البائع شهراً كانت الإجارة باطلة، لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمنفعة تابعة للعين، وتمليك العين قبل القبض من البائع باطل فكذا قليل المنافع التي هي مبيع، فإن استعمله البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر لأن في الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد ها هنا إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائباً عن المشتري في القبض لأن التسليم يستحق على البائع والشخص الواحد لا يصلح أن يكون مسلماً ومتسلماً، ولأن التسليم والقبض بمنزلة البيع إذا ملك التصرف يثبت به والواحد لا يصلح بائعاً ومشترياً، فكذلك لا يصلح قابضاً ومسلماً.
وفي «الفتاوى» : استأجر ثوباً ليلبسه كل يوم بدانق، فوضعه في بيته ولم يلبسه حتى مضى عليه سنون فعليه لكل يوم دانق ما دام في الوقت الذي يعلم أنه لو لبسه لكان لا خرق، لأنه أمكن أن يجعل منتفعاً بالثوب في ذلك الوقت، فإذا مضى وقت يعلم أنه لو كان لبسه لتخرق سقط عنه الأجر؛ لأن بعد مضي ذلك الوقت تعذر جعله منتفعاً به.
وروي عن محمد نحو هذا، وهو نظير المرأة إذا لم تستعمل الكسوة إنه إذا مضى من الوقت مقدار ما لو استعملتها استعمالاً معتاداً تخرقت الكسوة كان لها ولاية المطالبة بكسوة أخرى، وما لا فلا.
ومما يتصل بهذا الفصلحبس العين بالأجر
قال محمد رحمه الله: رجل دفع ثوباً ليصبغه بدرهم أو إلى قصار ليقصره فقصره أو صبغه، وقال: لا أعطيك حتى تعطيني الأجر فله ذلك، وقال: زفر ليس له ذلك. يجب أن يعلم أن كل صانع ليس بصنعه الوقاء ثم في العين كالحمال والملاح والغسال لا يكون له أن يحبس العبن بالأجر بالإجماع، وكل صانع لعلمه الرقائم في العين كالصباغ وما أشبهه إذا فرع من العمل فله أن يحبس العين بالأجر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر.
من حجته في ذلك أن البيع وقع في يد المشتري برضا البائع فيبطل حقه في الحبس قياساً على ما لو عمل في بيت صاحب الثوب وقياساً على الملاح والمكاري، وإنما قلنا: أن المبيع وقع في يد المشتري لأن المبيع هنا إما أثر عمله في العين كما في الخياط، أو مال قائم الغسل بالثوب، لأن يد العامل على الثوب يد صاحب الثوب لأن العامل أمين في حق الثوب ويد الأمين يد صاحب المال كما في يد المودع.
وإنما قلنا: برضاه لأنه لما عمل مع علمه يقع في يد المشتري صار راضياً بوقوعه في يد المشتري، حجتنا أن المبيع وقع في يد المشتري بغير رضا البائع فلا يبطل حق البائع في الحبس كما في بيع إذا قبض المشتري المبيع بغير رضا البائع، فإنه لا يبطل حق البائع في الحبس وإن جعل في يد المشتري، لأنه حصل بغير رضاه.(7/402)
بيانه إنه لا يمكنه الاحتراز عن وقوع عمله في يد الحافظ لأنه لا بد له من الحفظ حالة العمل، ويد الحافظ يد صاحب المال، وإذا لم يمكنه الاحتراز عن وقوع العمل في يد الحفظ كان مضطراً في ذلك، والرضا لا يثبت مع الاضطرار كصاحب العلو إذا بنى السفل، وليس كما لو عمل في بيت صاحب الثوب (15أ4) وذلك لأن المبيع هناك وقع في يد المشتري برضا البائع، وذلك لأن الثوب في يد صاحب الثوب حكماً لقيام يده على الدار، ويمكن للعامل أن يعمل على وجه لا يقع عمله في هذه اليد بأن يعمل في بيت نفسه، وإذا أمكنه الاحتراز عن إيقاع المبيع في هذه اليد فإن لم يحترز صار راضياً بذلك فيبطل حقه في الحبس، فأما ها هنا لا يمكنه الاحتراز على ما بينا فيكون مضطراً في إيقاع العمل في يد الحافظ، والاضطرار ينافي الرضا.
والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف في الوكيل إذا نقد الثمن من ماله وقبض المشترى كان له أن يحبس عن الموكل حتى يستوفي الثمن، وبنفس القبض وقع المبيع في يد الموكل، لأن يده يد الموكل قبل أحد أن الحبس ولم يبطل حقه في الحبس عندنا، لأنه مضطر في وقوع المشتري في هذا اليد لأنه لا يمكنه القبض على وجه لا يقع في يده فلم يبطله حقه في الحبس عندهم.
وبطل عند زفر كذلك هاهنا وليس كالحمال والمكاري، لأن المبيع هاهنا ليس بقائم لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، من حيث الحقيقة فلا إشكال لأن المبيع حركات انقضت ومضت، ولا من حيث الاعتبار لأنه لم يبق لعمله أثر في العين حتى يقيم الأثر مقام العمل، وحق الحبس إنما يثبت في المبيع فلا بد من قيامه أما ها هنا بخلافه، وأما القصار إن كان يقصر بالنساسج أو كان ببياض البيض كان له حق الحبس لأنه اتصل بالثوب مال قائم كما في الصبغ.
فأما إذا كان يبيض الثوب لا غير اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب أثر عمله فيقوم مقام المبيع فيكون له حق الحبس كما في الخياطة، ومنهم من يقول: لا يكون له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب غير مضاف إلى عمله، لأنه غير حادث بعمله بل البياض كان حاصلاً لكن كان استترا بالوزن فزال ذلك بعمله وظهر البياض الذي كان في الأصل، وإذ ثبت له حق الحبس بالأجرة عندنا لم يصر بالحبس متعدياً.
ففي العين عند أبي حنيفة أمانة في يده كما كان، فإذا هلك بغير صنعة لا يضمن شيئاً إلا أنه يسقط الأجر لأنه ملك العمل قبل التسليم، وهلاك المبيع قبل التسليم يوجب سقوط البدل كالمبيع العين إذا هلك في يد البائع.
وأما عند أبي يوسف ومحمد فالعين كان مضموناً على القصار والصباغ بسبب القصر إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه فيبقى بعد الحبس مضموناً كما كان، فإذا هلك فلصاحبه الخيار إن شاء ضمنه غير معمول لأنه لم يصر مسلماً العمل فلا يستحق الأجر، وإن شاء ضمنه معمولاً لأن العين مضمون عندهما بالقيمة والعمل بيع للعين والبيع(7/403)
يوافق الأصل ولا يخالفه، فإذا كان الأصل مضموناً بالقيمة صار المبيع مضموناَ بالقيمة أيضاً.
فإن قيل: العمل بيع هلك في يد البائع بغير منعة والمبيع لا يتصور أن يكون مضموناً على البائع بالقيمة بحال ما لا عند الهلاك ولا عند الاستهلاك كما في العين، المبيع إذا هلك عند البائع أو استهلك البائع لا يضمن القيمة فلم جعلتم العمل المبيع هنا مضموناً بالقيمة؟.
قلنا: نحن ما جعلنا العمل مضموناً بالقيمة أصلاً ومقصوداً بل ضرورة وتبعاً للعين، ويجوز أن يثبت الحكم تبعاً لغيره ولا يثبت قصداً، وفي باب البيع لا ضرورة إلى جعله مضموناً بالقيمة، أما هاهنا بخلافه وإذا ضمنه قيمته معمولاً أعطاه الأجر لأن المبيع صار مسلماً تقديراً واعتباراً لوصول اليد إليه، ولو صار مسلماً حقيقة يعطيه الأجر كذلك هاهنا وهكذا الجواب أو أتلفه الأجر يخير صاحب الثوب، إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا يعطيه الأجر، وإن شاء ضمنه قيمته معمولاً وأعطاه الأجر.
وفي «شرح القدوري» : وقال أبو يوسف في الحمال: إذا طلب الأجرة بعدما بلغ المنزل قبل أن يضعه ليس له ذلك، لأن حق المطالبة إنما يثبت بعد تمام العمل والوضع من تمام العمل فلا يثبت له حق المطالبة قبل الوضع.
ومما يتصل بمسائل الحبس
إذا استأجر الرجل من آجر داراً بدين كان للمستأجر على الأجر يجوز، وكذا لو استأجر عبداً بدين كان للمستأجر على الآجر يجوز، فإن فسخا الإجارة فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق كان له ذلك، ولو كانت الإجارة فاسدة وفسخا الإجارة بحكم فساد السبب فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق ليس له ذلك.
والفرق بينهما: أن العقد لا يتعلق بالدين وإنما يتعلق بمثله، ولا تصير الأجرة مثل الدين إلا بشرط التعجيل فيضمن ذلك شرط التعجيل لتصير الأجرة مثل الدين، ووقعت المقاصة بينهما وصار الآجر قابضاً الأجر بطريق المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، فأما في الإجارة الفاسدة مثل الدين لا يجب بنفس العقد لأن أكثر ما في الباب أن يجعل الأجرة مشروطة التعجيل، ولكن الأجرة لا تملك ولا تصير ديناً باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة ما لم يوجد استيفاء المنفعة حقيقة، ومتى لم تصر ديناً لا تقع المقاصة فلا يصر الأجير مستوفياً الأجرة أصلاً بمقابلة تسليم العبد فلا يملك العبد به.
فإن مات الآجر والأجر دين عليه كان قبل العقد فهي الإجارة الجائزة لما ملك المستأجر حبس العبد كان أحق به من الأجر حال حياته فيكون أحق به من غرمائه بعد موته.
وفي الإجارة الفاسدة كما لم يملك الحبس لم يكن المستأجر أحق به من الأجر حال حياته فلا يكون أحق به من غرمائه بعد الموت، ولكن يكون أسوة لغرمائه.(7/404)
ولو هلكت العين في يد الأجير من غير صنعة ومن غير أن يحبسه بالأجر، فإن كان لعمله أثر في العين كالحمال والمكاري لا يسقط الأجر، والفرق أن العمل الذي له أثر في العين بمنزلة العين المعقود عليه والبدل في مقابلته فصار كالمبيع يهلك قبل التسليم، أماما لا أثر له في العين ليس هناك عين معقود عليه، وإنما يصير الحمال يوماً المعقود عليه حالاً فحالاً فإذا انتهى إلى المكان المشروط فقد أوفى العمل بتمامه فلا يسقط أجره بهلاك العين بعد ذلك.
في «فتاوى أبي الليث» : نساج نسج ثوب رجل فذهب به إليه وطلب منه أن يقبض منه الثوب ويعطيه الأجر، فقال له صاحب الثوب: اذهب إلى منزلك حتى إذا رجعنا من الجمعة ضرب إلى منزلي ووفرت عليك الأجر فاختلس الثوب من يد النساج في الرجعة، قال: إن كان الحائك دفع الثوب إلى صاحب الثوب ولو ذهب به لم يكن الحائك يمنعه من ذلك، فإن دفع إلى الحائك على وجه الرهن هلك الثوب بالأجر كما هو حكم الرهن.
وإن دفع إليه على وجه الوديعة هلك على الأمانة والأجر على حاله، لأنه سلم العمل إلى صاحب الثوب فتقرر عليه الأجر، وإن كان في الابتداء أو أراد صاحب الثوب أن يذهب بالثوب لم يكن يدعه النساج ولذلك تركه صاحب الثوب عنده فقد اختلف العلماء فيه، قال بعضهم: يضمن، وقال بعضهم: لا وهي مسألة الأجير المشترك إذا هلكت العين في يده من غير صنعة.
وفي «المنتقى» : حائك عمل ثوباً لرجل فتعلق الآخر ليأخذه فأبى الحائك أن يدفعه حتى أخذ الأجر فتخرق من يد صاحبه لا ضمان على الحائك، وإن تخرق من يدهما فعلى الحائك نصف ضمان الخرق.
وفي (15ب4) القدوري: استأجر حمالاً ليحمل له حملاً إلى بلد فحمله، فقال له صاحبه: أمسكه عندك فامسكه فهلك لا ضمان عليه بلا خلاف لأنه ليس له حق الحبس، فإذا قال: امسكه كان أمانة في يده وهلاك الأمانة في يد الأمين لا يوجب الضمان عليه، ولو كان هذا قصاراً فأمره بإمساكه يعني ليوفر الأجر فهلك فهو على الاختلاف، وعلى قياس مسألة النساج يجب أن تكون هذه المسألة على التفصيل أيضاً.
الفصل الثالث: في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة
إذا استأجر داراً شهراً بأجر معلوم أو استأجرها منه أو كل شهر، فابتداء المدة من حين العقد وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا استأجرها كل شهر، لأن الإجارة تناول الأبد(7/405)
فلا بد وأن يدخل الشهر من حين وقع عقد الإجارة، وإنما يشكل ما إذا استأجرها شهراً واحداً فإنه عين الإجارة الشهر الذي يلي العقد، وهما سميا شهراً منكراً لا شهراً معيناً، فالجواب الشهر الذي يلي العقد يعين بدلالة الحال أو بمقتضى مطلق العقد.
أما بدلالة الحال فإن الظاهر من حال العاقل الذي أن يقصد بتصرفه الصحة، ولن تصح الإجارة أو لم يعين الشهر الذي يليها لأنه تكون الإجارة عل شهر لا بعينه.
وأما بمقتضى مطلق العقد يوجب حكمه للحال كبيع العين المطلق، وحكم الإجارة وقوع الملك للمستأجر في المنفعة، وإنما يقع الملك في منفعة الدار للحال إذا تعين الشهر الذي يلي الإجارة، وإذا تعين الذي يلي الإجارة ينظر إن وجدت الإجارة في الوقت الذي يهل فيه الهلال يعتبر الشهر بالهلال، لأن الهلال أصل في الشهر والأيام كالبدل، وقد أمكن اعتبار الأصل فلا يصار إلى البدل.
وإن وجدت الإجارة في وسط الشهر يعتبر الشهر بالأيام لأنه تعذر اعتبار الأصل فيعتبر البدل هذا إذا وقعت الإجارة على شهر واحد، وإن وقعت الإجارة على كل شهر وكان ذلك في وسط الشهر يعتبر الشهر الذي يلي العقد بالأيام، وكذلك كل شهر بعد ذلك بلا خلاف.
أما عند أبي حنيفة فلأن عنده العبرة بالأيام إذا أوقعت الإجارة في وسط الشهر، وإن كان أجر المدة وأولها معلومة بأن استأجرها أشهراً مسماة عشرة أو ما أشبه ذلك أو استأجرها سنة، فإذا لم يكن أجر المدة معلوماً أولى.h
وأما عند أبي يوسف ومحمد إنما يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من آخر المدة وما بعد ذلك بالهلال إذا كان آخر المدة معلوماً حتى أمكن إكمال الأول بأجره وهاهنا آخر المدة مجهولة فلا يمكن إكمال الأول بالآخر فيجب إكماله من الشهر الثاني.
وإن وقعت الإجارة على اثني عشر شهراً أو ما أشبه ذلك من الأشهر المسماة وكانت الإجارة في وسط الشهر، فعلى قول أبي حنيفة تعتبر جميع الأشهر بالأيام، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من الشهر الأخير وباقي الشهور بالأهلّة.
فوجه قولهما أن في الشهر الأول والآخر اعتبار ما هو الأصل، وهو الهلال غير ممكن فلا يعتبر، وفيما عدا ذلك أمكن اعتبار الأصل فيعتبر.
وأبو حنيفة قال: كالعذر اعتبار الهلال في الشهر الأول تعذر اعتباره في الشهر الثاني والثالث، لأن الشهر الأول يجب إكماله من الشهر الثاني لأنه متصل به، وإذا وجب إكمال الشهر الأول من الشهر الثاني انتقص الشهر الثاني فيجب إكماله من الشهر الثالث، لأنه متصل به وثم وثم إلى آخر المدة، فقد تعذر اعتبار الهلال في جميع المدة فيعتبر بالأيام.
روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل استأجر منزلاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، قال: في قياس قولي الإجارة فاسدة لكني استحسن إن أجرها في أول شهر، فأما(7/406)
فيما عداه فلكل واحد منهما أن يفسخه.
قال الحاكم أبو الفضل: أراد بقوله: في قياس قولي القياس على ما إذا اشترى كل قفيز من هذا الطعام بدرهم، فإنه على جميع الطعام عندهما وعمل كلمة كل في الشمول والإحاطة.
فالقياس: أن يعمل كلمة كل منهما في الشمول والإحاطة ويتناول جميع الشهور، إلا أنها لو تناولت جميع الشهور فسد العقد، لأن جميع الشهور محمولة ولكن استحسن، وقال: يجوز العقد في الشهر الأول نصف اللزوم، لأنه لا جهالة فيه ولا مزاحم له، وفيما عدا ذلك يثبت العقد بطريق الإضافة، وفي العقد المضاف لكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد، فإذا لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه.
وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر داراً كل شهرة بعشرة دراهم، فإن أبا حنيفة قال: هذا جائز ولكل واحد منهما أن ينقض الإجارة في رأس الشهر فإن سكن يوماً أو يومين لزمه الإجارة في الشهر الثاني: واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: أراد بقوله جائز أن الإجارة في الشهر الأول جائزة فأما فيما عدا ذلك من الشهور فالإجارة فاسدة لجهالة المدة، إلا أنه إذا جاء الشهر الثاني ولم يفسخ كل واحد منهما الإجارة في رأس الشهر جازت الإجارة في الشهر الثاني، لأن الشهر الثاني صار كالشهر الأول.
وبعضهم قالوا: لا بل الإجارة جائزة في الشهر الثاني والثالث كما جازت في الشهر الأول، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» : يدل عليه، وإنما جازت الإجارة فيما وراء الشهر الأول، وإن كانت المدة مجهولة لتعامل الناس من غير نكير منكر، وإنما يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة فيما زاد على الشهر الأول لنوع ضرورة.
وبيانها: أن موضوع الإجارة أن لا يزيل الرقبة عن ملك المؤجر ولا يجعلها ملكاً للمستأجر، ومتى لم يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر لزوال رقبة المستأجر عن ملك المؤجر، يعني لأنه لا يملك سكناها ولا بيعها ولا هبتها أبد الدهر لأنه لا نهاية لحد الشهور.
وهذا لا يجوز فلهذه الضرورة يثبت لكل واحد منهما الخيار بين الفسخ والمضي في رأس كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة في الشهر فيما زاد على الشهر وكان ينبغي أن يثبت هذا الخيار في كل ساعة ليزول المعنى الذي ذكرنا إلا أنا لو أثبتنا ذلك لا تفيد الإجارة فائدتها لأن كل واحد من المتعاقدين يمتنع عن الإجارة مخافة الفسخ فلهذه الضرورة تأخر الفسخ إلى رأس الشهر، لأنه بهذا القدر تصير الإجارة منعقدة وليس ما وراء الشهر من الأوقات بعد ذلك بعضها بأولى من البعض فيثبت الخيار رأس كل شهر لهذه الضرورة.
والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء، ولو شرطا الخيار رأس كل شهر تأخر الفسخ(7/407)
إلى رأس كل شهر كذا هنا إلا أن المشايخ بعد هذا اختلفوا في كيفية إمكان الفسخ لكل واحد منهما رأس كل شهر.
وإنما اختلفوا لأن رأس الشهر في الحقيقة عبارة عن الساعة التي يهل فيها الهلال فكما أهل الهلال مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ بعد ذلك لمضي وقت الخيار، وقبل ذلك لا يمكنه الفسخ لأنه لم يجيء وقته.
والصحيح في هذا أحد الطرق الثلاثة إما أن يقول: الذي يريد الفسخ قبل مضي المدة فسخت الإجارة فيتوقف هذا الفسخ إلى انقضاء الشهر فإذا انقضى الشهر وأهل الهلال عمل الفسخ عمله ونفذ، لأنه لم يجد نفاذاً في وقته يتوقف إلى وقت نفاذه، وبه كان يقول أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي.
ونظير هذا ما قال (16أ4) محمد رحمه الله في البيوع: اشترى عبداً على أنه بالخيار فحم العبد وفسخ المشتري العقد بحكم الخيار لم ينفذ هذا الفسخ بل يتوقف إلى أن تزول الحمى في مدة الخيار.
وقال في المضاربة: رب المال إذا فسخ المضاربة وقد صار مال المضاربة عروضاً لم ينفد الفسخ للحال بل يتوقف إلى أن يصير مال المضاربة دراهم أو دنانير فينفذ الفسخ كذا هنا، أو يقول الذي يريد الفسخ في خلال الشهر فسخت العقد رأس الشهر فينفسخ العقد إذا أهل الهلال، ويكون هذا فسخاً مضافاً إلى رأس الشهر وعقد الإجارة يصح مضافاً، فكذا فسخه يصح مضافاً، أو يفسخ الذي يريد الفسخ في الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها.
وهذا القائل يقول: لم يرد محمد رحمه الله بقوله لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة، وهو الساعة التي يهل فيها الهلال فإنما أراد به رأس الشهر من حيث العرف والعادة وهي الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها.
وهذا كما قال محمد رحمه الله في كتاب الإيمان: إذا حلف الرجل ليقضين حق فلان رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها الهلال أو في يومها لم يحنث استحساناً.
وفي القدوري يقول: غرة الشهر ورأس الشهر أول ليلة ويومها، ثم إذا كان لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة رأس الشهر إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر من صاحبه هل يصح.
من مشايخنا من قال: إنه على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد لا يصح، وعلى قول أبي يوسف يصح، وهذا لأن الخيار ثبت لكل واحد منهما رأس الشهر لنوع ضرورة والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء ولو كان الخيار مشروطاً لكل واحد منهما كانت المسألة على الخلاف كذا هاهنا.
ومنهم من قال: لا يصح الفسخ ها هنا إلا بمحضر من صاحبه بلا خلاف، والفرق لأبي يوسف أن المشروط له الخيار إنما ملك الفسخ بغير محضر من صاحبه، لأنه مسلط على الفسخ من جهة لأن الخيار مشروط للفسخ والمسلط على التصرف يملك التصرف من(7/408)
غير محضر من المسلط كالوكيل بالبيع، فأما في مسألتنا كل واحد منهما غير مسلط على الفسخ من جهة صاحبه، وإنما هو مسلط على الانتفاع وإنما يثبت الخيار لنوع عذر فكان بمنزلة ما لو ثبث الخيار بسائر الأعذار، وفي ذلك لا يصح الفسخ إلا بمحضر من صاحبه كذا فهنا.
وفي «شروط الحاكم أحمد السمرقندي» رحمه الله: أن أحد المتعاقدين في باب الإجارة إذا فسخ العقد في مدة الخيار يصح فسخه سواء كان بحضرة صاحبه أو بغيبة صاحبه، ولم يذكر فيه خلافاً.
وإذا استأجر داراً سنة كل شهر بكذا فليس لواحد منهما فسخ الإجارة قبل إكمال السنة بغير عذر، لأن الإجارة ها هنا وقعت على جميع السنة وذكر كل شهر لتقسيم الأجر على الشهور لا لتجدد انعقاد العقد رأس كل شهر.
وفي «شروط الحاكم أحمد السمر قندي» : إذا استأجر داراً كل شهر بكذا، فعجل أجرة شهرين أو ثلاثة وقبض الآجر ذلك لا يكون لأحدهما ولاية الفسخ بقدر ما عجل، وكان التعجيل منهما دلالة العقد في الشهر الثاني والثالث.
قال في «الأصل» : وإذا استأجر عبداً ليخدمه كل شهر بكذا كان له أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد عشاء الآخرة، والقياس أن يستخدمه آناء الليل والنهار لأن الشهر اسم للكل إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مبيتاً بحكم العرف، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر والمعروف كالمشروط.
وقال أيضاً: رجل تكارى رجلاً يوماً إلى الليل بعمل معلوم فإن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الغداة إلى غروب الشمس، والقياس أن يعمل من وقت طلوع الفجر الثاني إلى ما بعد صلاة الغداة صار منهياً عن الإجارة عرفاً والمعروف كالمشروط.
قال محمد رحمه الله: والعمال بالكوفة إنما يعملون إلى العصر وليس لهم ذلك لأن اسم اليوم ينطلق على هذا الزمان من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إلا أن ما بعد طلوع الفجر إلى ما بعد صلاة الغداة صار مثبتاً عن الإجارة يعرف غالباً، لأن الأجراء لا يعملون قبل صلاة الغداة، وليس فيما بعد العصر عرف غالب، فإن بعض الأجراء يعملون إلى العصر وبعضهم إلى غروب الشمس وليس أحد الوجهين بأغلب من الآخر، وتخصيص الاسم إنما يجوز بعرف غالب.
قال أيضاً: وإذا تكارى دابة من الغدوة إلى العشي يردها بعد زوال الشمس ينتهي الإجارة بهما، لأنه كما زالت الشمس فقد دخل أول وقت العشاء عرفاً وشرعاً، أما شرعاً فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بنا إحدى صلاتي العشاء أما الظهر وأما العصر.(7/409)
وأما عرفاً فإن مخاطبات الناس تعتبر بعد زوال الشمس يقولون قبل الزوال: كيف أصبحت، ويقولون بعد الزوال: كيف أمسيت فثبت أن بعد زوال الشمس يدخل أول وقت العشاء والإجارة تنتهي بدخول أول جزء من الغاية.
قالوا: وهذا في عرفهم أما في عرفنا الإجارة لا تنتهي بزوال الشمس وإنما تنتهي بغروب الشمس؛ لأن اسم العشاء في عرفنا إنما ينطلق على ما بعد غروب الشمس، وكذلك إذا قال بالفارسية: ابن خر نمر ذكر فتم بإشباعها فهذا إلى غروب الشمس في عرفنا.
قال: إذا تكارى دابة يوماً ليركبها، فإنه يركبها من حين طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس عملاً بحقيقة اسم اليوم، وإنما تركنا العمل بحقيقة هذا الاسم فيما إذا استأجر رجلاً يوماً ليعمل له عمل كذا.
وقلنا: إن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الفجر بحكم العرف الغالب على ما مر، والعرف في الدابة بخلاف ذلك فإن الناس يركبون الدواب في عاداتهم بغلس ليصلوا إلى مقصدهم قبل الليل فيعمل فيها بحقيقة الاسم. وإن استأجر دابة ليلاً فإنه يركبها عند غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، لأن الليل في عرف لسان الشرع واللغة اسم لما بعد غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، فكأنه نص على ذلك ولو نص على ذلك كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك.
وفي «فتاوى أبي الليث» : أعطى رجلاً درهمين ليعمل له يومين فعمل له يوماً واحداً وامتنع عن العمل في اليوم الثاني، فإن كان سمى له عملاً فالإجارة جائزة ويجبر على العمل، وإن لم يعمل حتى مضى اليوم الثاني لا يطالب بالعمل، وإن كان سمى له العمل إلا أنه قال: يومين من الأيام فالإجارة فاسدة لجهالة الوقت وله أجر مثله إن عمل.
وفي «فتاوى الفضل» : إذا استأجر رجلاً يوماً لعمل كذا فعليه أن يعمل ذلك العمل إلى تمام المدة، ولا يشتغل بشيء آخر سوى المكتوبة.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : وقد قال بعض مشايخنا: إن له أن يؤدي السنة أيضاً، واتفقوا أنه لا يبتد نفلاً وعليه الفتوى، وفي غريب الرواية قال أبو علي الدقاق رحمه الله: المستأجر لا يمنع الأجير في المصر من إتيان الجمعة ويسقط من الأجر بقدر اشتغاله بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لم يحط عنه شيء من الأجر، فإن كان بعيداً فاشتغل قدر ربع النهار حط عنه ربع الأجر، وإن قال الأجير حط من الربع مقدار اشتعاله بالصلاة لم يكن له ذلك، ثم قال: تحتمل أن يتحمل من الربع مقدار اشتغاله بالصلاة.
الفصل الرابع: في تصرف المؤجر في الأجرة
إذا أبرأ المؤاجر المستأجر من الأجرة أو وهبها منه أو تصدق بها عليه، وكان ذلك(7/410)
قبل استيفاء المنفعة ولم يشترط تعجيل الأجرة في العقد لم يجز في قول أبي يوسف، عيناً كانت الأجرة أو ديناً والإجارة على حالها لا تنفسخ.
وقال محمد رحمه الله: إن كانت الأجرة ديناً جاز ذلك قبل المستأجر أو لم (16ب4) يقبل ولا تنتقض الإجارة، وإن كانت عيناً فوهبها منه، فإن قبل الهبة تبطل الإجارة، وإن رد لم تبطل الإجارة، وعادت الأجرة على حالها.
فأبو يوسف رحمه الله يقول: الابراء إسقاط الواجب، فيعتمد سابقة الوجوب، والهبة تمليك، فيعتمد سابقة الملك، ولا وجوب ولا ملك بدون استيفاء المنفعة واشتراط التعجيل، وإذا لم يصح تصرفه بقيت الأجرة على حالها فلا تنتقض الإجارة، بخلاف المشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض وقبله البائع حيث يبطل البيع؛ لأن هناك الهبة قد صحت لصدورها من المالك ويده من جنس القبض المستحق بالهبة فثبت الملك، وإذا ثبت الملك فإن القبض المستحق بالعقد فيبطل العقد.
ومحمد رحمه الله يقول: سبب الوجوب ثابت فأقيم مقام الوجوب في حق صحة التصرف، ثم إن محمداً رحمه الله لم يشترط القبول في الإبراء والهبة إذا كانت الأجرة ديناً، ويشترط القبول في الهبة إذا كانت الأجرة عيناً.
والفرق: أن الإبراء والهبة في الدين إسقاط فيه معنى التمليك، فمن حيث إنه إسقاط لم يتوقف على القبول، ومن حيث إنه تمليك يريد به الرد والهبة في العين تمليك محض والتمليك المحض لا يعمل بدون القبول، ثم إذا قبل الهبة وكانت الأجرة عيناً بطلت الإجارة عند محمد؛ لأن عقد الإجارة ينعقد موقوفاً في حق المحل على حسب حدوث المنفعة، فمتى كانت الأجرة عيناً، ووهبها من المستأجر، وقبل المستأجر لا يمكن القول ببقاء التوقف في حق المحل فصار ذلك مناقضة، فبطلت الإجارة ضرورة.
وإذا كانت الأجرة ديناً ووهبها له أو أبرأه منها وقبل المستأجر ذلك أو لم يقبل لا تبطل الإجارة، لأن الحكم ببقاء الإجارة ممكن هناك؛ لأن محل الأجرة إذا كانت ديناً في الذمة، وذمته باقية فيقام قيام محل الأجرة مقام قيام الأجرة إبقاء للعقد بقدر الممكن، ولو وهبت بعض الأجرة أو أبرأ عن بعض الأجرة جاز بلا خلاف، أما على قول محمد فظاهر، وأما على قول أبي يوسف فلأنه يعتبر هذا خطأ، ويجعل كأن العقد من الابتداء ورد على ما بقي خاصة، ولا كذلك هبة الكل.
وإن كانت هذه التصرفات من المؤاجر بعد استيفاء المنفعة أو بعد اشتراط التعجيل جازت بلا خلاف، لأن بعد استيفاء المنفعة، أو بعد اشتراط التعجيل ثبت الوجوب وثبت الملك، فيصح الإسقاط والتمليك على قول أبي يوسف رحمه الله.
ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل أجر أرضه من رجل بدراهم معلومة وقبض الأجرة، فلم يزرع المستأجر حتى وهب الآجر الأجر للمستأجر ودفعه إليه، ثم انتقضت الإجارة بوجه من الوجوه، فإن للمستأجر أن يرجع على الآجر بما أعطاه الأجر إلا حصة ما مضى من السنة والأرض في يد المستأجر، ولو كان وهب له قبل القبض لم يرجع(7/411)
بشيء، وإذا تصارف الآجر والمستأجر بالأجرة فأخد بالدراهم دنانير، فإن كان ذلك بعد استيفاء المنفعة أو كانا شرطا التعجيل في الأجرة حتى وجبت الأجرة جازت المصارفة إجماعاً، وإن كان قبل استيفاء المنفعة ولم يشترطا التعجيل فالمسألة على الخلاف، على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، وهذا إذا كانت الأجرة ديناً.
فأما إذا كانت الأجرة عيناً فإن كانت بقرة بعينها فأعطاه المستأجر مكانها دنانير لا يجوز سواء كان قبل استيفاء المنفعة أو بعدها، وسواء كان قبل اشتراط التعجيل أو بعده.
وجه قوله الأول وهو قول محمد: أن هذه مصارفة بدين واجب حالة المصارفة، وإنه ما يجوز الاستبدال به فيجوز كما بعد استيفاء المنفعة.
بيانه: أن المقصود من إضافه الشراء إلى الأجرة وقوع المقاصة من الأجرة وبدل الصرف لا الاستحقاق بعينه، ولن تثبت هذه المقاصة من الأجرة وبدل الصرف إلا بعد اشتراط التعجيل في الأجرة قبل الصرف؛ لأن المقاصة بدل الصرف بدين وجب حكماً بعد عقد الصرف لا يجوز.
ألا ترى أن من اشترى ديناراً بعشرة دراهم، ثم إن مشتري الدينار باع من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم لا تقع المقاصة بين ثمن الثوب وبين بدل الدينار تقاصا أو لم يتقاصا، لأنه دين وجب بعد عقد الصرف، وإذا كان هكذا اقتضت هذه الإضافة اشتراط التعجيل قبل عقد الصرف، فكأنهما اشتراطا التعجيل قبل الصرف ثم تصارفا بخلاف ما إذا كانت الأجرة عيناً؛ لأن أكثر ما في أن يثبت اشتراط التعجيل هناك مقتضى عقد الصرف مع هذا لا تجوز المصارفة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً كانت مبيعاً، فيصير المستأجر بهذه المقاصة مستبدلاً بالبيع قبل القبض، وإنه لا يجوز، أما إذا كانت الأجرة دنياً في الذمة فالاستبدال به قبل القبض جائز.
وجه قول أبي يوسف الآخر: أن هذه مصارفة بدين غير واجب حالة المصارفة؛ لأن الأجرة غير واجبة قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل، وأما ما قال محمد: بأن هذه الإضافة تضمنت اشتراط التعجيل، قلنا: غير المنصوص إنما يجعل منصوصاً لتصحيح أصل لا لإبقاء التصرف على الصحة وهذا لأن لا لإيفاء التصرف على الصحة؛ وهذا لأن جعل غير المنصوص منصوصاً خلاف الحقيقة، وخلاف الحقيقة لا يصار إليه إلا في وضع ورود الاستعمال، والاستعمال ورد في تصحيح أصل التصرف لا في إيفاء التصرف على الصحة.
والفقه في ذلك: أن البقاء بيع الأصل والمقتضي يثبت بيعاً فلو أثبت المقتضى لإبقاء العقد على الصحة فقد جعلنا البيع وهو البقاء أصلاً وإنه لا يجوز، إذا قلت هذا فقول المصارفة بالإجارة صحيحة من غير اشتراط التعجيل، وإن لم تكن الأجرة واجبة إذا نفذ ما شرط من الأجرة، وإذا لم ينفذ يبطل العقد بعد الصحة، فلو أثبتنا اشتراط التعجيل، فإنما نثبته بمقتضى بقاء التصرف على الصحة لا يقتضي تصحيح أصل الصرف، وإنه لا يجوز.(7/412)
فرّع محمد في «الأصل» على مسألة المصارفة فقال إذا وقعت المصارفة بالأجر على نحو ما ذكرنا وقد عقد عقد الإجارة على حمل شيء بعينه بعشرة دراهم، فمات قبل أن يكمل شيئاً أو بعد ما سار نصف الطريق وأجاب بأنه ترد الأجرة كلها على المستأجر إن لم يكن حمل شيئاً وإن سار نصف الطريق رد عليه بنصف الأجر، وذلك جملة دراهم، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد؛ لأنه على هذا القول صح الصرف ووقعت المصارفة بين الأجرة وبدل الصرف، وصار المستأجر موقناً الأجر بالمقاصة فيعتبر بما لو أوفاه باليد ثم انتقضت الإجارة، وهناك يرد الأجر كله على المستأجر إن كان الحمال لم يحمل شيئاً ونصف الأجر إن حمل نصف الطريق كذا هاهنا.
أما على قوله الآخر الصرف لم يصح ولم تقع المقاصة، ولم يصر الأجر موقعاً الأجر، فإن مات الحمال قبل أن يحمل شيئاً كان على ورثة الحمال رد الدينار على المستأجر، لأن الحمال قبضه بحكم صرف فاسد، ولا شيء لورثة الحمال من الأجر، وإن مات في نصف الطريق فإن ورثة الحمال قد أوفاه نصف العمل.
وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل أجر أرضه من رجل بألف درهم (17أ4) وقبضها وزرعها أو لم يزرعها فلم تمض السنة حتى أخذ رب الأرض من المستأجر خمسين ديناراً من الأجرة فهو جائز.
علل فقال: لأن الإجارة كان أصلها صحيحاً فإن انتقضت الإجارة في شيء من السنة ردت الأرض على المستأجر من الدراهم التي أجرتها الأرض بقدر ما بقي من السنة، ولم يرد من الدينار شيئاً.
علل فقال: لأن أصل الصرف كان صحيحاً ووجه ذلك: أن بسبب هذه المصارفة وقعت المقاصة بين الأجر وبين ثمن الدنانير، وصار المستأجر موقتاً الدراهم التي هي أجرة بالدراهم التي هي بدل الدنانير فيعتبر بما لو أوفاها حقيقة، وهناك إذا انقضت الإجارة في شيء من السنة يلزم الآجر رد بعض الدراهم فهاهنا كذلك، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول محمد وأبي يوسف الأول، أما لا يتأتى على قوله الأخر هذه المصارفة لم تصح ولا حكم لها أصلاً.
وإذا باع بالأجر ثوباً أو طعاماً كان ذلك قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل جاز البيع، لأن البيع بدين ليس بواجب في الحال ولا يجب في الثاني جائز، بأن باع بدين مظنون شيئاً ثم تصادقا على أنه لا دين فإنه يصح البيع، فلأن يصح البيع بالأجرة وإنها تجب في الثاني إن لم تجب في الحال أولى؛ وهذا لأنه ليس المقصود من إضافة البيع إلى الدين وإلى الأجرة استحقاق عينها وإنما المقصود المقاصة من الأجر ومن الثمن متعلق القدر بمثل الأجرة ديناً في الذمة.d
وتقع المقاصة بين الأجر والثمن بعد هذا اختلف المشايخ في كيفية وقوع المقاصة، قال بعضهم: يقع الشراء بثمن مؤجل بسبب تأجيل الأجر، فإذا وجب الأجر وحل الإتيان تقاصا.(7/413)
وقال بعضهم: يقع الشراء بثمن حال ويثبت اشتراط تعجيل الأجر من جانب المستأجر للحال فتقع المقاصة بينهما للحال لا في الثاني.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا انتقضت الإجارة وبقي الشراء فمن يقول: الشراء يقع بثمن مؤجل لا يكون للمستأجر مطالبة الأجير بالثمن للحال، ومن يقول الشراء يقع بثمن حال يقول: للمستأجر حق مطالبة الأجير بالثمن للحال.
وجه القول الأول: أن إضافة الشراء إلى الدين إذا كان دراهم إن لم تكن معتبرة لاستحقاق المضاف إليه بعينه فهو معتبر لتقدير الثمن به قدراً وصفاً، ألا ترى أنه لو أضاف الشراء إلى دراهم عين تعتبر الإضافة لتقدير الثمن به قدراً وصفة، فكذا هاهنا.
قلنا: والمضاف إليه الشراء فهو الأجرة في معنى المؤجل فثبت صفة التأجيل في الثمن ثم تقع المقاصة إذا حل الدينار.
وجه القول الأخر: أنا لو اعتبرنا هذه في إثبات صفة الأجل يفسد الشراء؛ لأنه يصير مشترياً بثمن يجب في الثاني لا في الحال؛ لأن الأجرة لا تحب في الحال، إنما تجب في الثاني، والشراء بمثل هذا الثمن لا يجوز فتركنا العمل بحقيقة هذه الإضافة، واعتبرنا الإضافة لوقوع المقاصة بينهما للحال بأن يقع الشراء بثمن حال، وثبت اشتراط تعجيل الأجر حتى يجب الأجر للحال، فإن الأجر يجب باشتراط التعجيل بعد الحكم.
وإذا أمكننا تصحيح الإضافة على هذا الوجه وفيه جواز العقد اعتبرنا هكذا.
قال: فإن أوفاه الحمل والشرط يسلم له ذلك، وإن لم يوفه ذلك لموت حدث أو غير ذلك من عذر فإن المستأجر يرجع على المؤاجر بالدراهم، ولا يرجع بالقرض لأن القرض صار ملكاً للمؤاجر بالشراء والشراء لم ينفسخ بانفساخ الإجارة؛ لأن الشراء ما كان متعلقاً بعين الأجر حتى ينفسخ بسقوط الأجر.
وإذا بقى الشراء صحيحاً بعد انفساخ الإجارة لا يكون للمستأجر على المقرض سبيل كما قبل انفساخ الإجارة، ويرجع المستأجر على ورثته بالدراهم لأن المستأجر أوفاه الأجر حكماً للمقاصة فيعتبر بما أوفاه حقيقة هناك لو انتقضت الإجارة قبل إيفاء العمل كان للمستأجر حق الرجوع بالأجر كذا هاهنا.
ولو أخذ بالأجرة رهناً أو كفيلاً جاز في قولهم جميعاً، أما على قول محمد: فظاهر، وأما على قول أبي يوسف: فلأن الرهن والكفالة وثيقتان وملائم هذا الدين كما لو رهن بالثمن في البيع المشروط فيها الخيار.
قال محمد رحمه الله: وإذا استأجر الرجل داراً بثوب بعينه وسكنها فليس لرب الدار أن يبيع الثوب قبل أن يقبضه، لا من المستأجر ولا من غيره لأنه بمنزلة المبيع، ألا ترى أنه لو هلك قبل أن يدفعا إلى رب الدار انتقضت الإجارة وكان على المستأجر أجر مثلها، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز.
وكذلك كل شيء يتعين بالتعيين، كالعروض والحيوان وغيره، وإن كانت الأجرة شيئاً من المكيل أو الموزون بغير عينه موصوفاً فلا بأس بأن يبيعه قبل أن يقبضه، لأنه ثمن(7/414)
وهذا إذا وجب بالاستيفاء أو باشتراط التعجيل، وإن اشترى به منه شيئاً بعينه جاز، قبض ذلك في ذلك المجلس أو لم يقبض، وإن اشترى به منه شيئاً بغير عينه لا بد وإن قبض ذلك الشيء في المجلس حتى لا يقع الافتراق عن دين بدين.
وإذا استأجر الرجل داراً بعبد بعينه منه وأعتق رب الدار العبد قبل أن يقبض العبد من المستأجر، وقبل أن يسلم الدار إلى المستأجر فعتقه باطلاً؛ لأنه لا ملك له في العبد لا ملكاً تاماً ولا ملكاً موقوفاً بناءً على ما قلنا: أن الأجرة لا تملك إلا باستيفاء المنافع أو بالتعجيل أو باشتراط التعجيل، ولم يوجد شيء من ذلك هاهنا وإن كان رب الدار قد قبض العبد إلا أنه لم يسلم الدار إلى المستأجر بعد حتى اعتق العبد جاز إعتاقه، لأنه ملك العبد بالتعجيل، فالأجرة تملك بالتعجيل فقد أعتق ملك نفسه فينفذ، فإن انهدمت قبل أن يقبضها المستأجر أو عرفت أو استحقت فعلى المعتق قيمة العبد كله؛ لأن المنزل لم يسلم للمستأجر، فيجب على رب الدار رد البدل وهو العبد، وتعذر رده صورة لسبب العتق فيجب رده معنى برد القيمة، وهذا وبيع العين في هذا الحكم على السواء.
ومن باع عبداً بثوب وأعتق مشتري العبد العبد وملك الثوب قبل التسليم يجب على معتق العبد رد قيمة العبد وطريقه ما قلنا، ولو سكن المستأجر الدار شهراً وهلك العبد بعد ذلك في يد المستأجر قبل التسليم إلى رب الدار.
قال: على المستأجر أجر مثل الدار يعني بحصة الشهر؛ لأن أحد البدلين هلك قبل القبض وهو عين، والبدل الأجر، وهو القيمة قائمة؛ لأنه يجب قيمته على المستأجر رد ما قبض من المنافع بحكم فساد العقد، وتعذر رد عينها فيجب رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل إلا أنه يجب أجر المثل هاهنا بالغاً ما بلغ حتى إذا كان أجر المثل أكثر مما يخص الشهر من قيمة العبد يجب ذلك كله بخلاف ما إذا كانت الإجارة فاسدة من الابتداء، فإنه لا يراد أجر المثل على ما يخص الشهر من قيمة العبد.
والفرق: أن المنافع إنما تتقوم بالعقد، وفي مسألتنا الاستيفاء في الشهر حصل بحكم عقد جائز من كل نوع؛ لأن العقد كان جائزاً حالة الاستيفاء في الشهر، وإنما فسد من بعد، فصار المستوفى متقوماً من كل وجه، فصار ملحقاً بالعين، ومتى وجب رد العين بسبب الفساد وتعذر رد عينه يجب رد قيمته بالغة ما بلغت، فأما إذا كان العقد فاسداً (17ب4) من الابتداء فالعقد وجد من وجه دون وجه، فإنه وجد بأصله لا بوصفه فيثبت التقوم للمنافع من وجه دون وجه فيثبت التقوم بقدر المسمى، ولا يثبت فيما زاد على المسمى، ففيما زاد على المسمى الاستيفاء يكون نص عقد فلا يجب بمقابلة شيء، ثم أوجب قيمة المنافع ولم يوجب قيمة العبد.
فرق بين الإجارة وبين النكاح، فإن من تزوج امرأة على عبد وهلك العبد قبل التسليم أو استحق ترجع المرأة على الزوج بقيمة البدل وهو العبد لا بقيمة المبدل وهو منافع بضعها.
وفي باب الإجارة قال: متى هلك العبد قبل التسليم فرب الدار يرجع بقيمة المبدل(7/415)
وهو المنافع لا بقيمة البدل وهو العبد.
والفرق: أن النكاح مما لا يحتمل الفسخ بسبب من الأسباب فلا ينفسخ بهلاك العبد قبل التسليم أو استحقاقه، ففي السبب الموجب لتسليم العبد وهو عاجز عن تسليمه فيجب تسليم قيمته، أما الإجارة تحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فتنفسخ بهلاك العبد قبل التسليم واستحقاقه أو يفسد، وإذا انفسخ أو فسد وجب رد المنافع وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد قيمتها.
الفصل الخامس: في الخيار في الإجارة والشرط فيها
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوى الصغرى» : إذا استأجر الرجل رجلاً ما نسيت ديك روبين تشايد ببدل معلوم ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، قال: إن كان قد أراه القدور وقت الاستئجار تجبر على الباقي، وإن لم يره لا يجبر؛ لأن في الوجه الأول الإجارة قد صحت، وفي الوجه الثاني لم تصح لجهالة المعقود عليه.
وعلى هذا إذا استأجر رجلاً ما مست ريد سحي قالوا ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، فهو على الوجهين اللذين ذكرنا.
وأصل هذه المسائل ما ذكر محمد في الإجارات: أن من شارط قصاراً على أن يقصر له عشرة أثواب ببدل معلوم ولم يره الثياب، ولم يكن عنده كان فاسداً، وإذا أراه الثياب كان جائزاً، وإذا سمى له جنساً من الثياب.
ذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله في «شرحه» : أن هذا نظير ما لم يرها يعني يكون فاسداً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أنه إن بالغ في بيان الصفة على وجه يصير مقدار عمله معلوماً فهو وإن أراه الثياب سواء فيجوز أن يكون ذلك شمس الأئمة في مسألة القدر والرند تنحى، كقوله في القصار فيتأمل عند الفتوى.
وفي «نوادر ابن سماعه» : عن أبي يوسف رحمه الله: قصار شارطه رجل على أن يقصر له ثوباً مروياً بينهم ورضي به القصار، فلما رأى القصار الثوب قال: لا أرضى به فله ذلك قال: وكذلك الخياط.
والأصل فيه أن كل عمل يختلف في نفسه باختلاف المحل يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل وكل عمل لا يختلف باختلاف المحل لا يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل والقصارة تختلف باختلاف المحل، وكذلك الخياطة فلأجل ذلك أثبتنا خيار الرؤية فيهما.
قال: ثمةولو استأجر رجلاً ليكتل له حنطة، فلما رأى الحنطة قال لا أرضى به فليس له ذلك، وكذلك إذا استأجر رجلاً ليحتجم له بدانق، ورضي به فلما كشف عن ظهره قال لا أرضى به فليس له ذلك لأن العمل هاهنا لا يختلف.(7/416)
ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل استأجر رجلاً بدرهم على أن يحلج له قطناً معلوماً وسماه فهو جائز إذا كان القطن عنده، وكذلك إذا قال قصر لي مائة ثوب مروي جاز إذا كانت الثياب عنده، فالأصل أن الاستئجار على عمل في محل هو عنده جائز والإستئجار على عمل في محل ليس عنده لا يجوز، كما لا يجوز بيع ما ليس عنده قال: وهو بالخيار إذا رأى الثياب ولا خيار له في مسألة القطن، وهو بناء على الأصل الذي قلنا.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل استأجر غلاماً سنة بدار له فاستعمل الغلام ومضت السنة ونظر آجر الغلام إلى الدار ولم يكن رآها فقال لا حاجة لي فيها، قال: له ذلك وله أجر مثل غلامه وفي المسألة نوع إشكال.
ووجهه: أن بالرد بخيار الروية ينفسخ العقد من الأصل وتصير المنافع مستوفاة بلا عقد، فكيف يتقوم والجواب أن الانفساخ لا يظهر في حق المستوفى أو نقول المنافع كما تقوم بالعقد تقوم بالشرط وبالرد بخيار الرؤية لا يتبين أن الشرط لم يكن ويثبت خيار العيب في الإجارة، كما في البيع إلا أن في الإجارة ينفرد المستأجر بالرد قبل القبض وبعد القبض وفي البيع ينفرد المشترى بالرد قبل القبض وبعد القبض يحتاج إلى القضاء أو الرضا.
وروى إبراهيم عن محمد رجل آجر من آخر داراً أشهراً مسماة ببدل معلوم على أنه بالخيار فيها شهر ودفعها إلى المستأجر فسكنها المستأجر قبل إجازة رب الدار الإجارة فلا أجر عليه فيما سكن، وإنما يجب عليه الأجر فيما يسكن بعد إجازة المالك، وجعل الخيار للإجارة كالمعدوم في حق الحكم، كما في باب البيع.
وعن إبراهيم عن محمد أيضاً رجل قال لغيره: استأجرتك اليوم على أن تنقل هذا الليل إلى موضع كذا، وذلك لا ينقل إلا في أيام كثيرة، قال: هذا على اليوم ولا يكون على العمل.
والأصل: أن المستأجر متى جمع بين العمل وبين الإضافة إلى الزمان في العقد، ومثل ذلك العمل بما لا يقدر الأجير على تحصيله في ذلك الزمان، كان العقد على الزمان، وكان استحقاق الأجر معلقاً بتسليم النفس في ذلك الزمان؛ لأن الإجارة نوع بيع فيراعى له كون المبيع مقدوراً عليه.
وفي «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار كل شهر بدرهم على أن أهب لك أجر شهر رمضان، أو قال على أن لا أجر عليك في شهر رمضان، فهذه إجارة فاسدة.
وفيه أيضاً: أجّر حمّاماً سنة ببدل معلوم على أن يحط عنه أجر شهرين للتعطيل، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط بغير مقتضى العقد؛ لأن مقتضاه لا يلزمه أجرة أيام التعطيل شهراً كان أو أكثر أو أقل فتحكمه بحط أجرة شهرين يخالف مقتضى العقد، حتى لو قال: على أن مقدار ما كان معطلاً فلا أجر عليه فيه يجوز لك هذا، يوافق مقتضى العقد ويقرره. وهو نظير ما قال في «الجامع الصغير» إذا اشترى زيتاً على أن يحط عنه(7/417)
لأجل الرق خمسون رطلاً لا يجوز، ولو قال على أن يحط مقدار وزن الرق جاز.
وفيه أيضاً استأجر حماماً على أنه إن نابته نائبة فلا أجر له، فالإجارة فاسدة قال: لأن النائبة إن عرض أو يعرض له شغل فهذا شرط فاسد هكذا ذكر.
ولم يذكر أن الهاء في قوله أن نائبة ضمير الأجير أو ضمير المستأجر فإن كان ضمير المستأجر، فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط يخالف موجب العقد؛ لأن موجب العقد وجوب الأجر إذا سلم الأجير نفسه للعمل مرض المستأجر أو لم يمرض؛ لأن ذلك ليس بعذر هاهنا وإن كان ضمير الأجير فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط انتفاء الأجر بمطلق المرض أو اعتراض الشغل، وذلك قد لا يعجزه عن العمل، وإن أعجزه فموجبه حق الفسخ لا انتفاء الأجر ابتداء أو إن كان موجبه انتفاء الأجر، ولكن مقصود أمده المرض أو الشغل وهو قد يفي الأجرة مطلقاً بالكلية، فلأجل ذلك فسد العقد.
وفيه أيضاً: حانوت احترق، فاستأجره رجل كل شهر بخمسة دراهم، على أن يعمره على أن يحسب صفقة فعمره فهذه الإجارة فاسدة، وإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأن هذا في معنى استئجار والمستأجر بالقيام على (18أ4) العمارة فكان إدخال صفقة في صفقة أخرى؛ ولأن شرط العمارة على المستأجر شرط يخالف قضية الشرع؛ لأن إصلاح الملك على المالك فيوجب فساد العقد، فإن سكن المستأجر الحانوت فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأن الآجر لم يرض بالمسمى وحده، وللمستأجر النفقة التي أنفقها في العمارة وأجر مثله في قيامه على العمارة لما ذكرنا أن اشتراط العمارة على المستأجر في معنى استئجار المستأجر للقيام عليها أكثر ما فيه أن هذا عقد فاسد، إلا أن المنافع تتقوم بالعقد الفاسد.
وفيه أيضاً: خانٌ بعضه خراب وفيه حوانيت عامرة استأجر رجلاً العامرة كل شهر بخمسة عشر، والخراب كل سنة بخمسة على أن يعمر الخراب بما له، ويحسب نفقته من جملة الأجر، فاعلم بأن استئجار الخراب ليعمره وينتفع به بعد ذلك فاسداً، إذا شرط أن تكون العمارة للآجر لما مر وللمستأجر على المؤاجر نفقته، وأجر مثله فيما عمل وللمؤاجر أن يسترد الحوانيت الذي عمرها المستأجر منه لمّا فسدت الإجارة.
وأما الحوانيت العامرة فالإجارة فيها جائزة لعدم المفسد.
وفيه أيضاً: أجر من آخر مرجلاً شهراً ليطبخ فيه العصير، واشترط على المستأجر أن يحمله إلى منزل المؤاجر عند الفراغ، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط يخالف مقتضى العقد والشرع؛ لأن موجب العقد أن يكون رد المستأجر على الآجر، وهذا الحكم لا يختص بالرجل؛ لأن رد المستأجر على المؤاجر في المواضع كلها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فاشتراطه على المستأجر في أي موضع شرط موجب فساد الإجارة، قال: وإن لم يشترط ذلك على المستأجر لا تفسد الإجارة، وإذا فرغ من عمله قبل مضي الشهر فعليه الأجر إلى تمام الشهر، وإن كان استأجر كل يوم بكذا فإذا فرغ من عمله سقط الأجر عنه ردها إلى صاحبها أو لم يردّها؛ لأن العمل على صاحبها عند الفراغ.(7/418)
وفيه أيضاً: رجل استأجر حياتاً وكيزاناً وقال له المؤاجر: ما لم تردها علي صحيحة، فلي عليك كل يوم درهم فقبضها قال: الإجارة في الحيات فاسدة وفي الكيزان جائزة، يريد به إذا سمى للحيات أجراً معلوماً، وسمي للكيزان أجراً معلوماً فيجب للكيزان المسمى وفي الحيات أجر المثل، وإنما فسدت الإجارة في الحيات؛ لأن لها حمل ومؤنة وما له حمل ومؤنة فاشتراط رده على المستأجر يوجب فساد الإجارة.
وأما الكيزان فليس لها حمل ومؤنة فاشتراط ردها على المستأجر لا يوجب فساد الإجارة؛ لأن اشتراط ردها يقع لغواً؛ لأنه لا يجري فيه المماكسة إذا لم يكن له حمل ومؤنة.
وقيل: بفساد الإجارة في الكيزان أيضاً لأن رد المستأجر على الأجير على كل حال فاشتراطه على المستأجر اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة لأنه تجري المماكسة في حمل الكيزان وردها خصوصاً إذا كثرت، وقيل: لا تفسد الإجارة في الكيزان إلا إذا علم أن لها حمل ومؤنة تجري المماكسة في حملها ونقلها.
وفي «الأصل» رجل يكاري من رجل داراً منه على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، فإن رضيها أخذها بمئة درهم وإن لم يرضها أخذها بخمسين درهماً، فذلك فاسد لوجهين: أحدهما أنهما صفقتان في صفقة أو شرطان في عقد واحد، وكل ذلك لا يجوز والثاني أن الأجر مجهول، فإنه مئة إن رضيها وخمسون إن لم يرضها ولا يدري أيرضاها أو لا يرضاها.
فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر منزلاً على أنه إن قعد فيه خياطاً فأجره كل شهر عشرة، وإن قعد فيه حداداً أو قصاراً أو طحاناً فأجر كل شهر عشرون فإن الإجارة جائزة على قول الآجر، وهنا قال: لا يجوز.
والفرق: أن هناك الإجارة وقعت على منفعتين مختلفتين، وسمي لكل واحدة بدلاً معلوماً وشرط لنفسه الخيار وهذا جائز في بيع العين، فإنه لو اشترى عبدين على أنه بالخيار، إن اختار هذا أخذه بألفين وإن اختار هذا أخذه بألف فهو جائز، وكذلك في الإجارة فإنه إذا دفع إلى خياط ثوباً على أنه إن خاطه رومياً فله درهم، وإن خاطه فارسياً فله نصف درهم، فذلك جائز فكذا هاهنا.
أما في هذه المسألة أوقع العقدين على صفقة واحدة ببدلين مختلفين على أنه بالخيار.
ومثل هذا لا يجوز في بيع العين فإنه لو اشترى عبداً على أنه بالخيار إن رضيه أخذه بألف درهم وإن لم يرضه أخذه بخمسمئة كان العقد فاسداً، فكذا في بيع المنفعة فإن سكنها وجب عليه أجر المثل في ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام أما بعد ثلاثة أيام فلأنه سكنها بحكم العقد، وأما في ثلاثة أيام؛ فلأن الفاسد من المعقود معتبر لتصبح الإجارة صحيحة، وللمستأجر فيه خيار إذا سكنها في الأيام الثلاثة وجب عليه الأجر وكانت السكنى منه دليل الاختيار كذا إذا كان فاسداً ولا يضمن ما انهدم من سكناه لا في مدة(7/419)
الخيار، ولا بعد مضي مدة الخيار وليس لأحدهما فيه خيار الشرط فكان معتبراً بالصحيح من الإجارة التي ليس لأحد فيها خيار ولا يضمن ما انهدم من سكناه في مدة الخيار لأن الفاسد من المعقود معتبر بالصحيح.
ولو كانت الإجارة جائزة والخيار فيها للمستأجر إذا سكن في مدة الخيار وانهدم الدار من سكناه لم يضمن؛ لأن بالسكنى سقط خياره وملكا عندهم جميعاً فصار مستوفياً بحكم الإجارة فلم يضمن ما انهدم من سكناه فكذلك هذا.
كما في بيع العين إذا كان المشتري بالخيار وقبض ما اشترى وهلك شيء مما في يده لزمه البيع، وكان عليه الثمن كذا هاهنا وهذا بخلاف ما لو كان الخيار مشروطاً لصاحب الدار، فإنه يضمن المستأجر قيمة ما انهدم من سكناه في مدة الخيار، كما في بيع العين إذا هلك شيء في يد المشتري وكان الخيار للبائع، فإنه يضمن قيمة ذلك كما لو كان غاصباً فكذلك هذا.
وإن قال: لنا بالخيار ثلاثة أيام فإن رضيتها أخذتها بمئة درهم كانت الإجارة جائزة، لأن البدل معلوم إلا أنه شرط فيها خيار وصار الشرط مما لا يفسد عقد الإجارة عندنا.
وقال الشافعي: بأنه يفسدها وذهب في ذلك إلى أن خيار الشرط في الإجارة يجعل الإجارة بمعنى المضاف؛ لأن الخيار متى سقط لا يقع الملك من وقت العقد؛ لأن ما وجد من المنافع في مدة الخيار بثلاث، وإنما يقع من حين سقوط الخيار فيصير بمعنى المضاف ومن مذهبه أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي لا يجوز بخلاف البيع؛ لأن البيع قائم وقت سقوط الخيار، فلا يصير بمعنى المضاف.
وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أنه من كأنه يصير بمنزلة المضاف إلى وقت سقوط الخيار إلا أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي جائز عندنا؛ لأن الإجارة مما يتحدد انعقادها على حسب حدوث المنافع في نفسها فيصير مضافاً من حيث الاعتبار فتصير المسألة على هذا فرعاً لتلك المسألة، فإن سكنها في ثلاثة أيام فقد لزمته الإجارة وكان عليه أجر ما سكن ولا ضمان عليه فيما انهدم قالوا: أورد هذه المسألة عقيب الأولى ليثبت حكم إجارة صحيحة شرط فيها الخيار للمستأجر حتى يعتبر الفاسد به رجل استأجر ثوراً من رجل ليطحن عليه كل يوم عشرين قفيراً فوجده المستأجر لا يطحن إلا عشرة أقفرة كان المستأجر بالخيار، وإن شاء رضي به كذلك وإن شاء رد؛ لأنه لم يسلم له شرط منتفع به فيتخير.
كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فوجده غير كاتب وغير خباز فإن (18ب4) رضي به لزمه أجر كل يوم بتمامه كما في بيع العين إذا رضى بالعبد كذلك غير كاتب وغير خباز لزمه جميع الثمن، وإن كان عليه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه ولا يحط عنه شيء بسبب النقصان عن العمل؛ لأن الإجارة وقعت على الوقت، ولهذا يستحق الأجر وإن لم يطحن عليها شيئاً وكان ذكر المقدار لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله لا لتعليق(7/420)
به، وإذا كان العقد واقعاً على الوقت لا على العمل يوزع الأجر على الأيام لا على العمل فلزمه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه.h
الفصل السادس: في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر
الأصل إن الإجارة إذا وقعت على أحد شيئين وسمى لكل واحد أجراً معلوماً بأن قال: أجرتك هذه الدار بخمسة أو هذه الأخرى بعشرة أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو بستانين مختلفتين نحو أن يقول: إلى واسط بكذا أو إلى الكوفة بكذا، فذلك كله جائز عند علمائنا.
وكذلك إذا خيره بين ثلاثة أشياء وإن ذكر أربعة أشياء لم يجز، وكذلك هذا في أنواع الصبغ والخياطة إذا ذكر ثلاثة جاز، فإن زاد عليها لم يجز استدلالاً بالبيع؛ وهذا لأن عقد الإجارة تسامح فيها من يحمل الجهالة والخطر ما لا يتحمل في البيع، فإذا جاز في البيع إلى ثلاثة فلأن يجوز في الإجارة أولى.
إلا أن فرق ما بين الإجارة والبيع أن الإجارة تصح من غير شرط الخيار والبيع لا يصح من غير شرط الخيار، حتى إن من باع أحد العينين لا يجوز إلا بشرط الخيار وإجارة أحد الشيئين يجوز من غير شرط الخيار.
والفرق: أن الأجرة لا تجب بنفس العقد وإنما تجب بالعمل فإذا أخذ في أحد العملين صار البدل معلوماً عند وجوبه بخلاف البيع؛ لأن الثمن يجب بنفس العقد وإنه مجهول أو نقول عقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف، وإنما ينعقد عند إقامة العمل وعند ذلك لا جهالة بخلاف البيع؛ لأن عقد البيع لازم في الحال وفي الحال الجهالة مستحقة ولو قال للخياط إن خطته فارسياً فلك درهم وإن خطته رومياً فلك درهمان، أو قال للصباغ: إن صبغته بعصفر فلك درهمان وإن صبغته بزعفران فلك درهم فهذا جائز، لما ذكرنا أن الأجرة حال وجوبها تصير معلومة.
ولو قال: أجرتك هذه الدار على أنك إن قعدت فيها حداداً فالأجر عشرة، وإن قعدت فيها خياطاً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآجر، وقال أبو يوسف ومحمد الإجارة فاسدة لأن الأجر هاهنا لا يجب بالسكنى بل بالتخلية.
ألا ترى أنه لو لم يسكن الدار بعدما خل الآجر بينه وبين الدار يجب الأجر بالتخلية كان الأجر مجهولاً وقت الوجوب؛ لأنه لا يدري أن التخلية وقعت للحدادة فيجب عشرة أو للخياطة فيجب خمسة بخلاف الرومي والفارسي؛ لأن هناك الأجر لا يجب إلا بالعمل والعمل بعد وجوده معلوم في نفسه فكان الأجر معلوماً حالة الوجوب.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: على قوله الآخر الأجرة لا تملك بنفس العقد عندنا، وإنما تملك بالعمل وحالة العمل الأجرة معلومة.
وعلى هذا إذا أجر دابة من إنسان إلى(7/421)
مكان معلوم على أنه إن حمل عليها حنطة فالأجر عشرة وإن حمل عليها شعيراً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآخر خلافاً لهما.
وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى مكان معلوم على أنه إن حمل عليها هذه الحمولة فالأجر عشرة وإن ركبها فالأجر خمسة فالعقد جائز في قول أبي حنيفة خلافاً لهما مما قالا، بأن الأجر قد يجب بدون الركوب.
ألا ترى أنه لو ساقها ولم يركبها وقد شرط في العقد الركوب يجب الأجر، وكذلك إذا ساقها ولم يحمل عليها وقد شرط في العقد الحمل يجب الأجر، فإذا ساقها وقد شرط في العقد ما وضعت لك من الركوب أو الحمل لا يدري ما يعطيه من الأجر، ولأبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالعمل وحال وجوده الأجر معلوم.
واختلفت عبارة المشايخ على قول أبي حنيفة في تخريج مسألة الدابة والدار إذا سلم الدار ولم يسكن وإذا سلم الدابة ولم يحمل عليها شيئاً ولم يركبها.
بعضهم قالوا: يجب أقل المسميين؛ لأن التسليم لا يكون لهما وإنما يكون لأحدهما فمتى جعلناه للخياطة أو للشعير أو للركوب فالخمسة واجبة، ومتى جعلناه للحدادة أو للحنطة أو للحمل، فالعشرة واجبة والخمسة منتفية، وما زاد عليها مشكوك والمال لا يجب بالشك.
