا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول وصدقه صاحب اليد في ذلك، أو لم يدع ذلك؛ لأن حق حبس المبيع من حقوق العقد، فإنما يثبت للبائع، أو لمن قام مقام البائع، وذو اليد لم يبع الجارية من المشتري الآخر، وليس هو قائم مقام البائع فيه، فلهذا لا يكون له ذلك، ولا يكون لذي اليد أن يقبض المائة دينار من المشتري الآخر قضاء بدينه الذي وجب له على المشتري الأول في زعم المشتري الآخر ألف درهم، والواجب للمشتري الأول على المشتري الآخر في زعمه مائة دينار، وعند اختلاف الجنس لو وجد عينها عند من عليه الدين أو عند غيره لا يكون له حق الأخذ، فإذا وجد ديناً عند غيره أولى أن لا يكون له حق الأخذ، ولو كان المشتري الآخر ادعى أنه اشتراها بألف وخمسمائة حتى كان الثمنان من جنس واحد والمشتري الأول يجحد ذلك فالذي في يديه الجارية صدق المشتري الآخر فيما قال، فإن ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول بإذنه وصدقه ذو اليد في ذلك، لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر؛ لما قلنا، ولا يعطيه المشتري الآخر من الثمن شيئاً لما ذكرنا أن ذا اليد لم يبعها منه، ولكنَّ المشتري الآخر إن خلى بين المشتري الأول وبين الثمن حتى صار
الثمن ملكاً للمشتري الأول بتصادق ذي اليد والمشتري الآخر، كان لذي اليد أن يأخذه، لأنه ظفر بحبس حقه من مال المشتري الأول، وإن لم يكن خلى لا يؤمر المشتري الآخر بالتخلية؛ لأن الحق في ذلك للمشتري الأول وهو ينكر.(8/350)
ولو أن المشتري الآخر أقر أنه لم يقبض الجارية من المشتري الأول، ففي القياس الجواب كذلك لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر، وفي الاستحسان: يكون له حق حبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي منه ألفاً إن كان المشتري الآخر اشتراها بألف أو بألف وخمسمائة. وجه القياس ما مرّ أن الحبس بالثمن من حقوق العقد، فلا يثبت إلا للعاقد، أو لمن قام مقام العاقد ولم يوجد شيء من ذلك في حق ذي اليد، فلا يكون له حق الحبس كما في المسألة المتقدمة.
وجه الاستحسان: أن صاحب اليد بائع للجارية من المشتري الآخر من وجه، من حيث إن البيع من المشتري الآخر إنما ظهر بتصديق ذي اليد إياه، فيما إذا ادعياه ليس ببائع لها من وجه حيث إنه لم يجر بينهما بيع حقيقة، ولو كان بائعاً لها من كل وجه، ولم يكن المشتري الآخر قبضها منه كان له حبسها من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء باعها بدراهم أو بدنانير، ولو لم يكن بائعاً لها منه من كل وجه لم يكن له حق الحبس من المشتري الآخر، سواء باعها بدراهم أو بدنانير، فإذا كان بائعاً لها من وجه دون وجه عملنا بهما، فمن حيث إنه ليس ببائع لها منه من وجه لا يثبت له حق الحبس إذا كان الثمنان من جنسين مختلفين ومن حيث إنه بائع لها من وجه كان له حق الحبس عند اتحاذ جنس الثمنين عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، ولو تصادق ذو اليد والمشتري الأول على شراء المشتري الأول وتسليم الجارية إليه إلا أنهما جحدا شراء المشتري الآخر، فأقام المشتري الآخر أننى ذي اليد، فشهدا له قبلت شهادتهما وثبت البيع الثاني، ثم ينظر: إن كان المشتري الآخر ادعى القبض يأخذ العبد، ولا يكون لذي اليد حق الحبس، وإن لم يدع القبض فإن كان الثمنان من جنسين مختلفين فكذلك الجواب وإن كانا من جنس واحد، ففي القياس الجواب كذلك، وفي الاستحسان: له حق الحبس.b
وأصل هذه الجملة ما قال محمد رحمه الله في رجل اشترى جارية وقبضها ونقد الثمن، ثم جاء رجل وادعى على المشتري الأول أنه كان اشتراها بكذا قبل شرائه ولم يقبضها ولم ينقد ثمنها وكذبه البائع وصدقه المشتري المعروف: قضى القاضي بالجارية للذي ادعى الشراء أولاً، ثم إن كان الثمن من جنسين مختلفين لم يملك المشتري المعروف حبسها بالثمن، سواء ادعى المجهول أنه قبضها من البائع بإذنه إلا أنه لم ينقد الثمن فكذلك، وإن ادعى أنه لم يكن قبضها ففي القياس: ليس له حق الحبس، وفي الاستحسان: له ذلك والمعنى: ما مر كذا ههنا.
قال: وإذا شهدا أنه أباهما وكَّل هذا الرجل بقبض ديونه بالكوفة، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما ينصبان من يقوم بحقوق الأب واستيفائه، فكانا شاهدين لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، ولكنَّ هذا إذا كان المطلوب يجحد الوكالة، فأما إذا أقر المطلوب بها جازت الشهادة.
فرق بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها في كتاب الوكالة: أن من وَكَّل رجلاً بالخصومة في دار بعينها وقبضها وغاب، فشهد ابنا الوكيل أن أباهما وَكَّل هذا الرجل(8/351)
بالخصومة في هذه الدار وقبضها: لا يقبل شهادتهما، سواء جحد المطلوب الوكالة أو أقر بها.
ووجه الفرق أن في مسألة الدين المطلوب إذا كان مقراً بوكالته يجبر على دفع المال بإقراره بدون الشهادة، فإنما قامت الشهادة لإبراء المطلوب عند الدفع إلى الوكيل إذا حضر الطالب وأنكر الوكالة، فكانت هذه شهادة على أبيهما، وشهادة الانسان على أبيه مقبولة، أما في مسألة كتاب الوكالة: المطلوب وإن كان مقراً لا يجبر على دفع الدار إلى الوكيل بحكم إقراره، وإنما يجبر عليه بالشهادة، فكانت هذه الشهادة واقعة لأبيهما فلا يقبل.
أصل هذه المسألة: أن من جاء إلى مديون رجل وقال: أنا وكيل فلان بقبض الدين منك وصدقه المديون بذلك يؤمر بتسليم الدين إليه، وإن قال لآخر: أنا وكيلُ فلان بقبض الوديعة منك لا يجبر على الدفع إليه وإن صدقه في ذلك لأن المديون مقر على نفسه، لأنه مقرٌ بحق القبض له في ملكه، فكان إقراراً على نفسه فصح، وفي الوديعة إنما يقر بحق قبض ملك الغير وإقراره على غيره لا يصح.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن في الوديعة أيضا يجبر المودع على الدفع إلى الوكيل؛ لأنه يقر على نفسه بأن الوكيل أولى منه بقبض العين، وأنه ضامن لهذا العين إذا منعه عن الوكيل، فكان مقراً على نفسه فيصح إقراره عليه، فعلى قياس هذه الرواية: يجب أن يكون الجواب في الوكالة بالخصومة في الدار وفي الدين سواء، هذا إذا كان الموكل هو الطالب، فإن كان الموكل هو المطلوب وقد ادعى الطالب في داره دعوى فشهد ابنا المطلوب أن أباهما وكل هذا الرجل بخصومة، فإن كان الوكيل يجحد الوكالة لا تقبل هذه الشهادة، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، وبدون الدعوى لا تقبل الشهادة في حقوق العباد، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة لا تقبل شهادتهما أيضا، أقر الطالب بالوكالة أو جحدها؛ لأن هذه بينة قامت على غير الخصم، لأن الطالب لا يكون مجبراً على الدعوى، وإن كان هو وكيلاً عن المطلوب كما لا يجبر عند حضرة المطلوب، فلم يكن خصماً في حق إثبات الوكالة، والبينة لا تقبلُ إلا على خصم، ولأنهما بهذه الشهادة ينصبان نائباً عن أبيهما، لأن بإقرار الطالب لا تثبت وكالة الوكيل، وإنما تثبت بالشهادة، فهما ينصبان بشهادتهما نائباً عن أبيهما ليخاصم عنه ويقيم حجة الدفع حتى يستقر ملك ابيهما فيما وقعت فيه الخصومة، فكانا شاهدين لأبيهما، فلا تقبل شهادتهما.
وإن شهد ابنا المطلوب على أن فلانا وكّل هذا الرجل بالخصومة مع أبيهما في هذه الدار والطالب غائب، فإن جحد الأب الوكالة قبلت هذه الشهادة، لأنه شهادة على أبيهما، لأنه يستحق الجواب عن الخصومة عليه بدعواه، والشهادة على أبيهما مقبولة. وإن أقر الأب بالوكالة لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، فإن الوكيل لا يجبر على الدعوى كالموكل، فلا يدعي المطلوب بهذه الوكالة شيئا يلزم الوكيل فلم يصح الدعوى.(8/352)
وذكر ابن سماعه في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رجلاً ادعى على غائب دعوى زعم أن هذا الرجل وكيله في الخصومة، فشهد ابنا الغائب أن أباهما وكل هذا الرجل بالخصومة مع المدعي إن كان الوكيل منكراً للوكالة فشهادتهما جائزة، لأن هذه شهادة على أبيهما، لأن الدعوى (126 أ4) وقعت على الأب.
بيانه: أن المدعي بإثبات وكالة الحاضر يريد إلزام الحق على الغائب؛ لأنه يتضرر به من حيث يلزمه الحق عند إقامة البينة على الوكيل في غير حضرته، والشهادة على أبيهما مقبولة، فهو معنى قولنا: إن الدعوى وقعت على الأب، فكانت الشهادة واقعة على الأب، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة والطالب يجحد لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادةٌ قامت لأبيهما بإثبات من يخاصم عنه ويدفع عنه ويقيم حجة الدفع فلا تقبل.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً وكّل أباهما ببيع هذا العبد، فباعه من رجل والمشتري يجحد والأب يدعي لم أقبل شهادتهما، وإن جحد الأب البيع وادعاه المشتري قبلت شهادتهما، لأن البيع دائر بين الضرر والنفع، لأنه يثبت حقوقاً له وحقوقاً عليه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجلين شهدا أن الميت أوصى إلى أبينا وورثة الميت يقرون بذلك أو ينكرون، فإن كان أبوهما يدعي الوصاية لا تقبل شهادتهما، وإن جحد الوصاية قبلت شهادتهما؛ لأن الوصاية تتضمن أحكاماً على الوصي والموصى، لأنها تفيد ولاية التصرف في مال الميت وإنها للوصي وتفيد رجوع العهدة إليه ولزوم أمر المدعى عليه من يتعمد وصاياه وقضاء ديونه، ويوجه المطالبة بتلك الحقوق عليه ومن هذا الوجه عليه، فيعتبر قيمة الدعوى والإنكار.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا شهد ابنا الميت أو رجلان أوصى لهما الميت بوصية أو رجلان للميت عليهما دين أو رجلان لهما على الميت دين أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، والموصى إليه يدعي الوصية، فالشهادة جائزة.
يجب أن تعلم جنس هذه المسائل خمسة أقسام: الغريمان اللذان للميت عليهما دين إذا شهدا بالوصاية أو الوصية أو الوارث إن كان الخصم جاحداً لا تقبل شهادتهما، إما لأن هذه الشهادة خلت عن الدعوى في حقوق العباد، وإما لأنهما يثبتان لأنفسهما من يحصل لهما البراءة لأداء الدين إليه، فكانا متهمين في هذه الشهادة، فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الخصم يدعي ذلك قبلت شهادتهما سواء كان الموت ظاهراً أو لم يكن، أما إذا كان الموت ظاهراً فلأنه زال ملك الموت بالموت وانتقل إلى الوارث، فقد أقر بهذه الشهادة أن حق القبض لهذا المدعي بحكم الوصاية أو الوراثة، فصح إقراره على نفسه، وأما إذا كان الموت غير ظاهر، فلأنهما يقولان: إن رب الدين قد مات، فإن الدين الذي علينا حقك وإن ولاية الاستيفاء لك، وهذا إقرار منهما على أنفسهما لأن الدين إنما يقضى من مال المديون، فصح إقراره بما عليه، فإذا استوفى منهما، فإن ظهر أنه ميت فقد(8/353)
تم الاستيفاء، وإن ظهر أنه حي استرد ما دفع إليه.
وأما الغريمان اللذان لهما على الميت دين إذا شهدا بالوراثة والوصاية أو الوصية، فان كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما لأنهما يريدان إثبات الموت ليحل الدين في التركة، وفي ذلك نفع لهما فلا تقبل شهادتهما، فإن كان الموت ظاهراً فإن كان المشهود له لا يدعي، فكذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن الشهادة في حقوق العباد بدون سابقة الدعوى، ولأنهما يثبتان خليفة للميت يمكنهما مطالبته بإيفاء الدين، ولهما فيه منفعة ظاهرة، ولا تقبل شهادتهما لما ذكرنا من تمكن التهمة في شهادتهما؛ لأنهما ينصبان لأنفسهما بهذه الشهادة خصماً يطالبانه بإيفاء الدين.
وفي الاستحسان: تقبل شهادتهما؛ لأن الموت إذا كان ظاهراً كان للقاضي ولاية نصب الوصي ليقوم بما هو من حقوق الميت نحو قضاء الديون وتنفيذ الوصايا وما أشبه ذلك، إلا أن القاضي يحتاج إلى التعيين، فمتى شهدا بوصايته فقد كفياه مؤنة التعيين، فتقبل شهادتهما، وبه ظهر انتفاء التهمة عن شهادتهما من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان الموصى لا يدعي ذلك؛ لأنه ليس للقاضي ولاية نصب الإنسان وصياً على كره منه؛ فإذا كان لا يدعي الإيصاء لو قضى القاضي عليه إنما يقضي بشهادتهما، فيحصل المنفعة للشاهدين بشهادتهما على ما مر، وأما الوارثان إذا شهد للموصى إليه وكان الموت غير ظاهر لا يقبل شهادتهما سواء كان المشهود له طالباً بذلك أو كان جاحداً؛ لأنهما يثبتان لأنفسهما وجوب الميراث بالموت وينصبان لأنفسهما من يقوم بحقوقهما، وعلى التصرف لهما فقد جرّا إلى أنفسهما مغنماً فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له مخالفاً لذلك يقبل ذلك استحساناً لما مر: أن للقاضي ولاية نصب الوصي، لكنه يحتاج إلى التعيين فقد تحملا عنه مؤنة التعيين فيقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالوكالة حالة حياة الأب، إذ ليس للقاضي أن ينصب عنه وكيلاً في حياته، فلو نصبه نصبه بشهادتهما وهما يشهدان لأبيهما، وبخلاف ما إذا لم يكن ظاهراً، فليس للقاضي أن ينصب عنه وصياً، فلو نصبه، نصبه بشهادتهما، وهما يشهدان لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، وأما الموصى إليهما إذا شهدا لوصي آخر معهما، فإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل الشهادة؛ لأنهما يثبتان حلول الوصاية بالموت ويثبتان عوناً معهما فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له طالباً لذلك تقبل شهادتهما استحساناً، لأنهما يثبتان بشهادتهما، إلا ما كان للقاضي أن يفعله بدون شهادتهما، وهو نصب الوصي إذا أحس بخلل، وإذا ذكروا وصاية آخر فقد نسبوا أنفسهم إلى العجز، حيث لم يكتف الميت بهما وصياً، فيقبل شهادتهما.
وأما الموصى لهما إذا شهدا بالموصى إليه، فهو على الأقسام التي ذكرناها، فإن كان الموت ظاهراً، والمشهود له يطلب ذلك قبلت بشهادتهما، وإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بحلول حقهما بالموت وأثبتا للميت ما يمكنهما من(8/354)
مطالبته بالوصية، فكانا متهمين فيه فلا يقبل. وإن كان المشهود له طالباً لذلك لا تقبل شهادتهما في الفصول كلها، لانعدام الشهادة فيما هو حقوق العباد.
الفصل السابع: فيما يجوز من الشهادات وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله: رجلان في أيديهما مال وديعة لرجل، فادعاه رجل فشهد المودعان بذلك جازت شهادتهما. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تجوز شهادتهما؛ لأن بقبول الوديعة صارا مقرَّين بالملك للمودع، فكانا متناقضين في أن هذا العين ملك المدعي، فيطلب شهادتهما لمكان التناقض. وجه ظاهر الرواية أن هذه شهادة خلت عن التهمة؛ لأنها شهادة للغير من كل وجه، وليس فيهما جرُّ منفعة إلى الشاهد، ولا دفع مغرم عنه، وشهادة العدل إذا خلت عن التهمة، فالأصل فيها القبول، وما يقول بأن بقبول الوديعة صار مقراً بالملك للمودع هذا ممنوع؛ فإن الإيداع كما يكون من المالك يكون من نائب المالك، فلم تنتف جهة النيابة ههنا إذ لم يمكن للمودعين أن يقولا: قبلنا الوديعة من فلان، إلا أنه كان نائبا عن هذا المدعي في الإيداع، ومهما أمكن التوفيق لا يحمل على وجه التناقض، ولئن سلمنا أن قبول الوديعة إقرارٌ بالملك للمودع لكن هذا ليس بإقرار مفصح به، بل هو إقرار في ضمن الوديعة، وقد يطلب الوديعة بهذه الشهادة، فيبطل ما ثبت في ضمنه، ولو أن المدعي أقام شاهدين سوى هذين المودعين، ثم شهد المودعان على إقرار المدعي أن هذا العين للمودع لا تقبل شهادتهما، سواء كانت الوديعة قائمة أو مستهلكة إن كانت قائمة؛ لأنهما بهذه الشهادة يجران إلى أنفسهما مغنماً وهو.... يدهما على هذا المال وإن كانت مستهلكة لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً، لأنه ظهر أنهما كانا مودعا الغاصب والمودع الغاصب ضامن، فهما بهذه الشهادة يبرآن أنفسهما عن الضمان بخلاف المسألة الأولى، لأن هناك المودعان بشهادتهما يبطلان يد أنفسهما إن كانت الوديعة قائمة، ويوجبان الضمان على أنفسهما إن كانت الوديعة مستهلكةً، ولو أنهما كانا ردا الوديعة على المودع ثم شهدا على إقرار المودع أن الوديعة خرجت عن أيديهما بالرد ولا يبرآن ذمتهما عن الضمان لبراءتها عن الضمان بالرد، لأن مودع الغاصب يبرأ
بالرد على الغاصب.
وفي «المنتقى» وإذا شهد المودع أن الذي أودعه أقر أنه عبد جازت شهادته، وكذلك الجارية؛ لأنه لم يشهد على الوديعة والعارية بعينها، ولو شهدا أن الذي استودعها أو أعارها باعها من هذا المدعي لم تجز شهادتهما، لأنه يبطل سبيل رب الوديعة عليه، حتى لا يجوز دفعها إليه، وفيما إذا شهدا على إقرار المودع أنه عبد ما أبطلا سبيله: (126ب4) لأن العبد يأخذها ويبرأ بالدفع إليه، وإذا كان العبد وديعة في يدي الرجلين(8/355)
شهدا أن المولى كاتبه أو دبّره أو أعتقه والعبد يدعي ذلك جاز، ولا يشبه هذا البيع؛ لأن العتق خروج عن ملك إلى غير ملك.
قال في «الجامع» : رجلان ارتهنا من رجل غلاماً بألف درهم لهما عليهما، ثم ادعى رجل أن الرهن له، وشهد له المرتهنان بذلك جازت شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا لأنفسهما، بل شهدا على أنفسهما بإبطال اليد والحبس، ولم يصيرا متناقضين أيضاً؛ لأن قبول الرهن لا يكون إقراراً بالملك للأمن، لأن الرهن كما يكون من المالك يكون من غير المالك، بأن يستعير رجل من آخر عيناً ليرهن بالدين.
ولو شهد المرتهنان على إقرار المدعي أن العبد للراهنين والعبد قائم في يده أو هلك، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما مغرماً، وهو: الضمان إن كان قد هلك، ويجران إلى أنفسهما مغنماً وهو تقرير اليد التي هي حقهما، وإن كانا قد ردا الرهن إلى الراهن تقبل شهادتهما، ولو أنكر المرتهنان ما ادعاه المدعي وشهد به الراهنان لا تقبل شهادتهما على المرتهنين، لأنهما بعقد الرهن أوجبا حقاً للمرتهنين في المرهون، وإذا شهدا أنه ملك المدعي فقد سعيا في نقض ما تم بهما، فلا تقبل شهادتهما، بخلاف المرتهنين حيث تقبل شهادتهما وإن صارا ساعيين في نقض ما تم بالإنسان، إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان لا يملك البعض إلا بالشهادة، والمرتهن يملك النقض من غير رضا الراهن بالرد، إذ الرهن من جانب المرتهن غير لازم فلا يمنع قبول الشهادة، بخلاف جانب الراهن، وإذا لم تقبل شهادة الراهنين على المرتهن ضمن الراهنان قيمة العبد للمرعي؛ لأنهما لما شهدا للمدعي فقد صارا مقرين أنهما كانا غاصبين لهذا العبد وقد عجزا عن رده إلى المدعي لحق المرتهنين فيضمنان القيمة.
ولو ارتهن رجلان من رجل جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم وقبضاها، فماتت في أيديهما ثم ادعاها رجل، فشهد المرتهنان أنها كانت لهذا المدعي لا تقبل شهادتهما، لأنهما بشهادتهما يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما صارا مستوفين دينهما بالهلاك، وبهذه الشهادة يعيدان الدين على الراهن بعدما سقط من حيث الظاهر، إلا أنهما يضمنان قيمتها للمدعي؛ لأنهما أقرا أنهما كانا غاصبين للجارية وقد عجزا عن رد الجارية، فكان عليهما قيمة الجارية، بخلاف ما لو شهد المرتهنان بذلك حال قيام الرهن، حيث تقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما لا يعيدان ديناً على الراهن بعد السقوط؛ لأن الدين في ذمة الراهن قبل هلاك الرهن وإنما يسقط بالهلاك، ولا يحولان ضماناً وجب عليهما للراهن إلى المدعي، لأن الرهن مضمون عليهما بالدين لا بالقيمة، وبشهادتهما لا يتحول ضمان الدين إلى المدعي بل تجب عليهما القيمة للمدعي على اعتبار الهلاك، ويسقط ملك اليد الثابت لهما، فكانا جارَّين إلى أنفسهما مغرماً لا مغنماً.
رجلان غصبا من رجل عبداً وثبت ذلك عند القاضي بإقرارهما أو ببينة قامت عليهما، ثم ادعى رجل آخر العبد المغصوب، وشهد له الغاصبان بذلك، فإن شهدا بعدما رد المغصوب قبلت شهادتهما لخلو شهادتهما عن المناقضة والتهمة، أما المناقضة(8/356)
مظاهر، وأما التهمة: فلأنه ليس فيها جر مغنم، ولا دفع مغرم لبراءة الشاهدين عن الضمان بالرد عن المغصوب منه.
ولو شهدا والعبد في أيديهما لا تقبل هذه الشهادة، لتمكن التهمة في هذه الشهادة؛ لما فيها من تحويل ضمان الرد إلى غير المغصوب منه، وللشاهدين في ذلك فائدة للتفاوت بين الناس في المطالبة والخصومة.
وكذلك لو شهدا بعد هلاك المغصوب في أيديهما لا تقبل شهادتهما، سواء قضى القاضي بالقيمة أو لم يقض، وسواء دفعا القيمة إلى المغصوب منه أو لم يدفعا، أما قبل القضاء فلتحويلهما ما وجب عليهما من الضمان للمغصوب منه إلى المدعي، ولهما فيه فائدة على ما مر، فكانت في هذه الشهادة نوع تهمة، وأما بعد القضاء قبل دفع القيمة، فلهذه العلة ولعلة أخرى: وهي أن الشاهدين عند قضاء القاضي ملكا العبد بمقابلة الضمان، فصار من حيث الحكم كأنهما اشتريا العبد، ولو صارا مشتريين للعبد حقيقة ثم شهدا بالعبد للمدعي لا تقبل شهادتهما، فكذا إذا ثبت بينهما بيع حكمي، وأما بعد دفع القيمة فللعلة الثانية.
ثم قال: وكذلك العرض وكل دين فشهادتهما في ذلك باطلة قضياه أو لم يقضيا، وصورته: إذا شهد المستقرضان أن ما أقرضهما المقرض كان للمدعي لا تقبل شهادتهما، أما قبل قضاء الدين فلوجهين، أحدهما: أنهما يحولان ما وجب عليهما من الضمان للمقرض إلى المدعي، والثاني: أن الاستقراض بدأ حقيقة إن كان استعاره حكماً، فكان المستقرض بمعنى المشتري، والمشتري إذا شهد بالمشترى لغيره لا تقبل شهادته لما قلنا، كذا ههنا، وأما بعد القضاء فللعلة الثانية.
رجلان اشتريا من رجل جارية شراء فاسداً بألف، وقبضاها ثم ادعاها الآخر، فشهد المشتريان أنها للمدعي، فهو على التفاصيل التي قلنا في الغصب، لأن المشترى شراء فاسداً مضمون على المشتري بنفسه لا بغيره فكان كالغاصب، إلا أن بين هذه المسألة وبين مسألة الغصب فرق من وجه أن في مسألة الشراء، المدعي يأخذ الجارية من المشتريين قبل نقض البيع، وفي الغصب لا يأخذ، لأن في الغاصب إنما أقر بالجارية للمدعي، وهي ملك غيره ظاهراً، فلم يصح إقراره، والمشترى شراء فاسداً أقر بالجارية للمدعي وهي ملكه في الظاهر فيؤمران بردها إلى المدعي، ثم يضمن المشتريان قيمة الجارية للبائع لعجزهما عن رد عين الجارية إليه.
قال محمد في «الأصل» : ولو كان المشتريان مع بائعهما نقضا البيع أو نقض القاضي البيع فلم يقبض البائع الجارية حتى شهدا للمدعي بالجارية يعني المشتريان، لم يلزمهما تسليم الجارية، لإقرارهما بالجارية للمدعي وهي ملك غيرهما.
رجل اشترى من رجل جارية شراء صحيحاً، وتقابضا وتقالا البيع أوردَّها المشتري بالعيب بغير قضاء وقبلها البائع، ثم جاء رجل وادعى أن الجارية له، فشهد المشتري ورجل آخر أن الجارية للمدعي، فشهادتهما باطلة، سواء كانت هي محبوسة بالثمن عند المشتري أو دفعا إلى البائع، لأن الرد بالعيب بعد القبض بتراضيهما، والإقالة بمنزلة بيع(8/357)
جديد في حق غيرهما والمدعي غيرهما، فصار في حق المدعي كأن المشتري باعها من البائع ثانياً، ثم شهد بها بعد ذلك للمدعي، وعلى هذا الاعتبار كان في زعم المدعي أن شهادته باطلة، لكونها متضمنة السعي إلى نقض ما تم به، والمدعي متى زعم بطلان الشهادة القائمة له لا تقبل الشهادة.
ولو كان الرد بالعيب بعد القبض بقضاء أو قبل القبض بغير قضاء أو كان الرد بخيار رؤية أو بخيار شرط ثم شهد بها للمدعي مع غيره جازت شهادتهما؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه، ولهذا لا يتجدد للبيع حق الشفعة، فإذا انفسخ البيع من كل وجه صار كأن لم يكن، فلم يكن مبطلاً بشهادته ما أوجب قبل ذلك ولا محولاً ضمانه إلى المدعي، لأنه إذا ردها إلى البائع لم يبق مضموناً عليه وإذا حبسها بالثمن، فكذلك الجواب.
وإن كانت مضمونة عليه إلا أنها مضمونة عليه بغيرها وهو الثمن لا بنفسها، فكانت بمنزلة الرهن وشهادة المرتهن للمدعي بالجارية حال قيام الرهن يقبل كذا ههنا، فلو حبسها بالثمن فماتت الجارية في يدي المشتري ثم شهدا بالجارية للمدعي بطلت شهادتهما؛ لأنها لما (ما) تت في يدي المشتري بطل الفسخ، وعاد حكم البيع، فصار هذا الشاهد شاهداً بما اشتراه لغيره، فلا يصح لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.k
رجل اشترى من آخر جارية بعبد وتقابضا، فوجد مشتري الجارية بها عيباً فردها بالعيب، إلا أنه حبسها بالعبد، ثم جاء رجل وادعاها، فشهد المشتري بالجارية مع رجل آخر للمدعي لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا بعدما دفعها إلى البائع تقبل؛ لأن الجارية مضمونة عليه بنفسها، حتى لو هلكت في يد المشتري ضمن المشتري قيمتها لبائع الجارية، فيأخذ العبد ولا تنتقض الإقالة، فكانت شبيهة المغصوب وشهادة المغصوب، وشهادة الغاصب بالمغصوب للمدعي قبل الرد لا تقبل، وبعد الرد تقبل كذا ههنا، بخلاف ما إذا كانت الجارية مشتراة بالدراهم والجارية محبوسة بالثمن، حيث تقبل شهادة المشتري، لأنها مضمونة عليه بالثمن لا بنفسها، فكانت شبيهة المرهون على ما مر.
فإن مات العبد في يد مشتريه قبل رد الجارية، ثم رد الجارية بالعيب بقضاء قاض صح الرد؛ لأن الرد لا يمتنع بهلاك أحد العوضين، عرف هذا في كتاب البيوع فإذا حبسها المشتري حتى يأخذ قيمة العبد ثم شهد بها مع غيره للمدعي صحت شهادتهما؛ لأنها مضمونة عليه بغيرها وهو قيمة العبد، ولهذا لو هلكت الجارية لا تضمن لبائعها قيمتها بل سقط عن بائعها قيمة العبد، فكانت شبيهة المرهون.
وفي «المنتقى» : رجلان استأجرا من رجل داراً شهراً بأجر معلوم وسكنا فيها الشهر كله، ثم جاء مدع يدعي الدار فشهد له المستأجران جازت شهادتهما، (127أ4) فإن قضى القاضي بالدار للمدعي ثم إن المدعي ادعى أنه كان أمر الذي أجر بإجارتها، وأراد أخذ الغلة، فإنه ينبغي للقاضي أن يبطل قضاءه بالدار للمدعي ويردها إلى الذي كانت الدار في يديه، وينبغي للقاضي أن يسأل المدعي في أول الأمر عن الإجارة: أكانت بأمرك أو بغير أمرك؟ فإن قال: كانت بأمري لا تقبل شهادة المستأجر، وإن قال: كانت(8/358)
بغير أمري تقبل شهادة المستأجر، ولو لم يسكن المستأجر الشهر كله حتى ادعى المدعي الدار، فشهد به المستأجر ولم يدع المدعي أن الإجارة كانت بأمره لم تجز شهادة المستأجر.
وفيه أيضاً: رجل له دار وفيه سكان بغير أجر، فشهد السكان في الدار شهادة يثبتون الدار له، أو شهدوا بالدار عليه الأجر، فشهادتهم جائزة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإن كان هؤلاء السكان بأجر معلوم لشهور معلومة بأجر رخيص، أو بأجر عال، فشهدوا للذي أجر لتحقيق الإجارة أو شهدوا لإنسان عليه ليفسخوا الإجارة، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: جازت شهادتهما في الموضعين جميعاً، وشهادتهم في هذا كإقرار رب الدار أنها لفلان، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تقبل شهادتهم لا فيما يثبتونها ولا فيما ينقضونها.
رجل اشترى من آخر جارية، ثم جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الجارية من هذا المشتري، والمشتري يجحد ذلك، فشهد البائع ورجل آخر للمشتري بالشراء من المشتري لا تقبل شهادته، وكذلك لو ادعى المشتري أنه باعه من فلان وفلان يجحد، فشهد له البائع لم تقبل.
ولو أن رجلاً اشترى من آخر عبداً وبرء البائع عن عيوبه، فباعه المشتري من رجل آخر، ودلس العيب الذي به، فخاصم المشتري الآخر المشتري الأول فيه، فشهد البائع الأول ورجل آخر أن هذا العيب كان به عند البائع، قال: أقبل شهادة البائع الأول في رده على البائع الثاني ولا أقبل في تبرئته منه.
رجل له على رجل ألف درهم، فشهد الذي عليه المال ورجل آخر أن الطالب أقر أن هذا الألف لهذا الرجل والرجل يدعي ذلك لا تقبل شهادة الذي عليه المال، ذكره في «المنتقى» في موضع، وذكر في موضع آخر منه أنه لا تقبل شهادته إذا كان لم يؤده، فإن كان أداه تقبل.
ولو مات رجل وترك مالاً على رجلين وترك أخاً، فشهد الرجلان لغلام يدعي أنه ابن الميت أنه ابنه لا يعلم له وارثاً آخر غيره، أجزت شهادتهما، ولا يشبه هذا الدّين في المسألة الأولى من قبل أن الدين لم يثبت عليهما للأخ، ولم يجعله القاضي وارث الميت.
ولو أن رجلين اشتريا ثوباً من رجل ونقدا الثمن أو لم ينقدا، فجاء رجل وادعى أن الثوب له فشهد المشتريان له بالثوب، أو شهدا على إقرار البائع أن الثوب له لم تجز شهادتهما.
أما قبل نقد الثمن: أما إذا أجاز البيع، فلأنهما يريدان تحويل ما وجب عليهما للبائع من حيث الظاهر إلى غيره، ولهما فيه منفعة؛ لأن الناس يتفاوتون في المطالبة، وأما إذا لم يجز البيع، فلأنهما سعيا في نقض ما تم بهما.
وأما بعد نقد الثمن: أما إذا لم يجز البيع فلما قلنا، وأما إذا أجاز وقال: باع بأمري، فلأن الثمن الذي نقداه صار ملكاً للبائع بتمليكهما، فهما بهذه الشهادة يريدان نقض ذلك التمليك.(8/359)
وذكر في كتاب «الأقضية» لو أن رجلاً مات، وله على رجلين ألف درهم أو كان له في أيديهما عبد غصب أو وديعة، جاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له غيره، وقضى القاضي بذلك بشهادة شهود شهدوا عليه، وجعله وارثاً له وقضى له بالمال العين والدين، فقضى الغريمان دينهما للأخ بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض، أو لم يكونا قضياه لو كانا صارفاه على دنانير أو كان الأخ وهب لهما المال على عوض، أو كانا اشتريا من الأخ جارية من تركة الميت أو تصدق عليهما بصدقة على عوض، ثم جاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت ووارثه، ولا وارث له غيره، وشهد الغريمان له بذلك فشهادتهما باطلة، أما قبل قضاء الدين فلأنهما يريدان تحويل المال الذي وجب عليهما للأخ إلى الابن، وقد ذكرنا أن الشهادة تبطل به، وأما بعد القضاء فلأنهما يريدان أن ينقضا أمراً تم بهما؛ لأن القضاء قد تم.
ولو ظهر أن الأخ ليس بوارث وأن الوارث هو الابن كان للغريم أن يسترد ما كان دفعه إلى الأخ، لأنه ظهر أنه قبض ما ليس له، ومن سعى في نقض ما تم به لم يقبل سعيه، وكذلك المصارفة لأن هذا العقد قد تم به، فلا يقبل منه نقضه، وكذلك أخذ العوض عنه لما قلنا. هذا هو الكلام في الدين.
جئنا إلى العين فنقول في الغصب: إذا شهد الغاصبان بالابن، وكان العبد قائماً بعينه في أيديهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يحولان الضمان من الابن إلى الأخ، وإن كانا دفعا العبد إلى الأخ ثم شهدا بذلك فإنه لا يخلو، إما إن دفعا بقضاء أو بغير قضاء، فإن كان بقضاء فشهادتهما جائزة، وإن كان بغير قضاء لا تقبل شهادتهما.
فرق بين هذا وبينما إذا دفعا المغصوب إلى المغصوب منه، ثم شهدا بالملك لغيره تقبل سواء كان الدفع والرد بقضاء أو بغير قضاء، وههنا فرق بين القضاء وغير القضاء. ووجه الفرق: أن في تلك المسألة الضمان إنما وجب باعتبار تفويت يد المغصوب منه، فإذا أعاده إلى يده انفسخ حكم فعله وانعدمت الجناية فارتفع الضمان، فلم يحولا بهذه الشهادة ضماناً وجب للمغصوب منه إلى المدعي.
وفي مسألتنا: الضمان وجب باعتبار تفويت يد الميت ولم توجد الإعادة إلى يد الميت حقيقة، وإنما ظاهر وكذا حكماً، لأنه إنما يتحقق الرد إليه حكماً بالرد إلى خليفته ونائبه، وليس من ضرورة القضاء بنسب الأخ ثبوت نيابته وخلافته عن الميت في الرد عليه لجواز أن يكون هناك من يحجب عن الميراث، أو يكون في التركة دين مستغرق، فاحتمل أن يكون خليفة عن الميت في الحكم واحتمل أن لا يكون، فلا يبطل الضمان الواجب عليه بالاحتمال، وإذا لم يبطل الضمان عنهما كانا بهذه الشهادة محولين ذلك إلى الابن.
فأما إذا كان الرد بقضاء القاضي وبأمره فقد تحقق الرد إلى الميت حكماً، لأن للقاضي ولاية في مال الميت بالحفظ وأن يضعه حيث أحب، فإذا أمره بالرد إليه صارا تعييناً من جهة القاضي، فخرج عن جهة الضمان بالرد إليه، فلم يحولا بهذه الشهادة الضمان من الأخ إلى الابن، وإن كان الغصب وديعة قبلت شهادتهما، سواء كان الدفع بأمر القاضي أو بغير أمره؛ لأن الضمان لم يكن واجباً وقع الشك في وجوب الضمان لاحتمال أنه خليفة الميت ووارثه، فلا يجب الضمان عليه بالاحتمال.(8/360)
ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً توفي وترك هذا الرجل أخاه لأبيه وأمه ووارثه، فقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد هذان الرجلان لآخر أنه ابنه ووارثه، لم تجز شهادتهما للابن؛ لأنهما شهدا أول مرة بأن الأخ وارثه، ثم شهدا بوراثة الابن، وبين كون الأخ وارثاً وكون الابن وارثاً تناف إن لم يكن بين كون الأول أخاً والثاني ابناً تناف، وقد اتصل القضاء بالشهادة الأول فتأيدت بها، فلا يمكن إبطالها بالثانية.
ونظير هذه: مسألة الملكية والكوفية أن القضاء لو اتصل بالأولى صحت الأولى وبطلت الثانية لما قلنا، وإن لم يتصل القضاء بالأولى بطلتا جميعاً فكذلك ههنا، ولكنهما يضمنان الابن ما قبض الأخ من الميراث؛ لأنهما زعما أن الميراث للابن دون الأخ، وأنهما أتلفا على الابن ذلك بشهادتهما، فقد أقرا بسبب الضمان على أنفسهما فيضمنان، فصار هذا كما لو رجعا عن شهادتهما، واعتبر في «الكتاب» الشهادة الثانية رجوعاً عن الأولى؛ لأن بينهما تناف، فكانت الثانية رجوعاً عن الأولى ضرورة ولو شهد بالابن غير الأولين وقد استهلك الأخ، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الشاهدين الأولين ورجعا بذلك على الأخ، وإن شاء ضمن الأخ ولم يرجع على أحد، إما يقبل شهادتهم لأنه ليس بينهما مناقضة، فكل فريق اعتمد دليلاً مطلقاً لأداء الشهادة، فالشهادة على النسب: جواز أدائها بناء على الشهرة والتسامع، فقد علم الأولان بنسب الأخ بالشهرة، ولم يشتهر عندهما، ولم يبلغهما نسب الابن، فشهدا بوراثة الأخ، ثم الفريق الثاني علموا من طريق الشهرة نسب الابن، ولم يسبق منهم ما يناقض شهادتهم فقبلت شهادتهم، وقضي بنسب الابن، لأنه ليس بين الأخ والابن منافاة، وإذا ثبت نسب الابن كان أولى بالميراث من الأخ، فإن كان المال قائماً في يد الأخ يسترده منه، وإن كان قد استهلكه، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الأخ، لأنه قبض ماله بغير حق، وإن شاء ضمن الشهود، لأنهم بشهادتهم أتلفوا ماله وظهر بطلان شهادتهم بشهادة الآخرين، فصار كما لو ظهرت ذلك برجوعهم، وصار هذا كما لو شهدوا بالقتل واقتصَّ منه بقضاء القاضي (127ب4) ثم جاء المشهود بقتله حياً إنهم يضمنون كما لو رجعوا بذلك على الأخ؛ لأنهم ملكوا المضمون بأداء الضمان، فصار الأخ غاصباً مالهم، فكان لهم حق تضمينه.
ولو كان الأولان أو غيرهما شهدا أن الثاني أخو الميت لأبيه وأمه ووارثه مع الأول قبلت شهادتهما سواء كان قبل القضاء الأول أو بعد القضاء، لأنه لا تناف بين الشهادتين لجواز أن يكون له أخوان، وكل واحد منهما يرث مع الآخر، ولا يضمنان لأنه لم يظهر كذبهما، لعدم التنافي بينهما، ولكن لو كان الأول قبض المال دفعا نصفه إلى الثاني: لأنه ظهر أن المستحق لهذا النصف هو الثاني، وقبلت شهادتهما؛ لعدم التنافي.
فإن قيل: إذا كان الشاهدان بالثاني هما اللذان شهدا بالأول ينبغي أن لا تقبل شهادتهما بالثاني، لأنهما شهدا للأول أنه وارثه لا وارث له غيره، وكما شهد بالوراثة للثاني كانا متناقضين، قلنا: قوله: لا وارث له غيره، ليس من صلب الشهادة؛ لأنه نفي والشهادة على النفي لا تقبل، ألا ترى أنهما لو لم يذكرا ذلك في الشهادة قبل القاضي(8/361)
شهادتهما أيضاً، إنما هذا لإسقاط التلوم عن القاضي، فلا يوجب مناقضته بين الشهادة الأولى والثانية، فقلنا جميعاً ولا يضمنان لأحد لما ذكرنا.
إذا شهد الكفيلان بنفس المدعى عليه على المدعي أن المدعى عليه أوفاه الدين، فقد قيل: تقبل شهادتهما، وقد قيل: لا تقبل لأنهما يريدان إخراج أنفسهما عن عهدة الكفالة بالنفس بهذه الشهادة، والصحيح من الجواب: أنها إن شهدا بإيفاء الدين الذي حصلت الكفالة بالنفس لأجله لا تقبل، وإن شهدا بإيفاء دين آخر لم تحصل الكفالة بالنفس لأجله تقبل.
الوكيل شراء شيء بغير عينه إذا اشترى وقال: اشتريت لنفسي، وقال الموكل: لا بل اشتراه لي، فأقام الموكل البينة على إقرار الوكيل أنه اشتراه للموكل وأحد الشهود البائع، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة من البائع لأنه متهم فيها، لأنه يبعد العهدة عن نفسه، فإن الوكيل بالشراء إذا سلم المشترى إلى الموكل لا ينفرد بالرد بالعيب، بل يشترط رضا الموكل الشاهد إذا كتب شهادته على صك البيع أو على صك الشراء ثم إن رجلاً آخر ادعى العين المشترى لنفسه، وشهد له الذي كتب شهادته على الصك، فإن كتب الشهادة على وجه يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين لا تقبل شهادته للمدعي، وإن كتب الشهادة على وجه لا يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين تقبل شهادته للمدعي، ومسألة دعوى الشاهد على الصك تأتي في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.
عشرة وكَّلوا رجلا بشراء محدود معين، فذهب الوكيل واشترى فأنكر واحد من العشرة كونه وكيلاً من جهته، فشهد التسعة على العاشر أنك وكلته معنا بالشراء تقبل هذه الشهادة، ولو كان هذا وكيلاً بالبيع وباقي المسألة بحالها لا تقبل شهادة التسع؛ لأنهم يشهدون لأنفسهم لأنهم يريدون إثبات لزوم البيع في نصيبهم، وأما في الفصل الأول لا يشهدون لأنفسهم، وفي «فتاوى النسفى» سئل عن وكيل مجلس القضاء إذا ادعى بحضرة المدعي الذي وكله على آخر أن لهذا المدعي علي مثلاً كذا، فأجاب المدعى عليه: إنه قد قضاه ذلك، فأنكر المدعي، فشهد هذا الوكيل مع رجل آخر على القضاء لا تقبل شهادة هذا الوكيل؛ لأنه هو الذي ادعى عليه هذا المال في الحال، وذلك يمنعه عن الشهادة بالقضاء، فقيل له: أليس ثبت عن أصحابنا رحمهم الله أن من ادعى على آخر مالاً فقد أقرضه فشهد له شاهدان أنه أقرضه، وشهد آخر أنه أقرضه ثم قضاه ثبت القرض ولم يثبت القضاء ولم تصر شهادته بالقضاء مبطلة شهادته بالإقراض، قال: هناك شهد بالإقراض وشهد مرتباً عليه والقضاء مرتباً على الإقراض يقرر الإقراض ولا ينافيه، أما هذا شهد بقيام الدين عليه للحال وقيام الدين عليه ينافي القضاء قبله، فصار دعوى قيام الدين عليه للحال من هذا الوجه مبطلاً شهادته بالقضاء قبل هذا.
رجلان باعا عبداً من رجل ثم إن البائعين شهدا أن المشتري أعتق هذا العبد لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يخرجان عن العهدة، فإن المشتري إذا أعتق العبد(8/362)
المشترى ثم اطّلع على عيب به قد كان عند البائع لا يمكنه الرد على البائع.
شهادة أهل القرية بعضهم على بعضهم بزيادة الخراج على ضيعة المشهود عليه لا تقبل؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة يريد إثبات نقصان خراجه حتى لو شهد من لا خراج عليه تقبل شهادته، وكذلك إذا كان لكل ضيعة خراج على حدة فشهد بعضهم على البعض بزيادة الخراج تقبل شهادتهم؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة لا يثبت نقصان خراجه.
ولو أن أهل قرية شهدوا على بعض ضياع بجوار قريتهم أنه من ضياع قريتهم لا يجوز؛ لأنهم يريدون إثبات نقصان خراج ضيعتهم، ويجب أن يكون في هذا الفصل على التفصيل الذي ذكرنا في الفصل الأول.
وإذا شهد أهل السكة بشيء من مصالح السكة إن كانت السكة غير نافذة لا تقبل شهادتهم، وإن كانت نافذة تقبل شهادتهم؛ لأن السكة إذا كانت غير نافذة فهي كالمملوكة لأهل السكة، فهذه الشهادة راجعة الى مصلحة أملاكهم، وإذا كانت نافذة فهي حق العامة والشهادة على حق العامة مقبولة.
وإذا شهدا أن فلاناً غصب من أب هذا المدعي هذه القرية وهذه القرية في يد غير الغاصب، والغاصب غائب أو ميت، فهذه الشهادة ليست بشيء حتى شهدا أنها وصلت إلى هذا المدعى عليه من قبل الغاصب أو يشهد بذلك غيرهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل شهد عليه شاهدان أنه باع هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم على أنهما ضمنا للمشتري الدرك يعني الشاهدين، قال: إن كان الضمان في أصل البيع لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع لا يتم إلا بضمانهما، فكأنهما شهدا على فعلهما، وإن لم يكن الضمان في أصل البيع جازت شهادتهما؛ لأن البيع ههنا تام بدون ضمانهما.
وفي «المنتقى» : ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها له اشتراها من فلان، وقبضها فشهد له شاهدان بذلك إلا أنهما لم يسميا ثمناً، فإني أسألهما قبضها بأمره أو بغير أمره؟ فإن قالا: لا نزيد على هذا، لا تقبل شهادتهما، وإنما وجب السؤال عن الشهود أنه قبضها بأمره أو بغير أمره؛ لأنه تعذر القضاء بالشراء بثمن معلوم؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، فلا بد أن يقضي بالشراء بغير ثمن والشراء بغير ثمن شراء فاسدٌ والشراء الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض، والقبض بغير إذن البائع في البيع الفاسد ليس بصحيح، فلهذا وجب السؤال عن الشهود، وأنه قبضها بأمره أو بغير أمره، وإذا قالا: لا نزيد على هذا إنما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا بما هو سبب الملك لما لم يشهدا بإذن البائع بالقبض، وإن ماتا قبل أن يسألهما، فهذا عندنا على أنه قبضها بإذن البائع وأمره؛ لأن الظاهر أنه إنما تمكن من قبضها بتسليم البائع، لولا ذلك لتعذر عليه القبض؛ لأن البائع يمنعه عن ذلك، وليس له ولاية القبض شرعاً حتى يقدر على قبضها بقوة القاضي والناس و ... ؟ على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه.(8/363)
قال: ولا العرض له في الثمن يعني لا أقف التسليم على قبض الثمن؛ لأن القبض حصل بأمر البائع، والقبض متى كان بأمر البائع لا يتمكن من استرداد لأجل الثمن، فلا يتوقف القبض ههنا على أخذ الثمن، وكذلك لو أن الشاهدين قالا من الابتداء: إنه قبضها بأمر البائع؛ لأن هذا الشراء فاسد لما لم يشهدا بالثمن والشراء الفاسد يفيد الملك عند القبض فإن لم يسم الشاهدان الثمن ولا قبض المدعي الدار فالقاضي لا يقضي للمدعي؛ لأنه تعذر القضاء بالعقد لأنه فاسد، ولا يجوز القضاء بالعقد الفاسد وتعذر القضاء بالملك؛ لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض.
وفي «الأقضية» قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان وهو يملكها بألف درهم، فشهد الشهود له بذلك إلا أنهم لم يقولوا: إنه قبضها بأمره، قال: فإني لا آخذ الدار من صاحب اليد ولا أدفعها إليه حتى يدفع إلى صاحب اليد، ثم أدفع الدار إليه، وقد روي عنه رجوعه عن هذا القول، وقال: تؤخذ الدار من يده ولا تدفع إلى المدعي حتى يؤخذ الثمن من يده، فقد أشار إلى سماع دعوى المدعي في هذه المسألة، وذكر في «المنتقى» أنه لا تصح هذه الدعوى منه أصلاً حتى ينقد الثمن عند القاضي.
ووجه ذلك: أن صحة الدعوى في هذه الصورة تعتمد نقد الثمن، وهذا لأن المرافعة إلى القاضي غير محتاج إليها لإثبات الملك في العين؛ لأن الملك لا يثبت بقضاء القاضي وإنما ثبت بسببه، فإذا (128أ4) وجد سبب الملك ثبت الملك وجد القضاء أو لم يوجد وإنما يحتاج إلى المرافعة ليقصر القاضي يد المدعى عليه بولاية القضاء فإنما تصح الدعوى إذا كان له ولاية مطالبة القاضي بقصر يد المدعى عليه، وقبل نقد الثمن ليس للمشتري ولاية قبض المبيع فلا يكون له ولاية دعوى الملك.
ووجه ما ذكر في «الأقضية» : أن المدعي ادعى على ذي اليد حقاً لنفسه لا يمكنه إثبات ذلك الحق إلا بإثبات أمر على الغائب وهو الشراء منه؛ لأنه ادعى الملك بسبب الشراء منه، فانتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فكأنه حضر وأنكر الشراء، ولو كان كذلك تسمع دعوى المدعي كذا ههنا.
وإذا سمع دعواه وقبلت بينته لا تدفع الدار إليه حتى ينقد الثمن، كما لو كان حاضراً وقضي عليه بالشراء لا يدفع الدار إلى المدعي قبل نقد الثمن كذا ههنا، إلا أن على القول المرجوع إليه يقول: لمّا صح القضاء عليه بالملك ظهر أنه مبطل في إمساك المدعي له ظالم في منعه، فيخرجه القاضي عن يده إزالة لظلمه ثم إذا أخرجه من يده لا يدفعه إلى المدعي قبل نقد الثمن، إذ ليس للمشتري ولاية أخذ المبيع قبل نقد الثمن، وإن حضر الذي ادعى المدعي الشراء منه، وأنكر أن يكون باعه إياه أخذ القاضي الدار من المدعي، وسلمها إلى الذي حضر؛ لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالشراء؛ لأن صاحب اليد لم ينتصب خصماً عنه في إثبات الشراء عليه؛ وهذا لأن القضاء لابد له من الدعوى والإنكار، وذو اليد لا يمكن أن يجعل منكراً بطريق الأصالة؛ لأن الأصل في الإنكار أن لا يتعدى ضرر إنكاره إلى غيره، وضرر إنكار(8/364)
صاحب اليد ههنا يتعدى إلى الغائب بإثبات البيع عليه، ولا يمكن أن يجعل ذو اليد نائباً عن الغائب في الإنكار؛ لأن الحاضر إنما يجعل خصماً عن غيره في الإنكار إذا جرى بينهما سبب له اتصال بما وقع فيه الدعوى، ولم يجر بين الغائب وذو اليد ههنا سبب حتى يقام إنكار ذي اليد مقام إنكار الغائب، فظهر أن البينة على البيع قامت على غير خصم.n
فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان على رجل بمال فطعن المشهود عليه أنهما عبدان لفلان، وادعى الشاهدان أن فلاناً أعتقهما وأقاما البينة قبلت بينتهما وقضي بعتقهما على الغائب، ولم يجر بين المشهود عليه وبين الغائب سبب حتى يقام إنكاره مقام إنكار الغائب، ومع هذا قضى بعتقهما وظهر ذلك في حق الغائب، حتى لو حضر لا يحتاج إلى إعادة البينة.
والفرق: أن في مسألة العتق المشهود عليه أصل في إنكار العتق، وليس بنائب عن المولى؛ لأن دعوى العتق على المولى دعوى على كافة الناس، ألا ترى أن كل واحد من آحاد الناس يصير مقضياً عليه بالعتق، بالقضاء على واحد من الناس فكان دعوى العتق على المولى ودعوى العتق على المشهود عليه من حيث الاعتبار على السواء، وأما دعوى الملك على ذي اليد فدعوى عليه خاصة، ألا ترى أن غير ذي اليد لا يصير مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد في الملك المطلق، وإنما يتعدى القضاء من ذي اليد إلى الغائب، إذا كان ذو اليد نائباً عن الغائب، وإنما ثبتت النيابة إذا جرى بينهما سبب، ولم يجر بينهما سبب ههنا، فلم يصر الغائب مقضياً عليه، فكان للذي حضر أن يأخذها من يد المدعي لإقرار له بذلك.
وقد ذكر في «الجامع» وفي «الأصل» ما يدعي على أن الغائب يصير مقضياً عليه في مسألتنا حتى لا يكون له أن يأخذ الدار من يد المدعي، فقد ذكر في «الجامع» :
رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها له اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقده الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله، فإنه تندفع عنه الخصومة، ولكن للمدعي أن يحلفه بالله لقد أودعك عبد الله، فإن قال حين حلفه: ما أودعنيها عبد الله ولكن غصبتها منه وحلف على ذلك، فإن القاضي لا يلتفت إلى مقالته للتناقض بين كلاميه، ويجعله خصماً ويقضي بالدار للمدعي على ذي اليد، فإن قضى بذلك ثم قدم عبد الله وادعى أن الدار داره أودعها من ذي اليد، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعي البينة عليه ليس له ذلك؛ لأن القاضي لما جعل ذا اليد خصماً، وأنزله منكراً حكماً وقضى بالشراء عليه انتصب خصماً عن الغائب، فصار كما لو أقام البينة عليه حقيقة فنفذ القضاء عليه، فكذا ههنا ذو اليد خصم له حتى سمعت البينة عليه، وقضى بالملك والبيع عليهما، فانتصب خصماً عن الغائب ضرورة، فصار كما لو أقيم البينة عليه حقيقة.
وهكذا ذكر في دعوة «الأصل» إلا أن ثمة وضع المسألة فيما إذا شهدوا بقبض الثمن وذلك يصير رواية فيما إذا لم يشهدوا بقبض الثمن، إذ المعنى يجمعهما، فإن كان في المسألة اختلاف الروايتين ووجهه ما ذكرنا، وإن كان اختلاف الجواب لاختلاف(8/365)
الموضوع فإن موضوع مسألة «الجامع» و «الأصل» : أن الشهود شهدوا بقبض الثمن، وموضوع مسألة الأقضية أن الشهود لم يشهدوا بقبض الثمن.
فوجه الفرق أن البيع قبل قبض المبيع وتسليم الثمن قائم حكماً لبقاء أحكامه، فلا بد من القضاء به، وذو اليد لا يصلح خصماً في العقد عن الغائب لما قلنا، فيتعذر القضاء بالبيع فلا يقضى به، فأما بعد قبض الثمن وتسليم المبيع البيع قد انتهى نهايته، فكان هذا دعوى الملك فحسب، وذو اليد خصم فيه، فصلح القضاء عليه بالملك من كل وجه، ومن ضرورته صيرورة الغائب مقضياً عليه؛ لأن المدعي يدعي الملك من جهته.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل تزوج امرأة على مهر مسمى ثم إن هذا الرجل شهد مع رجل آخر أنها أمة هذا الرجل والرجل يدعيها، فهذه المسألة على وجهين:
إما أن يقول المدعي أمرتها بالتزوج أو يقول: ما أمرتها بالتزوج، فإن قال: لم آمرها بالتزوج فالقاضي لا يقبل، أما إذا لم يكن دخل بها؛ فلأنه يشهد ببطلان نكاحها، وأن لا مهر لها عليه إن لم يدفع لها المهر، وبثبوت الرجوع لنفسه عليها إن دفع إليها المهر، أما إذا دخل بها؛ فلأنه يريد تحويل ما وجب عليه لها بحكم الدخول إلى غيرها، وهو المولى إن لم يكن دفع إليها ذلك، وإن كان دفع إليها ذلك فلأنه يثبت لنفسه حق الرجوع عليها بعد العتق بما قبضت، وإن قال: أمرتها بالتزوج لا أقبل شهادة الزوج أيضاً لما قلنا، وإن كان الرجل المشهود له قال: قد كنت أمرتها بالتزوج وأذنت لها في قبض المهر فإن كان الزوج لم يدفع إليها المهر لا تقبل شهادته، وإن كان الزوج قد دفع إليها المهر قبلت شهادتهما؛ لأنه إذا ثبت الإذن لها بقبض المهر فقد برء الزوج عن المهر بالدفع إليها ولم يبق لها عليه شيء حتى يحوله إلى غيرها، ولا يثبت لنفسه حق الرجوع عليها أيضاً؛ لأنه استفاد البراءة فالمولى لا يرجع عليه حتى يرجع هو عليها بما دفع إليها.
قالوا: وهذا إذا كان تزوجها على مهر مثلها أو أكثر، فإن خطب عن مهر مثلها بما يتغابن الناس فيه كانت مخالفة لأمره ولا يصلح النكاح، فينبغي أن لا تقبل الشهادة؛ لأنه بهذه الشهادة يريد إبطال عقد باشره وإسقاط المهر عن نفسه إن لم يدخل بها وتحويل ما وجب عليه بحكم الدخول بها إلى غيرها إن لم يكن دفع المهر إليها أو إثبات حق الرجوع لنفسه دفع إليها إن كان دفع المهر إليها، ثم هذا الذي ذكرنا يحتمل أنه قول أبي يوسف ومحمد لا قول أبي حنيفة بناء على مسألة الوكيل بالنكاح، فإن الوكيل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله يملك النكاح بأي مهر شاء، وعندهما تنفيذ التوكيل بمهر المثل.
وإن كان هذا قول الكل يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين أمر المولى عبده أو أمته بالتزوج وبين أمره أجنبياً.
والفرق: أن عند أبي حنيفة رحمه الله تصرف المأمور بغبن فاحش إنما ينفذ على الأمر إذا انتفت التهمة، أما إذا لم تنتفِ فلا، ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يتحمل منه الغبن الفاحش لما كان متهماً.
إذا ثبت هذا فقبول التهمة في حق الوكيل بالنكاح منتفية؛ لأنه لا يرجع إليه بشيء(8/366)
من منافع العقد ليتحمل العين لتحصيل منفعة تعود إليه، أما العبد والأمة فهما متهمان في حق أنفسهما؛ لأن منافع النكاح تعود إليهما، فلعل أنهما تحملا العين لتحصيل نفع يعود إليهما، فلا يصح نكاح كل واحد منهما على هذا الوجه.
وفي «المنتقى» : رجل شهد مع آخر على امرأته أنها أقرت أنها آمة هذا المدعي وهي مجهولة النسب، والزوج يصدقها في إقرارها أو يكذبها وقد دخل بها أو لم يدخل بها، والمدعي يجز النكاح (128ب4) أو يقول لا آمره، فإن الشهادة في جميع ذلك جائزة كان الزوج نقد المهر أو لم ينقد، وليس للمولى أن يفرق بينهما إلا إذا صدق الزوج المرأة في الإقرار، وله أن ينقض النكاح في هذا الوجه، وله في هذا الوجه أن يضمن الزوج إن كان قد دخل بها، ولا يرجع على المرأة بما أعطاها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في عبد مأذون له في التجارة، عليه دين شهد رجلان من غرماء العبد أن مولاه أعتقه والمولى ينكر، فالمسألة على وجهين: إما أن يختار الشاهدان اتباع المولى بتضمينهما القيمة إياها، أو يختاران استسعاء العبد، وهذا لأن قبل الإعتاق للغرماء حق بيع العبد في ديونهم أو حق استسعاء العبد، والمولى بالإعتاق أبطل محلية أحد الحقين، وهو البيع دون الاستسعاء فإن شاءا ضمنا المولى لإتلافه محلية وهو أخذ حقهم، وإن شاءا استسعى العبد لبقاء محلية الاستسعاء، فإن اختار التضمين فلا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شاهدان لأنفسهما بإثبات حق التضمين، فلا تقبل شهادتهما، وإن أبرأاه عن القيمة واختارا إتباع العبد المعتق بدينهما قبلت شهادتهما؛ لأن التهمة منتفية، فإنهما لا يستفيدان بهذه الشهادة ما لم يكن لهما قبل ذلك، فإن حق لاستسعاء قبل ذلك ثابت لهما كما هو ثابت بعد الإعتاق، فقبلت شهادتهما.
قال: ولو شهد رجلان أن هذا أعتق عبده فجنى العبد على أحدهما ففقأ عينه والمولى ينكر العتق، فلا شيء للمجني عليه فلا تقبل شهادتهما، أما لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن المجني عليه يريد إلزام القصص عليه بهذه الشهادة؛ لأن قبل العتق كان لا يجري القصاص؛ لأن القصاص لا يجري في أطراف العبد؛ لأنه يسلك بها مسلك الأموال، والقصاص لا يجري في المال، فكان شاهداً لنفسه من حيث إثبات القصاص لنفسه، فلا تقبل شهادته ولا يثبت العتق ولا شيء للمجني عليه، وإن كانت جناية العبد فيما دون النفس موجباً للمال على مولاه حتى خوطب بالدفع أو الفداء أو قد أقر المولى بلزوم هذا الحق على نفسه، ولكن لم يثبت حكم إقراره لتكذيب المجني عليه إياه؛ لأنه زعم أن الجاني جنى، وأن عليه القصاص ولا شيء على المولى بسبب هذه الجناية، والمقر له إذا أكذب المقر لا يبقى لإقراره غيره، فما ادعاه لم يثبت لعدم الحجة، وما أقر به المولى لم يثبت؛ لتكذيب المجني عليه، فلهذا لا شيء عليه.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت شركاء في أرض اقتسموها فصار في يد كل واحد منهم حق معلوم، وادعى رجل من غير أهل هذه الأرض قطعة منها وقعت في نصيب واحد منهم، فشهد أهل المقاسمة أن الذي وقعت تلك(8/367)
الأرض في يده أقر بهذه الأرض للمدعي، قال: الشهادة باطلة؛ لأنه يجد بها إلى نفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً؛ لأنه يريد بهذه الشهادة سد طريق الرد عليه بأسباب الرد والفسخ كالعيب ونحوه، وصار هذا كرجل باع من آخر جارية بثمن معلوم وتقابضا، فادعى الجارية رجل فشهد البائع مع آخر أن المشتري أقر أن هذه الجارية لفلان المدعي هذا لا تقبل شهادة البائع؛ لأنه متهم في هذه الشهادة، لأنه يريد بشهادته أن يسد طريق الرد عليه حتى لا يملك ردها وإن وجد عيناً بهذا كذا ههنا.
وإنما قلنا: إنه يسد عليه طريق الرد؛ لأن الإقرار حجة على المقر خاصة دون من سواه، ففي حق البائع في المسألة الثانية وشركائه في المقاسمة في المسألة الأولى، كأنه ملكها من المدعي بسبب مبتدأ، ولو كان كذلك كان لا يقدر على الرد بالعيب، ولا الرجوع بنقصان العيب؛ لأن ذلك الملك الذي استفاده بالبيع قد زال فيثبت أنه يجر بشهادته مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً فلا تقبل شهادته.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: إن ادعى جار لهم حقاً في يد الأقضى، فشهد شركاء المدعي أن هذا حدهم الذين اقتسموا عليه، وأن ما وراءه للمدعي والمدعي يدعيه، أو قالوا: نشهد أن هذه الأرض للمدعي والمدعي يدعيه، والمدعى عليه ينكر ذلك ويقول: إنما شهدوا به لينقصوا من حقي، فإن الشهادة جائزة؛ لأنه لا تهمة فيها، إذ ليس فيه جر منفعة ولا دفع مضرة بوجه ما، وكذلك ليس فيها سعي إلى نقص ما تم بهم؛ لأنهم يقولون: إن المشهود به مما لم يدخل تحت القسمة، وإن ما قاسموه عليه وراء ذلك، فهم عدول شهدوا لغيرهم، ولا تهمة في شهادتهم فقبلت شهادتهم.
قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في خمسة نفر بينهم دار وطعام، فشهد أربعة منهم على الخامس أن فلاناً غصب حصته من الدار والطعام وذلك غير مقسوم، فالشهادة باطلة، لأنهم يجرون إلى أنفسهم بذلك منفعة، لأنهم يريدون قطع ولاية طلب شريكهم القسمة فيه، وفي ذلك منفعة لهم.
بيانه: أنه إلى الآن كان للمشهود عليه أن يأخذهم بالمقاسمة، ولو ثبت غصب الغاصب تعذرت القسمة معه حتى يستخلصه من الغاصب؛ لأن القسمة نوع بيع، وإنه لا يجوز في المغصوب، ولأنه يريد أن يشاركهم فيما في أيديهم من غير أن يكون لهم مما في يده شيء، وإنه خلاف طريق المعادلة فلا يجوز. وهذه المسألة دليل على أن غصب المشاع متصور، بخلاف ما يقول بعض المشايخ.
قال ابن سماعة: سمعت محمداً قال في قوم لهم أرضون على نهر بينهم، فباع رجل أرضه في أسفل الشرب بحقوقها وشربها، فشهد هذا البائع لبعض أهل النهر بزيادة في شرب بينهم وبين أهل أسفل الشرب. إنه لا يجوز شهادته؛ لأنه لما ذكر الشرب في البيع(8/368)
صار مبيعاً حتى قابله الثمن، نص عليه في كتاب الشرب، فإنه ذكر فيه:
إذا شهد شاهدان على أنه باع منه هذه الأرض بألف درهم، وذكر أحدهما شربها ولم يذكر الآخر لا تجوز هذه الشهادة، لأنهما اختلفا في الثمن من حيث الحقيقة، لأن من شهد أنه باعه بشربها، فقد شهد أن بعض الألف بمقابلة الشرب، والباقي بالأرض، والآخر يشهد أن جميع الألف بمقابلة الأرض، والاختلاف بين الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع، فثبت أن الشرب مبيع، فإذا شهد بزيادة شرب لهم فقد شهد لنفسه بشيء من ذلك أولاً ثم بمشربه بحكم الشراء منه، فلا تقبل شهادته.
ولا تقبل شهادة الصبيان على الجراحات وتمزيق الثياب بينهم في الملاعب، وكذلك شهادة النساء على الجراحات في الحمامات لا تقبل.
رجل في يديه شاة مر به رجل فقال الذي في يديه الشاة للمار: اذبح هذه الشاة فذبحها، فجاءه رجل وادعى أنها شاته اغتصبها منه الذي كانت في يديه، وأقام على ذلك شاهدين، أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح، علل فقال: لأنه دفع عن نفسه مغرماً، طعن عيسى في هذا فقال: يجب أن تقبل شهادته؛ لأنه جر إلى نفسه مغرماً؛ لأنه لما استحقها المدعي ظهر أن الآمر كان غاصباً، وأن الذابح ذبح شاة الغير بغير إذن ذلك الغير، وذبح شاة الغير بغير إذنه سبب الضمان، فعلم أنه جار إلى نفسه بهذه الشهادة مغرماً.
والجواب: لا بل هو دافع مغرماً عن نفسه بهذه الشهادة؛ لأنا لو لم نقبل شهادته يجب الضمان عليه خاصة؛ لأنه يجب بحكم إقراره أن الملك للمدعي، وأن الآمر كان غاصباً وإقراره حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، وإذا قبلنا الشهادة يظهر ملك المدعي، وكون الآمر غاصباً في حق الكل، ويتخير المدعي بين تضمين الآمر وبين تضمين الذابح، وإذا ضمن الذابح كان له الرجوع على الآمر، فكان دافع مغرم من هذا الوجه، فلهذا لا تقبل شهادته.
وإذا شهد الوصي بالدين، إن شهد بالدين للميت على غيره لا يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه حق القبض والاستيفاء فيصير شاهداً لنفسه، وإن شهد على الميت بالدين تقبل لأنه يطالب به، فيصير شاهداً على نفسه لا لنفسه فيقبل، قال: إلا أن يكون قضى الدين أولاً من التركة ثم شهد بعد ذلك فحينئذ تقبل شهادته، لأنه يقصد به إسقاط الضمان عن نفسه، فيكون شاهداً لنفسه، وإن شهد لبعض ورثة الميت على الميت أو على أجنبي أو على بعض الورثة بدين، فإن كان المشهود له صغيراً لا تقبل، لأنه يثبت حق القبض والاستيفاء لنفسه، فيصير شاهداً لنفسه، وإن كان المشهود له كبيراً، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً، وذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل، وعلى قولهما: تقبل، وأحال المسألة إلى كتاب الوصايا.(8/369)
الفصل الثامن: في الشهادات في المواريث
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا شهد شاهدان عند القاضي أن هذا الرجل وارث هذا الميت لا وارث له غيره ولم يخبرا بسبب الميراث، ثم إنهما ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن السبب، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما؛ لأنهما شهدا (129أ4) بالمجهول؛ لأن الوارث مجهول غاية الجهالة؛ لأن أسباب الإرث كثيرة؛ أحكامها مختلفة، فكانت الجهالة ساحة لا يمكن تداركها، فيعجز القاضي عن القضاء؛ لأنه لا يدري بأي سبب يقضي، ألا ترى أنه لو جاء آخر وادعى أنه ابن الميت أو أبوه، فالقاضي لا يدري أنه يشاركه في الميراث أو لا يشاركه، فكيف يشاركه، وهذا بخلاف ما لو شهدا بالدين أو بملك الغير، فإنه تقبل شهادتهما، وإن لم يبينا سبب ذلك؛ لأن الدين لا يختلف باختلاف سببه، وكذلك ملك الغير لا يختلف باختلاف سببه، فلا يكون المشهود به مجهولاً بخلاف الإرث؛ لأنه يختلف باختلاف أسبابه، فلا بد من بيان السبب، فإن قالا: هو ابنه ووارثه لا يعلم له وارثاً آخر صار المشهود به معلوماً للقاضي فيقضي بشهادتهما، فقد شرط مع بيان السبب أن يقول هو وارثه لا نعلم له وارثاً سواه، ولا شك أن قولهما: ووارثه شرط فيمن يحتمل الحجب والسقوط بحال، فأما من لا يحتمل الحجب والسقوط بحال نحو الأب والأم والابن والبنت هل هو شرط؟ فقد اختلف المشايخ فيه.
وإشارات محمد رحمه الله في «الكتاب» : متعارضة، فوجه قول من قال: إنه شرط هؤلاء قد لا يرثون بعارض القتل والكفر والرق؛ ولأنهم قد يكونون بجهة الرضاع، فيشرط ذكره ليزول الاحتمال، وجه قول من قال بأنه ليس بشرط وهو الصحيح: أن هذه العوارض ليست بظاهرة، فلا يلتفت إليها، والنسبة المطلقة بهذه الأشياء هي بجهة الرضاع غير ثابتة عادة فلا تورث شبهة، وقول الشاهدين: لا نعلم وارثاً آخر ليس من صلب الشهادة، وإنما هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي، فإنه يدونه القاضي يتلوم زماناً، ولو شهدوا أنه عم الميت لابد وأن ينسبا الميت والوارث حتى يلتقيا إلى أب واحد؛ ليعلم أنه عمه، ويتسامع ذلك أنه عمه لأبيه وأمه، أو لأبيه أو لأمه، حتى إذا جاء آخر وادعى ميراث الميت يعلم أن الأول حاجب للعالي أو ليس بحاجب له، وبعد أن لا يكون حاجباً له في أي قدر يشاركه الثاني، وينبغي أن يتسامع ذلك أنه وارثه لا يعلم له وارثاً غيره؛ لأن العمل يحتمل الحجب والسقوط بغيره، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا شهدوا أنه عم الميت وكذلك إذا شهد أنه أخ الميت، لا بد وأن يبينا أنه أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه لأن الأخّوة في نفسها مختلفة، وقد يتعلق بها العصوبة، وهو ما إذا كان لأب وأم أو لأب، وقد تتعلق بها الفرضية، وهو ما إذا كانت لأم وأحكامها مختلفة، فلا بد من بيان ذلك ليصير المشهود به معلوماً للقاضي، ويشترط مع ذلك أن يقولا ووارثه: لا نعلم له(8/370)
وارثاً غيره، لما قلنا في العم، ولو شهدوا أنه مولاه ووارثه لا يقبل القاضي هذه الشهادة حتى يشهد أنه مولاه أعتقه؛ لأن المولى اسم مشترك يتناول الأعلى وهو المعِتق، ويتناول الأسفل وهو المعَتق، ومن الناس من يورث الأسفل.
وعندنا: لا ميراث للأسفل ولعل الشاهدين أرادا الأسفل، فلو قضى القاضي بهذه الشهادة قبل البيان يقع القضاء لغير الوارث وإنه لا يجوز، ولو شهدا أن هذا ابن ابن الميت أو هذه بنت ابن الميت لا بد أن يقولا: وهو وارثه، لأنهما يسقطان بحال، فلا بد منه لينقطع الاحتمال، ولو شهدا أنه جد الميت لابد وأن يبينا أنه جده من قبل الأب أو من قبل الأم؛ لأن كل واحد منهما جد على الحقيقة وأحدهما صحيح، والآخر فاسد ويتسامع ذلك أيضاً أنه وارثه؛ لأنه يحتمل السقوط والحجب لغيره، وكذلك إذا شهدوا أن هذه جدته لابد وأن يبينا أنها أم أم الميت أو أم أبيه؛ لأن الجدة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ويبينا مع ذلك أنها وارثته لما قلنا في الجد.
ولو شهدا أنه جده أب أبيه ووارثه لا نعلم له وارثاً سواه، وقضى القاضي بذلك ثم جاء رجل وادعى أنه أب الميت، وأقام على ذلك بينة قضى القاضي به؛ لأنه لا تنافي بين كون الأول جد الميت، وبين كون الثاني أباً له، ويجعل الميراث للأب وينقض القضاء بالمال للجد؛ لوقوعه خطأً أو الجد محجوب بالأب، ويجعل الجد أباً لهذا الذي ادعى الأبوة، فإن قال الأب للقاضي: إن هذا الذي أقام البينة أنه جد الميت ليس بأب لي فمره بإعادة البينة، فالقاضي لا يكلفه ذلك؛ لأن نسب الجد ثابت بقضاء القاضي بالبينة القائمة على النسب، عند وجود شرطها، وهو دعوى الميراث ولم يوجد ما يوجب النقض في حق النسب فبقي نسبه كما كان.
فإن قيل: القضاء بالنسب ثبت في ضمن القضاء بالوراثة، وقد تبين بطلان القضاء بالوراثة فتبين بطلان القضاء بالنسب أيضاً.
قلنا: القضاء بالوراثة، لم يبطل إنما بطل القضاء بدفع المال إليه، وهذا لأن الجد وارث مع الأب لوجود سبب الوراثة في حقه إلا أن الأب أقرب، والميراث يدفع إلى أقرب الوارثين مع كون الأبعد وارثاً، فإنما يبطل القضاء بدفع المال، أما لا يبطل القضاء بالوراثة، وإذا لم يبطل القضاء بالوراثة كيف يبطل ما ثبت في ضمنه من القضاء بالنسب، نظيره الجار مع الشريك، فإن الشريك مقدم على الجار، وإن اجتمعا عند القاضي فالقاضي يقضي بالشفعة للشريك مع كون الجار شفيعاً في نفسه حتى لو سلم الجار الشفعة يصح تسليمه كذا ههنا.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما قلنا بمثله فقال: ألا ترى أن الأول لو أقام بينة أنه أخو الميت لأب وأم، وقضى القاضي بذلك وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام البينة أنه ابن الميت، جعل القاضي الميراث للابن، ويجعل الأول عماً لهذا الابن فإن قال الابن: إنه ليس بعمي، فمره بإعادة البينة، لا يكلفه القاضي ذلك. [
والمعنى ما ذكرنا، وكتاب القاضي إلى القاضي في نقل الشهادة في هذا الباب(8/371)
مقبول؛ لأنه ثبت مع الشبهات، فيقبل فيه كتاب القاضي كما في سائر الحقوق التي تثبت مع الشبهات.
وإذا مات الرجل فأقام رجل البينة أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأن الميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، وهو عصبة الميت ووارثه، لا نعلم له وارثاً غيره قضى له بالميراث؛ لأنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه، أو لأبيه؛ لأنهما التقيا إلى أب واحد وإنما يلتقيان إلى أب واحد إذا كان المدعي ابن عم الميت من جهة الأب والأم أو من جهة الأب، فأما إذا كان ابن عمه لأم لا يلتقيان إلى أب واحد، وهو معنى قولنا: إنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه أو لأبيه وقد شهدوا أنه وارثه لا نعلم له وارثاً غيره له فوجب القضاء له بالميراث، فإن جاء آخر بعد ذلك وأقام بينة أنه عصبة الميت، فإن أثبت الثاني مثل ما أثبته الأول بأن أثبت أنه فلان بن فلان الفلاني، والميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد قبلت بينة الثاني، إذا التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة وإن كانا من قبيلتين بأن ادعى الأول أنه من العرب، وادعى الثاني أنه من العجم لا تقبل بينة الثاني؛ لأن العمل بالبينة متعذر، إذ يستحيل أن يكون للرجل ابنا عم من قبيلتين، فترجحت البينة الأولى بالقضاء، وإن أثبت الثاني نسباً أبعد عن الأول بأن أثبت الثاني أنه ابن ابن عمه، فالقاضي لا يلتفت إلى بينته التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، أو من قبيلتين؛ لأنه لا يستحق شيئاً من الميراث مع الأقرب.
وإن أثبت الثاني نسباً فوق الأول، بأن ادعى الثاني أن الميت ابنه ولد على فراشه، وأنه أبوه لا وارث له غيره.
فهذا على وجهين: إن ادعى الأب نسبه من القبيلة التي ادعاها ابن العم تقبل بينة الأب، وينقض القضاء الأول في حق الميراث دون النسب حتى لا يبقى الأول ابن عم له حتى لو مات هذا الأب يرث الأول منه إذا لم يكن له وارث أقرب منه؛ لأن العمل بالبينتين في حق ثبات النسب ممكن، إذ يجوز أن يكون للإنسان أب وابن عم من قبيلة واحدة، وإذا أمكن العمل في حق ثبات النسب لم ينقض القضاء الأول في حق النسب، وينقضه في حق الميراث؛ لأن ابن العم لا يرث مع الأب.
وإن ادعى الأب نسبه من قبيلة أخرى قبلت بينة الأب وينقض القضاء الأول في حق الميراث والنسب جميعاً؛ لأن العمل بالبينتين في حق النسب متعذر ههنا، لأن.... دعواهما أن للميت أبوان، هذا المدعي وأخ أب ابن العم، ولا يتصور من حيث الحقيقة أن يكون للشخص الواحد أبوان، وإذا تعذر العمل بهما في حق النسب وجب العمل ببينة الأب، لأن في بينة (129ب4) الأب زيادة إثبات؛ لأن الأب أقرب.
فإن قيل: لا بل العمل بالبينتين في حق النسب ممكن بأن كان بين رجلين جارية جاءت بولد فادعياه، فينبغي أن لا ينقض القضاء الأول في حق النسب، فلا يجوز أن(8/372)
يكون للولد الواحد أبوان من حيث الحكم كما قلتم، إلا أن من شرط ثبوت أبوتهما للواحد أن يدعيا معاً، أما إذا سبق أحدهم الآخر في الدعوة لا يصح دعوة الثاني، وههنا مدعي الأبوة صار سابقاً معنى وإن كان ابن العم سابقاً في الدعوة صورة؛ لأن الأب ادعى لنفسه زيادة قرب لم يدعيه ابن العم، فصار الأب منفرداً بهذه الزيادة ولم يزاحمه ابن العم في ذلك، فصار سابقاً معنى، فيعتبر بما لو كان سابقاً حقيقة لا تصح دعوى ابن العم في ذلك كذا ههنا، فإن قيل: إذا تعذر العمل بها من حيث الحقيقة والحكم كان يجب أن تترجح البينة التي اتصل بها القضاء كما ادعى الثاني أنه ابن عمه من قبيلة أخرى.
قلنا: إنما تترجح البينة التي اتصل بها القضاء حالة التنافي إذا لم يكن في البينة الثانية زيادة إثبات كما في ابني العم، فعند الاستواء في الإثبات تترجح الأولى بحكم اتصال القضاء بها، وههنا في البينة الثانية زيادة إثبات، وفي مثل هذا، الترجيح بزيادة الإثبات لا باتصال القضاء؛ لأن الترجيح من حيث زيادة الإثبات ترجيح في نفس الشهادة، والترجيح من حيث القضاء ترجيح من حيث الحكم.
وخرج على المعنى الذي قلنا الولد إذا تنازع فيه رجلان، فأقام أحدهما البينة وقضى القاضي بالولد، ثم أقام الآخر بينة بعد ذلك لم تقبل بينته، وترجح الأول بالقضاء؛ لأنه ليس في البينة الثانية زيادة إثبات، والجمع بينهما غير ممكن، فرجحنا الأول باتصال القضاء بها.
وإذا شهد شاهدان أن فلاناً أعتق هذا الميت وأن الرجل عصبة الذي أعتق، وأنه عصبة المعتق لذلك لا تقبل شهادتهما ما لم يبينا سبب العصوبة (من) أنه ابن الذي أعتق أو أبوه أو أخوه أو ما أشبه ذلك، وهذا لأن أسباب العصوبة كثيرة، ومن العصبات من لا يصير محجوباً بغيره، ومنهم من يصير محجوبا بغيره، فلا بد من أن يعلم القاضي سبب عصوبته حتى إذا جاء آخر فادعى عصوبته، فالقاضي يعلم أن الثاني محجوب بالأول وهو حاجب له، وصارت الشهادة على الميراث، ودعوى الميراث دعوى تلقي الملك من جهة الميت، نظير الشهادة على دعوى تلقي الملك من جهة حالة الحياة.
ومن ادعى تلقي الملك من جهة الحيوة وشهد الشهود بذلك ولم يبينوا سببه، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم؛ لأن في أسباب الملك كثيرة وأحكامها مختلفة، فالبيع لا يوجب ملكاً لأنه جاء بعوض، والهبة توجب ملكاً غير لازم بغير عوض، فكذا في دعوى الميراث.
وإذا شهد الشهود بوراثة رجل وبينوا سببه ولم يزيدوا عليه، فاعلم بأن ههنا فصول:
أحدها: هذا، والحكم فيه أن الشهادة مقبولة إلا أن القاضي لا يدفع المال إلى المشهود له للحال بل يتلوم زماناً لجواز أن يظهر وارث آخر للميت هو مزاحم للمشهود له، أو هو مقدم عليه.(8/373)
الثاني: إذا شهدوا بوراثته وبينوا سببه وقالوا: لا نعلم له وارثاً آخر، وهذه الشهادة مقبولة، ويدفع القاضي المال إليه للحال من غير تلوم، وقوله: لا نعلم له وارثاً سوى هذا ليس من صلب الشهادة، بل هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي؛ لأن بدون ذكر هذه الزيادة القاضي يتلوم، وبعد ذكر هذه الزيادة لا يتلوم.
الثالث: إذا شهد أنه وارثه لا وارث له غيره، وهذه الشهادة مردودة قياساً مقبولة استحساناً، وجه القياس: أن هذه شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم بمعاينة الحكم، أما من حيث الحقيقة فظاهر، وأما من حيث الحكم بمعاينة السبب؛ لأنه لا يوجد في النفي سبب موضوع يوجب النفي بخلاف الشهادة على الإثبات؛ لأن من الإثبات ما يعلم حقيقة، كالأفعال نحو الغصب والقتل، ومنها ما يعلم من حيث الظاهر بمعاينة الأسباب كالأملاك، فلم تكن الشهادة على الإثبات شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به وبخلاف قوله: لا نعلم له وارثاً غيره لأن قوله لا نعلم له وارثاً غيره إخبار عن عدم علمه بوارث آخر، وهو يعلم عدم علمه بوارث آخر، فلم تكن هذه شهادة بعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به، وأما قوله: لا وارث له غيره إخبار عن نفي وارث آخر في نفسه، ولا علم له بذلك لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظاهر بمعاينة السبب على ما ذكرنا.
وجه الاستحسان: أن العمل بحقيقة هذه الشهادة إن تعذر من الوجه الذي قلتم أمكن العمل بمجازها بأن يجعل قولهما: لا وارث له غيره، كناية عن قولهما: لا نعلم وارثاً غيره، لأن عدم وارث آخر غير هذا المدعي متى ثبت على الحقيقة ثبت عدم العلم بوارث آخر غيره، فيمكن أن يجعل نفسه على الحقيقة كناية عن نفي علم.
الرابع: إذا قالا: لا نعلم له وارثاً آخر بأرض كذا غير فلان، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه الشهادة جائزة ويقضي له بالميراث، وقالا: لا تجوز هذه الشهادة ولا يقضى له بالميراث، وجه قولهما، أن وجود وارث في مكان آخر إن لم يثبت بشهادتهما نصاً فقد ثبت مقتضى تخصيصهما هذا المكان بنفي وارث آخر فيه، لأنه لو لم يكن له وارث آخر في مكان آخر لم يكن لتخصيص هذا المكان بالنفي فائدة والثابت اقتضاءً والثابت نصاً سواء، ولو ثبت وجود وارث آخر في مكان آخر نصاً بأن قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في مكان كذا وله وارث آخر في مكان كذا، أليس إن القاضي لا يدفع المال إليه؟ كذا ههنا، ألا ترى أنهما لو قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في هذا المجلس لا يقضى بالميراث له وطريقه ما قلنا، ولأبي حنيفة رحمه الله أن وجود آخر في مكان آخر لم يثبت بشهادتهما لا نصاً، ولا يقتضي تخصيصهما هذا المكان بالنفي فيه؛ لأن بهذا التخصيص فائدة أخرى.
ووجه ذلك: أنما لما لم يكن له وارث آخر في هذا المكان مع أنه مسقط رأسه، أولى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر، ثم يقول: إن في هذا الكلام تقديم وتأخير يمكن تصحيح الشهادة لو حمل عليه، فيحمل عليه إذ يحتال بتصحيح الشهادة بقدر(8/374)
الممكن، ووجه التقديم والتأخير أنا لا نعلم له وارثاً آخر غير فلان بأرض كذا، فيكون ذكر الأرض لكون فلان فيها، ونفي غيره على العموم، أما أن يكون ذكر الأرض لتخصيصه بالنفي فيه فلا، ثم الشهود إذا شهدوا على وراثة شخص وبينوا سببها، وهذا الشخص ممن يستحق جميع المال، ولا يصير محجوباً بغيره، كالابن والبنت والأب إن قالوا: لا نعلم له وارثاً آخر غيره، فالقاضي يدفع جميع المال إليه من غير تلوم؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت بعلم القاضي، ولو علم القاضي بذلك كان يدفع المال إليه كذا ههنا.
فإن قيل: نفي وارث آخر ثابت بعضه بالأصل، فإن الأصل هو العدم، فلماذا يشترط نفيه بالشهادة؟.
قلنا: نعم الأصل هو العدم، إلا أن العدم ثابت باستصحاب الحال لا بدليله، والثابت باستصحاب الحال يصلح للدفع لا للاستحقاق، فلهذا شرطنا ثبوت النفي بدليله حتى يصلح لاثبات استحقاق ما لم يكن ثابتاً، فأما إذا شهدوا أنه ابنه ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي لا يدفع جميع المال إليه بل يتلوم زماناً يقع في غالب رأي القاضي أنه لو كان معه وارث آخر لظهر في هذه المدة، ولم يقدر محمد رحمه الله في «الأصل» لذلك مقداراً، ولكن فوض ذلك إلى رأي القاضي، وهكذا ذكر في «الجامع» فالمذكور في «الجامع الكبير» : أن القاضي يتأنى ويتلوم في ذلك زماناً قدر ما يقع في غالب رأيه أنه لو كان له وارث آخر لظهر في مثل هذه المدة، وذكر الطحاوي رحمه الله في مختصره وقدر لذلك حولاً؛ لأن الغيبة قد تمتد إلى حول، قالوا: ما ذكر الطحاوي قولهما؛ لأنهما يثبتان المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يثبت المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، بل يفوضه إلى رأي من ابتلي به، فإنه إذا تلوم حولاً أو مقداراً وقع في قلبه أنه لو كان له وارث آخر لظهر دفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر ثبت بنوع دليل وهو التلوم، فصار كما لو ثبت بالشهادة، فأما قبل التلوم لا يدفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر قبل التلوم ثابت باستصحاب الحال (130أ4) وإنه لا يصح لإثبات استحقاق ما لم يكن ثابتا فرق بين هذا وبينما إذا شهدوا أنه جد الميت أب أبيه أو أخوه لأبيه وأمه ولم يزيدوا على هذا فإن القاضي لا يدفع المال إليه بالتلوم ما لم يشهد الشهود بالنفي، وفي الابن قال: يدفع المال اليه بالتلوم والفرق أن في مسألة الابن وقع الشك في دفع بعض المال لا في دفع الكل لأنه مستحق للبعض على كل حال، وفي مسألة الجد والأخ الشك وقع في الكل لأنهما
يحجبان بوارث آخر ولا شك أن الشك للتمكن في دفع الكل فوق الشك المتمكن في دفع البعض، والنفي الثابت بالتلوم دون النفي الثابت بالشهادة من حيث الحقيقة؛ فاكتفى بالتلوم للنفي متى وقع الشك في دفع البعض، ولم يكتف متى وقع الشك في دفع الكل ليظهر نقصان ريبة التلوم عن ريبة الشهادة وصار وزان مسألة الجد والأخ مسألة الابن: أن لو شهد أنه جده أب أبيه ووارثه، أو شهدا أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه حتى(8/375)
ثبت له استحقاق البعض ووقع الشك في الباقي، ولو كان كذلك كان يدفع المال إليه بالتلوم، وإذا عرفت الجواب في الابن فهو الجواب في الابنة والأبوين؛ لأن الشك في حقهم يمكن في البعض؛ لأنهم لا يحجبون بحال، والجواب في ابن الابن وفي ابن الأخ والعم وابن العم، كالجواب في الجد والأخ؛ لأن في حق هؤلاء وقع الشك في دفع الكل؛ لأنهم يحجبون بغيرهم هذا الذي ذكرنا إذا كان المدعي استحق جميع المال، وهو ممن لا يحجب بغيره كالابن والابنة أو ممن يحجب بغيره كالأخ والعم وابن الأب وأشباههم، وأما إذا كان المدعي وارثاً لا يستحق جميع المال ولكن لا يصير محجوباً بغيره.
كالزوج والزوجة إن شهدا أنه زوجها أو أنها زوجته لا يعلم له وارثاً غيره دفع إلى الزوج النصف وإلى المرأة الربع، لأن نفي وارث آخر ثبت بالشهادة فصار كالثابت بعلم القاضي، وأما إذا شهدوا أنه زوجها أو شهدوا أنها زوجته ولم يزيدوا على هذا؛ أجمعوا على أن قبل التلوم لا يدفع إليه أكثر النصيبين؛ لأن استحقاق أكثر النصيبين معلق بعدم الولد وأنه لم يثبت بدليله، والعدم الثابت باستصحاب الحال لا يكفي، وأما إذا تلوم زماناً ولم يظهر وارث آخر.
قال محمد رحمه الله في دعوى «الأصل» : إن القاضي يدفع إليه أكثر النصيبين، إن كان زوجاً يدفع إليه النصف، وإن كان زوجة يدفع إليها الربع، وقال أبو يوسف رحمه الله: يدفع إليه أقل النصيبين؛ إن كان زوجاً الربع وإن كان زوجة الثمن، ولم يذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف في «المبسوط» و «الطحاوي» : في مختصره ذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف والخصاف ذكر قوله مع قول محمد.
وإذا ادعى داراً في يدي إنسان أنها له ورثها عن أبيه وجاء شهود وشهدوا أنها كانت لأبيه إلى أن مات وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي وهذا ظاهر، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، وإن لم يشهدوا أنه تركها ميراثاً له؛ لأنهم إن لم يشهدوا بذلك صريحاً فقد شهدوا بذلك دلالة، لأن ما كان للإنسان يوم الموت يصير ميراثا لورثته لا محالة، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت في يد أبيه إلى أن مات، أو شهدوا أنها كانت في يد أبيه يوم الموت فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي؛ لأن الشهادة باليد يوم الموت شهادة بالملك له يوم الموت، لأن اليد المجهولة تنقلب يد ملك عند الموت؛ لأن الظاهر من حال من حضره الموت أن يسوي أسبابه، ويبين ما كان عنده من الودائع أو الغصوب، فإذا لم يبين فالظاهر أن ما في يده ملكه فجعلنا اليد عند الموت ملك من هذا الوجه، وروى الحسن بن زياد وعلي بن يزيد الطبري صاحب محمد بن الحسن رحمهم الله، أنه لا تقبل الشهادة في هذه الصورة؛ لأنهم شهدوا بيد عَرَف القاضي زوالها، ولم يشهدوا بالملك للمورث، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح لما ذكرنا أن الأيدي المجهولة تنقلب عند الموت يد ملك، فكانت(8/376)
هذه شهادة بالملك من حيث المعنى، ولو شهدوا أنها كانت لأبيه ولم يجروا الميراث الى المدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف
رحمه الله أولاً، رجع أبو يوسف عن هذا القول وقال: تقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي.
وجه قول أبي يوسف آخر: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت إن لم يثبت بنص الشهادة ثبت بمقتضى الشهادة أنها كانت لأبيه؛ لأن ما كان للانسان يبقى له إلى أن يوجد ما يزيله فيبقى إلى يوم الموت، فصار هذا وما لو شهد بكونه له يوم الموت سواء، والدليل عليه أن الأب لو كان حياً وادعى الدار لنفسه، وجاء المدعي بشهود وشهدوا أنها كانت للمدعي، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة بأنها كانت للمدعي شهادة بأنها للمدعي في الحال.
والدليل عليه ما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت للميت فإنه تقبل هذه الشهادة، وجعل هذا بمنزلة إقراره أنها كانت للميت يوم الموت بالطريق الذي قلنا.
والدليل عليه: من ادعى عيناً في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب وجاء بشهود ولا بد للشهود أن يذكروا في شهادتهم ملك البائع، فلو شهد شهوده أنه كان للبائع فإنه يقضي للمشتري وإن لم يشهدوا بكونه ملكاً للبائع يوم البيع ما كان الطريق إلا ما قلنا.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة، فإنهم لم يشهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، وإنما شهدوا أنها كانت لأبيه لا غير، إلا أن ما ثبت للأب فإنه يبقى إلى يوم الموت ما لم يوجد دليل الزوال باستصحاب الحال لا بدليل يوجب قيام.
قلنا: والثابت باستصحاب الحال يصلح لإبقاء ما هو ثابت ولا يصلح لإثبات ما هو غير ثابت على ما عرف، فاعتبرنا كون الثابت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة لإبقاء ما كان ثابتاً وهو الملك للميت، فإنه لا يثبت الوارث بالموت ملك جديد بل يبقي عين ما كان للميت حتى يرد بالعيب، ويرد عليه ولم يصر في حق مالكية الوارث؛ لأن اعتباره في حق مالكية الوارث لم يكن ثابتاً، وإنما ثبت للحال فيأخذ الاعتبارين إن وجب القضاء بهذه البينة، فباعتبار الآخر لا يجب فلا يجب بالشك والاحتمال، وليس كما شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت للميت ثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً، أما في مسألتنا هذه فتكون هذه الدار للميت يوم الموت غير ثابت بالبينة والتقريب ما مر، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت، لأن الشهادة باليد للميت يوم الموت شهادة بالملك له على ما بينا.
وإذا كانت شهادة بالملك له فيكون هذا الشيء ملكاً للميت يوم الموت ثبت بنص البينة، وليس كما لو ادعى الملك لنفسه، وشهدوا أنها كانت للمدعي، فإنه يقضي بها للمدعي، وإن ثبت كونها ملكاً للمدعي للحال باستصحاب الحال لا بالبينة، لأن هناك لا(8/377)
يعتبر الكون الثابت للحال باستصحاب الحال لإثبات ما لم يكن ثابتاً، بل يعيده لإبقاء ما كان ثابتا له من الملك والمالكية جميعاً، بخلاف ما نحن فيه.
وليس كمسألة الشراء لأن ملك المشتري مضاف الى الشراء الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك البائع في البيع الثابت له وقت الشراء باستصحاب الحال، وإن كان لابد لإثبات ملك المشتري من بقاء ملك البائع إلى يوم الشراء أحدهما: وجود، أو أنه لا يوجد حكماً لبقاء ملك البائع يوم الشراء، وإنما يوجد بالمباشرة عن اختيار، وإنه للملك فإنه موضوع كذلك، ألا ترى أنه لا يتحقق من غير إيجاب الملك فيكون الملك الثابت للمشتري مضافا إلى الشراء الذي ثبت بالبينة، لا إلى بقاء ملك البائع الثابت باستصحاب الحال، وما ثبت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً.
وأما معنى ثبوت الملك للوارث مضاف إلى كون المال ملكاً للميت وقت الموت، لا إلى الموت الثابت معاينة، لأن الموت ليس بسبب للملك، فإنه موضوع لإبطال الحياة لا لإيجاب الملك حتى يتحقق من غير إيجاب ملك لأحد، وبقاء ملك الميت إلى يوم الموت فيما نحن فيه ثابت باستصحاب الحال لأن الشهود لم يشهدوا بذلك (130ب4) والثابت باستصحاب الحال لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً إن صلح، لإبقاء ما كان ثابتاً.
وأما مسألة الإقرار قلنا: الملك الثابت للوارث هناك مضاف إلى إقرار ذي اليد الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك أبيه يوم الموت الثابت باستصحاب الحال، وإن كان لابد للميراث من الأمرين جميعاً كما في الشراء إلا أن الإقرار أحدهما: وجود أو أنه يصلح سبب ملك من وجه لأنه تمليك من جهة المقر إن كان إخباراً من وجه، ولهذا لا يصلح إذا لم يعد للمقر له ملكاً والإقرار ثابت بالبينة والثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن تاماً، فأما ما ملك الوارث مضاف إلى كون هذه الدار ملكاً للأب يوم الموت لا إلى الموت الثابت معاينة، وكون هذا المال لأبيه يوم الموت ثابت باستصحاب الحال، وأنه لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً فهذا هو الفرق بين هذا وبين الإقرار.
فإذا شهد أنها لأبيه لا تقبل هذه الشهادة، ذكر محمد رحمه الله المسألة في كتاب «الدعوى» من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، من قال: المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: تقبل لأنهم شهدوا بالملك للميت والثابت للوارث عين ما كان ثابتاً للمورث.g
والحاصل: أن أبا يوسف اعتبر جانب الملك ولا استحالة في جانب الملك، وهما اعتبرا جانب المالكية فقالا: أثبتنا المالكية للميت في الحال ولا مالكية للميت في الحال فكانت هذه شهادة بالمستحيل، ومنهم من قال: لا تقبل هذه الشهادة بلا خلاف وإليه ذهب الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله فكان يقول بأن محمداً رحمه الله ذكر كلا الفصلين في «الكتاب» ثم خص رجوع أبي يوسف في مسألة الكون للميت، ولو كان الخلاف فيهما واحداً لذكر رجوعه فيهما، فعلى هذا: أبو يوسف يحتاج إلى الفرق(8/378)
بين هذه المسألة وبين تلك المسألة، ووجه الفرق له أن يقال: بأن الاستحالة في هذه المسألة إن لم تتحقق في جانب الملك؛ لأن الملك لم يتجدد للوارث بل قام مقام الميت كأنه وكيله فتحقق الاستحالة في إثبات المالكية للميت للحال يمنع قبول الشهادة واعتبار إثبات الملك للورثة للحال، وأنه غير مستحيل للحال يوجب قبوله، فلا يجب القبول بالشك، بخلاف ما لو شهدا أنه كان لأبيه لأنها غير مستحيلة باعتبار الملك والمالكية جميعاً؛ لأنهم أثبتوا كلا الأمرين في حالة الحياة فوجب القبول، فإذا وجب القبول نفى الملك إلى يوم الميت باستصحاب الحال، ثم ثبت مالكية الوارث حكماً ثم هذا الاختلاف فيما إذا لم يجروا الميراث، فأما إذا جروا وقالوا: هذا لأبيه مات وتركها ميراثاً له، تقبل هذه الشهادة بلا خلاف، وذكر محمد رحمه الله مثل هذا في مسألة الحد في «الأصل» على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله: إذا شهد الشهود بالوراثة وقالوا: أين محدود ملك فلان يود وحق وي وريدست وي تا أول ترك بمرد وميراث ما ندخر وندان بشر رأ فلان وفلان رأى أنه ليس بتام ولا بد من أن يقول: ميراث ما نداين محدود رأى ويقول: ميراث ما ندش حتى يتم حكم الميراث في المحدود المدعى.
قال الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: وكتبت الفتوى في حد الميراث وبالغت في شرائط الحد غير أني تركت الهاء عند قوله: وتركه ميراثاً، وكتبت: وترك ميراثاً فقال لي السيد الإمام: ألحق بالهاء واجعل وتركه ميراثاً حتى أفتي بالصحة.
وينبغي أن يقال إذا شهدوا: أنه ملكه يوم موته أو شهدوا أنه كان في يده يوم مات أن لا يحتاج فيه إلى؟ الميراث، وإنما يحتاج إليه إذا شهدوا أنه كان ملكه ولم يتعرضوا ليوم الموت، بدليل المسائل التي تقدم ذكرها.
قال: وإذا شهد شاهدان أن فلاناً (مات) وترك هذه الدار ميراثاً لفلان ابنه هذا، لا يعلمون له وارثاً غيره، ولم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما لا تحلل في جر الميراث؛ لأنهم جروا الميراث إليه على وجهه، حيث قالوا: وتركها ميراثاً له، ولا يحلل في الشهادة بالنسب والموت من حيث أنهم شهدوا بالشهرة والتسامع؛ لأن الشهادة بالنسب والموت بالشهرة جائزة، ولكن إنما لم تقبل شهادتهما لخلل في شهادتهما بالملك؛ لأنهم شهدوا بالملك للميت بالشهرة والتسامع فإن ما لا يكون مملوكاً للميت لا يصير ميراثاً لورثته، وإذا لم يدركوا الميت، لم يعاينوا سبب الملك منه في الدار، ولا كون الدار في يده يتصرف فيه تصرف الملاك، فعلم أن شهادتهما بالملك للميت بحكم الشهرة والتسامع لا تجوز هذا إذا كان نسب المدعي معروفاً من الميت، وإن لم يكن نسبه معروفاً من الميت فشهدا أنه فلان بن فلان الميت، وأن فلان الميت ترك هذه الدار ميراثاً له ولم يدركا الميت لم يذكر هذا الفصل ههنا، وذكر في «المنتقى» أجرى شهادتهما في النسب، وأبطلها في الميراث.(8/379)
ولو شهدوا على دار في يدي رجل أنها لفلان جد هذا الرجل المدعي وخطيه وقد أدركوا الجد، والمدعي يدعي أنها كانت لأمه فاعلم بأن ههنا فصلان:
أحدهما: إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، وأنه على وجهين، الأول: إذا جروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد هذا المدعي فلان، مات الجد وتركها ميراثاً لهذا المدعي، وفي هذا الوجه تقبل الشهادة، ويقضي بالدار للمدعي.
الوجه الثاني: إذا لم يجروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد المدعي ولم يزيدوا على هذا، وفي هذا الوجه إن لم يعلم تقدم موت الجد على موت الأب لا يقضى بالدار للمدعي بالإجماع، وإن علم فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف رحمهم الله أولاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يقضى بالدار للمدعي.
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف فيما إذا شهدوا أنها كانت لأبيه، ولو شهدوا على إقرار ذي اليد أن هذه الدار كانت لجد المدعي ولم يجروا الميراث، فإن القاضي يقضي بالدار للمدعي إذا لم يكن له وارث آخر، كما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت لأبيه وبعض مشايخنا قالوا في مسألة الجد: لا تقبل الشهادة بلا خلاف.
الفصل الثاني: إذا شهدوا أن هذه الدار لجد هذا المدعي ولم يقولوا كانت لجده، فإن جروا الميراث تقبل الشهادة ويقضى بالدار للمدعي؛ لأن تفسير الجر أن يقولوا: هذه الدار لجده، مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه، ثم مات أبوه وتركها ميراثاً لهذا المدعي، ومتى قالوا: مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه فقد شهدوا بالملك لأبيه حال حياته، وصار من حيث المعنى كأنه قال: كانت لأبيه وجروا الميراث، فأما إذا لم يجروا الميراث فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة ومحمد فههنا أولى، وأما على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله: فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل هذه الشهادة؛ لأن معنى قول الشاهد: إنها لجده عرفاً وعادة أنها كانت لجده، ولو شهدوا أنها كانت لجده أليس أنه يقضى بها للمدعي عنده كذا ههنا، ومنهم من قال: لا تقبل الشهادة ولا يقضى بالدار للمدعي عنده أيضا.
والفرق: لأبي يوسف: بينما إذا شهدا أنها كانت لجد المدعي وبينما إذا شهدا أنها لجد المدعي، والفرق: أنهم إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي فقد أثبتوا الملك لجده حال حياته وهو من أهل الملك في حياته، فيثبت الملك للجد في حياته بهذه الشهادة، وما ثبت للجد ينتقل إلى المدعي ما لم يثبت الزوال من الجد قبل موته إلى غيره، وأما في هذه المسألة أثبتوا الملك للجد بعد الموت لأن قولهم: له عبارة عن الحال، وهو ميت في الحال، والميت ليس من أهل الملك فلم يثبت الملك للجد، فكيف ينتقل إلى المدعي؟.
وإن شهدوا أن الدار كانت لجد هذا المدعي مات الجد، وقد ترك أب هذا المدعي(8/380)
وارثاً لا وارث له غيره، ولم يزيدوا على هذا يعني: لم يشهدوا أن أب هذا المدعي مات وتركها ميراثاً له، فالمسألة على الخلاف الذي ذكرنا؛ لأنهم شهدوا بملك الجد والانتقال إلى ابنه فكأنهم شهدوا أنها كانت لأبيه، كلفتهم البينة على عدد الورثة، ثم نفذت القضاء لأنهم ما لم يشهدوا على عدد الورثة لا يصير نصيب المدعي معلوماً والقضاء بالمجهول لا يجوز؛ وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، كلفتهم البينة على عدد الورثة ثم نفذت القضية (131أ4) بحصة هذا المدعي، وهذا لأن الشهادة على أنها كانت لأبيه أو على أنها كانت لجده شهادة معتبرة عند أبي يوسف رحمه الله، وبها يثبت كون الدار مملوكاً للأب أو للجد عند الموت، وما كان للمورث عند الموت يصير ميراثاً لورثته، إلا أنا نعلم كم نصيب هذا المدعي من الميراث، فشرط بيان عدد الورثة ليعلم مقدار نصيب المدعي.
قال في كتاب «الأقضية» : دار في يدي رجل، أقام أحد البينة أن أبي اشتراها منه بألف درهم، وقد مات أبي والبائع يجحد ذلك، فإني لا أكلفه البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولكن أسأله البينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره، فإن أقامها أمرته بدفع الدار إليه.
وإنما لم يكلفه إقامة البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له لأنه لما أقام البينة على الشراء منه، ومعلوم أن كل مانع مقر بالملك لمورثه وقد ذكرنا أن صاحب الدين إذا أقام البينة على إقرار ذي اليد بالملك لمورثه، كفى ذلك حجة للقضاء ولا يحتاج إلى جر الميراث كذا ههنا، وإنما سأله البينة على أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره لدفع شبهة التلوم عن نفسه، وإلا هذا القدر كاف لتوجه القضاء به.
وإن كانت الدار في يد غير البائع سألته البينة أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاً له، لأن المدعي على ذي اليد ههنا نفس الملك للمورث والانتقال إلى نفسه بسبب الإرث، لا إقرار ذي اليد بالملك للمورث وهذا لأن دعوى القرار على ذي اليد في المسألة الأولى في ضمن دعوى البيع عليه، والمدعي ههنا لا يدعي البيع على ذي اليد فكان هذا في حق ذي اليد دعوى نفس الملك للمورث فلا بد من جر الميراث. وفي «الكتاب» يقول على وجه التعليل للمسألة الأولى: أن البائع بمنزلة المرتهن، ولو أقام البينة أن أباه رهن العبد عنده وجاء بالمال لينقده ويقبض الرهن، كلف إقامة البينة على عدد الورثة ولا يكلف جر الميراث كذا ههنا، فقد أشار إلى أن البيع في يد البائع محبوس لينقد الثمن، كالرهن محبوس في يد المرتهن لينقد الدين، وحكم الرهن ما ذكرنا. وحقيقة المعنى: أن المرتهن مقر بالملك للراهن أيضاً، لأنه مقر بصحة الرهن وذلك ملك الراهن فيعتبر بما لو أقر به صريحاً، ولو ادعى إقراره صريحاً قبلت البينة من غير جر الميراث كذا ههنا. فكذا في مسألة البيع: البائع مقر بصحة البيع، فيكون مقراً بملك المشتري ضرورة.
قال في «الأصل» : دار في يدي رجل جاء ابن أخ صاحب اليد وأقام بينة أن هذه الدار كانت لجده، مات وتركها ميراثاً بين أبيه وبين عمه هذا الذي الدار في يده نصفان،(8/381)
ثم مات أبوه وترك نصيبه ميراثاً له، فالقاضي يقبل هذه البينة ويقضي بالدار بين المدعي وبين عمه نصفان.