وإذا كان كذلك كان موجب هذا العقد خمسة متى وجب الأجر بالتسليم بدون العمل، والمسمى بمقابلة كل منفعة إن وجد استيفاء المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب.
وبعضهم قالوا: إذا وجد التسليم ولم يوجد استيفاء المنفعة يجعل التسليم لهما إذ ليس أحدهما بأن يجعل التسليم له بأولى من الآخر فيجعل النصف لهذا والنصف للآخر فيجب نصف أجر الحدادة ونصف أجر القصارة ونصف أجر الحمل ونصف أجر الركوب، إذا وجب هكذا صار موجب هذه الإجارة سبعة ونصف متى وجب الأجر بالتسليم بدون استيفاء المنفعة، وإن وجد استيفاء المنفعة يجب المسمى بمقابلة تلك المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب.
قال في «الجامع الصغير» : إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بنصف درهم، فإن جاوزتها إلى القادسية فدرهم فهو جائز، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف، فيحتمل أن يكون هذا قول الكل ويحتمل أن يكون قول أبي حنيفة خاصة كما في المسائل المتقدمة.
وذكر الكرخي مثل هذه المسألة وفصّل الجواب فيها تفصيلاً.
وصورة ما ذكر الكرخي: إذا استأجر دابة من بغداد إلى القصر بخمسة وإلى الكوفة بعشرة، فإن كانت المسافة إلى القصر نصف المسافة إلى الكوفة فالعقد جائز وإن كان قأل أو أكثر فالعقد فاسد، وهذا لأن المسافة إلى القصر إذا كانت نصف المسافة إلى الكوفة فحال ما يسير فالأجر معلوم، وهو خمسة إلى القصر جاوز القصر أو لم يجاوز، فأما إذا(7/422)
كانت المسافة إلى القصر أقل من النصف أو أكثر فحال ما يسير الأجر مجهولاً؛ لأنه إذا لم يجاوز القصر فالأجر خمسة وإن جاوز فالأجر إلى القصر بقدر حصته وذلك دون الخمسة أو فوقها فكان الأجر مجهولاً حال سبب الوجوب، وهذا على «أصل» محمد؛ لأن عنده جهالة الأجر عند وجود سبب الوجوب يفسد العقد، فأما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فالعقد جائز والوجه ما ذكرنا.
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : أن من أجر دابة على أنه إن أتى عليها الكوفة فبعشرة وإن أتى القصر وهو المنتصف فبخمسة فهو جائز قال: وإن قال: وإن القصر وهو المنتصف فبستة لا يجوز قال: لأنه إذا أتى القصر لا يدري ما عليه ست أو خمسة.
كتب ابن سماعة إلى محمد رحمه الله: في رجل استأجر رجلاً على عدل قطن وعدل هروي وقال احمل أي هذين العدلين شئت إلى منزلي على أنك إن حملت القطن فلك أجر درهم، وإن حملت الهروي فلك أجر درهمين، فحمل الهروي والقطن جميعاً إلى منزله فالإجارة جائزة، وأيهما حمل أول مرة فهو الذي ألقاه الإجارة وهو متطوع في حمل الآخر ضامن له إن ضاع في قولهم جميعاً؛ وهذا لأن الإجارة وقعت في أحدهما لا بعينه فإذا حمل أحدهما بعين هو معقوداً عليه وانتهت الإجارة بحمله فيكون متطوعاً في حمل الآخر ضرورة، وهو ضامن للآخر إن ضاع في يده؛ لأن حمل الآخر حصل بغير إذن وإن حملهما جملة فعليه نصف أجر كل واحد منهما وعليه ضمان نصف كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واشترك كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واعتبر كل واحد منهما معقوداً عليه من وجه دون وجه ونصف الحملان عنده.
ألا ترى كيف ينصف الأجر بلا خلاف. وعلى قولهما خمنهما إن ضاعا؛ لأنه انعقد سبب الضمان على حق كل واحد منهما وهو القبض في أوانه. (19أ4)
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: إذا قال لغيره: إن حملت هذه الخشبة إلى موضع كذا فلك درهم، وإن حملت هذه الخشبة الأخرى إلى ذلك الموضع فلك درهمان، فحملهما حملة إلى ذلك الموضع، فله درهمان أوجب أكثر الأجرين بكماله وإنه يخالف رواية ابن سماعة في العدلين.
ولو قال للخياط: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فالشرط الأول صحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله، حتى إنه لو خاطه في اليوم الأول وجب له درهم والشرط الثاني فاسد حتى لو خاطه في اليوم الثاني يجب أجر المثل.
وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان حتى لو خاطه في اليوم الأول فله درهم ولو خاطه في اليوم الثاني فله نصف درهم.
وقال زفر رحمه الله: الشرطان باطلان هكذا ذكر المسألة في «الجامع الصغير» .
وذكر في إجازات «الأصل» : إذا دفع الرجل إلى رجل ثوباً ليخيطه له قميصاً وقال له: إن خطته اليوم فلك درهم وإن لم تفرغ منه اليوم فلك نصف درهم، وذكر الخلاف على نحو ما ذكر في «الجامع الصغير» حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفار أنه قال:(7/423)
الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» أما على ما هو موضوع كتاب الإجارات ينبغي أن تفسد الإجارة في اليوم والغد جميعاً بلا خلاف.
ووجه ذلك، لأن هذا عقد واحد شرط فيه شرط فاسد ومثل هذا الشرط لا يوجب فساد الإجارة.
بيانه: أن قوله وإن لم تفرغ منه اليوم ليس بإجارة على حدة لأنه مما لا تبتدأ به الإجارة فتكون شرطاً مشروطاً في الإجارة المضافة إلى اليوم، وإنه شرط فاسد؛ لأنه يوجب تغير الأجر الواجب في اليوم إلى النقصان؛ لأنه متى خاط نصف الثوب في اليوم مثلاً يجب نصف الأجر قضية للعقد المضاف إلى اليوم، وإذا لم يخط الباقي اليوم يصير أجر ذلك النصف ربعاً بعد أن كان نصفاً.
فهو معنى قولنا هذا عقد واحد فيه شرط فاسد بخلاف قوله: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم؛ لأنهما إجارتان؛ لأن قوله وإن خطته غدا مما تبتدأ به الإجارة لم يشترط في أحدهما شرط فاسد فعلم أن الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» فرق أبو حنيفة بين هذه المسألة.
وبينما إذا قال له: إن خطته تركية أو رومية فلك درهم وإن خطته فارسية فلك نصف درهم، فإن هناك يجوز الشرطان بلا خلاف.
والفرق: أن في مسألة اليوم والغد علقا استحقاق نصف درهم بفوات العمل في اليوم وموجود العمل في الغد؛ لأن كلمة إن للشرط وتعليق الأجرة بالعمل في الغد إن كان يصح؛ لأنه تعليق البدل بإيفاء المعقود عليه فتعليقها بفوات العمل لا يصح كتعليقها بشرط آخر، فأما في اليوم استحقاق الأجرة معلق بإيفاء المعقود عليه، وهذا لا يوجب فساد العقد وفي التركية والفارسية ما علق الأجر بفوات شيءولا بوجوده فإنه يقدر أن يشتغل للحال بأي عمل شاء فيصير الأجر معلوماً.
أما في المسألة اليوم والغد لا يقدر أن يشتغل بالعمل في الغد، إلا بفوت اليوم وفوات العمل في اليوم فيتعلق استحقاق نصف درهم بالشرط فيفسد العقد، فيجب أجر المثل في اليوم الثاني فإن خاطه في الغد فله أجر مثله لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم فهذا يشير إلى أنه يجوز أن يراد على نصف درهم، وهو رواية الأصل «والجامع الصغير» .
وروى ابن سماعه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن له أجر مثله لا يزاد على نصف درهم، فصار عن أبي حنيفة في المسألة روايتان وصحح القدوري رواية ابن سماعه، ولو خاطه في اليوم الثالث فله أجر مثله في قولهم، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في ذلك روي عنه أنه لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم وروي عنه رواية أخرى أنه لا يجاوز به نصف درهم وينقص عن نصف درهم إن كان أجر مثله أقل من نصف درهم.
واختلفت الروايات في ذلك عنهما أيضاً قال القدوري: في «شرحه» والصحيح عندهما أنه ينقص عن نصف درهم ولا يزاد عليه، ولو قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلا أجر لك.(7/424)
قال محمد في «الأصل» : إن خاطه في اليوم الأول فله درهم وإن خاطه في اليوم الثاني فله أجر مثله لا يزاد على درهم في قولهم جميعاً؛ لأن إسقاط الأجر في اليوم الثاني لا ينفي وجوبه في اليوم الأول ونقي التسمية في اليوم الثاني لا ينفي أصل العقد، فكان في اليوم الثاني عقد لا تسمية فيه فيجب أجر المثل هذا الذي ذكرنا إذا جمع بين الأمرين، فأما إذا أفرد العقد على اليوم بأن قال: أن خطته اليوم فلك درهم ولم يزد على هذا فخاطه في الغد، هل يستحق الأجر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب.
وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: إن على قولهما يستحق أجر المثل متى خاطه في الغد بلا شبهة وبمثل؛ لأن ذكر اليوم عندهما حالة الانفراد للاستعجال لا للتوقيت، ولهذا صحت هذه الإجارة عندهما حالة الانفراد عل ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا كان ذكر الوقت حالة الانفراد عندهما للاستعجال لا للتوقيت، كان العقد ثابتاً في الغد على قولهما بلا بمثل فيكون عاملاً بحكم الإجارة فيستحق الأجر إلا أنه يستحق أجر المثل دون المسمى؛ لأن المستأجر إنما شرط له الدرهم بأداء خياطة معجلة في اليوم، وقد أتى بخياطة مؤجلة والخياطة المؤجلة أنقص عن الخياطة المعجلة من حيث المعنى، فكأنه أتى بما لقرنه في الغد ولكن خالفه في صفة من أوصاف ما لقرن ولو كان كذلك كان لصاحب الثوب أن يعطيه أجر المثل دون المسمى حتى يدفع ضرر النقصان عن نفسه كذا هاهنا.
وأما على قول أبي حنيفة: فلقائل أن يقول: بأنه لا أجر له متى عمل في الغد؛ لأن أبا حنيفة رضى الله عنه يجعل ذكر العمل اليوم للتوقيت حالة الانفراد حتى قال بفساد هذه الإجارة لأنه باعتبار التوقيت تكون الإجارة منعقدة على تسليم النفس في المدة وباعتبار ذكر العمل تكون الإجارة منعقدة على العمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً.
وإذا ثبت هذا من مذهبه حالة الانفراد فيقول بأحد الاعتبارين وهو اعتبار العقد على العمل يجب الأجر إذا عمل في الغد، وباعتبار الأجر وهو التأقيت لا يجب الأجر؛ لأنه لم يبق العقد وأنه لم يكن واجباً فلا يجب بالشك والاحتمال ولقائل أن يقول: بأن عليه الأجر؛ لأن العقد منعقد في اليوم أي الأمرين ما اعتبرنا إلا أن بأحد الاعتبارين يبقى في الغد، وباعتبار الآخر لا يبقى والعقد كان ثابتاً فلا يرتفع بالشك وإذا نفي العقد كان قابلاً في الغد بحكم العقد، إلا أنه يجب أجر المثل؛ لأن العقد في الغد يبقى بوصف الفساد؛ لأنه يبقى من وجه دون وجه، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع المقايضة إذا هلك أحد البدلين فإنه يبقى العقد ولكن وصف الفساد كذا هاهنا فكأن المنافع في الغد مستوفاة بحكم عقد فاسد، فيجب أجر المثل.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا جمع في عقد الإجارة بين الوقت والعمل.(7/425)
قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» : رجل استأجر خبازاً ليخبز له هذه المحاسم دقيق هذا اليوم بدرهم فهو فاسد.
وفي إجارات «الأصل» عن أبي يوسف ومحمد أنه جائز هما يقولان تصحيح العقود واجب ما أمكن وقد أمكن بأن يجعل العقد واقعاً على العمل وهو الخبز فيكون أجير مشترك، وهذا لأنه أوقع العقد على العمل ابتداء وقوله اليوم وإن كان ذكر الوقت إلا أنه يحتمل أنه أراد به إيقاع العقد على المنفعة فيكون أخر وحل فيفسد العقد لجهالة المعقود عليه، وتحمل أنه قصد بذكر الوقت الاستعجال لا إيقاع العقد على المنفعة فيبقى أجير مشترك فيصح العقد (19ب4) فيحمل ذكر اليوم على سبيل الاستعجال تصحيحاً للعقد بقدر الممكن.
وأبو حنيفه رحمة الله عليه يقول: المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه تمنع جواز العقد.
بيانه: إن ذكر الوقت يدل على أن المعقود عليه المنافع إذ الوقت يختص بتقدير المنافع، وذكر العمل في الابتداء يدل على أن المعقود عليه العمل والجمع بينهما غير ممكن؛ لأن العمل متى جاز معقوداً عليه لا يجب إلا بالعمل ومتى صار المعقود عليه المنفعة يجب الأجر بتسليم النفس وأغراض الناس مختلفة فيجهل المعقود عليه وإنه يوجب فساد العقد.
وقولهما: بأن ذكر الوقت للتعجيل فيه نظر؛ لأن أغراض الناس ورغباتهم مختلفة قد يكون الغرض إيقاع العقد على المنفعة فلا يترجح أحدهما مع المماثلة في النوعية من غير دليل.
وفي إجارات «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر ثوراً يطحن عليه كل يوم عشرين قفيزاً فهذه الإجارة جائزة، ولم يذكر فيها خلافاً فمن مشايخنا، من قال: هذا الجواب يجب أن يكون قولهما، أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن تفسد الإجارة على قياس مسألة الخبز؛ لأنه جمع بين الوقت والفعل في المسألتين جميعاً فكان المعقود عليه محهولاً.
ومنهم من قال: لا بل هذه الإجارة جائزة على قول الكل فهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين مسألة الخبز.
والفرق هو: أن ذكر مقدار العمل في باب الطحن في العرف والعادة لا يكون لتعليق العقد بالعمل حتى يصير العمل معقوداً عليه مع الوقت، فيوجب فساد الإجارة للجهالة، وإنما يكون لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله، وإذا كان لهذا يذكر في العرف والعادة بقيت الإجارة على الوقت، فجاز عندهم جميعاً، فأما في الخباز مقدار العمل لا يذكر عرفاً وعادة لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، وإنما يذكر لتعليق العقد بالعمل وصيرورته معقوداً عليه، فيصير جامعاً بين الوقت والعمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً فأوجب فساده حتى أن في مسألة الخباز لو كان يذكر مقدار العمل لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، تقول بجواز الإجارة على قول أبي حنيفة وفي مسألة الطحن لو كان يذكر مقدار العمل لتعليق العقد به(7/426)
نقول بأنه لا تجوز الإجارة على قول أبي حنيفة.
وفي «الأصل» أيضاً: لو شرط على الخباز أن يخبز له هذه العشرة المحاسم دقيق، وشرط عليه أن يفرغ منه اليوم تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً.
وإن ذكر الوقت والعمل فأبو حنيفة رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى.
والفرق: أن في مسألة الفراغ اليوم ما ذكر مقصوداً وإنما ذكر الإثبات صفة في العمل وهو الفراغ منه في اليوم وصفة العمل تبع للعمل لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فكذا ما ذكر لأجله من اليوم لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فيعين العمل معقوداً عليه فجاز.
بمنزلة ما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فإن الكتابة والخبازة لا تجعل معقوداً عليه مقصوداً حتى لا يكون بإزائها ثمن؛ لأنها ذكرت صفة للعبد فكانت تبعاً فكذا هاهنا فأما في تلك المسألة اليوم لم يذكر لإثبات صفة في العمل فكان مذكوراً مقصوداً كالعمل، وقد أضيف العقد إليهما إضافة على السواء ليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه بأولى من الآخر فيصير المعقود عليه مجهولاً.
قال في «الأصل» أيضاً: وإذا دفع الرجل عبده إلى حائك يعلمه النسيج وشرط عليه أن يحدقه في ثلاثة أشهر بكذا وكذا، فهذا لا يجوز؛ لأن التحديق ليس في وسعه وكان ينبغي أن يجوز هذا العقد على قولهما، وإن لم يكن التحديق في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة كما لو استأجره يوماً ليبيع ويشتري، فإنه يجوز وإن لم يكن ذلك في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة.
والجواب وهو الأصل من جنس هذه المسائل عندهما أن العقد على المدة، إنما يصح عندهما إذا ذكر مع المدة نوعاً من العمل معلوماً في نفسه كما في البيع والشراء، فإنه معلوم في نفسه إلا أنه من غير ذكر المدة لا يجوز العقد؛ لأن من غير ذكر المدة العقد يقع على العمل، والعمل ليس في وسعه، وإذا ذكر المدة فالعقد يقع على تسليم النفس في المدة لهذا العمل، وذلك في وسعه.
قلنا: والتحديق ليس بمعلوم في نفسه؛ إذ ليس له حد يعرف به لا للأقصى ولا للأدنى وإذا لم يكن معلوماً في نفسه صار ذكره والعدم بمنزلة، ولو انعدم ذكر العمل أليس أنه لا تجوز الإجارة.
والأصل عند أبي حنيفة: أنه إذا جمع بين الوقت والعمل في عقد الإجارة إنما يفسد العقد إذا ذكر كل واحد منهما على وجه يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد الوقت والعمل، أما إذا ذكر العمل على وجه لا يجوز إفراد العقد عليه لا يفسد العقد.(7/427)
بيانه فيما ذكر في آخر باب إجارة البناء: إذا تكارى رجل رجلاً يوماً إلى الليل ليبني له بالجص والآجر جاز بلا خلاف، وإن جمع بين الوقت والعمل؛ لأنه ما ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، فالعقد انعقد على المدة وكان ذكر البناء لبيان نوع العمل حتى لو ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، بأن بين مقدار البناء لا تجوز الإجارة عند أبي حنيفة.
وفي آخر إجارات «الأصل» إذا استأجر الرجل رجلاً كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزاً إلى الليل فهو فاسد، ذكر المسألة من غير ذكر خلاف وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة؛ لأنه جمع بين الوقت وبين العمل وكل واحد منهما يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد مشكل على قولهما، فقد ذكرنا قبل هذا في جنس هذه المسألة أن على قولهما العقد جائز.m
فمن مشايخنا من قال بهذه المسألة ثبت رجوعهما إلى قول أبي حنيفة إذ لا يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل، ومنهم من قال: ما ذكر في هذه المسألة قياس قولهما، وما ذكر فيما تقدم استحسان على قولهما، إذ لا فرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «إملائه» : قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اكترى إبلاً إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل بعير بعشرة دنانير، ولم يزد على هذا فالإجارة جائزة فإن وفى بالشرط أخذ الأجر الذي شرط وإن لم يفي بالشرط فله أجر مثله لا يزاد على ما شرط له، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وروى بشر عن أبي يوسف: في الرجل يستأجر الدابة إلى الكوفة أياماً مسماة أو قال استأجرتك اليوم لتخيط هذا القميص، فالعقد فاسد في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة تخالف رواية محمد عنه.
قال الكرخي: وليس في المسألتين اختلاف الرواية، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع موضوع رواية محمد أنه ابتدأ بذكر العمل والمسير فيكون المقصود هو العمل وذكر المدة بعد ذلك للاستعجال، فكان المعقود عليه معلوماً وهو العمل فيجوز على قول أبي حنيفة رحمه الله فبعد ذلك إذا عجل فقد وفى بالشرط فاستحق المسمى، وإذا لم يعجل فلم يف بالشرط فيجب أجر المثل وموضوع رواية محمد أنه ذكر المدة أولاً فعلم أن المدة مقصودة بالعقد، وذكر العمل وأنه يصلح مقصوداً أيضاً فكان المعقود عليه مجهولاً عند أبي حنيفة فلم يجز.
وقد ذكرنا في أول هذا الفصل مسألة «الجامع الصغير» : وهي ما إذا استأجر خبازاً ليخبز له هذه العشرة المحاسيم دقيق هذا اليوم أنه فاسد على قوله، وإن ابتدأ بذكر العمل، فعلم أن ما ذكره الكرخي ليس بصحيح، وأن في المسألة روايتين على قول أبي حنيفة.
وقد قيل: الفتوى على قول أبي حنيفة على الفساد سواء ابتدأ بذكر المدة أو بذكر(7/428)
العمل إذا لم يتم العقد على المذكور أولاً، بأن لم يذكر الأجر معه، فأما إذا تم العقد على المذكور أولاً بأن ذكر الأجر معه، ثم ذكر الثاني لا يفسد العقد عند أبي حنيفة سواء ابتدأ بذكر العمل أو بذكر المدة، (20أ4) .
وصورة ذلك إذا قال للخباز: استأجرتك اليوم بدرهم على أن تخبز لي كذا، أو قال: استأجرتك على أن تخبز لي كذا بدرهم اليوم، فهذه الإجارة جائزة عند أبي حنيفة في الوجهين جميعاً، ولو قال: استأجرتك اليوم على أن تخبز لي كذا بدرهم، أو قال: استأجرتك على أن تخبز اليوم كذا بدرهم فهذه الإجارة عند أبي حنيفة لا تجوز في الوجهين جميعاً؛ وهذا لأنه إذا لم يذكر الأجر مع الأول وإنما ذكر الأجر بعد ذكرهما فقد قابل الأجرتين كل واحد منهما يصلح معقوداً عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً يفسد العقد عنده، وأما إذا ذكر الأجر مع الأول، فقد تم العقد وتعين الأول مراداً من العقد بتمام العقد فالثاني لا يصلح من إجماله، ويكون ذكر الثاني إما لتعيين العمل أو للتعجيل فلا يفسد العقد عنده.
وروى محمد عن أبي حنيفة: أنه إذا قال: في اليوم تجوز كيف ما كان بخلاف ما إذا قال: اليوم، وهذا لأن بقوله في اليوم يظهر أن مراده من ذكر المدة للاستعجال؛ لأن في الظرف والمظروف قد يستعمل جزءاً من الظرف لا جميعه، فلم يصلح ذكر اليوم مع حرف في تقدير العمل به.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تقبل الرجل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع إلى اثنى عشر يوماً بكذا، فلم يحمله في اثنى عشر يوماً بل حمله في أكثر من ذلك قال: لا يلزمه الأجر، كمن استأجر رجلاً على أن يخيط ثوبه في يومه بدرهم فخاطه في الغد، وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة غير مستقيم على قولهما؛ لأن من أصلهما: أن العقد في مثل هذا يقع على العمل دون الوقت.
الفصل السابع: في إجارة المستأجر
قال محمد رحمه الله: وللمستأجر أن يؤاجر البيت المستأجر من غيره، فالأصل عندنا: أن المستأجر يملك الإجارة فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به؛ وهذا لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمستأجر في حق المنفعة قام مقام الآجر، وكما صحت الإجارة من الآجر تصح من المستأجر أيضاً فإن أجره بأكثر مما استأجره به من جنس ذلك ولم يزد في الدار شيء ولا أجر معه شيئاً آخر من ماله مما يجوز عند الإجارة عليه، لا تطيب له الزيادة عند علمائنا رحمهم الله وعند الشافعي تطيب له الزيادة.
حجته في ذلك: أن هذا ربح بما قد ضمن فيطيب له كما في بيع العين.
فإنه إذا اشترى شيئاً فباعه بأكثر مما اشترى بعد القبض فإنه يطيب له الربح لأنه ربح؛ بما قد ضمن فكذلك هاهنا.(7/429)
بيانه: أن الضمان من حكم القبض، وقبض المستأجر الثاني بمنزلة قبض المستأجر الأول، ولهذا وجب الأجر على الأول كما لو حدثت المنافع في قبضه، وإذا ناب قبض الثاني عن قبض الأول كانت المنافع حادثة في ضمان الأول فيكون ربح ما قد ضمن من وجه وربح ما لم يضمن من وجه فتحل من وجه ولا تحل من وجه فيرجح جانب الحرمة احتياطاً.
بيانه: أن قبض الثاني قبض الأول حكماً فإن الأجرة تجب عليه وليس يقبض الأول حقيقة فإن المنافع لم تحدث في يد الأول حقيقة فالقبض وجد من وجه ولم يوجد من وجه والضمان حكم القبض فيكون ثابتاً من وجه غير ثابت من وجه.
ونظير هذا ما قالوا: فيمن اشترى عبداً قيمته ألف درهم بألف درهم؛ فقتل قبل القبض خطأ، فاختار المشتري اتباع القاتل، وأخذ منه ألفي درهم فإنه يتصدق بألف درهم لأنه ربح ما لم يضمن من وجه وربح ما قد ضمن من وجه لأن القبض وجد من حيث الحكم لما اختار اتباع القاتل ولهذا تأكد عليه الثمن كما لو قتل نفسه ولكن من حيث الحقيقة لم يوجد القبض فلما وجد القبض من وجه دون وجه كان الضمان الذي هو حكم القبض ثابتاً من وجه دون وجه فيحل من وجه دون وجه فلا يحل احتياطاً، وأما (إذا) زاد في الدار شيئاً بأن جصّصها أو طينها أو ما أشبه ذلك أو أجر مع ما استأجر شيئاً من ماله يجوز أن يعقد عليه عقد الإجارة وتطيب له الزيادة، لأن زيادة الأجر تجعل بإزاء منفعة الزيادة وإذا ما أجر من ماله احتيالاً للطيبة، وإن كان لا يقتضيه ذلك بمطلق الانقسام.
كما لو باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين نصرف الجنس إلى خلاف الجنس احتيالاً للصحة، وإن كان مطلق الانقسام لا يقتضي ذلك فكذلك هاهنا، وإذا صرفنا إلى ذلك لا تبقى زيادة الأجر ربحاً حتى يكون ربح ما لم يضمن من وجه، وكذا إذا أجره بجنس آخر تطيب له الزيادة؛ لأن الربح لا يظهر عند اختلاف الجنس.
وذكر الخصّاف في كتاب «الحيل» : أنه إذا كان المستأجر داراً فكنسها من التراب ثم أجرها بأكثر مما استأجر لا تطيب له الزيادة، وإن أجرها بأكثر مما استأجر، وقال به عند الإجارة على أن أكنس الدار يطيب لي الفضل ذكره شيخ الإسلام في «شرح كتاب الحيل» .
وإن كان المستأجر أرضا فعمل لها مسقاة فذاك زيادة ويطيب له الفضل قال: وكذلك كل ما عمل فيها عملاً يكون قائماً فذاك زيادة ويطيب له الفضل وإن كرى أنهارها، ذكر الخصاف أنها زيادة توجب طيبة الفضل.
المحيط البرهانى
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أصحابنا في هذا مترددون بعضهم يعدون هذه زيادة، وقالوا: تيسر على المستأجر إجراء الماء إليها ويسهل العمل فيها فكان ذلك زيادة، وبعضهم لا يعدون هذه زيادة؛ لأنه لم يوجد إلا رفع التراب، وذلك نقصان وليس بزيادة ولو جاز أن تطيب الزيادة بهذا لجاز أن يقال: إذا استأجر دابة وأعطاها شعيراً أنه تطيب له الزيادة؛ لأن ذلك مما يزيد في قوتها ويتيسر على المستأجر العمل بها(7/430)
ومع هذا لا تطيب الزيادة بذلك بالاتفاق.
وهو نظير ما لو استأجر أرضاً لا يمكن زراعتها لما فيها من التراب فرفع التراب ثم أجر بأكثر مما استأجر فإنه لا يطيب له الفضل وإن تيسر بسبب هذا الفعل الزراعة، لكن لما يزد من عنده شيئاً بل نقص لم يوجب ذلك طيبة الزيادة كذا هاهنا.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا استأجر الرجل بيتين صفقة واحدة، وزاد في أحدهما شيئاً وفي بعض النسخ وأصلح من أحدهما شيئاً له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما، ولو كانت الصفقة متفرقة ليس له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما وإذا أجر المستأجر الدار من آجره لا يجوز، لأنه لو جاز يصير الشخص الواحد مملكاً ومتملكاً في شيء واحد.
بيانه: أن المنافع إنما تصير مملوكة للمستأجر على حسب حدوثها والعقد في حق الملك يتجدد انعقاده على حسب حدوث المنافع فيصير المستأجر من الآجر متملكاً ومملكاً لكل منفعة حدثت في تلك وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، وهل تنفسخ الإجارة الأولى بهذه الإجارة الثانية مع أن الثانية لم تصح، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: تنفسخ.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا غلط؛ لأن الثاني فاسد والأول صحيح والفاسد لا يقدر على رفع الصحيح، وعامتهم على أنه لا تنفسخ الأولى بالثانية، ولكن إذا قبض الأجر الأول المستأجر من المستأجر الأول حتى انتهت الإجارة الأولى تنتهي الإجارة الأولى؛ (20ب4) لأن الثانية فاسخة لهما ولكن؛ لأن المنافع تحدث ساعة فساعة وعلى حسب الحدوث يقع التسليم إلى المستأجر، فإذا استأجرها الآجر من المستأجر ثانياً واستردها منه فذاك يمنعه عن تسليم ما يحدث إلى المستأجر، فإذا داما على ذلك حتى انتهت المدة فقد انتهت المدة من غير تمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه، فتنفسخ الإجارة الأولى ضرورة حتى أن بعد مضي بعض المدة لو استرد المستأجر الأول المستأجر من الآجر الأول داراً، وأن يسكنه بقية الشهر فله ذلك؛ لأن العقد الأول إنما انفسخ في قدر ما تلف من المنفعة وقدر ما بقي من المنفعة هو على حاله وكذلك على هذا حكم الأجرة إذا أخذ الآجر الأول المستأجر من المستأجر الأول بحكم هذه الإجارة، ودام على ذلك حتى انتهت المدة، فالأجر على المستأجر الأول وإن لم يقبضه منه فعلى المستأجر الأول الأجر.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ذكر في كتاب المزارعة إذا دفع أرضه مزارعة ثم إن رب الأرض أخذها مزارعة من المزارع فالمزارعة الثانية باطلة والأولى على حالها كذا في الإجارة، ولو أن المستأجر أعاد المستأجر من المالك لا يسقط عنه الأجر بلا خلاف بين المشايخ.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمهما الله: رجل استأجر داراً من رجل ثم إن المستأجر أجرها من صاحبها أو أعارها منه فذلك نقض للإجارة الأولى.(7/431)
ولو استأجر أرضاً ثم دفعها إلى صاحبها مزارعة إن كان البذر من قبل رب الأرض لم يجز وهذه مناقضة، وإن كان البذر من قبل المستأجر جاز.
أما الكلام في فصل الإجارة والإعارة بناء على أنه لا جواز للإجارة الثانية والعارية إلا بعد فسخ الإجارة الأولى فيتضمن إقدامها على العقد الثاني فسخاً للأول، وأما الكلام في المزارعة؛ فلأن البذر إذا كان من قبل رب الأرض فهو مستأجر الأرض فيتضمن إقدامه عليه فسخاً للإجارة الأولى.
وذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد: أنه لا يجوز دفع الأرض المستأجرة مزارعة إلى رب الأرض سواء كان البذر من جهه رب الأرض أو من جهة المستأجر، ولو استأجر رب الأرض بالدراهم ليعمل في الأرض جاز.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل استأجر من آخر داراً أو أرضاً وزاد المستأجر فيها بناء ثم أجرها من الآخر أو أعارها منه كان هذا نقصاً للإجارة الأولى.
قال في فصل الإجارة: في «نوادر ابن سماعة» وعلى رب الدار حصة بناء المستأجر من الأجر. قال الحاكم الشهيد رحمه الله وهذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء وحده.
وفي «فتاوى الفضل» استأجر من رجل داراً إجارة طويلة، ثم أجرها من الآخر مشاهرة لا تصح الإجارة الثانية وما أخذه المستأجر الأول من الآخر الأول فهو محسوب من رأس المال، والإجارة الأولى تنتقض في الشهر الأول من الإجارة الثانية، فأما فيما بعد الشهر الأول شك الفضل رحمه الله في انتقاضها؛ لأن الإجارة الثانية وقعت على شهر واحد، ثم قال: كلما دخل شهر بعد شهر يجب أن تنتقض الأولى؛ لأنه كلما دخل شهر انعقدت الإجارة الثانية.
وهكذا قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله، وجعله نظير ما باع ثم باع فإن الثاني يفسخ الأول كذا هاهنا، فقيل لركن الإسلام: هذا ليس نظير ما لو باع ثم باع؛ لأن هناك كل واحد من البيعين صحيح فجاز أن ينفسخ الأول بالثاني، وهاهنا الإجارة الثانية فاسدة فكيف تنفسخ الأولى بالثانية فأشار وركن الإسلام إلى أنه يجوز أن يقع العقد فاسداً ويوجب انتقاض عقد وقع صحيحاً.
فقال: ألا ترى أن المشتري إذا باع المشترى قبل القبض من بائعه فهذا العقد لا يصح ويوجب انتقاض العقد الأول على ما رواه خالد بن صبيح عن أبي يوسف رحمه الله، ورواية خالد بن صبيح مخالفة لظاهر الرواية، قال في ظاهر الرواية: لا ينتقص البيع الأول بهذا البيع.
وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على أن المستأجر يملك الإجارة من المالك.
وصورتها: الموصى له بغلة عبد بعينه إذا آجر العبد من أجنبي أو وارث الوصي إنه يجوز ووجه الدلالة: أن الوارث قائم مقام المورث وحال الموصى له بالغلة كحال المستأجر وإذا أجر المستأجر المستأجر من رجل ثم إن المستأجر الثاني أجره من المالك(7/432)
كان القاضي أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه أنه يجوز.
وهكذا ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : عن محمد، قال شمس الأئمة الحلواني: ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد أن الإجارة من المالك لا تجوز سواء كان المستأجر الأول آجر بنفسه أو آجر مستأجره.
قال رحمه الله: وعليه عامة المشايخ. الغاصب إذا أجر المغصوب من غيره ثم إن المستأجر من الغاصب آجره من الغاصب وأخذ منه الأجر كان للغاصب أن يسترد منه ما دفع إليه من الأجر لوجهين:
أحدهما: أن إجارة المستأجر من الغاصب رد للمغصوب، كما جعل بيع المشتري شراءً فاسداً من بائعه رداً للمشتري الثاني أن إجازة الغاصب العقد فيصير المستأجر من الغاصب أجر من أجره، وأنه لا يجوز للفقه الذي روينا وعلى هذا المستأجر من المالك إذا آجر من غيره ثم إن المستأجر الثاني آجره من المستأجر الأول لا يصح وطريقه ما قلنا: إذا استأجر كرماً ثم إن المستأجر دفع الكرم إلى المؤاجر معاملة فهذا على وجهين: إن كان المالك في الإجارة باع الأشجار كما هو أحد الطريقين جاز وإن كان دفع الأشجار معاملة كما هو الطريق الآخر لا يجوز وإذا استأجر إجارة فاسدة فآجر المستأجر من غيره إجارة صحيحة جاز إليه أشار في إجارات الفقيه أبي الليث رحمه الله.
ومن المشايخ من قال: لا يجوز واستخرج الرواية من مسألة ذكرنا في كتاب الإجارات في باب إجارة الدور رجل دفع داره إلى رجل على أن يسكنها ويردها ولا أجر لها فأجرها هذا المستأجر من رجل وانهدم من سكنى الثاني ضمن الثاني بالاتفاق؛ لأنه صار غاصباً فهذا إشارة إلى أن الإجارة الثانية لم تصح.
ألا ترى أنه أوجب الضمان على الثاني، وألا ترى أنه سماه غاصباً، وعامة المشايخ على أنه يملك قالوا: وما ذكر في كتاب الإجارات ليس برواية في هذه المسألة؛ لأن ذلك ليس بإجارة بل هو عارية؛ وهذا لأنه لم يذكر الحرمة على سبيل الشرط؛ لأنه لم يذكر كلمة الشرط إنما ذلك على سبيل المشورة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فكان الأول مستعيراً لا مستأجراً والمستعير يملك أن يؤاجر.
وزان مسألتنا في تلك المستأجر، أن لو ذكر الحرمة على سبيل الشرط ولو كان هكذا حتى كان العقد الأول إجارة فاسدة لا يجب الضمان على الثاني، وتصح الإجارة من الثاني؛ وهذا لأن المستأجر إجارة فاسدة ملك المنفعة بقبض المستأجر فيملك تمليكها من غيره ملكاً صحيحاً كالمشتري شراءً فاسداً ملك التمليك من غيره صحيحاً، ثم على قول من يقول بأن المستأجر إجارة فاسدة يملك أن يؤاجر من غيره إجارة صحيحة إذا أجر كان الأول أن ينقض الثاني.
كما إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً وأجره من غيره إجارة جائزة بخلاف ما إذا اشترى شراء فاسداً وباعه من غيره بيعاً صحيحاً.(7/433)
والفرق أن الإجارة تنفسخ بالأعذار والنَّساء عذراً يرفع، أما البيع مما لا ينفسخ (21أ4) بالأعذار المستأجر إذا أجر من غيره أو دفع إلى غيره مزارعة، ثم إن المستأجر الأول فسخ العقد الأول هل ينفسخ العقد الثاني؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ينفسخ اتحدت المدة أو اختلفت، أما إذا اتحدت فظاهر، وأما إذا اختلفت فلأنه لما فسخ الإجارة الأولى تبين أن المستأجر فضولي في الإجارة من الثاني في هذه المدة وهو المدة بعد فسخ الأول، والفضولي في المعاوضات المالية يملك الفسخ قبل الإجازة.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر الرجل من غيره موضعاً إجارة طويلة ثم إن المستأجر أجره من عبد الآخر، فإن كان بغير إذن مولى العبد لم يحسب على المستأجر ما أخذ من العبد من رأس ماله؛ لأنه ليس للعبد أن يفسخ الإجارة بغير إذن المولى، وأما إذا كان العبد استأجره بإذن المولى، فقد توقف الشيخ الإمام فيه، والصحيح أن يقال: استئجار العبد بإذن المولى كاستئجار المولى بنفسه، وقد مرّ الكلام فيه من قبل.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل أجر داره من رجل كل شهر بدرهم ثم باعها من آخر، فكان المشتري يأخذ أجرة الدار من هذا المستأجر وأتى على ذلك زمان، وقد كان وعد المشتري البائع أنه إن رد الثمن عليه رد عليه داره ويحتسب عليه ما قبض من المستأجر، ثم جاء البائع بالدرهم وأراد أن يحسب الأجر من ذلك.
قال: لما طلب المشتري الأجر من المستأجر كان ذلك إجارة منه وصار بمنزلة إجارة مستقلة وجميع ما أخذ من الأجر للمشتري، وليس للبائع من الأجر لا قليل ولا كثير؛ لأن الأجر وجب بعقد المشتري على ما ذكرنا، ومواضعة المشتري على رد الدار وعد منه فإن أنجز فحسن وإلا فلا شيء عليه، وإن كان الشرط في البيع فالبيع فاسد؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، الأجر المستأجر من رجل آخر لا تنعقد الإجارة الثانية في حق الآجر حتى لو سقط حق المستأجر الأول لا يلزمه التسليم إلى المستأجر الثاني، لأن الإجارة تصادف المنفعة والمنفعة صادفت حقاً للأول، فالإجارة الثانية صادفت حق الغير فلم تنعقد، والإجارة تخالف البيع فإن بيع الآجر المستأجر ينعقد نافذاً في حق البائع حتى لو سقط حق المستأجر يلزمه التسليم إلى المشتري، إنما لا ينفذ في حق المستأجر حتى لا يكون للمشتري حق الأخذ من المستأجر؛ لأن البيع يصادف الرقبة والرقبة لم تصر حقاً للمستأجر، فالبيع ما صادف حق المستأجر إنما صادف حق البائع فانعقد صحيحاً لكن لا يؤمر المستأجر بتسليمه إلى المشتري صيانة لحق المستأجر، فإذا سقط حق المستأجر زال المانع فعمل ذلك البيع علمه.
ثم المشتري في هذه المسألة بالخيار إن شاء تربص حتى انقضت مدة المستأجر، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم هكذا ذكر في «الزيادات» ولم يفصل بينهما إذا علم المشتري بكونه مستأجراً أو لم يعلم وهذا قول محمد.
وعلى قول أبي يوسف: إذا علم المشتري بكونه مستأجراً لا يجوز وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع.(7/434)
ولو أراد المستأجر فسخ هذا البيع ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوي» أن في ظاهر الرواية له ذلك، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك وأحال إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني في شرح «الإسبيجابي» إنه ليس للمستأجر حق الفسخ، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في شرح القدوري، وفي شرح الساقي في رهن الجامع للسيد الإمام أبي شجاع، وذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين: في رواية للمستأجر حق الفسخ وهو القياس، وفي رواية ليس له حق الفسخ وهو الاستحسان وعليه الفتوى.
الفصل الثامن: في انعقاد الإجارة بغير لفظ، وفي الحكمببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ما ينافيها
وإذا استأجر الرجل من آخر داراً شهراً فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول، وليس عليه في الشهر الثاني أجر؛ لأنه سكن في الشهر الثاني من غير إجارة من المالك فكان غاصباً هكذا ذكر في عامة روايات كتاب الإجارة.s
وذكر في بعض الروايات: أنه يجب عليه الأجر في الشهر الثاني أيضاً، قال مشايخنا: ما ذكر في عامة الروايات محمول على ما إذا لم تكن الدار معدة للاستغلال، لأنها إذا لم تكن معدة للاستغلال لا تثبت الإجارة في الشهر الثاني لا نصاً ولا عرفاً وما ذكر في بعض الروايات محمول على ما إذا كانت الدار معدة للاستغلال؛ لأنها إذا كانت معدة للاستغلال في العقد في الشهر الثاني، إن لم يثبت نصاً فقد ثبت عرفاً والثابت عرفاً كالثابت نصاً.
وعن هذا قلنا: إذا سكن الرجل في دار رجل ابتداء من غير عقد، فإن كانت الدار معدة للاستغلال يجب الأجر، وإن لم تكن معدة للاستغلال لا يجب الأجر إلا إذا تقاصا صاحب الدار بالأجر وسكن بعد ما تقاصاه؛ لأن سكناه تكون رضا بالأجر، قالوا: وفي المعدة للاستغلال إنما يجب الأجر على الساكن، إذا سكن على وجه الإجارة عرف ذلك عنه بطريق الدلالة أما إذا سكن بتأويل عقد أو تأويل ملك كبيت أو حانوت بين رجلين سكن أحدهما فيه لا يجب الأجر على الساكن، وإن كان ذلك معداً للاستغلال.
وذكر محمد رحمه الله: في باب إجارة الحمام إذا استأجر حماماً ليعمل فيه شهراً فعمل فيه شهرين فلا أجر عليه في الشهر الثاني؛ لأنه لا عقد في الشهر الثاني، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل عل أن في مسألة الدار لا يجب الأجر بدون العقد، وإن كانت الدار معدة للاستغلال.
ألا ترى أنه لم يوجب في الحمام أجر الشهر الثاني، وإن كان الحمام معداً للاستغلال والكراء قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: الجواب في(7/435)
الحمام كالجواب في الدار وما ذكر في الحمام محمول على ما إذا لم يكن الحمام معداً للكراء والإنسان قد يبني الحمام للكراء، وقد يبني لحاجة نفسه ثم يؤاجره شهراً معارض أمر، وعلى هذا الاعتبار لا تكون مسألة الحمام مخالفة لمسألة الدار.
وفي «الفتاوى» : خانٌ فيه نزل رجل يكون نزوله بأجر، ولا يصدق أنه سكن بغير أجر وهذا بناء على أن الخان غالباً يكون معداً للكراء فسكناه يكون رضا بالأجر وبه كان يفتي محمد بن سلمه وأبو نصر بن سلام والفقيه أبو بكر والفقيه أبو الليث.
وكان نصر رحمه الله يقول: لا يجب الأجر بنزوله إلا أن يتقاصا عليه صاحب الخان فإذا تقاصاه وأجابه ولم يخرج الآن يجب الأجر ولكن من حين نزل؛ لأن إجابته بعد التقاصي دليل على أن سكناه كان بأجر.
وبعض مشايخ زماننا قالوا: الفتوى على لزوم الأجر؛ لأن الظاهر السكنى بأجر فيجب اعتبار هذا الظاهر إلا إذا عرف بخلافه بأن صرح بأن نزل بطريق الغصب أو كان الساكن معروفاً بالظلم والغصب مشهوراً بالنزول في مساكن الناس لا بطريق الإجارة فلا يجب الأجر وذكر بعد هذا ما يخالف هذا القول فقال: رجل له حوانيت مشعلة، جاء إنسان وسكن في واحد منها يلزمه أجر المثل ولو قال: كنت غاصباً لا يصدق؛ لأنه ادعى بخلاف الظاهر فهو كمن دخل الحمام من غير أن يصرح له صاحب الحمام بالأذن، وقال: دخلت على وجه الغصب لا يصدق.
وفي «الفتاوى» أيضاً: مقصرة يعمل فيها القصارون ولرجل فيها أحجار يؤاجرها منهم جاء قصار وعمل فيها ولم يشارط صاحب الأحجار بشيء، فإن لم يكن المعروف عندهم أن من شاغل عليها وأدى الأجر فلا أجر عليه إذا (21ب4) عمل بغير إذن رب الأحجار؛ لأنه لم يوجد العقد لا صربحاً ولا دلالة، وإن كان المعروف عندهم أن من شاء عمل عليها وأدى الأجر فعليه الأجر؛ لأن المعروف كالمشروط، ثم إن كان لهذا الحجر أجرة معروفة فيما بينهم يجب ذلك، وإلا يجب أجر المثل.
وفي «المنتقى» : عن محمد صاحب الدار إذا قال للغاصب هذا داري فاخرج منها فإن نزلتها فهي عليك بكذا فجحدها الغاصب، ثم أقام المالك عليه البينة بعد أشهر فلا أجر؛ لأن النازل لم يزل جاحداً ومع الجحود لا يمكن القول بانعقاد الإجارة ولو كان مقراً بالدار للمدعي، والباقي بحاله كأن سكناه رضا بالإجارة ويجب الأجر؛ لأن المالك أجر منه إجارة مضافة وهو قد قبلها دلالة.
وفيه أيضاً: اكترى داراً منه بألف درهم، فلما انقضت: السنة قال رب الدار: إن فرغتها اليوم وإلا فهي عليك كل شهر بألف درهم، فإنما يجعل في قدر ما ينقل متاعه منها بأجر المثل، فإن فرغها إلى ذلك الوقت وإلا جعلناها بعد ذلك بما قال المالك لأنه قبل ذلك دلالة.
وفي «إجارات النوازل» : رجل استأجر حانوتاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، فلما مضى شهران قال له صاحب الحانوت: إن رضيت كل شهر بخمسة دراهم وإلا فأفرغ(7/436)
الحانوت فلم يفرغ بل سكن فيه فعليه لكل شهر خمسة وسكناه رضا بما قال صاحب الحانوت، ولو قال المستأجر: لا أرضى بخمسة وسكنها لا يجب عليه إلا الأجر الأول.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لغيره: بكم تؤاجر هذه الغرارة شهراً فقال بدرهمين فقال المستأجر: لا بل بدرهم، وقبضها ومضى الشهر يجب أجر المثل لا يزاد على درهمين ولا ينقص من درهم والصحيح أنه يجب درهم لما ذكرنا.
وفي «فتاوي أبي الليث» : ومن رعى غنم إنسان إذا قال الراعي لصاحب الغنم: لا أرعى غنمك بعد هذا إلا أن تعطيني كل يوم درهماً فلم يقل صاحب الغنم شيئاً، وترك غنمه معه لزمه كل يوم درهم وترك صاحب الغنم غنمه معه رضاً منه بما قال الراعي.
وفيه أيضاً: رجل استأجر أجيراً ليحفظ شهره كل شهر بكذا ثم مات المستأجر فقال الوصي للأجير: اعمل عملك على ما كنت تعمل، فإنا لا نحبس عنك الأجر فأتى على ذلك أيام ثم باع الوصي الضيعة فقال المشتري للأجير: اعمل عملك فإنا لا نحبس عنك الأجر فمقدار ما عمل الأجير في حياة الأول يجب الأجر في تركته ومن حين قال له الوصي: اعمل عملك يجب على الوصي ومن حين قال له المشتري: اعمل عملك يجب على المشتري، إلا أن الواجب في تركة الميت المسمى لوجود التسمية منه والواجب على الوصي وعلى المشتري أجر المثل إذا لم يعلما مقدار المشروط من الميت أما إذا علما ذلك وأمراه أن يعمل على ذلك الشرط فعليهما المسمى.
وفيه أيضاً: رجل استأجر من رجل حماراً بعشرة بعضها جياد وبعضها زيوف فقال المكاري في الطريق: أنا أطلب الكل جياداً فقال المستأجر بالفارسية: حنان كتم له ترخوا مني، فهذا وعد منه ولا يلزمه بذلك شيء وكذلك لو استزاده في الأجر فأجابه بذلك شيء.
قال في «الأصل» : وإذا استأجر دابة إلى مكان مسمى، فمات صاحب الدابة في وسط الطريق كان للمستكري أن يركب الدابة إلى المكان المسمى بالأجر، فإذا وصل إلى ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي، وفي هذا الفصل إشكال؛ لأن المكاري يؤاجر وموت المؤاجر لا يوجب انتقاض الإجارة وإنما لا تنتقض الإجارة؛ لأن الحال حالة العذر، والإجارة تنعقد ابتداء بالعذر فإن من استأجر سفينة شهراً فمضت المدة، والمستأجر في وسط البحر، فإنه تنعقد بينهما إجارة مبتدأة فلأن تبقى حالة العذر كان أولى.
وبيان العذر أنه يخاف على نفسه وماله؛ لأنه لا يجد دابة أخرى في وسط المفازة، ولا يكون ثمة قاضى حتى يرفع الأمر إليه فيؤاجر الدابة منه ثانياً حتى قال مشايخنا: لو وجد ثمة دابة أخرى يحمل عليه متاعه تنتقض الإجارة، وكذلك لو كان الموت في موضع ثمة قاض تنتقض الإجارة؛ لأنه لا ضرورة إلى إبقاء الإجارة مع وجود ما ينافي البقاء وهو(7/437)
موت الآجر، لأنه يمكنه المرافقة إلى القاضي حتى يؤاجر الدابة منه.
نص على هذا في الشروط وإليه أشار في «الأصل» ، فإنه قال في عين هذه المسألة فإذا وصل ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي فقد أخر الأمر بالمرافعة إلى أن يصل إلى ذلك المكان، ولو كان الموت في موضع فيه قاض لم يكن لتأخير الأمر بالمرافعة معنى وفائدة، ثم إذا ركب المستكري الدابة إلى ذلك المكان وأنفق عليها في الطريق كان متبرعاً حتى لا يرجع على ورثة المكاري بذلك.
وكذلك إذا استأجر المستكري رجلاً يقوم على الدابة كان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على ورثة المكاري؛ لأن الإنفاق والاستئجار حصل بغير إذن الورثة وبغير إذن من يلي على الورثة ثم إذا وصل إلى ذلك المكان رفع الأمر إلى الحاكم لأن الإجارة قد انفسخت لما وصل إلى ذلك المكان لأنه زال العذر لما وصل إلى ذلك المكان، وإذا انتقضت الإجارة بقيت دابة الغير في يده بغير إجارة ويرفع الأمر إلى القاضي ليقضي القاضي بها هو الأصلح لورثة الميت.
فإن رأى القاضي الصلاح في أن يؤاجر منه ثانياً بأن عرف المستأجر ثقة أميناً ورأى الدابة قوية حتى عرف أن الورثة يصلون إلى عين ما لهم متى آجر منه وإن رأى الصلاح في بيع الدابة بأن أتهم المستأجر أو رأى الدابة ضعيفة ظاهراً يعلم أن الورثة لا يصلون إلى عين ما لهم وإن وصلوا يلحقهم ضرر عظيم ببيع الدابة ويكون بيعه حفظاً للمال على الغائب لا قضاء على الغائب.
وإن كان المستأجر قد عجل الأجر إلى رب الدابة وفسخ القاضي الإجارة وباع الدابة، فادعى المستأجر ذلك، فالقاضي يأمره بإقامة البينة على دعواه؛ لأنه يدعى ديناً على الميت ومجرد الدعوى بدون البينة لا تكون معتبرة شرعاً وينصب القاضي وصياً عن الميت حتى يسمع البينة لأن البينة لا تسمع إلا على الخصم وللقاضي ولاية نصيب الوصي عن الميت.
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : مسألة السفينة إذا انقضت مدة الإجارة في المفازة ولا يجد المستأجر سفينة أخرى، أو رأى أخر وأبى الآجر أن يؤاجر منه وقد حضرهم الإمام، إن الإمام يجعل ذلك للمستأجر كل يوم بكذا بشرط، أن تكون هذه الإجارة من الإمام. وقد ذكر ابن سماعة في «نوادره» هذه المسألة عن محمد ولم يشترط أن يكون المؤاجر هل الإمام بل شرط أن يقول المستأجر استأجرت هذه السفينة كل يوم بكذا أو يؤاجره واحد من أصحابه ورفقائه، فإن أبى الأجر بعد ذلك أن يعطيه السفينة أو الرق استعان المستأجر بأعوانه ورفقائه حتى يترك السفينة والرق عليه، إلى أن يجد سفينة أخرى ورقاً أخرى وإنما احتيج إلى إنشاء العقد في هذه الصورة؛ لأن وضع المسألة أن صاحب السفينة أو صاحب الرق أبى الإجارة صريحاً، ومع إبانة ذلك صريحاً لا يمكن إثبات العقد دلالة فلا بد من إنشائه صريحاً، وبهذه المسألة تبين أن من سكن دار غيره لا يجب الأجر إذا كان صاحب الدار يأبى ذلك، وإن كانت الدار معدة للاستغلال إلا(7/438)
استأجر الساكن بنفسه فيقول: استأجرت كل شهر بكذا، ثم قال: ليس في مسألة السفينة والرق اختلاف الروايتين ما ذكر في السير محمول على ما إذا احضر الإمام.
وما ذكر في (22أ4) «نوادر ابن سماعه» : محمول على ما إذا لم يحضر الإمام، وفي «الأصل» إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة قلعت لو انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض زرع لم يدرك يترك في يده إلى أن يستحصل بأجر المثل، ولو مات الآجر أو المستأجر في وسط المدة وفي الأرض زرع تترك الأرض في يد المستأجر أو ورثته بالأجر المسمى.
وفي «المنتقى» : إذا انقضت الإجارة وفي الأرض رطاب تركت فيها بأجر مثلها حتى يحر وهو على أول جره يدرك انقضاء الإجارة، وقال في الموت إذا مات المؤاجر وفي الأرض رطاب تركت بالمسمى حتى يجر؛ لأن للجرة الأولى غاية معلومة، فصارت الرطبة نظير الزرع، وإنما اعتبرنا الجرة الأولى؛ لأن طريق الترك إما إبقاء ذلك العقد في الفصلين كما ذهب إليه بعض المشايخ؛ لأن القول بالانفساخ والتجديد من ساعته في صورة العيب وحاشا الشرع عن ذلك، وأما تجديد العقد فيهما؛ لأن حكم البقاء في هذا الباب يخالف حكم الابتداء؛ لأن العقد الأول إذا بقى يبقى المسمى، وإذا تجدد العقد يجب أجر المثل، وإذا اختلف الحكم لا يكون عيباً أو بقاء العقد في الفصل الثاني وتجديده في الفصل الأول؛ لأن الحاجة في الفصل الأول إلى الابتداء، وإلى الفصل الثاني إلى البقاء وأياً ما كان فهو ضروري، والثابت بالضرورة لا يراعى فيه النهاية فيقع على الجرية الأولى لهذا ومن هذا الجنس إذا استأجر من آخر زقاقاً، وجعل فيها خلاً ثم انقضت الإجارة في صحراء جعل عليه بأجر مثله إلى موضع يحد فيه زقاقاً، ولو مات المؤاجر قبل مضي المدة لا يجعل عليه بأجر مثلها لكنها تترك على الإجارة الأولى.
وروى إبراهيم عن محمد: في رجل استأجر أرضاً سنة، وزرعها ثم اشتراها المستأجر ورجل آخر حتى انقضت الإجارة نترك الزرع في الأرض حتى يستحصد ويكون للشريك على صاحب الزرع أجر مثل نصف الأرض.
وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف إذا انقضت مدة الإجارة والزرع بقل فلم يختصموا فيه حتى استحصد فله من الأجر بحساب ذلك، ولا يتصدق رب الزرع بالفضل وإن انقضت مدة الإجارة، ولم يخرج الزرع فسخت الإجارة ورددت الأرض على صاحبها فإن خرج بعد ذلك رددت إلى صاحب البذر، فيكون له الزرع وعليه أجر مثل الأرض وكذلك لو لم يختصموا حتى يستحصد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر أرضاً وغرس فيها أشجاراً ثم انقضى وفيها فعلى المؤجر قيمة الأشجار مقلوعة؛ لأن حق المستأجر أشجار مقلوعة؛ لأن لرب الأرض قلع أشجاره، إلا أنه يمنع عن ذلك دفعاً للضرر عن الغارس كذا ذكر هاهنا، والصحيح أنه إذا انقضت المدة فلرب للأرض أن يطالب المستأجر بتفريغ أرضه إذا كان فيها غرس بخلاف ما إذا كان فيها زرع حيث يترك لإدراك الزرع نهاية، ولا كذلك الغرس(7/439)
وليس لرب الأرض أن يتملك الأشجار على الغارس إذا لم يكن في قلعها ضرر فاحش بالأرض.
وفيه أيضاً: استأجر من آخر بيتاً ووضع فيه حبات خل فانقضت مدة الإجارة والمستأجر يأبى تفريغ الحانوت فإن كان الخل بلغ مبلغاً لا يفسد بالتحويل يؤمر بالتحويل، وإن كان يفسد لا يؤمر بالتحويل، ويقال للمستأجر: إن شئت فرّغ الحانوت، وإن شئت فاستأجر منه إلى وقت إدراكه والمراد من قوله استأجر منه الحكم بأجر المثل عليه لا الاستئجار ابتداء ببدل مسمى؛ لأن هذا بمنزلة مدة نقل المتاع وتفريغ الدار، والواجب هناك أجر المثل دون الإجارة ابتداء ولو مات المؤاجر أو المستأجر قبل انقضاء المدة، ولم يتيسر التفريغ يجب المسمى استحساناً والقياس أن يجب أجر المثل كما بعد انقضاء المدة.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا انقضت مدة الإجارة ورب الدار غائب فلم يرد المستأجر الدار بل سكن فيها سنة ثم حضر رب الدار لا يلزمه الأجر لما بعد انقضاء المدة؛ لأنه سكنها بلا عقد ولو مات المؤاجر فسكنه المستأجر اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يجب الأجر؛ لأنه مات على الإجارة وليس بغاصب، ومنهم من قال: هو غاصب في الشهر الأول بعد الموت؛ لأن الإجارة تثبت صريحاً أو دلالة وقد عدم الأمران ويلزمه الأجر في الشهر الثاني إذا طلب صاحب الدار الأجر.
وقيل: إذا سكن بعد الموت أو بعد انقضاء المدة فلا أجر عليه قبل الطلب، وإذا سكن بعد الطلب فعليه الأجر لما سكن بعد الطلب سواء كان في الشهر الأول أو في الشهر الثاني وهذا القائل يقول: لا فرق في هذا بين الدار المعدة للإجارة وغير المعدة للإجارة إنما ذلك في ابتداء السكنى على ما مر، والأصح أنه يلزمه الأجر إذا كانت الدار معدة للاستغلال على كل حال.
وفي «الأمالي» عن محمد: رجل استأجر أرضاً بدراهم معلومة سنة، وزرعها ثم مات المؤاجر قبل أن يستحصد الزرع، واختار المستأجر المضي على الإجارة حتى يستحصد الزرع وبالأجر كفيل قال: لا يبرأ الكفيل من أجر ما بقي إلى أن يستحصد الزرع، وكذلك لو لم يمت الآجر ولكن مات المستأجر واختار ورثته ترك الزرع في الأرض حتى يستحصد لم يبرأ الكفيل من الكفالة، فإن قال المؤاجر: لا أرضى إلا أن يكون الأجر على ورثة الميت؛ لأن مال الميت لا يفي بالأجر ليس له ذلك؛ لأنها تركت على الإجارة الأولى والأجر في الإجارة الأولى في مال الميت وفى بالأجر أو لم يفِ ولو انقضت السنة، ثم مات المستأجر والزرع بقل واختار ورثته ترك الزرع بأجر المثل فالأجر عليهم في مالهم دون مال الميت والله أعلم بالصواب.(7/440)
الفصل التاسع: فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه وما لا يكون
قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: رجل استأجر رجلاً ليخبز له فخبز فلما أخرج الخبز من التنور احترق من غير عمله فلا ضمان عليه وله الأجر، وهذا إذا كان الخباز يخبز في بيت المستأجر؛ وهذا لأنه لما أخرج الخبز من التنور فقد أتم العمل؛ لأن عمله جعل الدقيق خبزاً ومتى أخرجه من التنور صار منتفعاً به انتفاع الخبز فيتم عمله، وصار مسلماً لقيام يد المستأجر على الخبز؛ لأن الخبز في بيته، والبيت في يده فتثبت يده على الخبز ضرورة ثبوت يده على البيت وإذا صار مسلماً إليه وجب الأجر، فإذا هلك بعد ذلك فقد هلك بعد ما صار مسلماً إلى المستأجر، فلهذا قال: فله الأجر ولا ضمان عليه.
أما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأنه لم يهلك من عمله وأما على قولهما: فلأن هلك بعد التسليم.
وذكر القدوري في «شرحه» في هذه المسألة: أن عليه الضمان على قولهما لأن العين مضمون على الأجير بمنزلة المغصوب في يد الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان إلا بالتسليم دون الوضع في بيته ثم على ما ذكره القدوري إذا وجب الضمان عندهما، كان لصاحب الدقيق الخيار إن شاء ضمنه دقيقاً مثل دقيقه، ولا أجر له وإن شاء ضمنه قيمة الخبز مخبوزاً وأعطاه الأجر.
قال القدوري في «شرحه» : ولا ضمان عليه في الحطب والملح عندهما؛ لأن ذلك صار مستهلكاً قبل وجوب الضمان عليه وحال ما وجب الضمان فهو رماد لا قيمة له، وإن لم يخرج الخبز من التنور حتى احترق فلا أجر له؛ لأنه لم يتم عمله فإن ما عمل غير منتفع به فصار كأنه لم يوجد أصلاً فلهذا ما وجب الأجر.
وفي القدوري: إذا استأجر (22ب4) رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما هو في يده أو يحفر له بئراً أو قناة في داره أو نهراً، فعمله ولم يفرغ منه حتى انهدم البناء، وانهارت البئر فله من الأجر بحصة ما عمل؛ لأن العمل بقدر ما عمل وقع مسلماً؛ لأن محل العمل في يد المستأجر فيستحق الأجر، وإن كان ذلك في غير ملكه ولا هو في يده فلا أجر له حتى يفرغ منه ويسلمه إليه؛ لأن التسليم لم يوجد، فإن العمل في المحل إنما يعتبر مسلماً إلى المستأجر على تقدير كون المحل في يده.
وقال الحسن بن زياد: إذا أراه موضعاً من الصحراء ليحفر فيه بئراً فهو بمنزلة ما لو كان في ملكه ويده قال: وهو قياس قول أبي حنيفة فإنه تثبت يده عليه بالتعيين، لأنه يثبت له ضرب خصوصية فيجعل بمنزلة الملك فيما بينهما، وعن محمد أنه لا يصير قابضاً إلا بالتخلية وهو الصحيح؛ لأنه وإن عين لم تثبت يده على المحل.
وفي «الأصل» يقول: إذا استأجر ليحفر له بئراً في الجبانة فحفرها فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبه قال مشايخنا رحمهم الله: إن محمداً رحمه الله سلم هذه الإجارة ولم(7/441)
يشترط بيان موضع الحفر قالوا: وهذه إشارة إلى أن بيان الموضع في غير ملكه ليس بشرط.
قال في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليضرب له لبناً في داره وعين اللبن أو سمى ملبناً معلوماً فالإجارة جائزة؛ لأنه استأجره لعمل معلوم، وإن لم يعين الملبن ولا سمى ملبناً معلوماً، فإن كانت بلدة ملابينهم مختلفة، وكل الملابن في الاستعمال على السواء فالإجارة فاسدة وإن كانت بلدة لأهلها ملبن واحد أو ملابن مختلفة، إلا أنه غلب استعمالهم لواحد تجوز الإجارة؛ لأن الملبن معلوم في هذه الحالة عرفاً إن لم يكن معلوماً شرطاً، فإن لبنه وأصاب المطر اللبن فأفسده قبل أن يدفعه فلا أجر له، وإن كان يعمل في داره.
فرق بين هذا وبينما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فخاط بعض الثوب فسرق يستحق الأجر بقدره.
وكذلك إذا استأجر حفاراً يحفر بئراً في داره فحفر بعضه فانهار استحق الأجر بقدر ما حفر، وكذلك إذا استأجر بنَّاء ليبني له بناء في أرضه فبنى البعض فانهدم، فإنه يستحق من الأجر بقدره.
والفرق بين هذه المسائل وبين مسألة اللبن: أن في مسألة اللبن قدر ما وجد من العمل أن وقع مسلماً إلى المستأجر من الوجه الذي صار مسلماً في تلك المسائل، إلا أن هذا القدر من العمل في مسألة اللبن غير مقابل بالأجر؛ لأن الأجر مقابل بعمل الثلثين وليس بثلثين؛ لأن الثلثين لم يتم بعد.
ألا ترى أنه يحتاج إلى إحداث عمل آخر فيما عمل، وهو النصب والتسوية فيكون ما يجد به من العمل فيما عمل إتماماً للعمل الأول؛ لأنه يجعل في محل عمل الأول فيكون إتماما لذلك العمل وإذا لم يتم الثلثين قبل النصب والإقامة والأجر مقابل بالثلثين لم يستحق شيئاً.u
وإن كان يعمل في داره كما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فقطع الثوب، وقبل الخيط وسرق الثوب لا يستحق بإزاء ما عمل شيئاً وإن وقع ذلك القدر مسلماً، لأنه يعمل في داره إنما كان كذلك؛ لأن الأجر مشروط مقابل بالخياطة، وما صنع ليس بخياطة إنما هو عمل من أعمال الخياطة.
وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخبز له دقيقاً معلوماً في داره فنخل الدقيق وعجن ثم سرق قبل أن يخبزه لا يستحق أجراً وكذلك لو احترق الخبز في التنور قبل إخراجه من التنور لا أجر له، وإن كان يخبز في بيت المستأجر؛ لأن الأجر مقابل بالخبز ولم يوجد الخبز إنما وجد عمل من أعماله فكذا في مسألتنا.
بخلاف ما إذا خاط بعض الثوب؛ لأن القدر الذي أتى به خياطة ألا ترى أنه لا يحتاج إلى فعل آخر فيما خاط، فإنما يحتاج إلى إحداث فعل آخر في محل آخر مثل الأول وما يوجد من الفعل في محل لا يكون إتماماً لما وجد من الفعل في محل آخر.