وإن لم يقض القاضي ببينة ابن الأخ، حتى أقام العم بينة أن أخاه وهو أب هذا المدعي مات قبل موت الجد وورث الجد منه السدس، ثم مات الجد وصار جميع الدار ميراثاً لي فهذه المسألة على وجهين:
الأول: أن لا يكون في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، وفي هذا الوجه بينة ابن الأخ أولى، لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر، لأن ابن الأخ ببينته يثبت موت الجد لاحتماله، فلا يتصور أن يكون موت الجد سابقاً على أب المدعي ولاحتماله، فلا بد من العمل بالراجح منها فنقول: بينة ابن الأخ راجح لوجهين أحدهما: ما أشار إليه في «الكتاب» فقال: لأن ابن الأخ هو المدعي، ومعنى هذا الكلام أن ابن الأخ يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينة ابن العم والعم لا يثبت لنفسه شيئاً على ابن الأخ ببينته، وإنما بقي بينة ما أثبت هو لنفسه من نصف الدار، والبينات شرعت للإثبات لا للنفي. الثاني: إن كانت بينة العم مثبتة أيضاً، إلا أن بينة ابن الأخ أكثر إثباتاً لأنها تثبت الملك لأبيه في نصف الدار أولاً، ثم يثبت الملك له في نصف الدار من جهة الإرث، وبينة العم تثبت الملك للعم أما لا تثبت الملك لأبيه والجد لأن الملك ثابت للجد باتفاقهما، والبينات شُرعت للإثبات فما كانت أكثر إثباتاً، كان أولى بالقبول فإن قيل: إن كانت لبينة ابن الأخ رجحاناً من هذا الوجه فلبينة العم رجحاناً من وجه آخر، فإن للعم مع البينة اليد واليد مما يقع بها الترجيح إذا كان الدعوى في تلقي الملك من جهة الثالث.
كما في دعوى الشراء من ثالث، فإن الرجلين إذا ادعيا شراء عين من ثالث، وأقاما البينة والعين في يد أحدهما فإنه يقضي بالعين لصاحب اليد. والجواب عن هذا أن يقال: بأن الملك فوق اليد، ألا ترى أن الشهود إذا شهدوا أن هذه الدار كانت لهذا المدعي، تقبل الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، ولو شهدوا أن هذه الدار كانت في يد المدعي كانت المسألة على الاختلاف، وإذا كان الملك فوق اليد كان الترجيح بالملك أولى من الترجيح باليد.
بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من ثالث لأن هناك استوى المدعيان في إثبات الملك ولأحدهما يد فكان هو أولى، كما في دعوى الأخ أما ههنا بخلافه.
الوجه الثاني: إذا كان في يد ابن الأخ بشيء من ميراث أبيه، وباقي المسألة بحالها وفي هذا الوجه ميراث الجد كلها للعم وميراث الأخ كلها لابن الأخ، ويجعل كأنهما ماتا معاً، وهذا لأن البينتين استويا في الإثبات من كل وجه؛ لأن بينة ابن الأخ أثبتت موت الجد سابقاً على موت أبيه وأثبت لأبيه ميراثاً من الجد وهو: نصف الدار التي في يد العم وأثبت ذلك لنفسه من جهة أبيه، وبينة العم تثبت بموت الأخ سابقاً على موت الجد وأثبت الجد ميراثاً من أخيه وهو سدس ما في يد ابن الأخ، ثم أثبت ذلك لنفسه من الجد. وهو معنى قولنا: البينتان استويا في الإثبات من كل وجه، والمدعيان استويا في اليد أيضاً فلا ترجيح لأحد البينتين على الأخرى، ولا لأحد المدعيين على صاحبه، فلا يعمل بينة كل(8/382)
واحد منهما فخرجت البينتان من البين، وموت كل واحد منهما قد ظهر والتاريخ بينهما ليس بمعلوم، فيجعل كأنهما ماتا معاً في الغرقى والحرقى، ولو ماتا معاً لا يرث أحدهما من صاحبه، ويجعل مال كل واحد منهما لورثته كذا ههنا، بخلاف ما إذا لم يكن في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، لأن هناك ترجحت بينة ابن الأخ بكثرة الإثبات أما ههنا بخلافه.
قال في «الأصل» أيضاً: لو أقام رجل البينة على ميراث رجل أنه مات سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه لا وارث له غيره وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة البينة أنه زوجها سنة إحدى وخمسين، ومات بعد ذلك ذكر أنه تقبل بينة المرأة وتشارك الابن في الميراث ويقضي لها بالمهر هكذا ذكر، ويجب أن لا تقبل بينة المرأة؛ لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر لأن الابن أثبت موت أبيه سنة خمسين وقضى القاضي بذلك، وإذا صار موته مقضياً به في سنة خمسين، لا يتصور أن يكون مقضياً به في سنة إحدى وخمسين، لأن الموت مما لا يتكرر، وكل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها؛ لأن كل واحد من البينتين أثبت موت مورثه وسبب وراثته من الميت، وهو النسب والنكاح فكان يجب أن تترجح الأولى بإيصال القضاء بها، لما تعذر العمل بها قياساً على ما إذا أقامت امرأة بينة أنه تزوجها يوم النحر بمكة وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة أخرى بينة أنه تزوجها يوم النحر بخراسان، قال: لا تقبل البينة الثانية وتترجح الأولى باتصال القضاء بها؛ لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها والعمل بها متعذر لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة وخراسان، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها فكذا هذا.
والدليل عليه: ما لو كان مكان الموت قتلاً لو أقام الابن البينة أن فلاناً قتل أباه سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه وقضى القاضي بذلك، ثم جاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها سنة إحدى وخمسين ثم قتله فلان بعد ذلك؛ فإنه لا تقبل بينة المرأة وتترجح الأولى باتصال القضاء بها لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل الأخرى والعمل بهما متعذر، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها.
إلا أن الجواب عنه، وهو الفرق بين مسألة الموت والقتل، وبين مسألة مكة وخراسان، أن يقال: بأن البينة الأولى إنما ترجحت بالقضاء في مسألة القتل؛ لأن القتل صار مقضي به بالبينة الأولى لأن القاضي قضى بالضمان على القاتل فلا بد للقضاء بضمان القتل من القضاء بالقتل لأنه سببه، كما لا بد للقضاء بالملك بالشراء من القضاء بالشراء؛ لأن الشراء مسببه.
وإذا صار القتل مقضياً به ضرورة القضاء بضمان القتل صار التاريخ معه مقضياً به لأن القتل لابد وأن يكون في الزمان كما في الشراء، وإذا صار القتل مقضياً به في سنة (131ب4) خمسين لم يتصور ثانياً في سنة إحدى وخمسين؛ لأنه لا يتكرر فترجحت الأولى بالقضاء لهذا، وكذلك كون المتزوج بمكة في مسألة مكة وخراسان صار مقضياً به مع النكاح وإن لم يكن كونه بمكة سبباً للاستحقاق، بل سبب الاستحقاق هو النكاح لأنه(8/383)
لا يمكن القضاء بالنكاح بدون المكان، فإنه لابد للنكاح من كون الناكح في مكان، وإذا لم يكن للنكاح بد من المكان صار المكان الذي ذكره الشهود أولى بالقضاء من غيرها من الأمكنة، وإذا صار كونه بمكة مقضياً به يوم النحر، لم يتصور أن يصير كونه بخراسان مقضياً به في ذلك اليوم مرة أخرى فترجحت الأولى بالقضاء. وأما في مسألة الموت: فالموت لم يصر مقضيا به لضرورة القضاء بالنسب فإنه يتصور القضاء بالنسب من غير موت أصلاً، كما لو أقام البينة أنه ابنه في حال حياة أبيه، وأما ضرورة القضاء بالميراث لأن استحقاق الميراث مضافاً إلى النسب خاصة، لا إلى الموت والنسب؛ لأن النسب يكفي لإضافة استحقاق الميراث إليه فإن النسب إذا تأخر عن الموت بأن كان الموت ظاهراً والنسب غير ظاهر.
فإذا ثبت النسب بشهادة الشهود بعد الموت، كان الاستحقاق مضافاً إلى النسب حتى لو رجع الشهود ضمنوا، وإذا كان النسب كافياً لاستحقاق الميراث لم يصر الموت مقضياً به ضرورة القضاء بالنسب لم يصر التاريخ مقضياً به بالبينة أيضاً، لأن التاريخ صفته، وإذا لم يصر التاريخ مقضيا به بالبينة الأولى صار وجود التاريخ وعدمه بمنزلة، فكأن الابن أقام البينة على الموت والنسب من غير تاريخ، وقضى القاضي له بذلك ثم أقامت المرأة البينة على النكاح والموت، ولو كان كذلك قضى بالأمرين جميعاً لأنه لا تنافي بينهما وكذلك هذا.
فإن قيل: كما يضاف استحقاق الميراث إلى النسب وحده إذا تأخر فكذا يضاف إلى الميت إذا تأخر، فإن النسب إذا كان ثابتاً ثم ثبت الموت بالبينة بعد ذلك فإن الاستحقاق يضاف إلى الموت، حتى لو رجع الشهود ضمنوا فإذا كان كل واحد منهما مما يضاف الاستحقاق إليه إذا انفرد فحالة الاجتماع يكون الاستحقاق مضافاً إليهما لا إلى النسب خاصة، وإذا أضيف إليهما صار الموت مقضياً به مع التاريخ فوجب أن لا تقبل بينة المرأة بعد ذلك.
والجواب عنه أن يقال: بل الموت يصلح لإضافة استحقاق الميراث إليه إذا تأخر عن النسب إلا أن عند اجتماع النسب أولى بإضافة الاستحقاق إليه من الموت؛ لأن النسب في الأصل مشروع للاستحقاق، استحقاق ضره ونفعه وكثير من الأمور لا يخلو إثبات النسب عن استحقاق شيء من الحقوق التي ذكرنا، فأما الموت غير مشروع للاستحقاق لا محالة، بل مشروع لإبطال الحياة حتى يتحقق من غير إيجاب حق أصلاً لأحد، فيكون الإضافة إلى النسب أولى إذا ثبتا معاً، وقد يجوز أن يضاف الحكم إلى الشيء حالة الانفراد، ثم مع غيره لا يضاف إليه بل يضاف إلى ذلك الغير، كالخر يصلح سبباً لإضافة التلف إليه فكذلك مسألتنا: إذا اجتمع الموت والنسب، يضاف الاستحقاق إلى النسب وإن كان يضاف إلى الموت إذا انفرد وتأخر عن النسب.(8/384)
وإذا أضيف استحقاق الميراث ولا في حق إمكان القضاء بالنسب لأن الإمكان يثبت بدون الموت أصلاً، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» فإنه قال في مسألة الموت: لأني لم أوجب بموته يعني لم أقض به. قالوا: وقال في مسألة مكة وخراسان: لأني جعلته في ذلك اليوم بمكة أي نصبت بكونه بمكة ضرورة إمكان القضاء بالنكاح، بهذا فرق محمد رحمه الله. وكذلك لو أقامت امرأة أخرى البينة بعدما قضيت بموته في توريث امرأته وأنه تزوجها بعد ذلك الوقت، فإنه تقبل بينتها لما ذكرنا أن الموت لم يصر مقضياً به لا في حق إضافة الاستحقاق ولا في حق إمكان القضاء بالنكاح؛ لأن القضاء بالنكاح ممكن بدون الموت وإذا لم يصر الموت مقضياً به لم يصر التاريخ مقضياً به فكأن الأول أثبت العقد والموت والثانية كذلك، ولم يؤرخا ولو كان كذلك قضى بالأمرين لأنه لا تنافي بينهما، فكذلك هذا. ولهذه المسألة بطل ما يقول بعض مشايخنا في الفرق بين مسألة الموت ومكة وخراسان: أن بنية المرأة إنما قبلت لأن فيها زيادة إثبات، وهو إيجاب المهر ليس ذلك في بينة الابن، والأولى إنما يترجح بالقضاء حال تعذر العمل بهما إذا لم يكن في الثانية زيادة إثبات بخلاف مسألة مكة وخراسان؛ لأنهما استويا في الإثبات وبين الأمرين تنافي، فترجحت الأولى بالقضاء لأن هذا يشكل ما لو أقامت المرأة الأخرى بينة أنه تزوجها بعد الوقت ثم مات، فإنه لم يقبل بينة المرأة الثانية، والمرأتان قد استويا في الإثبات.
ويشكل بمسألة القتل فإنه لم يقبل بينة المرأة وإن كانت في بينتها زيادة إثبات ولأن الثانية متى ترجحت بسبب الزيادة تبطل الأولى وإن اتصل بها القضاء متى كان بين الأمرين منافاة كما في مسألة العم والأب من قبيلين مختلفين، وههنا القضاء للابن لا يبطل علمنا أن الصحيح من الطريقة ما أشار إليها محمد رحمه الله، وفي «المنتقى» : إذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أب هذا عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومائة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً وأنه أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة، مئة درهم وأنها دين عليه، فالبينة بينة الابن؛ لأنهما أمران لا يستقيم أن يكونا فيؤخذ بالوقت الأول إلا أن أبا حنيفة رحمه الله استحسن في هذا الباب شيئاً واحداً فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشر سنين، وأنه لا وارث له غيره.w
وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمس عشر، وأن هذا ولده منها وأن هذا وارثه مع أبيه هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجر بينة المرأة وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت المرأة البينة على النكاح ولم تأت بولد فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة ويقتل القاتل إنما استحسن في النسب خاصة وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار لا تقبل الشهادة.
والأصل في حبس هذه المسائل أن الشهود شهدوا على فعل من المورث في العين عند موته فهذا على وجهين: إما إن شهدوا بفعل هو دليل اليد أو بفعل ليس هو دليل اليد فعل يوجد من المالك في الغالب كالسكنى في الدور، فهذا النوع من الفعل إذا قامت البينة على وجوده من المورث في العين عند موته يقضي بالمدعي للمدعى؛ لأن هذه الأفعال لما كانت دليل اليد صارت الشهادة عليها عند الموت، والشهادة على اليد سواء والدين ليس بدليل اليد في التقلبات فعل يتأتى بدون الفعل، ولا يحصل في الغالب للنقل كالجلوس على البساط وفي جر التقلبات الذي ليس بدليل اليد، فعل يوجد من غير الملاك في الغالب كالجلوس والنوم في الدار فهذا النوع من الفعل إذا قامت(8/385)
الشهادة على وجوده من المورث في العين عند موته، لا يقضي بالعين للمدعي، لعدم دليل الملك، وعدم دليل اليد التي هي دلالة الملك إذا ثبت هذا.
جئنا إلى المسائل فنقول: إذا شهد الشهود أن أباه مات، وهو لابس هذا القميص أو لابس هذا الخاتم، تقبل الشهادة لأنهما فعلان لا يتهيأ ثبوتها إلا بالنقل وهو دليل اليد، وكذلك لو شهدوا أنه مات وهو حامل لهذا الثوب، تقبل الشهادة لأن الحمل لا يتهيأ بدون النقل.
أطلق محمد رحمه الله الجواب في الخاتم، وحكى عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أنهم كانوا يفصلون الجواب في ذلك ويقولون: إن شهدوا أن الخاتم كان في خنصره أو بنصره يوم الموت، تقبل الشهادة وإن شهدوا أنه كان في السبابة أو في الوسطى أو في الإبهام لا تقبل الشهادة، ولكن الصحيح أن يجري في إطلاقه كما ذكره محمد رحمه الله؛ لأن الفعل الذي لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل في النقليات أقيم مقام اليد على ما قر، ولبس الخاتم في أي موضع كان لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو راكب على هذه الدابة قضي بالدابة للوارث، وإن كان الركوب يتحقق بدون النقل إلا أنه لا يحصل في الغالب إلا بالنقل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو ساكن في هذه الدار تقبل الشهادة لأن السكنى إنما تكون من المالك غالباً لأن الساكن في الدار من إليه إسكان غيره (132أ4) وإزعاجه، وفتح الباب وإغلاقه، وهذا عادة لا يكون إلا من الملك، وعن أبي يوسف برواية «المعلى» رحمه الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً مات وهو ساكن في هذه الدار، لا يقضي بالدار لورثته، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار، لا تقبل الشهادة لأنه ليس بفعل يفعله الملاك غالباً؛ لأن الدار قد يموت فيها الملاك، وقد يموت فيها الضيفان فلا يكون دليلاً على اليد، بخلاف السكنى على ما هو.
ولو شهدوا أن أباه مات وهو قاعد على هذا الفرس أو على هذا البساط أو نائم عليه، لا تقبل هذه الشهادة لأن هذه الأفعال تتصور بدون النقل فلا يكون دليلاً على اليد.
ولو شهدوا أن أباه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه، ولم يشهدوا أنه كان حاملاً له، لا تقبل هذه الشهادة ولا يقضى للوارث، لأن الوضع قد يكون منه فثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، وقد يكون من غيره فلا يثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، فقد وقع الشك في يده فلا تثبت يده بالشك حتى لو قالوا: لو شهدوا أنه كان هو الواضع على رأسه تقبل شهادتهم؛ لأن الوضع من فعل لا يتأتى إلا بالنقل فكان دليلاً على اليد. هكذا حكي عن القاضي أبي الهيثم.(8/386)
ثم قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: أرأيت لو أن رجلاً في يديه دار قال لآخر: كنت أمس ساكن هذه الدار فقال الآخر: صدقت وهي لي، فقال المقر: ليست لك، كان للمقر له بالسكنى أن يأخذها أشار ما قلنا: أن السكنى دليل الملك، فكان الإقرار بالسكنى إقرار له بالملك.
قال في دعوى الأصل: إذا كانت الدار في يدي رجل وابن أخيه، فادعى العم أن أباه مات وتركها ميراثاً له، لا وارث له غيره، وادعى ابن الأخ أن أباه مات وتركها لا وارث له غيره قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأن كل واحد منهما أثبت الملك لأبيه في الدار، ثم أثبت الانتقال إلى نفسه فكأن الأبوين حيان حضرا وادعى كل واحد الدار لنفسه والدار في أيديهما، وهناك يقضي لكل واحد منهما بنصف الدار بالقضاء لأب كل واحد منهما تصير ميراثاً لولده، فإن قال العم: هذه الدار كانت بين أبي وبين أخي نصفان، وصدقه ابن الأخ في ذلك إلا أن العم قال لابن الأخ: مات أخي قبل موت الجد، وصار النصف الذي كان لأخي ميراثاً بين الجد وبينك أسداساً، ثم مات الجد فورثت ذلك السدس منه، وقال ابن الأخ: مات الجد أولاً وصار النصف الذي للجد ميراثاً بينك وبين أبي نصفان، ثم مات أبي فورثت ذلك منه.
فنقول: حاصل المسألة: أن العم يدعي لنفسه سدس ما في يد ابن الأخ، وابن الأخ يدعي لنفسه نصف ما في يد العم، فحصل كل واحد منهما مدعياً ومدعى عليه، فإن لم تقم لهما بينة ولا لأحدهما، حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه فإن حلفا برئا، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبل الحلف، وقبل الحلف كانت الدار بينهما نصفان لكونها في أيديهما، فكذا ههنا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر يقضي للحالف بما نكل له صاحبه، وإن أقام أحدهما بينة قضى بما شهد له ببينته، وإن أقاما جميعا البينة قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأنه قد ظهر الموتان ولم يعرف سبق أحدهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً فلا يرث ميت من ميت، وإنما يرث من كل ميت ورثته الأحياء، ووارث الجد العم فنصيبه من الدار يصير له، وذلك النصف يصير له أيضاً.
قال: وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أن أباه مات، وترك هذه الدار ميراثاً له ولأخوته فلان وفلان وفلان، لا يعلمون له وارثاً غيرهم وإخوته كلهم غيب، أجمعوا على أن هذه البينة في حق استحقاق جميع الدار للميت مقبولة، لأن آخذ الورثة ينتصب خصماً عن الميت فيما يستحق أو عليه، ألا ترى أنه لو ادعى على ميت ديناً بحضرة أحدهم وأقيم عليه البينة ثبت الدين في حق الكل، وكذلك لو ادعى أحد الورثة ديناً على إنسان للميت وأقام على ذلك بينة، ثبت الدين في حق الكل، وأجمعوا على أنه يدفع إلى الحاضر نصيب الحاضر، وأجمعوا على أنه لا يدفع إلى الحاضر نصيب الغائب.
بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يؤخذ نصيب الغائب ويوضع على يدي عدل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يؤخذ. وأجمعوا على أن صاحب اليد لو كان(8/387)
مقراً لا يؤخذ نصيب الغائب من يده هذا هو الكلام في العقار. وأما المنقول: فلا شك أن على قولهما يؤخذ نصيب الحاضر من يده، وأما على قول أبي حنيفة: اختلف المشايخ فيه، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة أبي حنيفة في فصل العقار، فمن قال: بأن طريق أبي حنيفة في فصل العقار أن هذا مال غائب، لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، فلا يأخذه القاضي من يد صاحب اليد لأن الأخذ لا يؤرخ، وبهذا الطريق لا يؤخذ إذا كان صاحب اليد مقراً بيان أنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، لأن الدعوى بعد قضاء القاضي بإنكار ذي اليد إنما يكون بموت القاضي، أو بموت الشهود الذين عاينوا القضاء، أو بنسيان القاضي القضاء.
وضياع الكتاب وكل ذلك نادر ولا عبرة للنادر في الشرع، فهذا القائل يقول: لا ينزع المنقول من يد صاحب اليد عنده، لأنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، من قال بأن طريق أبي حنيفة في العقار: أن القاضي لا يملك حفظ هذا المال على الغائب بالبيع، فلا يملك حفظه بالنقل من يد إلى يد يقول: بأن المنقول ينزع من يد صاحب اليد، لأن القاضي يملك حفظ المنقول على الغايب بالبيع، فيملك الحفظ بالنقل من يد إلى يد.
ثم في فصل العقار إذا حضر الغائب هل يحتاج إلى إعادة البينة؟ قال بعض مشايخنا: يحتاج، والأصح لا يحتاج لما ذكرنا أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت، والحاضر أثبت كل الدار للميت بما أقام من البينة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان أقام كل واحد منهما بينة على دار في يدي رجل أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأحد هذين الرجلين ابن أخ ذي اليد ووارثه لا وارث له غيره، فلم يترك البينتان حتى مات المدعى عليه، فصار الدار في يد ابن أخيه، ولم يوص إلى أحد ثم إن البينتين جميعاً زكيتا، فالقاضي يقضي بالدار بين الأخ وبين الرجل الأجنبي نصفين، وإن صار ابن الأخ ذو اليد والآخر خارج، لأن ابن الأخ ملك الدار بحكم الإرث مع هذا قال: يقضى بالدار بينهما لوجهين:
أحدهما: أنه لما زكيت البينتان، ظهر أن الأجنبي أقام البينة العادلة، وهي سبب للاستحقاق فثبت له بإقامة البينة العادلة حق الملك، وكون التركة مشغولة بحق الأجنبي يمنع الإرث فلم تصر الدار ميراثاً لابن الأخ، فيثبت الدار على حكم ملك الميت، وجعل يد ابن الأخ كيد الميت، فصار ابن الأخ في حق نفسه خارجاً.
والثاني: إن ثبت الملك لابن الأخ في الدار بالإرث إلا أن هذا الملك غير الملك الذي يدعيه وله في الملك الذي يدعي فائدة، وهو أن يتعلق بالدار دين عمه ولا وصية، فاعتبر خارجاً إذ الخارج من يحتاج إلى إثبات ما يدعي بالبينة، وذو اليد من يحتاج إلى إثبات ذلك بالبينة، لقيام ظاهر يده على ما يدعي، فإذا اعتبر ابن الأخ خارجاً قضي بالدار بينهما نصفان لو أقام الأجنبي البينة على ابن الأخ أن الدار داره ورثها من أبيه، لم تسمع بينته لأن القاضي لما قضى بالدار نصفان صار كل واحد منهما مقضياً عليه في النصف من(8/388)
جهة صاحبه لأن كل واحد منهما أقام البينة على كل الدار، ولولا بينة صاحبه لما حرم من النصف فثبت أن كل واحد منهم صار مقضيا عليه في النصف من جهة صاحبه، وقد عرف أن من صار مقضياً عليه في شيء لا يسمع دعواه في عين ذلك الشيء، إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له ولم يوجد.
ولو أن القاضي زكى شهود الأجنبي بعد موت العم ولم يزك شهود ابن الأخ فقضى بالدار كلها للأجنبي، ثم زكيت بينة ابن الأخ لم يقض له بشيء وقد بطلت بينته؛ لأنه لما قضى بالدار كلها للأجنبي ولا يجوز القضاء بالدار كلها للأجنبي مع قيام ما يوجب القضاء بالنصف لابن الأخ فضمن القضاء بكل الدار للأجنبي إبطال شهود ابن الأخ، وللقاضي ولاية إبطال الشهادة إذا وجد دليل الإبطال، والقاضي متى رد شهادة إنسان في حادثة فإنه يتأيد الرد في تلك الحادثة فإن أعاد ابن الأخ شهوده على الأجنبي، فشهدوا أن الدار داره بسبب الإرث على ما ادعى، قضى بجميع الدار لابن الأخ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينه الأجنبي (132ب4) لأن تلك البينة قامت على العم دون ابن الأخ، وهذا لا يشكل فيما إذا أقام ابن العم شهوداً آخرين، إنما يشكل فيما إذا أعاد تلك الشهود وإنما كان هكذا، وذلك لأن القاضي ما رد شهادتهم لتهمة الكذب، بل لضرورة القضاء للأجنبي، وما ثبت بطريق الضرورة لا يعمل وموضع الضرورة، فلم يصر محكومه يكذبها، ولأن المشهود عليه في المرة الثانية غير المشهود عليه في المرة الأولى في هذا لا يتأيد الرد، كفاسقين إذا شهدا وردت شهادتهم ثم تابا، وشهدا للمشهود له الأول في حادثة أخرى قبلت شهادتهما كذا ههنا، وإن أقام الأجنبي بعد هذا بينة أن الدار داره لم تقبل؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة الأخ فلا يقضى له فيما قضي به عليه، ولو زكى شهود ابن الأخ ولم يزك شهود الأجنبي فقضى بالدار لابن الأخ ثم زكى شهود الأجنبي بعد ذلك لم يلتفت إلى ذلك لما مر، ولو أعاد الأجنبي شهوده على ابن الأخ قضى بجميع الدار لما مر، فإن قال ابن الأخ: أنا أعيد شهودي، لم يلتفت إلى ذلك لأنه صار مقضياً عليه لما مر، ولو كان الأجنبي أقام البينة في حياة العم ولم يقم ابن الأخ حتى مات العم قبل تزكيته شهود الأجنبي، ثم أقام ابن الأخ البينة أنها دار ورثها من أبيه وزكيت البينتان جميعاً قضى بالدار
بينهما نصفان لما مر من الوجهين، ولو أن ابن الأخ لم يقم البينة على شيء حتى قضى بالدار للأجنبي، ثم ابن الأخ أقام على الأجنبي بينة أنها داره ورثها من أبيه قضى بالدار لابن الأخ؛ لأن ابن الأخ لم يصر مقضياً ببينة الأجنبي؛ لأن تلك البينة قامت على العم لا على ابن الأخ، ولو كان ابن الأخ هو الذي أقام البينة في حياة العم، ومات العم ثم أقام الأجنبي البينة فزكيت البينتان يقضى بالدار للأجنبي، فرق بين هذا وبينما إذا أقام الأجنبي البينة في حياة العم وأقام ابن الأخ البينة بعد موت العم حيث يقضى بالدار بينهما نصفان.
والفرق بينهما: إما على المعنى الأول فلأن إقامة الأجنبي البينة العادلة أو حيث شغل الدار بحق الأجنبي، وهذا يمنع جريان الإرث، فبقي ابن الأخ خارجاً كالأجنبي(8/389)
فقضى بالدار بينهما وإقامة ابن الأخ البينة وإن أوجبت شغلاً في الدار بحق ابن الأخ، ولكن حقه لا يمنع ثبوت حقه بالإرث فصار ابن الأخ ذا يد والأجنبي خارج فيقضى بها للخارج، وإما على المعنى الثاني: فلأن الإرث وإن جرى إلا أن ابن الأخ إنما اعتبر خارجاً تحقيقاً لعرضه بشرط قيام المنازع، وعند إقامة الأجنبي البينة وجد له المنازع فاعتبر ابن الأخ خارجاً، فأما عند عدم إقامة الأجنبي البينة لم يوجد المنازع إذ الأجنبي لا يعتبر منازعاً لعدم ثبوت الخصوصية له من بين سائر الناس بمجرد الدعوى، فاعتبر ابن الأخ ذا يد فقضي بالدار للأجنبي لهذا، ولو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على العم، فمات العم فورثه ابن الأخ ثم أحضر كل واحد منهما شاهداً آخر فزكيت البينتان يقضى بالدار بينهما نصفان، وهذا لا يشكل على الوجه الثاني؛ لأن ابن الأخ اعتبر خارجاً على الوجه الثاني، وإن ملك الدار بالإرث على ما مر، إنما يشكل على الوجه الأول لأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً لا يوجب شغلا في الدار لحق الأجنبي فيملك ابن الأخ الدار بالإرث فيصير هو ذا اليد، والوجه في هذا أن يقال: بأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً وإن لم تصر الدار مشغولاً لحق الأجنبي مع هذا ابن الأخ لا يرث الدار من عمه؛ لأنه لو ورثها أدى إلى أمر محال.
بيانه: أن شهادة الشاهد الواحد انعقدت معتبرة في الجملة فلو ورث ابن الأخ الدار وصار ذا اليد لا بد وأن يجعل القول قوله في أنه ورثها عن أبيه لأن قول الإنسان فيما في يده مقبول ومتى جعلنا القول قوله في أنه ورثها من أبيه وإبطال الشهادة المنعقدة بقول يحتمل الصدق والكذب محال فإن قال أحدهما: بعد ما قضى بالدار بينهما نصفان: أنا أقيم البينة على صاحبي لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن كل واحد منهما صار مقضياً عليه فيما قضي به لصاحبه على ما مر، ولو كان كل واحد منهما أقام شاهداً واحداً على العم فلما مات العم أقام الأجنبي شاهداً آخر، فزكيت شاهده وقضى له بشهادتهما ثم جاء الابن بشاهد آخر لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه لو أقام شاهدين على العم بطلب القضاء للأجنبي فإذا أقام شاهداً واحداً أولى، فإن أعاد ابن الأخ شاهدين على الأجنبي قضي بها لابن الأخ؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينة الأجنبي؛ لأنها قامت على العم لا عليه.
وفي «المنتقى» : رجل توفي فادعى رجلان ميراثه، يدعي كل واحد منهما أن الميت مولاه أعتقه ولا وارث له غيره وأقام اليينة على ما ادعى ولم يؤقتوا للعتق وقتاً فالميراث بينهما، ولو وقتوا للعتق وقتاً فصاحب الوقت الأول أولى.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله رجلان أخوان لأب وأم في أيديهما دار، أقام أحدهما بينة أن هذه الدار كانت لأمي مات وتركتها ميراثاً بيني وبين أبي أرباعاً ثم مات الأب وترك ذلك الربع بيني وبينك، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار كانت لأبي وتركها ميراثاً بين وبينك قال: آخذ ببينته الذي ادعى ثلاثة أرباع الدار له، ولا أقبل بينة الآخر؛ لأن الآخر يدعي النصف لنفسه وهي في يده ولا يدعي شيئاً مما في يد مدعي ثلاثة الأرباع فلا يسمع بينته، ومدعي ثلاثة الأرباع مدعي لنفسه بعض ما في يد الآخر(8/390)
فتقبل بينته فيكون له ثلاثة أرباع الدار من قبل أمه ونصف الربع الآخر له من قبل أبيه ونصف الربع الآخر للآخر؛ لأنه مدعي ذلك لنفسه ولا يتنازع له فيه.
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله رجل أقام بينة على ميت أنه أخوه لأبيه وأمه، لا يعلمون له وارثاً غيره وأقامت امرأة البينة أنها ابنة الميت جعلت الميراث بينهما نصفان، ولا أسألهما بينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيرهما، فكل أحد أقام بينة على نسبه أشركته في الميراث، ولا أسأله بينة على عدد جميع الورثة.
قال: وإذا ادعى رجل داراً ميراثاً من أبيه أو أمه ولم يذكر اسم المورث ونسبه، حكي عن شيخ الاسلام الأوزجندي: أنه لا يسمع دعواه.
في «فتاوى أبي الليث» : رجل زوج ابنة امرأة وسمى لها منزلاً وباعه منها بيعاً صحيحاً، ثم إن هذا الرجل مات وادعى ورثته أن أباهم باع هذا المنزل من فلان قبل أن يسميه لها، يعني قبل أن يبيعها من امرأة الابن فإنهم لا يصدقون على ذلك والمنزل لها، وعلى فلان أن يقيم البينة على شرائه قبل تاريخ شراء المرأة ولا تقبل شهادة الثانية في ذلك؛ لأنهم يريدون بشهادتهم إبراء أنفسهم عن عهدة شراء المرأة، فإن المرأة لو وجدت بالمنزل عيباً ردته عليهم وحاصصتهم.
قال: رجل ادعى داراً في يدي إنسان وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان مات وتركها ميراثاً لي ولأختي فلانة لا وارث له غيرنا ترك ثياباً ودواباً فقسمنا الميراث، ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة واليوم جميع هذه الدار ملكي، بهذا السبب وفي يد هذا بغير حق فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع الدار لنفسه ثلثاها بسبب الإرث وثلثها بسبب القسمة، ولكن لابد وأن يقول: وأخذت أختي نصيبها من تلك الأموال حتى يصح منه مطالبة المدعي بتسليم كل الدار إليه، ولو كان قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي، ثم إن أختي أقرت بجميعه لي وصدقتها في إقرارها، حكي عن شيخ الإسلام الأول الأوزجندي رحمه الله أنه قال: دعواه صحيحة، والصحيح أن لا يصح دعواه في الثلث؛ لأن هذا دعوى الملك في الثلث بسبب الإقرار ودعوى الملك بسبب القرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ، والمسألة في «الأقضية» : سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن ادعى عيناً في يده وقال: هذا كان ملك أبي وتركه ميراثاً لي ولفلان وفلان سمى الورثة ولم يبين حصة نفسه صح منه هذه الدعوى، وإذا أقام البينة على هذا الوجه قبلت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته، ولكن لم يبين عدد الورثة بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا وطالبه بتسليم ذلك لا يصح منه الدعوى ولابد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص مما سمى، وإذا شهد الرجل بوراثة رجل فقال: لا وارث لهذا الميت غيره لا يعلم له وارثاً غيره ثم شهد بعد ذلك بوراثة رجل آخر عن هذا الميت قبلت هذه الشهادة؛ لأن (133أ4) قوله لا وارث له غيره ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد؛ لأن الشهادة مقبولة بدونه على ما مر، فصار ذكره ولا ذكر سواء؛ ولأن التوفيق ممكن فإنه(8/391)
يمكنه أن يقول: ما علمت له وارثاً آخر حال ما شهدت، ثم علمت بعد ذلك.
ذكر في «دعوى المنتقى» : دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان ميراثاً عن أبيه وجحد ذلك الذي هو في يده وادعى أن كلها له فجاء المدعي بشهود شهدوا أن هذه الدار كانت لأب المدعي فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج إلى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: كنت بعت نصيبها بألف درهم لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده وقضى له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه وإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها قبلت بينته على ذلك، وقضى بالدار كلها ميراثاً للمدعي من الوالد وقضى بنصف الدار بيعاً من المدعى عليه إن كان ادعى البيع، وكان للمدعي على المدعى الثمن، وإن كان أقام البينة على الصلح أبطلت الصلح أو ردت الدار كلها إلى المدعي، لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً والله أعلم.
الفصل التاسع: في الشهادة على الشهادة
الأصل إن كل ما يثبت بشهادة النساء مع الرجال يثبت بالشهادة على الشهادة؛ لأن الشهادة على الشهادة نظير شهادة النساء مع الرجال؛ لأن المتمكن في الشهادة على الشهادة تهمتان تهمة الكذب في الأصول وتهمة الكذب في الفروع، والمتمكن في شهادة النساء مع الرجال تهمتان أيضاً، تهمة الكذب بسبب عدم الصحة وتهمة الضلال والنسيان، فكانا نظيرين إلا أن الشهادة على الشهادة إنما تقبل حالة العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء مع الرجال تقبل مع القدرة على شهادة الرجال؛ لأن شهادة الفروع بدل من كل وجه لأن الفرع لا يعاين سبب الحق إنما عاينه الأصل، وأما شهادة النساء نظير شهادة الرجال من حيث معاينة سبب الحق وإنما البدلية من حيث الصورة فلهذا افترقا.
وإنما يقع العجز عن شهادة الأصول بأحد أسباب ثلاث: أما بمرض الأصول مرضاً لا تستطيع الحضور معه مجلس الحكم، أو بغيبة الأصول غيبة سفر هكذا، قال صاحب «الأقضية» والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أن الأصل إذا كان في موضع لو حضر مجلس الحكم وشهد لا يمكنه البيتوتة في أهله أجازت الشهادة على شهادته، وإن أمكنه البيتونة في منزله لا يجوز الشهادة على شهادته؛ لأن الشاهد في هذه الصورة لايكلف بالحضور مجلس(8/392)
الحكم لأداء الشهادة؛ لأنه يخرج بالبيتوتة في غير أهله والشاهد محتسب في أداء الشهادة، والمحتسب لا يكلف بما فيه حرج، لو لم يجز الشهادة على شهادته في هذه الصورة لتعطلت الحقوق وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة يجوز كيف ما كان حتى روي عنه: إذا كان الأصل في زاوية المسجد فشهد الفرع على شهادته في زاوية أخرى من ذلك المجلس المسجد تقبل شهادتهم.
وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف: إذا شهد الفرع على شهادة الأصول والأصول في المصر يجب أن تجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز بناء على أن التوكيل بغير رضى الخصم عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز وعندهما يجوز، ووجه البناء على تلك المسألة أن الجواب في تلك المسألة مستحق على المدعى عليه بلسانه فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم للجواب، كما أن في هذه المسألة استحق على الشاهد أداء الشهادة، فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم لأداء الشهادة، ثم إن عند أبي حنيفة رحمه الله: لما لم يملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه في الجواب إلا بعذر، فكذا لا يملك الأصل إنابة غيره مناب نفسه في الشهادة إلا بعذر وعندهما لما ملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه، وفي الجواب من غير عذر فكذا يملك الأصل إقامة الفرع مقام نفسه في أداء الشهادة من غير عذر.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن رجل خرج وتبعه قوم وهو يريد مكة أو سفراً آخر سماه، ثم ودعه القوم وانصرفوا ثم شهد قوم آخر على شهادته، وادعى المشهود عليه أنه حاضر وقد شهدت البينة على ما سمينا، ولم يزيدوا على ذلك هل تقبل الشهادة على شهادته في قول من لا يقبل الشهادة على حاضر؟ قال: بلى؛ لأن الغيبة تكون هكذا، فإن كان ودعهم وهو في منزله لم يرده حين خرج لا أقبل شهادتهم؛ لأنه كان في منزل، هذا هو الكلام في طرف الأداء.
جئنا إلى طرف الإشهاد فنقول الإشهاد على الشهادة صحيح، وإن كان الأصل في المصر بلا خلاف حتى إذا غاب الأصل بعد ذلك أو مات فالفرع يشهد على شهادته وتقبل شهادته؛ لأن العبرة لحالة الأداء لأن الحكم يقطع عند الأداء فيشترط غيبة الأصل حالة الأداء، وإن كان الأصل محبوساً في المصر فأشهد على شهادته هل يجوز للفرع أن يشهد على شهادته؟ وإذا شهد عند القاضي فالقاضي هل يعمل بشهادته؟ لا، ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، فقد اختلف مشايخ زماننا بعضهم قالوا: إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي لا يجوز؛ لأن القاضي يخرجه من سجنه حتى يشهد ثم يعيد إلى السجن، وإن كان محبوساً في سجن الوالي ولا يمكنه من الإخراج من الحبس للخصومة يجوز، لأن عجزه بسبب الحبس أبلغ من عجزه بسبب المرض وإذا جازت الشهادة على الشهادة بعذر المرض، فكذلك بعذر الحبس ويستدل هذا القائل بمسألة التوكيل بغير رضى الخصم على(8/393)
مذهبه لا يجوز إلا بعذره، وجعل الحبس في السجن الوالي عذراً كالمرض حتى قال بجواز التوكيل من غير رضى الخصم إذا كان المطلوب محبوساً في سجن الوالي كما قال بجوازه إذا كان المطلوب مريضاً، وقيل: ينبغي أن لا يجوز ويستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا كان المكفول بالنفس محبوساً بالدين في سجن هذا القاضي الذي تخاصما إليه، لا يؤاخذ الكفيل به، وإن كان محبوساً في سجن قاض آخر في المصر الذي وقعت فيه الكفالة أو كان محبوساً في سجن والي هذا المصر، فالقياس أن يؤاخذ الكفيل بتسليم النفس؛ لأن المكفول بالنفس ليس في يد هذا القاضي لا حقيقة، وهذا ظاهر ولا حكماً لأن سجن الوالي وسجن قاض آخر ليس في يد هذا القاضي حتى يجعل من في السجن كأنه في يده، فيطالب الكفيل بالتسليم إذا كان قادراً عليه وهو قادر على تسليمه بأن يؤدي ما عليه.
وفي الاستحسان لا يطلب الكفيل بتسليمه، لأن سجن أمير البلد وسجن قاضي آخر في هذا المنزل بمنزلة سجنه؛ لأن له ولاية على أهل المصر كلهم، إلا أنه نصب قاض آخر من جانب آخر إذا كانت البلدة عظيمة؛ لأنه ربما لا يمكنه القيام بأمور جميع أهل البلدة أو يتعذر على الناس الذهاب من جانب إلى جانب لبعد المسافة لا لقصور ولاية هذا القاضي عن بعض أهل المصر، وإذا كان كذلك صار سجن القاضي الآخر في هذا المصر وسجن الوالي بمنزلة سجن هذا القاضي أفلا ترى أن سجن الوالي جعل كسجن هذا القاضي في أن لا نطالب الكفيل بتسليم المكفول له، فكذا في حق الشهادة على الشهادة يجعل سجن الوالي كسجن هذا القاضي، ولو كان الأصل في سجن هذا القاضي، لم يجز الشهادة على الشهادة، فكذا إذا كان في سجن هذا الوالي، ثم جواز الشهادة على الشهادة استحساناً أخذ به علماؤنا رحمهم الله، والقياس يأبى جوازها؛ لأنه لا يمكن تجويزها بطريق نيابة الفروع عن الأصول؛ لأن الشهادة فرض يتأدى بالبدن وفي مثله لا تجري النيابة كما في الصوم والصلاة ولا يمكن تجويزها باعتبار أنه يقع العلم للفروع بشهادة الأصول، لأن شهادة الأصول وجدت في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء لا يفيد علماً يوجب العمل ولا يمكن تجويزها من حيث أن الفروع بشهادتهم يثبتون شهادة الأصول؛ لأن الشهادة ليست من قبيل الحقوق التي يمكن إثباتها بالشهادة عند القاضي، ألا ترى أن الشاهد إذا أنكر أن يكون له شهادة لفلان فأراد المشهود له أن يثبت ذلك بالبينة لا يقدر عليه؟ إلا أنا استحسنا وقلنا بجوازها لتعامل الناس، والناس إنما تعاملوا ذلك لإحياء الحقوق؛ لأن الأصل قد نجز عن أداء الشهادة إما بموت أو سفر، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة لتعطلت الحقوق، وطريق الجواز أن ينقل الفرع بشهادته شهادة الأصول عند القاضي ويقطع القاضي بشهادة الأصول (133ب4) القائمة في مجلس القاضي بنقل الفروع إياها في مجلس القاضي، ومن جملة
ما عملوا فيها بالقياس القصاص والحدود حتى قلنا: لا تجوز الشهادة على الشهادة في القصاص والحدود، قال محمد: رحمه الله والمعني فيه أن في الشهادة على الشهادة زيادة شبهة،(8/394)
إما لأن الخبر إذا تداولته الألسنة تمكن فيها زيادة أو نقصان، أو لأنه تمكن في الشهادة على الشهادة تهمة الكذب في موضعين، والحدود والقصاص لا تجب مع الشبهات، وفي «شهادات الأصل» : لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلاناً حداً في قذف فهو جائز، وذكر في «زيادات الأصل» : أنه لا يجوز وجه ما ذكر في الشهادات أن الشهادة على الشهادة قامت على استيفاء الحد لا على إيجابه، واستيفاء الحد يثبت بالشهادة على الشهادة إنما لا يثبت الإيجاب وإنما قلنا: أنها قامت على استيفاء الحد لأنهم شهدوا أنه حده حد القذف، وحد القذف يثبت بالجلد ورد الشهادة والجلد قد استوفي، ورد الشهادة استوفي فيما مضى إذا لم يستوف في المستقبل، فكان المستوفي أكثر، وعلى رواية الديات اعتبر ما يستقبل من المدة وفيما يستقبل من المدة رد الشهادة لم يستوف بعد فتكون شهادة على إيجاب الحد بهذا القدر، والشهادة على الشهادة لا تقبل في إيجاب الحد قل أو كثر ولا تثبت شهادة الأصلين عند القاضي ما لم يشهد على شهادة كل واحد منهما اثنان من الفروع.
وقال مالك: إذا شهد على شهادة كل أصل فرع واحد كفاه، والكلام بيننا وبينه في هذه المسألة فرع لمسألة أخرى بيننا وبينه: أن الفرعين إذا سمعا شهادة الأصلين بحق من الحقوق وهما عدلان هل لكلا الفرعين أن يشهدا بأصل الحق فيقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا ولا ينقلان شهادة الأصل وعلى قول علمائنا رحمهم الله: لا يحل لهما ذلك بل ينقلان شهادة الأصلين وعلى قول مالك يحل لهما أن يشهدا بأصل الحق ويقضي القاضي بشهادتهما، فإذا كان على قوله يقضي بشهادة الفرعين بأصل المال، فلأن يقضي بشهادتهما وقد شهد كل واحد بشهادة الأصل أولى.
وعندنا الفرع لا يشهد على أصل الحق ولكن ينقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي، ونقل الشهادة إلى مجلس القاضي لا يثبت إلا بشهادة المثنى كنقل الإقرار، وكنقل البيع وسائر التصرفات، وجه قوله في تلك المسألة: أن شهادة العدلين في إفادة العلم بمنزلة معاينة سبب أصل الحق أو الإقرار به ألا ترى إلى ما ذكر في كتاب الاستحسان: إذا شهد عند المرأة عدلان أن زوجها طلقها ثلاثاً فإنه لا يحل لها أن تمكن نفسها من زوجها، كما لو سمعت الطلاق من زوجها أو أقر الزوج أنه طلقها ثلاثاً، ولو عاين الفرعان سبب الحق أو إقرار من عليه حل لهما الشهادة بأصل الحق فكذا هذا، وعلماؤنا احتجوا في هذه المسألة بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين» ولم ينقل عن غيره خلافه، واحتجوا في تلك وقالوا: القياس أن لا تكون الشهادة حجة وإنما جعلت حجة شرعاً إذا اتصل بها قضاء القاضي، فبدون اتصال القضاء لا تكون حجة فلا تفيد العلم بأصل الحق، فلا يحل له الشهادة بأصل الحق وليس كمسألة الطلاق؛ لأن في الطلاق حق لله تعالى لما فيه من تحريم الفرج، ولهذا قبلت الشهادة عليه من غير دعوى، وحق الله تعالى يثبت بقول الشاهد الواحد إذا كان عدلاً بلفظ الخبر من غير قضاء قاض، كما في حرمة الأكل، فإنها تثبت(8/395)
بقول الواحد العدل حتى إن عدلاً لو أخبر: أن هذا اللحم متروك التسمية، أو ذبيحة مجوسي يحرم تناوله؛ لأن حرمة الأكل من حق الله تعالى، إلا أن في الطلاق حق العبد أيضاً وهو إزالة ملك النكاح، فأثبتنا ما هو حق الله تعالى وهو الحرمة بنفس الشهادة قبل القضاء، ولم نثبت ما هو حق العبد ما لم يتصل القضاء بالشهادة.
ولو شهد فرعان على شهادة أصلين جاز؛ لأن شهادة كل أصل تثبت شهادة المثنى، ولو شهد رجل بأصل الحق، ثم شهد هو مع فرع آخر بشهادة أصل آخر فالقياس أن يقضي بهذه الشهادة لأن شهادة الأصل الغائب قد ثبت بشهادة الفرعين فكان الأصل الغائب حضر بنفسه وشهدا مع هذا الأصل الآخر، وفي الاستحسان لا يقضي بهذه الشهادة؛ لأن شهادة الأصل الغائب لم يثبت عند القاضي، فكأنه شهد عنده أصل واحد ولو كان كذلك لا يقضي بالمال فكذلك هذا، وإنما قلنا ذلك لأن شهادة الأصل الحاضر على شهادة الأصل الغائب غير مقبولة؛ لأنه لو قبل أدى إلى أن يثبت بشهادته ثلاثة أرباع الحق، نصف الحق بشهادته، وربع الحق بشهادته مع آخر على شهادة الغائب، ولا يجوز أن يثبت بشهادة الواحد ثلاثة أرباع الحق، كما لا يجوز أن يثبت به أصل الحق، وإذا لم تقبل شهادته على شهادة الأصل الغائب بقي على شهادة الأصل الغائب شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا تثبت شهادة الأصل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : لو أن رجلين سمعا من رجلين يقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يسعهما أن يشهدا على شهادة الرجلين حتى يقول لهما الرجلان: اشهدا على شهادتنا، ولو سمعا قاضيا يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل بكذا، وسعهما أن يشهدا على قضائه وإن لم يقل لهما القاضي: اشهدا على قضائي بذلك، فقد شرط لصحة تحمل الشهادة على الشهادة الأمر بالشهادة، ولم يشترط لصحة تحمل الشهادة على القضاء الأمر بالشهادة.
واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: قضاء القاضي وقوله حجة تلزمه المال على المدعي بمنزلة الإقرار وسائر الأفاعيل والأقاويل الملزمة، وقد عاين ذلك بيقين ومن عاين حجة أو سمعها وسعه أن يشهد ذلك بيقين عليها بدون إشهاده وأما الشهادة غير حجة إلا في مجلس القاضي فلا يحصل العلم للفرع بقيام الحق بمجرد شهادة الأصل في غير مجلس القاضي حتى يشهد الفرع على أصل الحق فتعذر كونه شهادة الفرع على أصل الحق فتتعين جهة نقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي لجواز الشهادة على الشهادة، فصار شاهد الفرع بمنزلة الوكيل عن الأصل والوكالة لابد لها من التوكيل وزان مسئلتنا من مسألة القضاء ما إذا عاين قضاء القاضي في غير المصر الذي هو قاض (فيه) وهناك لا يجوز له أن يشهد على قضائه كذا ههنا، وبعضهم قالوا: الأصل له منفعة في نقل الفرع شهادته من وجه ومضرة من وجه منفعة؛ لأن الشهادة حق على الأصل يلزمه الأداء متى وجد الطلب من صاحب الحق، كما لو كان عليه دين، فمن هذا الوجه يكون قاضياً ما عليه فيكون الأصل منفعة، كما لو قضى عليه ديناً وجب عليه لغيره، فبهذا(8/396)
الاعتبار لا يحتاج إلى الأمر، ولكن له مضرة من حيث زوال ولائه في تنفيذ قوله على المشهود عليه؛ لأنه لما عاين سبب وجوب الحق فقد ثبت له ولاية على المشهود عليه، فإذا نقله الفرع من غير أمره، لو صح النقل زال ما ثبت له من الولاية على المشهود عليه، وإزالة الولاية الثانية للغير ضرر عليه، فبهذا الاعتبار لا يصح إلا بالأمر.
كما قالوا في الأجنبي: إذا زوج وليه إنسان بغير أمره؛ فإنه لا يجوز وإن قضى حقاً عليه وله في ذلك منفعة؛ لأنه مضرة من وجه فإنه أزال ولايته عن وليته نفذ عقده، وفي هذا ضرر عليه؛ لأنه إبطال حق عليه فاحتيج إلى الأمر من جهته فكذا هذا احتيج إلى الأمر من جهته ليصح التحمل هذا المعنى لا يتأتى في فصل القضاء، فلا يحتاج فيه إلى الأمر.
ولو قال رجلان لرجلين: نشهد أن لفلان على فلان ألف درهم فاشهدا على شهادتنا ذلك، فسمع هذه المقالة رجلان آخران لم يسعهما أن يشهدا على شهادتهما، لما ذكرنا أن الفرع بمنزلة الوكيل، ولا وكالة له بدون التوكيل، ولا توكيل في حق الآخرين.
قد ذكرنا أن من سمع قاضياً يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل ألف درهم وسعه أن يشهد على قضائه وإن لم يشهده على قضائه ولو بينا للقاضي فقالا: سمعنا قاضي كذا قال: قضيت على هذا الرجل لهذا الرجل بكذا، ولكن لم يشهدنا على قضائه لا يوجب ذلك خللاً في شهادتهما، فرق بين هذا وبينما إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له بظاهر يده، فلو بينا ذلك للقاضي أنهما شهدا بالملك له لأنهما (134أ4) رأياه في يده لا تقبل شهادتهما.
والفرق: أن قضاء القاضي حجة بيقين وقد أخبر عن معاينته فقد أخبر عن معاينة ما هو حجة، فلا يوجب خللاً في الشهادة، كما أخبر عن معاينة الإقرار أو البيع، وأما اليد فليس بدليل على الملك يقيناً، إنما كان دليلاً بنوع ظاهر مع الاحتمال، ولكن مع هذا كان للشاهد أن يعتمد على ذلك الظاهر للشهادة عند عدم المنازع ضرورة أنه لا دليل للشهادة سوى ذلك، ولا ضرورة في حق القاضي أن يعتمد على هذا الظاهر؛ لأن في حقه دليل آخر أقوى، وهو الشهادة بالملك مطلقاً كيف وإن القاضي لو اعتمد على هذا الظاهر فإنما اعتمد عليه عند وجود المنازع؟ لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وجود المنازع، واليد ليس بحجة عند وجود المنازع، فلا يقضي بشهادتهما لهذا، وإن بينا أنهما سمعا منه في غير البلد الذي هو فيه قاض، لا تقبل شهادتهما ولا ينبغي لهما أن يشهدا؛ لأنه في غير بلده بمنزلة سائر الرعايا فلم يقبل منه إقراره بالقضاء؛ لأن كلامه ليس بحجة وقوله ليس بقضاء، ثم إن كثيراً من مشايخنا كالخصاف وغيره طولوا لفظ الشهادة على الشهادة ولفظ أداء الشهادة وبالغوا فيه قالوا في الإشهاد: يقول شاهد الأصل بين يدي شاهد الفرع: اشهد أن لفلان على فلان كذا، وأنا أشهدك على شهادتي أنت على شهادتي بذلك فيحتاج إلى خمس شينات.(8/397)
وقالوا في أداء الشهادة على الشهادة: أن الفرع يقول بين يدي القاضي: أشهد أن فلاناً عندي شهد أن لفلان على فلان كذا من المال، وأشهدني على شهادته وأمرني أن أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن فيحتاج إلى ثماني شينات.
قال الخصاف وجماعة من المحققين من مشايخنا كالفقيه أبي جعفر الهندواني وغيرهم: تكلف وما دونه يكفي وهو أن يقول الأصل في الإشهاد: اشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد أنت على شهادتي بذلك فيكون ثلاث شينات، وفي الأداء يقول شاهد الفرع بين يدي القاضي: اشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته بذلك فيكفيه ست شينات.
واختار الشيخ الإمام الأجَلّ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على لفظ آخر، وهو أن يقول في الأداء: أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا، أشهدنا على شهادته وأمرنا أن نشهد بها، فيكفيه ذكر خمس شينات، أو يقول: أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا فأشهدني على شهادته بذلك وأنا أشهد بذلك كله.
وفي «الفتاوى» : للفقيه أبي الليث عن الفقيه أبي جعفر إذا قال الفرع: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز، ولا يحتاج إلى زيادة شيء، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخسي فلو اعتمدا أحد على هذا كان في سعة من ذلك وهو أسهل وأيسر، وعن أبي القاسم الصفار أنه قال: لابد للفرع أنه يقول: أمرني فلان أن أشهد على شهادته، وإذا قال رجلان: نشهد أنا سمعنا فلاناً يقر لفلان بألف درهم فاشهدا بذلك كان باطلاً؛ لأنه إما أن يجعل المشهود به المال وقوله: ذلك إشارة إلى المال وإنه باطل؛ لأنه قبل نقل الشهادة إلى مجلس القضاء لم يكن شهادة الأصول وقوله: ذلك إشارة إلى شهادة الأصول وأنه باطل أيضاً؛ لأن شهادة الأصول لا تصلح مشهوداً بها لما مر، فتعين جهة البطلان فيه، وكذلك إذا قال: فاشهدا علينا بذلك؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله بذلك إن كان إشارة إلى المال فيكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل، فهي لا تصلح مشهوداً بها فكان باطلاً، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان؛ لأنهما جعلا أنفسهما مشهوداً عليه بشهادة الفرع، وأنه باطل؛ لأنه يخالف اللفظ المنصوص، وهذا لما ذكرنا أن القياس إلى جواز الشهادة على الشهادة، لكن تركنا القياس بالأثر وتعامل الناس، فيراعى فيه اللفظ الذي ورد به الأثر وجرى به التعامل وهو لفظ الشهادة على الشهادة وكذلك إذا قالا: فاشهدا بما شهدنا به؛ لأنه إن جعل المشهود به المال فهو باطل لما قلنا، وكذلك إن جعل المشهود به الشهادة؛ لأنها لا تصلح مشهوداً بها، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا بما شهدنا به أو بما أشهدناكما به؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله: بذلك إن كان إشارة إلى المال يكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل عليه وأنه باطل وكذلك إذا قالا: فاشهدا أن شهادتنا عليه بذلك لأنه غير
تام فيحتمل أن يكون تأويله شهادتنا عليه بذلك(8/398)
الحق، ويحتمل باطل وعلى كلا الوجهين لا يجوز؛ لأنه لم يوجد إشهادهما وتحميلهما شهادة بالمال، وكذلك إذا قال الأصلان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان كذا فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان، كان ذلك باطلاً؛ لأن قول الأصلين: فاشهدا أنا نشهد بذلك عليه، يحتمل الاستقبال يعني اشهدا أنا نشهد في الزمان الثاني بذلك، فيكون هذا أمراً بالشهادة أنه وعد أن يشهد، لا أن يكون هذا إشهاداً على الشهادة.v
وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأملاك» : أقبل ذلك.
ووجهه: أن المقصود من هذه الشهادة على الشهادة فلو اعتبرنا المقصود يصح تصرفهما، ولو اعتبرنا الحقيقة يبطل تصرفهما وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وإن قال الأصلان للفرعين: نشهد أن فلاناً أشهدنا أن لفلان عليه ألف فاشهدا على شهادتنا بذلك، فشهد الفرعان بما وصفت لك، وقد غاب الأصلان فشهادة الفرعين جائزة؛ لأنه موافق للفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة، لأن قوله على شهادتنا لبناء الشهادة عليه، كما تقول شهد على إقراره وما أشبه ذلك، وصورة الشهادة على الشهادة وتفسيرها ليس إلا هذا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الفرع: أشهد أن فلاناً أشهدني أنه يشهد بكذا، أو قال: أشهدني فلان أنه يشهد بكذا، فهو باطل لانعدام اللفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإذا شهد الرجلان عند القاضي على شهادة رجل وصححا الشهادة، فينبغي للقاضي أن يسألهما عن عدالة الذي شهدا على شهادته، ولم يشترط محمد رحمه الله في «المبسوط» هذا، فهو أن يسألهما القاضي عن عدالة الأصول، وإنما عرف هذا من جهة الخصاف، وهذا لأن القاضي إنما يقضي بشهادة الفروع إذا كان الأصل عدلا، أما إذا لم يكن فلا ينبغي للقاضي أن يسأل عن ذلك حتى يعرف أيجوز له القضاء بشهادة الفروع فيلتفت إليها أو لا يجوز، فلا يلتفت إليها؟ فإن قالا: هم عدول، أثبت ذلك في موضع شهادتهما في المحضر، فإن كان القاضي لا يعرفهما بالعدالة يعني الفرعين سأل عنهما فإن عدلا تثبت عدالة الأصل أيضاً، هكذا ذكر في ظاهر الرواية.
وروي عن محمد: أن تعديلهما الأصل لا يكون صحيحاً، وهكذا روي عن أبي يوسف لأن الفرع نائب عن الأصل فتعديله الأصل يكون بمنزلة تعديل الأصل نفسه، والأصل لو عدل نفسه لا يكون هذا التعديل صحيحاً، فكذلك الفرع إذا عدله لا يعتبر، وجه ظاهر الرواية وذلك لأن الفرع نائب عن الأصل في نقل عبارته إلى مجلس القاضي فكما نقل عبارته إلى مجلس القاضي فقد انتهى حكم الأمانة، وصار هو بمنزلة سائر الأجانب، فكما أن التعديل من سائر الأجانب يكون صحيحاً، فكذلك التعديل من الفروع ينبغي أن يكون معتبراً، وهذا لأن الشهادة على الشهادة إنما تعرف بقول الفروع، فأما(8/399)
القاضي لا يعرف الأصول وربما لا يظفر بمن يعرف الأصول لأن الشهادة على الشهادة غالباً إنما تكون من بلدة إلى بلدة فلو لم يعتبر تعديل الفروع يؤدي إلى تعطيل الحقوق، وإنما جعل الشهادة على الشهادة حجة صيانة لحقوق الناس (134ب4) عن التعطيل وهذا المعنى يقتضي اعتبار تعديل الفروع فإن قالوا: هم ليسوا بعدول، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، وإن قالا: لا نعرفه، ذكر الخصاف: أن القاضي لا يقضي بشهادتهما، وكذلك إذا قالا: لا نخبرك، لأنهما حملا شهادتهما ولم يعدّلا الأصول، فكأنهما لم يصدقاهم فيما شهدوا به؛ لأن دليل الصدق العدالة فصار كأنهما قالا: إنا نتهمها في الشهادة، ولو قالا هكذا فالقاضي لا يقبل شهادتهم فكذلك هذا.
وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أن القاضي يقبل شهادتهما ويسأل الأصل، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهو الصحيح لأن الأصل بقي مستوراً وينبغي أن يذكر الفرع اسم الشاهد الأصل واسم أبيه وجده، ذكر القاضي أبو علي النسفي رحمه الله في «شرحه» : وإذا قضى القاضي بشهادة الفروع يجب أن يكتب في السجل أسماء الأصول ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وفي «الأصل» .
وتجوز الشهادة على الشهادة في كتب القضاء وصورتها: أن يكتب القاضي كتاباً إلى قاض آخر لحقٍ من الحقوق، وأشهد على كتابه شاهدين ثم بدا للشاهدين عذر، فأشهدا على شهادتهما شاهدين.
وإذا أراد الرجل أن يشهد غيره على شهادته ينبغي أن يحضر الطالب والمطلوب ويشير إليهما، وإن أراد أن يشهد عند غيبتهما ينبغي أن يذكر اسمهما ونسبهما؛ وهذا لأن الشهادة عند الشاهد ليتحمل الشهادة بمنزلة أداء الشهادة عند القاضي ليقضي به، وكما أن في الشهادة عند القاضي يعتبر الإعلام بأقصى ما يمكن، فكذلك يشترط هذا المعنى عند الشاهد ليتحمل عنه الشهادة إلا أنه إذا كان المشهود عليه غائباً فذكر الاسم والنسب يجوز الإشهاد ولا يكفي هذا القدر للقضاء؛ لأن القضاء للإلزام والإلزام على الغائب لا يتحقق، فلا بد من الخصم للإلزام عليه بالبينة، والقضاء بخلاف الإشهاد على الشهادة؛ لأن الشهادة ليست بموجبة شيئاً ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتحقق فيه معنى الإلزام على الغائب.
فقلنا: بأنه إذا نفي الاسم والنسب فإنه يجوز، وفي «المنتقى» : إذا قال الشاهد لغيره: اشهد ولم يقل على شهادتي لم يجز، وقال أبو يوسف رحمه الله: يجوز؛ لأن معناه اشهد على شهادتي، وكذلك لو قال: فاشهد بذلك، ومعنى المسألة أن يحكي الرجل لغيره شهادة نفسه في حادثة لرجل على رجل فقال له: اشهد أو قال: فاشهد بذلك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقالا: نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه يشهد أن لفلان على فلان كذا، ولم يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا أقبل ذلك حتى يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال(8/400)
أبو يوسف: أنا أقبل ذلك. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا أشهد الرجل رجلاً على شهادته ثم صار بحال لا تجوز شهادته يعني الأصل، ثم صار بحال تجوز شهادته بأن فسق ثم تاب، ثم إن الفرع شهد على شهادة الأصل جازت شهادته، لأنا إن نظرنا إلى حالة التحمل فالأصل أهل للشهادة والإشهاد، فصح منه التحمل وإن نظرنا إلى حالة الأداء فالأصل أهل للشهادة فتقبل شهادته، وكذلك إن أشهد على شهادته رجلاً بعد ما تاب جازت لصحة الإشهاد باعتبار أهلية الأداء للأصل حالة الإشهاد، وإن أشهد رجلان على شهادتهما وهما عدلان * يعني الفرعان * ثم صارا عدلين، فشهدا أو أشهدا على شهادتهما فهو جائز؛ لأن تأثير الفسق في رد الشهادة مع صحتها لا في بطلان الشهادة، وإن شهد الفرعان عند القاضي شهادتهما لتهمة في الأولين لا نقبلهما بعد ذلك، لا من الأولين ولا ممن يشهد على شهادتهما؛ لأن الفرعين ينقلان شهادة الأصلين فصار كما لو حضرا وشهدا، ورد القاضي شهادتهما لتهمة الفسق، وهناك لا تقبل منهما تلك الشهادة بعد ذلك وإن تابا كذا ههنا، وإن كان رد شهادة الآخرين لتهمة فيهما فشهادة الأولين جائزة إذا كانا عدلين، وكذلك إن أشهدا رجلين عدلين آخرين بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن في هذه المسألة القاضي أبطل نقل الفرعين لأجل فسقهما، أما ما أبطل شهادة الأصلين؛ لأن شهادة الأصلين لم تصر منقولة إلى مجلسه بنقل الفاسقين، فجازت شهادة الأصل بنفسه، وكذلك جاز له أن يشهد غيره على شهادة نفسه، أما في المسألة الأولى: النقل ثبت بشهادة الفرعين؛ لأنهما عدلان من أجل الشهادة، وقد أبطل القاضي المنقول لفسق الأصلين، فلا يقبلهما بعد ذلك أصلاً.
قال في كتاب الوكالة: إذا أشهد الفاسقان على شهادتهما لم يجز؛ لأن أداء الشهادة عند الفرعين كأدائهما عند القاضي، ثم فسق الشاهد يمنع القاضي عن العمل بشهادته، فكذا فسق الأصلين يمنع الفرعين عن نقل شهادتهما، وإن تابا وأصلحا وشهدا بأنفسهما جاز، وكذلك لو أشهدا على شهادتهما ذلك الشاهدين أو غيرهما جاز.
ولو أن شاهدي الأصل ارتدا ثم أسلما لم تجز شهادة الفرعين على شهادتهما، ولو شهد الأصلان بأنفسهما بعدما أسلما تقبل شهادتهما.
والفرق: أن بالردة لا تبطل أصل شهادة الأصلين؛ لأن سببها المعاينة، وذلك لا ينعدم بالردة، ألا ترى أن اقتران الردة بالتحمل لا يمنع صحة التحمل فلا يمنع البقاء من الطريق الأولى، ولكن بالردة يبطل الأداء، ألا ترى أن اقتران الردة بالأداء يمنع صحة الأداء، فاعتراضها على الأداء قبل حصول المقصود يبطل الأداء أيضاً، وبالإسلام يحدث له أهلية الأداء فيجوز له الأداء، فأما الفرع مأمور من جهة الأصل بنقل شهادته، ولهذا يشترط لصحة الإشهاد الأمر بالنقل من الأصل، قلنا: ولبقاء الأمر حكم الإبتداء إذا كان غير لازم وهذا الأمر غير لازم؛ لأن نهي الأصل عامل، وإذا كان لبقاء هذا الأمر حكم الإبتداء صار كأنه وجد الأمر بالنقل في حالة الإرتداد، والأمر بالنقل بعد الإرتداد لا يصح، وإذا لم يصح صار وجوده والعدم بمنزلة.(8/401)
وبدون الأمر بالنقل من الأصل لا تصح شهادة الفرع، وهذا الفرق مشكل عندي ثم في هذا الفرق يشير إلى أن نهي الأصل الفرع يعمل.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يعمل وإليه مال الشيخ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ذكر في «شرح الجامع» الذي علقه على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على شهادة عبدين أو مكاتبين أو كافرين على مسلم فردها القاضي بذلك ثم عتق العبدان والمكاتبان وأسلم الكافران وشهدا بذلك أو أشهداهما أو غيرهما على شهادتهما جاز؛ لأن المنقول شهادة الفرعين شهادة الأصلين، ولا شهادة للعبدين ولا للمكاتبين ولا للكافرين على المسلم فلا يكون المردود شهادة، وقد حدث لهما بالإسلام والعتق أهلية أداء الشهادة، فجاز لهما الأداء والإشهاد على شهادتهما.
قال في «الجامع» : إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على القتل خطأ، وقضى القاضي بالدية على العاقلة ثم جاء المشهود بقتله حياً فلا ضمان على الفروع؛ لأنه لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم إشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الوالي الدية على العاقلة؛ لأنه ظهر أنه أخذها منهم بغير حق، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الشهادة لم يصح إقرارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان، ولا ضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أحق، وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا عنده؛ لأن شهادة الأصلين صارت منقولة إلى مجلس القضاء بشهادة الفرعين، فكأنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا حتى ظن بعض مشايخنا أن قول محمد رحمه الله محمول على ما إذا أنكر الأصلان الشهادة، ولم يظهر المشهود بقتله حياً، وبعضهم قالوا: لا بل قول محمد في الكل واحد، والعذر لمحمد أن شهادة الأصلين إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة لأنها موجودة في غير مجلس القضاء (135أ4) حقيقة، والشهادة في غير مجلس القضاء لا يكون سبباً للضمان وأن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبر الحكم حال رجوع الأصلين فاعتبرنا الحقيقة متى أنكر الأصلان الشهادة ولم يرجعا عن شهادتهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، وإن قال: الأصول قد أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ أنا كاذبين، لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد العاقلة بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الأصول، وإن شاؤوا ضمنوا الولي فإن ضمنوا الأصلين رجعا على الولي، وإن ضمنوا الولي لم يرجع على الأصلين، وجه قول محمد رحمه الله: أن شهادة الأصلين منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة فعملنا بالحقيقة والحكم على الوجه الذي مر وأبو حنيفة
وأبو يوسف قالا: القياس يأبى قبول الشهادة على الشهادة؛ لأن المنقول إلى مجلس القضاء شهادة الأصلين في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء ليست بحجة، والقضاء(8/402)
بما ليس بحجة لا يجوز، لكن تركنا قصة هذا القياس وجوزنا القضاء بها وجعلنا شهادة الأصلين كالموجود في مجلس القضاء، وفي حق إيجاب الضمان بعد الرجوع يبقى على أصل القياس.
في «المنتقى» : إذا قال الفروع: لا نعرف المشهود عليه بالحق، قبلت شهادتهم نريد به إذا قال الفروع: أشهدنا الأصول على شهادتهم لفلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا، إلا أنا لا نعرف فلان بن فلان المشهود عليه بكذا وكذا، فالقاضي يقبل الشهادة ويأمر المدعي أن يقيم بينة أن الذي أحضره فلان بن فلان هذا هو الكلام في الشهادة على الشهادة وأما الشهادة على الشهادة، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على أنها مقبولة.
وصورة تلك المسألة: رجل ادعى على رجل ألف درهم وجاء بشهود ثلاثة شهد واحد منهم على شهادة شاهدين، على شهادة ثلاثة نفر أنهم شهدوا على إقرار المدعى عليه بألف درهم وشهد من الثلاثة على شهادة أحد الشاهدين بعينه على شهادة الثلاثة الذين هم شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف وشهدوا وشهد واحد آخر من الثلاثة الذين هم أصول بعينه، فالقاضي يقطع بهذه الشهادة حقاً، واعلم بأن هذه المسألة من المسائل التي ظهرت الرواية فيها ظهرت الثلاثة، وإنما تظهر الرواية فيها لو سمينا الأصول الثلاثة على أصل الحق وسمينا الفرعين الذي يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة على أصل الحق، فنقول أسماء الأصول الثلاثة: عبد الله ومحمد وصالح، واسم الفرعين اللذين يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة زيد وعمرو، وحضر مجلس الحكم ثلاثة، شهد واحد من الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة زيد بعينه على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فثبت بشهادتهما شهادة زيد، فكأن زيداً وهو أحد الفرعين حضر نفسه وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فإذا شهد واحد من الثلاثة الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة واحد من الأصول بعينه وهو صالح مثلاً، فقد ثبت شهادة صالح؛ لأنه شهد على شهادته اثنان زيد والذي يشهد على شهادته من الذين حضروا مجلس الحكم أما لم يثبت شهادة محمد وعبد الله؛ لأنه لم يشهد على شهادتهما شاهد واحد وهو أحد الفرعين زيد، فلم يثبت بهذه الشهادة من شهادة الأصول إلا شهادة واحد وهو صالح، وبشهادة الواحد لا يقطع الحكم، فلا يقضي القاضي للمدعي بشيء ما لم يحضر محمد وعبد الله مجلس الحكم، وشهد بنفسه أو شهد شاهد آخر على شهادة عمرو وهو أحد الفرعين على شهادة الأصول الثلاثة لتثبت شهادة عمرو بشهادة شاهدين ويصير كأن عمراً بنفسه حضر مجلس الحكم وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فتثبت شهادة محمد وعبد الله وصالح بشهادة شاهدين وهما زيد وعمرو، فهذه الثلاثة تدل على أن الشهادة على
الشهادة مقبولة والله أعلم.(8/403)
الفصل العاشر: في شهادة الشهود بعضهم لبعض
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل مات ولا يعرف له، فجاء أربعة نفر فشهد كل اثنين منهم للآخرين أن الميت أوصى لهما بثلث ماله، أو شهد كل اثنين منهم للآخرين أنهما ابنا الميت والمشهود لهما يصدقهما في الوصية وفي أنهما ابنا الميت، أو يكذبهما لا تقبل شهادتهما، أما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوصية بالثلث فلأنهما يثبتان الشركة؛ لأن الوصية محل التركة حتى أن الوارث لو أراد أن يعطي الوصية من غير التركة ويستخلص التركة لنفسه لا يملك، وإذا كان من حكم الوصيتين اشتراكهما كانت شهادة كل فريق شهادة لنفسه من وجه، وأما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوراثة يشتركون في التركة، فكانت هذه شهادة لنفسه أيضاً.
وفيه أيضاً: عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا على رجل لرجلين بألف درهم وشهد المشهود لهما للشاهدين على هذا الرجل بدين ألف درهم والمشهود عليه حي فشهادتهما جائزة، لأن الدين يجب في ذمة الحي غير متعلق بماله، فلم تتحقق الشركة بينهما، ولهذا لا يشارك بعضهم بعضاً فيما قبض، فانعدم معنى التهمة فقبلت شهادتهما، ولو كان المشهود عليه ميتاً لا تقبل هذه الشهادة، وقال محمد رحمه الله: هي عندي جائزة، هكذا ذكر ابن سماعة فقد ذكر محمد أولاً أن شهادة الفريقين على الميت غير مقبولة، وقال بعد ذلك: وهي عندي جائزة، أشار إلى أن ما ذكرنا أولاً قول غيره، ولم يذكر أنه قول من، وقد ذكر الخصاص: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل هذه الشهادة، وهكذا ذكر في «الأمالي» وذكر في «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة وهكذا ذكر في وصايا «المبسوط» .
وجه الرواية التي قال: إن الشهادة باطلة ما ذكرنا أن الدين بعد الموت على التركة، وتصير التركة مشتركة بين الغرماء معنى، ألا ترى أن الدين إذا كان مستغرقاً إذا قبض أحد الغرماء شيئاً كان للباقين حق المشاركة، فقد شهدا بما لهما فيه شركة.
وجه رواية الجواز: أن الدين حالة الحياة يجب في الذمة، وبعد الموت يتحول إلى التركة يعني أن التركة تصير مستحقة به، ألا ترى أن الوارث لو أراد أن يقضي الدين من ماله ويستخلص التركة لنفسه كان له ذلك فكانت هذه شهادة بما لا شركة لهما فيه فتقبل.
وروى الخصاف عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنهم إذا جاءوا معاً لا تقبل شهادتهم وإن جاءوا متفرقين تقبل؛ لأنهم إذا جاءوا مجتمعين فقد تمكنت تهمة المواضعة، يصير كأن كل فريق يقول للفريق الآخر: اشهدوا لنا على أن نشهد لكم، فتتفاحش التهمة فيمنع قبول الشهادة، فأما إذا جاءوا متفرقين تقل التهمة ولا تتفاحش، فلا(8/404)
يمنع قبول الشهادة ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه.
ولكن ادعى رجلان داراً أو عبداً أو عرضاً من العروض في يدي ورثة الميت أن الميت غصبه ذلك، وشهد لهما شاهدان بذلك، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين ألف درهم فإن الشهادة كلها جائزة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها؛ لأن تهمة الشركة لا تتأتى ههنا، وكذلك لو لم يدعيا الغصب ولكن ادعيا الشراء من الميت ونقد الثمن، كان الجواب كما قلنا في دعوى الغصب؛ لأن ما باعه الميت في حياته لا يكون تركة له، فلا يتعلق حق الغرماء بذلك العين فلا تتأتى تهمة الشركة، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين عيناً وادعى الفريق الآخر عيناً آخر تقبل شهادتهم، وهذا أيضاً يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين الوصية بعد تعيينه، وادعى الفريق الآخر الوصية بعين آخر قبلت شهادتهم بالاتفاق، ولو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بعد بعينه أو بعين آخر لا تقبل شهادة الفريقين؛ لأن صاحب الثلث يشارك الآخر في العبد فيتمكن تهمة الشركة وفي المسألة إشكال، وكذلك لو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بالسدس لا تقبل شهادة الفريقين؛ لان تهمة الشركة تتأتى ههنا، وفي كل موضع لا تقبل شهادة الفريقين لا تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما ونسوتهما مع رجل آخر، وفي كل موضع تقبل شهادتهما تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما وامرأتيهما مع رجل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقعت الشركة في المشهود به لا تقبل شهادتهما، وإذا لم يقع في المشهود به شركة، فإن كان القاضي يعرفهما بالعدالة قبلت شهادتهما (135ب4) .
وإن لم يعرفهما بالعدالة أو شك في أمرهما، لا تقبل شهادتهما، لأن كل فريق يجر النفع إلى الآخر فيتمكن تهمة المواضعة، فيتفحص القاضي من حالهما ولا تقبل شهادتهما حتى يظهر عنده عدالتهما، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن ادعى عيناً في يدي إنسان فقال ذو اليد: إنه لفلان أودعنيه، وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة إن كان معروفاً بالحيل والأباطيل، وإن كان معروفاً، بالعدالة والأمانة، تندفع عنه الخصومة، فما روي عنه هاهنا مستقيم على أصله، ولو شهد أحد الفريقين لصاحبه بالدراهم، وشهد الآخر بالدنانير، تقبل شهادة الفريقين، ذكره في «البقالي» .
وفي «المنتقى» رجل في يديه دار مات فجاء أربعة رجال وادعى رجلان منهم نصف الدار شائعاً أنهما اشترياه من الميت، وشهد لهما الآخران بذلك ثم ادعى الآخران أنهما اشتريا النصف الباقي من الميت، وشهد لهما المدعيان الأوليان، فإن شهادتهم باطلة؛ لأنهم يصيرون شريك في الدار، وكذلك إذا كان القاضي قد قضى للأولين ثم ادعى الآخران وشهد لهما الأولان، فإني أبطل القضاء كله، وإن كانت الشهادة على نصف دار مقسومة لهذين، وعلى نصف دار مقسومة لهذين فإن كان لكل نصف باب على حده وطريق على حده فالشهادتان جائزتان، وإن كان بابهم واحداً وطريقهم واحداً أبطلت(8/405)
شهادتهم، وإن أشهدا أبناء الميت أو غيرهما لرجلين على الميت بدين، ثم شهد هذان المشهود لهما لرجلين آخرين على الميت بدين جازت شهادتهم، لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأنه عسى يلحقهما ضرر بنقصان حقهما إذا لم تف التركة بحقهما ولا تعلق لدين الغير بدينهما فقبلت شهادتهما لهذا.5
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد رجلان لرجلين أنهما ابنا الميت، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين، لا تقبل شهادتهما؛ لأن حق الغريم يثبت في التركة كما أن حق الوارث يثبت في التركة، فيتمكن تهمة الشركة في هذه الشهادة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل له على ميت دين فقضى القاضي له بدينه، وقد ترك الميت وفاء مما عليه من الدين، ثم إن المقضي له شهد لورثة الميت بحق للميت لا تجوز شهادته؛ لأن ذمة الميت إذا حرمت بالموت يتعلق الدين بتركته، فإذا شهد الغريم بحق للميت فقد شهد بما هو متعلق حقه، فكانت هذه شهادة لنفسه فتقبل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجلين لهما على رجل ألف درهم بينهما نصفان، فشهد أحدهما على صاحبه ورجل آخر أنه أقر أن اسمه في الصك عارية وأن حصته من ذلك المال لفلان، قال: شهادة الشريك جائزة؛ لأن هذه شهادة استجمعت شرائطها ولا تهمة فيها، لأن الشريك بهذه الشهادة لا يجّر إلى نفسه مغنماً، ولا يدفع عن نفسه مغرماً، أقصى ما في الباب أنه يتوهم له نوع منفعة هاهنا بإبطال حق الرجوع على المشهود عليه في الثاني إذا قبض الشاهد نصيبه من الألف، إلا أن هذا وهم عسى أن لا يكون بأن يقبضا جميعاً أو يبرئا الأجراء فهو عن نصيبه، ولا يجوز رد شهادة استجمعت شرائطها بالوهم ولو كان قبض من المال نصفه أو شيئاً منه ثم شهدا لهذا لم أقبل شهادتهما، لأنه ثبت لشريكه حق مشاركته فيما قبض، فهو بهذه الشهادة يريد إبطال ذلك الحق.
قال: وإنما هذا بمنزلة ثلاثة نفر لهم على رجل ألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه أبرأ الغريم عن حصته، إن شهدا قبل أن يقبضا شيئاً من المال، قبلت شهادتهما وإن شهدا بعدما قبضا شيئاً من المال، لا تقبل شهادتهما؛ لأن بعد القبض بشهادتهما يريدان إبطال حق المشاركة على الشريك فيما قبضا، ولا كذلك قبل القبض فكذا هاهنا.
الفصل الحادي عشر: في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة، اتفقت مللهم أو اختلفت وكذلك شهادة أهل الذمة على المستأمنين مقبولة، وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض مقبولة، إذا كانوا من أهل دار واحدة، وإن كانوا من أهل دارين مختلفين، كالروم والترك لا تقبل(8/406)
وأما شهادة المرتد والمرتدة فلا ذكر لها في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تقبل على الكفار، وقال بعضهم: تقبل على مرتد مثله، والأصح أنها لا تقبل على كل حال، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أجيز شهادة اليهودي والنصراني وغيرهما من أهل الذمة إذا سكروا؛ لأن السكر حرام في الأديان كلها، فيوجب سقوط العدالة، وإذا شهد شاهدان من أهل الكفر على شهادة شاهدين من أهل الإسلام على كافر لا تقبل شهادتهما؛ لأنها شهادة على كافر قامت على إثبات أمر على المسلم؛ لأنها قامت على إثبات شهادة المسلم، فلا تقبل قياساً على ما لو شهدا على المسلم بمال، وكذلك إذا شهدا على قضاء قاض من قضاة المسلمين لكافر على كافر، لا تقبل شهادتهما لأنها قامت على إثبات أمر على المسلم، لأنها قامت على القاضي بإثبات قضائه، وهذا بخلاف ما لو شهدا على كافر بمال، فإنه تقبل شهادتهما وإن كان فيه إيجاب القضاء على القاضي المسلم، وذلك لأن إيجاب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً.
أما نصاً: فلا شك، وأما اقتضاء: فلأن المقتضي ما يثبت ضرورة المنصوص عليه ولا ضرورة للمنصوص عليه وهو الوجوب على المشهود عليه، إلى وجوب القضاء بذلك على هذا القاضي المعين؛ لأنه مما ينفك عنه في الجملة بأن لا يكون قاضياً، والمقضي إنما يثبت ضرورة المنصوص عليه إذا كان لا ينفك عنه بحال، فهو معنى قولنا: إن وجوب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً فلا يمنع قبول شهادتهما؛ ولا هاهنا شهدا على إثبات أمر على المسلم نصاً ومثل هذه الشهادة لا تقبل، ونظير هذا ما قال محمد رحمه الله في كافر مات وأوصى إلى مسلم، فشهد كافران بدين على الميت، فإن القاضي يقبل شهادتهما وإن كان لو قبل هذه الشهادة يجب قضاء الدين على الوصي وهو مسلم؛ لأن وجوب قضاء الدين على هذا الوصي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً وهذا ظاهر، ولا يقتضي وجوب الدين على الميت؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على الميت وجوب القضاء على هذا الوصي، فإنه لو لم يكن هو وصياً لا يجب عليه قضاء الدين، فلم يمتنع قبول شهادتهما كذا هاهنا.
قال: أمة في يدي رجل كافر اشتراها من مسلم، أو وهبها من مسلم، أو تصدق بها عليه مسلم، ثم جاء كافر وادعى لنفسه ملكاً مطلقاً، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، فشهدا له بالملك المطلق، قال أبو حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أولاً: لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وقال أبو يوسف آخراً: تقبل هذه الشهادة ويقضى لها على المشتري خاصة، ولا يقضي بها على غيره حتى لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن.
وجه قول أبي يوسف آخراً: أن هذه شهادة كافر قامت على كافر وهو المشتري باستحقاق الملك عليه، وقامت على مسلم وهو البائع بالرجوع عليه بالثمن، وأمكن القضاء بها في حق الكافر فيقضى بها للكافر، قياساً على ما لو شهد كافران على كافر ومسلم بدين ألف درهم، فإنه تقبل شهادتهما على الكافر، ولا تقبل شهادتهما على(8/407)
المسلم، بيان إمكان القضاء في حق الكافر: أن يقضي بالملك للمدعي بسبب جديد من جهة المدعى عليه، وهذا لأن الشهود وإن شهدوا بالملك المطلق إلا أن الملك المطلق يحتمل الملك الحادث، فيحتمل أن الشهود عاينوا بسبب الملك فيما بينهما، لكن لم يذكر السبب في شهادتهما، فيحمل على هذا الوجه، تصحيحاً للشهادة بقدر الممكن، ولهما أن هذه شهادة كافر قامت على كافر ومسلم، وتعذر القضاء بها في حق الكافر، فلا تقبل أصلاً قياساً على ما لو شهد كافران لكافر على كافر، أن القاضي قضى لهذا على هذا بكذا، فإنه لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وإنها لا تقبل لما قلنا. وبيان تعذر القضاء بها في حق الكافر: أن الشهود شهدوا بالملك المطلق للمدعي والشهادة بالملك المطلق شهادة بالملك من الأصل؛ ألا ترى أنه يستحق العين بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعاً، ولا يمكن القضاء بالملك في حق المشتري من الأصل إلا بالقضاء بالملك من الأصل في حق البائع؛ لأنه ما بقي الملك للبائع لا يكون الملك لهذا المدعي من الأصل فإن قيل الشهادة بالملك المطلق إنما تكون شهادة بالملك من الأصل إذا كانت الشهادة (136أ4) حجة للقضاء بالملك من الأصل، كشهادة المسلمين أما إذا لم يكن حجة للقضاء بالملك من الأصل يجعل شهادة بالملك الحادث بسبب حادث من جهة المدعى عليه، ألا ترى أن الإقرار بالملك المطلق جعل إقراراً بملك حادث، وإن كان الإقرار إخباراً في موضوعه حتى صح بالحق.
والجواب: أن الإقرار يخالف الشهادة، لأن الإقرار بالملك المطلق فيما يقبل النقل من ملك إلى ملك جعل إقراراً بملك جديد من حيث الحكم كأن المقر قال: هذا لفلان؛ لأني ممكنه منه، ولهذا لا يستحق المقر له المقر به بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ولا يكون للمقر الرجوع على بائعه، ولو أن المقر نصّ على ملك جديد للمقر له بسبب جديد من جهة يتعذر القضاء بالملك من الأصل من حيث الحكم كأن الشهود قالوا: هذا ملك هذا المدعي من الأصل حتى يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة ويرجع المستحق عليه على بائعه بالثمن، ولو نص الشهود على هذا يتعذر القضاء بالملك الجديد بالسبب الجديد من جهة المستحق عليه، فكذا إذا جعل في الحكم هكذا إذا مات الكافر وترك اثنين وترك ألفي درهم فاقتسماهما بينهما، ثم أسلم أحدهما ثم جاء كافر وادعى لنفسه ديناً على الميت، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، قال في «الكتاب» : أجزت ذلك في حصة الكافر خاصة؛ لأن شهادة الكافر حجة في حق الكافر دون المسلم، فثبت الدين بهذه الشهادة في حق استحقاق نصيب الكافر وإبطال يده عليه، لا في حق استحقاق نصيب المسلم وإبطال يده عليه، إذا مات الكافر وجاء مسلم وكافر وادعى كل واحد منهما ديناً، وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر، قال في «الكتاب» أجزت بينة المسلم وأعطيت حقه فإن بقي شيء كان للكافر، وروى الحسن بن زياد وعن أبي حنيفة أن التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت دينه على الميت، وما أقام كل واحد منهما حجة على الميت، وجه ظاهر الرواية: أن دين الكافر ثبت في حق(8/408)
الميت وفي حق الغريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت أما لم يثبت في حق الغريم المسلم؛ لأن حجة المسلم حجة على الميت والكافر؛ وحجة الكافر حجة على الميت وليس بحجة على المسلم، أو المزاحمة إنما تثبت عند المساواة وإنما تثبت المساواة إذا ثبت دين كل واحد من الغريمين في حق صاحبه، فهو بمنزلة الدين
المقر به في حالة الصحة مع الدين المقر به في حالة المرض.
مسلم له عبد كافر أذن له بالبيع والشراء، فشهد عليه شاهدان كافران بشراء أو بيع جازت شهادتهما عليه؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على الكافر.
فإن قيل: هذه الشهادة كما قامت على العبد قامت على المولى، فإنه يستحق مالية المولى متى ثبت الدين على العبد المأذون والمولى مسلم.
قلنا: استحقاق مالية العبد غير مضاف إلى الشهادة لا نصاً وهذا الظاهر ولا اقتضاء؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على العبد بسبب البيع والشراء استحقاق مالية المولى، وألا ترى أن العبد لو كان محجوراً، واشترى لا يستحق به مالية المولى مع أن الثمن وجب عليه بالشراء حتى يؤاخذ به بعد العتق، إذا لم يكن استحقاق مالية المولى مضافاً إلى شهادة الكافر لا تمنع بسببه قبول شهادة الكافر، ولو كان الكافر كافراً والعبد المأذون مسلم لا تقبل شهادة الكافر؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على المسلم نصاً.
ولو كان كافر وكل مسلماً بشراء أو بيع لم أجز على الوكيل الشهود إلا مسلمين، ولو أن مسلماً وكل كافراً بذلك أجزت على الوكيل الشهود من أهل الكفر، وهو يخرج على ما ذكرنا من المعنى في فصل العبد.
وفي «النوادر» : وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا وكل النصراني مسلماً يبيع له ثوباً، أو اشترى له ثوباً، فشهد عليه نصرانيان بالبيع وهو يجحد أن ذلك جائز وكذا الشراء.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : نصراني مات وترك مئة درهم لا غير، فأقام مسلم شاهدين نصرانيين عليه بمئة درهم بينهما يقضي للمسلم المتفرد بثلثي المئة، ويقضي بثلث المئة بين الشريكين نصفان؛ لأن النصراني الشريك أقام ما ليس بحجة على المسلم المنفرد؛ لأنه يتضرر به فيطلب بينة النصراني للشريك، فإذا بطلت بينة النصراني للشريك، بقي المسلم الشريك والمسلم المنفرد وكل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت دون صاحبه فاستويا، فنصرت المسلم المنفرد بحقه وذلك مئة، والمسلم الشريك بحقه وذلك خمسون، فقسمت المئة بينهما أثلاثاً، ثم النصراني الشريك يأخذ من شريكه المسلم نصف ما أخذ لتصادقهما أن الدين مشترك بينهما.
فإن قيل: أليس إن كل واحد من المسلمين يتضرر بشهادة شهود صاحبه وهم كفار، فينبغي أن لا تقبل؟.
قلنا: الضرر عليهما في امتناع القبول فوق الضرر عليهما في القبول، فإن عند قبول(8/409)
الشهادتين يصل إلى كل واحد من المسلمين بعض حقه، وعند عدم القبول لا يصل إلى كل واحد من المسلمين شيء، وعند التعارض يتحمل الأدنى لدفع الأعلى، ولو كان مكان المسلم المنفرد نصرانياً منفرداً وباقي المسألة بحاله فالمئة تقسم بينهم أثلاثاً لكل واحد الثلث، لأن بينة النصراني المنفرد غير مقبولة على المسلم الشريك لما مر، وبينة المسلم الشريك حجة في حق النصراني المنفرد، فيأخذ المسلم الشريك حقه وذلك خمسون، بقي من التركة خمسون وقد تنازع فيهما نصرانيان، وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه إلا أن حق النصراني المنفرد في المئة، وحق النصراني الشريك في خمسين فيقسم للنصراني الشريك، وذلك ستة عشر وثلثان، ثم ما في يد النصراني الشريك يضم إلى ما في يد شريكه المسلم فيصير ستة وستون وثلثاً، تقسم بينهما نصفين لتصادقهما على التركة فنصيب كل واحد في الحاصل ثلث المئة فلهذا قال: تقسم المئة بينهم أثلاثاً ولو كان شهود الشريكين مسلمين، وشهود النصراني المنفرد نصراني، وباقي المسألة بحاله كان هذا والأول سواء؛ لأن المسلم الشريك أقام ما هو حجة في حق النصراني المنفرد؛ والنصراني المنفرد أقام ما ليس بحجة في حق المسلم الشريك، فيطلب بينة النصراني المنفرد في حق المسلم فيأخذ المسلم حقه وذلك خمسون بقي من التركة خمسون، وقد تنازع فيه نصرانيان وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه فيقسم بينهما على قدر حقوقهما أثلاثاً، ثم الباقي إلى آخر ما مر قبل هذا، فإن كان شهود النصراني المنفرد مسلمين وشهود الشريكين نصارى، وباقي المسألة بحالها يقضي للنصراني المنفرد بنصف المئة ويقضي بالنصف الآخر للشريكين؛ لأن المنفرد أقام ما هو حجة على الشريكين، وهما أقاما ما هو حجة على المنفرد فلهذا قسمت المئة نصفين.
قال: نصراني مات وترك مئتي درهم وترك ابنين نصرانيين فأسلم أحدهما، ثم جاء رجل وادعى على الميت مئة درهم فأقام شاهدين نصرانيين، فإن القاضي يقضي بذلك في نصيب الكافر؛ لأن ما أقام المدعي حجة على الابن النصراني دون الابن المسلم لما فيها من الضرر للمسلم، فلم تصح على المسلم وصحت على الكافر فيستوفي الدين من نصيب من صحت البينة عليه، كما لو أقر أحد الابنين بذلك ولا يدخل الابن النصراني على أخيه المسلم في نصيبه، قال محمد في الكتاب: ولا يشبه هذا الدين وأراد به المسألة الأولى، فإن هناك المسلم الشريك إذا أخذ شيئاً من المئة يدخل عليه الشريك النصراني، وهاهنا الابن النصراني لا يدخل على أخيه المسلم في نصيبه.
والفرق بينهما: أن النصراني الشريك إنما يزاحم المسلم الشريك بسبب الدين، ودين النصراني ثابت في ذمة الميت، لم يرد عليه الاستحقاق، إنما ورد الاستحقاق على المال الذي نفع به القضاء، فيبقى دينه في ذمة الميت، ويجعل ما أخذه المسلم كالهالك، وإذا بقي دين النصراني الشريك وجبت الشركة في باقي المال، فأما الميراث إنما يجب بعد الدين، فإذا ثبت الدين في حق الابن الكافر بطل به ميراثه والشركة بناء عليه، فإذا بطل الميراث بطلت الشركة، وفي مسألة الدين إذا بقي تثبت الشركة في محل الحق فلهذا(8/410)
(136ب4) افترقا وذكر عين هذه المسألة في «المنتقى» .
وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله: إني أقضي بنصف الدين في حصة النصراني وأبطل النصف، وذكر عن أبي يوسف رحمه الله أني أقضي بذلك في حصة النصراني، ولا أقضي على المسلم بشيء وتبين بما ذكر في «المنتقى» أن المذكور في قول أبي يوسف ومحمد وستأتي هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم ادعى أن فلاناً النصراني مات، وأوصى إليه وأقام شهوداً من نصارى فإن أحضر غريماً نصرانياً قبلت الشهادة عليه قياساً واستحساناً، وعدى إلى غيره لما نبين بعد هذا في الوكالة، وأما إذا أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل شهادتهم عليه، وهو قول محمد رحمه الله أولاً وفي الاستحسان تقبل.
وجه القياس: أن هذه شهادة الكافر على المسلم مقصوداً فلا تقبل، وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد في «الكتاب» : أن موت النصارى لا يحضره المسلمون، ومعنى هذا الكلام أن الإيصاء غالباً إنما يكون حالة الموت في دورهم، والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فلو لم تقبل شهادتهم على المسلم في إثبات الموت والإيصاء أدى إلى ضياع حقوقهم المتعلقة بالموت والإيصاء فتقبل إحياءً لحقوقهم، وإن كان الإحياء قد يحصل بحضرة المسلمين اعتباراً للغالب، ألا ترى أن شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال صارت حجة للضرورة، وإن كان الحادثة بحال يجوز للرجال حضور تلك الحادثة لتحمل الشهادة اعتباراً للغالب، كذا هاهنا والذي بينا من الجواب في الوصاية فهو الجواب في النسب، حتى لو أقام نصراني بينة من النصارى، أن فلاناً مات وأنه ابنه ووارثه لا يعلمون وارثاً غيره وأحضر غريماً للميت كافراً، تقبل شهادتهم قياساً واستحساناً، فإن أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل لما مر، وفي الاستحسان تقبل؛ لأن النسب إنما يثبت بالفراش والفراش إنما يثبت بالنكاح ونكاح أهل الذمة إنما تكون في دورهم غالباً ولا يحضره المسلمون في الغالب فلو لم تقبل شهادتهم أدى إلى تضييع حقوقهم المتعلقة بالنسب.
ولو أن مسلماً أدى وكالة من نصراني بكل حق له بالكوفة وأحضر غريماً مسلماً وأقام عليه شهوداً نصرانياً لا تقبل؛ لأن هذه (شهادة) نصراني قامت على المسلم مقصوداً فلا تقبل، فرق بين الوصاية والوكالة، والفرق ما ذكرنا: أن الإيصاء غالباً يكون حالة الموت في دورهم والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فقبلنا شهادتهم صيانة لحقهم عن البطلان، أما الوكالة فتقع خارج دورهم غالباً، والمسلمون يخالطوهم خارج دورهم، فأمكن إشهاد المسلمين عليها، فلا ضرورة إلى قبول شهادة أهل الذمة، فإن أحضر نصرانياً قبلت شهادتهم لكونها حجة على النصراني، وإذا قبل القاضي هذه الشهادة وقضى له بالوكالة كان ذلك قضاءً على جميع الغرماء من المسلمين وغيرهم، حتى لو أحضر غريماً مسلماً بعد ذلك، وهو يجحد وكالته، لم يكلفه القاضي إقامة البينة على(8/411)
الوكالة في حق جميع من كان بالكوفة لما مر قبل هذا، وقد يثبت الشيء ضرورة غيره، وإن كان لا يثبت مقصوداً بينته، كعزل الوكيل لا يثبت حال غيبة الوكيل مقصوداً، ويثبت ضرورة نفاذ بيع ما يوكل ببيعه كذا هاهنا.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل مات وترك ابنين، أحدهما مسلم والآخر نصراني، فقال المسلم منهما: أسلم أبي قبل موته وأنا وارثه، وقال النصراني: إنه لم يسلم وأنا وارثه، فالقول قول النصراني منهما؛ لأنه عرف كونه كافراً، فالنصراني تمسك بالأصل وهو بقاء الكفر، والمسلم يدعي زواله بالإسلام، فكان القول قول من يدعي البقاء، ولأن اختلاف الدينين مانع من جريان الإرث وقد عرف وجود، فإذا ادعى الابن المسلم الإسلام فقد ادعى زوال المانع، والابن ينكر، والقول قول المنكر ولكنه يصلي على الميت بإخبار الابن المسلم أنه أسلم لأنه أخبر بخبر ديني وهو وجوب الصلاة عليه، وخبر المسلم الواحد في أمور الدين مقبول، فيصلي عليه وليس من ضرورة الصلاة عليه ثبوت استحقاق الميراث للابن المسلم، لأنه ينفصل أمر الصلاة عن الميراث في الجملة فلم يكن من ضرورة استحقاق الميراث للابن المسلم، ولو أقام المسلم نصرانيين أنه مات مسلماً وأقام النصراني مسلمين أو نصرانيين أنه مات نصرانياً قضيت بالميراث للمسلم منهما، أما إذا أقام النصراني نصرانيين؛ لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على النصراني، والابن النصراني أقام ما ليس بحجة على الابن المسلم، وأما إذا أقام النصراني مسلمين؛ فلأنه وإن أقام ما هو حجة على المسلم ولكن مع هذا ترجحت بينة المسلم لوجهين.
أحدهما: أن البينات للإثبات وبينة المسلم تثبت أمراً حادثاً وهو الإسلام ويثبت استحقاق الميراث للابن المسلم وبينة النصراني تنفي ذلك، فلهذا جعلنا القول قول الابن النصراني، لأنه ينفي استحقاق الابن المسلم، فتكون البينة بينة المسلم؛ لأنه يثبت الاستحقاق لنفسه.
الوجه الثاني: أن الإسلام أقوى قال عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فكان الترجيح لبينة المسلم من هذه الوجوه، ولهذا قلنا: إن المولود بين مسلم وكافر يكون مسلماً تبعاً للمسلم بهما لقوة الإسلام، كذا بهذا، وأما حكم الصلاة فإنه يصلى عليه لا بالشهادة فإن الشهود نصارى فلا تقبل شهادتهم في الأمور الدينية، والصلاة أمر ديني، ولكن لإخبار الابن المسلم بإسلامه، وخبره حجة في حق الصلاة عليه كما ذكرنا، فإن كان للميت بنون صغار ورثتهم عن الميت مع ابنه المسلم، وجعلتهم مسلمين؛ لأنه لما قضى بالميراث للابن المسلم بالبينة فقد قضى بإسلام الأب لا محالة ليمكن توريث(8/412)
المسلم منه، فإذا جعلناه مسلماً لابد من الحكم بإسلام أولاده الصغار تبعاً له؛ لأنهم يتبعون خير الأبوين في الدين، قال في «المنتقى» : فلو لم يقم الابن المسلم بينة على إسلام أبيه قبل موته حتى ادعى رجل على الميت ديناً، وأقام بينة من النصارى على إسلام الأب قبل موته قال محمد رحمه الله: إن كان الغريم مسلماً لم أبطل دينه بشهادة أهل الذمة ولم أرد القضاء، وإن كان ذمياً رددت القضاء وأنفدت للابن المسلم جميع الميراث، أما إذا كان الغريم ذمياً؛ فلأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني وعلى الغريم فثبت وراثته واستحقاقه التركة، ولم يثبت استحقاق الغريم بما أقام من الحجة؛ لأن ما أقام من الحجة، ليست بحجة لا في حق الابن المسلم ولا في حق الميت لأنا حكمنا بإسلامه ضرورة الحكم بميراثه للابن المسلم، وأما إذا كان الغريم مسلما فلأن ما أقام الابن المسلم من الحجة ليست حجة في حق الغريم، فلم تثبت وراثة الابن المسلم في حق الغريم، فلا يحتاج الغريم إلى إقامة البينة على الابن المسلم، وإنما يحتاج إلى إقامتها على الابن النصراني، وما أقام الغريم حجة في حق الابن النصراني.a
قال: ولو لم يكن يترك الميت مالاً وأقام الابن المسلم شهادة من النصارى على أنه مات مسلماً، وأراد أحد أخويه الصغار لم تقبل بينته عل ذلك، بخلاف ما إذا ترك مالاً.
والفرق: أنه إذا ترك مالاً فبينة الابن المسلم من أهل الذمة إنما تقبل على المال وعلى الميراث، ومن ضرورة قبولها على الميراث القضاء بإسلام الميت، فيتعدى ذلك إلى أولاده الصغار، فأما إذا لم يترك مالاً لا يمكن قبول بينة أهل الذمة على المال لانعدامه، ولا يمكن قبولها على إسلام الميت وحده، لأنه أمر ديني، وشهادة أهل الذمة لا تقبل في الأمور الدينية، وهذا الحكم لا يختص بهذا الموضع بل في كل موضع يشهد قوم من أهل الذمة على إسلام ميت، إن كان الميت لم يترك مالاً تقام البينة لأجله لا تقبل شهادتهم ولا يحكم بإسلامه، وروى «المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أقبل شهادة أهل الذمة على إسلام الكافر في حالة الحياة وأقبلها بعد الموت، وإن لم يكن له ميراث يجب لأحد بشهادتهم، وروى عمرو عن محمد رحمه الله في «الإملاء» رجل من أهل الذمة مات فشهد مسلم عدل أو مسلمة أنه أسلم قبل موته (137أ4) وأنكر أولياؤه من أهل الذمة ذلك، فميراثه لأوليائه من أهل الذمة بحاله وإنه ظاهر، قال: وينبغي للمسلمين أن يغسلوه ويكفنوه ويصلون عليه، وكذلك إن كان محدوداً في قذف يعني المخبر بعد أن يكون عدلاً، قال: وشهادة الفساق من المسلمين على إسلامه لا تقبل ولا يصلى عليه بشهادتهم، قال: ولو شهد على إسلام النصراني رجل وامرأتان من المسلمين، وهو يجحد أجبر على الإسلام ولا تقبل.
ولو شهد عليه رجلان من أهل دينه وهو يجحد فشهادتهما باطلة، قال: لأن في زعمهم أنه مرتد ولا شهادة لأهل الذمة على المرتد، ولو قال الابن المسلم: لم يزل كان مسلمااً وقال النصراني: لم يزل كان نصرانياً، فالقول قول المسلم، لأن كل واحد منهما يدعي ما هو أصل من وجه حادث من وجه، أما الابن المسلم فلأنه يدعي الإسلام(8/413)
والإسلام أصل في بني آدم من وجه من حيث إنهم أولاد آدم وحواء وهما كانا مسلمين وحادث من وجه، من حيث إنه علم بالله تعالى ورسله وكتبه والعلم حادث، وأما الابن النصراني فلأنه يدعي الكفر، والكفر أصل من وجه من حيث إنه جهل والجهل أصل في الأدمي حادث من وجه من حيث إن الأصل في الأدمي الإسلام تبعاً لآدم وحواء، فهو معنى قولنا: إن كل واحد منهما يدعي ما هو الأصل من وجه، وما هو حادث من وجه، فاستويا من هذا الوجه وترجح دعوى الابن المسلم لقوة الإسلام وعلوه، فجعلنا القول قول الابن المسلم، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن المسلم أيضاً، لأنها تثبت أمرا حادثاً وهو العلم.
ولو أن الابن المسلم، أقام بينة على إسلام الأب قبل موته من المسلمين، لم أقبل ذلك حتى يصفوا الإسلام.
وكذلك إذا أشهد شاهداً ادعى على نصراني حي أنه أسلم لا تقبل شهادتهما حتى يصفوا الإسلام، وهذا لأن الشاهدين عسى لا يعرفان ما يصير الكافر به مسلماً وما يحتاج إليه لدخوله في الإسلام، فإن لذلك شرائط وبعضها خفية، ويحمل ما عندهما غير ما هو عند القاضي، فلا بد من الوصف حتى ينظر القاضي فيه إن كان ذلك يوجب دخوله في الإسلام، يجعله مسلماً ومالا فلا، ألا ترى أنا شرطنا لقبول الشهادة على الزنا أن يفسر الشهود الزنا، لأنهم عسى يعرفون من أنواع الزنا أنه يوجب الحد، ولا يكون كذلك كذا هاهنا.
وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في آخر «شرح السير» أن الشاهد إذا كان فقيهاً تقبل شهادته من غير أن يصف الإسلام، وإذا كان جاهلاً لا تقبل شهادته ما لم يصف الإسلام.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإن كان الشهود غريم المسلم من المسلمين وقضيت بشهادتهم بحضرة الابن النصراني، ثم جاء الابن المسلم ببينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً؟ قال محمد رحمه الله: هو الوارث فيما كان للنصراني الميت من المال، ولا يقضي على الغريم بشيء، لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني دون الغريم المسلم، والقضاء بحسب الحجة، فيقتصر القضاء على الابن النصراني، واستشهد بما إذا كان البنون ثلاثة: أحدهم مسلم والآخران نصرانيان، فاقتسم النصرانيان الميراث نصفين، ثم أسلم أحد الابنين النصرانيين، ثم أقام الابن المسلم بينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً، فإني أقضي له على الوارث الذي لم يسلم ولا أقضي له على الذي أسلم، وطريقه ما قلنا.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإذا كان الغريم والابن المسلم أقام كل واحد منهما شاهدين ذميين، قال: إذا جاؤوا معاً فالخصم هو المسلم، لأنه يثبت وارثه بما أقام من البينة، وإنما تقبل بينة الغريم على الوارث، فإذا كان الوارث مسلماً فشهادة أهل الذمة ليست بحجة عليه، فلا يستحق الغريم بها شيئاً.(8/414)
قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في نصراني مات وترك ألف درهم، فأقام مسلم شهوداً من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم على الميت، فإنه يدفع الألف المتروك إلى المسلم، ولا يتحاصان فيها عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحاصان في الألف، وقول محمد كقول أبي حنيفة، وحاصل الخلاف راجع إلى أن بينة الغريم النصراني هل هي مقبولة في هذه الصورة؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: هي غير مقبولة وعلى قول أبي يوسف هي مقبولة، فأبو يوسف يقول: إن هذه شهادة قامت على الميت؛ لأنهم شهدوا بدين على الميت، والميت ذمي فتقبل شهادة أهل الذمة عليه، اقصى ما في الباب أنه إذا قبلت بينته وثبت دينه على الميت بشهادتهم، تضرر به الغريم المسلم، فإنه بخاصة في الألف المتروكة فينتقص حقه حيث لا يصل إليه تمام الأصل، ولكن لا يجوز أن يمتنع قبول الشهادة لأجلها، لأنه إنما يعتبر من قامت عليه الشهادة لا من يتعدى إليه في الجملة، ألا ترى أن شهادة أهل الذمة على الذمي بإعتاق عبده المسلم جائزة، وإن كان يتوهم تعدي الضرر إلى المسلم؟ فإنه تقبل شهادته بعد ذلك على سائر المسلمين، ولم يعتبر ذلك شهادة على المسلم فكذا هذا، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا بأن هذه شهادة قامت على الميت من وجه، وعلى الغريم المسلم من وجه، فتقبل في حق الميت الكافر، ولا تقبل في حق المسلم الغريم، وهذا لأن هذه الشهادة من حيث إنما قامت على أصل الدين، فهي شهادة على الميت، ومن حيث إن الدين بعد الموت إنما يتعلق بالتركة، والتركة مشغولة بدين الغريم المسلم، كانت هذه شهادة على المسلم، فهذه الشهادة حجة على الكافر دون المسلم، فقلنا: بأنه تقبل هذه الشهادة على الميت بثبوت الدين، ولم يظهر ذلك في حق المسلم، حتى لا يزاحمه في التركة، فإذا قضي دين الغريم
المسلم، فإن فضل شيء كان ذلك لأن دينه ثبت على الميت، وليس في ظهوره في حق التركة بعد فراغها عن دين المسلم إبطال حق المسلم، فقبلت بخلاف ما قبل فراغ التركة عن دين المسلم، لأن هناك في إظهاره في التركة إبطال حق المسلم عن التركة بشهادة الكفار، وإنه لا يجوز، قال ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: في نصراني مات وترك ابنين فأسلم أحدهما بعد موت أبيه، ثم إن رجلاً نصرانياً أقام بينته من النصارى أنه ابن الميت النصراني، قال: فإني أقبل بينته على النسب، فأجعله شريك النصراني منهما، ولا أجعله شريك المسلم فيما في يديه، لأن هذه الشهادة تضمنت إثبات النسب من الميت، وإنه مختص بالميت الذمي، فتقبل شهادتهم لإثبات هذا الحكم، وتضمنت استحقاق بعض ما في يد الاثنين؛ لأنه ظهر لهما شريك ثالث، فيكون له حق مشاركتهما وإنه حجة في حق الذي لم يسلم، فيثبت له حق مشاركته، وليست بحجة في حق الذي أسلم، فلا يثبت له حق مشاركته أيّاً ولعذر الحجة في حقه.
وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم.
استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه.
وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته.
وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر(8/415)
يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم.
استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه.
وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته.
فرع على ما إذا كان الابن واحدا
قال: وإن خرج للميت مال كان ذلك كله للمسلم؛ لأن وراثته ثابتة (137ب4) مطلقاً ووراثة الذمي غير ثابتة في حق الابن المسلم، فلا يكون له أن يشاركه فيه، قال: فإن مات المسلم ورث أخاه يريد به أن بعدما مات الابن المسلم فميراث الميت الذمي للابن الذمي؛ لأن نسبه لما ثبت من الميت ثبتت وراثته، إلا أنها لم تظهر في حق المسلم لمزاحمته إياه، فإذا مات انقطعت مزاحمته فورث هذا الابن. قال ابن سماعة: إنما لا يكون للابن الذمي حق المزاحمة مع الابن المسلم في هذه المسألة إذا أسلم قبل أن يثبت نسب الابن الذمي، أما لو ثبت نسبه قبل إسلامه بهذه البينة كان له مزاحمة الابن المسلم؛ لأنه حال ما أقام البينة هو في مثل حال ذمي فيقبل بينة أهل الذمة عليه فكان له أن يشاركه، فأما بعدما أسلم لم يثبت حق المشاركة بهذه البينة؛ لأنها ليست بحجة في حقه.
ولو مات مولى النصراني الميت ولم يمت الابن، فإني أجعل ميراثه من المسلم والنصراني. قال ابن سماعة: يعني إذا كان أسلم بعد موته، قال: لأن هذا مال حدث الساعة وليس بمنزلة مال تركه النصراني ميراثاً، أشار إلى ما ذكرنا أن بينة النصراني مقبولة في حق الميت حتى يثبت نسبه منه، وإنما لم يشاركه الابن المسلم فيما قبض؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه، فبقي ما أخذه الابن المسلم لا يظهر وراثته في حقه حتى لا يكون قضاء على المسلم بشهادة النصراني، فأما فيما سواه فالتركة مبقاة على حكم ملك الميت قبل القسمة على ما عرف في موضعه، فكانت هذه شهادة على الميت وإنما يستحق بها مال الميت، وشهادة أهل الذمة حجة في حقه، وكذلك إنما يرث من مولى النصراني بحكم الولاد أنه ثابت له بهذه البينة، فهذه الشهادة حجة في حقه؛ لأنه ذمي مثله فصلح أن يكون مستحقاً لميراثه بهذه البينة، وهذا استحقاق عليه لا على الابن المسلم لما قلنا، فلهذا كان ميراثه بينهما، وإنما فسره ابن سماعة بأنه أسلم بعد موته؛ لأنه لو كان أسلم قبل موته لا يرث منه لاختلاف دينهما.(8/416)
قال في «المنتقى» : وإذا شهد رجل على امرأته مع آخر أنها ارتدت والعياذ بالله، وهي تجحد وتقر بالإسلام فرقت بينهما وجعلت عليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها، قال: أقبل شهادة الزوج في الردة، ولا أبرئه عن المهر وأجعل جحودها للردة وإقرارها بالإسلام توبة، ولو شهدا عليه أنها أسلمت وهي تجحد، وأصل دينها كان النصرانية قبلت شهادتهما على الإسلام وأجعل جحودها وبيانها على النصرانية ردة ولا يبرأ من نصف المهر.
وفيه أيضاً: مسلم قال: إن دخل عبدي هذه الدار فهو حر، وقال نصراني: إن دخل هذا العبد هذه الدار فامرأته طالق، فشهد نصرانيين أنه دخلها بعد اليمينين، فإن كان العبد مسلماً لا تقبل هذه الشهادة، لأنهما شهدا على فعل مسلم، وإن كان العبد نصرانياً قبلت الشهادة على طلاق المرأة، ولا تقبل على عتق العبد، وهذا بناء على ما مر أن شهادة النصراني حجة في حق النصارى، وليست بحجة في حق المسلمين.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في النصرانيين شهدا على مسلم ونصراني أنهما قتلا مسلماً عمداً، قال: لا أجوز شهادتهما على المسلم وأدرأ عن النصراني القتل، وأجعل عليه الدية في ماله، أما لا تقبل شهادتهما على المسلم فظاهر، وأما درء القتل عن النصراني؛ لأن القتل واحد ولم يثبت في حق المسلم لقصور الحجة، فتورث الشبهة في حق الكافر والقصاص لا يستوفى مع الشبهات، قال: وأجعل عليه الدية في ماله، لأن الشهادة على قتلهما ليست بشهادة على اشتراكهما في جرح واحد، لكن هذه شهادة على جرح موجود من الكافر، وجرح من المسلم، فإذا شاهدا ظهور الموت عقيب الجرحين كان لهما أن يشهدا عليهما بالقتل، فأقصى ما في الباب: أن الجرح من المسلم لم يثبت لقصور الحجة، ولكنه قد تكاملت الحجة على الكافر، فيثبت جرحه، وظهور الموت عقيبه وتعذر إيجاب القصاص به للشبهة فوجبت الدية، ثم تجب الدية في ماله، لأن المشهود به القتل العمد، والعاقلة لا تعقل العمد.
قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في مسلم ادعى على مسلم ونصراني ألف درهم من ثمن متاع باعه منهما، وأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه وأقام شاهدين من النصارى عليهما بذلك، قبلت بينته على النصارى ويأخذ منه جميع الألف، ولا يرجع النصراني بذلك على المسلم، وإنما تقبل بينته على النصراني؛ لأن بينته حجة في حقه، ويأخذ منه جميع الألف، النصف بحكم الأصالة لقيام الحجة عليه، والنصف بحكم الكفالة؛ لأن هذه البينة تقتضي ثبوت الألف كلها عليهما، إلا أنها إن لم تعمل في حق المسلم؛ لأنها ليست بحجة عليه، أما هي حجة على الكفيل، فيعمل في حق الكفيل فيثبت المال عل المسلم فيما يرجع إلى استحقاق المطالبة والأخذ من يد الكفيل، وإن كان لا يثبت فيما يرجع إلى استحقاق مطالبة المسلم الأصيل والأخذ من يده.
واستشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو ضمن مالاً على رجل، والمدعى عليه ينكر المال، ولم تقم عليه بينة أن الضمان جائز؟ لأن شرط صحة الضمان(8/417)
وجوب المضمون على الأصيل في حق الكفيل وقد وجد؛ لأنه أقر بذلك وإقراره حجة عليه، إن لم (يكن) حجة على الأصيل، فكذا في مسألتنا ظهر وجوب الدين على المسلم في حق النصراني، وإن لم يظهر في حق المسلم لقيام ما هو حجة في حق الكفيل إن لم يكن حجة في حق المسلم الأصيل، فجاز أن يؤاخذ الكفيل بذلك، ثم لا يرجع الكفيل على المسلم، لأن الرجوع عليه من حكم ظهور الاستحقاق في حقه ولم يظهر؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه.
قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله: في نصراني اشترى من مسلم عبدا وقبضه وباعه من نصراني آخر، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيباً بعدما قبضه، وأقام بينة من النصارى، أن هذا العيب كان به عند المسلم قبل أن يبيعه من النصراني المشترى، كان له أن يرده على بائعه النصراني، وإن كان بائعه لا يقدر على رده على بائعه المسلم بهذه البينة، وبهذه المسألة يحتج أبو يوسف رحمه الله في مسألة الاستحقاق التي مرت في أول هذا الفصل، وقال: الشهادة في هذه المسألة لما تضمنت حكمين: الرد على النصراني، وولاية الرد لذلك النصراني على المسلم، وهذه البينة حجة في حق النصراني ليست بحجة في حق المسلم، ثبت حكمه في حق النصراني لقيام الحجة في حق النصراني، وإن امتنع ثبوت حكمه في حق المسلم فكذلك في المسألة المختلفة، ولكن الجواب عنه وهو الفرق أن في هذه المسألة المشهود به العيب وإذا كان مما يحدث مثله لم تكن البينة عليه مقتضية كون العيب ثابتاً من الأصل، ولكنه يليق بقدر ما يحتاج إليه الرد، فلم تكن هذه البينة مستمعة حكماً على البائع المسلم ليمتنع قبولها.
يوضحه: أن هذه البينة لا تثبت حق (الرد) إلا للمشتري الآخر؛ لأن المشتري الأول لا يقدر على رده إلا بعد عود قد تم ملكه إليه ولم يعد إليه بعد، وإذا لم تكن هذه البينة مثبتة حق الرد للمشتري الأول للحال، لم تكن هذه البينة قائمة على البائع المسلم بل هي قائمة على هذا البائع النصراني، وإنها حجة في حقه، فسمعت عليه وأما في المسألة المختلفة، فالمشهود به الملك المطلق، وهو الملك من الأصل، فإذا ظهر بالبينة أن الملك من الأصل للمستحق، ظهر بطلان ملك الباعة كلهم، فكانت قائمة على الباعة جميعاً، فيكون القضاء بها قضاء على جميع الباعة، فيكون قضاء على البائع المسلم، ولهذا لا تقبل بينة واحد من الباعة على الملك المطلق لنفسه، لأنه صار مقضياً عليه، ولهذا كان لكل واحد أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد.
والدليل عليه أنه انفسخ البياعات الواقعة عندهما على ما روى الخصاف رحمه الله، فثبت أنه قضاء على المسلم البائع، ولا يجوز القضاء على المسلم ببينة أهل الكفر.
ثم استشهد لإيضاح الفرق فقال: ألا ترى أن رجلاً اشترى عبداً فباعه من آخر فاستحقه رجل من يد المشتري، فرجع المشتري بالثمن على بائعه إن لبائعه أن يرجع على بائعه من غير إعادة البينة، وبمثله لو رده المشتري على بائعه بالعيب بالبينة لم يكن لبائعه أن يرده على(8/418)
من اشتراه منه حتى يعيد البينة عليه، وهذا إشارة إلى أن ما ذكرنا من الفرق، أن القضاء بالملك المطلق للمستحق قضاء على جميع الباعة، فاستغنى عن إعادة البينة؛ لأن تلك البينة قائمة (138أ4) عليه لأنها قامت على من انتصب خصماً منه وهو المشتري بخلاف مسألة العيب، لأن البينة على العيب قائمة على البائع دون بائع البائع؛ لأنه لا يتعدى حكمه إليه للحال كما ذكرنا.
والذي يوضح الفرق أن القضاء بالملك، لما كان قضاء بالملك من الأصل لابد وأن يكون البائع المسلم مقضياً عليه بشهادة الكفار وإنه لا يجوز، وأما شهادة الشهود على أن هذا العيب كان عند البائع المسلم، شهادة أنه كان في يد البائع الكافر الذي اشتراه من المسلم، لأنهم شهدوا ببقاء ذلك العيب إلى هذا الوقت، فقد شهدوا بقيام العيب عند البائع النصراني وشهادتهم حجة عليه، فقبلت وثبت قيام هذا العيب في يده وشهدوا أيضاً بإسناد عيب إلى زمان سابق، وهو حال ما كان في يد المسلم وشهادتهم ليست بحجة عليه، فيثبت قدر ما أمكن إثباته بشهادتهم، وهو كون العيب موجوداً في يد الكافر دون المسلم، وإنه غير مستحيل، ليكون عملاً بقدر الدليل.
قال ابن سماعة: سمعت محمداً رحمه الله يقول في المسلم قطع يد النصراني عمداً، وادعى القاطع أنه يعني القاطع عبد لنصراني، وادعى المقطوعة يده أنه حر، فأقام رجل وامرأتين من المسلمين على أنه أعتقه مولاه منذ سنة، قال: أجعله حراً وأقتص منه وهذا لأنه ادعى لنفسه حق استيفاء القصاص من القاطع، ولا يمكنه ذلك إلا بإثبات حرية القاطع، فالقصاص في الأطراف لا يجري بين العبيد ولا بين العبد والحر، وإذا كان لا يمكنه إثبات القصاص إلا بإثبات العتق صار خصماً في حق إثبات العتق، فهذه بينة قامت على خصم فقبلت.
وكذلك العبد لا يمكنه دفع القصاص إلا بإنكار العتق فانتصب خصماً عن مولاه في إنكار العتق، فقامت هذه البينة على خصم فقبلت هذه البينة.
ثم الثابت بهذه البينة في صورة جريان القصاص فكان كاللإحصان في باب الرجم، وأنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين عندنا كذا هذا.
وإن أقام المقطوعة يده شاهدين نصرانيين أن مولاه اأعتقه عند شهر وأراد أن يقتص له، فإنه يعتق بهذه الشهادة ولا أقتص من القاطع المسلم بشهادة النصرانيين؛ لأن هذه الشهادة حجة على المولى النصراني، فثبت العتق في حقه بهذه الشهادة، وليست بحجة على القاطع، فلم يظهر العتق في حقه لاستيفاء القصاص منه، وقالوا: ينبغي أن يكون القضاء بالعتق في هذه الصورة قولهما؛ لا قول أبي حنيفة رحمه الله فإن أبا حنيفة رحمه الله، لا يرى قبول الشهادة على عتق العبد بدون دعواه، ولم يوجد هاهنا دعوى العبد فإنه منكر لذلك.
قال: ألا ترى لو أن مسلماً قال: إن طلق فلان النصراني امرأته فعبدي حر فشهد نصرانيان أن فلاناً طلق امرأته بعد هذا القول أني أطلق امرأة النصراني، ولا أعتق عبد(8/419)
المسلم؟ لأن الشهادة حجة في حق النصارى دون المسلم، والطلاق منفصل عن العتق فأمكن إثبات أحدهما دون الآخر، فيثبت الطلاق دون العتق ويجعل في حق العين كأن الطلاق غير نازل لعدم الحجة على ظهوره في حق المسلم كذا هذا.6
قال: ألا ترى أن نصرانياً لو مات وترك ألفاً لا مال له غيره فأقام كل واحد من مسلم ونصراني بينة من النصارى أن له عليه ألفاً، أنه يقضي بها للمسلم ولا يشاركه النصراني، لأن شهادة النصراني حجة على النصراني دون المسلم، فثبت بقدر الحجة فكذا هاهنا قال: ألا ترى أن نصرانياً في يده طيلسان أقام كل واحد من مسلم ونصراني نصرانيين أن النصراني أقر بالطيلسان له، أني أقضي به للمسلم؟ لما قلنا كذا هذا.
ألا ترى أن رجلاً لو شهد عليه ابناه أن لفلان عليه ألف درهم، فقال: إن كان لفلان علي ألف درهم فأمهما طالق، فشهد ابناه بالمال، أني أقضي بالمال ولا أطلق الأم إذا ادعت؟، لأن شهادتهما للأم غير مقبولة، وللأجنبي مقبولة، فتقبل شهادتهما للأجنبي بالمال على وجه لا يظهر في حق أمهما كذا هذا.
وما ذكر محمد رحمه الله في ابتداء المسألة أن المقطوعة يده إذا أقام رجلاً وامرأتين من المسلمين على أن المولى أعتقه اقتصصت منه قوله.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت أبا يوسف عن رجل قال: إن اشتريت خمراً فعبدي حر، فشهد رجل وامرأتان أنه قد شرب الخمر، قال: أعتق العبد ولا أحده، ولا فرق بين المسألتين لأن الثابت في المسألتين بهذه البينة في صورة الشرط جريان القصاص، وفي صورة الشرط جريان الحد.
ولو شهد رجل وامرأتان أن لفلان على زوج إحدى المرأتين ألف درهم، وقد كان قال الزوج: إن كان لفلان علي ألف فأنت طالق، فإني أقضي بالمال ولا أطلق المرأة؛ لأنها شهدت لنفسها بوقوع الطلاق، ولأجنبي بالمال فتقبل الشهادة للأجنبي ولم أثبت المال عليه في حق كونه شرطاً لوقوع الطلاق لما ذكرنا من المعنى كذا هذا.
قال في كتاب الرهن: ذمي مات وادعى ذمي بعض متاعه رهناً وأقام بينة من أهل الذمة، وادعى مسلم عليه ديناً، وأقام بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة فإني آخذ بينة المسلم فأبدأ بدينه حتى يستوفي المسلم ماله، فإن بقي شيء كان للذمي، وهذا لأن بينة الذمي قامت بالدين على الميت وعلى الغريم المسلم بالمزاحمة، وإنها حجة تامة في حق الميت لأنه كافر، وليست بحجة في حق المسلم، فلم يظهر الدين بهذه البينة في حق المزاحمة للمسلم، وبينة المسلم حجة على الميت والغريم النصراني فكانت أولى، فلهذا يبدأ بدين الميت، ثم قال: ولا يجوز رهن الذمي حتى يستوفي المسلم دينه؛ لأن الحجة على الرهن بشهادة أهل الذمة، وإنها ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت الرهن في حقه فكأن أخص به كما في غيره من التركة، فإن كان شهود الذمي مسلمين وشهود المسلم(8/420)
ذميين أو مسلمين كان الذمي أحق بالرهن حتى يستوفي دينه، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت وعلى صاحبه فقبلت بينتهما، وثبت ببينة الذمي اختصاص الذمي بالرهن، ولم يعرف مثل هذا الاختصاص للمسلم به فصار الذمي أولى بالرهن من هذا الوجه.
قال في «المنتقى» : عبد باعه نصراني من نصراني، ثم باعه المشتري من نصراني آخر ثم وثم، حتى تداولته عشرة أيد من الباعة كلهم نصارى، ثم أسلم واحد منهم، ثم ادعى العبد أنه حر الأصل وأقام على ذلك شهوداً من النصارى، قال زفر رحمه الله: لا تقبل بينته سواء أسلم أولهم أو آخرهم أو أوسطهم حتى يقيم بينة من المسلمين، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان المشتري الآخر هو الذي أسلم لم تقبل بينته، وإن كان غيره أسلم قضي بعتقه، ويرادون الثمن فيما بينهم حتى ينتهوا إلى المسلم، فلا يؤمر برد الثمن ولا من قبله من الباعة، فإن كان العبد أقام البينة على الإعتاق فإن أقام بينة أن البائع الأول قد أعتقه وقد أسلم الأول والشهود نصارى لا أقبل بينته، وكذلك إن كان الأوسط هو الذي أسلم لا تقبل بينته على عتق الأوسط وعلى عتق من بعده، وتقبل بينته على عتق من قبله وهذا قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: أي الباعة أقام عليه البينة من النصارى أنه أعتقه، الذي قبل المسلم والذي بعده سواء تقبل شهادته وقضى بعتقه إلا أن تقوم البينة على المسلم فلا تقبل، وإذا أقام على غيره يتراجعون حتى ينتهوا إلى المسلم فلا يرجع عليه ولا على من قبله إلا أن يقر بذلك، ويترادون بالثمن حتى ينتهوا إلى الذي أعتقه.
قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة والكفالة: إذا ادعى مسلم على كافر مالاً، وادعى ضمان مسلم عنه، وأقام بينة من أهل الكفر بأصل المال وبكفالة المسلم عنه، فإن المال ثبت في حق الأصيل، ولا يثبت في حق الكفيل؛ لأن شهادة أهل الذمة حجة في حق الأصيل؛ لأنه ذمي وليس بحجة في حق الكفيل لأنه مسلم، فصار في حق الكفيل كأنه لم يقم البينة أصلاً وإنما وجد في حقه مجرد الدعوى.
ولو أن رجلاً مسلماً كفل لكافر عن كافر بألف درهم، فقال الكافر الذي عليه الأصل: لم آمره أن يضمن عني، فجاء المسلم بشاهدين من أهل الكفر (138ب4) أنه قد أمر بالضمان، وأقر الطالب أنه قد استوفى منه المال كان (له) أن يرجع عليه؛ لأن شهادة الذمي حجة على الذمي كشهادة المسلم، ولو شهد بذلك الأمر شاهدان مسلمان، وأقر الطالب أنه استوفى رجع الكفيل بذلك على الذي عليه الأصل فكذلك هذا.
قال: وإذا ادعى رجل مسلم على رجل مسلم مالاً وجحده المطلوب، وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة بالمال بأمره وجحد الكفيل ذلك، فشهد رجلان من أهل الذمة على ذلك، فإنه لا يجوز على المسلم شيء من ذلك، ويجوز على الذمي حتى يؤخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى لا يرجع على الأصيل، هكذا ذكر في عامة روايات هذا الكتاب، وذكر في بعض روايات هذا الكتاب، وقال: لا تقبل الشهادة أصلاً، وجه ما(8/421)
ذكر في بعض روايات هذا الكتاب وهو أن الكفيل يتحمل عن الأصيل ولا يلزم الأصيل شيء بهذه الشهادة فلا يلزم الكفيل، وجه ما ذكر في بعض الروايات: أن شهادة أهل الذمة حجة في حق الذمي الكفيل وليس بحجة في حق الأصيل، فيثبت بهذه الشهادة المال على الأصيل في حق الكفيل، وإن كان لا يثبت في حق الأصيل نفسه، ويجوز أن يعتبر الدين واجباً في حق الكفيل، ولا يعتبر في حق الأصيل كمن قال: لك على فلان ألف درهم فكفلت لك عنه، وأنكر الأصيل أخذ الكفيل به ولم يؤاخذ به الأصيل فكذلك هذا.
وإذا كان الصك عليهما فكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بجميع المال بشهادة أهل الذمة وهما يجحدان، فإن الذمي يؤخذ بالمال كله ولا يؤخذ المسلم، وإذا أدي لا يرجع على المسلم وقد مرت المسألة من قبل، وإذا كفل مسلم بنفس ذمي أو بمال عليه لمسلم أو لذمي وشهد عليه أهل الذمة فإن جحد المسلم الكفالة لم يجز ذلك عليه؛ لأن شهادة أهل الذمة ليست بحجة على المسلم، وإن أقر بها جاز ذلك عليه لإقراره، فإن أدى المال وشهد شهود من أهل الذمة أنه كفل بأمره، رجع به لأن شهادة أهل الذمة حجة على الذمي، وفي إثبات الأمر قامت على ذمي لمسلم فقبلت.
قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله في رجل مسلم أذن لعبده النصراني في التجارة فشهد عليه نصرانيان أنه اشترى متاعاً بألف درهم، جاز وقد مرت المسألة من قبل.
ولو شهد نصرانيان عليه أنه قتل هذا الرجل أو فرسه، لا تجوز شهادتهما على قتل الرجل ويجوز على قتل الفرس، لأن ضمان استهلاك الفرس يلزم العبد فكان هو الخصم، والشهادة إنما تقوم حجة عليه وهو كافر، فصح ولزم، وأما حكم القتل وهو وجوب القصاص إن كان عمداً وإن كان خطأ، فالتخيير بين الدفع والفداء، إنما يلزم المولى باعتبار أنه تلف بمال نفسه في القصاص، ويستحق عليه دفع العبد الذي هو ملكه في الخطأ، وعلى كلا الوجهين، هذه الشهادة قامت على المولى وهو المسلم، فلا تقبل شهادتهما عليه فهذا عندهما، فأما عند أبي يوسف رحمه الله، تقبل البينة عليه في القصاص دون المال في الخطأ.
قال محمد رحمه الله: وأصل ذلك أن كل شيء أجزت إقراره فيه لو أقر به أجري عليه شهادة أهل ذمته إذا أنكره؛ لأن مولاه أذن له في ذلك وإقراره فيه جارٍ، وبيانه: أن إقرار الإنسان إنما يصح على نفسه لا على غيره، وإذا صححنا إقراره علم أن المقر به بحصته، ولا يتعدى بسببه شيء إلى غيره؛ إذ لو كان كذلك لامتنع صحة الإقرار لمكان ذلك الغير، فلما جاز إقراره في ضمان المبايعة وضمان استهلاك الفرس علم أن هذا حكم بحصته، فإذا أنكر وقامت عليه البينة بذلك من أهل الكفر، فهذه شهادة قامت عليه لا على المسلم فقبلت، وما لا يصح إقراره فيه علم أنه حق غيره، فإذا أنكر لا يمكن إثباته إلا على ذلك الخصم.
قال: ألا ترى لو أن رجلاً أمر هذا العبد وهو محجور عليه أن يشتري له عبد فلان(8/422)
بثمن مسمى، فأذن له المولى في ذلك فاشترى منه إنه جائز؟ لأن العبد من أهل الشراء لأنه كلام وهو من أهل الكلام الصحيح وإنما امتنع نفاذ تصرفه لضرر يلحق المولى، فإذا رضي له بعد ذلك، فإن جحد أن يكون اشتراه فشهدت عليه بينة من النصارى أنه اشتراه جازت شهادتهم، لأن هذه شهادة على العبد وهو كافر، والضرر الذي يلحق المولى من جهة العبد قد وصى بذلك حين أذن له.
قال: عبد أو صبي مأذون له في التجارة شهد عليه ذميان بغصب أو وديعة أو بضاعة أو مضاربة استهلكها أو جحدها أو شهدا بإقراره بذلك أو شهدا عليه ببيع أو شراء، أو قرض، أو رهن وهو يجحد فإنه لا يخلو، إما أن كان المشهود عليه مسلماً والآذن وهو المولى أو الوصي كافراً، أو كان الآذن مسلماً أو المشهود عليه كافراً فان كان المشهود عليه مسلما لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن وهو مسلم، ولا شهادة للكافر على المسلم، وإن كان المشهود عليه كافراً تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن، وإنه كافر فيقبل شهادتهما، ولا يمنع قبول هذه الشهادة لمكان ضرر المولى؛ لأنه قد رضي به حين أذن، ألا ترى أنه جاز إقراره على نفسه بذلك وإن لحق المولى ضرر لما ذكرنا.
ثم إذا قبلت هذه الشهادة فظهر عليه الدين تباع رقبته فيه، لأن الدين إنما يجب في ذمة العبد شاغلاً بالبينة، فإن باع العبد بألف درهم وأوفى الغريم دينه وهو ألف درهم ثم أقام مسلم شاهدين مسلمين أن له على العبد ألف درهم دين قبل أن يباع، فإنه يأخذ الألف من الغريم الذي كان قضاه ويدفعه إلى هذا المسلم، لأن شهادة شهود الغريم المسلم حجة على العبد والغريم الأول وشهادة شهود الغريم الأول ليست بحجة في حق الغريم المسلم لأنهم كفار، فلم يكن له أن يزاحمه فكان المسلم أولى به، ألا ترى أنه لو حضر وأقام شهوده قبل القضاء كان مقدماً عليه فكذلك بعده فصار هذا كالمقضي عليه بالملك المطلق لو أقام بنية على التاج رد عليه لأنه لو أقامها قبل القضاء قضي له، فكذلك بعده كذا هذا.
ولو كان شهود الغريم الأول مسلمين، والغريم الأول كافر ثم أقام مسلم أو كافر كافرين أنه كان له على العبد ألف درهم اشتركا فيه؛ لأن شهادة كل فريق حجة على الفريق الآخر، فاستويا في الاستحقاق فيشتركان في الألف ويكون بينهما نصفين، ألا ترى أن الغريم الثاني لو أقام شهوده قبل القضاء اشتركا فيه؟ فكذلك بعده.
قال: ألا ترى أن كافراً لو هلك فأسلم وارثه فأقام كافر مسلمين أن له على الميت ألف درهم فإن القاضي يقضي بالألف له قضاء من دينه، فإن قضى له بذلك، ثم إن مسلماً أو كافراً أقام كافرين أن له على الميت ألف درهم إن الغريم الثاني يشارك الغريم الأول على قدر دينهما؛ لأن هذه البينة قامت على الميت وإنه كافر فيقبل شهادة أهل الكفر عليه كما تقبل شهادة المسلمين، والغريمان كافران وشهادة أهل الكفر عليهما حجة كشهادة المسلمين، ولم تعتبر الشهادة الثانية قائمة على الابن إذ لو اعتبرت قائمة على الابن لما(8/423)
قبلت، لأن الابن مسلم إنما لم يفعل كذلك؛ لأن الغريم الأول لما استحق ألف بما هو حجة على الابن المسلم خرجت تلك الألف من أن تكون لذلك الابن فيه حق، فكان هذا استحقاقاً على الغريم لا على الابن، والغريم كافر فتقبل هذه الشهادة عليه.
فإن أذن المسلم لعبده الذمي في التجارة، فادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألفاً وأقام أحدهما مسلمين والآخر ذميين، فإن القاضي يقضي بالدين كله؛ لأن هذا قضاء على العبد وإنه كافر وقد أقام كل واحد منهما ما هو حجة عليه، ولكنه يبدأ فيوفي الذي شهد له المسلمان؛ لأن شهادة شهود المسلمين حجة على العبد وعلى صاحبه، وشهادة شهود صاحبه ليست بحجة عليه، لأنه مسلم وهو كافر، فلم (يجب أداء) دين صاحبه في حق مزاحمته، فإن فضل شيء كان للذي شهد له الكافر لأنه ثبت دينه على العبد فيستوفيه منه، فإن صدق العبد للذي شهد له الكافران اشتركا (139أ4) فيه؛ لأنه سقط حكم شهادة الكافرين؛ لأن شرط قبول الشهادة الإنكار من الخصم وقد انعدم وثبت الدين له على العبد بإقراره، وما يثبت بإقرار العبد في حالة الإذن والصحة مساو للدين الثابت بالبينة فلهذا اشتركا.
وكذلك إن كان الذي شهد له الكافران مسلماً، والذي شهد له المسلمان كافراً، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، فاستويا فاشتركا.
ولو أقام مسلم مسلمين بألف درهم على العبد، وأقام ذمي مسلمين أيضا بألف درهم، وأقام ذمي ذميين أيضا بألف درهم، فإن القاضي يقضي بدينهم على العبد فيباع العبد وما في يديه، فيعطى المسلم والذمي الذي شهد له المسلمان كل واحد منهما نصف ذلك، وإنما قضى القاضي بدينهم على العبد؛ لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على العبد، فوجب القضاء بها عليه إذ لا تنافي في الوجوب عليه فلا تقع المزاحمة، وإذا آل الأمر إلى الاستيفاء ووقعت المزاحمة وبيع العبد وما في يده ولم يف ذلك بالديون يقدم دين المسلم والذمي الذي شهد له شاهدان مسلمان، لأن ما أقام الذمي الآخر ليس بحجة في حق المسلم، فلم يظهر دينه في حق المسلم فلا يشاركه، والذمي الذي أقام مسلمين مع المسلم، أقام كل واحد منهما ما هو حجة في حقه، فقسم ثمن العبد وما في يده بينهما، ثم الذي شهد له الكافران يرجع على الذمي الذي شهد له المسلمان، فيأخذ نصف ما في يده، لأن دين المسلم يثبت بما هو حجة في حق هذا الذمي، ودين هذا الذمي ثبت بما ليس بحجة في حق هذا المسلم، فأي شيء يكون من ثمن العبد لا يكون لهذا الذمي حق المشاركة فيه معه، كان ينبغي أن يأخذ جميع ما في يده؛ لأن جميع ما في يده ثمن العبد وحق المسلم في ثمن العبد يقدم على حق الذمي، إلا أنه لا يأخذ جميع ذلك؛ لأنه أخذ كان للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ منه نصفه لأنه يساويه في ثمن العبد فلا يفيد أخذ الكل، أما إذا أخذ المسلم نصف ذلك لا يكون للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ شيئاً، لأن من حجة المسلم أن يقول: حصتك مما كان في يد هذا الذمي باق في يده ولا سبيل لك عليه.(8/424)
ولو كان أحد الغرماء كافراً شهد له مسلمان، والآخران مسلمان شهد لأحد المسلمين مسلمان، وللمسلم الآخر كافران، فإن ثمن العبد يقسم بين المسلم الذي شهد له مسلمان وبين الكافر نصفين لاستوائهما، فإن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، ثم يدخل المسلم الذي شهد له الكافران على الكافر، فيأخذ منه نصف ما في يده، لأن حجة كل واحد منهما حجة على صاحبه فيستويان في الاستحقاق.
ولو كان العبد مسلماً والمولى كافراً وأحد غريمي العبد مسلم شهد له كافران والغريم الآخر كافر شهد له مسلمان، فإنه يقضي للكافر دون المسلم لأن الكافر أقام ما هو حجة على العبد؛ لأن العبد مسلم وشهود الكافر مسلمون، والمسلم أقام ما ليس بحجة على العبد؛ لأن شهود المسلم كافران وليس للمسلم أن يشارك الكافر ويقول: شهودي حجة عليك كما فيما تقدم من المسائل؛ لأن المشاركة إنما تكون بعد ثبوت أصل الدين، وفي المسألة المتقدمة أصل الدين ثابت على العبد لأنه كافر وشهادة الكفار على الكافر حجة وفي هذه المسألة أصل الدين غير ثابت لأن العبد مسلم وشهادة الكفار على المسلم ليست بحجة.
ولو كان العبد مسلماً محجوراً عليه والمولى كافراً كان بمنزلة ما وصفت، يعني لا تقبل شهادة الكافر على العبد فيقضي للكافر الذي شهد له مسلمان ولا يقضي للمسلم الذي شهد له كافران، وهذا يشكل لأن المولى في العبد المحجور عليه هو المقضي عليه والضرر راجع عليه والمولى كافر فيكون شهادة الكفار حجة عليه ولكن الوجه في ذلك أن هذه الشهادة على إثبات فعل المسلم لا تقبل وقد مر هذا.
ولو كان العبد المحجور كافراً والمولى مسلماً فأقام مسلم ذميين على العبد بغصب ألف درهم، وأقام ذمي مسلمين عليه بغصب ألف درهم، فإن القاضي يقضي بثمن العبد للذمي؛ لأن الذمي أقام ما هو حجة على العبد وعلى المولى، فأما المسلم أقام ما ليس بحجة على المولى، والمقضي عليه في المحجور هو المولى.
قال: ثم إذا قبض الكافر دينه يشاركه المسلم فيما قبض؛ لأن أصل دينه قد ثبت على العبد، لأن شهوده حجة على العبد وعلى شريكه الذمي، فيثبت له حق المشاركة مع الذمي، لأن أصل دينه لم يثبت، لأن الخصم فيه المولى، وهو مسلم وصار هذا نظير العبد المأذون المسلم إذا شهد عليه كافران لمسلم بدين ألف درهم، وشهد عليه مسلمان لكافر بدين ألف وقضى القاضي بدين الكافر، وإذا قبض الكافر دينه فليس للمسلم أن يشاركه فيما يقبض؛ لأن دين المسلم لم يثبت، لأن العبد مسلم وشهود المسلم كفار.
والجواب عن هذا الطعن وهو الفرق بين المسألتين: أن في تلك المسألة العبد مسلم وشهود المسلم كفار، وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت دون المسلم على العبد، ولم يستحق المسلم شيئاً من كسبه، فلا يثبت للمسلم حق المشاركة في الكسب إنما يثبت بعد استحقاق الكسب بناء على ثبوت الدين على العبد، أما هاهنا العبد كافر، فأمكن القول بثبوت الدين على العبد، إلا أنه لا يقضى للمسلم بالمشاركة في(8/425)
الابتداء؛ لأن في الابتداء الاستحقاق على المولى، ودين المسلم لم يثبت على العبد في حق المولى، لأن المولى مسلم وشهود الغريم المسلم كفار، فإذا قضينا بدين الكافر وخلص ثمن العبد للكافر والمشاركة في هذه الحالة تقع استحقاقاً على الكافر.
قال: مسلم أو حربي أو ذمي أذن لعبده الذي ليس بمسلم في التجارة، فشهد عليه مسلمان لمسلم بدين، وذميان لمسلم بدين، وحربيان مستأمنان لمسلم بدين، فإن شهادة الحربيين لا تقبل.
أما إذا كان المولى مسلماً أو ذمياً، لأن العبد ذمي في هذه الصورة، لأنه بقي في دارنا على التأبيد تبعاً لمولاه، وهذه الشهادة على العبد، وشهادة أهل الحرب على الذمي لا تقبل.
وأما إذا كان المولى حربياً مستأمناً، فلأن المسألة متصورة فيما إذا اشترى الحربي عبداً في دار الإسلام، والحربي المستأمن لا يمكن من إدخال رقيق اشتراهم في دار الإسلام دار الحرب، بل يبقى في دارنا على التأبيد ويصير ذمياً، ولكن يقضى عليه بشهادة المسلمين والذميين، لأن شهادتهم حجة على العبد وعلى الغريم الآخر، وشهادة الغريم الآخر إن كانت حجة على العبد فهي ليست بحجة على الآخر، ثم يبدأ بدين المسلم الذي شهد له مسلمان، لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى المسلم الآخر، وشهادة شهود المسلم الآخر ليست بحجة على هذا المسلم.
ولو كان العبد ومولاه حربيين قضي بدينهم جملة، يريد به: إذا دخل الحربي دار الإسلام ومعه عبد حربي استأمن على نفسه وعلى العبد، والعبد يكون حربياً في هذه الصورة مثل المولى، ألا ترى أن المولى عن من إدخاله دار الحرب؟ وشهادة الحربي حجة على الحربي، كما أن شهادة المسلم والذمي حجة عليه، ولكن يبدأ بدين المسلم الذي ثبت بشهادة المسلمين؛ لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى الغريمين الآخرين، وشهادة شهود الغريمين الآخرين إن كانت حجة على العبد فليست بحجة على هذا المسلم، فلم يثبت دين الغريمين الآخرين في حق هذا المسلم، فلهذا بدأ بدينه.
كافران شهدا على كافر بدين أو وديعة أو طلاق أو إعتاق فأنفذ القضاء ذلك، ثم أسلم المشهود عليه، فإني أجيز ذلك، ولا أرده لأن القضاء قد تم لاستجماع شرائطه، وقيام حجة القضاء، وهي الشهادة، فإن شهادة الكافر حجة القضاء على الكافر، وإنه كان كافراً وقت القضاء فيلزمه ذلك بشهادتهم، وبإسلامه من بعده يظهر أن تلك الشهادة لم تكن حجة عليه فلا يظهر بطلان القضاء.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نصراني مات فجاءت امرأته مسلمة، فقالت: أسلمت بعد موته ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أسلمت قبل موته، فالقول قول الورثة، لأن المرأة ادعت ما هو حادث من كل وجه، لأن الإسلام بعد الكفر حادث من كل وجه، فكانت مدعية فلا يقبل قولها إلا بحجة.l
فإن قيل: لماذا لا تترجح دعواها بسبب الإسلام؟ قلنا: الإسلام إنما يعتبر ترجيحاً(8/426)
حالة المساواة في الدعوى ولا مساواة هاهنا.
فإن قيل: إذا كان الإسلام بعد الكفر حادثاً من كل وجه، والأصل في الحوادث أن يحال لحدوثها على أقرب الأوقات وأقرب الأوقات ما بعد موت الزوج يجب أن يجعل القول قولها لتمسكها بما هو الأصل، قلنا: هذا الأصل معارض بأصل آخر، فإن الأصل أن يجعل القول قول من يشهد له الظاهر، والظاهر شاهد للوارث، فإنها مسلمة للحال، والحال حكم في التعرف عما مضى في الدفع دون الإلزام كما في مسألة الطاحونة، فالحال يشهد للورثة وفي اعتبار الحال دفع الميراث لا إبطال شيء أو إلزام شيء على الغير، فوقعت المعارضة بين الأصلين فتساقطا، بقي ما ذكرنا وهو (139ب4) دعواها أمراً حادثاً من كل وجه خالياً عن المعارض فلا يقبل قولها إلا بحجة.
ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية، فتقول وهي مسلمة وقت الخصومة: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة: لا بل أسلمت بعد موته، فالقول قول الورثة أيضاً لما ذكرنا: أنها تدعي أمراً حادثاً من كل وجه.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل الحال حكماً في معرفة حكم ما مضى كما في المسألة المتقدمة، وهي مسلمة في الحال فيحكم بإسلامها فيما مضى، قلنا: الحال حكم ظاهر في الدلالة على الماضي، وليست بدليل قطعي والظاهر يصلح حجة للدفع، لا لإثبات شيء لم يكن، والورثة هم الدافعون في المسألتين جميعاً أما في المسألة الأولى فظاهر، وأما في المسألة الثانية فلأنهم ينكرون إسلامها فيما مضى لدفع الميراث تحقق أن سبب الحرمان ظهر في الفصلين وهو اختلاف الدين فهي تدعي الوراثة بعد ظهور سبب الحرمان بدعوى أمر حادث من كل وجه، والورثة ينكرون ذلك فكان القول قولهم.
قال في «الأصل» : وإذا مات الرجل وترك ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي مسلماً وقد كنت مسلماً أسلمت حال حياة الأب، فقال الآخر: صدقت وقد كنت أيضاً مسلماً أسلمت حال حياة الأب وكذبه الابن المتفق على إسلامه وقال: إنما أسلمت بعد موت الأب، فإن الميراث للابن المتفق على إسلامه؛ لأن وراثة الابن المتفق على إسلامه ثابت باتفاقهما، فإنهما يصدقان على موت الأب مسلماً وعلى إسلامه قبل موت أبيه.
وعلى الآخر البينة وذلك لأن الآخر ادعى أنه أسلم قبل موت أبيه، والابن المتفق عليه يقول: أسلمت بعد موت الأب، والإسلام أمر حادث من كل وجه، بعدما اتفقا على الكفر، والأصل في الحوادث أنه يحكم بحدوثها لأقرب ما ظهر، والابن المتفق على إسلامه بدعوى حدوث الإسلام لأقرب ما ظهر متمسك بما هو الأصل في الحوادث، فيكون منكراً والآخر مدعياً فكان عليه البينة ولا يحكم الحال.
وإن وقع الاختلاف في إسلام الابن المختلف فيه فيما مضى وهو مسلم للحال، فالحال يدل على ما مضى إذا لم يعرف حدوثه للحال، بخلاف مسألة الطاحونة، ووجه الفرق بينهما وهو: أن تحكيم الحال إنما يجوز لإثبات ما مضى إذا كان ما ثبت في الماضي ثابتاً للحال، لأن الحال يدل على الماضي إذا لم يعرف حدوثه للحال فأما إذا لم(8/427)
يكن ثابتاً للحال لا يجعل حكماً على ما مضى، ألا ترى أن في مسألة الطاحونة لو اتفقا على انقطاع في بعض مدة الإجارة واختلفا في مقداره، فإن قال المستأجر: كان الماء منقطعاً شهرين، وقال صاحب الطاحونة: لا بل انقطع شهراً، فإنه لا يحكم الحال ولكن القول قول المستأجر مع يمينه، لأنهما اختلفا في مقدار مدة الانقطاع، ومقدار مدة الانقطاع للحال غير ثابت إنما الثابت للحال نفس الانقطاع إن كان الماء للحال منقطعاً لا انقطاع، مقدار شهر أو شهرين، وكذلك إن كان القيام هو الحرمان، وفي مسألتنا حاصل الخلاف وقع في مقدار مدة الإسلام لا في نفس الإسلام إنه كان أو لم يكن، والثابت في الحال نفس الإسلام لا إسلام مقدر بقدر شهر أو شهرين، بخلاف ما لو اختلفا في انقطاع الماء، ادعى المستأجر انقطاعه وأنكر صاحب الطاحونة، وذلك لأن الاختلاف وقع في نفس الانقطاع فيما مضى لا في مقداره، ونفس الانقطاع للحال يدل على ثبوته فيما مضى، إذا لم يحدث للحال معاينة، فوجب تحكيم الحال على ما مضى.
وإذا كانت الدار في يدي ذمي، فادعى رجل مسلم أن أباه مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأقام بينة على ذلك من أهل الذمة، وادعى ذمي فيها مثل ذلك، وأقام بينة من أهل الذمة، فإنه يقضي بها للمسلم، وذلك لأن بينة المسلم حجة على ذي اليد وعلى من ينازعه وهو الذمي الخارج، وبينة الذمي إن كانت حجة على ذي اليد؛ لأن ذا اليد ذمي، فليس بحجة على المسلم الخارج، وكما يصير ذو اليد مقضياً عليه ببينة كل واحد من المدعين، فكل واحد من المدعيين الخارجين يصير مقضياً عليه في النصف من جهة صاحبه، ولهذا قالوا: لو ادعى أحد المدعيين النصف الذي قضي به لصاحبه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لا يسمع ما لم يدع تلقي الملك من جهة المدعيين، وإذا لم تكن هذه البينة حجة في حق الاستحقاق على المسلم، صار وجود مدة البينة في حق المسلم وعدمه بمنزلة، ولو عدم بينة الذمي أصلاً كان يقضي بجميع الدار للمسلم فكذا هذا، ولو كانت بينة الذمي مسلمين قضيت بالدار بينهما نصفان.
فرق بين هذا وبينما إذا مات الرجل وترك ابنين أحدهما مسلم والآخر ذمي، أقام كل واحد من الابنين بينة أن أباه مات على دينه، كانت بينة المسلم أولى، ولم تترجح بينة المسلم منهما، وذلك لأن في تلك المسألة البينتان إنما قامتا لإثبات إسلام الميت وكفره، وقد استويا في الإثبات من الوجه الذي ذكرنا، ويرجح ما يوجب الإسلام على ما يوجب الكفر على ما مر، فأما هاهنا البينتان قامتا لإثبات الملك لا لإثبات الإسلام والكفر، فإن ذلك ثابت باتفاق الخصمين، إلا أن أحدهما يثبت الملك للمسلم، والآخر للكافر، ولم يوجد ما يوجب ترجيح بينة المسلم في حق إثبات الملك له، فإن الكافر في تملك الأموال والمسلم سواء، ألا ترى أنهما لو أخذا صيداً أو اشتريا مالاً كان بينهما نصفين؟ فلهذا يقضى بينهما نصفين.
وإذا مات الرجل وترك داراً فقال ابن الميت وهو مسلم: مات أبي وهو مسلم وترك هذه الدار ميراثاً لي، وجاء أخ الميت وهو ذمي فقال: مات أخي وهو كافر على ديني(8/428)
وابنه هذا مسلم، فالقول قول الابن وله الميراث، وذلك لأن مدعي الكفر لو كان مساوياً للمسلم في الدعوى وسبب الاستحقاق، بأن كان ابناً كان القول قول المسلم بسبب الإسلام، فإذا كان دونه في سبب الاستحقاق أولى أن يكون القول قول المسلم.
ولو أقاما جميعاً على مقالتهما بينة أخذت بينة المسلم؛ لأن المدعي بكفر الميت لو كان مساوياً لمدعي الإسلام في الاستحقاق، بأن كان ابناً كانت بينة المسلم أولى، فإذا لم يكن مساوياً له في الاستحقاق أولى أن تكون البينة بينته.
ولو أقام الأخ بينة من أهل الذمة على ما قال ولم يقم الابن البينة لم أجز بينة الأخ ليست بحجة على الابن، لأنه مسلم ولا شهادة للكافر على المسلم، فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فأما إذا أقام الأخ مسلمين على ما ادعى من كفر الميت الآن يقضى بالميراث للأخ؛ لأن سبب الحرمان يثبت في حق الابن وهو كفر الميت؛ لأن الأخ أقام البينة على الكفر ولم يقم الابن بينة إنما له مجرد الدعوى ولا عبرة للدعوى بمقابلة البينة، وكان بمنزلة ما لو أقام الأخ البينة أن الابن قتل الأب والابن يقول: لم أقتل كان الميراث للأخ، بخلاف ما لو أقام البينة ولم يقم لهما بينة، لأن هناك الموجود مجرد الدعوى من الجانبين أو الدعوى مع البينة، ولا مساواة بين الدعوتين، وسبب الاستحقاق وحالة المسلم منهما أولى فحال عدم المساواة أولى أن يكون أولى.
وإذا كانت الدار ميراثاً في يدي ورثة فقالت امرأة الميت وهي مسلمة: زوجي كان على ديني في الأصل ومات وهو مسلم، وقال أولاده وهم كفار: بل مات أبونا وهو كافر وللميت أخ مسلم، فإن القول قول المرأة وذلك لأن المرأة ساوت الأولاد في الدعوى وسبب الاستحقاق، وعند الاستواء في الدعوى وسبب الاستحقاق يترجح قول المسلم منهما بسبب الإسلام، كما (لو) كان للميت ابنان وأحدهما مسلم يدعي إسلامه والآخر كافر يدعي كفره وإنما قلنا: استويا في الدعوى، لأن كل واحد منهما تمسك بما هو ثابت في الأصل من وجه وبما هو حادث من وجه، فاستويا في الدعوى والإنكار، وإنما قلنا: استويا في سبب الاستحقاق؛ لأن الزوجية سبب استحقاق الإرث كالولاد، ألا ترى أن المرأة تستحق الميراث على كل حال لا تحجب بوارث آخر كالولد إلا أن الولد يستحق الأكثر والمرأة الأقل؟ إلا أن العبرة لاستوائهما في أصل الاستحقاق لا في مقدار المستحق، ألا ترى أن المدعي لإسلام الميت لو كانت ابنته مسلمة والمدعي للكفر ابناً كافراً، كان القول قول الابنة لأنها ساوته في الدعوى والإنكار، وفي أصل الاستحقاق إن لم تساوه في قدر الاستحقاق فكذلك هذا، وإذا جعلنا القول قول المرأة يثبت إسلام الميت بقولها، فكان كالثابت بالبينة ولو ثبت بالبينة كان ما بقي بعد فرض المرأة للأخ لا للولد، فكذلك إذا ثبت بقولها.
ولو لم يكن له امرأة وكان له ابن كافر وأخ مسلم، فقال الأخ المسلم: مات على ديني، وقال الابن: لا بل مات كافراً، فإن القول قول الابن ولم يترجح قول الأخ بسبب الإسلام، وقد استويا في الدعوى فإن كل واحد منهما ادعى ما هو ثابت في الأصل من(8/429)
وجه وما هو حادث من وجه، وفي مسألة الزوجة مع الولد، وفي مسألة الابنين لما استويا في الدعوى والإنكار يرجح قول المسلم (140أ4) منهما بسبب الإسلام، ووجه الفرق بينهما: أن في مسألة الابنين إنما اعتبرنا الإسلام مرجحاً لأنهما استويا في الدعوى والإنكار وفي سبب الاستحقاق أيضاً، فإن سبب الاستحقاق لكل واحد منهما البنوة، فرجحنا قول أحدهما بسبب الإسلام، والابن والأخ إن استويا في الدعوى والإنكار لم يستويا في سبب الاستحقاق، فإن سبب الاستحقاق للابن البنوة وسبب الاستحقاق للأخ الأخوة ولا مساواة بينهما في الاستحقاق، فإن الابن لا يحجب بأحد والأخ يحجب بالابن، ولما لم يستويا في الدعوى وسبب الاستحقاق لم يمكن أن يعتبر للإسلام ترجيحاً، وكان كالولد الحادث بين أبوين كافرين وله جد مسلم، فإنه لا يحكم بإسلامه تبعاً للجد، لأنه لا مساواة بين الجد والأبوين في سبب التبعية، وهي الولاد؛ لأن الولاد بين الأبوين ثابت بغير واسطة وللجد مع الواسطة، ولما لم يستويا في سبب التبعية لم يعتبر للإسلام ترجيحاً فكذلك هذا.
الفصل الثاني عشر: في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به
بعض مسائل هذا الفصل ذكرناه في كتاب «أدب القاضي» فنذكر هاهنا ما لم يذكر ثمة، ذكر في «فتاوى النسفي» : إذا قال الشاهد بالفارسية: أين تدعي عليه أين محدود باسمه حدها وحقها دعي بفروخت بدين مدعى، ولم يقل: بهمه حدها وحقها فالشهادة صحيحة، قال ثمة: وقد وقعت هذه المسألة مرة بسمرقند، ومشايخنا أجابوا بالصحة، وهذا لأن معنى قوله بحدوده، مع حدوده لأن الحديد يدخل تحت البيع، ولو شهدوا بهمسه حدها دعي أليس أنه تصح الشهادة كذا هنا.
قالوا: فالصحيح من الجواب أن يقال: إن ذكر في الحدود لزيق دار فلان، أو ينتهي إلى دار فلان أو ما أشبهه فالشهادة صحيحة. وإن ذكروا دار فلان أو ذكروا في الحدود الطريق أو المسجد لا تصح الشهادة، وفي كتاب الشروط: إذا كتب أحد حدود هذه الدار دار فلان والثاني والثالث والرابع كذلك لا يكتب اشتريتها بحدودها، لأن الحد يدخل وإذا كتب أحد حدوده ينتهي إلى دار فلان أو ملازق دار فلان كتب اشتريتها بحدودها، وإذا غلظ الشاهد في أحد الحدود لا تقبل شهادته بخلاف ما إذا ترك أحد الحدود وقد ذكرنا هذا في كتاب «أدب القاضي» وإنما يثبت غلط الشاهد في ذلك بإقرار الشاهد: أني قد غلظت في ذلك، أما لو ادعى المدعى عليه أن الشاهد قد غلظ في الحدود أو في بعضها، لا يسمع دعواه، ولو أقام البينة على ذلك لا يسمع بينته، هكذا حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وهذا لأن دعوى الغلط من المدعى عليه على الشاهد إنما دعوى المدعي والجواب من المدعى عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بعد دعوى المدعي، والجواب من المدعى عليه، والمدعى عليه(8/430)
حين أجاب المدعي عن دعواه فقد صدقه أن المدعي بهذه الحدود، فيصير بدعوى الخطأ بعد ذلك في الحدود كلاً أو بعضاً متناقضاً.
أو يقول: تفسير دعوى الغلط في أحد الحدود، أن يقول المدعى عليه: أحد الحدود ليس ما ذكره الشهود، أو يقول: صاحب أحد الحدود ليس بهذا الاسم الذي ذكره الشهود، وكل ذلك نفي والشهادة على النفي لا تقبل.
وكذلك لو ادعى المدعى عليه إقرار المدعي بغلط الشاهد في الحد لا يسمع دعواه، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: إذا أخطأ الشاهد في بعض الحد، ثم تدارك وأعاد الشهادة وأصاب ذلك، قبلت شهادته عند إمكان التوفيق، سواء تدارك في ذلك المجلس أو في مجلس آخر وتفسير إمكان التوفيق، أنه قال: كان صاحب الحد فلان إلا أنه باع داره من فلان ونحن ما علمنا به، أو يقول: كان اسم صاحب الحد ما قلنا، إلا أنه سمي بعد ذلك بهذا الاسم ونحن ما علمنا وعلى هذا فافهم، هذا إذا ترك الشاهد أحد الحدود أو غلط، وأما إذا ترك المدعي أحد الحدود أو غلط فيه، فهو على نحو ما ذكرنا في الشاهد.
وإذا ادعى المدعى عليه أن المدعي أخطأ في أحد الحدود وكان ذلك بعدما قضي على المدعى عليه بنكوله أو ببينته لا تصح دعواه لوجهين.
أحدهما: ما ذكرنا في فصل الشاهد: أن المدعى عليه في دعوى الغلط بعدما أجاب المدعي عن دعواه متناقض.
والثاني: أن دعواه الخطأ في الحدود ليس فيه أكثر من إنكاره أن المحدود المدعى في يده، أو أن المحدود الذي يدعي ليس ملك ولا يندفع عنه دعوى المدعي من هذين الوجهين، وإن أقام على ذلك بينة كذا هاهنا.
إذا قال القاضي لمدعي العقار: هل تعرف حدود المدعى؟ قال: لا، ثم أعاد الدعوى وذكر الحدود لا يسمع دعواه، ولو قال: لا أعرف أسماء أصحاب الحدود يعني الجيران، ثم أعاد الدعوى وذكر أسماءهم يسمع دعواهم.
ولو أنه قال: لا أعرف الحدود ثم ذكر الحدود بعد ذلك وقال: عنيت بقولي لا أعرف الحدود، ولا أعرف أصحاب الحدود، قبل ذلك منه وسمع دعواه ثانياً إذا ذكر في الدعوى أو الشهادة أحد حدود الأرض المدعى لزيق أرض فلان، ولفلان في القرية التي فيها الأرض المدعى أراض كثيرة مختلفة متفرقة، صحت الدعوى وصحت الشهادة، وإن كان فيه نوع جهالة إلا أنها تحملت لضرورة، فإنه عسى لا تكون لأرض فلان علامة لكن يعرفها بتلك العلامة، وهذا هو الغالب من حال الأراضي في القرى، فيتعين للتعريف ذكر اسم صاحبه، ألا ترى أنه إذا ذكر في اسم صاحب الحد بناء محمد بن أحمد بن محمد فذلك يكفي وإن كان فيه نوع جهالة؛ لأن كثيراً من الناس يكونون بهذا الاسم والنسب، وقد تحمل ذلك لمكان الضرورة؟ فكذا هاهنا.
ولو ذكر في الحدود كنية صاحب الحد أبو فلان أو ذكر ابن فلان، فذلك لا يكفي(8/431)
إلا إذا كان صاحب الحد مشهوراً بذلك، كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله، وقد ذكرنا نظير هذا في كتاب «أدب القاضي» .
ولو ذكر في الحدود: لزيق أرض سيان ديهي فذلك لا يكفي؛ لأن سيان ديهي مجهول جهالة متفاحشة، فالأراضي التي غاب أربابها، أو مات أربابها ولا ولد لهم، تسمى: ديهي، وكذلك الأراضي تركت لرعي الدواب، ولم تدخل تحت القسمة تسمى: سيان ديهي، وكذلك إذا ذكر في الحد لزيق أرض وقف، فذلك لا يكفي وينبغي أن يذكر أنها وقف على الفقراء أو على مسجد كذا أو ما أشبهه.
وكذلك إذا ذكر في الحد أرض لزيق أرض ورثة فلان فذلك لا يكفي؛ لأن الورثة مجهولون، فمنهم صاحب فرض ومنهم عصبة ومنهم ذووا الأرحام، فكان مجهولاً جهالة متفاحشة، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا أن هذا وارث فلان، فالقاضي لا يقبل شهادتهم؟ وإنما لا تقبل لمكان الجهالة في الوارث.
يوضحه: أن المقصود من ذكر الحدود، وذكر صاحب الحد، التعريف، وربما يكون صاحب الحد من جملة ذوي أرحام فلان، ويكون بعيداً عنه بحيث لا يعرفه الناس وارثاً لفلان مع كونه وارثاً له حقيقة فلا يحصل به التعريف.
وإذا ادعى أرضاً مثلثة وذكر حدين لا غير والشهود أيضاً ذكروا حدين لا غير تصح الدعوى وتصح الشهادة، وهذا وما لو ذكر الحدود الثلاثة في الأرض المربعة على السواء، وإذا شهدوا بملكية الأرض وبينوا حدودها، وقالوا: هي مقدار خمس مكاييل بذر، والمدعي يدعي ذلك ذكر ذلك في دعواه وأصابوا في بيان الحدود إلا أنهم أخطؤوا في بيان المقدار فهي تسع قدر ثلاث مكاييل بذر، حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي أنه قال: لا تبطل دعوى المدعي ولا شهادة شهوده، لأن بيان مقدار البذر بعد ذكر الحدود غير محتاج إليه، فصار ذكره ولا ذكره سواء، وأجاب بعض مشايخ زمانه ببطلان الدعوى والشهادة.
وقد يجب أن تكون المسألة على التفصيل إن شهدوا بحضرة الأرض المدعى به وأشاروا إليها تقبل (140ب4) وبلغوا ذكر الوصف، وهو بيان قبول مقدار البذر، وإن شهدوا بغيبة الأرض لا تثبت بهذه الشهادة ملكية أرض تسع فيها خمس مكاييل بذر.
وقيل: لا تقبل البينة على كل حال وهو الأظهر والأشبه بالفقه.
وإذا جعل الحد طريق العامة لا يشترط أن يذكر طريق القرية أو طريق البلد، ويجب أن يعلم أن الطريق يصلح حداً، ولا حاجة فيه إلى بيان الطول والعرض إلا على قول لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله فإنه كان يقول: يبين الطريق بالذراع، والنهر لا يصلح حداً عند بعض أهل الشروط، وكذلك التنور وهو رواية عن أبي حنيفة، وظاهر المذهب أنه يصلح حداً وفي اشتراط حدود المستثنيات نحو الطريق والمقبرة والحياض اختلاف المشايخ، فمنهم من شرط ذلك ومنهم من لم يشترط، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول: إذا كانت المقبرة تلاً لا يحتاج إلى ذكر حدودها وإذا لم تكن تلاً يحتاج لأنها عسى تزداد.(8/432)
وإذا ادعى محدوداً في يد رجل وأحد حدوده أو جميع حدوده متصل بملك المدعي هل يحتاج إلى ذكر الفاصل؟ فقيل: لا يحتاج، ولو كان متصلاً بملك المدعى عليه يحتاج إلى ذكر الفاصل؛ لأن في الوجه الأول اختلاف اليد فاصل ولا كذلك في الوجه الثاني، وقيل: إن كان المدعى أرضاً فكذلك الجواب، وإن كان بيتاً أو داراً أو منزلاً فلا حاجة إلى الفاصل والجدار فاصل، وإذا كان المدعى أرضاً واحتيج إلى ذكر الفاصل، فذكروا الفاصل شجرة، فذلك لا يكفي هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي، وهذا لأن الشجرة لا تحيط بجميع المدعى به، والفاصل يجب أن يكون محيطاً بجميع المدعى به حتى يصير المدعى به معلوماً، فإذا ادعى أرضين محدودة معلومة، ثم ترك الدعوى في أحد الأرضين، وأدعى الأرض الأخرى ولم يذكر الحدود فقد قيل: لا تصح الدعوى ولا الشهادة لمكان الجهالة.
وإذا ادعى محدود في موضع كذا وبين الحدود ولم يبين أن المحدود ما هو كرم أو أرض أو دار، هل يوجب هذا جهالة في المدعى به؟ وإذا شهد الشهود على هذا الوجه هل تقبل شهادتهم؟ حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي: أنه لا تصح هذه الدعوى، ولا تقبل هذه الشهادة، وحكى فتوى شمس الإسلام الأوجندي: أن المدعي إذا بين المصر والمحلة والموضع والحدود يصح الدعوى، ولا يوجب ترك بيان المحدود جهالة في المدعى به، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يكتب في جواب الفتوى: لو سمع قاضي هذه الدعوى يجوز، وقيل: ذكر القرية والمصر والمحلة والسكة ليس بلازم.
وإذا ادعى ألف درهم ثمن لدار مقبوضة، ولم يذكر حدود الدار والشهود شهدوا كذلك، فالدعوى صحيحة والشهادة مقبولة، لأن الدار إذا كانت مقبوضة فلا حاجة إلى القضاء بها، فترك الحد فيها لا يضره.
وإذا قال الشهود في شهادتهم: أحد حدود هذه الأرض لزيق شط الوادي، ثم أقر المدعي أن بين شط الوادي وبين أرض المدعى طريق عامة بطلت الشهادة؛ لأنه أكذب الشهود في بعض ما شهدوا، وإنه يوجب بطلان الشهادة في الكل، وإن ظهر ذلك عند القاضي بما هو طريق حصول العلم، بطلت الشهادة في مقدار الطريق وتقبل فيما سواه، وقيل: لا تقبل الشهادة لأنه اختلف الحد، وكذلك إذا شهد الشهود أن هذه الأراضي ملك المدعي، ثم ظهر أن في الأراضي طريق العامة، إن ظهر ذلك بإقرار المدعي، لا تقبل شهادة الشهود، وإن ظهر ذلك بإخبار واحد من المسلمين لا يمنع قبول الشهادة، وإن حصل العلم للقاضي بما هو طريق حصول العلم، لا تقبل الشهادة في الطريق، وتقبل فيما سواه، وإذا كانت الدار معروفة لابد من ذكر الحدود عند الدعوى والشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إذا كانت الدار معروفة مثل دار عمرو بن الحارث بالكوفة تقبل الشهادة من غير ذكر الحدود، وتصح الدعوة أيضاً.Y(8/433)
الفصل الثالث عشر: في شهادة الوارث بالوصية والرجوع عنها وفي شهادةالوصي للميت وفي شهادة الوكيل للموكل
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا هلك الرجل، وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد وارثان أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر فهذا على وجهين.
الأول: أن تكون هذه الشهادة من الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى، وفي هذا الوجه القاضي يقبل شهادة الوارثين ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى أو (لم) يذكرا رجوعاً عنها، غير أنهما إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، بقيت الوصية الأولى، ووجبت الوصية الثانية، ووجب تنفيذهما من الثلث؛ لأن محل الوصية الثلث، فيأخذ كل واحد منهما نصف العبد الموصى به له.
فإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى بطلت الوصية الأولى، ويكون العبد الثاني للموصى له الآخر اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت عياناً، وإن كان القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان بما ذكرنا، لا تقبل شهادتهما ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، أو لم يذكرا رجوعاً، إن ذكرا رجوعاً؛ لأنهما بشهادتهما يبطلان قضاء القاضي عليهما؛ لأن الوارث يصير مقضياً عليه بطريق الخلافة عن الميت.
ولهذا قلنا: إن الوارث لو ادعاه لنفسه ملكاً مطلقاً لا يصح لصيرورته مقضياً عليه، ولأنهما بهذه الشهادة يعيدان العبد الأول إلى ملكهما، لأن العبد الأول قد زال عن ملكهما بقضاء القاضي، وكل ذلك مانع قبول الشهادة ولا شيء للثاني بحكم إقرارهما، لأنهما أقرا بحق الثاني من الثلث بطريق الوصية، والقاضي جعل كل الثلث للأول فلم يبقي محل حق الثاني فلهذا لا يسلم له شيء.
وأما إذا لم يذكرا رجوعاً فلأنهما بهذه الشهادة يعيدان نصف العبد الأول إلى ملكهما بنصف العبد الثاني فيكون في معنى البيع، والبيع لا يثبت بشهادتهما بخلاف ما قبل القضاء لأن قبل القضاء العبد الأول لم يزل عن ملكهما فلا يتصور البيع أما هاهنا بخلافه.
وكذلك لو كان مكان الوصية الثانية عتقاً بأن شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد الآخر في مرض موته إن كان شهادتهما بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما، وإن كان قبل قضاء القاضي تقبل شهادتهما.
لأن بعد القضاء لو قبلت شهادتهما احتجنا إلى نقض قضاء أمضى عليهما وذلك لا يجوز ولا كلذلك قبل القضاء، ولكن مع أنه لا تقبل شهادتهما بحكم بعتق العبد؛ لأنهما مالكان أقرا بعتق مملوك لهما ويسعى العبد في قيمته؛ لأنهما أقرا بعتقه بطريق الوصية من الثلث، والثلث صار مستحقاً(8/434)
للأول بقضاء ألقاضي فيجب رد العتق، وتعذر رده صورة فيجب رده معنى بإيجاب السعاية.
وإن كان الوارثان شهدا بذلك العبد وصية للثاني من جهة الميت إن كان قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما والكلام هاهنا أظهر؛ لأن هاهنا لا يصل إليهما شيء من العبد فبعد ذلك إن ذكرا رجوعاً فالعبد للثاني خاصة، وإن لم يذكرا رجوعاً كان العبد بينهما إذا لا تنافي بين الوصيتين.
وإن شهدا بذلك بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى إن لم يذكرا رجوعاً قبلت شهادتهما وقضي بالعبد بينهما؛ لأن هذه الشهادة لم تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء من العبد إلى ملكهما ليصير في معنى البيع.
أما إعادة شيء من العبد إلى ملكهما فظاهر، وأما نقض القضاء فلأنها لا تبطل شيئاً من حق الأول بل توجب الحق للثاني، فتثبت الوصية الثانية مع بقاء الوصية الأولى بجميع العبد، وهذا لأن الوصية عقد خلافة في المال المسمى في الوصية، وكون الثاني خليفة في المال لا ينافي كون الأول خليفة ولهذا يضرب كل واحد منهما بجميع حقه ولهذا لو رد أحدهما الوصية كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا فقد أثبت حق الثاني مع بقاء حق الأول بينهما وقضي بالعبد بينهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق وضيق المحل.
وإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى لا تقبل شهادتهما على الرجوع لما فيه من إبطال قضاء أمضى عليهما، وقبلت شهادتهما على الوصية الثانية إذ ليس فيه إبطال قضاء أمضى عليهما، ولو كان القاضي دفع العبد إلى الموصى له الأول بشهادة الفريق الأول، ودفع العبدين (141أ4) إلى الوارثين على وجه القسمة ثم شهد الوارثان أن الميت أوصى بهذا العبد بعينه لهذا الآخر، لا تقبل شهادتهما وإن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي في بعض العبد، وبعض قسمته لأن القاضي قسم العبد بينهم أثلاثاً، فلو قبلت هذه الشهادة تصير القسمة أسداساً، وتسليم القاضي وقسمته قضاء منه، وكما لم تقبل شهادتهما إذا تضمنت إبطال القضاء، فكذا إذا تضمنت إبطال التسليم والقسمة.
وكذا لو أن القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد بعينه في مرضه، لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت تضمنت بعض القضاء بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع أولى بالاعتبار من سائر الوصايا.
ولو أن رجلاً مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، إن كانت شهادة الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن كانت شهادتهما بعد قضاء القاضي بالوصية(8/435)
الأولى، إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن ذكرا رجوعاً لا تقبل شهادتهما على الوصية الثانية؛ لأنها لا تتضمن إبطال القضاء وتقبل شهادتهما على الوصية الثانية، لأنها لا تتضمن إبطال القضاء، ثم يشتركان في الثلث بحكم المزاحمة وضيق المحل.
ولو أن الوارثين شهدا أن الميت أعتق هذا العبد في مرضه، وكان ذلك بعد قضاء القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع يقدم على سائر الوصايا، ولكن يعتق العبد؛ لأنهما أقرا بعتقه ولهما فيه ملك ويجب على العبد السعاية لما ذكرنا، ويكون ثلثا السعاية للموصي له؛ لأنه استحق الثلث من كل التركة والثلثان للورثة، فإن قال الموصى له بالثلث: قد وجب في ثلث العبد وصية وقد أتلف الوارثان، على حين أقرا بعتقه، فلي أن أضمنهما ليس له ذلك، لأن الوارثين ما أعتقا هذا العبد وما أقرا بعتقه بإعتاق منهما، وإنما حكيا الإعتاق من جهة الميت ولا ضمان في مثل هذا كرجلين اشتريا عبداً وأقر أحدهما أن البائع كان أعتقه، فإنه لا يضمن لشريكه شيئاً.
كذا هنا ولو أن القاضي قسم العبد بين الورثة وبين الموصى له الأول، فأعطى الموصى له بالثلث والورثة الثلثين، وشهد الوارثان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، لا تقبل شهادتهما، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي وقسمته.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارثين لو أقرا بدين لرجل ومعهما ورثة غيرهما، فلم يقض القاضي بشيء بحكم إقرارهما، حتى شهدا لذلك الرجل على الميت بذلك الدين قبلت شهادتهما عليهما وعلى باقي الورثة، حتى يستوفي جميع الدين من جميع التركة، ولو كان القاضي قضى بالدين عليهما في نصيبهما حين أقرا بالدين، ثم شهدا بعد ذلك لصاحب الدين بالدين على الميت، فالقاضي لا يقبل شهادتهما على باقي الورثة، لأن بقضاء القاضي ثبت الدين على الميت في حقهما، واستحق جميع ذلك في نصيبهما، فهما إلى باقي الورثة، أورد هذه المسألة لبيان أن الشهادة إذا تضمنت نقض القضاء لا تقبل، والفصل الأول يصير حجة للشافعي رحمه الله في مسألة أحد الورثة إذا أقر بدين على الميت وكذبه باقي الورثة، فعندنا يستوفي كل الدين من نصيب الوارث المقر، وعند الشافعي رحمه الله يلزمه بقدر حصته.
ووجه الاحتجاج بها: أنه لو كان يلزم المقر كل الدين في نصيبه كان بالشهادة محولا بعض ما لزمه إلى غيره فينبغي ألا يقبل شهادة الوارثين بالدين لصاحب الدين على الميت قبل قضاء القاضي عليهما بالدين في نصيبهما، وهذا لأن الإقرار يلزم بنفسه فكان الحال فيه قبل القضاء وبعد القضاء سواء، ولا كذلك الشهادة لأن الشهادة لا يكون ملزمه بنفسها، ما لم يتصل بها قضاء القاضي، فجاز أن يفرق الحال فيها قبل القضاء وبعده والجواب لعلمائنا رحمهم الله: أن بمجرد الإقرار لا يلزم كل الدين في نصيب المقر ما لم يتصل به قضاء القاضي.(8/436)
وبيان ذلك من وجهين، أحدهما: أن هذا الإقرار في معنى الشهادة فإنه إقرار على الغير وهو الميت فكما أن الشهادة التي فيها تنفيذ القول على الغير لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي هو في معنى الشهادة.
والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة على ذلك، أو يصدقه باقي الورثة، فلو ألزمنا المقر جميع الدين في نصيبه للحال فقد ألزمناه مع الاحتمال، وإنه لا يجوز وإنما ينقطع هذا الاحتمال، ويلزمه كل المال في نصيبه بقضاء القاضي، فإذا شهدا قبل القضاء يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فتقبل شهادتهما، وإذا شهدا بعد القضاء فقد حولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فلا تقبل شهادتهما.
فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين؟ قلنا: طريقه أن الدين يقضى من أيسر المالين قضاء، ألا ترى أنه إذا كان في التركة دين وعين فالدين يقضى من العين دون الدين؟ وكذا إذا كان بعض التركة حاضراً وبعضها غائباً فالدين يقضى من الحاضر.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا لم يجد رب المال الدين بينة ولم يصدقه باقي الورثة، فقضاء القاضي من نصيب المقر أيسر فقضى عليه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة، قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى لو أن رجلا مات، وشهد شاهدان أن الميت أوصى إلى هذا، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما، شهد الوارثان أنه رجع عنه وأوصى إلى هذا الثاني، قبل القاضي شهادتهما، إذا كان الثاني يدعي ذلك ولو كان القاضي قضى للأول ثم شهد الوارثان بذلك فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنها تضمنت إبطال قضاء القاضي.
أورد هذا الفصل إيضاحاً لما تقدم أيضاً، ثم لم يقل هاهنا: إن شهادة الوارثين تقبل في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الإيصاء الأول كما ذكرنا فيما تقدم، قال مشايخنا: وينبغي على قول أبي يوسف: أن تقبل شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول؛ لأن عنده أحد الوصيين ينفرد بالوصية فلم تكن في قبول شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول، أما في قبول شهادتهما في حق الرجوع عن الأول نقض القضاء الأول، وأما على قولهما لا تقبل هذه الشهادة أصلاً؛ لأن عندهما أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معهودة استحسنا في ذلك على ما عرف في موضعه فلو قبلت الشهادة في حق الإيصاء إلى الثاني لم يبق الأول منفرداً بالتصرف بعد أن كان منفرداً فكان في قبولها نقض القضاء الأول من حيث إن الأول لا يبقى منفرداً فلا تقبل شهادتهما عندهما أصلاً.
قال: رجل هلك وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، وترك ابناً لا وارث له غيره، فأقر الابن أن أباه أوصى بهذا العبد لفلان، فسمع القاضي إقراره ولم يقض عليه شيء حتى شهد هو ورجل آخر أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر، قبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الوارث أقر على الميت بالوصية بالعبد الأول، وإقراره على الميت لا يلزمه شيء ما لم يتصل به قضاء القاضي على ما مر قبل هذا.(8/437)
فلم تكن الشهادة منه بالوصية بالعبد الآخر إعادة إلى نفسه بعض ما صار مستحقاً عليه، فلم يكن بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً ولا جاراً إلى نفسه مغنماً ولا ساعياً في نقض ما تم قضاء أمضى عليه، فقبلت وإذا قبلت لا شيء للموصى له الأول؛ لأن وصيته تثبت بالإقرار، والإقرار لا يعارض الشهادة؛ لأن الإقرار (حجة) قاصرة والشهادة حجة متعدية، فعند تعذر اعتبارهما كان اعتبار الشهادة أولى، وإذا اعتبرت الشهادة صار كل الثلث مستحقاً للموصى له الثاني، فلا يكون للموصى له الأول شيئاً.
ولو كان القاضي قضى على الوارث بالعبد بإقراره، ثم شهد مع أجنبي آخر على نحو ما بينا لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالإقرار لكون الشهادة أقوى من الإقرار، واندفع عن الشاهد ما لزمه بإقراره فلهذا لا تقبل هذه الشهادة وإذا لم تقبل هذه الشهادة لا شيء (141ب4) للموصى له الثاني؛ لأن الثلث صار مستحقاً للأول بكماله بتسليم القاضي إليه، ومحل الوصايا الثلث فلم يبق للثاني شيء، وكذلك لو كانت الشهادة الثانية في العبد المقر بعينه.
كان الجواب على التفصيل الذي قلنا: إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بإقراره قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل، وإذا لم تقبل الشهادة لا يضمن الوارث للمشهود له فيما سلم القاضي إلى المقر له حصلت الشهادة في العبد المقر بعينه، أو في عبد آخر، لأنه لو ضمن إما أن يضمن بالإقرار أو بالتسليم، لا وجه إلى الأول لأن مجرد الإقرار لا يوجب شيئاً منها على ما مر، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن التسليم حصل بقضاء القاضي.
ولو كان الوارث حين أقر سلم العبد المقر به إلى المقر له بنفسه من غير قضاء القاضي، ثم شهد الثاني بذلك العبد بعينه أو بعبد آخر لا تقبل هذه الشهادة لأنه سعى في نقض ما تم به وهو التسليم وسعي الإنسان في نقض ما تم به مردود.
وإذا لم تقبل شهادته ضمن للثاني نصف قيمة العبد المقر به إن كان العبد واحداً، وإن كان عبدين ضمن نصف قيمة العبد المشهود به للثاني، لأنه لما شهد للثاني فقد أقر أنه يسلم إلى الأول ما هو حق الثاني بغير حق فيصير ضامناً له، ولو كان الوارث أقر بثلث المال وصية لرجل، ثم شهد مع أجنبي بالثلث وصية لرجل آخر، إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بالإقرار قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل لما قلنا.
ولو شهد الوارثان مع أجنبي بالثلث وصية لرجل، ثم شهدا بالثلث وصية لرجل آخر قبل القاضي شهادتهما سواء شهدا للثاني قبل قضاء القاضي للأول أو بعده، لأن الشهادة الثانية هاهنا لا تتضمن بطلان القضاء لأن الشهادة تعارض الشهادة، ألا ترى أنهما يتحاصان في الثلث؟ بخلاف ما إذا أقر الوارث بالثلث وصية لرجل وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي وصية بالثلث لرجل آخر، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه الشهادة هنا تتضمن بطلان القضاء الأول؛ لأن الإقرار لا يعارض الشهادة.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارث لو شهد مع أجنبي بدين على الميت وقضى(8/438)
به القاضي، ثم شهد ابنن آخر لرجل على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين قبل القاضي شهادتهما، لأن الشهادة الثانية لا تتضمن بطلان القضاء الأول بل يتحاصان إذا ثبت الدينان.
ولو كان الوارث أقر بدين لرجل على الميت وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي لرجل آخر بدين على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين، فالقاضي لا يقبل الشهادة لأن هذه الشهادة تتضمن بطلان القضاء فكذا فيما تقدم.
ولو كان الوارث أقر بالدين وسلم إلى الغريم بنفسه، ثم شهد مع آخر بالدين لرجل آخر لا تقبل شهادتهما، لما ذكرنا أنه ساع في نقض ما تم به من التسليم ويضمن نصف ما سلم إلى الأول للثاني إن كان الدينان سواء والتركة لا تفي إلا بواحد منهما؛ لأنه أتلف ذلك القدر على الثاني بغير حق، بخلاف ما إذا كان التسليم بقضاء القاضي حيث لا يضمن للثاني شيئاً، والمعنى ما ذكرنا.
قال: رجلان شهدا أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل، ثم شهد وارثان أن الميت رجع عن ذلك الوصية، وأوصى بالثلث لوارثه فلان، وأنهما يعني: الشاهدان وجميع الورثة أجازوا ذلك بعد الموت، فشهادة الوارثين جائزة، والثلث للوارث في قول أبي يوسف الأول لأنه لا تهمة في شهادتهما؛ لأن الثلث بالرجوع ينتقل من الموصى له الأول إلى الوارث الموصى له، ولا حق للشاهدين فيه، فصار النقل إلى الوارث والنقل إلى الأجنبي سواء، وعلى قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله: شهادة الوارثين على الرجوع باطلة، لأنهما بشهادتهما على الرجوع يثبتان لأنفسهما حقاً في الثلث، حتى إنهما إن شاءا أجازا الوصية للوارث، وإن شاءا لم يجيزا فكانا متهمين في هذه الشهادة، بخلاف ما إذا شهدا لأجنبي لان هناك لا يتعلق نفاذ الوصية الثانية بإجازتهما فانتفت تهمة الحق أما هاهنا بخلافه.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل مات وقد كان أوصى إلى رجل، وقبل الوصي الوصاية بعد موته، فلم يخاصم الوصي عند القاضي حتى عزله القاضي عن الوصاية ونصب للميت وصياً آخر، ثم إن الموصى (له) الأول شهد للميت بمال أو غيره على إنسان فشهادته باطلة؛ لأن الميت بالإيصاء أقامه مقام نفسه بطريق الخلافة وله ولاية الخلافة، فإذا مات وقبل الموصى الوصاية فقد قبل الخلافة فتمت الخلافة ونفدت الإقامة، فصار الوصي قائماً مقام الموصي كالوارث، ومن ضرورة قيامه مقام الموصي صيرورته خصماً فيما كان الموصي فيه خصماً، وإذا صار خصماً خرج من أن يكون شاهداً، وبعد ما خرج الإنسان من أن يكون شاهداً في حادثة لا يعود فيها شاهداً أبداً هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» .
وفي «شرح حيل الخصاف» أن شهادة الوصي بعدما خرج عن الوصاية للميت مقبولة فيصير في المسألة روايتان، هذا إذا قبل الوصي الوصاية بعد موت الموصي، ولو أنه لم يقبل ولم يرد حتى شهد عند القاضي، فالقاضي يقول له أتقبل الوصاية أم تردها؟ فإن قبل(8/439)
بطلت شهادته لصيرورته خصماً من وقت الموت، وإن رد أمضى شهادته لعدم صيرورته خصماً، وإن سكت ولم يجز بشيء، توقف القاضي في شهادته، لأن سبب الرد موقوف، لأن سبب الرد صيرورته خصماً بثبوت الخلافة، والخلافة لا تثبت إلا بالقبول، وإذا كان في سبب الرد توقفاً كان في الشهادة توقفاً وصار كالشفيع إذا شهد بالبيع إن طلب الشفعة بطلت شهادته، وإن سلم قبلت شهادته، وإن سكت ولم يجز بشيء توقف القاضي في شهادته كذا هاهنا.
قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة في شيء قبل رجل وقبل الوكيل الوكالة، ثم عزله الموكل فشهد للموكل في ذلك الشيء ينظر: إن كان الوكيل خاصم فيه قبل أن يعزله لم تقبل شهادته، وإن كان لم يخاصم فيه قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف لا تقبل وهذا بناء على أن عند أبي يوسف بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً خاصم أو لم يخاصم، ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء نفد إقراره عليه، وهذا لأن الموكل بالتوكيل أقامه مقام نفسه فإذا قبلت الوكالة تمت الإقامة فقام مقامه كما في الوصاية، ألا ترى أن الإيصاء توكيل بعد الموت فكان كالتوكيل في حالة الخصومة، وعندهما بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء لا ينفذ إقراره عليه عندهما، وفرقا بين التوكيل والإيصاء.
والفرق: وهو أن الإيصاء إقامة نفس الوصي مقام نفسه بطريق الخلافة، فلا يتعلق ثبوتها وتمامها للفعل وهو الخصومة قياساً على الإرث، فإن نفس الوارث لما كان يقوم مقام نفس المورث بطريق الخلافة لا يتوقف تمامه على الخصومة حتى يصير الوارث خصماً بنفس موت المورث خاصم أولم يخاصم، فكذا الوصي.
فأما التوكيل اعتبر بالفعل وإقامة فعل الوكيل وهو الخصم مقام فعل نفسه لا إقامة نفس الوكيل مقام نفسه ولكن إذا فعل الوكيل وقام فعله مقام فعل الموكل تقوم نفسه مقام نفسه، فقبل الفعل وهو الخصومة لم تقم مقام الموكل أصلاً فلم يصر خصماً فتقبل شهادته، أما إذا خاصم قامت خصومته مقام خصومة الموكل فصار خصماً كالموكل وخرج من أن يكون شاهداً فلا تقبل شهادته بعد ذلك أبداً فهذا هو الفرق بينهما، ثم الشرط عندهما الخصومة في مجلس القضاء حتى لو خاصم في غير مجلس القضاء وعزله الموكل قبل الخصومة عند القاضي فشهد الموكل تقبل شهادته له عندهما، فصار تقدير المسألة عندهما كأن الموكل قال له: أنت وكيلي بالخصومة في مجلس القاضي، فلا يصير خصماً قبله.
قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة مع فلان في كل حق هو له، قبله بمحضر من القاضي، والقاضي يعرفهم، فقبل الوكيل الوكالة ولم يخاصم فلاناً في شيء من ذلك حتى عزله الموكل عن الوكالة، ثم شهد الوكيل للموكل بشيء من ذلك الذي وكله به، قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن المانع من قبول الشهادة صيرورته خصماً، والوكيل إنما يصير عندهما خصماً بالخصومة، ولم توجد الخصومة، وإنما شرط(8/440)
علم القاضي بالتوكيل حتى لا يحتاج الوكيل في إثباتها لو أنكر الخصم الوكالة.
وإن كان الوكيل خاصم فلاناً في ألف درهم للموكل وقضى القاضي أو لم يقض حتى عزل ثم شهد للموكل أنه شهد (142أ4) بتلك الألف التي خاصم فيها لا تقبل شهادته إجماعاً، وإن شهد بمال آخر تقبل شهادته عندهما لأنه إنما يصير خصما عندهما بالخصومة، والخصومة خصت بتلك الألف، فصار خصماً فيها لا في مال آخر ففي مال آخر انعدم المانع من قبول الشهادة فقبلت.
ولو كان التوكيل بغير محضر من القاضي، فخاصم الوكيل فلاناً في ألف قبله للموكل فأنكر وكالته، فأقام الوكيل بينة عليه بالوكالة، وقضى القاضي بالوكالة، وقضى بالألف أولم يقض حتى عزل الموكل الوكيل، ثم شهد الوكيل للموكل على فلان بتلك الألف أو بمال آخر، لا تقبل شهادته، بخلاف الوجه الأول وهو ما إذا كان التوكيل بعلم القاضي.
والفرق: أن القاضي إذا لم يعلم بالوكالة، والوكيل يحتاج إلى إثباتها بالبينة، ومن ضرورة إثباتها في هذا الحق بالبينة ثبوتها في سائر الحقوق؛ لأن التوكيل واحد وقد حصل عاماً بكل حق، فلا يثبت بشيء حتى يثبت جملته، كما أثبته الموكل، والبينة إنما تعمل بعد الدعوى والخصومة، فإذا صار إثبات الوكالة بالبينة في هذا الحق إثباتاً لها في سائر الحقوق وصارت الخصومة في هذا الحق خصومة في سائر الحقوق لإثبات الوكالة فيها فسقطت شهادته في عامة الحقوق بالخصومة فيها، إلا أن يشهد بمال حادث بعد تاريخ الوكالة، لأن التوكيل بالخصومة في كل حق له قبل فلان إنما يتناول الحقوق الموجودة، ولا يتناول الحادث بعد التوكيل، فلا يصير خصماً في الحادث بعد التوكيل فلا تبطل شهادته، فأما إذا كان التوكيل بعلم القاضي فالوكيل لا يحتاج إلى إثبات الوكالة عند القاضي بعلم القاضي ذلك ليصير إثبات الوكالة في بعض الحقوق إثباتاً في جميع الحقوق، فيصير خصومته في بعض الحقوق خصومة في جميع الحقوق فلهذا افترقا.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح الفرق بين الوجهين فقال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بوكالته بالبينة ثم مات أو عزل ورفع حكمه إلى قاض آخر وثبت ذلك عنده أمضى قضاء الأول وجعل لهذا خصماً في كل حق يدعيه قبل فلان؟ ولو ثبت عند القاضي الثاني علم القاضي الأول بما جرى عنده من الوكالة لم يجعله خصماً، ولم يمض قضاء الأول؛ لأن علم القاضي حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، فأما حكمه حجة في حق الكل، فإذا ظهرت التفرقة بين علم القاضي وحكمه في حق قاض آخر جاز أن يظهر التفرقة بينهما في حق مال آخر في حق قبول الشهادة.
قال: ولو أن رجلاً وكل رجلاً بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان بغير محضر من القاضي، فأحضر الوكيل واحداً من هؤلاء، وأقام بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل بعد ذلك للموكل على هذا الذي أحضره بحق أو على الآخرين لا تقبل شهادته، وكذلك لو(8/441)
وكله بكل حق له في مصر كذا وبالخصومة فيه، فأحضر الوكيل رجلاً من أهل ذلك المصر، وادعى عليه حقاً للموكل فجحد وكالته، فأقام الوكيل بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له في ذلك المصر وبالخصومة فيه، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل للموكل بعد ذلك بحق أو مال على ذلك الرجل أو على غيره من أهل ذلك المصر، لم تقبل شهادته، لأنه صار خصماً للغائبين كما صار خصماً للحاضر، لأن الخصومة مع الحاضر خصومة مع الغائبين لكون الحاضر نائباً عن الغائبين.
بيانه: أن ما ادعى على الحاضر من الوكالة لا يثبت إلا بإثباتها على الغائبين؛ لأن التوكيل واحد، وقد حصل عاماً فصار المدعي على الغائبين سبباً لثبوت المدعي الحاضر فانتصب الحاضر خصماً عن الغائبين ألا ترى أن القضاء على الحاضر صار قضاء على الغائبين؟ فكذا الخصومة مع الحاضر يكون خصومة مع الغائبين فبطلت شهادته في حقهم جميعاً.
إلا أن بين المسألتين فرقاً: فإن في مسألة المصر كما لا تقبل شهادة الوكيل للموكل بحق قائم وقت الوكالة لا تقبل شهادته له بحق حدث بعد الوكالة، والقياس في مسألة المصر أن لا تقبل شهادته بحق قائم وقت التوكيل لا بحق يحدث بعد التوكيل، اعتباراً للتقييد بالمكان بالتقييد بالشخص، إلا أنهم استحسنوا في مسألة المصر لمكان العرف، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أن من أراد سفراً يقيم غيره مقام نفسه، بطلب كل حق له في مصر ومراده من ذلك أن يقوم مقامه فيما هو واجب له وفيما يحدث، كيلا يضيع شيء من حقوقه، فلمكان العرف صرفنا الوكالة إلى الكل.
وهو نظير من وكل إنساناً بقبض غلاته، يريد به الواجب وما يحدث كيلا يحتاج إلى تجديد الوكالة في كل زمان فلا يقع في الحرج، وإذا انصرفت الوكالة إلى الكل صار خصماً في الكل، فلا تقبل شهادته في شيء من ذلك، مثل هذا العرف لا يوجد فيما إذا كانت الوكالة بكل حق له قبل شخص بعينه، أو قبل أشخاص بأعيانهم فيعمل بظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يتناول القائم وقت التوكيل، لا ما يحدث بعد ذلك، فلم يصر خصماً فيما حدث بعد التوكيل، فجاز أن تقبل شهادته فيه.
فرع
على مسألة المصر فقال: لو شهد بحق حدث بعد العزل قبلت شهادته، لأنه لم يصر خصماً فيه بظاهر اللفظ، لأن التوكيل لم ينصرف إليه؛ لأن انصراف التوكيل إلى الحادث بعد التوكيل بحكم العرف، ولا عرف في الحادث بعد العزل، فيعمل فيه بظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ لا يتناول الحادث بعد التوكيل ولا الحادث بعد العزل، قال: ولو كان هذا التوكيل بعلم القاضي، لم يبطل القضاء بشهادته بعد العزل إلا فيما كان خاصم فيه بعينه قبل العزل، والفرق ما ذكرنا.
قال: والتوكيل بكل حق له قبل الناس في انصرافه إلى القائم وقت التوكيل، والحادث بعده نظير التوكيل بكل حق له في مصر كذا بل أولى، لأن هذا أعم لأن هذا يتناول جميع الناس في كل مصر.(8/442)
وإذا ادعى رجل أن فلاناً وكله وفلاناً الغائب في كل حق له قبل الناس، وأحضر رجلاً وادعى عليه حقاً للموكل، وأقام البينة على وكالته على نحو ما ذكرنا، وقضى القاضي بها صار الحاضر مع الغائب وكيلين، حتى إن الغائب إذا حضر وادعى حقاً على أحد لا يكلف إعادة البينة على الوكالة، فإن عزلهما الموكل ثم شهدا بحق قبل هذا الرجل، أو قبل رجل آخر لا يقبل شهادتهما، القائم وقت الوكالة والحادث بعد الوكالة في ذلك على السواء، لأن خصومة أحدهما لما جعل كخصومتهما صار كأنه وجدت الخصومة منهما، ولو وجدت الخصومة منهما في حق من الحقوق كان ذلك بمنزلة الخصومة في سائر الحقوق، القائم وقت الوكالة والحادث بعدها سواء لما مر، فهاهنا كذلك والله أعلم.
الفصل الرابع عشر: في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى
إبراهيم عن محمد في شاهدين شهدا لرجل أن له على هذا درهماً أو درهمين، فالشهادة جائزة على درهم، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: في رجل في يديه درهمان صغير وكبير وأقر بأحدهما لرجل، ثم جحد فشهد عليه بذلك شاهدان، أجزت الشهادة على الصغير منهما استحساناً، وسواء أقر بأحدهما بغير عينه أو بعينه ثم نساه، هكذا ذكر، وفصل الإقرار بأحدهما بعينه والنسيان مشكل يعرف بالتأمل، قال: وكذلك الكيل كله، والوزن كله إذا كانا صنفاً واحداً فإني أقضي بالأوكس، وإذا اختلف النوعان فإني أبطلت الإقرار.
قال: وكل شيء يضمن فيه القيمة وقد صارت ديناً جعلت عليه أوكس القيمتين، نحو أن يشهد أنه غصب منه ثوباً همروياً أو مروياً وأحرقه قالا: أسمي لنا هكذا، أو قال: سمي لنا أحدهما بعينه فنسيناه، قضيت عليه بأوكس القيمتين.
روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: في رجلين شهدا لرجل بشهادة، ثم زاد فيها قبل أن يقضي القاضي بها أو بعده وقالا: أوهمنا، وهما غير متهمين قبل ذلك منهما.
وروى بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل يشهد عند القاضي بشهادة ثم يجيء بعد ذلك بيوم فيقول: شككت في كذا وكذا مبهماً، قال: إذا كان القاضي يعرفه بالصلاح قبل شهادته فيما بقي، وإن كان لا يعرفه فهذه تهمة ألغى شهادته، وكذلك لو قال: رجعت عن شهادتي في كذا وكذا من هذا المال غلطت في ذلك أو نسيت، فهو مثل قوله: شككت، وإذا لم يقل الشاهد: قد شككت، ولكن قال: قد(8/443)
تعمدت ولم أغلط ثم بدا لي أن أرجع عن ذلك، لم تقبل شهادته فيما بقي، ولا في غير ذلك حتى يحدث توبة ويعاقبه القاضي، وقال محمد رحمه الله (142ب4) .
فيمن شهد عند القاضي، فلا يبرح مكانه حتى يقول أوهمت بعض شهادتي جاز ذلك وقبل شهادته إذا كان عدلاً، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل على دارٍ بحدودها، أو شهد بمال ثم رجع عن بعض تلك الدار أو بعض المال، قال محمد: إن كان عدلاً ورجع في مكانه، وقال أوهمت أستحسن أن أجيز شهادته إذا لم يكن في ذلك إكذاب من الشهود له.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقام شاهدين شهدا أن الدار له، ثم قال الشاهدان بعد ذلك قبل القضاء: إن البناء ليس للمدعي إنما هو للمدعى عليه، قال: إذا قال ذلك قبل أن يتفرقا عن مجلس القضاء، قبلت شهادتهما، وهذا استحسان ما لم يطل ذلك، وإذا قاما أو طال ذلك بطلت شهادتهما.
وفي «نوادر بن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد الشهود بالدار للمدعي، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم إن الشهود قالوا: لا ندري لمن البناء، فإني لا أضمنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء، كأنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء للمشهود عليه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: رجل مات وترك عبداً لا مال له غيره، وقيمته ألف درهم، ولا يعلم عليه دين، فأعتقه الوارث، ثم شهد العبد بشهادات واستقضى فقضي بقضايا، ثم أقام رجل بينة على الميت بالدين، فإن العبد يرد رقيقاً ويبطل عتقه، وما شهد به من الشهادة فإن أبرأ الغريم العبد من الدين جاز عتقه وحده، ولم يجز شيء من شهادته وقضاياه، وإن كان رجل قتل هذا لعبد غرم قيمته لورثة العبد، ولا يجعلهما لورثة المولى، قال: ألا ترى أنا لا نرده في الرق؟.
وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: في رجل أقام بينته أنه وصي فلان الميت وقضى القاضي بوصايته، وأخذ ما للميت من الديون على الناس، ثم وجد البينة عبيداً فقد برىء الغرماء، ولو كان مثله في الوكالة لم يبرؤوا.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل شهد عليه شاهدان: أن هذه الدار التي في يديه لفلان، فلم يقض القاضي بها حتى قالا: إنما شهدنا على العرصة، أجزت شهادتهما على ذلك ولم يكن هذا رجوعاً، ولو قضى القاضي بها وبالبناء، وقالا: شهدنا على العرصة ضمنتهما قيمة البناء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل مات فقاسمت امرأته ولده الميراث، وهم كبار، وأقروا أنها زوجة الميت، ثم وجدوا شهوداً أن زوجها قد كان طلقها ثلاثاً في صحته، فإنهم يرجعون عليها بما أخذت من الميراث.(8/444)
وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في امرأة اختلعت من زوجها بمال، ثم أقامت البينة أنه كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع وكذلك أمة كاتبها مولاها فأدت ثم أقامت البينة على إعتاق كان من المولى قبل الكتابة، وكذلك العبد.
وكذلك الزوج إذا قاسم أخ المرأة ميراثها، وأقر أن هذا ميراث، وأن هذا زوج الميت وهذا أخوها، ثم إن الأخ أقام بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً في حال حياته، فذلك جائز ويرجع الأخ فيما أخذ الزوج من الميراث، وقد تحقق التناقض في هذه المسائل إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء؛ لأن الطلاق مما يستند به الزوج، والعتاق مما يستند به المولى، والتناقض فيما طريقه طريقة الخفاء لا يمنع صحة الدعوى وسماع البينة.
الفصل الخامس عشر: في الشهادة على الوكالة والوصاية
رجل أقام بينة عند القاضي أن فلاناً وكله بطلب كل حق له بالكوفة وبالخصومة فيه، جائز ما صنع فيه وليس معه خصم يدعي عليه حقاً، لم يسمع القاضي منه هذه البينة لقيامها على غائب ليس عنه خصم حاضر؛ وإن أحضر رجلاً يدعي الوكيل أن للموكل عليه حقاً وهو ينكر كونه وكيلاً، فأقام الوكيل بينة على وكالته، قضى القاضي عليه، لكونه وكيلاً لقيام البينة على خصم حاضر، وصار الثابت بالبينة كالثابت عيانا، ولو عاين القاضي توكيله قضى بكونه وكيلاً كذا هاهنا، فإن أحضر الوكيل رجلاً آخر من أهل الكوفة يدعي الموكل قبله حقاً، فأنكر الوكالة، لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة على الوكالة؛ لأن القاضي حين قضى بوكالته ببينة قامت على الأول فإنما قضى بوكالته في حق جميع من بالكوفة؛ لأنه كان لا يتوصل إلى إثبات الوكالة على الأول إلا بإثبات الوكالة على الكل، لكون الوكالة واحدة بلفظ عام، فانتصب الذي حضر مجلس القاضي خصماً عن جميع من بالكوفة، فصار القضاء عليه بالوكالة قضاءً على الكل.
وهو نظير ما لو مات رجل، فجاء رجل إلى القاضي وأحضر معه رجلاً، وأقام بينة أنه ابن الميت، وأن للميت على هذا الذي أحضر مجلس القاضي دين، وقضى القاضي بنسبه يثبت نسبه عاماً في حق هذا المديون وفي حق مديون آخر لما قلنا من المعنى كذا هنا.
ولو كان الشهود شهدوا أن فلاناً وكله بطلب حقه قبل فلان بن فلان الفلاني، وبالخصومة فيه لم يسمع القاضي شهادتهم ما لم يحضر فلان بن فلان؛ لأن الخصم في هذه الوكالة متعين فلا يصير غيره قائماً مقامه إلا بإقامته ولم يوجد، ولو أن الموكل حضر عند القاضي فقال: إني وكلت هذا الرجل بطلب كل حق لي بالكوفة وبالخصومة، وليس(8/445)
معهما خصم ثم جاء الوكيل برجل وادعى أن للموكل قبله حقاً، فإن كان القاضي يعلم الموكل باسمه ونسبه يقضي بوكالته، ولا يكلفه إقامة البينة على الوكالة؛ لأن علم القاضي بالمعاينة فوق علمه بالخبر، فإذا كان يقضي بوكالته عند حصول العلم له بالخبر، فهذا أولى ولا يشترط حضرة الخصم عند التوكيل بصحة التوكيل عند القاضي، لأن حضرة الخصم إنما يحتاج إليه للجحود ليمكن إثبات الوكالة بالبينة، فيحصل العلم للقاضي بالبينة بكونه وكيلاً، فإذا كان العلم حاصلاً للقاضي بالمعاينة لا حاجة إلى اعتبار حضرة الخصم، فإن كان القاضي لا يعرف الموكل باسمه ونسبه لا يقضي بالوكالة؛ لأن الموكل غائب وقت القضاء بالوكالة، والغائب إنما يعرف بالاسم والنسب، فإذا لم يعرف القاضي ذلك بقي الموكل مجهولاً، والقضاء للمجهول وعلى المجهول باطل، بخلاف ما لو كان الموكل حاضراً حيث يقضى القاضي بوكالته، وإن لم يعرف اسمه ونسبه؛ لأنه معلوم لكونه حاضراً، فإن لم يعرف القاضي الموكل باسمه ونسبه فقال الموكل: أنا أقيم البينة أني فلان بن فلان ليقضي بالوكالة متى جئت، لا يلتفت القاضي إليه؛ لأن شرط سماع البينة على النسب، الخصومة في النسب ولم توجد، فإن غاب الموكل فأحضر الوكيل رجلاً فادعى أن للموكل عنده حقاً وأقام الوكيل البينة
عليه أن فلان بن فلان الفلاني وكله بالخصومة في كل حق له عند الناس بالكوفة، وأنكر ذلك الخصم وكالته، قبلت بينته وصار وكيلاً في حق جميع من كان بالكوفة لما قلنا.
وإن أرادوا من القاضي في هذه الوجوه كلها أن يسمع من الشهود بغير محضر من الخصم، ليكتب الكتاب بشهادتهم إلى قاضي آخر أجابهم القاضي إلى ذلك، لأن كتاب القاضي إلى القاضي ليس بقضاء ليحتاج فيه إلى حضرة الخصم، إنما هو من القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى مجلس القاضي المكتوب إليه، بمنزلة الشهادة على الشهادة، ثم الإشهاد على الشهادة صحيح من غير حضرة الخصم، فكذا كتاب القاضي إلى القاضي قد يجوز للقاضي المكتوب إليه القضاء بكتاب للقاضي وحده، وإن لم يجز له القضاء بشهادة هذا القاضي الكاتب بانفراده، بأن ذهب بنفسه إلى بلدة القاضي المكتوب إليه، وشهد بين يديه على شهادة هؤلاء، والفرق وهو أن القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى القاضي المكتوب إليه بكتابه وهو قاض، وقوله وهو قاض بمنزلة شهادة الشاهدين فكذلك كتابه، أما إذا ذهب بنفسه إلى تلك البلدة وشهد فقد نقل شهادة الشهود بقوله وهو ليس بقاض؛ لأنه بعدما خرج من البلدة التي هو قاض فيها لا يبقى قاضياً ويلتحق بواحد من الرعايا، فلا يثبت النقل بمجرد قوله، حتى لو كان قاضي تلك البلدة أيضاً بأن كان قاضي القضاة تثبت شهادة الشهود بمجرد قوله في مجلس القاضي الثاني.
ثم ما ذكر من الجواب قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو قول محمد الأول، وأما على قوله الآخر الذي رجع إليه لا تثبت شهادة الأصول عند المكتوب إليه بكتاب القاضي ما لم يشهد معه شاهد آخر والمسألة معروفة، والذي ذكرنا من الجواب في الوكيل، فكذا في الوصي في الفصول كلها؛ لأن الوصي وكيل بعد الوفاة فيعتبر بالوكيل حالة الحياة إلا(8/446)
أنهما يفترقان في فصل وهو: أن الوكيل إن أثبت الوكالة عاماً يثبت عامة وإن اثبت خاصة، يثبت خاصة والوصي إذا أثبت الوصاية تثبت عامة عند أبي حنيفة رحمه الله، سواء أثبتها خاصة أو عامة (143أ4) لأن الوصي في نوع عنده وصي في الأنواع كلها، ولا كذلك الوكيل والله أعلم.
الفصل السادس عشر: في شهادة ولد الملاعنة
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : امرأة جاءت بابنين في بطن واحد فنفاهما الزوج، ولاعن القاضي بينهما وألزم الابنين الأم، ثم كبرا وشهدا للذي نفاهما لم تقبل شهادتهما؛ لأن نسبهما كان ثابتاً من الزوج؛ لأنهما ولدا على فراشه، وقد قال عليه السلام: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وتعلق به أحكام منها: انتفاع قبول الشهادة وهذا أمر عليه، ومنها حرمة وضع الركن، وحرمة المناكحة والعتق عند التملك، وهذه الأحكام إنما تثبت حقاً للشرع ومنها الإرث، فهو بهذا القذف واللعان يريد إبطال هذه الأحكام فلا يقدر على إبطال ما عليه وعلى إبطال ما هو حق الشرع، ويجعل النسب باقياً في حق الأحكام الثابتة حقاً للشرع، وفي حق الأحكام التي تثبت عليه، فأما الانتساب يبطل؛ لأنه كما هو حق الولد فهو حق الوالد فيبطل بإبطاله ما هو حقه، ثم يبطل حق الولد ضرورة أن النسب لا يثبت من أحد الجانبين، وإذا بطل الانتساب بطل الإرث؛ لأن الانتساب أمر لابد منه لجريان الميراث.
وكذلك لو مات هذان الولدان ولهما أولاد فشهدوا للملاعن كانت الشهادة باطلة؛ لأن النسب باق في حق آخر عليه.
وكذلك لو تزوج أحد الابنين اللذين تقاسما بنتاً للزوج من امرأة أخرى كان النكاح باطلاً لبقاء النسب في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع.
امرأة لم يدخل بها زوجها جاءت بولد، فنفاه فإن القاضي يلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه، لأن النكاح في حق من هو من أهل الماء في مدة تتصور الولادة فيها أقيم مقام الإنخلاق من مائه حكماً، ولو كان الإنخلاق من مائه حقيقة يعمل نفيه ويلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه فكذا هنا، وعلى الزوج المهر كاملاً لوجود الدخول من حيث الحكم، لما حكم بثبات نسب الولد منه، فإن قيل إنما يثبت الدخول من طريق الحكم لما حكم بثبات النسب، وقد تبين النسب لم يكن ثابتاً منه فتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، قلنا: النسب(8/447)
إنما ينقطع بعدما ثبت من حيث الظاهر لحدوثه على فراشه، لا أن يظهر أنه لم يكن ثابتاً، ألا ترى أنه نفي بعض أحكام النسب ولو تبين أنه لم (يكن) ثابتاً لكان لا يثبت شيء من الأحكام، وإذا لم يتبين أن النسب لم يكن ثابتاً لا يتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، ولا يتزوج الزوج ولا أحد من ولده الولد الذي ولدته المرأة إن كانت جارية، ولا يعطيه زكاة ماله، ولا يشهد له لما مر أن النسب باق في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع، ولا يرث كل واحد منهما من صاحبه لما مر، ولا يستحق كل واحد منهما النفقة على صاحبه، لما قلنا في الإرث.
جارية لرجل جاءت بولد فادعاه المولى حتى يثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له، ثم ولدت بعد ذلك ابنين في بطن واحد فنفاهما جاز نفيه؛ لأنه لو نفى نسب الولد المنكوحة جاز نفيه، وإن كان فراشه أقوى فلأن يجوز نفي ولد أم الولد وفراشها أضعف كان أولى، إلا أن بينهما فرقاً وهو أن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي بمجرد النفي إنما ينتفي باللعان، وقضاء القاضي بالقطع، ونسب ولد أم الولد ينتفي مجرد النفي وموضع الفرق كتاب الدعوى وإذا انتفى نسبها من المولى بمجرد النفي كانا عبدين له بمنزلة أمهما؛ لأن ولد أم الولد يكون بمثل حالها، وكان النفي عاملاً في إبطال ما ثبت لهما من الحرمة من حيث الظاهر؛ لأن العتق ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه النسب، ألا ترى أن الأب لو كان مكاتباً أو عبداً مأذوناً فذلك ولده لا يعتق عليه؟ والنفي عامل فيما ليس من الأحكام المختصة بالنسب، كما في حق الميراث، فإن أعتقهما المولى ثم شهدا للمولى كانت شهادتهما باطلة، وكذا شهادة أولادهما، وكذا لو أعطاهما من زكاة ماله لم يجز، وكذا لا يرثان من الرجل ولا يرث الرجل منهما بحكم القرابة، كما في ولدي المنكوحة ولكن الرجل يرث منهما بحكم الولاء لأنهما معتقاه.r
أمة لرجل جاءت بولدين في بطن واحد فباع المولى أحد الولدين فأعتقه المشتري، ثم إن المعتق بعدما كبر شهد مع رجل جازت شهادتهما؛ لأن نسب هذا الولد ما كان ثابتاً من المولى قبل البيع؛ لأنه ولد الأمة ونسب ولد الأمة لا يثبت بدون الدعوة، فلم يثبت امتناع قبول الشهادة، بخلاف ولد أم الولد والمنكوحة على ما مر، وإن قضى القاضي بشهادتهما، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده جازت الدعوة لاتصال علوقه بملكه، وإذا ثبت نسب هذا الولد ثبت نسب الولد الآخر ضرورة لأنهما توأم، وإذا ثبت نسب الآخر ظهر أنه علق حراً، وأن المولى باع الحر فانتقض البيع ورجع المشتري بالثمن على بائعه؛ لأنه لم يسلم له المبيع فلا يسلم للمشتري الثمن، وظهر بطلان الشهادة للبائع؛ لأنه ظهر أنه كان شهد لأبيه ويرجع المشهود عليه على البائع بما أخذ منه إن كان قائماً بعينه، وإن كان استهلكه ضمن له مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن لم يكن مثلياً؛ لأنه ظهر أن القاضي أخطأ في قضائه والقاضي متى أخطأ في قضائه كان قرار الضمان على المقضي له، وإن كان المشهود به قطع يد أو رجل غرم البائع للمشهود عليه أرش ذلك في ماله في سنين، وإن كان المشهود به قتل نفس، غرم الدية في ماله في ثلاث سنين، لأن البائع كان مخطئاً(8/448)
في القتل والقطع والعقل، لأنه إنما قطع وقتل على حسبان أن له ذلك، وقد ظهر خلاف ذلك، وموجب جناية الخطأ المال، إلا أنه يكون في ماله لا على العاقلة لأنه وجب بسبب دعوته وهو غير مصدق في ذلك في حق العاقلة، فصار من هذا الوجه كالثابت بإقراره.