وكذلك قدر ما حفر حفر تام، ألا ترى أنه لا يحتاج(7/442)
إلى إحداث فعل آخر فيما حفر وفي البناء كذلك، فإذا تم الفعل الذي صار الأجر به مقابلاً وقد وقع مسلماً إذا كان يعمل في داره استحق الأجر بقدره، وإن هلك بعد ذلك قياس مسألة اللبن من هذه المسائل أن لو أصابه المطر بعد ما نصبه وسواه عند أبي حنيفة وشرح وجمع على قولهما، ولو كان كذلك يستحق الأجر بقدر ما عمل إذا كان يعمل في داره كذا هاهنا، فأما إذا نصبه وسواه بعد الجفاف ولم يشرحه فأصابه المطر فأفسده، وعلى قول أبي حنيفة له الأجر إذا كان يعمل في داره، وعلى قولهما لا أجر له ما لم يشرحه، وأجمعوا على أنه إذا كان يعمل في دار نفسه لا يستحق الأجر وإن وجدت هذه الأعمال ما لم يسلمه إلى المستأجر منصوباً عند أبي حنيفة ومشروحاً عندهما، وحاصل الخلاف بينهم أن الثلثين بماذا يتم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: بالنصب والتسوية بعد الجفاف، وقالا: بهذه الأشياء وبالتشريح أيضاً.
وفي «القدوري» الخياط إذا أخاط في بيت المستأجر، فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأنه لا ينتفع به وإن هلك فلا ضمان عليه فلم يوجب الأجر بخياطة بعض الثوب، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» قال في «القدوري» وإن فرغ منه فله الأجر، لأنه صار مسلماً للعمل، وعلى قولهما: إذا هلك قبل الفراغ من العمل أو بعده قبل التسليم إلى المالك فهو ضامن، فالمحل مضمون في يد الأجير عندهما فلا يخرج عن الضمان إلا بالتسليم إلى المالك، فإذا هلك كان صاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وأعطاه الأجر.
وفي «الأصل» : إذا استأجر رجلاً يضرب له لبناً بملبن معلوم، ويطبخ له في أتون المستأجر ببدل معلوم فهو بمنزلة الخيار وإخراجه من الأتون من تمام عمله، حتى لو هلك قبل الإخراج بعدما نضج وكف عنه النار فإنه لا أجر له؛ لأن غير اللبن لا يحسن إخراج ذلك من الأتون فكان كإخراج الخبز من التنور، ولو هلك بعد ما أخرج من التنور فله الأجر كما في مسألة الخبز وهذا إذا كان يعمل في دار المستأجر، وأما إذا كان يعمل في دار نفسه فلا أجر له حتى يسلمه إلى المالك كما في مسألة الخبز.
الفصل العاشر: في إجارة الظئر
القياس يأبى جواز إجارة الظئر: لأنها ترد على استهلاك العين مقصوداً وهو اللبن، فهو بمنزلة ما لو استأجر شاة أو بقرة مدة معلومة بأجرة معلومة ليشرب لبنها لكن جوزناها استحساناً بقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} (الطلاق: 6) ، وهذا العقد لا يرد(7/443)
على العين وهو اللبن مقصوداً، وإنما يرد على فعل التربية والحضانة وخدمة الصبي، واللبن يدخل فيه تبعاً لهذه الأشياء، هذا جائز.
كما لو استأجر صباغاً يصبغ له الثوب فإنها جائزة، وطريق الجواز: أن يجعل العقد وارداً على فعل الصبّاغ، والصبغ يدخل فيها تبعاً فلم تكن الإجارة واردة على استهلاك العين مقصوداً خرج على هذا فصل البقرة والشاة، لأن هناك عقد الإجارة يرد على استهلاك العين مقصوداً، وإذا جازت هذه الإجارة نظر بعد هذا إن لم يشترط في عقد الإجارة أنها ترضع الصبي في منزل الأب، ولم يكن العرف فيما بين الناس أنها ترضع الصبي في منزل الأب وإن شاءت أرضعته في منزلها، لأنه إنما يستحق على الأجير ما شرط عليه ولم يشترط عليها الإرضاع في منزل الأب لا نصاً ولا عرفاً، فلا يلزمها ذلك وإن شرط عليها الإرضاع في منزل الأب أرضعته في بيت الأب، وكان ينبغي أن لا يصح هذا الشرط؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه مطلق العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة.
والجواب: أن الثابت بهذا الشرط زيادة جودة في المعقود عليه، لأن الإرضاع في منزل الأب أجود للصبي من الإرضاع في منزل الظئر؛ لأن الظئر تخشى من الأب في منزله، فتحسن في الإرضاع ما لا تحسن في منزلها واشتراط زيادة الجودة في المعقود (23أ4) عليه الذي لا يقتضيه مطلق العقد لا يفسد العقد.
كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو اشترى بدراهم جياد، وكذلك إذا لم يشترط ذلك عليها صريحاً لكن كان العرف الظاهر فيما بين الناس أن الظئر ترضع الصبي في منزل أبيه لزمها ذلك، لأن المعروف فيما بين الناس كالمشروط ولو ضاع الصبي من يدها أو وقع فمات أو سرق شيء من حلي الصبي، أو ثيابه فلا ضمان على الظئر أما ضمان الصبي فلأنه ضمان آدمي، وضمان الآدمي لا يجب بالعقد.
ألا ترى أن ضمان الآدمي تتحمله العاقلة، وضمان المعقود لا تتحمله العاقلة كالثمن والأجر وهذا ضمان عقد فإنه لولا عقد الإجارة لما ضمن الظئر، وأما ضمان ما على الصغير من الثياب والحلي؛ لأن ما عليه تبع له فإذا لم يجب الضمان للأصل.
فكيف يجب ضمان البيع وطعام الظئر وكسوتها على الظئر إذا لم يشترط ذلك في عقد الإجارة على المستأجر، لأن الأجير بعقد الإجارة إنما يستحق على المستأجر ما شرط له.
فإن قيل: الطعام إن لم يكن مشروطاً لها نصاً فهو مشروط لها عرفاً والمعروف كالمشروط.
قلنا: إنما يجعل المعروف كالمشروط في العقد إذا كان فيه تجويز العقد وفي جعل الطعام مشروطاً لها في العقد فساد العقد عندهما قياساً واستحساناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله قياساً فلا يجعل ذلك مشروطاً في العقد.
ثم إذ استأجر بالدراهم فلا بد من بيان قدرها وصفتها، وإن استأجرها بمكيل أو موزون فلابد من بيان قدره وصفته وإن استأجرها بثياب يشترط فيه جميع شرائط السلم،(7/444)
وقد مر ذلك في صدر الكتاب وإن استأجرها بطعامها وكسوتها ووصف ذلك جاز بالاتفاق، وإن لم يصف فالقياس أن لا يجوز وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله.
وفي الاستحسان يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وجه القياس في ذلك: أن الأجرة مجهولة وجهالة الأجرة يوجب فساد العقد، كما في سائر الإجارات وجه الاستحسان قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} إلى قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 223) والمراد من قوله: {رزقهن وكسوتهن} أجرة الرضاع، لا نفقه النكاح لأن الله تعالى ذكر الإرضاع أولاً، ثم أوجب الرزق والكسوة ولم يذكر النكاح والحكم إذا نقل عقيب سبب قائماً يحال بالحكم على السبب المنقول، والسبب المنقول الإرضاع فعلم أن المراد من الآية الأجرة للرضاع.
فوجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أوجب الأجرة للرضاع مع الجهالة فإنه قال: {بالمعروف} ، وإنما يقال: هذا فيما كان مجهول الصفة والنوع كما في قوله عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فأما ما يكون معلوم القدر والصفة من كل وجه لا يقال له ذلك بالمعروف، فهذا دليل على أن الطعام والكسوة يصلح أجرة الرضاع مع الجهالة، ولأن هذا يجري مجرى نفقة الولد لأن الواجب في الحاصل والحقيقة نفقة الولد، إلا أن إيصال النفقة إلى الولد بواسطة الظئر وإذا كان هذا يجري مجرى النفقة صح مع الجهالة، ولأن الجهالة لا توجب فساد العقد بعينها بل للإفضاء إلى المنازعة والجهالة هاهنا لا تفضي إلى المنازعة لأن العادة فيما بين الناس، في كل البلدان التوسعة على الظئر وترك المنازعة في طعامهن وكسوتهن، لأن البخس في ذلك يؤدي إلى الضرر بالولد ومثل هذه العادة معدومة في سائر الإجارات.
وإذا صحت هذه الإجارة كان لها الوسط من الطعام والكسوة كما في نفقة الولد، والذي يجب على الظئر بعد الاستئجار الإرضاع والقيام بأمر الصبي فيما يصلحه من رضاعه وغسل ثيابه أما الإرضاع فظاهر، وأما القيام بأمر الصبي؛ فلأن القيام بأمر الصبي، وإن لم يكن من الارضاع إلا أن العادة فيما بين الناس أن الظئر هي التي تتولى ذلك فصار ذلك كالمشروط، وما يعالج به الصبيان من الريحان والدهن فهو على الظئر، وكان ذلك عرف ديارهم أما في عرفنا ما يصالح به الصبيان على أهله وطعام الصبي على أهله إن كان الصبي يأكل الطعام، والظئر أن يهبه والمرجع في جميع ذلك العرف وهذا لأن هذه الأشياء من توابع الإرضاع.
والأصل: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك على الأجير في الإجارة فالمرجع فيه العرف وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.(7/445)
وليس للظئر ولا للمسترضع أن تفسخ هذه الإجارة إلا بعذر كما في سائر الإجارات، وكان ينبغي أن تكون للظئر ولاية الفسخ من غير عذر، لأن المعقود عليه في جانبها اللبن وإنه عين واستهلاك العين عذر في فسخ العقد كما في باب المزارعة، فإن لمن كان البذر من جهته حق فسخ المزارعة لأنه يحتاج إلى استهلاك العين.
وكما إذا استأجر جزاراً ليجزر له حقاً من هذا الأديم، ثم بدا له أن لا يقطع الأديم كان له فسخ العقد، لأنه يحتاج إلى استهلاك العين كذا هاهنا.
والجواب هذا هكذا إذا كانت العين متقوماً يضمن بالاستهلاك، وما يستهلك من اللبن ليس بمال متقوم يضمن بالاستهلاك، فكان اللبن والمنفعة سواء فلا يعتبر استهلاكه عذراً في الفسخ والعذر لأجل الصبي أن لا يأخذ لبنها أو معناً، لأن المقصود لا يحصل متى كانت الحالة هذه وكذلك إذا حبلت لأن الحبل يفسد اللبن، وكذلك إذا مرضت لأن اللبن يفسد بسائر أنواع المرض.
وكذلك إذا كانت سارقة لأنه يلحقهم زيادة ضرر، وكذلك إذا كانت فاجرة بينة الفجور لأنها ربما تحبل بما تدخل بيتهم فاجراً إن كانت ترضع في بيتهم، وفي ذلك ضرر على أهل الصبي ولأنها تتشاغل عن حفظ الصبي، وكذلك إذا أرادوا سفراً وأبت هي الخروج معهم وهذا لأنه لا يجب على الظئر بعقد الإجارة أن تسافر معهم، لا يجب على أهل الصغير ترك المسافرة وفي ترك الصغير عند الظئر ضرر لأهله، فيتعين الفسخ عند انتفاء هذه الوجوه.
وكذلك إذا كانت سيئة الخلق بذيئة اللسان لأنه لا يمكنهم تسليم المعقود عليه إلا بتحمل الأذى، وفيه ضرر زائد والعذر من جانب الظئر أن تمرض مرضاً لا تستطيع معه الإرضاع إلا بمشقة تلحقها، لأنه لا يمكنها إيفاء المعقود عليه إلا بزيادة ضرر.
وكذلك إذا حبلت وكذلك إذا آذوها بألسنتهم ولم يكفوا عنها لأنه لا يمكنها تسليم المعقود عليه إلا بضرر زائد، وهو ضرر تحمل الأذى.
وكذلك إذا لم تكن معروفة بالظئورة وهي ممن يعاب عليها، فلها الفسخ بخلاف ما إذا كانت تعرف بذلك ومعنى قوله لا تعرف بذلك أن تكون هذه أول إجارة منها، وإن كان الصبي قد ألفها ولا يأخذ لبن غيرها وهي لا تعرف بالظئورة كان لها الفسخ أيضاً في ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف: أنها ليس لها الفسخ إذا كان يخاف على الصبي من ذلك، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاعتماد على رواية أبي يوسف، وتأويل قول محمد إذا كان الصبي يعالج بالغذاء من الفانيد والسمن ونحو ذلك مما يعالج به الصبيان أو يأخذ لبن الغير بنوع حيلة، أما إذا كان لا يعالج بالغذاء، ولا يأخذ لبن غيره فجواب محمد رحمه الله كجواب أبي يوسف وعليه الفتوى.
وفي «العيون» : إذا استأجر ظئراً لصبي شهراً، فلما انقضى الشهر أبت أن ترضعه والصبي لا يقبل ثدي غيرها، قال محمد رحمه الله: أخبرها على أن ترضعه بأجر مثلها، قال الحاكم: يحتمل أن يكون هذا الجواب في المعروفة بهذا الغدر وإذا كان لها زوج معروف فأجرت نفسها للظئورة بغير إذن الزوج.(7/446)
ذكر في «الأصل» مطلقاً أن للزوج حق الفسخ قيل: هذا إذا كان الزوج يشينه ذلك لشرفه، أما إذا كان ممن لا يشينه ذلك فليس له الفسخ، وقيل: له حق الفسخ في الحالين، وهو الصحيح أما إذا كان الزوج من الأشراف فلعلتين:
أحدهما: أنه يعير بذلك، لأن الإجارة على الرضاع تعد دناءة (23ب4) والنكاح يفسخ لدفع ضرر العار حتى كان للأولياء حق الفسخ إذا زوجت نفسها من غير كفؤ مع أن النكاح لا يفسخ بسائر أسباب الفسخ أولى.
ألا ترى أن الغلام المأذون أو البالغ إذا أجر نفسه من رجل ليخدمه ويكون معه كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم كذا هاهنا.
ألا ترى أن المرأة إذا كانت من الأشراف، وأهل البيوتات فأجرت نفسها للظئورة، كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم.
والثاني: أن هذه الإجارة مما يوجب خللاً بحق الزوج؛ لأنها حال ما تنتقل لخدمة الصبي لا يمكنها خدمة الزوج، وللزوج أن يمنع المرأة عما يوجب خللاً في حقه وأما إذا لم يكن الزوج من الأشراف فللعلة الثانية، وإن كان زوجها مجهولاً لا تعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له أن ينقض الإجارة وإذا كان لها زوج معروف وقد استؤجرت شهراً، فانقضى الشهر والصبي لا يأخذ لبن غيرها إن كانت أجرت نفسها بغير إذن الزوج، فللزوج أن يأباه وإن خيف أن يموت الصبي وإن كانت أجرت نفسها بإذن الزوج فليس للزوج أن يمنعها إذا كان الصبي ممن لا يأخذ لبن غيرها.
في «العيون» : وإن كان الزوج قد سلم الإجارة فأراد أهل الصبي أن يمنعوه من غشائها مخافة الحبل وأن يضر ذلك تصبيهم فلهم أن يمنعوه عن ذلك في منزلهم، لا؛ لأن لهم ولاية منعه عن غشائها ولكن لأن غشيانها في منزلهم لا يكون إلا بعد الدخول في منزلهم ولهم ولاية منع الزوج عن الدخول في منزلهم وإن تغشها في منزله فله أن يغشها لأن الغشيان صار مستحقاً له بعقد النكاح لو سقط هذا الحق إنما سقط دفعاً للضرر عن الصبي والحبل أمر موهوم قد يكون وقد لا يكون ولا يجوز إسقاط الحق الثابت بيقين للأمر الموهوم ولا يسع للظئر أن تمنعه عن ذلك، لأن هذا الحق لم يسقط بسبب هذه الإجارة فلا يكون للمرأة منعه عن ذلك وكل ما يضر بالصبي نحو الخروج عن منزل الصبي زماناً كثيراً، وما أشبهه فلهم أن يمنعوها عنه وما لا يضر فليس لهم منعها عنه لحاجتها إلى ذلك، ويصير ذلك مستثناً من الإجارة كأوقات الصلاة ونحوها، ومعنى قوله: وكل ما يضر بالصبي لا محالة، أما ما كان فيه فهم الضرر فليس لهم منعها عنه ألا ترى أنها لا تمنع عن تمكين الزوج في منزله مع أن فيه وهم الضرر.
وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل ظئراً لولده الصغير، ثم مات الرجل لا تنتقض إجارة الظئر لأن إجارة الظئر وقعت للصغير؛ لأن الأب فيما يتصرف للصغير وكيل عن الصغير شرعاً، فيعتبر بالوكيل الحقيقي، والوكيل الحقيقي في باب الإجارة إذا مات لا تبطل الإجارة، فكذا الوكيل الشرعي.(7/447)
فكان الفقيه أبو بكر البلخي يقول: إنما لا تبطل إجارة الظئر بموت الأب وهذا لأنه إذا كان للصغير مال، فالإجارة وقعت للصغير باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن أجر الإرضاع يجب في مال الصبي، فكانت الإجارة واقعة للصبي من كل وجه فبقي بقاء الصبي فأما إذا لم يكن للصبي مال فالأجر يجب على الأب؛ لأن مؤنة الإرضاع على الأب إذا لم يكن للصغير مال فتكون الإجارة واقعة للأب، فتبطل بموت الأب.
ومنهم من قال: لا بل في الحالين جميعاً لا تبطل الإجارة بموت الأب وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه.
ووجه ذلك: أن الإجارة وقعت للصبي من كل وجه، باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن الأجر يجب في ذمة الصبي، والأب يقضي ما وجب على الصغير من ماله ألا ترى أنه لو ظهر للصغير مال كان للأب أن يقضي ذلك من ماله فعلم أن الإجارة وقعت للصغير من كل وجه فلا تبطل بموت الأب، أو نقول: إن وقعت الإجارة للأب باعتبار الأجر وقعت للصغير باعتبار المنفعة فمن حيث أنها وقعت للأب إن كانت تبطل بموت الأب، فمن حيث أنها وقعت للصغير لا تبطل فلا تبطل بالشك أو نقول: لا فائدة في نقض الإجارة بموت الأب؛ لأنه يحتاج إلى إعادة مثلها في الحال.
ثم قال محمد رحمه الله: وأجر الظئر في ميراث الصبي قيل: أراد به أجر ما يستقبل من المدة بعد موت الأب أما ما وجب من الأجر حال حياة الأب يستوفى من جميع التركة وقيل: الكل يستوفى من نصيب الصغير، وهو الصحيح.
وفي «النوازل» : استأجر الرجل ظئراً ليرضع ابنه الصغير، فلما أرضعته شهوراً مات أب الصغير فقالت عمة الصغير للظئر: أرضعيه حتى يعطيك الأجر فأرضعته شهوراً، قال: إن لم يكن للصبي مال حتى استأجرها الأب فمن يوم مات الأب الأجر على العمة ثم ينظر إن كانت وصية الصغير رجعت بذلك في مال الصغير وما لا فلا، وإن كان للصبي مال يوم استأجرها فالأجر كله في مال الصبي وأشار إلى المعنى فقال: لأن في الفصل الأول الإجارة قد انقضت بموت الأب فإذا قالت العمة: أرضعيه ووافقته على ذلك، انعقد بينهما إجارة مبتدأة فيكون الأجر على العمة من هذا الوجه وفي الفصل الثاني الإجارة لم تنتقض بموت الأب، بل بقيت على حالها لأن العقد وقع للصغير من كل وجه فيكون الأجر في مال الصبي.
وإن ماتت الظئر انتقضت الإجارة كما في سائر الإجارات إذا مات الآجر وكذا إذا مات الصبي؛ لأن العقد وقع له فيبقى ببقائه ويبطل بموته، ولأنها عجزت عن إيفاء المعقود عليه عجزاً لا يرجى زواله، فهو بمنزلة العبد المستأجر إذا مات وذلك يوجب انفساخ العقد كذا هاهنا.
وإذا استأجر الرجل ظئراً ترضع صبيين له فمات أحدهما فإنه يرفع عنه نصف الأجر؛ لأنها بقدر النصف عجزت عن إيفاء المعقود عليه.
بيانه: أنه لا يمكن إيفاء المعقود عليه بدون الصبي، وليس لأب الصبي إقامة صبي(7/448)
آخر مقام الصبي لما يقع بين الصبيين من التفاوت في الإرضاع، فهو معنى قولنا: عجزت عن إيفاء المعقود عليه بقدر النصف فتنفسخ الإجارة في النصف، فلهذا قال: يرفع عنه نصف الأجر.
ولو استأجرت ظئرين يرضعان صبياً واحداً فماتت إحداهما، فالأخرى بنصف الأجر إن كان متفاوتاً فبحساب ذلك.
والحاصل: أن الأجر يتوزع على لبنهما، وإن أجرت الظئر نفسها من قوم آخرين ترضع صبياً لهم ولا يعلم بذلك أهلها الأولون حتى يفسخوا هذه الإجارة، فأرضعت كل واحد منهما وفرغت فتداعت وهذه خيانة منها ولها الأجر كاملاً على الفريقين، ولا تتصدق بشيء، وهذا الجواب لا يشكل إذا قال أب الصغير للظئر: استأجرتك لترضعي ولدي هذا سنة بكذا؛ لأن الظئر في هذه الصورة تعتبر أجيرة مشترك؛ لأن الأب أوقع العقد أولاً على العمل إنما يشكل فيما إذا قال لها: استأجرتك سنة لترضعي ولدي هذا بكذا؛ لأنها أجيرة وجدت في هذه الصورة لأنه أوقع العقد على المدة أولاً، وسيأتي بيان ذلك في باب الراعي إن شاء الله تعالى.
وليس للأجير الواحد أن يؤاجر نفسه من آخر، وإذا أجر لا يستحق تمام الأجر على المستأجر الأول ويأثم.
والوجه في ذلك: أن أجير الواحد في الرضاع يشبه أجير المشترك من حيث إنه يمكنه إبقاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه كما في الخياط والقصار، وإن كانت أجير وعد من حيث إنه أوقع بالعقد في حقها على المدة ولو كانت أجيرة وعد من كل.... بل أوقع العقد في حقها على المدة والعمل عمل لا يمكنها إبقاؤها لكل واحد منهما على الكمال في تلك المدة، بأن أجرت نفسها يوماً للحصاد أو للخدمة فخدم في بعض اليوم الأول، وخدم في بعض اليوم (24أ4) الوحد، وقلنا بأنها تستحق الأجر كاملاً لشبهها بالأجير المشترك، وإذا دفعت الظئر الصبي إلى خادمتها حتى أرضعته فلها الأجر كاملاً استحساناً، لأنه لم يشترط عليها الإرضاع بلبنها.
فهو نظير من استأجر قصاراً ليقصر له ثوباً أو خياطاً ليخيط له ثوباً ولم يشترط عليه العمل بنفسه فعمل بغيره فإن يستحق الأجر كذا هاهنا، والمعنى فيه أن قوله: ليخيط ليقصر لترضع كما تذكر ويراد به المباشر تذكر ويراد به النسب فلا تتعين المباشرة مراداً له إلا بالتنصيص عليه، فأما إذا شرط عليها الإرضاع بنفسه فدفعته إلى خادمتها حتى أرضعته، هل تستحق الأجر؟ فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنها لا تستحق.r
وإن أرضعته بلبن شاة أو غذته بطعام حتى انقضت المدة فلا أجر لها؛ لأن هذا لا يسمى إرضاعاً فلا يتحقق إيفاء المعقود عليه وبدونه لا تستحق الأجر وإن جحدت الظئر ذلك، وقالت: ما أرضعته بلبن البهائم وإنما أرضعته بلبني فالقول قولها مع يمينها استحساناً وإن قامت لأهل الصبي بينة على ما ادعوا فلا أجر لها.(7/449)
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تأويل المسألة أنهم شهدوا أنها أرضعته بلبن الشاة، وما أرضعته بلبن نفسها أما لو اكتفوا بقولهم: ما أرضعته بلبن نفسها لا تقبل شهادتهم؛ لأن هذه شهادة قامت على النفي مقصوداً بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النفي دخل في ضمن الإثبات وإن أقاما البينة أخذت ببينة الظئر.
وإذا استأجر الأب أم الصغير لإرضاعه فهو على وجهين: إما أن يستأجرها بمال نفسه أو بمال الصغير، فإن استأجرها حال قيام النكاح بمال نفسه لا يجوز، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: إرضاع الصبي حال قيام النكاح واجب عليها ديانة إن لم يكن واجباً حكماً؛ وهذا لأنه اجتمع ما يوجب أن يكون الرضاع واجباً عليها وما يمنع أن يكون الإرضاع واجباً عليها من حيث إن النكاح وضع لاستحقاق الوطئ على المرأة ولاستحقاق المهر على الزوج، لا الإرضاع يوجب أن لا يكون الإرضاع واجباً عليها ومن حيث إن الامتناع عن إرضاع الصغير حال قيام النكاح سبب النفرة والنفرة سبب فوات مصالح النكاح يوجب أن يكون الإرضاع واجباً عليها فجعلناه واجباً ديانة لا حكماً.
إذا أثبت هذا فنقول: اعتبار الحكم إن كان يوجب جواز هذه الإجارة فاعتبار الديانة يمنع الجواز؛ لأن الإجارة بالاستحقاق قائماً بجوز إيرادها على ما ليس بمستحق، فلا يثبت الجواز بالشك وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه مهجور بين الناس.
فإنك لا ترى امرأة في نكاح رجل تأخذ الأجر على إرضاع ولده منها ولعرف الناس أثراً في جواز العقد وفساده، ألا ترى لو استأجر الرجل مرآة ليسوي عمامته جاز، ولو استأجر حباً لذلك لا يجوز وما افترقا إلا من حيث إن الأول عمل الناس، والثاني ليس عمل الناس، وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه استأجرها هي فيه شريكة؛ لأنهما يشتركان في الولد والإجارة لمثل هذا العمل لا يجوز وكما لا يجوز استئجار خادمتها؛ لأن خادمتها مملوكة لها وما يجب من الأجر فهو لها فيكون استئجار خادمتها كاستئجارها، وكذا لا يجوز استئجار مدبرتها، ولو استأجر مكاتبة لها جاز.
وإن استأجرها بمال الصغير روى ابن سماعة عن محمد: أنه يجوز وهو مشكل على العبادات كلها هذا استأجرها حال قيام النكاح وإذا استأجرها بعد الطلاق، فإن كان الطلاق رجعياً لا يجوز لأن الطلاق الرجعي لا يقطع ملك النكاح، فصار الحال بعد الطلاق الرجعي كالحال قبل الطلاق، وإن كان بائناً ففي ظاهر الرواية يجوز؛ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز؛ لأن هذا منع ثبت بالنكاح فبقي ما بقيت العدة كمنع نكاح الأخت وأربع سواها ومنعها عن زوج آخر.
وجواب ظاهر الرواية يخرج على العبارة الأولى والثانية أما على العبارة الأولى؛ فلأنا إنما أوجبنا الإرضاع عليها ديانة؛ لأن الامتناع عنه سبب لوقوع الخلل في مصالح النكاح بواسطة النفرة وهذا المعنى لا ينافي بعد الطلاق البائن؛ لأن مصالح النكاح لا حصول لها بعد البينونة، وأما على العبارة الثانية فلأن هذا العقد غير مهجور فيما بين(7/450)
الناس ولا يخرج على العبارة الثالثة، وإنه ظاهر هذا إذا استأجر زوجته لإرضاع ولده منها ولو استأجرها لإرضاع ولده من غيرها يجوز، وإنه يخرج على العبارات كلها.
ولو استأجر الرجل أمته أو ابنته أو أخته ترضع صبياً له جاز، وكذلك كل ذات رحم محرم منه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر ظئراً لترضع ولده سنة بمئة درهم على أنه إن مات الصبي قبل ذلك فالدراهم كلها للظئر فهذا شرط فاسد يفسد الإجارة؛ لأنه يخالف حكم الشرع؛ لأن حكم الشرع انفساخ الإجارة عند موت الصبي قبل المدة وعود الأجرة إلى المستأجر بقدر ما بقي من المدة، فإذا شرط خلافه فسد به العقد، فإن مات الصبي قبل ذلك فلها بقدر ما أرضعت أجر مثلها وترد البقية إلى المستأجر.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر ظئراً ترضع ولده سنة على أن أجرتها ليلة ويوماً خمسون درهماً، وباقي السنة ترضع مجاناً فأرضعت شهرين ونصف ثم مات الولد يحسب لها من ذلك أجر مثلها على رضاع شهرين ونصف وترد الباقي؛ لأن هذه إجارة فاسدة؛ لأن قضية العقد انقسام الأجرة على منافع المدة، وقد شرط خلافها أو لأنهما شرطا عقد التبرع في الإجارة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مسلمة ترضع ولده الكافر بالأجر فلا بأس به فقد صح أن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من كافر، ليسقى له الماء والله أعلم.
الفصل الحادي عشر: في الاستئجار للخدمة
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويكره للرجل أن يستأجر امرأة حرة يستخدمها بخلوتها؛ لأن الخلوة بالأجنبية قبل الإجارة مكروه كيلاً تصير سبباً للوقوع في الفتنة، وهذا المعنى موجود بعد الإجارة لكن الإجارة جائزة؛ لأنها عقدت على الاستخدام وأنه مباح في الخلوة بها وقد يخلو بها وقد لا يخلو بها وكان بمنزلة الاستئجار على كتابة النوح والغناء، فإنها جائزة؛ لأن المعصية في القراءة وعسى تقرأ وعسى لا تقرأ كذا هاهنا، إلا أنه لم يذكر الكراهة ثمة وذكر هاهنا لأنه قد يخلو بها والخلوة بالأجنبية في الحمل على المعصية أبلغ من الكتابة في حمله على القراءة، فلهذا ذكر الكراهة هاهنا ولم يذكر ثمة.
وفي «النوازل» : حرة أجرت نفسها من رجل ذي عيال فلا بأس به ولكن يكره أن يخلو بها؛ لأنه من احتمال الوقوع في الفساد، وهو تفسير ما ذكر في «الأصل» .
وقال أبو حنيفة: إذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لا يجوز؛ لأن خدمة الزوج مستحقة على المرأة ديانة لما فيه من حسن المعاشرة، أن لم يكن مستحقاً عليها حكماً، والإجارة على ما كان مستحقاً على الأجير ديانة لا حكماً لا تجوز،(7/451)
كما لو استأجرها لتخدمه فيما ليس من جنس خدمة البيت كرعي دوابه، وما أشبه ذلك يجوز؛ لأن غير ذلك غير مستحق عليها لا حكماً ولا ديانةً.
ولو استأجرت زوجها ليخدمها قال هو جائز هكذا ذكر (24ب4) في ظاهر الرواية وروى أبو عصمة سعد بن معاد المروري عن أبي حنيفة، أنه باطل وذكر في كتاب جعل الآبق أن المرأة متى استأجرت زوجها، فله أن لا يخدمها ومتى رفع إلى القاضي فإن القاضي يفسخ العقد وينقضه.
فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين لكن تأويل ما روى أبو عصمة أنه باطل أنه سيبطل، ومنهم من قال: لا بل في المسألة روايتان على ظاهر الرواية يجوز وله حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي، وعلى رواية أبي عصمة لا يجوز، واتفقت الروايات أن الأب إذا أجر نفسه للخدمة من ابنه لا يجوز حتى كان له أن يفسخ من غير قضاء ولا رضا.
واتفقت الروايات في الزوج والأب إذا أخدمهما أنهما يستحقان المسمى، نص على هذا في كتاب المزارعة، فإنه قال في المزارعة: كل من لا يجوز أن يستأجر للخدمة فله أجر المثل إلا الوالد والزوج فوجه أبو عصمة الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يجعل للخادم ذل ويقتضيه بالخادم.
ولهذا قالوا: الكافر إذا اشترى عبداً مسلماً فإنه يجبر على بيعه حتى لا يستخدمه قهراً من غير عوض يحصل للعبد فيكون في ذلك إخلالاً بالمسلم وليس للكافر استذلال المسلم فدل أن الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يحصل للخادم ذل.
وليس للمسلم أن يذل نفسه إذا ثبت هذا فنقول: بأن إجارة المرأة زوجها للخدمة لو صحت كان في ذلك استخدام الزوج على سبيل القهر من غير عوض يحصل له من وجه؛ لأنه إن حصل له عوض باعتبار ملك الرقبة فإن الأملاك من حيث الرقبة متباينة لم يحصل له العوض باعتبار المنافع متصلة ما للزوج كما للمرأة، وما للمرأة كأنه للزوج ولهذا لم يجز لواحد منهما أن يضع زكاة ما له في يد صاحبه فباعتبار المنفعة لا يحصل العوض فلا ينتفي الذل، وكان كالأب إذا أجر نفسه من ابنه للخدمة فإنه لا يجوز؛ لأنه من وجه كالحاصل بغير عوض من حيث إن للأب شبه ملك في مال ابنه، وهذا بخلاف المسلم إذا آجر نفسه من كافر للخدمة حيث يجوز باتفاق الروايات؛ لأنه وإن كان يستخدمه قهراً بعد الإجارة إلا أنه يستوجب عليه عوضاً من كل وجه على سبيل القهر، فينتفي الذل أما هاهنا بخلافه وجه ظاهر الرواية.
وهو الفرق بين الزوج وبين الأب أن مال الزوج في مال امرأته دون ما للأب في مال ولده؛ لأن للأب في مال ولده شبهة ملك حتى لو وطئ جارية ابنه، وقال: علمت أنها علي حرام لا يحد وليس للزوج في مال امرأته شبهة ملك ولهذا لو وطئ في جارية زوجته، وقال: علمت أنها علي حرام يحد ولو كان للزوج في مال زوجته مثل ما للأب في مال ولده لكان لا تجوز الإجارة أصلاً ولو لم يكن للزوج في مال زوجته شيء أصلاً(7/452)
لكانت تجوز الإجارة، كما لو أجر نفسه لخدمة أجنبية فإذا كان له في مال المرأة شيء، ولكن دون ما للأب في مال ابنه حكمنا بجواز الإجارة وأثبتنا له حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي توقيراً على الأمرين حطهما بقدر الممكن.
وفي «الفتاوى» : امرأة قالت لزوجها اغمز رجلي على أن لك علي ألف درهم فغمز الزوج رجلها، إلى أن قالت: لا أريد الزيادة فالإجارة باطلة؛ لأن استئجار المرأة زوجها للخدمة باطلة، وهذا الجواب يوافق رواية أبي عصمة ويخالف ظاهر الرواية ثم الزوج أو الأب إذا خدم كان له المسمى اتفقت الروايات في ذلك، وهذا الحكم لا يشكل في الزوج على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية هذه الإجارة جائزة أما يشكل على رواية أبي عصمة لأن على هذه الرواية الإجارة فاسدة، وكذلك يشكل في الأب على ظاهر الرواية لأن على ظاهر الرواية استئجار الابن أباه للخدمة فاسدة.
وفي الإجارة الفاسدة يجب أجر المثل، والجواب أنا إنما حكمنا بفساد هذه الإجارة في الزوج على رواية أبي عصمة، وفي الأب على ظاهر الرواية نظراً للأب والزوج حتى لا يلحقه ذل بسبب الخدمة، والنظر في إيجاب المسمى متى خدم لا في إيجاب أجر المثل لا يزاد على المسمى، إن كان المسمى شيئاً معلوماً فلا يستحق الزيادة إن كان أجر مثله يريد على المسمى، وينقص عن المسمى إذا نقص أجر المثل عن المسمى، وإذا حكمنا بوجوب المسمى لا ينقص عنه شيء بعد ذلك فكان النظر في إيجاب المسمى من هذا الوجه، فلهذا أوجبنا المسمى.
هذا كما قلنا في العبد المحجور إذا أجر نفسه أنه لا تجوز الإجارة، ولكن إذا عمل وسلم من العمل يستحق المسمى؛ لأنا إنما حكمنا بالفساد نظراً للمولى، وانظر متى عمل وسلم في التجويز حتى لا تزول منافع عبده مجاناً كذا هنا.
وإن استأجرت المرأة زوجها ليرعى غنمها، أو يقوم على عمل لها جاز أما على ظاهر الرواية فظاهر، وأما على رواية أبي عصمة فلأنه لا ذل فيه.
ولو استأجر الرجل ابنه للخدمة أو استأجرت المرأة ابنها للخدمة لم يجز، وإذا خدم فلا أجر له؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن فالإجارة وردت على ما هو المستحق فلا تعمل، قال: إلا إذا كان الابن عبداً للغير أو مكاتباً للغير فاستأجره أحدهما من المولى للخدمة، لأن خدمة الأب لا تلزم الابن إذا كان عبداً لغيره أو مكاتباً لغيره، وإن كان الابن حراً فاستأجره أحدهما ليرعى غنماً له أو استأجره لعمل آخر وراء الخدمة، فإنه يجوز.
وإن استأجر الابن أمه، أو جدته، أو جده للخدمة لا يجوز ولو خدمت فلها المسمى، ويستوي ذلك أن يكون الابن حراً، أو عبداً مسلماً، أو كافراً؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن مع اختلاف الدين، ويجوز الاستئجار للخدمة فيما بين الأخوة وسائر القرابات. ومن مشايخنا من قال: إذا استأجر عمه للخدمة والعم أكبر أو استأجر أخاه الأكبر للخدمة لا يجوز.(7/453)
ويكره للمسلم أن يؤاجر نفسه من الكافر للخدمة، ويجوز إذا فعل، أما الجواز فلما مرّ وأما الكراهة؛ لأنه استذلال صورة فإن لم يكن استذلالاً معنى، وليس للكافر استذلال المسلم صورة.
«وفي فتاوي الفضلي» : لا تجوز إجارة المسلم نفسه من النصراني للخدمة، وفيما سوى الخدمة يجوز والأجير في سعة من ذلك ما لم يكن في ذلك إذلال.
وإذا استأجر الرجل عبداً ليخدمه كل شهر بأجر مسمى فله أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد العشاء الآخرة، والقياس أن يكون له استخدامه بالليل والنهار الشهر كله؛ لأن الشهر اسم لثلاثين يوماً وليلة إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مستثنى عن الإجارة عرفاً، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر؛ لأنهم ينامون والمستثنى عرفاً كالمستثنى شرطاً.
وإذا استأجر الرجل عبداً شهرين شهراً بخمسة وشهراً بستة، كان الشهر الأول بخمسة، والشهر الثاني بستة؛ لأن قوله: آجرتك شهراً بخمسة بمنزلة قوله: أجرتك هذا الشهر؛ لأن الإجارة شهراً تنصرف إلى الشهر الذي يلي العقد فصار كأنه قال: آجرتك هذا العبد في هذا الشهر بخمسة، وفي الشهر الثاني بستة.
وإذا استأجر عبداً بالكوفة يستخدمه ولم يعين مكاناً للخدمة، كان له أن يستخدمه بالكوفة وليس له أن يستخدمه خارج الكوفة؛ لأن الاستخدام بالكوفة ثابت بدلالة الحال فيعتبر بما لو ثبت نصاً.
بيانه: أن المستأجر له حمل ومؤنة فالظاهر من حال صاحب العبد، أنه يريد الاستخدام في مكان العقد حتى لا يلزمه مؤنة الردود بما يرى ذلك على الأجر فيتعين موضع العقد مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال من هذا الوجه، فإن سافر بها ضمن (25أ4) لأن كونه تعين مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال فيعتبر بما لو تعين بالنص وهناك لو سافر بالعبد يضمن كذا هاهنا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في إجارات «الأصل» وذكر في صلح «الأصل» أن من ادعى داراً وصالحه المدعى عليه على خدمة عبده سنة إن له أن يخرج بالعبد إلى أهله؛ لأن الإذن بالاستخدام حصل مطلقاً واعتبره بالعبد الموصى له بالخدمة.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلح» : لم يرد بقوله يخرج بالعبد إلى أهله أن يسافر به، وإنما أراد به أن يخرج به إلى أهله في القرى، وأقرّ البلد قال رحمه الله: وهذا كما قلنا في باب الإجارة من استأجر عبداً للخدمة ليس له أن يسافر به، وله أن يخرج إلى أهله في القرى وما فيه البلدة.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يفرق بين مسألة الصلح وبين مسألة الإجارة وكان يقول في مسألة الصلح: لصاحب الخدمة أن يسافر بالعبد، وليس للمستأجر أن يسافر بالعبد المستأجر للخدمة.
وحكي عن الفقير أبي إسحاق الحافظ أنه كان يقول: لا رواية عن محمد في فصل الإجارة فلقائل أن يقول: للمستأجر أن يخرج بالعبد عن المصر كما في الصلح ولقائل:(7/454)
أن يفرق بينهما وقد عرنا على الرواية في «إجارات الأصل» على نحو ما كتبنا قال محمد رحمه الله: وليس للمستأجر أن يضرب الغلام لأن صاحب الغلام لم يأذن له بالضرب، إنما أذن له بالاستخدام والضرب ليس من الاستخدام في شيء، ولا ضرورة إليه أيضاً؛ لأنه يمكن استخراج الخدمة من العبد بدون الضرب بالملائمة فلا يصير الضرب مأذوناً فيه وخرج على هذا فصل الدابة فإن المستأجر الدابة للركوب أن يضرب الدابة لأنه لا يمكن استخراج السير من الدابة بدون الضرب فصار الضرب ثمة مأذوناً فيه أما هاهنا بخلافه.
ولو دفع المستأجر الأجر إلى العبد فإن كان العبد هو العاقد فقد برأ عن الأجر، لأنه دفع الأجر إلى العاقد وإن لم يكن عاقداً لا يبرأ وإن حصل الرد إلى من يره يد المولى من حيث الحكم، فرق بين هذا وبين المودع إذا دفع الوديعة إلى عبد المودع حيث لا يضمن.
والفرق: أن يد العبد يد المولى من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة والأمر كان واجباً على المستأجر، فباعتبار الحكم إن كان يحصل له البراءة عنه فباعتبار الحقيقة لا تحصل فلا تحصل البراءة بالشك، أما الوديعة فلم تكن في ضمان المودع فباعتبار الحقيقة إن كان يجب الضمان، فباعتبار الحكم لا يجب فلا يجب الضمان بالشك.
وإذا استأجر الرجل عبداً للخدمة فله أن يكلفه ما هو من أنواع الخدمة؛ لأن الخدمة اسم جنس فتتناول جميع أنواعه فله أن يكلفه أن يخيط له يوماً، وأن يخبز له هكذا ذكر في «الكتاب» قالوا: وهذا إذا كان خياطة وخبزاً لا بدّ للمستأجر منه، وأما إذا أراد أن يقعده خياطاً يخيط ثياب الناس أو يقعده خبازاً يخبز للناس ليس له ذلك؛ لأن هذا تجارة واكتساب المال فلا يدخل تحت اسم الخدمة.
قال: وطعام العبد على صاحبه وليس على المستأجر من ذلك شيء؛ لأن المستحق على المستأجر المشروط عليه في العقد والطعام غير مشروط على المستأجر في العقد لا نصاً ولا عرفاً.
قال: وإذا نزل بالمستأجر ضيفان ففي العبد المستأجر أن يخدمهم؛ لأن خدمة ضيفان المستأجر من جملة خدمة المستأجر ألا ترى أنه لولا هذا العبد كان على المستأجر أن يخدمهم ديانة ومروءة قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه أو فليخدم ضيفه» وإذا كان على المستأجر خدمة ضيفه، وإذا كان على المستأجر خدمة نفسه صار خدمة ضيفانه كخدمته.
وإن تزوج المستأجر امرأة بعد ما استأجر العبد، فعلى العبد أن يخدم المستأجر ويخدم المرأة أيضاً؛ لأن حال المرأة لا يكون أقل من حال الضيف، وعلى العبد خدمة الضيف فكان عليه خدمة المرأة من الطريق الأولى.
وفي رواية إبراهيم عن محمد: رجل أجر عبداً له سنة ثم إن العبد أقام البينة أن المولى كان أعتقه قبل الإجارة، فالأجرة للعبد؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً في هذه(7/455)
الإجارة فتوقف على إجارة العبد، ونفذ بإجارته والمبدل وهو المنافع بعد العتق للعبد فكان البدل له أيضاً ولو قال العبد: إني حر، وقد فسخت الإجارة ولم يكن له بينة ودفعه القاضي إلى مولاه وأجبره المولى على العمل ثم أقام بينة أنه حر، وأن المولى أعتقه قبل الإجارة فلا أجر للعبد ولا للمولى ولو لم يقل فسخت كان الأجر للعبد، ولو كان غير بالغ فادعى العتق وقد أجره المولى وقال: قد فسخت ثم عمل، وباقي المسألة بحاله فالأجر للغلام.
قال في «الكتاب» : وهو بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً عنه، وأن عقده يوقف على إجارته فينبغي أن يعمل فسخه حتى لا يكون له الأجر ثم أشار إلى الجواب، وقال: هذا بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره.
وبيان ذلك: أن الملتقط إنما ملك إجارة اللقيط لأنه بالإجارة يجعل ما ليس بمتقوم في حقه متقوماً، وإنه نظر في حق الصغير وهذا المعنى يقتضي أن يملك المولى إجارة معتقة، إذا كان صغيراً في حجره فينفذ عقد المولى الإجارة عليه بصفة اللزوم فلا يملك فسخها بعد ذلك.
قال في «القدوري» : وإذا أجر الرجل عبده سنة فلما مضت ستة أشهر أعتقه فعتقه جائز، لأنه اعتق ملك نفسه والرقبة بعد الإجارة باقية على ملك المولى فينفذ عتقه، وكان العبد بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، وهذا بناء على ما قلنا: أن عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها، والمنافع بعد العتق حدث على ملك العبد، فيصير العقد في حق المنافع الحادثة بعد العتق كأنه صدر من الفضولي فتوقف على الإجازة، وإذا أجاز لم يكن له أن ينقض بعد ذلك وأجر ما مضى للسيد وما بقي للعبد لأن الأجر بدل المنافع والمنافع بعد العتق ملك العبد، ونفذ العقد عليها بإجارة العبد فكان بدلها للعبد، وليس للعبد أن يقبض الأجرة إلا بوكالة من المولى؛ لأن قبض البدل من حقوق العقد، فثبت للعاقد والعاقد هو المولى، وإن كان المولى حين أجر العبد استعجل الأجرة ثم أجاز العبد بعد العتق، فالأجرة كلها للسيد؛ لأن الأجرة تملك بالتعجيل وفي تلك الحالة المبدل على حكم ملك المولى، فصارت الأجرة مملوكة للمولى، وبالإجارة عن العبد تقرر حكم ذلك الملك فلا يتغير بالعتق.
ولو كان العبد هو الذي آجر نفسه بإذن المولى، ثم عتق بعد ما مضى مدة فله حق الفسخ، والعبد هو الذي يلي قبض الأجرة؛ لأن العقد كان منه ولو آجر المكاتب عبده، ثم عجز ورد في الرق، فالإجارة باقية في قول أبي يوسف وقال محمد: تنقض الإجارة.f
ولو استأجر عبداً ثم عجز بطلت الإجارة في القولين، ولو أجر الرجل عبداً له ثم استحق وأجاز المستحق الإجارة، فإن كانت الإجارة قبل استيفاء المنفعة جاز وكانت الأجرة للمالك لأن الإجارة في الانتهاء كالأذن في الابتداء، وإن أجاز بعد استيفاء المنفعة لم تعتبر الإجارة والأجرة للعاقد؛ لأن المنافع قد مضت وتلاشت (25ب4) .(7/456)
وابتداء العقد عليها لا يجوز فلا تلحقها الإجازة؛ لأن الإجازة في معنى ابتداء العقد وإن أجاز في بعض المدة، فالأجر في الماضي والباقي للمالك في قول أبي يوسف.
وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب وما بقي فهو للمالك.
فوجه قول أبي يوسف: أن العقد قائم فتلحقه الإجازة، ووجه قول محمد: أن العقد ينعقد ساعة فساعة، ففي حق ما مضى من منفعة العقد قد انعدم فلا تلحقه الإجازة.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجرت المرأة دارها من زوجها وسكناها جميعاً فلا أجر لها، قال وهو بمنزلة استئجارها لتطبخ، أو تخبز، هكذا ذكر.
وقيل: في المعنى أن التسليم شرط لصحة الإجارة، ولوجوب الأجر وسكناها معه يمنع التسليم والحكم ممنوع والعلة مردودة، والقياس على استئجارها للطبخ والخبز غير صحيح؛ لأن الطبخ والخبز واستحق عليها ديانة إن لم يكن مستحقاً عليها حكماً.
أما إسكان الزوج في منزلها غير مستحق عليها إلا ديانة ولا حكماً وقوله: بأن سكناها مع الزوج يمنع التسليم.
قلنا: لا يمنع لأنها تابعة للزوج في السكنى ولو استأجر الرجل غلاماً ليخدمه فرفع الغلام شيئاً من متاع البيت، ووقع من يده على شيء آخر من متاع البيت فكسره فلا ضمان على الغلام، ولو وقع على وديعة كانت عند المستأجر وكسرها فالغلام ضامن.
ومما يتصل بهذا الفصل إجارة الصبي والاستئجار له
إذا أجر الأب أو الجد أو الوصي الصبي في عمل من الأعمال، فهو جائز؛ لأن لهؤلاء ولاية استعمال الصغير من غير عوض بطريق التهذيب والرياضة، فمع العوض أولى، ولا يجوز إجارة غيرهم إذا كان له واحد منهم؛ لأنه لا ولاية لغيرهم على الصغير حال قيام واحد منهم وإن لم يكن له واحد منهم فأجره ذو رحم محرم منه، وهو في حجره جاز بطريق التهذيب والرياضة فإن لصاحب الحجر ولاية تهذيب من في حجره، فإن كان في حجره ذو رحم محرم فأجره آخر هو أقرب كالصبي إذا كان في حجر عمه وله أم فأجرته الأم جاز في قول أبي يوسف وقال محمد: لا يجوز.
فوجه قول محمد: أن هذه الولاية في حق غير الأب والجد ووصيهما بطريق التهذيب والرياضة، وإنما تثبت ولاية التهذيب والرياضة لمن كان الصبي في حجره، ولأبي يوسف أن القرابة مؤثرة في إثبات الولاية فإذا ملكه الأبعد ملكه الأقرب من الطريق الأولى، والذي ولي الإجارة على الصغير أن يقبض الأجرة؛ لأنه من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وليس له أن ينفقها عليه؛ لأنها مال الصغير وليس لغير الأب والجد ووصيهما؛ ولأنه التصرف في مال الصغير، وكذلك إذا وهب للصغير شيء فللذي الصغير في حجره أن يقبضه، ولكن لا ينفق عليه لما قلنا وللأب والجد ووصيهما إجارة عبد الصبي وسائر أمواله، فأما غير ممن هؤلاء ممن الصغير في حجره لا يمكن إجارة مال الصغير؛ لأنه ليس لغير هؤلاء ولاية التصرف في مال الصغير.(7/457)
وعن محمد رحمه الله أنه قال: استحسن أن يؤاجروا عبده، لأنه ظهر ولا يتهم في نفس الصغير نظراً له فكذا تظهر ولايتهم في مال الصغير نظراً له قال: وكذلك استحسن أن ينفقوا عليه ما لا بد منه؛ لأن في تأخير ذلك ضرر بالصغير، ولو أجر الأب أو الجد أووصيهما الصغير ثم بلغ الصغير فهو بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ.
فرق بين هذا وبينما إذا أجروا عبداً للصغير، ثم بلغ الصغير حيث لا يكون له ولاية الفسخ.
والفرق: أن إجارة مال الصغير محض منفعة في حق الصغير إذ بها يحصل للصغير ما هو متقوم وهو الأجر بمقابلة ما ليس بمتقوم وهو المنافع فينوب الجد والوصي فيها مناب الصغير، وصار كأنه آجر بنفسه وهو بالغ، فأما إجارة الصغير لم يتمحض نفعاً في حق الصغير؛ لأنه أتعب بدنه فكان ينبغي أن لا يملكها هؤلاء لكن ملكوها من حيث التهذيب والرياضة، فلهؤلاء ولاية تهذيب الصبي ورياضته قلنا: وولاية التهذيب قد انقطعت بالبلوغ.
وإذا أجر الوصي نفسه للصغير لا يجوز.
أما على قول محمد؛ فلأن الوصي لا يملك بيع مال نفسه مع أنه مقابلة العين بالعين فلأن لا يملك إجارة نفسه منه وإنه مقابلة المنفعة بالعين أولى.
وأما على قول أبي حنيفة: فلأنه إنما يملك بيع مال نفسه من الصغير إذا كان النفع ظاهراً للصغير ولا نفع في بيع المنفعة للصغير، وإن كان بأقل من قيمته بحيث لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن ما يحصل للوصي غبن وما يحصل للصغير منفعة والعين خير من المنفعة.
ولو استأجر الوصي الصغير لنفسه فينبغي أن يجوز في قول أبي حنيفة إذا كان بأجرة لا يتغابن الناس في مثلها؛ لأن في هذا التصرف نفع للصغير؛ لأنه يحصل له العين وهو الأجر بمقابلة المنفعة، وأما الأب إذا استأجر الصغير لنفسه لا شك في جواز هذه الإجارة، وأما إذا أجر نفسه للصغير بمثل القيمة ذكر في عامة الروايات أنه يجوز عندهم جميعاً؛ لأنه باع منفعة له من الصغير بمثل القيمة فيعتبر بما لو باع عيناً له من الصغير بمثل القيمة، وذلك جائز فكذا هذا.
وذكر في بعض الروايات أنه لا يجوز، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» .
ووجه ذلك: أن العمل للصغير واجب على الأب ديانة، إن لم يكن واجباً من حيث الحكم، فالوجوب ديانة مانع جواز الإجارة لما هو قبل هذا.
الوصي إذا استأجر من نفسه عبد اليتيم ليعمل ليتيم آخر هو في حجره، وهو وصيهما لا يجوز؛ لأنه باع منفعة أحد اليتيمين من الآخر فيعتبر بما لو باع عيناً من أعيان مال أحدهما من الآخر وذلك لا يجوز، فهذا كذلك الصبي المحجور إذا أجر نفسه لم يجز.
وكذلك العبد المحجور إذا أجر نفسه لم يجز، وهذا؛ لأن الإجارة عقد المعاوضة كالبيع فلا يملكها المحجور عليه كما لا يملك البيع، فإن عمل فهذا على وجهين: إما إن سلم من العمل وفي هذا الوجه القياس أن لا يجب الأجر؛ لأن وجوب الأجر باعتبار العقد والعقد باطل.(7/458)
وفي الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن بعدما سلم من العمل فتجويز العقد يتمحض نفعاً في حق المولى وفي حق الصبي؛ لأنا إذا جوزنا الإجارة يحصل للمولى وللصبي الأجر من غير ضرر يلزمهما، ولو لم تجوز لا يجب الأجر وتضيع على المولى منافع العبد وعلى الصبي منافع نفسه ولا يتقوم أصلاً، وعلم أن الجواز بعدما سلم من العمل تمحض نفعاً وامتناع الجواز من الابتداء لكون الإجارة مترددة بين الضرر والنفع لجواز أن يهلك العبد أو الصبي من العمل فيبطل ضمان العين إن حصل به الأجر، فكانت الإجارة نفعاً شائباً بالضرر فلم يجز من الابتداء؛ لهذا وبعد ما سلم من العمل بمحض الجواز نفعاً، والمحجور غير ممنوع عن استجلاب النفع كقبول الهبة وغير ذلك؛ فلهذا جازت الإجارة.
وإما إن هلك المحجور من العمل، وفي هذا الوجه إن كان المحجور صبياً وعلى عاقلة المستأجر ديته وعليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك. وإن كان المحجور عبداً فعلى المستأجر قيمته ولا أجر عليه فيما عمل له العبد، وهذا لأن المستأجر صار غاصباً للعبد كما استعمله، فإذا ضمن ملكه من ذلك الوقت وصار منتفعاً بملكه فلا يجب عليه أجر، فأما الصغير لا يضمن بالغصب، وإنما يضمن بالخيانة، وقد صار باستعماله، إلا أن ضمان الخيانة، لا يعيد الملك في المضمون إذا كان المضمون عبداً، فإذا كان حراً أولى، فلم يملكه المستأجر بهذا الضمان ولم يصر منتفعاً بملك نفسه، فكان عليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك من هذا الوجه.
قال في «القدودي» : وأحد الوصيين يملك أن يؤاجر الصبي في قول أبي حنيفة، ولا يؤاجر عبده. وقال محمد: يؤاجر عبده.
وفي «المنتقى» إذا لم يكن أب الصبي حائكاً فليس لمن كان الصغير في حجره (26أ4) أن يسلمه إلى حائك؛ لأن التصرف في الصغير مفيد بشرط النظر، وفي هذا ضرر بالصغير لأن الحياكة من خبائس الحرف.
الوصي إذا أجر منزل اليتيم بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى ولا يلزمه الأجر. ذكر «الفضلي في فتاويه» : أنه يجب أن يصير غاصباً على أصول علمائنا، ولا يلزمه الأجر. فقد قال في كتاب المزارعة: الوكيل يدفع الأرض مزارعة إذا دفعها وشرط للزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثله، إن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً، ويصير الزارع غاصباً، ولم نقل: هذه مزارعة فاسدة، ولم نحكم فيها بأحكام المزارعة الفاسدة.
قال: وذكر الخصاف في «كتابه» أن المستأجر لا يكون غاصباً بل يلزمه أجر المثل، وهذا لأن الإجارة لو كانت من المالك ولم يسم بدلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيه الأجر وجب المسمى، ولا يزاد عليه فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر؛ لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي أيضاً لو لم يسم الأجر أصلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، وإذا سمى الأجر لم تجب الزيادة على المسمى إنما لا(7/459)
تجب لإبطال الوصي الزيادة بالتسمية وليس له إلى إبطالها سبيل، ويجعل في حق الزيادة كأن التسمية لم توجد أصلاً.
والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي كان يفتي بقول الخصاف حتى حكى عنه أنه قال: لو غصب إنسان دار صبي يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، والفتوى على أنه يجب أجر المثل في هذه الصورة بالغاً ما بلغ، لا إذا انتقص المنزل بسبب سكنى المستأجر، وكان ضمان النقصان أنفع لليتيم من أجر المثل فيجب ضمان النقصان، أما بدون ذلك يجب أجر المثل وهكذا يقول فيمن سكن دار صغير أو حانوت صغير، وإنه معد للاستغلال أنه يجب أجر المثل إلا إذا انتقص بسبب سكناه وضمان النقصان أنفع في حق الصغير فيجب ضمان النقصان.
وفي «قضايا الفتاوى» : رجل أقعد صبياً مع رجل يعمل معه، فاتخذ له هذا الرجل كسوة ثم بدا للصبي أن لا يعمل معه قال: إن كان أعطاه كرباساً والصبي هو الذي تكلف خياطته لم يكن للرجل على الكسوة سبيل؛ لأن الصبي ملكه بخياطته فانقطع عنه حق الدافع والله أعلم.
الفصل الثاني عشر: في صفة تسليم الإجارة
إذا وقع عقد الإجارة صحيحاً على مدة أو مسافة، وجب تسليم ما وقع عليه العقد، وإنما مدة الإجارة لا مانع من الانتفاع لأن تسليم المعقود عليه واجب وذلك بالتمكين من الانتفاع، لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فيقام التمكين من الانتفاع مقامه، وذلك تسليم المحل إليه بحيث لا مانع من الانتفاع، فإن عرض في بعض المدة، أو المسافة ما يمنع الانتفاع سقط الأجر بقدر مدة المنع.
وذلك بأن يغصبه غاصب أو يحدث فيه مرض، أو إباق، أو تغرق الأرض، أو يقطع عنها الشرب، لأنا أقمنا تسليم المحل قائم مقام تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بسبب التمكين من الانتفاع، فإذا فات التمكين فإن التسليم ينفسخ العقد بقدره، فإن اختلفا بعد انقضاء المدة في تسليم ما استأجر في مدة الإجارة، فالقول قول المستأجر مع يمينه لأن الأجر للمدعى عليه تسليم المعقود عليه وتأكد الأجر، وهو ينكر، والبينة بينة الآجر تثبت التسليم وتقرر الأجر له على المستأجر، وبينة المستأجر تنفي ذلك.
ولو اتفقا أنه سلم في أول المدة أو المسافة، واختلفا في حدوث العارض فقال المستأجر: عرض لي ما منعني عن الانتفاع به من مرض، أو غصب، أو إباق، وجحد المؤاجر ذلك، فإن كان ذلك العارض قائماً عند الخصومة فالقول قول المستأجر مع يمينه البتة، وإن لم يكن قائماً فالقول قول المؤاجر مع يمينه على علمه؛ لأن في الفصل الأول الظاهر شاهد للمستأجر، وفي الفصل الثاني الظاهر شاهد للمؤاجر وإنما يحلف المستأجر(7/460)
البتة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه وهو التسليم، وإنما يحلف المؤاجر على العلم لا يحلف على فعل نفسه.
وإن اتفقا على حدوث المانع واختلفا في مدة بقاء المانع، فالقول قول المستأجر؛ لأن القبض الأول قد انقطع بحدوث العارض فكان هذا خلافاً في ابتداء القبض، فيكون القول فيه قول المستأجر.
قال في «المنتقى» عن أبي يوسف: المستأجر إذا جاء بالعبد المستأجر مريضاً، أو قال: قد أبق، وأقام رب العبد البينة أنه عمل كذا وكذا، وأقام المستأجر بينة أنه كان أبق يومئذ، أو كان مريضاً، فالبينة بينة رب العبد؛ لأنها هي المبينة.
وفي «الأصل» : رجل يكاري من رجل منزلاً فقال: دونك المنزل فانزله معناه بالفارسية أينك خان وجا فردد أيدن فردد أي ونيشين، إلا أنه لم يفتح الباب فجاء رأس الشهر وطلب صاحب المنزل الأجر، وقال المستأجر: لم يفتحه لي وأنزله، فإن كان يقدر على فتحه فالكراء واجب، وإن كان لا يقدر على فتحه لا يجب الكراء وذلك؛ لأنه متى كان قادراً على فتحه، وقد خلى الآجر بينه وبين الدار فقد أتى بالتسليم المستحق عليه؛ لأن التسليم المستحق بحكم العقد تسليم يتمكن المستأجر من تسلمه وقد تمكن المستأجر من تسلمه بهذه التخلية التي وجدت من الآجر، وكان إثباتاً لتسليم المستحق عليه فيتأكد عليه البدل، كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهو ممن يقدر على الجماع، فإنه يجب المهر، وإن لم يوجد الجماع، وكالبائع إذا خلى بين المبيع وبين المشتري يصير قابضاً له، وإن لم يقبضه حقيقة؛ لأنه تمكن من قبضه بهذه التخلية كذا هاهنا.
وإن كان لا يقدر على فتحة فلا أجر عليه لأنه لم يأت بالتسليم المستحق عليه بالعقد؛ لأن المستأجر لم يتمكن من التسليم بهذه التخلية إذا كان لا يقدر على فتحه، وبدون التسليم لا يستحق الأجر، وكان كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهي بحال لا يتمكن الزوج من جماعها، بأن كانت رتقاء، أو حائضاً، أو نفساء، فإن المهر لا يتكرر بهذه التخلية؛ لأن التسليم لم يوجد كذا هاهنا ومعنى القدرة المذكورة في الكتاب القدرة على الفتح من غير مؤنة تلزمه، حتى لو لم يقدر على الفتح لا بمؤنة يلزمه لا تعتبر القدرة.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وكسر الغلق ليس بشيء حتى لا يكون للآجر أن يحتج على المستأجر، فيقول: هلا كسرت الغلق ودخلت الباب.
وإذا استأجر داراً سنة فلم يسلمها إليه حتى مضى شهر، وقد طلب التسليم ثم تحاكما فليس للآجر أن يمنع المستأجر من القبض، وليس للمستأجر أن يمنع من القبض في باقي المدة؛ لأن الإجارة عندنا في حكم العقود المتفرقة يتجدد انعقادها بحسب حدوث المنافع ففوات المعقود عليه في عقد لا يؤثر في إثبات الخيار في عقد أجر، قالوا: هذا إذا لم يكن في مدة الإجارة وقت يرغب الإجارة لأجله يتخير في قبض الباقي، ولو سلم الدار إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر يرفع عنه الأخر بحساب ذلك بخلاف ما إذا انهدم بيت منها، أو حائط منها، وسكن المستأجر في الباقي حيث لا يسقط شيء من الأجر.(7/461)
الفصل الثالث عشر: في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك
قال رحمه الله: وليس على المستأجر رد ما استأجر على المالك، وعلى الذي آجر أن (26ب4) يقبض منزل المستأجر وليس هذا كالعارية، فإن رد العارية على المستعير.
والفرق: أن الرد بعد القبض فكل من كان منفعة القبض عائدة إليه كان الرد عليه. قال عليه السلام: «الخراج بالضمان» ، وقال عليه السلام: «الغنم بالمغرم» ومنفعة قبض المستعار عائدة إلى المستعير؛ لأن المنفعة سلمت له مجاناً فكان مؤنة الرد عليه، ولهذا كان نفقة المستعار على المستعير، ومنفعة قبض المستأجر عائدة إلى المؤاجر، فإن حقه يتأكد في الأجرة فكان مؤنة الرد عليه.
فإن قيل: منفعة قبض المستأجر عائدة إلى المستأجر أيضاً، فإن بالقبض يتمكن من الانتفاع.
قلنا: الترجيح لجانب الآجر لأن منفعته فوق منفعة قبض المستأجر لأن الحاصل للأجر عين وإنها تبقى والحاصل للمستأجر مجرد منفعته وإنها لا تبقى وما بقي خير مما لا يبقى فكان الرجحان لجانب الآجر فكان هو أولى بإيجاد الرد عليه، الثاني أن يساوي الجانبان فلا جرم يقع التعارض بينما يوجب الرد على الآجر، وبينما يوجب الرد على المستأجر، فنقول: إيجابه على الآجر أولى؛ لأن المستأجر يملكه ومؤنة الملك على المالك يقتضيه الأصل.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحاً يطحن عليه شهراً بأجر مسمى، فحمله إلى منزله فمؤنة الرد على رب الرحى، وأراد بالرحى رحى اليد ويقال بالفارسية: دست آس، ثم قال: والمصر وفي غير المصر في ذلك سواء في القياس في الإجارة، والعارية في الإجارة تجب على رب المال، وفي العارية تجب على المستعير.
قال مشايخنا: وتأويل هذا إذا كان الإخراج بإذن رب المال في الإجارة والعارية، ففي الإجارة تجب مؤنة الرد على رب المال، وفي العارية تجب مؤنة الرد على المستعير، فإن حصل الإخراج بغير إذن رب المال فمؤنة الرد على الذي أخرجه مستعيراً كان أو مستأجراً؛ لأنه صار غاصباً بالإخراج ومؤنة الرد على الغاصب.
قال ابن سماعة في «نوادره عن محمد» : رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة يركبها في المصر فانقضت الأيام، فأمسكها في منزله ولم يجيء صاحبها يأخذها ففقدت(7/462)
الدابة فلا ضمان عليه، لأنه غير متعدي في هذا الإمساك، فإن على رب الدابة أن يجيء فيقبضها، فلو أن المستأجر ساق الدابة ليردها على المؤاجر في منزله مع أنه ليس عليه الرد، وهلكت في الطريق فلا ضمان عليه، ولو ذهب المالك إلى بلد آخر، وذهب هذا الرجل بالدابة ليردها على المالك فهلكت في الطريق كان عليه الضمان ويصير بالإخراج عن البلدة غاصباً.
ولو استأجرها من موضع مسمى إلى موضع مسمى يذهب عليها ويجيء، فإن على المستأجر أن يرده إلى الموضع الذي استأجرها فيه، وهذا الشرط معتبر وهو بمنزلة بيان مكان الإيفاء في السلم، فإن ذهب بها إلى منزله وأمسكها ضمن إذا هلكت؛ لأنه متعدي في الذهاب بها إلى منزله.
ولو قال: اركبها إلى موضع كذا، وارجع إلى منزلي فليس على المستأجر أن يردها إلى المكان الذي استأجرها فيه، وعلى الآجر أن يأتي منزل المستأجر ويقبضها منه.
وفي «المنتقى» : استأجر دابة وردها إلى المنزل المستأجر وأدخلها مربطها فربطها أو أغلق عليها فلا ضمان عليه، يعني إذا هلكت أو ضاعت، كل شيء يفعل بها صاحبها إذا ردت عليه، فإذا فعل المستأجر يبرأ ولو أدخلها دار صاحبها أو أدخلها مربطها ولم يربطها، ولم يغلق عليها فهو ضامن يعني إذا هلكت أو ضاعت وستأتي بعض هذه المسائل في فصل إجارة الدواب.
الفصل الرابع عشر: في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها
وإذا زاد الآجر والمستأجر في المعقود عليه أو المعقود به، فهذا على وجهين: إن كانت الزيادة مجهولة لا تجوز الزيادة سواء كانت الزيادة من الآجر أو من المستأجر، وإن كانت الزيادة من جنس ما أجر أو من خلاف جنس ما أجر، وإن كانت الزيادة من جانب المستأجر إن كانت من جنس ما استأجر لا يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة من جنسها وإنه باطل عندنا، وإن كانت من خلاف جنس ما استأجر يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة بخلاف جنسها وإنه جائز.
ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في «شرح كتاب الصلح» إبراهيم عن محمد استأجر من آخر أرضاً بأكرار حنطة فزاد رجل المؤاجر كراً فأخذه المؤاجر منه فذهب المستأجر الأول فزاده كراً أيضاً، وجدده الإجارة فالإجارة هي الثانية وانفسخت الأولى مقتضى تجديد الثانية، وذكر هذه المسألة عن أبي يوسف.
ووضعها فيما إذا زاد المستأجر الأول على المستأجر الثاني في الأجر وسلمها رب الدار الأول بهذه الزيادة، وبالأجر الأول، وذكر أن الإجارة الأولى لا تنتقض وهذه زيادة زادها في الأجر، وحاصل الجواب أن صاحب الدار إذا جدد الإجارة تنتقض الأولى، وإذا لم يجدد لا تنتقض الأولى، وتكون الثانية زيادة.(7/463)
عن محمد: استأجر رجلاً شهراً؛ ليعمل له عملاً مسمى بأجر معلوم، ثم أمره في خلال الشهر بعمل آخر مسمى بدرهم مثلاً، فالإجارة الثانية فاسخة للإجارة الأولى بالقدر الذي دخل في الإجارة الثانية، حتى لا يكون له أجرين، بل رفعه بحصة ذلك القدر، فإذا فرغ من العمل الثاني لزمه أجره، وذلك درهم، وتعود الإجارة الأولى.
الفصل الخامس عشر: في بيان ما يجوز من الإجارات، وما لا يجوز
هذا الفصل مشتمل على أنواع: نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة.
قال محمد في «الأصل» : إذا استأجر الرجل قِدراً بعينه ليطبخ فيه اللحم، فإن بين الوقت بأن قال: يوماً، أو بين مقدار اللحم يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة، وكذا في إجارة الموازين والمكاييل ينبغي أن يبين المدة، أو مقدار ما يكتله أو يزينه به، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة.
قال في «الأصل» : إذا استأجر الرجل نصيباً من دار غير مسمى، بأن قال لغيره: استأجر منك نصيبك من هذه الدار أو من هذا العبد أو من هذه الدابة، ولم يبين نصيبه، على قول أبي حنيفة: لا يجوز وعلى قول أبي يوسف: يجوز إذا علم بالنصيب بعد ذلك، وهو قول محمد أما على قول أبي حنيفة لا يشكل أنه لا يجوز، لأن المستأجر مشاع مجهول لا يدري أنه ثلث أو ربع أو نصف.
ولهذا قال: لو باع نصيباً من دار والمشتري لا يعلم لا يجوز البيع لجهالة المبيع فدل أن المستأجر مشاع مجهول، ولو كان مشاعاً معلوماً بأن أجر النصف أو الثلث لم يجز عنده، فإذا كان مشاعاً مجهولاً أولى أن لا يجوز.
وعلى قول أبي يوسف لا يشكل أنه يجوز؛ لأن جهالة النصيب عند المشتري لا تمنع جواز البيع عنده، حتى قال: إذا اشترى نصيباً من دار ولم يعلم مقداره جاز وله الخيار إذا علم بالنصيب بعد ذلك فلا يمنع جواز الإجارة أيضاً، فإذا لم يجز أن يمنع الجواز؛ لأجل هذه الجهالة على مذهبه بقي بعد ذلك مجرد الشيوع والشيوع غير مانع من الإجارة، وإنما الأشكال على قول محمد، وذلك لأن جهالة النصيب عنده يمنع جواز البيع فيجب أن يمنع جواز الإجارة أيضاً، وإن كان الشيوع لا يمنع الجواز على مذهبه ولكن من مشايخنا من قال: بأن قول محمد ها هنا يلحق بقول أبي حنيفة لا بقول أبي يوسف؛ لأنه كما ذكر قول محمد عقيب قول أبي يوسف، فقد ذكر قول أبي حنيفة فيلحق قوله بقول أبي حنيفة، أن لا تجوز هذه الإجارة على قول أبي حنيفة وهو قول محمد، فعلى هذا لا يثبت الرجوع عن محمد في البيع.
ومنهم (27أ4) » من قال: قول محمد يلحق بقول أبي يوسف، يعني تجوز الإجارة على قوله، واختلفوا فيما بينهم منهم من أثبت رجوع محمد عما ذكر في البيع؛ لأن جهالة(7/464)
النصيب إذا لم يمنع جواز الإجارة لا يمنع جواز البيع، ومنهم من لم يثبت رجوع محمد عن فصل البيع وفرق على قوله بين الإجارة والبيع.
والفرق: وهو أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة في حق المنافع، والأجرة تجب عند استيفاء المنافع، وعند الاستيفاء النصيب معلوم، فأما البيع ينعقد حال وجوده والمبيع حال وجود البيع مجهول، فلا يجوز.
قال: رجل استأجر أرضاً، ولم يذكر أنه يزرعها، أو ذكر أنه يزرعها ولكن لم يذكر أي شيء يزرعها، فالإجارة فاسدة، أما إذا لم يذكر أنه يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر تارة للزراعة، وتارة للبناء والغرس، ذكرهما ولا رجحان للبعض على البعض مما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً.
وكذلك إذا ذكر أنه يزرعها إلا أنه لم يبين أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر لزراعة الحنطة وتستأجر لزراعة الشعير وتستأجر لزراعة الذرة والأرز وتفاوت ذلك في حق الأرض تفاوتاً فاحشاً مما لم يبين شيئاً من ذلك لا يصير المعقود عليه معلوماً، فإن زرعها نوعاً من هذه الأنواع ومضت المدة فالقياس أن يجب أجر المثل؛ لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد.
وفي الاستحسان يجب المسمى، وينقلب العقد جائزاً؛ لأن المعقود عليه صار معلوماً بالاستعمال والإجارة بعد في الانعقاد، فصار ارتفاع الجهالة في هذه الحالة وارتفاعها لدى العقد سواء، فيجوز العقد.
وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى بغداد ليحمل عليها، ولم يذكر أي شيء يحمل عليها فالإجارة فاسدة؛ لأن الأحمال متفاوتة، فإن اختصما قبل أن يحمل عليها شيئاً أبطل القاضي الإجارة؛ لأن العقد الفاسد يجب نقضه وإبطاله، وإن حمل عليها ما يحمل الناس على مثلها، وهلكت في الطريق فلا ضمان؛ لأنه حمل عليها بإذن، وإن بلغ ذلك المكان المسمى فعليه أجر المثل قياساً، والمسمى استحساناً، وقد مر وجه القياس والاستحسان في المسألة المتقدمة.
قال: وإذا استأجر الرجل إبلاً إلى مكة ليحمل عليها محملاً فيه رجلان وما يصلحهما من الغطاء والدثر، وقد رأى المكاري الرجلين، ولم ير الغطاء والدثر فهو فاسد قياساً لجهالة المحمول وفي الاستحسان يجوز وينصرف ذلك إلى ما يحتاج إليه مثلها في طريق مكة من الغطاء والدثر، وذلك معلوم عرفاً فيما بينهم، والمعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً.
وكذلك إذا استأجر راحلة يحمل عليها كذا كذا من الدقيق والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت، ويعلق بها من المعاليق من المطهرة وما أشبهها، ولم يبين شيئاً من ذلك فهو على القياس والاستحسان الذي ذكرنا.
وإذا استأجر إبلاً أو حماراً ليحمل عليها الحنطة ولم يبين مقدار الحنطة، ولا أشار إليها ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» من كتاب الإجارات أنه لا يجوز، وذكر شمس الأئمة(7/465)
الحلواني رحمه الله في «شرحه» أنه يجوز، وينصرف إلى المعتاد، وهذا القول أشبه بمسألة المحمل والراحلة.
وقال محمد رحمه الله في كتاب الإجارات: إذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم جاز؛ لأنه بين جنس العمل إلا أنه لم يبين مقداره، وبيان جنس العمل يكفي لجواز الإجارة، وله أن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة وتطيق وما يطحن مثلها قدراً في العرف.
قال: وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها جاز، وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل، قال: رجل استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له القياس أن تفسد الإجارة، وفي الاستحسان لا تفسد.
وجه القياس: أن المقصود من الدار والبيت الانتفاع، ووجوه الانتفاعات مختلفة متفاوتة وقد يكون من حيث السكنى ووضع الأمتعة، وقد يكون من حيث الحدادة والقصارة، فإنه ما لم يبين شيئاً من ذلك، كما لو استأجر دابة للحمل، ولم يبين ما يحمل عليها، أو استأجر للركوب، ولم يبين من يركب.
وجه الاستحسان: أن المعقود عليه معلوم عرفاً وهو السكنى؛ لأن البيت عرفاً يبنى ويؤاجر للسكنى فانصرف مطلق العقد إليه لما عرف أن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً، فكأنه استأجر داراً أو بيتاً للسكنى، ولو صرح بذلك أليس أنه يجوز وإن لم يبين من يسكن؛ لأن السكنى مما لا يقع فيه التفاوت بين ساكن وساكن.
بخلاف ما إذا استأجر دابة للحمل أو الركوب، ولم يبين ماذا يحمل، ومن يركب؛ لأن حمل بعض الأشياء، وركوب بعض الأشخاص غير معلوم عرفاً لينصرف مطلق العقد إليه، بل الكل متعارف والحمل والركوب ما يقع فيه التفاوت، فما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً، فلا يحكم بجواز الإجارة.
وإذا دفع الرجل الحر إلى سمسار درهماً وأمره أن يشتري له كذا وكذا على أن يكون الدرهم المدفوع إليه، أو دفع إليه ثوباً، وأمره أن يبيعه ويكون هذا الدرهم له أو استأجر الرجل ليبيع له أو يشتري فهذا فاسد؛ لأن البيع والشراء قد يتمان بكلمة واحدة، وقد يتمان بكلمات، فكان المعقود عليه مجهولاً، والجملة في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يستأجره يوماً إلى الليل بأجر معلوم ليبيع له ويشتري؛ لأن المعقود عليه في هذه الصورة المنفعة، ولهذا يستحق الأجر متى سلم نفسه، وقد صارت المنفعة معلومة ببيان الوقت.
الثانية: أن يأمره أن يبيع ويشتري ولا يشترط شيئاً، فيكون معيناً له ثم يعوضه بعد الفراغ من العمل بمثل ذلك الأجر؛ لأن هذا استعانة ابتداء إجارة انتهاء؛ ولهذا قال مشايخنا: يجبر على إعطاء العوض إذا امتنع، ثم في السمسار وجميع ما كان فاسداً من(7/466)
ذلك إذا باع واشترى فله أجر المثل لا يجاوز به المسمى، كما في سائر الإجارات الفاسدة، ويطيب له ذلك؛ لأنه بدل عمله فيطيب له كما تطيب قيمة المبيع للبائع في البيع الفاسد عند عجز المشتري عن رد العين؛ لأنه بدل ملكه، لكن يأثم بمباشرته هذا العقد؛ لأنه معصية.
وإذا استأجر نهراً يابساً ليجري فيه الماء إلى أرض له أو إلى رحاً ما له أو ليستأجر مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه، أو استأجر ميزاباً ليسيل فيه غسالته أو بالوعته ليصيب فيها بوله والنجاسات لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول، أما في الفصل الأول؛ فلأنه لا يمكنه إجراء الماء في كل النهر؛ لأن النهر لا يستمسك ذلك، فلا بد من أن ينقص شيئاً وقدر ما ينقص مجهول فيصير الباقي مجهولاً، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، إذا لم يكن للناس فيه تعامل، خرج على هذا الدخول في الحمام بأجر حيث يجوز مع جهالة المعقود عليه؛ لأن للناس فيه تعاملز
وأما فيما عدا ذلك من الفصول؛ فلأن ما يسيل فيه من الماء والبول قد يقل وقد يكثر، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: الحرف المعتمد في جنس هذه المسائل أن الإجارات جوزت بخلاف القياس لحاجة الناس، وهذه ليست من إجارات الناس فيعمل فيها بالقياس وروي عن محمد إذا استأجر موضع أرض معروف ليسيل ماؤه فهو جائز، كأنه ذهب إلى أن المانع من جواز العقد الجهالة؛ لأنه لا يدري كم يأخذ الماء من النهر ومن السطح، فإذا عين الموضع جاز.
ولو استأجر ميزاباً ليركبه في داره جاز، ولو استأجره وهو في الحائط ليسيل الماء فيه لم يجز لما قلنا.
وإذا استأجر (27ب4) موضعاً من حائط ليضع عليه جذعاً، أو استأجر موضع كوة من الحائط بنقبها ليدخل عليه منها الضوء والريح، أو استأجر حائطاً ليبني عليه ستره، أو استأجر موضع وتد في الحائط ليعلق به الأشياء أو استأجر موضع ميزاب في حائط لا يجوز.
بعض مشايخنا قالوا: إنما لا يجوز إذا لم يبين موضع البناء والجذع والكوة والوتد حتى يكون المعقود عليه مجهولاً، أما إذا بين ذلك يجوز، ومنهم من قال: إنما لا يجوز إذا لم يبين مقدار الجذع والكوة والوتد حتى لا يجوز لمكان الجهالة، أما إذا بين جاز، ومنهم من قال: لا يجوز على كل حال، وإطلاق لفظ الكتاب يدل عليه، والمعنى ما ذكرنا أنه ليس من إجارات الناس.
وإذا استأجر موضعاً معلوماً من الأرض لينبذ فيها الأوتاد يصلح بها الغزل كي ينسج جاز؛ لأنه من إجارات الناس، ولو استأجر حائطاً ليدق فيها الأوتاد ليصلح عليها الإبريسم به شعراً أو ديباجاً لا يجوز، كذا ذكره بعض مشايخنا؛ لأن هذا من إجارات الناس، وفي عرف ديارنا ينبغي أن يجوز؛ لأن الناس تعاملوا ذلك في الفصلين جميعاً.
وإذا تكارى دابة إلى بغداد على أنه إن بلّغه إليها فله رضاه يعني ما يرضى من(7/467)
الأجر، فالإجارة فاسدة لجهالة البدل، وكذلك إذا استأجرها بحكمة أو بحكم صاحب الدابة.
فإن قيل: جهالة البدل إنما يوجب فساد الإجارة إذا لم يكن الخيار مشروطاً لصاحب البدل، فأما إذا كان مشروطاً له فلا، ألا ترى أن من قال لغيره: أجرت منك هذه الدابة إلى بغداد بهذين العبدين، على أنك بالخيار تأخذ أيهما تشاء وترد الأخر جاز، والآخر مجهول ولكن للشرط الخيار لصاحب البدل لم يمنع ذلك جواز الإجارة.
قلنا: هذا هكذا إذا كان جنس البدل معلوماً، وها هنا جنس البدل مجهول، فإن قال: رضائي عشرون لا يزاد على العشرين؛ لأن المانع لا يتقوم بدون التسمية، وقد سمى عشرون فإنما قومها بهذا القدر فلا يزاد عليه ولأنه أبرأه عن الزيادة لما قال: رضائي عشرين ونقص عن العشرين لأنه لم يشترط لصاحب البدل مع العشرين منفعة أخرى، وفي مثل هذه الإجارة تنقص عن المسمى لما بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا تكارى دابة بمثل ما يتكارى أصحابه مثل هذه الدابة معلوماً بل كان مختلفاً، بأن كان بعض أصحابه يكري مثل هذه الدابة بعشرة وبعضهم يكري بأقل من ذلك وبعضهم بأكثر من ذلك فأما إذا كان ذلك معلوماً بأن كان أصحابه يتكارون مثل هذه الدابة بعشرة لا يزيدون ولا ينقصون وقد عرف ذلك كان العقد جائزاً كما لو باع بمثل ما باع فلان، وكان ذلك معلوماً وقت العقد، أو علم في مجلس العقد وهناك البيع جائز هكذا هاهنا، وإن كان ذلك مختلفاً فعليه وسط من ذلك، يريد به أن أجر مثل هذه الدابة يختلف باختلاف الأحوال قد تكون عشرة، وقد تكون بأكثر من عشرة، وقد تكون أقل من عشرة فعليه الوسط من ذلك نظراً من الجانبين ومراعاة كلا الطرفين.
نوع آخر
يفسد العقد فيه لمكان الشرط:
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل استأجر من آخر عبداً شهراً بأجر مسمى على أنه إن مرض فعليه أن يعمل بقدر الأيام التي مرض من الشهر الداخل لا تجوز هذه الإجارة؛ لأن ما شرط له من الشهر الداخل مجهول لجهالة مدة المرض في الشهر القائم.
رجل تكارى من رجل بيتاً شهراً بعشرة دراهم على أنه إن سكنه يوماً ثم خرج فعليه عشرة دراهم، كانت الإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة.
بيانه: أنه شرط جميع بدل المعقود عليه بإزاء بعضه حال فوات الباقي قبل القبض، والعقد لا يقتضي ذلك وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة على أنه إن هلك شيء منها قبل القبض فعليه الثمن كله كان البيع فاسداً، وإنما كان فاسداً للمعنى الذي ذكرنا.
وإذا تكارى دابة على أن كلما ركب الأمير ركب هو معه، فهذا فاسد أيضاً لجهالة المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً، إلا بذكر المدة أو بذكر(7/468)
المكان، ولم يوجد أحد هذين، فكان المعقود عليه مجهولاً فلا يجوز.
وإذا تكارى دابة بالكوفة إلى بغداد بخمسة دراهم إن بلغه، وإلا فلا شيء له فالإجارة فاسدة، لأنه شرط فيها ما لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة.
بيانه: أنه شرط أن لا يكون له أجر متى لم يبلغه، والعقد يقتضي وجوب الأجر بقدر ما سار، وإن لم يبلغه إلى بغداد.
وفي «الأصل» : إذا استأجر أرضاً بدراهم مسماة وشرط خراجها على المستأجر، فإن هذا لا يجوز.
واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن كان الخراج خراج مقاسمة كلها، بأن كان الخراج نصف ما تخرجه الأرض، أو ما أشبهه، أو بعضها بأن كان وظيفة كل جريب درهم، وسدس ما يخرج منها أو ما أشبهه، أو كان الخراج خراجَ وظيفة كلها، بأن كانت وظيفة كل جريب درهماً فإن كان الخراج خراج مقاسمة كلها أو بعضها فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأن خراج المقاسمة على المؤاجر عنده، فإذا شرطه على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول كله أو بعضه؛ لأن مقدار ما تخرج الأرض مجهولاً.
ونقول: شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه نفع فإن أداء الخراج لا ينفك عن ذل وهوان ومثل هذا الشرط يوجب فساد العقد وعندهما يجوز العقد لأن عندهما خراج المقاسمة على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد فلا يفسد العقد وإن كان الخراج خراج وظيفة كلها فالعقد جائز بلا خلاف بين العلماء لأن خراج الوظيفة معلوم فتكون الأجرة معلومة ومن مشايخنا قال: ينبغي أن لا يجوز وإن كان الخراج خراج وظيفة لأن النقصان من وظيفة عمر رضي الله عنه جائز إن كانت الأرض لا تطيق ذلك بالإجماع، فإذا شرطا ذلك على المستأجر فقد شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه منفعة فيفسد به العقد ولو كانت أرضاً عشرية فأجرها، وشرط العشر على المستأجر جاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأن العشر عندهما على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد، فلا يوجب فساد العقد.
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز؛ لأن العشر عنده على المؤاجر، فإذا شرط ذلك على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول وشرط شرطاً لا يقتضيه العقد فيوجب فساد العقد.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر أرضاً بدراهم على أن يكريها ويزرعها، أو يسقيها ويزرعها فهذا جائز؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد، فإن العقد يقتضي السقي والكراب، لأن العقد عقد المزارعة ولا ينتفع بالأرض من حيث الزراعة غالباً إلا بالسقي والكراب، وإن شرط عليه أن يثنيها ويكري أنهارها أو يسرقيها فهو فاسد.(7/469)
واختلفوا في تفسير التثنية قال بعضهم: أن يردها مكروبة، فإن كان تفسيره هذا، فهو شرط مخالف للعقد؛ لأنه شرط يعود منفعته إلى رب الأرض بعد انتهاء العقد، وقال بعضهم: تفسير التثنية أن يكربها مرتين ثم يزرعها، فإن كان تفسيره هكذا، فالفساد يختص بديارهم؛ لأن في ديارهم تخرج الأرض ريعاً تاماً بالكراب مرة وكذا في ديار سيف، فيكون هذا الشرط في مثل هذا الموضع شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة وهو رب الأرض؛ لأن منفعة الكراب بقي بعد مدة الإجارة فيوجب فساد العقد حتى لو كانت لا تبقى لا يفسد العقد.
وأما إذا كان الأرض في بلدة تحتاج إلى تكرار الكراب فاشتراط التثنية لا يفسد العقد؛ لأنه يكون من مقتضيات العقد، وكذلك إذا شرط عليه (28أ4) إن يسرقيها فإن كان السرقين من عند المستأجر، فقد شرط عليه عيناً هو مال، فإن كان تبقى منفعته إلى العام الثاني يفسد العقد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة وهو الآجر، وإن كان لا تبقى منفعته إلى العام القابل لا يفسد العقد.
وذكر شيخ الإسلام في «شرح الإجارات» : إذا شرط على المستأجر أن يردها مكروبة، فإن كان شرط أن يردها مكروبة بكراب في مدة الإجارة، فالعقد فاسد؛ لأن وقت الكراب مجهول قد يكون يوماً وقد يكون يومين أو ثلاثة، وذلك الوقت مستثنى عن الإجارة؛ لأن المستأجر فيه عامل لرب الأرض فيوجب جهالة مدة الإجارة، فتفسد الإجارة، وإن شرط أن يردها مكروبة بكراب يكون بعد الإجارة فالمسألة على وجهين.
إما إن قال صاحب الأرض: أجرّتك هذه الأرض بكذا وبأن تكربها بعد مضي المدة وفي هذا الوجه العقد جائز.
وأما إذا قال: أجرتك بكذا على أن تكربها بعد انقضاء مدة الإجارة وفي هذا الوجه العقد فاسد، وإن أطلق الكراب إطلاقاً ينصرف إلى الكراب بعد العقد، ويصح العقد ولكن جواب هذا الفصل يخالف ظاهر ما ذكرنا ها هنا، ولا يظن به رحمه الله أنه قال ذلك جزافاً، فالظاهر أنه عثر على رواية أخرى بخلاف ما ذكر ها هنا.
وكذلك إذا شرط كري الأنهار على المستأجر يفسد العقد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد على المستأجر، بل قضية العقد أن يكون على المؤاجر؛ لأنه من جملة التمكين من الانتفاع، فيكون على الآجر فاشتراطه على المستأجر يخالف مقتضى العقد.
ومن مشايخنا من فرق بين الجداول والأنهار، فقال: اشتراط كري الجداول صحيح؛ لأنه لا يبقى أثره بعد مضي السنة أما أثر كري الأنهار يبقى بعد مضي السنة، فيصير الآجر شارطاً عليه عملاً يختص هو بمنفعته، والأول أصح.
وإذا تكارى داراً من رجل سنة بمئة درهم على أن لا يسكنها فالإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في الإجارة ما لا يقتضيه العقد، وللمؤاجر فيه منفعة، فإن المستأجر إذا لم يسكن الدار لم يمتلئ بئر الوضوء والمخرج، وإذا سكن بمثل ذلك، والتفريغ على رب الأرض فيتضرر فكان في هذا الشرط منفعة لرب الأرض من هذا الوجه.(7/470)
وقال: فيمن استأجر داراً وشرط على المستأجر أن يسكن هو بنفسه، ولا يسكن معه غيره أن الإجارة جائزة، وللمؤاجر في هذا الشرط فائدة؛ لأنه متى يسكن معه غيره يمتلئ هو المخرج والوضوء أسرع مما يمتلئ لو سكن هو وحده، ومع هذا جوز العقد في هذه الصورة، ولم يجوزه في الصورة الأولى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : لا بد من التأويل إذ لا يجئ بينهما فرق، نقول: تأويل الصورة الثانية أنه لم يكن في الدار بئر بالوعة، ولا بئر وضوء، ومتى لم يكن فيها البئر فلا منفعة للمؤاجر في هذا الشرط، لأنه لا يتضرر بإسكان غيره إذا كانت الحالة هذه؛ لأن ما يجتمع على ظاهر الدار فإخراج ذلك على المستأجر، وكثرة السكان لا يوهن البناء ولا يفسده.
وتأويل الصورة الأولى، أنه كان في الدار بئر وضوء وبئر بالوعة، وإذا كان كذلك كان لرب الدار في هذا الشرط نوع منفعة، وإنه شرط لا يقتضيه العقد، فأوجب فسادها ثم إذا فسدت الإجارة في هذه الصورة الأولى فسكن فيها المستأجر، فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ.f
رجل تكارى من رجل داراً كل شهر بعشرة، على أن ينزلها هو بنفسه وأهله، على أن يعمر الدار ويرمم ما كان فيها من خراب، ويعطي أجر حارسها، وما يأتيها من يأتيه من جهة سلطان أو غيره فالإجارة فاسدة؛ لأنه جعل بعض الأجر مجهولاً جهالة توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأنه متى لم توجد الثانية ولم يخرب شيء من الدار حتى لم يحتج إلى المرمة لا يدري بأي قدر يعطيه وجهالة الأجر وإن قلت توجب فساد الإجارة، قالوا: وهذا الجواب صحيح في العمارة والثوابت؛ لأن العمارة والثوابت على رب الدار، وإنها مجهولة في نفسها فصار هو بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً.
فأما أجر الحارس فهو على الساكن فلا يكون بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً، فلا يفسد العقد، فإن لم يسكنها فلا أجر عليه؛ لأن الإجارة فاسدة، والأجر في الفاسد من الإجارات لا يستحق إلا باستيفاء المنفعة، وإن سكنها فله أجر مثلها بالغاً ما بلغ يجاوز بها المسمى المعلوم.
والأصل: أن العقد إذا فسد مع كون المسمى كله معلوماً بمعنى أجر المثل، ولا يزاد على المسمى حتى أن المسمى إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب خمسة لا غير؛ وهذا لأن المنافع عندنا غير متقومة بنفسها، وإنما ثبت لها حكم المتقوم بالعقد، وقد قوماها بالعقد بقدر التسمية، وأمكن اعتبار التسمية إذا كان المسمى معلوماً كله، فما زاد عليها تبقى غير متقومة على ما كانت الأصل.
وإذا فسد العقد لجهالة المسمى أو لعدم المسمى يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، حتى أن المسمى، إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب عشرة؛ لأنه لا يمكن تقويم(7/471)
المنافع في هذه الصورة بالمسمى فأوجبنا قيمتها بالعقد بالغاً ما بلغت، وكذلك إذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً كما في مسألة المرمة، والثانية يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا يمكن تقدير القيمة بجميع المسمى؛ لأن بعضه مجهول ولا يمكن تقدير القيمة بقدر المعلوم؛ لأنهما ما قوماها به فحسب، إنما قوماها به وبالزيادة.
وإذا تعذر تقويمها بجميع المسمى وبالقدر المعلوم أوجبنا قيمتها بالغة ما بلغت، هذا هو الكلام في طرف الزيادة على المسمى.
وأما الكلام في طرف النقصان عن المسمى، نقول: إذا كان المسمى كله معلوم القدر وفسد العقد بسبب آخر من الأسباب ينقص عن المسمى حتى أنه إذا كان أجر المثل خمسة والمسمى عشرة يجب خمسة وإذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً لا ينقص عن الأجر المعلوم حتى إن في المسألة الثانية والمرمة إذا كان أجر المثل خمسة يجب عشرة، وهو القدر المعلوم من المسمى؛ وهذا لأن قضية القياس فيما إذا كان المسمى كله معلوم القدر أن لا ينقص عن المسمى، لأن قيمة المنافع تثبت بسبب التسمية، فيجب التقدير بها ما أمكن كما في الجائز، والتقدير بها ممكن إذا كان المسمى كله معلوماً، فيجب التقدير بها، إلا أنا تركنا القياس لضرورة، وهو أن لا تقع التسوية بين الجائز والفاسد، ولا تجوز التسوية بينهما، وهذه الصورة معدومة فيما إذا كان المسمى بعضه معلوماً وبعضه مجهولاً؛ لأنا إذا أوجبنا مقدار المعلوم من المسمى، ولم ينقص عنه لا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد، لأن حكم الجائز أن يجب جميع المسمى، وإن كان بعض المسمى معلوماً وبعضه مجهولاً يجب بعض المسمى وهو القدر المعلوم، ولا يجب شيء من المجهول فلا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد.
وعن هذا قلنا: إن من استأجر داراً سنة بمئة على أن لا يسكنها حتى فسدت الإجارة لو سكنها يجب أجر المثل، فإن كان أجر المثل أقل من مئة يجب مئة لأنا لو أوجبنا قدر المئة لا يؤدي إلى (28ب4) التسوية بين الجائز والفاسد؛ لأن فيه إيجاب بعض المسمى لا الكل؛ لأن المستأجر سكن الدار فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
نوع آخر
في قفيز الطحان، وما هو بمعناه
صورة قفيز الطحان أن يستأجر الرجل من آخر ثوراً ليطحن بها الحنطة على أن يكون لصاحبها قفيز من دقيقها، أو يستأجر إنساناً ليطحن له الحنطة بنصف دقيقها أو ثلثه أو ربعه أو ما أشبه ذلك، وذلك فاسد؛ لأنه منهي عنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنه نهى عن قفيز الطحان» وقال عليه السلام لرافع بن خديج في آخر حديث(7/472)
معروف: لا يستأجره بشيء منه.
والمعنى فيه: أنه جعل الأجر شيئاً معدوماً؛ لأنه جعل الأجر بعض الدقيق الذي يخرج من علمه، وإنه معدوم في الحال حقيقة، وليس له حكم الوجود؛ لأنه غير واجب في الذمة؛ لأنه إنما يجب في الذمة ما له وجود في العالم، والبدل في المعاملات يجب أن يكون موجوداً حقيقة كالعين أو حكماً كالثمن.
والجملة في ذلك لمن أراد الجواز أن يشترط صاحب الحنطة قفيزاً من الدقيق الجيد؛ لأن الدقيق إذا لم يكن مضافاً إلى حنطة بعينها يجب في الذمة، والأجر كما يجوز أن يكون عيناً مشاراً إليه يجوز أن يكون فيها في الذمة، ثم إذا جاز يعطب ربع دقيق هذه الحنطة إن شاء وإنما شرط أن يقال: ربع هذه الحنطة من الدقيق الجيد؛ ليكون الأجر معلوم القدر.
ولو استأجر حانوتاً بنصف ما يربح فيه فالإجارة فاسدة، وكان على المستأجر أجر مثل الحانوت، وإنما فسدت الإجارة أما؛ لأن ما يربح مجهول؛ أو لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من علمه، فيكون في معنى قفيز الطحان.
وإذا دفع الرجل إلى حائك غزلاً لينسجه بالنصف أو ما أشبه ذلك فالإجارة فاسدة، أما لأنه في معنى قفيز الطحان لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من عمله؛ أو لأن هذه الإجارة في الابتداء إن صادفت محلاً غير مشترك بينه وبين المستأجر ففي الانتهاء صادفت محلاً مشتركاً، وهذا لأنه لا شركة في ابتداء العمل في المحل ولكن تم العمل والمحل مشترك، لأنه يجب بعض الأجر بابتداء العمل ولو كان صادفت محلاً مشتركاً ابتداء وانتهاء لم تنعقد الإجارة ولم يجوز الأجر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا صادفت محلاً غير مشترك في الابتداء ومحلاً مشتركاً في الانتهاء لم يمنع انعقاد العقد ومنع الجواز.
ومشايخ بلخ كنصيربن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يفتون بجواز هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم في الثياب والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد في قفيز الطحان؛ لا في الحائك إلا أن الحائك نظيره فيكون وارداً فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفيز الطحان كان تخصيصاً، لا تركاً أصلاً وتخصيص النص بالتعامل جائز.
ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه ولكن قيل: تجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا تركاً للنص أصلاً، لأنا عملنا بالنص في غير الاستصناع.
قالوا: وهذا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة قفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون لتعاملهم عبرة لأنا لو اعتبرنا تعاملهم كان تركاً للنص أصلاً لأنه متى انفسخ النص مما ورد فيه لا يجوز العمل بدلالته في غير ما ورد فيه فيكون تركاً للنص أصلاً وبالتعامل لا(7/473)
يجوز ترك النص أصلاً وإنما يجوز تخصيصه، ولكن مشايخنا لم يجوزوا هذا التخصيص لأن ذلك تعامل أهل بلدة إن كان يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص؛ فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف الاستصناع، فإنه وجد التعامل فيه في البلاد كلها، وإذا فسدت الإجارة كان للحائك أجر مثل عمله والثوب لصاحب الغزل.
قال: وكذلك الطعام يحمله الرجل في سفينة أو على دابة بالنصف، لا يجوز ولا تجيء هاهنا العلة الأولى، التي ذكرناها في الحائك أن الأجر معدوم، لأن الأجر هاهنا موجود مشار إليه، وإنما تجيء العلة الثانية أن العمل في الانتهاء يقع في شيء مشترك، لأنه بابتداء العمل يصير بعض الطعام ملكاً للعامل فيقع العمل في محل مشترك وهذا يوجب الفساد إن كان لا يمنع الانعقاد.
قال: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضاً ليغرسها أشجاراً أو كرماً من عند نفسه على أن الأرض والأشجار بينهما نصفان فالعقد فاسد، لأنه جعل نصف الأرض بمقابلة نصف الغرس بشرط أن يعمل في النصف الباقي فيكون البيع مشروطاً في الإجارة، والإجارة مشروطة في البيع، فيكون صفقتين في صفقة وإنه منهي والأشجار لصاحب الأرض، وعليه للغارس قيمة الأغراس وأجره مثل عمله، وإنما كان الأشجار لصاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض اشترى نصف الأغراس شراء فاسداً، لأن الأغراس مجهولة وصار قابضاً لما اشترى حكماً لاتصاله بأرضه فصار ذلك النصف ملكاً له والنصف الآخر بقي على ملك الغارس وقد غرسه في ملك الغير، إلا أنه تعذر عليه القلع لأن نصيبه غير ممتاز عن نصيب صاحب الأرض فلو قلع يتضرر صاحب الأرض وصاحب الأرض صاحب أصل، والغارس صاحب بيع، فيملك عليه نصيبه بالقيمة نفياً للضرر.
فإن قيل: ينبغي أن يصير نصف الأرض ملكاً للغارس؛ لأنه اشترى نصف الأرض بنصف الأغراس شراء فاسداً وقبضه حقيقة، فيصير مملوكاً له، وإذا صار نصف الأرض مملوكاً للغارس كان نصف الأغراس الذي هو على ملكه مغروسة في ملكه فلا يكون لصاحب الأرض عليه سبيل.
قلنا: صاحب الأرض ما دفع الأرض إلى الغارس بحكم عقد فاسد إنما دفع إليه الأرض ليغرسها، ثم جعل نصف الأرض له مغروساً عوضاً عن الغرس فلم تكن الأرض مقبوضة بحكم عقد فاسد قبل الغرس، فلهذا لا يملك نصف الأرض فكان الكل مغروساً على ملك رب الأرض وقد غرس بإذنه، إلا أنه ما غرسه مجاناً فيجب للغارس قيمة الغرس وأجر مثل عمله.
وفي «شرح القدوري» : وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها بالنصف فإن تقبل الطعام ثم حمل عليها كان الأجر كله للمتقبل، ولصاحب الدابة أجر مثل الدابة وإن أجر الدابة ليحمل عليها فهو لرب الدابة، ولهذا أجر مثل عمله وفي مضاربة الأصل.
وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها، ويؤاجرها على أن ما رزق الله من شيء فهو بينهما، فأجرها واحد عليها، فإن جميع غلة الدابة يكون لصاحب الدابة وللعامل أجر مثل عمله؛ فيما عمل لأن تصحيح هذا العقد مضاربة متعذر؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة منافع الدابة ومنافع الدابة مما يتعين في العقود فلا يصلح رأس مال المضاربة، وإذا تعذر جعلها مضاربة جعلناها إجارة وإنها إجارة فاسدة لوجهين:
أحدهما: أنه استأجر العامل ليؤاجر دابته بنصف أجر الدابة، وإنه معلوم فيه واجب في الذمة ولا عين مشار إليه فصار في معنى قفيز (29أ4) الطحان.
والثاني: أنه استأجره ليؤاجر دابته ولم يبين لذلك مدة، وفي مثل هذا لا تجوز الإجارة وإن كان البدل معلوماً فلأن لا يجوز هاهنا والبدل مجهول أولى بعد هذا ننظر أن أجر العامل الدابة من الناس وأخد الأجر كان الأجر كله لرب الدابة، لأنه بدل منافع دابته، ألا ترى أنها لو هلكت قبل التسليم بطلت الإجارة.
وألا ترى أنه لو حمل ذلك على دابة أخرى أو على ظهره لا يستحق الأجر دل أن ما أخذ بدل منافع دابته، وقد أجرها بإذنه فيكون له وكان بمنزلة ما لو أمره ليبيع دابته على أن يكون نصف الثمن له فباعها كان كل الثمن لصاحب الدابة، لأنه ثمن دابته كذا ها هنا وللعامل(7/474)
أجر مثل عمله؛ لأنه ابتغى لعمله عوضاً لما شرط لنفسه نصف أجر الدابة فيكون له أجر مثل عمله لما فسدت الإجارة.
وهذا بخلاف ما إذا كان العامل لا يؤاجر الدابة من الناس وإنما يقبل الأعمال من الناس ثم يستعمل الدابة في ذلك فإن الأجر يكون للعامل وعلى العامل أجر مثل الدابة؛ لأنه إذا كان يتقبل الأعمال من الناس فما يأخذ من الأجر يكون بدل عمله لا بدل منافع دابته.
ألا ترى لو هلكت الدابة في هذه الصورة قبل التسليم لا تبطل الإجارة، وألا ترى أن له أن يحمل على دابة أخرى أو على ظهره فدل أن ما أخذ من الأجر بدل عمل العامل، فيكون له وعليه أجر مثل الدابة؛ لأنه استعمل دابة الغير بإذنه ببدل مجهول.
قال: وإذا دفع الرجل إلى الرجل بعيراً ليسقي الماء ويبيع على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد، لأنه تعذر تصحيح هذا العقد مضاربة؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة ما يتعين بالتعيين، وهو منافع الدابة، ولكن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ثمن ما يبيع من الماء، وثمن ما يبيع من الماء مجهول، فكان الأجر مجهولاً؛ ولأنه جعل الأجر بعض ما يحصل من عمله، فكان في معنى قفيز الطحان.
بعد هذا نقول: إذا استعمل البعير، والراوية وباع الماء كان الثمن كله للعامل؛ لأنه بدل الماء لا بدل منافع الدابة ألا ترى لو هلكت الدابة قبل التسليم لا يبطل البيع ولو هلك الماء قبل التسليم يبطل البيع دل أنه بدل الماء، والماء كان مملوكاً للعامل ملكه بالإحراز بالراوية فكان الثمن بدل ملك العامل، فيكون للعامل، وعلى العامل أجر مثل البعير والراوية بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى ما أخذ العامل فهو بدل منافع الدابة فيكون لصاحب الدابة، وللعامل أجر مثل عمله على صاحب الدابة.(7/475)
وهكذا الجواب: إذا أعطاه شبكة ليصيد بها على أن ما صاد بها من شيء فهو بينهما، فما اصطاد يكون للصائد؛ لأن الصيد مباح كالماء يملكه الصائد بالإحراز وعليه أجر مثل الشبكة؛ لأنه استعمل الشبكة بحكم إجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ما يحصل من عمله.
وإذا تكارى الرجل بعيراً ليحمل عليها أمتعة نفسه ويبيعها من الناس على أن يكون أجر البعير نصف ما يحصل بتجارته، فهذا فاسد وجميع ما اكتسب المستكري هو له، وعليه لصاحب البعير أجر مثل بعيره لاستيفائه منفعة البعير بحكم إجارة فاسدة.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل بيتاً ليبيع فيه البر، على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان، فقبض البيت، وباع فيه البر، فأصاب مالاً، فإن جميع ذلك لصاحب البر، ولصاحب البيت عليه أجر مثل البيت.
واعلم بأن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لم يذكر فيها مدة؛ ولأن الأجر فهو نصف ما يربح مجهول، وإذا فسدت الإجارة كان على العامل أجر مثل البيت، وكان ما أصاب العامل من المال له؛ لأنه بدل بره، ولو كان صاحب البيت دفع البيت إليه ليؤاجر ويباع فيه البر على ما رزق الله من شيء فهو بينهما فهذا فاسد؛ لأن المدة مجهولة والأجر مجهول، فإذا أجر البيت وأخذ أجره، كان الأجر كله لصاحب البيت؛ لأنه بدل منافع بيته وقد أجره بإذنه؛ لأنه استأجره ليؤاجره بيته إجارة فاسدة، فإذا استوفى عمله؛ لأن على رب البيت أجر مثل عمله بخلاف المسألة الأولى، فإن ثمة ما أصاب العامل من المال يكون كله له؛ لأنه بدل بره أما ها هنا بخلافه.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر رجلاً ليحصل له القصب في الأجمة على أن يعطي أجره خمس حزمات من قصب هذه الأجمة لا يجوز؛ لأنه في معنى قفيز الطحان؛ ولأن الحزمات مجهولة، وإن عين خمس حزمات، وقال: استأجرتك بهذه الحزمات الخمس يجوز، ولو لم يضف الأجر إلى قصب الأجمة، بل قال: استأجرتك على أن تحصد هذه الأجمة بخمس حزمات من القصب لا يجوز لجهالة الحزمات.
بخلاف بذرته الكدس واجتناء القطن بحيث يجوز إذا ذكر في الأجر حنطة أو قطناً من غير أن يضاف إلى حنطة الكدس أو القطن المجتنى، وإن كان لا يجوز إذا أضيف إليهما.
والفرق: أن هناك المفسد عند الإضابة ليس هو الجهالة؛ لأن الحنطة والقطن لا يتفاوت الوسط منهما بل المفسد كون ذلك في معنى قفيز الطحان، وإذا لم يضف لم يكن في معنى قفيز الطحان، وها هنا المفسد عند الإضافة كونه في معنى قفيز الطحان، والجهالة وبعدم الإضافة لا يخرج عن حد الجهالة، فلم يجز.
نوع آخر
في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره.(7/476)
قال محمد رحمه الله: إذا استأجر الرجل أرضاً فيها زرع أو رطبة أو قصب أو شجر أو كرم مما يمنع الزراعة، فهذا فاسد؛ لأنه أجر ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقه؛ لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بقلع الأشجار والزرع وفي قلع الأشجار والزرع ضرر بالآجر؛ لأن الأشجار على ملك الآجر، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع العين.
ألا ترى أنه لا يجوز بيع الجذع في السقف؟ وإنما لا يجوز؛ لأنه باع ما لا يمكنه تسليمه إلا بضرر يلزمه في غير ما دخل تحت العقد كذا ها هنا.
والمراد من الزرع المذكور في هذه المسألة، الزرع الذي لم يدرك بحيث يضره الحصاد، أما إذا أدرك الزرع بحيث لا يضره الحصار.
ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» في كتاب الإجارات: أنه يجوز ويؤمر الآجر بقلع الزرع، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب الإجارات» ، وهو نظير ما لو أجر داراً فيها متاع الآجر، فإن الإجارات جائزة ويجبر الآجر على التفريغ، كذا ها هنا، ثم إن محمداً رحمه الله نص على فساد هذه الإجارة، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن هذا العقد فاسد، وبعض مشايخنا قالوا: إنه موقوف إلى تفريغ الأرض، وقاسوا هذه المسألة على مسألة بيع الجذع في السقف.
والحاكم الشهيد رحمه الله: مال إلى ظاهر ما ذكر محمد رحمه الله، وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة بيع الجذع في السقف.
وفي «القدوري» : إذا استأجر أرضاً سنة فيها رطبة، فالإجارة فاسدة، فإن قلع رب الأرض وسلمها أرضاً بيضاء فهو جائز، وقاسه على ما إذا باع الجذع في السقف ثم نزع الجذع وسلمه إلى المشتري، وإن اختصما قبل ذلك فأبطل الحاكم الإجارة ثم قلع الرطبة، فالمستأجر بالخيار، إن شاء قبضها على تلك الإجارة وطرح عنه أجر ما لم يقبض، وإن شاء ترك، هذا جملة ما ذكره في «القدوري» ، ثم الزرع إذا لم يدرك، وأراد جواز الإجارة في الأرض.
فالحيلة في ذلك: أن يدفع الزرع إليه معاملة، إن كان الزرع لرب الأرض على أن يعمل المدفوع إليه في ذلك بنفسه، وأجرائه وأعوانه على أن ما يرزق الله تعالى من الغلة، فهو بينهما على مئة سهم، سهم من ذلك للدافع، وتسعة وتسعون سهماً للمدفوع إليه، ثم يأذن له الدافع أن يصرف السهم الذي له إلى مؤنة هذه الضيعة أو شيء أراد، ثم يؤاجر الأرض منه، وإن كان الزرع لغير رب الأرض ينبغي أن يؤاجر الأرض منه بعد مضي السنة التي فيها الزرع (29ب4) فيجوز، وتصير الإجارة مضافة إلى وقت في المستقبل.
وحيلة أخرى إذا كان الزرع لرب الأرض أن يبيع الزرع منه بثمن معلوم ويتقابضان ثم يؤاجر الأرض منه، وكذلك الحيلة في الشجر والكرم، يدفع الأشجار والكرم معاملة أو يبيع الأشجار والكرم منه، ثم يؤاجر الأرض منه، ثم إن بعض مشايخنا زينوا حيلة بيع الأشجار والكروم، وكانوا لا يجوزون إجارة الأراضي فيها أشجار وكروم بهذه الحيلة، وكانوا يقولون: بيع الأشجار هاهنا بيع تلجئة لا بيع رغبة بدليل أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار، وإذا كان بيع تلجئه لا يزيل الأشجار عن ملك صاحبها، فحين يؤاجر الأرض(7/477)
كانت الأرض مشغولة بحق المؤاجر، فلا يجوز.
ومن المشايخ من يقول: يحكم الثمن إن كان الثمن الذي قوبل بالأشجار مثل قيمة الأشجار أو أكثر يستدل به على أن بيع الأشجار بيع رغبة، فتجوز الإجارة بعد ذلك، ومالا فلا، وكان الحاكم الإمام عبد الرحمن الكاتب والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد وغيرهما من المشايخ يقولون: إن الإجارة صحيحة، وبيع الأشجار بيع رغبة إلا أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار لمكان العرف والعادة، وقد يمنع الإنسان عن التصرف في ملكه كما يمنع عن بيع السلاح في أيام القسمة من أهل القسمة.
وكان الطحاوى رحمه الله: يقول بصحة بيع الأشجار، وبصحة هذه الإجارة بشرط أن يبيع الأشجار بطريقها، ويبين طريقاً معلوماً لهما من جانب من جوانب الأرض، أما بدون ذلك لا يجوز البيع ولا الإجارة بعده.
ومن المشايخ من زين حيلة بيع الأشجار من وجه آخر، فقال: في بيع الأشجار مطلقاً يدخل موضعها من الأرض في البيع على أصح الروايتين، فإذا دخل لا يمكن تجويز إجارة ذلك الموضع؛ إما لأن المستأجر يصير مستأجراً ملك نفسه؛ أو لأن استئجار الأرض لتنقية الأشجار وقد وقع الاستغناء عن استئجار موضع الأشجار لتنقية الأشجار لدخول ذلك الموضع في بيع الشجر، وإذا صار موضع الاستئجار ملك مشتري الأشجار، فإذا استأجر الأرض بعد ذلك صار مستأجراً ملك نفسه، وملك رب الأرض بصفقة واحدة، وإنه لا يجوز، ثم إذا فسخت الإجارة وكان فيها بيع الأشجار لا يشترط فسخ بيع الأشجار نصاً بعد فسخ الإجارة، بل ينفسخ البيع في الأشجار بطريق الدلالة، والفسخ مما يثبت بطريق الدلالة.u
وإذا اشترى ثمرة في نخل، ثم استأجر النخل مدة لتنقيتها فيها لم يجز؛ لأنها ليست من إجارات الناس.
وكذلك لو استأجر الأرض بدون النخلة لم يجز؛ لأن النخل حائل بينة وبين الثمرة، وإنه ملك المؤاجر، والمستأجر مشغول بملك المؤاجر.
وكذلك إذا اشترى أطراف الرطبة دون أصلها، ثم استأجر الأرض لإبقاء الرطبة لا يجوز؛ لأن أصل الرطبة على ملك الآجر، فقد حال بينه وبين المستأجر ملك الآجر.
ولو اشترى نخلة فيها، ثم ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقينها جاز، وكذلك إذا اشترى الرطبة بأصلها ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقيتها جاز؛ لأن الأرض مشغولة بملك المستأجر، وذلك لا يمنع جواز العقد.
ولو استعار الأرض في ذلك كله جاز؛ لأن العارية تبرع لا يتعلق به اللزوم، فيجوز بيع الشيوع، وما هو في معنى الشيوع.
ومما يتصل بهذا النوع مسائل الشيوع في الإجارة
قال محمد رحمه الله: في رجل أجر نصف داره مشاعاً من أجنبي لم يجز، وإذا سكن المستأجر فيها يجب أجر المثل، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف(7/478)
ومحمد والشافعي رحمهم الله: يجوز بلا خلاف في ظاهر الرواية.
وروي في «النوادر» عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ولو أجر داره من رجل ثم تقايلا العقد في النصف لا يبطل العقد في النصف الباقي بلا خلاف في ظاهر الرواية وفي «النوادر» عن أبي حنيفة أنه تبطل الإجارة في النصف الباقي، وإذا أجره داره من رجلين يجوز بلا خلاف، وإذا مات أحدهما تبطل الإجارة في نصيبه، وتبقى في نصيب الحي صحيحة.
وكذلك إذا أجر الرجلان داراً من رجل، فمات أحد المؤاجرين، بطلت الإجارة في نصيبه، وفي نصيب الحي صحيحة، وكذا إذا مات أحد المتكاريين بطل الكراء في نصيبه، ويبقى في نصيب الآجر، وإذا كانت الدار بين الرجلين آجر أحدهما نصيبه من أجنبي، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة.
بعضهم قالوا: لا يجوز، وهكذا روى الحسن في «جامعه» عن أبي حنيفة وعندهما يجوز، ولو استأجر علو منزل ليمر فيه إلى حجرته لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز.
وكذلك إذا استأجر السفل ليمر فيه إلى سكنه لم يجز في قول أبي حنيفة، وعندهما يجوز، لأن المستأجر مشاع، وإجارة المشاع على الخلاف الذي قلنا.
قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: ينبغي أن لا تجوز هذه الإجارة إجماعاً؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن موضوع المسألة أن الطريق غير معين، وجهالة المعقود عليه تمنع جواز الإجارة إجماعاً، ولا يجوز إجارة البناء دون الأرض هكذا ذكر في «الأصل» وذكر محمد في «النوادر» في مواضع أنه يجوز، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: وبه كان يفتي شيخنا وقاسه بإجارة الفسطاط والخيمة.
نوع آخر في الاستئجار على الطاعات
وإذا استأجر الرجل رجلاً ليعلمه القرآن، أو ليعلم ولده القرآن لا يجوز، ومعناه أنه لا ينعقد العقد أصلاً حتى لا يجب للأجير شيء بحال من الأحوال، هذا جواب «الكتاب» ، وإنما لم يجز؛ لأن الإجارة وقعت على عمل ليس في وسع الأجير إبقاؤه؛ لأن التعليم إنما يتم بالتعلم كالكسر بالانكسار، والتعلم ليس في وسع المعلم، ومثل هذا الاستئجار لا يجوز.
ومشايخ بلخ جوزوا الاستئجار على تعليم القرآن، إذا ضرب لذلك مدة أفتوا بوجوب أجر المثل قالوا: وإنما كره تعليم القرآن بالأجر في الصدر الأول؛ لأن حملة القرآن كانوا قليلاً فكان التعليم واجباً حتى لا يذهب القرآن، فأما في زماننا كثر حملة القرآن ولم يبق التعليم واجباً، فجاز الاستئجار عليه.
وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري كان المتأخرون من أصحابنا يجوزون ذلك، ويقولون إنما كان المتقدمون يكرهون ذلك لأنه كان للمعلمين عطيات من(7/479)
بيت المال وكانوا مستغنين عما لا بد لهم من أمر معاشهم، وقد كان في الناس رغبة في التعليم بطريق الحسبة، وللمتعلمين مروءة في المجازاة بالإحسان من غير شرط أما اليوم ليس لهم عطيات من بيت المال والتعليم يشغلهم عن اكتساب ما لا بد لهم من أمر المعاش وانقطع رغبة المعلمين في الاحتساب ومجازاة المتعلمين من غير شرط، فتجوز الإجارة ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس بها وبه يفتى.
وكذلك يجبر المستأجر على الحَلْوَة المرسومة وهذا استحسان أيضاً استحسن المشايخ على ذلك.
وكذلك يفتى بجواز الاستئجار على تعليم الفقه في زماننا والاستئجار على الإمامة والأذان لا يجوز لأنه استئجار على عمل للأجير فيه شركة لأن المقصود من الأذان والإمامة أداء الصلاة بجماعة وبأذان وإقامة وهذا النوع كما يحصل للمستأجر يحصل للأجير.
وكذا الاستئجار على الحج والغزو وسائر الطاعات لا يجوز، لأنه لو جاز يوجب على القاضي جبر الأجير عليها ولا وجه إليه، لأن أخذها لا يجبر على الطاعات.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي لا يفتيان بجواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام ركن الدين أبي الفضل رحمه الله وفي روضة الزندويس، كان شيخنا أبو محمد عبد الله الحرافري يقول: في زماننا يجوز للإمام والمؤذن والمعلم أخذ الأجر.
وسيأتي بيان الحيلة للجواز على قول الكل في فصل الاستئجار على (30أ4) التعليم، وفي روضة الزندويس أن المستأجر إذا استأجر رجلاً ليعلم ولده الكتابة.
وفي «النوازل» : إذا استأجر مؤدباً مرة كل شهر بسبعة دراهم يعلم صبيين أحدهما العربية، والآخر القرآن، فقال المؤدَب: أنا لست من يأته تعليم القرآن فاستأجر معلَماً وضم الصبي إليه.... الناس، وأعطى منه أخرى فسلم الصبي إلى معلمه، فلما جاء رأس الشهر حبس عن المؤدب ثلاثة دراهم، فقال المؤدب: أنا لا أرضى بما حبست؛ لأن أجر المعلم يكون كل شهر نصف درهم، أو درهم.
قال: خطاب المؤدب الذي خاطب به المستأجر قريب من توكيله إياه بذلك، فيحط من أجره قدر ما يستحقه المعلم الذي ضم إليه الصبي، وإذا استأجر المسلم من المسلم بيتاً يصلي فيه لم يجز؛ لأنه عيَن جهة القربة لصرف المنفعة إليها، ولا يحل المنع عن الانتفاع لأجل تلك الجهة، فلا يجوز أخذ الأجر عليه.
متولي المسجد إذا تعذر عليه الحساب بسبب أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ، فاستأجر(7/480)
رجلاً يكتب له ذلك لا يحَل له أن يعطي أجر الكاتب من مال المسجد؛ لأن الحفظ عليه ونفع الكتابة راجع إليه.
ولو استأجر رجلاً ليكنَس المسجد، ويغلق الباب ويفتحه بمال المسجد جاز؛ لأنه ليس على المتولي ذلك، أما حفظ الرجل والخرج عليه.
نوع آخر في الاستئجار على المعاصي
إذا استأجر الرجل حمالاً ليحمل له خمراً، فله الأجر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا أجر له.
فوجه قولهما: أن حمل الخمر معصية؛ لأن الخمر يحمل للشرب والشرب معصية، وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل الخمر والمحمول إليه» ، وذلك يدل على كون الحمل معصية، وأبو حنيفة رحمه الله يقول يحمل للإراقة وللتخليل كما يحمل للشرب، فلم يكن متعيناً للمعصية، فيجوز الاستئجار عليه.
قال القدوري في «كتابه» : قال محمد رحمه الله: ابتلينا بمسألة ميت مات من المشركين، فاستأجروا له من يحمله إلى بلدة أخرى، قال أبو يوسف: لا أجر له، وقلت أنا: إن كان الحمال يعرف أنه جيفة فلا أجر له وإن لم يعلم فله الأجر، قال أبو يوسف: وهذا بخلاف ما لو استأجر لنقله إلى مقبرة البلدة حيث يجوز؛ لأن ذلك لدفع أذيته عنهم فصار كاستئجار الكناس واستئجار المسلم ليخرج له حماراً ميتاً من داره.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجر نفسه من المجوسي ليوقد له ناراً فلا بأس به، فأبو حنيفة سوّى بين هذا وبينما إذا أجر نفسه من ذمّي ليحمل له خمراً، وهما فرقا بين المسألتين.
ووجه الفرق: أن التصرف في النار والانتفاع بها جائز في الجملة، ولا كذلك التصرف في الخمر والانتفاع بها.
وفي «العيون» : لو استأجر رجلاً ينحت له أصناماً أو يزخرف له بيتاً بتماثيل والأصباغ من رب البيت فلا أجر؛ لأن فعله معصية، وكذلك لو استأجر نائحة أو مغنية فلا أجر لها؛ لأن فعلها معصية.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر رجلاً ينحت له طنبوراً أو بربطا ففعل يطيب له الأجر إلا أنه يأثم في الإعانة على المعصية، وإنما وجب الأجر في هذه المسألة ولم يجب في نحت الصنم؛ لأن جهة المعصية ثمة مستغنية؛ لأن الصنم لا ينحت إلا للمعصية(7/481)
أما في نحت الطبل والطنبور جهة المعصية ليست بمتعينة؛ لأنها كما للمعصية تصلح لغير المعصية بأن يجعل وعاء للأشياء.
ولو استأجر الذمي مسلماً ليبني له بيعة أو كنيسة جاز، ويطيب له الأجر.
وكذلك لو أن امرأة استكتبته كتاباً، إلى حبها جاز ويطيب له الأجر؛ لأنه بدل عمله، وقال أبو حنيفة: لا تجوز الإجارة على شيء من اللهو والمزامير والطبل وغيره؛ لأنها معصية والإجارة على المعصية باطلة؛ ولأن الأجير مع المستأجر يشتركان في منفعة ذلك فتكون هذه الإجارة واقعة على عمل هو فيه شريك، قال: وإن أعطي المستأجر شيئاً من اللهو ليلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه؛ لأن الإجارة لما لم تنعقد بقي مجرد الإذن، كما في استئجار النخيل وإذا بقي الأخذ بإذن المالك فمتى ضاع أو انكسر لا يكون عليه شيء، كما لو أذن ولم يؤاجر.
قال: وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلَي فيها فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه استأجرها ليصلي فيها وصلاة الذميّ معصية عندنا وطاعة في زعمه، وأي ذلك ما اعتبرنا كانت الإجارة باطلة؛ لأن الإجارة على ما هو طاعة ومعصية لا يجوز، وكذلك المسلم إذا استأجر من المسلم بيتاً ليجعلها مسجداً يصلي فيها المكتوبة أو النافلة، فإن الإجارة لا تجوز في قول علمائنا، وعند الشافعي تجوز وهذا لأنها وقعت على ما هو طاعة، فإن تسليم الدار ليصلي فيها طاعة ومن مذهبنا أن الإجارة على ما هو طاعة لا تجوز، وعنده تجوز.
وكان هذا بمنزلة ما لو استأجر رجلاً للآذان أو الإمامة لا يجوز عندنا؛ لأنه طاعة، وعند الشافعي يجوز فكذلك هذا وكذلك الذمي إذا استأجر رجلاً من أهل الذمة ليصلي بهم فإن ذلك لا يجوز لأن هذه معصية عندنا وطاعة في دينهم وأيّ ذلك ما اعتبرنا لا تجوز هذه الإجارة.
قال: وإذا استأجر رجل من أهل الذمة مسلماً يضرب لهم الناقوس فإنه لا يجوز لما ذكرنا، وإذا استأجر مسلماً ليحمل له خمراً ولم يقل ليشرب، أو قال ليشرب جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما، وكذلك إذا استأجر الذمي بيتاً من مسلم ليبيع فيه الخمر، جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما.
والوجه لأبي حنيفة فيما إذا نص على الشرب، إن هذه إجارة وقعت لأمر مباح؛ لأنها وقعت على حمل الخمر ليشربها الذمي، أو وقعت على الدار ليبيع الذميّ وشرب الخمر مباح؛ لأن خطاب التحريم كان غير نازل في حقه.
وهذا بخلاف ما إذا استأجر الذمي من المسلم بيتاً يصلي فيه حيث لا يجوز؛ لأن ثمة صفة المعصية، إذا أمنت في حقه لديانته تبقى صفة الطاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز ومعنى صفة المعصية متى انتفت عن الشرب لديانته بقي فعلاً مباحاً في نفسه ليس بطاعة فتجوز الإجارة، وفيما إذا لم ينص على الشرب، فالوجه له أن الخمر كما يكون للشرب وإنه معصية في حق المسلم يكون للتخليل، وإنه مباح للكل فإذا لم ينص على(7/482)
الشرب يجب أن يجعل التنقل للتخليل حملاً لهذا العقد على الصحة.
وهو نظير ما لو استأجر الذميّ من المسلم بيتاً ولم يقل ليصلى فيه، فإنه يجوز، وإن كان له أن يصلي فيه ويتخذه بيعة وكنيسة.
وإذا استأجر الذميّ مسلماً ليحمل له ميتة، أو دماً يجوز عندهم لأن نقل الميتة والدم؛ لإماطة الأذى عن الناس مباح فتكون الإجارة واقعة على أمر مباح فتجوز، وقد تكون للأكل فتكون الإجارة واقعة على فعل حرام فلا تجوز، فإذا أطلق تحمل الإجارة على الحمل لإماطة الأذى تجويزاً للإجارة.
وإذا استأجر الذمي لنقل الخمر أو استأجر منه بيتاً ليبيع فيه الخمر جاز عندهم جميعاً؛ لأن الخمر عندهم كالخل عندنا وهذا بخلاف ما لو استأجر ذميّ من ذميّ بيتاً يصلّي فيه حيث لا يجوز؛ لأن صلاتهم طاعة عندهم معصية عندنا وأي ذلك كان لم تجز الإجارة، فأما في الخمر متى انتفت صفة المعصية بقي بعد ذلك صفة الإباحة، والاستئجار على فعل مباح جائز.
ولو استأجر مسلماً ليرعى له خنازير يجب أن تكون على الخلاف كما في الخمر ولو استأجره ليبيع له ميتة لم يجز؛ لأن بيع الميتة لا تجوز في دين من الأديان لأنه لا ثمن لها، وإذا لم يجز بيعه فقد استأجر على فعل ليس في وسعه تحصيله بحال (30ب4) وإذا استأجر الذميّ من المسلم داراً ليسكنها فلا بأس بذلك؛ لأن الإجارة وقعت على أمر مباح فجازت وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير، لم يلحق المسلم في ذلك شيء لأن المسلم لم يؤاجر لها إنما يؤاجر للسكنى، وكان بمنزلة ما لو أجر داراً من فاسق كان مباحاً، وإن كان يعصي فيها، ولو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو بيت نار يمكن من ذلك إن كان في السواد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأراد بهذا إذا استأجرها الذمي ليسكنها، ثم أراد بعد ذلك أن يتخذ كنيسة أو بيعة فيها، فأما إذا استأجرها في الابتداء ليتخذها بيعة أو كنيسة لا يجوز إلا إلى ما ذكر قبل هذا أن الذمي، إذا استأجر من المسلم بيعة يصلي فيها لم يجز بعض مشايخنا قالوا: وما ذكر في سواد الكوفة؛ لأن عامة سكانها أهل الذمة والروافض أما في سوادنا عامة سكانها المسلمون فيمنعون عن إحداث الكنائس كما يمنعون عنها في الأمصار، وكثير من المشايخ قالوا: لا يمتنعون عن إحداث الكنائس في سوادنا أيضاً.
قال: وإذا استأجر كتاباً يقرأ فيه لا يجوز شعراً كان أو فقهاً أو غيره.
وكذلك إذا استأجر مصحفاً وإنما لا يجوز، لأن الإجارة عقدت على القراءة والنظر، والإجارة على النظر والقراءة لا تنعقد؛ لأن القراءة فلا تخلو إما أن تكون طاعة أو معصية أو مباحاً.
فإن كانت القراءة طاعة كقراءة القرآن والأحاديث، كان هذا إجارة على الطاعة، والإجارة على الطاعة لا تنعقد.
وإن كانت معصية كالنياحة والغناء فهو إجارة على المعصية، والإجارة على المعاصي باطلة.