فإن قيل: جناية مالية معاينة لا بإقراره إنما الثابت بقوله بسبب الولد إلا أن إيصال العلوق في ملكه بمنزلة البينة العادلة على صدق مقالته، ولو ثبت نسب هذا الولد بالبينة كان موجب هذه الجناية على عاقلته، كذا هاهنا. قلنا: هذا هكذا فيما كان من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه بحال فأما في حق الأحكام التي ينفك النسب عنه فالدعوة بمنزلة الإقرار ألا ترى أن رجلاً لو كان قطع يد هذا الولد خطأً حتى وجب على الجاني نصف القيمة، ثم ادعاه البائع حتى صحت دعوته لا يجب على الجاني نصف الدية؟ وإن اتصل العلوق بملكه وجعل دعوته في حق الجاني بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة، لهذا إن وجوب الدية ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه فجعل في هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة كذا ههنا، الوجوب على العاقلة ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه فجعل في حق هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار وما يجب بحكم الإقرار لا يجب على العاقلة.
كل بينة لا تكون حجة شرعاً فهي من التهاتر فمن جملة ذلك ما ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف: في شاهدين شهدا على رجل بقول، أو بفعل يلزمه بذلك إجازة أو كتابة أو بيع أو قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق في موضع وصفاه أو في يوم سمياه، فأقام المشهود عليه بينة أنه لم يكن في ذلك الموضع ولا في ذلك اليوم في الموضع الذي وصفاه، لم يقبل منه البينة على ذلك؛ لأنها بينة في غير موضعها فكانت ساقطة.
بيانه أن الشرع شرع البينات للإثبات لا للنفي؛ لأنه شرعها في جانب المدعي والمدعي يحتاج إلى إثبات الحق فلا يكون حجة في موضع النفي وموضع مسألتنا هذه موضع النفي، فلا تكون البينة حجة فيها فلا يلزم على ما قلنا.
إذا شهدوا أن هذا وارثه لا وارث له غيره حيث تقبل شهادتهم، فهذه شهادة على نفي وارث آخر، لأنا نقول: المقصود من هذا النفي إثبات جميع المال له، فكانت هذه(8/449)
الشهادة على الإثبات باعتبار المقصود، وكذلك كل بينة قامت على أن فلاناً لم يقل لم يفعل لم يقر فهذا كله من التهاتر؛ لأنها قامت على النفي.
رجل أقام على رجل بينة على أنه جرحه يوم النحر بمكة هذا الجرح وقضيت بذلك، ثم أقام المدعى عليه الجراحة على أحد الشاهدين بينة أنه جرحه يوم النحر بكوفة، لم أقبل بينته على ذلك قال: لأني قد قضيت بجراحته يوم النحر بمكة، ولا يكون في يوم واحد بكوفة ومكة، وقد ثبت بالبينة الأولى كونه بمكة يوم النحر وتأيدت تلك البينة بإيصال القضاء بها، فتعين البطلان في البينة الثانية (143ب4) ولو لم يكن قضيت بالأولى حتى اجتمعت البينتان، والدعوتان أبطلهما لأن القاضي تيقن بكذب أحدهما لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يكون بكوفة ومكة.
قال في كتاب الحدود: لو شهد أربعة على رجل أنه زنى بفلانة يوم النحر بمكة، وشهد أربعة أنه قتل فلاناً يوم النحر بكوفة، أو كانت الشهادة الثانية في نكاح أو طلاق أو عتاق أو جراحة، أو قال رجل لعبديه: أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر، فشهد شاهدان أن هذا أكله، وشهد الآخران أن هذا الآخر أكله، لم أقبل شهادتهما، لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، وإن شهد أحد الفريقين أولاً وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الآخر بما وصفنا، لا تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأن شهادة الفريق الثاني تعينت للكذب، وإن رد القاضي الشهود جميعاً ثم مات أحد الفريقين، ثم شهد الفريق الثاني بما شهدوا به وأعادوا شهادتهم لا تقبل شهادتهم؛ لأن الشهادة متى صارت مردودة في الحكم لا تقبل بعد ذلك أبداً، فإن جاء الآخر بشاهدين آخرين قبلت شهادتهما؛ لأنها لم ترد ولم تعارضها البينة الأولى لأنها مردودة في الحكم فوجب القضاء.
وعلى هذا إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته غدوة يوم النحر بكوفة؛ وشهد آخران أنه طلقها يوم النحر بمكة أو كانوا شهدوا على امرأتين، لم تقبل شهادتهما، ولو شهد أحد الفريقين أولاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الثاني فالقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني لما قلنا.
ولو ادعى رجلان ولاء رجل، وأقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه وهو يملكه، ثم مات ولا يعلمون له وارثاً غيره جعلنا الولاء بينهما، وإن ادعى أحدهما أولاً وقضى القاضي بالولاء له، ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة على دعواه، فالقاضي لا يقبل بينة الثاني؛ لأن الواحد يستحيل أن يكون مُعتَق اثنين، لكل واحد منهما على الكمال، والبينة الأولى تأكدت باتصال القضاء بها فتعينت الثانية للبطلان، وإذا شهد أربعة أخرى على هؤلاء الشهود أنهم زناة فهذا باطل على قول أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يحد الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، وإنما لا يحد المشهود عليه الأول، أما على قولهما؛ فلأن عندهما قبل شهادة الفريق الثاني على الأول، وظهر أنهم زناة فتعطلت شهادتهم لفسقهم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله للشبهة التي دخلت لمكان شهادة الفريق الثاني، والشبهة كافية لدرء الحدود، فأما حجتهما في إقامة الحد على(8/450)
الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أن حجة إقامة الحد عليهم قد تمت، فوجب أن يقام الحد عليهم وهذا لأن الحجة شهادة الأربع العدول، وقد وجد عدد الأربع ووجدت العدالة، لأنهم لم يطعن فيهم، وإنما وجد الطعن في الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أما الفريق الثاني فشهادة الأوليين لا توجب طعناً، وقد جاء فيهم فقبلت لظهور عدالتهم، ولا يقال: إن هذه شهادة قامت لنفي الحد عن المشهود عليه الأول، والبينات للإثبات لا للنفي لأنا نقول: ظاهر شهادتهم لإثبات الحد على الفريق الأول فإن تضمن نفياً لا يقدح ذلك في شهادتهم، فما من إثبات إلا وتحته النفي. وأبو حنيفة
رحمه الله يقول: إن قصد الفريق الثاني إبطال شهادة الفريق الأول، لا إقامة الحسبة فلا تقبل شهادتهم، كما لو شهدوا بعد تقادم العهد.
بيانه: أنهم لما لم يشهدوا حتى شهد الفريق الأول فأما أن يقال كانوا كاذبين قصدوا إبطال شهادة الفريق الأول وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم، أو يقال: كانوا صادقين وكانوا اختاروا الستر، فلما شهد الفريق الأول حملتهم الضغينة على الشهادة عليهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم أيضاً؛ لأن شهادة ذي الضعن مردودة ولأنه يؤدي إلى التهاتر، فإنا لو قبلنا شهادتهم كان يشهد فريق ثالث عليهم أنهم زناة ويشهد فريق رابع على الفريق الثالث، إلى ما لا يتناهى فكان من التهاتر وهو التكاثر فلا تقبل شهادتهم.
وإذا قضى القاضي لرجل بحق ببينة أقامها فيقول المقضي عليه: أنا أقيم البينة أنه لي، لم يقبل ذلك منه، أشار في «الأصل» فقال: لو قبلت من هذا لقبلت من الآخر مثلها فيؤدي إلى ما لا يتناهى، أشار إلى أن المدعى عليه لو تمكن من إقامة البينة على ملكه لنقض القضاء الأول، كان للمدعي أن يقيم البينة أنه لي، ثم يقيم المدعى عليه بعد ذلك أنه لي فيؤدي إلى ما لا يتناهي، فكان من التهاتر والتكاثر فلا تقبل، ولكن هذا القدر لا يصلح عليه لرد الشهادة، فإنه تقبل بينة المدعى عليه على التملك من المدعي، وإنه يؤدي إلى ما لا يتناهي، لأنا لو قبلنا منه ربما يقيم المدعي بينة على التملك من المدعى عليه، ثم المدعى عليه يقيم البينة على المدعي إلى ما لا يتناهي، ومع هذا قبلت بينته على تلقي الملك من جهته، ولكن الصحيح أن هذه بينة قامت على نقض القضاء الأول لا للإثبات، فليس في بينة المدعى عليه إثبات، والبينة القائمة على نقض القضاء مطلقاً لا تقبل، كيف وإنه يضمن أمراً لا يتناهي من الوجه الذي ذكر، فما ذكر في الكتاب لبيان الأولوية لا لرد الشهادة.
قال في كتاب الوصايا: إذا شهد شاهدان أنه دبر فلاناً بعينه إن قتل، وإنه قد قتل وشهد آخران أنه مات موتاً فإنه يقضي بعتق المدبر من الثلث، ولا تجوز شهادة الشهود على الموت، لأن شهود القتل أثبتوا عتق المدبر وشهود الموت نفوا عتقه، وهو المقصود من الشهادة، فأما الموت فإنه غير مقصود، والبينات للإثبات لا للنفي، فلا تقبل شهادة شهود الموت.(8/451)
وكذلك إن شهدا أنه أعتق عبده فلاناً إن حدث به حادث من مرضه أو سفره وأنه مات في ذلك السفر والمرض، وشهد آخران أنه رجع من سفره ومات في أهله، أو برأ من مرضه ومات من مرض آخر بعد ذلك؛ لأن الوقت في البينة الأولى صار مقضياً به، فإنه لو مات بعد رجوعه من سفره لا يعتق العبد؛ لأنه علق العتق بموت يوجد في السفر فإذا صار الوقت مقضياً به في البينة الأولى تعذر القضاء بموته بعد ذلك؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار.
وإن شهد شاهدان أنه قال: إن حدث في سفره هذا حدث فأنت حر وأنه مات في سفره ذلك وشهد آخران أنه قال: إن رجعت من سفري هذا فمت في أهلي ففلان حر وأنه رجع من سفره ومات في أهله، وجاء الشهود إلى القاضي فإنه يجيز شهادة الفريق الأول أنه مات في سفره، لأن كليهما شهدا بموته، وذكروا لذلك تاريخاً والموت حادث فأسبق التاريخين أثبت موته في زمان لا يعارضه أحد، فثبت موته في ذلك الزمان فصار الموت مقضياً به في ذلك الزمان ضرورة القضاء بالعتق المعلق به، فتعذر القضاء بالبينة الأخرى؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار.
وأوضح هذا بما إذا ذكروا تاريخاً وأفصحوا بالوقت فقال: لو أن رجلاً قال إن مت في جمادى الأولى ففلان حر، وإن مت في رجب ففلان الآخر حر؛ فشهد شاهدان أنه مات في جمادى الأولى، وشهد آخران أنه مات في رجب، أخذت بقول من شهد على الميت الأول، ولا ألتفت إلى قول الآخرين لما قلنا كذلك هاهنا، فإن شهد شاهدان أنه قال لعبده: إن مت من مرضي فأنت حر، وقالا: لا ندري مات من ذلك المرض أم لا؟ وقال العبد: مات من ذلك المرض، وقالت الورثة: لا بل برئ، فإن القول قول الورثة مع اليمين، لأن المقصود من هذه الدعوى العتق وانتفاؤه لا الموت من المرض أو بعدما برئ منه، والورثة ينكرون العتق لإنكارهم وجود شرط العتق، فكان القول قولهم، وإن قامت لهما بينة أخذت ببينة العبد، لأن البينات للإثبات، وذلك في بينة العبد؛ لأنها تثبت العتق دون بينة المولى فإنها تنفي العتق، وهو المقصود بالدعوى والإنكار.
فإن قال: إن مت من مرضي هذا فلان حر، وإن برئت ففلان الآخر حر، فقال العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر: مات منه، وقال الورثة: برئ فالقول قول الورثة مع أيمانهم لما قلنا إنهم ينكرون نزول العتق في العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، ويعتق العبد الآخر لإقرارهم بوجود شرط عتقه وهو البرء من ذلك المرض، فإن أقام العبد الذي قال له: إن مت من مرضي فأنت حر البينة أنه مات من مرضه ذلك، قبلت بينته ويقضي بعتقه؛ لأنه أثبت ما ادعاه ببينة، وعتق الآخر بإقرار الوارث له فإن قامت البينتان جميعاً أخذت بالبينة التي شهدت على موته من ذلك المرض ولا أقبل بينة الآخر، وهذا بخلاف الوارث يقيم البينة على موته في زمان، ثم تقيم المرأة على النكاح بعد الزمان الأول أنه تقبل بينتها؛ لأن في تلك المسألة لم يتعلق بالموت في ذلك الزمان حكم فلم يصر الموت (144أ4) في ذلك الزمان مقضياً به فقبلت بينة(8/452)
المرأة، أما ههنا لابد من القضاء بالموت في ذلك المرض لإثبات العتق في العبد الأول لأنه معلق به، ولابد من القضاء شرط العتق ليمكن القول بنزول العتق، فصار موته من ذلك المرض مقضياً به، فلم تقبل بينة الآخر؛ لأن بعدما ثبت موته في زمان لا يتصور أن يكون حياً بعد ذلك.
ذكر في كتاب محمد رحمه الله إعمالاً لرقه.
قال محمد رحمه الله: كل مدع على صاحبه بشيء من الأشياء مما يلزمه فيه حق، وأقام البينة أنه فعل يوم كذا في موضع كذا، وأقام المدعى عليه البينة أنه كان في ذلك اليوم في موضع كذا، المكان لا يستقيم أن يكون فيه وفي الموضع الآخر في يوم واحد وليس ذلك بأمر مكشوف فالبينة بينة المدعي، ولا تقبل من المدعى عليه بينة، والأصل فيه ما ذكرنا غير مرة: أن البينات للإثبات، فمن لا يقصد بإقامة بينته إلا النفي لا تقبل منه البينة؛ لأنه أراد أن يضعها في غير ما وضعت في الشرع فلم يكن له ذلك.
قال: فمن جملة ذلك رجل أقام البينة على آخر أنه قتل أباه عمداً في ربيع الأول، وأقام المدعى عليه البينة أنهم رأوا أباههم حياً بعد ذلك الوقت، أو أنه كان حياً وأقرضه ألف درهم بعد ذلك الوقت وأنها دين عليه، أو أقام رجل على آخر البينة أنه أقرض فلاناً أباه أمس ألف درهم، وأقام الآخر بينة أن أباه مات قبل ذلك، أو أقامت امرأة رجلين أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بالرقة؛ وأقام فلان البينة أنه كان في ذلك اليوم حاجاً بمنى، فالبينة في جميع ذلك بينة المدعي، ولا يلتفت إلى بينة المدعى عليه؛ لأن الإثبات في بينة المدعي، والمدعى عليه لا يريد ببينته إلا نفي القتل والقرض والطلاق، والبينات لا تقبل للنفي، إنما تقبل للإثبات فلم يلتفت إلى بينته إلا أن يأبى العامة وشهد بذلك، ويكون أمراً مكشوفاً فيؤخذ بشهادتهم، لأن الخبر المتواتر موجب للعلم قطعاً، فإذا شهدوا به على التواتر لم تقبل البينة على خلافه، لأنها محتملة للكذب وقد ظهر كذبهم بخبر العامة، بخلاف ما إذا لم يشهد به العامة ولكن قامت بينة مثله على خلافه لأنها مثل الأولى، وترجحت الأولى عليه بقوة الحكم؛ لأنها مبنية وليس في هذه البينة إثبات، فلم تصلح معارضة لها فبطلت، ولكن إنما بطلت الترجيح من حيث الحكم بعد مساواتهما في شهادتهما وشهادة شاهدين لا تصلح معارضة لخبر العامة في أدائها لما فيها من احتمال الكذب، وانتفاء الاحتمال في خبر العامة فلهذا أخذ بخبرهم.
قال: ألا ترى أن العامة لو شهدت أن المدعى عليه كان معهم في الموسم، وأنه شهد معهم عرفات، لم تقبل بينة المدعية على ما ادعت من الطلاق لما ذكرنا من ظهور الكذب في البينة على ما قلنا، فإن أقامت المرأة البينة أن زوجها طلقها يوم النحر بالرقة، وأقام عبده البينة أنه أعتقه في ذلك اليوم بمنى، وجاءت البينتان جميعاً والرجل يجحد ذلك كله، فالبينتان باطلتان لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، وجهالته الصادق من الكاذب منهما، وانعدام الترجيح لأحدهما على الأخرى، فإن صدق الرجل إحدى البينتين وجحد الأخرى قضى عليه بالطلاق والعتاق جميعاً أماما أقر به فلإقراره والآخر بالبينة،(8/453)
والبينة الأخرى قد بطلت؛ لأنها إنما تقبل على المنكر فإذا أقر به فقد فات شرط قبولها وهو الإنكار فبطلت، فتقبل البينة الأخرى لاستجماع شرائطها وخلوها عن المعارضة.
وهذه المسألة دليل على أن المدعى عليه بعدما أقام المدعي البينة إذا أقر بما ادعاه المدعي أن القاضي يقضي عليه بالإقرار، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه.
ولو شهد اثنان أنه طلق امرأته يوم النحر بمنى وشهد آخران أنه أعتق عبده بعد ذلك اليوم بالرقة، فإن القاضي يقضي بالطلاق بالوقت الأول؛ لأنهما شهدا به بذلك التاريخ ولا تعارضه البينة الأخرى؛ لأنها لا تقبل تاريخاً بعده، فلم تعارضه فقضى بالبينة الأولى، ثم ينظر بعد ذلك إن كان بين الوقتين ما يستقيم أن يكون في المكانين جميعاً بأسرع ما يقدر عليه من السير قضى بشهادتهم جميعاً؛ لأنه لا تنافي بينهما فأمكن العمل بهما فيعمل، وإن كان لا يستقيم بطل الوقت الثاني؛ لأنه لما وجب قبول البينة الأولى لإثباته تاريخاً سابقاً تعين جهة البطلان في الثانية لتعذر الجميع بينهما.
ولا يقال: بأن العمل بالبينتين ممكن، لأنه لا يستحيل كونه في يوم واحد بهذين المكانين وكذلك في هذين الوقتين؛ لأنه يبعد (كونه) من الأولياء وكرامة الأولياء حق، لأنا نقول: إن الولي لا يجحد ما قد فعله حتى تقام عليه البينة، فلا يمكن تصور المسألة فيه، ولأن الأحكام إنما تنبني على ما عليه قدرة الناس باعتبار العادة، فإنما لا يبتني على ما يتصور من إقدار الله تعالى، ألا ترى أن من حلف وقال: والله لأمس السماء، فإنه يحنث في الحال لمكان العجز الثابت للحال باعتبار العادة ولا يعتبر ما يتصور من إقدار الله تعالى إياه فكذا هذا، والاستحالة عادة ثابتة ههنا، وباعتبارها تعذر القضاء بالبينتين على ما ذكرنا فبطلتا.
ولو شهد شاهدان أنه قال: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وأنه مات من ذلك المرض، وشهد آخران أنه قال: إن برئت من ذلك المرض ففلان آخر حر، فقد ذكرنا هذه المسألة أعادها لزيادة تفريع لم نذكرها ثمة، وهو أن الورثة إذا قالوا: برئ من ذلك المرض عتق العبد المقر له من جميع المال، وعتق العبد المشهود له من ثلث ماله، لأنهم أقروا بعتق ذلك العبد في حالة الصحة من المولى والعتق في صحته ينفذ من جميع ماله، والشهود إنما شهدوا بعتق هذا العبد عند موته وأنه لا ينفذ إلا من في الثلث لأنه عتق بجهة التدبير، فإن لم يكن للميت مال غير العبدين وقيمة العبدين على السواء يسعى المعتق في المرض في ثلث قيمته، لأنه يجعل في حقه كأن المال هذان العبدان، وان ذلك العبد لم يعتق من جهة الميت؛ لأنه لا يعمل إقرار الورثة في حقه، فصار في حقه كأن الورثة أعتقوا ذلك العبد بعد موته، وإذا جعل في حقه كأن مال الميت هذان العبدان، ووجب اعتبار عتقه من الثلث وقيمتهما سواء كان الثلث ماله ثلثا رقبته لا محالة، فيعتق مجاناً ويسعى فيما سواه وهو الثلث.
فإن قالت الورثة: مات من مرضه قبل أن يبرأ، فإنه يعتق هذا العبد المقر له من ثلث مال الميت بعد عتق الآخر؛ وعتق الآخر بشهادة الشهود من جميع المال، لأنه عتق المشهود لعتقه بالبرء من المرض بالبينة لخلوها عن المعارضة،(8/454)
فإن البينة الأخرى لم تقبل لعدم شرط قبولها وهو الإنكار، والعتق في الصحة ينفذ من جميع المال، وإنما عتق الآخر بإقرار الوارث، وقد أقروا بعتقه في المرض، فيكون من ثلث مال الميت، وقد خرج العبد الأول من أن يكون مال الميت حتى قضى بعتقه في الصحة، فيعتبر ثلث ماله فيما سواه لنفاذ العتق فيه، حتى إن العبد المقر له يعتق ثلثه مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته.
قال: ولو أقام رجل البينة أن هذا الرجل قتل أباه منذ عشرين سنة، فأقامت امرأة البينة أنه تزوجها منذ خمس عشرة سنة، وأن هؤلاء ولده منها، استحسن أبو حنيفة رحمه الله في هذا أن أجاز بينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، والقياس: أن يقضي ببينة القتل، وقد مر هذا من قبل.
وجه الاستحسان: أن الحكم بثبوت النسب لا يتصور نقضه، وإنه بعدما حكم به لا يبطل حكمه بالإبراء وغيره، ولا يعمل فيه التكذيب بخلاف القتل، فإن حكمه يبطل بالعفو وما أشبهه، وكذلك بتكذيب الولي ينتقض الحكم.
وإذا ثبت هذا فنقول: النسب قد ثبت بنفس هذه الشهادة؛ لأنه يثبت بالشهرة عند الناس ولا يفتقر ثبوته عند الناس إلى قضاء القاضي، حتى حل لهم الشهادة بنسبه بمجرد السماع، فلو قبلنا بينة القتل لنقضنا النسب بعد ثبوته وإنه لا يجوز فلهذا لم تقبل بينة القتل، بخلاف ما لو لم تقم بينة على الولد، لأن النكاح مما يحتمل القطع بالطلاق وغيره، فإذا أمكن نقضه وقد قامت الحجة على انتقاض النكاح، وهو بينة القتل في وقت قبل وقت النكاح، قضي ببينة القتل وبطلب بينة النكاح لهذا، والله أعلم بالصواب.g
الفصل الثامن عشر: في ترجيح إحدى البينتين على الأخرى والعمل بالبينتين المضادتين
بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجلان شهدا على رجل أنه وكل فلاناً ببيع هذا الشيء وشهد آخران على الوكيل ببيعه ووقتوا أو لم يوقتوا، فالبيع باطل إلا أن يوقت بينة البيع وقتاً بعد وقت الوكالة، فلو أن الموكل أخرج الوكيل من الوكالة وهو حاضر بشهادة شهود، فشهد شاهدان عليه بالبيع، وقد وقت بينة العزل وبينة البيع أو لم يوقتوا، فالإخراج عن الوكالة أولى في جميع ذلك، والبيع باطل إلا أن يكون وقت البيع قبل وقت الإخراج من الوكالة (144ب4) وكذلك هذا في التوكيل بالطلاق والعتاق، وهذا كله قياس الشهادة على البراءة والشهادة على الدين، فإن الشهادة على الإبراء أولى ما لم يوقتا للدين وقتاً بعد البراءة.
ولو شهد شاهدان على النكاح وشاهدان على الطلاق فالطلاق لازم للزوج؛ لأنه إقرار من الزوج بالنكاح إلا أن يوقتوا للطلاق وقتاً قبل النكاح، فلا يجوز الطلاق، وكذلك العتاق في هذا مثل الطلاق، ما خلا خصلة واحدة: أن يكون بإقرار من المشتري(8/455)
بعتاق الأصل فهذا يعتق، وإن كان قبل الشراء.
رجل مات فشهد شاهدان أن هذا كان أعتق أعبده، أو شهدا أنه كان طلق امرأته ثلاثاً، لا يدرى أنه كان ذلك في صحة أو مرض وقد وقتوا أو لم يوقتوا فهذا على المرض في جميع ذلك، حتى (ولو) شهدا أنه كان في الصحة.
شهد شاهدان على وكالة في بيع، وشهدا على البيع وأغفل القاضي أن يسألهما بعد الوكالة كان البيع أو قبلها حتى مات الشاهدان، أو شهدا على الوكالة بطلاق أو عتاق فشهدا بالطلاق والعتاق وماتا قبل السؤال، فهذا والباب الأول سواء في القياس، لكن أستحسن في هذا أن أجيز الطلاق والعتاق والبيع، ولو شهدا أنه جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها، وأغفل القاضي أن يسألهما في ذلك المجلس أو بعدما قامت من المجلس فإن هذا لا يجوز الطلاق فيه ولا نسبة الوكالة.
ابن سماعة: عن أبي يوسف امرأة ادعت بعد وفاة زوجها مهراً ألف درهم وذلك مهر مثلها وقالت الورثة: نحن علمنا أن أبانا تزوجها ولا ندري ما فرض لها، وحلفوا بالله ما يعلمون مهرها، فإني أجعل لها الصداق عشرة دراهم، وهذه الرواية تشهد لما قاله بعض مشايخنا من تفسير المستنكر حداً على قول أبي يوسف رحمه الله: إن المراد منه أن يدعي الزوج أو ورثته أقل من عشرة دراهم.
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم ومئة دينار، فكانت الألف بصك وقد كتب عليه وكتب أنه لا شيء عليه غيرها، وكانت المئة دينار بصك قد كتب عليه وكتب له لا شيء عليه غيرها، والوقت واحد أو لا وقت فيهما فالمال كله لازم، قال: ألا ترى أنه لو قال: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليك غير ذلك، ولي عليه مئة دينار ولا مال لي عليه غير ذلك، وجعل على ذلك بينة إني أقبل البينة وألزمه المال كذا ههنا.
وذكر عن المعلى قال: سألت محمداً عن رجل ادعى على رجل ألف درهم في صك، ومئة دينار في صك، وفي كل واحد من الصكين: فهو جميع مالي عليه، وأقام بينة على كل واحد من الصكين، قال: عليه أحد المالين يعطيه أيهما شاء، وروى هشام عنه: أنه لا يلزمه شيء من ذلك والله أعلم.
الفصل التاسع عشر: في شاهدي الزور
اتفق العلماء على أن شاهد الزور يعزر، لأنه ارتكب كبيرة، قال عليه السلام «عودلت شهادة الزور بالشرك بالله» ثم قرأ قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان(8/456)
واجتنبوا قول الزور} (الحج: 30) وليس فيها حد مقدر شرعاً وهذا ظاهر فكل من ارتكب كبيرة ليس فيها حد مقدر يعزر، غير أن أصحابنا رحمهم الله اختلفوا في تعزيره.
قال أبو حنيفة رحمه الله في المشهور: يطاف به ويشهر ولا يضرب، فإن كان سوقياً يبعث به القاضي إلى أهل سوقه وقت الضحوة أجمع ما كانوا، وإن لم يكن سوقياً يبعث به إلى محلته أجمع ما كانوا، ويقول أمين القاضي: إن القاضي يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهداً للزور فاحذروه وحذروه الناس.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يعزر بالضرب ولا يبلغ به أربعين سوطاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يبلغ خمسة وسبعين، حجتهما في ذلك: أنا أجمعنا على أن التعزير في سائر المعاصي بالضرب فكذلك هذا.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنما أقدم على الشهادة ليحصل له ماء الوجه عند الناس، وبالتشهير يذهب ماء وجهه، فكان هذا تعزيراً لائقاً لجريمته فكان أولى. وروى أبو يوسف ومحمد رحمهما الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضرب ثم يطاف به ويشهر.
وذكر الخصاف في كتابه: أنه يشهر على قولهما بعد الضرب أيضاً والكلام في مقدار الضرب في التعزير عرف في كتاب الحدود، ولا يسخم وجهه أي: لا يسود، يروى هذا اللفظ بالخاء والحاء جميعاً، فالذي روي عن عمر رضي الله عنه في «شاهد الزور يسخم وجهه» فتأويله عند شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: ذلك بطريق السياسة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، وتأويله عند شيخ الإسلام: أنه لم يرد به حقيقة التسويد إنما أراد به التخجيل بالتفضيح والتشهير، فإن الخجل سمي سوداً، قال الله تعالى: {إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} (النحل: 58) .
وإنما لم ير أصحابنا رحمهم الله تسخيم وجهه لأن المقصود من تعزيره شيئان: أحدهما: امتناعه عن شهادة الزور في المستقبل، والثاني: أن يعرفه الناس أنه شاهد زور فيحذروه، وإذا سخم وجهه لا يعرف فلا يحذروه فلا يحصل المقصود، قال صاحب «الأقضية» : وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك، فيقول: كذبت فيما شهدت متعمداً، ويشهد بقتل رجل أو بموته، فيجيء المشهود بقتله وموته حياً، فأما من ردت شهادته لتهمة أو لدفع مضرة عن نفسه أو لجر منفعة إلى نفسه، أو لمخافة وقعت بين الشاهدين فليس شاهد زور.
ثم ذكر في الشاهدين إذا اختلفا في الموطن الذي شهدا بالفعل فيه أو اختلفا في الفعل نفسه أو في الإنسان والإقرار في الفعل، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تعزير عليه ولا ضرب؛ لأنه لا يعرف الصادق من الكاذب، ولا يجوز إيجاب العقوبة مع الاحتمال.
وإذا رجع شاهد الزور عن صنعه فتاب، هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ فلا ذكر لهذه(8/457)
المسألة في شيء من الكتب، وحكي عن الفقيه أبي بكر محمد بن أحمد الحجراني رحمه الله أنه قال: إن كان فاسقاً يعلن الفسق لا تقبل شهادته بعد ذلك، وإن لم يكن معلناً تقبل شهادته. وفي «الحاوي» عن أبي يوسف رحمه الله مثل هذا، والمذكور في «الحاوي» شاهد هو عدل بين الناس ممن تجوز شهادته، فشهد بزور لا تقبل شهادته بعد ذلك؛ لأنه لا يعرف له توبة، وإن لم يكن عدلاً فشهد بزور تقبل شهادته والله أعلم.
الفصل العشرون: في الدعوى إذا خالف الشهادة
إذا ادعى على آخر مئة أقفزه حنطة بسبب سلم مستجمعاً شرائطه، وشهد الشهود أن المدعى عليه أقر أن له عليه مئة أقفزة حنطة ولم يزيدوا على هذا، فقد قيل: لا تقبل شهادتهم، لأن الشهود لم يذكروا إقراره بسبب السلم، ودين السلم بخلاف سائر الديون حتى لا يجوز الاستبدال بدين السلم قبل القبض، ويجوز الاستبدال بسائر الديون، وقيل: ينبغي أن تقبل شهادتهم، لأن هذا اختلاف في سبب الدين، إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا لم يختلف الدين باختلاف السبب، ودين السلم مع دين آخر يختلفان إن كانت الدعوى بلفظ مرابحة والشهود شهدوا بلفظ التسبب.
حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله: أن الشهادة لا تقبل لأنهما غيرا فيما شهد به الشهود لم يدخل تحت الدعوى، وقيل: ينبغي أن يقبل في عرفنا وهو الأشبه والأظهر؛ لأن في عرفنا البيت والدار واحد، يقال: خانة فلان كما يقال: سراي فلان.
وإذا ادعى ملكاً بسبب حق الشراء من رجل آخر والإرث عن أبيه أو ما أشبه ذلك، وأقام البينة على الملك المطلق لا تقبل بينته لوجهين:
أحدهما: أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، لأن المدعي ادعى الملك بسبب حادث يكون حادثاً ضرورة، والشهود شهدوا بملك قديم؛ لأنهم شهدوا بالملك المطلق والملك المطلق قديم، ولهذا قلنا: إن في دعوى الملك يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على البعض، ولا شك أن الملك القديم أكثر من الملك الحادث، والشهود إذا شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي لا تقبل شهادتهم، لأن المدعي يصير مكذباً شهوده في بعض ما شهدوا به وهو الزيادة على ما ادعى، وتكذيب المدعي شهوده في بعض ما شهدوا به يمنع قبول الشهادة.
الوجه الثاني: ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لما ادعى أنه(8/458)
اشتراها من فلان وهو يملكها فقد أقر بالملك لفلان إما صريحاً أو بمقتضى الإقدام على الشراء، فإن كل مشتر مقر بالملك في المشترى للمشتري وقت البيع، ثم يدعي الانتقال إليه، ولم يثبت الشراء ههنا؛ لأن الشهود لم يشهدوا به، وهذا إذا ادعى الشراء من رجل معروف.
فأما إذا ادعى الشراء من رجل مجهول ثم أقام البينة على الملك المطلق تقبل شهادتهم؛ لأن أكثر ما فيه أنه صار مقراً بالملك لبائعه إلا أن هذا الإقرار منه لم يصح، لأنه أقر بالملك للمجهول والإقرار للمجهول باطل، فصار كأنه لم يقر له بالملك ولم يدع الشراء منه أصلاً، وهناك تقبل منه البينة على الكلام المطلق كذا ههنا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجل معروف؛ لأن هناك الإقرار للبائع بالملك صح لكونه إقراراً للمعلوم، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه بالشراء ولم يثبت بالشراء إذ الشهود لم يشهدوا به، فلو كان المدعي ادعى الملك لنفسه مطلقاً، وشهد الشهود له بالسبب فالقاضي يقبل شهادتهم.
أما على المعنى الأول: فلأن الشهود شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي؛ لأنهم شهدوا بملك حادث والمدعي ادعى ملكا قديماً، والشاهد إذا شهد (145أ4) بأقل ما ادعى المدعي تقبل شهادته.
يوضيح الفرق بينهما: أن الملك القديم يجوز أن يصير ملكاً حادثا؛ لأن المملوك أول من أمس يجوز أن يصير مملوكاً أمس ملكاً حادثاً بسبب حادث، بأن يبعيه ثم يشتريه، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة ممكن فتقبل الشهادة، أما الملك الحادث فلا يجوز أن يصير ملكاً قديماً؛ لأن المملوك أمس لا يتصور أن يصير مملوكاً من أمس، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة غير ممكن فلا تقبل الشهادة.
وأما المعنى الثاني: فلأنه ما أقر بالملك لغيره، إنما ادعى الملك لنفسه ملكاً مطلقاً، والشهود شهدوا له بالملك إلا أنهم زادوا في الشهادة سبب الملك، وزيادة سبب الملك في الشهادة لا توجب خللاً في الشهادة، لأنا نعلم أنه لابد للملك من سبب فقد بينوا ما هو معلوم من غير شهادتهم، فلا يوجب خللاً في شهادتهم.
ثم إذا ادعى الملك مطلقاً والشهود شهدوا بالملك بسبب، ينبغي للقاضي أن يسأل المدعي: أتدعى الملك بهذا السبب الذي شهد به الشهود أو تدعيه بسبب آخر؟ إن قال: أدعيه بهذا السبب فالقاضي يقبل شهادة شهوده ويقضي له بالملك.
ولو ادعى الشراء مع القبض وشهد له الشهود بالملك المطلق ففيه اختلاف المشايخ: بعضهم قالوا: تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء مع القبض ليس دعوى الشراء من حيث المعنى، بل هو دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لو كان هذه الدعوى من جهة البائع كان دعوى الثمن لا دعوى البيع، حتى لا يشترط لصحة هذه الدعوى إعلام المبيع حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بكذا وسلمته إليك، صح دعواه وإن كان العبد مجهولاً، فكذا من جانب المشتري يكون دعوى الملك المطلق، ولما كان دعوى الشراء(8/459)
مع القبض دعوى الملك المطلق صار كأنه ادعى ملكاً مطلقاً وشهد له الشهود كذلك.
وبعضهم قال: لا تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء معتبر في نفسه في هذه الصورة، ولم يصر بمنزلة دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لا يقضى للمدعي في هذه الصورة بالزوائد.
ولو ادعى الملك بالنتاج وشهد له الشهود بالملك بسبب من جهة صاحب اليد أو من جهة غيره، لا تقبل الشهادة، بخلاف ما إذا ادعى الملك مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب، حيث تقبل، والفرق أن دعوى النتاج على دعوى اليد لا يحتمل دعوى ملك حادث من جهته، أو من جهة غيره إذ لا يتصور التملك بالنتاج من جهة غيره، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذا ملكي بالنتاج من جهة ذي اليد أو من جهة فلان، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد أو من غيره فقد شهدوا بما لم يدخل تحت دعوى المدعي فلا تقبل شهادتهم، فأما دعوى الملك المطلق على ذي اليد فيحتمل دعوى ملك حادث من جهة ذي اليد أو من غيره، ألا ترى أنه لو قال هذا الشيء لي بالشراء من فلان أو من ذي اليد كان صحيحاً، ولهذا ترجح بينة الخارج على بينة ذي اليد، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد فقد شهدوا بما صلح داخلاً تحت دعوى الملك، فلا تثبت المخالفة بين الدعوى والشهادة.
وسئل شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله: عمن ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وشهد له الشهود أنه ملكه بسبب أنه ورثه من أبيه، قال: لا تقبل الشهادة، فقيل له: إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» أن من ادعى ملكاً مطلقاً وشهد الشهود له بالسبب أن الشهادة مقبولة، قال: هذا هكذا في موضع صحت الشهادة على السبب، والشهادة على السبب ههنا لم تصح، لأنهم شهدوا بالميراث ولم يجروا الميراث، ولكن هذا ليس بصواب، فإن قولهم: ورثه من أبيه، كاف لإثبات الملك بسبب الميراث كقولهم: اشتراه من فلان، وهو معنى جر الميراث، فكانت الشهادة على السبب صحيحة فيجب قبولها.
ولو ادعى ديناً بسبب نحو القرض أو ما أشبهه، وشهد له الشهود بالدين المطلق، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يقول: لا تقبل شهادته، كما في العين إذا ادعى الملك فيه بسبب، وشهد الشهود له بالملك مطلقاً، وفي كتاب «الأقضية» مسألتان تدلان على القبول.
وإذا ادعى على امرأة أنها منكوحة ولم يدع الزوج، فشهد له الشهود على أنه تزوجها، أو ادعى على امرأة أنه تزوجها، وشهد له الشهود أنها منكوحة قبلت الشهادة، لأن النكاح سبب متعين لصيرورة المرأة منكوحة، فكان ذكره وترك ذكره سواء.
وإذا ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه، وأن صاحب اليد قبضه مني بغير حق منذ شهر، وشهد له الشهود بالقبض مطلقاً لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في ذلك، قال بعضهم: لأن شهادتهم على القبض مطلقاً من غير ذكر تاريخ محمولة على(8/460)
الحال، فالمدعي ادعى الفعل في زمان ماض، والشهود شهدوا على الفعل في الحال، والفعل في الزمان الماضي غير الفعل في الحال، فهو نظير ما لو ادعى على غيره الفعل منذ شهر، وشهد الشهود له بالفعل في الحال، وقال بعضهم: المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ، والشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي.
وكذلك إذا ادعى المدعي القبض مطلقاً وشهد له الشهود بالقبض منذ سنة، لأنه ادعى الفعل في الحال والشهود شهدوا له بالفعل في الماضي، فلا تقبل شهادتهم، إلا إذا وفق المدعي وقال: أردت بالمطلق القبض من ذلك الوقت الذي شهد به الشهود فحينئذ تقبل، وقيل: تقبل الشهادة في هذا الوجه من غير توفيق المدعي؛ لأن المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي فيقبل.
وإذا ادعى عيناً في يدي رجل وقال: هي لي منذ سنة، وشهد الشهود أنها له منذ عشر سنين، لا تقبل شهادتهم، ولو قال: هي لي منذ عشر سنين وشهد الشهود أنها له منذ سنة تقبل شهادتهم، لأن في الوجه الأول الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، وفي الوجه الثاني شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي.
وإذا ادعى الملك بسبب الشراء منذ سنة وشهد الشهود له بالشراء من غير تاريخ، فقد قيل: لا تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، وقد قيل: تقبل لأن الشراء حادث فإذا لم يذكر الشهود له تاريخاً يحمل على الشراء للحال، فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي.
ولو كان المدعي ادعى الملك بسبب الشراء مطلقاً، ولم يذكر التاريخ في الشراء، والشهود شهدوا بتاريخ سنة أو ما أشبه ذل، فقد قيل: لا تقبل؛ لأن دعوى المدعي محمول على الحال إذا لم يذكر للشراء تاريخاً، وإذا حمل على الحال ظهر أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي وقيل: تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، فقد شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي فتقبل.
وفي «الجامع الكبير» قال محمد رحمه الله: رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه، فادعى رجل آخر أنه عبده، وجاء بشاهدين شهدا على إقرار صاحب اليد أنه عبد المدعي، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي، اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً.
وإذا ادعى على رجل خمسمئة وشهد له الشهود بألف درهم، لا تقبل شهادتهم؛ لأنه صار مكذباً شهوده فيما زاد على الخمسمئة إلا أن يوفق فقال: كان له عليه ألف درهم كما شهد به الشهود إلا أنه قضى خمسمئة، أو قال: أبرأته عن خمسمئة ولم يعلم الشهود بذلك، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل الشهادة ويقضي له بالخمسمئة لزوال التكذيب، ولا يحتاج إلى إقامة البينة على التوفيق؛ لأن التوفيق بدعوى الإبراء أو القضاء وكل ذلك يثبت بإقرار المدعي؛ لأنه إقرار على نفسه، فلا يحتاج إلى إقامة البينة عليه.
وإذا ادعى الغريم على صاحب المال أنه أبرأه أو حلله، وجاء شهود شهدوا على(8/461)
إقرار صاحب المال بالاستيفاء، فإن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل، أكانت بالإسقاط أو بالاستيفاء، فإن قال: كانت بالاستيفاء قبلت الشهادة لوجود الموافقة بين الدعوى والشهادة، وإن قال: كان بالإسقاط لا تقبل لتحقق المخالفة.
وإن سكت ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجبر على البيان؛ لأن الإنسان لا يجبر على تحصيل حق نفسه، ولكن لا تقبل شهادته ما لم يوفق، فقد رجع في هذه المسألة في البيان إلى المدعي وفيما إذا ادعى الغريم الإيفاء وشهد له شاهدان أنه أبرأه أو حلله ذكر أنه تقبل شهادتهما ولم يقل: رجع في البيان الى الشاهدين إن البراءة كانت بالإيفاء أو بالاستيفاء.
والفرق: أن الشهادة إنما شرعت لتحقيق دعوى المدعي، فإذا وقع الدعوى في شيء معين، فشهدت الشهود بشهادة محتملة حملت الشهادة على وجه الموافقة، إذ الظاهر أن الشهود بشهادتهم المحتملة يريدون الجهة التي تكون الشهادة بها مؤكدة للدعوى دون الجهة الأخرى فبقيت جهة الموافقة بدلالة الحال، فلا حاجة إلى الرجوع في البيان إلى الشاهد، فأما الدعوى إذا كانت محتملة، فالشهود لا يقدرون على إزالة ذلك الاحتمال، فيكون البيان إلى المدعي، فإن بيّن قبل قوله وما لا فلا، وههنا كلمات تأتي بعد إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : شاهدان شهدا على رجل لرجل بقرض ألف (145ب4) درهم، فشهد أحدهما أنه قضاها، وقال المدعي: لم يقضها فالشهادة على القرض جائزة ويقضي القاضي بالقرض على المدعى عليه. وروى الطحاوي عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا يقضي القاضي بالقرض، لأن الذي شهد بالقضاء لم يشهد بمال واجب.
وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن القضاء لا يتصور إلا بعد سابقة، فهما اتفقا على القرض والوجوب فثبت القرض والوجوب، ثم تفرد أحدهما بالقضاء ولم يثبت.
وفي «الأصل» : إذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم، فشهد أحدهما أنه قضى خمسمئة درهم منها وأنكر الطالب القبض، فإن شهادتهما بالألف جائزة، لاتفاقهما على ذلك، وشهادة الواحد بالقبض لا تقبل لتفرده بذلك، فإن قيل: أليس أن المدعي لما أنكر القضاء فقد أكذب أحد الشاهدين فوجب أن لا يقضى له بالألف كما لو شهد له أحد الشاهدين بمئة، والآخر بمئة وخمسين والمدعي يدعي المئة لم يقض له بشيء؛ لأنه كذب أحد شاهديه فكذا ههنا؟ قلنا: تكذيب المدعي شهوده إنما وجد فيما كان مشهوداً عليه؛ لأنه كذب أحدهما في القبض، وإنه في القبض مشهود عليه، وتكذيب المشهود عليه الشاهد لا يمنع قبول الشهادة، لأنه لو منع ما قبلت شهادة في الدنيا؛ لأن كل مشهود عليه يكذب شهوده، فإن قيل: تكذيب المشهود عليه إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا شهد عليه ولم يشهد له، والشاهد يقبض بخمسمئة كما شهد عليه يشهد له، فإذا كذبه وفسقه فيما شهد عليه يجب أن لا تقبل شهادته فيما شهد له؛ لأنه فاسق عنده إلا أن يكذبه ويفسقه(8/462)
فيما شهد عليه لم يعمل فوجب أن يعمل فيما شهد له والجواب: أن التكذيب فيما شهد له لو ثبت إنما يثبت مقتضى التكذيب فيما شهد عليه، وقد كذب شرعاً في حق التكذيب على ما عليه، على معنى أنه لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه والمتكلم متى كذب في كلامه سقط اعتبار كلامه والتحق كلامه بالعدم، وإذا سقط اعتبار هذا التكذيب في حق ما عليه فكذا فيما له، أو تقول بعبارة أخرى: لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه شرعاً؛ لأن تكذيب المشهود عليه الشاهد غير معتبر شرعاً، فلا يعتبر تكذيبه فيما ثبت مقتضاه وهو التكذيب فيما شهد له.b
ولهذا قلنا: لو شهد شاهدان على رجل لرجل بألف درهم وشهدا للمشهود عليه بمئة دينار قبلت شهادتهما، وإن كذبهما وفسقهما؛ لأنه صار مكذباً في هذا التكذيب شرعاً لما قضي عليه بالدراهم، كذا ههنا بخلاف ما أقررتم من المسألة؛ لأن بدعوى المئة صار مكذباً أحد شاهديه، ولم يكذب في هذا التكذيب شرعاً فلم يسقط اعتبار تكذيبه أما ههنا فبخلافه.
وفي آخر شهادات «المنتقى» : شهدا أن لهذا على هذا ألف درهم وقد أقضى منها مئة والطالب يقول: لم أقبض منها شيئاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: يقضي بالألف ويجعل مقضياً للمئة.
وفي «العيون» : إذا شهدا لرجلان على آخر بألف درهم وشهدا أنه قد قضاه خمسمئة وقال للطالب: لي عليه ألف وما قضاني شيئاً وشهودي صدقوا في الشهادة على الألف، وأوهموا في الشهادة على القضاء تقبل شهادتهما إن عدلاً ولو قال: شهادتهم بالألف حق وبالقضاء باطل وزور لا تقبل شهادتهما؛ لأنه نسبهما إلى الفسق.
ولو شهدا على رجل بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك وشهدا أيضاً للمدعى عليه على المدعي بمئة دينار والمدعي ينكر ذلك، قبلت شهادتهما وهي المسألة التي مرت على سبيل الاستشهاد، ثم يكذب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه بعد القضاء يوجب بطلان القضاء على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع» وحكي عن القاضي أبي علي النسفي رحمه الله أنه لا يوجب بطلان القضاء، قال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء على اعتبار أنه كان كاذباً يجوز، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما ذكر القاضي الإمام مخالف لإشارات «الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد من إشارات «الجامع» بفسق تبني عن تكذيب المشهود له وإنه يوجب بطلان القضاء، كما يمنع جوازه، وما قاله القاضي الإمام محمول على نفس التفسيق، بأن يقول المشهود له: إنهم أكلوا ربا أو شربوا الخمر، لا تفسيق ينبني عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء، أما لا يبطل القضاء والله أعلم.
نوع آخر: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل وقال: هذه الجارية كانت لي وشهد الشهود أنها له هل تقبل هذه الشهادة؟ لا ذكر لهذه المسألة في الكتب، وقد اختلف(8/463)
المشايخ فيه بعضهم قالوا: تقبل؛ لأن هذا الاختلاف لو وقع بين المدعي وبين الشاهدين على العكس، بأن ادعى المدعي أنها له وشهد الشهود أنها كانت له تقبل الشهادة فكذا ههنا، وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين، بأن ادعى أنها له وشهد أحد الشاهدين أنها له، وشهد الآخر أنها كانت له لم يمنع قبول الشهادة، فكذا إذا وقع بين المدعي والشاهدين. ومنهم من قال: لا تقبل وهو الأصح؛ لأن دعوة المدعي إنما كانت له إقرار منه دلالة أنه لا ملك له في الحال إذ لا فائدة للمدعي في الإسناد مع قيام الملك له في الحال سوى نفي الملك في الحال، وهذا لأنه كما لا يعلم ثبوت ملكه يقيناً يعلم بقاء ملكه يقيناً، فيكون دعواه الملك فيما مضى نفياً للملك في الحال حتى يكون الإسناد مفيداً، بخلاف الشاهد؛ لأن إسناده لا يدل على النفي للحال، لأن له فائدة سوى النفي في الحال، وهو أن يشهد بما عاين من سبب الملك بيقين، ولا يشهد ببقاء الملك في الحال؛ لأن بقاء الملك في حقه للحال ثابت باستصحاب الحال، والشاهد قد يحترز عن الشهادة بما ثبت عنده من استصحاب الحال، وعلى قياس ما قالوا يجب أن لا تقبل الشهادة، وإن شهدا أنها كانت للمدعي؛ لأن إسناد المدعي دليل على نفي الملك في الحال، فلو نفى المدعي الملك للحال، وشهد شاهدان أنها كانت له لا تقبل الشهادة كذا ههنا.
وإذا شهد الشهود أن هذا العين كانت ملك المدعي والمدعي يدعي الملك في الحال تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم تثبت الملك في زمان الماضي، وما عرف ثبوته في زمان يحكم ببقائه ما لم يوجد المزيل، ولا يقال بأن شهادة الشهود بالملك في الماضي دليل على نفي الملك في الحال لأنا نقول: هذا ممنوع.
وبيانه ما ذكرنا: أن للشاهد في الإسناد فائدة أخرى سوى نفي الملك في الحال، ذكر المسألة في «الأقضية» .
في «أدب القاضي» للخصاف في باب دعوة الرجلين، وعلى هذا إذا ادعى المدعي عيناً ملكاً مطلقاً فشهد الشهود له بسبب الملك، بأن شهدوا أن المدعي ورثها من أبيه، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: هو ملكه للحال، تقبل الشهادة ويقضى بالعين للمدعي.
وكذلك إذا ادعى رجل نكاح امرأة بأن قال: هذه امرأتي أو قال: هذه منكوحتي والشهود شهدوا أنه كان زوجها، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: إنها منكوحته في الحال فالقاضي يقبل الشهادة، ولكن ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود في مسألة الإرث، والشراء هل يعلمون أنها أخرجت عن ملكه؟
ومما يتصل بهذا النوع: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وجاء بشاهدين شهدا أن هذه الدار كانت في يد هذا المدعي لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء في ظاهر الرواية، وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي هذه الدار في يد المدعي، ثم رآه بعد ذلك في(8/464)
يد المدعى عليه، أو أقر المدعى عليه أن الدار كانت في يد هذا المدعي، أمره القاضي بالتسليم إلى المدعي كذا هنا، ولأن الشهود شهدوا بأخذ المدعي الدار من المدعي؛ لأنهم شهدوا أنها كانت في يد المدعي، وما كان في يد الإنسان لا يصير في يد غيره إلا بالأخذ منه، فصار الأخذ من المدعي مشهوداً به اقتضاءً، فيعتبر بما لو كان الأخذ مشهوداً به نصاً بأن قالوا: هذه الدار كانت في يد المدعي أخذها هذا منه وهناك يقضي بالدار للمدعي كذا ههنا.
وجه «ظاهر الرواية» : أن يد المدعى عليه على العين الذي وقع فيه النزاع ثابتة بيقين ولم تثبت ببينة المدعي ما يوجب نقضها، وهو الأخذ من المدعي لا بنصّ الشهادة وهذا ظاهر؛ لأن الشهود لم يشهدوا أن المدعى عليه أخذها من المدعي، ولم يثبت ذلك أيضاً، مقتضى ما شهدوا به من كونها في يده أمس؛ لأنه لم يثبت كونها في يده أمس بهذه الشهادة؛ لأن المشهود به لا يثبت إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يمكنه القضاء بكونها في يد المدعي؛ لأن كونه في يده محتمل أن يكون بحق بأن تكون يد ملك، ويحتمل أن تكون بغير حق بأن كان يد غصب فعلى أحد الاحتمالين يجوز القضاء، وعلى الاحتمال الآخر لا يجوز القضاء، فلا يجوز القضاء بالشك، ولأن قبول الشهادة على أمر (146أ4) في الماضي، باعتبار ما عرف ثبوته في الحال، والحكم ببقائه باعتبار استصحاب الحال، وذلك فيما لم يتيقن بزواله، وقد تيقن القاضي بزوال اليد ههنا، فإذا لم يقض القاضي بكونها في يده لم يثبت كونها في يده، فلا يثبت الأخذ منه.
وقوله بأن الأخذ مشهود به على حسب ما قرر. قلنا: إنما يكون الأخذ مشهوداً به، إذا ثبتت اليد فيما مضى ولم (تثبت) بهذه الشهادة؛ لأن اليد محتملة، ولا يجوز القضاء بما هو محتمل على ما مر، وإذا لم تثبت اليد للمدعي بهذه الشهادة كيف يثبت الأخذ منه؟ بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه أنها كانت في يد المدعي، لأن الإقرار حجة تلزمه بنفسه لا تتوقف على قضاء القاضي، فتثبت يد المدعي بنفس الإقرار، ويثبت الأخذ من المدعي، أما البينة فلا تصير حجة إلا بالقضاء، والقضاء باليد فيما مضى مع الاحتمال، فلا يثبت الأخذ منه، أو نقول: إقرار ذي اليد صدق في حقه من كل وجه غير محتمل من الصدق والكذب، فوجب القضاء بالإقرار لا محالة، وما ثبت بالإقرار فهو كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي إقرار المدعى عليه أنها كانت في يده أمس، يثبت أخذه من المدعي لا محالة، كذا ههنا.
وبخلاف ما إذا عاين القاضي كونه في يد المدعي أمس هناك ثابت من غير قضاء، ومن ضرورته الأخذ منه، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هنا بخلافه وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هاهنا بخلافه.
وبخلاف ما إذا تنازع رجلان في دار، كل واحد يدعي أنها له وفي يديه، وأقاما البينة على أنها كانت في أيديهما، فإن القاضي يقضي بكون الدار في أيديهما للحال، مع(8/465)
الاحتمال الذي ذكرنا؛ لأن هناك القاضي لم يتيقن بزوال يدهما، بخلاف ما إذا كانت في يد ثالث.
وحقيقة الفقه في ذلك، وهو أن اليد إذا كانت ثابتة للغير بيقين، لا يجوز نقضها بحجة محتملة، فإذا كانت الدار في يد ثالث فاليد للمدعى عليه ثابتة بيقين، و (لا) حاجة إلى نقضها، ويد المدعي فيما مضى محتملة فلا يجوز نقض يد المدعى عليه الثابت بيد محتملة للمدعي فيما مضى، فأما إذا لم تكن الدار في يد ثالث، فليس في جعلها في أيدي المدعيين إبطال يد ثابتة بيقين، فكان القضاء بكونها في أيديهما، وقد قام لهما نوع دليل أولى من جعلها في يد الغير وليس عليه دليل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في أجمة أو غيضة تنازع فريقان، كل فريق يدعي أنها له وفي يده، فشهد الشهود لأحد الفريقين أنها في يده، أو شهدوا لهما أنها في أيديهما فإن لم يسألهم القاضي عن تفسير ذلك، ولم يزيدوا عليه فهو مستقيم، وإن سألهم عن تفسير ذلك فهو أوثق وأحسن، وهذا لأن اليد على الأجمة إنما تعرف بالدليل، وعسى يرى الشاهد شيئاً يظنه دليلاً على اليد، ولا يكون دليلاً، فإن سأله ليزول الاشتباه فهو أحسن، وإن لم يسأله واكتفى به فله ذلك، لأن السؤال عسى يفضي إلى بطلان الشهادة مع كون الشاهد محقاً، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا بالملك المطلق في العين أو الدين، وقضى القاضي بشهادتهم من غير أن يسألهم عن تفسير ذلك جاز، كذا ههنا.
ثم بيَّن ما تُعرف به اليد على الغيضة والأجمة فقال في الغيضة: إذا كان يقطعون الأشجار ويبيعونها، أو ينتفعون بها منفعة أقرب من هذا أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وقال في الأجمة: إذا كانوا يأخذون القصب ويقطعونها للصرف إلى حوائج أنفسهم أو للبيع أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وهذا لأن اليد في عرف لسان الفقهاء القدرة على التصرف من حيث الآلة واليد التي هي دليل الملك والقدرة على التصرفات التي تختص بالملك، يعني به: الانتفاع المطلوب من العين من غير منازع، فإذا شاهدنا قدرته على الانتفاع بالعين انتفاعاً بطلت من ذلك العين علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقه.
إذا ثبت هذا فنقول: الانتفاع المطلوب من الأجمة والغيضة الحطب والقصب لا الزراعة والسكنى، فإذا شاهدناهم يقطعون الشجر والقصب، ويصرفونه إلى حاجة أو يبيعونه أو ما أشبه ذلك من غير منازع، علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقهم.
قال محمد رحمه الله: وإذا تنازع الرجلان في دار، كل واحد منهما يدعي أنها في يده، فأقام أحدهما بيِّنة أنهم رأوا دابته في هذه الدار، ورأوا غلمانه يدخلونها ويخرجون منها، فالقاضي لا يقضي بيد الذي شهد له الشهود بما وصفنا حتى يقولوا: كانوا سكاناً فيها، وإذا قالوا ذلك قضيت بأنها في يد صاحب الغلمان والدواب، وهذا لما ذكرنا أن(8/466)
العبرة في هذا الباب القدرة على الانتفاع بما هو المطلوب من العين، والدار لا تتخذ لدخول الغلمان وخروجهم منها ولربط الدواب فيها، وإنما تتخذ للسكنى فيها، فما لم يشهدوا بذلك لم يشهدوا باليد عليها والله اعلم.
الفصل الحادي والعشرون: في الاختلاف الواقع بين الشاهدين
قال محمد رحمه الله في كتاب الغَصْب: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها جاريته غصبها منه هذا، وشهد الآخر أنها جاريته، ولم يقل غصبها منه هذا قبلت شهادتهما لأنهما شهدا جمعاً بمطلق الملك إلا أن أحدهما (شهد) أنها جاريته، وشهد الآخر أنها كانت جاريته تقبل هذه الشهادة أيضاً ويقضى بالجارية للمدعي؛ لأنهما اتفقا على الملك له في الحال، لأن أحدهما شهد أنها له وهذا اللفظ للحال، والآخر شهد أنها كانت له، وما ثبت للمشهود له من الملك يبقى إلى أن يوجد المزيل، فقد اتفقا على الحال من هذا الوجه فتقبل شهادتهما.
وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أنها كانت في يده، وشهد الآخر أنها في يده، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد شهدا له باليد في الحال.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يشهد له الشاهدان على رجل بمال فشهد أحدهما على ألف وخمسمئة، والمدعي يدعي الألف، فشهادة الذي شهد بالألف والخمسمئة باطلة، يجب أن يعلم بأن موافقة الشاهدين فيما شهدا به شرط جواز القضاء بشهادتهما، لأن القضاء إنما يجوز بالحجة، والحجة شهادة المثنى، فيما لم يتفقا على ما شهدا به لا توجد الحجة وهي شهادة المثنى، وبدون الحجة لا يقطع الحكم، وإذا ثبت أن الموافقة شرط كانت المخالفة مانعة للقبول.
فبعد ذلك نقول: إن كانت المخالفة بينهما في اللفظ دون المعنى تقبل الشهادة، وذلك نحو أن يشهد أحدهما على الهبة والآخر على العطية، وهذا لأن نفس اللفظ ليس بمقصود في الشهادة، بل المقصود ما تضمنه اللفظ، وهو ما صار اللفظ علماً عليه، فإذا وجدت الموافقة في ذلك لا تصير المخالفة فيما سواها.
جئنا إلى بيان حكم المسألة فنقول: لايخلو، إما أن يدعي المدعي أقل المالين ألف درهم أو يدعي أكثرهما ألفاً وخمسمئة، فإن ادعى أكثر المالين تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً ومعنى، إلا أن أحدهما عطف عليه زيادة، فتقبل شهادتهما على ما اتفقا عليه وهو الألف، وانتفت الزيادة لتفرد أحد الشاهدين بها، وإن ادعى أقل المالين لا يقضى بشهادتهما أصلاً، لأن المدعي صار مكذِّباً أحد شاهديه، وهو الذي شهد بالأكثر، فلم يبق له إلا شاهد واحد فلا يقضى بهذه الشهادة إلا إذا وافق المدعي، فقال: كان لي على هذا المدعى عليه ألف وخمسمئة كما شهد به هذا الشاهد،(8/467)
إلا أنه قضاني خمسمئة ولم يعلم هذا الشاهد به، فإذا وافق على هذا الوجه يزول التكذيب، ويقضى بشهادتهما.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم، فشهد له شاهد بألف درهم، وشهد آخر بألف وخمسمئة فالقاضي يسأل المدعي: أكان لك عليه في الابتداء ألف وخمسمئة واستوفيت خمسمئة، أو أبرأته عن خمسمئة أو لم يكن لك عليه من الابتداء ألف درهم؟ ويبنى الحكم على قوله، وعلى هذا إذا شهد أحدهما بمئة وخمسين، إن كان المدعي يدعي مئة لا تقبل الشهادة أصلاً، وإن كان يدعي مئة وخمسين تقبل الشهادة على مئة، وأما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألفين، أو شهد أحدهما بمئة والآخر بمئتين، والمدعي يدعي أكثر المالين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله أصلاً، وعندهما تقبل على الأول وهو الألف، وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين فهو على هذا الخلاف أيضاً.
فوجه قولهم: أنهما اتفقا على الأقل (146ب4) لأن الذي شهد بالألفين وبالمئتين وبالتطليقتين شاهد بالألف وبالمئة وبالطلقة، لأن في الألفين ألف وفي المئتين مئة وفي الطلقتين طلقة لا محالة، فهو معنى قولنا: اتفقا على الأقل فتقبل الشهادة على الأقل كما في المسائل المتقدمة، وكما في تطليقة ونصف تطليقة، أو تطليقة وتطليقة، ولأبي حنيفة أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر؛ لأن لفظ الألفين غير لفظ الألف، فكذا لفظ المئتين غير لفظ المئة، وأما معنى؛ فإن ما يراد بالمثنى غير ما يراد بالواحد، وإذا ثبت الاختلاف لفظاً ومعنى لا يثبت واحد منهما، إذ ليس في كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وقوله: بأن الألف في الألفين والمئة في المئتين قلنا: نعم إذا ثبت الألفان والمئتان ولم يثبت ههنا، لأنه لم يقم عليه إلا شاهد واحد، ولو شهد أحدهما بخمسة وعشرين وشهد الآخر بعشرين، والمدعي يدعي خمسة وعشرين، تقبل الشهادة على عشرين.
فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بخمسة عشر والآخر بعشرة والمدعي يدعي خمسة عشر، حيث لا تقبل الشهادة عنده أصلاً، والفرق أن خمسة عشر اسم واحد، وإنه غير العشرة لفظاً ومعنى، فلم يتفقا على أقل المالين لفظاً ومعنى، فأما الخمسة والعشرون فاسمان مختلفان، ألا ترى كيف عطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة، فاتفقا على أقل المالين، فجاز أن يقضي بشهادتهما بالأقل.
وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم إلا أن أحدهما قال: إنه سود، وقال الآخر: بيض، وللبيض فضل على السود، فإن كان المدعي يدعي السود لا تقبل شهادتهما أصلاً، لأنه ادعى أقل المالين فصار مكذباً الشاهد الذي شهد بالبيض، فلا تقبل شهادتهما إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه بيض كما شهد به هذا الشاهد إلا أني أبرأته عن صفة الجودة، وعلم به ذلك الشاهد ولم يعلم به هذا الشاهد، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل شهادتهما على السود لأنه زال التكذيب، وإن كان يدعي البيض تقبل(8/468)
شهادتهما على السود؛ لأنهما اتفقا على الأقل لفظاً ومعنى، ولم يصر المدعي مكذباً أحدهما، فلابد من قبول شهادتهما على ما اتفقا عليه.
وكذلك هذا الحكم في جميع المواضع في الجنس الواحد إذا اتفقا على قدر أو وصف، واختلفا فيما زاد على ذلك تقبل الشهادة فيما اتفقا عليه إن ادعى المدعي أفضلهما، وإن ادعى أقلهما لا تقبل شهادتهما إذا اختلفا، كيف ما اختلفا، بأن شهد أحدهما مثلاً على كر حنطة والآخر على كر شعير؛ لأن الشعير غير الحنطة، فلم يتفقا على شيء واحد، إنما على الحنطة شاهد واحد وعلى الشعير كذلك، ولا يقضى بشهادة الفرد في موضع ما.
وإذا شهد أحدهما بتطليقة بائنة، وشهد الآخر بثلاث تطليقات، فهي تطليقة واحدة يملك الرجعة عندهما، لأن الشاهدين اتفقا على تطليقة واحدة فيثبت ما اتفقا عليه، ثم اختلفا في صفة هذه التطليقة، شهد شاهد الثلاثة بهذه الطلقة خالية عن صفة البينونة؛ لأن صريح الطلاق لا يفيد البينونة للحال، وإذا أوجد الثلاث فالبينونة مضافة الى الطلقة الأخيرة، ولم يقض بالطلقة الأخيرة بعد، والشاهد الآخر شهد بكونها بائنة، فقد شهدا بأصل هذه الطلقة، وتفرد أحدهما بصفة البينونة فلم تثبت صفة البينونة، وصريح الطلاق العاري عن صفة البينونة يكون رجعياً.
ولو شهد ثلاثة، شهد أحدهم بتطليقة واحدة، وشهد آخر بتطليقتين، وشهد آخر بثلاث تطليقات، وقد دخل بها فهي طالق ثلاثاً، لأن الشاهد بالثلاث والشاهد بالطلقتين اتفقا على الطلقتين، فيقضى بوقوع ما اتفقا عليه، فيقع تطليقتان بقي الشاهد بالثلاث شاهداً بتطليقة أخرى، وقد انضم إلى شهادته شهادة الذي شهد أولاً بتطليقة، فتقع هذه الطلقة بشهادتهما أيضاً فتقع ثلاث تطليقات لهذا، وإن كان لم يدخل بها تقع تطليقتان، لأنا لمّا قضينا بوقوع التطليقتين فقد بانت منه، ولا يتصور وقوع تطليقة أخرى بعد ذلك، فلهذا قال: تقع تطليقتان.
قال في كتاب «الأقضية» : وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس، أو حوالة أو ما أشبه ذلك واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، فالشهادة مقبولة فلا يضرهما هذا الاختلاف.
يجب أن يعلم بأن الشاهدين إذا اتفقا على المشهود به، لكنهما اختلفا في الزمان والمكان، فإن كان المشهود به فعلاً لا تقبل شهادتهما؛ لأن الفعل في زمان أو مكان غير الفعل في زمان ومكان آخر، فقد اختلف المشهود به، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما، وإن كان المشهود به قولاً فإن كان قولاً يستغني صحته عن الفعل نحو الإقرار وما أشبهه فإن كان هذا القول مما كان صيغته الإنشاء والإقرار فيه واحد كالبيع والطلاق، فإنه يقول في الإنشاء: بعت وطلقت وكذلك في الإقرار تقول: طلقت وبعت فإذا اختلفا في الزمان والمكان فيه لا يمنع ذلك قبول شهادتهما؛ لأن الإقرار يعاد ويكرر وكان الثاني عين الأول فلم يختلف المشهود به باختلاف المكان أو الزمان، وكذلك في(8/469)
البيع والطلاق وما أشبهه، لأن الثاني يكون إقراراً بما سبق منه من الإنشاء والمقرّ به ليس غير الأول فأمكن القضاء به بشهادتهما، فأما إذا كانت صيغة الإنشاء والإقرار به مختلفاً، نحو القذف فإنه يقول في إنشاء القذف: يا زاني، وفي الإقرار يقول: قذفت فلاناً بالزنا، فإذا اختلف الشاهدان في الزمان أو المكان فيه لا تقبل شهادتهما عند أبي يوسف ومحمد لما تبين.t
وإن كان المشهود به قولاً كان الفعل شرطاً لصحته كالنكاح، فإنه قول ولكن حضور الشاهدين شرط صحته، وإنه فعل، فإذا اختلف الشاهدان في الأوقات والأماكن فيه، لا يقضي بشهادتهما، لأنه لما لم يتصور وجود النكاح الصحيح إلا بوجود الفعل كان اختلافهما في الزمان والمكان فيه نظير اختلافهما في الزمان والمكان، فيما إذا كان المشهود به فعلاً؛ وقد ذكرنا ثمة أنه لا يجوز القضاء بشهادتهما كذا ههنا.
وإن كان المشهود به فعلاً واختلفا في آلة ذلك الفعل، بأن شهدا بالقتل، غير أن أحدهما شهد بالقتل بالعصا، وشهد الآخر بالقتل بالسيف لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف، فالقتل بالعصا غير القتل بالسيف حقيقةً وحكماً، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا شهد شاهدان على إقرار الرجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس وأمثالها، واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، تقبل شهادتهما؛ لأن الإقرار مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني عين الأول، فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهما، وكذلك إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان والمكان، قبلت شهادتهما لما ذكرنا، وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع والآخر على الإقرار بالبيع تقبل؛ لأن لفظ الإقرار والإنشاء في البيع سواء، لأنه يقول في الإنشاء: بعت، وكذلك يقول في الإقرار: بعت فلم يختلف المشهود به، فلا يمنع ذلك صحة الشهادة والقضاء بها.
وفي «المنتقى» : إذا شهد شاهدان على الإقرار بالمال، واختلفا في المكان والأيام إنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله الشهادة مقبولة، قال أبو يوسف رحمه الله: (هذا) قياس، لكني أستحسن فأبطل الشهادة بالتهمة ولكثرة الشهادات بالزور، فإن قيل: أليس أن القرض فعل؛ لأنه إنما يتم الإقراض ويجب عليه ضمانه بالقبض، فصار كما لو شهد أحدهما على الفعل والآخر على الإقرار به، وثمة لا تقبل؟ قلنا: (147أ4) ليس كذلك بل القرض قول؛ لأن المستقرض إنما يصير مملوكاً للمستقرض، ويباح له التصرف بالقول وهو قوله: أقرضت، فإن المقرض وإن سلم إليه الدراهم وقبض لا يصير مضموناً عليه ولا يملك التصرف فيه ما لم يقل أقرضت، فعرفنا أن الإقراض قول، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه سواء، لأنه يقول في الإقرار: استقرضت، كما يقول في الإنشاء، فلم يكن المشهود به مختلفاً فلا يمنع قبول الشهادة.
قال محمد رحمه الله في كتاب الرهن: وإذا شهد شاهدان على الرهن ومعاينة(8/470)
القبض، واختلتفا في الزمان أو في المكان، فاعلم بأنه وقع في بعض رهن «الأصل» أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً ووقع في بعضها أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، وعلى قول محمد رحمه الله لا تقبل، وذكر في شهادات «الأصل» : أن هذه الشهادة لا تقبل عند محمد رحمه الله، وهو القياس وعلى هذا الاختلاف، الهبة والصدقة والقبض في البيع الفاسد.
وإن شهدا على الإقرار بالقبض واختلفا في الزمان والمكان، تقبل الشهادة بلا خلاف، حجة محمد رحمه الله ظاهر أن هذه شهادة قامت على الفعل وهو القبض، فاختلاف الشهود في المكان والزمان يمنع قبولها قياساً على القتل والغصب، بخلاف ما إذا شهدا على الإقرار بالقبض لأن هناك الشهادة قامت على القول وهو الإقرار ولهما طريقان، أحدهما: يخص مسألة الرهن، والثاني: يعم المسائل.
أما الذي يخص الرهن؛ لأن الشهادة قامت على ما يعاد ويكرر فاختلاف الشهود من حيث الزمان والمكان لا يمنع قبولها قياساً على ما لو قامت على القول، بيانه: أن القبض في باب الرهن مما يعاد ويكرر في زمن واحد، فإن المرتهن قد يعدّ الرهن من الراهن، أو يغصب منه الراهن، ويبقى الرهن على حاله، فيعيد المرتهن القبض مرة أخرى، ويكون القبض الثاني عين الأول من حيث الحكم؛ لأنه لا يعيد من الحكم، وهو الضمان إلا ما أوجبه القبض الأول حتى إذا كان بقيمة الرهن وفاء بالدين وقت القبض الثاني إذا هلك يهلك بالدين، وكذلك إذا لم يكن بقيمته وفاء وقت القبض الأول وصار بقيمتها وفاء وقت القبض الثاني، إذا هلك يعتبر قيمته يوم القبض الأول، فكان كالقول من هذا الوجه بخلاف القتل، فإنه لا يتكرر في شخص واحد والغصب إن كان يتكرر، إلا أن الثاني غير الأول حقيقة وحكماً؛ لأنه لا يفيد حكماً آخر غير الأول، ألا ترى أنه لو ازداد قيمته بعد الغصب الأول فإنه يضمن الزيادة بالغصب الثاني وههنا بخلافه، ولكن هذه الطريقة لا تخرج عليها الهبة والصدقة، فإن القبض الأول أفاد الملك، والثاني لا يفيد الملك.
والطريقة الثانية: أن القبض وإن كان فعلاً من حيث الحقيقة فهو قول حكماً؛ لأن القبض في هذه العقود إنما يفيد حكمه باعتبار العقد المتقدم، فإن العقد المتقدم إذا كان هبة أو صدقة أفاد القبض الملك وإذا كان رهناً صار مضموناً بأقل من قيمته ومن الدين، وإنما تثبت هذه الأحكام بالقبض بسبب العقد المتقدم، لولا العقد المتقدم لصار غاصباً بهذا القبض، فكان الفعل في هذه المسائل تبعاً للعقد؛ لأن ما يبنى على الشيء يكون تبعاً له، وحكم البيع حكم المبيوع فيصير في حكم القول من هذا الوجه، بخلاف القتل والغصب لأن ثبوت حكمهما ما كان باعتبار القول، حتى يجعل في حكم القول تبعاً للقول.
قال في كتاب الطلاق: إذا شهد أحد الشاهدين أنه طلقها يوم الخميس واحدة، وشهد الآخر أنه طلقها يوم الجمعة واحدة، أو شهد أحدهما أنه طلقها واحدة في(8/471)
رمضان، وشهد آخر أنه طلقها في شوال، تقبل هذه الشهادة؛ لأن الطلاق قول، والقول مما يعاد ويكرر، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه واحد، فيكون الثاني عين الأول، فلم يوجب اختلافهما في الزمان اختلاف المشهود به، فلا يمنع ذلك قبول شهادتهما.
ولو شهد أحدهما أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة، وشهد الآخر أنه طلقها في يوم النحر من ذلك العام بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان فقد ذكرنا أنه لا يمنع قبول الشهادة في الطلاق، ولكن لأن القاضي قد تيقن (كذب) أحد الفريقين، فإن الشخص الواحد لا يكون بمكة وكوفة في يوم واحد على مجرى العادة.
ولو شهدا على يومين متفرقين، وبينهما قدر سير الراكب من كوفة إلى مكة قبلت شهادتهما لجواز أن يكون في هذين اليومين في كلا الموضعين، فلم يبق إلا اختلاف الشهود في المكان، وإنه لا يمنع قبول الشهادة في الأقوال كما قررنا، وصار هذا كما إذا قال أحدهما: طلقها في يوم الجمعة في داره، وقال الآخر: طلقها في هذا اليوم في بيته فإنه يقبل هذه الشهادة لما ذكرنا، كذا هذا.
قال في «الأصل» : وإذا شهد أحد الشاهدين أنه تزوج فلانة يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الخميس لا تقبل هذه الشهادة، وكذلك إذا اختلفا في المكان أو في الإنشاء والإقرار، لأن النكاح وإن كان قولاً إلا أنه يتضمن فعلاً وهو إحضار الشهود، فكان بمنزلة الفعل من حيث إنه لا صحة له بالفعل، واختلاف الشهود في المكان والزمان والإنشاء والإقرار في الأفعال يمنع قبول الشهادة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف في شاهدين قال أحدهما: أشهدني هذا منذ عشرين سنة أنه زوجه أمته هذه، وشهد الآخر أنه أشهدني منذ أحد عشر سنة أنه زوجه أمته هذه، فالشهادة باطلة إذا لم يشهد على العقد رجلان.
وإن قال: أشهدني منذ عشرين سنة ومعي غيري، وقال الآخر: أشهدني منذ أحد عشر سنة ومعي غيري فالشهادة جائزة.
وقد ذكر في المسألة المتقدمة وهي مسألة «الأصل» : أن الشاهدين إذا اختلفا في النكاح في الأيام لا تقبل شهادتهما، ولم يفصل الجواب فيها على هذا التفصيل وههنا فصل، فإن كانت تلك الرواية محمولة على هذا التفصيل، فليس بينهما اختلاف، وإن كانت مطلقة من غير تفصيل كان فيه اختلاف الروايتين.
فوجه هذه الرواية: أنه إذا قال كل واحد منهما: ومعي غيري، فقد شهدا بنكاح صحيح عُلِمَ، إلا اختلافهما في الأزمان، والنكاح قول واختلاف الشهود في الزمان في الأقوال لا يمنع قبول الشهادة، كما إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان، بخلاف ما إذا لم يقولا: كان معنا غيرنا؛ لأنه لما ثبت حضرة غيرهما فقد شهد كل واحد منهما على نكاح لم يحضره إلا واحد، وإنه فاسد، والقاضي لا يقضي بالنكاح الفاسد فلا يسمع البينة عليه، فلهذا لا تقبل شهادتهما.
وجه رواية «الأصل» : أن النكاح إن كان قولاً ولكن شرط صحته بالفعل، وهو حضرة الشهود، فمنع الاختلاف فيه قبول الشهادة، كما لو شهدا بالفعل كالغصب ونحوه،(8/472)
واختلفا في الزمان، وهذا لأن اختلافهما في الزمان في الفعل إنما منع قبول الشهادة؛ لأنه يوجب اختلاف المشهود به؛ لأن الفعل لا يعاد ولا يكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الموجود في الزمان الأول، بخلاف القول فإنه يعاد ويكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الأول، فلم يختلف المشهود به، فإذا كان قولاً شرط صحته الفعل، ولا وجود له على صفة الصحة بدون ذلك الفعل يصير مختلفاً لاختلاف الفعل ضرورة، فاختلاف الزمان يوجب اختلاف الفعل، فوجب اختلاف هذا القول فاختلف المشهود به، فلا تقبل شهادتهما.
قال في كتاب الحدود: إذا شهد أحد الشاهدين على القذف، والآخر على الإقرار بالقذف لا تقبل الشهادة وهذا بلا خلاف.
ولو اتفقا على القذف واختلفا في الزمان أو المكان، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل هذه الشهادة ويقضي على القاذف بالحد، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل هذه الشهادة، فوجه قولهما: أن المشهود به إن كان متَّحداً باعتبار الإعادة والتكرار لأن المشهود به كلام، والكلام مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني غير الأول فهو مختلف من حيث الحقيقة، لأن تكلمه بالقذف يوم الجمعة غير تكلمه بالقذف يوم السبت حقيقة، فباعتبار الحقيقة تثبت شبهة البينة في المشهود به، والشبهة في باب الحد كالحقيقة.
والدليل عليه أنه لو شهد أحدهما بالقذف بالعربية، وشهد الآخر بالقذف بالفارسية لا تقبل الشهادة وإن اتحد المشهود به من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار في الكلام، لأن الكلام قد يكون بلغتين (147ب4) مختلفتين ويراد بالثاني عين الأول إلا أنهما اختلفا من حيث الحقيقة، فتثبت شبهة البينة باعتبار الحقيقة، والدليل عليه أنه إذا شهد أحدهما بالإقرار والآخر بالإنشاء لا تقبل الشهادة، وإن اتحد المشهود به باعتبار المعنى كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن في حد القذف حق الله تعالى، وحق العبد، وشبهة البينة لا تمنع القضاء بما هو خالص حق العبد متى يثبت الاتحاد من حيث المعنى، كما في الطلاق والعتاق والبيع ويمنع القضاء بما هو خالص حق الله تعالى من الحدود، فيوفر على الشبهين حظهما، فنقول: متى ثبت الاتحاد في المشهود به من وجهين وثبتت البينة من وجه واحد، فإنه يجب القضاء عملاً بحق العبد، ومتى ثبتت البينة في المشهود به من وجهين، وثبت الاتحاد من وجه واحد، فإنه لا يجب القضاء عملاً بحق الله تعالى، وفيما تنازعنا فيه الاتحاد في المشهود به ثابت، من وجهين من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار باعتبار اللفظ والصيغة، وهو كلمة القذف، فانه قال في الوقتين جميعاً: يا زاني وإنها تثبت البينة من وجه واحد من حيث الحقيقة، فإن تكلمه يوم الجمعة بهذه الكلمة غير تكلمه بها يوم السبت، وبثبوت البينة من وجه لا يمنع القضاء لما فيه من حق العبد، فأما في الفارسية غير تكلمه بالعربية، فإنما ثبت الاتحاد من وجه واحد باعتبار الإعادة والتكرار، فيرجح جانب البينة فامتنع القضاء بحق الله تعالى؛ لأن معظم الحق في هذا الحد لله تعالى، فكذلك في الإنشاء والإقرار البينة تثبت من وجهين: من(8/473)
حيث التكلم ومن حيث اللفظ، فإن كلمة الإنشاء في القذف غير كلمة الإقرار في الإنشاء، تقول: زنيت، أنت زان، وفي الإقرار تقول: قذفته بالزنا، ففيما قال أبو حنيفة في
حد القذف عمل بالشبهين لحق الله تعالى وحق العبد بقدر الإمكان، وهما أسقطا باعتبار حق العبد في باب القذف عند اختلاف الشاهدين في الشهادة أصلاً وألحقاه بالحدود الخالصة لله تعالى، ومهما أمكن العمل بالحجتين في المواضع لا يجوز تعطيل أحدهما، فكان ما قاله أبو حنيفة رحمه الله أولى من هذا الوجه.
وإذا شهد أحد الشاهدين على القتل، والآخر على إقرار القاتل بالقتل، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن القتل فعل والإقرار قول، والقول غير الفعل فاختلف المشهود به، وكذلك لو اتفقا على القتل، واختلفا في المكان أو الزمان لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن الفعل الثاني غير الفعل الأول حقيقةً وحكماً أما حقيقةً فظاهر؛ لأن الأول حركات مضت، والثاني حركات يحدثها الآن وأما حكماً؛ فلأنه لا يمكن أن يجعل الثاني إخباراً عن الأول حتى يصير تكراراً للأول وإعادة له؛ لأن الإخبار عن الفعل بالفعل لا يكون، فكان الثاني فعلاً آخر غير الأول حقيقةً وحكماً.
وكذلك كل ما يكون من باب الفعل نحو السحر وغير ذلك فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار وفي الزمان أو في المكان يمنع قبول الشهادة.
وكذلك إذا اختلفا في الآلة التي كان بها القتل، بأن شهد أحدهما أنه قتله بحجر، وقال الآخر: قتله بعصا كبيرة، أو شهد أحدهما أنه قتله بحجر وقال الآخر: قتله بيده، لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، ولأن القتل الواحد لا يتصور بآلتين كما لا يتصور في زمانين أو في مكانين.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنه قتله عمداً وشهد الآخر أنه قتله خطأً لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن العمد غير الخطأ وحكمهما مختلف، وإن قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: لا أحفظ الذي كان به القتل لا تقبل شهادتهما؛ لأن الذي قال: لا أحفظ أقر على نفسه بالغفلة والنسيان، وإنه يبطل الشهادة، وفي كتاب الإجارة كل شهادة اختلف فيه الشاهدان في المكان، ويبنى على فعل فإنها لا تقبل إلا مسألة واحدة.
وذكرها داود بن رشيد عن محمد، صورتها: ذمي شهد عليه شاهد أنه رآه يصلي في مسجد بني راس شهراً، وشهد آخر أنه يصلي في مسجد بني عامر شهراً، أو شهد أحد أنه: رأيته يصلي بالكوفة، وقال الآخر: رأيته يصلي بالشام، فإني أجيز شهادتهما وأجبره على الإسلام ولكن لا أقتله.
قال محمد رحمه الله في «المأذون الكبير» : وإذا لحق العبد دين فقال المولى: عبدي محجور عليه، وقال الغريم: هو مأذون، فالقول قول المولى: فإن جاء الغريم بشاهدين، شهد أحدهما أن المولى أذن له في شراء البر، وقال الآخر: إنه أذن له في شراء الطعام فشهادتهما جائزة، وكذلك لو شهد أحدهما أن المولى قال له: اشتر البر(8/474)
وبع، وشهد الآخر أن المولى قال له: اشتر الطعام وبع، تقبل الشهادة لأنهما اتفقا على ما يوجب الإذن وهو قول المولى: اشتر وبع، واختلفا فيما لا يحتاج إليه لصحة الإذن فيثبت بشهادتهما ما اتفقا عليه.
يوضحه: وهو أن قوله: اشتر البّر وبع، إذن في جميع التجارات، فكل واحد منهما كان شاهداً بالإذن في عموم التجارات معنى، فتثبت الموافقة بينهما، ولو شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر، وشهد الآخر أنه رآه يبيع ويشتري فسكت لا تقبل شهادتهما؛ فلا يثبت الإذن؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين، شهد أحدهما على القول، وشهد الآخر على الفعل، ولو شهد أحدهما أن المولى رآه يشتري البر ويبيع ولم ينهه عن ذلك، وشهد الآخر أنه رآه يشتري الطعام ولم ينهه عن ذلك، لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن كل واحد منهما شهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه، ولم يثبت كل واحد منهما لعدم الحجة فلا يثبت الإذن بخلاف ما إذا شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر وشهد الآخر أنه أذن له في شراء الطعام؛ لأن هناك انعقد على شيء واحد وهو قول المولى: اشتر وبع، وعبارة بعضهم أن الإذن هنا إنما يثبت بالرؤية وترك النهي، والرؤية لا تتحقق بدون المرئي ولم يكن إثبات المرئي هنا؛ لأن المرئي شراء البر وشراء الطعام، وليس على كل واحد من الشرائين إلا شاهد واحد، وإذا لم يمكن إثبات المرئي وهو الشراء لم يثبت الإذن بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك الإذن يثبت بقول المولى: أذنت له أو بقوله: اشتر وبع وقد أمكن إثبات ذلك؛ لأن الشاهدين اتفقا عليه.
قال في كتاب السرقة: إذا شهد شاهدان على رجل بسرقة بقرة، واختلفا في لونها، فقال أحدهما: هي بيضاء وقال الآخر: هي سوداء، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل شهادتهما، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل شهادتهما، وذكر الكرخي في كتابه هذا الاختلاف في لونين متشابهين كالحمرة والصفرة، وفي لونين لا يتشابهان، ذكر أن الشهادة لا تقبل إجماعاً، والأصح أن الخلاف في كل واحد.
فوجه قولهما: أن المشهود به قد اختلف من حيث الحقيقة على وجه لا يمكن التوفيق، فلاتقبل الشهادة، كما لو شهد أحدهما أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق ثوراً أو شهد أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق حماراً، والدليل عليه إذا شهدا بالغصب واختلفا في لون البقرة فإنه لا تقبل الشهادة، مع أن الدعوى هناك في الضمان، والضمان لا يندرئ بالشبهات؛ فلأن لا تقبل الشهادة على السرقة، وقد تعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلفا فيما لم يكلفا نقله؛ لأن بيان لون البقرة ههنا ليس من صلب الشهادة حتى لو سكتا عن بيانه فالقاضي لا يكلفهما ذلك ويقضي بشهادتهما، والتوفيق ممكن هنا بأن كان إحدى شقيها بيضاء والأخرى سوداء قلنا: والاختلاف فيما لم يكلف الشاهد نقله إذا أمكن التوفيق لا يمنع قبول الشهادة، فإن قيل:(8/475)
التوفيق على هذا الوجه غير ممكن، لأن تلك البقرة تسمى بلقاء ولا تسمى سوداء ولا بيضاء، قلنا تلك البقرة إنما سمي في حق من يعرف قيام كلا اللونين، أما في حق من لم يعرف إلا قيام لون واحد فهو على ذلك اللون عنده، وتسميتها بذلك اللون، وشهود السرقة لا يمكنهم (148أ4) أن يقربوا من السارق ليتأملوا كل جانب من البقرة، إنما ينظرون من بعيد فلا يمكنهم الوقوف على قيام اللونين بخلاف الغصب، لأن الغصب يقع جهاراً، فيمكن للشاهد أن يقرب من الغاصب فيتأمل جميع ألوان المغصوب، فلا يشتغل بالتوفيق في حقه، وبخلاف ما إذا اختلفا في البقرة والحمار؛ لأن ذلك اختلاف فيما كلفا نقله، وبخلاف الاختلاف في صفة الذكورة والأنوثة، لأن التوفيق هناك غير ممكن لأن الحيوان لا يجتمع فيه صفة الذكورة والأنوثة، وشيء من صفات العين لا تدل على ذلك حتى يصح الاستدلال عليه من بعيد فلا يحل له البيان، فالاشتعال بالبيان يدل على أنه قرب من البقرة، وعند القرب لا يقع الاشتباه فلا يشتغل بالتوفيق.
فإن قيل: الاشتغال بالتوفيق بين كلام الشاهدين احتيال لإيجاب الحد وهو القطع، والحد مما يحتال لدرئه.
قلنا: الشهادة حجة من حجج الشرع والأصل في حجج الشرع قبولها لا ردها، فالاشتغال بالتوفيق لصيانة الحجة عن الإبطال لا لإيجاب الحد، ثم إذا وقعنا وقبلت الشهادة يجب الحد ضرورة لا قصداً.
ولو شهدا على رجل بسرقة ثوب وقال أحدهما: إنه هروي، وقال الآخر: إنه مَرَوي، ففيه اختلاف النسخ، ففي نسخ أبي سليمان ذكر هذه على الخلاف الذي ذكرنا في البقرة، وفي نسخ أبي حفص ذكر أن الشهادة لا تقبل عندهم، وأبو حنيفة يحتاج إلى الفرق بين المسألتين على ما ذكر في نسخ أبي حفص.
والفرق: وهو الهروي والمروي جنسان مختلفان، والشهود كلفوا قبل بيان الجنس، فقد اختلفوا فيما كلفوا نقله، فلا تقبل شهادتهم، فأما لم يكلفوا نقل لون البقرة فذاك اختلاف فيما لم يكلفوا نقله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه ألف درهم، قال: هذا جائز، ومعنى المسألة أن المدعي يدعي عليه ألف درهم ديناً مطلقاً من غير أن يتعرض بسبب، فأما إذا ادعى أحد السببين فقد كذب أحد شاهديه، فلا تقبل شهادتهما، ودلت هذه المسألة أن المدعي إذا ادعى الدين مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب أن الشهادة تقبل، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا لم يشهد الشهود على إقراره، ولكن شهد أحدهما أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أن لهذا المدعي عنده ألف درهم وديعة أنه لا تقبل شهادتهما.t
ووجه الفرق: أن الشهادة على الإقرار إذا قبلت صار المشهود به كالمعاين، فصار كأنه أقر، ثم في الإقرار الاختلاف في السبب لا يمنع وجوب المال حتى إذا قال المقر:(8/476)
إن له علي ألف درهم من قرض، وقال الطالب: لا، بل من بيع لا يكون هذا الاختلاف مانعاً من وجوب المال، ولم يكن ذلك تكذيباً للمقر، فأما اختلاف السبب في الشهادة مانع قبول الشهادة.
والفرق: أن الشهادة لا تكون ملزمة بنفسها فلا تكون لها صحة إلا عند اتصال القضاء بها، فلابد للقضاء بالمال من سبب، لأن الحكم لا يمكن إثباته إلا بسبب، ومع اختلافهما في السبب لا يمكن القضاء به، فأما الإقرار حجة ملزمة فلا حاجة فيه إلى إثبات السبب إنما الحاجة إلى إثبات الحكم، وقد ثبت الحكم بشهادتهما على الإقرار به فقد حصل المقصود فلا يلتفت إلى السبب بعد ذلك.
قال: ألا ترى أن أحدهما لو شهد أن الكساء الذي عليه للمدعي اغتصبه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه والمدعى عليه يجحد أن الكساء للمدعي يقضي به للمدعي؛ لأن المقصود إثبات ذلك الكساء للمدعي، وقد ثبت ذلك بشهادتهما فاختلافهما فيما سوى ذلك لا يضره.
قال في كتاب الإجارات: رجل ادعى على رجل أنه أجر عبده، وجحد رب العبد، فأقام المستأجر شاهدين شهد أحدهما أنه استأجره بخمسة، وهو يدعي أربعة أو خمسة، وشهد الآخر أنه استأجره بستة، فالشهادة باطلة إن ادعى أربعة، فلأنه كذب شاهديه، وإن ادعى خمسة فلأنه كذب أحد شاهديه، وهو الذي شهد بستة؛ ولأن حاجتهما إلى إثبات عقد الإجارة، وعقد الإجارة بخمسة غير عقد الإجارة بستة؛ لأن الأجر بدل عن المنفعة كالثمن في البياعات، وكما أن البيع يختلف باختلاف الثمن، فكذلك الإجارة تختلف باختلاف الأجر فاختلف المشهود به، وقد بينا أن اختلاف الشهود يمنع قبول الشهادة.
فإن ادعى المستأجر أنه يكاري دابة إلى بغداد بعشرة ليركبها ويحمل عليها، وأقام شاهدين شهد أحدهما: أنه تكاراها ليركبها بعشرة، وشهد الآخر أنه تكاراها ليركبها ويحمل عليها هذا المتاع المعروف بعشرة فالشهادة باطلة، لأن في شهادة أحدهما أن العشرة جميع بدل منفعة الركوب، وفي شهادة الآخر أن بعض العشرة بمقابلة منفعة الركوب؛ لأنه قابل العشرة بالركوب وحمل المتاع، فتوزع عليهما فاختلف شهادتهما في أجر الركوب، وقد ذكرنا أن اختلاف الشاهدين في الأجر يمنع قبول شهادتهما.
ولو شهد أحدهما أنه تكارى دابة بعينها بأجر مسمى إلى بغداد، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها حمولة معروفة إلى بغداد بعشرة دراهم، لا تقبل هذه الشهادة سواء ادعاها المستأجر أو رب الدابة، لأنه إذا لم يبين أحد الشاهدين أنه يركبها أو يحمل عليها، كانت هذه شهادة بإجارة فاسدة، لأنه إذا لم يبين جنس المعقود عليه فمنفعة الركوب غير منفعة الحمل، والضرر الذي يلحق الدابة يختلف، وجهالة المعقود عليه يوجب فساد الإجارة، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه تكاراها ليركبها، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها، لأنهما اختلفا في المعقود عليه، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلافاً في العقد، فيكون هذا اختلافاً في المشهود به، فلو ادعى أنه سلم ثوباً إلى صباغ(8/477)
والصباغ يجحد وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه دفعه ليصبغه أحمر، وشهد الآخر أنه دفعه ليصبغه أصفر، فالشهادة باطلة لأنه اختلف المعقود عليه باختلاف الصبغ، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلاف العقد، فاختلف المشهود به.
وكذلك اذا جحد رب الثوب وادعاها الصباغ؛ لأنه لما اختلف المشهود به لابد وأن يدعي أحدهما، وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر فلا تقبل شهادة ذلك الشاهد للتكذيب، ولا يمكن القضاء بشهادة الفرد فلا يقضى لهما.
قال في كتاب الرهن: رجل ادعى رهناً فشهد له شاهدان، شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وشهد الآخر أنه رهنه بمئتين لا تقبل شهادته عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تقبل شهادتهما، فقد جعل حكم الاختلاف في الرهن حكم الاختلاف في الدين، وفرق بين الرهن وبين البيع، فإنه إذا شهد أحد الشاهدين على البيع بمئة وشهد الآخر على البيع بمئتين لا تقبل الشهادة بالاتفاق؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، ولم يجعل الرهن مختلفاً باختلاف الدين بل جعله اختلافاً في نفس الدين، وإنما كان كذلك لأن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء بقدر الدين، فكان هذا اختلافاً في قدر الدين وفي مقدار ما صار مستوفياً من الدين بالرهن، فيكون هذا على الاختلاف الذي ذكر، ولا كذلك فصل البيع.
وإن شهد أحدهما بكر حنطة والآخر بكر شعير فشهادتهما باطلة؛ لأن المشهود به مختلف، وإن شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وخمسين، فإن ادعى المرتهن أقلهما لا تقبل الشهادة بالاتفاق، وإن ادعى أكثرهما قبلت شهادتهما على مئة لاتفاق الشاهدين على المئة، وكان العين رهناً بمئة، وإن كانت قيمة الرهن مئة وخمسين، وقال المرتهن بعدما شهد الشاهدان على نحو ما بينا من اختلافهما فيه: لي عليه مئة وخمسون وهذا رهن بمئة، فالقول قول المرتهن؛ لأنه ينكر ثبوت يد الاستيفاء فيما زاد على المئة، فإن أقام الراهن بينة أنه رهنه بمئة وخمسين، وأقام المرتهن بينة أنه رهنه المئة، فالبينة بينة الراهن؛ لأنها تثبت زيادة في الاستيفاء، وإن اختلفا في قيمة الرهن بعدما هلك كله أو بعضه، فالقول قول المرتهن في قيمة الهالك مع يمينه، والبينة بينة الراهن.
قال في كتاب الحوالة: إذا شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لفلان عن فلان، فقال أحدهما: إلى شهر كذا، وقال الآخر: حالة، وادعى (148ب4) الطالب الحلول، وجحد الكفيل ذلك كله أو أقر بالكفالة وادعى الأجل، فالمال حالّ في الوجهين، أما إذا أقر بالكفالة وادعى الأجل فلأن الأصل في المال الحلول، والأجل عارض، وليس عليه إلا شاهد واحد، وأما إذا جحد الكفيل ذلك كله، فلأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالأجل فيثبت ما اتفقا عليه، ولا يثبت ما تفرد به أحدهما، وفي كتاب الحوالة أيضاً: إذا أقام شاهداً واحداً أن فلاناً أحاله على هذا بألف درهم، وأقام شاهداً آخر أنه بمئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهد أحدهما بألف درهم وشهد الآخر بألف ومئة دينار، تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً(8/478)
ومعنى وتفرد أحدهما بزيادة مئة دينار، وليس هذا نظير البيع؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، أما حوالة الدراهم لا تختلف بحوالة الدنانير لا نفسها ولا حكمها، فكان نظير الاختلاف في الدين المطلق، وتأويل المسألة إذا كان المدعي يدعي الدراهم والدنانير جملة، أما إذا كان يدعي الدراهم وحدها لا تقبل الشهادة، لأنه يصير مكذباً الذي شهد له بالدنانير.
قال في «أدب القاضي» إذا طلب الشفيع الشفعة وأقام شاهدين، شهد أحدهما أنه اشترى بألف، وشهد الآخر أنه اشترى بألفين، والمشتري يقول: اشتريتها بثلاثة آلاف لا تقبل شهادتهما؛ لأن عقد الشراء بألف غير عقد الشراء بألفين، وكذلك لو شهد أحدهما بالشراء بألف درهم وشهد الآخر بمئة دينار لا تقبل الشهادة، وكذلك لو شهد أحدهما أنه اشترى من فلان، وشهد الآخر أنه اشترى من فلان آخر لا تقبل شهادتهما لأن الشراء من عمرو غير الشراء من زيد، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر به أخذ هذا العبد من فلان، وشهد آخر أن هذا العبد لفلان لم يقض للمشهود له بشيء؛ لأنهما اختلفا.
بيانه: أن أحدهما شهد على الإقرار بالأخذ منه، وأنها شهادة على الإقرار بفعله، والآخر إنما شهد بالملك، وهو وصف في المحل وهما مختلفان، ولأن أحدهما شهد بالملك له والآخر لم يشهد بالملك له إنما شهد على أنه أخذه منه فكانت شهادة على قيام يده وأنها وصلت إليه من جهته، ولو ثبت ذلك يؤمر بالتسليم إليه من غير أن يقضى له بالملك، فلم يتفق الشاهدان لا على الملك ولا على الأخذ فلهذا لا يقضى للمشهود له بشيء.
ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه جازت شهادتهما، حتى يؤمر المدعى عليه برد العبد على المدعي؛ لأنهما أجمعا على إقراره أنه أخذه منه، لكن شهد أحدهما على إقراره بأخذ مفرد، وشهد الآخر على إقراره بالوديعة فوجب القضاء بما اتفقا عليه، وهو الأخذ من المدعي، وإذا ثبت يؤمر بالرد على المدعي ولكن لا يقضى له بالملك لعدم الحجة على الملك، وكذلك لو أن الذي شهد بالوديعة لم يشهد بالوديعة إنما شهد أنه أقر أنه دفعه إليه فلان، وفيما إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه.
نوع إشكال، لأن المشهود به في شهادة أحدهما الإقرار بالأخذ من المدعي، والمشهود به في شهادة الآخر الإقرار بالإيداع، والإقرار بالإيداع لا يكون إقراراً بالأخذ منه، ألا ترى أن من قال لغيره: أخذت منك هذا العين وديعة وقال المقر له: لا بل غصبته مني غصباً، إن القول قول المقر له، وهو ضامن للعبد إن هلك في يده؟ ولو قال: أودعتني هذا العبد، وقال المقر له: لا بل غصبته مني، فالقول قول المقر.
وما افترقا إلا باعتبار أنه في المسألة الأولى أقر بفعل نفسه، وهو الأخذ منه وادعى(8/479)
الإذن، وأنكر المالك الإذن فلم يثبت الإذن، وبقي إقراره بالأخذ، والأخذ إذا خلي عن الإذن كان سبباً للضمان، وفي المسألة الثانية لم يقر بفعل نفسه، وهو الأخذ، إنما أقر بفعل المالك وهو الإيداع فلم يكن مقراً بسبب وجوب الضمان، فلا يجب عليه الضمان، فكذلك مسألتنا، الذي شهد على الإقرار بفعل المدعي وهو الإيداع لا بفعل ذي اليد، والذي شهد على الإقرار بالأخذ شهد على الإقرار بفعل ذي اليد وهو الأخذ، فينبغي أن لا يقضي بشهادتهما، وسيأتي بعد هذا مسألة أخرى بخلاف ما ذكر ههنا، وكذلك لو شهد أحدهما أن صاحب اليد أقر أنه اغتصبه من هذا المدعي، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه إياه، أو شهد الآخر أنه أقر أنه أخذه من هذا المدعي قبلت شهادتهما، وأُمر المدعى عليه بالرد على المدعي؛ لأنهما اتفقا على يد المدعي فيما مضى من الزمان، وعلى وصوله إلى المدعى عليه من جهة المدعي، فيقضي بما اتفقا عليه وهو وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي، وعند ذلك يؤمر بالرد عليه، ولكن لا يقضى بالملك للمدعي؛ لأن الشهود لم يشهدوا له بالملك، وبقي المدعى عليه لم يصر مقضياً عليه بالملك إنما صار مقضياً عليه بالأخذ من المدعي، وليس من ضرورة الأخذ منه أن يكون المأخوذ ملكاً للمأخوذ منه.
وذكر في «المنتقى» عين مسألة العبد ووضعها في الثوب، وذكر أنه إذا شهد أحد الشاهدين على إقرار صاحب اليد أنه غصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، فزاد ههنا زيادة على ما ذكر في مسألة العبد فقال: وقال المدعي: قد أقر بما قالا جميعاً ولكنه اغتصب مني، قال: قبلت الشهادة، وجعلت الذي في يديه الثوب مقراً بملكه للمدعي، ولم أقبل منه بعد ذلك بينة على الثوب، يعني من صاحب اليد، وإنه بخلاف ما ذكر في مسألة العبد.
ووجه ذلك: أن الغصب يقع من الملاك، والإيداع يكون من الملاك بحكم الغالب، فكان الإقرار بالإيداع والغصب إقراراً بملك المستودع والمغصوب منه من هذا الوجه، ثم قال: وإن شهد أحدهما على إقراره أنه اغتصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه أخذه، قضيت به للمدعي، وجعلت المدعى عليه على حجته من قبل، أن الإقرار منه بالأخذ ليس بإقرار بالملك، ثم قال: ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه أخذه منه هذا الثوب وشهد الآخر على إقراره أنه أودعه إياه وقال المدعي: قد أقر هو بما قالا، لكني أودعته منه، قال: لا تقبل هذه الشهادة، وعلَّل وقال: لأن ههنا لم يجمعا على الإقرار بالملك ولا على الإقرار بالأخذ؛ لأن الذي شهد بالوديعة ما شهد بالأخذ، وما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة العبد يخالف ما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة الثوب؛ لأن في مسألة الثوب لم يجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، ولم تقبل هذه الشهادة، وفي مسألة العبد جعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، وقبل الشهادة للرد على المدعي، فإن كان في المسألة روايتان فوجه الرواية التي قال فيها: لا تقبل هذه الشهادة، أن الشهادة على الإقرار بالإيداع ليست بشهادة على الإقرار بأخذه منه؛ لأن(8/480)
الإيداع يتحقق بدون أخذه على ما مر، فلم يقع الاتفاق منهما على شيء فلا تقبل شهادتهما.
وجه الرواية التي قال فيها: تقبل هذه الشهادة على الرد أن الأخذ بهذه الشهادة إن لم يثبت، فقد ثبت وصول العين إلى المدعى عليه من يد المدعي، وهذا القدر كاف للقضاء بالرد على المدعي، وإن لم يكن في المسألة روايتان فوجه الفرق بينهما، وبيان جهة التوفيق: أن موضوع مسألة الثوب: أن المدعي ادعى الإيداع، ودعوى الإيداع دعوى فعل نفسه فليس فيه دعوى الأخذ على المدعى عليه، فلا يمكن القضاء بالأخذ على المدعى عليه، إذ لا دعوى فيه.
موضوع مسألة العبد، أن المدعي ادعى الأخذ على المدعى عليه فكان مدعياً الفعل عليه فليس في شهادة الإيداع ما ينافيه، وقد اتفقا على وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي فيمكن القضاء بها، يوضحه: أن الشهادة على الإيداع شهادة على وصول العين إلى يده فحسب من غير أن يكون منه فعل في العين يكون ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، ومتى ادعى الأخذ فقد ادعى وصوله الى يده بفعل ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، فكانت هذه شهادة بأقل مما ادعاه المدعي، فقبلت، فأما إذا ادعى الإيداع فهو لم يدع على المدعى عليه إلا مجرد وصول العبد إليه من غير أن يدعي عليه فعلاً، كان سبباً لوجوب الضمان، فإذا شهد على الإقرار بالأخذ، والأخذ سبب لوجوب الضمان، كانت هذه الشهادة بأفضل مما ادعاه المدعي، فلا تقبل، ولو شهد شاهد أن صاحب (149أ4) اليد أقر أنه لهذا المدعي، وشهد آخر أنه أقر أن المدعي أودعه منه تقبل هذه الشهادة، وقضى بالعين للمدعي، لما ذكرنا: أن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع، فالشاهدان اتفقا على الإقرار بالملك للمدعي فتقبل شهادتهما.
ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قتل وليَّه عمداً وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أنه قتله عمداً بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله عمداً بالسكين لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اختلفا في آلة القتل وقد مرت هذه المسألة من قبل، وإنما أعادها ليذكر الفرق بينه، وبينما إذا شهد أحدهما على إقراره أنه قتله عمداً بالسكين، فقال ولي القتيل: أنه أقر بما قال، ولكنه والله ما قتله إلا بالسيف، أو قال: صدقا جميعاً لكنه والله ما قتله إلا بالرمح فهذا كله سواء، ويقتص من القاتل.
والفرق من وجهين: أحدهما: أن في تلك المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص إذا ثبت القتل عنده، ولم يثبت القتل بهذه الشهادة لأن باختلاف الآلة يختلف القتل، فلا يقع الاتفاق على قتل واحد، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، أما في هذه المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص بناء على إقراره بوجوب القصاص، والشاهدان مع اختلافهما في الآلة اتفقا على إقراره بوجوب القصاص عليه فلهذا اقتص منه، ولأن الدعوى في حقوق العباد شرط قبول البينة في تلك المسألة، لابد وأن يدعي المدعي القتل بإحدى الآلتين إذ لا يمكنه القتل بكلا الآلتين، لأن في دعواه ذلك تكذيب(8/481)
لهما لتعذر وجود قتل واحد بكلا الآلتين، وإذا ادعى بإحدى الآلتين فقد كذب شاهده الآخر، وههنا أمكنه تصديق الشاهدين مع دعواه القتل بإحدى الآلتين وبآلة أخرى والقتل بكل واحدة من هاتين الآلتين يوجب القصاص، فيكون مقراً على نفسه بوجوب القصاص فلهذا افترقا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه فادعى رجل آخر أنه عبده، وأقام البينة على إقرار صاحب العبد: أنه للمدعي قبلت بينته، وقضي بالعبد للمدعي اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة الثابتة عياناً، وقد مرت هذه المسألة من قبل، وكذلك إذا شهدا على إقراره أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وقال المدعي: قد أقر بما قال ولكنه لم يشتره مني، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي؛ لأن إقراره بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وقد مرت هذه المسألة أيضاً، وإنما أوردناها ههنا لزيادة تفريع، وكذلك لو أقام شاهداً أن الذي في يديه العبد أقر أن العبد عبد المدعي، وأقام شاهداً آخر أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشترى العبد من المدعي بألف درهم، وقال المدعي صاحب اليد: أُقِرُّ بما قال الشاهدان إلا أني لم أبع منه شيئاً، تقبل هذه الشهادة ويقضي بالعبد للمدعي، لأن الشاهدين اتفقا فيما هو المقصود من هذه الشهادة لأن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء بدليل أنهما لو شهدا على الشراء في هذه الصورة فالقاضي لا يقضي بالشراء؛ إذ لو قضى بالشراء حصل القضاء لذي اليد، وهما إنما شهدا عليه لا له فعلم أن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء وهما اتفقا في هذا المقصود أما الأول: فلا شك وأما الثاني: فلأنه شهد على إقراره بالشراء من المدعي والإقرار بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع» : أن الشراء والاستيام إقرار بالملك للبائع، أما على رواية «الزيادات» : فليس بإقرار بالملك للبائع فيحمل أن تكون المسألة على روايتين، فإن لم تكن المسألة على روايتين فوجهه على رواية «الزيادات» : أن الشراء إقرار من المشتري أنه لا ملك له في المحل، فخرج من البين، فيأخذه المدعي لأنه يدعيه ولا مزاحمة له فيه، ثم شرط
القبول هذه الشهادة أن يقول المدعي: إن ذا اليد أقر بأمرين جميعاً إلا أني لم أبعه منه، حتى لو قال المدعي: إن صاحب اليد أقر بأحد هذين الأمرين دون الآخر لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه يصير مكذباً أحد شاهديه، وكذلك إذا شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أن المدعي وهب العبد له، وشهد الآخر أن ذا اليد أقر أن المدعي تصدق به عليه، وقال المدعي صاحب اليد: أقر بالأمرين إلا أني ما وهبته وما تصدقت به عليه، فإنه يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن كل مستوهب ومتصدق عليه مقر بالملك للواهب والمتصدق.
وكذلك لو شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وشهد الآخر أنه اشتراه بمئة دينار، أو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه قد استأجره من المدعي بعشرة دراهم، وشهد الآخر أنه أقر ذو اليد أنه اشتراه منه بألف(8/482)
درهم أو شهد أحدهما أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: هب هذا العبد لي، وشهد الآخر أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: تصدق علي بهذا العبد، أو شهد أحد الشاهدين أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بألف درهم، وشهد الآخر أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بمئة دينار، وقال المدعي: أقر ذو اليد بذلك كله، إلا أني ما بعت منه ولا أجّرت، فالقاضي يقضي في هذه الوجوه كلها بالعبد للمدعي.
وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار الذي في يديه العبد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، قبلت شهادتهما، وقضي بالعبد للمدعي لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد أن العبد ملك المدعي؛ لأن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع لأن الإيداع عقد شرعي لا يصح شرعاً إلا من المالك.
وكذلك إذا شهدا على الإقرار ذي اليد بالإيداع قضي للمودع؛ لأنهما شهدا على إقراره بالملك للمدعي، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه عبد المدعي أودعه إياه، قضي به للمدعي؛ لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد، يكون العبد للمدعي، لكن زاد أحدهما الإقرار بالإيداع منه، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي.
وكذلك إذا شهد على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي، فلم يجعل الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع وجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالملك للمودع.
والفرق: أن الإيداع عقد شرعي يوجب ثبوت اليد للمودع وثبوت ولاية الحفظ وأنه لا يصح إلا من المالك باعتبار الأصل فكان إقراراً بالملك له، فأما الدفع ففعل حتى يؤخذ من المالك ومن غير المالك، وصحته بوجوده حياً فلم يكن مفتقراً إلى الملك، فلم يكن الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع، فلا يقضى بالعبد للمدعي ولكن يؤمر المدعى عليه بالدفع إلى المدعي، وقد ذكرنا هذا الفصل في المسألة التي حكينا عن ابن سماعة فيما تقدم.6
وكذلك لو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه غصبه من المدعي، فالقاضي يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن الإنسان لا يغصب ملك نفسه، فكان الإقرار بالغصب إقراراً بالملك للمغصوب منه.
وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي وشهد الآخر على إقراره أنه رهنه منه أو استأجره منه، قضى بالعبد للمدعي؛ لأن الرهن والإجارة كل واحد منهما عقد شرعي لا صحة له إلا بقيام الملك للراهن والأجر على اعتبار الأصل، وكان الإقرار بهما إقراراً بالملك للمدعي، وهذا كله إذا قال المدعي: إنه أقر بما قال الشاهدان إلى آخر ما ذكرنا قبل هذا، ولو كان الذي في يديه العبد أقر أن العبد كان للمدعي، وادعى أن المدعي أعطاه صلة وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه تصدق بهذا العبد على المدعى عليه، والآخر شهد أن المدعي أقر أنه وهب هذا العبد من(8/483)
المدعى عليه، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة إلا أن يأتي شاهد آخر يشهد على الهبة أو على الصدقة، بخلاف ما تقدم.
والفرق أن (149ب4) صاحب اليد ههنا أقر بالملك للمدعي في العبد، وادعى تلقي الملك فيه من المدعي فلابد لذلك من سبب، والسبب أحد العقدين إذ لا يجوز أن يتملك كل العبد من شخص واحد في حالة واحدة، كله بالهبة، وكله بالصدقة، فلابد من أن يدعي أحدهما، ومتى ادعى أحدهما يصير مكذباً شاهده الآخر، فلا يبقى له على ما ادعى إلا شاهد واحد.
أما فيما تقدم فالمدعي لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد حتى يحتاج إلى إثبات سبب الملك، وإنما ادعى أن العبد ملكه من الأصل، ولم يكن محتاجاً إلى إثبات سبب الملك، بل حاجته إلى إقرار ذي اليد أن العبد ملكه وقد ثبت ذلك من الوجه الذي بينا، وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه وهبه للذي في يديه وقبضه؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بالهبة، وإنما اختلفا في اللفظ، وهذا لأن النحلى والعمرى والهبة من أسماء الهبة، يقال: نحله كذا وعمره كذا، ووهبه كذا، والاختلاف في اللفظ لا يمنع قبول الشهادة بعد الاتفاق على المعنى كما لو شهد أحدهما بالنكاح والآخر بالتزويج بخلاف الهبة والصدقة؛ لأنهما يختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظاً: فلا شك؛ وأما معنى: فلأن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى ولا رجوع فيها، والهبة يراد بها وجه العبد وفيها رجوع، وكانا مختلفين لفظاً ومعنى وليس على أحدهما شهادة شاهدين.
وزعم بعض مشايخنا أن الاختلاف بين الهبة والصدقة من حيث أن في الهبة رجوع ولا رجوع في الصدقة وليس كما ظنوا، ألا ترى أنه لو شهد أحدهما بالهبة من فقير أو من ذي رحم محرم وشهد الآخر بالصدقة لا تقبل الشهادة ولا رجوع له، وإنما الاختلاف من حيث الذات، فذات الهبة غير ذات الصدقة.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنه باعه من الذي هو في يديه وقبض الثمن، وشهد الآخر على أنه وهبه من الذي في يديه لا تقبل شهادتهما؛ لاختلاف ظاهر بين البيع والهبة.
وكذلك لو شهد أحدهما أنه باعه وشهد الآخر أنه باعه بمئة دينار وقبض الثمن لا تقبل شهادتهما، لأن البيع يختلف باختلاف الثمن فيختلف المشهود به وكذلك إن كانت الشهادة على الإقرار بالبيع كما وصفنا؛ لأنهما لم يجتمعا على بيع واحد، ولو كان صاحب اليد ادعى أنه اشتراه من المدعي بألف درهم وقبض الثمن وجاء بشاهدين شهدا على البيع وقبض الثمن، إلا أنهما لم يبينا مقدار الثمن، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن كما ادعاه المدعي وسكوتهما عن بيان مقدار الثمن احتمل الموافقة، لجواز أنهما لو استفسرا هنا الثمن ألفاً كما ادعاه المدعي، ويحتمل أنهما هنا بخلاف ذلك، فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف.
وكذلك لو شهدا على إقرار المدعي بالبيع وقبض الثمن ولم يبينا مقدار الثمن وذو اليد يقول اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن، فالقاضي يقبل الشهادة، وهذا بخلاف ما لو(8/484)
شهدا على قبض الثمن فإنه لا تقبل شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فلا حاجة إلى القضاء بالثمن، لأنه وقع الفراغ منه، إنما الحاجة إلى إثبات الملك في المبيع فحسب، وأمكن القضاء بالملك في المبيع، لاتفاق الشاهدين على ذلك، فأما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً فكما مست الحاجة إلى القضاء بالملك مست الحاجة إلى القضاء بالثمن وتعذر القضاء بالثمن لجهالته.
يوضح ما ذكرنا أن الشهادة على البيع وقبض الثمن شهادة بالملك المطلق للمدعي، لا أنه شهادة بالعقد، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه باع عبده بخمسمئة درهم من فلان، وقبض الثمن فقضى القاضي بالملك للمدعي ثم رجعا عن شهادتهما، وقيمة العبد ألف درهم أنهما يضمنان قيمة العبد دون الثمن، ولو حصل القضاء بزوال الملك عن العبد بالثمن لضمنا الثمن فعرفت أن القضاء بزوال الملك غير مقابل بالثمن حتى يضمنا قيمة العبد الذي تلف بشهادتهما، وإذا كان هكذا لم يصر الثمن مشهوداً به عند الشهادة بقبض الثمن فلا يمتنع القبول بترك بيان الثمن، فأما الشهادة على البيع بدون قبض الثمن شهادة بالعقد بدليل عكس ما ذكرنا، وتعذر القضاء بالعقد لكون الثمن مجهولاً؛ ولأن الجهالة إنما تمنع جواز البيع باعتبار أنها مانعة من التسليم والتسلم، وإذا كان الثمن مقبوضاً فلا حاجة إلى التسليم والتسلم، لأنه وقع الفراغ عنه فلا يمتنع القاضي من القضاء به، وإن بين أحدهما الثمن وهو ألف كما ادعاه المدعي وسكت الآخر عن بيان الثمن، ولكن كل واحد منهما شهد بقبض الثمن قبلت شهادتهما، لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن وسكوت من سكت عن بيان الثمن يحتمل الموافقة لجواز أنه لو استفسر لبين أن الثمن ألف واحتمل المخالفة فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف، وإن لم يبين المدعي مقدار الثمن، وإنما ادعى البيع وقبض البائع الثمن، وشهدا على الشراء بألف، وذكرا قبض الثمن قبل القاضي شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فالشهادة لا تقع بالثمن وكذا القضاء لا يقع بالثمن فكان ذكره والسكوت عنه سواء، فقد اتفقت الدعوى والشهادة والمخالفة موهوم، فإن المدعي لو استفسر ربما بين أن الثمن ألف كما شهد به الشهود، فلا تبطل شهادتهما بألف درهم، وإن بين أحدهما أن الثمن ألف درهم وبين الآخر أن الثمن مئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهدا بقبض الثمن؛ لأنه لابد وأن يدعي أحد العقدين،
وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها دار المدعي وشهد الآخر على إقرار صاحب اليد إنها للمدعي فالشهادة مختلفة.
بيانه أن أحدهما شهد للمدعي بالملك وأنه ليس بقول، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك للمدعي والإقرار قول، فاختلف المشهود به من حيث الصورة، وكذلك من حيث المعنى، لأن الإقرار حجة الملك على المدعى عليه وهو المقر لا أن يكون نفس الملك، ولم يقم على الإقرار حجة حتى صار كالمعاين، فيقضي به ولم يقم على الملك شاهدان حتى يمكن القضاء بالملك للمدعي بشهادتهما، فتعذر(8/485)
القضاء بشهادتهما فلا يقض بهما، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما للمدعي على المدعى عليه بألف وشهد الآخر على إقرار المدعي عليه بالألف قال: هذا جائز لأنه إقرار كله، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله ذكر.
الناطفي رواية أبي يوسف في «واقعاته» فقد فرق بينهما وأشار إلى الفرق أن شهادة الشاهد بالملك المطلق يعتمد دليلاً يطلق له أداء الشهادة بالملك المطلق، ولا دليل عليه سوى اليد، فالذي شهد بالملك للمدعي شهد على يد المدعي من حيث الحقيقة، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك فاختلف المشهود به، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، وللشهادة على وجوب الدين على المدعى عليه مطلقاً من غير أن يعرف سبب وجوبه يعتمد دليلاً يطلق له ذلك، وذلك الدليل ليس إلا هو الإقرار، فهو الحجة لوجوب الدين عليه مطلقاً كما أقر به، فأما ما سواه من الأدلة فذلك يسير إلى سبب وجوب الدين فلم يكن ديناً مطلقاً خالياً عن السبب، فالذي شهد بالدين للمدعي مطلقاً شهد على إقرار المطلوب بهذا الدين معنى ولو شهد به صريحاً حصلت الموافقة بين الشاهدين في شهادتهما كذلك.
هذا وفي غصب «الأصل» : إذا شهد أحد الشاهدين أن قيمة الثوب المغصوب المستهلك كذا وشهد الآخر على إقرار الغاصب أن قيمته كذا لا تقبل شهادتهما.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : إذا ادعى الرجل داراً في يد غيره وأقام شاهدين شهد أحدهما أنها داره ورثها من أبيه، وشهد الآخر أنها داره ورثها من أمه فالشهادة باطلة، لأنهما اختلفا في سبب الملك، والأملاك تختلف (150أ4) باختلاف أسبابها، واختلاف المشهود به يمنع قبول الشهادة فرق بين هذا وبين الإقرار، فإنه إذا أقر أن هذه الدار له ورثها من أبيه فقال المقر له: لا بل ورثتها من أمي، كان للمقر له أن يأخذ الدار من المقر، وإن اختلفا في السبب والفرق أن الإقرار حجة تلزمه بنفسه، لو بطل حكمه إنما يبطل بتكذيب المقر له، وإنه لم يكذبه في أصل الملك فثبت أقصى ما في الباب أنه كذبه في السبب، ولكن لا حاجة إلى إثبات السبب بعد ثبوت الحكم، فأما في مسألتنا فالشهادة إنما تصير حجة بقضاء القاضي وكانت حالة القضاء حال ثبوت الحكم، وثبوت الحكم لابد له من سبب ولا يمكن إثبات السببين جميعاً؛ للتنافي ولعدم الحجة عليهما، ولا إثبات أحدهما؛ لأنه لم يقم عليه حجة كاملة وفي شهادة المثنى، ولأنه لابد من الدعوى لقبول الشهادة، ولا يمكنه دعوى السببين للتنافي، ولو ادعى أحدهما كان مكذباً لشاهده الآخر فبطلت شهادته لتكذيبه، فتعذر القضاء بها.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، وشهد الآخر أن فلاناً آخر وهبها له وهو يملكها وقبضها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، ولأنه إنما تلقى الملك من جهة الواهب أو المشتري، ما لم يثبت الملك له لا ينتقل إليه ولم يثبت، لا ملك البائع ولا ملك الواهب؛ لأنه لم يشهد على كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وهذه العلة تصلح علة في المسألة الأولى لمنع قبول الشهادة، ثم في هذه المسألة أنه يختلف الجواب مما إذا لم يوفق المدعي، وبينما إذا وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان كما شهد(8/486)
به هذا الشاهد وقبضتها ثم بعتها من فلان وسلمتها إليه ثم استوهبتها فوهبها لي وقبضتها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما في الوجهين جميعاً، فرق بين هذا وبينما إذا ادعى أنه اشتراها من فلان، وشهد شاهدان أنه وهبها وقبضها منه فإنه لا تقبل شهادتهما قبل التوفيق، ولو وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان ثم جحدني الشراء فاستوهبتها منه فوهبا لي وأعاد البينة، قبلت هذه الشهادة.
ووجه الفرق: أنه في تلك المسألة أقام على الهبة شاهدين، وقد زالت المخالفة بين الدعوى والشهادة بالتوفيق، فقبلت شهادتهما وقضي بالهبة لكمال الحجة عليها، أما ههنا إن زالت المخالفة بالتوفيق ولكن لم يشهد بالهبة إلا شاهد واحد فيعذر القضاء به، لأن القضاء بشهادة الفرد لا تجوز، حتى لو شهد معه شاهد آخر على الهبة قضي له بالهبة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فادعى الغريم أنه أوفاها صاحبها، وصاحب المال يجحد ذلك فشهد للغريم شاهدان، شهد أحدهما: أن صاحب الحق أبرأ الغريم من المال، وشهد الآخر أن صاحب المال أقر بالاستيفاء، لم تقبل شهادتهما لأنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فلا شك وكذلك معنى، لأن الذي شهد بالإبراء إن عنى به الإبراء بغير عوض، فهو إسقاط وليس في الاستيفاء معنى الإسقاط، فجاب المخالفة وإن عنى به الإبراء الذي هو حكم الاستيفاء صار هو شاهداً بمعاينة الاستيفاء، وإنه فعل، والآخر شاهد بالإقرار به وإنه قول، ومثل هذا مانع قبول الشهادة كما لو شهد أحد الشاهدين على الغصب، وشهد الآخر على الإقرار بالغصب ولو كان الذي شهد بالإبراء شهد أن صاحب الحق أقر أن الغريم برئ إليه قبلت الشهادة؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من الغريم وانتهاؤها بصاحب الدين تكون بطريق الإيفاء والاستيفاء، فكانت الشهادة بمثل هذه البراءة شهادة على الإقرار بالاستيفاء أيضاً، فقد اتفقا في المعنى وما شهد به داخل تحت دعوى المدعي أيضاً، فلهذا تقبل.
ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه استوفى الألف وشهد الآخر أنه حلله له، أو أجله أو وهبه له أو تصدق به عليه فالشهادة باطلة، لأن الاستيفاء أخذ الحق، وهذه الأشياء شيء تبنى عن التبرع فاختلف المشهود به، ولأن هذه الأشياء لا تصلح حكماً للاستيفاء ثم لما لم تقبل شهادة البراءة مع أنها تصلح حكماً للاستيفاء، لأَن لا تقبل هنا أولى وأنه لا يصلح حكماً له، ولو ادعى المطلوب الأداء فشهد له شاهدان أن صاحب الحق أبرأه من دينه أو أنه حلله فالشهادة جائزة، لأن المشهود به واحد وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي وهو المطلوب بدعوى الاستيفاء ادعى براءة معيدة بالاستيفاء؛ لأن الإبراء من حكم الاستيفاء، فإنه يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء وهما شهدا ببراءة مطلقة للبراءة بالإبراء وللبراءة بالإيفاء، فكانت هذه شهادة ببعض ما ادعاه فقبلت وفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى فإنه اعتبر هذا مخالفة بين الشاهدين(8/487)
حتى أبطل شهادتهما، كذلك ولم يعتبره مخالفة بين الدعوى والشهادة.
ووجه الفرق: أن في تلك المسألة المخالفة بين الإيفاء والإبراء ظاهرة صورة أو تثبت الموافقة، إنما تثبت باعتبار الضمن فإنما يمكن إثباتها ضمنا إذا ثبت المتَضمَّن ولم يثبت المتَضمَّن وهو الاستيفاء بشهادة أحدهما، لأن شهادة الفرد ليست بحجة، فلا يثبت ما في ضمنه، فلم تحصل الموافقة فأما ههنا كلام المدعي معتبر وأنه ثابت، ولكنه دعوى فثبت ما في ضمنه، وهو الإبراء فحصلت الموافقة بينه وبين الشهادة بالإبراء.
والثاني: أن امتناع القبول ثمة باعتبار أن أحدهما شهد بالفعل وهو الاستيفاء، والآخر بالقبول وهو الإبراء، واختلاف الشاهدين على هذا الوجه يمنع صحة شهادتهما وقبولها، ومثل هذا الاختلاف في الدعوى والشهادة لا يمنع القبول، ألا ترى أن أحد الشاهدين لو شهد بالغصب وشهد الآخر على الإقرار به لا تقبل.
ولو ادعى الغصب وشهد الشهود بالإقرار بالغصب قبلت شهادتهم، ولو شهدوا على الهبة أو الصدقة أو النحلى أو العطية أو الإحلال لا تقبل شهادتهم؛ لأن الغريم يدعي الاستيفاء، وهذه الأشياء ليست من أحكام الإيفاء؛ لأن الهبة تبنى على التبرع وكذا الصدقة والإحلال عبارة عما ينتفع به بتمكينه إياه، وبالإيفاء إنما ينتفع حكماً لملكه ما في ذمته لا بإحلاله فبطلت الشهادتان؛ لاختلاف بينهما بخلاف الإبراء، فإنه يصلح حكماً للإيفاء على ما ذكرنا.
قال ولو ادعى الغريم البراءة أي ادعى أن رب المال أبرأه فشهد أحد الشاهدين بذلك وشهد الآخر أنه وهب له الحق أو تصدق عليه أو نحله أو حلله منه أو أجله له قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا معنى من كل وجه في بعض هذه الألفاظ، ومن وجه في بعض هذه الألفاظ، وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من كل وجه أو من وجه.
بيانه: أن المدعي ادعى براءة مطلقة، وأنها تحتمل البراءة بالإبراء، وقد اتفق الشاهدان على الإبراء معنى من كل وجه أو من وجه، لأنه شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالتحليل، والتحليل مما يعبر به عن الإبراء أو يقام مقام الإبراء، فالذي شهد بالتحليل شهد بالإبراء معنى، فتثبت الموافقة بين الشاهدين معنى من كل وجه فتدخل تحت دعوى المدعي من كل وجه، وأما من وجه، فلأنه شهد أحدهما بالإبراء وأنه يحتمل الإبراء الذي ثبت حكماً للاستيفاء، ويحتمل الإبراء الذي هو إسقاط، وشهد الآخر بالهبة والصدقة والنحلى والإحلال، وهذه الألفاظ إنما تستعمل للبراءة بالإبراء لا للبراءة بالإيفاء، وشاهد الإبراء شهد ببراءة محتملة الأمرين فتثبت الموافقة بين الشاهدين من وجه فيدخل تحت الدعوى من وجه وهذا كاف للقبول؛ لأن الشهادات حجج الله تعالى يجب العمل بها ما أمكن.
فإن قيل: إذا شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالهبة ينبغي أن لا تقبل، لأن الإبراء مع الهبة يختلفان لفظاً ومعنى؛ لأن الإبراء موضوع الإسقاط والهبة موضوع للتمليك، ولهذا صاحب الدين إذا أبرأ الكفيل فرد الكفيل لا يريد ولو وهب له فرد يريد، فإذا اختلفا لفظاً(8/488)
ومعنى يجب أن لا تقبل وإن اتحد حكمهما شرعاً كما لو شهد أحدهما بالحلية والآخر بالبرية.
قلنا: الإبراء مع الهبة تختلفان معنى في حق الكفيل على (150ب4) الوجه الذي قلتم، إما يتفقان يعني في حق المطلوب فإن إبراء المطلوب والهبة منه كل واحد منهما إسقاط من وجه حتى يصح من غير قبول وتمليك من وجه حتى يرتد برده.
قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظا فظاهر وأما معنى، فلأن الهبة يقصد بها وجه الموهوب له ومكافأته، والصدقة يقصد بها رضى الله تعالى وثوابه، وطعن أبو حازم القاضي رحمه الله وقال: وجب أن يقال، لأن الصدقة مع الهبة لا يختلفان في هذا الباب، ألا ترى أن المدعي لو ادعى البراءة وشهد أحد الشاهدين بها، والآخر بالهبة أو بالصدقة تقبل الشهادة، وجعلت الشهادة بالصدقة في تلك المسألة كالشهادة بالهبة.
والجواب عن هذا الطعن أن يقال: إن الغريم إذا ادعى البراءة وشهد أحدهما بالبراءة، والآخر بالهبة أو بالصدقة إنما قبلت الشهادة باعتبار أن البراءة لفظة عامة تذكر، ويراد بها براءة يقصد بها وجه الغريم وطلب المكافأة منه، ويذكر ويراد بها براءة يقصد بها وجه الله تعالى وثوابه، والمدعي ادعى البراءة مطلقاً.
فإذا شهد أحدهما بالبراءة والآخر بالصدقة فقد شهدا بما دخل تحت الدعوى من وجه، ووُجِدت الموافقة بين الشاهدين معنى فيما دخل تحت الدعوى فتقبل، أما ههنا: فالغريم ادعى الهبة وهو اسم لبراءة مخصوصة يراد بها وجه الغريم، والشاهد بالصدقة شهد ببراءة يقصد بها وجه الله تعالى ورضاه، وهذا لم يدخل تحت الدعوى أصلاً، ولم تثبت الموافقة أيضاً بين الشاهدين لا لفظاً ولا معنى فلا تقبل، وكذلك إذا ادعى الغريم البراءة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة لا تقبل هذه الشهادة.
فإن قيل: وجب أن تقبل هذه الشهادة، لأن يشهد أن دخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي ادعى براءة مطلقة فيدخل تحتها براءة يقصد بها وجه الغريم، وبراءة يقصد بها وجه الله تعالى.
قلنا: بل الأمر كما قلتم إلا أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، لما مر أن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى فكان الشهود به شيئين، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد فلهذا لا تقبل.
قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالبراءة وشاهد بالهبة أو بالنحلى أو العطية؛ فالشهادة جائزة، لأن الذي شهد له بالهبة وافقه فيما ادعى، وشاهد البراءة شهد ببعض ما ادعى؛ لما ذكرنا أن الهبة تتضمن الإبراء فحصلت الموافقة بين الشاهدين في(8/489)
الأول فيقبل شهادتهما، ولو شهد أحدهما ببعض ما ذكرنا، وشهد الآخر بالصدقة لم تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بالتمليك والهبة والصدقة مختلفة على ما مر، فاختلفت شهادتهما وثبت الاختلاف بين الدعوى والشهادة أيضاً، لأن الشاهد على الصدقة يشهد على خلاف ما ادعاه المدعي من الهبة والمخالفة بين الدعوى والشهادة ولو ادعى العطية أو الهبة أو النحلى أو الصدقة، وشهد شاهدان على الإستيفاء لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة ليست من حكم الاستيفاء، وكذلك الاستيفاء ليس من حكم الهبة فلا يمكن القبول بتحقيق الموافقة بينهما.
ولو ادعى أنه أحل له ماله عليه فشهدا بالاستيفاء قال: الشهادة باطلة ولم يذكر أن القاضي يسأل، وذكر فيما ادعى أنه أبرأه أو أحل، له وشهد شاهدان على إقرار صاحب الحق بالاستيفاء أن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل أنه بالاستيفاء أو بغيرها، والسؤال في دعوى البراءة في تلك المسألة متفق عليه، أما في دعوى البراءة يسأل؛ لأن الإبراء عسى يكون بطريق الاستيفاء يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء، فإذا احتمل الموافقة وجب السؤال وأما في دعوى الإحلال فالسؤال مختلف فيه، فمن أصحابنا من قال بأن السؤال واجب فيه أيضاً؛ لأن الإحلال يتضمن معنى الاستيفاء، لأنه متى استوفى فقد أحله منه، لأنه باشر سببه وهو الاستيفاء فاحتمل الموافقة فوجب السؤال كما في دعوى الإبراء ومنهم من فرق بينهما فقال: الإقرار بالاستيفاء له حكم الإبراء من وجه وحكم الاستيفاء من وجه، حتى أن المريض إذا أقر باستيفاء الدين من وارثه لا يصح، ولو أقر بالاستيفاء من الأجنبي صح من جميع المال، فإذا احتمل الوجهان جميعاً وجب السؤال، فأما الشهادة على نفس الاستيفاء فلا يحتمل، لأن الاستيفاء يكون بقبض الحق معاينة وأنه يخالف الإبراء، وكذا الإحلال لأنه يكون بالإسقاط، فكانت المخالفة ظاهرة فلا معنى للسؤال بل وجب رد الشهادة للمخالفة، ثم في كل موضع وجب السؤال فإن سأله فقال بالاستيفاء أمضى الشهادة، لظهور الموافقة، وإن لم يجبره بشيء لم يجبره على شيء، لأنه لا يجوز جبر المدعي على الدعوى ولم تجز شهادتهما، لأن ظاهره المخالفة وإنما ثبتت الموافقة بإخباره أنه أراد به البراءة بجهة الاستيفاء ولم يوجد فلا تقبل شهادتهما.h
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل له على رجل ألف درهم، فأقام المطلوب على الطالب شاهدين، شهد أحدهما أنه أقر أنه أبرأ فلاناً من جميع ماله عليه من حق، وشهد الآخر أنه قبض من فلان جميع ماله عليه من حق قال: لا أقبل ذلك لأنهما اختلفا؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، والإبراء إسقاط للحق والقبض يضاده فاختلف المشهود به ولو كان له على رجل ألف درهم وبها كفيل فجاء المطلوب بشاهدين شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه قبضها من الكفيل لم أقبل ذلك؛ لأن القبض من الكفيل غير القبض من الأصيل فاختلف المشهود به.
ولو كان له على رجل ألف درهم، فادعى المطلوب أن الطالب أبرأه منها وجاء بشاهدين شهد أحدهما على الإبراء والآخر على إقرار الطالب أنه قبض منه جميع ماله(8/490)
عليه، لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، ولم يقل بأن القاضي يسأل شاهد الإبراء أن الإبراء أكان بالاستيفاء أو بالإسقاط، وقال في المديون إذا ادعى الإبراء على الطالب وشهد له شاهدان على إقرار الطالب بالاستيفاء أن القاضي يسأل المدعي عن البراءة أنها كانت بالاستيفاء أو بغيره.
والفرق وهو أن دعوى البراءة تحتمل دعوى الإيفاء على ما ذكرنا، وعلى اعتبار دعواه الإبراء ألا يتحقق الموافقة بين الدعوى وبين الشهادة ويجب قبول الشهادة، وعلى اعتبار دعواه الإبراء لا يتحقق الموافقة ولا يجب قبول الشهادة، فكان السؤال مقيداً، أما هنا فالسؤال لا يفيد لأنه لا قبول لهذه الشهادة على كل حال أراد شاهد البراءة البراءة بالإبراء أو بالاستيفاء إن أراد البراءة بالإبراء فظاهر وإن أراد البراءة بالاستيفاء؛ فلأن الاستيفاء فعل وأحدهما شهد بالفعل، والآخر شهد بالإقرار بالقبض، وإنه قول فيختلف المشهود به فلا قبول لهذه الشهادة على كل حال، فلم يكن السؤال مفيداً.
قال: ولو شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه وهب له الألف، وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه لا تقبل الشهادة، وفرق بين هذا وبين ما إذا ادعى المديون الإبراء على الطالب، فشهد له شاهد بالهبة، وشاهد بالإبراء، حيث تقبل شهادتهما.
والفرق أن هناك المشهود به نفس الإبراء والهبة، وهما متفقان في المعنى؛ لأن الهبة إذا أضيفت إلى الدين تفيد البراءة، وأحدهما شهد على الحكم وهو البراءة والآخر شهد على البراءة بسبب وهو الهبة، وقد ذكرنا غير مرة أن العبرة في مثل هذا لاتحاد المعنى لا لاختلاف اللفظ، أما في مسألتنا فالمشهود به الإقرار، وإنه حكاه عن لفظ الطالب، وقد اختلف اللفظ واختلف المشهود به، ألا ترى أنه لو شهد أحد الشاهدين بالتخلية والآخر بالتبرئة لا تقبل الشهادة، لأنه حكاية عن اللفظ المطلق، وقد اختلف اللفظ فقد اختلف المشهود به.
ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه اشترى منه بالألف عبداً وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه والمطلوب يقول (151أ4) أقر عندهما كذلك، ويدعي البراءة لا تقبل شهادتهما، لأنهما اختلفا في سبب البراءة، فأحدهما يشهد بالبراءة بالمقاصة التي هي بمعنى الاستيفاء، والآخر يشهد بالبراءة بالإبراء الذي هو إسقاط.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في رجلين شهدا على وصية رجل، فشهد أحدهما أنه قال: جميع مالي لفلان بعد موتي، وشهد الآخر أنه قال: جميع مالي صدقة على فلان بعد موتي، وذلك في مجلس أو في مجلسين فالشهادة جائزة، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بالهبة والآخر بالصدقة في حالة الحياة، حيث لا تقبل شهادتهما، واعتبر المشهود به مختلفاً لمكان الاختلاف الذي بين الهبة والصدقة، ولم يوجب هذا اختلاف المشهود به، وإن شهد أحدهما بالصدقة.
والفرق: أن في تلك المسألة اختلفا في سبب الملك لما ذكرنا من المغايرة بين الهبة والصدقة، فلابد من أن يصدق المدعي أحدهما لأنه لابد من دعوى سبب لإثبات(8/491)
الملك بسبب، وفي تصديق أحدهما تكذيب الآخر فبطلت شهادتهما، أما ههنا لم يختلفا في سبب الملك لأن السبب هو الوصاية، وقد اتفقا على الوصاية، لكن تفرد أحدهما بزيادة لفظة الصدقة، وتفرد أحدهما بزيادة لفظ لا يمنع قبول الشهادة فيما اتفقا عليه.
وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمهما الله: رجل شهد على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها، وشهد آخر أنه أقر أنه اعتق أمته وتزوجها قال: تعتق الأمة ولا يثبت النكاح، وهذا بناء على أن الإعتاق قول لا تختلف فيه صيغة الإنشاء والإقرار، وفي مثل هذا اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء لا يضر، والنكاح وإن كان قولاً إلا أنه ألحق بالأفعال من حيث إنه يتضمن فعلاً فاختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء والأفعال صائر، فلهذا قال: يثبت العتق ولا يثبت النكاح.
وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل لرجل أن زيداً أقر أنه اشترى هذه الدار له بأمره، وشهد آخر أن زيداً أقر أن هذه الدار له، فهذه الشهادة جائزة عندنا وقد ذكرنا قبل هذا رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا شهد أحد الشاهدين أن الدار المدعى (بها) لهذا المدعي، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه أن الدار المدعى بها لهذا المدعي، إن الشهادة لا تقبل.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل ادعى على رجل ألف درهم فشهد شاهدان أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضاً وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن متاع اشتراه وقبضه، وقال الطالب: إنما مالي عليه قرض ولم يشهد لي إلا بالقرض، فقد أكذب الشاهد الذي شهد له أنها من ثمن متاع، ولو قال: قد أشهد على هاتين الشهادتين المختلفتين، لكن أصل مالي كان قرضاً، قضى له عليه ألف درهم، ولو قال: مالي من ثمن متاع بعته وقبضه مني، وقد أشهد هذين على ما شهدا به، لا يقضى له بشيء حتى يأتي بشاهد آخر يشهد له على مثل شهادة الذي يشهد له من ثمن المتاع إذا أقر الطالب أن ماله من ثمن متاع، فلابد من شاهدين على قبضه.
ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضا وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ضمان ضمن له عن فلان بأمره، فان قال الطالب: اشهد لي بهاتين الشهادتين على ما وصفنا وأن مالي عليه قرض، فإنه يقضي له بالمال، وإن قال: مالي من ضمان كما شهد به الآخر، لا يقضى عليه بشيء والضمان في هذا والبيع سواء، وأما في قياس قول أبي حنيفة: المال اللازم في الوجهين جميعاً.
ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن جارية اشتريتها منه وقبضتها، وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن بر اشتريته وقبضته، وقال الطالب: هذا شهد على هاتين الشهادتين لكن مالي عليه قرض فالقاضي يقضي بالمال، ولو ادعى أحد هذين الوجهين فالقاضي لا يقضي بشيء، وكذلك لو شهدا بالمال من ضمان مختلف فهو مثل البيع المختلف.
ولو ادعى المطلوب الدفع والبراءة وشهد له شاهد أن الطالب أقر أنه قبضها منه،(8/492)
وشهد آخر أن الطالب أقر أن وكيلاً له قبضها منه، وقال المطلوب: لم يشهد لي على قبض الوكيل، فقد أكذب شاهد الوكالة، ولو قال: قد أشهد لي بهاتين الشهادتين إلا أني دفعتها إليه في يده، فإنه يقضي له بالبراءة منها، ولو لم يقل دفعتها إليه في يده ولكن قال: دفعتها إلى وكيله لم يقض له بالبراءة منها حتى يأتي بشاهد آخر على دفعها إلى الوكيل من قبل أنه أقر أنه دفعها إلى غيره، ولم يشهد على وكالته إلا واحداً.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أنه، له وشهد آخر أن فلاناً وهبه منه وهو يملكه فهو جائز، وكذلك الصدقة، وإن جاء فلان وأنكر ذلك قال: يجيء بشاهد آخر على الهبة والصدقة، ولو شهد واحد أنه له وشهد آخر أنه اشتراه من فلان وهو يملكه لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، هذه الجملة من «المنتقى» .
ولو شهد أحد الشاهدين على الشراء مع العيب، وشهد الآخر على الإقرار على الشراء مع العيب لا تقبل، وكذا لو شهد أحدهما على قيمة الثوب المغصوب الهالك أنها كذا وشهد الآخر على الإقرار بذلك لا تقبل.
وإذا ادعى على رجل ألف درهم وقال: خمسمئة منها ثمن عبد اشتراه مني وقبضه، وخمسمئة منها من ثمن متاع اشتراه مني وقبضه، وشهد الشهود له بالخمسمئة مطلقاً قبلت الشهادة على الخمسمئة؛ لأنهما اتفقا على هذا المقدار، وذكر السبب ليس بشرط، فهذه المسألة تنصيص على أن المدعي إذا ادعى الدين بسبب وشهد الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل ويقضى بالدين، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، والمسألة مرت من قبل والله أعلم.
الفصل الثاني والعشرون: في التناقض في الدعوى والشهادة
قال محمد في «الجامع» : رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها داره اشتراها من فلان، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً ذلك وهبها وقبضها منه وهو يملكها، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، لأنها خالفت الدعوى صورة ومعنى، أما صورة: فظاهر، وأما معنى: فلان الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، ويثبت في الشراء خيار الرؤية وخيار العيب ولا يثبت في الهبة، وإذا استحق المشترى من يد المشتري يرجع على البائع بالثمن، والموهوب له عند الاستحقاق لا يرجع على الواهب بشيء، فان وفق المدعي فقال: كنت اشتريته منه إلا أنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة، فتشفعت له حتى يهبها مني فوهبها مني بعد ذلك وقبضتها، وأعاد البينة قبلت بينته، وليس معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : وأعاد البينة على ذلك أعاد البينة على أنه كان اشتراها من فلان وجحد فلان البيع، ثم وهبها منه كما ذهب إليه الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله؛ لأنه لو وجد بينة على الشراء لاستغنى عن إقامة البينة على الهبة،(8/493)
وإنما معناه إقامة البينة على الهبة والقبض، وإنما قبلت هذه البينة بعد التوفيق على هذا الوجه؛ لأن التوفيق يزيل المخالفة، ويكون ذلك ابتداء الدعوى الهبة من حيث الحقيقة.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل البينة على الهبة؛ لأنه يدعي هبة فاسدة، فانه ادعى أنه وهبه ملكه، فإنه يملكه بالشراء، والشراء لا ينفسخ بجحود أحد المتبايعين، قلنا: البائع قد جحد البيع وجحود أحد المتبايعين فسخ للعقد، فكأن البائع قال: فسخت البيع، فيقف على قبول المشتري، فلما استوهبه منه المشتري فقد أجابه إلى الفسخ؛ لأنه لا صحة للهبة منه إلا على تقدير فسخ الشراء بمقتضي طلب الهبة من المشتري، فانفسخ الشراء فيما بينهما، وصار المدعى عليه واهباً ملك نفسه، فكانت الهبة صحيحة.
وقال في «الجامع الصغير» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنه وهبها له وسلمها إليه في وقت كذا، فسأله القاضي البينة قال: إنه جحدني الهبة، فاشتريتها منه في وقت كذا، ذكر وقتاً قبل الوقت الذي ادعى فيه الهبة وأقام على ذلك بينة قُبلت بينته؛ لأنه في (151ب4) الوجه الاول التوفيق بين الكلامين لا يمكن إذ لا يمكنه أن يقول وهبها لي في الوقت الذي ادعيت الهبة، ثم جحد لي الهبة فاشتريتها منه قبل ذلك الوقت، وإذا لم يكن التوفيق ظهر التناقض، والناقض مانع صحة الدعوى، فأما في الوجه الثاني فالتوفيق ممكن، فلا يظهر التناقض فتصح الدعوى.
فإن قيل: ينبغي أن لا تصح دعواه في الوجه الثاني، لأنه ادعى شراء باطلاً؛ لأنه ادعى شراء ما ملكه بالهبة، قلنا: الواهب لما جحد الهبة فقد فسخها؛ لأن جحود ما عدا النكاح من العقود فسخ له، فانفسخت الهبة في حقه وتوقف في حق الموهوب له على إجازته، فإذا طلب الشراء منه فقد أجاز ذلك الفسخ فانفسخت الهبة في حقهما وصار المشتري مشترياً ما ليس بملك له فصح.
فإن لم يذكر للشراء تاريخاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي كتاب «الأقضية» ذكر عين هذه المسألة في الصدقة وأجابه في هذا الفصل أنه تقبل بينته؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأن الشراء حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد تاريخ الصدقة، فكأنه ادعى الشراء بعد تاريخ الصدقة وعند إمكان التوفيق لا يظهر التناقض، هذا أصل كبير لأصحابنا رحمهم الله.
وفي «الأصل» : وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أنها داره ورثها من أبيه منذ سنة، وأقام البينة أنه اشتراها من الذي في يديه منذ سنتين والمدعي يدعي ذلك، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا يقضى بالدار للمدعي، لأنه ادعى الملك في جميع هذه الدار منذ سنة بالشراء، وادعى الملك في جميعها منذ سنة بالميراث أيضاً، والإنسان لا يتصور أن يكون مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالشراء والإرث، وإنما يكون مالكاً له بأحد السببين، ولا يُدْرى ذلك فبطلا جميعاً، فتبقى الشهادة بدون الدعوى.
فإن وَفَّق المدعي فقال: كنت اشتريتها منذ سنتين من ذي اليد، كما شهد الشهود ثم بعتها من أبي، ثم ورثتها من أبي منذ سنة، متى وفق على هذا الوجه وشهد الشهود(8/494)
بذلك، يعني بالبيع من الأب ثم بالإرث منه قبلت شهادته وقضي بالدار له، لأن بالتوفيق على هذا الوجه تزول المناقضة؛ لأن المناقضة في هذه الصورة من حيث إنه ادعى الملك في جميع الدار بالشراء وبالإرث في وقت واحد وهو منذ سنة.
فإذا قال: بعتها من أبي بعد الشراء منه ثم ورثتها من أبي منذ سنة، فإنما ادعى الملك بالشراء والإرث في وقتين، والملك بالشراء والميراث في وقتين متصور فزالت المناقضة، وإنما احتيج إلى إقامة البينة بعد التوفيق، لأن التوفيق إنما يثبت بالبيع من أبيه، وإنها دعوى على الأب وليس بإقرارٍ على نفسه، والدعوى على الغير لا تثبت إلا ببينة، وكذلك إذا ادعى هبة أو صدقة مكان الشراء كان الجواب فيه، كالجواب فيما إذا ادعى الشراء لأنه كما لا يتصور أن يكون الإنسان مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالهبة والميراث أو بالصدقة والميراث.
ولو ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها منه بعبده هذا منذ شهر، وجحد المدعى عليه البيع، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها منذ قام من عند القاضي بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك لم تقبل بينته، إلا أن يوفق، فيقول: اشتريتها بعبدي هذا فجحدني الشراء فاشتريتها منه ألف درهم، لأنه بالتوفيق تزول المناقضة وبدون التوفيق المناقضة ثابتة.
فإن قيل: المناقضة منهما منتفية بدون التوفيق؛ لأن الثابت أحد الشراءين وهو الشراء الأول؛ لأن الشراء الأول لا يخلو، إما إن كان ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، إن لم يكن ثابتاً ثبت الثاني، وإن كان ثابتاً ينفسخ مقتضى ثبوت الثاني سابقاً عليه، بخلاف دعوى الميراث من أبيه، ودعوى الشراء من ذي اليد فإن أحد الأمرين هو الثابت لا يدري، فأما هنا فأحد الشراءين ثابت بيقين، والجواب أن الشراء الثاني غير ثابت بيقين، لجواز أن يكون الشراء الثاني بعد الأول بتراضيهما، فينفسخ الأول ويثبت الثاني، فيجوز أن يكون بغير رضا المشتري بأن جحده الشراء الأول، فاشترى ثانياً بألف، وعلى هذا التقدير لا ينفسخ الأول لكونه مضطراً في الثاني، فعلى هذا الاعتبار يكون الثابت الأول أو الثاني، لا الثاني بيقين، فكان الجواب فيه كالجواب في دعوى الشراء والميراث.
وإن كان الشهود شهدوا أنه اشترى منه منذ سنة بألف درهم لا تقبل منه، إلا أن يأتي بالتوفيق بأن يقول: اشتريتها منذ سنة بألف درهم كما شهد به الشهود، ثم بعتها منه ثم اشتريتها منه منذ شهر بهذا العبد.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أن صاحب اليد تصدق عليه (به) منذ سنة وأقام شهوداً شهدوا أنه اشترى من صاحب اليد منذ سنتين، والمدعي يدعي ذلك، لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق فيقول: اشتريته منه منذ سنتين، ثم بعته منه ثم تصدق به علي منذ سنة.
وكذلك إذا ادعى أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد منذ سنة، وشهد الشهود أنه تصدق به عليه منذ سنين لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق على نحو ما قلنا.
ولو ادعى أن صاحب اليد تصدق به عليه منذ سنة وشهد الشهود أنه اشتراه منه منذ(8/495)
شهر لا تقبل هذه الشهادة، إلا أن يوفق فيقول: تصدق به علي منذ سنة كما ادعيت، ثم جحدني الشراء فاشتريته منه منذ شهر، هكذا ذكرها في «الأصل» أيضاً.
وكذلك إذا ادعى الشراء منه منذ سنة وشهد الشهود أنه تصدق به علي منذ شهر لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق وإنه يخالف مسألة «الجامع» أيضاً.
ولو ادعى أنه ورثه من أبيه وأقام البينة، وادعى أن معه وارثاً آخر لا تقبل بينته ولا يصير متناقضاً، وان ادعى الكل لنفسه أولاً ثم ادعى بعد ذلك أنه لغيره وأنه وكيله بالخصومة تصح دعواه ولا يصير متناقضاً وهي المسألة التي تلي هذه المسألة، فههنا أولى وقد ادعى النقض لغيره وادعى أنه وكيله وادعى النقض لنفسه.
ولو ادعى عيناً في يد إنسان أنه له وأقام بينة أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أولاً أنه لفلان وكله بالخصومة فيه وأقام البينة بعد ذلك إنه لا تقبل بينته، ويكون متناقضاً إلا أن يوفق.
والفرق أن قوله لي في المسألة الأولى وإن كان حقيقة لملك الرقبة، إلا أنه يحتمل الإضافة إلى نفسه لحق الخصومة، فالوكيل بالخصومة يضيف العين إلى نفسه بحق الخصومة، فأمكن أن يجعل قوله في الكرة الثانية أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه بياناً لكلامة الأول، فلا يتحقق التناقض، أما في المسألة الثانية: لا يمكن أن يجعل الكلام الثاني وهو قوله لي بياناً للكلام الأول، وهو قوله: أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه؛ لأن الكلام الأول مفسر بنفسه، ولا يمكن أن يجعل الكلام الأول بياناً وتفسيراً للكلام الثاني، لأن التفسير لا يكون قبل المفسر، فكان كل كلام كلاماً على حده، وحقيقة الإضافة لملك الرقبة والكلام لحقيقته، حتى يقوم الدليل على مجازه، فكأنه نص في الكلام الثاني على أنه لي بملك الرقبة، ولو نص على هذا يصير متناقضاً كذا ههنا، إلا أن يوفق فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة يعني على الشراء من فلان فحينئذ تقبل بينته. ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لا تقبل بينته إلا أن يوفق.
قال: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه ثم جاء ببينة، روى أبو سليمان وابن سماعة أن من ساوم رجلاً بولد أمة أو بثمرة نخلة أو نخل في الأرض ثم أقام البينة أن النخلة والأمة والأرض له، قبلت بينته وقضي له بالأمة والنخلة والأرض دون الولد والثمر والنخل، لأن أقًى ما فيه (152أ4) أن المساومة إقرار بالملك لصاحبه أو إقرار أنه لا ملك للمساوم فيه على حسب ما اختلفت الروايات فيه إلا أن هذا الإقرار لا يكون فرقاً صريح الإقرار.
ولو أقر هو صريحاً بالولد لصاحب الولد أو أقر صريحاً أن الولد ليس له، ثم ادعى الأمة لنفسه، تسمع دعواه كذا ههنا. وهذا لأن الإقرار بالملك المطلق يحمل على الملك الحادث حتى أنه لو أقر بأمة لرجل ولها ولد كانت الأمة للمقر له دون ولدها، بخلاف البينة القائمة على الملك المطلق، حيث يحمل على الملك من الأصل.(8/496)
وإذا ثبت أن الإقرار بالملك المطلق يحمل على حدوث الملك صار المساوم مقراً لمن ساوم إليه بحدوث الملك في الولد والثمر، وليس من ضرورته ثبوت الملك للمقر له في الأم، فلم توجد المخالفة بين الدعوى والإقرار.
وكذلك إذا ادعى الولد والثمرة مع الأم والنخلة؛ لأن دعواه في الثمرة والولد لم يصلح لمكان إقراره السابق، فتبقى دعوى الأمة والنخلة وحدها.
وكذلك لو كانت الأمة حاملاً فولدت في يده، فساوم بالولد بعد إقامة البينة قبل القضاء بالأمة؛ لأنه يحتمل أن يكون ملكاً للمقر له بتملك من جهته بعد الولادة، فلم تكن من ضرورة صحة هذا الإقرار بطلان دعواه في الأمة، فبقيت تلك الدعوى صحيحة.
وكذلك إذا قال الشاهدان: الولد للمدعى عليه، أو قالا: لا ندري لمن الولد؛ لأنهما بينا أنهما خصا بشهادتهما الأمة دون ولدها والولد منفصل عنها فيصح دخول الأم في الشهادة دونه، فيقضى له بالأم خاصة، وكذلك إذا لم يقم بينة للمدعي ولكن المدعى عليه أقر بأن الأم للمدعي يقضى له بالأم دون ولدها، لأن الثابت بالإقرار ملك حادث، لأنه حجة قاصرة لا الملك من الأصل، فلا يستند حكمه إلى حالة الولادة، فاقتصر حكم الإقرار على الأم خاصة.f
ولو أن رجلاً في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام البينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، أما إذا ذكروا البناء فلاشك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء، فلأن البناء مركب في الأرض تركيب قرار، فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار، لأن في الغالب يستعمل اسم الدار في المبنى، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر للمدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل ملكاً له أو قال: كان البناء له يوم شهد الشهود أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلت الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً، وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده، هكذا ذكر المسألة في «الأقضية» .
وذكر في آخر الشهادات في «الأصل» : أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، كان ذلك إكذاباً لشهوده، فبطلت الشهادة والقضاء. وإذا لم يذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده.
وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل» : أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة، فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً، بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في البيع إلا إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية وحجة أصالته في الملك إلا أن يكون إكذاباً بتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة، فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به،(8/497)
فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود ضرورة، فيوجب بطلان الشهادة.
ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية» : أنه يطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع شهد لذلك، حتى إن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمقتضى اللفظ حقيقة، فاستوى ذكر البناء وعدمه.
ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضي له: ليس البناء لي، وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: كان البناء للمدعى عليه يوم الشهادة، أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه، فلم يجعل الأول تكذيباً للشهود، وجعل الثاني والثالث تكذيباً، وعلى رواية كتاب الشهادات لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة.
ووجه ما ذكر في الشهادات: أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود بالبناء للمدعي، والإكذاب من حكم المناقضة.
وجه ما ذكر في «الأقضية» : أن قوله: البناء ليس لي، وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه، لأنه كان له يوم شهد الشهود، فيكون إكذاباً للشهود، فلا يكون إكذباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء له يوم شهد الشهود لم يزل ملكاً له، هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له وأنه للمقضي عليه.
ولو أن المقضي له بعد القضاء له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية» : لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا، وعلى رواية شهادات «الأصل» : إن لم يذكروا البناء في شهادتهم تسمع دعوى المقضي عليه، وإن ذكروا لم تسمع دعواه.
وفي «المنتقى» وفي «الإملاء» : عن محمد رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الذي في يديه الدار حق المدعي، فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره، ولم يزيدوا على ذلك، فلما زكوا قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك، قال: إن كان شهود المدعي حضور فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه، وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي، فليس ذلك بإكذاب منهم لشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام بينته على البناء، ويؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، فإن لم يحضر المدعى عليه بينة على البناء، قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، فإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود، وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل» .
ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا فلم يقدر عليهم،(8/498)
فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببناءها للمدعي، قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يبينوا أنهم لا يدرون لمن البناء، فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة، قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي ثم حضر شهوده، وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي إنما كان للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي ولا ندري لمن البناء، لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً فكان البناء للمدعي، وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء، ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به.
ولو شهد شهود المدعي أن الدار له ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهدت شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه لم أقبل ذلك منه.
ولو أن شهود المدعي للدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا: لا ندري لمن البناء، قضى بالأرض له وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة، قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك.
الأرض يكون فيها النخيل والأشجار، فشهد شهود المدعي أن هذه (152ب4) الأرض له فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي لمدعي الأرض ويتبعها النخل والشجر.
وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلقة، فالقاضي يقضي بالسيف والحلقة وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلقة مشهوداً به، حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلقة له قبلت شهادته كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، أخذه المدعي.
وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهد الشهود بالجارية للمدعي، ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد، وإن قال الذي في يديه الجارية: أنا أقيم بينة على أن الولد لي لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، فإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعى (عليه) ، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه أو قالوا لا ندري لمن هو، فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء ويقضي بالجارية للمدعي.
قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري(8/499)
لمن البناء أنه يقضي بالبناء لمدعي الدار.
قوم ورثوا داراً من أبيهم واقتسموها برضاهم فادعى بعضهم أن أباه كان تصدق بطائفة منها معلومة عليه، أو ادعى ذلك لابن له صغير وقال: مات ابني فورثتها منه، وأقام على ذلك بينة، فدعواه باطلة وبينته مردودة.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن إقدام العاقل على عقد إقرار منه بصحة ذلك العقد؛ لأنه إنما أقدم عليه للالتزام بموجبه، وإنما يلزمه موجب العقد إذا صح العقد، فإذا ادعى فساده وبطلانه بعد ذلك، يصير متناقضاً، والمتناقض لا قول له.
إذا ثبت هذا فنقول: دعوى طائفة منها معلومة من بعض الورثة دعوى بطلان القسمة؛ لأنه ليس لهم قسمة مال الغير وقد أقر بصحتها حال ما أقدم عليها فتتحقق المناقضة، ولو كان ادعى ديناً على أبيه صح دعواه وقبلت بينته على ذلك؛ لأنه ليس بمتناقض؛ لأن القسمة مع الدين صحيحة حتى لو قضى الوارث دين الغريم من مال آخر أو أبرأ الغريم الميت عن الدين لا يحتاج إلى إعادتها ولكن يكون للغريم حق نقض القسمة إذا لم يصل إليه حقه من مال آخر.
قال في كتاب الإقرار: رجل أقر أن لفلان عليّ ألف درهم ثم قال بعد ذلك: قضيتها قبل أن أقر بها وأقام البينة على ذلك لم أقبل بينته، ولو ادعى أنه قضاه قبل الإقرار موصولاً بإقراره.
القياس: أن لا تقبل بينته؛ لأنه متناقض في الدعوى، لأن إقراره يوجب كون الألف عليه وقت الإقرار، ولولا ذلك لما صح الإقرار، فإذا ادعى القضاء قبل ذلك فإنه يوجب سقوط الدين عنه بالقضاء قبل إقراره كان متناقضاً في الدعوى، فلا يسمع ذلك منه كما لو ادعاه مفصولاً.
وفي الاستحسان: تقبل بينته لأن هذا اللفظ قد يذكر ويراد به كان له عليه ألف درهم، فإن الشيء يسمى باسم ما قد كان كما يسمى القاضي المعزول قاضياً ونظائره كثيرة، فمتى وصل هذا الكلام بإقراره، دلنا أنه أراد به هذا النوع من المجاز وإن كان هذا تغييراً لصدر الكلام ولكنه يصح إذا كان موصولاً، فأما إذا كان مفصولاً عن إقراره لا يصح هذا البيان المغير منه، فبقي التناقض باعتبار ظاهر كلامه، ولم يصح التناقض.
ولو قال: كانت له علي ألف درهم، ثم قال: قضيتها إياه قبل الإقرار موصولاً أو مفصولاً وأقام البينة عليه قبلت بينته، لأنه إخبار عن وجوب الألف عليه في زمان سابق فلا يبقى القضاء قبل الإقرار بخلاف المسألة الأولى فإنه إخبار عن وجوب الألف عليه للحال فإذا ادعى قبله كان متناقضاً فلم تسمع دعواه وبينته.
قال: رجل في يديه عبد قال لآخر: هو عبدك يا فلان، فقال فلان الآخر: بل هو عبدك، ثم قال المقر الأول: هو لي وأقام البينة لم تقبل بينته، لأن بين إقراره بملك العبد لآخر ودعواه ملكية العبد لنفسه تناقض، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإنما أورد هذه المسألة لإشكال وهو: أن المقر له الأول لما قال لغيره: بل هو عبدك، فقد أكذب المقر(8/500)
الأول في إقراره له، فبطل إقراره لمكان التكذيب، فيجب أن لا يعتبر لإثبات التناقض، لكنا نقول: إن قول المقر له الآخر بل عبدك ليس بتكذيب للمقر الأول في إقراره، بدليل أنه يأخذ المقر له الثاني، ولو بطل الإقرار الأول لمكان أنه كذبه فيه لم يكن له أن يأخذ من يده، ولكن قيل: إن قوله لغيره: بل هو عبدك محتمل يحتمل أنه عبدك لم يزل لك ولم يكن لي، فيكون مكذباً له في إقراره، ويحتمل أنه عبدك لأني ملكته منك للحال، فلا يكون تكذيباً للمقر الأول فلا يثبت التكذيب بالاحتمال.
رجل ادعى أن هذه الدار له إلا بيت منها، وأقام البينة على الجميع أو كان ادعى على رجل ألف درهم وأقام عليه البينة بألفين، فقال المدعي للدار: كان البيت لي فبعته، وكان لي عليه ألفان فأبرأته عن الألف قبلت بينته، لأنه زال الخلاف والتناقض بما ذكر، فلعل الأمر كما ذكر ولم يعلم به الشهود، فشهدوا على جميع الدار والألفين، وإذا زال التناقض وجب قبول الشهادة.
وإن قال: لم يكن البيت لي قط ولا كان لي عليه قط إلا ألف أبطلت بينته، لأنه صرح بإكذاب الشهود في البيت والألف فبطلت الشهادة، وإن أبى أن يبين شيئاً من ذلك فالقياس: أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل.
وجه القياس في ذلك: أن امتناع قبول الشهادة لمكان المخالفة بين الدعوى والشهادة، فإذا كان التوفيق محتملاً لا يمكن القول بثبوت المخالفة، لأنها لو ثبتت تثبت مع الشك، ولأن التوفيق إذا (كان) محتملاً يجب الحمل عليه حملاً لأمر المدعي على الصلاح كما في مسألة الأكرار.
وجه الاستحسان: أن المخالفة بين الدعوى والشهادة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن مراداً لا يزول، فلا يزول الخلاف مع الاحتمال.
قوله: يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصلاح، قلنا: الحمل على الصلاح نوع ظاهر، والظاهر يصلح لإبقاء ما كان على ما كان ولا يصلح لإثبات أمر لم يكن، وحاجتنا منها إلى إثبات أمر لم يكن وهو البيع والقضاء بخلاف مسألة الأكرار؛ لأن مطلق المقابلة يحتمل بيع الجنس بخلاف الجنس، فإذا عيناه حملاً لأمرهما على الصلاح يتبين أنه هو الثابت بمطلق المقابلة، فكان هذا إبقاء ما هو ثابت بمطلق المقابلة لا إثبات أمر لم يكن أما ههنا فبخلافه، ثم استشهد في «الكتاب» وقال: ألا ترى أن المدعي لو قال بعد القضاء بالدار: لم يكن البيت لي قط يبطل القضاء، فإذا كان يبطل القضاء بهذا النوع من المخالفة لأن لا يجوز القضاء معها كان أولى.
دار في يدي رجل يزعم أنه اشتراها من رجل، فجاء رجل وادعى عند غير القاضي أنها داره تصدق بها على الذي باعها من ذي اليد، ثم رفع المدعي الذي في يديه الدار إلى القاضي بعد شهر أو سنة وادعى أنها داره اشتراها من الذي زعم ذو اليد أنه اشتراها منه، فهذه المسألة على وجهين:(8/501)
الأول: أن يذكر للصدقة والشراء تاريخاً، وإنه على وجهين: إن ذكر تاريخ الشراء قبل تاريخ الصدقة لا تقبل شهادة شهوده، لأن ادعاءه الصدقة إقرار منه بكون الدار ملك المتصدق وقت الصدقة، وإنه ينافي كون الدار ملكاً له بالشراء عندها فيصير مكذباً شهوده فلا تقبل شهادتهم، وإن ذكر تاريخ الشراء بعد تاريخ الصدقة قبلت شهادتهم، هكذا ذكر في «الأقضية» ، وهذا إشارة إلى أن احتمال (153أ4) التوفيق يكفي. ووجه احتمال التوفيق أن يقول: جحدني بعدما تصدق بها علي فاشتريتها منه، وسيأتي الكلام بعد هذا في أن احتمال التوفيق هل يكفي؟.
الوجه الثاني: إذا لم يذكر التاريخ، وفي هذا الوجه تقبل شهادة شهوده، لأن الشراء حادث والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات، وذلك بعد تاريخ الشراء لا محالة لأنه ادعى الشراء بعد شهر أو سنة. فإن قيل: كيف تصح دعوى الشراء من فلان حال كون الدار في يد غيره وانه يدعي الملك لنفسه؟ قلنا: ذو اليد لما زعم أنه اشتراها من فلان فقد أقر بالملك لفلان، لأن كل مشتر يقر بالملك لبائعه، وبيع المغصوب منه المغصوب من غير الغصب والغاصب مقر بالملك للمغصوب منه صحيح، فقد ادعى شراء صحيحاً من هذا الوجه.
قال محمد رحمه الله: ولا أبالي، قال في الصدقة: قبضت أو لم أقبض؛ لأن ادعاءه الصدقة إنما أبطل دعوى الشراء قبل تاريخ الصدقة باعتبار إقراره بملك البائع بعد تاريخ الشراء حتى تثبت المناقضة، والإقرار بملك البائع بعد تاريخ الشراء يثبت بمجرد ادعائه الصدقة.
قال محمد رحمه الله: ولو كان ادعى الصدقة بعد تاريخ الشراء لا يرجع بالثمن على البائع، وعلل فقال: إنه هو الذي أبطل شهادة شهوده بادعائه الصدقة وأراد به أن امتناع قبول البينة على الشراء دعواه الصدقة، وإنه ليس بحجة في حق البائع فلا يمكنه الرجوع على البائع بهذه الحجة؛ لأن الرجوع على البائع باعتبار أنه لم يسلم له المشترى من جهته، وإنما لم يسلم له المشترى بما ليس بحجة في حق البائع، فلا يرجع بالثمن عليه.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو ادعى عبداً في يدي رجل أنه له اشتراه من فلان منذ سنة، ونقده الثمن وصدقه البائع بذلك، وذو اليد زعم أنه اشتراه من فلان بعينه منذ شهر، فلما أراد الحاكم أن يقضي به للمدعي قال المدعي: إني لم اشتره في ذلك اليوم، أو قال: ذو اليد أقدم شراءً مني، ثم أراد أن يرجع بالثمن على البائع، فقال البائع: كذبت أنت أقدم شراءً منه، وإنما لم يسلم لك العبد بإكذابك بينتك، فإنه لا سبيل له على الرجوع بالثمن، لأن المبيع إنما لم يسلم للمشتري بمعنى من جهته، وهو إكذابه بينته فلا يظهر ذلك في حق البائع.
قال في «أدب القاضي» : وإذا أقام الرجل بينة على رجل أنه باع هذه الدار منه، والبائع يقول: لم أبع وأقام البائع بينة أنه قد رد عليه الدار بالعيب قبلت بينته، وينقض(8/502)
البيع وإن صار (كلام) البائع متناقضاً؛ لأن التناقض بين الكلامين إنما يثبت إذا لم يمكن التوفيق بين الكلامين وهنا يمكن التوفيق بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً بنفسي، إنما باع وكيلي ثم فسخت البيع إنهاء المشتري بعد ذلك معي فإذا أمكن التوفيق بينهما حمل عليه، وهذه المسألة إشارة إلى أنه يكتفى مجرد إمكان التوفيق، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» .
وذكر في «الجامع الكبير» وفي بعض نسخ دعوى الأصل أنه لا يكتفى مجرد إمكان التوفيق ولابد أن يوفق المدعي، قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأقضية» قياس، وما ذكر في «الجامع الكبير» وفي ا «لأصل» استحسان وأصله ما ذكرنا في دعوى الألف، وشهادة الشهود على الألفين القياس: أن يقبل لاحتمال التوفيق، وهذا لأن حمل أمر المسلمين على الصحة واجب ما أمكن، فإذا كان التوفيق ممكناً أمكن حمل دعوى المدعي على الصحة فيجب على القاضي ذلك، وإن لم يوجد من المدعي تنصيصاً عليه كما في مسألة الأكرار وفي الاستحسان لا تقبل، لأن المخالفة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن التوفيق مراداً لا يزول الخلاف فلا يزول الخلاف بالاحتمال، فأما إذا وفق فقد بين أن التوفيق مراد وصح منه هذا البيان، لأن احتمال التوفيق ثابت، وقوله يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصحة، فالجواب ما مر قبل هذا أن الحمل على الصحة بنوع ظاهر، وإنه لا يصلح لإثبات أمر لم يكن.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا ادعى رجل أنها داره ورثها من أبيه، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها من أبيه في حال حياته لا تقبل هذه الشهادة، وبمثله لو ادعى أولاً أنه اشتراها من أبيه في حياته، وجاء بشهود شهدوا أنه ورثها من أبيه قبلت هذه الشهادة، والفرق: أن في المسألة الثانية التوفيق ممكن بأن يقول: اشتريت من أبي كما ادعيت أول مرة ثم جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة وبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً وصارت بموته ميراثاً لي ظاهراً مع ما تقدم من صورة الشراء، فلا تبطل بينة الإرث بالاحتمال أما في المسألة الأولى التوفيق غير ممكن، فإنه لا يمكنه أن يقول: ورثتها عن أبي، فجحدني الأب فاشتريت منه في حياته.
وإذا ادعى عيناً في يد إنسان أنها له وأقام على ذلك بينة ثم إن المدعي قال: هذه العين لم تكن لي قط، بطلت بينته ولم تقبل ويبطل القضاء إن كان قد قضى له به، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء وذلك حقه، وكذلك إذا لم يقل قط؛ لأن الإكذاب حصل بقوله: لم يكن لي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل أقر عند القاضي أن هذا العبد كان لفلان، ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، ولم يوقت الشهود وقتاً وفلان يجحد البيع فالشهادة جائزة، لأنه أقر بملك البائع في زمان ثم ادعى تلقي الملك من جهته، وملك البائع في الزمان الماضي مؤكد لملك المشتري، فالإقرار به لا يمنع قبول الشهادة(8/503)
على الشراء أقصى ما في الباب، احتمل أن الشراء كان قبل ذلك الوقت ولكن بالاحتمال لا تثبت المناقضة كيف وأن الشراء حادث والحوادث يحال حدوثها على أقرب الأوقات بقضية الأصل وذلك ما بعد الإقرار، فلا يثبت به التناقض فلا يمنع قبول الشهادة.
فأما إذا قال: هذا العبد لفلان، ثم أقام البينة بعد ذلك أنه اشتراه منه قبل الإقرار لم تقبل بينته، لأن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء قبله فلم تقبل بينته لمكان التناقض، هذا إذا قال ذلك مفصولالاً فأما إذا قال موصولاً عند القاضي: هذا العبد لفلان اشتريته منه أمس، فالقياس أن لا تقبل بينته، وفي «الاستحسان» تقبل.k
وجه القياس: أن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء منه أمس فلا تقبل بينته للتناقض.
وجه الاستحسان: أن العين قد تضاف إلى الإنسان باعتبار أنه كان مالكاً له، يقال دار فلان وعبد فلان وإن كان باعه، ألا ترى أنه يجوز إطلاق الاسم على الذات باعتبار ما كان، حتى يسمى القاضي بعد العزل قاضياً وعلى هذا الوجه لا يثبت التناقض أقصى ما في الباب أن هذه الإضافة بطريق المجاز، والحمل على المجاز يعتبر بمطلق الكلام، ولكن البيان المعبر يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء وقد مر جنس هذه المسألة قبل هذا.
فإن قال: هذا العبد لفلان ثم مكث شهراً، ثم ادعى أنه اشتراه من فلان أو أقام البينة وقالت الشهود: لا ندري أكان الشراء قبل الإقرار أو بعده، وقال المشتري: كان بعد الإقرار فإنه تقبل هذه الشهادة، ويقضى بالشراء لأنها لو لم تقبل إنما لم تقبل لمكان المناقضة وفيها احتمال لأنه يحتمل أن الشراء كان قبل الإقرار، فكان متناقضاً واحتمل أنه بعد الإقرار فلا يكون متناقضاً فلا تثبت المناقضة بالاحتمال، ولأن الشراء حادث والحوادث يحال بحدوثها إلى أقرب الأوقات وذلك ما بعد الإقرار.
وكذلك إذا قال عند القاضي: هذا العبد كان لفلان عام أول، ثم ادعى بعد ذلك أنه اشتراه منه وأقام البينة ولم يوقت الشهود وقتاً تقبل بينته؛ لأن إقراره بالملك في زمان سابق مؤكد لشراء المشتري بعده؛ لأن ملكه ينبني على ملك البائع، ودعواه الشراء للحال يؤكد الإقرار بالملك قبل الشراء؛ لأنه يستدعي قيام الملك للبائع عند الملك ليصح البيع فلم يكن متناقضاً.
وكذلك إذا قال: استوهبته (153ب4) منه عام أول فأبى أن يهبه لي، أو قال: ساومته عام أول، ثم ادعى الشراء منه لأن الاستيام والاستيهاب إقرار بالملك فكان هذا والأول سواء.
قال: ولا تبطل الشهادة إلا أن يوقتوا، وذكر في بعض الروايات إلا أن لا يوقتوا فإن كانت الرواية إلا أن يوقتوا، أراد به إلا أن يوقتوا وقتاً للشراء قبل الإقرار فإنه لا تسمع هذه الدعوى لأنه يكون متناقضاً بيقين، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإن كانت(8/504)
الرواية إلا أن لا يوقتوا فكلمة إلا ساقطة، ومعناه: فلا تبطل الشهادة إن لا يوقتوا، فيكون بياناً أن ترك التوقيت لا يمنع سماع البينة، لأنه ليس فيه إلا السكوت، والسكوت وإن كان يحتمل التناقض، ولكن قد ذكرنا أن احتمال التناقض لا يمنع قبول البينة لاحتمال الشك فيه.
ولو أقر عند القاضي أن هذا العبد لفلان لا حق له فيه أو قال: كان العبد لفلان عام أول وأنه لم يكن له فيه حق يومئذ ولا دعوى، أو قال: كنت أقررت عام أول أن هذا العبد لفلان لا حق لي فيه، أو قال: لا حق لي فيه، ولم يقل: إنه لفلان ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، فإن القاضي يسأل الشهود متى كان الشراء؟ فإن وقتوا للشراء وقتاً بعد الإقرار قبلت شهادتهم، وإن وقتوا وقتاً قبل الإقرار أو قالوا: لا ندري متى كان الشراء لا تقبل شهادتهم، فرق بين هذا وبينما إذا قال: هذا العبد لفلان ولم يقل: لا حق لي فيه ثم أقام البينة بعد شهر على الشراء أنه تقبل البينة وإن لم يوقت الشهود للشراء وقتاً.
والفرق: أن قوله هذا العبد لفلان، إخبار عن ملك المقر له في الحال، وقوله: لا حق لي فيه، نفي الملك لنفسه أصلاً فكان محكماً في إسقاط حقه في الدعوى، فلا تسمع دعواه وبينته، إلا إذا وقت وقتاً بعد الإقرار حتى لا يؤدي إلى ارتفاع المضادة والتنافي بالاحتمال، وفي تلك المسألة ما نص على إسقاط حقه، والتناقض عارض، فلا يثبت بالاحتمال.
ولو أن رجلاً كتب لرجل: إني كنت ادعيت عليك ديوناً وبيوعاً وأشياء أخر ادعيتها عليك، وأقررت أنه لا حق لي قبلك ولا دعوى من شراء ولا غير ذلك، ثم أقام البينة على عبد المكتوب إليه أنه عبده اشتراه منه، أو أن له عليه ألف درهم قرض، أو أنه غصبه عبداً فإنه لا تقبل هذه البينة إلا إذا وقتوا وقتاً بعد البراءة لأنه لما نص على البراءة عام أول، فقد أسقط جميع حقه قبله في العين والدين جميعاً فيكون متناقضاً في دعواه قبله فلا تسمع دعواه ولا تقبل البينة منه حتى يزول التناقض بيقين، وذلك بأن يوقت بعد البراءة، فأما مع الاحتمال فلا يزول التناقض فلا يبطل حكم البراءة بالشك.
وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: من كتب لرجل براءة ثم أقام بينة على دين لم تقبل بينته، حتى يعلم أنه بعد البراءة لأن البراءة ثبتت بيقين، فلا يبطل حكمها إلا بيقين، وهو أن يكون سبب الوجوب بعد البراءة.
قال في كتاب «الأقضية» : رجل قال: جميع ما في يدي من قليل أو كثير من عبد أو غيره لفلان، ثم مكث أياماً ثم اختلفا في عبد في يده فقال المقر: لم يكن في يدي يوم أقررت، وقال المقر له: لا بل كان في يدك، فالقول قول المقر، وفرق بينه وبين البراءة فإن فصل البراءة إذا تنازعا في عبد بعينه يجعل داخلاً في البراءة حتى يثبت بالبينة أنه استفاده بعد البراءة، وهنا لم يجعله داخلاً تحت الإقرار.
والفرق: ما أشار إليه في «الكتاب» : أنه من كان في يده شيء فهو له حتى يعلم أنه(8/505)
لغيره، وبيان هذا: أن في مسألة الإقرار المتنازع فيه في يد المقر حاجتنا إلى قطع يده فإن كان في يده يوم الإقرار يجوز قطع يده وإن لم يكن لا يجوز قطع يده واحتمل أنه لم يكن في يده يوم الإقرار فلا يجوز قطع يده بالشك، وفي مسألة البراءة: المال في يد المدعى عليه واحتمل حدوث الدين فيجوز قطع يده، واحتمل البقاء فلا يجوز قطع يده بالشك، فإذاً في الفصلين لم تبطل يد صاحب المال بالشك.
وذكر في بعض روايات «المبسوط» : لو أن رجلاً قال: ما في حانوتي لفلان، ثم مكث أياماً فادعى شيئاً مما في الحانوت أنه وضعه بعد الإقرار إنه يصدق، وهذه الرواية موافقة لرواية «الأقضية» . وفي بعض روايات كتاب «الإقرار» قال: لا يصدق وهذه الرواية مخالفة لرواية «الأقضية» ، وتأويل هذه الرواية: أنه ادعى بعد الإقرار في مدة لا يمكنه إدخال ذلك الشيء في الحانوت في تلك المدة بيقين، وفي هذا التأويل يثبت كون ذلك في الحانوت وقت الإقرار بيقين، وفي مسألة «الأقضية» : لو تيقنا بكون المدعى في يد المقر وقت القرار، كان الجواب فيه كما ذكر في بعض روايات «الإقرار» أنه لا يصدق المقر والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : دار في يدي رجل أقام رجل بينة أنها داره وقضى القاضي له بالدار، ثم أن المقضي له أقر أنها دار فلان لا حق لي فيها وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضاءه فرد الدار عليّ أو قيمتها، فالقضاء ماض ولا سبيل للمقضي عليه، لا على الدار ولا على المقر ولا على المقر له، لأن قضاء القاضي قد نفذ من حيث الظاهر، وقوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها محتمل يحتمل لا حق لي فيها من الأصل وكنت مبطلاً في الدعوى، وعلى هذا التقدير يصير مقراً بخطأ القاضي ويجب نقض القضاء، ويحتمل لا حق لي فيها لأني ملكتها من المقر له بعد القضاء، وعلى هذا التقدير لا يصير مقراً بخطأ القاضي، ولا يجب نقض القضاء، فلا يجب النقض بالشك.
فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان لا يتأتى فيما إذا أقر المقضي له بذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي، لا يتأتى فيما إذا أقر قبل الغيبة عن مجلس القاضي، والجواب فيهما واحد.
قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً، إذ يجوز أن المقضي له قد كان باع الدار من المقر له قبل القضاء له على أنه بالخيار ثلاثة أيام حتى لم تزل الدار عن ملكه لما أن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها منه، فأقام صاحب الدار بينة قبل مضي الخيار أن الدار له، ثم لما قضى القاضي له بالدار يقضي مدة الخيار عقيبه، وعلى هذا التقدير كان المقضي له محقاً في دعواه أن الدار له، وكان الشهود صادقين في شهادتهم أنها للمشهود له، فكان المقر صادقاً في إقراره أنها صارت لفلان المقر له من جهته بعد القضاء؛ لأنها صارت للمقر له من جهة المقر بعد(8/506)
سقوط الخيار، وذلك بعد القضاء وإذا كان هذا الوجه محتملاً وبهذا الاحتمال لا ينقض القضاء، وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك.
ولو أن المقضي له قال: هذه الدار لفلان ما كانت لي قط، بدأ بالإقرار وهي بالنفي، أو قال: ما كانت لي قط إنما هي لفلان بدأ بالنفي، وهي بالإقرار وإنه على وجهين: إن صدقه المقر له في جميع ذلك، يرد الدار على المقضي عليه، ولا شيء للمقر له على المقر أما لا شيء للمقر له على المقر؛ لأن المقر ادعى ما يبطل إقراره لأنه يدعي أنها ما كانت له قط، وإقرار الإنسان لغيره بملك الغير لا يصح، والمقر له صدقه في ذلك فبطل إقراره، وأما يرد الدار على المقضي عليه لأن المقضي له أكذب شهوده من كل وجه، حيث أقر أن الدار لم تكن له قط، لأن قوله: ما كانت لي قط لا يحتمل ما كانت لي لأني ملكتها منه بعد القضاء، لأن ما لم يكن له لا يتصور تمليكه من غيره، فقد أكذب شهوده وأقر بخطأ القاضي من كل وجه والحق له فعمل إقراره وبطل القضاء.
ولو كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال: الدار كانت للمقر له وهبها لي بعد القضاء، يقضى بالدار للمقر له، وعلى المقضي له للمقضي عليه قيمة الدار، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي، لأن إقراره صح ظاهراً؛ لأن القاضي قضى له بالدار، وصح القضاء ظاهراً فصح إقراره وصارت الدار مملوكة له ظاهراً فإنما هو أقر بما هو مملوك له ظاهراً وصارت الدار للمقر له، فإذا قال بعد ذلك: ما كانت لي قط، فقد أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وقد كذبه المقر له في ذلك، فلم يبطل إقراره في حق المقر له، أما يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، ثم بالإقرار وكان ينبغي أن (154أ4) لا يقضى بالدار للمقر له أول مرة ما كانت لي قط أكذب شهوده فيما شهدوا، لأنهم شهدوا له بالملك من الأصل وقد أقر أنها لم تكن له من الأصل، فقد أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء، وتكون الدار ملكاً للمقضي عليه، فإذا قال: ولكنها لفلان بعد ذلك، فقد أقر لفلان بملك الغير والإقرار بملك الغير إقرار باطل.
والجواب: قوله ما كانت لي قط، هذا نفي، وقوله: إنما هي لفلان، إثبات معطوف على النفي متصل به، والإثبات متى ذكر معطوفاً على النفي متصلاً به لا يقطع عنه، ألا ترى أن من أقر وقال: لفلان عليّ ألف درهم من ثمن جارية باعها مني، وقال المقر له: ليس لي عليك شيء من ثمن البيع، وإنما لي عليك ألف درهم من قرض، مقطوعاً عن صدر الكلام لما لزم المقر شيء كما لو سكت بين الكلامين سكتة، وإذا ثبت أن الإثبات غير منقطع عن النفي، كان الكل كلاماً واحداً، فلا يظهر تقدم البعض على البعض، فكما يصح النفي يصح الإقرار، أو نقول: قوله: ما كانت لي قط متصلاً بالإثبات لغيره، يستعمل لتأكيد الإثبات عرفاً وعادة، وما يذكر تأكيداً للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء، فلا يكون له حكم نفسه وصار من حيث المعنى كأنه قال: هذه الدار لفلان واقتصر عليه.
قالوا: ما ذكر محمد في «الكتاب» أن المقر له إذا صدق المقر في إقراره وكذبه في(8/507)
النفي، وقال: هذه الدار كانت للمقر إلا أنه وهبها لي وقبضتها منه بعد القضاء بالدار، يقضى بالدار للمقر له، محمول على ما إذا قال ذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له في ذلك، فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه أنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض، والكذب لا حكم له، فينبغي أن لا يصح إقراره في هذه الصورة.
ثم إن محمداً رحمه الله يوجب على المقر قيمة الدار للمقضي عليه، إنما أوجب؛ لأن في زعم المقر أن الدار ملك المقضي عليه وأن القاضي أخطأ في قضائه بالدار لي، وصرت غاصباً لها وقد عجزت عن الرد بإقراري بالدار للمقر له، فصرت ضامناً قيمتها، من مشايخنا من قال: هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن غصب العقار عنده ينعقد موجباً للضمان، غير مستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله، لأن عنده غصب العقار لا ينعقد موجباً للضمان ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل؛ لأن المقر بإقراره للمقر له أتلف الملك على المقضي عليه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: العقار يضمن بإتلاف الملك، ألا ترى لو شهد شاهدان بدار لرجل وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار للمشهود عليه، وإنما يضمنان بإتلاف الملك كذا ههنا.
قال: ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي وإنما هي لفلان وصدقه المقر له في ذلك، فالدار للمقر له، ولا ضمان على المقر للمقضي عليه، لأن قوله: ليست (لي) نفي للملك للحال ويحتمل أنه إنما نفاها للحال عن نفسه؛ لأنه ملكها من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنما نفاها للحال، عن نفسه، لأن لم تكن له من الأصل، فلا يثبت إكذاب الشهود فلا ينقض القضاء بالشك، وصار الجواب في قوله: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، نظير الجواب في قوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها.
ولو أن القاضي لم يقض بالدار للمدعي حتى قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها، أو قال: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فالقاضي لا يقضي له بالدار؛ لأن كلامه محتمل يحتمل: لاحق لي فيها ليست لي؛ لأني ملكتها من فلان، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء ويحتمل: لا حق لي فيها ليست لي؛ لأنها لم تكن لي من الأصل، وعلى هذا التقدير لا يجوز له القضاء، فلا يجوز له القضاء بالشك قال: إلا أن يقول المقر في هذه الصورة: هي دار فلان، بعتها منه بعد شهادة الشهود أو يقول: وهبتها منه وقبضها مني بعدما غاب عن مجلس الشهادة، قال ذلك موصولاً بكلامه، فحينئذ القاضي يقضي له بالدار؛ لأن بهذا البيان انتفى احتمال أنه ليس له من الأصل وتعين الاحتمال الآخر، وهو صيرورتها لفلان بتمليك من جهته بعد شهادة الشهود، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء فلهذا يقضي له بالدار، ولكن يشترط أن يكون هذا البيان موصولاً بإقرار، لأن هذا بيان معبر، لأنه لو لم يتكلم بهذا البيان لكان لا يقضى له بالدار وبهذا(8/508)
البيان يقضى، فكان هذا بيان تعبير، وبيان التعبير يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء.
قال في كتاب «الأقضية» : شاهدان شهدا لرجل بألف درهم من ثمن جارية، فقال المشهود له: إنه قد أشهدهما هذه الشهادة والذي لي عليه من ثمن متاع أجزت شهادتهما، قالوا: وتأويل المسألة: إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف من ثمن الجارية، فالمسألة محفوظة مذكورة في غير موضع من الكتب أنه إذا ادعى على آخر ألف درهم من ثمن مبيع، وشهد له الشهود بالألف من ضمان جارية غصبها إياه وقد هلكت، أنه لا يقبل شهادتهم وبمثله في الإقرار تقبل شهادتهم، واعتبر تكذيب المدعي الشاهد في السبب، ولم يعتبر تكذيب المقر له في السبب، والوجه في ذلك: أن المدعي بتكذيب الشاهد في السبب كذبه في بعض ما شهد به، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض الشهادة مانع قبول الشهادة لأنه تفسيق له وشهادة الفاسق لا تقبل، والمقر له بتكذيب المقر في السبب إن كذبه في بعض ما أقر به: ولكن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع صحة إقراره، فإقرار الفاسق صحيح مقبول بخلاف شهادة الفاسق، إذا ثبت هذا ظهر أن المراد به الشهادة على إقراره، والإقرار الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وقد ذكرنا في الإقرار المعاين أنه صحيح، يلزم مع اختلافهما في السبب كذا هذا.
والدليل على تأويل المسألة ما قلنا: إن محمداً رحمه الله قال في وضع المسألة: إن المشهود له قد أشهدهما هذه الشهادة، وهذا تنصيص على إقراره عندهما، فثبت أن تأويل المسألة ما قلنا من شهادتهما على الإقرار.
قال: وكذلك الكفالة لو شهدا أنه أقر أنه كفل بألف درهم عن فلان آخر، كان له أن يأخذه بالمال؛ لأنهما اتفقا فيما هو المقصود، فلا يضرهما الاختلاف في السبب. ولو قال الطالب: إنه لم يقر بها، وإنما أقر أنها كانت عن فلان الآخر فالشهادة باطلة، لأنه أكذب شاهده فيما شهد به من إقرار المطلوب، فبطلت شهادته بخلاف الأول لأنه لم يكذب شاهده، فثبت بشهادة إقرار المطلوب فصار كالمعاين، ثم هو كذب المطلوب في إقراره بسبب المال، وقد مر أن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع قبول إقراره فيما بقي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يدعي على رجل ألف درهم فيقول المدعى عليه: ما كان لك عليَّ شيء قط، أو قال: ليس لك عليَّ شيء، ثم أقام البينة على القضاء قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، أما في قوله: ليس لك عليَّ شيء فظاهر، فإنه يقول: ليس لك عليَّ شيء لأني قضيته، وأما في قوله: ما كان لك عليَّ شيء قط، لأنه يمكنه أن يقول: لم يكن لك عليَّ شيء قط، لكن أذيتني بخصومتك الباطلة، فدفعت أذى خصومتك الباطلة بما طلبت مني.
ودلت هذه المسألة على أن التوفيق بين الكلامين إذا كان ممكناً، فالقاضي يوفق ويقبل بينة المدعي من غير التوفيق، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» وقال: قبل ذلك منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.(8/509)
وإن قال: ما كان لك عليّ شيء قط، ولم أعرفك، ولم أكلمك، ولم أخالطك ثم أقام البينة على القضاء لا تقبل بينته، هكذا ذكر المسألة ههنا، لأن التوفيق غير ممكن ههنا إذ لا يتصور أن يكون بين شخصين خصومة وقضاء، ولا يعرف أحدهما صاحبه. وذكر «القدوري» عن أصحابنا أنه تقبل البينة، لأن الرجل عسى يدعي على امرأة أو رجل وهو محتجب في داره، ويؤذيه بالسب على باب داره، فيأمر بعض وكلائه أن يدفع إليه ما ادعى فيدفعه إليه الوكيل فيكون قد قضاه وهو لا يعرفه ثم يعرف بعد ذلك، هذا (إذا) أقام البينة على الدفع والقضاء، فأما إذا أقام البينة على الإبراء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل هنا، قال بعض مشايخنا في شرح هذا الكتاب: ولا شك أن تقبل بينته (154ب4) في الفصل الأول والثاني، لأن وجه التوفيق فيهما ظاهر، وكذلك في الفصل الثالث، قال: ويجب أن يكون قبول البينة في الفصل الثالث على اتفاق الروايات، لأن التوفيق ههنا ممكن، لأن الإبراء يتحقق من غير أن يعرف المدعى عليه صاحب الدين بأن كان لرجل على آخر دين، مات صاحب الدين وورث الدين ابنه ولم يعلم به المديون، ثم إن الابن أبرأه عن دينه أو أبرأ أهل بلد كذا عن دعاويه وديونه، والمدعى عليه من أهل ذلك البلد، فيكون داخلاً تحت الإبراء، وإن لم يعرفه ثم بعدما ادعى عليه وأنكر المدعى عليه المال، أخبر المدعى عليه شاهدان بما جرى من الأمر فعرف المدعي صاحب دينه، وأبرأه به إباه عن الدين، فأقام الشاهدان اللذان أخبراه بذلك فأما قضاء الدين ودفع المال إلى إنسان وهو لا يعرفه أصلاً لا يكون فيصير متناقضاً في دعوى الدفع.
وعن أبي يوسف أنه إن قال: لم يجر بيني وبينه معاملة ولكن أخبرني شهودي هؤلاء أنه ادعى علي حقاً، ثم أشهدهم أنه قد أبرأني منه ولم يجر بينه وبيني معاملة، قُبَل ذلك منه.
وذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا قال المدعى عليه: لم يكن لك عليَّ شيء قط، أو قال: لم يكن لك علي دين قط، ثم أقام البينة على القضاء أو الإبراء سمعت بينته. قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الكفالة: إن وفق فقال: دفعت المال إليه افتداء عن اليمين قطعاً لدعواه لا قضاء عن الدين، قبلت بينته، لأنه زالت المناقضة ويكون هذا في الحاصل دعوى الصلح على الإنكار، وإن قال: دفعته قضاء عن الدين لا تقبل بينته لتحقق المناقضة، وإن لم يبين شيئاً بل ادعى القضاء مطلقاً فالقياس أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل كما في الشهادة على الألف والخمسمئة، قال: وكذلك في فصل الإبراء إن وفق وقال: لم يكن له علي دين، كما قلت إلا أنه أبرأني عن دعوى الدين، لا عن الدين تزول المناقضة، وتقبل بينته على الإبراء، وإن قال: أبرأني عن دعوى الدين لا تقبل بينته لمكان المناقضة، فإنه أقر أنه لم يكن عليه، ثم أقر أنه كان عليه دين لما ادعى الإبراء عن الدين، والمناقضة تمنع صحة الدعوى ولا تقبل البينة بدون الدعوى، وإن ذكر الإبراء مطلقاً ولم يبين أنه أبراه عن الدين أو عن دعوى الدين، فالقياس أن تقبل بينته.h
وفي الاستحسان: لا تقبل.(8/510)
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل ادعى عليه عشرة آلاف درهم، فأنكرها فسأل الحاكم المدعي هل قبض من المال شيئاً، فأقر أنه قبض منه عشرة آلاف، فأبرأ الحاكم المدعى عليه من العشرة آلاف، فلما خرجا من عند الحاكم قال المطلوب: لا والله ما قبضتها مني، فجاء الطالب ببينته يشهدون على كلامه هذا، قال محمد رحمه الله: أقبل هذا من الطالب وأقضي بها عليه، وبمثله لو أقام الطالب البينة على المال لا تقبل ذلك منه؛ لأنه إنما لا تقبل البينة على المال للتناقض لمكان إقراره بالقبض، فإذا صدقه في ذلك وأقر أن القبض لم يكن انتفى التناقض، لأن التناقض يرتفع بتصديق الخصم، وبما أقام من البينة ثبت تصديقه فقبلت منه.
واستشهد لهذا الرجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف درهم، فقال الطالب: ليس لي عليك شيء، فقد برئ المطلوب، لأن الإقرار يبطل بتكذيب المقر له، فإن قال المطلوب بعد ذلك: بلى لك علي عشرة آلاف درهم، فإنه يقضي به للطالب إذا ادعاها؛ لأنه استأنف الإقرار بالمال له، فإن صدقه في هذا الإقرار كان له أن يأخذه، كذلك في المسألة الأولى أثبت بشهادته إقراره مستأنفاً منه لم يتصل به التكذيب، فملك إثباته بالبينة قال محمد رحمه الله: وإن قال المطلوب: إنما قلت: ما قبضتها مني، وأنا أقيم البينة أنك قبضتها من وكيلي، لم تقبل بينته، لأن القبض من وكيله قبض منه أيضاً، فإقراره الأول ينتظمهما جميعاً، فإذا ادعى القبض من وكيله، كان متناقضاً في دعواه، فلم يسمع منه.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال: والله ما قبض مني فلان من الألف التي له علي قليلاً ولا كثيراً، كان هذا القول على نفسه، وعلى وكيله ورسوله؛ لأن الإنسان يعد قابضاً بيد وكيله عادة وقاضياً على يد نفسه ووكيله، فكذلك ههنا.
قال ابن سماعة: قال محمد رحمه الله: ولو جاء المطلوب ببينة يشهدان أن رجلاً أجنبياً قضى هذا المال تطوعاً بها من ماله بغير أمر المطلوب، ولا وكلائه، فإني أقبل ذلك، وهذا يستقيم أن يقول: ما قبضتها مني، ولكن تطوع بأدائها عني، وهذا لأن فعل كل واحد يقتصر عليه بقضية الأصل، وإنما ينتقل إلى غيره بحكم الأمر، فإذا كان متطوعاً لم يوجد الأمر فبقي فعله مقصوراً عليه فلا يصير قابضاً من المطلوب، فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة.
ولو قال المطلوب: ما قبضها فلان، كان هذا على قبض نفس المطلوب ووكيله، وعلى كل أحد أجنبي وغيره، ولا أقبل البينة أنه قبضها من رجل أجنبي، لأنه أضاف القبض إلى الألف، وأنه يصير قابضاً لها بقضاء المطلوب، ويتبرع الأجنبي بالقضاء حتى سقط الدين، فانتظر قبضه منه ومن غيره، فإذا ادعى القبض من أجنبي، كان متناقضاً في دعواه فلا تقبل بينته بخلاف الأول، فإن ثمة أضاف قبض الألف إليه بكلمة من، وأنها إنما تستعمل إذا كان القبض بتسليم من فلان ليحصل معنى العرف الذي وضعت كلمة من له، وبالقبض من الأجنبي لا يتحقق هذا المعنى، فلم تدخل تحت صدر الكلام فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة، أما ههنا فبخلافه على ما ذكرنا.(8/511)
الفصل الثالث والعشرون: في الشهادة على النسب
رجل مات وترك عبدين وأمتين صغيرتين ولدتا في ملكه، وابن عم له لا وارث له غيره، فأعتق ابن العم الغلامين، فشهدا بعد عتقهما أن إحدى الجاريتين بعينها بنت الميت أقر بها في حياته وصحته، لم تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنا لو قبلناها ابتداء أبطلناها انتهاء.
بيانه: أنه إذا ثبت نسبها من الميت ظهر أن الميراث كان بينها وبين ابن العم نصفين، فظهر أن العبدين كانا بينهما نصفين، فإن ابن العم لما أعتقهما لم يعتق منهما إلا نصيب ابن العم لما عرف من أصله أن الإعتاق يتجزأ، وكان معتق البعض عبده ومعتق البعض عبده بمنزلة المكاتب، وشهادة المكاتب باطلة وعندهما تقبل الشهادة، لأنا متى قبلنا شهادتهما في الابتداء لم نحتج إلى إبطالها في الانتهاء؛ لأنه ظهر أنهما شهدا وهما حرّان لا دين عليهما إن كان المعتق موسراً، أو حرّان وعليهما دين إن كان المعتق معسراً، وشهادة الحر مقبولة مديوناً كان أو غير مديون، فإن شهدا للجارية الأخرى بمثل ذلك بطلت الشهادة أيضاً عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه يصير لابن العم في هذا الوجه الثلث، فكان معتق البعض أيضاً، والتقريب ما مر.
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن شهدا للجارية الأخرى بذلك قبل قضاء القاضي للجارية الأولى قبلت شهادتهما، ويجعلهما ابنتين للميت، سواء كان ابن العم موسراً أو معسراً، لأنهما حرّان عندهما لم يجران إلى أنفسهما مغنماً ولا دفعا عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما، بل أوجبا على أنفسهما ثلثي السعاية للابنتين إن كان ابن العم معسراً، ولم يحولا ضماناً وجب عليهما، أما إذا كان ابن العم موسراً؛ فلأن يسار المعتق عندهما يمنع استبقاء العبد، وأما إذا كان معسراً؛ فلأن القاضي لم يقض بالسعاية على العبد بعد، حيث لم يقض بكون الأولى بنتاً للميت، وتحويل الضمان قبل وجوب الضمان محال، فبعد ذلك إن كان المعتق معسراً سعى كل واحد من العبدين في ثلثي قيمته للابنتين، وإن كان موسراً ضمن ثلثي قيمة العبدين للابنتين نصفان، ولو كان ذلك بعد قضاء القاضي للبنت الأولى، فإن كان ابن العم موسراً تقبل شهادتهما؛ لأن المعتق إذا كان موسراً لم يجب للبنت الأولى عليهما السعاية، فهما بشهادتهما لم يحولا ضماناً وجب عليهما للأولى إلى الثانية، وإن كان معسراً فهذا على وجهين: أما إن أقرت الأولى للأخرى أو لم تقر، فإن لم تقر لم تقبل شهادتهما، لأنه وجب عليهما السعاية في نصف قيمتهما للأولى، فهما بشهادتهما يحولان سدس القيمة إلى الثانية، ولهما في هذا التحويل فائدة فلا تقبل شهادتهما وإن أقرت الأولى للأخرى تقبل شهادتهما، وإن حصل تحويل سدس القيمة من الأولى إلى الثانية، إلا أن هذا التحويل في الحاصل ما حصل بشهادتهما، إنما حصل (155أ4) بإقرار الأولى بدليل أنهما لو لم يشهدا بذلك كان(8/512)
سدس القيمة مما وجب عليهما محولاً إلى الأخرى، فلا يكون ذلك مانعاً قبول شهادتهما.
فكذلك لو كانا دفعا نصف القيمة إلى الأولى بقضاء أو بغير قضاء ثم شهدا للأخرى لا تقبل شهادتهما، لأنهما بهذه الشهادة يريدان إبطال بعض ما ملكا من الأولى وهو السدس، وإذا لم تقبل شهادتهما بقيت الأخرى أمة للأولى وابن العم، ولا يضمن الشاهدان للأخرى شيئاً، وإن أقرا لهما بسدس القيمة إلا أنها لما بقيت أمة كان الإقرار لها إقراراً لمولاها ومولاها ابن العم والجارية الأولى وهما يكذبان الشاهدين في إقرارهما للأخرى بشيء، ومن أقر لمملوك إنسان بشيء وكذبه مولاه يبطل إقراره، فإن عتقت الأخرى يوماً من الدهر يضمن الشاهدان لها سدس قيمتها؛ لأنهما أقرا للأخرى بسدس قيمتها وهي تصدقهما في ذلك، فيضمنان لها ذلك، وهذا لا يشكل فيما إذا دفعا النصف إلى الأولى بقضاء قاض فلا يكون عليهما ضمانه، فكان عليهما ما بقي إلى ثلث قيمتهما، وذلك سدس قيمتهما لا غير إنما يشكل فيما إذا دفعا نصف قيمتها إلى الأولى بغير قضاء، وفي هذا الوجه يجب أن يضمنا للأخرى ثلث قيمتهما؛ لأنهما أقرا للأخرى بثلث قيمتهما ودفع السدس إلى الأولى كان بغير قضاء، فلا يبرآن منه، فكان عليهما ضمانه، وقد بقي عليهما سدس قيمتهما فيضمنان للأخرى ثلث قيمتهما لهذا.
وأجاب الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله عن هذا الإشكال، وقال: بأن القاضي لما قضى عليهما بالسعاية الأولى في نصف القيمة فقد قضى بدفع نصف القيمة إلى الأولى، فبعد ذلك إن وجد القضاء بدفع النصف إليها مرة أخرى فهو تأكيد لذلك القضاء، وإن لم يوجد كان القضاء الأول كافياً، والدفع متى حصل بقضاء يوجب براءة الدافع عن قدر المدفوع، ولو شهدا للأمة الأخرى أنها أخت الميت بعدما شهدا للأولى أنها ابنة الميت لا تقبل شهادتهما، قضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض، لأن في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنه يظهر أن الميت ترك ابنة وأختاً وابن عم، وفي هذه الحالة لا يكون لابن العم شيىء لكون الأخت عصبة في هذه الحالة، فظهر أن إعتاق ابن العم العبدين كان باطلاً، وأنهما بقيا عبدين وشهادة العبد لا تقبل، ولا يضمن العبدان للأخت شيئاً. وإن أقرا لهما بنصف قيمتهما لما قلنا: فإن عتقت يوماً من الدهر ضمنا نصف قيمتهما لما مر.
رجل مات فشهد قوم عند القاضي لرجل أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه، لا وارث له غيره فقضى القاضي بذلك وقد كان للميت على رجل ألف درهم، فوهبه الأخ له أو وهب لإنسان عيناً من التركة، ثم شهد هذا الموهوب له ورجل آخر لإنسان أنه ابن الميت، جازت شهادتهما، لأن هذه شهادة على الموهوب له، فإنه يبطل بهذه الشهادة ما حصل له بالهبة من العين والدين فكانت هي من أصدق الشهادات، وكان ينبغي أن لا تقبل شهادته فيما إذا كان الموهوب عيناً، لأن الموهوب إذا كان عيناً فالهبة لا تتم إلا بقبول الموهوب له، فكان هو بهذه الشهادة ساعياً في نقض ما تم به، وهذا مانع قبول الشهادة، والجواب عن هذا: أن يقال بأن السعي في نقض ما تم به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان هو لا(8/513)
يملك النقض بدون الشهادة، والموهوب له يملك الرد على الواهب من غير شهادة؛ لأن الهبة في جانب الموهوب له غير لازمة، وكان كالمرتهن إذا شهد لغيره بالرهن حتى لو كانت الهبة بشرط العوض وتقابضا، ثم إن الموهوب له شهد مع رجل آخر أن هذا الرجل ابن الميت، كانت شهادتهما باطلة، لأنه ساع في نقض ما تم به، وهو لا يملك ذلك بدون الشهادة، لأن الهبة بشرط العوض لازمة من الجانبين.
وصار هذا نظير ما لو اشترى رجل من هذا الأخ شيئاً من الميراث، ثم شهد هذا المشتري مع رجل آخر بما قلنا، لم تقبل شهادته لما قلنا، وإذا لم تقبل هذه الشهادة كان للمشهود له بديونه؛ لأن يأخذ من الموهوب له ومن المشتري ذلك العين إن كانت قائمة وقيمتها إن كانت هالكة، لأن الموهوب له زعم أن الهبة لم تصح، وكذلك المشتري زعم أن الشراء لم يصح، وأن هذا العين ملك الابن فيؤمران بالدفع إليه إن كان قائماً وبرد القيمة إن كان هالكاً، والذي ذكرنا في الهبة كذلك الجواب في الصدقة، والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات
دابة في يدي رجل، يقال له محمد، فجاء رجل يقال له عمرو وقال: هذه الدابة التي في يد محمد كانت لزيد، أخذتها منه وديعة، ثم رددتها عليه، وقد مات زيد، فجاء وارثه لزيد وقال: هذه الدابة تصدق بها إلى زيد في حياته، وأنكر محمد ذلك، فجاء عمرو مع رجل آخر وشهدا بالدابة للمدعي، فإن كان الإيداع والرد معروفاً ظاهراً قبلت شهادتهما للمدعي، لأن عمراً بهذه الشهادة لم يدفع عن نفسه مغرماً، لأن عمراً إما إن كان مودع المالك بأن كان إيداع زيد إياه قبل التصدق بها على المدعي، أو كان مودعاً للغاصب بأن كان الإيداع من زيد بعد التصدق على المدعي والتسليم وأيهما كان فلا ضمان عليه إذا كان الرد ظاهراً، لأن المودع يبرأ بالرد على المودع، سواء كان المودع غاصباً أو مالكاً، فإذا برئ بالرد لم يدفع بهذه الشهادة عن نفسه مغرماً وإن كان الإيداع ظاهراً ولم يكن الرد ظاهراً، لا تقبل شهادة عمرو، علل محمد رحمه الله وقال: لأنه دافع عن نفسه مغرماً.
وطعن عيسى بن أبان فقال: ينبغي أن تقبل شهادته؛ لأنه ليس بدافع عن نفسه مغرماً، لأنه إنما يكون كذلك إذا كان يضمن للمدعي، لو لم تقبل شهادته بإقراره السابق بالأخذ وبإقراره اللاحق أن الملك للمدعي للحال الحاصل في ضمن الشهادة فلا يضمن، لأنه بهذه الشهادة أقر بالملك للمدعي للحال وملك زيد كان ثابتاً بتصادقهما، والإيداع منه كان ظاهراً، إلا أنه وقع الشك أن الإيداع منه كان قبل التصدق أو بعده، فإن كان قبل التصدق: كان مودع المالك حينئذ ويكون القول قوله في الرد، ولا يجب الضمان، وإن كان الإيداع بعد التصدق كان مودع الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان متى لم يكن الرد(8/514)
ظاهراً، فلا يجب الضمان بالشك، ومتى لم يجب الضمان لم يكن هو بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً.
والجواب عن هذا الطعن: أنه إذا وقع الشك في كونه دافعاً عن نفسه مغرماً وقع الشك في قبول شهادته، فلا تقبل شهادته بالشك والاحتمال.
وجواب آخر وهو الصحيح: لا بل عمرو بشهادته دافع عن نفسه مغرماً متى لم يكن رده ظاهراً، لأنه ربما يجيء مستحق آخر لهذه الدابة ويقيم البينة أن الدابة ملكه مطلقاً، وتكون للمستحق، يضمن عمرو إذا لم يكن الرد على زيد ظاهراً، لأنه أقر أنها كانت في يده وديعة، وبالاستحقاق تبين أنه كان مودع الغاصب، ومودع الغاصب يضمن إذا هلكت الوديعة، ولم يكن الرد ظاهراً، فهو بهذه الشهادة للمدعي رفع هذا الضمان عن نفسه؛ لأنا متى قبلنا هذه الشهادة وقضينا بالدابة للمدعي، لا يكون للمستحق تضمين المودع، لأن الدابة وصلت إلى وارث الغاصب، ووصولها إلى وارث الغاصب بمنزلة وصولها إلى الغاصب، ولو وصلت إلى الغاصب يبرأ المودع عن الضمان فكذا ههنا، فكان دافعاً مغرماً من هذا الوجه.
وفي «فتاوى الفضلي» : رجل ادعى داراً أنه ورثها من أبيه، وادعى آخر أنه اشتراها من أبيه ذلك، وشهد شهود المدعي للشراء بمجرد البيع فقالوا: باعها منه الميت، ولم يقولوا: وهو يملكها، والدار في يد مدعي الميراث أو مدعي الشراء، فالشهادة مقبولة، ويقضى بالدار لمدعي الشراء، وإن لم يشهدوا بالملك للميت ولا بالتسليم، إنما يحتاج شهادتهم في البيع إلى ذكر الملك والتسليم مع البيع إذا كان المشهود عليه لا يدعي ملك المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه حياً كان أو ميتاً، بل يدعي المدعي لنفسه لا من جهة ذلك، أما إذا كان المشهود عليه يدعي ملك المدعي من جهة من ادعى المشهود له الشراء منه لا يحتاج إلى ذكر الملك أو التسليم مع ذكر البيع، لأن المشهود عليه لما ادعى المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه، فقد ثبت كون المدعى ملكاً لذلك باعترافه فاستغنى الشهود عن ذكر ملكه حينئذٍ قال في الكتاب: لأن شهادتهم على بيع الميت منه ليست بأقل من شهادتهم (155ب4) على إقرار الميت أن الدار لمدعي الشراء.
ولو شهدوا بهذا ومدعي الميراث يدعي أنها ميراث له عن الميت، لم يلتفت إلى دعواه، وقضى بالدار للمقر له، فكذا إذا شهدوا له بالشراء من غير ذكر ملك ولا تسليم، بخلاف ما إذا ادعى المشهود عليه ملك الدار لنفسه، لا من جهة أحد بعينه، حيث لا تقبل شهادتهم بمجرد البيع، لأن هنا لو شهد الشهود أن الذي ادعى المشهود له الشراء منه أقر أن الدار لمدعي الشراء، لم تقبل هذه الشهادة على المشهود عليه؛ لأنه يزعم الملك للمقر فالحاصل أنه اعتبر شهادتهم بمجرد البيع على الشهادة بالإقرار ففي كل موضع تقبل الشهادة على إقرار من يدعي المشهود له الشراء منه، لا تقبل الشهادة بمجرد البيع، والمسألة في شهادات «الأصل» وذكر ملك البائع وقت البيع ينظر في شهادات «الفتاوى الصغرى» .(8/515)
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل له تسعة أولاد أقر في صحته وجواز إقراره أن لخمسة من أولاده فلان وفلان وفلان سماهم في الصك عليه ألف درهم، ثم مات، وأنكر سائر الورثة ذلك، فشهد الشهود بذلك عند الحاكم، وقالوا: لا نعرف الأولاد المقر لهم، لأنهم لم يكونوا حضوراً وقت الإقرار، فإن أقر سائر الورثة بأسامي هؤلاء ثبت المال بشهادة الشهود، ولو جحدوا كلّف المدعون إقامة البينة على أنهم مسمّون بالأسامي التي ذكرها الشهود، فإن أقاموها يقضي لهم بذلك إذا لم يكن في سائر الأولاد مثلهم في الأسامي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه دار، أقام رجل بينة أنها دار فلان ابن فلان الفلاني أودعنيها فالقاضي يدفع الدار إلى المدعي، لأن المودع ينتصب خصماً في الوديعة في إثبات الملك للمودع، لأنه مأمور بالحفظ ولا يتمكن من الحفظ إلا باسترداده من الغاصب، ولا يتمكن من ذلك إلا بإثبات الملك لمودعه، فكان خصماً في إثبات الملك للمودع فقبلت بينته، كما لو أقامهما المودع بنفسه فإن لم يشهد شهود المدعي على هذا الوجه، ولكن شهدت شهوده أن فلاناً أودعها من المدعي، ولم يشهدوا أنها كانت لفلان، لا تقبل هذه الشهادة، لأن المدعي بهذه البينة لم يثبت الملك في الدار لصاحب الوديعة، وإنما أثبت أنه أودعها منه، والإيداع كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلم تكن هذه شهادة بالملك، وإنما هذه شهادة أنها كانت في يد المودع، وقد عرف القاضي زوال ذلك اليد، فلا يجوز إثباتهما بالبينة، وكذلك لو شهدوا أنها كانت في يد المستودع أمس لم يقض القاضي بشيء؛ لأن المودع لو كان يدعي الملك لنفسه لم يستحق بهذه الشهادة شيئاً، فكذلك إذا كان يدعيه لغيره، ولو ادعى المدعي رقبتها فشهدت شهوده أن فلاناً وهبها له، وقبضها منه أو اشتراها منه وقبضها ولم يشهدوا بالملك للبائع ولا للواهب، قبلت الشهادة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تقبل، وإلى هذا أشار في «الكتاب» ، فإنه نسب الجواب فيه إلى أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأبو يوسف قاس هذا على الإيداع.