وإن كان مباحاً كقراءة كتب الأدب، فلأن القراءة والنظر مباح له بغير إجارة، إنما لا يباح حمله وتقلب الأوراق والإجارة لا(7/483)
تنعقد على ما كان يملكه المستأجر قبل الإجارة من غير إجارة، ولا تنعقد على حمله وتقليب الأوراق وإن كان لا يملكه المستأجر من غير إجارة؛ لأنه لا فائدة للمستأجر في ذلك، ألا ترى أنه لو نصّ فقال: استأجرت منك هذا الكتاب لأحمله وأقلب أوراقه، بأن الإجارة لا تصح فكذلك ها هنا.
وكذلك إذا استأجر قارئاً ليقرأ عليه شيئاً لا يجوز؛ لأن القراءة التي وقعت الإجارة عليها إن كانت طاعة أو معصية لا تجوز الإجارة عليها، إما لأن الاستئجار على الطاعات والمعاصي باطلة وإما لأن القارىء مع السّامع يشتركان في منفعة القراءة؛ لأنه كما ينتفع السامع بالقراءة من حيث العظة والتلذّذ ينتفع بها القارىء لعمل فقد استأجره لعمل هو شريك فيه، ومثل هذا لا يجوز على ما مرّ، وإن كانت القراءة التي وقع عليها الإجارة مباحاً كقراءة كتب الأدب وما أشبه ذلك، لا تجوز الإجارة عليها للوجه الثاني.
نوع منه في الاستئجار على الأفعال المباحة
نحو تعليم الصناعة والتجارة والهدم والبناء والحفر وأشباه ذلك.
وإذا دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهراً مسماة في تعليم النسخ على إن أعطاه المولى كل شهر شيئاً مسمّى فهو جائز، أما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن لم تجز؛ لأن تعليم القرآن طاعة فظاهر؛ لأن تعليم النسخ مباح وليس بطاعة، وأما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن إنما لا تجوز؛ لأن التعليم ليس من عمل الأجير بل من فهم المتعلم، فلأن الإجارة هاهنا وقعت على أن يقوم عليه ويحفظه، ولكن ذكر الشيخ لرعب المولى فيما يحصل له في أثناء العقد عن عمل الحياكة، فإن الصبيّ ربما يأخذ ذلك لفهمه وذكائه، فهذا جاري مجرى البيع والمقصود هو القيام عليه وفي وسع الأستاذ الوقاية حتى لو شرط عليه تعليم الحياكة، ولم يقل ليقوم عليه في عمل كذا يجب أن لا يجوز كما في تعليم القرآن.
ولو شرط على المعلم أن يقوم على ولده شهراً في تعليم القرآن يجب أن يجوز، وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز، وإن لم يشترط كل واحد منهما على صاحبه الأجر يعني الأستاذ مع الولي ودفعه على وجه الإجارة، فلما فرغ الأستاذ من التعليم، قال الأستاذ: لي الأجر على رب العبد وقال ربّ العبد: لا بل لي الأجر على الأستاذ، فإني أنظر في ذلك العمل إلى ما يصنع أهل تلك الصنعة في تلك البلدة فإن كان المولى هو الذي يعطي الأجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى.
قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: معنى قوله دفعه على وجه الإجارة أن ذلك العمل مما لا يعمل بغير بدل، إذا استأجر الرجل سمساراً ليشتري له(7/484)
الكرابيس أو استأجر دلالاً ليبيع له ويشتري فإن لم يبيّن لذلك أجلاً لا يجوز، وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها من الحيلة للجواز من قبل.
وفي «واقعات الناطقي» : إذا قال الرجل: بع هذا المتاع ولك درهماً أو قال: أشتر لي هذا المتاع ولك درهم، ففعل فله أجر مثله لا يجاوز به الدرهم؛ لأن هذا الاستئجار وقع فاسداً فكان عاملاً له بإجارة فاسدة فيجب له أجر المثل، وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل وما تواضعوا عليه أن من كل عشرة دنانير كذا، فذلك حرام عليهم.
وفي «العيون» : رجل دفع إلى أخر ثوباً فقال له: بعه بعشرة فما زاذ فهو بيني وبينك، قال أبو يوسف: إن باعه بعشرة أو لم يبعه فلا أجر له، وإن بعت في ذلك؛ لأنه نفى الأجر إذا باعه بعشرة لما علقه بأكثر من عشرة ولو باعه باثني عشر، أو أكثر أو أقل فله أجر مثل عمله.
وقال محمد رحمه الله: له أجر مثل عمله، وإن لم يبع فإذا بعت في ذلك؛ لأنه عمل بحكم إجارة فاسدة، والفتوى على قول أبي يوسف؛ لأن الأجر مقابل بالبيع دون مقدماته، فلا يستحق الأجر بدون البيع وإن بعت في عمله بحكم إجارة فاسدة.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لدلال: إعرض صنعتي وبعها على أنك إذا بعتها فلك من الأجر كذا، فلم يقدر الدلال على إتمام الأمر فباعها دلال آخر.
قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: إن كان الأول قد عرضها وذهب له في ذلك دور جار يعتد به فأجر المثل له واجب بقدر عنائه وعمله.
وعن أبي نصر مثل ما قاله الفقيه أبو القاسم فإنه سئل عمّن دفع ثوباً إلى منادي ليبيعه بأجر فنادى، ولم يبع صاحبه قال: له أجر مثله؛ لأنه عمل بإجارة فاسدة.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا هو القياس أمّا في الاستحسان لا يجب له الأجر؛ لأن العرف والعادة جرت أنهم لا يأخذون الأجر إلا بالبيع وهذا موافق لقول أبي يوسف في المسألة المتقدمة، وعليه الفتوى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل يبيع ثياباً بالمزايدة، أجر منادياً ينادي ببيع ذلك، فإن بيّن له وقتاً أو قال ينادي كذا صوتاً فذلك جائز ومالا فلا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ضلّ شيئاً، فقال: من دلني عليه فله درهم فدلّه إنسان فلا شيء له؛ لأن الدلالة والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر، ولو قال لإنسان بعينه: إن دللتني عليه فلك درهم، فإن دلّه من غير شيء معه فكذلك الجواب لا يستحق به الأجر وإن مشى معه ودلّه فله أجر مثله، لأن هذا عمل يقابل الأجر عرفاً وعادة إلا أنه غير مقدر ففسد العقد ووجب به أجر المثل.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليصيد له أو يحتطب له فإن كان وقّت لذلك وقتاً جاز، وإن لم يوقت ولكن عين الحطب، فالإجارة فاسدة وما اصطاد فهو للمستأجر (31أ4) وإن كان الحطب الذي عينه ملك المستأجر، فالإجارة جائزة.
وفي «القدودي» وعن محمد فيمن قال لغيره: اقتل هذا الذئب أو هذا الأسد ولك(7/485)
درهم، وهما صيد ليس للمستأجر فله أجر مثله لا يجاوز به درهماً، لأنه يحتاج في الصّيد إلى المعالجة، فيصير العمل مجهولاً باعتباره فيجب أجر المثل، قال: ويكون الصيد للمستأجر قال: لأن القتل سبب التملك وعمل الأجير يقع للمستأجر.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر الرجل رجلاً ليهدم جداره، أو يبني حيطانه كل ذراع بكذا أو قال: بك تاجره بكذا، أو ليكسر حطبه جازت الإجارة، فإن لم يذكر الأجل.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن العمل إذا كان معلوماً، ولو أراد المستأجر أن يشرع في ذلك العمل في الحال يمكنه الشروع فيه ويقدر عليه، فإنه تجوز الإجارة من غير ذكر الأجل، وكذلك لو ذكر الأجل إلا أنه لم يبين مقدار العمل وهو يقدر على الشروع في الحال يجوز أيضاً.
بيان الأول: ما ذكرنا من مسألة الهدم، وبناء الحائط، وكسر الحطب، وكذلك لو استأجر رجلاً ليخبز له عشرين طناً من الخبز بدرهم يجوز، وإن لم يذكر الأجل؛ لأن العمل معلوم.
بيان الثاني: لو استأجره ليخبز له اليوم إلى المثل جاز، وإن لم يبيّن مقدار العمل؛ لأن العمل صار معلوماً بذكر الأجل.
ولو استأجر رجلاً ليذري كدسه، أو قال: له بالفارسية باين يك خرمن من رابا وكن لا يجوز ولو قال يا ين يك درهم أين ويوار بابازكن جاز درهم أين لأن في الجدار وجنسها لو أراد الأجير أن يشرع في العمل في الحال يقدر أما يذريه الريح لا تتم به وحده وإنما يتم به، وبالريح فلم يكن قادراً على العمل المستأجر عليه فلا يصح.
وفي «الأصل» : استأجره ليبني له حائطاً بالآجر والجص وسمى كذا كذا أجرة من هذه الأجرار وكذا كذا كراً والجص، ولم يسم الطول والعرض كانت الإجارة فاسدة قياساً، صحيحة استحساناً.
وجه القياس: أن مقدار الطول والعرض مجهول، وهذه جهالة توقعهما في المنازعة.
وجه الاستحسان: أن مقدار الطول والعرض معلوم عرفاً؛ لأن بعد بيان الآجر عدداً والجص كيلاً يعرف أهل هذه الصنعة مقدار طوله وعرضه ولو سمى كذا كذا عدداً من الآجرة أو اللبّنة ولم يسم الملبن ولم يره إياه إن كان ملبن أهل تلك البلدة واحداً أو كان لهم ملابن مختلفة إلا أن غالب عملهم على ملبن واحد جازت الإجارة استحساناً؛ لأن ملبنهم إذا كان واحداً ينصرف مطلق الاسم إليه.
وكذلك إذا كانت لهم ملابن مختلفة، إلا أن غلبة أعمالهم على ملبن واحد ينصرف مطلق الاسم إليه عرفاً وعادة، وإن كان ملابنهم مختلفة ولم يغلب استعمال واحدة منها، كانت الإجارة فاسدة؛ لأن في هذه الصورة الملبن لا يصير معلوماً لا شرطاً ولا عرفاً وجهالة الملبن توجب فساد الإجارة؛ لأن العمل مما يتفاوت الملبن صغراً وكبراً.(7/486)
وإذا استأجره ليبني له حائطاً بالمرمص وشرط عليه الطول والعرض وبدون بيان الطول والعرض لا يجوز؛ لأن العمل لا يصير معلوماً.
وإذا استأجره ليعمر له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه السرد وغير ذلك، ويقال بالفارسية: شكروداون لا يجوز، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» ، والصواب أنه يجوز إذا كان بآلات المستأجر لتعامل الناس، ومسألة الاستئجار لبناء الحائط بالآجر والجصّ التي تقدم ذكرها يشهد لهذا القول.
ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وسمى عمقها وسعتها، حتى جازت الإجارة، فلما حفر بعضها وجد حبلاً أشد عملاً وأشد مؤنة، فإن كان يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار إلا أنه يلحقه زيادة مشقة وتعب، فإنه يجبر على العمل؛ لأنه ضمن بعقد الإجارة حفر هذا الموضع بالآلة التي تحفر بها الآبار، وقد أمكنه ذلك فقد قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة فيجبر عليه، وإن كان لا يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار لا يجبر عليه؛ لأنه ما قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة، لأنه إنما ضمن الحفر بالآلة التي تحفر بها الآبار لا بآلة أخرى، وهل يستحق الأجر بقدر ما عمل؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الكتاب» .
وحكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنه يستحق إذا كان يعمل في ملك المستأجر، بخلاف ما إذا كان يعمل في غير ملكه وقاس هذه المسألة على ما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في بيت المستأجر فخاط بعضه فسرق الثوب، أو حفاراً ليحفر له بئراً في دار المستأجر فحفر البعض فانهار يستحق من الأجر بقدره وإن كان يعمل ذلك في غير ملكه فله أجر له كذا هاهنا.
وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا عن القدوديّ أن الخياط إذا خاطه في بيت المستأجر فخاط بعض الثوب أن لا أجر له؛ لأنه لا ينتفع به يجب أن يقال هاهنا: إنه لا ينتفع به وسيأتي بخلاف هذا عن أبي يوسف في فصل فسخ الإجارة بالعذر، وإن شرط عليه أن كل ذراع في لبن أو سهله بدرهم، وكل ذراع في جبل بدرهمين وكل ذراع في الماء بثلاثة وبينّ مقدار الطول والعرض فهو جائز، لأنه الأجر معلوم حال وجوبه؛ لأن الأجر إنما يجب بعد العمل وبالعمل يصير جميع الأجر معلوماً؛ لأنا نعلم بأي قدر حفر في السهلة وبأي قدر حفر في الجبل.
ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وظهر الماء قبل أن يبلغ المسمى الذي شرط عليه، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة التي تحفر بها الآبار أجبر على الحفر، وإن احتيج إلى اتخاذ آلة أخرى لا يجبر عليه على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة.
وكذلك لو استأجره ليحفر له في حجارة مروة، فلما حفر البعض استقبله حجارة صفا أصم، فإن أمكنه حفر الصفا بالآلة التي يحفر بها المروّة أجبر على الحفر، ومالا فلا.
وإن استأجر رجلاً ليحفر له حوضاً عشرة في عشرة وسمى عمقها وعرضها ببدل(7/487)
معلوم فحفر خمسة في خمسة يجب ربع المسمى؛ لأنه أوفى ربع العمل؛ لأن عشرة في عشرة مائة، وخمسة في خمسة، خمسة وعشرون.
وإذا استأجر الرجل رجلاً ليحفر له قبراً فحفر فانهار أو دفن فيها إنسان قبل أن يأتي المستأجر بجنازته فهو على التفصيل الذي ذكرنا في حفر بئر قبل هذا إن كان ذلك في ملك المستأجر فله الأجر، وإن كان في غير ملكه فلا أجر له، ولو استأجره ليحفر له قبراً ولم يسمّ في أيّ مقابر جاز استحساناً وينصرف إلى المكان الذي يدفن فيه أهل تلك المحلة موتاهم.
قال مشايخنا رحمهم الله هذا الجواب بناءً على عرف أهل الكوفة، فإن لكل محلّة مقبرة خاصّة يدفنون موتاهم فيها، ولا ينقلون موتاهم إلى مدافن محلة أخرى، أما في ديارنا تنقل الموتى من محلة إلى مقابر محلة أخرى فلا بد من تسمية المكان حتى لو كان موضعاً لهم مقبرة واحدة تجوز الإجارة من غير تسمية المكان، وإذا عيّن المستأجر للأجير مكاناً يحفر فيها القبر فحفر في مكان آخر، فالمستأجر بالخيار إن شاء رضي بذلك وأعطاه الأجر، وإن شاء رد ذلك عليه ولا أجر له لأن الأجير موافق من وجه من حيث إنه أمر بحفر القبر وقد حفر، مخالف من وجه من حيث إنه لم يحفر في المكان الذي أمر بالحفر فيه، فإن شاء مال إلى جهة الوفاق وجعله عاملاً بعقد وأعطاه الأجر، وإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وجعله عاملاً بغير عقد ولم يعطه الأجر، وإذا لم يصفوا له طول القبر وعمقه جاز الاستئجار استحساناً، ويوجد بأوسط ما يعمل الناس
نوع منه في المتفرقات
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز أن يستأجر من عقار مائة أذرع أو من أرض جريباً أو جريبين إذا كان أكثر من ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز، لأن من أصل أبي حنيفة أن بيع الذراع من الأرض لا يجوز وعندهما يجوز، لأنه عبارة عن النّصيب وإجارة المشاع جائزة عندهما (31ب4) .
ولا يجوز استئجار القناة والبئر والنهر ليسقى منهما غنمه أو أرضه، لأن المقصود هو الماء وأنه عين والأعيان لا تستحق بعقد الإجارة، وكذلك إذا كان لرجل شرب في النهر فاستأجره ليسقي منه غنمه أو أرضه لم يجز لما قلنا، ولا تجوز إجارة الآحام والأنهار للسمك وغيره، أما للسمك فلأن هذه الإجارة لا تفيد إلا ما كان ثابتاً له من قبل؛ لأن المشروط في هذه اصطياد السمك والمستأجر كان يملك اصطياد السمك من غير إجارة، ولأن هذه الإجارة عقدت على استحقاق العين، وأما لغير السمك، فلأن غير السمك في الآحام والأنهار القصب والماء، وإنها عين.
ولا تجوز. إجارة المراعي لم يرد به إجارة الأراضي، فإن إجارة الأرض جائزة وإنما أراد به إجارة الأراضي فإن إجارة الأرض جائزة، وإنما أراد إجارة الكلأ، وإنما لم يجز؛ لأنها وردت على العين.
والحيلة في جوازها: أن يستأجر موضعاً من الأرض ليضرب فسطاطاً أو ليجعل حظيرة لغنمه فتصح الإجارة، ويبيح صاحب المرعى الانتفاع بالمرعى.(7/488)
وإذا استأجر الرجل دراهم أو دنانير أو حنطة أو شعيراً أو ما أشبه ذلك من الوزنيات أو الكيلات ليعمل منها كل شهر بدرهم لا تجوز، لأن الإجارة جوزت بخلاف القياس لمنفعة مقصودة من الأعيان، والمنفعة المقصودة من الكيلات والموزونات لا يمكن استيفاؤها إلا باستهلاكها فتكون هذه الإجارة معقودة على استهلاك العين، والإجارة لا تنعقد على استهلاك العين.
ولو استأجر الدراهم أو الدنانير شهراً ليتزين بهما أو استأجر الحنطة أو الشعير ليعير بها مكياله ذكر في «الأصل» أنه يجوز، قال أبو الحسن رحمه الله: وعندي أنه لا يجوز، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا استأجر ليعبر بهما مكيالاً بعينه، وما ذكر أبو الحسن محمول على ما إذا استأجرها ليعبر بهما مكيالاً بعينه.
وبعضهم قالوا: في المسألة روايتان وجه الجواز أن هذه منفعة مطلوبة وجه عدم الجواز أن هذه المنفعة ليست بمقصودة من هذه الأعيان فلا تصح الإجارة عليها، ولو استأجر الدراهم أو الحنطة يوماً مطلقاً ولم يبّين لماذا يستأجرها لم يذكر هذه المسألة في «الأصل» .
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده: ولقائل أن يقول: لا يجوز ويحمل على الانتفاع بهما وزناً احتيالاً لجواز العقد، ولقائل أن يقول: يجوز وإليه مال الكرخيّ لأنا وإن حملناه على الانتفاع بهما وزناً لا يجوز العقد على قول الكرخيّ على ما مرّ.
وإذا استأجر الرّجل نخلاً أو شجراً على أن يكون ما أثمر للمستأجر لا يجوز؛ لأن هذه إجارة عقدت على استحقاق العين ومحل الإجارة المنفعة دون العين على ما مرّ، ولا يمكن العمل بحقيقة الإجارة ولا يمكن أن تجعل مجازاً عن البيع، لأن الإجارة لا تصير سبباً لملك الرقبة قط فكيف يمكن أن تجعل كناية عن البيع، وإذا أطلق الإجارة على النخيل إطلاقاً ولم يشترط سبباً، لم يذكر محمّد هذه المسألة في «الأصل» .
قال شيخ الإسلام: ولقائل أن يقول: يجوز وتصرف الإجارة إلى منفعة محضة تتحقق من الأشجار مع بقاء العين كبسط الثياب على أغصانها أو شد الدابة بها، والإجارة على مثل هذه المنفعة جائزة.
وقد ذكر الكرخيّ في «مختصره» : أن من استأجر نخلاً أو شجراً ليبسط عليه ثيابه لا يجوز؛ لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة من الأشجار والإجارة، إنما يجوز إيرادها على منافع مقصودة، ولأن هذه ليست من الإجارات فإنا لا نجد أحداً يستأجر أشجاراً ليبسط عليها ثيابه.
وفي «المنتقى» : إذا استأجر الرجل سطحاً ليجفف ثيابه عليه جاز قال: ولا يشبه هذا إذا استأجر نخلاً ليجفف ثيابه عليه، وإذا استأجر الرجل علو منزل ليبني عليها لم يجز في قول أبي حنيفة، ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فمن مشايخنا من قال: موضع المسألة إذا كان العلو لرجل والسفل لرجل آخر، أجر صاحب العلو من رجل ليبني عليه وتكون هذه المسألة فرع مسألة أخرى، أن صاحب العلو إذا أراد أن يحدث في العلو بناء.(7/489)
قال أبو حنيفة: ليس له ذلك أضر بالسفل أو لم يضرّ، فإذا لم يملك صاحب العلو إحداث البناء لم يملك التمليك من غيره بالإجارة.
وعندهما: له أن يحدث البناء إذا لم يضّر بالسفل فلما ملك صاحب العلو هذا بنفسه ملك التمليك من غيره بالإجارة حتى لو كان العلو والسفل لواحد، فإنه تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً؛ لأن الأجير يملك إحداث هذا البناء بنفسه فيملك التمليك من غيره بالإجارة، ومنهم من قال: لا بل المسألة على الخلاف وإن كان العلو والسفل لواحد فعلى هذا لا تكون المسألة بل تكون مسألة مبتدأة فلا بد أن يتكلم لكل واحد منهما بكلام مبتدأ، وإطلاق محمد رحمه الله يدلّ على هذا فكان الحجة لهما أن أرض العلو وهو سقف السفل في إجارة العلوّ للسكنى من غير ذكر، كأرض السفل ولما ألحق بالأرض في حق الإجارة للسكنى فكذا في حق الإجارة للبناء يلحق بالأرض.
ومن استأجر أرضاً ليبني جازت الإجارة، وإن كان قدر البناء مجهولاً فكذا هذا بهذا تدائنا وأبو حنيفة يقول: إذا استأجر الأرض للبناء إنما جاز مع الجهالة؛ لأن جهالة قدر البناء مما لا يلحق بصاحب الأرض زيادة ضرر، فإن قل البناء أو كثر لا يتضرر به ربّ الأرض، فأما جهالة قدر البناء مما يضر بأرض العلو وهو سقف السفل فكانت جهالة قدر البناء هاهنا مانعاً جواز الإجارة من هذا الوجه.
ولو استأجر سطحاً ليبيت عليه شهراً ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات أنه يجوز، وذكر في بعض المواضع أنه لا يجوز فمن مشايخنا من وفق فقال: ما ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات محمول على ما إذا كان العلو مسقفاً أو إن لم يكن مسقفاً يكون مجهولاً، بأن دور عليه الحائط؛ لأنه إذا كانت هذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فجاز الاستئجار للبيتوتة عليه.
وما ذكر في بعض المواضع محمول على ما إذا لم يكن مسقفاً ولا محجراً، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فهو ليس موضع السكنى عادة فلا يجوز الاستئجار للبيتوتة عليه، ومن المشايخ من قال: في المسألة روايتان ومن المشايخ من زيف ما ذكر في بعض المواضع، وقال: يجوز استئجار الشرط للبيتوتة على كل حال وإطلاق لفظ كتاب الصلح، وفي بعض روايات كتاب الإجارات يدل عليه ووجه ذلك أن السّطح مسكن يمكن السكنى فيه بنصب خيمة أو ما أشبهه، فتجوز الإجارة عليه.
وإذا استأجر القاضي رجلاً ليقوم عليه في مجلس القضاء شهراً بأجر مسمى فهو جائز؛ لأنه استأجره مدّة معلومة بأجر معلوم لعمل مباح وهو قيامه في مجلسه فيصبح كما لو استأجره شهراً للخدمة ويدخل في ذلك الحدود والقصاص؛ لأنه مجرد القيام في مجلس لا يفيد للقاضي فائدة والإجارة لا تنعقد على مالا فائدة للمستأجر فيه وإنما يفيده القيام في مجلسه إذا قام لبعض ما يعرض للقاضي من هذه الأسباب فصار القيام إقامة هذه الأسباب مستحقاً للقاضي ثمرة من ثمرات ما وقعت عليه الإجارة وهو القيام في مجلسه لا أن يكون هذا معقوداً عليه حتى لا تجوز الإجارة عليه.(7/490)
ولو استأجره القاضي لإقامة الحدود خاصّة أو لاستيفاء القصاص خاصة إن لم يذكر لذلك مدّة لا شك أنه لا يجوز، وإن ذكر لذلك مدّة لم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» هذا الفصل، وذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي في كتابه أنه يجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في «شرح كتاب الإجارات» .
وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرح كتاب الإجارات» أنه لا يجوز، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة عدم الجواز إذا لم يذكر لذلك مّدة فالكرخي ومن تابعه قالوا: إذا لم يذكر لذلك من مدّة إنما لا يجوز؛ لأن المعقود عليه العمل وإنه مجهول لا يدري كم يوجد ومع الجهالة (32أ4) فيه خطر لا يدري أيوجد أو لا يوجد، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا ذكر لذلك مّدة؛ لأن عند ذكر المّدة المعقود عليه تسليم النفس لا العمل، والشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام قال: إذا لم يذكر لذلك مدة إنما لا يجوز إما لإقامة الحدود، فلأنها طاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز وإن ذكر لذلك مّدة.
كما لو استأجر رجلاً سنة ليعلم ولده القرآن، وإما لاستيفاء القصاص إنما لا يجوز كيلا يصير الأجير كالمستوفي لنفسه من وجه متى استحق ما رآه أمراً، وسيقرر هذا إن شاء الله تعالى هذا المعنى موجود فيما إذا ذكر لذلك مّدة وإذا قضى القاضي لرجل على يد رجل بالقصاص في النفس، فاستأجر المقضي له رجلاً ليستوفي ذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز وعلى قول محمد يجوز وفيما دون النفس تجوز الإجارة بالإجماع.
محمد رحمه الله يقول: استأجره لعمل معلوم وهو حز الرقبة، فوجب أن يجوز قياساً على ما لو استأجر لذبح شاة له أو استأجره لاستيفاء القصاص فيما دون النفس.
وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أن القصاص فيما لا يجري فيه التمليك، فإنه لو وهب من غير القاتل أو باع لم يجز ومتى انعقدت الإجارة على القتل ووجب البدل له، إما المسمى، أو أجر المثل يثبت التمليك من حيث المعنى؛ لأن الأجير فيما يعمل كالعامل لنفسه من حيث إنه يأخذ لذلك أجراً فيصير من وجه كالمستوفي لنفسه، فيحصل له نوع ملك والقتل لا يقبل ذلك، فلم يجب البدل حتى يصير معيناً له في القتل من كل وجه فلا يثبت له معنى التمليك، وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : إن القتل ليس بعمل أي: ليس بعمل يجوز فيه أخذ الأجر عليه، فأما لا شك أنه عمل في نفسه بخلاف الذبح؛ لأنه متى استحق به أجر ثبت الملك من حيث المعنى أكثر ما في الباب أنه يصير كالذابح لنفسه من وجه، ولكن الذبح لنفسه من كل وجه من جهته جائز بأن ملك الشاة منه فكذا يجوز من وجه، بأن استأجره للذبح بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن له حكم المال حتى جاز للوصي استيفاؤه وجاز القضاء بالنكول عند أبي حنيفة رحمه الله واعتبر فيه التساوي والتكافؤ ولو كان مالاً من كل وجه جاز التمليك من كل وجه.
فإذا كان له حكم المال من وجه جاز التمليك من وجه بخلاف القصاص في(7/491)
النفس؛ لأنه ليس حكم المال بوجه ما، فإذا لم يكن له حكم المال لا يكون قابلاً للتمليك بوجه ما، ومتى صحت الإجارة يثبت للآجر نوع ملك من حيث المعنى على ما بينا فامتنع جواز الإجارة، ولأن المستحق في القصاص في النفس لزهاق الروح مقصوداً وتخريب البنية طريق إليه، وإزهاق الروح من صنع الله تعالى لا صنع للعبد فيه وتخريب البنية، وإن كان من صنعه فهو ليس بمستحق مقصود الرد عليه عقد الإجارة، فهو ليس من صنع العبد وما هو صنع العبد ما ورد عليه عقد الإجارة بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن المستحق هناك إبانة الجزء فيرد عليه العقد وإنه من صنيع العباد وبخلاف الذبح؛ لأنه عبارة عن قطع الحلقوم والعروق، فيرد عليه العقد، وإنه من صنيع العباد.
إذا استأجر سنوراً لأخذ الفأرة لا يجوز، ولو استأجر كلباً أو بازياً ليصيد به ذكر في أضاحي الزعفراني أنه يجوز؛ لأن الأول ليس من إجارات الناس والثاني من إجاراتهم وذكر في القدوريّ مسألة الكلب والبازي، وقال: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه فإنه لا يمكن إجبار الكلب والبازي على الصّيد.
قال في «المنتقى» : وكذلك إذا استأجر ديكاً ليصيح لا يجوز، وذكر ثمة أصلاً فقال: كل شيء، من هذا يكون فيه من غير فعل أحد لا يستطيع الإنسان أن يضربه حتى يفعل فلا يجوز البيع فيه والإجارة.
ولو استأجر فحلاً للإنزاء فهو باطل، لقوله عليه السلام «وإن من السحت ثمن الكلب ومهر البغي وعسب التيس» والمراد به أخذ الأجرة؛ ولأن نفس الإنزاء ليس بمقصود إنما المقصود الإعلاق وليس في وسعه إبقاؤه، وعن أبي يوسف فيمن استأجر ثياباً ليبسطها في بيت ولا يجلس عليها أن الإجارة فاسدة، لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة والإجارة جوزت بخلاف القياس لتحصيل منفعة مقصودة وكذا روي عن محمد رحمه الله فيمن استأجر دابة ليُجنيها مترين فلا أجر لها؛ لأن قود الدابة ليست بمنفعة مقصودة.
وفي «المنتقى» : إذا استأجر تيساً أو كبشاً للدلالة ليسوق لها الغنم لا يجوز وفي «القدوديّ» لو استأجر شاة ليرضع منها جدياً أو صبياً لم يجز وليس هذا كالآدمي، وإذا استأجر من آخر عبداً أو دابة وشرط على المستأجر طعام العبد أو علف الدابة لم يجز؛ لأن ما شرط يصير أجره وإنه مجهول وجهالة الأجر توجب فساد الإجارة وعلى هذا إذا استأجر عبداً كل شهر بأجر معلوم وعلفها لا تجوز؛ لأن بعض الأجر مجهول ومعنى آخر في هذه المسائل أنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأن طعام عبد المستأجر وعلف الدابة المستأجرة على الآجر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ومثل هذا الشرط يوجب فساد الإجارة.(7/492)
وفي «المنتقى» : استأجر سيفاً شهراً ليتقلده أو استأجر قوساً شهراً ليرمي به يجوز وإذا استأجر وتداً يوتد به ذكر هذه المسألة في «المنتقى» بهذه العبارة في موضع وذكر أنه يجوز وذكر في موضع آخر إذا استأجر وتداً، ليعلق به بعض الأمتعة لا تجوز هذه الإجارة.t
ولو استأجر قوماً يحملون الجنازة أو يغسلون ميتاً، فإن كان في موضع لا يجد من يغسله غير هؤلاء فلا أجر لهم وإن كان ثمة أناساً غيرهم فلهم الأجر لأن في الوجه الأول قاموا وهم متعينون له ولا كذلك الوجه الثاني.
الفصل السادس عشر: فيما يجبُ على المستأجر وفيما يجب على الأجير
نفقة المستأجر على الآجر سواء كانت الأجرة عيناً أو كانت منفعة، حتى أن من استأجر دابة إلى بغداد بسكنى بيت شهراً أو بخدمة عبد شهراً، أو استأجر عبداً بسكنى بيت شهراً، كان علف الدابة ونفقة العبد على الآجر، وهذا الحكم ظاهر فيما إذا كانت الأجرة منفعة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً إنما تجب النفقة على الآجر مع أن المستأجر في قبض المستأجر عامل لنفسه، وللآجر من حيث إنه يستوفي المنفعة والآجر من حيث إنه يحصل له الآجر إلا أن ما يحصل للآجر غير ما يحصل للمستأجر؛ لأن الحاصل للآجر عين وللمستأجر منفعة، والعين خير من المنفعة؛ لأن العين تبقى زمانين والمنفعة لا تبقى زمانين والباقي خير من الفاني فيرجح جانب الآجر على المستأجر، وجعل المستأجر في القبض عاملاً للآجر من كل وجه وصار المستأجر بمنزلة المودع فلهذا كانت النفقة على الآجر.
فأما إذا كان الآجر منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيجب أن لا تكون النفقة على الآجر الجواب بلى إذا كانت الأجرةُ منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر في قبض المستأجر فلا حرم بقي ما كان، على ما كان والنفقة في الأصل كانت على المالك.
فإذا لم يثبت الرجحان لأحد الجانبين في هذا القبض تبقى المنفعة على المالك، كما كان في الأصل وصارت نفقة المستأجر في هذه الصورة نظير نفقة المرهون، فإن نفقة المرهون تجب على الراهن، وإن كانت منفعة قبض المرهون مشتركة بين الراهن والمرتهن، فإن الراهن بقبض المرتهن يصير موفياً دينه والمرتهن بقبضه يصل إلى استيفاء الدين فإن قبض المرتهن بغير الراهن فيحمله ذلك على قضاء الدين، ولا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيبقى ما كان على ما كان كذا ها هنا.
قال: وتطيين الدار وإصلاح ساريها وما وهي من ثيابها على رب الدار من المستأجر؛ لأن إصلاح الملك على المالك ولا أجر على ذلك (32ب4) ولكن(7/493)
للمستأجر أن يخرج إذا لم يعمل؛ لأنه عيب حصل في المعقود عليه ولا يجب على المالك إزالة العيب وللمستأجر أن لا يرضى بذلك، وإن كان استأجرها وهي كذلك ورآها فلا خيار له؛ لأنه عقد مع العلم بالعيب فيلزم، قال: وإصلاح بئر الماء وبئر البالوعة والمخرج على ربّ الدار، وإن كان أصلاً من فعل المستأجر ولا يجبر على ذلك لما بينا.
قال: ولو انقضت الإجارة وفي الدار تراب من كسبه فعليه أن يرقعه؛ لأنه اجتمع بفعله فصار بمنزلة متاع وضعه قال: وإن كان امتلأ جلاها ومجاريها من فعله، فالقياس أن يلزمه نقلها؛ لأنه حدث بفعله كالرماد والتراب وإنما استحسنوا فيما كان معنياً في الأرض فالانتفاع به لا يحصل، إلا من هذا الوجه فإن الانتفاع بالمجاري من حيث الأجراء، وبالجلاء من حيث التجلي فيه وإن كانت المنفعة من هذا الوجه تحصل كان مستحقاً بالعقد، فلم يجب عليه نقله، قال: فإن أصلح المستأجر شيئاً وذلك لم يحتسب له ما أنفق؛ لأنه فعل بغير أمر مالكه فكان متبرعاً والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل فصل التوابع
والأصل فيه: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك في الإجارة على الأجير، فالمرجع فيه العرف.
حتى قال في «الكتاب» : من استأجر رجلاً ليضرب له لبناً فالزنبيل والملبن على اللبان إن جرت العادة، وكذلك في الدقيق الذي يصلح الحائك الثوب يعتبر العرف والسلك الذي يخاط به الثوب والإبرة على الخياط، باعتبار العرف وإخراج الخبز من التنور على الخباز بحكم العرف وكذلك الطباخ إذا استؤجر في عرس، فإخراج المرقة من القدور إلى القصاع على الطباخ، وإن استؤجر لطبخ قدر خاص فإخراج المرقة من القدر ليس عليه.
وإذا تكارى دابّة للحمل ففي الإكاف والحبال والجوالق يعتبر العرف، وكذلك إذا تكاراها للركوب ففي اللجام والسرج يعتبر العرف أيضاً، وإذا تكارى دابة لحمل الحنطة إلى منزله فإنزال الحمل عن ظهر الدابّة على المكاري وفي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وكذلك الحمال على ظهره، ففي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وليس على المكاري أن يصعد بها على السطح إلا أن يكون اشترط ذلك وبين له وفي سلك الخياط، إذا لم تكن عادة معروفة فهو على صاحب الثوب لأن الإجارة ما وضعت لاستيفاء العين، وهو كالصبغ إذا لم تكن فيه عادة معروفة يكون على صاحب الثوب لما ذكرنا وإذا استأجر وراقاً وشرط عليه الجر والبياض فاشتراط الجر صحيح واشتراط البياض باطل؛ لأنه لو صح يكون عاملاً في ملك نفسه فلا يكون أجيراً.
وإذا استأجر قصاراً ليقصر له ألف ثوب فحملها على القصار، إلا أن يشترط القصار حملها على رب الثياب.
حمال حمل أحمالاً بكذا فلما بلغ الموضع نزل في دار ووضع الحمال في موضع(7/494)
منها ثم وزنها على صاحبها ويسلمها إليه فلم يرفعها أياماً ثم اختصموا في كراء ذلك الموضع، ورب الدار بأحد الحمال بالكراء فإن كانت الأحمال في موضع مستأجر بالعقد، فالكراء على من استأجر، وإن كانت الأحمال في موضع يستعمل بأجر غير معقود عليه فبعد الوزن والتسليم يحب الكراء على المسلم إليه وقبل ذلك يجب على الحمال؛ لأن ما يجب في هذه الصورة يجب بحكم الاستعمال لا بالعقد، والمستعمل بعد التسليم المسَلم إليه وقبل ذلك المستعمل هو الحمال.
الفصل السابع عشر: الرَجل يستأجر فيما هو شريك فيه
وإذا استأجر أحد الشريكين نصف دابة صاحبه أو نصف عبد صاحبه على أن يحمل نصيبه من الطعام المشترك إلى موضع كذا والطعام غير مقسوم فلا أجر له، وعلى هذا الإجارة على عمل في محل مشترك.
ووجه ذلك: أن المقصود من هذه الإجارة ليس نفس العمل، بل المقصود وصف يحصل للمتحمل وهو ضرورة المحمل محيطاً ومحمولاً، وهذا الوصف لا يتصور تحصيله للبائع، فقد أضاف العقد إلى محل لا يمكن تحصيل المعقود عليه فيه فلغى العقد.
قال محمد رحمه الله: لو استأجر أحدهما نصف سفينة صاحبه ليجعل الطعام المشترك، ولأحدهما رحى فاستأجر أحدهما نصف رحى شريكه ليطحن به الطعام المشترك، وكذلك لو استأجر منه نصف الجوالق على أن يحملا فيه هذا الطعام إلى موضع كذا.
والفرق هو: أن الإجارة إذا وقعت على العمل فوجوب الأجرة يقف على العمل في محل شائع لا يتصور فلا ينعقد العقد، أما إذا وقعت على المنفعة فوجوب الأجر لا يقف على إيقاع النفع في ذلك المحلّ، ألا ترى أنه يجب الأجر بتسليم العين قبل الانتفاع، فيصبح العقد في قول من يجوز إجارة المشاع.
ذكر هذه المسائل في «المنتقى» وفي «عيون المسائل» ، قال محمد رحمه الله في «العيون» عقيب ذكر هذه المسائل: كل شيء استأجره أحدهما من صاحبه مما يكون منه عمل، فإنه لا يجوز وإن عمل فلا أجر له وكل شيء استأجره أحدهما من صاحبه لا يكون منه العمل فهو جائز، وذلك نحو الجوالق وأشباهه، قال الفقيه رحمه الله: هذا خلاف رواية الأصل، فإنه ذكر محمد رحمه الله في كتاب المضاربة لو استأجر من صاحبه بيتاً أو حانوتاً لا يجب الأجر.
وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل استأجر رجلين يحملان له هذه الخشبة إلى منزله بدرهم، فحملها أحدهما فله نصف درهم وهو متطوع إذا لم يكونا شريكين قبل ذلك في الحمل والعمل.(7/495)
وكذلك لو استأجر لبناء حائط وحفر بئر، ولو كانا شريكين قبل ذلك في العمل يجب الأجر كله، ويكون بين الشريكين ويصير عمل أحدهما بحكم الشركة كعملهما.
وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل قوماً يحفرون له سرداباً إجارة جائزة، فعملوا إلا أن بعضهم عمل أكثر مما عمل الآخر كان الأجر مقسوماً بينهم على عدد الرؤوس، فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابتين ليحمل عليهما عشرون محتوماً من الحنطة بكذا، حتى لم يكن له أن يحمل على واحد منهما أكثر من العشرة؛ لأن العشرين أضيفت إليهما على السواء فلو حمل عليهما عشرون محتوماً إلا أنه حمل على أحدهما أكثر من العشرة، فإنه يقسم الأجر عليهما على قدر أجر مثلهما، وهاهنا قال: يقسم الأجر على عدد الرؤوس.
والفرق: أن التفاوت بين الرواة تفاوت فاحش يختلف الأجر بمثله، اعتبار التفاوت وقسمة الأجر على قيمة عملهما وأما التفاوت بين الأجراء في عمل واحد تفاوت بيسير لا يعتبره الناس فيما بينهم فسقط اعتبار التفاوت وقسم الأجر بينهم على عدد رؤوسهم إذا اشتركوا في العمل.
قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن التفاوت بين الأجراء في العمل في هذه الصورة تفاوتاً فاحشاً، أما إذا فحش التفاوت لا يقسم الأجر على عدد الرؤوس في مسألة الدابتين، وإن لم يعمل أحدهما لمرض أو عذر آخر إن لم يكن بينهم شركة، بأن لم يشتركوا في تقبل هذا العمل سقط حصة أجر المريض؛ لأنه لم يوف عمله لا بنفسه ولا نيابة؛ لأنه لم يسبق منه استعانة من أصحابه حتى يجعل ما زاد على نصيبهم من العمل بحكم الاستعانة وأفعاله، بل تجعل الزيادة واقعة لصاحب السرداب ويكون عملهم في الزيادة على نصيبه تطوعاً.
فهو نظير رجل دفع أرضه إلى آخر مزارعة فما أجر وزرع ذلك الأرض متبرعاً كان الزرع لصاحب الأرض؛ لأنه لا يمكن أن يجعل عمله للمزارع؛ لأنه لم توجد منه الاستعانة به ولم يعمل في ملكه فجعلناه واقعاً لصاحب الأرض.
وإن اشتركوا في تقبل هذا العمل يجب كل الأجر وتكون حصة المريض له؛ لأن المريض في هذه الصورة مُستعين بهم دلالة؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم إنما يعقدون عقد الشركة في تقبل الأعمال حتى إذا عجز واحد منهم يعينه الآخر، ولو وجدت الاستعانة صريحاً كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك (33أ4) .
وفي «فتاوى أبي الليث» : صباغان أجر أحدهما آلة عمله من الآخر ثم اشتركا، فإن كانت الإجارة وقعت على كل شهر يجب الأجر في الشهر الأول ولا يجب بعد ذلك؛ لأن في الشهر الأول الشركة جرت على إجارة صحيحة معدة فلا يبطلهما، وفي الشهر الثاني الشركة سبقت الإجارة فمنعت انعقادها فلا يجب الأجر بعد ذلك، لهذا وإن أجرها عشر سنين مثلاً، فالأجر واجب عليه في ذلك كله؛ لأن الإجارة قد صحت في كل المدّة المسمّى فلا يبطلها لجريان الشركة عليها.
وعن محمد بن سلمة: أن الشركة توهن الإجارة وصورة ما نقل عنه رجل استأجر(7/496)
من آخر حانوتاً، ثم اشتركا في عمل يعملا في ذلك الحانوت، ويقول محمّد بن سلمة: ويسقط الأجر إذا عملا فيه بحكم الشركة، لأنه لم يسلم المعقود عليه، وفي آخر باب إجارة الدور من إجارت الأصل إذا تكارى داراً شهراً، فأقام معه ربّ الدار فيها إلى آخر الشهر فقال المستأجر: لا أعطيك الأجر؛ لأنك لم تحل بيني وبين الدار، فعليه من الأجر بحساب ما كان في يده اعتباراً للبعض بالكل.
الفصل الثامن عشر: في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما لا يصلح
الإجارة تنفسخ بالأعذار عندنا؛ لأن الفسخ في باب الإجارة امتناع عن القبول من وجه وفسخ لعقد منعقد من وجه؛ لأن في حق المعقود عليه وهو المنافع يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، وفي حق الأجرة يعتبر منعقداً في الحال؛ لأنه لا ضرورة في حق الأجرة، وإنما تأخر وقوع الملك في الأجر لا لعدم انعقاد العقد في حقه للحال بل ضرورة بأمر الملك في المنفعة تحقيقاً للتساوي.
ولهذا قلنا: إن الأجرة تملك بالتعجيل أو باشتراط التعجيل ولو لم يكن العقد منعقداً في طرف الأجرة، لما ملكت بالتعجيل أو اشتراط التعجيل كما إذا أضيفت إلى وقت آتي، وإذا اعتبرت الإجارة منعقدة في الحال في حق الأجرة وفي حق المنافع تعتبر متجدداً انعقادها ساعة فساعة، كان الفسخ امتناعاً عن القبول من وجه فسخاً لعقد منعقد من وجه ضمن بهما في حالين، فاعتبرناه امتناعاً عن القبول حال عذر يتمكن في العاقد فجوزناه من غير قضاء، ولا رضا صاحبه على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع الصغير» ، واعتبرناه فسخاً لعقد منعقد حال عدم العذر فلم يجوزه بغير رضا صاحبه توقراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر؛ لأنا لو أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر، يلزمنا إظهاره حالة العذر من الطريق الأولى فحين يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا، لتمكننا العمل بالشبهين.
واستفتح محمد رحمه الله قول من يقول: بأن الإجارة لا تنفسخ بالأعذار.
فقال: أرأيت لو أن رجلاً استأجر رجلاً ليقلع سنّه لوجع أصابه، أو استأجر رجلاً ليقطع يده لآكلة وقعت فيها فسكن الوجع وبرأت اليد، أيجبر المستأجر على المضي في الإجارة، والتمكين من قلع السنّ وقطع اليد؟.
أرأيت لو استأجر رجلاً ليتخذ له وليمة لعرس فماتت المرأة، أيجبر المستأجر على المضي؟ لا شك أنه لا يجبر لما في المضي من الضرر، وإنه قبيح ثم العذر إذا تحقق تنفسخ الإجارة بنفس العذر أو تحتاج فيه إلى الفسخ، لم يذكر محمد رحمه الله هذا نصاً في شيء من الكتب وإشارات الكتب متعارضة في بعضها يشير إلى أنها تنفسخ بنفس(7/497)
العذر، وبه أخذ بعض المشايخ وفي عامتها يشير إلى أنه يحتاج فيه إلى الفسخ، وعليه عامة المشايخ وهو الصحيح.
ومن المشايخ من قال: كل عذر يمنع المضي في موجب العقد شرعاً، تنتقض الإجارة بنفسه ولا تحتاج فيه إلى الفسخ كما في مسألة الآكلة وقلع السنّ، فإن بعد ما برأت اليد وسكن الوجع لا يجوز قلع السنّ وقطع اليد فلا فائدة في إبقاء العقد، فتنتقض ضرورة وكل عذر لا يمنع المضي في موجب العقد شرعاً ولكن يلحقه نوع ضرر يحتاج فيه إلى الفسخ، ثم إذا احتيج إلى الفسخ على ما عليه إشارات عامة الكتب مقر وصاحب العذر بالفسخ أو يحتاج فيه إلى قضاء القاضي أو رضا العاقد الآخر.
ذكر في «الزيادات» : أنه يشترط القضاء أو الرضا وإليه أشار في «الجامع الصغير» وفي «الأصل» إلى أنه لا يشترط القضاء، أو الرضا ومن شرط النقض من المشايخ اختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: ما ذكر في «الزيادات» : محمول على عذر يحتمل الاشتباه كما إذا لحق الآخر دين وهو يدعي أنه لا وفاء له، إلا من ثمن الدار؛ إذ يحتمل أن له وفاء بعين الدار المستأجرة فيحتاج فيه إلى القضاء ليزول الاشتباه بالقضاء، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» محمول على ما إذا كان العذر أمراً واضحاً لا اشتباه فيه، فلا يحتاج فيه إلى القضاء.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان وجه رواية «الجامع الصغير» ، و «الأصل» أن هذا في معنى العيب قبل القبض، فإن المنافع لا تصير مقبوضة لقبض الدار حقيقة والعيب قبل القبض يوجب الفسخ من غير قضاء ولا رضا كما في بيع العين.
وجه ما ذكر في «الزيادات» : أن هذا إن كان في معنى العيب قبل القبض حقيقة على الوجه الذي قلتم فهو في معنى العيب بعد القبض حكماً، فإنه أقيم قبض الدار مقام قبض المنافع في حق تمام العقد فيشترط فيه القضاء أو الرضا.
إذا حدث في العين المستأجر عيب لا يوجب خللاً في المنافع، لم يكن للمستأجر أن يفسخ العقد وذلك نحو العبد المستأجر للخدمة إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة أو سقط شعره أو سقط حائط من الدار لا ينتفع به في سكناها؛ وهذا لأن المعقود عليه في الإجارة المنفعة فإذا لم يتمكن الخلل في المنافع كان المعقود عليه قائماً من كل وجه فلا معنى لإيراد الخيار.
وإن كان العيب يوجب خللاً في المنافع كالعبد إذا مرض والدابة إذا دبرت والدار إذا انهدمت بعض بنائها حتى أوجب نقصاناً في سكنى الباقي، كان للمستأجر أن يفسخ العقد؛ لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه على الوجه المستحق بالعقد لتمكن الخلل فيه، فإن شاء رضي بالخلل واستوفاه كذلك وإن شاء فسخ العقد، وإن شاء المؤاجر أسقط من الدار قبل فسخ المستأجر فلا خيار للمستأجر؛ لأن الخلل قد ارتفع والعقد يتجدد انتقاؤه على حسب المنافع فلم يتمكن الخلل في المعقود عليه في العقد الآتي فلا يكون له حق الفسخ.(7/498)
ولو كان المؤاجر غائباً فليس للمستأجر أن يفسخ؛ لأن حضور العاقدين شرط صحة الفسخ عرف ذلك في كتاب البيوع ولو سقطت الدار كلها فله أن يخرج، سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً فهذا إشارة إلى أن عقد الإجارة ينفسخ بانهدام الدار، فإنه قال: فللمستأجر أن يخرج سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً ولو لم ينفسخ العقد واحتيج إلى الفسخ اشترط حضرة صاحبه، كما في المسألة المتقدمة.
وهذا فصل اختلف أصحابنا فيه، بعضهم قال: ينفسخ العقد، بانهدام الدار وانقطاع الماء عن الرحى وانقطاع الشرب عن الأرض إذا كان لا يمكنه أن يزرع، واستدل هذا القائل باللفظ الذي ذكرنا، ومنهم من قال: لا ينفسخ العقد بانهدام الدار، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد في كتاب الصّلح، أنه إذا صالح على سكنى دار فانهدمت لم ينفسخ الصّلح.
واستدلوا أيضاً ما روى هشام عن محمّد فيمن استأجر بيتاً فانهدم ثم بناه الآخر فليس للمستأجر (33ب4) أن يمتنع ولا الآجر فهذا إشارة إلى أن العقد لا ينفسخ بانهدام الدار؛ وهذا لأن المنفعة ما فاتت من كل وجه فإن الانتفاع بالعرصة ممكن من وجه بأن ينصب خيمة فيها أو إن فاتت المنفعة من كل وجه، إلا أنها ما فاتت على سبيل التأبيد إنها فاتت على وجه يحتمل العود فأشبه إباق العبد المستأجر، وذلك لا يوجب انفساخ العقد.
ونصّ في إجارات «الأصل» في باب الرحى أن الإجارة في الرحى لا تنفسخ بانقطاع الماء عنها.
وفي «فتاوى الفضلي» : المؤاجر إذا نقض الدار المستأجرة برضا المستأجر أو بغير رضاه لا تنتقض الإجارة، لأن الأصل باق قال: وهذا بمنزلة ما لو غصب الدار المستأجرة من المستأجر، وهناك لا تنتقض الإجارة بل سقط الأجر على المستأجر مادامت الدار في يد الغاصب ومن المشايخ من قال: ينفسخ العقد بانهدام الدار ثم يعود بالبناء ومثل هذا جائز.
ألا ترى أن الشاة المبيعة إذا ماتت في يد البائع ينفسخ العقد، ثم إذا دبغ جلدها يعود العقد بعذره كذا ها هنا، فإن بنى المؤاجر الدار كلها قبل الفسخ فللمستأجر أن يفسخ العقد إن شاء هكذا ذكر في «النوادر» ، وإنه يخالف راوية هشام عن محمد في مسألة البيت.
ووجه هذه الرواية: أن التغير قائم فيها؛ لأن الدار إذا كانت جديدة تكون أبرد في بعض الأوقات وأحر في بعضها وعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن يكون للمستأجر حق الفسخ إذا سقط بعض البناء وبناه الآخر قبل الفسخ، ويجوز أن يكون بينهما فرق فيتأمّل.
وقال محمد رحمه الله: في السفينة المستأجرة إذا أنقضت وصارت ألواحاً، ثم ركبت واعتدّت سفينة لم يجبر على تسليمها إلى المستأجر، قال محمد: ولا يشبه هذا الدار؛ لأن السفينة بعد النقض إذا اعتدت صارت سفينة أخرى، ألا ترى أن من غصب(7/499)
من آخر ألواحاً وجعلها سفينة ينقطع حق المالك فأما عرصة الدار لا تتغير بالبناء عليها.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل استأجر داراً وقبضها فانهدم بيت منها فرفع عنه من الأجر بحصته ولا يؤخذ منهما.
بيانه: وإذا استأجر غلاماً ليخدمه في المصر ثم أراد المستأجر أن يسافر فهذا عذر له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه استيفاء المعقود عليه إلا بحبس نفسه في المصر؛ إذ لا يمكنه أن يخرج بالعبد؛ لأن خدمة السفر أشق من خدمة الحضر وحبس نفسه في مكان يعينه عقوبة فيصير عذراً له في فسخ الإجارة، وأما إذا استأجره ليخدمه مطلقاً ولم يقيده بالمصر ثم أراد المستأجر المسافر هل يكون له عذر في فسخ الإجارة فهذه المسألة تبنى على مسألة أخرى أن من استأجر عبداً في المصر للخدمة هل له أن يسافر؟ إن لم يكن له أن يسافر به كان عذراً له، وإن كان له أن يسافر لم يكن عذراً وقد مرت المسألة في فصل الاستئجار للخدمة.
فإن قال المؤاجر للقاضي: إنه لا يريد السفر ولكنه يريد فسخ الإجارة، وقال المستأجر: أنا أريد السفر فالقاضي يقول: للمستأجر مع من يخرج فإن قال: مع فلان وفلان، فالقاضي يسألهم أن فلاناً هل يخرج معكم؟ وهل استعد للخروج؟ فإن قالوا: نعم ثبت العذر ومالا فلا، وهذا لأن الخروج لابد له من الاستعداد قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له العدة} (التوبة: 46) وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحكم زيه وسامه فإن كانت يداه شاق السفر يجعله مسافراً وهذا؛ لأن الزي والسيما حجة يجب العمل بها عند اشتباه الحال على ما عرف في موضعه، وبعضهم قالوا: إذا أنكر الآجر السفر فالقول قوله وبعضهم قالوا: القاضي يحلف المستأجر بالله إنك عزمت على السفر، وإليه مال الكرخي والقدوري وكذلك لو خرج من المصر ثم عاد يحلّف بالله إنك قد خرجت قاصداً إلى الموضع الذي ذكرت، ولو أراد ربّ العبد أن يسافر لا يكون ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في مكان معين بأن يخرج إلى السفر، ويخلي بين المستأجر وبين العبد.d
ونظير هذه المسألة إذا استأجر من آخر داراً ليسكنها ثم عزم على السفر لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وإذا استأجر حانوتاً في سوق ليعمل فيه عملاً مثلاً بزازي فلحقه دين أو أفلس وقام عن السوق فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه فات ما هو المقصود من هذه الإجارة؛ لأن المقصود منها أن يتجر في هذا الحانوت، ولا يمكنه ذلك بعد الإفلاس وبعد ما لحقه الديون لأن الغرماء يأخذون المال منه ويمنعونه عن التصرف فيه، ولم يكن شيء من ذلك ولكن أراد المستأجر أن يتحول إلى حانوت آخر هو أوسع إذا رخص ويعمل ذلك العمل لم يكن ذلك عذراً؛ لأن ما هو المقصود من هذه الإجارة لم يفت واستيفاء ما وقع عليه العقد ممكن من غير أن يلحق المستأجر ضرر لكن يفوته نفع طمعه، إلا أنّ تحصيل النفع ليس بواجب إنما الواجب دفع الضرر ولو أراد أن يقوم من هذا العمل ويعمل عملاً آخر.(7/500)
ذكر في «الفتاوى الصغرى» : أن هذا عذر وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر غلاماً ليعمل له عمل الخياطة، ثم بدا له أن يأخذ في عمل آخر فإن ذلك ليس بعذر؛ لأنه لا يمكنه أن يحمل الغلام في ناحية الدكان يعمل له عمل الخياطة وهو في ناحية أخرى يعمل عملاً آخر بخلاف ما إذا كان هو يعمل بنفسه.
وذكر في فتاوى «الأصل» : هذه المسألة على التفصيل فقال: إن تهيأ له العمل الثاني على ذلك الدكان ليس له النقض، لأنه لم يتحقق القدر وإن لم يتهيأ فله النقض؛ لأنه تحقق العذر، وذكر في «الجامع الصغير» مطلقاً أنه ليس بعذر، كما ذكر في «الفتاوى الصغير» ومسألة «الجامع الصغير» تأتي بعد هذا والمؤاجر إذا وجد زيادة على الأجرة لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إنما المعقود عليه من غير ضرر يلزمه إنما يفوته نوع نفع طمعه غير أنه لا عبرة لفوات المنفعة على ما مرً.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله رجل ساكن في قرية استأجر أرضاً في قرية أخرى ثم بدا له أن يترك هذه الأرض، ويزرع أرضاً أخرى في قرية أخرى قال: إن كان بينهما مسيرة سفر كان عذراً له في فسخ الإجارة، وما لا فلا وهذا؛ لأن المسافة إذا كانت بعيدة يلحقه الضرر وإذا كانت قريبة لا يلحقه الضرر، وقدرت البعيدة بمسيرة السفر وإذا لحق الآجر دين لا وفاء له إلا من ثمن الدار المستأجرة أو ثمن العبد المستأجر، فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه، وهو الحبس، فإنه يحبس فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة.
فإن قيل: ينبغي أن لا يحبسه القاضي إذا تعلق بماله حق المستأجر بل يتأخر الحبس إلى أن تنقضي الإجارة.
قلنا: القاضي لا يصدقه في أنه لا وفاء له إلا من ثمن المستأجر فيحبسه لهذا، وينبغي للآجر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد وليس للآجر أن يفسخ بنفسه، وقد مرّ هذا، ثم إذا رفع الأمر إلى القاضي إن طلب من القاضي أن ينقض الإجارة فالقاضي لا ينقضها؛ لأنه لاحق للآجر في نقض الإجارة إنما حقه في البيع قضاء لدينه وتخليصاً لرقبته فلو نقض القاضي الإجارة بطلبه ربما لا يتفق البيع بعد ذلك أو يكون احتيالاً فيصير النقض مقصوداً، أو يبطل حق المستأجر وإنه لا يجوز وإن طلب من القاضي أن يبيع المستأجر بنفسه أو بأمر الآجر أو غيره بالبيع، أجابه القاضي إلى ذلك وهذا الجواب إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية حق المستأجر لا يمنع البيع ولكن يمنع التسليم.
وللمشتري الخيار بين أن يتربص إلى أن تمضي هذه الإجارة، وبين أن يرفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم أو الفسخ، فإذا رفع إلى القاضي (34أ4) وأثبت البائع الدين بالبيّنة، فالقاضي يمضي البيع ويتضمن ذلك نقض الإجارة فيأخذ الثمن من المشتري ويسلمه إلى الغريم.
قال: وإلى أن يمضي القاضي البيع فالأجرة واجبة على المستأجر؛ لأن المستأجر(7/501)
في يده وهو متمكن من الانتفاع به فيجب عليه الأجر، وكان الأجر للآجر؛ لأنه بدل ملكه ويكون طيباً له؛ لأنه وجب بحكم عقد صحيح وكذلك لو أن الآجر باع الدار بنفسه قبل أن يتقدموا إلى القاضي، ثم تقدموا إلى القاضي، فعلى المستأجر أجر الدار حتى ينقض القاضي الإجارة بإمضاء البيع وتنفيذه لما ذكرنا من المعنى.
هذا إذا كان الدّين على الآجر ظاهراً معلوماً للقاضي، وأما إذا لم يكن ظاهراً معروفاً وإنما عرف بإقرار الآجر وصدقه المقر له في إقراره وكذبه المستأجر فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله بيعت الأرض، ونقضت الإجارة وعلى قولهما لا تباع الأرض ولا تنقض الإجارة فهما لا يقولان بصحة إقراره في حق المستأجر؛ لأنه يضمن احترازاً بالمستأجر بإبطال حقّه عن عين المستأجر؛ لأن حقّه تعلق بعين المستأجر لغيره فيكون إقراراً على المستأجر وإقرار الإنسان على غيره لا يصح.
وأبو حنيفة يقول بصحة إقراره؛ لأنه يعرف في ذمّته؛ لأن محل الدين الذمّة ولاحق لأحد في ذمّته فكان إقراراً على نفسه، فيصح الإقرار ويثبت الدين مطلقاً، وما يقول بأن فيه ضرر المستأجر.
قلنا: لا ضرر للمستأجر في نفس الإقرار وإنما ضرره في البيع والاستيفاء، وإنه فعل اختياري لا يضاف إلى الإقرار فلا يصير به مقراً على الغير، كإقرار العبد على نفسه بالقصاص ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا ثبت الدّين مطلقاً بإقرار الآجر صار الآجر قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع فيجب عليه البيع كما في المسألة الأولى، ويحبس إذا امتنع عنه وعندهما لما لم يثبت الدّين بإقراره في حق المستأجر لم يصر قادراً الآجر على قضاء الدين بواسطة البيع، فلا يجب عليه البيع ولا يحبس إذا امتنع عنه ولكن المقر له يلازم الآجر، ويدور معه حيث دار فإذا انقضت مدة الإجارة الآن يحبسه؛ لأنه صار قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع.
إذا أجر داره ثم أراد أن ينقص الإجارة ويبيع الدار؛ لأنه لا نفقة له ولعياله فله ذلك هكذا ذكر في «فتاوى أبي اللّيث» ؛ لأن هذا أشد من الحاجة إلى قضاء الدين وذلك عذر فهذا أولى.
وفي «الأصل» : إذا انهدم منزل الآجر ولم يكن له منزل آخر، فأراد أن يسكن هذا المنزل لم يكن له ذلك.
وفي «فتاوى أبي اللّيث» رحمه الله: إذا تكارى إبلاً من الكوفة إلى بغداد، ثم بدا له أن يتكارى بغلام فهذا ليس بعذر بل هذا تمني أما لو اشترى بعيراً أو دابة فهو عذر، لأنه استغنى عن الإجارة فصار كما لو ترك السفر.
وفي «الأصل» : إذا استأجر من آجر منزلاً، ثم إن المستأجر اشترى منزلاً وأراد أن يتحول إليه ويفسخ الإجارة فليس له ذلك، وهذا ليس بعذر؛ لأنه يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحق نفسه فإنه يؤاجر منزله الذي اشترى، ويصرف كراه إلى الذي استأجر فلما أمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحقه، وماله لم يصلح عذراً في(7/502)
فسخ الإجارة، فعلى قياس ما ذكر في «الأصل» ينبغي أن يقال في مسألة «الفتاوى» ، إنه إذا اشترى بعيراً أو دابّة لا يكون عذراً.
قال في «الجامع الصغير» : الخياط إذا استأجر غلاماً ليخيط معه، فأفلس الخياط وقام عن السوق فهذا عذر؛ لأن تجارته تنقطع بالإفلاس فتبقى التجارة غرامة عليه فيثبت له حق الفسخ دفعاً للغرامة عن نفسه.
فإن قيل: الخياط يتوصل إلى الخياطة بمال قليل فكيف يتحقق إفلاسه.
قلنا: الخياط إنما يتوصل إلى الخياطة بمال قليل إذا كان يعمل لغيره أما إذا كان يعمل لنفسه لا يتوصل إليها إلا بمال كثير، وكان محمد رحمه الله يقول هذا في خياط يعمل لنفسه على أن الخياط الذي يعمل لغيره، قد يتحقق إفلاسه بأن تظهر خيانته عند الناس فيمتنعون عن تسليم الثياب إليه أو يلحقه ديون كثيرة، ويصير بحال الناس لا يأتمنوه على أمتعتهم، وأما إذا أراد أن يترك الخياط ويعمل في الصرف، فهذا ليس بعذر تفسخ به الإجارة.
وقال في كتاب الإجارات: إذا استأجر من آجر حانوتاً ليبيع فيه الطعام، ثم بدا له أن يقعد في سوق الصيارفة فهذا عذر.
والفرق إن في مسألة كتاب الإجارات لا يمكنه استيفاء المعقود عليه، إلا أن يحبس نفسه في هذا السوق المعين؛ إذ لا يمكنه الجمع بين تجاريين في سوق واحد، وحبس نفسه في مكان معيّن عقوبة وعذاب فجعل ذلك عذراً دفعاً للعقوبة عن نفسه، أما في مسألة «الجامع الصغير» يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في هذا السوق المعيّن، بأن يقعد بنفسه في سوق الصيارفة ويستعمل الغلام في عمل الخياطة في ذلك السوق، فلم يجعل ذلك عذراً.
وإذا استأجر إنساناً ليقصر ثياباً له أو ليخيط أو ليقطع قميصاً له أو ليبني له بناء أو ليزرع أرضاً له، ببذره ثم بدا له أن لا يفعل كان ذلك عذراً له؛ لأنه لا يمكنه المضي على الإجارة إلا باستهلاك المال في بعض الصور، وهو الزراعة والقطع والبناء أما الزراعة والقطع فظاهر وأما البناء؛ فلأن فيه إتلاف المالية، وكذلك إذا استأجر لحفر البئر؛ لأن في الحفر إتلاف جزء من الأرض وكذلك إذا استأجر للحجامة والفصد؛ لأن في الحجامة إيلام وإتلاف جزء من البدن، ولو امتنع الأجير عن العمل في هذه الصورة يجبر عليه، ولا تفسخ الإجارة؛ لأنه يمكنه المضي على الإجارة من غير ضرر يلزمه.
وإذا استأجر أرضاً ليزرعها فغرقت الأرض أو نزّت كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد فات قبل التسليم وإنه يثبت للعاقد حق الفسخ في بيع العبد إذا أبق العبد قبل القبض، فإنه يكون للمشتري حق الفسخ، وطريقه ما قلنا: فإن مرض المستأجر وعجز عن الزراعة، فإن كان ممّن يعمل بنفسه فهذا عذر؛ لأنه عجز عن الانتفاع بالأرض لمرضه، إذا كان يعمل بنفسه فهو بمنزلة ما لو عجز عن الانتفاع بالأرض بأن غرقت أو نزّت، وذلك عذر فهذا كذلك وإن كان إنما يعمل بأجرائه، فهذا ليس بعذر؛(7/503)
لأن مرضه لا يمنع أجراه عن العمل في الأرض.