والفرق لهما: وهو أن الشهود هنا شهدوا باليد عند مباشرة سبب الملك، وهو البيع والهبة والشهادة على اليد عند مباشرة سبب الملك، كالشهادة على الملك حكماً، لأن الأملاك لا تعرف إلا بها، ولهذا إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيها تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له، فكانت هذه شهادة للمدعي، فقبلت بخلاف فصل الإيداع، لأن هناك الشهود ما شهدوا باليد عند مباشرة السبب؛ لأن الإيداع ليس من أسباب الملك بل هو نقل من يد إلى يد فلم تكن الشهادة على اليد عند الإيداع شهادة على الملك بخلاف البيع والهبة على ما مر.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة والمرأة تجحد فإنه لا يقبل ذلك منه، وكذلك لو لم يكونا شهدا أنها(8/516)
امرأته، وإنما شهدوا أنه طلق هذه ثلاثاً، وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد، وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهدان: نحن أمرناه بالبيع، لأن ما نفذ من الحكم بشهادتهما بمنزلة الإقرار منهما أنه لاحق لهما فيه، ولا في ثمنه وسواء كان البائع جاحداً للبيع أو كان المشتري جاحداً للشراء، ولو شهدا ورد الحاكم شهادتهما، ثم ادعياه لأنفسهما، فليس لهما في ذلك دعوى، وإن لم يشهدا عليه عند الحاكم ولكن شهدا المبايعة وحتما على الشراء من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى.
وذكر عن محمد رحمه الله: رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة ولم يشهد أنها امرأته، وأجاز القاضي شهادته عليها، ثم ادعى الشاهد أنها امرأته، وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهد على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها قبلت بينته، ويبطل قضاء القاضي، ويردها على الشاهد، فصارت مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
في «أدب القاضي» : إذا شهد شاهدان لمدعى على رجلين أن أحدهما باع الدار من هذا المدعي وسلم الآخر، ولا يعرف الشهود البائع فشهادتهما باطلة، لأن المشهود عليه مجهول.
بيانه: أن الشهادة بالبيع شهادة على البائع وبزوال ملكه عن المبيع ببدل، وهما لم يعرفا البائع فكان المشهود عليه مجهولاً من هذا الوجه.
وكذلك إذا شهدا على رجل أنه باع هذه الدار من أحد هذين الرجلين، ولا يعرفان المشتري بعينه، لأن المشهود عليه مجهول وهو المشتري، قال: ألا ترى أن في الأول لو قلنا: هذه الشهادة فإذا استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟، وقال: ألا ترى أن في الفصل الثاني لو قبلنا هذه الشهادة فعلى من يلزم الثمن وينكره كل واحد منهما ويدفعه عن نفسه.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا على رجلين، فقالا: نشهد أن هذين ضربا فلاناً فقتلاه، ضربه أحدهما بالسيف، والأخر بالعصا، لا ندري أيهما صاحب السيف وأيهما صاحب العصا فالشهادة باطلة، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، فإذا جهلا أيه فعل كل واحد منهما، صار فعل كل واحد منهما مجهولاً وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة.
وكذلك إذا قالا: نشهد أنهما قطعا يديه فمات من ذلك، قطع أحدهما يمينه، والآخر يساره، عمداً، أحدهما بحديدة، والآخر بعصا، ولا ندري من صاحب العصا منهما، أو لا ندري من قطع منهما اليمين ومن قطع منهما اليسار، أو قالا: جرحاه هاتين الجراحتين، لا ندري من جرح هذه ومن جرح هذه، فالشهادة في هذا كله باطلة؛ لأن الفعل يختلف باختلاف المحل وباختلاف الآلة، فإذا أقرا أنهما جهلا ذلك، فقد ضيعا(8/517)
شهادتهما حيث لم يمكنهما الشهادة على فعل معين معلوم، فلا تقبل شهادتهما.
ولو قالا: نشهد أنهما قطعا يده، قطع هذا يمينه والآخر يساره أو جرح هذا هذه، وهذا هذه ولا ندري بأي شيء جرحاه، فالقياس أن لا تجوز شهادتهما لما ذكرنا أنهما ضيعا شهادتهما بإقرارهما أنهما جهلا آلة القطع وآلة الجرح فبطلت شهادتهما، ولكنّا استحسنّا وجوزنا هذه الشهادة، لأنهما اتفقا على أصل الفعل وإن اختلفا في وصفه فقبلت شهادتهما فيما اتفقا عليه، ولأنهما إنما لم يذكرا آلة القتل والجرح على القاتل احتيالاً لدرء القصاص وابتداء بما ندما إليه في الشرع مع علمهما، فلا يقدح ذلك في الشهادة بخلاف المسألة المتقدمة، لأن ثمة قد ذكرا آلة الجرح والقتل، ولكنهما جهلا صاحب الآلة فلا يمكن حمله على السر، وإنما هذه شهادة على مجهول، لأنهما لم يشهدا بالقتل بالسيف ولا بالقضاء على أحدهما بعينه، فلا تقبل شهادتهما، ثم في هذه المسألة الأخيرة إذا قبلت الشهادة وجب المال، لأنه تعذر إيجاب القصاص، لأنه يعتمد القتل عمداً بحديدة ولم يثبت، فوجبت الدية، وإنما تجب في ماله ولا تجب على العاقلة، (156أ4) لمكان الشك فإنه كان خطأً تجب على العاقلة، وإن كان عمداً لا تجب على العاقلة، ويحتمل كلا الأمرين، فلا تجب على العاقلة بالشك، وإن قالا: قتله خطأً، الآن تجب الدية على العاقلة لاتفاقهما على وجوب الدية على العاقلة.
والقتل إذا كان خطأً بأي آلة كان، فإن موجبه على العاقلة، قال: وكل شيء من هذه الشهادة كنت أقضي بها لو برأ الرجل من الجراحة، وأجعل في ذلك دية، أو قصاصاً، فإني أقضي به إذا مات وأجعل (على) عاقلته الدية، وكل شيء كنت أبطله لو عاش الرجل وبرئ من الجراحة فإني أبطله إذا مات من ذلك، لأنه إنما يقضي بالدية والقصاص في حالة الحياة عند تمام الحجة على الجرح واستجماع شرائط قبول الشهادة، فإذا مات منهما أحد بموجب السراية وإذا لم يقض في حياته بشيء فإنما لم يقض لانعدام الحجة على فعله، أو لفقدان شرائط جواز الشهادة، فإذا مات منهما لا يمكن القضاء بموجب السراية أيضاً، ثم فسر ذلك فقال: ألا ترى أنهما لو قالا: نشهد أن كل واحد قطع إحدى يديه أحدهما بسيف والآخر بعصا لا ندري أيهما صاحب السيف، وقد برأ الرجل من الجراحتين إن هذا باطل لأنهما إذا أقرا أنهما حملا ذلك لم يشهدا على واحد بعينه بفعل بعينه، فلا يمكن القضاء بموجب أحد الفعلين على أحد الرجلين.
ألا ترى أن موجب أحد الفعلين قصاص وموجب الآخر الدية، ولا ندري على من يوجب القصاص، وعلى من تجعل الدية لأن المقضي عليه مجهول فيهما، فكذلك إذا مات منهما لا يمكن إيجاب القصاص والدية أيضاً، لأن الفعل الذي يدعيه على كل واحد منهما مجهول، وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة، حتى لو أثبتا كان على كل واحد منهما نصف الدية لثبوت القتل عليهما.
لو قالا: نشهد أنهما قتلاه بعصا أو بسيف، ثم مات الشاهدان أو غابا إني لا أبطل هذا، وأجعلهما ضاربين بالسيف وضاربين بالعصا، لأنهما شهدا بقتلهما، والقتل لابد وأن(8/518)
يكون بآلة القتل ثم لما ذكر آلة القتل، عقيب فعلهما انصرف إليهما جميعاً فكان على كل واحد منهما نصف الدية، ربعاً في ماله وربعاً على العاقلة، لأنه لو قتله بالسيف عمداً وتعذر إيجاب القصاص كانت عليه الدية في ماله، ولو قتله بالعصا كانت الدية على العاقلة لأنه شبه العمد، فإذا جمع بينهما يوزع عليهما حكمه، ولو كانا قتلاه كان كل واحد منهما قاتلاً نصفه، نصف هذا النصف بسلاح، فيكون موجبه الدية في ماله، ونصف هذا النصف بعصا فيكون موجبه على العاقلة، كما لو تفرد به.
قال: ألا ترى أنهما لو قالا: قتلاه بسيف أن هذا على سيف واحد لأن القتل لما كان واحداً لابد من أن تكون الآلة متحدة فكذلك قولهما: بسيف وعصى، ولو كان القاتل واحداً فقالا: نشهد أن هذا قتله بسيف وعصا فإني أستحسن في هذا أن أجيزه وأجعل عليه نصف الدية في ماله، ونصفاً على عاقلته لأنه صار قاتلاً للنصف بالسيف، وحكمه وجوب الدية في ماله عند تعذر إيجاب القصاص، وقد تعذر إيجاب القصاص ههنا، وصار قاتلاً للنصف بالعصا وحكمه وجوب الدية على عاقلته، فلهذا أوجبنا على عاقلته نصف دية النفس.
ولو قالا: نشهد أن هذا قطع يديه جميعاً، إحداهما: بالسيف، والأخرى: بالعصا، لا ندري أيتهما قطعت بالسيف وأيتهما قطعت بالعصا فمات من ذلك كله، فعليه الدية نصفاً في ماله ونصفاً على عاقلته، لأنهما بينا في شهادتهما قاطع اليمين وقاطع اليسار، ولكنهما لم يبينا آلة القطع، وقد ذكرنا أن المشهود عليه إذا كان معلوماً وآلة الفعل غير معلومة أن الشهادة مقبولة استحساناً، وقد ذكرنا وجهه.
ولو قالا: نشهد أن هذا جرحه هذا الجرح إما بحديدة وإما بعصا، والمجروح قد برأ من ذلك، فإن هذا جائز وهو على الجاني في ماله إذا كان بعد ضربه، وهو مما لا يقدر فيه على القصاص لأنهما بينا الجارح فكان المشهود معلوماً، وأصل فعل الجرح معلوم ولكن الآلة غير معلومة، وقد ذكرنا: أن بيان آلة الجرح والقتل ليس بشرط لوجوب المال استحساناً، لأن حكم المال لا يختلف، بل أصل الجرح كاف لوجوب المال، وقد ثبت بشهادتهما، ولا يجب على العاقلة بالشك فيجب في ماله.
قال في كتاب الديات: إذا شهد شاهدان على أنه قتله، وقالا: لا ندري بأي شيء قتل، فالقياس في هذا أن يكون باطلاً، ولكني أستحسن أن أجيز هذا وأجعل الدية عليه في ماله، وجه القياس: أنهما ضيعا شهادتهما ونسبا أنفسهما إلى الغفلة، فلا تقبل شهادتهما، ولأن اتفاقهما على فعل واحد شرط قبول شهادتهما، وإنما يتحقق اتفاقهما على الفعل إذا اتفقا على آلة واحدة؛ لأنه إنما يتحقق الفعل بالآلة، ولا يثبت ذلك بدون التنصيص.
فأما إذا قالا: لا ندري لا يثبت الاتفاق منهما على آلة واحدة لجواز أنهما لو بينا، بيّن كل واحد منهما آلة أخرى، وذلك بأن يكون بياناً بكلامه لا أن يكون مخالفاً، فإذا احتمل كلامهما هذا النوع من البيان، لا يثبت الاتفاق بينهما بالدليل المحتمل.(8/519)
وجه الاستحسان: أن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به من الشهادة، وقد اتفقا عليه وذلك أصل الفعل وإنهما اتفقا عليه ولا احتمال فيه، وأصل القتل موجب الدية، فاتفاقهما عليه يكون على هذا الموجب، فأما القصاص إنما يجب باعتبار صفة العمدية، ولم يتعرض الشهود لذلك، وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص، فإنما يعتبر بوهم الاختلاف لمنع القصاص لا لمنع وجوب الدية، فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولأنهما انتدبا إلى ما ندبهما الشرع إليه، وهو الاحتيال لدرء القصاص، واكتفيا بالشهادة على أصل القتل فلا يكون ذلك مبطلاً لشهادتهما، ولكن يقضى بالدية في ماله كما هو موجب قتل العمد إذا وجب المال، ولأن الشك يقع على الوجوب على العاقلة، إن كان القتل عمداً لا يجب، وإن لم يكن يجب، ويحتمل كلا الأمرين فلا يجب على العاقلة بالشك والاحتمال.
وإذا غصب الرجل من آخر شيئاً فلا ينبغي للشهود أن يشهدوا أنه غصبه ولا أنها عليه، وينبغي لهم أن يقولوا: عايناه أخذ منه ألفاً، لأن الشاهد لا علم له بحقيقة الغصب، لجواز أنه أخذ منه ماله حق الأخذ بأن كانت هذه الألف ملكاً له ولا يعلم الشاهد، أو كان له قبل هذا المأخوذ منه ألف درهم دين بسبب من الأسباب، وقد ظفر بجنس حقه فأخذه، ومن ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه ولا يكون غاصباً بل يكون مستوفياً حقه. وهذه المعاني غيب عن الشاهد، فثبت أنه لا علم للشاهد بحقيقة الغصب، إنما علمه بأخذ الألف من يده لمعاينته ذلك، فينبغي أن يشهد بهذا القدر لا غير، وكذلك لا يشهد أنها عليه لأن بما شهد من الأخذ، لا يثبت له العلم بوجود الدين عليه، فلا يسعه أن يشهد بذلك.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا ادعى رجل على رجل خمسمئة درهم فأنكر المدعى عليه، فجاء المدعي بشاهدين، فشهد أحد الشاهدين أن هذا المدعى عليه أقر للمدعي بخمسمئة درهم، وشهد الآخر أن المدعى عليه أقر لي وللمدعي بألف، فشهادة هذا الشاهد باطلة؛ لأنه شهد بمال مشترك بينه وبين غيره، ولا يمكن تصحيح الشهادة كذلك، لأنه شاهد لنفسه ولا وجه إلى أن يصرف الشهادة إلى نصيب الشريك لما فيه من قسمة الدين قبل القبض وإنها باطلة، فإن قال هذا الذي شهد لنفسه وللمدعي: لم يكن لي عليه شيء، لكنه أقر بذلك عندي كاذباً، وقال المدعي: لم يكن لشاهدي هذا شركة في المال لكنه أقر بهذا بين يديه كاذباً، فالشهادة أيضاً باطلة في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: فالشهادة جائزة، أما عند أبي حنيفة: إنما لا تقبل لأن أحد الشاهدين شهد بخمسمئة والآخر بألف، وفي مثل هذا لا تقبل الشهادة عنده، ولأن الشهادة خرجت على وجه الفساد، فلا تنقلب جائزة بإنكار الشركة.
كالمريض مرض الموت إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين مشترك وأنكر الوارث شركة نفسه، لا يصح الإقراء للأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله، لخروجه على وجه الفساد فلا تنقلب جائزة بإنكار الوارث الشركة. وعند أبي يوسف: لا تقبل الشهادة قياساً على هذه(8/520)
المسألة دون المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى قول أبي يوسف كقول محمد، وأما عند محمد: فتقبل الشهادة ههنا قياساً على المسألتين عنده، لكن عند محمد يقع الفرق بين مسألة «الكتاب» (156ب4) وبين مسألة إقرار المريض من وجه أن في مسألة الكتاب يشترط إنكار الشاهد الشركة مع إنكار المدعي الشركة، وهناك إنكار الأجنبي الشركة كاف عنده، والفرق: أن ههنا الشاهد لو ادعى الشركة فقد أقر للشاهد ببطلان شهادته، والشاهد متى أقر ببطلان شهادته تبطل الشهادة.
وإذا أنكر الشاهد الشركة وادعى المدعي الشركة فقد أقر المدعي ببطلان الشهادة وأقر المدعي ببطلان الشهادة فشرط إنكارهما الشركة لقبول الشهادة لهذا، أما في مسألة الإقرار: إذا كان الوارث مقراً بالشركة، وأنكر الأجنبي الشركة فالوارث وإن جعل مقراً ببطلان إقرار المريض لكن بهذا لا يبطل إقرار المريض للأجنبي، إذ ليس للوارث هذه الولاية فاكتفى بإنكار الأجنبي الشركة ثمة لهذا.
رجل ادعى على رجل مئة درهم أو مئة منّ من الحنطة أو ما أشبه ذلك، فقال المدعى عليه: قد قضيته، أو قال: قد أوصلته إليه، أو قال بالفارسية: كزارده أم رسانيده أم انجه دعوى ميكندباو، وجاء بشهود شهدوا أنه دفع إليه مئة درهم أعطاه مئة منّ من الحنطة ولكن لم يقل الشهود: أعطاه هذه المئة التي ادعاها المدعي قبل شهادتهم، لأنه أدى مثل ما وجب عليه وهذا هو الواجب في قضاء الدين، والبراءة متعلقة به على ما عرف، ولأنه بهذه الشهادة ثبت دفع المئة من الدافع إلى المدفوع إليه، والقول قول الدافع في بيان جهة الدفع، وفي «فتاوى النسفي» : أن هذه الشهادة لا تقبل ما لم يشهد الشهود أنه أعطاه المئة التي ادعاها هذا المدعي.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته يوم مات، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت، قال: بينة النكاح أولى، ويجعل كأنه طلق ثم تزوج، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: بينة الطلاق أولى، لأنهم أثبتوا زيادة أمر مع الإقرار بالنكاح، وهو الطلاق.
شهد لرجل أنه وارث فلان لا وارث له غيره، أو لا أعلم له وارثاً غيره، ثم شهد لرجل آخر بعد ذلك أنه لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره قبلت الشهادة، لأن قول الشاهد: لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره، ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد على ما عرف، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولأن التوفيق ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لا أعلم له وارثاً أخر حال ما شهدت ثم علمت، ولأن أكثر ما فيه أن في ضمن كلامه أن لا شهادة لي بوراثة شخص آخر.
ومن قال: لا شهادة لي في حادثة ثم شهد فيها تقبل شهادته؛ كذا ههنا.
وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بشراء محدود لا تقبل شهادتهما إذا لم يكن في شهادتهما. إقرار على نفسه لأن الإقرار كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، وما على نفسه يكون حجة، فلابد من بيانه.(8/521)
وسئل الفقيه أبو بكر الأعمش عمن لا يحسن الدعوى إذا أمر الحاكم رجلاً حتى علمه كيف يدعي، ثم شهد هذا المعلم على ذلك الدعوى، قال: لا بأس على الحاكم فيما فعل، ولا يصير المعلم بهذا التعليم مطعوناً وشهادته جائزة إذا كان عدلاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل أشهدني أن لفلان عليه ألف درهم ثم قضاه خمسمئة، ثم جاء المشهود له يسألني الشهادة وله شاهد آخر يشهد على الألف، قال: لا يشهد له إلا بخمسمئة، وهذا لأنه لو شهد له بالألف مع الشاهد الآخر تثبت الألف بشهادتهما، وبقوله وحده لا يثبت قضاء الخمسمئة، فيكون هو بالشهادة بالألف مسلطاً القاضي على القضاء بالألف، مع علمه أنه ليس له عليه إلا خمسمئة وأنه لا يجوز، فإن كره المشهود له ذلك فليقر عند القاضي بما قبض، ثم يشهد عليه بألف، قضاه منه خمسمئة ليكون مؤدياً ما عليه من الشهادة، ولا يكون بشهادة مسلطاً القاضي على القضاء عليه بما ليس عليه؛ لأنه قد برئ عن الخمسمئة بإقرار الطالب فلا حاجة إلى إثباته بالبينة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان * وقد عرفنا الابن يومئذ بعينه ونسبه * هذا العبد منه، والابن يومئذ في عياله وذلك منذ زمن طويل، ونحن لا نعرفه في هذه الساعة لم تجز شهادتهما، وكذلك لو شهدا أن لهذا الرجل على فلان بن فلان ألف درهم، ونحن عرفنا فلاناً يوم أشهدنا عليه بعينه ونسبه، ولكن لو رأيناه الساعة لا نعرفه لم تجز شهادتهما.
إذا شهد أحد الشاهدين على الكفالة بهذا اللفظ كوالي سيدهم كر فلان حنين كفت كم أكر فلان سرماه وأحال فلان يد مد من ضمان كروم من أين مال، أو شهد آخر: كم فلان حنين كنت كم من أين مال ضمان كردم أن فلان من فلان رأتا سرماه، لا تقبل هذه الشهادة لأن أحدهما شهد بضمان منجز، والآخر شهد بضمان معلق بينهما مغايرة فيمنع قبول الشهادة.
وإذا شهد رجل وامرأتان أنه قتل ابنه عمداً جازت شهادتهما.
ولو شهد رجل وامرأتان أن فلانة قتلت زوجها عمداً ولها منه ابن وله ورثة غير الابن لا يقبل الشهادة.
والفرق: أن قتل الأب ابنه لا يوجب القصاص بحال وإنما يوجب المال، وشهادة النساء مع الرجال حجة في باب المال، أما قتل المرأة زوجها يوجب القصاص، ثم يسقط بعد ذلك إذا صار ميراثاً لابنها، ألا ترى أنه يتصور استيفاء القصاص منها بحال بأن يموت الابن بعد الجراحة أولاً، ثم يموت الأب من الجراحة، فإن في تلك الصورة بقتل المرأة لزوجها، وإذا تصور استيفاء القصاص بهذا القتل بحال، كان هذا القتل موجباً القصاص من الابتداء، وشهادة النساء ليس بحجة في القصاص.
ولو شهدوا على رجلين أنهما اشتركا في قتل ابن أحدهما قبلت شهادتهم، لأن هذا القتل لا يوجب القصاص بحال، فكان موجباً الدية من الابتداء، فكانت شهادتهما على المال.(8/522)
رجل في يديه شيء جاء رجل وادعى أنه اشتراه منه، وجحد ذو اليد فأقام المدعي شاهدين، فشهدا أنه باعه منه ولا يدري أهو للبائع تقبل الشهادة ويقضي بذلك الشيء للمدعي. في «الزيادات» في باب المساومة.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» في هذا الباب أيضاً: رجل في يديه طيلسان ساومه به رجل فلم يتفق بينهما بيع، أو باعه بشرط الخيار لأحدهما، ثم ادعى أن الطيلسان كان لوالده يوم المساومة أو الشراء، وأن أباه مات أمس وتركها ميراثا له لم تسمع دعواه، ولو أقام على ذلك بينة لا تقبل بينته لأنه بالإقدام على الشراء أو المساومة، صار مقراً بالملك للبائع على رواية «الجامع» ، وبولاية البيع له على رواية «الزيادات» ، وبصحة الشراء على الروايات كلها، فيصير بدعوى ملك الأب والإرث من جهته متناقضاً، وهذا الجواب مشكل في فصل المساومة على رواية «الزيادات» ، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة صحت دعواه وقبلت بينته لأنه لم يوجد من الأب ما يجعله متناقضاً في دعواه الطيلسان لنفسه، فإن مات الأب بعد ذلك وورث الابن الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل.
أما على رواية «الزيادات» فلأن المساوم أو المشتري لم يصر مقراً بالملك للبايع إنما أقر بولاء البيع وبصحة الشراء؛ إلا أن القاضي لما قضى للأب بالطيلسان تبين أنه لم يكن له ولاية البيع وأن الشراء لم يكن صحيحاً، فصار مكذباً له في إقراره فالتحق بالعدم.
وأما على رواية «الجامع» فلأنه وإن صار مقراً بالملك له ولكن في ضمن الشراء، وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب، فيبطل ما ثبت في ضمنه.
وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات كان الطيلسان ميراثاً للابن؛ لأن الملك قد تقرر للأب بقضاء القاضي فلا يبطل بموته.
ولو لم يقض القاضي للأب حتى مات الأب، بطلت البينة لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء بالبينة، وقد انقطعت خصومة الأب بالموت والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً فبطلت البينة (157أ4) ضرورة.
وذكر هشام عن محمد رحمه الله في زيادات «النوادر» : أن من ساوم رجلاً بشيء ثم يشتري ذلك الشيء من آخر وقبضه، فللأول أن يأخذه من يده؛ لأنه لما ساوم فقد أقر له به، وإنه يخالف رواية «الزيادات» لأن المساومة على رواية «الزيادات» ليست بإقرار بالملك، بل هي إقرار بولاية البيع لا غير، وكذلك يخالف رواية «الجامع» ، لأن المساومة على رواية «الجامع» وإن كان إقراراً بالملك ولكن ظاهراً لا قطعاً، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، ولو أن المساوم بين عند المساومة أن هذا الطيلسان لوالده، وقد وكل هذا بالبيع وطلب منه البيع فلم يتفق بينهما بيع، ثم أقام المساوم بينة أنه كان لأبيه وأنه مات أمس وتركه ميراثاً له قبلت بينته لأنه لا مناقضة في هذا الفصل؛ لأنه صرح عند المساومة أنه ملك أبيه، ألا ترى أنه لو اشتراه ونقد ثمنه ثم أقام بينة أنه كان لأبيه يوم اشتراه، وأنه قد كان وكله ببيعه وأن لي ثمنه صحت دعواه، لأنه ساع في تقرير ما سبق(8/523)
منه وتم به لا في نقضه، وإنما ادعى ملك الثمن بسبب جديد لا يناقض الأول، وكذلك إذا ساومه، ثم ادعى بعد ذلك.
رجل في يديه طيلسان جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع الطيلسان منه بمئة دينار ونقده الثمن، وأقام على ذلك شاهدين، فشهدا أن صاحب اليد باع هذا الطيلسان من هذا المدعي، وقضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض حتى أقام الشاهدان بينة أن هذا الطيلسان لأبيهما يوم شهدا وأنه مات وتركه ميراثاً لهما، فالقاضي لا يسمع ذلك منهما ولا يقبل شهادتهم؛ لأنهما حين شهدا بالبيع على صاحب اليد فقد أقرا بالملك له على رواية «الجامع» وبولاية البيع على رواية «الزيادات» ، فصارا بهذه الدعوى متناقضين ساعيين في نقض ما أوجبا وإتمام البيع، وكذلك لو ادعياه لغيرهما بالوكالة عنه لم تصح دعواهما، لأن المتناقض كما يصحح الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره، عرف ذلك في كتاب الدعوى ولو استحق الطيلسان يستحق غيرهما وقضى القاضي له به، ثم وصل إلى يديهما لم يؤمرا بالتسليم إلى ذلك البائع، أما على رواية «الزيادات» فلأن الشهادة على البيع ليست بإقرار بالملك للبائع، وعلى رواية «الجامع» وإن كان إقراراً ولكن في ضمن الشهادة، وقد بطلت شهادتهما حين قضى القاضي بالطيلسان للمستحق، فيبطل ما ثبت في ضمن الشهادة من الإقرار، ولا يؤمران بالتسليم إلى المشتري أيضاً، وإن كانت الشهادة بالبيع شهادة بالملك للمشتري ولكن في ضمن البيع وقد بطل البيع بقضاء القاضي بالطيلسان للمستحق، فبطل ما ثبت في ضمنه من الشهادة بالملك للمشتري.p
ولو أن الشاهدين بينا للقاضي يوم الشهادة على البيع، فقالا: هذا الطيلسان لنا، أو قالا: لأبينا أو قالا: لفلان وقد باع هذا من هذا، ثم إنهما أقاما البينة أن الطيلسان لنا ورثناه من أبينا أو من فلان الذي أقرا له، وقالا: فلان وكلنا بالخصومة، صح ذلك منهما لأن معنى التناقض ههنا قد انعدم؛ لأنهما لما بينا ذلك عند الشهادة لم يشهدا بالملك للبائع ولا اعترفا بصحة البيع فصحت دعواهما وقبلت شهادتهما.
ولو أن الشاهدين لم يبينا للقاضي شيئاً ولم يشهدا عند القاضي بالبيع، ولكن قالا للقاضي قولاً من غير شهادة: إن هذا باع الطيلسان من هذا، ثم أقاما البينة على أن ذلك لهما وعلى شيء مما وصفا، سمع بينتهما بخلاف ما إذا شهدا عند القاضي.
والفرق: وهو أن الشهادة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى بيع صحيح موجب الملك للمشتري، لأن الشهادة حجة موجبة للقضاء، والقاضي إنما يقضي ببيع صحيح موجب الملك للمشتري، والشهادة بصحة البيع وبالملك للمشتري يمنع الدعوى لنفسه لمكان التناقض عل ما مر، أما مجرد القول من غير أن يكون شهادة لا ينصرف إلى بيع صحيح لا محالة يحتمل أن يكون إخباراً عن البيع الصحيح، ويحتمل أن يكون لشكنا أن هذا الشخص باع مالنا أو مال أبينا وماله، وذلك وعلى هذا التقدير لا يثبت التناقض، فلا يمنع الدعوى بالشك والاحتمال.
والهبة والصدقة مع القبض بمنزلة البيع حتى لو شهدا على الهبة أو الصدقة مع(8/524)
القبض، ثم ادعيا بعد ذلك لأنفسهما لا تسمع دعواهما، لأن المعنى يجمع الكل وهو التناقض وكذلك النكاح بمنزلة البيع حتى لو شهدا على النكاح على الطيلسان بأن شهدا أنه جعل الطيلسان مهراً، ثم ادعيا الدار لأنفسهما أو لأبيهما يوم شهدا لم يسمع ذلك منهما لمكان التناقض وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» ؛ لأن مطلق شهادتهما بالإجارة إقرار بالملك للآجر، وإنه يناقض دعوى الملك لأنفسهما، أما لا يوافق رواية «الزيادات» لأن شهادتهما بالإجارة ليست بإقرار بالملك للآجر بل هو إقرار بولاية الإجارة، وإنه لا يناقض دعوى الملك لنفسه، فينبغي أن تسمع دعواه فيما يرجع إلى رقبة الدار إن كانت لا تسمع فيما يرجع إلى استخراجها من يد المستأجر؛ وكذلك في هذه المسائل، لو ادعيا لغيرهما بوكالة ذلك الغير لم تصح دعواهما لما ذكرنا: أن التناقض كما يمنع الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره.
فإن كان الشاهدان قالا: كانت لنا يوم شهدنا بالإجارة وهذا الآجر كان وكيلنا في الإجارة، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالإجارة، وهذا الآجر كان وكيل أبينا، وأقاما البينة على ذلك قبلت شهادتهما على رقبة الدار لعدم التناقض؛ لأنهما أقرا أنه آجر له حق الإجارة، والآن يقولان هكذا فتسمع دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الزيادات» ، أما لا يوافق رواية «الجامع» لأن شهادتهما بمطلق الإجارة إقرار بالملك للآجر.
ولو أقاما البينة على أن الدار كانت لهما، أو كانت لأبيهما يوم شهدا بالإجارة إلا أن شهودها لم يشهدوا أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما في الإجارة لا تصح دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» لأن التوكيل لم يثبت لعدم البينة على التوكيل بقي الآجر آجراً مطلقاً، وإجارة الآجر مطلقاً تكون لنفسه على رواية «الجامع» وإنه يناقض دعوى الملك لنفسه.
ثم إذا قبلت الشهادة على رقبة الدار إذا شهد شهودهما أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما على نحو ما ذكرنا، ينظر بعد ذلك إن كان المستأجر معترفاً كانت الشهادة الأولى وهي الشهادة على الإجارة ماضية وكان الأجر لهما، لأنه تبين أنهما شهدا على أنفسهما أو على أبيهما، وشهادة الإنسان على نفسه وعلى أبيه مقبولة، غير أن في مسألة الأب يحكم ببطلان الإجارة من يوم موت الأب، لأن موت الموكل في باب الإجارة يبطل الإجارة بخلاف موت الوكيل في باب الإجارة، والفرق عرف في كتاب الإجارة.
ولو كان المستأجر جاحداً للإجارة كانت الشهادة الأولى باطلة، لأنه تبين أنهما بالشهادة الأولى شهدا لأنفسهما أو لأبيهما، وشهادة الإنسان لنفسه ولأبيه باطلة، حتى لو كانت الشهادة الأولى لأخيهما والباقي بحاله كانت الشهادة الأولى ماضية، لأنه تبين أنهما بالشهادة شهدا لأخيهما، وشهادة الإنسان لأخيه مقبولة، والذي ذكرنا في مسألة الإجارة كذلك فكذلك في مسالة الشراء حتى إن الشاهدين لو قالا: الدار كانت لنا، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالبيع، وإن البائع كان وكيلاً عنا أو عن أبينا في البيع، وأقاما البينة على ذلك كله، قبلت بينتهما، وهذا الجواب لا يوافق رواية «الجامع» أما يوافق(8/525)
رواية «الزيادات» ، فبعد ذلك إن كان المشتري معترفاً بالشراء كانت الشهادة الأولى، وهي الشهادة على الشراء ماضية وكان الثمن لهما، وإن كان جاحداً للشراء كانت الشهادة الأولى باطلة على نحو ما بينا، ولو كانت الشهادة الأولى للأخ والباقي بحاله، فالشهادة الأولى ماضية على كل حال على نحو ما بينا.
الأخوان إذا زوجا أختهما وهي صغيرة ثم أدركت فشهدا أنها اختارت نفسها لا تقبل شهادتهم، ولو كانت أمة بين رجلين ولها زوج أعتقاها ثم شهدا أنها اختارت نفسها قبلت شهادتهما.
في كتاب «العيون» شهد اثنان أن زوج فلانة قد مات أو قتل، وشهد اثنان أنه حي فالشهادة على الموت والقتل أولى (157ب4) في «وصايا عصام» المشهود عليه إذا أقام أولئك الشهود لحق نفسه، فإن كان قال: إنهم كاذبون فيما شهدوا عليّ فقد فسقهم، لا تقبل شهادتهم له، وإن لم يرد على الإمكان قبلت شهادتهم له.
إذا غاب الشاهدان أو ماتا بعد القضاء قبل الإمضاء ففيما إذا قامت الشهادة على المال أو (على) ما هو نظير المال مما يثبت مع الشبهات كالنكاح والطلاق لا يمنع القضاء؛ وفيما إذا قامت الشهادة على الحد، إن كان الحد رجماً لا يستوفى عندنا، وإن كان قطعاً أو جلداً لا يقطع ولا يجلد عند أبي حنيفة أولاً، ثم رجع وقال: يقطع ويجلد وهو قولهما، وفيما إذا قامت الشهادة على القصاص، القياس على قول لأبي حنيفة الأول في الحدود: أن لا يستوفى، وفي الاستحسان: يستوفى.
وإن غابا أو ماتا قبل القضاء، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا غابا أو ماتا بعد القضاء قبل الاستيفاء، حتى إن في المال ونظائره القاضي يقضي وفي الحد إن كان رجماً لا يقضي وإن كان جلداً أو قطعاً، فكذلك عند أبي حنيفة أولاً، وفي قوله الآخر وهو قولهما: يقضي، وفي القصاص القياس على قوله الأول في الحدود أن لا يقضي، وفي الاستحسان: يقضي.
وإن فسقا أو عميا أو ارتدا أو ذهب عقولهما وكان ذلك بعد القضاء قبل الإمضاء، ففي المال ونظائره يقضي، وفي الحدود لا يقضي، وفي القصاص يقضي قياساً، وإن كان ذلك قبل القضاء، فالقاضي لا يقضي في الفصول كلها فيما عدا العمى بلا خلاف، وفي العمى عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقد مرّت مسألة الأعمى قبل هذا.
قد ذكرنا في كتاب «أدب القاضي» أن الجرح المفرد يثبت باختيار المزكين ولا يثبت بالشهادة حتى إن المشهود عليه إذا (جاء) بشهود يشهدون بالجرح المفرد عند القاضي، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو جاء المشهود عليه بالمزكين حتى شهدوا بالجرح المفرد عند القاضي، لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «العلل» أن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ وعلل فقال: لأن لهم بد من إظهار هذه الفاحشة بأن يخبروا القاضي سراً، فإذا أظهروها صاروا فسقة، فلا تقبل شهادتهم لهذا تجوز الشهادة على الشهادة.(8/526)
في شهادات «الجامع» في آخر باب الشهادة على القتل: ترك السنة لا يوجب سقوط العدالة، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «أدب القاضي» للخصاف في باب شهادة الأقلف، قال: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعت أن مولاها أقر به وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين، فشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر على إقرار المولى وإنه قول.
فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة بعلمه بطريقين: بالمعاينة بأن اتفق له ذلك في باب الزنا، أو بالشهرة والتسامع وكونها على فراشه يعلم بإقرار المولى إن كانت الوالدة أمة، وشرعاً إن كانت الوالدة منكوحة أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد.
فإن قيل: إذا كان طريق معرفة الشاهد ولادة ولد الأمة على فراش المولى إقرار المولى أنها ولدت، فينبغي أن تقبل الشهادة في مسألتنا، لأن شهادة كل واحد من الشاهدين قامت على القول.
قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش، فالفراش في الأمة إن كان لا يعلمه الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها الشاهد بالمعاينة من غير إقرار المولى، فشهادتهما في حق الفراش إن قامت على القول معنى فشهادتهما على الولادة ما قامت على القول، فلا تثبت الولادة وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي.
وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى بالولادة، أو اتفقا على نفس الولادة على فراشه قبلت لاتفاقهما على القول في الفصل الأول، وعلى الفعل في الفصل الثاني.
شهد شاهدان على رجل بدار، فسأل القاضي عن الشهود أين خانه كه كو أهي من دمنديكر شنبه است بادو شنبه؟ فقال الشهو: يك شنبه، فنظروا فإذا بعضها يك شنبه وبعضها دو شنبه فقد قيل: هذه الشهادة (غير جائزة) لجواز أنها كانت يك شنبه وقت تحمل الشهادة، ثم صار بعضها وبعد ذلك دو شنبه، وعلى قياس ما إذا شهدوا بدابة وقالوا: سه ساله است، فنظروا فإذا هي جهار مسألة أنه لا تقبل الشهادة، ولم يقل أحد بقبول الشهادة لجواز أنها كانت سه ساله وقت تحمل الشهادة، والآن صارت جهار ساله ينبغي أن لا تقبل شهادتهم في مسألة الدار.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : امرأة ادعت أن مهرها ألف عطريفية، وشهد الشهود لها بألف عدلية مهرها، إن القاضي يقضي بشهادة الشهود يعني بالعدليات.
ولو ادعى على آخر أنه قبض منه مئة البعض عطريفي، والبعض عدلي، والشهود شهدوا بقبض مئة عطريفية، قال شمس الإسلام: إن شهدوا بالقبض لا تقبل شهادتهم، وإن شهدوا على إقراره بالقبض تقبل، وينبغي أن يقال: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن الدعوى وقعت في المجهول؛ لأن المدعي لم يبين قدر كل واحد منهما.
وفي هذا الموضع أيضاً لو كتب في المحضر: شهدوا على وفق الدعوى، لا يفتى(8/527)
بصحة المحضر، لأن الشهادة على وفق الدعوى أن يقول الشاهد: هذا العين ملكي، كما قال المدعي: هذا العين ملكي.
ادعى على آخر ألف درهم، وقال: خمسمئة منها من ثمن عبد بعته منه وقبضه وخمسمئة من ثمن متاع بعته منه وقبضه وجاء بشاهدين، شهد أحدهما بخمسمئة من ثمن عبد، وشهد آخر بخمسمئة من ثمن متاع، فإنه يجوز من ذلك خمسمئة؛ لأنهما اتفقا على الخمسمئة، وذكر السبب ليس بشرط، فهذا يدل على أنه إذا ادعى ديناً بسبب، وشهد له الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل الشهادة.
ولو ادعى على رجل ألف درهم، وجاء بشاهدين أحدهما: أنه أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن نبات قبضها، وشهد آخر أنه أقر أن عليه ألف درهم من ثمن طعام قد قبضه، وقال المدعي: قد كان أقر بذلك كله لي، فإن القاضي يقضي له بالألف.
في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل تحته أمة أعتقت، فشهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً بعدما عتقت، وشهد الآخر أنه طلقها ثلاثاً قبل العتق فهي ثنتان، وله أن يراجعها؛ لأن الثلاث الذي شهد بها في حالة الرق واحدة منها ليست بشيء، فلم يجتمعا إلا على الثنتين، ولم يتفقا أيضاً على أن الطلاق كان قبل العتق، فلا تنقطع الرجعة بالشك.
إذا قال الشاهد: كل شهادة شهدتها لفلان في حادثة كذا فهي زور، ثم شهد في تلك الحادثة لفلان تقبل شهادته.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا قال: ليست لفلان عندي شهادة في أمر، ثم شهد له في حادثة تقبل شهادته في هذا الموضع.
ادعى شراء دار من رجل وجاء بشهود شهدوا على الشراء من وكيله لا تقبل الشهادة، وكذلك إذا شهدوا أن فلاناً باع، وهذا المدعى عليه أجاز بيعه، وإذا كانت الدار في يدي رجل ادعى أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام على ذلك بينة وأقام فلان بينة أن صاحب اليد وهبها له في شوال على أن عوضه منهما خمسمئة وقبضا جميعاً، فالقاضي يقضي بالبينة بشرط العوض، لأن الهبة بشرط العوض بعد اتصال القبض بالبدلين والبيع سواء، ولو أثبت المشتري بيعه منه بخمسمئة في شوال انفسخ الأول وبقي الشراء بخمسمئة، فكذا إذا أثبت الهبة بشرط العوض.
ولو أن المدعى عليه الشراء لم يقم البينة على الهبة بشرط العوض، وإنما أقام البينة أنه ارتهنها من صاحب اليد في شوال بخمسمئة، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: البيع أولى ويجب على المشتري أن يقضي البائع خمسمئة أخرى سوى ما أعطاه في شوال وقال محمد: الرهن أولى ويكون رهناً عند المشتري بخمسمئة.
من مشايخنا من قال: الخلاف في هذه المسالة راجع إلى أن الرهن إذا تأخر عن البيع هل يفسخ البيع؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يفسخ، فبقي البيع بألف درهم صحيحاً وصار البائع راهناً ملك المشتري من المشتري بخمسمئة فلم يصح إلا أن(8/528)
المشتري ببينته أنه ارتهنها في شوال بخمسائة أثبت لنفسه على البائع خمسمئة درهم ديناً، وللبائع على المشتري ألف درهم فقدر خمسمئة يلتقيان قصاصاً، ويجب على المشتري رد خمسمئة أخرى على البائع وعند محمد يفسخ البيع بالرهن، كما لو كان مكانه (158أ4) بيعاً، ومن مشايخنا من قال: البيع لا ينفسخ بالرهن عند محمد، كما هو قولهما إلا أن محمداً لا يقضي بالبيع مع ذلك؛ لأن المشتري ببينته أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري في شوال، فلا تصح دعواه أنه باعه منه في رمضان.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: هذا الكلام في حد التعارض؛ لأن المشتري ببينته كما أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري أنه اشترى منه في رمضان، فلا تصح دعواه أنه ارتهن منه في شوال، وعلم أن هذا الكلام في حد التعارض بقي ما قالا إن الرهن دون البيع، فلا ينفسخ به البيع.
وإذا كانت الدار في يدي رجل شراءً فاسداً ادعاها آخر، فإن المشتري ينتصب خصماً للمدعي.
لأن الشراء الفاسد يفيد الملك للمشتري بعد القبض، والمالك ينتصب خصماً للمدعي، وإذا كانت الدار بين شريكين شركة ميراث، أو غير ذلك غاب أحدهما جاء رجل وادعى على الحاضر أنه اشترى من الغائب نصيبه فإنه لا تقبل بينته؛ لأنه يقيم بينة على الغائب وليس عنه خصم حاضر أما إذا كانت الشركة لا بجهة الإرث فظاهر، وأما إذا كانت الشركة بجهة الإرث؛ لأن أحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يدعى على باقي الورثة؛ وإنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعى على الميت، وهنا دعوى الشراء يوجه على الغائب لا على الميت، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فهذه بينة قامت لا على خصم فلا تقبل.
بخلاف ما لو كانت ميراثاً بينهم وادعى المدعي أنه اشترى نصفها، أو كلها من الميت الذي ورثوها عنه حيث يقضى بذلك على الحاضر والغائب، لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما يدعى على الميت، والدعوى ههنا وقعت على الميت، فإن المدعي ادعى الشراء على الميت، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب، كما لو ادعى رجل ديناً على الميت، وبعض الورثة حضور والبعض غيّب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب كذا ههنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ثوب في يدي رجل ادعاه رجل، فشهد شاهدان للمدعي على صاحب اليد أنه أقر أن هذا الثوب لهذا المدعي، وشهد آخران على المدعي أنه أقر أن هذا الثوب لصاحب اليد تهاترت البينتان، ويترك الثوب في يد صاحب اليد، لأنه لما جهل التاريخ بين الإقرارين جعل كأنهما وقعا معاً، فيبطل الإقراران ويترك الثوب في يد صاحب اليد، كما كان.
دار في يدي رجلين، أقام كل واحد منهما بينة على أن صاحبه أقر له بها ووقتا، وتاريخ أحدهما أسبق فإنه يقضى بالدار لصاحب الوقت الآخر.
فرق بين هذا وبينما إذا لم يوقتا فإن هناك تتهاتر البينتان؛ لأنهما إذا لم يوقتا يجعل(8/529)
كأنهما وقعا معاً، ولو وقع الإقراران معاً بطلا، فكذا إذا جعلا كذلك، أما إذا وقتا وأثبتا ذلك بالبينة صار الوقت الثابت بالبينة كالوقت الثابت عياناً، ولو عاينا أن أحدهما أقر لصاحبه مثلاً منذ سنة ثم أقر صاحبه له بعد ذلك منذ شهر يقضى للمقر له آخراً؛ لأن الإقرار الآخر يفسخ الإقرار الأول؛ لأن الإقرار مما يرتد بالرد، فإذا أقر المقر له الأول بعد ذلك فهذا الإقرار منه إقرار لصاحبه، ورد الإقرار الأول، فبطل الإقرار الأول بالثاني لكون الثاني رداً له ولم يتصل الرد بالإقرار الثاني فبقي صحيحاً.
قال في «الكتاب» : ولا يشبه هذا البيع، فقد فرق بين البيع والإقرار، فمن المشايخ من طعن على محمد، وقال: لا فرق بينهما، فإن في البيع متى ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه ووقتا ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما أن صاحبه باع هذا العين منه منذ شهر يقضي لآخرهما وقتاً؛ لأن التاريخ بين الشراءين ثبت بالبينة، فيعتبر بما لو ثبت معاينة. ولو عاينا أن أحدهما اشترى هذا العين من صاحبه منذ سنة، ثم اشتراه صاحبه منه منذ شهر، يقضي لآخرهما وقتاً، فعلم أنه لا تفرقة بين الإقرار وبين البيع.
بعض مشايخنا أجابوا عن هذا الطعن، وقالوا: لم يرد محمد بهذه التفرقة في الحكم والجواب، فإن في الموضعين جميعاً يقضي لآخرهما تاريخاً، وإنما أراد به التفرقة في الكنه، فإن الكنه في مسألة الإقرار أنه يقضي لآخرهما تاريخاً؛ لأن إقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، وليس مسألة البيع أنه يقضي لآخرهما تاريخاً أن البيع الثاني ينسخ البيع الأول، بل يبقى البيع الأول على حاله ويصح البيع الثاني بعده فافترقا في الكنه، فلما أراد بهذه التفرقة التفرقة في الكنه، أما الجواب في الفصلين واحد.
من المشايخ من قال: أراد محمد رحمه الله بهذه التفرقة، التفرقة في الحكم والجواب، إلا أنه لم يرد بمسألة البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه البيع وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، كما هو موضوع مسألة الإقرار، وإنما أراد بمسألة البيع: ما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من ثالث وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق كان السابق أولى، وأراد بمسألة الإقرار ما إذا ادعى كل واحد منهما إقرار صاحبه وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضي لآخرهما تاريخاً؛ فالتفرقة بين المسألتين على هذا الوضع ثابت كما ذكر محمد رحمه الله.
ذكر بعد هذا إذا ادعى كل واحد منهما الشراء على صاحبه، فقال: إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنتين، وادعى صاحبه عليه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنة، فهي منذ سنتين ولا يشبه هذا الإقرار، فقد فسر مسألة الشراء بعده ما ذكره مجملاً، ويبين بهذا التفسير أن موضوع المسألة المتقدمة في البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه، كما أن موضوع مسألة الإقرار أن كل واحد منهما ادعى الإقرار على صاحبه، إلا أنه لم يرد بقوله في مسألة البيع: فهي منذ سنتين أنه يقضي لمن ادعى الشراء منذ سنتين، فإنه متى ادعى كل واحد منهما الشراء على هذا الوجه يقضي لآخرهما وقتاً، وإنما أراد به أن الشراء منذ سنتين ثابت كالشراء منذ سنة؛(8/530)
لأن الشراء الثاني لا يفسخ الأول فيكون الأول ثابتاً، ثم يثبت الثاني بعد ذلك فيقضي للآخر ويكون الأول ثابتاً، حتى تقع المقاصة بين الثمنين إن كانا من جنس واحد، ولم ينفذا ولا يشبه البيع الإقرار، فإن الإقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، فعلى هذا التفرقة بين الإقرار والبيع ثابت من حيث الجواب والنكتة.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» مسألة لم يذكرها شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وصورتها: دار في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أن فلاناً أقر له بها، وأقاما البينة ووقتا، ادعيا الإقرار على رجل واحد بأن ادعى الإقرار على زيد مثلاً ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما الإقرار منذ سنة، وادعى الآخر الإقرار منذ شهر، فهي لصاحب الوقت الآخر، ولا يشبه هذا البيع، يريد به إذا ادعى كل واحد منهما أن زيد باعها منه ووقتا، ووقت أحدهما أسبق وأقاما البينة فإنه يقضى لأسبقهما تاريخاً.
والفرق: أن في مسألة الإقرار صاحب الوقت الأخير أثبت إقرار زيد بالدار له منذ شهر، وهذا يمنع دعوى زيد الملك لنفسه منذ سنة، فيمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه منذ سنة بإقرار زيد له بها، وصاحب الوقت الأول أثبت إقرار زيد بالدار لنفسه منذ سنة، وذلك لا يمنع دعوى زيد الملك فيها لنفسه منذ شهر فلا يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر، وفي البيع ثبوت الشراء من زيد منذ شهر لا يمنع زيداً من دعوى الملك لنفسه منذ سنة، فإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الآخر فيه، فإنما أثبت الآخر شراءه بعد ذلك من غير المالك.
وإذا ادعى ثوباً في يدي رجل، وقال: ذهب مني منذ عشرة أيام، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه ذهب منه منذ عشرة أيام، وشهد الآخر أنه ذهب منه منذ خمسة عشر يوماً لا تقبل هذه الشهادة، ووقع هذه المسألة في بعض النسخ بالذال: ذهب مني، وفي بعض النسخ بالواو: وهب مني وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» وإنما لم تقبل الشهادة؛ لأن المدعي أكذب شاهده الذي (شهد) بالهبة منذ خمسة عشر. قال في «المختصر» : ولو لم يوقت المدعي جازت الشهادة؛ لأنه غير كذب واحد منهما، والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكماً، فاختلاف (158ب4) الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك ثلاث بنين وداراً، فغاب اثنان منهم وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له، فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وتركها ميراثاً لي ولأخوي فلان وفلان، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما، وصدقه المدعي فيما قال، وأقام المدعي البينة أن الدار داره، قبلت بينته وقضي بالدار للمدعي.
وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر؛ ويد المودع ليست يد خصومة، ولكن الوجه في ذلك: أن كون المودع غير خصم من وجه في حق المدعي لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً، ثم إن(8/531)
المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك، ثم أقام البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته، وههنا وجد ما يجعل الابن الحاضر خصماً في كل الدار، لأن الدعوى في الحقيقة وقع على الميت والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت، بخلاف المسألة المخمسة؛ لأن هناك لم يوجد ما أوجب كونه خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لا يصبح خصماً.
فإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ثم حضر الغائبان، فهذا على وجهين، فالأول: إذا صدقا الابن الحاضر فيما قال، وجحدا حق المدعي، وفي هذا الوجه القضاء عليهما نافذ؛ لأن الابن الحاضر انتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة، فكان القضاء عيه قضاء على الكل.
الوجه الثاني: إذا كذبا الابن الحاضر، وادعيا ثلثي الدار لأنفسهما من غير ميراث الأب لم يكن القضاء نافذاً عيهما ورد عليهما الثلثان، ويقال للمدعي: أعد بينتك وإلا فلا حق لك في الثلثين وإنما كان كذلك؛ لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة في تركة الميت لا في مال آخر؛ ولم يثبت كون نصيب الغائبين من الدار تركة الميت، وثبت كون الحاضر مودعاً في ذلك والمودع لا يصير خصماً للمدعي إلا إذا وجد ما يوجب كونه خصماً من جهة المودع، ولم يوجد ذلك ههنا، فكانت البينة في حق الثلثين اللذين هما نصيب الغائبين قائمة على غير الخصم، فلا تكون معتبرة، هذا (إذا) كانت جميع الدار في يد الابن الحاضر، فأما إذا كان نصيب الغائبين في يدي رجل آخر وديعة، فأقر المودع بمثل ما أقر به الابن الحاضر، وصدقه المدعي في ذلك، لم يقض للمدعي بنصيب الغائبين، ويقضي له بنصيب الحاضر لأنه ثبت كون ذي اليد لنصيب الغائبين مودعاً، ولم يثبت كونه خصماً من وجه آخر فبطلت الخصومة معه، ومع الابن الحاضر لا تقبل الخصومة إلا في القدر الذي في يديه، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما (في) يديه؛ لأن الوارث قائم مقام الميت لو كان حياً ولو كان الميت حياً لا يكون خصماً فيما ليس في يديه، وكذا الذي قام مقامه هذا الذي ذكرنا إذا كان الثلثان في يد غير الابن الحاضر.
فأما إذا كانت جميع الدار في يد غير الابن الحاضر، فأقر الذي في يديه الدار: أن الدار وديعة للغائبين وأنها وديعة للغائبين، وأنها ميراث من الميت، وصدقه الابن الحاضر المدعي في ذلك، فالمودع ليس بخصم للمدعي، وكذلك الابن الحاضر لا يكون خصماً للمدعي، أما المودع فظاهر، وأما الابن الحاضر؛ فلأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما كان في يده لا فيما كان في يد غيره.
وفي كتاب الرجوع: شاهدان شهدا على شهادة شاهدين على رجل أنه أعتق عبده، ولم يقض القاضي بشهادتهما حتى حضر الأصلان وأنكرا أن يكونا أشهداهما على شيء بطلت شهادتهما؛ لأن حضره الأصول قبل اتصال القضاء بشهادة الفروع يمنع القضاء بشهادة الفروع لكون الفروع بدلاً عن الأصول، فإذا اشترى الفرعان ذلك العبد، أو اشتراه(8/532)
أحدهما لم يعتق العبد وجاز الشراء، لأن الفرع ما أقر بحرية هذا العبد بل حكى إخبار الأصل أن المالك أعتقه، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فلا يصيران مقرين بالحرية. وكذلك الأصلان لو اشتريا العبد لم يعتق عليهما؛ لأنهما أنكرا الإشهاد، فلم يصيرا مقرين بحرية العبد.
ولو اشترى هذا العبد واحد من الفرعين، وواحد من الأصلين عتق؛ لأن في زعم هذا الفرع المشتري أن شريكي في الشراء وهو أحد الأصلين أقر بعتقه، وقد دخل نصفه في ملكه، فنفذ إقراره عليه، فصار هذا الفرع مقراً بعتق نصيب شريكه، فيصير ههنا بمنزلة عبد بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه أقر بعتق نصيبه، فأنكر صاحبه ذلك، وهناك العبد يعتق ويسعى لكل واحد منهما في نصف قيمته، موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما العبد يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته على كل حال. وهل يسعى للشاهد؟ إن كان المشهود عليه معسراً يسعى، وإن كان موسراً لا يسعى فههنا كذلك.
ولو اشتراه الأصلان أو أحدهما، ثم اشتراه الفرعان أو أحدهما حكم بعتقه، لأن في زعم المشتري من الفرعين أنه حين دخل في ملك الأصلين أو أحدهما عتق عليه، فصار المشتري من الفرعين مقراً على بائعه بحرية العبد، وكل من اشترى عبداً أقر بحريته على بائعه عتق على المشتري بحكم إقراره، وقد عرف ذلك في موضعه، ولا سعاية على العبد لواحدٍ منهما؛ لأن في زعم البائع أن العبد لم يعتق علي، وأنا بعته عبداً، وفي زعم المشتري أنه عتق على البائع وأني اشتريته حراً، فكان كل واحد منهما مقراً ببراءة العبد عن السعاية، فلا تجب السعاية على واحد منهما، ويكون ولاؤه موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما يعني البائع والمشتري ينفيه عن نفسه.
ولو اشترى الفرعان أولالاً ثم اشتراه الأصلان لا يعتق؛ لأن الفرعين ما أقرا بحريته إنما حكيا إخبار الأصلين أن مالكه قد أعتقه، والأصلان أنكرا تلك الحكاية، فلم يثبت الإقرار بحريته ممن هو مالك في ملكه.
وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، وأقام على ذلك شاهدين، ثم أقام المشهود عليه بالألف شاهدين أنه قد أبرأه منها، وقد عدلوا جميعاً وقد اجتمعت البينتان جميعاً عند القاضي، فالقاضي يقضي بشهادة الذين شهدوا بالبراءة، ولا يقضي بشهادة الذين شهدوا بإيجاب الدين؛ لأن بينة المدعي قد بطلت بإقرار المدعى (لم يقر بالبراءة) ، فإذا بطلت بينة المدعي على إيجاب الدين صار كأن المدعى عليه تفرد بإقامة البينة. ولو تفرد بإقامة البينة قبلت بينته على البراءة فكذلك ههنا.
وصار هذا بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالبيع، وشهد آخران بالإقالة، فإنه يقضي بشهادة الذين شهدوا بالإقالة؛ لأن بينة مدعي البيع قد بطلت بإقرار المدعى عليه؛ ولأن القضاء بإيجاب الدين مع البراءة لا يفيد، لأن المقصود من الإيجاب الاستيفاء، ولا يمكن الاستيفاء مع وجود البراءة.(8/533)
وقول من قال: بأن القضاء بهما متعذر لأنهما يثبتان معاً في وقت واحد، لأن القاضي يقضي بهما في وقت واحد. والقضاء بإيجاب الدين والبراءة في وقت واحد باطل، يشكل بمسألة ذكرها في باب الرجوع عن النكاح والطلاق: وصورتها: إذا شهد شاهدان على رجل بالنكاح والطلاق جميعاً بمهر ألف ومهر مثلها خمسمئة، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول بها، فالقاضي يقضي بالنكاح والطلاق جميعاً، وإنما يقضي بهما في وقت واحد ومع هذا جاز.
وطريقه: أن بقضاء القاضي لا يقع النكاح والطلاق معاً إذ لا يتصور وقوعهما معاً، وإنما يقعان مرتباً على الوجه الذي يتصور، فكذلك البراءة لا تتصور إلا بعد وجوب الدين فلا تقعان معاً لو قضى القاضي بهما وإنما يقعان مرتباً، علمنا أن بطلان بينة المدعي بسبب إقرار المدعى عليه.
فإن قيل: إذا ثبت إقرار المدعى عليه بدعواه البراءة كان يجب أن يقال: بأن شهود البراءة إذا رجعوا يضمنون للمدعي؛ لأن الدين وجب بإقرار المدعى عليه، ثم سقط بشهادتهما بالبراءة مع هذا لا يضمنون، والجواب أن يقال بأن الدين وجب على المدعى عليه بإقراره في حق صحة البراءة؛ لأن البراءة لا تكون إلا بعد وجوب الدين، ولكن لا يقضي بالإيجاب في حق الاستيفاء، لأن الاستيفاء يكون بعد الوجوب، لأن إثبات حق الاستيفاء مع البراءة لا يتصور، وإذا لم يثبت الدين في حق الاستيفاء (159أ4) لم يصر شاهدا البراءة متلغين على صاحب المال شيئاً، فلا يضمنون، إلا أن يقيم المدعي البينة ثانياً أن له على المدعى عليه ألف درهم بحضرة شهود الإبراء، فإذا شهدوا بذلك ضمن شاهدا البراءة الدين للمدعي، وذلك لأن القاضي يقضي بإيجاب الدين على المدعى عليه في حق شاهدي البراءة؛ لأن الشهادة بالبراءة قد بطلت في حق شاهدي البراءة بالرجوع؛ فيمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الشهود حتى يضمنان بالبراءة، ولكن لا يقضى بإيجاب الدين في حق المدعى عليه؛ لأن الشهادة بالبراءة قائم في حقه، لأن الرجوع عن البراءة في حقه لم يصح، وإذا أمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الضمان على شهود الإبراء وجب القضاء، وإذا وجب القضاء صار الدين واجباً في حق شهود الإبراء، ثم سقط بشهادتهما بغير عوض فيضمنان للمدعي إذا رجعا، ويشترط حضرة الشهود وهي شهود الإبراء في إقامة البينة على الدين، لا حضرة المدعى عليه؛ لأن الاستحقاق بهذه البينة على شهود الإبراء لا على المدعى عليه، فيشترط حضرة شهود الإبراء لا حضرة المدعى عليه من هذا الوجه.
قال في كتاب الرجوع: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وقد كان أوصى بعتقه، فشهد شاهدان من ورثة الميت لرجل آخر بدين خمسمئة على الميت؛ لم تقبل الشهادة ويعتق العبد ويسعى في الثلثين ويأخذ الغريم دينه من نصيب الوارثين.
ولو شهدا بدين ألف درهم حتى كان مستغرقاً للتركة، جازت الشهادة وبيع العبد في الدين.
والفرق بينهما: أن العدل متى جر إلى نفسه مغنماً كان لا يستحق ذلك إلا بشهادته،(8/534)
لا تقبل الشهادة، فمتى كان أقل من قيمة العبد فالشاهدان يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما يثبتان بشهادتهما لأنفسهما حق بيع العبد، وهذا لم يكن ثابتاً بدون شهادتهما على ذلك.
فإن قبل: بثبوت الدين لا يتمكنان من بيعه لثبوت حق العتق للعبد في مقدار الثلث، ومتى ثبت الدين يتمكنان من بيعه بالدين، فهما بهذه الشهادة يثبتان هذا الحق لأنفسهما ولهما فيه منفعة، لأنه إذا بيع بالدين بطلت الوصية إذ لا يمكن تنفيذها مع بيع العبد، وإذا قضى دين الغريم خمسمئة تبقى لهما خمسمئة وقبل ثبوت هذا الدين كان يعتق ثلث العبد مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته للورثة، وإذا سعى يدخل الغريم في نصيبهم ويأخذ من ذلك خمسمئة ويبقى لهم أقل من خمسمئة فكانا جارين إلى أنفسهما مغنماً، فأما إذا كان الدين مثل قيمة العبد لم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما وإن أثبتا حق بيع العبد لأنفسهما؛ لأنه لا منفعة لهما في ذلك، لأنه متى بيع العبد قضي الدين من جميع الثمن، ولا يسلم لهما من بدل العبد شيء، فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً فقبلت شهادتهما.
و (لو) لم يكن الميت أوصى بعتقه ولكن أوصى به لرجل، وباقي المسألة بحاله: قبلت شهادتهما سواء شهدا بدين قليل أو كثير؛ لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ إذ لا يعود إليهما شيء لم يكن لهما قبل ذلك، لأنه إذا ثبت دين خمسمئة يباع نصف العبد بالدين، فيكون للموصى له ثلث النصف الباقي، وللورثة الثلثان، وكان هذا ثابتاً قبل الشهادة فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما فتقبل شهادتهما، والله أعلم بالصواب.(8/535)
كتاب الرجوع عن الشهادات
هذا الكتاب يشتمل على ستة عشر فصلاً:
1 * في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة، وفي بيان حكمه.
2 * في رجوع بعض الشهود عن الشهادة.
3 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح.
4 * في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع.
5 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول جميعاً.
6 * في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء.
7 * في الرجوع عن الشهادة في البيع والهبة.
8 * في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة.
9 * في الرجوع عن الشهادة على الشهادة.
10 * في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات.
11 * في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهن والعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة.
12 * في الرجوع عن الشهادة على المال على الدين وعلى الإبراء عن الدين، وما يتصل بذلك.
13 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في باب المواريث.
14 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية.
15 * في رجوع أهل الذمة عن الشهادات.
16 * في المتفرقات.(8/537)
الفصل الأول: في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة وفي بيان حكمه
أما بيان شرط صحته: فنقول: شرط صحته على الخصوص مجلس القاضي حتى لا يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، وشرطه يظهر فيما إذا ادعى المشهود عليه عند القاضي رجوع الشاهد في غير مجلس القاضي، وأنكر الشاهد ذلك، فأراد المشهود عليه إثباته بالبينة، وأراد استحلاف الشاهد ليس له ذلك لما نبين بعد هذا إن شاء الله.
وإذا أقر الشاهد عند القاضي أنه رجع عند غيره صح إقراره، وطريق صحته: أن يجعل هذا رجوعاً مبتدأ من الشاهد، لا أن يعتبر ذلك الرجوع الذي كان في غير مجلس القاضي.
وإنما شرطنا مجلس القاضي، لصحة الرجوع؛ لأن الرجوع فسخ للشهادة، لأن بالرجوع ثبت ضد ما أثبته بالشهادة، وفسخ الشيء إثبات ضده كفسخ البيع وأشباهه، فيعتبر بابتداء الشهادة، ثم شرط لابتداء الشهادة مجلس القاضي، فكذا يشترط لفسخها مجلس القاضي.
وأما بيان حكمه فنقول: رجوع الشاهد إن كان قبل القضاء يصح في حق نفسه وفي حق غيره حتى يجب على الشاهد التعزير، ولا يقضي القاضي بشهادته على المشهود عليه. وإن كان بعد القضاء، كان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: ينظر إلى حال الراجع إن كان حاله عند الرجوع أفضل من حاله وقت الشهادة في العدالة صح رجوعه في حق نفسه وفي حق غيره، حتى وجب عليه التعزير، وينقض القضاء ويرد المال على المشهود عليه، ولو كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند الشهادة في العدالة، أو دونه يجب عليه التعزير، ولكن لا ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، ولا يجب الضمان على الشاهد، وهو قول أستاذه حماد رحمهما الله.
ووجه ذلك: أن الرجوع كلام محتمل للصدق والكذب، فلا يجب العمل به ما لم يترجح فيه جهة الصدق على الكذب، وإنما يترجح جهة الصدق في الرجوع إذا كان حال الراجع عند الرجوع في العدالة أفضل. أما إذا كان في حالة العدالة عند الرجوع مثل حاله في العدالة عند الشهادة فلا، وهذا لأنه لو ترجح صدقه في الرجوع بمثل العدالة التي ترجح صدقه بها في الشهادة، فقد ثبت حكمان متنافيان بشيء واحد، لأنه ثبت صدقه في النفي والإثبات بعدالة واحدة، والنفي ضد الإثبات، فلا يجوز إثباتها بشيء واحد. فأما إذا كان حاله في العدالة عند الرجوع أفضل، فقد أثبتنا الصدق في النفي بدليل آخر غير الذي أثبتنا الصدق به في الإثبات وإنه جائز. وإذا كان حاله عند الرجوع في العدالة أفضل حتى يترجح جهة الصدق في الرجوع يترجح جهة الكذب في الشهادة، ويتبين أن القضاء حصل بغير حجة فيجب نقضه.
ثم رجع عن هذا القول. وقال: لا يصح رجوعه في حق غيره على كل حال حتى لا(8/539)
ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ووجه ذلك: أن الراجع برجوعه يقر على نفسه وعلى غيره:
يقر على نفسه: فإنه يقر أنه شهد بغير حق واستهلك على المشهود عليه ماله بغير حق وصار مستوجباً التعزير والضمان، ويقر على غيره: فإنه يقر أن القاضي قضى بغير حق وأن المشهود له أخذ ماله بغير حق، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح وإن كان المقر فاسقاً، وإقراره على غيره لا يصح وإن كان عدلاً، فصارفي حق هذا القاضي وجود هذا الرجوع وعدمه بمنزلة، وبهذا تبين لنا (أنه) يثبت الصدق في الرجوع بدليل زائد على ما أثبتنا الصدق به في الشهادة، وهو كونه إقراراً على نفسه، فصدقه في الرجوع ثابت بالعدالة وبكونه (159ب4) إقراراً على نفسه.
وإذا صح رجوع الشاهد ينظر بعد هذا إن لم يكن المشهود به مالاً، بأن كان قصاصاً أو نكاحاً، فلا ضمان على الشاهد عند علمائنا رحمهم الله، وإن صار الشاهد متلفاً لذلك بشهادته. وإن كان مالاً، فإن كان الإتلاف بعوض يعادله، فلا ضمان على الشاهد أيضاً، لأن الإتلاف بعوض كلاإتلاف وإن كان بعوض لا يعدله، فبقدر العوض لا ضمان ويجب الضمان فيما وراءه، فإن كان الإتلاف بغير عوض أصلاً يجب ضمان الكل، وهذا لأن في الإتلاف الحقيقي إنما يجب الضمان على المتلف جبراً لحق المتلف عليه، وهذا المعنى موجود في الإتلاف الحكمي الحاصل بالشهادة.
ثم إن كان المشهود به عيناً فللمشهود عليه أن يضمن الشاهد بعد الرجوع قبض المشهود له العين من المشهود عليه أو لم يقبض بعد، وإن كان المشهود به ديناً، فليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد للحال، وإنما يضمنها إذا استوفى المشهود له ذلك من المشهود عليه. هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» .
الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» سوى بين العين والدين، وقال: «ليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد في فصل العين قبل أن تؤخذ العين من يده» ، كما في فصل الدين.
والفرق على ما ذكره شيخ الإسلام: أن ما يجب على الشاهد من الضمان عند الرجوع ضمان إتلاف، وضمان الإتلاف مقيد بالمثل فمتى كان المشهود به عيناً فالشهود أزالوه عن ملكه بشهادتهما عند اتصال القضاء بها، ألا ترى أن تصرف المشهود عليه فيه بعد ذلك لا ينفذ؟ فلو أزلنا العين عن ملكيهما بأخذ الضمان منهما لا تنتفي المماثلة، أما إذا كان المشهود به ديناً، فالشهود ما أزالا عيناً عن ملكه، بل أوجبا عليه ديناً بغير حق، فلو استوفيا الضمان من الشهود قبل أن يستوفي المشهود له ذلك من المشهود عليه تنتفي به المماثلة؛ لأن المستوفى يكون عيناً، والعين خير من الدين، وينظر إلى قيمة المشهود (به) يوم القضاء، لأن وجوب الضمان عليهما بالإتلاف، والإتلاف حصل بالقضاء، فتعتبر القيمة يوم القضاء.
وإذا كان الرجوع عن الشهادة في مرض الشاهدين، وقضى القاضي بالضمان(8/540)
عليهما، فذلك بمنزلة إقرارهما بالدين في المرض، حتى لو ماتا من مرضهما وعليهما ديون الصحة بُدىء بديون الصحة؛ لأن ما وجب عليهما في المرض وجب بإقرارهما أنهما شهدا بزور، وكان دين المرض من هذا الوجه.
وإذا ادعى المشهود عليه الرجوع على الشاهد، وأراد استحلافه أو إثباته بالبينة، فهذا على وجهين:
الأول: أن يدعي الرجوع عند غير القاضي وفي هذا الوجه لا يستحلف الشاهد ولا يسمع بينة المشهود عليه على ذلك؛ لأنه يدعي رجوعاً باطلاً لا يتعلق به حكم؛ لأن الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فلم تصح دعواه، فلا يترتب عليه التحليف وسماع البينة.
الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً في مجلس قاض آخر، وإنه على وجهين أيضاً:
g
الأول: أن يدعي رجوعهما عند قاض، ولا يدعي قضاء القاضي عليهما بالرجوع، وفي هذا الوجه لا يستحلف أيضاً، و (لا) تسمع بينة المشهود عليه؛ لأن دعواه لم تصح، لأنه ادعى رجوعاً غير موجب الضمان؛ لأن الرجوع عن الشهادة لا يصير موجباً الضمان قبل قضاء القاضي، لأن الرجوع فسخ الشهادة فيعتبر بالشهادة، والشهادة لا توجب الحكم قبل اتصال القضاء بها حتى لو أراد المدعي إثبات ما شهد به الشهود عند قاض في مجلس قاض آخر بالبينة ليقضي له بذلك القاضي الآخر لا يسمع بينته، فكذا الرجوع لا يصير موجباً الضمان قبل اتصال القضاء به، فهو معنى قولنا: إن دعواه لم تصح.
الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً، وقضاء القاضي عليه بالرجوع، وفي هذا الوجه يستحلف الشاهد وتسمع بينة المشهود عليه على ذلك، لأن الدعوى قد صحت، لأنه ادعى رجوعاً موجباً للضمان، فيترتب عليه التحليف وسماع البينة، وإذا رجع الشاهد عن شهادته عند غير القاضي الذي شهد عنده أول مرة، فقامت عليه البينة بالرجوع وبقضاء القاضي عليه بالضمان، فهذا القاضي ينفذ ذلك عليه، فيأمره بأداء الضمان، وكذلك لو شهد عليه شاهدان عند القاضي أنه أقر أنه رجع عند قاض من القضاة، وقضى عليه بالضمان، فهذا القاضي يقضي بهذه الشهادة ويلزمه الضمان والله أعلم.
الفصل الثاني: في رجوع بعض الشهود عن الشهادة
يجب أن يعلم أن العبرة في باب الرجوع عن الشهادة في حق بقاء الحق ووجوب الضمان لبقاء من بقي لا لرجوع من رجع، حتى إنه إذا شهد ثلاثة نفر على رجل بدين ألف درهم مثلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال، ولو رجع واحد منهم فلا ضمان على الراجع، وهذا لأن وجوب الحق في الحقيقة بشهادة الشاهدين، لأن ما زاد على الشاهدين في هذه الحقوق فضل في حق القضاء إلا أن(8/541)
الشهود إذا كانوا أكثر من الاثنين يضاف القضاء ووجوب الحق إلى الكل لضرورة المزاحمة لاستواء حالهم، فإذا رجع واحد منهم زالت المزاحمة لزوال الاستواء، فظهر أن القضاء كان مضافاً إلى شهادة المثنى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا شهد بالحق ثلاثة ورجع واحد منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق، فلا يضمن الراجع شيئاً، وإذا رجع الاثنان منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فكان التالف بشهادة الراجعين نصف الحق، فيجب ضمان ذلك النصف عليهما لاستوائهما في ذلك.
وإن شهد رجل وامرأتان ثم رجعت المرأتان، فعليهما نصف المال؛ لأن المرأتين قامتا مقام رجل، وكأنه شهد بالحق رجلان فرجع واحد منهما، وهناك يجب على الراجع نصف الحق؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، وإن رجعت واحدة من المرأتين فعليها ربع المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته ثلاثة أرباع المال.
ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا، فلا ضمان على المرأة؛ لأن المرأة الواحدة لا شهادة لها فيما يطلع عليه الرجال، فلا يضاف ثبوت الحق إلى شهادتها.
وإن شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا، فعلى المرأتين ثلث الضمان، لأن شهادة المرأتين حالة الاختلاط بمنزلة شهادة رجل واحد؛ فكأنه شهد بالحق ثلاثة رجال.
وإن شهد رجل واحد وعشر نسوة، ثم رجعوا فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: النصف على الرجل والنصف على النسوة، لأن النسوة وإن كثرن أقمن مقام رجل واحد، كما في حالة الانفراد حتى إن النسوة وإن كثرن لا يقطع الحكم بشهادتهن فكذا في حالة الاجتماع، وصار تقدير مسألتنا: كأن رجلين شهدا ثم رجع واحد منهم، وعند أبي حنيفة الضمان عليهم أسداساً: سدسه على الرجل وخمسة أسداسه على النسوة؛ لأن حالة الاختلاط كل اثنتين من النسوة أقمن مقام رجل، ألا ترى أنه يقطع الحكم بشهادة رجل وامرأتين كما يقطع بشهادة رجلين، وصار تقدير مسألتنا: كأنه شهد ست رجال، ورجع خمسة.
وإن رجع ثمان نسوة فلا ضمان عليهن، وإن رجعت امرأة بعد الثمان فعليها وعلى الثمان ربع المال، وإن رجعت العاشرة بعد ذلك فعليها وعلى التسع ضمان نصف المال.
وإن شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع الرجل مع امرأة، فإنه يجب ضمان نصف المال، ويكون ذلك على الرجل خاصة عندهما؛ لأن النسوة وإن كثرن فعندهما أقمن مقام رجل واحد حالة الاختلاط والانفراد جميعاً، فكان نصف المال ثابتاً بشهادة النسوة، والنصف ثابتاً بشهادة النسوة والنصف ثابتاً بشهادة الرجل، فإذا بقي امرأتان على الشهادة فقد بقي منهن من يقوم بشهادتهما نصف المال، فعرفنا أن الحجة قد بطلت في حق النصف الثابتة بشهادة الرجل خاصة، فكان ضمان ذلك عليه.
وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون ضمان ذلك النصف على الرجل والمرأة الراجعة أثلاثاً؛ لأن عنده كل ثنتين من النساء حالة الاختلاط أقمن مقام(8/542)
رجل واحد، فكأن كل امرأة قائمة مقام نصف رجل، فإذا كانت المرأة ثلاثاً والرجل واحد، فكأنه شهد رجلان ونصف رجل، ثم رجع رجل ونصف رجل، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا رجعوا جملة فهذه الصورة كان الضمان على الرجل و (المرأتين) أخماساً والله (160أ4) أعلم.
الفصل الثالث: في الرجوع عن الشهادة في النكاح
إذا ادعت المرأة نكاحها على رجل، وأقامت على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنه ينظر إلى مهر مثلها وإلى المسمى، فإن كان مهر مثلها مثل المسمى الذي شهد به الشهود أو أكثر من المسمى، فإنهما لا يضمنان للزوج شيئاً؛ لأنهما أوجبا المهر بعوض يعدله إن كان مهر مثلها مثل المسمى، وبعوض يزيد عليه إن كان مهر مثلها أكثر من المسمى، والإيجاب بعوض يعدله لا يوجب على الشاهد شيئاً.
فإن قيل: منافع البضع كيف تصلح عوضاً عن المهر، وإن المهر عين مال، ومنافع البضع ليست بعين مال؟ (بدليل أنه يثبت الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عنها) قلنا: منافع البضع حالة الدخول في الملك أعطي لها حكم المال شرعاً، بدليل أن الشرع جوز للأب أن يزوج ابنه الصغير امرأة بمهر مثلها من مال الصغير، والوالد لا يملك إزالة ملك الصغير إلا بعوض يعدله، ألا ترى أنه لو خالع ابنته الصغيرة بمالها لم يجز، وإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلما جوز الشرع للأب النكاح لابنه الصغير علمنا أن منافع البضع اعتبرت مالاً عند الدخول في الملك، فصلحت عوضاً هذا إذا كان مهر مثلها مثل المسمى أو أكثر.
أما إذا كان مهر مثلها أقل من المسمى، بأن كان مهر مثلها ألفاً والمسمى ألفين، فإنهما يضمنان ألف درهم للزوج؛ لأنهما أتلفا على الزوج قدر ألف درهم من غير عوض.
قال: وإن ادعى رجل على امرأة النكاح، وأقام على ذلك بينة، والمرأة جاحدة، فقضى القاضي عليها بالنكاح بالبينة، ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما لا يضمنان للمرأة سواء كان المسمى مثل مهر مثلها أو أكثر أو أقل، وكان ينبغي أن يضمنا لها ألف درهم؛ لأنهما أتلفا الزيادة على المسمى من منافع بضعها بغير عوض من حيث الحكم، وإتلاف منافع البضع حقيقة بغير عوض يوجب الضمان. كما قالوا في المجنون: إذا أكره المرأة فزنى بها فإنه يجب العقر، فكذلك الإتلاف من حيث الحكم، يجب أن يوجب الضمان،(8/543)
والجواب القياس أن لا يضمن منافع البضع بالإتلاف الحقيقي؛ لأن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بقضية القياس وإنما وجب المال ثمة شرعاً تعظيماً لأمر البضع، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي بخلاف القياس لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي؛ لأن الإتلاف الحكمي دون الإتلاف الحقيقي، فرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وقضية القياس أن لا يضمن ما ليس بمال بالمال.
وإذا ادعى رجل على امرأة بأنه تزوجها بمئة درهم، وقالت المرأة: لا بل تزوجتني بألف درهم ومهر مثلها ألف درهم، فشهد شاهدان أنه تزوجها على مئة درهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما، فهذا على وجهين:
أما إن رجعا قبل الطلاق، أو بعد الطلاق، فإن رجعا عن شهادتهما حال قيام النكاح، ذكر أنهما يضمنان للمرأة تسعمئة في قول أبي حنيفة ومحمد، ولا يضمنان شيئاً عن أبي يوسف، وهذه المسألة فرع لمسألة ذكرها في النكاح، وهو أن الزوجين متى اختلفا في مقدار المسمى، فالقول قول من شهد له مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف: القول قول الزوج في الأحوال كلها، إلا أن يدعي شيئاً مستنكراً جداً، وهو أن يدعي دون العشرة، وههنا مهرها ألف درهم، وإذا كان القول قول المرأة أن مهرها ألف درهم عندهما كان المستحق لها على الزوج ألف درهم، فهما بشهادتهما أبطلا عليها تسعمئة بغير عوض، فيضمنان ذلك للمرأة إذا رجعا، وعلى قول أبي يوسف المستحق للمرأة مئة درهم كما يقول الزوج، لأنه لم يدع شيئاً مستنكراً، وإذا لم يكن ما زاد على المئة مستحقاً لها قبل شهادتهما، فهما بشهادتهما لم يبطلا على المرأة شيئاً مستحقاً لها، فلا يضمنان لها شيئاً في قول أبي يوسف، هذا إذا رجعا قبل الطلاق.
فإن رجعا بعد الطلاق فهذا على وجهين: أما إن رجعا قبل الدخول بها أو بعد الدخول بها، فإن كان بعد الدخول بها فالجواب فيه كالجواب حال قيام النكاح؛ لأن المستحق لها قدر مهر مثلها، وهو ألف درهم عندهما، فأما إذا كان الطلاق قبل الدخول بها، فإنهما لا يضمنان للمرأة شيئاً عندهم جميعاً، لأن الواجب لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول بها في مثل هذه الصورة المتعة، لأن التسمية لم تثبت لاختلافهما، فيجب تحكيم المتعة عندهما، والظاهر أن متعتها لا تزيد على خمسين درهماً وقد قضينا لها بخمسين، حتى لو زاد ضمنا لها الزيادة على خمسين عندهما، وعند أبي يوسف القول قول الزوج في الأحوال كلها، فيكون لها خمسون درهماً، متى طلقها قبل الدخول بها لا غير.
شاهدان شهدا على امرأة أن فلاناً تزوجها على ألف درهم، وقبضت ذلك وهي تنكر، ومهر مثلها خمسمئة فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا مهر المثل دون المسمى، ولو وقعت الشهادة بالعقد بألف أولاً، فقضى القاضي به ثم شهدا بقبض الألف، وقضى القاضي به، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا للمرأة المسمى؛ لأن منافع البضع حال دخولها في ملك الزوج اعتبرت أموالاً متقومة ضرورة مقابلتها بما هو(8/544)
متقوم وهو المهر كالبيع في باب البيع، فيضمنان قيمة البضع في أحد الفصلين والمسمى في الآخر.
والفرق بين الفصلين: أن الضمان إنما يجب على الشهود بسبب الإتلاف؛ والشاهد إنما يصير متلفاً ما دخل تحت قضاء القاضي، والداخل تحت القضاء في الفصل الأول نفس النكاح لا المهر؛ لأن الشهود إنما شهدوا بالنكاح بمهر مقبوض، وفي مسألة القاضي لا يقضي بالمهر؛ لأنه مقترن بالقضاء بالمهر ما يمنع القضاء بالمهر وهو كون المهر مقبوضاً، فصار الشاهد بشهادته متلفاً على المرأة منافع بضعها لا المهر، فيضمنان قيمة منافع بضعها وهي مهر المثل، أما في الفصل الثاني القاضي قضى بالمهر حين قضى بالنكاح، لانعدام ما يمنع القضاء به وهو كون المهر مقبوضاً، فلم تكن الشهادة بالنكاح ولا القضاء به إتلافاً لمنافع بضعها، لأنه قابل منافع بضعها عوضاً فوقها فبقيت الشهادة بالقبض بعد ذلك إتلافاً للمهر عند القضاء، فإذا رجع الشاهدان عن شهادتهما صارا متلفين للمهر فيغرمان ذلك.
الفصل الرابع: في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته واحدة، وشهد آخر أنه طلقها ثلاثاً، ولم يكن الزوج دخل بها، وقضى القاضي بالفرقة وبنصف المهر، ثم رجعوا عن شهادتهم، فلا ضمان على شهود الواحدة، وعلى شهود الثلاث نصف المهر، لأن القضاء ههنا ما وقع بشهادة شهود الواحدة، وإنما وقع بشهادة شهود الثلاث.
بيانه: أنه تعذر القضاء بالشهادتين؛ لأنه لو قضى بهما، فإنما يقضي بأن يجعل الواحدة سابقة على الثلاث؛ لأنه لا يتصور بعد إيقاع الثلاث، والقضاء بالواحدة ثم بالثلاث لا يفيد؛ لأن حكم الواحدة حرمته حقيقة ولا تثبت هذه الفائدة مع القضاء بالثلاث، والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد، فلا يقضي بالواحد لعدم الفائدة.
وإذا شهد شاهدان على رجل قد دخل بامرأته أنه طلقها ثلاثاً، وفرق القاضي بينهما، وألزم الزوج بالمسمى، ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما للزوج.
ولو شهدا بالطلاق وكان ذلك قبل الدخول بها، وفرق القاضي بينهما وألزم الزوج بنصف المسمى، إن كان في النكاح تسمية، أو المتعة إن لم يكن في النكاح تسمية ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك للزوج.
والفرق: أن في الطلاق قبل الدخول إنما وجب الضمان على الشاهد عند الرجوع بدلاً عما (نفياً) عليه من نصف المهر بعد وجود سبب السقوط وهو الفرقة الجائية، (لأن) الزوج قبل الدخول بها إذ الإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما ضمنا نصف المهر بدلاً عما أوجبا عليه، لا بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، وفي(8/545)
الطلاق بعد الدخول بها لا يمكننا إيجاب الضمان بدلاً عما أوجبا عليه؛ لأنهما لم يؤكدا عليه مالاً بعد وجود سبب السقوط لو وجب الضمان وجب بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، ولا وجه إليه؛ لأن القياس يأبى إيجاب الضمان بمقابلة (160ب4) المنافع؛ لأن المنافع ليست بمال ولا مماثلة بين المال وغير المال، وإيجاب الضمان يعتمد المماثلة.
وإذا شهد شاهدان على امرأة لم يدخل بها زوجها أنها اختلعت من زوجها على أن أبرأته عن المهر، والمرأة تجحد، والزوج يدّعي، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان للمرأة نصف المهر؛ لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بنصف المهر لوقوع الفرقة قبل الدخول بإقرار الزوج، فهما بشهادتهما أتلفا ذلك النصف عليهما وقد أتلفاه بغير عوض؛ لأن ما أدخلا في ملكها من منافع البضع لا يصلح عوضاً عما أتلفا عليه من المال.
ولو كان الزوج قد دخل بها، وباقي المسألة بحاله ضمنا للمرأة جميع المهر، لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بجميع المهر لوقوع الفرقة بإقرار الزوج بعد الدخول بها، فهما بشهادتهما أبطلا على المرأة ذلك، وقد أبطلاه بغير عوض لما ذكرنا فيضمنان ذلك.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته عام أول في رمضان قبل أن يدخل بها، فأجاز القاضي ذلك وألزمه نصف المهر، ثم رجعا عن شهادتهما، فضمنهما القاضي نصف المهر، أو لم يضمنهما حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها عام أول في شوال قبل الدخول بها؛ لم تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأنهم شهدوا بطلاق باطل، لأنه متى طلقها قبل الدخول بها في رمضان لا يتصور أن يطلقها بعد ذلك في شوال، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني، وإذا لم تقبل فكأنه شهد بها الفريق الأول لا غير ثم رجعا، ولو كان كذلك كان الضمان عليهم فكذلك هذا.
ولو أقر الزوج بذلك عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان، ويرد عليهما ما كانا ضمنا له، ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف الآخر ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة: فإنه لا يرد عليهما ما أخذ منهما من الضمان.
وهذا لأن مذهب أبي حنيفة أن قضاء القاضي بالطلاق بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ قضاء القاضي بالطلاق في رمضان ظاهراً وباطناً لم يصح إقراره أنه طلقها في شوال من هذا العام، وإذا لم يصح إقراره بقي التلف مضافاً إلى شهادتهما لا إلى إقراره.
وعندهما: القضاء بشهادة الزور نفذ ظاهراً ولم ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ باطناً، بقيت منكوحة لزوجها إلى شوال؛ وإذا بقي النكاح إلى شوال عندهما في الباطن كان إقرار الزوج بالطلاق في شوال إقراراً صحيحاً، فكان التلف مضافاً إلى إقرار الزوج لا إلى الشهادة.
وقد أشار إلى الخلاف في بعض نسخ هذا الكتاب، ثم قال: في هذا يخالف(8/546)
الإقرار، وهذا لأن كذب الفريق الأول مما لم يعلم به الفريق الثاني، ومن لا علم له بكذب الشهود في الحقيقة فالقضاء في حقه يعتبر نافذاً ظاهراً وباطناً، كما قالوا في شاهدين شهدا بطلاق امرأة وقضى القاضي بذلك، إذا تزوجها أجنبي وسعه وطؤها ظاهراً وباطناً؛ لأنه لا يعلم كذب الشهود، فكذا في الفريق الثاني من الشهود نفس القضاء نافذ ظاهراً وباطناً، فيعتبر القضاء في حقه نافذاً ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ ظاهراً وباطناً لم تصح شهادة الفريق الثاني، فأما الإقرار فقد وجد من الزوج، وإنه يعلم كذب الشهود على الحقيقة، فيجيء التفصيل في حقه أن القضاء في حقه نفذ ظاهراً أم باطناً؟
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها وفرق القاضي بينهما، وقضى القاضي بنصف المهر، ثم مات الزوج، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يغرمان لورثة الزوج (، و) نصف المهر؛ لأن ورثة الزوج قاموا مقام الزوج، والزوج لو كان حياً ورجع الشهود عن الشهادة غرموا للزوج نصف المهر، فكذا لمن قام مقامه، ولا يغرمان لورثة الزوج قيمة منافع بضعها، لأن الزوج لو كان حياً لكان لا يغرمان له ذلك لما عرف أنه لا قيمة لمنافع البضع عند الخروج عن ملك الزوج، فكذا لا يغرمان ذلك لورثته. قال: ولا يغرمان للمرأة ما زاد على نصف المهر. هكذا ذكر في «الكتاب» .
قال مشايخنا: وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشاهدين عند الرجوع وإن زعما الطلاق لم يكن، فقد وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج ولو وقع بإيقاع الزوج لم يكن لها إلا نصف المهر كذا إذا وقع بإيقاع القاضي.
فأما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول محمد: لم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي، فكان في زعم الشاهدين أن حقها باق في جميع المهر، وإنما فات عليها إمكان الأخذ فيما زاد على النصف بشهادتهما، فكانا مقرين للمرأة بالضمان فيما زاد على النصف فيغرمان ذلك.
قال: ولا ميراث للمرأة، أما إذا كانت تدعي الفرقة فظاهر، وأما إذا كانت تجحد فلوقوع الفرقة بينهما بقضاء القاضي في حال حياة الزوج؛ وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة.
أما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول: محمد يجب أن يكون لها حصتها من الميراث؛ لأن في زعمها أن الزوج لم يطلقها وقد صدقها الزوج في ذلك حيث غرم الشهود، ولم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي لعدم نفاذ القضاء باطناً عندهما فبقيت الزوجة عند الموت فيكون لها الميراث.
وأما على قول أبي حنيفة وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي لنفاذ القضاء باطناً عنده، فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج، ولو وقع بإيقاع الزوج لا ميراث لها لكون الطلاق قبل الدخول، فكذا إذا وقع بإيقاع القاضي.(8/547)
ويستوي في حق هذا الحكم أن يكون الزوج صحيحاً أو مريضاً عند أبي حنيفة رحمه الله: لأن الزوج لم يصر فاراً، فإنه لم يطلقها، وإنما وقع الطلاق بقضاء القاضي بالطلاق قبل الدخول بها، ولو طلقها الزوج بنفسه قبل الدخول بها فلا يصير فاراً، فإذا طلقها القاضي أولى، وإذا لم يوجد من الزوج الفرار لا يكون لها الميراث ما لم يكن النكاح قائماً عند موت الزوج، والنكاح قد ارتفع قبل موت الزوج بالطلاق الواقع.
ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يكن لها الميراث لم يغرم الشاهدان نصيبها من الميراث وإن أبطلا عليها النكاح الذي هو سبب الميراث، لأنهما إنما أبطلا النكاح حال حياة الزوج، والنكاح حال حياة الزوج ليس بسبب الإرث، فما أبطلا عليها ما هو سبب الإرث فلا يضمنان لذلك، هذا إذا شهدا بذلك حال حياة الزوج.
فأما إذا شهدا بذلك بعد موت الزوج والباقي بحاله ضمنا لها نصف الصداق، لأن صداقها تأكد كله بموت الزوج ظاهراً، فهما بشهادتهما أبرأا الزوج عن نصف المهر، فصارا متلفين ذلك عليها فغرما لها ذلك، ويغرمان لها حصتها من الميراث، لأن الميراث صار حقاً لها بموت الزوج من حيث الظاهر، فهما بشهادتهما أتلفا عليها الميراث بغير حق، فيضمنان ذلك عند الرجوع، بخلاف المسألة الأول، فإن في المسألة الأولى لم يتلفا عليها الميراث؛ لأنها لم تستحق بعد، لم يتلفا عليها أيضاً ما هو سبب الإرث على ما مر، فلهذا لا يضمنان لها شيئاً ولا يضمنان للورثة شيئاً في هذه المسألة؛ لأنهما ما أتلفا على الزوج شيئاً بل أبرأاه عن نصف المهر.
الفصل الخامس: في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول
وإذا شهد رجل وامرأتان على طلاق امرأة، وشهد رجل وامرأتان على دخوله بها، وقضى القاضي بالطلاق والصداق، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر، وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر، لأن شاهدي الطلاق شهدا بنصف المهر وقد شهد بهذا النصف شهود الدخول أيضاً؛ لأنهما شهدا بجميع المهر فكانا شاهدين بهذا النصف، وعند الرجوع ضمان هذا النصف عليهما على كل فريق نصفه وهو ربع الكل، وقد تفرد شاهد الدخول بالشهادة بنصف المهر، فكان ضمان ذلك النصف عليهما خاصة، فكان على شاهدي (161أ4) الدخول ثلاثة أرباع المهر من هذا الوجه.t
فإن قيل: كيف يجب الضمان على الفريقين وإنهم بشهادتهم ما أوجبوا المهر ابتداءً بل أبقوا ما كان عليه بعقد النكاح؟.
قلنا: لأن هذا الإبقاء كان بعد وجود سبب السقوط، بيانه: أن من زعم الشهود عند الرجوع أن الفرقة ما كانت من قبل الزوج بل من قبل القاضي، والفرقة الجائية لا من جهة الزوج توجب سقوط كل الصداق، كما لو ارتدت قبل الدخول بها، فلولا شهادتهم(8/548)
بالدخول أو بالطلاق لكان يسقط جميع الصداق عن الزوج، وإنما بقي جميع المهر في زعم شاهدي الدخول بشهادتهما، ونصف المهر في زعم شاهدي الطلاق بزعمهما، والإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما وجب الضمان عليهم من هذا الوجه.
ولو رجع الرجل الشاهد على الدخول وحده فعليه ربع المهر؛ لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وشاهدي الطلاق، وقد بقي شاهدا الطلاق على شهادتهما بذلك النصف، فلا يضمن الراجع من ذلك النصف شيئاً، والنصف الآخر تفرد به شاهدا الدخول، وقد بقي من يقوم بشهادته نصف ذلك النصف وهو المرأتان، فكان التالف بشهادة هذا الراجع نصف ذلك النصف وهو الربع، فكان عليه ضمان الربع من هذا الوجه، ولو رجع شهود الدخول كلهم فعليهم ضمان النصف الذي تفردوا بالشهادة به.
ولو لم يرجع شهود الدخول إنما رجع شهود الطلاق فلا شيء عليهم؛ لأنه بقي على الشهادة من يقوم بشهادته جميع ما شهد به شهود الطلاق، ولو لم يرجعوا على هذا الوجه، وإنما رجعت امرأة من شهود الدخول، وامرأة من شهود الطلاق، فلا ضمان على الراجعة من شهود الطلاق، وعلى الراجعة من شهود الدخول ثُمُن المهر وهو ربع النصف الذي تفرد به شهود الدخول.
وإذا اتفق الزوجان على أصل النكاح واختلفا في التسمية فقال الزوج: تزوجتها بغير شيء، وقالت المرأة: تزوجتني بألف درهم وجاءت بشاهدين شهدا أنه تزوجها بألف درهم وقضى القاضي بشهادتهما، ثم طلق الزوج المرأة عند القاضي، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا للزوج فضل ما بين المئة، إلى تمام الخمسمئة التي غرمها الزوج، لأنه لولا شهادتهما بالتسمية لكان يتخلص الزوج بالمتعة، فإنما لزمه الزيادة على المتعة بشهادتهما بالتسمية، وهذه زيادة حصلت بغير عوض، لأن ثبوت النكاح غير مضاف إلى شهادتهما ليجعل ما حصل للزوج من ملك منافع البضع عوضاً عما أوجبا عليه، لأن النكاح كان ثابتاً قبل شهادتهما بتصادق الزوجين، بخلاف ما إذا كان الزوج جاحداً، لأن هناك ثبوت الملك في منافع بضعها للزوج مضاف إلى شهادتهما؛ لأن ملك النكاح لم يكن ثابتاً قبل شهادتهما، فكان ذلك إيجاباً بعوض.
ولو شهد آخران على الدخول قبل الطلاق، ثم طلقها الزوج وألزم القاضي الزوج ألف درهم، ثم رجعوا، فعلى شاهدي الدخول خمسمئة خاصة لا يشاركهما فيها شاهدا التسمية، لأنه لولا شهادة شاهدي الدخول لكان برىء الزوج عن خمسمئة مما أوجبا عليه شاهدا التسمية بالطلاق قبل الدخول، فإنما بقي ملك الخمسمئة بشهادة شاهدي الدخول، وكان ضمان ذلك عليهما خاصة، وعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة الأخرى نصفان؛ لأن لزوم ذلك القدر للزوج بشهادة الفريقين لولا شهادتهم لكان يتخلص الزوج بقدر المتعة، هذا الذي ذكرنا.
إذا طلق الزوج المرأة بين يدي القاضي.
فإن لم يطلقها بين يدي القاضي، فشهد آخران على الطلاق قبل(8/549)
الدخول، والزوج يجحد الطلاق، ثم رجعوا عن شهادتهم فعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة ينصِّفان لما ذكرنا، وقدر المتعة على شاهدي التسمية وشاهدي الدخول، وعلى شاهدي الطلاق قبل الدخول أثلاثاً، لأن ذلك القدر تلف بشهادتهم جملة.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم، ومهر مثلها خمسمئة درهم، والزوج يجحد ذلك، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول، وأجاز القاضي شهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي النكاح مئتين وخمسين، وعلى شاهدي الطلاق مئتين وخمسين، أما على شاهدي النكاح مئتين وخمسين؛ لأنهما أوجبا على الزوج ألف درهم خمسمئة بعوض فلا يجب ضمان ذلك عليهما وخمسمئة بغير عوض، لا يشاركهما في ضمان هذه الخمسمئة لا شاهد الطلاق ولا شاهد الدخول، أما شاهدا الطلاق؛ لأن شاهدي الطلاق ما أوجبا على الزوج إلا نصف الألف، وقد ضمنا قدر ما أوجباه على ما تبين بعد هذا، ولا يضمنان من هذه الخمسمئة شيئاً، وأما شاهدا الدخول فلا يشاركهما في هذه الخمسمئة وإن أكدا هذه الخمسمئة لأنه لولا شهادتهما على الدخول لكان يسقط خمسمئة بالطلاق قبل الدخول؛ لأنهما وإن أكدا هذه الخمسمئة إلا أنهما لم يوجباها، وشاهدا النكاح أوجباها فصار شاهدا الدخول من حيث إنهما لم يوجبا هذه الخمسمئة بمنزلة صاحب الشرط، وشاهد النكاح بمنزلة صاحب العلة على ما عرف، وأما الخمسمئة الأخرى فثلاثة أرباعها على شاهدي الدخول وربعها على شاهدي الدخول تفردا بإيجاب هذه الخمسمئة فيكون ضمان ذلك عليهما والنصف الآخر ثبت بشهادة الفريقين فيكون ضمان ذلك عليهما نصفين، وصار الجواب في هذا نظير الجواب فيما إذا كان مهرها هذه الخمسمئة لا غير، وشهد شاهدان بالدخول وشاهدان بالطلاق ثم رجعوا، وهناك صار الخمسمئة عليهم أرباعاً فههنا كذلك.
قال محمد في «الجامع» : وإذا شهد شاهدان لامرأة على رجل أنه تزوجها بألفي درهم، ومهر مثلها ألف درهم، فقضى القاضي بذلك وقبضت المرأة الألفين، ثم شهد آخران أن الزوج دخل بها وطلقها ثلاثاً، والزوج يجحد، ففرق القاضي بينهما، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم فالزوج بالخيار؛ إن شاء ضمن شهود النكاح بألف درهم؛ لأنهم ألزموه ألفي درهم منها بعوض وهو منافع البضع الذي له قيمة عند الدخول في ملك الزوج وهو مهر المثل، وألف ألزموه بغير عوض فيما أوجبا بعوض لا يضمنانه، وما أوجبا بغير عوض يلزمهم ضمانه، وإن شاء ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم؛ لأنهم بشهادتهم قرروا عليه الألفين جميعاً، لأن المهر قبل الدخول كله (على) شرف السقوط بردة جائية من قبل المرأة، أو غير ذلك فشهود الطلاق والدخول بشهادتهم قرروا عليه ذلك، وللتقرير حكم الإثبات من وجه، فلهذا كان له أن يضمن شاهدي الطلاق والدخول ألفي درهم.(8/550)
فإن ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم ليس له تضمين شهود النكاح، لأنه وصل إليه جميع ما غرم للمرأة، وليس لشهود الطلاق والدخول أيضاً أن يرجعوا على شهود النكاح، لأنهم ضمنوا لجنايتهم، وهو تقرير المهر على الزوج، ولم يعترض جناية على حقهم، فلا يكون لهم حق الرجوع على أحد بما ضمنوا كما في غاصب الغاصب.
وإن ضمن شهود النكاح ألف درهم رجع على شهود الدخول والطلاق بألف أخرى، لأنه بقي إلى إتمام حقه ألف درهم، فيرجع بذلك على شهود الطلاق والدخول، وكان لشهود النكاح أن يرجعوا بالألف التي ضمنوا للزوج على شهود الطلاق والدخول، لأنهم بأداء الضمان قاموا مقام الزوج في المضمون، وقد كان للزوج حق الرجوع عليهم بذلك الألف، فكذا لمن قام مقامه.
ثم اختلفت الروايات في حق قبض تلك الألف، ذكر في الرجوع عن الشهادات في «المبسوط» أن شهود النكاح هم الذين يقبضون ذلك. وذكر في «الجامع:» أن الزوج هو الذي يقبض ذلك ثم يدفعه إلى شهود النكاح.
فوجه رواية كتاب الرجوع: هو أن الزوج لما ضمن شهود النكاح ألفاً فقد أقامهم مقام نفسه في الرجوع بها على شهود الطلاق، فتحول ولاية القبض إليهم، كما قلنا في المالك إذا ضمن الغاصب الأول، كان للغاصب الأول أن يضمن الغاصب (161ب4) الثاني، ويقبض الضمان بنفسه لنفسه، لقيامه مقام المالك كذا هذا.
وجه رواية «الجامع» هو: أن السبب الذي ضمن به شهود الطلاق هو الشهادة على ما يؤكد المهر وهو الدخول؛ وهذا السبب إنما جرى بين الزوج وبين شهود الطلاق والدخول، لا بين شهود النكاح وشهود الدخول، فيكون حق القبض للزوج، وإن كان المقبوض ملكاً للغير وهو شاهدا النكاح؛ كالوكيل في باب البيع حق القبض له، وإن كان المقبوض ملكاً للموكل كذا هنا، بخلاف الغاصب الأول مع الغاصب الثاني؛ لأن هناك جرى بين الغاصب الأول وبين الغاصب الثاني سبب لوجوب الضمان عليه وهو الغصب المفوت لليد المحترمة، وبأداء الغاصب الأول الضمان صار المغصوب ملكاً له من وقت الغصب بالأول، فصار الغصب الثاني موجباً الضمان للغاصب الأول، أما هنا بخلافه.
ولو جاء شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق، وشهدوا عند القاضي معاً، كانت العبرة بحالة القضاء، فإن قضى بشهادة شهود النكاح أولاً بأن ظهرت عدالتهم، فهذا والفصل الأول سواء، وإن اتصل القضاء بشهادة شهود الدخول أولاً بأن ظهرت عدالتهم أولاً.
وصورته: أن يشهد شاهدان أن هذا الرجل دخل بهذه المرأة أمس بحكم النكاح، وشهد آخران أن هذا الرجل تزوج هذه المرأة أول من أمس على ألف درهم، فعدل شهود الدخول والطلاق أولاً، فقضي على الزوج بضمان البضع، وذلك مهر مثلها وهو ألف درهم، ثم عدلت شهود النكاح، فقضى القاضي عليه بألف أخرى، ثم رجعوا جميعاً لم يضمن شهود الدخول والطلاق إلا ألف درهم، لأنهم لم يوجبوا إلا موجب البضع،(8/551)
وذلك مهر المثل؛ لأنهم أثبتوا الدخول بنكاح لا تسمية فيه، وموجبه مهر المثل لا غير، أما الزيادة عليه إنما تكون بتسمية صحيحة في العقد، ولم يظهر ذلك بعد.
ويضمن شهود النكاح أيضاً ألفاً أخرى؛ لأنهم أوجبوا ألفاً أخرى، وهو الزيادة على مهر المثل بغير عوض، وذلك مضاف إلى شهادتهم دون شهادة شهود الدخول، فيكون ضمان ذلك عليهم.
ولا يرجع كل فريق على الفريق الآخر بشيء، أما شهود الدخول فظاهر، وأما شهود النكاح فلأن الزوج لم يكن له حق تضمين شهود الدخول والطلاق هذه الزيادة باعتبار أن الزيادة على مهر المثل ما ثبت بشهادتهم، فلا يكون ذلك أيضاً لمن قام مقام الزوج، وهم شهود النكاح.
وإن ظهرت عدالة الفريقين معاً، فقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجعوا جميعاً فهذا وما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن القاضي إنما يقضي بالشهادة على حسب ما شهد به الشهود، وشهود الدخول إنما شهدوا بالدخول بحكم النكاح، فأوجب ذلك ترتب الدخول على النكاح إلا أن يقدم الحكم بالدخول فإذا لم يتقدم الحكم بالدخول صير إلى الأصل، وذلك يوجب سبق النكاح، فهذا وما لو قضى القاضي بالنكاح أولاً سواء.
وكذلك لو كان شهود الدخول شهدوا على إقرار الزوج، أنه تزوج هذه المرأة ودخل بها وطلقها ثلاثاً، فقضى القاضي على الزوج بمهر مثلها اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، فلو جاءت المرأة بعد ذلك بشاهدين يشهدان على إقرار الزوج أنه تزوجها على ألفي درهم، وقضى القاضي عليه بالفصل، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على معاينة الدخول والطلاق وعلى معاينة النكاح، لما مر من اعتبار الثابت بالبينة بالثابت معاينة فلو أن شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق زكّوا معاً وقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجع شهود النكاح ضمنهم ألف درهم وهو الألف الزائد على مهر المثل، لإيجاب ذلك بغير عوض، فإن رجع شهود الدخول بعد ذلك ضمنهم ألفي درهم، ألف من ذلك للزوج، وألف أخرى يعطيه الزوج إلى شهود النكاح لما مر قبل هذا، وإن رجع شهود الدخول أولاً ضمنهم الزوج ألفي درهم، فلو لم يقبضها الزوج حتى رجع شهود النكاح، فلا ضمان للزوج على شهود النكاح.
علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأنه حين اختار تضمين شهود الدخول فقد أبرأ شهود النكاح.
فإن قيل: كيف يصح هذا الإبراء؟ فإن صحة الإبراء تعتمد بعدم الوجوب، والضمان لم يكن واجباً على شهود النكاح وقت تضمين شهود الدخول؛ لأنهم لم يرجعوا بعد. قلنا: إنما صح باعتبار أن يرجع شهود النكاح يظهر تقديمهم عند الرجوع بنفس الشهادة، فظهر أن الضمان كان واجباً عليهم يوم تضمين شهود الدخول، فإذا ظهر الوجوب ظهرت صحة الإبراء.(8/552)
امرأة مرتدة ادعت على رجل أنه تزوجها في حال إسلامها على ألفي درهم، ودخل بها وطلقها، ثم كانت الردة، وأنكر الزوج ذلك كله، ومهر مثلها ألف، فشهد لها شاهدان بالنكاح بألفي درهم، وقضى القاضي بشهادتهم، وشهد آخران على الدخول والطلاق أمس، وأنها ارتدت اليوم، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فشهود النكاح لا يضمنون للزوج شيئاً؛ لأن الشهود إنما يضمنون عند الرجوع ما قضى القاضي بشهادتهم، والقاضي ما قضى بشيء من المهر على الزوج بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به: وهو ردة المرأة قبل الدخول إذ الدخول لم يكن ثابتاً وقت القضاء بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به.
ولهذا (لو) قلنا: لو عاين القاضي النكاح مع التسمية ثم عاين ارتدادها قبل الدخول لم يقض على الزوج بشيء من المهر، فعلم أن القاضي لم يقض بالمهر بشهادة شهود النكاح، فلا يضمنون ذلك.
بخلاف ما إذا لم ترتد المرأة والمسألة بحالها حيث يضمن شهود النكاح للزوج، لأن هناك وقع القضاء بشهادتهم بالمسمى إذ المانع وهو الردة لم يقارن القضاء ثمة، فضمنوا ما زاد على مهر المثل وهو ألف درهم، أما ههنا بخلافه.
قال: وشهود الدخول والطلاق يضمنون للزوج ألفي درهم؛ لأن القاضي إنما يقضي بألفي درهم بشهادتهم؛ لأنه لم يقارن القضاء بالمهر بشهادتهم ما يمنع القضاء به؛ لأن ردة المرأة بعد الدخول لا تنافي المهر؛ فصاروا مثبتين على الزوج ألف درهم، أو مذكرين ذلك عليه بغير عوض، فيضمنون ذلك له عند الزوج.
ولو وقع القضاء بالشهادتين جميعاً فهذا وما لو وقع القضاء بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن شهود النكاح يجعل متقدماً، وشهود الدخول يجعل متأخراً كما هو الأصل إلا إذا وجد دليل مغير ولم يوجد.