وإذا أبق العبد المستأجر فللمستأجر أن يفسخ الإجارة فهو عذر؛ لأن المعقود عليه فات قبل التسليم فهو بمنزلة الأرض إذا غرقت أو نزّت، وإذا وجد العبد المستأجر للخدمة سارقاً فهذا عذر؛ لأن هذا بمنزلة العيب في المعقود عليه؛ لأنّ السرقة توجب نقصاناً في الخدمة؛ لأنه متى كان سارقاً لا يأتمنه المستأجر على ماله إذا خلى بينه وبين أعمال الخدمة في الدار خوفاً من سرقته على ماله، ويتعسر عليه ملازمته كل ساعة وأوان.
فهو معنى قولنا هذا عيب في المعقود عليه، فيثبت للعاقد الخيار، كما إذا وجد العبد المشتري سارقاً، وإن كان العبد غير حاذق للعمل الذي استأجره عليه، فهذا لا يكون عذراً للمستأجر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا عيب في المعقود عليه ولا نقصان إنما فات صفة الحذاقة وإنها بمنزلة الجودة فلا تصير مُستحقة بمطلق العقد بل يراعي في استحقاقها الشرط.
ألا ترى أن من اشترى حنطة ولم يشترط جودتها فوجدها وسطاً، لا يكون له حق الفسخ كذا هاهنا، وإن كان عمله فاسداً كان له الخيار، لأن هذا عيب في المعقود عليه فهو بمنزلة ما لو وجد الحنطة عفنة وإذا وقعت الإجارة على دواب بعينها لحمل المتاع، فماتت انفسخت الإجارة بخلاف ما إذا وقعت على دواب لا بعينها. (34ب4) وسلم الآجر إليه دواباً فماتت لا ينفسخ العقد، وعلى الآجر أن يأتي بغير ذلك.
والفرق: أن عند تعيين الدواب المعقود عليه منافع الدواب المعيّنة، فإذا هلكت فقد هلك المعقود عليه فيبطل أما عند انعدام التعيين المعقود فعمل الحمل في ذمّة الآجر والإبل آلة الحمل، وكما أن التي عينها الآجر بعد العقد آلة الحمل فغيرها آلة الحمل فلا معنى لانفساخ العقد، فإن وقعت الإجارة على دواب بعينها ومرضت فللمستأجر حق الفسخ؛ لأن منفعة الحمل تنتقض بالمرض فكان ذلك عيباً في المعقود عليه وعن أبي يوسف أن للمؤاجر حق الفسخ أيضاً؛ لأن الركوب والحمل مع المرض يوجب زيادة ضرر في ملكه وذلك غير مستحق بالعقد، وإن مرض الآجر في هذه الصورة.
ذكر القدوريّ في «شرحه» : أن له حق الفسخ، وهذا خلاف رواية «الأصل» فعلى ما ذكره القدوري يحتاج إلى الفرق، بينما إذا مرض المؤاجر، وبينما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فإن ذلك لا يكون عذراً له في فسخ الإجارة.
والفرق: أنه إذا مرض فقد عجز عن الخروج، وغيره لا يقوم مقامه في الخروج إلا بموته وضرر يلحقه فيكون ذلك عذراً له، أما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فما عجز عن الخروج بل هو قادر عليه، وإنما تركه باختياره فكان عليه أن يقيم غيره مقامه.
وعن أبي يوسف: في امرأة ولدت يوم النحر قبل أن تطوف طواف الزيارة، وأبى الحمال أن يقيم معها مدة النّفاس فهذا عذر للحمال في فسخ الإجارة، ولو ولدت قبل يوم النحر فجاء يوم النحر وقد بقي من مدة نفاسها مدة الحيض عشرة أو أقل خيرّ الحمال على المقام معها، وهذا؛ لأنه لا يمكن جبر الحمال على المقام في الفصل الأول؛ لأنه ما(7/504)
جرت العادة بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل مدّة النفاس، فيتضرر الحمال بذلك فيفسخ العقد دفعاً للضرر عنهما، أما في الفصل الثاني جبر الحمال على المقام ممكن؛ لأن العادة جرت بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل هذه المدة فلا يتضرر الحمال بذلك.
ولو اشترى شيئاً وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فلا يرده بالعيب وتفسخ الإجارة؛ لأن لو نفينا عقد الإجارة يتضرّر الآجر من حيث إن يلزمه المبيع معيباً، وإذا أجر الرجل نفسه في عمل من الأعمال ثم بدا له أن يترك ذلك العمل وينتقل إلى غيره بأن كان حجاماً مثلاً أجر نفسه للحجامة ثم قال: أنفت من هذا العمل وأريد أن أتركه ليّس له ذلك؛ لأنه التزم العمل وصح الالتزام؛ ولا عار فيه وقت الالتزام لأنه من أهله إنما أراد أن يترفع الآن فيقال له: أوف ما التزمت.
ثم تترفع وإن كان ذلك العمل ليس من عمله وهو مما يعاب بذلك فله أن يمتنع عن العمل، وأن يفسخ الإجارة؛ لأنه إذا لم يكن ذلك العمل من عمله يلحقه العار في المضي عليه، فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وكذلك المرأة إذا أجرت نفسها ظئراً ممن يعاب بذلك، فلأهلها أن يخرجوها وكذا إن انتهى لم يجبر عليه لما ذكرنا.
وعن محمد رحمه الله، فيمن استأجر أرضاً ليزرع شيئاً سماه فزرعها وأصاب الزرع آفة وقد ذهب وقت زراعة ذلك النوع، فإن أراد أن يزرع ما هو أقل ضرراً من الأول أو مثله فله ذلك وإلا فسخت الإجارة، وألزمته ما مضى من الأجر وهذا؛ لأن في إيفاء العقد مع فوات المقصود اضرار بالمستأجر ولا ضرر للآجر في زراعة ما هو دون الأوّل أو مثله.
وإذا انتقص الماء عن الرّحى، فإن كان النقصان فاحشاً فللمستأجر حق الفسخ وإن كان غير فاحش فليس له حق الفسخ؛ لأن مدة الإجارة لا تخلو عن نقصان غير فاحش غالباً وهذا لأن الماء يجري على سنن واحد وإنما بل ينتقص مرة ويزداد بأخرى غير أن النقصان الفاحش في مدة قليلة ليس بغالب وغير الفاحش غالب، فإذا أقدم على استئجار الرحى مع علمه بما قلنا يصير راضيااً بالغير الفاحش، ولا يصير راضياً بالفاحش فلا يثبت حق الفسخ في غير الفاحش لمكان الرضا، ويثبت في الفاحش لعدم الرضا.
قال القدوري في «شرحه» : إذا صار يطحن أقل من نصف طحنه، فهو نقصان فاحش.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا قل الماء ويدور الرحى ويطحن على نصف ما كان يطحن، فللمستأجر ردّه أيضاً ولو لم يرده حتى طحن كان هذا رضاً منه، وليس له أن يرد الرحى بعد ذلك وهذه الرواية تخالف رواية القدوريّ هذا إذا انتقص الماء عن الرحى في بعض المدّة، نحو أن يستأجر رحاً ما كل شهر بأجر مسمّى فانقطع الماء عنها في بعض الشهر، فلم يعمل فللمستأجر الخيار هكذا ذكر في «الأصل» ، وهذا نص على أن الإجارة لا تنفسخ بانقطاع الماء عن الرحى؛ لأن المعقود عليه وهو منفعة الطّحن وإن فاتته قبل(7/505)
القبض إلا أن العود موهوم، ومثله لا يوجب انفساخ العقد بل يثبت الخيار للعاقد كالعبد المستأجر إذا أبق في مدة الإجارة، فإن لم يفسخ حتى عاد الماء لزمته الإجارة فيما بقي من الشهر لزوال الموجب للفسخ، ويرفع عنه الأجر بحساب ذلك هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» .
واختلف المشايخ في تفسير قوله: بحساب ذلك، بعضهم قالوا: معناه بحساب ما انقطع من الماء في الشهر حتى إذا انقطع الماء عشرة أيام يسقط بحصة عشرة أيام من الشهر، وذلك ثلث المسمى فيسقط عنه ثلث المسمى وهذا؛ لأن المعقود عليه في إجارة الرحى منفعة الطحن لا غير؛ لأن الرحى مستأجر للطحن لا غير فيجعل المعقود عليه منفعة الطحن وقد فاتت منفعة الطحن في مدة عشرة أيام، فيسقط الأجر بقدره.
كما لو استأجر عبداً ليخدمه شهراً فأبق عشرة أيام، فإنه يسقط الأجر بقدره وذلك ثلث المسمّى فكذلك هذا وقال بعضهم: أراد بقوله بحساب ذلك أي بحصّة ما انقطع من الماء.
وبيان ذلك: أن ينظر إلى بيت رحى عشرة أيام وهو يطحن بكم يستأجر؟ فإن كان يطحن يستأجر عشرة أيام بعشرة ولا يطحن يستأجر بخمسة يسقط خمسة دراهم، وهو حصة ما انقطع من الماء ولا يسقط ثلث المسمّى كما قاله الأولون، وذلك لأن منفعة الطحن إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب، فإن للمستأجر أن يسكن فيها ويربط فيها دوابه كما له أن يطحن فمنفعة الرحى إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب فيسقط الأجر بقدر ما فات، ويبقى بقدر ما بقي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما قاله الأولون أصح، لأن ظاهر الرواية يشهد لهذا فإنه قال في «الأصل» : الماء إذا انقطع الشهر كله ولم يفسخها المستأجر حتى مضى الشهر، فلا أجر عليه في ذلك فقد نفى الأجر عنه أصلاً، ولو كانت منفعة السُكنى معقوداً عليه مع منفعة الطحن لأوجب بقدر ما يخصّ منفعة السُكنى؛ وهذا لأن الرحى لا تستأجر لمنفعة السُكنى وإنما تستأجر لمنفعة الطحن فيجعل منفعة الطحن هو المعقود مقصوداً، وغيره يدخل تبعاً والبدل لا يقابل الاتباع فيكون الأجر كله بإزاء منفعة الطحن.
وذكر القدوري في «شرحه» : أن من استأجر رحى ماء سنة، فانقطع الماء بعد ستة أشهر، فأمسك الرحى حتى مضت السنة فعليه الأجر لستة أشهر ولاشيء عليه لما بقي، وإن كان البيت ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته لأنه بقي شيء من المعقود عليه فيبقى الأجر بحصته، وهذا يدلك على أن ما سوى منفعة الطحن داخل في هذا العقد أصلاً لاتبعاً فيكون دليلاً على ما قاله الآخرون فيه. (35أ4) .
وفي «نوادر ابن سماعه» عن محمد رحمه الله رجل استأجر رحى ماء بأداتها وبيتها والماء جار ثم انقطع الماء عنها، فهذا عذر وقد مرّ هذا قال: ولو استأجرها والماء منقطع عنها وقال أنا أصرف ماء نهري إليها، وكان ذلك بلا حفر ولا مؤنه لزمه الأجر صرف الماء إليه أو لم يصرف، وإن كان ينبغي لذلك حفر نهر من نهره إلى نهر الرحى ومؤنته(7/506)
فقال: بدا لي في حفر ها كان له أن يترك الإجارة، فإن حفر وأجرى الماء ثم بدا له أن يصرف الماء إلى زرعه ويترك الإجارة لم يكن له ذلك ويلزمه الأجر، فإن جاء من ذلك أمر فيه ضرر عظيم يذهب فيه زرعه ويضر بماله إضراراً عظيماً إن قطع الماء عنه جعلت هذا عذراً له أن يترك الإجارة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا استأجر أرضاً وانقطع عنها شربها وقد بقي من الإجارة شيء، قال: إن كانت مما يصلح أن يزرع عرفاً فلم يخاصم في الإجارة ولم ينقضها حتى مضت المدة لزمه الأجر تاماً، وإن خاصم فيها كان له أن يردها ويعطيه من الأجر بحسابه، وإن كانت مما لا يزرع عرفاً لم يلزمه أجر ما بقي من السنة، وإن لم يخاصم في ردّها.
وكذلك رجل استأجر عبداً من رجل كل شهر بدرهم مثلاً، فمرض العبد ولم يقدر على مثل ما كان يعمل إلا أنه قد يعمل عملاً دون العمل الذي كان يعمله في الصحة، فله أن ينقض الإجارة وإن لم ينقضها حتى مضى شهراً لزم الأجر، وإن مرض مرضاً لا يقدر على شيء من العمل فلا أجر عليه.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً فلقي جبلاً قال: له الأجر بحساب ما حفر، فإن كانت بلدة يكون فيها ذلك فبلغ إلى ما هو أصلب مما رأى، فإن كان يعلم أن ذلك سيلقاه كان عليه أن يحفره، وإن قال: لم أعلم حلف بالله لم يعلم وكان له من الأجر بحساب ما حفر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» وقد مرّ جنس هذه المسألة قبل هذا.l
وعنه أيضاً: في رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً في موضع أراه إياه وأراه قدر استدارتها، وشرط عليه أن يحفرها عشرة أذرع كل ذراع بكذا، فحفر منها أذرعاً ثم مات، فإنه يقوم ما حفر ويقوم ما بقي ثم يقسم الأجر على قيمتين فيعطى حصة ما حفر.
علل فقال: لأن كل ذراع منها سابغ في أسفلها وأعلاها ومعنى هذا أنه ينظر إلى قيمة ذراع من الأعلى وإلى قيمة ذراع من الأسفل؛ لأن في الأعلى الحفر يكون أرخص وفي الأسفل الحفر يكون أغلى فلا بد من الجمع بين القيمتين لتحقيق معنى العدل، ثم إذا ظهر قيمة الأعلى وقيمة الأسفل يجعل كل ذراع منهما، فيكون كل ذراع من الذراعين وتكون حصته من القيمتين.
وإذا تكارى دابة فوجدها لا تبصر بالليلّ أو وجدها جموحاً أو عضوضاً، فله أن يردها؛ لأنه وجد المعقود عليه معيبّاً فكان له الرد كما في بيع العين، فإن ردها فليس له أن يطالب المكاري بدابة أخرى إن وقعت الإجارة على هذه الدابة بعينها؛ لأن الإجارة انفسخت بردها وإن وقعت الإجارة على الدابة لا بعينها، فله أن يطالبه بدابة أخرى.
وفي «مزارعة العيون» : إذا استأجر من آخر أرضاً وزرعها فلم يجد ماء ليسقيها، فيبس الزرع قال: إن كان استأجرها بغير شرب ولم ينقطع ماء النهر الذي يرجى منه السقي فعليه الأجر، وإن انقطع كان له الخيار، وإن كان استأجرها لشربها، فانقطع الشرب عنها(7/507)
فمن يوم فسد الزرع من انقطاع الشرب فالأجر عنه ساقط كما لو انقطع الماء عن الرحى المستأجرة.
وفي موضع آخر: إذا استأجر أرضاً وماء ليزرعها فجدب النهر الأعظم، فلم يستطع سقياً فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أمسكها، فإن لم يرد حتى مضت المدة فعليه الأجر إذا كان بحال يمكنه أن يحتال بحيلة ليزرع فيها شيئاً، أما إذا كان بحال لا يمكنه أن يزرع فيها شيئاً بعدما بوجه من الوجوه ولا حيلة له في ذلك، فلا أجر عليه.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر أرضاً فانقطع الماء إن كانت الأرض تسقى بماء الأرض، أو كانت تسقى بماء المطر لكن انقطع المطر أيضاً فلا أجر عليه؛ لأنه لم يتمكن من الانتفاع بها.
وفي «الواقعات» : لو استأجر أرضاً فغرقت الأرض قبل أن يزرعها فلا أجر عليه كما لو غصبها من المستأجر رجل وزرعها، ولو زرعها المستأجر فأصاب الزرع آفة فهلك أو غرق ولم ينبت فعليه الأجر كاملاً؛ لأنه قد زرع رواه ابن رستم عن محمد رجل استأجر أرضاً فزرعها وقل ماؤها فانقطع فله أن يخاصم الآجر حتى يفسخ القاضي العقد بينهما، وبعدما فسخ القاضي العقد ترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل حتى يدرك زرعه، فإن سقى زرعه لا يكون له حق الفسخ بعد ذلك وكان ذلك منه رضاً والفتوى في مسألة هلاك الزرع أنه لا أجر على المستأجر فيما بقي من المدّة بعد هلاك الزرع، إلا إذا تمكن من إعادة زرع مثله أو دونه في الضرر بالأرض، وإذا اختّل الزرع بأن قل ماؤه وانقطع فالجواب فيه على نحو ما ذكره هشام وعليه الأجر إذا لم يرفعه إلى الحاكم وإن لم يسقه.
وفي مزارعة «فتاوى أهل سمرقند» : رجل استأجر أرضاً من أراضي الجبل، فزرعها فلم يمطر عليه ولم ينبت حتى مضت السنة ثم مطر، ونبت فالزرع كله للمستأجر وليس عليه كراء الأرض ولا نقصانها، وأحاله إلى «نوادر ابن سماعة» أما لاكراء عليه فلتقرر العذر في كل المدّة وأما عدم النقصان، فلأن الزراعة حصلت بإذن المالك، قوله: لاكراء عليه قبل النبات فأما بعدما نبت يجب أن يترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل، كما لو انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يستحصد بعد، فإن هناك تترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل كذا هاهنا.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل استأجر طاحونتين بالماء في موضع يكون الحفر على المؤاجر عادة فاجتاح النهر إلى الكراء وصار بحال لا يعمل إلا إحدى الرحاتين، فإن كان بحالٍ لو صرف الماء إليها جميعاً عملا عملاً ناقصاً، فله الخيار لاختلاف ما هو المقصود بالعقد وعليه أجرهما إن لم يفسخ لتمكنه من الانتفاع بهما، وإن كان بحال لو صرف الماء إليهما لم يعملا فعليه أجر إحداهما إن لم يفسخ؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالثانية فإن تفاوت أجرهما، فعليه أجر أكثرهما إذا كان كل الماء يكفيها؛ لأن الشك وقع في سقوط الزيادة وإن كان ذلك في موضع يكون الحفر على المستأجر، فعليه الأجر(7/508)
كاملاً، لأنه هو المعطل لما لم يحفر مع أن الحفر عليه.
ولو استأجر خيمة وانكسر أوتادها فالأجر واجب وليس للمستأجر حق الفسخ لأجله ولو انقطع الأطناب فلا أجر؛ لأن الأطناب على الآجر والأوتاد على المستأجر، وإذا قلع الآجر شجرة من أشجار الضياع المستأجر، فللمستأجر حق الفسخ إن كانت الشجرة مقصودة.
وإذا استأجر الرّجل رجلاً ليذهب بحمولته إلى موضع كذا، فلما ذهب نصف الطريق بدا للمستأجر أن لا يذهب إلى ذلك الموضع ويترك الإجارة، وطلب من الآجر نصف الأجر قال: إن كان النصف الباقي من الطريق مثل الأوّل في الصعوبة والسهولة، فله ذلك وإلا يسترد بقدره والله أعلم.
الفصل التاسع عشر: فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخا
كل من وقع له عقد الإجارة، إذا مات تنفسخ الإجارة بموته. (35ب4) ومن لم يقع له العقد لا ينفسخ العقد بموته وإن كان عاقداً يريد به الوكيل والأب والوصي، وهذا لأن موت من وقع له العقد إنما يوجب انفساخ العقد؛ لأن ابتداء العقد انعقد موجباً للاستحقاق عليه، فإذا مات وثبت الملك للوارث سمّي يقيناً العقد يكون الاستحقاق واقعاً على الوارث فيكون خلاف ما وقع عليه العقد ابتداء، فأما إذا لم يقع له العقد لو يقيناً أو العقد بعد موته يكون الاستحقاق على وفاق ما وجد العقد؛ لأن المستحق عليه قائم وكذا المستحق وكذلك المتولي في الوقف إذا عقد ثم مات؛ لأن حكم العقد لم يقع له فموته لا يغير حكمه.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح كتاب «التحري» : إن من أجر ملك الغير ومات الآجر قبل إجارة المالك أنه تنفسخ الإجارة كما في بيع العين، فإن وقعت الإجارة على شيء بعينه فهلك ذلك الشيء بطلت الإجارة بهلاكه؛ لأن المعقود عليه قد هلك وهلاك المعقود عليه يوجب بطلان العقد.
وإن وقعت الإجارة على دابة بغير عينها بأن استأجر رجلاً حتى يحمل هذا المتاع على إبل فهو جائز؛ لأن المعقود عليه الحمل، وإنه معلوم والإبل آلة الحمل وتعيين آلة الحمل ليس بشرط ثم إذا جاز هذا العقد، وجاء الآجر بإبل ودفعه إلى المستأجر، فمات في يده فعلى الأجير أن يأتي بغير ذلك ليحمل المتاع، وليس له أن يفسخ الإجارة بموت ما سلم؛ لأن المعقود عليه هاهنا إذا لم يعيّن الدابّة فعل الحمل وفعل الحمل كان واجباً عليه في الذمّة، والإبل آلة إيفاء ذلك فإذا هلكت بقي الإيفاء مستحقاً عليه في ذمته كما في الابتداء، فأما إذا عيّن الإبل فالمعقود عليه منفعة دابة بعينها، فإذا هلكت بطل العقد ضرورة.(7/509)
وإذا قال الآجر للمستأجر بع المستأجر فقال:.... لا تنفسخ الإجارة ما لم يبع؛ لأن قوله: بع ليس بصريح في الفسخ بل هو وكيل بالبيع والفسخ من ضرورات البيع فما لم يبع لا يثبت ما هو من ضروراته، وحكي عن بعض المشايخ أن الآجر إذا قال للمستأجر: بع المستأجر من فلان فباعه من غيره جاز.
ولو كان مكان الإجارة رهناً فقال الراهن للمرتهن: بع الرهن من فلان فباع من غيره لا يجوز.
والفرق: إن ثمن الرهن رهن والناس يتفاوتون في اليسار والعسار ولا كذلك ثمن المستأجر، وفي الإجارة الطويلة إذا قال المستأجر للآجر: ما لا حازت يده فقال: بدرهم ينفسخ العقد، وإن لم يدفع وكذلك في باب البيع إذا قال المشتري للبائع: بعها، فقال البائع: هلا بدرهم ينفسخ العقد، إليه أشار محمد رحمه الله في الباب الرابع من «الزيادات» ، وعلى هذا قالوا: إذا قال المستأجر: للآجر في الإجارة الطويلة فإن أجازت يده فقال: روايا شد تنفسخ الإجارة، وفي الإجارة الطويلة إذا أخذ مال الإجارة من غير سابقة الطلب إن أخذ الكل تنفسخ الإجارة، وإن أخذ البعض دون البعض.
قال بعض مشايخنا: إن أخذ الأكثر ينفسخ العقد، وإن أخذ الأقل لا ينفسخ وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله وقال بعضهم: لا ينفسخ العقد بأخذ البعض من غير تفصيل، وقال بعضهم: ينفسخ العقد بقدر ما أخذ.
وقال بعضهم: إن أخذ البعض بطريق الفسخ أي: بدلالة تدل على الفسخ ينفسخ العقد في الكل، وإن كان المأخوذ أقلّ وإن أخذ من غير دلالة تدل على الفسخ لا ينفسخ ما لم يأخذ الكل وبه كان يفتي الصدر الامام ظهير الدين المرغيناني.
وإذا بعت المستأجر إلى الآجر سيتم نفد شده است تابيالي ويكبري، فلما جاء المستأجر قال الآجر: قد أنفقت الدراهم على نفسي لا تنفسخ الإجارة وإذا قال المستأجر للآجر عند الفسخ: فسخت الإجارة في المحدود الذي استأجرته منك صح الفسخ وإن لم يذكر حدود المستأجر ولا أضاف المستأجر إلى القبالة، وكذلك إذا قال الآجر للمستأجر: فسخت الإجارة في المحدود الذي آجرته منك صح الفسخ.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : رجل استأجر من رجلين داراً مشتركاً بينهما ثم دفع المفتاح إلى أحدهما وقبل هو انفسخت الإجارة في حصته؛ لأن دفع المستأجر المفتاح وقبول الآجر ذلك دلالة الفسخ والإجارة كما تنفسخ بصريح الفسخ تنفسخ بدلالة الفسخ.
ألا ترى أن المستأجر والآجر لو كانا واحداً ودفع المستأجر المفتاح إلى الآجر، وقبل الآجر ذلك تنفسخ الإجارة بينهما وطريقه ما قلنا.
وإذا باع الآجر المستأجر بغير إذن المستأجر نفذ البيع في حق البائع والمشتري، ولا ينفذ في حق المستأجر حتى لو سقط حق المستأجر يعمل ذلك البيع ولا يحتاج إلى تجديده.(7/510)
وذكر الصدر الشهيد في الباب الأوّل من رهن «الجامع» في هذا الفصل روايتان، قال: والصحيح أنه لا يحتاج إلى تجديد البيع وإنما أجاز المستأجر البيع نفد البيع في حق الكلّ، ولكن لا تنزع العين من يد المستأجر إلى أن يصل إليه ماله، وإن رضي بالبيع واعتبر رضاه بالبيع تفسخ الإجارة لا للانتزاع من يده، وعن بعض مشايخنا أن الآجر إذا باع المستأجر بغير رضا المستأجر، وسلم ثم أجاز المستأجر البيع والتسليم بطل حقه في الحبس، وإذا باع الآجر بغير رضا المستأجر وأراد المستأجر فسخه فقد ذكرنا في كتاب البيوع أنه ليس له ذلك.
وذكر الصدر الشهيد في «الفتاوى الصغرى» : أن له ذلك في ظاهر الرواية، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك، وأحاله إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان القاضي الامام الإسبيجابي يقول: ليس للمستأجر حق الفسخ وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي» والسيد الإمام أبو شجاع في رهن الجامع.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرح الجامع» : إن في المسألة روايتان في رواية ليس له ذلك، وإنه استحسان وعليه الفتوى وقد ذكرنا هذه المسألة في الفصل السابع، وإذا باع الآجر المستأجر برضا المستأجر حتى انفسخت الإجارة أو تفاسخا العقد، أو انتهت المدّة والزرع بقل وقد صار بحال يجوز بيعه بلا خلاف أو كان بحال في جواز بيعه اختلاف المشايخ، فهو للمستأجر، فلو أبرأ المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم أدرك الزرع ورفع الآجر الغلة فجاء المستأجر وادعى الغلة لنفسه وخاصم الآجر فيها هل تصح دعواه، وهل تسمع خصومته؟.
فقد قيل: ينبغي أن تسمع؛ لأن الغلة إنما حدثت بعد الإبراء فلا تدخل تحت الإبراء، ولو كان الآجر قد رفع الغلة ثم إن المستأجر أبرأه عن الخصومات والدعاوي، ثم ادعى الغلة بعد ذلك لا تسمع دعواه؛ لأن الغلة كانت موجودة وقت الإبراء فدخلت تحت الإبراء أكثر ما في الباب أن الغلة عين إلا أن الإبراء عن الأعيان، إنما لا تصح بمعنى أنه لا تصير العين ملكاً لمن وقع البراءة أما لا يصح دعوى المشتري العين بعد ذلك، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
الفصل العشرون: في إجارة النباتِ والأمتعة والحلي (36أ4) والفسطاط وأشباهها
إذا استأجر الرجل ثوباً ليلبسه إلى الليل بأجر معلوم فهو جائز، وكذلك إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فهو جائز، ولو لم يبين من يلبس أو من يركب لا يجوز.
وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر عبداً للخدمة ولم يبين من يخدمه، أو استأجر داراً(7/511)
للسكنى ولم يبين من يسكن حيث يجوز.
والفرق: وهو الناس لا يتفاوتون في اللبس والركوب تفاوتاً فاحشاً فإنّ ربّ إنسان يفسد الثوب إذا ألبسه يوماً كالجزار وآخر لا يفسده، وإن لبسه أياماً كالبزاز وربّ راكب يفسد الدابة إذا ركب عليها يوماً، وآخر لا يفسد إذا ركب عليها شهراً بل يصلحها، ولهذا يبذل الإنسان الأجر للرابض ولا يرضى ركوب غيره دابته، وإذا كان التفاوت فاحشاً كان جهالة الراكب واللابس مفضية إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأن صاحب الدابة يقول للمستأجر: استأجرته ليلبسه ويركبه المستأجر يقول: استأجرته لألبس وأركب غيري فإن ألبسه غيره فهو ضامن إن أصابه شيء، وإن لم يصبه فلا أجر عليه، أما الضمان إذا أصابه شيء، فلأن إلباس غيره لم يدخل تحت العقد؛ لأنه شرط لبسه وفقد هذا الشرط لما ذكرنا أن الناس يتفاوتون في اللبس، وأما عدم الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفى فيما ليس بداخل تحت العقد أصلاً والمنافع لا تتقوم بدون العقد.
بيانه: أن التفاوت بين الملابس واللابس باختلاف الجنسين، فهو معنى قولنا: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وإنه لا يوجب الأجر فرق بين هذا وبينما إذا استأجر قميصاً ليلبسه فأتزر به ولم يصب الثوب شيء فإنه يجب عليه الأجر استحساناً وقد صار مخالفاً حتى أنه إذا أصاب الثوب شيء، فإنه يضمن، وهاهنا قال: لا يجب الأجر.
والفرق: أن التفاوت الذي بين لبسه وبين إتزاره تفاوت يسير، فلم يلتحقا بجنسين مختلفين فكان موافقاً في أصل المعقود عليه مخالفاً في صفته، فلمكان الوفاق أوجبنا الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفاه بحكم العقد ولمكان الخلاف أوجبنا الضمان متى هلك عملاً بهما، فأما التفاوت بين لبسه ولبس غيره تفاوت فاحش فالتحقا بالجنسين المختلفين، فما استوفاه إنما استوفاه بغير عقد؛ فلهذا لم يجب الأجر.
وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر حانوتاً ليقعد فيه فاسياً فقعد فيه قصاراً وسلم الحانوت، فإنه يجب الأجر والتفاوت بين سكنى الفاسي وبين سكنى الحداد تفاوت فاحش ثم لم يجعل ما استوفى باعتبار التفاوت الفاحش جنساً آخر غير ما تناوله العقد.
والفرق: وهو أن في تلك العقد انعقد على شيئين على السكنى وعلى العمل، ولا تفاوت في السكنى إنما التفاوت في حق العمل، والعقد انعقد على السكنى، فصار مستوفياً ما تناوله العقد وزيادة واستيفاء الزيادة لا تمنع وجوب الأجر، فأما هاهنا العقد انعقد على شيء واحد وهو اللبس ولبس غيره من يلبسه جنس آخر على ما ذكرنا، فلم يستوف المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب الأجر.
فإن قيل: يجب كأنه استوفى ما ليس بمعقود عليه إلا أنه كان متمكناً من استيفاء المعقود عليه بأن يلبس بنفسه والتمكن من استيفاء المعقود عليه، لا يمنع وجوب الأجر.
قلنا: التمكن من استيفاء المعقود عليه إن أوجب الأجر إذا لم تزل يد الإجارة، وكما ألبس غيره فقد زالت يد الإجارة، ألا ترى أنه يضمن وإن هلك الثوب لا من لبس(7/512)
الغير، ولما زالت يد الإجارة فلم يوجد التمكن من الاستيفاء حال قيام الإجارة، فلهذا لم يجب الأجر.
ولو استأجر يوماً إلى الليل للبس ولم يبين اللابس أو استأجر دابّة يوماً إلى الليل للركوب ولم يبيّن الراكب حتى فسدت الإجارة، فاختصما إلى القاضي قبل أن يلبس هو أو يلبس غيره، فإن القاضي يفسخ الإجارة بينهما دفعاً للفساد ودفعاً للمعصية وإن لم يختصما حتى لبس هو يوماً إلى الليل، أو لبس غيره فالقياس أن لا تعود الإجارة جائزة ويجب عليه أجر المثل، وفي الاستحسان تعود جائزة ويجب المسمى؛ لأن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم، إن كان مجهولاً من حيث الحقيقة.
بيانه: وهو أن الإجارة يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، فحال ما يستوفي المنفعة يتجدد العقد والمعقود عليه متعين في تلك الحالة، فهو معنى قولنا: أن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم ولو كان متعيناً من حيث الحقيقة أليس، إنه يجوز العقد فكذا إذا كان متعيناً من حيث الحكم إذ المقصود، من العقد الحكم لا عينه ولا يصير المستأجر غاصباً الثوب بإلباسه غيره.
والفرق: أن الحاصل يجب العقد هاهنا إما بلبسه أو لبس غيره؛ لأنه استأجره للبس مطلقاً والجمع بين الأجرين في حالة واحدة متعذر، فيكون العقد متناولاً أحدهما، فإنهما مانعين كان هو الداخل تحت العقد، أما في المسألة الأولى الداخل تحت العقد لبسه، فأما لبس غيره فليس بداخل تحت العقد أصلاً فلهذا افترقا.
وإذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه يوماً إلى الليل بدرهم فلم يلبسه ووضعه في منزله حتى مضى اليوم فعليه الأجر.
كما لا فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر، فأمسكها في منزله في المصر حيث لا يجب الأجر، وقد تمكن من استيفاء المعقود عليه في الفصلين جميعاً، والفرق بناء على الأصل الذي تقدم ذكره في صدر الكتاب أن التمكن من استيفاء المعقود عليه، إنما يوجب الأجر إذا ثبت التمكن في المدّة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد.
وفي مسألة الثوب وجد التمكن بهذه الصّفة، أما في مسألة الدابة لم يوجد التمكن في المكان الذي أضيف إليها العقد خارج المصر ولا يثبت التمكن من استيفاء المنفعة خارج المصر، والدابة في المصر حتى لو وجد التمكن بهذه الصفة في مسألة الدابة، بأن ساق الدابة إلى ذلك المكان ولم يركبها نقول بوجوب الأجر.
قياس مسألة الدابة من مسألة الثوب، أن لو استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل فحبسها في منزله ولم يركبها، وهناك يجب الأجر أيضاً ثم ذكر الضمان، وفرق فيه بين مسألة الثوب وبين مسألة الدابة، فقال: لو أمسك الثوب في منزله ولم يلبسه حتى هلك لا يصير ضامناً، وفي مسألة الدابة قال: يصير ضامناً.
والفرق في أن مسألة الدابة الإمساك حصل بإذن صاحب الدابة لأن صاحب الدابة(7/513)
إنما أذن له بإمساك يجب به الأجر، وفي مسألة الدابة لا يجب بهذا الإمساك على ما ذكرنا، أما في مسألة الثوب هذا الإمساك حصل بإذن المالك؛ لأن الأجر يجب به فيكون حاصلاً بإذن المالك حتى أن في مسألة الدابة لو وجب الأجر بالإمساك في منزله، بأن استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل نقول: لا يجب الضمان، إذا هلكت الدابة ولو لم يفعل ذلك ولكن ارتد لي به يوماً إلى الليل فعليه الأجر كاملاً ولا ضمان؛ لأن اللبس على سبيل الإرتداء في إفساد الثوب ليس فوق لبسه قميصاً بل هو مثله (36ب4) أو دونه، فإن كان مثله فقد استوفى المعقود عليه بكماله، وإن كان دونه فقد استوفى بعض المعقود عليه ويمكن من استيفاء الباقي، وفي مثل هذه الصورة يجب الأجر كاملاً ولا يجب الضمان، وإن لم يفعل ذلك ولكنه إئتزر يوماً إلى الليل فهو ضامن إن هلك الثوب في يده ولا أجر؛ لأنه ملكه بالضمان من حين إئتزر به وإن لم يهلك فالقياس أن لا يجب الأجر، وفي الاستحسان يجب.
وإذا استأجرت المرأة ذرعاً لتلبسه أياماً معلومة ببدل معلوم فهو جائز، ولها أن تلبسه النهار كله ومن الليل أوله وآخره تلبسه في طرفي الليل، ولا تلبس فيها بين ذلك إذا كان الثوب ثوب ضيافة وتجمل فقد جعل ما بين طرفي في الليل مستثنى مع أن اللفظ تناوله ظاهراً؛ لأن الأيام ذكرت باسم الجمع، فيتناول ما بإزائها من الليالي، إنما فعل هكذا بناء على الفرق، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يلبسون ثوب الضيافة فيما بين طرفي الليل، والمعروف كالمشروط صريحاً، وإن لم يكن الثوب ثوب ضيافة وتجمل بأن كان ثوب بذلة ومهنة كان لها أن تلبس الليالي كلها لأن اللفظ تناول الليالي كما تناول الأيام ولا عرف بخلاف إذا كان الثوب ثوب بذلة ومهنة، فيعمل فيه لقبضه اللفظ.
فرع على ثوب الضيافة فقال: إذا لبسته الليل كله فتخرق وإن تخرق في الليل فهو ضامن، وإن تخرق في غير الليل بأن تخرق في الغد فلا ضمان، وإن صارت مخالفة باللبس في كل الليل؛ لأن الخلاف ارتفع إذا جاء الغد وعقد الإجارة باق فيعود أميناً كالمودع إذا خالف في الوديعة، ثم عاد إلى الوفاق فقد سوى في حكم البراءة عن الضمان بالعود إلى الوفاق بين المستأجر وبين المودع، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا مع ما فيه من اختلاف المشايخ إن شاء الله تعالى.r
قال: وليس له أن ينام فيه، يعني في ثوب الضيافة والمراد به النوم في النهار؛ لأنه ليس لها اللبس حالة اليقظة فيما بين طرفي الليل إذا كان الثوب ثوب ضيافة فحالة النوم أولى، فعلمنا أن المراد به النوم في النهار وإنما لم يكن لها ذلك؛ لأن اللبس حالة النوم في ثوب الضيافة صار مستثنى عرفاً؛ لأن اللبس حالة النوم أعنف بالثوب من اللبس حالة اليقظة؛ فإن فعلت ذلك يعني نامت فيه فتخرق الثوب من ذلك، فهي ضامنة وليس عليها أجر في تلك الساعة التي تخرق فيها؛ لأنها كانت غاصبة حال لبسها نائمة ولا أجر على الغاصب وعليها أجر ما قبله وما بعده، أما أجر ما قبله فلأنها استوفته بحكم العقد، وأما أجر ما بعده فلأنها لما انتهت فقد تركت الخلاف، وعقد الإجارة باقي فيعود أميناً وتكون(7/514)
مستوفية بحكم الإجارة.
وطريق معرفة أجر تلك الساعة الرجوع إلى من يعرف الساعات حتى يقسم الأجر على الساعات فيعرف حق تلك الساعة من الأجر، هذا إذا كان الثوب ثوب ضيافة، فأما إذا كان ثوب بذلة كان لها اللبس حالة النوم، لأن ثوب البذلة يلبس حالة النوم عرفاً فلم يصير ذلك مستثنى عن الإجارة لا عرفاً ولا شرطاً.
ولو كانت استأجرته لمخرج يخرج به يوماً بدرهم فلبسته في بيتها فعليها الأجر، لأن اللبس وجد فيما قدر به المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه مقدر باليوم لا بالمكان؛ لأنه لم يسم المكان الذي يخرج إليه فلم يصح لتقدير المعقود عليه فكان المعقود عليه مقدراً باليوم، وصار ذكر الخروج في حق التقدير هو العدم بمنزلة كأنها استأجرته لتلبسه يوماً إلى الليل، ولم تقل لمخرج تخرج به وهناك إذا لبسته في بيتها كان عليها الأجر بخلاف ما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر فركبها في منزله حيث لا يجب الأجر؛ لأن هناك ذكر مكاناً معلوماً ولم يذكر المدة والمكان المعلوم يصلح لتقدير المعقود عليه، فصار المعقود عليه مقدراً بالمكان ولم يوجد الاستيفاء فيه، أما هاهنا بخلافه حتى أنه لو استأجر الدابة ليركبها يوماً إلى الليل، ولم يسم المكان إذا ركبها في منزله يجب الأجر كاملاً كما في مسألتنا، ولو ضاع الثوب منها في اليوم فلا أجر عليها؛ لأن الضياع حال بينها وبين الانتفاع بالثوب فيعتبر بما لو حال بينها وبين الانتفاع به غصب غاصب.
وإن اختلفا في الضياع فقال رب الثوب: لم يضع في اليوم، وقالت هي بل ضاع في اليوم، فإنه يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول: قول رب الثوب مع يمينه، وإن لم يكن في يدها وقت المنازعة فالقول: قولها هذا إذا ضاع ثم وجد، وإن لم يوجد لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وينبغي أن يكون القول قولها أيضاً؛ لأنها تنكر وجوب الأجر وإن سرق الثوب منها فلا ضمان بخلاف الأجير المشترك إذا سرق العين من يده، فإنه يضمن على قولهما.
والفرق: أن مستأجر الثوب فلم يقبض عامل لرب المال؛ لأن ما يستفيد رب الثوب من المنفعة بقبض المستأجر الثوب أكثر مما يستفيده المستأجر؛ لأن صاحب الثوب يستفيد العين وهو الأجرة والمستأجر يستفيد المنفعة والعين خير من المنفعة فجعل المستأجر في القبض عاملاً لنفسه فأشبه المودع والوديعة إذا سرقت من يد المودع لاضمان عليه، أما أجير المشترك في القبض عامل لنفسه؛ لأن ما يستفيد من المنفعة بسبب هذا القبض أكثر مما يستفيده صاحب المال لأن الأجير يستفيد به عيناً، وصاحب الثوب يستفيد به المنفعة فجعل قابضاً لنفسه، فأشبه الغاصب ولو تخرق الثوب من لبسها فلا ضمان عليها وإن حصل الهلاك بجناية يدها بخلاف الأجير المشترك إذا هلك المال من جناية يده حيث يضمن.
والفرق: أن في مسألتنا الهلاك حصل من عمل ليس بإزائه أجر؛ لأن الفساد حصل من اللبس والأجر ليس بإزاء اللبس بل بإزاء تسليم الثوب للبس، ألا ترى أنه إذا سلم(7/515)
الثوب يستحق الأجر لبست أو لم تلبس والهلاك متى حصل من عمل ليس بإزاء أجر لا يجب الضمان على العامل متى عمل كالعين وأجير الوحد إذا رق وتخرق، أما في الأجير المشترك الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر، لأن الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر؛ لأن الهلاك حصل من عمل الرق والأجير المشترك لا يستحق الأجر إلا بالرق، فصار الأجير المشترك معارضاً ومطلق المعارضة تقتضي السلامة عن العيب كما في بيع العين.
وإذا استأجر الرجل قبة لينصبها في بيته ويبيت فيها شهراً بخمسة دراهم فهو جائز، وإن لم يسم مكان النصب لأن جهالة مكان النصب؛ لا يوقعها في المنازعة، لأن الأمكنة لا تتفاوت في حق الضرر بالغير تفاوتاً معتبراً أو إن نصبها في الشمس والمطر، وكان على القبة في ذلك ضرر فهو ضامن لأن النصب في الشمس والمطر مستثنى من الإجارة عرفاً، لأن الشمّس والمطر يضران بالقبة، ولو شرط أن ينصبها في دار فنصبها في دار أخرى من قبيلة أخرى، ولكن في ذلك المصر فلا ضمان، فرق بين هذا وبينما إذا أودع عند إنسان شيئاً وشرط عليه أن يحفظه في دار فحفظه في دار أخرى من ذلك المصر فإنه يضمن.
والفرق: أن المقصود من الإيداع الحفظ والتحصين والداران متفاوتان في الحرز والتحصين، أما المقصود من الإجارة الانتفاع دون الإحراز والتحصين وفي حق الانتفاع. (37أ4) بالأمكنة على السواء، فإن أخرجها إلى مصر، أو إلى السواد فلا أجر عليه سلمت القبة أو هلكت؛ لأنه استوفى ما لم يتناوله العقد؛ لأن الانتفاع به خارج المصر مما يلحق بالمالك ضرراً كثيراً وهو مؤنة الرد فبحكم كثرة الضرر التحق الانتفاع خارج المصر بجنس آخر.
فهو معنى قولنا: استوفى ما لم يتناوله العقد والمنافع لا تتقوم بدون العقد، ولو استأجر فسطاطاً يخرج به إلى مكة يستظل به بنفسه وبغيره لعدم تفاوت الناس فيه، وإن أسرج في الخيمة أو في الفسطاط أو القبة أو علق به فإنه يجوز وله أن يستظل به بنفسه قنديلاً فأفسد فلا ضمان عليه؛ لأنه صنع ما يصنع الناس فكان داخلاً تحت العقد فإن جاوز المعروف المعتاد فهو ضامن، وإن اتخذ فيه مطبخاً فهو ضامن؛ لأنه صنع ما لا يصنع الناس عادة إلا أن يكون معداً لذلك العمل، ولو استأجر فسطاطاً لما يخرج به إلى مكة ذاهباً وجائياً ويحج به ويخرج في يوم كذا فهو جائز، وإن لم يبّين متى يخرج فإن لم يكن لخروج الحاج وقت معلوم بحيث لا يتقدم خروجهم عليه، ولا يتأخر عنه فالإجارة فاسدة قياساً واستحساناً، وإن كان لخروجهم وقت معلوم بحيث لا يتقدم ولا يتأخر، فالإجارة جائرة استحساناً؛ لأن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً.
وإن تخرق الفسطاط من غير عنف، ولا خلاف فلا ضمان وإن لم يتخرق ولكن قال المستأجر: لم أستظل تحته ولم أضربه وقد ذهب به إلى مكة فعليه الأجر؛ لأنه تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، ولو انقطع أطنابه أو انكسر عوده فلم يستطيع نصبه فلا أجر عليه، ولو اختلفا فيه فهذا على وجهين، إما أن يختلفا في مقدار الانقطاع مع اتفاقهما على أصل الانقطاع، وفي هذا الوجه القول قول المستأجر(7/516)
وإن اختلفا في أصل الانقطاع.
ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يحكم الحال كما لو وقع هذا الاختلاف في انقطاع الماء في إجارة الرحى، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى هكذا ذكر وهذا الجواب مشكل في مسألة الفسطاط ظاهر في مسألة الرحى؛ لأن الماء قد ينقطع ثم يعود فيمكن تحكيم الحال أما الإطناب إذا انقطع أو العود إذا انكسر يبقى إلى وقت الخصومة كذلك، فكيف يستقيم تحكيم الحال، فإن كان المستأجر اتخذ أطناباً من عند نفسه أو عموداً من عند نفسه ونصبه حتى رجع فعليه الأجر كله؛ لأنه استوفى المعقود؛ لأن المعقود عليه في إجارة الفسطاط السكنى، وقد سكن فيه ولو انكسر الأوتاد فلم يقدر على نصبه حتى رجع فعليه الأجر كله، فرق بين الأوتاد وبين الأطناب والعمود.
والفرق: أن الأوتاد على المستأجر فلم يعجز عن الانتفاع بالفسطاط، أما العمود والأطناب على الآجر، فقد عجز المستأجر عن الانتفاع بالفسطاط، وإذا أوقد ناراً في الفسطاط كان كالسراج، إن أوقد مثل ما يوقد الناس عرفاً وعادة في الفسطاط وأفسد الفسطاط أو أحرق الفسطاط فلا ضمان، وإن جاوز المتعارف فهو ضامن فبعد ذلك ينظر إن أفسد كله بحيث لا ينتفع به ضمن قيمة الكل ولا أجر عليه، وإن أفسد بعضه لزمه ضمان النقصان وعليه الأجر كملاً، إذا كان قد انتفع بالباقي، لأن فساد البعض أوجب نقصاناً في الباقي، فإذا استوفاه مع النقصان صار راضياً بالعيب فيجب عليه جميع الأجر كما لو استأجر داراً فانهدم حائط منها، وأوجب نقصاناً في الباقي فسكن كذلك كان عليه جميع الأجر كذا هاهنا وإن لم يفسد شيء منه وسلم، وكان جاوز المعتاد فالمسألة على القياس والاستحسان، القياس أن لا يجب الأجر.
وفي الاستحسان يجب وقد مر جنس هذه المسألة، وإن شرط رب الفسطاط على المستأجر أن لا يوقد فيه ولا يسرج فيه ففعل فهو ضامن وعليه الأجر كملاً إذا سلم الفسطاط؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة وإن كان المستأجر لم يخرج بنفسه، فأراد أن يؤاجر الفسطاط من رجل يخرج إلى مكة أو أراد أن يغير ذلك فله ذلك في قول محمد وعلى قولهما ليس له ذلك، وإذا فعل فهو ضامن ولا أجر عليه.
محمد رحمه الله قال: الناس لا يتفاوتون في السكنى في الفسطاط فهو بمنزلة ما لو استأجر داراً أو منزلاً كان له أن يؤاجر من غيره؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى والدليل عليه أن من استأجر عبداً للخدمة في طريق مكة فأجره من غيره ليخدمه في طريق مكة أو أعاره منه، فإنه يجوز، إنما جاز لأن الناس لا يتفاوتون في الخدمة.
وهما قالا: إن الفسطاط والخيمة مما ينقل ويحول وينصب ويرفع والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً ربّ إنسان ينقل الفسطاط شهراً ولا يفسده لمعرفته بنصبه وآخر ينقله أسبوعاً ويفسده لهيبة وقلة مرانه في نصبه ورفعه، وإذا كان فاحشاً منع الإجارة والإعارة من غيره.
كما لو كان المستأجر ملبوساً أو مركوباً بخلاف الدار؛ لأنها مما لا ينقل ولا يحول(7/517)
ولا يرفع ولا ينصب وإنما يسكن فيها لا غير والناس لا يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً، إلا أن ما يلحقه من زيادة المشقة من جهة التالي يمكنه؛ لأنه حافظ نفسه، ولو أن المستأجر خلّف الفسطاط بالكوفة في بيته أو بيت غيره وخرج بنفسه فلا كراء عليه؛ لأنه لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد وهو ضامن لها بهذا الإمساك؛ لأن المالك لم يرض بإمساك لا يجب به الأجر والقول قول المستأجر مع يمينه في أنه لم يخرج الفسطاط؛ لأن حاصل اختلافهما في وجود التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد.
قال: ولو كان المستأجر دفع الفسطاط إلى رجل أجنبي ليدفعه إلى صاحب الفسطاط فدفعه ذلك الرجل إلى صاحبه فقد برئا جميعاً، وإن أبى صاحب الفسطاط أن يقبله فليس له ذلك؛ لأن لمستأجر الفسطاط أن يترك الفسطاط ولا يخرجه من الكوفة، كما أن له أن يترك إجارة البيت إذا أراد سفراً، فإن هلك الفسطاط عند هذا الرجل قبل أن يحمله إلى صاحبه.
ذكر أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: صاحب الفسطاط بالخيار إن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الرجل، ولم يذكر قول أبي حنيفة قالوا: وينبغي على قوله أن يقال: إن كان المستأجر دفع الفسطاط إلى ذلك الرجل قبل أن يصير المستأجر غاصباً، فإن أمسك الفسطاط قدر ما يمسكه الناس إلى أن يرتحل ويسوي أشبابه، إذا كانت الحالة هذه لاضمان على الثاني، لأنه مودع المودع بل أحسن حالاً من مودع المودع؛ لأن مودع المودع إنما أخذها ليحفظ للمودع وهذا إنما أخذ ليحفظ للمودع ويردها على المالك.
ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن المودع الثاني لا يضمن إنما يضمن المودع الأول، فأما إذا أمسك المستأجر الفسطاط زيادة على ما يمسكه الناس حتى يصير غاصباً ضامناً له ثم دفع إلى الثاني يجبر المالك، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني؛ لأن الثاني يكون مودع الغاصب لا مودع المودع ومودع الغاصب (37ب4) ضامن عندهم جميعاً، فإن ضمن المستأجر فالمستأجر لا يرجع بذلك على ذلك الرجل، وإن ضمن ذلك الرجل يرجع على المستأجر.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا استأجر الرجلان أحدهما بصري والآخر كوفي فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجائياً بأجر معلوم وذهبا به إلى مكة واختلفا، فقال البصري: إني أريد أن آتي البصرة، وقال الكوفي: إني أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد أن يذهب بالفسطاط إلى حيث قصد.
فهذا على وجهين: إما أن يذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة أو يذهب الكوفي إلى الكوفة، وكل وجه من ذلك على وجهين، إما إن ذهب به بأمر صاحبه أو بغير أمره، فإن ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة إن ذهب به بغير أمر صاحبه فالبصري ضامن للفسطاط كله ولا ضمان على الكوفي وليس عليهما أجر الرجعة، أما البصري فيضمن جميع الفسطاط أما نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لا يجب عليه الأجر بإمساكه؛ لأن(7/518)
الإجارة عقدت على أن ينتفع بها في طريق الكوفة فإذا انتفع بها في طريق البصرة صار غاضباً.
وأما نصيب الكوفة؛ فلأنه صار غاضباً نصيب الكوفي لأنه ذهب بنصيبه بغير أمره فصار غاصباً نصيب الكوفي ولا أجر عليهما على الكوفي، لأنه غصب منه نصيبه وعلى البصري فلأنه أمسكها في موضع لم يأذن له صاحب الفسطاط بالإمساك فيه في طريق البصرة، فيصير ضامناً كما لو أمسكها بالكوفة هذا إذا ذهب به البصري إلى البصرة بغير أمر الكوفي فأما إذا ذهب به بأمر الكوفي، فالبصري يصير ضامناً لجميع الفسطاط، والكوفي يضمن نصيبه وهو النصف ولا أجر عليهما.
أما البصري يضمن جميع الفسطاط نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لم يأذن له المالك بالإمساك فيه ونصيب الكوفي؛ لأنه مودع الكوفي إن لم يأذن له بالانتفاع بنصيبه والكوفي غاصب ومودع الغاصب ومستعيره ضامن، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الكوفي لما دفع نصيبه إلى البصري حتى يمسكها في طريق البصرة صار غاصباً، بهذا التسليم؛ لأنه ليس له أن يسلم نصيبه إلى أحد حتى يمسكه في طريق البصرة أو ينتفع به، وإذا صار الكوفي غاصباً بهذا التسليم صار البصري مودع الغاصب أو مستعيره، وإنه ضامن في حق المالك، فصار البصري ضامناً جميع الفسطاط من هذا الوجه، ويضمن الكوفي النصف؛ لأنه لم يوجد منه سبب ضمان في نصيب البصري، إنما وجد منه سبب الضمان في نصيبه ولا أجر عليهما في الرجعة؛ لأنهما أمسكا الفسطاط في موضع لم يأذن لهما المالك بالإمساك فيه فلا يكون عليهما أجر هذا الذي ذكرنا إذا ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة، فأما إذا ذهب الكوفي إلى الكوفة بغير أمر البصري يضمن نصف الفسطاط وهو نصيب البصري فلا يضمن نصيبه وعليه نصف الكراء في الرجعة، ولا يجب على البصري شيء في الرجعة أما يضمن نصيب البصري، لأنه غصب من البصري نصيبه فيصير ضامناً نصيب البصري ولا يضمن نصيب نفسه؛ لأنه لم يمسكها في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه وعليه نصف الكراء؛ لأنه انتفع بنصيبه في طريق الكوفة ولا أجر على البصري في نصيبه في الرجعة؛ لأنه غصب من المستأجر هذا إذا ذهب الكوفي به إلى الكوفة بغير أمر البصري، فأما إذا ذهب به إلى الكوفة بأمر البصري فلا ضمان على البصري في نصيبه على قول محمد رحمه الله سواء أعار منه نصيبه أو أودعه بأن قال: انتفع به يوماً في نوبتك واحفظها يوماً في نوبتي، لأن من مذهب محمد رحمه الله أن لمستأجر الفسطاط أن يعيره من غيره، وأن يودع في المكان الذي أضيف إليه العقد ولا يصير ضامناً بذلك؛ لأنه يجب عليه الأجر بذلك.
وأما في قول أبي يوسف رحمه الله: فكذلك الجواب إن أودعها من الكوفي، لأن الفسطاط كان أمانة عندهما وكانا بمنزلة المودعين.
ومن مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن من أودع عند رجلين وديعة لما يقسم أو لا يقسم فأودع أحدهما نصيبه من صاحبه أنه لا يضمن عندهما، فهذا على ذلك.(7/519)
فإن قيل: يجب أن يضمن البصري؛ لأن المستأجر شيء أودع ما استأجر من غيره يصير ضامناً فيجب أن يضمن البصري حصّته لمن دفع حصته إلى الكوفي وديعة.
قلنا: إنما يضمن بالإيداع إذا كان إيداعاً لا يجب الأجر بإمساك المودع كإمساكه الأجر لا يصير ضامناً، ويكون إمساك المودع كإمساكه والإيداع هاهنا حصل على وجه لا يجب الأجر بإمساك المودع؛ لأنه يمسكها في طريق الكوفة فإمساكه كإمساكه، وإن كان أعار نصيبه من الكوفي أو آخر يجب أن يضمن البصريّ نصيبه على قول أبي يوسف؛ لأنه ليس لمستأجر الفسطاط عند أبي يوسف أن يعير وأن يؤاجر من غيره، والكلام في وجوب الضمان على الكوفي نظير الكلام في وجوب الضمان على البصريّ وعليهما الأجر كملاً.
إن أودع البصريّ نصيبه؛ لأن إمساك الكوفي كإمساكه وإن كان أعار منه لا أجر على البصري؛ لأنه صار مخالفاً وإن ارتفعا إلى القاضي وقصّا عليه القصّة واختصما في ذلك، فإن القاضي إن شاء لم يلتفت إلى ما قالا ما لم يقيما بّينة على ذلك؛ لأنهما يريدان إيجاب حفظ على القاضي في مال الغائب، فكان للقاضي أن لا يلزم ذلك بمجرد قولهما لكن جاء بداية إلى القاضي وقال: وجدتها لقطة من هي بالإنفاق عليهما كان للقاضي أن لا يصدقه فيما قال ما لم يقم البينة، وإن شاء القاضي صدقهما فيما قالا، ثم هو بالخيار إن شاء ترك ذلك في أيديهما، وإن شاء فسخ الإجارة؛ لأن القاضي نصب ناظراً في مال الغائب فإن رأى القاضي النظر للغائب في فسخ الإجارة فسخ؛ لأنه لا يستحق على البصريّ الرجوع إلى الكوفة بسبب إجارته الفسطاط.
ألا ترى أنه في أول الأمر حين استأجر الفسطاط لو قال: أقعد بالكوفة ولا أخرج إلى مكة كان له ذلك، فكذلك إذا بلغ مكة إذا قال: لا أخرج إلى الكوفة كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة فكان له أن يفسخ الإجارة، فإن فسخ الإجارة وبعد هذا يؤاجر نصيب البصري من الكوفي إن رغب في إجارة نصيب البصري، حتى يصل إلى الغائب عين الفسطاط مع الأجر ويكون هذا أولى من الإجارة من غيره؛ لأن الرد على صاحب الفسطاط مع الأجر يحصل مع مختار صاحب الفسطاط، فكان أولى من الإجارة من غيره وتجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً وإن أجر المشاع؛ لأن إجارة المشاع ممن يملك الانتفاع بالكل جائز عندهم جميعاً.
كما لو أجر من شريكه، وإن لم يرغب الكوفي في إجارة ذلك يؤاجر من غيره إن وجد، لأنه أنفع للغائب من أن يودعه، ولا يؤاجر وتجوز هذه الإجارة وإن أجر المشاع ممن لا يملك الانتفاع؛ لأنه قضى في موضع مختلف فيه فيفنذ قضاؤه بالكل، وإن لم يجد أحداً يؤاجر نصيبه يودع نصيب البصريّ من الكوفي إن رآه ثقة حتى يصل إلى المالك، وإن شاء ترك ذلك في أيديهما؛ لأن في الترك في أيديهما نظر للغائب؛ لأنه إن ذهب البصريّ بالفسطاط كان مضموناً على البصري لو هلك في يده ولو فسخت الإجارة، وبعث بها إلى صاحبه ربما يهلك في الطريق فلا يصل إلى صاحبه لا عينه ولا بدله، فإن مال إلى هذا وفيه نظر للغائب من وجه كان له ذلك.(7/520)
وإذا تكارى الرجل فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجايئاً. (38أ4) ثم خرج به إلى مكة ثم خلفه بمكة ورجع فعليه الكراء ذاهباً، وهو ضامن لقيمة الفسطاط؛ لأنه أمسك الفسطاط في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه فيصير ضامناً فلو لم يضمنه صاحب الفسطاط ولم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا أجر عليه في الرجعة؛ لأن العام الثاني غير داخل تحت الإجارة فلا يكون عليه أجر برجوعه في العام الثاني.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: لا بأس بأن يستأجر حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة؛ لأن ما يبدل من الأجر ليس ببدل عن العين ليقال: بيع ذهب بذهب على وجه يعود ذهب إليه فيكون ربا بل الأجر بإزاء منفعة العين والمنفعة مع العين جنسان مختلفان، والربا لا تجري في مختلفين.
وهذا كما لو استأجر داراً فيها صفائح ذهب بذهب، فإنه يجوز وإنما جاز بالطريق الذي قلنا.
وإذا استأجرت المرأة حلياً معلوماً لتلبسه يوماً إلى الليل ببدل معلوم فحبسته أكثر من يوم صارت غاصبة، قالوا: وهذا إذا حبسته بعد الطلب أو حبسته مستعملة، فأما إذا حبسته للحفظ لا تصير ضامنة قبل وجود الطلب من صاحبها وذلك لأن العين تقع أمانة في يدها فلا يصير مضموناً إلا بالاستعمال أو بالمنع بعد وجود الطلب كالوديعة.
بخلاف المستعير، إذا أمسك العين بعد مضي المدة حيث يضمن؛ لأن هناك وجد الطلب من حيث الحكم، لأن من حكم الطلب وجوب الرد وقد وجب الرد عليه بعد مضي المدة، أما في الإجارة لم يوجد الطلب لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الحكم ولم يوجد الاستعمال، فلهذا لا يجب الضمان.m
والحد الفاصل بين الإمساك للحفظ وبين الإمساك للاستعمال أنه إذا أمسك العين في موضع لا يمسك للاستعمال في ذلك الموضع فهو حفظ فعلى هذا قالوا: إذا تسورت بالخلخال أو تخلخلت بالسوار أو تعمم بالقميص أو وضع العمامة على العاتق، فهذا كله حفظ وليس باستعمال؛ لأن الإمساك وجد في موضع لا يمسك للاستعمال فكان حفظاً وليس باستعمال فلا تضمن، وإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي، وإن استأجره كل يوم بأجر مسمى فحبسته شهراً ثم جاءت به فعليها أجر كل يوم حبسته لأن الإمساك في كل يوم حصل بحكم الإجارة، وإن استأجرته يوماً إلى الليل فإن بدا لها حبسته كل يوم بذلك الأجر فلم ترده عشرة أيام، فالإجارة على هذا الشرط فيما عدا اليوم فاسدة قياساً؛ لأن الإجارة فيما عدا اليوم معلقة بالشرط وهو أن يبدو لها ذلك، وفي الاستحسان يجوز؛ لأن هذا شرط متعارف محتاج إليه، فإنها إذا أخرجت إلى العرض أو إلى وليمة لا يدري كم يبقى فيحتاج إلى مثل هذا الشرط لدفع الضرر والضمان وتعليق الإجارة بمثل هذا الشرط جائز أو نقول: الإجارة فيما عدا اليوم معلق بالمشيئة فكان تفسيراً للقبول، كأنه قال: أجرت فيما عدا اليوم الأول إن قلت: ألا ترى أن من قال لغيره: بعت مثل هذا العبد بألف درهم إن شئت جاز وكان(7/521)
تفسيراً للقبول؛ لأن القبول لا يكون إلا عن مشيئة وصار كأنه قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم إن قبلت وذلك جائز كذا هذا والله أعلم.
الفصل الحادي والعشرون: في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر
وفي كتاب «الواقعات» رجل دفع ثوباً إلى خياط ليخيطه فقطعه ومات قبل أن يخيطه؛ قال عيسى بن أبان: لا أجر له؛ لأن الأجر مقابل بالخياطة والقطع ليس من الخياطة ولهذا لو أراد المشتري أن يرجع بنقصان العيب بعد القطع قبل الخياطة، فقال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك ولو كان القطع بين الخياطة لم يكن له ذلك كما لو خاطه، وقال أبو سليمان: له أجر القطع؛ لأن الأجر مقابل باتخاذ الثوب والقطع من جملته.
وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة يذهب بها إلى منزله ويركبها إلى موضع قد سماه فدفعها إليه وذهب بها إلى منزله ثم بداله ذلك فردها فعليه من الأجر بحساب ذلك يعني بحساب ما ذهب إلى منزله.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في خياط خاط ثوب رجل بأجر قبل أن يقبض رب الثوب فلا أجر للخياط؛ لأنه لم يسلم العمل إلى رب الثوب ولا يجبر الخياط على أن يعيد العمل؛ لأنه أجير بحكم العقد الذي جرى بينهما، وذلك العقد قد انتهى بتمام العمل وإن كان الخياط هو الذي فتق، فعليه أن يعيد العمل وهذا؛ لأن الخياط لما فتق الثوب وقد نقض عمله وصار كأن لم يكن بخلاف ما إذا فتقه أجنبي؛ لأنها بفتق الأجنبي لا يمكن أن يجعل كأن الخياط لم يعمل أصلاً وكذلك الإسكاف على هذا.
وكذلك المكاري إذا حمل في بعض الطريق فخوفوه فرجع وأعاد الحمل إلى الموضع الأول لا أجر له هكذا ذكر في «الفتاوي» ولم يذكر الجبر على الإعادة وينبغي أن يجبر كما في المسائل المتقدمة ومسألة السفينة التي بعد هذا وكذلك الملاح إذا حمل الطعام إلى موضع سمي في العقد فصرف الريح السفينة وردها إلى مكان العقد فلا أجر للملاح إن لم يكن الذي اكتراها معه؛ لأن العمل لم يقع مسلماً إليه وإن كان معه فعليه الكراء؛ لأن العمل صار مسلماً إليه وإن لم يكن الذي اكترى معه حتى لم يجب الأجر لا يجبر الملاح على أن يعيد الحمل وإن كان الملاح هو الذي رد السفينة أجبر على الإعادة إلى الموضع المشروط لما قلنا: وإن كان الموضع الذي رجعت إليه السفينة لا يقدر رب الطعام على قبضه فيه، فعلى الملاح أن يسلمه في موضع يقدر رب الطعام على قبضه ويكون له أجر مثله فما سار من هذا المسير؛ لأنا لو صححنا التسليم وأجبرنا رب المال على القبض لتلف المال عليه وقد أمكن صون ماله مراعاة حق صاحب السفينة بإيجاب أجر المثل له، فإن قال الذي أكترى السفينة بعدما ردتها الريح: لا حاجة لي في سفينتك،(7/522)
أنا أكتري غيرها فله ذلك رواه هشام عن محمد.
ولو اكترى بغلاً إلى موضع معلوم فركبه فلما سار بعض الطريق جمح به فرده إلى موضعه، فعليه الأجر بقدر ما سار؛ لأن بذلك القدر صار مستوفياً المنفعة بنفسه فإن قال المستأجر للقاضي: مر صاحب البغل فليبلغني إلى حيث استأجرته وله علي الذي شارطته عليه، قال: إن شاء الآجر فعل ذلك وإلا قيل للمستأجر: استأجره إلى المكان الذي بلغت ثم هو يحملك من ثمة إلى حيث استأجرته هكذا رواه هشام عن محمد، قال: وعلى هذا السفينة.
قال في «الجامع الصغير» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليذهب إلى البصرة ويجيء بعياله، فوجد بعضهم ميتاً وجاء بمن بقي فله من الأجر بحسابه؛ لأنه أوفاه بعض العمل فيجب من الأجر بحساب ذلك.
حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: تأويل المسألة إذا كانت المؤنة قبل نقصان العدد أما إذا كانت مؤنة البعض ومؤنة الكل سواء يجب جميع الأجر، قال: وفيه أيضاً: رجل استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلاناً قد مات فرد الكتاب فلا أجر له وهذا قول أبي حنيفة.
وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب واعلم بأن ها هنا مسألتان (38ب4) .
أحدهما: إذا استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ولم يشترط عليه المجيء بجوابه.
والثانية: أن يشترط عليه المجيء بجوابه، ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» ما إذا شرط عليه المجيء بالجواب ولم يذكر ما إذا لم يشترط عليه المجيء بالجواب ولا بد من ذكرهما فنقول فيما إذا لم يشترط عليه المجيء بجوابه: إذا ترك الكتاب ثمة حتى يوصل إليه إذا حضر بأن كان غائباً وإلى ورثته بأن كان ميتاً، فإنه يستحق الأجر كملاً؛ لأنه أتى بأقصى ما في وسعه إذ لا وسع له في الاتصال بأبلغ من هذا الوجه إذا وجد المرسل إليه غائباً أو ميتاً.
وكذلك إذا وجد المرسل إليه ودفع الكتاب إليه، فلم يقرأ حتى عاد من غير جواب فله الأجر؛ لأنه أتى بالمشروط عليه وإن لم يجده أو وجده ولكن لم يدفع الكتاب إليه بل رد الكتاب، فعلى قول أبي حنيفة لا أجر له، وقال محمد: له الأجر في الذهاب، وقول أبي يوسف يضطرب.
وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليذهب بطعام له إلى البصرة إلى فلان فذهب ولم يجد فلاناً أو وجده ولكن لم يدفع الطعام إليه بل رده أنه لا أجر له.
وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليبلغ رسالته إلى فلان بالبصرة فذهب الرجل ولم يجد المرسل إليه أو وجده إلا أنه لم يبلغه الرسالة ورجع أن له الأجر.
وأجمعوا على أنه لو ذهب إلى فلان بالبصرة ولم يذهب بالكتاب أنه لا أجر له(7/523)
وفيما إذا شرط المجيء بجوابه إذا دفع إلى فلان وأتى بالجواب، فله الأجر كاملاً؛ لأنه أوفى جميع المعقود عليه، ولو كان المكتوب إليه غائباً فدفع إلى آخر ليدفعه إليه أو دفع المكتوب إليه، فلم يقرأ ورجع هذا الرجل فله أجر الذهاب؛ لأنه استؤجر لإيصال الكتاب إليه وللمجيء بالجواب وقد وجد الاتصال بقدر الإمكان ولم يوجد المجيء بالجواب فيجب أجر الاتصال ولو مزق الكتاب.
ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن عليه أجر الذهاب في قولهم ولا يفتى به؛ لأنه قد أبطل عمله حيث مزقه وإن رد الكتاب، قال أبو حنيفة: لا شيء له من الأجر وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب، محمد رحمه الله يقول: رد الكتاب حصل بإذن المستأجر؛ ولأنه فلا يسقط له الأجر كما لو أذن له بذلك نصاً بأن قال: إن لم تجد فلاناً فأت إلي بالكتاب وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ربما يكون في الكتاب سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه غير المرسل إليه ومتى ترك الكتاب ثمة ربما يفتحه غيره فيطلع عليه فبهذا الاعتبار يصير مأموراً برد الكتاب متى لم يجد فلاناً وربما لا يكون فيه سر فيكون مأموراً بالترك هناك إذا لم يجده حتى يوصل إليه إن كان غائباً وإلى ورثته إن كان ميتاً.
فإذا لم ينص صاحب الكتاب على الترك ثم ولا على الرد ثانياً دخل كلا الأمرين تحت الإذن، كما في الرسالة فإن الرسول يكون مأموراً بترك التبليغ إلى غير المرسل إليه بأن يكون سراً لا يرضى أن يطلع عليه غير الرسول والمرسل إليه، وربما لا يكون سراً فيكون مأموراً بالتبليغ إلى غير المرسل إليه إذا لم يجده حتى يبلغ إليه متى حضر فيحصل مقصود المرسل فدخل كلا الأمرين تحت الإذن فكذلك هذا، وإذا كان كذلك صح قولنا: إن رد الكتاب حصل بإذن المستأجر دلالة.
وهذا بخلاف ما لو كان المستأجر شيئاً له حمل ومؤنة، فلم يحمل المرسل إليه فرد ثانياً؛ لأنه غير مأمور بهذا الرد من جهة المالك لا نصا ولا دلالة؛ لأنه لا ضرر عليه متى ترك المحمول على يدي عدل حتى يوصله إليه فلم يثبت الإذن بالرد دلالة بل الثابت دلالة من جهته النهي عن الرد حتى لا يضيع ما لحقه من المؤنة بخلاف الكتاب؛ لأنه ربما يكون فيه سراً لا يرضى بأن يطلع غيره عليه، فإذا لم يأمره بالترك هناك يثبت الإذن بالرد إليه ثانياً فبهذا تعلق محمد رحمه الله وإنه واضح.
وأبى أبو حنيفة رحمه الله ذلك في ذلك إلى أن الرد حصل بغير إذن المالك نصاً ولا دلالة فلا يستحق الأجر قياساً على ما لو أمره بالترك هناك إذا لم يجده وإنما قلنا: إنه حصل بغير إذنه نصاً؛ لأنه أمره بالاتصال إليه لا بالرد ولا دلالة لأن الإذن بالرد لو ثبت دلالة إنما يثبت ليوهم أن يكون في الكتاب سر لا يرضى أن يطلع عليه غيره ولا يجوز أن يثبت الإذن بالرد دلالة من جهة المالك بهذا؛ لأن الحال لا إما أن يكون الكتاب مختوماً أو غير مختوم، فإن كان مختوماً يجد عدلاً لا يفتح الختم فلا يطلع على ما فيه غير المرسل إليه وإن كان غير مختوم لا يكون فيه سراً فإذا أفشى السر لا يتحقق بالترك هناك فلا يثبت الإذن بالرد دلالة بهذا السبب ولم يأذن له بالرد نصاً فكان الرد حاصلاً بغير إذنه(7/524)
وليس كالرسول وذلك؛ لأن الرجوع فبلغ التبليغ إلى غير المرسل إليه حصل بإذن المرسل دلالة وذلك؛ لأنه ربما تكون الرسالة سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه أحد ولا يمكنه التبليغ إلى المرسل إليه بحيث لا يطلع عليه غير المرسل إليه، فيصير مأذوناً بالرجوع من غير تبليغ إلى غير المرسل دلالة فأما التبليغ في باب الكتاب بقدر الإمكان بأن يترك الكتاب ثمة ممكن من غير إفشاء ما فيه من السر بأن كان مختوماً، وإن كان غير مختوم فلا يكون فيه سر فلا يثبت الإذن بالرد دلالة، فيكون الرد بغير إذن المالك فلا يستوجب الأجر كما لو كان المحمول شيئاً له حمل ومؤنة.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح إجارات «الأصل» : وينبغي أن لا يسلم فصل الرسالة على مذهب أبي حنيفة رحمه الله ثم الأجير يستحق الأجر على المرسل لا على المرسل إليه؛ لأن الأجر إنما يستحق على العاقد والعاقد هو المرسل لا على المرسل إليه.
وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله هذه المسألة في تطبقه، وذكر قول أبي يوسف مع محمد في «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله رجل تكارى سفينة على أن يذهب بها إلى موضع كذا فلم يجد ذلك الشيء ثم رجع قال: يلزمه كراء السفينة في الذهاب فارغة فإن قال: اكتريتها منك على أن تحمل لي الطعام من موضع كذا إلى ها هنا فذهب بها فلم يجد الطعام فرجع بالسفينة فلا شيء له من الكراء.
وروى إبراهيم: رجل استأجر دابة من بغداد ليذهب بها إلى المدائن ويحمل عليها طعاماً من المدائن، فذهب فلم يجد الطعام فإن على المستأجر أجر الذهاب، ولو استأجرها ليحمل عليها من المدائن ولم يستأجرها ليذهب من موضع العقد وباقي المسألة بحاله فإنه لا أجر عليه في الذهاب أيضاً.
والفرق: أن في المسألة الأولى العقد انعقد على شيئين على الذهاب إلى ذلك الموضع والحمل منه إلى ها هنا، وقد ذهب إلى ذلك الموضع فقد استوفى بعض المعقود عليه فيجب الأجر بحصته.
وفي المسألة الثانية: العقد انعقد على شيء واحد وهو الحمل من ذلك الموضع إلى ها هنا ولم ينعقد على الذهاب إلى ذلك الموضع، لأن الذهاب غير مذكور ولم يوجد حمل الطعام من ذلك الموضع فلم يوجد استيفاء المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب شيء من الأجر.
وعلى هاتين المسألتين قسنا مسألة صارت واقعة للفتوى.
وصورتها: رجل اشترى من آخر شجراً في قرية واستأجر أجيراً لقلعها، وذهب إلى موضع الشجرة ثم إن البائع مع المشتري تقايلا البيع في الشجرة ولم يتهيأ (39أ4) قطع الشجرة هل يجب للأجير أجر الذهاب؟.
فقلنا: إن استأجرا الأجير ليذهبوا إلى موضع الشجرة ويقلعوها فلهم أجر الذهاب؛ لأن العقد انعقد على شيئين على الذهاب والقلع، وإن استأجرهم لقلع الشجرة ولم يتعرض للذهاب في العقد فلا أجر لهم.(7/525)
وفي «النوازل» : رجل اشترى دابة إلى بلدة ليحمل من هناك حمولاً به، فجاء المكاري فقال: ذهبت فلم أجد الحمل فإن صدقه المستكري في ذلك فعليه أجر الذهاب خالياً من غير حمل وقوله: إلى بلدة كذا بمنزلة قوله: ليذهب بها إلى بلده كذا.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر دابة في المصر ليحمل الدقيق من الطاحونة أو ليحمل الحنطة من قرية كذا فذهب فلم يجد الحنطة طحنت أو لم يجد الحنطة من القرية، فعاد إلى المصر ينظر إن كان قال: استأجرت منك هذه الدابة من هذه البلدة حتى أحمل الدقيق من طاحونة كذا يجب نصف الأجر؛ لأن الإجارة وقعت صحيحة من البلدة إلى الطاحونة من غير حمل شيء فيجب نصف الأجر بالذهاب ثم الإجارة من الطاحونة إلى البلدة إنما كانت بشرط حمل الدقيق ولم يوجد فلا يجب الأجر، فأما إذا كان قال: استأجرت منك هذه الدابة بدرهم حتى أحمل الدقيق من الطاحونة فها هنا لا يجب الأجر في الذهاب.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليذهب إلى موضع كذا ويدعو فلاناً بأجر مسمى فذهب الرجل إلى ذلك الموضع فلم يجد فلاناً يجب الأجر.
وفي «فتاوى الأصل» : استأجر رجلاً ليقطع له الأشجار في قرية بعيدة ولم يتعرض للذهاب والمجيء فلا أجر على المستأجر في ذهابه ومجيئه؛ لأن المعقود عليه العمل وهو قطع الأشجار ولم يعمل في ذهابه ومجيئه.
الفصل الثاني والعشرون: في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنهاوالتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر
وإذا استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له حتى صارت الإجارة استحساناً لا قياساً على ما مر قبل هذا كان للمستأجر أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الإجارة انصرفت إلى السكنى عرفاً ولو انصرفت إلى السكنى نصاً كان له أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى ولو وقع التفاوت كان يسيراً فلا يعتبر وله أن يضع متاعه فيها. لأن هذا من جملة السكنى وله أن يربط فيها دوابه.
قال مشايخنا رحمهم الله: إنما يكون له ولاية ربط الدواب فيها إذا كان فيها موضعاً معداً لربط الدواب فأما إذا لم يكن فليس له ولاية ربط الدواب، وما ذكر في «الكتاب» فهو بناء على عرف ديارهم؛ لأن في ديارهم الربط يكون في الدار لسعة دورهم، أما في ديارنا فبخلافه وله أن يعمل فيها ما بدا له من العمل مما لا يضر بالبناء ولا يوهنه نحو الوضوء وغسل الثياب أما كل عمل يضر بالبناء ويوهنه نحو الرحى والحدادة والقصارة، فليس له ذلك إلا برضا صاحبه؛ لأن كل عمل هذا حاله فهو مستثنى عن الإجارة بحكم العرف فيعتبر ما لو كان مستثنى عن الإجارة بحكم الشرط.(7/526)
يوضحه: أن الإجارة وضعت للانتفاع مع بقاء العين مما يؤدي إلى فساد العين لا يكون داخلاً تحت الإجارة.
بعض مشايخنا قالوا: أراد بالرحى رحى الماء ورحى الثور لا رحى اليد، وبعض مشايخنا قالوا: يمنع عن الكل، وبعضهم قالوا: إن كان رحى اليد يضر بالبناء يمنع عنه وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وعليه الفتوى.
وأما كسر الحطب فيها فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا يمنع عن المعتاد؛ لأنه من جملة السكنى وبعضهم قالوا: يمنع ويؤمر بالكسر خارج الدار؛ لأنه يؤثر في البناء والبناء لا محالة فلو أنه أقعد فيه قصاراً أو حداداً أو عمل ذلك بنفسه، فانهدم شيء من البناء ضمن قيمة ذلك لأن الانهدام أثر للحدادة والقصارة لا أثر السكنى؛ لأن مجرد السكنى لا يؤثر في الانهدام فيضاف بالانهدام على الحدادة والقصارة وإنها ليست بداخله تحت العقد فيكون متعدياً فيها فيضمن ما تلف بها ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان وإن لم يهدم شيء من البناء من عمل الحدادة والقصارة لا يجب الأجر قياساً؛ لأن عمل الحدادة والقصارة غير داخل تحت العقد صار الحال فيه بعد العقد والحال قبل العقد سواء ويجب الأجر المسمى استحساناً؛ لأن المعقود عليه السكنى.
وفي الحدادة سكنى وزيادة فقد استوفى المعقود عليه وزيادة فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة فحمل أحد عشر وسلمت الدابة وهناك يجب الأجر كذا ها هنا فإن اختلف الآجر والمستأجر في ذلك فقال المستأجر: استأجرت للحدادة وقال الآجر: أجرت للسكنى دون الحدادة فالقول قول الآجر، لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر الإجارة في نوع دون نوع؛ ولأن الحدادة والقصارة مما لا يستحق بمطلق العقد وإنما يستحق بالشرط والمستأجر يدعي زيادة شرط على مطلق العقد والآجر ينكر والقول قول المنكر وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر لأن المستأجر يثبت زيادة شرط.
ومما يتصل بهذه المسألة: إذا استأجر الرجل من آخر داراً على أن يقعد فيها حداداً فأراد أن يقعد فيها قصاراً له ذلك إن كانت مضرتهما واحدة أو كانت مضرة القصارة أقل وكذلك الرحى على هذا وإنما كان كذلك؛ لأنه ليس في ذلك على صاحب الدار زيادة ضرر لم يرض به.
فإن قيل: ينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأن هذا خلاف من حيث الجنس، فإن الحدادة مع القصارة جنسان مختلفان ولا عبرة للضرر والمنفعة حالة الخلاف في الجنس.
ألا ترى إن وكل رجلاً بأن يبيع عبده بألف درهم فباع بألف دينار لم يجز؛ لأنه خالف الجنس، والجواب عنه أن المخالفة فيما يكن فيه في الصفة لا في الجنس؛ لأن أصل المعقود عليه في الموضعين جميعاً السكنى في الدار إلا أن صفة السكنى تختلف، والمخالفة متى كانت في الصفة لا في الجنس، فالعبرة في ذلك للضرر والمنفعة وكان بمنزلة ما لو وكله بأن يبيع بألف زيوف، فباع بألف جياد جاز ذلك.(7/527)
قال: رجل تكارى منزلاً أو داراً من رجل على أن يسكن فيها فلم يسكنها ولكنه جعل فيها طعاماً حنطة وشعيراً وتمراً وغير ذلك وأراد رب الدار أن يمنعه قال: لأنه يخرب الدار فليس له ذلك.
علل وقال: لأن وضع هذه الأشياء من جملة السكنى الذي يرتفق الناس بها من المساكن، فيكون داخلاً تحت العقد فلا يكون لصاحب الدار أن يمنعه من ذلك كما لا يمنعه من السكنى.
رجل استأجر داراً أو حفر فيها بئراً للماء وليتوضأ فيها فعطب فيها إنسان ينظر إن كان حفر بإذن رب الدار فلا ضمان كما لو حفر رب الدار بنفسه وهذا؛ لأنه غير متعد في الحفر بإذن رب الدار؛ لأن لرب الدار حفره بنفسه فكان له الإذن بالحفر والتسبب إذا لم يكن متعدياً في التسبيب لا يضمن وإن كان قد حفر بغير إذن رب الدار فهو ضامن؛ لأنه متعد في الحفر بغير إذن رب الدار؛ لأنه حفر في موضع ليس له حق الحفر؛ لأن الحفر يصرف في رقبة الدار (39ب4) والمستأجر يملك التصرف في منفعة الدار لا في رقبته.
رجل استأجر من رجل حانوتاً وحانوتاً آخر من رجل آخر فنقب أحدهما إلى الآخر يرتفق بذلك فإنه يضمن ما أفسد من الحائط ويضمن أجر الحانوتين بتمامه، أما يضمن ما نقب من الحائط؛ لأنه نقب حائط غيره بغير أمره وعليه أجر الحانوتين كملاً، وإن ضمن بعض ما استأجر، فرق بين هذا وبين مسألة تأتي بعد هذا.
وصورتها: إذا استأجر بيتاً ولم يشترط أنه يقعد فيه قصاراً أو حداداً فقعد فيه قصاراً أو حداداً حتى انهدم البيت قال: يضمن ما انهدم ولا أجر عليه فيما ضمن فقد أسقط عنه أجر ما ضمن في تلك المسألة ولم يسقط شيئاً من الأجر ها هنا، وإنما فعل هكذا؛ لأن النقب في مسألتنا لم يضر بالسكنى.
ألا ترى لو حصل مثل هذا بآفة سماوية فإنه لا يجبر المستأجر إذا لم يضر بالسكنى وإذا لم يضر هذا النقب بالسكنى صار مستوفياً جميع المعقود عليه من ملك الآجر بتمامه فكان عليه جميع الأجر فأما المسألة التي تأتي بعد هذا وضع المسألة أنه انهدم البيت كله وانهدام البيت كله مما يضر بالسكنى.k
ألا ترى لو حصل هذا بآقة سماوية يجبر المستأجر المشتري، فإذا حصل بفعل المستأجر وصار قدر ما ضمن ملكاً له من وقت العقد سقطت حصته من الأجر؛ لأنه لم يستوف جميع ما ورد عليه العقد من ملك الآجر بل يستوفي البعض من ملكه والبعض من ملك الآجر.
وإذا تكارى منزلاً من رجل سنة بعشرة دراهم فخرج الرجل من البيت وعمل أهله وأكروا من المنزل بيتاً أو أنزلوا إنساناً بغير أجر فانهدم البيت الذي أسكنوه فيه فهذا على وجهين: إما أن ينهدم من سكنى الساكن أو من غيره وفي الحالين لا ضمان على المستأجر؛ لأنه لم يوجد منه جناية وهل يضمن الأهل والساكن؟ إن حصل الانهدام لا من سكناه فلا ضمان على واحد منهما في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يجب الضمان بناء على أن الدور والعقار لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يضمن، والأهل غاصب والساكن غاصب الغاصب،(7/528)
ويكون لصاحب الدار الخيار على قوله فإن ضمن الأهل فالأهل لا يرجع على الساكن وإن ضمن الساكن فالساكن يرجع على الأهل وإن انهدم من سكنى الساكن فالساكن يضمن بالإجماع فالعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع والساكن يتلف ها هنا لما انهدم سكناه وهل له تضمين الأصل فالمسألة على الاختلاف الذي ذكرنا.
وإذا تكارى منزلاً ولم يسم ما يعمل فيه فقعد فيه حداداً أو قصاراً فهذا على وجهين: إما إن انهدم الدار من عمله وفي هذا الوجه عكسه ضمان ما انهدم وقد مرت هذه المسألة في أول هذا الفصل قال: ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأنه ملك المضمون بالضمان من وقت العقد؛ لأن سبب الضمان مجموع عمل الحدادة والقصارة لا الحز والأخير الذي حصل الانهدام عقيبه وإذا صار الانهدام مضافاً إلى الكل صار هذا العمل من وقت العقد سبب ضمان فيملكه من ذلك الوقت، وإذا ملك المضمون من ذلك الوقت انقطعت به الإجارة فلا يكون عليه الأجر فيما ضمن ولم يقل في «الكتاب» إنه هل يجب الأجر فيما لم يضمن وهو الساحة وينبغي أن يجب؛ لأن امتناع الوجوب فيما ضمن لثبوت الملك للمستأجر فيما ضمن من وقت العقد ولم يثبت له الملك في الساحة؛ لأن الملك حكم الضمان ولا يجب الضمان في الساحة وإن لم تنهدم الدار من عمله يجب الأجر استحساناً وقد مرّ وجهه في أول هذا الفصل.
وإذا ربط المستأجر دابته على باب الدار المستأجرة وضربت إنساناً فمات أو صدمت حائطاً، قال: الضمان عليه؛ لأن ربط الدابة على باب المنزل من مرافق المنزل عرفاً فالناس في عاداتهم يرتفقون بالساكن بربط الدواب، وإذا كان هذا من مرافق السكنى عرفاً ملكه المستأجر بالإجارة فلم يكن متعدياً في فعله ذلك فلا يصير ضامناً ولو أدخل صاحب الدار دابته في الدار المستأجرة أو ربطها على بابها فأوطأت إنساناً فهو ضامن إلا إذا فعل ذلك بإذن المستأجر أو دخل الدار متعمداً لزم منها ما انهدام.
وهذا بخلاف ما لو أعار رجل داره من رجل ثم إن المعير ربط دابته على باب الدار أو ضربت إنساناً أو هدمت جداراً فإنه لا ضمان؛ لأن بعد الإعارة بقي للمعير ولأنه ربط الدابة على بابها فلا يكون متعدياً في فعل ذلك.
وإذا تكارى داراً من رجل شهراً بدرهم وفي الدار بئر فأمر الآجر المستأجر أن يكنس البئر ويخرج ترابها منها فأخرج وأبقاها في صحن الدار فعطب به إنسان فلا ضمان على المستأجر سواء أذن له رب الدار أن يلقي التراب في صحن الدار أو لم يأذن لأن وضع التراب على ظاهر الدار من جملة الانتفاع بالدار وللمستأجر ذلك.
ألا ترى أن له أن يضع لبنة نفسه وتراب نفسه في صحن الدار وكان له وضع هذا التراب في صحن الدار أيضاً، وإذا كان له ذلك لم يكن هو في هذا الفعل متعدياً فلا يضمن، كما لو وضع أمتعة أخرى لنفسه.
فرق بين هذا وبينما إذا حفر المستأجر بئراً فيها بغير إذن رب الدار، والفرق: أن الحفر يصرف في رقبة الدار وليس بانتفاع بالدار وبعقد الإجارة لا يملك التصرف في رقبة(7/529)
الدار فمتى كان بغير إذن رب الدار كان متعدياً فيه فيضمن ما هلك به هذا إذا كنس المستأجر وإلقاء الطين في صحن الدار وإن فعل الآجر البئر ذلك وألقى الطين في صحن الدار فعطب به إنسان إن فعل ذلك بإذن المستأجر فلا ضمان وإن فعل بغير إذن المستأجر فعليه الضمان.
والجواب نظير الجواب فيما إذا وضع متاعاً آخر له في الدار المستأجرة فيعقل به إنسان وهذا لأن وضع الشيء به في الدار من جملة الانتفاع بالدار والانتفاع بالدار صار للمستأجر بعقد الإجارة فلم يبقى للآجر فيصير متعدياً فيما صنع هذا إذا حصل إلقاء التراب في صحن الدار وإن حصل إلقاء التراب خارج الدار في طريق المسلمين فعطب به إنسان، فالملقي ضامن الآجر والمستأجر في ذلك على السواء إذ ليس لواحد منهما ولاية شغل الطريق بالتراب وغيره.
رجلان استكريا بيتين في دار كل واحد منهما بيتاً على حدة فعمد كل واحد منهما وأعطى صاحبه بيته وسكن فيه صاحبه فانهدم إحدى البيتين أو كلاهما فلا ضمان على واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما مستأجراً سكن غيره فيما استأجر وإن سكن كل واحد منهما بيت صاحبه من غير إذن صاحبه، فإنه يضمن كل واحد منهما ما انهدم من سكناه عندهم جميعاً لأن كل واحد منهما صار غاصباً للبيت الذي سكن فيه وما انهدم من غير سكناه ففي وجوب الضمان خلاف معروف ولا أجر على المستأجر في بيته؛ لأن المستأجر قد غصب بيته.
رجلان استأجرا حانوتاً يعملان فيه هما بأنفسهما فاستأجر أحدهما أجراء وأقعدهم في الحانوت مع نفسه وأبى صاحبه ذلك قال: له أن يقعد في نصيبه من شاء ما لم يدخل على شريكه ضرر بيّن بأن يصير آخذاً شيئاً من نصيب صاحبه معين بإقعاد أجرائه وهذا؛ لأن كل واحد منهما ملك منفعة نصف الحانوت، فكل لكل واحد الانتفاع به لا الزيادة على ذلك وإن أراد أحدهما أن يبني في وسط الحانوت بناء فليس له ذلك؛ لأنه تصرف في رقبة الحانوت وليس للمستأجر ذلك وإذا بنى المستأجر تنوراً أو كانوناً في الدار المستأجرة فاحترق (40أ4) بعض بيوت الجيران أو احترق بعض الدار لا ضمان عليه فعل بإذن رب الدار أو بغير إذنه؛ لأن هذا الانتفاع بظاهر الدار على وجه لا يغير هيئة الباقي إلى نقصان بخلاف الحفر؛ لأنه تصرف في رقبة الدار وبخلاف البناء؛ لأنه يوجب تغير هيئة الباقي إلى نقصان فإن صنع المستأجر في نصب التنور شيئاً لا يصنعه الناس من ترك الاحتياط في وضعه أو أوقد ناراً لا يوقد مثله في التنور في البيوت كان ضامناً.
الفصل الثالث والعشرون: في استئجار الحمام والرحى
وإذا استأجر الرجل حماماً شهوراً معلومة بأجر معلوم فهو جائز؛ لأنه استأجر ما(7/530)
يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فيجوز كما لو استأجر داراً أو بيتاً، فإن كان حماماً للرجال وحماماً للنساء وقد حددهما جميعاً إلا أنه سمى في الإجارة حماماً، فالقياس أن لا تجوز هذه الإجارة، وفي الاستحسان تجوز.
وجه القياس: أن المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه توجب فساد الإجارة، كما لو قال: استأجرت منك هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك؛ لأنه استأجر حماماً والحمام اسم للفرد لا للتثنية، وإذا كان اسماً للواحد كان المستأجر أحدهما فيكون المعقود عليه مجهولاً فهذا وجه القياس.
ووجه الاستحسان أن المعقود عليه معلوم فتكون الإجارة جائزة، كما لو قال: استأجرت هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك وذلك؛ لأن التثنية إن لم توجد نصاً وجد معنى بالتحديد فإن حدد الحمامين جميعاً والثابت بالتحديد كالثابت نصاً.
فإن قيل: إن تثبت التثنية بالتحديد لم تثبت التثنية باعتبار التسمية، فإنه سمى الحمام وإنه اسم للفرد لا للتثنية، فإن جاز باعتبار التحديد لا يجوز باعتبار التسمية فلا يجوز.
والجواب عنه: أن التثنية تثبت بالتحديد من حيث المعنى حقيقة وبالتسمية من حيث المجاز، فإن الحمام يذكر في العرف باسم الفرد، ويراد به التثنية فإنه يقال: هذا حمام فلان وإن كان حمامان، وإذا ثبتت التثنية باعتبار التحديد معنى، وباعتبار التسمية من حيث المجاز يرجع جانب الجواز قال مشايخنا: هذا إذا كان باب الحمامين واحداً والدهليز واحداً أما إذا كان لكل واحد منهما باب على حدة لا يجوز العقد حتى يسميهما، وعمارة الحمام في إصلاح قدره ومسيل مائة وما لا يتهيأ الانتفاع إلا به على الآجر؛ لأنه من مرافق الحمام فيكون في إصلاحه إصلاح الحمام وإن شرط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة؛ لأن قدر المرمة يصير أجرة وإنه مجهول، ولو شرط رب الحمام على المستأجر وعشرة دراهم كل شهر لمرمته مع الأجر كان جائزاً؛ لأن جميع الأجر معلوم وهذا هو الحيلة لجواز الإجارة متى أراد أن يجعل بعض المرمة أجراً حين قدر ما يحتاج إليه للمرمة في الإجارة، ثم يأمره بصرف ذلك إلى المرمة فيصير وكيلاً من جهته بالإنفاق عليه.
هكذا ذكر في «الكتاب» : ولم نجد فيه خلافاً من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز هذا التوكيل إذا لم يعين الآجر أو باعه الآلات؛ لأن المصروف إليه الدين يكون مجهولاً وهذا يمنع جواز الوكالة على مذهبه، كما لو قال: أسلم ما لي عليك من الدين ولم يبين المسلم إليه، ومنهم من قال: بأنه يجوز بلا خلاف فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة البيوع.
ووجه الفرق له وهو: أن حالة التوكيل بشراء الآلة واستئجار الأجراء للأجرة غير واجبة حتى يكون أمراً بصرف الدين إلى المجهول فلا يجوز وإذا لم تكن الأجرة حالة التوكيل كان بمنزلة ما لو وكله بهذا قبل الإجارة وقبل الإجارة لو وكله بهذا جازت هذه الوكالة وإن لم يعين بائع الآلة ولا الآجر إلا أنه ليس له على الوكيل دين حتى يصير أمراً(7/531)
له بصرف الدين إلى المجهول، فجاز فكذلك بهذا الخلاف مسألة السلم، لأن الدين واجب حالة التوكيل فإذا وكله بذلك ولم يعين المسلم إليه فقد أمره بصرف ما عليه من الدين إلى المجهول فلم يجز.
كما لو قال: أدّ ما لي عليك رجلاً من عرض الناس حتى لو كانت الأجرة واجبة وقت التوكيل يجب أن لا تجوز على قول أبي حنيفة ما لم يعين الأجراء وباعه الآلات كما في مسألة السلم، فإن قال المستأجر: قد رهنت الحمام بها لم يصدق والقول قول رب الحمام؛ لأنه يدعي إبقاء ما عليه من الأجر ورب الحمام ينكر فيكون القول قول رب الحمام إلا أن يقيم البينة على ذلك، كما لو ادعى الإيفاء حقيقة وإن أراد المستأجر أن يقبل قوله في ذلك من غير حجة.
فالحيلة أن يدفع العشرة إلى رب الحمام ثم يدفعها رب الحمام إليه ويأمره بإنفاقها في مرمة الحمام، فيكون أميناً.
وحيلة أخرى لإسقاط الحجة عن المستأجر أن يجعلا لمقدار المرمة عدلاً حتى يكون القول قول العدل فيما ينفق؛ لأن العدل أمين وليس لرب الحمام أن يمنع المستأجر بئر الماء ومسيل ماء الحمام أو موضع سرقينه وإن لم يشترط وكذلك كل شيء لا يتمكن المستأجر من الانتفاع بالحمام إلا به فهو على هذا وإنما كان كذلك؛ لأن هذه الأشياء من مرافق الحمام ومرافق المستأجر تدخل في الإجارة من غير شرط؛ لأنه لا يتهيأ الانتفاع بالمستأجر إلا به كما يدخل الطريق.
قال: ولو أن مسيل الماء الحمام امتلأ فإنه يجب على المستأجر تفريغ ذلك ظاهراً كان أو باطناً، إن كان ظاهراً فلا إشكال، وإن كان باطناً فكذلك يجب على المستأجر بخلاف البالوعة إذا امتلأت من جهة المستأجر فإن التفريغ يجب على الآجر.
ووجه الفرق: أن تفريغ مسيل الماء ممكن من غير نقص شيء من البناء؛ لأنه يكون مجصصاً مسقفاً يمكن تنقيصه بالدخول فيه من غير نقض شيء من البناء فأشبه ظاهر التعويض من هذا الوجه بخلاف بئر البالوعة؛ لأنه لا يمكن تفريغه إلا بنقض شيء من البناء ولا يملك المستأجر نقض شيء من البناء إنما يملكه رب الدار فجعل على رب الدار وإن حصل التكفل من جهته قال: ولو أن رب الحمام اشترط على المستأجر نقل الرماد والسرقين، فإن ذلك لا يفسد الإجارة فلأنه شرط في الإجارة ما تقتضيه الإجارة من غير شرط؛ لأن نقل الرماد والسرقين الذي اجتمع من عمل المستأجر عليه فلا يوجب فساد الإجارة، وإن شرط على رب الحمام أوجب فساد الإجارة؛ لأنه شرط فيها ما لا تقتضيه الإجارة ولأحد المتعاقدين فيه منفعة فيوجب فساد العقد.
قال: وإذا استأجر الرجل من رجل حمامين أشهراً مسماة كل شهر بأجر معلوم فانهدم أحدهما، فهذا على وجهين: إما أن ينهدم أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن انهدم أحدهما قبل القبض كان المستأجر بالخيار فيما بقى إن شاء أخذ الباقي، كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض كان له الخيار في الباقي إن شاء أخذه بحصته من الثمن(7/532)
وإن شاء ترك فكذلك هذا.
فرّق بين هذا وبينما إذا استأجر حماماً سنة بكذا فلم يسلم إلى المستأجر شهرين ثم سلم في الباقي وأبى المستأجر فإنه يجبر على قبضه والصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام ولم يثبت الخيار للمستأجر ثمة وأثبت هاهنا.
ووجه الفرق بينهما: أنه كان المستأجر حماماً واحداً ولم يسلم في بعض المدة فإنما تفرقت الصفقة في حق المنافع لا في حق العين، فإنه سلم العين كله؛ لأنه لم يفت من العين شيء وتفرق التسليم في حق المنافع لا يثبت للمشتري خياراً لأنه لم يستحق على الآجر تسليم المنافع جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما لا يستحق عليه تسليمه جملة (40ب4) لا يثبت للمشتري خياراً كما لو ملك أعياناً بصفقات متفرقة، فأما إذا هلك أحد الحمامين فقد تفرق على المستأجر تسليم ما استحق على الآجر تسليمه جملة وتسليم العين جملة ممكن ويفرق التسليم قبل إتمام على العاقد فيما استحق تسليمه جملة يثبت له خياراً، فقد فرق بين المسألتين من هذا الوجه هذا إذا انهدم أحدهما قبل القبض، فأما إذا انهدم أحدهما بعد القبض فلا خيار للمستأجر؛ لأن الصفقة تفرقت بعد التمام على وجه لم يوجب تعييب الباقي، فإن انهدم أحدهما لا يوجب خللاً في منفعة الباقي لتباين مرافقهما وتفرق الصفقة بعد التمام إذا لم يوجب تعييب الباقي لا يثبت للمشتري خياراً.
كما لو اشترى عبدين وقبضهما ثم هلك أحدهما بعد القبض قالوا: وعليه إشكال كان يجب أن يثبت الخيار هاهنا، وإن انهدم أحدهما بعض القبض؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام؛ لأن المنافع لم تصر مقبوضة بقبض الحمام ولا تتم الصفقة إلا بقبض المعقود عليه إلا أن الجواب عن هذا الإشكال ما ذكرنا أن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق المنافع أما في حق العين تفرق بعد التمام وتفرق الصفقة في حق المنافع لا يثبت للمستأجر خياراً.
لأنه لم يستحق على الآجر تسليمه جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما استحق تسليمه متفرقاً على حسب ما وجد وتفرق التسليم فيما استحق تسليمه متفرقاً لا يثبت للعاقد خياراً، فأما إذا انهدم قبل القبض فقد تفرق التسليم في حق العين قبل التمام وتفرق التسليم في حق العين يثبت للعاقد خيار الفسخ؛ لأنه استحق تسليمه جملة لما كان في وسع الآجر تسليمه جملة، هذا إذا كان المستأجر حمامين، فأما إذا كان المستأجر حماماً واحداً ثم انهدم بيت منها كان له الخيار سواء انهدم قبل القبض أو بعده أما قبل القبض فله الخيار لوجهين.
أحدهما: أن الصفقة تفرقت في حق العين قبل التمام.
والثاني: إن انهدام بيت منها يوجب تعيناً في منفعة الباقي؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها منفعة الحمام إلا بالكل وإن انهدم بعد القبض ثبت له الخيار بسبب العيب؛ لأن انهدام بيت منها أوجب خللاً في منفعة الباقي وإنه عيب حدث قبل قبض المعقود عليه، فأثبت للمستأجر خياراً.(7/533)
قال: وإذا استأجر الرجل حماماً وعبداً ليقوم على الحمام فهلك العبد أو الحمام فهذا على وجهين: إما إن هلك أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن هلك أحدهما قبل القبض أيهما ما كان عبداً أو حماماً كان له الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق العين وإنه يثبت للمشتري خياراً؛ لأنه يمكن تسليم العين جملة وإن قبضهما ثم هلك أحدهما إن هلك العبد فلا خيار له في الحمام؛ لأن هلاك العبد لا يوجب خللاً في منفعة الحمام ويمكنه استعمال الحمام فيما استأجر له بعبد آخر أو بنفسه والصفقة في حق العين تفرقت بعد التمام وإن انهدم الحمام كان له الخيار في العبد؛ لأنه عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له؛ لأنه استأجره ليقوم في هذا الحمام، فإذا انهدم الحمام فقد عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له فكان له الخيار كما لو استأجر دكاناً ليتجر فيه فأفلس.
وإذا استأجر حماماً بغير قدر، واستأجر القدر من غيره فانكسر القدر فلم يعمل في الحمام أشهراً وقد استكراه سنة فطلب صاحب الحمام أجره وصاحب القدر أجر قدره قال: عليه أجر الحمام؛ لأنه متمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر، فإنه يمكنه أن يستأجر قدراً آخر فينتفع به وإذا بقي التمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر وجب الأجر وإن لم ينتفع به كما قبل انكسار القدر، فأما ليس عليه أجر القدر؛ لأنه لم يبق متمكناً من الانتفاع بالقدر بعد الانكسار ومتى فات التمكن من الانتفاع فإنه لا يجب الأجر كما لو هلك العبد المستأجر وستأتي بعض مسائل الحمام بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحىً بالبيت الذي هو فيها ومتاعها بعشرة دراهم كل شهر ثم طحن فيها طحناً بثلاثين درهماً في الشهر فربح عشرين هل تطيب له الزيادة؟.
فهذا على وجهين: إما إن أصلح فيه شيئاً ينتفع به في الرحى بأن كرى نهرها أو ثبت الحجر أو لم يصلح، فإن لم يصلح فإن كان يلي الطحن بنفسه تطيب له الزيادة؛ لأنه أجر الرحى ونفسه فالزيادة على أجر الرحى يجعل بإزاء منفعة نفسه فيجوز، فأما إذا كان رب الطعام هو الذي يلي الطحن بنفسه فإنه لا تطيب له الزيادة؛ لأنه ليس بإزاء الزيادة عوض فيكون ربح ما لم يضمن فلا تطيب وإن كان أصلح شيئاً فإنه يطيب له، وإن كان لا يلي الطحن بنفسه ويجعل الزيادة بإزاء منفعة ما أصلح فلا يكون ربحاً فتطيب له.
قال في «الأصل» أيضاً: وإذا استأجر الرجل من الرجل موضعاً على نهر ليبني عليها بيتاً ويتخذ عليها رحى على أن الحجارة والحديد والمتاع من عند المستأجر فهو جائز؛ لأنه أجر أرضاً مملوكاً له ليبني فيها بناء مدة معلومة بأجر معلوم فيكون جائزاً، كما لو استأجر أرضاً ليبني عليها منزلاً أو داراً فإن انقطع ماء النهر كان عذراً في فسخ الإجارة؛ لأن بناء الرحى إنما يكون لمنفعة الطحن، فإذا فات منفعة الطحن كان عذراً في فسخ الإجارة.
وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيها فأفلس كان عذراً في فسخ الإجارة فكذلك هذا، فإن فسخ الإجارة لم يبق لواحد منهما على صاحبه سبيل وإن لم يفسخ حتى(7/534)
عاد الماء سقط حقه في الفسخ كما لو زال الإفلاس في مسألة الحانوت قبل الفسخ وهل تسقط عنه الإجارة بحساب ما انقطع من الماء أولا يسقط لم يذكر في «الكتاب» قالوا: ويجب أن لا يسقط؛ لأن ما هو المعقود عليه قائم بها جميعه؛ لأن المعقود عليه منفعة وضع البناء على هذا المكان لا منفعة الطحن فإنه لم يستأجر الرحى إلا أن المعقود من موضع هذا البناء الطحن فكان الطحن ثمرة من ثمرات هذا العقد والأجر يقابل المعقود عليه لا الثمرة.
وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيه فأفلس فلم يفسخ حتى مضى الشهر لم يسقط شيء من الأجر؛ لأن المعقود عليه السكنى وإنه قائم إلا أن السكنى كان للتجارة ففوات التجارة في بعض مدة الإجارة أثبت للمستأجر حق الفسخ ولم يوجب سقوط شيء من الأجر.
فكذلك هذا الخلاف ما لو استأجر الرحى؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة الطحن وقد فات في مدة انقطاع الماء فلا بد من أن يسقط الأجر بقدره.
وإذا خاف أن ينقطع الماء فيفسخ الإجارة فأكرى البيت والحجرين والمتاع خاصة فهو جائز لما ذكرنا وإن انقطع الماء يكون عذراً؛ لأن بيت الرحى مستأجر لمنفعة الطحن، وكذلك لو شرط أن لا خيار متى انقطع الماء لا يكون لهذا الشرط غيره؛ لأنه شرط عليه الأجر حال فوات المعقود عليه قبل القبض وهذا شرط باطل، كما لو شرط البائع الثمن على المشتري متى هلك المبيع في يده كان هذا الشرط باطلاً فكذلك هذا.
وإذا استأجر الرجل رحى ماء على أن يطحن فيها حنطة فطحن فيها غير الحنطة هل يصير مخالفاً؟ إن كان ضرر ما طحن مثل ضرر الحنطة أو دونه لا يكون مخالفاً؛ لأنه خلاف صورة لا معنى وإن كان في الضرر فوق ضرر الحنطة يكون مخالفاً فيصير فيه أحكام الغصب.H
قال: وإذا استأجر الرجل رحى من رجل وبيت من آخر وبعيراً من آخر فاستأجر الكل صفقة واحدة كل شهر بأجر معلوم فأجروا ذلك فهو جائز؛ لأنه لو أفرد العقد على كل واحد من هذه الأشياء جاز فكذا إذا جمع بين الكل في عقد (41أ4) واحد.
وصار كما لو اشترى هذه الأشياء جملة منهم صفقة واحدة فإنه يجوز ويقسم الثمن بينهم على قدر قيم أموالهم فكذا ها هنا فإن لم يؤاجروا ولكن اشتركوا على أن يكون من عند أحدهم الرحى ومن الآخر الجمل على أن يؤاجروا ذلك فما رزق الله تعالى من شيء كان بينهم أثلاثاً كانت الشركة فاسدة لما ذكرنا في كتاب الشركة أن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل على هذا الوجه باطل.
كما لو حصل التوكيل بمثل هذا في بيع العين بأن قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك كان التوكيل باطلاً، وإذا كان التوكيل باطلاً فسدت الشركة بعد هذا ننظر إن أجروا الجمل بعينه دون البيت والرحى فإن أجر الجمل لصاحب الجمل؛ لأنه عوض ملكه ويكون على صاحب الجمل أجر مثل البيت وأجر مثل الرحى لا يجاوز ثلث البعير عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله يجاوز بالغاً ما بلغ.(7/535)
كما لو قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك يكون الثمن كله لصاحب العبد لأنه عوض ملكه ويكون للبائع أجر مثل عمله لا يجاوز نصف الثمن في قول أبي يوسف وعند محمد يجب بالغاً ما بلغ وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الشركة وكذلك إن أجروا البيت بعينه أو أجروا الرحى، فالأجر كله لصاحب البيت أو لصاحب الرحى وعلى صاحب البيت أجر مثل الجمل وأجر مثل الرحى وإن اشتركوا على أن يتقبلوا الأعمال من الناس كان جائزاً؛ لأن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل بتقبل الأعمال جائز وكانت شركة لفعل جائزاً بخلاف الفعل الأول؛ لأنهم ما اشتركوا ليتقبلوا الأعمال، وإنما اشتركوا ليؤاجروا ومال كل واحد منهم ليكون أجر ذلك بينهم والشركة على هذا الوجه فاسدة.
قال: وإذا كان لرجل بيت ونهر ورحى ومتاعها فانكسر الحجر الأعلى فجاء رجل فنصب مكانه حجراً بغير أمر صاحبه وجعل يطحن للناس بأجر معلوم وينتقل الطعام بالأجر فهو مستثنى في ذلك ولا أجر عليه والأجر يكون له ويكون مستثنياً فكذلك هذا والوكالة وضع الحجر الأعلى برضا من صاحبه على أن الكسب بينهما نصفان وعلى أن يعملا بأنفسهما كان هذا مثل الباب الأول يعني متى أجروا الحجر الأعلى كان جميع الأجر لصاحب الحجر الأعلى وإن تقبل كل واحد منهم فهو بينهم على قياس مسألة الجمل لا فرق بينهما.
فإن قيل: ليس على قياسه فإن الحجر الأعلى لا يمكن أن ينتفع به وحده.
قلنا: والجمل مما لا يمكن أن ينتفع به وحده في عمل الطحن فلا فرق بينه وبين الحجر.
فإن قلت: ينتفع به في غير الطحن.
قلنا: والحجر ينتفع به في غير الطحن فلا فرق بينهما.
قال: ولو أن رجلاً بنى على نهر بيتاً ونصب فيه رحى بغير رضا صاحب النهر ثم يقبل الطعام فطحنه فكسب مالاً كان الكسب له؛ لأنه هو العاقد للأجرة فيكون الأجر له ويصير غاصباً لأرضه فتعتبر فيه أحكام الغصب فيضمن ما انتقص من أرضه كغاصب الأرض ولكن لا يضمن الماء؛ لأن الماء قبل الإجرار غير مملوك لصاحب النهر فلا يضمن للماء شيئاً والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون: في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه
وتجوز الحوالة والكفالة بالأجر في جميع الإجارات سواء كانت الأجرة واجبة وقت الكفالة باستيفاء المنافع أو باشتراط التعجيل، أو لم تكن واجبة إن كانت واجبة، فلأن الكفالة جعلت بدين مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل، فإن يمكنه الإيفاء من ماله وهذا هو الأصل في باب الكفالة، أن الكفالة متى(7/536)
حصلت بمضمون يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل أنها تصح.
ومتى حصلت بما ليس بمضمون على الأصيل لا يجبر الأصيل على إيفائه أو حصلت بما هو مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه إلا أنه لا يمكن استيفاءه من الكفيل فالكفالة لا تصح وموضع معرفة هذا الأصل كتاب الكفالة، وأما إذا لم تكن الأجرة واجبة وقت الكفالة فلأن الكفالة حصلت بدين وجد سبب وجوبه إلا أنها لم تجب بعد ولو حصلت بدين سمحت في الثاني ولم يوجد سبب وجوبه بعد كالكفالة بما له على فلان تصح الكفالة فها هنا أولى.
ويكون على الكفيل مثل ما على الأصيل إن لم يشترط خلافه في تعجيل أو تأجيل؛ لأن الكفيل متحمل عن الأصيل فإنما يتحمل عنه ما كان عليه وليس للكفيل أن يأخذ المستأجر بالأجر حتى يؤديه.
والحاصل: أن الكفيل في الحال يعرض ذمته للمطالبة والملازمة ويعرض المال بعد الأداء فمتى طولب أو لوزم ثم العرض في حق المطالبة والملازمة فرجع بمثل ذلك على الأصيل ومتى إذا تم العرض في حق المال فرجع بمثل ذلك على الأصيل وسيأتي بيان ذلك في كتاب الكفالة إن شاء الله تعالى.
وإن عجّل الكفيل الأجر لم يرجع على الأصيل حتى يحل الأجر؛ لأن الكفيل متبرع في التعجيل فإنما ينفذ تبرعه عليه لا على المكفول عنه ولو اختلف الآجر والكفيل والمستأجر في مقدار الأجر، فقال الكفيل: هو درهم، وقال الآجر: هو درهمان، وقال المستأجر: هو نصف درهم، فالقول قول المستأجر؛ لإنكاره الزيادة ويؤخذ بدرهم؛ لأن إقراره ليس بحجة على المستأجر، ولو أقاموا جميعاً البينة فالبينة للآجر؛ لأنه ثبتت الزيادة ببينة، وإذا قبلت بينته صار الثابت بالبينة كالثابت معاينة، وإن كانت الأجرة شيئاً بعينه بأن كانت يوماً معينة وكفل به كفيل فهو جائز؛ لأن الكفالة حصلت بمضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه والكفيل قادر على إيفائه؛ لأنه مال موجود فيمكنه أن يخلي بينه وبين الآجر أو يأخذه من المستأجر ويسلمه إلى الآجر فإن هلك الثوب عند المستأجر برئ الكفيل؛ لأنه برأ المستأجر عن تسليم الثوب.
ألا ترى أنه يجب عليه تسليم قيمته وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل ويقضي على المستأجر بأجر المثل؛ لأن الإجارة قد فسدت؛ لأنه قد هلك أحد البدلين الذي تعلق العقد به قبل القبض، وهذا يوجب فساد العقد في البلد الأخر، وإذا فسدت الإجارة وجب على المستأجر رد ما استوفى وتعذر رده صورة فيجب رده معنى برد قيمته وهو أجر المثل ولا يؤخذ الكفيل بأجر المثل؛ لأنه لم يكفل به إنما كفل بالثوب.
ولو استأجر داراً بخدمة عبد شهراً وكفل بالعبد إنسان لصاحب الدار إن كفل بتسليم العبد يجوز؛ لأن الكفيل يقدر على إيفائه؛ لأنه مال موجود وإن كفل بخدمة العبد لا يجوز؛ لأن الكفيل لا يقدر على إيفائه؛ لأنه ليس في وسعه تسليم خدمته وخدمة غيره لا تقوم مقام خدمته.(7/537)
وهو نظير ما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً وشرط عليه خياطته بنفسه فكفل به إنسان إن كفل بتسليم نفس الخياط صح وإن كفل بخياطته لا يصح؛ لأنه كفل بما لا يقدر على إيفائه؛ لأنه لا يمكنه أن يأخذ بيده حتى يخيطه وخياطة غيره لا تقوم مقام خياطته وفي مسألة الخياط إن لم يشترط عليه خياطته فكفل إنسان بالخياطة صح؛ لأن الكفالة في هذه الصورة حصلت بما يقدر الكفيل على إيفائه؛ لأن المشروط خياطة مطلقة وخياطة الكفيل خياطة فيتمكن الكفيل من إيفاء ذلك من عند نفسه ثم في مسألة الخياطة إذا لم تصح الكفالة بالخياطة وخاط الكفيل رجع على صاحب الثوب بأجر مثل عمله وإذا صحت الكفالة وخاط الكفيل رجع على المكفول عنه بأجر مثل عمله بالغاً ما بلغ، وإذا كانت الكفالة بأمره؛ لأنه لو أمكنه الرجوع بعين ما ادعى، فإن كان المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع على المكفول عنه بعين ما أدى، فإذا عجز عن ذلك بأن لم يكن المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع بقيمته وقيمة العمل أجر المثل من هذا الوجه وكذلك هذا الحكم في نظائره.
وإذا استأجر الرجل من رجل محملاً وراحلة إلى مكة بأجر مسمى وكفل له رجل بالحمولة فهذا على وجهين:.... (41ب4) ومحمد فالجواب فيه كالجواب في العصفرة والزعفران؛ لأن للسواد موجباً معلوماً على قولهما لو حصل بغير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر كأنهما اتفقا على ذلك ثم اختلفا فيما يغيره إما إلى زيادة أو إلى نقصان كما في الحمرة.
فأما على قول أبي حنيفة: ليس لهذا الصبغ موجب معلوم لو حصل لغير عقد فإن صاحب الثوب لا يضمن شيئاً وإذا لم يمكن أن يجعل شيء آخر موجب العقد غير المسمى اعتبرنا اختلافهما في مقدار المسمى، والاختلاف بين المتعاقدين متى وقع في مقدار المسمى وفسخ العقد متعذر فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل القول قول المنكر للزيادة كما في بيع العين بعد الهلاك، وكما لو وقع الاختلاف في مقدار الأجر للأعمال التي ليس لها موجب معلوم لو حصل تغير عقد عند الكل كما في الحمل والقصارة ويجعل القول قول المنكر للزيادة ولا يتحالفان متى اختلفا في حال ما لا يمكن فسخ العقد فكذلك ها هنا هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر.
فأما إذا اختلفا في أصل الأجر في السواد فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصباغ: لا بل عملته بأجر ذكر أن القول قول صاحب الثوب مع يمينه ولا يتحالفان عند أبي حنيفة رحمه الله وكان يجب أن يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في نوع العقد ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع فيجب أن يتحالفا عندهم وإن كان فسخ العقد متعذراً كما في صبغ يوجب الزيادة.(7/538)
وكما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد بعد الهلاك إلا أن الجواب عنه أن الاختلاف في نوع العقد بعد القبض إنما يوجب التحالف إذا كان إيجاب التحالف يفيد ثمرته وهو التراد كما في صبغ يوجب الزيادة وكما في بيع العين فإنهما متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين، فإنه يجب رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً، فكان التحالف مفيداً ثمرته أما ها هنا التحالف لا يفيد ثمرته التراد، ولا يجب التراد متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجب رد العمل؛ لأنه غير ممكن ولا رد القيمة لأن مجرد العمل لا يتقوم بغير عقد وهنا يصير بغير عقد متى حلفا، فلهذا لم يجب التحالف وإذا لم يجب التحالف جعلنا القول قول رب الثوب؛ لأنه ينكر الأجر ويقوم عمله.
وكان الجواب في هذه المسألة عند أبي حنيفة كالجواب عند الكل فيما إذا اختلفا في نوع العقد في مسألة الحمل والقصارة وثمة لا يتحالفان عندهم جميعاً وعندهما يتحالفان ومتى حلفا يجب على رب الثوب قيمة ما زاد الصبغ، فيه فيفيد التحالف، ثمرته وهو التراد عندهما فيتحالفان عندهما كما في بيع عين بعد الهلاك عند الكل.
قال: ولو أن رجلاً اختلف هو والقصار في أجر ثوب، فقال: القصار عملته بربع درهم وقال رب الثوب: عملته بقيراط فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل فإنهما يتحالفان ويترادان وهكذا الجواب فيما تقدم من المسائل لو اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل تحالفا وترادا وذلك؛ لأن الإجارة نوع بيع فإنه بيع المنفعة فيعتبر بيع العين.
ولهذا لم يثبت الحيوان ديناً في الذمة في الإجارة كما في بيع العين وفي بيع العين، لو اختلفا في مقدار البدل حال إمكان الفسخ يتحالفان ويترادان فكذلك هذا فأما إذا اختلفا في مقدار الأجر بعد الفراغ من العمل، ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه ولم يحكم قيمة ما زاد القصارة فيه.
فرق بين هذا وبين مسألة الصباغ إذا صبغه بعصفر أو زعفران، ثم اختلفا في مقدار الأجر فإنه يعتبر قيمة ما زاد الصبغ فيه.
ووجه الفرق بينهما أن يحكم قيمة ما زاد الصبغ فيه حال اختلافهما في مقدار الأجر ممكن؛ لأن لإيصال هذا الصبغ ثبوته موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل من غير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في التسمية كأنهما تصادقا على ذلك، ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان ما ليس لاتصال القصارة وينوب غيره موجب معلوم لو جعل بغير عقد فإن من قصر ثوب إنسان بغير عقد فإنه لا يضمن صاحب الثوب له شيئاً إن قصر من غير مال اتصل به فلا إشكال؛ لأن المتصل ثبوته مجرد عمل ومجرد العمل لا يتقوم من غير عقد فلا شبهة عقد وإن قصر(7/539)
بمال اتصل به من بياض البيضة وغيره فكذلك أيضاً؛ لأن ما اتصل ثبوته ليس عين مال قائم لا في الحال ولا في الثاني في الحال فلا إشكال؛ لأن المتصل بالثوب أثر مال لا عين مال وكذلك في الثاني إذا فصل من الثوب ما اتصل من بياض البيضة وغيره بالغسل لا يكون المنفصل منه في نفسه مالاً متقوماً وإذا لم يكن المتصل بالثوب عين مال قائم وإنما هو أثر مال لا غير لم يجب على صاحب الثوب شيء متى حصل بغير عقد بخلاف الصبغ؛ لأن ما اتصل بالثوب من الصبغ عين مال.
ألا ترى أنه متى فصل عن الثوب كان مالاً متقوماً لا بأس ثم استأجر ثوب آخر وعين المال القائم متقوم من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يكن للقصارة موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل بغير عقد لم يمكن أن يجعل ذلك موجب حال اختلافهما في مقدار المسمى حتى يجعل كأنهما اتفقا عليه ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان.
وإذا لم يكن إثبات شيء آخر سوى المسمّى، يوجب العقد وجب اعتبار اختلافهما في المسمى والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى حال ما لا يمكن فسخ العقد فإنه يجعل القول قول المنكر للزيادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولا يتحالفان كما في بيع العين.
فأما على قول محمد رحمه الله: هل يتحالفان؟ لم يذكر هذا في الكتاب ومشايخنا في ذلك مختلفون فمن مشايخنا قال يتحالفان على قول محمد على قيمة العمل وهو أجر المثل وما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومنهم من يقول على قول محمد لا يتحالفان في باب الإجارة بعد الفراغ من العمل وظاهر ما ذكر في «الكتاب» يدل على هذا فإنه لم يذكر خلافاً، وإنما اختلفوا على قوله اختلافهم في ثكنة محمد رحمه الله في بيع العين إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة بأي سبب تجب القيمة على المشتري عند بعضهم إنما تجب القيمة حكماً لفساد العقد؛ لأنهما اتفقا على العقد واختلفا في التسمية.
وإذا تخالفا لم يثبت واحد من المسميين فكأنه باع ولم يسم الثمن ولو باع ولم يسم الثمن كان البيع فاسداً فيجب رد العين إذا كان هالكاً فمن قال بإن مكنه في تلك المسألة بهذا قال: يجب هاهنا أن يتحالفا؛ لأن التسمية إذا لم تثبت تفسد الإجارة كأنه استأجره ولم يسم له أجراً فيجب رد أجر المثل بعد استيفاء العمل فيكون التحالف مفيداً على قول محمد، فيتحالفان عنده أيضاً.
ومنهم من قال: مكنه في تلك المسألة أن القاضي يفسخ العقد بعد التحالف متى طلبا أو طلب أحدهما فيجب على قابض العين رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً بسبب انفساخ العقد أو لأنه لما لم يثبت واحد من العقدين لما حلفا في العين في(7/540)
يده بغير عقد إلا أن العين (42أ4) متقوم بعقد وبغير عقد، فمن قال بأن مكنه هذه في تلك المسألة يقول: هاهنا لا يتحالفان؛ لأن القاضي إما أن يفسخ الإجارة أو لا يقض بواحد من العقدين متى حلفا، ومتى فسخ الإجارة أو لم يقض بواحد من العقدين فإنه لا يجب رد القيمة؛ لأن العمل يبقي بغير عقد والعمل لا يتقوم بغير عقد، وإذا لم تجب القيمة لم يجب التحالف؛ لأن ثمرته التراد إما رد العين أو رد القيمة حتى يصل كل واحد منهما إلى رأس ماله فيجيء حق كل واحد منهما وها هنا يبطل حق القصار أصلاً، وهذا لا وجه له إنما ذكرنا اختلاف المشايخ على قول محمد رحمه الله في مسألة القصارة ولم يذكره في الصبغ وذلك؛ لأن اختلاف المتعاقدين في الصبغ ليس في موجب العقد بل فيما يغير موجب العقد لما ذكرنا أن موجب العقد في باب الصبغ حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يكون موجب الصبغ لو حصل بغير عقد كأنهما اتفقا أن العقد على ذلك عقد ثم اختلفا فيما يغيره إلى زيادة أو إلى نقصان ومثل هذا الاختلاف في بيع العين لا يوجب التحالف متى لم توجد الدعوى والإنكار من الجانبين وفي فعل القصارة الاختلاف وقع في موجب العقد لا في المغير؛ إذ ليس ها هنا موجب آخر سوى التسمية والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى فإنه يجب التحالف.
إذا أمكن رد المعقود عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أو رد قيمته عند محمد.
فإن قيل: كيف يقال ليس للقصارة موجب والقصار متى قصر الثوب، فإن له أن يحبس الثوب بالأجر كما في الصباغ فإذا لحقت القصارة في حق الحبس بالصبغ فكذا في حق أن يجعل له موجب حال اختلافهما في مقدار التسمية يجب أن يلحق بالصبغ. والجواب عنه من وجهين:
الأولى: أن يقال: بأن القصارة إنما لحقت بالصبغ في حق الحبس لأن الحبس؛ إنما يكون حال قيام العقد والقصارة متقومة حال قيام العقد فإذا كان له أثر في الثوب وهو متقوم حال قيام العقد كان الأجر مقابلاً به فكان له الحبس بالأجر كما في الثوب المصبوغ، فأما في غير حالة العقد فلا قيمة له لما ذكرنا وإنما يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يجب في غيرها حالة العقد كأنهما اتفقا عليه فإذا لم يكن لاتصال القصارة بالثوب في غيرها حالة العقد موجب لم يكن تحكيمه وجعله موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر فوجب اعتبار اختلافهما في مقدار المسمى.
والثاني: أن القصار يشبه الحمال والمكاري من حيث إنه ليس في الثوب عين مال قائم ويشبه الصباغ من حيث إن له عمل وأثر مال فوفرنا على الشبهين حظهما، فألحقناه بالحمال والمكاري في حق التحالف فلم يجب التحالف كما في المكاري والحمال وجعلنا القول قول صاحب المال وفي حق الحبس ألحقناه بالصبغ توفيراً على الشبهين حظهما هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر.
وكذلك إذا اختلفا في حبس الأجر أنه دراهم أو دنانير أو في صفته أنه جيداً ورديء يتحالفان إذا كان الاختلاف قبل الشروع في العمل، وإن كان الأجرة عيناً إن اختلفا(7/541)
في حبسه أو قدره يتحالفان، ولو اختلفا في صفته لا يتحالفان والقول قول المستأجر بخلاف ما إذا كانت الأجرة ديناً.
وقد ذكر الفرق في كتاب البيوع متى إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين وبينما إذا اختلفا في صفته وهو عين فهذا بناء على ذلك، وإذا اختلفا في مقدار الترك وكان ذلك قبل استيفاء المنفعة تحالفا كما في بيع العين فبعد ذلك إن كان الاختلاف في الأجر بدأ بيمين المستأجر وإن كان الخلاف في المنفعة بدأ بيمين المؤاجر؛ وهذا لأن اليمين حجة المنكر فمن كان اسهما إنكاراً بدأ بيمينه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المؤاجر كان الخلاف في الأجرة وإن كان الخلاف في المنفعة فالبينة بينة المستأجر؛ لأن النيات شرعت الإثبات مما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول.
ولو ادعى المؤاجر فضلاً فيما يستحقه من الأجر وادعى المستأجر فضلاً فيما يستحقه من المنفعة، فالأمر في الاستحلاف على ما بينا، وإن أقاما البينة قبلت بينة كل واحد منهما على الفصل الذي يستحقه نحو أن يدعي الأجر شهراً بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة وأقاما البينة يقضي بشهرين بعشرة؛ لأن بينة كل واحد منهما تثبت زيادة فتقبل بينة كل واحد منهما على تلك الزيادة فإن لم يكن لواحد منهما بينة وقد استوفى بعض المنفعة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه ويتحالفان ويفسخ العقد فيما بقي؛ لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في حق كل جزء من المنفعة كان العقد انفرد فيه.
وإن كان اختلافهما في الأجر في نوعين بأن ادعى أحدهما دراهم والآخر دنانير فالأمر في التحالف والنكول وإقامة أحدهما البينة على ما بينا، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأن الآجر ثبت حقاً له فكان هو أشبه المدعين فتكون بينته أولى بالقبول، وإن اختلفا في المدة مع ذلك أو في المسافة بأن قال المؤاجر: أجرتك إلى القصر بدينار وقال المستأجر: بل إلى الكوفة بعشرة دراهم وأقاما البينة فهي إلى الكوفة بدينار وخمسة دراهم لأنهما اختلفا في الأجر إلى القصر وكما بينه الآجر أولى لأنها أكثر إثباتاً فقضينا إلى القصر بدينار، ثم المستأجر يدعي من القصر إلى الكوفة بخمسة دراهم والآجر ينكر أصل العقد فكانت بينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت الإجارة.k
نوع آخر
إذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قباء، وقال الخياط: أمرتني أن أقطعه قميصاً، فالقول قول رب الثوب؛ لأن الأذن من قبله يستفاد فكان القول قوله فيما أذن فيه قال: والخياط ضامن وقال ابن أبي ليلى: القول قول الخياط ولا ضمان عليه؛ لأنهما اتفقا على الأذن في القطع فرب الثوب يدّعي عليه تقييده بصفة زائدة ويدعي وجوب الضمان عليه وهو ينكر وإنما يقول القول قول رب الثوب في الإذن وإن ادعى تقييداً؛ لأنه ما أقر بحصول الإذن على ذلك الوصف.
ولو أنكر الإذن أصلاً كان القول قوله، فإذا أنكر الإذن إلا بصفة تكون قول قوله(7/542)
فإذا لم يوجد على الوصف الذي أذن يجب الضمان عليه قال: وإن شاري الثوب أخذه وأعطاه أجر مثله؛ لأنه أمتثل لأمر في أصل ما أمره وهو القطع والخياطة ولكن قد يغير الوصف، فكان لصاحب الثوب الرضا به.