ولو قضى القاضي بشهادة شهود الدخول أولاً، ثم قضى بشهادة شهود النكاح، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم ضمن شهود الدخول بمهر مثلها، لأن حال ما قضى القاضي بشهادتهما التسمية لم تكن ثابتة، والدخول في نكاح لا تسمية فيه يوجب مهر المثل، فحصل للقاضي بشهادتهم مقدار مهر المثل لا غير، فعند الرجوع لا يضمنون إلا ذلك القدر، ويضمن شهود النكاح ألفاً أخرى وهو الألف الزائد على مهر المثل، لأن القاضي إنما يقضي بالألفين بشهادتهم، لأنه حين قضى بشهادتهم كان الدخول مقضياً به، فردة المرأة بعد الدخول لا تنافي الصداق، فحصل القضاء بشهادتهم بالألفين، ألف من ذلك حصل بعوض وهو منافع البضع فلا يجب ضمانه وألف من ذلك بغير عوض، فيجب ضمانه، بخلاف ما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح لكن لم يقع القضاء بالمهر بشهادتهم وإنما وقع القضاء به بشهادة شهود الدخول والطلاق، أما ههنا بخلافه ولا يرجع أحد الفريقين على الآخر لما قلنا من قبل.(8/553)
الفصل السادس: في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء
قال محمد رحمه الله: شهود العتق يضمنون عند الرجوع قيمة العبد المشهود به موسرين كانا أو معسرين، لأن هذا ضمان إتلاف الملك، وإنه لا يختلف باليسار والعسار (162أ4) ولا يمتنع وجوب الضمان عليهما بسبب ما أوجبا من الولاء (لأنه) ليس بمال متقوّم، فلا يصلح عوضاً عمّا أتلفا من ملك الرقبة على المولى.
قال: وشهود التدبير يضمنون عند الرجوع ما نقصه التدبير؛ لأنهم فوتوا بعض المنافع من حيث التجارة دون البعض، فإنه بقي من حيث الإجارة فلم يكن الفائت جنس منفعة على المالك، فكان نقصاناً فيضمنان ذلك.
فإن مات المولى والعبد يخرج من الثلث عتق العبد كله مجاناً، لأن رجوع الشاهد لا يعمل في حق العبد ويجعل في حق العبد كأنه لم يرجع، ولو لم يرجع حتى مات المولى، وباقي المسألة بحاله، كان الجواب كما قلنا كذا ههنا، وضمن الشهود قيمته مدبراً؛ لأن تلف ما بقي حصل عند موت المولى، وقد ضمنوا النقصان مرة، فلهذا قال: ضمنوا له قيمته مدبراً؛ وإن كان العبد لا يخرج من الثلث عتق ثلثه مجاناً، وسعى في ثلثي قيمته للورثة، كما لو لم يرجع الشهود ويضمن الشاهدان للورثة ثلث قيمة العبد مدبراً، لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكهم بغير عوض، ولا رجوع لهما على العبد بذلك، وهل يضمنان قيمة الثلثين؟ ينظر إن عجل العبد السعاية يضمنان، وإن لم يعجل لا يضمنان، لأن في الوجه الأول أزالا ملكهم بعوض معجل، وفي الوجه الثاني أزالا ملكهم بعوض معجل، ويرجعان على العبد بذلك؛ لأنهما قاما مقام الورثة في ذلك لما ضمنا ذلك، وقد كان للورثة حق تضمين ذلك القدر، فكذا لمن قام مقامه بخلاف ضمان الثلث.
قال: وشهود الكتابة عند الرجوع يضمنون قيمة العبد بخلاف شهود التدبير، فإنهم يضمنون النقصان عند الرجوع دون القيمة.
والفرق: أن سبب وجوب ضمان القيمة إما إزالة اليد أو إزالة ملك الرقبة ولم يوجد شيء من ذلك في فصل التدبير إنما وجد سبب ضمان النقصان دون القيمة.
وأما في فصل الكتابة سبب وجوب ضمان القيمة قد وجد وهو إزالة يد المولى عنه من غير عوض يحصل له في الحال، فيضمن كما في الغصب، فإذا ضمن الشاهدان قيمة العبد للمولى رجعا على المكاتب ببدل الكتابة على نجومه؛ لأنهما بأداء الضمان قاما مقام المولى في حق ملك البدل إن لم يقوما مقامه في حق ملك المكاتب، واعتبر الشاهد في هذا بالوارث، والوارث يرجع على المكاتب ببدل الكتابة فكذلك الشاهد، ولا يعتق المكاتب ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الشاهدين.(8/554)
والولاء يكون للمولى؛ لأن الشاهدين قاما مقام المولى في ملك البدل لا في ملك المكاتب، واعتبر الشاهد بالوارث، والمكاتب لا يعتق ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الوارث، وعند الأداء الولاء يكون للمولى دون الوارث فكذا هذا.
وإن عجز المكاتب ورد في الرق كان لمولاه؛ لأن الرقبة بقيت على ملك المولى، فإذا انفسخت الكتابة بالعجز بقي على الملك المولى، ويرد المولى على الشاهدين ما أخذ منهما؛ لأن الموجب الضمان، وهو إزالة يد المولى قد انعدم فيزول الضمان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا شهد شاهدان على رجل في شوال أنه أعتق عبده في رمضان، وقيمة العبد يوم الشهادة ألفا درهم، وكانت قيمته في رمضان ألف درهم، فلم يعدلا حتى صارت قيمته ثلاثة آلاف درهم، ثم عدلا، وقضي بشهادتهما، ثم رجعا ضمنا قيمة العبد يوم أعتقه القاضي، وذلك ثلاثة آلاف درهم؛ لأن الشهادة إنما تصير موجبة بواسطة اتصال القضاء بها فتعتبر قيمته يوم القضاء، وهذه المسألة (تثبت) بذلك أن العتق يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور وإن لم يكن له ولاية إعتاق عبد الغير.
ووجه ذلك: أن القاضي إن كان لا يملك إعتاق عبد الغير بولاية القضاء، فالخصمان يملكان ذلك وكما ثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور لا يملك القاضي إنشاءه بولاية القضاء، يثبت ما يملك الخصمان إثباته، وقد مرّ جنس هذا.
في كتاب «أدب القاضي» : وإذا ادعى رجل على رجل أنه عبده، والمدعى عليه يجحد دعواه، وقضى القاضي بكونه عبداً له ببينة قامت عليه، ثم أعتقه على مال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمشهود عليه شيئاً لا بدل العتق؛ ولا بدل ما أتلفاه عليه من الحرية، أما بدل العتق لأن بدل العتق وجب على المشهود عليه بعقده لا بشهادتهما.
فإن قيل: المال وإن وجب على المشهود عليه بعقده إلا أنه مضطر في قبول هذا العقد لإحياء حقه في نفسه، كما كان، فهو بمنزلة صاحب العلو إذا بنى السفل، وهذا الاضطرار جاء من قبل شهادتهما عليه بالرق، فكان وجوب المال مضافاً إليهما.
قلنا: المال ما أوجبه بقوله وحده حتى يقال: مضطر في القبول، فيكون الوجوب مضافاً إلى الشهود، إنما وجب بقبوله وإيجاب الولي والمولى غير مضطر في هذا الإيجاب من جهة الشاهد، فاعتبار جانب المولى وجوب المال لا يكون مضافاً إلى الشاهد، وباعتبار جانب العبد وجوب المال يكون مضافاً إلى الشاهد، فلا تثبت الإضافة إلى الشاهد بالشك.
وأما ضمان بدل ما أتلفا، وإن كان الحر يضمن بالإتلاف الحقيقي؛ لأن إيجاب ضمان الحر بالإتلاف الحقيقي عرف بخلاف القياس بالنص، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي، وفي إتلاف صفة الحرية، وإجزاء الحر لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي، وفيه إتلاف صفة الحرية دون إجزاء الحر، فرد هذا إلى أصل القياس، والقياس يأبى إيجاب المال بمقابلة ما ليس بمال.m(8/555)
وإذا شهد شاهدان أنه أعتقه البتة وشهد آخران أنه أعتقه عن دبر منه، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً فالضمان على شاهدي الإعتاق لا على شاهدي التدبير، لأن القاضي قضى بشهادة شاهدي الإعتاق لا بشهادة شاهدي التدبير، لأن القضاء بالتدبير مع الإعتاق لا يفيد وإن كان يتصور وقوعهما على الصحة، بأن كان التدبير أولاً ثم العتق، وإذا كان القضاء بالتدبير لا يفيد مع العتق لا يقضى به، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالواحدة، وشهد آخران بالثلاث ورجعوا إنه لا ضمان على شهود الواحدة؛ لأن القضاء لم يقع بشهادة الواحدة، لأن القضاء بالواحدة مع الثلاث لا يفيد.
ولو شهد شاهدا التدبير أول مرة وقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد شاهدا الإعتاق بالإعتاق، وقضى القاضي بذلك، ثم رجعوا فإن شاهدي التدبير يضمنان ما نقصه التدبير، ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً، أما شاهدا التدبير يضمنان النقصان، لأن القاضي قضى بشهادتهما، لأن القضاء بالتدبير يقرن حكمه مع العتق البات، وإذا قضى بشهادة التدبير، والتدبير مكن نقصاناً به، فإذا رجعا ضمنا ذلك ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً؛ لأنهما أزالا المدبر عن ملكه بغير عوض، ألا ترى أن من غصب مدبر إنسان وعجز عن رده ضمن قيمته؟ وطريقه ما قلنا.
وإن كان شاهدا العتق البات شهدا أنه أعتقه قبل التدبير البتة، فأعتقه القاضي، ثم رجعوا عن شهادتهم ضمن شاهدا العتق قيمته، ولم يضمن شاهدا التدبير، إذ تبين أن القضاء بالتدبير كان باطلاً، وإذا ظهر بطلان القضاء صار كأن القاضي لم يقض بها.
قالوا: ويجب أن يكون هذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة فينبغي أن لا يقضي القاضي بشهادة العتق؛ لأن الدعوى من العبد شرط لسماع البينة على التدبير والعتق، ودعوى العبد الإعتاق قبل دعواه التدبير لا يصح لمكان التناقض، بقيت الشهادة على العتق بلا دعوى.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده (عام أول يوم من رمضان) ، فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه، ثم رجعا عن شهادتهما فيضمنان القيمة، أو لم يضمنها حتى شهد شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال لا تقبل شهادتهما، وبقي الضمان على الأولين لا ينتفعان بشهادة الفريق الأول، لأن الفريق الثاني شهدوا بعتق باطل لأن بعدما أعتقه في رمضان لا يتصور عتقه بعد ذلك في شوال (162ب4) فكأنه لم يشهد به الفريق الثاني إنما شهد به الفريق الأول، ثم رجعوا، وهناك يضمنان قيمة العبد للمولى فههنا كذلك.
ثم يكون حكمه حكم الأحرار في جراحته وحدوده وقصاصه من رمضان لأن القاضي أثبت حرمته في رمضان بالبينة والثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه أعتقه في رمضان كان حكمه حكم الأحرار من رمضان فكذا ههنا، ولكن يضمن الأولين قيمة العبد يوم قضاء القاضي بعتقه لا في أول يوم من رمضان، ففي حق إيجاب القيمة(8/556)
على الشاهدين جعله حراً من حيث قضى له القاضي بعتقه حتى ضمن قيمته يوم قضى القاضي بعتقه.
ولا يضمن قيمته في رمضان، وإنما فعل ذلك لأن الشاهد إنما يضمن بالمنع والحيلولة، والمنع والحيلولة بين المولى وعبده حصل من يوم القضاء، فيضمنان قيمته من يوم القضاء، وإن كان حراً قبل ذلك، هذا كما قلنا في المغرور يضمن قيمة الولد المستحق يوم الخصومة والمنع وإن علق حر الأصل؛ لأن المنع إنما يتحقق يوم الخصومة كذا ههنا.
فلو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عام أول في أول يوم من رمضان فأجاز القاضي ذلك وقضى به وأنفذه، ثم رجعا عن شهادتهما فضمنهما القاضي القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد آخران، أنه أعتق أول (من) يوم في رمضان أول من عام الأول، فإن شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: شهادة الفريق الثاني غير مقبولة ويجب الضمان على الأولين.
وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى: أن البينة على عتق العبد من غير دعوى العبد غير مقبولة، وشهادة الفريق الثاني خلت عن الدعوى؛ لأن دعوى العبد أنه أعتقه أول من عام الأول بعد دعواه، أنه أعتقه في هذا العام، وجوده والعدم بمنزلة لمكان التناقض، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني لهذا، وإذا لم تقبل شهادة الفريق الثاني صار كأنهم لم يشهدوا، ولو لم يشهد الفريق الثاني وباقي المسألة بحاله كان على الفريق الأول الضمان كذا ههنا، وعندهما دعوى العبد ليس بشرط فتقبل شهادة الفريق الثاني، وظهر بطلان شهادة الفريق الأول.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده بألف درهم إلى سنة وقيمة العبد خمسمئة وقضى القاضي بالكتابة، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يخير المولى فيقول له: إن شئت اخترت تضمين الشاهدين خمسمئة قيمة العبد للحال، وإن شئت اخترت اتباع المكاتب ببدل المكاتبة إلى أجله؛ لأنه وجد من الشاهدين سبب ضمان قيمة العبد وهو إزالة العبد عن يد المولى بالكتابة، فيخير المولى والتخيير مفيد؛ لأن قيمة العبد خمسمئة، وإنها وجبت حالة على الشاهدين، وبدل الكتابة ألف درهم وإنه مؤجل، والإنسان ربما يختار القليل العاجل على الكثير الآجل، وربما يختار الكثير الآجل على القليل الآجل، فكان التخيير مفيداً من هذا الوجه فيخير.
وإن اختار المولى تضمين الشاهدين لا يكون له اختيار اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبداً، وإن اختار اتباع المكاتب لا يكون له تضمين الشاهدين أبداً، إلا في خصلة واحدة وهو أن تكون المكاتبة أقل من القيمة، وإنما يضمن باختياره تضمين أحدهما إبراء الآخر؛ لأن الشاهدين بمنزلة الغاصبين، لأنهما أزالا العبد عن يد المولى من غير عوض يصل إليه للحال، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب؛ لأنه يثبت للمكاتب يد على نفسه بغير رضا المولى بعد شهادتهما، والمغصوب منه متى اختار تضمين الغاصب، أو تضمين غاصب(8/557)
الغاصب برئ الآخر من الضمان؛ لأنه ملك الرقبة منه كما في القن أو بدل الرقبة كما في المدبر، وإذا ملك الرقبة من أحدهما لا يمكنه التمليك من الآخر، فكان اتباع أحدهما إبراء للآخر عن الضمان فكذلك ههنا.
فإن اختار تضمين الشاهدين كان للشاهدين أن يرجعا على العبد ببدل الكتابة على نجومه لما ذكرنا أنهما بأداء الضمان يقومان مقام المولى في بدل الرقبة، وهو بدل الكتابة، فإذا أدى المكاتب ألف درهم وقبض الشاهدان ذلك؛ فإنه يطيب لهما من ذلك خمسمئة؛ لأنه رأس مالهما ويتصدقان بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث، وهي شهادتهما الباطلة فإنها بمنزلة الغصب، هكذا ذكر في «الكتاب» ولم يذكر فيه خلافاً، ويجب أن يكون هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: يطيب له الربح؛ لأنه ربح ما قد ضمن، وإن كان استفاده من كسب خبيث.
وكان الجواب في هذه المسألة كالجواب فيمن غصب عبداً قيمته خمسمئة ثم ازداد في يده حتى صار يساوي ألفاً ثم غصبه رجل آخر، وقيمته يوم غصبه ألف درهم، إذا ضمن المالك الغاصب الأول قيمة خمسمئة يرجع على الثاني بألف درهم، ويطيب له من ذلك خمسمئة لأنه رأس ماله، ويتصدق بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يتصدق فهذا على ذلك. قد ذكرنا أن المولى إذا اتبع المكاتب ببدل الكتابة برئ الشاهدين عن الضمان.
قال: ويستوي في ذلك أن علمه المولى برجوع الشاهد أم لم يعلمه، أما إذا علم برجوعه فلا إشكال؛ لأنه غير مضطر في اتباع المكاتب لما علم برجوع الشاهدين ووجوب الضمان عليهما، واتباعه المكاتب يتضمن براءة الشاهد عن الضمان، كما في المغصوب منه إذا اختار تضمين أحد الغاصبين، إما الأول، وإما الثاني، مع علمه بغصبهما فإنه يبرأ الآخر، إنه غير مضطر في تضمين الذي ضمنه، فإن له أن يضمن الآخر وإذا لم يكن مضطراً فقد انعقدت معاوضة بالتضمن عن طواعية، فلا يكون له فسخ ذلك، وأما إذا لم يعلم برجوعه فكذلك أيضاً، وكان يجب أن لا يكون اختياره اتباع المكاتب إبراءً للشاهدين عن الضمان؛ لأنه مضطر في تضمين المكاتب؛ إذ ليس يمكنه تضمين الشاهدين لما لم يعلم برجوعهما، ولما كان مضطراً في اتباع المكاتب يجب أن لا يبرأ الشهود عن الضمان، كالمغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب الأول ولم يعلم بغصب الثاني منه ثم علم، كان له أن يتبع الثاني ويفسخ تضمينه الغاصب الأول؛ لأنه مضطر في تضمين الغاصب الأول لما لم يعلم بغصب الثاني فيجب أن يكون هنا كذلك، إلا أن الجواب عنه أن تضمين المكاتب إنما حصل من المولى وهو عالم بوجود سبب الضمان من الشاهد، فإنه علم أنه شهد بزور وأنه ضامن وإن لم يرجع، وإذا علم بوجود سبب الضمان من الشاهد كان بمنزلة ما لو ضمن الغاصب الأول وهو يعلم بغضب الثاني ولو كان كذلك برئ الثاني، فكذلك هذا.
فأما في مسألة الغصب ضمن الأول ولم يعلم بوجود سبب الضمان من الثاني فكان(8/558)
مضطراً في تضمين الأول فكان بمنزلة ما لم يعلم بغصب الثاني إلا أنه ... إنسان أن يضمن الأول، ولو كان كذلك لكان له أن يفسخ تضمينه ويتبع الثاني فكذلك هذا.
ولو أن الشاهدين حين رجعا عند القاضي لم يجبر القاضي المولى ولكن المولى جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه مئة درهم، أو لم يقبضها برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن الشاهدين في حق المولى بمنزلة الغاصب، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب على ما بينا، والمغصوب منه متى اختار تضمين أحدهما برئ الآخر عن الضمان، علم بوجوب الضمان على الآخر أو لم يعلم، فإنه إذا ضمن الأول وكان غصب منه آخر ولم يعلم بغصب الثاني برئ الثاني عن الضمان، فكذلك هنا إذا اختار تضمين المكاتب برأ الشاهدان عن الضمان علم بوجوب الضمان على الشاهدين بأن علم برجوعهما أو لم يعلم.
قال ما خلا خصلة واحدة وهو أن يكون المكاتبة أقل من القيمة، بأن كانت المكاتبة ألفاً والقيمة ألفين، متى اتبع المكاتب بالمكاتبة كان له أن يرجع على الشاهدين بالفضل على المكاتبة إلى تمام قيمته؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملك المولى بغير رضاه وبغير عوض فيضمنان (163أ4) ذلك للمولي متى رجعا، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان أنه باع عبده من فلان، وقيمته ألف وخمسمئة أو أقل، والبائع يجحد، واختار البائع اتباع المشتري بخمسمئة أخرى؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكه بغير عوض. فإن قيل: هلا جعل اتباعه المكاتب أو المشتري إجازة منه لكتابه والبيع من حيث أن الكتابة والبيع حصلت بغير رضى المالك، وإذا اختار اتباع المكاتب أو المشتري يجعل كأنه أجازها والإجازة بمنزلة إنشاء الكتابة، ولو أنشأ الكتابة والبيع بخمسمئة وقيمته ألف لم يكن له على أحد ضمان فكذلك هذا.
والدليل عليه أن محمداً قال: فيما إذا كانت قيمة المكاتب أقل من بدل الكتابة واختار اتباع المكاتب أن هذا اختيار منه لمكاتبه والجواب عنه أن يقال: بأن اختيار اتباع المكاتب أو المشتري لو اعتبرت إجازة للعقد فإنما يعتبر إجازة من حيث الدلالة، فإنه لم يصرح بالإجازة فلا تزيد درجتها على درجة الصريح، وصريح الإجازة مما لا يبرئ الشاهد عن ضمان الزيادة؛ لأن الإجازة من المالك لغو لأن العقد نافذ بقضاء القاضي، وإجازة النافذ لغو ... ، فصار وجود هذه الزيادة وعدمه بمنزلة، ولو عد الإجازة لم يبرأ الشاهد عن ضمان ما أتلف عليه من الزيادة بغير عوض فكذلك هذا، أو ما قال قبل هذا أن اتباعه المكاتب اختيار للمكاتبة لم يرد به إجازة للكتابة لأنها نافذة، وإنما أراد به اختيار البدل الكتابة بأن له على المكاتب بدل الكتابة بالعقد، وعلى الشاهدين ضمان قيمته بإزالة اليد، فإذا اختار اتباع المكاتب فقد اختار بدل الكتابة، فإنما أراد بقوله: اختياراً للمكاتبة، أي اختيار لبدل الكتابة.(8/559)
وإذا ادعى عبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم، وهي قيمته، وادعى المولى أنه كاتبه على ألفين، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي بالألفين على المكاتب فأداها، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ألف درهم للمكاتب؛ لأنهما أوجبا على المكاتب زيادة ألف بغير عوض حصل له، فإذا رجعا ضمنا ذلك للمكاتب، وكان الجواب فيه كالجواب فيما لو وقع مثل هذا الاختلاف بين البائع والمشتري.
قال البائع: بعتك هذا العبد بألفين، وقال المشتري: لا بل بألف، وقيمة العبد ألف، فأقام البائع بينة على ما ادعى، وقضى القاضي على المشتري بألفي درهم، ثم رجعا ضمنا للمشتري ألف درهم؛ لأنهما أوجبا على المشتري زيادة ألف بغير عوض حصل للمشتري فضمنا له ذلك، هذا ولو كان المكاتب لم يدع المكاتبة، وقال المولى: كاتبتك على ألفي درهم وجحد المكاتب ذلك، فأقام المولى على ذلك بينة، فإن القاضي لا يقضي بالكتابة ببينة المولى، وهذا الجواب الذي قاله لا يشكل على رواية كتاب الرهن فإنه على رواية كتاب الرهن جعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، حتى قال: إذا كان المرتهن جاحداً لا يقضي بالرهن لأنه يملك الفسخ، والمكاتب ممن يملك الفسخ بأن يعجز نفسه فيكون جحوده فسخاً.
ولو قال: فسخت الكتابة فإنه لا يقضي عليه ببينة المولى بالكتابة، فكذلك هذا، فأما على رواية كتاب الرجوع: يجب أن يقضي ببينة المولى وإن كان المكاتب جاحداً وهو مالك للفسخ.
كما قال في الرهن: إذا ادعى الراهن ثوباً في يد المرتهن إنه له رهنه من المرتهن وأنكر المرتهن ذلك، فإنه يقضي ببينة الراهن، وإن كان المرتهن مالكاً للفسخ كالمكاتب هنا، فيحتاج إلى الفرق على رواية كتاب الرجوع.
ووجه الفرق بينهما: أن القضاء بالرهن ببينة الراهن إن كان لا يفيد دوام العقد؛ لأن للمرتهن أن يفسخه بعد ذلك، ذلك يفيد فائدة أخرى وهي أن تصير العين التي في يده مضموناً عليه حتى إذا هلك في يده قبل الرد يهلك مضموناً عليه، فأما القضاء بالكتابة مع جحود المكاتب لا يفيد شيئاً لا دوام العقد ولا وجوب الضمان عليه فإنه متى فسخ الكتابة لم يبق العقد ولم يجب عليه شيء وإذا لم ينفذ القضاء بالكتابة فائدة مع إنكاره لم يقض بها؛ لأن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد، وكان وزان مسألة الكتاب من مسألة الرهن أن لو كان الثوب في يد الراهن، وجحد المرتهن الرهن وهناك القاضي لا يقضي بالرهن مع إنكار المرتهن، لأن القضاء بالرهن لا يفيدهما لا دوام العقد ولا ضمان.
وإذا لم يقض بها فقال للمكاتب بعد هذا: إن شئت فامض في الكتابة وإن شئت فدعها وكن رفيقاً، وهذا التخير إنما يستقيم على رواية كتاب الرجوع لأن على رواية كتاب الرجوع لم يجعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، بل اعتبره إنكاراً للعقدين من الأصل فيخير المكاتب، فيقال له: إن شئت فامض فيها وإن شئت فدعها، فأما على رواية(8/560)
كتاب الرهن: لا يستقيم هذا التخير؛ لأنه اعتبر الجحود فسخاً وهو مالك لذلك فانفسخ، وإذا انفسخت الكتابة لا يستقيم هذا التخيير.
قال: فإن كان المكاتب ادعى أنه حر فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على ألفين، وقضى القاضي عليه بذلك فأدى المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، وقالا: شهدنا بباطل، فإن هما يضمنان للمكاتب ألفين وإن كانت قيمته أقل من ذلك؛ لأنهما أوجبا على المكاتب ألفين من غير عوض حصل له، فإنهما زعما أنه كان حراً، وأنه لم يحصل له شيء من جهة المولى بإزاء ما أوجبا عليه من ألف درهم، فيضمنان ذلك للمكاتب قضى بشهادتهما هنا، وإن كان المكاتب جاحداً للكتابة.
وقال في المسألة الأولى: لا يقضى بالكتابة متى كان المكاتب جاحداً للكتابة، وذلك لأن القضاء بالكتابة بشهادتهما لا يفيد شيئاً في المسألة الأولى لا دوام العقد، فإن للمكاتب فسخه ولا ثبوت الرق، فإن الرق كان ثابتاً من قبل بتصادقهما، وإذا لم ينقد شيئاً لم يجز الاشتغال به، فأما في مسألتنا هذه فالقضاء بالكتابة إن كان لا يفيد دوام العقد فإن للمكاتب أن يفسخه، يفيد ثبوت الرق؛ فإنه متى قضى بكتابته إذا فسخت الكتابة يصير رقيقاً للمولى، وقبل ذلك لم يكن الرق ثابتاً للمولى فيه، وإذا أفاد القضاء بالكتابة فائدة ما، وهو ثبوت الرق عليه جاز الاشتغال به، ثم قال: ولا يثبت هذا الرق، يريد بذلك أنه متى كان مقراً بالرق فإنه لا يقضى بشهادتهما، ومتى كان منكراً للرق وادعى أنه حر يقضي لما ذكرنا.
الفصل السابع: في الرجوع عن الشهادات في البيع والهبة
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع داره من هذا الرجل، والبائع يجحد، والمشتري يدعي، وقضى القاضي بالبيع ونقد المشتري الثمن وأخذ الدار، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن كانت قيمة الدار مثل الثمن المسمى أو أقل، فلا ضمان عليهما لأن الإزالة حصلت لعوض يعدل الدار أو يزيد عليه، وإن كانت قيمة الدار أكثر من الثمن ضمنا الفضل لأن في حق الفضل الإزالة حصلت بلا عوض؛ هذا إذا شهدا بالبيع ولم يشهدا نقد الثمن، فأما إذا شهدا بالبيع ونقد الثمن ثم رجعا عن شهادتهما فهذا على وجهين.
الأول: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادة واحدة بأن شهدا أنه باع هذه الدار منه بألف درهم وأوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بقيمة المبيع للبائع ولا يقضي بالثمن.
الوجه الثاني: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين بأن شهدا على البيع أولاً، ثم شهدا أن المشتري أوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما(8/561)
بالثمن للبائع، والفرق بينهما أنهما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن شهادة واحدة، فالمقضي به البيع دون الثمن لأنه لا يمكن للقاضي القضاء بإيجاب الثمن لأنه يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه وهو القضاء بالإيفاء.
لهذا قلنا: لو شهد الشاهدان على رجل أنه باع عبده من هذا الرجل وقابله شهدا عل البيع والإقالة (163ب4) شهادة واحدة فالقاضي لا يقضي بالبيع لأنه قارن القضاء بالبيع ما يوجب انفساخه، وهو القضاء بالإقالة كذا ههنا، وإذا كان المقضي به في هذه الصورة المبيع دون الثمن، والشاهد عند الرجوع يضمن المقضي يضمن به قيمة المبيع لأن إزالة المبيع حصلت بغير عوض لما رجعا عن شهادتهما، فأما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين، والثمن مقضي به فلأن القضاء بالثمن ممكن لأنه لم يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه لأن حال ما شهدا بالبيع لم يشهدا بالإيفاء؛ وإنما شهدا بالإيفاء بعد ذلك، وإذا صار مقضياً به فإذا رجعا عن شهادتهما ضمنا الثمن، ولم يضمنا قيمة المبيع، وإن صار المبيع مقضياً به في هذه الحالة مع الثمن لأن إزالة المبيع حصلت بعوض، فلا يضمنان قيمة المبيع، ويضمنان الثمن لأن الثمن مقضي به.
رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه وهبه لهذا الرجل وسلمه إليه، وشهد آخران أنه وهبه لهذا والقاضي لا يعرف التاريخ قضى بالعبد بينهما نصفان لاستوائهما في الدعوى والحجة، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم ضمن كل فريق للواهب نصف قيمة العبد.
قال محمد رحمه الله: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به أنه إذا شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الآخر، وزكيت البينتان وقضى القاضي بالعبد بينهما نصفين لاستوائهما في الدعوى والحجة، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهم لا يضمنون للورثة شيئاً، وههنا قال: كل فريق يضمن للواهب نصف قيمة العبد، والفرق أن في مسألة الوصية، القاضي قضى بجميع الوصيتين، فإن الوصية بعد الوصية صحيحة.
فإن من أوصى بعبده لرجل ثم أوصى به لرجل آخر صحت الوصيتان، حتى لو رد أحدهما كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا كان ما شهد به كل فريق مستحقاً على الوارث بشهادة الفريق الآخر، ورجوع كل لم يظهر في حق غيره، فصار في حق كل فريق كأن الفريق الآخر ثابت على الشهادة، أما في مسألة الهبة قضاء القاضي بشهادة الفريقين بهبة واحدة النصف لهذا والنصف لذلك، أما ما قضى بالهبتين؛ لأن الهبة بعد غير صحيحة، ولما كان هكذا صار الثابت بكل بينة النصف، ولهذا قلنا: لو كانت هذه الدعاوي في شيء يحتمل القسمة لا يقضي بين الموهوب لهما بشيء لأنه يؤدي إلى تجويز هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، ولما كان هكذا صار كل فريق متلفاً على الواهب النصف من غير أن يكون ذلك مستحقاً بشهادة الفريق الآخر، فلهذا ضمن كل فريق النصف للواهب.
ثم قال في مسألة الهبة: أحد الفريقين لا يضمن للمدعين شيئاً، وفي مسألة الوصية(8/562)
قال: يضمن كل فريق للذي لم يشهد له بالوصية نصف قيمة العبد.g
والفرق أن الشاهد إنما يضمن عند الرجوع قدر ما قضى القاضي بشهادته، وفي مسألة الهبة، القاضي إنما قضى بشهادة كل فريق للذي شهد له بهبة نصف العبد وقد سلم لكل واحد من المدعين نصف العبد، فلم يصر واحد من الفريقين متلفاً شيئاً على الذي لم يشهد له، أما في مسألة الوصيتين، القاضي قضى لكل واحد منهما بالوصية في جميع العبد، وإنما منع من الاستيفاء بحكم المزاحم الثابت بشهادة الفريق الآخر فكان كل فريق متلفاً على الموصى له الذي لم يشهد له نصف العبد، فيضمن له نصف القيمة فلهذا افترقا.
رجل في يديه عبد قيمته خمسمئة جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع العبد منه إلى سنة بألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعا عن شهادتهما، فالبائع بالخيار إن شاء ضمن الشهود وقيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة، فإن ضمن الشهود قيمة العبد خمسمئة حالة كان للشهود أن ... المشتري بألف درهم، إلى سنة، لأن البائع لما ضمن الشهود فقد أقامهم مقام نفسه، فيحول إليهم من المطالبة ما كانت للبائع، وإذا رجعوا على المشتري بعد حلول الأجل يطيب لهم من ذلك قدر رأس مالهم، وذلك خمسمئة ويتصدقان بخمسمئة لاستفادتهما هذا القدر بسبب خبيث وهو الشهادة، ولو شهدا بالبيع بألف درهم حالة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم شهدا أن البائع أجل المشتري الثمن إلى سنة، وقضى القاضي بالأجل، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً ضمنا الثمن للبائع وذلك ألف درهم، ولو كانت الشهادة بالتأجيل مع الشهادة بالعقد بدفعة واحدة، وقضى القاضي بشهادتهما كان البائع بالخيار، إن شاء ضمن الشاهدين قيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة.
والفرق: أن في الفصل الأول الثمن الحال صار مقضياً به إذا لم يقارن القضاء بالثمن الحال ما يمنع القضاء به فصار الثمن الحال مقضياً به فحين شهدا عليه بالأصل فقد فوتا عليه إمكان الأخذ فيضمنان عند الرجوع، أما في الفصل الثاني فالثمن الحال ما صار مقضياً به لأنه قارن القضاء ما يمنع القضاء بالثمن الحال، وهو الأجل فلم يكونا مفوتين عليه إمكان الأخذ فلا يضمنان.
الفصل الثامن: في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة
قال في «الأصل» : وإذا ادعى رجل على رجل: إني ابنك، والرجل يجحد دعواه،(8/563)
فأقام الابن البينة أنه ابنه، وقضى القاضي بذلك وأثبت نسبه، ثم رجعوا فإنهم لا يضمون شيئاً للأب سواء رجعوا حال حياة الأب أو بعد وفاته، لأنهم ما ألزموه مالاً إنما ألزموه النسب، والنسب ليس بمال، وكذلك لا يضمنون لسائر الورثة ما ورثه الابن المشهود له لأن استحقاق الميراث مضاف إلى موت الأب لا إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، وهذا لأن استحقاق الميراث وإن كان لابد له من الموت والنسب إلا أن الموت آخرهما وجوداً فيضاف الاستحقاق إليه.
وكذلك إذا ادعى رجل ولا رجل وقال: إني أعتقتك، والمعتق يجحد فأقام المدعي البينة على دعواه ثم رجعوا لا يضمنون شيئاً سواء رجعوا حال حياة المعتق أو بعد وفاته؛ لأن استحقاق الميراث مضاف الى الموت الذي هو آخرهما وجوداً لا إلى الولاء الذي ثبت بشهادتهما، ولو شهد الرجل أنه ابن هذا القتيل ووارثه لا وارث له غيره، والقاتل مقر أنه قتله عمداً، وقضى القاضي للمشهود له بالقصاص فقتله المشهود له، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم لا يضمنون للقصاص شيئاً؛ لأن القصاص ليس بمال ولكن يضمنون كل ما ورثه هذا الابن المشهود له من القتيل لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، لا إلى الموت؛ لأن النسب آخرهما، وقد أقروا بالرجوع أنهم أتلفوا على ورثة المعروفين، فلهذا ضمنوا بخلاف المسألة الأولى، وعلى هذا إذا شهدوا بالولاء بعد موت المعتق، ثم رجعوا عن شهادتهما فإنهم يضمنون جميع ما ورثه المعتق لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث في هذه الصورة مضاف إلى الولاء.
وعلى هذا إذا شهدوا بنكاح امرأة ومات الزوج بعد قضاء القاضي بالنكاح، ثم رجعوا عن شهادتهم وكان الرجوع (164أ4) منهم حال حياة الزوج فلا ضمان عليهم، ولو شهدوا بالنكاح بعد موت الزوج، ثم رجعوا ضمنوا حصتها من الميراث لسائر الورثة، والمعنى ما ذكرنا.
ولو شهدوا لرجل مسلم كان أبوه كافراً أن أباه قد أسلم بعد موته؛ وللميت ابن كافر، وقضى القاضي بالميراث كله للابن المسلم، ثم رجعوا عن شهادتهم فإنهم يضمنون للابن الكافر جميع ما ورثه الابن المسلم، لأن استحقاق الابن المسلم الميراث على الابن الكافر مضاف إلى ما ثبت بشهادة الشهود، وهو إسلام الأب، لأنهم شهدوا بعد موت الأب.
وإذا أسلم كافر ثم مات وله ابنان مسلمان كل واحد منهما يدعي أنه أسلم قبل موته؛ وأقام على ذلك شهوداً، وقضى القاضي بينهما بالميراث، ثم رجع شهود أحد الابنين فإنهم يضمنون جميع ما ورث هذا الابن للابن الآخر، لأن استحقاق الميراث في حق هذا الابن مضاف إلى ما ثبت بشهادة شهوده وهو إسلامه قبل موت الأب ثبت بشهادة شهوده.
قال: صبي في يدي رجل لا يعرف أنه حر أو عبد، شهد شاهدان على إقرار(8/564)
صاحب اليد أنه ابنه وقضى القاضي بنسبه، ثم مات الأب وقضى القاضي بالميراث لهذا الصبي، ثم رجعا عن شهادتهما؛ فإنهما لا يضمنان شيئاً لا الميراث ولا قيمته، وأما الميراث، فلأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى موت الأب، وأما قيمته فلأنهم لم يتلفوا عليه ملكه الثابت فيه إذا لم يعرف أنه عبد، لأن الحرية أصل في بني آدم إلا أن يعرف خلافه ولم يعرف.
ولو كان في يدي رجل عبد صغير وأمة صغيرة لا يعيران عن أنفسهما، وصاحب اليد يدعي أنهما مملوكان له حتى ثبت كونهما مملوكين لذي اليد بقوله، ثم شهد شهود حال حياة صاحب اليد أنه أقر أن هذا الصبي ابنه، وشهد شهود آخرون أنه أعتق هذه الأمة، ثم تزوجها على ألف درهم، والرجل يجحد ذلك، فقضى القاضي بشهادتهم وألزم الرجل النكاح والنسب والعتق، ثم مات الرجل، ثم رجع الشهود عن شهادتهم فإن شهود الابن يضمنون قيمة الابن للورثة المعروفين إلا ما يخصه من الميراث، فإنهم لا يضمنون ذلك القدر وشهود عتق الأمة يضمنون قيمة الأمة للورثة المعروفين إلا ما يخصها من الميراث، وكان ينبغي أن يضمن كل فريق جميع القيمة لأن من زعم كل فريق ان المشهود ليس بوارث وأن جميع قيمته موروث للورثة المعروفين لا نصيب له من ذلك والورثة المعروفون يصدقونهم في جميع ذلك فيضمنون جميع القيمة كما أقروا، ألا ترى أنهم شهدوا بهذا بعد موت المولى والباقي بحاله فإن كل فريق يضمن جميع القيمة، وطريقة ما قلنا كذا ههنا.
قيل في الجواب عن هذا: أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله.
ووجهه أن يقال: بأن في زعم الشهود عند الرجوع متى حصلت الشهادة منهم حال حياة المولى أن ما وجب عليهم من قيمة الابن، والأمة مورثة بين الورثة المعروفين وبينهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه في زعمهما أن النكاح والنسب وإن لم يكن ثابتاً فقد (ثبت) بقضاء القاضي، أما النكاح فلأن القاضي يملك إنشاء النكاح بولاية القضاء من غير بينة بملك أنشأه بشهادة الزور عند أبي حنيفة إذا لم يكن أنشأه، وحال حياة الزوجين الإنشاء ممكن فيثبت النكاح بقضاء القاضي وإذا كان في زعم الشهود أن النكاح ثبت بقضاء القاضي كان في زعمهم أن بعض قيمتها ميراث لها، والبعض لباقي الورثة المعروفين، فكانوا مقرين لها ببعض القيمة غير أنها كذبتهم في الإقرار ببعض القيمة لها بتكذيبها، ورفع عنهم حصتها من قيمتها من هذا الوجه، وأما النسب فلأن القاضي إن كان لا يملك إنشاء النسب بولاية القضاء من غير شهادة بحال؛ فالخصمان يملكان إثباته، وكما يملك القاضي الإنشاء بشهادة الزور فيما يملك إنشاؤه بولاية القضاء من غير بينة، يملك الإنشاء بشهادة الزور فما يملك الخصمين إنشاءه على إحدى الروايتين.
عن أبي حنيفة فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء الهبة بشهادة الزور، حتى قال: قضاءً القاضي بالهبة بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً على هذه الرواية والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة، ولكن طريقه أن الخصمين(8/565)
يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشائها بشهادة الزور، وإذا كان كذلك كان في زعم شهود الابن أن النسب ثبت بقضاء القاضي، وما وجب عليهم من قيمة الابن للميت بعضها ميراث الابن وبعضها ميراث الورثة المعروفين إلا أن الابن كذبهم في إقرارهم ببعض القيمة له على ما ذكرنا في الأمة؛ فرفع عنهم حصته من ذلك لهذا.
بخلاف ما إذا شهدوا بذلك بعد موت المولى؛ لأن هناك في زعمهم بعد الرجوع أن جميع قيمتها ميراث للورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك؛ لأن في زعمهما أن النكاح والنسب لم يكن ثابتاً، ولم يثبت بقضاء القاضي، لأنه إنما يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور ما يملك القاضي إثباته بولاية القضاء من غير شهادة، أو ما يملك الخصمان إثباته بأنفسهما، والقاضي لا يملك إنشاء النكاح بين اثنين وأحدهما يثبت لولاية القضاء بحال من الأحوال، وكذلك الخصمان لا يملكان ذلك، وإذا كان كذلك كان في زعم الشهود أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، فكان في زعمهم أن جميع القيمة للورثة المعروفين والورثة المعروفون صدقوهم في ذلك، فضمنوا كما أقروا.
وأما على قول محمد وهو قول أبي يوسف الآخر: ينبغي أن يضمن الشهود جميع قيمة الابن والأمة لا ترفع عن ذلك حصتهما؛ لأن في زعم الشهود عندهما أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، وإن ما وجب عليهما من قيمتهما ميراث بين الورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك، فيؤاخذون بإقرارهم، قال: ولا ضمان على الشهود فيما ورثه الابن والأمة؛ لأن الشهادة بالنكاح والنسب وجدت في حالة الحياة، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما، حتى لو كانت الشهادة بعد موت المولى يضمنون ذلك؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة مضاف إلى ما ثبت بشهادتهم، وهو النكاح والنسب، قال: ولا يضمنون شهود النكاح المهر إلا إذا كان المسمى أكثر من مهر مثلها فحينئذ يضمنان الفضل إلا ما يخصها من الفضل، بخلاف ما إذا شهدا بذلك بعد موت المولى فإنهما يضمنان المهر للورثة المعروفين، وإن كان المسمى مثل مهر المثل؛ لأن الشهادة بالنكاح متى كانت في حالة الحياة، ومهر مثلها مثل المسمى أو أكثر من المسمى فإيجاب المهر على الزوج حصل بعوض يعدله أو يزيد عليه، لأن النكاح قد ثبت بقضاء القاضي وصار منافع بضعها عوضاً عن المهر فلا يضمنان شيئاً، بخلاف ما إذا كان المسمى أكثر لأن بقدر الفضل حصل الإيجاب بغير عوض، فيضمنان الفضل ويكون ذلك موروثاً بين هذه وبين باقي الورثة المعروفين؛ لأن النكاح قد ثبت في زعمهم بقضاء القاضي، بخلاف ما إذا كانت الشهادة بعد الموت؛ لأن النكاح لم يثبت بقضاء القاضي، فلم يصر منافع بضعها عوضاً عما أوجبا عليه من المهر فبقي إيجاباً بلا عوض.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له جاريتان لكل واحدة منهما ولد ولدته في ملك الرجل، فشهد شاهدان لأحد الولدين بعينه وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك، وشهد شاهدان آخران للولد الآخر وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك أيضاً، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الابنين ابني الرجل، والأمتين أم ولد له، ثم رجع(8/566)
الشهود جميعاً عن شهادتهم فالولدان ابنا المولى والجاريتان أمي ولد له لما مر أن رجوع الشهود لا يعتبر في حق المشهود عليه، وإنما يعتبر في حق (164ب4) الشاهدين بإيجاب الضمان عليهما، والمسألة في حق حكم الضمان على وجوه، فإن كانت الشهادة والرجوع عنها حال حياة المولى، فإن كان الولدان كثيرين ضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهد بنسبه ونقصان الاستيلاد في الأمة التي شهد لها للمولى، لأن في زعم كل فريق عند الرجوع أنه أتلف على المولى الولد الذي شهد بنسبه، وأتلف من الجارية التي شهد لها قدر ما انتقص بسبب أمومية الولد للحال بغير حق، وزعم كل إنسان حجة في حقه.
فإن قيل: ينبغي على قياس قول أبي حنيفة أن يضمن كل فريق من الشهود جميع قيمة الجارية عنده حتى لا يضمن بالغصب.
قلنا: ما بقي بعد الاستيلاد وهو الاستفراش ينتفع في حق المولى، وإن لم يكن مالاً متقوماً ومع بقاء بعض المنفعة على ملك المولى لا يمكن إيجاب جميع القيمة للمولى، فأوجبنا النقصان لهذه الضرورة، ثم إذا أخذ المولى ذلك القدر من الشهود استهلكه، ومات ولا وارث له غير الابنين، وكل واحد من الابنين يجحد أن يكون صاحبه ابن المولى، كانت أمواله ميراثاً بين الابنين، وعتقت الجاريتان، وضمن كل فريق من الابنين قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها، لأنهم صاروا متلفين لما بقي عند موت المولى بالشهادة السابقة بغير حق، ويكون ذلك للمولى ميراثاً عند الابنين إلا أن كل ابن يصير مسرياً لشهوده عن حصته من ذلك، لأنه يقول: شاهدي صادق في الشهادة كاذب في الرجوع، ولا ضمان عليه، وقول كل إنسان حجة في حقه، وليس بحجة في حق صاحبه، فبقي نصيب كل ابن على الشهود الذين لم يشهدوا له، وذكر في «الأصل» أن كل فريق من الشهود يضمن نصف قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها للابن الآخر، ولا تفاوت بينهما، فما ذكر في «الجامع» إشارة إلى أصل الوجوب وما ذكر في «الأصل» إشارة إلى الحاصل، ولا يضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهدوا له؛ لأنهم قد ضمنوا ذلك مرة فلا يضمنون ذلك مرة أخرى، قال: ويرجع كل فريق من الشهود على الولد الذي شهدوا له بيما ورث عن أبيه بما ضمنهم أبوه من قيمة الولد الذي شهدوا له، ومن نقصان الاستيلاد في أمه؛ لأن في زعم كل ابن أن ما أخذه أبوه من شهوده أخذه بغير حق؛ لأنهم صادقون في الشهادة كاذبون في الرجوع، وصار ذلك ديناً في تركته، والدين مقدم على الميراث، وزعم كل إنسان معتبر في حقه، وكان ينبغي أن لا يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بشيء؛ لأن الابن وإن أقر لهم بذلك إلا أنهم ردوا إقراره حين رجعوا، فإنهم بالرجوع اعترفوا أن ما أخذه الميت منهم استوفى زماناً واجباً عليهم، والإقرار يزيد بالرد، قلنا: إن مشايخ بلخ
قالوا ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مؤول.
وتأويله: أن الشهود رجعوا عن الرجوع فقالوا صدقنا في الشهادة وكذبنا في(8/567)
الرجوع، فأما إذا كانوا ثابتين على الرجوع فلا شيء لهم، وإذا كان تأويل المسألة هذا، فتقريبه أن كل فريق وإن ردوا إقرار الابن الذي شهدوا له، إلا أن الابن مصر على إقراره، فهب أن ذلك الإقرار بطل بالتكذيب، فالإقرار القائم بعد رجوع الشهود عن الرجوع لم يبطل لانعدام التكذيب فيلتحق التصديق به.
ومشايخ عراق قالوا: لا بل يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بما قلنا سواء رجعوا عن الرجوع أو داموا على الرجوع، وإطلاق محمد في «الكتاب» يدل عليه.
ووجه ذلك: أن كل فريق من الشهود لم يكذب الابن المشهد له فيما أقر؛ لأن رجوعهم محتمل يحتمل أن يكون باعتبار أن الأب لم يدع بسبب هذا الولد أصلاً، وعلى هذا التقدير يكون تكذيباً له فيما أقر، ويحتمل أن يكون باعتبار أنهم لم يعلموا دعوة الأب بسبب الولد المشهود له، والابن المشهود له علم بذلك، وعلى هذا التقدير لا يكون تكذيباً له، ولا يبطل الإقرار بالشك ولا يرجع كل فريق من الشهود على الابن المشهود له بما غرم لأخيه من نصف قيمة أمه بعد النقصان، لأن في زعمه أن أخاه ذلك أخذ بغير حق، وأن ذلك دين على أخيه، أما إذا كان تصديق كل واحد منهما صاحبه فالشهود لا يضمنون شيئاً للابنين، ويأخذ كل فريق من الشهود ما ضمن للميت من قيمة الولد المشهود له، ومن نقصان أمه مما ورثا عن أبيهما؛ لأنهما أقرا أن جميع ذلك دين لهما على أبيهما، والدين مقدم على الميراث، وفيما إذا جحد كل واحد منهما صاحبه؛ فكل فريق من الشهود يأخذ ما ضمن للميت من نصيب الابن المشهود له خاصة، لأن هناك كل واحد من الابنين منكر أن يكون ما أخذه أبوه من شهود صاحبه ديناً في تركته، فلا يستوفي ذلك من نصيبه، أما ههنا بخلافه.
قال: ولا يضمن كل فريق من الشهود ما ورثه الابن الذي شهدوا له بنسب الابن الآخر؛ لأن الشهادة حصلت في حال حياة المولى، واستحقاق الإرث إذا كانت الشهادة في حالة الحياة يضاف إلى الموت لا إلى النسب، والموت لم يثبت فشهادتهما فلم يكن التلف حاصلاً بشهادتهما، فلا يضمنان شيئاً، هذا الذي ذكرنا إذا كانت الشهادة والرجوع حال حياة المولى، وإن كانت الشهادة حال حياة المولى من الفريقين والرجوع بعد وفاته ضمن كل فريق للابن الذي لم يشهدوا له نصف قيمة الابن الذي شهدوا له، ونصف قيمة أمه فيه، أما نصف قيمة الابن؛ لأن في زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أنهم بشهادتهم أتلفوا مال الولد المشهود له، وصار ذلك ديناً عليهم للميت ميراثاً بين ورثته إلا أن الابن المشهود له أبرأهم عن نصيبه وهو النصف، بقي نصيب الابن الآخر وهو النصف؛ بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يجب على كل فريق جميع قيمة الولد المشهود له، لأن هناك القيمة تجب للمولى، والمولى لم يصر ميراثاً لهم عن شيء من ذلك، وأما نصف قيمة الأم فلهذه العلة أيضاً.
وأما نصف قيمة الأم فيه، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك كل فريق يضمن نصف(8/568)
قيمة الجارية المشهود لها، الابن الآخر أم ولد، لأن هناك المولى أخذ ضمان النقصان من كل فريق من الشهود بما ضمن الابن الذي لم يشهد له على الابن المشهود له بما أخذ المولى منهم، لأن هناك في زعم كل فريق أن ما أخذه الأب من شهوده صار ديناً في تركة الأب والدين مقدم على الميراث.
أما ههنا الأب لم يأخذ شيئاً من الشهود، إنما أخذ الأخ من الشهود وصار ذلك ديناً على الأخ بزعم كل ابن، ودين الأخ لا يستوفى من تركة الأب، ولا يضمن كل فريق للابن الآخر ما أحرز المشهود له من الميراث، لما ذكرنا في الوجه الأول وهذا الذي ذكرنا إذا كان كل ابن يجحد صاحبه، فأما إذا صدق كل ابن صاحبه فالشهود لا يضمنون للابنين شيئاً، لما ذكرنا في الوجه الأول.
وإن كانت الشهادة من الفريقين والرجوع عنها بعد وفاة المولى، وترك الميت أخاً معروفاً وأموالاً كثيرة، وقد كان قضى القاضي بعتق الابنين وبعتق أمهما وقضى بالميراث، وكل واحد من الابنين يجحد صاحبه، فإن كل فريق من الشهود يضمن الابن الذي لم يشهد له، وجميع قيمة الابن الذي شهد له وجميع قيمة أمه.
بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حياة المولى، فإن هناك يضمن كل فريق نصف قيمة الابن المشهود له ونصف قيمة أمه الابن الآخر، والفرق أن الشهادة إذا كانت في حالة الحياة، واتصل بها القضاء، ففي زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أن قيمة الابن المشهود له قد لزمه، وصار ذلك ميراثاً بين الابنين؛ لأن في زعم (165أ4) كل فريق أن الابن المشهود له إن لم يكن وارثاً، فقد صار وارثاً بقضاء القاضي، وإن شهدا بالزور لما كانت الشهادة، والقضاء بهما في حالة الحياة، فلم يصر كل فريق مقراً للابن الآخر إلا بنصف قيمة الابن المشهود له، ونصف قيمة أمه فأما إذا كانت الشهادة والقضاء بها بعد الوفاة، ففي زعم كل فريق أن قيمة الابن المشهود له بكمالها للابن الآخر لا حظ للابن المشهود له منها، لأن في زعمه أن الابن المشهود له لم يكن وارثاً، ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي، بشهادتنا بالزور لما كانت الشهادة والقضاء بها بعد موت المولى، فصار كل فريق مقراً بجميع قيمة الابن المشهود له، وبجميع قيمة أمة للابن الآخر والابن الآخر صدقه في ذلك حيث جحد وراثة صاحبه، ويضمن كل فريق ما ورثه الابن المشهود له للابن الآخر بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حال حياة المولى، وهذا لأن الشهادة إذا كانت بعد الوفاة فاستحقاق الإرث مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادة الشهود، فكان التلف مضافاً إلى شهادة الشهود، فأما إذا كانت الشهادة في حالة الحياة فالتلف غير مضاف إلى شهادتهم على ما مر، فلهذا افترقا، ولا يرجع كل فريق من الشهود بما ضمن الأب الآخر في ميراث المشهود له لما قلنا في الوجه
الثاني، ولا يغرم الشهود للأخ شيئاً، لأن من حجة كل فريق أن يقول للأخ: لولا شهادتنا لكان الحرمان ثابتاً في حقك بشهادة الفريق الآخر، هذا إذا كانت الشهادتان من فريقين متفرقين، فأما إذا كانت من فريق واحد بأن شهد شاهدان أن المولى قال في كلمة واحدة: هذان ابناي من هاتين الجاريتين، والابنان كبيران يدعيان ذلك مع(8/569)
الجاريتين، فقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا.
فإن كانت الشهادة والرجوع في حال حياة المولى ضمن الشهود للمولى قيمة الولدين ونقصان الاستيلاد لما ذكرنا، فيما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإذا أخذ المولى ذلك واستهلكه ثم مات المولى لم يغرم الشهود شيئاً من قيمة الابنين؛ لأنهم لو غرموا للابنين، والابنان قد أبرأا الشهود عن ذلك حيث ادعيا ما شهد به الشهود، ويرجع الشهود بما ضمنوا فيما ورث الولدان عن أبيهما؛ لأنهما يصدقان الشهود في الشهادة لما ادعيا ما شهد به الشهود، فصارا مقرين بأن ما أخذ الأب من الشهود صار ديناً في تركة الأب، والدين مقدم على الميراث، ولا يضمن الشهود للأخ شيئاً مما ورثه الابنان إن كان للميت أخ، لأنهم شهدوا بالنسب حال حياة المولى.
وإن كانت الشهادة في حال حياة المولى والرجوع بعد وفاة المولى لم يغرم الشهود شيئاً للابنين ولا للأخ إن كان للميت أخ لما قلنا، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى فالشهود لا يغرمون للابن شيئاً ويغرمون للأخ إن كان للمولى أخ قيمة الجاريتين وقيمة الابنين وما ورثه الابنان، بخلاف ما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإن هناك لا يضمن الشهود للأخ، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى.
والفرق بين الفريقين والفريق الواحد يأتي بعد هذا كله إذا كان الولدان كثيرين والشهود فريق واحد، فأما إذا كان الشهود فريقاً واحداً والولدان صغيران وقت الشهادة ينتظر بلوغهما، فإذا بلغا فإن صدق كل واحد منهما الشهود في جميع ما شهد به الشهود فهذا وما لو كانا كبيرين وقت الشهادة وادعيا جميع ما شهد به الشهود سواء، وإن كان صدق كل واحد منهما الشهود فيما شهدوا له به وكذبهم فيما شهدا لصاحبه به فهذا، وما لو شهد لكل ابن فريق وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء؛ لأن الشهادة ههنا لا تنتقض، وإن كذب كل واحد منهما شهوده إما لأن هذا تكذيب بعد القضاء وإنه لا يوجب بطلان القضاء والشهادة لما تبين، أو لأن هذا تكذيب فيما شهدا له، وتكذيب المشهود لا يبطل الشهادة، وإذا لم تنتقض الشهادة ههنا بهذا التكذيب صار هذا الفصل وما إذا شهد لكل فريق على حده وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء، ولم يذكر محمد رحمه الله في الكبيرين هذا الفصل، أنه إذا كان الشهود فريقاً واحداً وصدق كل من الابنين الشهود فيما شهدوا له وكذبهم فيما شهدوا لصاحبه هل تقبل شهادتهم؟.
وحكي عن القاضي الإمام أبي الحسين بن الخضر النسفي أنه قال: لا تقبل شهادتهم، وفرق بين الكبيرين والصغيرين فإن الصغيرين إذا بلغا وصدق كل واحد منهم الشهود فيما شهدوا له دون صاحبه لا تبطل الشهادة، والفرق أن كل واحد من الابنين فسق الشهود حيث كذبهم فيما شهدوا لصاحبه، إلا أن في حق الصغيرين التفسيق كان بعد القضاء لهما بهذه الشهادة في حالة الصغر، وتفسيق المشهود له الشاهد بعد القضاء لا يوجب بطلان القضاء؛ لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا كان أهلاً للشهادة عندنا، فعلى اعتبار أن يكون صادقاً لا يجوز إبطال القضاء وعلى اعتبار أن يكون كاذباً يجوز(8/570)
إبطال القضاء، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، أما في حق الكبيرين الفسق وجد قبل القضاء وكما لا يجوز إبطال القضاء بالشك لا يجوز القضاء بالشك.
وعامة المشايخ قالوا: لا بل الجواب في حق الكبيرين والصغيرين واحد، حتى يجوز القضاء بهذه الشهادة؛ لأن كل واحد من الكبيرين وإن كذب الشهود ولكن كذبهم فيما شهدوا عليه لا فيما شهدوا له، وهذا لا يوجب خللا في الشهادة إذ المشهود عليه أبداً يكذّب الشهود فيما يشهدون.
ولهذا قلنا: إذا شهد الشهود لرجل بدين مؤجل وأنكر المشهود له الأجل تقبل الشهادة، وإن كذب شهوده في الأجل؛ لأنه كذّبهم فيما شهدوا عليه؛ لأن الأجل عليه.
وكذلك إذا شهد رجلان لزيد على عمرو بألف درهم وعمرو ينكر ذلك ثم شهدوا لعمرو على زيد بمئة دينار وزيد ينكر، فالقاضي يقضي بالشهادتين جميعاً، وقد كذب كل واحد منهما شهوده؛ لأنه كذبهم فيما شهدوا عليه صح أن الجواب في حق الكبيرين نظير الجواب في حق الصغيرين.
فإن قيل: إذا كان الولدان صغيرين ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على النسب والحرية، والشهادةُ على حرية العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عنده، والدعوى من الصغيرين لا تتصور.
قلنا: إنما قبلت هذه الشهادة لوجود الدعوى من الصغيرين اعتباراً.
بيانه: أن كل واحد من الابنين تدعي نسب.... وحريته، وصح ذلك منها؛ لأن ما تدعي كل واحدة منهما لنفسها من أمته الولد لا يثبت إلا بعد ثبات نسب ولدها، فتقوم دعوى كل واحد منهما مقام دعوى ولدها، فهو معنى قولنا: وجد الدعوى من الصغيرين اعتباراً.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل مات وترك أخاً لأبيه، فجاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه، وجاء بشاهدين شهدا أنه أخوه لأبيه وشاهدين آخرين شهدا أنه أخوه لأمه، فالقاضي يقضي بأنه أخوه لأبيه وأمه، ويعطيه كل الميراث، فإن قضى بذلك ثم رجع الشهود عن شهادتهم جملة، ضَمِن اللذان شهدا أنه أخ لأب ثلثي الميراث واللذان شهدا أنه أخ لأمه ثلث الميراث من قبل أنه قد استحق بشهادة اللذَين (شهدا) أنه أخ لأب نصف الميراث، إذ للميت أخ آخر لأب، فضمان ذلك عليهما خاصة واستحق بشهادة اللذين (شهدا) أنه أخ للأم سدس الميراث، وضمان ذلك عليهما أيضاً، والثلث الباقي لم يستحق بشهادة واحد من الفريقين دون صاحبه، فهو على الفريقين نصفين، على كل فريق نصفه وهو السدس، ولو رجع أحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأب، وأحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأم ضمنا النصف بينهما أثلاثاً، ولو لم يكن الأمر على ذلك ولكن شهد شاهدان أنه أخ لأب وقضى القاضي له بنصف المال ثم جاء بشاهدين آخرين شهدا(8/571)
أنه أخ لأم وقضى القاضي له بالنصف الآخر ثم رجع الشهود جميعاً، فعلى كل فريق (165ب4) نصف المال لما ذكرنا أن الواجب على الشهود عند الرجوع ما قضي به بشهادته، وإنما قضي بشهادة كل فريق في هذه الصورة بالنصف.
ولو شهد شاهدان أنه أخ لأم وقضى القاضي له بسدس الميراث ثم شهد آخران أنه أخ لأب وقضى القاضي له بباقي الميراث ثم رجعوا، فعلى اللذين شهدا أنه أخ لأم سدس المال وعلى اللذين شهدا أنه أخ الأب خمسة أسداس المال، وهو بناء على ما قلنا، وكذلك إذا شهدوا معاً وعدل أحد الفريقين وقضى القاضي بشهادتهم، فإنه ينظر في هذا إلى القضاء، فمن قضي بشهادته أولاً فعليه ضمان ما قضي بشهادته والباقي على الفريق الآخر، ولو أن الذي ادعى أنه أخ لأب وأم شهد له شاهد أنه أخ لأب وأم، وشهد له شاهد آخر أنه أخ لأب وقضى القاضي بالميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فعليه ضمان نصف الميراث، وإن لم يرجع هو، لكن رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجع الذي شهد أنه أخ لأم فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجعوا جملة فالضمان عليهم كذلك.
قال الحاكم أبو الفضل: يحتمل أن تكون وجه هذه المسألة: أن الشاهد بالأخوة لأب وأم شارك الشاهد بالأخوة لأب في إيجاب النصف، فهو عليهما نصفان، وشارك الشاهد بالأخوة لأم في إيجاب السدس في ذلك عليهما، وشهد بانفراده بالثلث الباقي وكان مجموع شهادة الآخرين بشهادته أيضاً، فصار نصف ذلك الثلث على الشاهد بالأخوة لأب وأم، ونصفه على الآخرين نصفان، ومعنى قوله: مجموع شهادة الآخرين، شهادته أنه شهد بالأخ لأب وأم ومجموع شهادة الآخرين، هذا أيضاً؛ لأن أحدهما شهد بالأخوة لأب والآخر بالأخوة لأم.
في «نوادر عيسى» أيضاً: رجل مات وترك بنتاً وأخاً لأب فأعطى القاضي البنت النصف والأخ النصف، ثم جاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم، فشهد له شاهد أنه أخوه لأب وأم وشهد الآخر أنه أخوه لأب وشهد آخر أنه أخوه لأم، وقضى القاضي بنصف الميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلاثة أثمان ما صار له من الميراث.
قال الحاكم أبو الفضل: إنه استحق نصف مال أُخذ بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، وشهادة الذي شهد أنه أخوه لأب هو عليها جميعاً، والنصف الآخر استحقه بشهادتهم جميعاً، فنصفه على الذي شهد أنه أخ لأب وأم ونصفه على الآخرين؛ لأن شهادتهما بإزاء شهادته، هذا هو المنقول عن الحاكم الشهيد رحمه الله، ومعنى هذا الكلام: أن المدعي أخذ بحكم الميراث النصف وصار نصف هذا النصف نصفين، فاحتجنا إلى حساب ينتصف نصف نصفه، وأقل ذلك ثمانية جعلنا (هـ) ميراث الميت.
ثم عدنا إلى أصل المسألة وقلنا: في يد البنت أربعة وفي يد الأخ لأب أربعة، وقضى القاضي للمدعي بالأربعة التي في يد الأخ نصفها وذلك سهمان بشهادة الذي شهد(8/572)
أنه أخ لأب وأم، وبشهادة الذي شهد أنه أخ لأب، فعند الرجوع يكون ضمان ذلك عليهما، على كل واحد منهم، والنصف الآخر وذلك سهمان قضي به بشهادة الكل نصفه، وذلك سهم بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم بشهادة الآخرين، وهذا لأن شهادة الآخرين بإزاء شهادة من شهد أنه أخ لأب وأم، لأن أحد الآخرين شهد أنه أخ لأب، والآخر شهد أنه أخ لأم، فمجموع شهادتهما أنه أخ لأب وأم، فصار النصف الآخر مقضياً به بشهادت الكل، فيكون نصفه وذلك سهم على الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم على الآخرين فانكسر هذا السهم فنضعف السهام حتى يزول الكسر.
فجعلنا ميراثه على ستة عشر: في يدي الأخ لأب ثمانية قضي بمجموعهما للمدعي نصفها، وذلك أربعة بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فضمان ذلك عليهما نصفان على كل واحد سهمين، ونصفها وذلك أربعة بشهادتهم جملة، نصفها وذلك سهمان بشهادة الآخرين بشهادة كل واحد منهما سهم، فضمان ذلك يكون عليهما، فأصاب الذي شهد بالأب والأم مرة سهمان من ثمانية ومرة سهمان أيضاً، فذلك أربعة وهو نصف ما صار للمدعي بالميراث وأصاب الذي شهد بالأب مرة سهمان من ثمانية ومرة سهم، فذلك ثلاثة، وهو ثلاثة أثمان ما صار للمدعي من الميراث، وأصاب الذي شهد بالأم سهم من ثمانية وهو ثمن ما صار للمدعي من الميراث.
رجل مات وترك ابناً وأخذ ميراثه، فجاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت وأراد أن يشارك الابن المعروف، فأنكر الابن المعروف نسبه وأنكر أن يكون وصل إليه شيء من الميراث، فأتى بشاهدين فشهدا أنه ابن الميت وقضى القاضي له بنسبه ثم أتى بشاهدين آخرين فشهدا أنه وصل إليه من مال الميت كذا وكذا، فقضى القاضي عليه بنصف ذلك للابن المدعي، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالنسب ضمنا ما وصل إلى المدعي من المال، فإن ضمنا ذلك ثم رجع الآخران رجع شاهدا النسب عليهما بما ضمنا؛ لأن شاهدا النسب بما ضمنا فأما مقام الابن المعروف وكان للابن المعروف يضمن شاهدي المال عند الرجوع، فكذا لمن قام مقامه ولو كانوا رجعوا جميعاً، فالابن المعروف بالخيار: إن شاء ضمن شاهدي النسب ورجعا على شاهدي المال، وإن شاء ضمن شاهدي المال، وإنما ضمن شاهدي النسب؛ لأن الشهادة بالنسب بعد الموت شهادة بالميراث، والقضاء بالنسب بعد الموت قضاء بالميراث، فكل ما كان للميت من مال في يدي وارث أو غيره فقد قضى القاضي للابن المدعي بحصته من حيث قضي له بالنسب.
رجل مات وترك ابنة وأخاً وأماً وأخذ (ت) البنت نصف الميراث، وأخذ الأخ نصف الميراث، فجاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم وجاء بشاهدين شهدا بذلك وقضى القاضي بنسبه وأشركه مع الأخ المعروف في الميراث، ثم رجعا عن شهادتهما أنه أخ لأب، وثبتا على شهادتهما أنه أخ لأم أو على العكس: ضمنا نصف ما صار في يده من الميراث ولا يضمنان جميع ذلك؛ لأنه استحق الميراث بنسبين وقد رجعا عن شهادتهما.(8/573)
وكذلك لو رجع أحدهما عن شهادته أنه أخ لأب وثبت على شهادته أنه أخ لأم ورجع الآخر عن شهادته أنه أخ لأم وثبت على شهادته أنه أخ لأب ضمن كل واحد منهما الربع مما صار في يده؛ لأنهما رجعا عن نصف الشهادة وثبتا على نصف الشهادة، والشاهدان في هذا على النسبين، فالفريقان إذا شهدا كل فريق على أحد النسبين سواء، ولو شهد كل فريق على نسب فإن شهد أحد الفريقين أنه أخوه لأبيه وشهد الفريق الآخر أنه أخوه لأمه، ثم رجع أحد الفريقين عن شهادتهم ضمن نصف المال كذا ههنا.
فإن قيل: إذا رجعا عن أحد النسبين ينبغي أن يضمنا جميع الميراث؛ لأنهما عند الرجوع صارا مقرين أنه ليس بوارث وأنهما أتلفا جميع المال بشهادتهما أنه وارث.
قلنا: إنهما لم يشهدا أنه وارث فقط، ولو شهدا أنه وارث لا تقبل شهادتهما، وإنما شهدا له بنسبين واستحق الميراث بهما، ثم رجعا عن أحدهما وثبتا على الآخر.
قال: ألا ترى أن رجلين لو شهدا على شهادة شاهدين بحق لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما على شهادة أحد الشاهدين وثبتا على شهادة الشاهد الآخر، إنهما لا يضمنان إلا نصف المال وقد زعما أن الشهادة التي ثبتا عليهما لا يستحق بها شيء.
رجل مات وترك أخوين لأم وأخاً لأب، فأعطى القاضي الأخوين لأم الثلث وأعطى الأخ لأب الثلثين، ثم ادعى رجل أنه أخوه لأبيه وأمه وشهد له شاهدان أنه أخوه لأمه وقال: شاهداي على النسب من الأب غائبان، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأم وله أن يدخل مع أخوته لأم؛ لأنه شريك في الميراث كله وهو يقول: قد ظلمني الأخ لأب حيث جحد حقي فلي أن أدخل مع الأخوة لأم، فإن قضى القاضي بذلك وأشركه مع الأخوين لأم ثم قدم الشاهدان الآخران فشهدا أنه أخ لأب، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأب وأم ويرجع الأخوة (166أ4) من الأم على الأخ لأب بما أخذ منهم، فيستكمل الأخ لأب وأم الثلثين، فإن رجع الشهود بعد ذلك عن الشهادة فلا ضمان على الذي شهدا أنه أخ لأم؛ لأنه قد رجع إلى الإخوة من الأب مثل ما أخذ منهم ويضمن اللذان شهدا أنه أخ لأب جميع الثلثين للأخ لأب، لأنه إنما قضى به بشهادتهما، ولو كان أقام أولاً شاهدين أنه أخ لأب وقضى القاضي له بذلك وأخذ نصف ما في يد الأخ لأب ثم جاء بشاهدين أنه أخ لأم، وقضى القاضي بذلك وأخذ ما بقي في يد الأخ لأب ثم رجعوا جميعاً، فعلى كل فريق نصف الضمان.
الفصل التاسع: في الرجوع عن الشهادة على الشهادة
قال محمد في «الأصل» : وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق لرجل ثم رجع الأصول والفروع جميعاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا ضمان على الأصول وإنما(8/574)
الضمان على الفروع.
وقال محمد: المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن شاء ضمن الفروع، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عندهما خلافاً لمحمد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه إذا رجع الأصول فهم ضامنون وإن (ضمن) الفروع وحدهم فعليهم الضمان بلا خلاف.
فوجه قول محمد رحمه الله: أنه وجد من كل فريق يعني الأصول والفروع في حق المشهود عليه سبب ضمان على حده على سبيل المباشرة فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في الغاصب مع غاصب الغاصب.
بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول إلى مجلس القاضي، ونقل شهادة الأصول ثبت بهما، فإنه لولا إشهاد الأصول ما تمكن الفرع من النقل، ولولا نقل الفرع لم يثبت النقل، وقولنا: على سبيل المباشرة؛ لأن الفرع في نقل شهادة الأصول مباشر حقيقة، وهذا ظاهر، والأصل مباشر من حيث الحكم؛ لأن أداء الفروع منقول إلى الأصول؛ لأن الفروع مضطرون من جهة الأصول إلى الأداء بعد الإشهاد، فإنهم لو امتنعوا من الأداء أتموا، ألا ترى أن قضاء القاضي اعتبر منقولاً إلى الشاهد؛ لأنه مضطر إلى القضاء من جهة، فإنه لو امتنع عن القضاء يأثم، كذا ههنا، فإن ضمن الفروع، فالفروع لا يرجعون على الأصول كما في باب الغصب لو ضمن المالك الغاصب الثاني لا يرجع به على الغاصب الأول، وإن ضمن الأصول فالأصول لا يرجعون على الفروع، بخلاف ما لو ضمن المالك الغاصب حيث يرجع به على الغاصب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: الأصول مسببون للتلف من وجه، والفروع مباشرون للتلف من كل وجه.
بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول، والأصول مسببون لهذا النقل؛ لأن بعدما وجد الإشهاد من الأصول لا يحصل نقل شهادتهم إلا بعد وجود فعل فاعل مختار وهو أداء الفروع بشهادتهم، وهذا هو حد السبب، فأما الفروع مباشرون لهذا النقل من كل وجه، فإن نفس أداء الفروع شهادة الأصول تصير شهادة الأصول منقولة إلى مجلس القاضي من غير أن يحتاج فيه إلى فعل فاعل مختار، وهذا هو حد المباشرة وقد عرف من أصلنا أن المباشر مع السبب إذا اجتمعا وهما متعديان أن الضمان على المباشر، وقوله بأن أداء الفروع منقول إلى الأصل إلى أخر ما ذكر.
قلنا: الاضطرار في حق الفروع ثابت من وجه دون وجه؛ لأن سبب هذا الاضطرار اعتباري وهو الإثم وبالعقباوي ثبت الاضطرار من وجه؛ لأن العقباوي ليس بقائم للحال، ألا ترى أن قضاء القاضي بسبب وعيد الأخوة اعتبر منقولاً إلى الشاهد من وجه دون وجه، حتى كان لولي القتيل تضمين الشاهد ولا تجب الكفارة على الشاهد ولا يصير الشاهد محروماً عن الميراث كذا هاهنا، وإذا ثبت أن الفروع صار منقولاً إلى الأصول كان الأصل مسبباً، والفروع مباشر من كل وجه، وإيجاب الضمان على المباشر من كل(8/575)
وجه أولى من إيجابه على المباشر من وجه، وإذا رجع الفروع وحدهم وجب عليهم الضمان وهذا ظاهر، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفيه نوع إشكال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على المباشر، فيجب على المسبب كما في الحافر مع الماشي.
والجواب: أن الأصول لو كانوا مباشرين مع الفروع من كل وجه بأن شهدوا جملة بشهادة أنفسهم ثم رجع اثنان لا يجب على الراجعين الضمان؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته جميع الحق؛ فلأن لا يجب الضمان هنا، وقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق والراجع سبب من وجه أولى، وهكذا الذي ذكرنا: إذا قال الأصول: كنا أشهدناكما بباطل، فأما إذا قالوا لم نشهدهم أصلاً، فلا ضمان على الأصول بلا خلاف؛ لأنه لم يوجد منهم الرجوع لما أنكروا الإشهاد أصلاً.
ولو شهد شاهدان على شهادة أربعة وشهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق على رجل وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فعلى قول أبي حنيفة: الضمان على الفريق أثلاثاً، ثلثاه على الذين شهدوا على شهادة الأربع، وثلثه على الذين شهدوا على شهادة المسبب وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: الضمان على الفريقين نصفان، وأجمعوا على أنه إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين وشهد أربعة على شهادة شاهدين والباقي بحاله أن الضمان على الفريقين نصفان، والفرق لهما أن الحكم مقطوع بشهادة الفروع ولهذا لا ضمان على الأصول عند الرجوع عندهما، ولما كان الحكم مقطوعاً بشهادة الفروع يجب اعتبار عدد الفروع دون عدد الأصول.
إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف درهم وشهد آخران على شهادة شاهد واحد بتلك الألف بعينها وقضى القاضي بالألف بالشهادتين جميعاً ثم رجع واحد من الفريق الأول، وواحد من الفريق الثاني كان عليهما ثلاثة أثمان المال، الثمنان على أحد الأولين والثمن على أحد الآخرين؛ لأن الفريق الأول أثبت جميع المال؛ لأنهما قاما مقام شاهدين والفريق الثاني أثبت نصف المال؛ لأنه قام مقام شاهد واحد إلا أن ذلك النصف شائع في النصفين، فإذا بقي واحد من الفريق الأول بقي به نصف الحق، وإذا بقي واحد من الفريق الثاني بقي نصف النصف وهو الربع، إلا أن هذا الربع شائع في النصفين في نصف الباقي ببقاء أحد الأولين، وفي نصف الساقط برجوع أحد الأولين، فصار نصف الربع وهو الثمن داخلاً في النصف الذي بقي ببقاء أحد الأولين فلا يظهر ذلك، ونصفه وهو الثمن في النصف الساقط فبقي ذلك القدر ببقاء أحد الآخرين فكان الباقي من الحق بالشاهدين الباقيين خمسة أثمان، فكان التالف برجوع الراجعين ثلاثة أثمان، فيجب ضمان ذلك على الراجعين ولكن أثلاثاً؛ لأن الفريق الأول أوجب كل المال، والفريق الثاني أوجب نصف المال فكان الفريق الأول سبباً، مثل ما أثبته أحد الآخرين، فيكون العزم عليهما أثلاثاً، ولو لم يرجع إلا أحد الأولين كان عليه ربع الحق؛ لأنه بقي ببقاء صاحبه على الشهادة نصف الحق، والآخران أيضاً بقيا بنصف الحق، إلا(8/576)
أن الثابت بشهادتهما نصف الحق شائع نصفه وهو الربع مما بقي ببقاء أحد الأولين ونصفه وهو الربع مما سقط برجوع أحد الأولين فبقي من النصف الساقط بحكم بقاء الآخرين على الشهادة نصفه وهو الربع، فيكون الباقي في الحاصل ثلاثة الأرباع وضمن الراجع الربع لهذا، ولو رجع الآخران مع أحد الأولين ضمنوا نصف المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فيكون التالف نصف المال ثم ضمان هذا النصف يكون نصفه على الراجع من الأولين ونصفه على الآخرين؛ لأن أحد الأولين
(166ب4) أوجب نصف الحق والآخران أوجبا نصف الحق أيضاً، فصار حال الواحد من الأولين كحال الآخرين، فلهذا كان الضمان عليهما نصفين.u
ولو شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف وشهد شاهدان آخران على شهادة شاهدين آخرين بتلك الألف بعينها وقضى القاضي به ثم رجع واحد من هذين وواحد من هذين، فعليهما ثمنان ونصف، هكذا ذكر في «الجامع» وذكر في «الأصل» أن عليهما نصف المال، وعن أبي يوسف أن عليهما ربع المال، وهو اختيار الكرخي وهو القياس، وهي مسألة الأسفكة.
الفصل العاشر: في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات
قال محمد رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بسرقة ألف درهم بعينها من رجل وقضى القاضي بها وقطع يد المشهود عليه ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا دية اليد للمشهود عليه؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه يده، ويكون ذلك في مالهما؛ لأنه وجب بإقراره؛ ولأنهما تعمدا الإتلاف حيث شهدا بالزور، والعاقلة لا تعقل عمداً ولا اعترافاً، ويضمنان الألف أيضاً؛ لأنهما كما أتلفا على المشهود عليه يده أتلفا عليه الألف.
أربعة شهدوا على رجل بالزنا وشهد شاهدان عليه بالإحصان فأجاز القاضي شادتهم وأمر برجمه ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن شهود الزنا يضمون الدية ويحدون حد القذف عند علمائنا الثلاثة، ولا ضمان على شهود الإحصان، وهذه المسألة بتمامها مرت في كتاب الحدود من هذا الكتاب.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وشهد عليه أربعة بالزنا والإحصان وقضى القاضي بشهادتهم وأعتقه ورجمه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن على شهود العتق قيمته لمولاه؛ لأنهم أتلفوا عليه مالية العبد بغير حق وعلى شهود الزنا الدية؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم حراً؛ لأن الحرية قد ثبتت بقضاء القاضي وتكون الدية للمولى إذا لم يكن(8/577)
المرجوم وارثاً آخر من العصبات، فإن قيل من وجهين، أحدهما: كيف تجب الدية للمولى وكان المولى جاحداً العتق؟ والثاني: كيف يجب بدلان للمولى عن نفس واحدة.
قلنا: أما الأول القاضي قد حكم بعتقه وزعم المولى بعدما قضى القاضي عليه بخلافه غير معتبر، وأما الثاني قلنا القيمة تجب بدلاً عن المالية والدية تجب بدلاً عن النفس غير أن الدية تجب حقاً للمقتول حتى يقضي منه ديونه وينفذ قضاياه، ألا ترى أنه لو كان له ابن حر كانت الدية له دون مولاه، فالدية تجب للمقتول أولاً ثم تصير للمولى؛ لأنه أقرب الناس إلى المقتول، فلا تؤدي إلى أن يجب بدلان عن نفس واحدة للمولى.
إذا شهد أربعة على رجل بالزنا والعتق والإحصان وأمضى القاضي كله، ثم رجعوا عن العتق ضمنوا القيمة، ولا شيء عليهم من (الدية) ، لأنهم يصيرون على الشهادة عليه بالزنا، وفي حق العتق هم بمنزلة شهود الإحصان ولا ضمان على شهود الإحصان عند الرجوع على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولو رجع اثنان عن الزنا واثنان عن العتق فلا ضمان على شهود العتق؛ لأنه قد بقي على العتق حجة كاملة، وعلى اللذين رجعا عن الزنا نصف الدية؛ لأن الباقي على الشهادة في حق حكمه نصف الحجة فيجب على الراجعين نصف الدية وحد القذف.
وإذا شهد شاهدان على الصلح عن دم العمد على ألف درهم ثم رجعا لم يضمنا شيئاً أيهما كان المنكر، أما إذا كان الذي له القصاص ينكر والقاتل يدعي؛ فلأنهما لو ضمنا للذي له القصاص أو للقاتل ولا وجه إليهما أما للذي له القصاص؛ فلأنهما لو شهدا عليه بالعفو عن القصاص بغير عوض لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وقد شهدا عليه بالعفو بالألف، وأما للقاتل فلأنه هو المدعي للصلح، فإنما لزمه المال بإقراره لا بشهادتهما فلا يضمنان له شيئاً، وأما إذا كان القاتل يجحد والذي له القصاص يدعي، أما الذي له القصاص فلأنه سقط حقه عن القصاص بإقراره إذا كان هو مدعياً لا بشهادتهما، ولو سقط حقه عن القصاص بشهادتهما لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وأما للقاتل فكذلك؛ وكان ينبغي أن يضمنا للقاتل؛ لأن ما سلم للمطلوب من القصاص ليس بمال وما ليس بمال لا يعتبر عوضاً من المال، فلا يصير عوضاً عما أوجبا عليه من الألف، فكأنهما أوجبا عليه ألف درهم بغير عوض.
والجواب: ما سلم للقاتل من القصاص وإن لم يكن مالاً يصلح عوضاً عن المال الذي أوجبا عليه؛ لأنه ملك نفسه من جهة المولى من كل وجه من حيث الاعتبار؛ لأن المولى استحق على القاتل نصيبه بالقصاص من كل وجه، وإنما يملك القاتل نفسه بعد ذلك من جهة الطالب من كل وجه بالصلح.
وما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه أصله منافع البضع في باب النكاح، فإن الشرع جعل منافع البضع في حق الزوج عوضاً عن المال، وإن لم يكن منافع البضع مالاً.
قلنا: والزوج ملك منافع بضع المرأة من جهة المرأة من كل وجه، فصار فصل(8/578)
النكاح أصلاً لنا أن ما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه، والقصاص نظير النكاح فيلحق بالنكاح، وكذلك لو كان هذا الصلح فيما دون النفس يريد به إذا شهدا على الصلح على مقدار الأرش أو دونه، فلا ضمان عليهما عند الرجوع جعل الجواب فيما دون النفس نظير الجواب في النفس؛ لأن المستحق فيما دون النفس عين على الحقيقة، فإذا صار مستحقاً لولي القصاص يزول عن ملكية من عليه القصاص، ومازال عن بعض العين عن صاحب الرقبة ثم عاد إليه بسبب، فإنما يعود إليه بحكم ذلك السبب لا حكماً لملكه الباقي؛ لأن كل جزء من أجزاء الرقبة أصل بنفسه لا يملك حكماً لملك الباقي، بخلاف تلك المنافع، فصار ما دون النفس والنفس سواء من هذا الوجه.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه عفى عن دم خطأ أو جراحة خطأ أو عمد فيهما أرش وقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية وأرش تلك الجراحة؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه الدية وأرش تلك الجراحة، فموجب الخطأ المال فيضمنان ذلك عند الرجوع ولكن بالصفة التي كانت واجبة؛ لأن الضمان إنما يجب على الشاهدين بطريق الجبر لمأمور، وإنما يتحقق الجبر إذا كان الضمان بصفة الفائت، وبهذا يضمن الجيد بمثله والرديء بمثله.
إذا ثبت هذا فيقول: الدية مؤجلة في ثلاث سنين، فيجب على الشاهد ضمانها مؤجلاً في ثلاث سنين، وما بلغ من أرش الجراحة خمسمئة فصاعداً إلى ثلث الدية من ذلك في سنة، وما زاد على ذلك إلى الثلثين فذلك في سنة أخرى، فيجب على الشاهدين عند الرجوع كذلك، وإن كان أرش الجراحة أقل من خمسمئة يجب حالاً، فيضمنه الشاهد عند الرجوع.
كذلك قال محمد رحمه الله في «الجامع» .
شاهدان شهدا على عبد أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ والمولى يجحد، وقيمة العبد ألف درهم فقضى القاضي بذلك ولم يخير المولى بين الدفع والفداء حتى شهد شاهدان آخران أن المولى أعتق العبد بعد الجناية والمولى يجحد، فإن القاضي يقضي بعتقه وبدية المقتول على المولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي جناية العبد ثم عاين إعتاق المولى بعد ذلك، فالقاضي يقضي بالجناية والعتق والدية على المولى لصيرورته مختاراً للفداء بالإعتاق بعد الجناية، فكذا إذا أثبت ذلك بالبينة.
حكي عن الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: تأويل المسألة أن الشهود شهدوا أن المولى أعتقه وهو عالم بالجناية؛ لأن الإعتاق مع العلم بالجناية، والصحيح أن الشهادة على العلم بالجناية ليست بشرط، لأن المولى قد علم بالجناية أول مرة.
ثم إذا قضى القاضي بدية المقتول وقبض الأولياء الدية من المولى رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فإن شاهدا الجناية يضمنان للمولى قيمة العبد ألف درهم، وشاهدا الإعتاق يضمنان عشرة آلاف درهم للمولى، (167أ4) ألف درهم منها قيمة العبد،(8/579)
وتسعة آلاف تمام الدية مع الألف التي ضمنها شاهدي الجناية.
والأصل في هذا أن الشاهد إنما لا يضمن عند الرجوع ما صار مستحقاً بشهادته، وجناية العبد إذا أوجبت المال فرقبته تصير مستحقة بنفس الجناية، وإن كانت لا تملكه إلا بالتسليم كأصل الدية تصير مستحقة بنفس قتل الخطأ، وإن كان لا يملك إلا بالقبض حتى لا تصح الكفالة بالدية إلا أن الشرع أثبت للمولى ولاية استصغاء الرقبة بإختيار الفداء، فيصير وجوب الفداء متعلقاً بعلة ذات وصفين: الجناية والاختيار، فإن كل واحد منهما مؤيد في الوجوب، أما الجناية فظاهر، وأما الاختيار؛ فلأن الاختيار التزام المال، والتزام عرف مؤثراً في اللزوم، فصار وجوب الفداء متعلقاً بالجناية والاختيار من هذا الوجه والاختيار أحدهما فيضاف وجوب الفداء إلى الاختيار، ورقبة العبد مستحقة بالجناية وحدها، فيضاف استحقاقها إلى الجناية لا غير، إذا ثبت هذا فنقول: شهود الجناية أثبتوا استحقاق رقبة العبد لولي الجناية بشهادتهم إذ العتق لم يكن في تلك الحالة، فصاروا متلفين رقبة العبد على المولى بشهادتهم، وذلك التلف لا يرتفع بالشهادة الثانية الناقلة إلى الدية وإن لم تبق رقبة العبد مستحقة بعد الشهادة الثانية؛ لأنه لم يسلم للمولى ما صار مستحقاً بالشهادة الأولى إلا بضمان مثله وزيادة، فيبقى التلف معنى، فيبقى عليهم ضمان ذلك الإتلاف، وأما شهود الإعتاق فقد أتلفوا على المولى الرقبة والدية؛ لأنهم شهدوا بالإعتاق، والإعتاق مزيل ملك الرقبة ويدل على اختيار الفداء، فصاروا متلفين على المولى الرقبة والدية، الآن قدر الألف من بدل النفس غرم شاهد الجناية، فلا يغرم شاهد الإعتاق من بدل النفس إلا تسعة آلاف درهم، ويغرمان أيضاً قيمة العبد ألف درهم، فيغرمان عشرة آلاف درهم من هذا الوجه.
ولو شهد شاهدان أن المولى أعتق عبده أمس، وقضى القاضي بشهادتهما وأعتق العبد، ثم شهد آخران أن العبد قتل ولي هذا أول من أمس، والمولى يعلم بذلك قضى بالدية على المولى؛ لأن الجناية إذا ثبتت والمولى عالم بها أول من أمس كان من ضرورته أن يكون الإعتاق أمس اختياراً للفداء، فإن رجع الشهود عن شهادتهم ضمن شاهدا الإعتاق قيمة العبد ألف درهم؛ لأن شاهدا الإعتاق ههنا أثبتا اختيار الفداء؛ لأن الجناية لم تكن ظاهرة وقت شهادتهما بالإعتاق؛ ليكون القضاء بالإعتاق قضاء بالدية، فصار شهود العتق متلفين على المولى قيمة العبد دون الدية، فيضمنان القيمة لا غير لهذا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى الجناية كانت ظاهرة عند القاضي وقت القضاء بالعتق، فكان القضاء بالإعتاق قضاء بالفداء، ويضمن شهود الجناية عشرة آلاف درهم؛ لأنهم شهدوا بجناية معلومة قد اختار المولى فيها، فإن إعتاق العبد مع العلم بالجناية اختيار للفداء وهم شهدوا بجناية معلومة للمولى عند الإعتاق، فكانوا ملتزمين بشهادتهم إياه الدية، فلهذا ضمنوا الدية، ولو حضر الشهود جميعاً عند القاضي، فشهد شهود الجناية وشهود العتق بما قلنا في المسألة الثانية، فإن العبرة بحالة القضاء لا بحال أداء الشهادة لما مر أن الشهادة إنما تصير حجة بإيصال القضاء بها، فإن زكّى شهود العتق(8/580)
أولاً، فقضى القاضي به ثم زكّى شهود الجناية فهو نظير الفصل الثاني، وإن زكّى شهود الجناية أولاً فقضى القاضي ثم زكّى شهود العتق فهو نظير الفصل الأول، وإن زكّوا جميعاً ووقع القضاء بالعتق والجناية معاً، فهذا وما لو وقع القضاء بالجناية أولاً ثم بالعتق سواء، وإنما كان كذلك، لأن القاضي إنما يقضي على حسب ما شهد به الشهود والشهود شهدوا بالجناية سابقاً؛ لأن شهود الجناية شهدوا أنه حتى أول من أمس والمولى علم به، وشهود العتق شهدوا أنه أعتقه أمس، فإذا وقع القضاء بشهادتهم معاً كان القضاء واقعاً بالجناية
أولاً، ومتى كان هكذا صارت هذه المسألة وتلك المسألة سواء.
ولو شهد شاهدان على رجل أن عبده قتل فلاناً خطأ أول من أمس والمولى يعلم بذلك وقيمة العبد ألف، وشهد آخران أن المولى قال له أمس: إن دخلت الدار فأنت حر ثم شهد آخران أنه دخل الدار اليوم، وقضى القاضي بالجناية وبعتقه وبالفداء على المولى ورجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فشهود الجناية يضمنون ألفاً وشهود اليمين يضمنون عشرة آلاف درهم، ولا ضمان على شهود الشرط وهم شهود دخول الدار، ولو كان مكان الشهادة على تعليق العتق بدخول الدار شهادة على تعريض العتق إلى فلان بأن شهد شاهدان أنه جعل أمس أمر عبده في العتق إلى فلان يعتقه متى شاء، وإنما قيده بقوله يعتقه متى شاء، حتى لا يقتصر على المجلس، وشهد آخران أن فلاناً أعتقه اليوم وباقي المسألة بحاله كان الضمان على شهود الإعتاق لا على شهود التفويض.
والفرق: أن ضمان العتق إنما يجب على من أوجب العتق، ففي المسألة الأولى شهود اليمين هم الذين أوجبوا العتق إنما يثبت بكلمة الإعتاق إلا أن تعلق الجزاء بالشرط كان مانعاً كلمة الإعتاق، فعند زوال المانع كان العتق مضافاً إلى كلمة الإعتاق وذلك ثابت بشهود اليمين دون شهود الشرط.
وفي المسألة الثانية: شهود الإعتاق هم الذين أثبتوا كلمة الإعتاق وشهود التفويض إنما أثبتوا صيرورة المفوض إليه مالكاً أمر عبده وقيامه مقام المالك، ثم العتق من المولى لا يثبت بدون كلمة الإعتاق، فكذا ممن قام مقامه، وكلمة الإعتاق إنما تثبت بشهود الإعتاق دون شهود التفويض فلهذا افترقا.
وعن محمد رحمه الله في «الإملاء» : شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً وشهد هذان الشاهدان على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً، وشهد هذان الشاهدان على هذا الرجل أيضاً: أنه قتل ابن هذا الرجل الآخر عمداً، والأبوان يدعيان ولا وارث لهذين المقتولين غير هذين الأبوين، فقضى القاضي بالقصاص وقتله الأبوان ثم رجعا عن أحد الابنين وقالا: لم يقتل ابن هذا، ضمنا نصف الدية إن شاء الشاهدان وإن شاء الأب القاتل الذي جاء ابنه حياً ولو كان المقتول ابني رجل واحد فقضى القاضي له بالقصاص وقتله الأب بابنيه، ثم رجع الشاهدان عن قتل أحد الابنين فلا ضمان عليهما؛ لأن الأب إذا كان واحداً فقتله المقتول بقصاص واحد وبقصاصين سواء، ألا ترى أن الشاهدين لو لم يرجعا عن شهادتهما ورجع أحد الابنين حياً لم يغرم الشاهدان شيئاً.(8/581)
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه سرق من عبد الله ليلة الجمعة مئة وشهدا عليه بعينه أنه سرق من عمرو ليلة السبت عشرة دنانير، وقضى القاضي عليه بالقطع وقطع يده ثم رجعا عن إحدى السرقتين، فلا ضمان عليهما؛ لأن اليد إنما قطعت بالحد فصار ذلك كأنه شيء واحد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجلان شهدا على أبيهما بالقتل وقتل ثم رجع أحدهما، فعلى الراجع نصف الدية ولا ميراث للراجع في شيء من مال الأب، وإنه خلاف ظاهر الرواية؛ لأنه مسبب والمسبب لا يحرم عن الميراث، ولو شهدا على أبيهما بدين ألف درهم لرجل وقد مات أبوهما، فقضى عليه بها ومعهما أخ آخر، ثم رجع أحدهما فإن الراجع يضمن الذي لم يشهد على أبيه نصف حصته من الألف، ولا يضمن الآخر شيئاً من قبل أنه يقول له لما شهدت فقد أقررت بالدين قال: ولا نسبه، هذه الشهادة على الكل.
وفي «الجامع» شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ، فقضى القاضي (167ب4) بالدية على العاقلة في ثلاث سنين وقبضها الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً، كان للعاقلة الخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي؛ لأنه تبين أنه قبض ما ليس له ولاية قبضه، وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأنهم أتلفوا الدية على العاقلة حكماً بغير حق، وهذا لأن التلف وإن حصل بقضاء القاضي إلا أن الشاهدين بشهادتهما ألجأا القاضي إلى القضاء، فإنهما جعلا بحال لو امتنع عن القضاء يأثم فصار التلف الحاصل بقضاء القاضي بهذه الواسطة مضافاً إلى شهادة الشاهدين، فإن ضمنوا الولي فإن الولي لا يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعله، وملك المضمون حصل له ولم يوجد من أحد جناية عليه بعد ملكه، وإن ضمنوا الشاهدين رجعا بما ضمنا على المولى لأنهما بأداء الضمان ملكا المضمون من وقت الإتلاف، فصار الولي جانياً عليهما بأحد ملكهما، فلهذا كان لهم حق الرجوع على الولي.
فإن شهدا بقتل العمد وقضى القاضي بالقصاص، فقتله الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً لا قصاص على واحد منهم، أما الولي؛ فلأن قضاء القاضي جاء شبهة في حقه، وأما الشاهدان فلأنه لم يوجد منهما المباشرة والقصاص جزاء المباشرة، ولكن ورثة القتيل بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأن الولي قتله حقيقة بغير حق، والشهود قتلوه حكماً بغير حق، فإن ضمنوا الولي لا يرجع على أحد لما مر، وإن ضمنوا الشهود فالشهود لا يرجعون بذلك على الولي في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يرجعون.
فوجه قولهما: أن الواجب ههنا القصاص لكون القتل عمداً، إلا أنه انقلب مالاً لتعذر استيفائه، والقصاص المنقلب مالاً في الانتهاء بمنزلة المال الواجب في الابتداء حتى يقضي ديونه وينفذ وصاياه منه، ولو كان المال واجباً من الابتداء، فإن كان القتل خطأ، قد بينّا أن الشهود يرجعون على الولي بما يضمنون كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله(8/582)
فرق بين الفصلين، فقال: إذا كان المال واجباً من الابتداء، فالشهود إنما يرجعون على الولي باعتبار أنهم ملكوا المضمون على ما مر، هذا المعنى لا يمكن تحقيقة في القصاص المنقلب مالاً؛ لأن المضمون هو الدم، والدم ليس يقابل للملك فلهذا افترقا.
فإن قيل: ينبغي أن يظهر ملك المضمون ههنا في حق الملك البدل كمن غصب من أجر المدبر أو جاء آخر وغصبها منه وأجاز المولى تضمين الأول يصير المدبر ملكاً للأول في حق ملك البدل على الثاني حتى كان للأول، ولأنه تضمين الغاصب الثاني.
قلنا: المدبر مال متقوم ولهذا صح تسميته مهراً في باب النكاح، إلا أنه تعذر نقله من ملك بحقه ولما كان مالاً متقوماً أمكن إظهار الملك فيه في حق تملك البدل إن لم يكن إظهار الملك فيه في حق أحكام أخر. فأما الدم فليس بمال أصلاً، ولهذا لا يصح تسميته مهراً في باب النكاح، فلم يمكن إظهار الملك فيه أصلاً.
ولو كانت الشهادة في الخطأ أو في العمد على إقرار القاتل والمسألة بحالها، فلا ضمان على الشهود؛ لأنه لم يثبت كذب الشهود لأن المشهود الإقرار بالقتل، وليس من ضرورة حياته عدم إقرار المشهود عليه بالقتل وإنما الضمان على الولي في الفصلين.
وكذلك لو شهدوا على شهادة شاهدين على قتل الخطأ وقضى القاضي بالدية على العاقلة والباقي بحاله، لا ضمان على الفروع إذا لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم استشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الولي الدية على العاقلة، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الإشهاد أصلاً لم يصح إنكارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان فلا يجب الضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أولى، وإنما يشكل على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا؛ لأن شهادة الأصل صارت منقولة إلى مجلس القاضي، فإنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا، والعذر لمحمد رحمه الله بين إنكار الأصول الإشهاد وبين رجوعهم عن الشهادة: أن شهادة الأصلين عند محمد إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة؛ لأنها موجودة في غير مجلس القضاء حقيقة، والشهادة في غير مجلس القاضي لا يكون سبباً للضمان، وإن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبرنا الحكم حال رجوع الأصلين، واعتبرنا الحقيقة حال إنكارهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
وإن قال المشهود: نحن أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ إنا كاذبين لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، خلافاً لمحمد، وقد مرت المسألة مع حججها من قبل ونزيد حجتها وضوحاً فنقول: العمل بالشهادة على الشهادة بخلاف القياس؛ لأن المنقول إلى مجلس القاضي شهادة الأصل في غير مجلس القاضي، والشهادة في غير مجلس القضاء ليس بحجة، والقضاء بما ليس بحجة لا يجوز، لكنا تركنا القياس وجعلنا شهادة الأصل كالموجودة في حق القضاء حكماَ ضرورة إحياء(8/583)
الحقوق، ولا ضرورة إلى جعلها موجودة في حق الضمان بعد الرجوع فبقي على أصل القياس.
الفصل الحادي عشر: في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهنوالعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة
ث
عبد لرجل شهد شاهدان عليه أنه وهب هذا العبد من رجل وقبضه، والموهوب له يدعي، والواهب يجحد، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعا عن الشهادة ضمنا قيمة العبد للواهب والعبد للموهوب له.
فإن قيل: ينبغي أن لا يضمنان للواهب إذا كان العبد قائماً في يد الموهوب له؛ لأن الواهب قادر على أخذ العبد مادام قائماً؛ لأن للواهب حق الرجوع في الهبة مادام الموهوب قائماً، ومع التمكن من الوصول إلى العين لا يصار إلى الضمان.
قلنا: وجوب الضمان للواهب على الشاهدين باعتبار أنهما أزالا العين عن ملكه، وقد عجزا عن رد العين إلى المالك؛ لأن العبد ليس في أيديهما، إنما هو في يد الموهوب له، وهما لا يملكان الأخذ منه، وإذا عجز الشاهدان عن رد العبد بعينه على الواهب كان للواهب تضمينها وإن تمكن الواهب من الأخذ من يد غيره، هذا كما قلنا في غاصب الغاصب مع الغاصب: إذا أقر غاصب الغاصب بالمغصوب للمالك، وأنكر الأول كان للمالك تضمين الغاصب الأول؛ لأن الغاصب الأول ضمن بالغصب وقد عجز عن رده الى المالك فضمن المالك مع أن المالك يتمكن من الأخذ من غاصب الغاصب كذا ههنا، ويكون العبد للموهوب له. وهل يحل الانتفاع له بالعبد متى علم أن الشهود شهود زور؟ وعن أبي حنيفة في هذا روايتان بناء على أن قضاء القاضي في التبرعات هل ينفذ باطناً؟ ففي إحدى الروايتين عنه ينفذ باطناً فيحل الانتفاع به، وفي الرواية الأخرى وهو قول أبي يوسف وهو قول محمد لا ينفذ باطناً ولا يحل له الانتفاع به، وليس للمولى أن يرجع في الهبة بعدما ضمن الشاهدان وهذا باتفاق الروايات.
أما على الرواية التي قال أبو حنيفة رحمه الله قضاء القاضي في الهبة ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأنه وصل إليه عوض الهبة حين أخذ الضمان من الشاهدين، أكثر ما في الباب أن العوض وصل إليه من جهة غير الموهوب له، ولكن وصول العوض من غير الموهوب له، في حق قطع الرجوع بمنزلة وصوله من الموهوب له.
وأما على الرواية التي قال قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأن الموهوب وإن بقي على ملك الواهب إلا أنه لما أخذ الضمان من الشاهدين وهو بدل العبد فقد أزال ملكه عن العبد إلى الشاهدين، فكيف ما كان ليس له أن يرجع في العبد بعد تضمين الشاهدين، قال: وله أن يرجع في العبد قبل تضمين الشاهدين وهذا باتفاق الروايات(8/584)
أيضاً، أما على الرواية التي قال (168أ4) بنفاذ القضاء في الهبة باطناً فالرجوع بحكم الهبة عند عدم وصول العوض إليه، وأما على الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء في الهبة باطناً له أن يرجع فيها من غير قضاء ولا قضاء لأن الهبة بقيت على ملكه في الباطن، ولو لم يضمن المولى الشاهدين حتى يرجع في الهبة، فليس له أن يضمنها بعد ذلك؛ لأن العين وصل إلى المالك، ووصول العين إلى المالك يوجب براءة الضامن عن الضمان وصل العين إلى المالك من جهة الضامن أو من جهة غيره كما في الغصب.
وإن هلك العين في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع في قيمة العبد، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء في الهبة ظاهراً وباطناً، أما على الرواية التي قال بعدم النفاذ باطناً، فله أخذ القيمة في الباطن متى ظفر بحبس حقه من ماله؛ لأن الهبة نفذت على ملكه في الباطن، وصار الموهوب له ضامناً لما قبضها بغير إذن الواهب.
وإن كان العبد قائماً في يد الموهوب له وضمن الشاهدان القيمة للواهب وأراد الشاهدان أن يأخذا العبد، فليس لهما ذلك، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء بالهبة ظاهراً وباطناً، وهما لأنهما لو أخذا العبد أخذاه بعد أنهما ملكاه من جهة الواهب بالضمان، ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً من جهة الواهب بالضمان ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً للموهوب له ظاهراً وباطناً، ولم يبق محلاً للتملك على الواهب، وعلى الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء باطناً يصير العبد ملكاً للشاهدين بأداء الضمان من جهة الواهب في الباطن، فيحل له أن يأخذه وينتفع به، وكل جواب عرفته في الهبة فهو الجواب في الصدقة إلا في فصل وهو الرجوع، فإنه لا رجوع في الصدقة بخلاف الهبة على نحو ما ذكرنا.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم دين وهو مقر، فادعى رب الدين على المديون أنه رهنه عبداً له وقبضه منه والمديون يجحد ذلك وقضى القاضي بالرهن بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يرجعا بعد موت العبد، وفي هذا الوجه إن لم يكن في قيمة العبد فضل على الدَّين، فلا ضمان عليهما، وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين ضمنا الفضل للراهن؛ لأن في الوجه الأول أزالا يده عن العبد بعد.....، وفي الوجه الثاني أزالا يده عن الفضل على الدين من غير رضاه ومن غير عوض.
الوجه الثاني: أن يرجعا في حال حياة العبد، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين، وكان ينبغي أن يضمنا الفضل؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل بغير عوض، كما لو رجعا بعد موت العبد.
والجواب وهو الفرق بين الفصلين: أن زوال يد المرتهن عن الفضل حال حياة العبد، حصل تبعاً لزوال يده عن المضمون؛ لأن الفضل لا يمتاز عن المضمون في(8/585)
الحبس، ولهذا صار الكل محبوساً عن الراهن، وإن لم يثبت حكم الرهن في الفضل حتى يهلك الفضل أمانة.
قلنا: ولم يجب الضمان عليهما في المضمون لأن إزالة اليد عن المضمون حصلت بعوض يعدله، فلا يجب الضمان في الفضل أيضاً؛ لأن حكم التبع لا يخالف حكم الأصل، أما بعد هلاك العبد لم يبق الفضل تبعاً للمضمون، ولأن قدر المضمون بعد الهلاك يصير ملكاً للمرتهن، وقدر الفضل لا يصير ملكاً له وإذا زالت التبعية بعد الهلاك زال المانع من وجه الضمان بعد إزالة اليد. هذا إذا كان الطالب يدعي الرهن والمطلوب يجحد، فأما إذا كان المطلوب يدعي الرهن والطالب يجحد، فإن كان الرهن قائما في يد المرتهن، فالقاضي لا يقضي بالرهن ببينة المطلوب في رواية كتاب الرهن وفي رواية هذا الكتاب يقضي، وجه ما ذكر كتاب الرهن أن الجحود في العقد صار كناية عن الفسخ فيوجب الفسخ متى فضل ممن يملك الفسخ والمرتهن يملك الفسخ، بانفراده مادام الرهن قائماً؛ لأن عقد الرهن غير لازم من جانبه، وصار جحوده بمنزلة قوله: فسخت الرهن، وبعدما قال المرتهن فسخت الرهن، القاضي لا يقضي بالرهن فكذا ههنا.
وجه ما ذكر في هذا الكتاب أن الجحود والعقد كما يصلح كناية عن الفسخ يصلح عبارة عن إنكار العقد من الأصل، بل هو رفع العقد بعد وجوده، والقضاء بالعقد بعد وجود ما يرفعه متعذر، وإن كان الرهن هالكاً في يد المرتهن، فالقاضي يقضي بالرهن ببينة المطلوب باتفاق الروايات؛ لأن جحود المرتهن الرهن بعد هلاك الرهن يجعل كناية عن الفسخ؛ لأن بعد هلاك الرهن هو لا يملك الفسخ، فيجعل إنكاراً للعقد من الأصل، فيتمكن الراهن من إثباته بالبينة.
وإذا قضى القاضي بالرهن ببينة المطلوب في هذه الصورة ثم رجعوا عن شهادتهم لا شك أنهما لا يضمنان الفضل للراهن؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل برضاه إذا كان هو المدعي للرهن وهل يضمنان للمرتهن قدر الدين بعده؟ فإن رجعا فالمسألة على التفصيل:
إن رجعا عن الرهن والقبض بأن قالا: ما رهن ولا سلم إليه شيئاً، وإنّا كذبنا في كلا الأمرين، فإنهما يضمنان الدين للمرتهن؛ لأنهما أقرا أنهما أبطلا حقه في الدين بغير عوض لما رجعا عن الرهن والقبض؛ لأنهما زعما أنه ليس إليه شيء فكان بمنزلة ما لو شهدا بقبض الثمن ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة المبيع للبائع، وطريقه ما قلنا.
فأما إذا رجعا عن الرهن ولم يرجعا عن التسليم بأن قالا: سلم هو إليه هذا العبد إلا أنه ما رهنه منه، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما، وكان ينبغي أن يجب عليهما الضمان؛ لأن التسليم إذا كان بإذن المالك من غير عقد الرهن كان التسليم بجهه الإيداع، وبهلاك الوديعة في يد المرتهن لا يصير المرتهن مستوفياً للدين، فيكون هلاك الدين بغير عوض وقد أتلفا الدين على المرتهن بغير عوض فيضمنانز
قلنا: التسليم وإن كان بحق الإيداع إلا أن المرتهن لما جحد صار ضامناً له، فإذا(8/586)
هلك يكون مضموناً عليه وله عليه مثله، فيلتقيان قصاصاً.
وإذا شهد شاهدان بوديعة في يدي رجل والمودع يجحد ذلك فقضى عليه القاضي بالقيمة ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك؛ لأن الشهادة بالوديعة المجحودة والشهادة بالدين سواء.
ولو شهدا بدين ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك كذا ههنا، وكذلك البضاعة و ... على هذا.
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة وعمل المضارب بها وربح، ثم اختلف رب المال والمضارب، فقال المضارب: أعطيتني بالنصف، وقال رب المال: لا بل بالثلث، فشهد شاهدان للمضارب بالنصف وقضى القاضي بشهادتهما، فقبض المضارب نصف الربح ورد رأس المال مع نصف الربح على رب المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يضمنان لرب المال سدس الربح؛ لأن القول قول رب المال إنه شرط له الثلث لولا شهادتهما؛ لأن الربح يستفاد من جهته؛ فإنما استحق المضارب السدس الزائد بشهادتهما وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق. وإن كان الربح كله ديناً لم يقبض فلا ضمان عليهما حتى يقبض المضارب ذلك، وإذا قبض المضارب ذلك اقتسماه نصفين وضمن الشاهدان لرب المال سدسه؛ لأن وجوب الضمان لرب المال على الشاهدين بتفويت اليد على رب المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين ويصل إلى المضارب حصته، فعند ذلك يتم التفويت عليه بشهادتهما.
ولو شهدا أنه أعطاه بالثلث والباقي بحاله، فلا ضمان عليهما في هذه الصورة للمضارب؛ لأنهما لم يتلفا على المضارب شيئاً، فإنه لولا شهادتهما لكان للمضارب الثلث بقول رب المال، فما أتلفا على المضارب شيئاً بشهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالنصف حيث ضمنا لرب المال السدس، لأن هناك أتلف على رب المال السدس بشهادتهما على ما مر، أما ههنا بخلافه.
وإذا شهد شاهدان بإجارة دابة وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين: (168ب4)
الأول: أن يكون المدعي للإجارة المستأجر، وفي هذا الوجه لا ضمان على الشاهدين لصاحب الدابة وإن كان أجر مثل الدابة أكثر من المسمى؛ لأنهما أتلفا على صاحب الدابة فيما زاد على المسمى مجرد منفعة من غير عقد؛ لأنه لا عقد فيما وراء المسمى، ومجرد المنفعة من غير عقد لا يضمن عندنا بالإتلاف الحقيقي، فكذا بالإتلاف الحكمي بالشهادة.
وإن كان المدعي للإجارة صاحب الدابة والمستأجر ينكر، ينظر إلى الأجر(8/587)
المسمى وإلى أجر مثل المستأجر، إن كان أجر مثل المسمى أو أكثر، لا ضمان عليهما للمستأجر أصلاً وإن أتلفا على المستأجر الأجر؛ لأنهما أتلفا (هـ) بعوض يعدله.
فإن قيل: كيف يكون الإتلاف بعوض يعدله ولم يستوف المستأجر بإزاء ما وجب عليه من الأجر سوى مجرد المنفعة، ومجرد المنفعة لا قيمة لها من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يجب على المستأجر ضمان ما استوفى من المنفعة حتى يلتقيا قصاصاً بما وقع، كيف الإتلاف بعوض؟.
قلنا: مجرد المنفعة لا تتقوم من غير عقد ولا شبهة عقد كما قلتم، وإنما تتقوم بالعقد بقدر ما قوم، وقد حصل التقويم بالأجر المسمى بقضاء القاضي؛ لأن عقد الإجارة ثبت بقضاء القاضي في الظاهر والباطن عند أبي حنيفة وإن كان الشهود زوراً، وإذا ثبت التقوم عند أبي حنيفة بقدر الأجر وجب على المستأجر باستيفاء ما استوفى من الأجر وقد سلم ذلك له بما أدى، فكان إتلافاً بعوض، وعلى قول من يقول بأن عقد الإجارة يثبت بقضاء القاضي في الظاهر دون الباطن، فكذا الجواب في الظاهر وفي الباطن لا تثبت الإجارة ولا يثبت الإيجاب، فكان له أخذ قدر الأجر من مال الشاهدين في الباطن متى ظفر به.
الفصل الثاني عشر: في الرجوع عن الشهادات على المال وعلى الدينوعلى الإبراء عن الدين وما يتصل بذلك
ادعى على رجل مئة درهم وشهد له شاهد على إقرار المدعى عليه بدرهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بدرهمين، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه بثلاثة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بأربعة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بخمسة دراهم، فإن على قول أبي حنيفة: القاضي لا يقضي للمدعي بشيء، وعلى قولهما يقضي بأربعة إن زعمت الشهود أن الأقارير في مجلس واحد؛ لأن على الأربعة شاهدان وهو الشاهد الرابع والخامس، لأن الأربعة في الخمسة. ولا يقضي بالدرهم الخامس إذ ليس عليه إلا شاهد واحد وهو الخامس، وإن زعمت الشهود أن الأقارير كانت في مجالس مختلفة فعند أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله، (.........) فيقضي بالأربعة أيضاً، وعند أبي يوسف الأول هذه أموال مختلفة فقضى له بسبعة، لأنه شهد على الأربعة شاهدان الرابع والخامس فيقضي بأربعة بشهادتهما، وشهد بالدرهمين اثنان الثاني والثالث فيقضى بالدرهمين شهادتهما، وشهد بالدرهم ثلاثة الأول والثالث والخامس فيقضي بالدرهم بشهادتهم، فقد ضم إلى الشاهد الأول الشاهد الثالث(8/588)
والخامس ولم يضم إليه الشاهد الثاني والرابع، وإنما فعل هكذا لأن جميع ما شهد به الثاني وهو اثنان قد قضى به مرة، وجميع ما شهد به الرابع وهو أربعة قد قضى بها مرة، والشاهد متى قضي بجميع ما شهد به مرة لا يقضى بشهادته ثانياً، فأما الخامس فما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالخمسة وقد قضي بشهادته بالأربعة، وكذلك الثالث ما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالثلاثة وقد قضي بشهادته بالدرهمين، فلهذا ضم الخامس والثالث إلى الأول، ثم إذا قضي بسبعة دراهم عند أبي يوسف الأول، ورجع الشهود عن شهادتهم ضمن كل شاهد ما قضى القاضي بشهادته، فالأربعة حصل القضاء (بها) بشهادة الرابع والخامس، فيضمنان ذلك بالسوية، والدرهمان حصل القضاء بهما بشهادة الثاني والثالث فكان ضمان ذلك عليهما والدرهم الواحد حصل القضاء بها
بشهادة الأول والثالث والخامس، فكان ضمان ذلك عليهم، وعند أبي يوسف الآخر وهو قول محمد لما قضى بأربعة دراهم كان ضمان الدرهم الأول عليهم أخماساً، لأن القضاء به وقع بشهادة الخمسة وضمان الدرهم الثاني يكون على الثاني والثالث والرابع والخامس أرباعاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الثالث يكون على الثالث والرابع والخامس أثلاثاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الرابع يكون على الرابع والخامس نصفان؛ لأن القضاء به وقع بشهادتهما.
وفي «المنتقى» رجل مات وترك مئة درهم، فادعى رجلان كل واحد منهما على الميت مئة درهم، وأقام شاهدين بمحضر من الوارث وقضى القاضي لكل واحد منهما بمئة درهم، وقسمت المئة المتروكة بينهما نصفان، ثم رجع شاهد أحد الرجلين عن خمسين درهماً، وقال: لم يكن له إلا خمسون درهماً غرما للغريم الآخر ثلث الخمسين، وذلك ستة عشر وثلثان؛ لأن في زعم الراجعين أن حق الآخر ضعف حق الذي شهدا له وأن الواجب المئة بينهما أثلاثاً، ثلثها وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث للذي شهدا له، وثلثاها ستة وستون وثلثان للآخر، وإنما قسمت المئة بينهما نصفان بشهادتهما بالمئة، فصارا متلفين على الآخر ما زاد على ثلاثة وثلاثين إلى تمام خمسين، وذلك ستة عشر وثلثان وهو ثلث الخمسين، فيضمنان ذلك القدر.
وفيه أيضاً: رجل مات وترك ألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر عليه ألف درهم أيضاً وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالألف بين المدعيين ثم رجعوا، ضمن كل شاهد خمسمئة، وإن رجع شاهد أحد المدعيين لم يضمنا للوارث شيئاً؛ لأن ههنا من قد استحق الألف كلها.
ولم يذكر في «الكتاب» هل يضمنان للمدعي الآخر، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يضمنا، وإن رجع بعد ذلك شاهدا المدعي الآخر، فهذا وما لو رجعوا جملة سواء مع المباشر إذا اجتمعا كان الضمان على المباشر إذا لم يصر الإتلاف منقولاً إلى المسبب؛ والإتلاف ههنا لم يصر منقولاً إلى المسبب؛ لأن الوكيل مختار في القبض وليس بمجبر عنه بخلاف القاضي؛ لأن القاضي مجبر على القضاء، فيصير فعله منقولاً إلى الشاهد.(8/589)
وإذا شهد رجلان على رجل بألف درهم، وشهد رجل وامرأتان عليه بتلك الألف وبمئة دينار وقضى القاضي بالكل ثم رجع الفريق الثاني عن الدراهم دون الدنانير، فلا ضمان عليهم؛ لأنه قد بقي على الدراهم من يتم الحجة بشهادته وهو الفريق الأول، ورجوع الفريق الثاني عن الدراهم لا يكون رجوعاً عن الدنانير، فلهذا قال: لا ضمان عليهم، فإن رجعوا جملة فضمان الدنانير على الفريق الثاني خاصة، وضمان الدراهم على الفريق الأول والثاني نصفان؛ لأن الدراهم تثبت بشهادة الفريقين جميعاً.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أربعة شهدوا على رجل بأربعمئة درهم وقضى القاضي بها، ثم رجع واحد منهم عن مئة، وواحد منهم عن مئتين وواحد منهم عن ثلاثمئة وبقي شاهد واحد لم يرجع، فإن على الراجعين خمسون درهماً أثلاثاً، وهذا لأن العبرة في هذا الباب لبقاء من بقي من الشهود لا لرجوع من رجع، والشهادة قد بقيت بمقدار ثلاثمئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة منها بقي شاهداً بثلاثمئة، والذي لم يرجع بقي شاهداً بأربعمئة، فيبقى على ثلاثمئة شهادة شاهدين، فلا يجب ضمانهما على أحد، وأما المئة الزائدة فعليها شاهد واحد، وهو الذي لم يرجع أصلاً، فيبقى ببقائه نصفها، وذلك خمسون فعرفت أن التالف بمقدار خمسين، فيجب على الراجعين هذا القدر، ويجب عليهم ذلك أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابه، ولو رجع الرابع أيضاً عن الأربعمئة، فإن عليهم ضمان مئة وخمسين؛ لأن الشهادة قد بقيت بمقدار مئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة بقي شاهداً بثلاثمئة، والراجع عن مئتين بقي شاهداً بمئتين، فبقي على المئتين ههنا شاهد واحد وهو الراجع عن المئة، فبقي ببقائه نصفه وذلك خمسون، فعرفت أن التالف بمقدار مئة وخمسين، فيجب على الراجعين ضمان ذلك، غير أن ضمان المئة يجب عليهم أرباعاً لاستوائهم في إيجابها (169أ4) والرجوع عنها وأما ضمان الخمسين، فلا يجب شيء منه على الراجع عن المئة؛ لأنه لم يرجع عن المئة التي هي الخمسون نصفها، بل بقي هو على الشهادة فيها، ولأجله بقي نصفها، ولكن يجب على الراجعين الباقين أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابها والرجوع عنها.
قال في «الأصل» : وإذا شهد أربعة على رجل بحق، شهد اثنان عليه بخمسمئة، وشهد اثنان بألف وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع أحد شاهدي الألف، فإن عليه ربع الألف؛ لأن نصف الألف، وذلك خمسمئة تفرد بها شاهدا الألف، وقد بقي على ذلك صاحبه، وبه يقوم نصف الحق، فكان التالف بشهادة هذا الراجع عن الخمسمئة التي تفرد بإيجابها نصفها وهو الربع الألف، وإن رجع معه شاهد الخمسمئة فعليه ربع الألف خاصة لما بينا، وعليه وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الشهود على الخمسمئة أربعة وقد بقي من يقوم به نصفها، وهو أحد شاهدي الألف، فكان التالف برجوع هؤلاء من الخمسمئة نصفها، فيجب ضمان ذلك عليهم أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وحده أو رجعا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه قد بقي على هذه الخمسمئة شاهدا الألف، وإن رجعوا جملة فعلى شاهدي الألف ضمان الخمسمئة التي تفرد(8/590)
بإيجابها، والخمسمئة الأخرى ضمانها على الفريقين أرباعاً؛ لأنها تثبت بشهادة الفريقين، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وشاهدا الألف فإن على شاهدي الألف نصف الألف خمسمئة، وعليهما وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الخمسمئة الأخرى ثبتت بشهادة الأربع وقد بقي عليها من يقوم به نصفها، فكان التالف من الخمسئة الأخرى نصفها وهو ربع الألف فيكون ذلك على الراجعين أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الألف وأحد شاهدي الخمسمئة كان على أحد شاهدي الألف ربع الألف ولا شيء على أحد شاهدي الخمسمئة والله أعلم.
الفصل الثالث عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في المواريث
قال محمد رحمه الله: رجل مات وترك عبدين وأمة وأموالاً، فشهد شاهدان لرجل أنه أخ هذا الميت لأبيه وأمه، ووارثه لا وارث له غيره، فقضى القاضي له بالعبدين والأمة والأموال ثم شهد شاهدان بعد ذلك لأحد العبدين بعينه أنه ابن الميت، وأجاز القاضي شهادتهما وأعطاه الميراث وحرم الأخ عن الميراث، ثم شهد آخران أن العبد الباقي ابن الميت وأجاز القاضي ذلك كله وجعله وارثاً مع الأول وقسم المال بينهما نصفين ثم شهد شاهدان أن الميت أعتق هذه الأمة في حياته وصحته وتزوجها، وقضى القاضي بنكاحها، وقضى لها الثمن بالمهر وجعل لها الثمن وكل واحد يجحد صاحبه أن يكون وارثاً، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالابن الأول عن شهادتهما، فإنهما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والأمة بينهما أثماناً، سبعة أثمانها للابن الثاني، وثمنها للمرأة، ويضمنان جميعاً ما ورثه الابن الأول للابن الثاني؛ ولا يضمنان للمرأة من ميراث الأول شيئاً، أما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والمرأة؛ لأن في زعمها عند الرجوع أنهما أتلفا الابن الأول على الميت، وأنهما ضمنا قيمته وصار ذلك ميراثاً للابن الآخر والأمة على ثمانية أسهم، لأن في زعمهما أن الابن الأول لم يكن وارثاً ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي؛ لأن الأب ميت والنسب لا يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور بعد موت الأب، فصارا مقرين للابن الثاني والأمة بجميع القيمة على ثمانية أسهم وقد صدقهما الابن الثاني، والأمة في ذلك حيث جحدا (.d
..) الابن الأول، وأما يضمنان جميع ما ورثه الابن الأول للابن الثاني لأنهما بشهادتهما أتلفا على الابن الثاني ذلك؛ لأن الشهادة حصلت بعد موت الأب، فكان استحقاق الابن الأول الميراث مضافاً إلى شهادتهما ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، لأنهما لم يتلفا على المرأة شيئا من حقها في الميراث؛ لأن حقها ثمن جميع المال سواء كان للميت ابن واحد أو أكثر من ذلك وقد استوفت ثمنها من جميع أموال الميت، إنما لم تستوف من قيمة الابن الأول؛ لأنها(8/591)
ظهرت بعد موت الزوج، فيستوفي الابن ذلك ليتم حقها، وإذا استوفت المرأة تمام حقها لا يضمنان لها شيئاً، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً؛ لأن ما استحق بشهادتهما على الأخ استحق عليه بشهادة غيرهما وهو شاهد الابن الثاني ففي حق الأخ بقي على الشهادة حجة تامة في حق استحقاق الإرث عليه هذا الذي ذكرنا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً يزعم أنه هو الوارث دون غيره، فأما إذا صدق بعضهم بعضاً في كونه وارثاً والباقي بحاله، فإن شهدا للابن الأول لا يضمنان للابن الثاني ولا للمرأة شيئاً، وإن صارا مقرين عند الرجوع أنهما أتلفا للابن الأول وما ورثه الابن الأول على الابن الثاني والأمة، لأن الابن الثاني والأمة لما صدقا الابن الأول في دعواه أنه ابن الميت، فقد كذبا الشاهدين فيما أقرا لهما من الضمان، والإقرار يبطل بتكذيب المقر له، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً وإن رجع شاهدا الابن الثاني أيضاً، فإنهما يضمنان قيمة الابن الثاني للابن الأول ولا يضمنان للأمة شيئاً من الميراث لما ذكرنا في المسألة الأولى، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً فأما إذا كان يصدق بعضهم بعصاً، فلا ضمان عليهما للابن الأول ولا للمرأة لما ذكرنا وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً، فإن رجع شاهدا المرأة أيضاً ضمنا قيمة المرأة بين الابن الأول والثاني نصفين ويضمنان المهر وما ورثته الأمة أيضاً بينهما، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً، فأما إذا كان يصدق بعضهم
بعضاً، فلا ضمان عليهما في شيء من ذلك لما ذكرنا وهذا الذي ذكرنا إذا كان ثبت وراثة كل واحد منهم بشهادة شاهدين على حدة، فأما إذا ثبت وراثة الكل بشهادة شاهدين بأن شهد شاهدان بنسب الابن الأول والثاني وبعتق الأمة ونكاحها وقضى القاضي بذلك، وكان ذلك بعد موت المولى ثم رجعا عن شهادتهما جملة. فالجواب فيها أن حق الضمان للابنين والمرأة كالجواب في المسألة الأولى حتى إذا جحد بعضهم بعضاً يضمنان قيمة الابن الأول بين الابن الثاني والمرأة على ثمانية أسهم، ويضمنان ميراث الابن الأول للابن الثاني ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً ويضمنان قيمة الابن الثاني بين الابن الأول والمرأة أثماناً، ويضمنان ميراث الابن الثاني للابن الأول، ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، سواء شهدا بذلك في أوقات مختلفة، بأن شهدا للابن الاول وقضى القاضي بذلك ثم شهدا بعد ذلك للابن الثاني والمرأة، أو شهدا بذلك في وقت واحد بعد أن شهدا بنسب كل ابن بدعوة على حدة بأن شهدا أنه ادعى هذا، ثم ادعى الآخر؛ لأن الفريق وإن كان واحداً من حيث الحقيقة فمن حيث الحكم فرق؛ لأن الثابت بشهادة الفرق ضرورة كل ابن مشهوداً له ومشهوداً عليه، فإن الأكبر كما صار مشهوداً له على الأصغر صار مشهوداً عليه الأصغر وقد ثبت بالفريق الواحد وإذا صار الفريق الواحد فرقاً معنى، كان الجواب في حق الضمان بين المرأة وبين الابنين كالجواب فيما إذا كانوا فرقاً، إذا جحد البعض ضمن الشاهدان على نحو ما بينا، وإن صدق بعضهم البعض، فلا ضمان على الشاهدين على نحو ما بيّنا في الفرق، ففي حق هذا الحكم لا فرق، وإنما الفرق بين الفرق والفريق الواحد في ضمان الأخ، ففيما إذا كان المشهود فرقاً لا يضمن الراجعان للأخ شيئاً وإن أقر الراجعان بوراثة الأخ، وفيما إذا كان الفريق واحداً ضمنا للأخ إذا أقرا بوراثته.(8/592)
ووجه الفرق أن الشهود إذا كانوا فرقاً إنما لا يضمن الراجع للأخ شيئاً؛ لأن من حجته أن يقول للأخ لولا شهادتنا (169ب4) .
لكان الحرمان ثابتاً لك بشهادة الفريق الآخر، فما أتلفت عليك، ولا يمكن للفريق الواحد أن يحتج على الأخ بهذه الحجة، لأنه لولا شهادتهم لم (يكن) الحرمان ثابتاً بشهادة غيرهم، إذ ليس ههنا فريق آخر فالحرمان في حق الأخ ثابت بشهادتهما، وتبين أنهما شهدا بباطل فيضمنان ذلك للأخ.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك في يدي رجل ألف درهم وديعة والرجل مقر بها، جاء رجل وادعى أنه عم الميت أخ أبيه وأمه لا وارث له غيره وأقام على ذلك بينة، والعم مقر بأن صاحب اليد مودع الميت، فإن القاضي يجعل المودع خصماً للعم، فرق بين هذا وبينما إذا كان في يد إنسان وديعة لرجل، جاء رجل وادعى انه اشترى هذه الوديعة من المالك، وأنكر المودع الشراء، فأقام المدعي بينة على الشراء من صاحب الوديعة، فإن المودع لا يجعل خصماً له.
والفرق ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن الوارث قائم مقام المورث خلف عنه في أملاكه وحقوق عقده الذي باشره، حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب، وكونه مودعاً لا يدفع خصومة من أودعه، فكذا لا يدفع خصومة من قام مقامه، ألا ترى أنه لا يدفع خصومة وكيل صاحب الوديعة؛ لكونه قائماً مقامه، فأما المشتري فليس بقائم مقام البائع، وليس بخلف عنه؛ لأنه بالشراء يثبت له ملك مبتدأ لا بطريق الخلافة من البائع، ولهذا لا يملك الرد على بائعه بالعيب، والمودع إنما ينتصب خصماً للمودع ولمن قام مقام المودع. ثم إذا قضى القاضي بهذه الشهادة ودفع المال إلى العم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت لأبيه وأمه لا يعلم له وارثاً غيره تقبل هذه الشهادة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبين البينة الأولى، فإنه يجوز أن يكون للميت عم وأخ، وهذه البينة قامت على الخصم وهو العم؛ لأن المال في يده وهو يزعم أنه له، وينكر كونه للميت، فينتصب العم خصماً عنه إذا قضى القاضي بالشهادة الثانية يأخذ المال من العم ويدفعه إلى الأخ لأب وأم؛ لأن الأخ مقدّم على العم في الميراث.
فإذا دفع المال إليه جاء رجل آخر وأقام البينة أنه ابن الميت لا يعلم له وارثاً غيره، قبل القاضي هذه البينة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبينما تقدم من البيِّنتين وهذه البينة قامت على الخصم أيضاً لما قلنا في العم، وإذا قبل القاضي هذه البينة أخذ المال من العم ودفعه إلى الابن، وإذا دفع إلى الابن ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فالقضاء ماضٍ ولا ضمان على شاهدي العم؛ لأن ما أتلف شهود العم مستحق بشهادة شهود الأخ والابن فلم يكن تلف ذلك مضافاً إلى شهود العم.
فإن قيل: هذا إنما يستقيم أن لو بقي شهود الأخ والابن، على الشهادة، وقد رجعوا مع شهود العم.
قلنا: رجوع شهود الأخ والابن إنما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق شهود العم كما لا يعمل في حق المشهود عليه، وإذا لم يعمل في حقهم صار كأنهم لم يرجعوا عن(8/593)
شهادتهم ولا ضمان على شهود الأخ أيضاً لما قلنا في شهود العم، وضمن شهود الابن للأخ ما أخذ الابن؛ لأنهم أتلفوا ذلك على الأخ، وذلك غير مستحق بشهادة غيرهم، فلهذا كان عليهم الضمان.
وكذلك لو جاء الشهود جميعاً، إلى القاضي يشهدون على ما وصفنا قبل القاضي شهادتهم، وقضى بها؛ لأنه أمكن القضاء بالدعاوى كلها لعدم المنافاة وقد قامت الحجة على الكل، فيجب القضاء بالكل، ثم إذا قضى القاضي بشهادة الكل ورجعوا جميعاً عن شهادتهم، كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على (....) ، فلا يضمن شهود العم ولا شهود الأخ، ويضمن شهود ابن الأخ ما أخذ الابن.
حكى الجصَّاص عن الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه المسألة أن شهود الابن يضمنون للأخ ما ورثه الابن على الإطلاق غير سديد؛ لأن الشهود متى عدلوا جملة لا يتمكن القاضي من القضاء بالعمومة والأخوة؛ لأنه قارن القضاء بها ما يمنع القضاء بها، وهو قيام البينة العادلة على البنوة؛ لأنها تمنع القضاء بالميراث لهما؛ لأنهما لا يرثان مع الابن، فإذا امتنع القضاء بالميراث امتنع القضاء بالأخوة والعمومة؛ لأن القضاء بالأخوة والعمومة من غير استحقاق ميراث أو نفقة لا يجوز، كما لو تجردت دعوى الأخوة والعمومة عن دعوى المال.
وإذا لم يقض القاضي بالأخوة والعمومة فشهود الابن ما أتلفوا على الأخ شيئاً، فلا يضمنون بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القضاء للأخ والعم قد صح؛ لأنه لم يقرن بالقضاء بهما ما يمنع القضاء بهما، أما ههنا فبخلافه.
قال: إلا أن تكون تأويل المسألة أن يكون الأخ أعاد البينة بعد رجوع شاهدي الابن حتى تثبت أخوّته بما أقام من البينة ثانياً؛ لأنه أمكن للقاضي القضاء بالأخوة في هذه الصورة؛ لأن شهود الابن راجعون عن شهادتهم وقت أقامة الأخ البينة في المرة الثانية.
أو يكون تأويل المسألة: أن الشهود شهدوا جميعاً إلا أن القاضي قضى للعم أولاً لظهور عدالة شهوده، ثم للأخ ثم للابن، فإن في هذه الصورة ينفذ قضاؤه، وإن كان سبيله أن لا يقضي حتى تظهر عدالة شهود الابن أو جرحهم، فأما إذا عدلوا معاً، فلا يصح ما ذكر من الجواب، والى هذا الطعن مال عامة مشايخنا وبعض مشايخنا صححوا المذكور في الكتاب وقالوا: شرط صحة دعوى الأخوة والعمومة والقضاء بهما دعوى حق لسببه لا استحقاق دعوى لسببه لا محالة، وكل واحد منهما ادعى حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة؛ لأن وقت دعواهما البنوة التي يثبت بها حرمان الأخ والعم غير ثابتة، فكان كل واحد منهما مدعى لنفسه حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة، فيقضي القاضي بأخوته وعمومته لوجود شرطه وإن لم يقض له بالمال لتقدم غيره عليه، ألا ترى أنه يقضى بأخوته وعمومته، فإن كان في التركة ديناً محيطاً وهو نظير من يدعي الشفعة بالجوار ويثبت جواره(8/594)
بالبينة، فالقاضي يقضي بذلك وإن كان هناك شريكاً مقدماً عليه.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل مات وترك أخاً معروفاً وترك عبدين وأمة، فشهد شاهدان لأحد العبدين أنه ابن الميت وشهد آخران للآخر أنه ابن الميت وشهد آخران للأمة أنها ابنة الميت، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث بينهم ثم رجعوا عن شهادتهم لم يضمنوا للأخ شيئاً، ويضمن كل فريق من الشهود قيمة الذي شهدوا به وميراثه للأخوين، ولو كان الميت ترك أخاً معروفاً وعبداً وأمة، فشهد شاهدان للعبد أنه ابنه، وشهد آخران للأمة أنها ابنته، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث كله بين الابن والابنة، ثم رجع الشهود جملة عن شهادتهم، فإن شاهدي الابن يضمنان للأخ نصف الميراث ونصف قيمة العبد، وللابنة سدس الميراث ونصف قيمة العبد من قبل أنه لولا شهادتهما لكان الميراث كله بين الأخ والابنة نصفان، ويضمن شاهدا الأمة قيمتها وميراثها للابن خاصة؛ لأنه لولا شهادتهم لكان جميع ذلك للابن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل مات وترك ابن عم وترك ألف درهم في يد ابن العم، فأقام رجل البينة أنه أخوه وقضى القاضي له بالألف، ثم أقام رجل آخر بينة أنه ابنه وقضى القاضي له بالألف، ثم رجع شاهدا الأخ عن شهادتهما، فليس للابن والعم أن يضمنهما، وإن رجع شاهدا الابن بعد ذلك، فللأخ أن يضمن شاهدي الابن، فإذا أخذ الألف من شاهدي الابن، فلابن العم أن يضمن شاهدي الأخ الألف؛ لأن من حجته أن يقول لهما: إنما وصلت هذه الألف إلى الأخ بشهادتكما، وما لم يرجع شاهد الأخ وشاهد الابن فليس لابن العم ههنا شيء، وإن رجع شاهد الابن أولاً فللأخ أن يضمنهما، فإن رجع (170أ4) شاهدا الأخ بعد ذلك فلابن العم أن يضمنهما.
رجل شهد عليه شاهدان أنه أقر أن هذا ابنه من أمته هذه، والرجل يجحد وقضى القاضي به ثم مات المشهود عليه، فشهد شاهدان بعد موته لصبي كان في يده من أمة له أن الميت أقر عندنا في حال حياته أن هذا الصبي ابنه من أمته هذه، فإن القاضي يقبل هذه الشهادة بمحضر من الابن الأول، ويثبت نسبه ويعتق أمه من جميع المال، ويعطيه نصف ما في يد الابن الأول، فإن رجع الشهود بعد هذا عن شهادتهم ضمن شاهدا الابن الثاني للابن الأول جميع قيمة الابن الثاني وقيمة أمه وما أخذ منه من الميراث؛ لأنهم شهدوا بنسب الابن الثاني بعد موت الأب، ويضمن شاهدا الابن الأول للثاني نصف قيمة الأول ونصف قيمة أمه؛ لأنهم شهدوا بنسبه حال حياة المولى واستمسكا هذا على الأب في حياته، ولا يضمنان له من ميراثه شيئاً، وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
الفصل الرابع عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية
قال محمد رحمه الله في «الأصل» إذا مات الرجل فجاء رجل وادعى أن الميت(8/595)
أوصى له بالثلث من كل شيء، فأقام على ذلك شاهدين وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعوا عن شهادتهما ضمنا جميع الثلث للورثة.
وكذلك لو ادعى الوصية في حال حياة الميت وأقام عليها شاهدين فلم يختصموا في ذلك حتى مات الموصي، وقضى القاضي بشهادتهما بعد موت الموصي ثم رجعوا، فإنهم يضمنون الثلث للورثة، فقد أضاف الاستحقاق إلى الوصية التي ثبتت بشهادة الشهود ولم يضف إلى الموت، وإن كان لابد للاستحقاق بالوصية من الأمرين الموت والوصية، والموت آخرهما وجوداً وفي باب النسب أضاف الاستحقاق إلى الموت إذا كان الموت آخرهما وجوداً بأن كانت الشهادة بالنسب حال حياة الأب، وقد اختلف المشايخ في تخريج المسألتين: بعضهم قالوا: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله.
موضوع مسألة الوصية أن الشهادة بالوصية كانت حالة الحياة، والخصومة والقضاء بها كان بعد موت الموصي، والشهادة لا تصير موجبة إلا بالقضاء، فإذا وجد القضاء بعد الموت فكأنهما شهدا بالوصية بعد الموت، ولو كان كذلك كان الاستحقاق مضافاً إلى الوصية التي تثبت آخراً بشهادتهم لا إلى الموت، كذلك ههنا.
وموضوع مسألة النكاح والنسب أن الشهادة والقضاء كانا في حالة الحياة، فلا يمكننا أن نجعلهما شاهدين بعد الموت لا حقيقة ولا اعتباراً، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما وجوداً لا إلى النسب والنكاح الذي يثبت بشهادتهما.
وأشار شمس الأئمة السرخسي إلى الفرق فقال: استحقاق الوصية عند الموت بالعقد لا بالموت، فإن ملك الموصى له متجدد ثابت بالعقد فلا يمكن إضافته إلى الموت بخلاف الميراث، فإنه خلافه على معنى أنه يبقى للوارث ما كان من الملك ثابتاً للمورِّث، وهذه الخلافة لا تتحقق إلا بالموت، فأمكن إضافته إلى الموت.
وإذا شهدوا أنه أوصى بهذا الخادم لهذا الرجل وقضى القاضي بشهادتهم ووطئها الموصى له، فعلقت منه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأمة يوم قضاء القاضي بها؛ لأنهم أزالوا الأمة عن ملكه بغير عوض، فيضمنون قيمتها للورثة ولا يضمنون قيمة الولد ولا العقر؛ لأن العقر إنما يجب بدلاً عما استوفى الموصى له من منافع البضع بسبب شهادة الشهود وقد ضمن الشهود ذلك حين ضمنوا القيمة يوم القضاء؛ لأن منافع البضع ألحقت بسائر أجزائها من حيث الحكم، فكما دخل ضمان سائر الأجزاء في ضمان القيمة، فكذا ضمان منافع البضع تدخل في ضمان القيمة، فإن وقع الاختلاف بين الشهود وبين الورثة في قيمة الجارية يوم القضاء، فقال الشهود: كانت قيمتها يوم القضاء ألف درهم، وقالت الورثة: لا بل كانت ألفي درهم فإن كانت الجارية ميتة فالقول قول الشهود؛ لأن الورثة يدعون عليهم زيادة قيمة وهم ينكرون، وإن كانت الجارية قائمة بحكم الحال فإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم فالقول قول الورثة، وإن كانت قيمتها في الحال ألفاً فالقول قول الشهود؛ لأنهما اختلفا في قيمتها فيما مضى وأمكن تحكيم(8/596)
الحال؛ لأن القيمة قائمة للحال فيجب تحكيم الحال كما في مسألة الطاحونة.
وإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم وأقام الشهود بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألف درهم أخر ببينتهم، وكذلك إذا كانت قيمتها في الحال ألف درهم وأقام الورثة بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألفي درهم أخر بينتهم؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافة، كما في مسألة الطاحونة، وإن أقاموا جميعاً البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأن في بينتهم زيادة إثبات في قيمتها فيما مضى.
وإذا شهد الشهود أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فلا ضمان عليهم؛ لأنهما ما أتلفا على الميت ولا على الورثة شيئاً بشهادتهما، إنما نصبا من يحفظ المال عليهم.
قال: رجل مات وترك ابناً وثلاثة آلاف درهم، فادعى رجل وهو الأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر وهو الأوسط بمثل دعواه، وأقام على ذلك بينة وادعى رجل آخر وهو الأصغر بمثل دعواهما، وأقام على ذلك بينة والوارث يجحد ذلك كله والموصى لهم يجحد كل واحد منهم وصية صاحبه، وزكت البينات وقضى القاضي بالثلث بينهم أثلاثاً؛ لاستوائهم في الدعوى والحجة وازدحام الحقوق في الثلث الذي اقتصرت الوصايا عليهم عند عدم إجازة الورثة، فإذا قضى القاضي به ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، لم يضمنوا للابن شيئاً؛ لأن كل فريق يحتج على الابن ويقول: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ورجوع كل فريق يقتصر عليه ولا يظهر في حق غيره، فيجعل في حق كل فريق كأن الفريقين الآخرين لم يرجعا عن الشهادة، ويضمن كل فريق للموصى لهما اللذين لم يشهد لهما هذا الفريق ثلث الثلث؛ لأن في زعم كل فريق أنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الموصى لهما اللذين لم يشهد لهما نصفين، فإنما تلف على كل واحد منهما نصف الثلث وهو سدس الكل بشهادتنا، فيضمنان ذلك، ولو عدلت شهود الأكبر أولاً وقضى القاضي به بكل الثلث؛ ثم عدلت شهود الأوسط وقضى القاضي له بنصف ما أخذ الأكبر، ثم عدلت شهود الأصغر وقضى القاضي له بثلث ما أخذ، ثم رجعوا فالجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى.
فإن قيل: ينبغي أن يضمن شهود الأوسط للأكبر في هذه الصورة نصف الثلث؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم نصف الثلث.
قلنا: نعم إلا أن ثلث هذا النصف، وهو سدس الكل مستحق بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون له نصف الثلث. ولو كان الأكبر ادعى الوصية لنفسه، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي ببينة الأكبر ودفع الثلث إلى الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن قضية الأكبر وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأوسط، وأخذ القاضي الثلث من الأكبر ودفعه إلى الأوسط بشهادة شاهده، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن وصيته لهذا الأوسط وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأصغر، فأخذ القاضي الثلث من(8/597)
الأكبر ودفعه إلى الأصغر، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة فالثلث سالم للأصغر، ولا ضمان للوارث على أحد من الشهود؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ويضمن شاهدا الأصغر للأوسط جميع الثلث؛ لأنه لولا شهادتهما لكان جميع الثلث مستحقاً للأوسط؛ لأنه ثبته بشهادة شهوده وصيته، والرجوع عن الوصية للأكبر ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف الثلث؛ لأنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الأكبر والأصغر نصفين، لأن شهود الأصغر ما أثبتوا رجوع الميت (170ب4) عن الوصية للأكبر، إنما أثبت ذلك شهود الأوسط فحصل التلف على الأكبر بشهادة شهود الأوسط، إلا أن شهود الأوسط يضمنون نصف الثلث لا جميع الثلث؛ لأن نصف الثلث مستحق بشهادة شهود الأصغر بالوصية للأصغر فلا يضمنان ذلك، فأما النصف الآخر صار مستحقاً على الأكبر بشهادة شهود الأوسط لا غير، فيضمنون ذلك النصف، ولا يضمن شاهدا الأكبر شيئاً؛ لأنهما ما شهدا على الأوسط، والأصغر إنما شهدا على الوارث، وقد ذكرنا أنهما لا يضمنان للوارث ولو لم يرجعا، ولكن وجد أحد شاهدي الأوسط عبداً فالثلث بين الأكبر والأوسط نصفان.
لأن شهود الأكبر أثبتوا الوصية للأكبر، وشهود الأصغر أثبتوا الوصية للأصغر ولم يثبتوا الرجوع عن الوصية للأكبرو والأوسط خرج من البين، فيكون الثلث بين الأكبر والأصغر نصفان، قال: ولو ترك الميت ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء، لا مال له غيرهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر وقضى القاضي به؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الأولى وأوصى بهذا العبد الأوسط لفلان الأوسط، فقضى القاضي بشهادتهم وردت الوصية الأولى؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الثانية ثم رجعوا جميعاً عن الشهادة، لا ضمان على أحد منهم للوارث.
أما على الفريق الأول: فلأن ما أتلفوا على الوارث بشهادتهم عاد إلى ملك الوارث بشهادة الفريق الثالث، فارتفع ذلك الإتلاف أيضاً، ولأن الفريق الثاني وإن أتلفوا على الوارث بشهادتهم العبد الأوسط، إلا أنهم عوضوا عنه للوارث العبد الأكبر، والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على الشاهد عند الرجوع، وأما الفريق الثالث: فلأنهم وإن أتلفوا على الوارث العبد الأصغر بشهادتهم إلا أنهم أتلفوا بعوض، وهو العبد الأوسط ولا ضمان على شهود الأكبر لواحد من الموصى لهم، ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف قيمة العبد الأكبر، وشاهدا الأصغر يضمنان للأوسط جميع قيمة الأوسط، ولو شهدا للأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، فلم تظهر عدالتهما حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأوسط ورجع عن وصيته للأكبر، فلم يظهر عدالتهما أيضاً حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأصغر ورجع عن وصيته للأوسط، فعدل الشهود جميعاً، أو كانت الوصايا بالعبيد الثلاثة على ما بينا، قضى القاضي للأصغر بالثلث إن كانت الوصية بالثلث، وبالعبد الذي شهد له شهوده إن كانت الوصية بالعبد، ولا يقضي بالوصية للأكبر ولا للأوسط؛ لأنه قارن القضاء بها وهو قيام البينة العادلة على(8/598)
الرجوع عن الوصية لهما، ولم يقارن القضاء بالوصية للأصغر مثل هذا المانع، فقضى بالوصية للأصغر ولم يقض بالوصية للأكبر والأوسط لهذا، فإذا قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة ضمن شهود الأصغر للوارث الثلث إن كانت الوصية له بالثلث، وقيمة العبد إن كانت الوصية له بالعبد.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الشهادات على التفاريق والتعديل والقضاء بها على التفاريق، ثم رجعوا حيث لا يضمن شهود الأصغر للوارث شيئاً على ما مر قبل هذا، والفرق: أن ثمة شهود الأصغر ما أتلفوا على الوارث شيئاً، فإن بشهادتهم لم يستحق الأصغر شيئاً على الوارث، إنما استحق على الأوسط؛ لأن القاضي قضى للأوسط بالثلث قبل القضاء للأصغر، وشهادتهم بالرجوع عن الوصية للأوسط لا يوجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترن بذلك شهادتهم بالوصية للأصغر، ولهذا قلنا إن الوارثين إذا شهدا أن الميت رجع عن وصيته لفلان، وأوصى لهذا الثاني تقبل شهادتهما، ولو كانت الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى عند اقتران الشهادة بالوصية الثانية بها يوجب عود الموصى به إلى الورثة، لكانت هذه الشهادة لأنفسهما، فينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة، فعلم أن شهادة شهود الأصغر بالرجوع عن الوصية للأصغر لا توجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترنت به شهادتهم بالوصية للأصغر، بل ينتقل الثلث بشهادتهم من الأوسط إلى الأصغر، ولما كان هذا لم يكن التلف حاصلاً على الوارث بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون للوارث، أما ههنا القاضي لما لم يقض الثلث للأكبر وللأوسط، بقي الثلث على ملك الوارث من حيث الظاهر، فصار شهود الأصغر بشهادتهم متلفين على الوارث ذلك فيضمنان ذلك للوارث، فإن أراد الأوسط تضمين شهود الأصغر لعلمه أنهم شهدوا برجوع الميت عن وصيته، ورجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يقول للأوسط: أقم بينة على وصيتك وخصمك على شهود الأصغر، لأن القاضي لم يقدر على القضاء بالوصية للأوسط وقت ظهور عدالة شهوده؛ لأنه قارن القضاء بالوصية له ما يمنع القضاء بها على ما مر، ولم يقدر على القضاء بتلك البينة الآن؛ لأن بينته رجعوا أيضاً، فلابد من أقامة بينة أخرى، فإذا أقام بينة أخرى حينئذٍ أمكن للقاضي القضاء بالوصية له؛ لارتفاع المانع من القضاء لما رجع شهود الأصغر عن شهادتهم، فيقضي القاضي
بالوصية للأوسط ويظهر حينئذٍ أن شهود الأصغر أتلفوا على الأوسط بشهادتهم لا على الوارث، فيضمن شهود الأصغر للأوسط جميع الثلث إن كانت الوصية بالثلث، وقيمة العبد الموصى له إن كان الوصية بالثلث، ثم يرجع شهود الأصغر على الوارث بما أخذ الوارث منهم؛ لأنه تبين أن ما أخذ الوارث منهم أخذ بغير حق.
وهو نظير رجل في يده عبد قيمته ألف درهم، فهلك في يده فأقرا أنه كان غصبه من فلان وضمنه القاضي قيمته للمقر له، قامت البينة أن العبد كان للآخر، وقضى القاضي بالقيمة لصاحب البينة، فالمقر يرجع على المقر له بما ضمن له كذا ههنا، قال: وكذلك الموصى له الأكبر لو أراد تضمين شاهدي الأوسط لم يكن له ذلك إلا أن يقيم البينة(8/599)
عليهما بحقه، فإذا أقامها قضى القاضي له بنصف الثلث على شهود الأوسط؛ لأنه تبين أنهما أتلفا على الأكبر نصف الثلث على ما مر في المسألة المتقدمة، ولا يضمن واحد منهم شيئاً للوارث لما مر قبل هذا.
رجل أوصى بثلث ماله لرجل ثم مات الموصي ودفع القاضي الثلث إلى الموصى له، ثم شهد شاهدان أن الميت قد كان رجع عن هذه الوصية، وقضى القاضي بالرجوع وأخذ الوارث الثلث من الموصى له، ثم شهد هذان الشاهدان أن الميت أوصى بالثلث لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، ضمنا الثلث مرتين، مرة للوارث ومرة للموصى له الأول؛ لأنهما أتلفا الثلث على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع عن وصية، وأتلفاه على الوارث بشهادتهما للموصى له الثاني.
فرق بين هذا وبينما إذا شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية جملة، وقضى القاضي بالرجوع وبالوصية الثانية، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، فإنهما يضمنان ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، والفرق وهو أنهما إذا شهدا بالرجوع والوصية الثانية جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث بل ينتقل من الموصى له الأول إلى الثاني، فيكون التلف حاصلاً على الموصى له الأول لا على الوارث، أما ههنا الثلث قد عاد إلى ملك الوارث لما شهدا بالرجوع مفرداً، وقضى القاضي بشهادتهم، فإذا شهدا بالوصية الثانية بعد ذلك بزور، فقد أتلفا الثلث على الوارث، وقد أتلفاه على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع، فصارا متلفين الثلث مرتين فضمناه مرتين لهذا.
فإن قيل: لم لا يصير ما أدخلاه الشاهدان في ملك الوارث بالشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى عوضاً عما أخرجاه عن ملكه بالشهادة الثانية.
قلنا: لأن الإخراج مع الإدخال حصلا بشهادتين مختلفتين، فالإدخال حصل بالشهادة بالوصية الثانية، والتعويض إنما يكون عند اتحاد سبب الإدخال والإخراج.
كما لو شهدا على (171أ4) رجل ببيع عبد قيمته ألف بألف، أما عند تفرق السبب فلا، ألا ترى أنهما إذا شهدا لزيد على عمرو بألف درهم ثم شهدا بعد ذلك لعمرو على زيد بألف درهم، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا لهما.
وإن أدخلا في ملك واحد منهما مثل ما أخرجا عن ملكه ما كان الطريق إلا ما قلنا أن السبب قد تفرق، وعند تفرق السبب التعويض يمتنع.
ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى شهدا بالوصية الثانية، فقضى القاضي بذلك جملة ثم رجعا عن الشهادتين لم يضمنا للوارث شيئاً، كما لو حصلت الشهادتان بالأمرين جملة؛ لأن القضاء بالأمرين إذا وقع جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث لقيام ما يمنع العود إلى ملك الوارث وهو القضاء بالوصية للثاني.
قال: ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية معاً، وقضى القاضي بالأمرين ثم رجعا عن الشهادة بالوصية الثانية خاصة، سألهما القاضي أترجعان عن(8/600)
الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى؟ وهذا سؤال حسبة وليس بواجب، وهذا لأنهما لما رجعا عن بعض الشهادة ثبت احتمال الرجوع عن الباقي، فصار الموضع موضع الاحتياط، وفي هذا السؤال فائدة؛ لأنهما لو لم يرجعا عن الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى يجب القضاء بالثلث للوارث عند رجوعهما عن الشهادة بالوصية الثانية، وإذا قضى القاضي بذلك تبقى الشهادة على الرجوع مفردة، فإن رجعوا بعد ذلك عنها ضمنوا الثلث مرة أخرى للموصى له الأول لما تبين، فتكرر الضمان على الشهود.
ولو رجعا عن الشهادة على الرجوع قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنوا الثلث للموصى له، ولا يضمنان للوارث لما تبقى، فقد أفاد السؤال بيان المستحق وتخفيف الأمر على الشهود، وتحقيق النظر، فلهذا سألهما القاضي.
فإن قالا: نحن ثابتان على شهادتنا بالرجوع يضمنان الثلث للوارث؛ لإقرارهما أن الشهادة بالوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كان للوارث، وأنهما أتلفاه على الوارث بشهادتهما بغير عوض.
وإن قالا: نحن راجعان عن تلك الشهادة أيضاً، فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي عليهما بالثلث للوارث ضمنا للموصى له ثلثاً آخر؛ لأنهما لما رجعا عن شهادتهما على الرجوع بعدما قضى القاضي عليهما بالثلث للوارث، فقد أقرا بشيئين يضمنان الثلث على أنفسهما للموصى له الأول؛ لإتلافهما ذلك عليه، وبثبوت ولاية استرداد ما دفعا إلى الوارث لأنفسهما؛ لأنهما يقولان: إتلاف الثلث حصل على الموصى له الأول لا على الوارث، فيصدقان فيما يقران على أنفسهما ولا يصدقان فيما يقران على الوارث، ولو كان ذلك قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنا ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، وكان ينبغي أن يضمنا للوارث ثلثاً أيضاً، لأن الرجوع عن الشهادة بالوصية الثانية قبل الرجوع عن الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى إقرار بإتلاف الثلث على الوارث، ويضمنان الثلث للوارث والرجوع عن الشهادة على الرجوع بعد ذلك إقرار للموصى له الأول بالثلث رجوع عما أقر للوارث، والإقرار صحيح، أما الرجوع عن الإقرار غير صحيح.
والجواب أن يقول: الإقرار بالثلث للوارث غير مفصح به، وإنما يثبت ذلك في ضمن الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية، والرجوع عن الشهادة غير معتبر قبل اتصال القضاء به، فما ثبت في ضمنه من الإقرار أيضاً لا يكون معتبراً قبل اتصال، فإذا رجعا عن ذلك قبل اتصال القضاء به يعمل رجوعهما، فلو أن القاضي حين سألهما لم يثبتا بل سكتا، فالقاضي لا يجبرهما، لأن السؤال إنما كان نظراً للشهود وتخفيفاً عليهم، وهذا لا يقتضي الجبر، فإذا سكتوا ولم يثبتوا قضى القاضي بالضمان للوارث؛ لأنهم شهدوا بالرجوع عن الوصية الأولى، ولم يوجد الرجوع عن تلك الشهادة، والظاهر هو الثبات عليهما، فيكون الجواب فيه الجواب كالجواب فيما إذا صرحوا أنهم ثابتون على الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى، ولو أنهما رجعا على الشهادة على الرجوع ولم يرجعا عن(8/601)
الشهادة بالوصية الثانية، فإن القاضي يضمنهما نصف الثلث للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن شهادتهما على الرجوع كانت باطلة وأن الميت أوصى للأول كما أوصى للثاني، وأن الثلث بينهما نصفان لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف نصف الثلث على الموصى له الأول بغير عوض، فإن رجعا بعد ذلك عن الشهادة على الوصية ضمنا نصف الثلث أيضاً للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن الشهادة على الوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كله كان للموصى له الأول لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف كل الثلث عليه إلا أنهما قد ضمنا نصف الثلث مرة، فيضمنان النصف الباقي، ولم يذكر ههنا أنهما متى رجعا عن الشهادة على الرجوع أن القاضي يسألهما أترجعان عن الوصية الثانية، بخلاف الفصل الأول.
والفرق بينهما: أن في الفصل الأول القاضي إنما يسألهما لمعان، من جملة ذلك تعيين المستحق؛ لأنهما إن رجعا عن الشهادة على الرجوع بعد الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث، كان الثلث للموصى له الأول، وإن ثبتا على الشهادة على الرجوع كان الثلث للوارث، يسألهما القاضي لتعيين المستحق، أما ههنا بعدما رجعا عن شهادتهما على الرجوع المستحق معلوم، وهو الموصى له الأول على كل حال، وإنما الاشتباه في مقدار ما يجب له من ثلث أو نصف ثلث، فيقضي القاضي بالقدر المتيقن، ولا يسألهما عن الرجوع عن الشهادة الثانية لهذا.
رجل مات وترك عبدين قيمة كل واحد منهما ألف درهم، وثلث ماله ألف درهم بأن ترك ألفاً أخرى، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الأصغر، قضى القاضي لكل واحد من الموصى لهما بنصف عبده؛ لأن الوصيتين قد اجتمعتا والثلث قاصر عنهما، وليست إحدى الوصيتين بأولى من الأخرى، فيجب قسمة الثلث بينهما نصفين، وذلك بأن يعطي كل واحد من الموصى لهما نصف وصيته، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم لا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: نصف العبد الذي شهدنا به بقي على ملكك والنصف الآخر أخرجناه عن ملكك، فقد أخرجنا بعوض؛ لأنه لولا شهادتنا لكان العبد الآخر للموصى له الآخر وكل فريق لا يقدر على إخراج النصف الذي أخرجه عن ملك الوارث إلا بإدخال نصف العبد الآخر في ملك الوارث حتى لا تزيد الوصية على الثلث، فصار النصف المردود على الوارث بشهادة كل فريق عوضاً عن النصف الفائت بشهادتهم.
وقد ذكرنا أن الإتلاف بعوض لا يوجب الضمان ويضمن كل فريق من الشهود للموصى له الآخر نصف عبده؛ لأنه أتلف النصف على الآخر بشهادتهم، فإنه لولا شهادتهم لسلم العبد كله للموصى له الآخر، ولو كان ثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبد أربعة آلاف درهم حتى خرج العبدان من الثلث سلم لكل واحد من الموصى لهما(8/602)
عبده، فإن رجع الشهود جميعاً ضمن كل فريق للوارث قيمة العبد الذي شهد به؛ لأن كل فريق أزال العبد الذي شهد به عن ملك الورثة ولم يدخل في ملك الورثة بشهادته شيء، فكان هذا إتلافاً بغير عوض، ولا يضمن الشهود للموصى لهما شيئاً إذا سلم لهما العبدان، ولو كان ثلث ماله ألف وخمسمئة بأن كان له مال سوى العبدين ألفان وخمسمئة كان لكل واحد منهما ثلاثة أرباع عبده، فإن رجعوا جميعاً عن الشهادة ضمن كل فريق سبعمئة وخمسين درهماً، مائتان وخمسون من ذلك للموصى له الآخر، وخمسمئة منها للورثة؛ لأن كل فريق بشهادته أتلف على الوارث من العبد الذي شهدوا بوصية ثلاثة أرباعه، وذلك سبعمئة وخمسون، إلا أن مائتين وخمسين من ذلك عاد إلى الورثة عوضه؛ لأنه لولا (171ب4) شهادة هؤلاء كان العبد الآخر كله مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما عاد ربعه إلى الورثة بشهادتهم، فصار عوضاً، فبقي مقدار خمسمئة متلفاً بغير عوض، فيضمنه كل فريق، وأما مائتان وخمسون للموصى له الآخر، لأنه لولا شهادة كل فريق لقضي للآخر بكمال كل العبد الذي أوصى له به، فإنما يقضي منه مقدار ربعه، وذلك قدر المائتين وخمسين درهماً بشهادة هؤلاء، فيضمون له ذلك القدر ولو كان قيمة أحد العبدين ألفان وقيمة العبد الآخر ألف، وثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبدين ثلاثة آلاف درهم قضى لكل واحد من الموصى لهما بثلثي عبده؛ لأن الوصيتين حصلتا بأكثر من الثلث، فيرد إلى الثلث عند عدم إجازة الورثة، وذلك ألفان، فيقسم الألفان بينهما على قدر حقوقهما، وحق أحدهما في ألفي درهم، وحق الآخر في ألف درهم فيقسم
الألفان بينهما، ثلثاه لصاحب الألفين وذلك ألف وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث، وثلثه لصاحب الألف، وذلك ستمئة وستة وستون وثلثان، فلو رجع الشهود عن شهادتهم ضمن الذي شهد بالعبد الأرفع ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثين، وثلث ألف من ذلك للورثة، وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، أما الألف للورثة؛ لأنهم وإن أخرجوا عن ملكهم ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون، وثلث فقد أدخلوا في ملكهم ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان يقضي بكل العبد الآخر للموصى له الآخر، فإنما عاد إلى الورثة ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث من العبد الآخر بشهادة هؤلاء، فلا يضمنون ذلك القدر، فكان المضمون عليهم قدر ألف درهم، وأما ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، فإنه لولا شهادة هذا الفريق لكان العبد الآخر مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما يقضي عليه ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث بشهادة هؤلاء، فيضمون ذلك القدر، قال وضمن الذي شهد بالعبد الأدون للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان، ولا يضمن للوارث شيئاً، أما لا يضمن للوارث؛ لأنه إنما استحق على الوارث بشهادة هذا الفريق ثلثا العبد الأدون، وقيمته ستمئة وستة وستون وثلثان وقد أدخلوا عوض ذلك في ملك الوارث عن العبد الأرفع وهو ثلث الأرفع، وأما يضمن للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان كل كل العبد الآخر، مستحقاً للموصى له الآخر فإنما يقضي عنه ستمئة وستة وستون وثلثان بشهادة هؤلاء، فيضمنون له ذلك القدر.(8/603)
رجل مات وترك عبدين، قيمة كل واحد منهما ألف درهم وثلث ماله ألف درهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل وقضى القاضي به، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن تلك الوصية وأوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي به ثم رجع الفريقان جميعاً عن شهادتهما، فلا ضمان على الفريق الأول لا للورثة ولا للموصى له الآخر، أما للوارث فلأنهما، وإن أخرجا العبد الأول عن ملك الوارث، إلا أن القاضي لما قضى بالرجوع عن الوصية الأولى وأعاد العبد إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإخراج، وأما للموصى له الآخر؛ فلأن الفريق الأول ما شهدوا على الموصى له الآخر بشيء، والفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة عبده؛ لإتلافهم العبد الأول عليهم بشهادتهم، ولا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأنهم إن أخرجوا العبد الثاني عن ملك الوارث فقد أدخلوا العبد الأول في ملكه، بشهادتهم ولو كان العبدان يخرجان من الثلث، فلا ضمان على الفريق الأول لا للوارث ولا للموصى له الأول كما ذكرنا في الفصل الأول، وأما الفريق الثاني فيضمنون للموصى له الأول قيمة عبده لما ذكرنا في الفصل الأول ويضمنون أيضاً للورثة قيمة العبد الثاني، ولا يصير العبد الأول عوضاً عن العبد الثاني بخلاف ما سبق.
والفرق: أن العبدين إذا كانا يخرجان من الثلث، فالفريق الثاني وإن أدخلوا العبد الأول في ملك الوارث بمقابلة إخراج العبد الثاني عن ملكه، إلا أنهم كانوا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال العبد الأول في ملكه إذا كان العبدان يخرجان عن الثلث، ألا ترى أنهما لو شهدا بالوصية الثانية ولم يشهدا بالرجوع عن الوصية الأولى، فإنه ينفذ الوصية الثانية في جميع العبد الثاني، وإن لم يدخل شيء من العبد الأول في ملك الوارث، وإذا قدرا على إخراج العبد الثاني من ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه لم يكن إدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فلا يصلح عوضاً عن الثاني.
أما إذا كان العبدان لا يخرجان من الثلث والفريق الثاني لا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث إلا بإدخال العبد الأول في ملكه إذ الوصيتان لا تخرجان من الثلث، فصار الإدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فصلح عوضاً عن الثاني.
ولو كان ثلث المال ألفاً وخمسمئة والمسألة بحالها فالفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة العبد الأول لما مر، ويضمنون أيضاً للوارث نصف قيمة العبد الثاني، لأنهما أخرجا العبد الثاني عن ملك الوارث، أكثر ما فيه أنهما أدخلا العبد الأول في ملكه إلا أن النصف من العبد الأول لا يصلح عوضاً عن نصف العبد الثاني؛ لأنهم يقدرون على إخراج نصف العبد الثاني؛ عن ملك الوارث من غير إدخال شيء من العبد الأول في ملكه بخروج هذا القدر من الثلث، وإذا كان هكذا لم يكن إخراج أحد النصفين من العبد الثاني متعلقاً بإدخال نصف العبد الأول في ملكه، فلم يصر نصف العبد الأول عوضاً عن نصف العبد الثاني، فبقي إتلاف هذا النصف بغير عوض، فأما النصف الآخر(8/604)
من العبد الثاني فالفريق الثاني لا يتمكنون من إخراجه عن ملك الوارث إلا بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه؛ لكونه زيادة على الثلث فكان إخراج هذا النصف متعلقاً بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه، فصلح عوضاً، فكان تلف هذا النصف بعوض، ولهذا قال ضمن الفريق الثاني للوارث قيمة نصف العبد الثاني.
ولو كان ثلث المال ألفي درهم وقيمة العبد الأول ألف درهم، وقيمة العبد الثاني ألفي درهم والمسألة بحالها، فإن الفريق الثاني يعرضون للموصى له الأول قيمة العبد الأول ألفا لما مرّ، ويضمنون أيضا للورثة نصف قيمة العبد الثاني؛ لأن العبد الأول صار عوضاً عن النصف من العبد الثاني من قبل أن الفريق الثاني يتمكنون من إخراج النصف من العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه، ولا يتمكنون من إخراج النصف الآخر عن ملك الوارث إلا بإدخال الأول في ملكه، فصار الأول عوضاً عن أحد نصفي العبد الثاني لا غير.k
وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل مات، فشهد شاهدان أنه أوصى بعبده هذا لفلان وقضى القاضي له، ثم يشهد آخران أنه رجع عن وصيته لفلان الذي أوصى له بالعبد الأسود وعن كل وصية أوصى بها، وأنه أوصى، بهذا العبد الأبيض لفلان، وقضى القاضي له وأبطل الوصية من الأسود، ورده إلى الوارث، والوارث جاحد لذلك، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالعبد الأسود، فلا ضمان عليهما، وهذا ظاهر لأنهما بشهادتهما وإن أتلفا الأسود على الوارث إلا أن القاضي لما أبطل الوصية في الأسود بعد ذلك ورده إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإتلاف.
قال: وإن رجع شاهدا الأبيض ضمنا للوارث قيمة الأبيض وضمنا بالمشهود له بالأسود قيمة الأسود، أما ضمان قيمة العبد الأسود للمشهود له بالأسود فهو ظاهر، وأما ضمان قيمة العبد الأبيض للوارث فهو مشكل وهو خلاف ما ذكرنا قبل هذا، لأن شهود الأبيض وإن أخرجوا الأبيض عن ملك الوارث فقد أدخلوا الأسود في ملكه. (172أ4) .
الفصل الخامس عشر: في رجوع أهل الذمة عن الشهادات
ذميان شهدا لذمي على ذمي بخمر أو خنزير بعينه أو مال، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا، فعليهما قيمة الخنزير وخمر مثله؛ لأن الخمر والخنزير فيما بينهم بمنزلة الشاة والخل بين المسلمين، والجواب في الخل والشاة بين المسلمين أن الشاهد عند الرجوع يضمن مثل الخل وقيمة الشاة فكذا ههنا، وإن أسلم الشاهدان ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة الخنزير عندهم جميعاً، ولا يضمنان الخمر عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله يضمنان قيمته؛ لأن الشهادة إتلاف حكمي فيعتبر بالإتلاف الحقيقي،(8/605)
والذمي إذا أتلف على ذمي خمراً أو خنزيراً ثم أسلم المتلف وهو المطلوب، ضمن قيمة الخنزير عندهم، وفي الخمر خلافه عرف ذلك في كتاب الغصب، ولو لم يسلم الشهود ولكن أسلم المشهود عليه، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الخنزير، ولا ضمان عليهما في الخمر عندهم؛ لأن المشهود عليه طالب؛ لأن الحق له قبل الشهود عند الرجوع، والمتلف عليه وهو الطالب إذا أسلم ولم يسلم المطلوب، ففي الخنزير القيمة، وفي الخمر لا ضمان أصلاً، عرف ذلك في كتاب الغصب فههنا كذلك.
الفصل السادس عشر: في المتفرقات
إذا ادعت المرأة على زوجها أنه صالحها من نفقتها على عشرة دراهم كل شهر، وقال الزوج صالحتها على خمسة دراهم كل شهر، فشهد شاهدان أنه صالحها على عشرة دراهم كل شهر، وقضى القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما، قال: ننظر إلى نفقة مثلها فإن كان عشرة أو أكثر، فلا ضمان عليهما للزوج؛ لأنهما متى اتفقا على الصلح واختلفا في بدله كان القول لمن يشهد له نفقة المثل، كما في النكاح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وههنا نفقة مثلها يشهد لها، فيكون القول قولها، وصار عشرة دراهم مستحقة للمرأة على الزوج بقولهما، فهما بشهادتهما ما أوجبا على الزوج مالاً، فلهذا لا ضمان عليهما، وإن كان نفقة مثلها خمسة دراهم مثلاً، فإنهما يضمنان للزوج خمسة لما مضى؛ لأن المستحق على الزوج في هذه الصورة خمسة دراهم لولا شهادتهما، فهما بشهادتهما أوجبا على الزوج الزيادة على الخمسة، بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه؛ لأنه لا يمكنه رد الصلح فيما مضى، ولكن لا يضمنان في المستقبل؛ لأن رد هذا الصلح في المستقبل يمكن للزوج بأن يردها إلى نفقة مثلها، فإذا فرض القاضي على الزوج كل شهر لامرأته نفقة مثلها، فمضى لذلك سنة، ثم شهد شاهدان أنه قد أوفاها النفقة، وأجاز ذلك القاضي ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ذلك للمرأة لأن نفقة المنكوحة يصير ديناً في الماضي بقضاء أو رضى وقد وجد القضاء ههنا، فصار نفقة ما مضى ديناً في ذمة الزوج، والتحقت بسائر ديونها، ولو شهدا باستيفاء دين آخر لها سوى النفقة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا ضمنا كذا ههنا.
وقال: وكذلك الوالد وكل ذي رحم محرم ممن فرض القاضي له نفقة، هكذا ذكر في رجوع «الأصل» ، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع» ، نفقة المحارم تصير ديناً بقضاء القاضي، فأما لا يستقيم على رواية «الجامع» ، فإن على رواية النكاح نفقة المحارم لا تصير ديناً بقضاء القاضي فإذا لم تصر ديناً فيما مضى لم يصيرا شاهدين عليهما باستيفاء دين مستحق لهما على الزوج، فلا يضمنان عند الرجوع.
وإذا طلق امرأته قبل الدخول بها ولم يفرض لها مهراً، فشهد شاهدان أن صالحها من المتعة على عبد ودفعه إليها وقبضته وهو ينكر ذلك، فقضى القاضي عليها بذلك، ثم(8/606)
رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمرأة المتعة ولا يضمنان لها قيمة العبد، بخلاف ما لو شهدا أنه صالحها من المتعة عن عبد ولم يشهدا على قبض العبد، وقضى القاضي لها بالعبد، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان لها قيمة العبد.
والفرق: أن في المسألة الأولى القاضي لم يقض لها بالعبد؛ لأن القضاء لها بالعبد مع قبض العبد لا يفيد، وإذا لم يقض لها بالعبد ظهر أنهما بشهادتهما أتلفا على المرأة المتعة لا العبد، فلا يضمنان عند الرجوع.
أما في الفصل الثاني القاضي قضى لها بالعبد؛ لأن القضاء بالعبد لها ممكن؛ لأن حال ما يقضي لها بالعبد على الزوج لم تقم الشهادة على قبض العبد، فقضى لها بالعبد وصار حقها في العبد، فإذا رجعا فقد أتلفا عليها العبد، فضمنا لها قيمة العبد.
وفي «المنتقى» : شاهدان شهدا على رجل أنه أقر لهذا المدعي أمس بألف درهم وقضى القاضي عليه وقبضها منه، ثم رجعا عن شهادتهما، فلما أراد القاضي أن يضمنهما الألف، قالا: نجيئك ببينة أن هذا الذي قضيت عليه قد أقر لفلان المقضي له بهذه الألف منذ سنة، قال: لا أقبل ذلك منهما وأضمنهما الألف؛ لأن الذي يدعي الحق غيرهما.
ولو شهد شاهد على رجل أنه قد أعتق عبده منذ سنة وقد قضى، بعتق العبد ثم رجعا عن شهادتهما، فأراد القاضي أن يضمنهما قيمة العبد، فقال: نحن نجيء بشاهدين آخرين يشهدان أنه أقر بعتق عبده منذ عشر سنين، قال: قبل ذلك منهما استحساناً.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل ادعى جارية في يد رجل وابنة لها ادعى أنهما جاريتاه، وأنكر الذي في يده أن تكون الجارية للمدعي، وأن تكون الصبية ابنة للجارية، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن الجارية للمدعي وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن الصبية بنت الجارية، فإن القاضي يقضي بالجارية وابنتها للمدعي، فإن قضى بذلك ثم رجع اللذان شهدا أن الجارية للمدعي، فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة وقيمة ولدها؛ لأن القاضي إنما قضى بالولد بشهادتهم أن الجارية جاريته؛ لأنه استحقاق من الأصل، فكل ما كان معها من مال أو ولد فهو تبع لها، فكأنهم شهدوا بالولد كما شهدوا بالجارية.
قال: أرأيت رجلاً في يديه عبد تاجر كثير المال مات العبد وترك مالاً كثيراً، فجاء رجل وادعى أن العبد عبده، ليأخذ ما تركه العبد، وأنكر الذي في يده العبد أن يكون العبد للمدعي، وأن يكون المال للعبد، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن العبد للمدعي أودعه الذي كان العبد في يديه، وجاء بشهود كثير شهدوا أن المال للعبد، وقضى القاضي للمدعي بالعبد والمال، ثم رجع الذين شهدوا أن العبد للمدعي، فإنهم يضمنون المال للذين كان العبد والمال في يده، وطريقة ما قلنا.
قال: ولو رجع الذين شهدوا بالجارية على ما وصفت لك وضمنهم القاضي قيمة الجارية وقيمة الولد ثم رجع الذين شهدوا أن الصبية ابنة الأمة، فالذين شهدوا بالأمة يرجعون على الذين شهدوا بالولد بقيمة الولد.
قال: وهو بمنزلة رجل ادعى على رجل أنه قطع يده أنه خطأ، ومات منها وجاء(8/607)
ببينة شهدوا على المدعى عليه أنه قطع يد ولي المدعي خطأ، ولم يشهدوا أنه مات منها، وجاء بشاهدين آخرين شهدا أنه مات من اليد، ولم يشهدا على القاطع بالقطع، فإن القاضي يقضي بدية المقتول على عاقلة القاتل، وإذا قضى بذلك ثم رجع الشهود على قاطع اليد خاصة، فإنهما يضمنان جميع الدية؛ لأنهما شهدا على الجناية نفسها، فإن قضى القاضي عليها بذلك ثم رجع اللذان شهدا أنه مات منها، فإن شهود قطع اليد يرجعون عليهم؛ لأنهم يقولون شهدنا على اليد وما شهدنا على النفس، وإنما صارت اليد نفساً علينا بشهادتكم، قلنا: أن يرجع بالدية عليكم.
وكذلك لو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قطع أصبعاً منه من المفصل خطأً، وأن كفّه شلت منها وأنكر المدعى عليه ذلك، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أنه قطع إصبعه من المفصل خطأ، ولم يشهدا على الشلل وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن كفه شلت منها، فإن القاضي يقضي على عاقلة القاطع بدية الكف، فإن قضى بذلك ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا على قطع الأصبع، فإنهما يضمنان جميع أرش الكف، فإن ضمنا ذلك ثم رجع اللذان شهدا على شلل الكف، فإن شاهدي القطع يرجعان على شاهدي شلل الكف، بجميع أرش الكف، إلا أرش الأصبع (172ب4) فيكون الأصبع على اللذين شهداً بالضربة خاصة وهذا بمنزلة الأمة وولدها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على عبد في يدي رجل لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم إن المشهود عليه اشترى العبد من المشهود له بمئة دينار، ثم رجع الشهود عن الشهادة، فالمشهود عليه يرجع على الشهود بالمئة إذا لم يصدقهما أن شهادتهما حق بعد أن رجعا عن الشهادة، وهذا لأن المشهود عليه لما اشتراه من المدعي فقد أقر أن الشهود شهدوا عليه بحق، فالشهود بالرجوع أكذبوا أنفسهم وزعموا أنهم ضامنون قيمة العبد، فإذا لم يصدقهما أن شهادتهما بحق، بل قال: شهدتما بباطل، فقد صدقهما فيما زعم، فرجع عليهما بمئة لهذا.
وعنه أيضاً شاهدان شهدا على رجل أنه عبد فلان وهو يزعم أنه حر، وقضى القاضي به للمدعي، ثم إن المدعي كاتب العبد على مال معلوم وأداه إليه ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، قال: أضمنهما ما كاتبه المولى عليه إلا إذا ازداد المكاتبة على الدية فحينئذٍ لا ضمان عليهما في الزيادة على الدية.
وإذا شهد شاهدان لرجل بعبد في يدي رجل والمشهود عليه يجحد ذلك، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، وضمنهما القاضي القيمة فأدياها أو لم يؤديا حتى وهب المشهود له العبد للمشهود عليه، وقبضه المشهود عليه فقد برء الشاهدان عن الضمان، وإن كانا قد أديا الضمان رجعا على المشهود عليه بذلك؛ لأنه وصل إلى المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان عن يده بحكم قديم ملكه لا بالهبة؛ لأن في زعمهم أن العبد لم يصر ملكا للمشهود له بقضاء القاضي، بل بقي على ملك المشهود عليه؛ لأن القاضي إنما قضى بالملك مرسلاً،(8/608)
والقضاء بالملك المرسل ينفذ ظاهراً لا باطناً بالإجماع، فبقي العبد على ملك المشهود عليه بزعم الشاهدين والمشهود عليه، إلا أنهما كانا يضمنان قيمته لإزالة يد المشهود عليه من العبد؛ لأن إزالة اليد تكفي لإيجاب الضمان.
كما في الغصب إذا ثبت هذا فنقول: إذا وصل العبد إلى المشهود عليه بالهبة وقد وصل إليه قديم ملكه بزعمه وزعم الشاهدين، فهو نظير ما لو وصل المغصوب إلى المغصوب منه من جهة الغاصب الثاني بالهبة، وهناك يبرأ الأول عن الضمان كذا ههنا، قال: فإن رجع الواهب في الهبة واسترده رجع المشهود عليه على الشاهدين بالضمان؛ لأن بالرجوع زال العبد عن يد المشهود عليه بشهادتهما، فإنه لولا شهادتهما بالملك له لما تمكن من هبته منه والرجوع فيه، فزوال يده عن العبد بعد الرجوع في الهبة مضاف إلى شهادتهما.
ولو مات المشهود له فورث المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان في يده بحكم قديم ملكه لا بالميراث على ما بينا، فيوجب براءة الشاهدين عن الضمان على ما مرّ.
وكذلك لو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ المشهود له قيمته، ثم مات المشهود له وورثه المشهود عليه ملك القيمة من المشهود له، برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن في زعم المشهود عليه والشاهدين أنه وصل إليه بدل عبده ووصول البدل كوصول العين، فكأنه وصل إليه عين عبده.
قال: وكذلك جميع الأشياء من الدَّين وغيره يريد به أنهما إذا شهدا عليه بدين أو عين، وقضى للمشهود له بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ثم مات المشهود له ورث المشهود عليه ذلك، فقد برئ الشاهدان عن الضمان والمعنى ما ذكرنا.
ولو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ القيمة من القاتل، فهلكت القيمة في يده، ثم مات المشهود له، وورثه منه المشهود عليه مثل تلك القيمة برئ الشاهدان عن الضمان، لأن في زعم المشهود عليه أنه وصل ذلك إليه من حساب القيمة لا بجهة الميراث، لأن في زعمه أن قدر القيمة صار ديناً له في تركة المشهود عليه، والدين يقوم على الميراث، وكذلك إن كان مع المشهود عليه وارث آخر وحصة المشهود عليه بقي تلك القيمة، برئ الشاهدان عن الضمان أيضاً، ويحعل ذلك سالماً له بحساب القيمة لا لجهة الإرث كما زعم هو.
وإذا شهد شاهدان لرجل بدار في يدي رجل آخر، وقضى القاضي بالدار للمشهود له بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار، وهذا بلا خلاف؛ لأن ما يجب على الشهود عند الرجوع ضمان الإتلاف؛ لأنه بالشهادة أزال العين عن ملك المشهود عليه بغير حق والعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع، فإنه لو هدم البناء ونقل التراب يضمن بالإجماع.
رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه ملك هذا، وقضى القاضي به ودفعه إليه، ثم(8/609)
شهد شاهدان آخران لرجل ثالث بمثله على المقضي له الثاني، وقضى القاضي به، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، ضمن كل فريق قيمة العبد كلها للذي شهد عليه؛ لأن كل فريق أتلف على المشهود عليه العبد، فيضمن له قيمة العبد.
فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان بالوصية لرجل بالثلث، وشهد آخران بالرجوع عن الوصية الأولى والوصية بالثلث لغيره، وشهد آخران بمثله ثم رجعوا، لم يضمن الفريق الأول لأحد، والآخران لا يضمنان للوارث شيئاً، وهنا كان كل فريق يضمن للمشهود عليه قيمة العبد، والفرق بينهما وهو: أن الاستحقاق بالوصايا استحقاق على الميت، لأن كل فريق لما شهد بالرجوع فقد شهد أن الموصى له عاد إلى ملك الميت، فما ثبت من الاستحقاق بشهادة الفريق الأول فهو قائم بالثاني والثالث، ولم يمكن تضمين الفريق الأول للوارث، وكذلك الفريقان الآخران لا يضمنان للوارث؛ لأن ما أوجبا كان مستحقا على الميت قبل شهادتهما، فإذا صار الحق مستحقاً على الميت بكل شهادة لم يضمن فريق للوارث؛ لأن رجوع كل فريق لا يقصر في حق الفريقين الآخرين، فيصير في حق كل فريق كأن الآخرين ثابتان على الشهادة، فلهذا لا يضمن فريق للوارث شيئاً.
أما في مسألتنا فالاستحقاق بكل بينة إنما يثبت على الذي شهد عليه ذلك الفريق لا غير لما عرف أن القضاء بالملك المطلق لا يتعدى إلا إلى من يدعي تلقي الملك من المقضي عليه، وأحد ههنا لا يدعي تلقي الملك من غيره، فصار الاستحقاق بكل بينة استحقاقاً على من قامت عليه تلك البينة، وهذا ليس بثابت بينة أخرى فلم يكن ما أوجبه كل فريق ثابتاً بشهادة الفريقين الآخرين، فيضمن كل فريق للذي عليه شهد تمام القيمة، ألا ترى أن في مسألتنا هذه، وهي مسألة دعوى الملك المطلق، لو وجد الفريق الأول من الشهود عبيداً حتى بطل ذلك الحكم كله، وفي مسألة الوصية لو وجد أحد الفرق الثلث عبيداً يبقى الاستحقاق على الوارث، وهذا يدل على أن المستحق بجميع البينات في باب الوصية شيء واحد.
وفي «المنتقى» : رجل ادعى أمة في يدي رجل أنها أمته، وقضى القاضي له بالأمة، وقد كانت الأمة ابنة في يد المدعى عليه ولم يعلم القاضي بها، فأقام المدعي بعد ذلك بينة أنها ابنتها، فإن القاضي يقضي له بالابنة أيضاً تبعاً للأم، فإن قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود الذين شهدوا على الأم أنها للمدعي عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأم وولدها، وقد مرت المسألة من قبل، قال: ويستوي في هذه المسألة أن يكون القاضي قضى بذلك معاً، أو قضى بالأم ثم بالولد بعد ذلك؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل.
قال: ولو ادعى أمة في يدي رجل وأقام بينة أنها أمته، وقضى القاضي بها ثم أقام المدعي بينة على ألف في يد المدعى عليه أنها للأمة، وقضى القاضي بها للمدعي، ثم رجع اللذان شهدا بالأمة فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة، ولا يضمنهم من المال شيئاً، ولا يشبه المال هنا الولد؛ لأن المال مال الأمة والولد ليس مال الأمة، ألا ترى أن الأمة خصم في مالهما حتى تقبضه، وليس بخصم في ولدها، وألا ترى أن المال لو كان في يد(8/610)
غير المدعى عليه فأقام المدعي شاهدين بأنه مال الأمة يقضى به، وليس الولد كذلك.
فإن الولد لو كان في يد غير المدعى عليه وشهد عليه الشهود أنه ابن تلك الأمة لم يستحقه المدعي بشهادتهم وإنما استحقه إذا كان (173أ4) في يد المدعى عليه. وقد قال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: لو أن رجلاً أقر بألف في يديه أنها كانت لهذه الأمة، ثم قال إنها كانت لها قبل أن يملكها حولاها هذا لم يصدق على ذلك، وكانت الألف لمولى الأمة هذا، ولو أقر بصبي في يديه أنه ابن هذه الأمة ثم قال إنما ولدته قبل أن يملكها مولاها هذا كان القول قوله، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(8/611)
كتاب الدعوى
هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً:
1 * الفصل الأول في معرفة المدعي والمدعى عليه.
2 * في بيان صحة الدعاوى، وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع.
3 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان.
4 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان بسبب نحو الشراء والميراث والهبة وما أشبه ذلك.
5 * في دعوى الشراء والبيع.
6 * في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاق.
7 * في الدعوى والبينات عليها.
8 * في مقاسمة المدعي بطريق المنازعة أو العول.
9 * في دعوى الميراث.
10 * في دعوى الرجل النكاح على المرأة، وفي دعوى المرأة النكاح على الرجل الآخر.
11 * في الرجلين يدعيان بالأيدي.
12 * في دعوى النتاج.
13 * فيما هو في معنى النتاج.
14 * في دعوى الحائط.
15 * في دعوى الطرق ومسيل الماء والمجاري والناوقات.
16 * في القضاء لأحد الخارجين عند ظهور العدالة لشهوده ثم ظهور العدالة لشهود الخارج الآخر، وإقامة الخارج الآخر شهوداً بعد ذلك.
17 * في دعوى الدين.
18 * في إقرار المدعي بنقض ما قضاه المدعى عليه أو بغير ذلك عن نفسه، وفي دعوى المدعى عليه لنفسه بعض ما قضى به عليه.
19 * في بيان ما يقع به التناقض في الدعوى وما لا يقع.
20 * فيما يبطل دعوى المدعي من قوله أو فعله.(9/3)
21 * فيما يكون جواباً من المدعى عليه وما يكون إقراراً منه وما لا يكون.
22 * في بيان من يصلح خصماً ومن لا يصلح.
23 * في بيان ما تندفع به دعواه وما لا تندفع، وفيه أنواع وأقسام.
24 * في دعوى الوصية وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك وإقراره بالوصية.
25 * في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر، ودعوى كل واحد الإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما.
26 * في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة.
27 * في دعوى العتق.
28 * في دعوى النسب.
29 * في الغرور.
30 * في المتفرقات.(9/4)
الفصل الأول: في معرفة المدعي والمدعى عليه فنقول
اختلف العلماء في الحد الفاصل بينهما، والمروي عن محمد رحمه الله أنك تنظر إلى المنكر منهما، فهو المدعى عليه، وهذا صحيح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل المدعى عليه هو المنكر حيث قال: «واليمين على من أنكر» ، فإن قيل: بهذا لا يحصل تمام الحد، فالإنسان قد يكون مدعياً وتكون اليمين من جانبه، كالمودع إذا ادعى الرد، قلنا: المودع بدعوى الرد ينكر الضمان، والخصومة إنما جرت لأجل الضمان، فجعل اليمين في جانبه لهذا.
وقال بعضهم: المدعي من يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه، ولا يكفيه مجرد النفي بأن يقول لغيره: هذا العين ليس لك، فبهذا القدر لا يصير مدعياً، ويحتاج إلى أن يقول: هذا العين لي والمدعى عليه لا يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه بل يكفيه مجرد النفي، فإن بمجرد قوله للمدعي هذا العين ليس لك يصير خصماً، ويكفيه ذلك من أن يقول: هو لي.
وبعضهم قالوا المدعي: من يكون مخيراً بين الخصومة والكف، وإذا ترك الخصومة يترك ولا يتبع، والمدعى عليه: من لا يكون مخيراً بين الخصومة والكف عنها، وإذا ترك الخصومة لا يترك بل يتبع.
وبعضهم قالوا: المدعي: من يستعدي على غيره بقول غيره.
وبعضهم قالوا: المدعي: من يدّعي ويتمسك بما ليس بثابت، والمدعى عليه من يتمسك بما هو ثابت.
بيانه: فيما إذا ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه وأنكر ذو اليد دعواه وقال: هو ملكي، فالخارج يسمى مدعياً، لأنه يدعي ما ليس بثابت له وهو الملك في هذا العين، وصاحب اليد يسمى مدعَياً عليه؛ لأنه يتمسك بما هو ثابت له، وهو الملك بظاهر اليد.(9/5)
فإن قيل: هذا يشكل بالمودَع إذا ادعى الرد، والمودِع ينكر، فالمودع يكون مدعى عليه حتى يحلف، وقد ادعى ما ليس بثابت وهو الرد، ورب الوديعة يكون مدعياً وقد ادعى ما هو ثابت وهو عدم الرد.
قلنا: رب الوديعة من حيث المعنى مدعي ما ليس بثابت، وهو شغل ذمة المودَع بالضمان، والمودَع من حيث المعنى يتمسك بما هو ثابت وهو براءة ذمته والعبرة....، والخصومة وقعت لأجل الضمان.
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان في يدي رجل دار أو عبد أو شيء من الأشياء، فادعى رجل ذلك أو طائفة منه بشراء من مالكه أو بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث أو بوجه من وجوه الملك، أو ادعى عليه ديناً دراهمَ أو دنانير، أو شيئاً من الكيل أو الوزن أو ما أشبه ذلك، أو ادعى عليه كفالة بمال أو نفس أو ادعى عليه بيعاً أو إجازة، فالمنكر هو المدعى عليه، والطالب هو المدعي، وإنه يخرج على العبارات كلها.
ولو كان المدعى عليه أقر بدعوى المدعي إلا أنه ادعى القضاء والإبراء في دعوى الدين، أو ادعى الإبراء في دعوى الكفالة بالنفس أو الكفالة بالمال، أو ادعى الفسخ في الإجارة أو الإقالة في البيع، فالطالب في الدعوى الأول هو المدعى عليه في هذه الدعوى، والمدعى عليه في الدعوى الأول هو المدعي في هذا الدعوى، وإنه يخرج على العبارات كلها.
قال في كتاب الغصب: رجل غصب ثوباً أو دابة واستهلكه أقام المغصوب منه بينة على قيمته وأقام الغاصب بينة على قيمته أقل من ذلك، فالبينة بينة المغصوب منه، إما لأن المغصوب منه هو المدعي لما ذكرنا من العبارات، وإما لأن المغصوب منه ببينته يثبت زيادة في قيمة المغصوب وينفيها بينة الغاصب، والبينات شرعت في طرف الاثبات لا في طرف النفي، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول في الزيادة قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه في الزيادة على العبارات التي ذكرنا، والقول قول المدعى عليه مع اليمين. وإن أقام الغاصب بينة على قيمته، ولا بينة للمغصوب منه فللمغصوب منه أن يستحلف الغاصب، ولا يلتفت إلى بينته، لأن الغاصب هو المدعى عليه، والذي في جانب المدعى عليه اليمين دون البينة.
وإن قال الغاصب: أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف ورضي به رب الثوب، لا يلتفت إلى قولهما؛ لأن اليمن شرعت في جانب المدعى عليه وليس إلى العباد تغيير المشروعات.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحلاف رد اليمين إلى المدعي في مسألة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه غصبه ثوباً وأقر الغاصب بذلك، واختلفا في قيمة(9/6)
الثوب، فقال المغصوب منه: كانت قيمة ثوبي مئة، وقال الغاصب: لا أدري ما كانت قيمته، ولكن علمت أن قيمته لم تكن مئة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن المغصوب منه يدعي زيادة قيمته عليه وهو ينكر، ويجبر الغاصب على البيان؛ لأنه أقر بقيمة مجهول، فيؤمر بالبيان وإن (لم) يخبر بشيء يحلف على ما يدعي المغصوب منه من الزيادة، فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة، ويأخذ من الغاصب مئة درهم.
طعن الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي على محمد رحمه الله فيما ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة ويأخذ من الغاصب مئة درهم، وقال: المغصوب منه يدعي زيادة القيمة، واليمين لم تشرع حجة للمدعي عندنا، وقال: الجواب الصحيح عندي أن بعدما أبى الغاصب بيان القيمة، فالقاضي يوقفه بين يديه، ويقول: أكانت قيمة الثوب مئة؟ أكانت خمسون؟ أكانت ثلاثون؟ إلى أن ينتهي إلى أقل ما يجوز أن تنقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله (173ب4) في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا أقر بحق مجهول في عين في يديه، وأبى أن يبين مقداره، فالقاضي يوقفه بين يديه ويسمي السهام حتى ينتهي إلى أقل السهام الذي يقصد بالملك عادة، فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه.
ومنهم من اشتغل بتصحيح ما ذكر في «الكتاب» ، وجه ذلك: أن الإقرار بالمجهول صحيح، وقطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه واجب، ويقدر إيصال المقر له إلى حقه بالطريق الذي قلتم؛ لأن موضوع المسألة أنه أقر بغصب ثوب، والثياب أجناس، فالقاضي لا يدري أن هذا أقل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب، لأن ما من ثوب من جنس هو أقل ذلك الجنس إلا وثوب آخر من جنس آخر يكون أقل منه، بخلاف المسألة التي استشهد بها، لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك معلوم من حيث العادة، فأمكن للقاضي إلزام المقر ذلك، أما ههنا بخلافه ولا وجه إلى أن يقضي بمئة درهم كما يدعيه المغصوب منه، لأن الغاصب حلف على ذلك، فلم يبق للقاضي طريق قطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه إلا ما قلنا وما نقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي.
قلنا: يمينه يمين المدعي من وجه من حيث إنه يدعي أن قيمة الثوب مئة ولم يثبت ذلك، لما أنكر الغاصب ذلك ويمين المدعى عليه من وجه من حيث إن أصل الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمة مجهولة صحيح، وإنما الحاجة إلى فصل الخصومة، واليمين شرعت لفصل الخصومة، فكانت بمنزلة يمين المدعى عليه من هذا الوجه، ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة، فكذا يمين المدعى عليه من وجه، وهذه المسألة من الغرائب لا توجد إلا في كتاب الاستحقاق فيجب حفظها.(9/7)
الفصل الثاني: في بيان صحة الدعاوى وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع
يجب أن يعلم بأن الدعوى لا تخلو، إما أن تقع في العين أو في الدين، فإن وقعت في الدين فإن كان المدعى مكيلاً، فإنما تصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس بأن ذكر أنه حنطة يذكر مع ذلك نوعها أنها سقية أو برية، أو خريفية أو ربيعية، ويذكر مع ذلك صفتها أنها جيدة أو وسطية أو رديئة، كدم سفيدة أو كندم سرخة، ويذكر وزنها بالكيل، فيقول: كذا قفيزاً، لأن المقدر في الحنطة الكيل، ويذكر بقفيز كذا؛ لأن القفزان تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب؛ لأن أحكام الديون تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء ليقع التحرز عن الاختلاف، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض، وإن كان من ثمن بيع يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يشترط فيه مكان الإيفاء، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه، بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم سائر شرائط صحته من إعلام جنس رأس المال ونوعه وصفته وقدره بالقدر إن كان رأس المال وزنيا وإنفاذه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأشباه ذلك على ما عرف في كتاب البيوع.
ولو قال: بسبب السلم الصحيح ولم يبين شرائط صحة السلم، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي بصحة الدعوى، وغيره من المشايخ كانوا لا يفتون بصحته؛ لأن للسلم شرائط كثيرة، لا يقف عليها إلا الخواص من الناس، وربما نطق المدعي صحته ولا يكون صحيحاً في نفسه.
وفي دعوى البيع إذا قال: بسبب بيع صحيح جرى بينهما في جارية قد سلمها إليه صح الدعوى بلا خلاف، إذ ليس للبيع شرائط كثيرة تخفى على العامة، وعلى هذا في كل سبب له شرائط كثيرة يشترط بيان الشرائط لصحة الدعوى عند عامة المشايخ، ولا يكتفي بقوله بسبب كذا صحيح، وإن لم يكن له شرائط كثيرة يكتفى بقوله بسبب كذا صحيح.
ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض ذلك إلى حاجة نفسه يصير ذلك ديناً عليه بالإجماع؛ لأن عند أبي يوسف المستقرض لا يصير ديناً في ذمة المستقرض إلا بصرفه إلى حاجة نفسه.
وكذلك يذكر في دعوى القرض أنه أقرضه كذا من مال نفسه؛ لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض معار ومعير، فلا يصير ذلك ديناً له في ذمة المستقرض، ولا يثبت له حق المطالبة بالأداء، وإن كان المدعى به وزنيا فإنما تصح الدعوى إذا بين الجنس بأن قال: ذهب أو فضة، فإن بين الجنس بأن قال ذهب، فإن كان مضروباً يقول: كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه بخاري الضرب أو نيسابوري الضرب أو ما أشبه ذلك.(9/8)
قالوا وينبغي أن يذكر صفته أنه جيد أو وسط أو رديء، فاعلم بأن هذه الدعوى إن كان بسبب البيع، فلا حاجة إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقد واحد ظاهر معروف؛ لأن مطلق البيع ينصرف إلى نقد البلد ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا يشترط البيان إلا إذا كان قد مضى من وقت البيع إلى وقت الخصومة زمان طويل، بحيث لا يعلم نقد البلد في ذلك الوقت فحينئذ لابد من بيان أن نقد البلد في ذلك الوقت كيف كان، وبيان صفته بحيث تقع المعرفة من كل وجه.
وإن كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج على السواء ولا صرف للبعض على البعض، يجوز البيع ويعطي المشتري للبائع أيَّ النقدين شاء، إلا أن في الدعوى لابد من تعيين أحدهما، وإن كان الكل في الرواج على السواء، وللبعض صرف على البعض كما كانت الغطريفية والعدلية في ديارنا، قيل: هذا لا يجوز البيع إلا بعد بيانه، وكذا لا تصح الدعوى من غير بيانه.
وإن كان أحد النقدين أروج والآخر أفضل، فالعقد جائز وينصرف إلى الإرواج، ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا حاجة إلى البيان إلا إذا كان قد مضى زمان طويل من وقت العقد إلى وقت الخصومة، بحيث لا يعلم الأروج وقت العقد على نحو ما بينا قبل هذا.
وإن كان هذا الدعوى بسبب القرض والاستهلاك، فلابد من بيان الصفة على كل حال؛ وعند ذكر النيسابوري أو البخاري لا حاجة إلى ذكر الأحمر؛ لأن النيسابوري لا يكون إلا أحمر وكذلك البخاري لا يكون إلا حمراء، ولابد من ذكر الجيد عليه عامة المشايخ؛ لأن ذكر النيسابوري لا يثبت ذكر الجيد؛ لأن النيسابوري ما يكون مضروباً في نيسابور أو ما يكون عليه سكة نيسابوري، وما يكون مضروباً في نيسابور أو يكون عليه سكة نيسابور قد يكون جيداً وقد لا يكون، وفي «فتاوى النسفي» : إذا ذكر أحمر خالص ولم يذكر الجيد كفاه.
ولا بد من ذكره أنه ضرب أي وال عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوت، وبعض مشايخنا لم يشترطوا ذلك وإنه أوسع، والأول وإن ذكر كذا ديناراً نيسابورياً مسقدة وفارسية سره كرده، ولم يذكر الجيد، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لابد من ذكر الجيد مع ذلك، لأن المسقدة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة، وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذكر الجيد مع ذلك وهو الصحيح. ولو ذكر الجيد ولم يذكر المسقدة، فالدعوى صحيحة، لأن الجيد لابد وأن يكون مسقداً، فأما المنتقد قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً.
وإن لم يكن الذهب مضروباً لا يذكر في الدعوى كذا ديناراً، وإنما يذكر كذا مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش يذكر ذلك، وإن كان فيه غش يذكر ذلك نحو الده نوهي أو الده هشتي أو ما أشبه ذلك، وإن كان المدعى به نقده وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليها وصفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها أنه كذا درهماً وزن(9/9)
سبعة؛ لأن وزن الدراهم يختلف باختلاف البلدان والذي في ديارنا وزن سبعة وهو الذي كل عشرة منها بوزن سبعة مثاقيل.
قيل: وإن (174أ4) كانت الفضة غير مضروبة إن كانت خالية عن الغش يذكر كذا فضة خالصة عن الغش، ويذكر نوعها نقرة كليحة أو نقرة طمغاجيّ، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا طمغاجي كفاه ولا حاجة إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعى به دراهم مضروبة والغش فيها غالب إن كان يعامل به وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً يذكر عددها.
وإذا ادعى الحنطة أو الشعير بالمنّ وبيّن أوصافه، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدار في الحنطة والشعير إنما عرف بالحديث المعروف، وقيل: لا بل الدعوى صحيحة، لأن الكيل في الحنطة والشعير إنما عرف مقداراً عند المقابلة بالجنس، ولهذا جاز بيع الحنطة موازنة بالدراهم، ففي الدعوى يحمل على بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة، والمختار في الفتوى أن يسأل المدعي عن دعواه، فإن ادعاه بسبب القرض أو بسبب الاستهلاك لا يفتى بالصحة؛ لأن ذلك مضمون بالمثل، وإن ادعاه بسبب بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة أو بسبب السلم يفتى بالصحة، وإن ادعاه مكايلة حتى صح الدعوى بلا خلاف، وأقام البينة على إقرار المدعى عليه بالحنطة أو الشعير، ولم يذكر الصفة في إقراره قبلت البينة في حق الجبر على البيان، لا في حق الجبر على الأداء.
وإذا ادعى الدقيق بالقفيز لا يصح؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدر في الدقيق الوزن دون القفيز؛ لأن الدقيق مكبس بالكبس بخلاف الحنطة، وإذا ذكر الوزن حتى صح الدعوى لا بد وأن يذكر خشك آردا وشسته، ويذكر مع ذلك يونحته او ناويخته، ويذكر مع ذلك أنه جيد أو وسط أو رديء، وأما إذا وقع الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو مالك، ففي الحقيقة الدعوى في الدين، فيشترط بيان القدر والجنس والنوع والصفة كما في سائر الديون، هذا هو المذكور في الكتب المشهورة.
قال رضي الله عنه: وكتبت في الشهادات من هذا المجموع عن «فتاوى أبي الليث» : أن من ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام على ذلك بينة ينبغي للمدعي أن يبين الذكر والأنثى، وينبغي للشهود أيضاً أن يبينوا ذلك، وإن لم يبينوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر رضي الله عنه: أخاف أن تبطل الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء من دعواه، وإن تبينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم، ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن باختلاف اللون؛ لا تختلف المنافع، ولا يصير المشهود به مختلفاً ولا كذلك الذكورة والأنوثة.
قيل: اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم خصوصاً على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناء على القضاء بملك المستهلك؛ لأن حق المالك باق في العين المستهلك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض(9/10)
القيمة أو بقضاء القاضي بالقيمة، حتى قال: يجوز الصلح عن العين المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته، وإذا كان القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المستهلك لابد من بيان المستهلك في الدعوى والشهادة ليعلم القاضي أنه بماذا يقضي.
وهذا القائل يقول مع ذكر الأنوثة والذكورة لابد من ذكر النوع بأن يقول: فرس أو حمار أو ما أشبه ذلك، ولا يكتفي بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللون كما في الوكالة.
ومن المشايخ من أبى ذكر الأنوثة والذكورة وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلك القيمة، فالمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة مقبولة، وكذلك دعوى القيمة مسموع، فلا حاجة إلى بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من ادعى على آخر مالاً مقدراً وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضي عن السبب فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم وطريقة ما قلنا.
وكذلك الرجلان إن ادعيا نكاح امرأة ميتة وأقاما البينة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذرة، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث؛ فيقضى لهما بالميراث لهذا، والأول أصح.
ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دعوى النكاح أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق من الشهود أيضاً صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة فلم يقض بالنكاح في حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى والشهادة، أما بعد الموت المقصود هو الميراث، والقضاء بالميراث لهما ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة؛ لأن المدعي ادعى ملك المتلف والشهود شهدوا بملك المتلف أيضاً، والقاضي يقضي بملك المتلف أولاً ثم يقضي بالقيمة بناء على ذلك، والقضاء بالمجهول لا يصح فلا يقضي.
وفيما إذا ادعى مالاً مقداراً وشهد الشهود بذلك وبينوا السبب استهلاك الدابة يقول بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم إذا لم يبينوا النوع ولم يبينوا الصفة الذكورة أو الأنوثة مع ذلك، هذا إذا كان المدعى به منقولاً وهو هالك.
فأما إذا كان المنقول قائماً، فإن أمكن إحضاره مجلس الحكم، فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي ولا شهادة شهوده إلا بعد إحضار ما وقع فيه الدعوى مجلس الحكم حتى يشير إليه المدعي والشهود لتنقطع الشركة بين المدعى به وغيره من كل وجه، وهذا لأن إعلام المدعى به والمشهود به على وجه تنقطع الشركة بينه وبين غيره من كل وجه شرط سماع الدعوى والبينة إذا أمكن الإعلام على هذا الوجه والإعلام على هذا الوجه في المنقول الذي يمكن إحضاره مجلس الحكم ممكن بإحضاره مجلس الحكم، فيشترط إحضاره.(9/11)
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام والقطيع من الغنم، والقاضي فيه بالخيار إن شاء حضر ذلك الموضع لو تيسر له ذلك وإن كان لا يتهيأ له الحضور وكان مأذوناً بالاستخلاف يبعث خليفته إلى ذلك الموضع.
قال محمد رحمه الله: وهو نظير ما إذا كان القاضي يجلس في داره، ووقع الدعوى في حمل، ولا يسع باب داره، فإنه يخرج إلى باب داره، أو يأمر نائبه حتى يخرج ليسير إليه الشهود بحضرته.
وفي «القدوري» : إذا كان المنقول المدعى به شيئاً يتعذر نقلها كالرحى، فالحاكم بالخيار إن شاء حضرها، وإن شاء بعث أميناً، فإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً أو جارية لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بيّن الجنس والصفة والقيمة فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة، أشار في عامة الكتب الى أنها مسموعة، فإنه ذكر في كتاب الرهن:
إذا ادعى رجل على رجل أنه رهن عنده ثوباً وهو ينكر، قال: يسمع دعواه. وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» هذا.
وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» أن الشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصبه الجارية بإقراره في حق الجنس والقضاء جميعاً، قال شمس الأئمة الحلواني وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الجنس وإطلاق محمد في الكتاب يدل عليه.
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزودي: إذا كانت المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ماله، فلو كلفه بيان القيمة فيه فقد أضرّ به إذ يتعذر (174ب4) عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى، وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب، وإن وقع الدعوى في العقار، فلابد من ذكر البلدة التي فيها الدر المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة، يبدأ بالأعم، وهو البلد ثم بالأخص.
وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم يبدأ بالأعم، وقال بعضهم بالأخص، وعند أهل العلم له الخيار إن شاء يبدأ بالأعم، وإن شاء بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، ولابد من ذكر حدود الدار بعد هذا، قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحدود لزيق دار فلان؛ ولا يذكر دار فلان لأنه حينئذ يصير دار فلان يدعي به؛ لأن الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظين على السواء، أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف الدار المدعى به(9/12)
باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً، وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك؛ لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية، وإن ذكر حدين لا يكفي في «ظاهر الرواية» عند أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه، وكذلك في الشهادة إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة؟
قال الخصاف رحمه الله في «وقفه» : جعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى مبتدأ الحد الأول أي بإزاء الحد الأول، وإذا ادعى على آخر مئة عدلية غصباً، وهي منقطعة عن أيدي الناس يوم الدعوى ينبغي أن يدعي قيمته، فالمغصوب إذا كان مثلثاً وقد انقطع عن أيدي الناس يجب على الغاصب قيمته، غير أن عند أبي حنيفة يعتبر القيمة يوم الدعوى والخصومة، وعند أبي يوسف يوم الغصب، وعند محمد يوم الانقطاع، ولابد من بيان سبب وجوب الدراهم في هذه الصورة؛ لأنها لو كانت ثمن بيع فبالانقطاع قبل القبض يفسد العقد عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قبض المبيع والبيع قائم على حاله في يده، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً وجب على المشتري رد قيمة المبيع إن لم يكن مثلياً، ورد مثله إن كان مثلياً، وإن كان بسبب القرض أو النكاح فلابد من بيان سبب وجوبها لينظر هل له ولاية دعوى القيمة؟.
وإذا ادعى على غيره مقداراً معلوماً من العنب فهذا على وجهين: إما أن يكون العنب المدعى به عيناً، فإنه يسمع الدعوى بحضرته عند الإشارة إليه، فلا يشترط بيان الصفة والوزن والنوع، وإن كان ديناً فإن كانت الدعوى في أوانه، فلابد من بيان المقدار والنوع والصفة، فيقول إدندي أنكور علائي ادندي أنكور طائفي لعله باطائفي سبيدا، وما أشبه ذلك.
بيانه: يانيكوما سفق، وإن كان بعد انقطاعه فالقاضي يقول له يريد عين العنب في الحال أو قيمته، فإن قال عين العنب فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأنه إن كان ثمن مبيع يفسد البيع بانقطاعه قبل التسليم، ولا يبقى للبائع حق المطالبة بالعنب بل يجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ورد قيمته إن كان مستهلكاً، وإن كان دعوى العنب بسبب السلم أو القرض أو الاستهلاك، فبسبب الانقطاع إن كان لا يسقط ذلك عن ذمة من عليه، ولكن لا يطالبه صاحب الحق بعين العنب في الحال؛ لعجزه عن ذلك، بل يتخير إن شاء صبر حتى يدخل أوانه ويطالبه بعين العنب، وإن شاء أخذ منه القيمة في الحال، فإذاً في الأحوال كلها لا مطالبة للمدعي بعين العنب، فلا يستقيم منه دعوى عين العنب، وإن قال أريد القيمة فالقاضي يأمره ببيان سبب وجوب العنب؛ لأن العنب إن كان ثمن مبيع ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم ويسقط العنب عن ذمة المشتري، فكيف يطالبه بقيمة العنب؟ وإن كان بسبب السلم أو الاستهلاك أو القرض، فبالانقطاع لا يسقط ذلك عن ذمة المدعى عليه، فتستقيم المطالبة بقيمته في الحال إذا كان لا ينتظر دخول أوانه.
قال مولانا رضي الله عنه: هذه الجملة مسموعة عن الشيخ الإمام الأجل ظهير(9/13)
الدين المرغيناني رحمه الله، حكاها عن أستاذه، قال رضي الله عنه: وما ذكر العنب ولو كان ثمن المبيع، فبالانقطاع قبل التسليم ينتقض العقد، ولا ينبغي للبائع حق المطالبة بتسليم عين العنب، ليس بصحيح، فقد ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصرف في حجج مسألة. صورتها:
رجل اشترى من آخر مئة فلس بدرهم، ونقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس أن لا ينتقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدرهم، وفي الاستحسان: ينتقض العقد.
ومن اشترى من آخر شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوان الرطب إن العقد لا ينتقض. وذكر أيضاً أن من اشترى شيئاً بقفيز رطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، وهذا بخلاف ما لو اشترى شيئاً بدراهم أو فلوس ثم انقطعت الدراهم أو الفلوس قبل القبض حيث ينتقض البيع عند أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمهما الله على رواية كتاب الصرف، لأن في الرطب العود ثابت من غير صنع من العباد، ولا كذلك في الدراهم، وفي دعوى مال الإجارة المنسوخ بموت الآجر: إذا كانت الأجرة دراهم أو عدالي ينبغي أن يذكر كذا دراهم كذا عدالي رائجة من وقت العقد إلى وقت الفسخ؛ لأنها إذا أكسدت فيما بين ذلك تفسد الإجارة كبيع العين.
وإذا ادعى نوعين من العنب بأن ادعى ألف مَنّ من العنب العلاني والورخمني الحلو الوسط، لابد وأن يقول من العلاني كذا، ومن الورخمني كذا، لأن بدون ذلك القاضي لا يدري أنه بأي قدر يقضي من كل نوع.
(رجل) ادعى على آخر مقداراً من اللحم بأن ادعى مثلاً خمسة عشر منّاً، خمسة أمناء لحم اليد وخمسة أمناء لحم الرجل وخمسة أمناء لحم الجنب، فلابد وأن يبين السبب؛ لأنه يجوز أن يدعي ذلك بسبب السلم، وفي صحة السلم في اللحم خلاف معروف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ويجوز أن يدعيه بسبب الاستهلاك، وفي استهلاك اللحم اختلاف بين المشايخ، قال بعضهم: يوجب القيمة، وإليه أشار محمد رحمه الله في بعض الكتب، وقال بعضهم: يوجب المثل، وإليه أشار في بعض الكتب، فلهذا احتيج إلى بيان السبب فيه، فإن بيّن الثمنية بأن قال: بعت منه عرضاً بكذا وكذا من اللحم، وبيّن أوصافه وموضعه صح دعواه بناءً على أن المكيل والموزون إذا قوبل بعرض واستعمل استعمال الثمن، فهو ثمن.
وإذا ادعى على آخر أنه غصب منه كذا قفيز حنطة، وبيّن الشرائط لابد وأن يذكر مكان الغصب وستأتي بتمامها في المحاضر.
(وإذا) ادعى على آخر أنه باع من فلان مئة منّ من الشحم الأبيض بكذا، وسلم الشحم إليه وقبض الثمن بتمامه، وإن الشحم المبيع كان مشتركاً بيني وبين البائع هذا، وإني قد أجزت البيع حين وصل إليّ خبر البيع فواجب عليه تسليم نصف الثمن إليّ، فهذه الدعوى لا تصح؛ لأنه لم يذكر في الدعوى أن الشحم كان قائماً في يد المشتري وقت(9/14)
الإجارة، ولابد من ذلك؛ لأن بدون ذلك لا تعمل إجارة الشريك، ولأنه يذكر رواج الثمن وقت الإجارة، ولابد من ذلك، فإنه لو صار كاسداً قبل الإجارة لا تعمل الإجارة، كما لا يجوز ابتداء البيع به، وكذلك لو ذكر قيام الشحم ورواج الثمن وقت الإجارة للبيع إلا أنه لم يذكر في دعواه قبض البائع الثمن من المشتري، لا تصح دعوى تسليم بعض الثمن؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء بالبيع ما لم يقبض البائع الثمن من المشتري لا يطالب البائع بتسليم الثمن إلى الشريك، فالوكيل بالبيع لا يطالب بتسليم الثمن قبل أخذ الثمن من المالك، كذا هذا.
ادعى على آخر.... فاعلم (175أ4) بأن دعوى الخبز لا تصح إلا بعد بيان السبب؛ لأن التسلم في الخبز لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا وزناً ولا عدداً وعند أبي يوسف يجوز وزناً، وفي الاستقراض خلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة، لا يجوز لا عدداً ولا وزناً، وقال محمد رحمه الله: يجوز عدداً، وقال أبو يوسف: يجوز وزناً لا عدداً، وبالاستهلاك يجب قيمة الخبز لا عين الخبز، فلابد من بيان السبب، فإن بيّن أنه ثمن المبيع تصح الدعوى، ولكن ينبغي أن يذكر في الدعوى الكعك المتخذ من الدقيق المغسول أو غير المغسول، وكذا ينبغي أن يذكر أنه أبيض أو وجهه ملطخ بالزعفران وكذا ينبغي أن يذكر أن على وجهه سمسماً أبيض أو أسود.
وإذا ادعى ديباجاً على إنسان ولم يذكر وزنه، فإن كان الديباج عيناً يشترط إحضاره والإشارة إليه، وعند ذلك لا حاجة إلى بيان الوزن وسائر أوصافه، وإن كان ديناً بأن كان مسلماً فيه اختلف المشايخ في أنه هل يشترط ذكر الوزن لصحة الدعوى؟ عامتهم على أنه يشترط، وهو الصحيح.
وفي دعوى القطن لابد وأن يبين القطن البخاري أو الشالشي؛ لأن القطن يتفاوت في نفسه بتفاوت المواضع، ويبيّن أن يجعل من كذا من منّه كذا مَنٌ من المحلوج، هكذا قيل، وقيل: ليس بشرط وهو الصحيح، ولو ذكر في السلم أنه يحصل من كل أربعة أمنان أو ثلاثة أمنان من المحلوج يفسد السلم وقع الدعوى في خبا في الذمة مهراً فارسية خركاه، فأفتوا بالصحة، وإنه ظاهر؛ إذ ليس فيه أكثر من الجهالة، والجهالة في باب المهر لا تمنع الوجوب في الذمة.
وقد نص محمد رحمه الله في النكاح: إذا تزوج امرأة على بيت، فلها جهاز بيت وسط مما تجهز به النساء، قالوا وهذا هو المتعارف فيما بين أهل الأمصار في تلك الديار، فإنهم يعنون بذلك الغرف، وفي البادية يتعارفون بيت الشعر، وفي دعوى الغصب وأشباهه إن كانت الدعوى بسبب الاستهلاك أو القرض أو بسبب الثمنية لا يحتاج إلى الإحضار.(9/15)