وقال بعض أصحابنا: بأن منفعة القميص والقباء يقع على وجه واحد وإنما تختلف الأعراض فقد وجد المعقود عليه مع العيب وكانوا يقولون: لو قطعه سراويلاً لم تجب الأجرة؛ لأنه نوع آخر من المنفعة فلم يوجد المعقود عليه قالوا: والرواية بخلاف هذا فإنه روي عن محمد أنه لو دفع شبهاً إلى رجل ليضرب له طستاً فضرب كوزاً فارسياً ضمنه مثل شبهه، فإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل ما عمل فكذا في السراويل يجب أن يكون كذلك وإنما أوجبنا أجر المثل؛ لأن المستعمل لم يرض بالمسمى إلا على صفة مخصوصة، فإذا لم يسلم له على ذلك وجب أجر المثل ولا يجاوز المسمى.
وروي عن أبي يوسف إذا أمره أن ينزع غرساً له بأجر فنزع فقال الآمر: أمرتك بغير هذا فالقول قول الآمر مع يمينه (42ب4) وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذا لو أمره أن يقطع شيئاً من جسده أو يبط فرجه لما بينا أن الأمر من قبله يستفاد، فكان القول قوله.
قال: ولو أعطى صباغاً ثوباً ليصبغه ثم اختلفا فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه بالعصفر، وقال الصباغ: بالزعفران، فالقول قول رب الثوب لما ذكرنا أن الأمر من قبله يستفاد قال ولو دفع إلى نداف ثوباً يندف عليه قطناً وأمره أن يزيد من عنده ما رأى فجاء وقد ندف عشرين أستار، فقال صاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر أستار وأمرتك أن تزيد، فلم تزد إلا خمسة وقال النداف: دفعت إلي عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة وقد زدت فالقول قول النداف وعلى صاحب القباء أن يدفع إليه عشرة أساتير من قطن؛ لأن صاحب الثوب مقراً به لم يخالف لكنه يدعي أنه دفع إليه خمسة أستاراً فكان القول قول النداف في مقدار ما قبض فتبقى العشرة زيادة فيضمنها صاحب الثوب.
ولو اختلفا فيما أمر به أيضاً، فقال لصاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر وأمرتك أن تزيد خمسة عشر، وقال النداف: دفعت إلى عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة فزدت وصاحب الثوب بالخيار إن شاء صدقه ودفع إليه عشرة أساتير وإن شاء أخذ قيمة ثوبه ومثل عشرة أساتير، وكان الثوب للنداف؛ لأن صاحب الثوب يدعي الخلاف فكان القول قوله فيما أمر به، والقول قول النداف في مقدار ما قبض والله أعلم.
نوع آخر
ولو دفع إلى خياط ثوباً ليقطعه قباء ودفعه إليه البطانة القطن فجاء به فقال رب الثوب: البطانة ليست ببطانتي، فالقول قول الخياط مع يمينه ألبسه أنها بطانته؛ لأن البطانة أمانة في يده أو مضمون عليه وأيهما كان كان القول قوله قال: ويسع لرب الثوب أن يأخذ البطانة ويلبسها؛ لأنها إن كانت بطانته حل له لبسها وإن كانت غيرها فقد دفع إليه الخياط بدل بطانته فيجعل له اللبس.
قال: وكذلك لو أعطى حمالاً متاعاً ليحمل من موضع إلى موضع ثم اختلفا، فقال(7/543)
رب المتاع: ليس هذا متاعي، وقال الحمال: هذا متاعك، فالقول قول الحمال مع يمينه لما ذكرنا ولا يكون على الآجر أجر إلا أن يصدقه ويأخذه؛ لأنه لم يعترف باستيفاء المنافع.
قال: والنوع الآخر والنوعان في هذا سواء إلا أنه في النوع الواحد أفحش وأقبح يريد بهذا أنه لو حمله طعاماً أو زيتاً، فقال الحمال: هذا طعامك بعينه، وقال رب الطعام: كان طعامي أجود من هذا فإن يفحش أن يكون القول قول رب الطعام ويبطل الأجر ويحسن أن يكون القول قول الحمال ويأخذ الأجر إذا كان قد حمله، فأما إذا كانا نوعين مختلفين بأن جاء به شعيراً، وقال رب الطعام: كان طعامي حنطة لم يجب له الأجر حتى يصدقه؛ لأنه إذا اتحد الجنس فرب الطعام يملك أن يأخذه عوضاً عن طعامه؛ لأن الحمال قد بدل ذلك فإذا حصل له العوض سلمت له المنفعة، فأما في النوعين فلا يسعه أن يأخذ النوع الآخر إلا بالتراضي والبيع مما لم يصدقه لا يستحق عليه الأجرة.
نوع آخر
المؤاجر إذا وجد بالآخر عيباً وأراد أن يرده على المستأجر فهذا على وجهين: إما أن يصدقه المستأجر في ذلك أو يكذبه والأجرة عين كثوب بعينه أو حنطة بعينها أو كان ديناً بأن كانت الأجرة دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو موزوناً في الذمة سوى الدراهم والدنانير، فإن صدقه المستأجر كان له أن يرده على المستأجر سواء كانت الأجرة ديناً أو عيناً؛ لأن العيب يثبت بتصادقهما كما في بيع العين وإن كذبه المستأجر وقال: ما أعطيتك هذا إن كانت الأجرة ديناً ولم يكن أقر المؤاجر بقبض الجياد ولا بالاستيفاء وإنما أقر بقبض الدراهم لا غير.
فالقياس أن يكون القول قول المردود عليه وهو المستأجر.
وفي الاستحسان يكون القول قول الراد مع يمينه وهو المؤاجر، وقد ذكرنا جنس هذا في كتاب البيوع هذا إذا لم يقر بقبض الجياد، فأما إذا أقر بقبض الجياد بأن قال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت الأجر أو استوفيت فإنه لا يصدق؛ لأن الاستيفاء عبارة عن أخذ الحق بتمامه فيصير مقراً بقبض الجياد، وكذلك إذا قال: قبضت الأجر؛ لأنه أضاف القبض إلى الأجر والأجر سليم عن العيب فيضمن ذلك إقراراً بالجياد ولا تقبل بينة المؤاجر على ذلك؛ لأنه مناقض في الدعوى، فأما إذا كان عيناً فالقول قول المردود عليه قياساً واستحساناً كما في بيع العين وقد ذكرنا الفرق بين الأمرين في كتاب البيوع فلا نعيد ذكره.
ولو استأجر فاميّ من رجل بيتاً فباع فيه زماناً ثم خرج منه، واختلفا فيما فيه من الرفوف وأشباهه فقال رب البيت: كان هذا في بيتي حين استأجرته، وقال المستأجر: لا(7/544)
بل أحدثته، فالقياس أن يكون القول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه بائع الأرض والبناء تكون هذه الأشياء مركباً بالأرض، والبناء والأرض لرب الدار فكذلك ما كان تبعاً للبناء والأرض يكون له.
ألا ترى أنهما لو اختلفا في خشب السقف أو في الباب المركب أو في العلو كان القول قول المستأجر.
ووجهه أن العرف فيما بين الناس أن المستأجر هو الذي يحدث هذه الأشياء فكان العرف شاهد للمستأجر فالتبعية بسبب التركيب شاهد لرب الدار أنه له فلم صار شاهد المستأجر أولى من شاهد رب الدار.
والجواب عنه أن يقال: بأن التركيب محتمل بين أن يكون من المستأجر وبين أن يكون من صاحب العمل؛ لأن كل واحد منهما يحدث ذلك وله فعله فقد استويا في التركيب ثم يرجح الحدوث من المستأجر بدلالة العرف فصار شاهد المستأجر أولى من هذا الوجه، وهكذا الجواب في الطحان وسائر الصناع إذا اختلفا فيما يحدثه الصناع في العرف والعادة دون الآجر، فالمسألة على القياس والاستحسان، والحاصل في جنس هذه المسائل أن كل شيء يحدثه المستأجر عادة لحاجته إليه، فالقول قول المستأجر.
ولو اختلف رب الدار والمستأجر في بناء من بناء الدار غير ما ذكرنا أو في باب أو في خشبة أدخلها في السقف، فقال رب الدار: أنا أجرتك وهذا فيها وقال المستأجر: بل أنا أحدثت فإن القول في هذا قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه تابع لأرضه وبنائه ولا عرف أن المستأجر هو الذي يحدث ذلك فيكون لرب الدار وما كان له في الدار من لبن موضوع رطب أو يابس أو جذع موضوع أو آجر أو جص فهو للمستأجر؛ لأنه في يده حقيقة وحكماً ولم يعرف كونه في يد صاحب الدار فيكون القول قول المستأجر.
وإنما قلنا: إنه في يده أما حقيقة فلا إشكال وأما حكماً فلأنه ليس بتابع للدار؛ لأنه غير مركب فيه بل موضوع فيه، فإن أقاما جميعاً البينة على ذلك ففي كل شيء جعل قول المستأجر قال: ألحقه رب الدار؛ لأن رب الدار يدعي خلاف الظاهر.
ولو اختلفا في الجص أو في السيرة أو في التنور، فالقول فيه قول رب الدار قيل: هذا في التنور، بناء على عرفهم أما في عرفنا فالقول قول المستأجر؛ لأن المستأجر هو الذي في يده في عرفنا.
ولو انهدم بيت من الدار فقال المستأجر: نقضه لي وقال رب الدار: بل هو لي إذا عرف انهدام فالقول قول رب الدار وإن كان النقض منقولاً فالقول قول المستأجر لكونه في يده لأن هذا مشغول وإن كان في يد المستأجر حقيقة إلا أنه عرف كونه في يد صاحب الدار إذا عرف أنه ينقض بيت انهدم، وفي المنقول إنما يجعل القول قول ذي اليد إذا لم يعرف أنه في يد المدعي (43آ4) فأما إذا علم فالقول قول المدعي وإن كان لا يعرف فالقول قول المستأجر؛ لأنه في يده ولم يعرف أنه في يد المدعي وإن كان رب الدار أمر المستأجر أن يبني في الدار على أن يحسب له ذلك من الأجر واختلفا فقال المستأجر: أمرتني بالبناء وقد بنيت وقال رب الدار: لم يبن فالقول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه(7/545)
يدعي عليه زيادة ورب الدار ينكر قالوا: هذا إذا كان مشكل الحال بأن اختلف في ذلك أهل تلك الصناعة.
فقال بعضهم: كما يقول رب البيت إنه يذهب في نفقة مثل هذا البناء قدر ما يدعيه رب البيت، وقال بعضهم: لا بل يذهب قدر ما يقوله المستأجر حتى يقدر معرفة قول أحدهما من جهة العين فتعتبر الدعوى والإنكار والمستأجر يدعي زيادة إيفاء ورب الدار ينكر فيكون القول قوله فأما إذا أجمع أهل تلك الصناعة على قول أحدهما، وقالوا: يذهب من التفت في مثل هذا البناء ما يقوله أحدهما، فالقول قوله؛ لأنه أمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرها لا يلتفت إلى قولهما.
ولو كان على باب بيتهما مصراعين أحدهما ساقط والآخر معلق بالباب واختلفا في الساقط فالقول قول رب الدار إذا عرف أنه أجود وإن كان منقولاً فالقول قول المستأجر في المنقول إنما كان كذلك؛ لأنه عرف كونه في يدرب الدار لما عرف أنه أخ المعلق وفي مثل هذا القول قول رب الدار على ما مر.
ولو كان بيتاً سقفه مصور لجذوع مصورة فسقط جذع منها فكان مطروحاً في البيت فاختلف رب الدار والمستأجر فيه فقال رب الدار: هو سقف هذا البيت وقال المستأجر: بل هو لي وهو يقرأن تصاويره يوافق لتصاوير البيت فإن القول في ذلك قول رب الدار مع يمينه وإن كان منقولاً؛ لأنه منقول عرف كونه في يدرب الدار لما كان تصاويره موافقاً للتصاوير التي كان على السقف.
إذا تكارى منزلاً من رجل في الدار وفي الدار ساكن كل شهر بدرهم فأدخله في الدار وخلى بينه وبين المنزل وقال: اسكنه فلما جاء رأس الشهر طلب رب المنزل الأجر فقال المستأجر: ما سكنه حال بيني وبين المنزل ففيه كان يسكن في الدار أو غاصب ولا بينة له بذلك والساكن مقر بذلك أو جاحد لا يلتفت إلى قول الساكن؛ لأنه شاهد على الغير أو مقر وشهادة الفرد والإقرار على الغير لا يقبل قول الساكن يبقى بالاختلاف بين الآجر والمستأجر ينظر في ذلك إن كان المستأجر هو الساكن في الدار حالة المنازعة، فالقول قول رب الدار وعليه الأجر.
وإن كان الساكن في المنزل غير المستأجر، فالقول قول المستأجر ولا أجر عليه وذلك لأن كل الأجر لا يستحق بنفس العقد ولا بأصل التسليم وإنما يستحق كل الأجر بدوام التسليم من ابتداء المدة إلى آخرها ودوام التسليم ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب الدوام وذلك؛ لأن ما ثبت إن كان على البقاء ما لم يقم دليل الزوال فمن الجائز أنه زال التسليم بعدما وجب بدليل أوجب زواله بأن غصب منه غاصب.
وهذا هو حد استصحاب الحال والثابت باستصحاب الحال ثابت من وجه غير ثابت من وجه ولهذا صلح الدفع ولم يصلح الاستحقاق وجميع الأجر غير واجب فلا يمكننا إيجابه بدوام تسليم ما ثبت باستصحاب الحال ما لم يترجح ما يوجب دوام التسليم على ما يوجب زواله فحكمنا في ذلك الخلل.(7/546)
وقلنا: بأن كان الساكن هو المستأجر يرجح ما يوجب داوم التسليم على ما يوجب زواله فكان الحكم له وإذا كان الساكن غير يرجح ما يوجب زوال الدوام على ما يوجب دوامه، فكان الحكم له.
ونظير ما لو وقع الاختلاف بين مستأجر الطاحونة والآجر بعد انقضاء مدة الإجارة في جريان الماء وانقطاعه فيما مضى فإنه يحكم الحال إن كان الماء جارياً حالة المنازعة فالقول قول من يدعي دوام التسليم وإن كان الماء منقطعاً، فالقول قول من يدعي زوال الدوام فكذلك هذا.
فإن قيل: المستأجر أقر بالتسليم في الابتداء، فهذا جعل ذلك حكماً على بقاء التسليم في آخر المدة وحكمنا على بقاء التسليم فيما مضى والجواب عنه أن كل الأجر مما لا يستحق بأصل التسليم؛ لأن منافع المدة معدومة للمال وإنما يوجد ساعة فساعة فيجعل التسليم موجوداً ساعة فساعة كالعقد سواء وإذا كان لا يستحق كل الأجر بأصل التسليم الموجود في الابتداء لا يمكننا أن نجعل التسليم الموجود في الابتداء حكماً على دوامه وإذا كان يستحق بدوام التسليم إلى آخر المدة أمكننا أن نجعل قيام التسليم في آخر المدة حكماً على وجوده فيما مضى إذا لم يعرف وجود المانع من التسليم فيما مضى.
رجل تكارى من رجل بيتاً كل شهر بدرهم، فلما جاء رأس الشهر طلب رب البيت أجر البيت فقال المستأجر: إنما أعرتنيه بغير أجر أو أسكنتيه بغير أجر وصاحب الدار ينكر ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن صاحب البيت يدعي عليه أجراً والمستأجر ينكر فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة صاحب المنزل؛ لأنه هو المدعي فإنه ادعى عليه أجراً وأثبته بالبينة.
وكذلك إذا قال الساكن: إن الدار داري ولا حق لك فيها فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن الآجر ادعى عليه سين الأجر وكون الدار ملكاً له أو الساكن أنكر الأمرين جميعاً، فيكون القول قوله فيهما في الأجر؛ لأنه ينكر وجوب الأجر في ذمته وفي الدار؛ لأن الدار في يده فإن قال الساكن: الدار لفلان وكلني بالقيام عليها، فالقول قول الساكن ويكون خصماً للمدعي؛ لأنه ادعى عليه الأجر وكون الدار ملكاً له والمستأجر أنكر الأجر فكان القول قوله.
وادعى أن يده في الدار يد غيره حتى يندفع عن نفسه خصومته في الدار فلا تندفع عنه الخصومة بمجرد قوله: إن يده في الدار يد غيره ما لم يقم البينة على ما ادعى عندنا.
وإن قال المستأجر: إنك وهبتني المنزل فلا أجر لك وقال الآجر: بل أجرتك فالقول قول المستأجر في الأجرة، لأن صاحب المنزل يدعي عليه الأجر والمستأجر ينكر وفي الدار القول قول صاحب المنزل؛ لأن المستأجر أقر بكون الدار ملكاً له وادعى التملك من جهة وأنكر صاحب المنزل، فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة تؤخذ ببينة الموهوب له؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا يجعل كأنه أجر منه ثم وهب له بعد العقد.(7/547)
ولو كان كذلك ثتبت الهبة ولم يكن عليه أجر، فكذا هذا بخلاف ما إذا ادعى الساكن العارية وصاحب المنزل يدعى الإجارة وأقاما جميعاً، فإن البينة هناك بينة صاحب المنزل وفي الحقيقة لا فرق؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا أجر منه ثم أعار منه بعد الإجارة إلا أن الإجارة لا ترتفع بالإجارة وترتفع بالهبة وهذا كله إذا لم يكن أقر الساكن بأصل الكراء.
فأما إذا أقر بأصل الكراء ثم ادعى الهبة أو العارية فإنه لا يصدق وعليه الأجر إلا أن يقيم بينة؛ لأن الإجارة تثبت بإقراره والهبة والعارية لم تثبت بمجرد دعواه إلا أن يقيم البينة على الهبة فحينئذٍ لا أجر عليه؛ لأن الهبة تثبت بالبينة وللمستأجر خيار الرؤية إن لم يكن رأى المستأجر اعتباراً لبيع المنفعة ببيع العين فإن اختلفا فقال صاحب الدار قد كنت رأيت وقال المستأجر: لم أر فالقول قوله، لأنه متمسك بالأصل فإن عدم الرؤية أصل فإذا حلف أنه لم يرها يردها إلا أن تقوم بينة أنه قد راًها.
رجل تكارى منزلاً من رجل في داره على أن أجره أن يكفيه وعياله نفقتهم ومؤنتهم ما دام في الدار، فالإجارة فاسدة؛ لأن الأجر مجهول فإنه لا يدري قدر ما يكفيهم وجهالة الأجر مما يوجب فساد الإجارة؛ فإن سكن كان عليه أجر المثل (43ب4) كما في سائر الإجارات الفاسدة؛ فإن قال المستأجر: أنفقت على عيالك وقال صاحب المنزل: لم تنفق فالقول قول صاحب المنزل؛ لأنه يدعى عليه الإيفاء؛ لأن ما أنفق على عياله بأمره يكون ديناً عليه وله عليه مثله فيلتقيان قصاصاً فيدعي الإيفاء من هذا الوجه وإنه ينكر، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر؛ لأنه يدعي الإيفاء وبينته بالبينة ويحسب له ما قامت من البينة من أجر مثلها؛ لأن ما أنفق صار ديناً على رب المنزل وأجر المثل دين لرب المنزل عليه فيلتقيان قصاصاً.
رجل تكارى داراً شهراً بعشرة دراهم فسكنها يوماً أو يومين ثم تحول إلى دار أخرى كان للآجر أن يطالبه بأجر جميع الشهر؛ لأن الإجارة لازمة في الشهر فلا يملك فسخها إلا بعذر وأن يتحول من دار إلى دار أخرى لا يكون عذراً فإن قال إنما استأجرتها يوماً واحداً فالقول قوله؛ لأنه أقر بالإجارة في يوم وأنكر الإجارة في باقي الشهر، ولو أنكر الإجارة أصلاً ورأساً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بالبعض وأنكر البعض، فإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأنه يثبت الإجارة فيما زاد على اليوم ببينة.
وإذا استأجر من آخر داراً شهراً بدرهم فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول دون الشهر الثاني وقد مرت المسألة من قبل، فإن انهدم شيء من سكناه في الشهر الثاني يضمن ولا ضمان فيمن لا ينهدم من سكناه في الشهر الأول فإن اختلفا فيما انهدم فقال المستأجر: إنما انهدم من سكناك في الشهر الثاني فعليك الضمان، فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه ضمان ما انهدم وهو ينكر فيكون القول قوله والبينة بينة صاحب الدار؛ لأنه هو المدعي.
رجل تكارى بيتاً أو داراً على أن يسكنها شهراً فأعطاه صاحب المنزل المفتاح فلما(7/548)
مضى الشهر جاء رب المنزل يطلب الأجر فقال المستأجر: لم أقدر على فتحه وقال الآجر: بل قدرت على فتحه وسكنت ولا بينة لهما، فإنه ينظر إلى المفتاح الذي دفع إليه للحال إن كان مفتاحاً يلائم هذا الغلق ويمكن فتح الباب به فالقول قول رب الدار ولا يصدق المستأجر في قوله لم أقدر على فتحه، وإن كان ما دفع من المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق ولا يمكن فتح الباب به فالقول قول المستأجر وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة رب المنزل، وإن كان المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافه كما في مسألة الطاحونة لو أقام المستأجر بينة أن الماء كان منقطعاً فيما مضى، فإنه يقضي بالبينة وإن كان جازماً للحال فكذلك هذا.
فإن قيل: إذا كان المفتاح لا يلائم الغلق فكيف تقبل البينة على أنه كان يقدر على فتحه قلنا: إنما يقبل إذا كان رب المنزل يدعي أنه كان يلائم الغلق ولكن غيره والمستأجر يقول: لا بل لم يكن ملائماً من الأصل فتقبل البينة على ما يدعيه رب البيت والله أعلم.
نوع آخر
إذا استأجر الرجل من آخر حماماً مدة معلومة ثم اختلفا في قدر الحمام إنه للمستأجر أو لصاحب الحمام فالقول قول صاحب الحمام؛ لأنه مركب في بنائه ولا عرف في أن المستأجر يحدث ذلك بخلاف الآتون؛ لأن العرف أن المستأجر هو الذي يتولى ذلك فكان الحكم في الموضعين جميعاً العرف ولو انقضت مدة الإجارة وفي الحمام رماد كثير وسرقين كثير فقال رب الحمام: السرقين لي وقال المستأجر: هو لي وأنا أتقلد فالقول قول المستأجر إذا لم يعرف كون المدعي به في يد صاحب الحمام على ما مر قبل هذا، فأما الرماد فإن كان ذلك من عمل المستأجر وكان مقراً بذلك فعليه أن ينقله، لأنه صار مشغولاً من جهته وقد أمكن تفريغه من غير نقض شيء من البناء فيكون على المستأجر تفريغه كما لو كان مشغولاً بأمتعته، فإن جحد أن يكون من عمله فالقول قوله لأن صاحب الحمام يدعي عليه تفريغ هذا المكان وهو ينكر؛ ولأنه يدعي تسليم هذا المكان في الحاصل والمستأجر ينكر؛ لأن الشغل يمنع التسليم فيكون القول قوله.w
نوع آخر
وإذا استأجرت المرأة حلياً معطوفاً لتلبسه يوماً إلى الليل فهو جائز، فإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي فإن اختلفا فقال رب الحلي: لبسته وقالت: لا بل ألبست غيري، ذكر أن القول قول صاحب الحلي هذا إن هما اختلفا في الأجر، فقال رب الحلي: لبسته بنفسك فعليك الأجر، وقالت المرأة: ألبست غيري فلا أجر علي، قالوا: ويجب أن يكون الجواب فيه على قياس ما ذكر في الدار إذا ادعى أنه غصب منه قال: يُحَكَّم الحال إن لم يكن فيها ساكن غيره وقت المنازعة كان القول قول رب الدار وإن كان فيها ساكن غيره كان القول قول المستأجر.(7/549)
وكما في مسألة الرحى إذا اختلفا في انقطاع الماء وجريانه فكذا ها هنا يجب أن يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول قول رب الحلي وإن كان في يد غيرها فالقول قولها، فإن هلك الحلي كان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها؛ لأنه يقر بوجوب الضمان على نفسها فكان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها ولا أجر له كما لو ثبت الإلباس معاينة وإن كذبها فقد أبرأها من الضمان ثم يكون القول قول صاحب الحلي؛ لأن تحكيم الحال متعذر بعد الهلاك وإذا تعذر تحكيم الحال جعل القول قول رب الحلي؛ لأن المستأجر يدعي زوال التسليم بعدما وجد التسليم وصاحب الحلي ينكر فيكون القول صاحب الحلي.
نوع آخر
إذا اختلف رب الدابة والمستأجر ولم يركب بعد فقال المستأجر: أكريتني من الكوفة إلى بغداد بعشرة، وقال رب الدابة: أكريتك من الكوفة بعشرة دراهم إلى قصر والقصر هو المنتصف إن لم يقم لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان ويترادان؛ لأنهما اختلفا في بدل عقدي تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ، فيتحالفان ويترادان وإن قامت لأحدهما بينة؛ فإنه يقضي بينة لأنه ادعى أمراً حادثاً وأثبته بالبينة، فإن أقاما جميعاً البينة كان أبو حنيفة يقول أولاً: يقضي إلى بغداد بخمسة عشر درهماً وهو قول زفر رحمهم الله، ثم رجع وقال: يقضي إلى بغداد بعشرة دراهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وجه قوله الأول: لأن كل واحد منهما ادعى عقداً غير ما يدعيه صاحبه، صاحب الدابة ادعى عقداً إلى المنتصف بعشرة والآخر بخمسة فيجب القضاء بهذا العقد إلى المنتصف بعشرة ببينة صاحب الدابة، وادعى المستأجر من المنتصف إلى بغداد عقداً بخمسة أنكرها رب الدار وأثبتها بالبينة فلا بد من القضاء بها فيجب القضاء بعقدين من هذا الوجه.
ووجه قول الآخر: وهو أنهما اتفقا على أنه ما جرى ما بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء على وفق ما اتفقا عليه بأن لا تقبل بينة رب الدابة، لأنها قامت على إثبات العشرة وإنها ثابتة له بإقرار المستأجر وإذا أمكن رد بينته بقيت بينة المستأجر لا غير، وقد أثبت الإجارة إلى بغداد بعشرة دارهم فيقضى بذلك كما لو تفرد المستأجر بإقامة البينة لا غير.
ونظير هذا ما قالوا جميعاً في بيع العين: إذا ادعى البائع أنه باع منه هذا العبد بألف وادعى المشتري أنه اشترى هذا العبد وهذه الجارية بألف درهم وأقاما جميعاً البينة يقضى بعقد واحد ببينة المشتري؛ لأنهما اتفقا على أنه ما جرى بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء بعقد واحد بأن لا تقبل بينة البائع؛ لأنها قامت على إثبات الألف وهو ثابت له بإقرار المشتري والمشتري ادعى زيادة في المعقود عليه لم يثبت له بإقرار البائع وأثبتها بالبينة فوجب القضاء بعقد واحد فكذلك ها هنا ثم أبو يوسف لا يحتاج إلى الفرق بين هذا وبين (44ب4) السلم؛ لأن المذهب عنده أنه يقضى بعقد واحد ما أمكن وقد أمكن(7/550)
القضاء بعقد واحد، فأما محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق أنه إنما يقضى بعقدين إذا أمكن (و) القضاء بهما غير ممكن؛ لأن للمنافع حكم العين فمتى صار مستحقاً بعقد لا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر ومنافع هذه الدابة إلى القصر صار مستحقاً بعقد فلا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر فيتعذر القضاء بالعقدين ها هنا.
فأما في باب السلم فرأس المال والمسلم فيه دين ومحل الدين الذمة وفي الذمة سعة فكان القضاء بالعقدين ممكناً فقضينا بهما عملاً بالبينتين.
وإذا استأجر الرجل من آخر دابة ودفعها إليه بغير سرج ولا لجام، وقال: أكريتك عرياناً ولم أكرك بسرج ولا لجام، وقال المستكري: استكريتك بسرج ولجام كان القول قول صاحب الدابة؛ لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بإجارة الدابة وأنكر إجارة السرج والإكاف وهذا بخلاف المسألة الأولى قال: ثمة يتحالفان وهنا قال: لا يتحالفان.
ووجه الفرق بينهما أن في المسألة الأولى اختلفا في بدل المعقود عليه والاختلاف في بدل المعقود عليه يوجب التحالف، فأما في مسألتنا لم يختلفا في بدل المعقود عليه ولا في المعقود عليه بل اختلفا في بيع من توابع المعقود عليه، فكان بمنزلة ما لو اختلفا في بيع العين في شرط يلحق به وثمة لا يتحالفان؛ لأن المشروط اتباع فكذلك هذا.
وإذا تكارى الرجل: دواب من بغداد إلى مدينة الري بأعيانها كانت الإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم والأجر معلوم، فجازت الإجارة وإنما شرط مدينة الري؛ لأنه لو استأجرها إلى الري كان لا تصح الإجارة على ما يذكره في ظاهر الرواية؛ لأن اسم الري يشتمل على المدينة وعلى الرستاق فإن جوار الري يسمى رياً وهي من مدينة الري بمراحل، وكان بمنزلة من استأجر دابة إلى خراسان لم يجز؛ لأن خراسان تشتمل على أمصار كثيرة فكذلك هذا.
وإذا جازت الإجارة لو أن المكاري باع هذه الدواب من غيره أو وهب أو تصدق أو أجر أو أعار أو أودع فجاء المستكري ووجد الدواب في يد غيره، فأراد أن يقيم البينة على إجارته هل تقبل بينته؟ فهذا على وجهين:
إما أن يكون المكاري حاضراً أو غائباً فإن كان المكاري حاضراً فإنه يقبل بينته عليه، وإن كان يقر أنه أجرها منه، لأن بينة المستأجر قامت على خصم حاضر؛ لأن المستأجر مع الذي في يده الدابة تصادقا أن الملك في الدابة كان للمكاري، والمكاري صدقهما في ذلك فيثبت الملك للمكاري في الدابة بتصادقهم جميعاً فكان المكاري خصماً للمستأجر فتقبل بينته عليه فإن قيل: كيف تقبل بينته والمكاري يقر أنه أجر هذه الدواب منه أولاً كما يدعيه المستكري والبينة لا تقبل على المقر قلنا: المكاري وإن أقر بذلك إلا أنه لم يصح إقراره بحق ذي اليد، وإذا لم يصح إقراره صار وجود هذا الإقرار منه وعدمه بمنزلة.
ونظير هذا ما قالوا فيمن باع من آخر شيئاً ثم ادعى البائع أنه كان باع من غيره أولاً(7/551)
فإنه لا يصدق فيما أقربه ولو أن الأول أقام البينة على ما ادعى سمعت بينته وإن كان البائع مقراً بذلك؛ لأن إقراره غير مقبول لحق الثاني فصار وجود إقراره وعدمه بمنزلة فقبلت البينة عليه، فكذلك هذا وإذا سمعت بينه المستأجر وكأن المكاري باعه من غيره إن كان باعه بعذر فإن كان عليه دين فادح لم يكن للمستأجر سبيل على الدابة؛ لأن الإجارة تنتقض متى حصل البيع حالة العذر بقضاء قاضٍ على الروايات كلها وبغير قضاء القاضي على عامة الروايات، وفي رواية «الزيادات» لا تنتقض وإذا انتقضت الإجارة لا يبقى للمستأجر على الدابة سبيل.
وإن كان باعها بغير عذر كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته؛ لأن بيع المستأجر من غير عذر لا يوجب انتقاض الإجارة وإذا أبقى إجارة المستأجر وقد ثبت بالبينة أن إجارته كانت جامعة على بيع الذي في يده الدابة؛ كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته وما يقول في الكتاب أن البيع مردود، فتأويله إذا فسخ المشتري البيع.
وذلك لأن المستأجر لما كان أحق بالدابة بأجر قبض المشتري فيتخير إن شاء يتربص إلى أن تنقضي مدة إجارته وإن شاء فسخ البيع كما لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض فإذا تربص حتى انقضت مدة الإجارة يكون البيع جائز أو لا يكون للمستأجر حق الفسخ؛ لأنه توصل إلى حقه من غير فسخ وإن كان أجر من غيره أو أعار أو وهب أو تصدق كان المستأجر الأول أحق بها إلى أن يستوفي إجارته ثمة تجوز هذه التصرفات ويكون الجواب في حق هذه التصرفات كالجواب فيما إذا باعه بغير عذر؛ لأن العذر لا يستحق في حق هذه الأشياء حتى تنتقض الإجارة هذا الذي ذكرنا إذا كان المكاري حاضراً.
فأما إذا كان المكاري غائباً فإن بينة المستأجر تقبل إذا كان الذي في يديه الدابة مشترياً أو متصدقاً عليه أو موهوباً له؛ لأن الذي في يديه الدابة متى كان مشترياً أو متصدقاً عليه يدعي الملك لنفسه فيما في يده فينتصب خصماً لكل من ادعى حقاً في يده وقد ادعى المستأجر حقاً فيما في يده فينتصب خصماً له وقبلت بينته بعد هذا إن كان باعه المكاري بعذر فلا سبيل له على الدابة؛ لأن الإجارة انتقضت فإن كان باعه بغير عذر أو وهب أو تصدق كان المستأجر أحق به إلى أن يستوفي إجارته؛ لأن إجارته سابقة على هذه التصرفات فكان المستأجر أحق بها إلى أن يستوفي إجارته، فأما إذا كان الذي في يده الدابة مستأجراً أو مستعيراً أو مودعاً وقد صدقه المستكري فيما قال، قال: لا تقبل بينته عليه؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن ذا اليد مستأجر أو مستعير أو مودع من رجل معروف والمودع والمستعير والمستأجر لا ينتصب خصماً، فالبينة قامت لا على خصم فلا تقبل.
ثمة يقول في «الكتاب» : والمستأجر أحق بها حتى يستوفي إجارته ولم يذكر أن المستأجر الأول أحق بها أم الثاني، ويجب أن يكون الجواب على التفصيل إن كان المكاري حاضراً فالمستأجر الأول أحق بها، وإن كان غائباً فالمستأجر الثاني أحق بها لأن المكاري إذا كان حاضراً فبينة المستأجر الأول مقبولة في هذه الحالة والثابت بالبينة(7/552)
أفاد له كالثابت معاينة ولو عاين القاضي إجارته أولاً جعل الأول أحق بها، فكذا إذا ثبت بالبينة، وأما إذا كان المكاري غائباً فبينة المستأجر الأول لا تقبل في هذه الحالة فيكون الثاني أحق بها إلى أن يستوفي إجارته.
ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده المسألة على هذا الوجه فلم يجعل المستأجر الثاني خصماً للمستأجر الأول.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي والشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي أن بينة المستأجر على صاحب اليد إذا كان مستأجراً مقبولة وجعله خصماً له، وفرقا بين المستأجر وبين المستعير والمودع.
رجل استأجر دابة من رجل إلى واسط بعشرة دراهم وقال المكاري للمستكري: استكر علي غلاماً يتبعك ويتبع الدابة وأجره علي وأعطه نفقة ينفق على نفسه وعلّى الدابة من كراء الدابة كان ذلك جائز، فإن اختلفا فقال المستكري: استكريت الغلام وأعطيت نفقته ونفقة الدابة من كراء الدابة وقد برئت من الأجر بذلك القدر وأنكر صاحب (44ب4) الدابة استئجار العبد، فالقول قول صاحب الدابة أنه لم يستأجر وعلى المستكري البينة أنه استأجر الغلام، وإن كان المستكري وكيلاً بالاستئجار؛ لأن الوكيل بالاستئجار بمنزلة الوكيل بالشراء إذا قال: اشتريت وهلك الثمن عندي وأراد أن يرجع بالثمن على موكله والوكيل بالشراء إذا أقر أنه اشترى وهلك عنده ولم يكن الثمن مدفوعاً إليه وأنكر الموكل فالقول قول الموكل مع يمينه وعلى الوكيل البينة أنه اشترى فكذلك ها هنا، فإن أقام البينة على أنه استأجر الغلام بعد هذا وأقر الغلام أنه قبض النفقة إلا أنه ضاع أو سرق منه وأنكر المكاري كان القول قوله، يعني: قول الغلام؛ لأنه لما ثبت استئجار الغلام صار الغلام وكيلاً من جهة المكاري يقبض ما عليه من الكراء بمقدار النفقة الوكيل بقبض الدين إذا قال: قبضت وهلك عندي كان القول قوله فكذا هذا.
فإن قيل: كيف يصير الغلام وكيلاً من جهة المكاري بقبض ما عليه من الكراء بمقدار نفقته ونفقة الدابة وهو لم يعلم بهذه الوكالة؟ قلنا: المستكري أخبره بذلك؛ لأنه حال ما يستأجر يجبره أنه يستأجره ليفعل كذا، فيصير وكيلاً كرجل وكل غائباً فبلغه الوكالة فإنه يصير وكيلاً، فكذلك هذا.
رجل استأجر دابة ذاهباً وجائياً فمات المكاري في الطريق فإن الإجارة لا تنتقض فإن استأجر المستكري رجلاً حتى يقوم على الدابة جاز وكان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على الورثة والمسألة قد مرت فإن اختلف الورثة والمستكري فقالت الورثة: إنما أجرك أبونا هذه الدابة على أن مؤنة الدابة عليك وأنكر المستكري ذلك فالقول قوله؛ لأنهم يدعون على المستكري زيادة والمستكري ينكر فيكون القول قوله مع يمينه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأنهم يدعون زيادة في الأجر منها بينة المستأجر فتكون البينة بينة الورثة وإن كانوا لا يستحقون هذه الزيادة ببينتهم لفساد العقد.
هذا كما ذكر في كتاب المزارعة: إذا اختلف المزارع وصاحب الأرض في مقدار(7/553)
المشروط فأقام الذي ليس البذر من عنده البينة أنه شرط النصف وزيادة عشرة أقفزة، وأقام الآجر البينة أنه شرط له النصف فالبينة بينة من يثبت الزيادة، وإن كان لا يستحق هذه الزيادة متى أقام البينة لفساد العقد فكذلك هذا.
وإذا استأجر رجل دابة من رجلين إلى بغداد ذاهباً وجائياً فقال أحدهما: أكريناكها بعشرة دراهم وقال الآخر: بخمسة عشر فهذا على وجهين:
إما أن يصدق المستأجر أحدهما، فيقول: أكريتها بعشرة أو لا يصدق أحدهما فيما يدعي ويقول: أكريتها بخمسة وقد اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه، أو بعد استيفاء المعقود عليه، فإن اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه وليستلم بينة والمستأجر يكذب كل واحد منهما ويدعي الإجارة بخمسة فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منها؛ لأن الاختلاف وقع في بدل عقدين تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ؛ لأن المعقود عليه قائم فيجب التحالف في النصيبين جميعاً فإذا تحالفوا فسخ القاضي العقد في جميع الدابة كما في بيع العين، وإن كان المستأجر يصدق أحدهما بأن كان يدعي العقد بعشرة فإنه لا يجب التحالف في حصته الذي صدقه؛ لأنهما لم يختلفا في بدل المعقود عليه في حصته ويتحالفان في حصة الذي يدع العقد بخمسة عشر، فإذا تحالفا وطلب أحدهما الفسخ من القاضي أو طلبا جميعاً، فإن القاضي يفسخ العقد في حصته وتبقى الإجارة في حصة الآخر بخمسة دراهم عندهم جميعاً، كما لو مات أحدهما.
وإن وقع الاختلاف بعد استيفاء المعقود عليه فالقول قول المستأجر مع يمينه كما في بيع العين، إذا اختلفا بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه فكذلك هذا، وهذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يشكل، فأما على قول أبي حنيفة ففيه اختلاف المشايخ وإن أقاما جميعاً البينة فإن يقضى لكل واحد منهما بنصف ما ادعى من الأجر، لأن كل واحد منهما ببينته يثبت نصف ما ادعى من الأجر لنفسه ونصفه لصاحبه إلا أنه خصم فيما يدعيه لنفسه وليس بخصم فيما يدعي لصاحبه فتقبل بينة كل واحد منهما في نصف ما ادعى من الأجر لنفسه لا غير فيقضى لمدعي خمسة عشر تسعة ونصف، ويقضى للآخر بخمسة دراهم هذا إذا اختلفا في بدل المعقود عليه.
فأما إذا اختلفا قي قدر المعقود عليه في السير فقال أحدهما: أكريناها إلى المدائن وقال الآخر: إلى بغداد واتفقوا على الكري فهذا على وجهين: إما أن يختلفا قبل السير أو بعد السير والمستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي أو يكذب ويدعي المسير إلى مكان أو غير ما يدعيان، فإن كانوا اختلفوا قبل السير والمستأجر يكذب كل واحد منهما فيما يدعي، ويدعي مكاناً آخر أبعد مما يقران، فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منهما؛ لأنهم اختلفوا في قدر المعقود عليه في عقدي تجارة حال ما يحمل العقد الفسخ فيجب التحالف كما في بيع العين، فإن اختلفوا وطلبوا الفسخ من القاضي فسخ القاضي العقد في جميع الدابة وإن كان المستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي فإنه لا يجب التحالف في نصيب الآخر؛ لأن التحالف يجري بين المتكاذبين لا بين المتصادقين فيجب التحالف(7/554)
في نصيب الذي يكذبه، فإذا حلفا يفسخ القاضي في نصيبه وتبقى الإجارة في نصيب الآخر جائزة عندهم جميعاً هذا إذا اختلفا قبل المسير.
فإن اختلفا بعد المسير إلى أحد المكانين فالقول قول الآجر مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي زيادة في المعقود عليه وصاحب الدابة ينكر حال مالا يحتمل الفسخ فيكون القول قوله مع يمينه كما في بيع العين إذا اختلفا في قدر المعقود عليه واتفقا على الثمن حال مالا يحمل العقد الفسخ وهناك القول قول البائع مع يمينه فكذلك هذا، ولم يذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة بتمامها في الكتاب، وإن أقاموا جميعاً فالبينة بينة المستأجر إذا كان يدعي زيادة مسير على ما يقولان؛ لأنه يثبت زيادة في المسير تنفيها بينة صاحبي الدابة فتكون البينة بينته.
وما ذكر في الكتاب أن القول قول الذي استأجر مع يمينه جواب المسألة الأولى لا جواب الثانية.
إذا استأجر الرجل دابة وغلاماً ليذهب به بكتاب إلى بغداد، فاختلف المستأجر والأجير فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في إيفاء العمل بأن قال العبد: دفعت الكتاب إلى فلان وقال المرسل: ما دفعت إليه أو اختلفا في إبقاء الأجر بأن قال المرسل أعطيتك الأجر أو قال: أعطاك المرسل إليه وأنكر الغلام ذلك فإن اختلفا في إيفاء العمل والمرسل ينكر يكون القول قوله كالبائع إذا ادعى تسليم المبيع والمشتري ينكر وإن اختلفا في إيفاء الأجر فالقول قول الغلام؛ لأن المرسل يدعي إيفاء الأجر والغلام ينكر فيكون القول قوله، كالمشتري إذا ادعى إيفاء الثمن وأنكر البائع كان القول قوله مع اليمين، كذا هذا.
رجل تكارى دابة من رجل ولم يسم بغلاً أو حماراً فجاءه بحمار فاختلفا فقال المستكري: إنما استكريت منك هذا البغل بخمسة دراهم وقال المكاري: بل أكريتك هذا الحمار بخمسة دارهم فهذا على وجهين:
إما إن يختلفا قبل (45آ4) الركوب أو بعد الركوب، فإن اختلفا قبل الركوب وليس لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المعقود عليه حال قيام المعقود عليه وهو قابل للفسخ فيتحالفان وإنما قلنا ذلك؛ لأن البغل مع الحمار مختلفان فتكون منفعتهما مختلفة فكان الاختلاف في المعقود عليه، وإن اختلفا بعد الركوب ولم يتم لأحدهما بينة فالقول قول المستأجر، لأن المكاري يدعي عليه إجارة الحمار وهو ينكر ويقول: ما استأجرت الحمار ولم يجب علي شيء بركوبه فيكون القول قوله مع يمينه، فأما إذا أقاما جميعاً البينة إن وقع الاختلاف في المعقود عليه وهي المنفعة، فإن اختلفا قبل الركوب فالبينة بينة المستأجر وذلك، لأن المستأجر ببينته يثبت استحقاق منفعة البغل لنفسه والمكاري يثبت استحقاق منفعة الحمار لغيره، فكان المستأجر أثبته بالمدعين فكانت بينته أولى بالقبول وكان كالبائع والمشتري إذا اختلفا في المعقود عليه وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة المشتري؛ لأنه يثبت لنفسه والبائع لغيره وإن وقع الاختلاف بينهما في الأجر بأن اختلفا بعد الركوب فالبينة بينة المكاري أولى بالقبول.(7/555)
وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة إلى فارس وسمى مدينة معلومة فالإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم، والأجر معلوم فإن اختلفا في النقد فقال لمستأجر: أعطيتك نقد فارس؛ لأن الوجوب كان بفارس أنقص، وقال المكاري: لا بل عليك نقد كوفة؛ لأن العقد بالكوفة ونقد الكوفة أزيد كان عليه نقد المكان الذي فيه العقد لا نقد المكان الذي حصل فيه الوجوب وذلك؛ لأن الوجوب تبع للعقد؛ لأنه حكم من أحكام العقد والأحكام تابعة لأسبابها، وإذا كان الوجوب تبعاً للعقد كان العقد أصلاً فكان إيجاب مكان العقد وإنه أصل أولى من إيجاب نقد مكان الوجوب، وكان هذا بمنزلة ما لو اشتري عبداً بألف درهم إلى ستين ثم تغير النقد فما كان وقت العقد فإنه يجب نقد ما كان وقت العقد لا نقد ما كان وقت المطالبة لأن المطالبة تبع للعقد لأنه يوجب بسبب العقد فكان اعتبار مكان وقت العقد وإنه أصل أولي من اعتبار مكان وقت المطالبة وإنه تبع فكذلك هذا.
وإذا استأجر الرجل دابة إلى الحيرة فقال رب الدابة: هذه الدابة دونك فاركبها فلما كان يقدر ما يرجع من الحيرة اختلفا فقال المستكري: لم أذهب بها إلى الحيرة فلا أجر علي وقال صاحب الدابة: لا بل ذهبت بها إلى الحيرة ولي عليك الأجر فهذا على وجهين: إما إن يعلم خروجه إلى الحيرة أو لم يعلم خروجه، فإن لم يعلم خروجه وتوجهه إلى الحيرة فالقول قول المستأجر؛ لأنه متى لم يعلم خروجه فحاصل اختلافهما وقع في التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد صاحب الدابة يدعى تسليمها في المكان الذي أضيف العقد إليه والمستأجر ينكر فيكون القول قول المستأجر، وإن علم خروجه إلى الحيرة فالقول قول صاحب الدابة؛ لأنه متى علم خروجه إلى الحيرة فقد ثبت التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد حاصل اختلافهما بعد ذلك إنما وقع في انقطاع التسليم.
المستأجر يدعي انقطاع التسليم بعدما وجد، وصاحب الدابة ينكر فيكون القول قوله، وكان المستأجر الدار إذا ادعى أنه غصب الدابة منه بعد ما سلم للدار إليه وصاحب الدار ينكر وهناك القول قول صاحب الدار إذا لم يكن في الدار غاصب وقت المنازعة فكذلك هذا.
نوع آخر
إذا وقع الاختلاف بين المستأجر وصاحب الرحى فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار مدة الانقطاع بأن قال صاحب الرحى: انقطع خمسة أيام وقال المستأجر: انقطع عشرة أيام أو يختلفا في أصل الانقطاع بأن قال المستأجر: انقطع الماء عشرة أيام وقال صاحب الرحى: لم ينقطع.
فإن اختلفا في مقدار مدة الانقطاع بعدما اتفقا على الانقطاع فالقول قول المستأجر مع يمينه لوجوه ثلاثة:
الأول: وهو أن صاحب الرحى مع المستأجر اتفقا على زوال التسليم بعد ما كان ثابتاً حين اتفقا على انقطاع الماء لأن انقطاع الماء يوجب زوال التسليم ولهذا سقط الأجر(7/556)
بقدره فصاحب الرحى بعد ذلك يدعي تسليماً مبتدأ بعود الماء بعد خمسة أيام والمستأجر ينكر فيكون القول قوله، كما لو لم يكن التسليم ثابتاً ادعى صاحب الرحى التسليم والمستأجر ينكر فيكون القول قوله فكذلك هذا.
والثاني: أن صاحب الرحى يدعي على المستأجر زيادة أجر والمستأجر ينكر فكان القول قول المستأجر مع يمينه.
والثالث: أن العقد انفسخ في مدة خمسة أيام باتفاقهما؛ لأن انقطاع الماء يوجب انفساخ العقد ولهذا يسقط الأجر بقدره فصاحب الرحى بعد مضي خمسة أيام يدعي عود العقد والمستأجر ينكر، فعلى العبارات الثلاث القول قول المستأجر مع يمينه.
فأما إذا اختلفا في أصل الانقطاع فإنه يُحَكَّم الحال إن كان الماء جارياً وقت الخصومة فالقول قول صاحب الرحى مع يمينه؛ لأن ظاهر الحال يشهد له؛ لأن الماء كان جارياً في الابتداء ووقت الخصومة جاري فالظاهر أنه لم ينقطع فيما بين ذلك، فمن ادعى الانقطاع فقد ادعى خلاف الظاهر فكان مدعياً والآخر منكراً، وإن كان الماء منقطعاً وقت الخصومة فالقول قول المستأجر؛ لأن الظاهر يشهد للمستأجر؛ لأن الانقطاع للحال يدل على انقطاعه فيما مضى من حيث الظاهر فيجعل القول قول المستأجر.
وإذا استأجر الرجل رحى ماء فأنكر أحد الحجرين أو الدوارة فهذا عذر وله أن يفسخ الإجارة لما ذكرنا من قبل، وكذلك إذا انكسر البيت فإن اختلفا فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مدة الانكسار بعد ما اتفقا على الانكسار، أو يختلفا في أصل الانكسار والجواب فيه كالجواب فيما إذا اختلفا في قدر مدة الانقطاع وفي أصل الانقطاع.
وإذا تكارى رجل من غيره إبلاً مسماة من الكوفة إلى مكة ثم اختلفا في الخروج فقال أحدهما: أخرج لعشرة ذي القعدة وقال الآجر: لا بل يخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة، فإنه يؤخذ بقول من يقول أخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة وذلك لأن ما يقوله هذا أقرب إلى المعروف المعتاد فيما بينهم؛ لأن المعروف المعتاد فيما بينهم أنهم كانوا يخرجون بعد عشر يمضين من ذي القعدة؛ لأنهم كانوا لا يخافون فوات الحج ولا يلحقهم تعب السرعة في السير بطي المراحل؛ لأن من الكوفة إلى مكة سبعة وعشرين مرحلة فيحتاج إلى سبعة وعشرين يوماً، وقد بقي من ذي القعدة عشرين إن كُمِلَّ الشهر وإن أنقص تبقى تسعة عشر فيحتاج إلى سبعة أو إلى ثمانية من عشر ذي الحجة فيكونون يوم التروية بمكة لا محالة، وإذا كان الوقت المعروف للخروج فيما بينهم بعد عشر يمضين من ذي القعدة، فمن قال: أخرج بعد عشر يمضين كان ما يقول أقرب إلى المعروف المعتاد مما يقوله الآخر؛ لأنه يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة، والآخر يدعي التقدم بعشرة، فكان الأخذ بقوله أولى إذ ليس في الأخذ بقوله فوات الحج ولا تعب السرعة بطي المراحل وهذا بخلاف ما لو قال أحدهما: أخرج بعد النصف من ذي القعدة وقال الآخر: بل أخرج بعد خمس يمضين، فإنه لا يؤخذ بقول واحد منهما ويؤخد بالوقت المعتاد وذلك؛ لأن ما يقوله كل واحد منهما في المقارنة في الوقت المعتاد وفي المخالفة(7/557)
على السواء (45ب4) لأن أحدهما يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة والآخر يدعي التأخر عن الوقت المعتاد بخمسة فلم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر فتساقط القولان للتعارض فوجب الأخذ بالوقت المعتاد وذلك بعد عشر يمضين بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك أمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر من الوجه الذي ذكرنا وهذا كله إذا لم يتفقا على شيء، فأما إذا اتفقا على وقت فإنه يجب الأخذ بذلك، وإن كان ما اتفقا عليه خلاف المعروف المعتاد؛ لأنه لا عبرة للعرف متى جاء
الشرط بخلافه، كما في نقد البلد في البياعات لا عبرة بها متى جاء الشرط بخلافه فكذلك هذا.
نوع آخر
الأصل في هذا النوع أن التنازع متى وقع بين اثنين لم يصر قول أحدهما حجة على الآخر وهذا ظاهر.
والثاني: أن القضاء بالبينة على الغائب وللغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر إما حكمي أو قصدي لا يجوز، والقضاء للغائب بإقرار الحاضر جائز.
والثالث: لأن البينة متى قامت لحفظ مال الغائب ودفع الهلاك والفساد عن ماله فالقاضي بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل؛ لأنها قامت على إثبات حق الغائب من وجه ليس عنه خصم حاضر إلا أن فيه وقع الفساد والهلاك عن أموال من كان عاجزاً عن الحفظ بنفسه، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فإن شاء مال إلى هذا الجانب وإن شاء مال إلى ذلك الجانب.
قال: رجلان استأجرا دابة من الري إلى الكوفة بأجر مسمى، فلما ذهبا إلى الكوفة اختصما عند القاضي فقال أحدهما: اكتريناها من فلان إلى الكوفة ذاهباً وجائياً وقال الآخر: اكتريناها من فلان إلى مكة ذاهباً وجائياً ولا بينة لواحد منهما فإن القاضي يقضي بالدابة ملكاً للمقر له الغائب؛ لأنهما أقرا أنها مملوكة للغائب والدابة في أيديهما وإقرار صاحب اليد بما في يده للغائب صحيح فصّح القضاء به للغائب ولا يقضي فيها بالإجارة؛ لأنهما يدعيان الإجارة فيها على الغائب والقضاء على الغائب بالبينة لا يجوز، فكيف بمجرد دعواهما، ويمنع القاضي كل واحد منها من الذهاب إلى الموضع الذي يدعي؛ لأن كل واحد منهما ينازع الآخر، وقد بينا أن قول كل واحد من المنازعين ليس بحجة على صاحبه، فإن اجتمعا على شيء تركهما القاضي وما اجتمعا عليه؛ لأن الدابة في أيديهما وقولهما فيما لا منازع لهما حجة وليس للقاضي إنشاء الخصومة للغائب فيدعهما وما اجتمعا عليه، كرجل في يده مال وهو يقول:
وهبه لي فلان أو قال: دفع إلي فلان أو دفعه إلي فلان أجر، فالقاضي لا يتعرض له لما قلنا كذا ها هنا.
فإن طلبا من القاضي أن يأمرهما بالنفقة عليها أو بيعها، فالقاضي لا يأمرهما بذلك؛ لأن القاضي إنما يجوز له الأمر بالإنفاق على الدابة والأمر بالبيع نظراً للغائب وإنما يكون نظراً للغائب إن كانا أمينين في الدابة بحيث لو لم ينفقا وهلكت الدابة لا يكون عليها ضمان، وهذا محتمل يجوز أن يكونا ضامنين فلهذا لا يأمرهما القاضي بذلك قبل إقامة البينة، فإن أقام كل(7/558)
واحد منهما البينة على ما ادعاه من الكراء وركب البغال وقف القاضي الدابة في أيديهما؛ لأنهما أمنا أن صاحب الدابة رضي بأمانتهما ولا يأذن القاضي لواحد منهما في الركوب إلى الموضع الذي يدعي لما فيه من إزالة يد أحدهما وقد استويا فيه ولما فيه من الحكم على الغائب بالبينة ولكن يأمرهما أن ينفقا عليه على ما يرى أن رجاء قدوم صاحبها وإن لم يرج لا يأمرهما بالنفقة بل يأمرهما بالبيع؛ لأنه ثبت كونها أمانة للغائب في أيديهما، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فيأمرهما بما هو نظر للغائب، ففي الوجه الأول: الانفاق أنظر للغائب، وفي الوجه الثاني: البيع أنظر؛ لأنه إذا كان لا يرجو قدوم صاحبها لو أمرهما بالإنفاق ربما تأتي النفقة على قيمة الدابة فيأمرهما بالبيع احتياطاً، وإذا باعا الدابة بأمر القاضي وقف القاضي الثمن في أيديهما؛ لأنه كان يقف الدابة في أيديهما فيقف بدلها أيضاً في أيديهما، فإن كانا قد أنفقا عليها بأمر القاضي ويثبت ذلك عند القاضي، فالقاضي يعطيهما من الثمن مقدار ذلك؛ لأنه ثبت عند القاضي وجوب هذا القدر ديناً على الغائب؛ لأن أمر القاضي بالإنفاق وله ولاية كأمر الغائب بنفسه وثمن الدابة مال الغائب وأنه من جنس حقهما وكان للقاضي أن يعطيهما من ذلك مقدار دين الغائب.
وإن أقاما جميعاً البينة على أنهما أوفيا الكراء وطلبا من القاضي أن يقضي من الثمن بقية حقهما من الكراء لم يقبل القاضي ذلك؛ لأن هذا دين لم يثبت عند القاضي بما أقاما من البينة لأنهما أقاما البينة؛ على إثبات دين على الغائب وليس عنه خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فصار وجودها وعدمها بمنزلة.
فإن أقاما البينة على موت صاحب الدابة قبل القاضي ذلك ولقي في بقية حقهما فيما عجلا من الأجرة ويأخذ منهما ما بقي من الثمن ويضعه في يدي ثقة حتى يحضر ورثة الميت.
فرق بين هذا وبينما إذا أقاما البينة على إيفاء الكراء حال حياة الآجر حيث لا يقبل القاضي ذلك، والفرق بينهما أن بعد موت الغائب بينتهما قامت على خصم حاضر وهو القاضي فإن للقاضي بعد موت الغائب ولاية نصب الوصي للميت إذا لم يكن للميت وصي ولا وارث حاضر وما لم ينصب الوصي فالقاضي بمنزلة الوصي للميت، فقامت البينة على خصم حاضر فثبت ما أعطى من فضل الكراء فأما قبل وفاته فليس للقاضي ولاية نصب خصم عن الغائب؛ لأنه يمكن للمدعي الخصومة مع الحي في الجملة فكانت البينة في حق إعطاء فصل الكراء فإنه على غير خصم فلا تقبل وإنما يأخذ القاضي ما بقي من الثمن منهما ويضعه في يدي العدل؛ لأنه يثبت بهذه البينة أن المال صار للوارث ولم يثبت الرضا من الوارث بأمانتهما بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك ثبت كون المال للغائب وقد ثبت أنه رضي بأمانتهما فلا يخرج القاضي العين ولا الثمن بعد البيع عن أيديهما وإن أحب القاضي في جميع هذه المسائل أن لا يتعرض بأمرهما ببيع ولا نفقة ويبيعه ذلك؛ لأن فيه قضاء على الغائب من وجه وفيه حفظ المال على الغائب من وجه أيضاً، فيميل إلى أيهما شاء.(7/559)
ولو اكتريا دابة من بغداد إلى الكوفة ذاهباً وجائياً فلما بلغا الكوفة بدا لأحدهما أن لا يرجع إلى بغداد كان ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه قصد ترك السفر إلى بغداد في الانتهاء فيكون ذلك عذراً كما لو ترك السفر في الابتداء فإن رفعا الأمر إلى القاضي في فسخ الإجارة وتصادقا على ذلك ولم يقيما بينة فالقاضي لا يعرض بشيء من ذلك لأن قولهما ليس بحجة على القاضي فإن أقاما البينة مع تصادقهما على ذلك فالقاضي لا يفسخ الإجارة لما في ذلك من القضاء على الغائب لكنه إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه على سبيل النظر؛ لأن الإجارة على الغائب من باب النظر فيفعله القاضي ذلك كما في اللقطة إذا كانت دابة فإذا فعل ذلك يضمن ذلك انفساخ الإجارة الأولى في حق صاحب العذر مقتضى صحة ما يفعله، ويجوز أن يثبت الشيء ضرورة وإن كان لا يثبت مقصوداً.
وفي الكتاب يقول: إن شاء القاضي يكري للدابة كلها من الذي يرجع إلى بغداد ومعناه أن القاضي يكري النصف الذي كان لصاحب العذر من الذي يريد الرجوع إلى بغداد، ويقرر الكراء في النصف الذي كان له، وإن شاء أكرى نصفها من آخر فتركناها جميعاً أو على سبيل الثاني كما كانا يفعلان مع الأول، وأشار في بعض روايات هذا الكتاب أنهما إذا تصادقا على ما ادعيا في هذه المسألة ولم يقيما بينة أن القاضي يتعرض إما إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه الذي يريد الرجعة إلى بغداد أو من رجل آخر على سبيل النظر، كما يفعل مثل هذا إذا أقاما البينة، وذكر في مسألة أول النوع أنهما إذا أجمعا على شيء فالقاضي يتركهما وما أجمعا عليه ولا يتعرض لهما، وليس في المسألة روايتان لكن ما ذكر في مسألة أول النوع (46آ4) جواب القياس.
وما ذكر هاهنا جواب الاستحسان وهذا لأن تصادقهما والدابة في أيديهما بمنزلة إقامة البينة، ولو أقاما البينة، القياس أن لا يتعرض لهما، وفي الاستحسان إن فعل كان أحسن وأفضل، وإذا كان فعل البينة على القياس والاستحسان فكذا فصل التصادق.
ثم لم يذكر في الكتاب أنه إذا لم يجد من يكتري ذلك النصف هل له أن يودع ذلك النصف من الذي يريد الرجوع إلى بغداد؟ وذكر في موضع آخر أنه إن شاء فعل ذلك فيكون النصف في يده بالوديعة والنصف بالإجارة فيركب يوماً وينزل يوماً وهذا الإطلاق على قولهما أما على قول أبي حنيفة إجارة النصف من رجل آخر لا يجوز لمكان البيوع
ابن سماعة عن محمد: رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره له بدرهم فقال القصار: هذا ثوبك وقد قصرته بدرهم كما أمرتني وقال دافع الثوب: ليس هذا ثوبي، وثوبي غير هذا فالقول قول القصار أن هذا ثوبه ولا يضمن بقول الدافع، والقول قول دافع الثوب فيما ادعى عليه القصار من الأجر ولا أجر للقصار، أما القول قول القابض في تعيين المقبوض ولا أجر للقصار؛ لأن الأجر إنما يستحق بإقامة العمل في المحل المأذون فيه وقد اختلفا فيه، وإن قال رب الثوب هذا ثوبي ولم آمرك أن تقصره والذي دفعت إليك ليقصر غير هذا فإنه يأخذ هذا الثوب ولا أجر عليه قال: ولو كان هذا في القطع والخياطة لم يأخذه ولكنه يضمن الخياط قيمته ويتركه على الخياط إن شاء ولم يثبت مثل هذا الخيار(7/560)
في فصل القصار؛ لأن الخياط وجد منه نوع استهلاك والقصار لم يوجد منه الاستهلاك أصلاً.
هشام قال: سألت محمد عن رجل دفع إلى قصار ثوباً فقصره له بدرهم فأعطاه القصار ثوباً وقال: هذا ثوبك وقال رب الثوب: ويراه عوضاً عن ثوبه قال: لا يسعه لبسه أو قال: بيعه إلا أن يقول رب الثوب للقصار: أخذته عوضاً عن ثوبي فيقول القصار: نعم؛ لأن عند ذلك ينعقد بينهما مبادلة ويصير هذا الثوب ملكاً للدافع بالمبادلة.
هشام قال: سألت محمداً رحمه الله عن القصار ومن بمعناه إذا دفع إليهم الشيء بأجر إذا ادعى وذلك الشيء على الدافع لا يصدق عليه إلا ببينة، وكذلك الأجير المشترك في رعي البقر والغنم وهذا الجواب مستقيم على قول محمد ومن يرى أن يد أجير المشترك يد ضمان، أما من يرى أن يده يد أمانة وهو أبو حنيفة رحمه الله يقول: يقبل قوله في الرد كالمودع وكذلك إن ادعى الموت كان كما إذا ادعى الرد قال: ولو تكاراه على أن يحمل له مملوكاً، فادعى أنه مات صدق بلا بينة وليس ولد آدم كالبهائم.
ابن سماعة عن محمد: في رجل أجر رجلاً داراً بعشرة دراهم فاستحقها رجل ببينة قامت له على الدار وقال: كنت دفعتها إلى الآجر وأمرته أن يؤجرها لي فالأجرة لي وقال الآجر: كنت غصبتها منه وأجرتها فالأجرة لي، فالقول قول رب الدار ويأخذ الأجر؛ لأن الظاهر شاهد لرب الدار فإن الظاهر أن الإنسان يتصرف في ملك الغير لذلك الغير وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لم تقبل بينته؛ لأن بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال، وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغصب قبلت بينته وكانت الأجرة له؛ لأنه البينة لا تبطل حق المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب ثم إذا ثبت الغصب ترتب عليه حكم الآجر.
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن هذه المسألة في الدابة برواية هشام عن محمد رحمه الله، وذكر الجواب فيها على نحو ما ذكرنا في مسألة الدار.
ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء ثم أجرها بسببه فقال رب الأرض أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية وعلى البناء فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض وما أصاب البناء في يده.
إبراهيم وهشام عن محمد رحمه الله: في رجل في يديه أرض زرعها فقال رب الأرض: أمرتك أن تزرع فزرعت بأمري، وقال المزارع: غصبتها وزرعتها لنفسي فالقول قول الزارع يأخذ منه قدر بذره ونفقته ويتصدق بالفضل وهذا؛ لأن الزارع زرعه ببذر كان في يده والزرع نما ذلك البذر فالظاهر كما يشهد له في البذر يشهد له في نمائه فيقبل قوله فيه.
وفي «فتاوى الفضلي» : فيمن استأجر ضياعاً بعضها مزروعة، وبعضها فارغة قال: يجوز في الفارغة دون المشغولة، وإذا اختلفا فالقول للمؤاجر بخلاف البيع، فإن هناك القول لمن يدعي الصحة، لأن هناك اتفقا على أصل العقد واختلفا في وصف الصحة،(7/561)
أما ها هنا المؤاجر ينكر العقد أصلاً.
قال القاضي: الإمام ركن الإسلام علي السغدي: ينبغي أن يُحَكِّم الحال إن كانت فارغة فالقول للآجر وإن لم يكن فللمستأجر.
وفي الدعوى من الفتاوي: أرسل صاحب الكرابيس إلى قصار رسولاً ليسترد ثيابه الأربع، فلما أتى به فإذا هو ثلاثة قال القصار: دفعت إليه أربعة، وقال الرسول: دفع إلي ولم يعده قال: يسأل صاحب الثياب فأيهما صدقه منهما برئ عن خصومته وأيهما كذبه يحلفه، فإن حلف برئ وإن أبى لزمه ما ادعاه فإن صدق القصار وجب عليه أجر الثوب الرابع وإن كذبه وحلف القصار، فللقصار على صاحب الثوب اليمين على الآجر، فإن حلف برئ عن الأجر بحصة الثوب الرابع.
قاله أبو بكر: استأجر من آخر دابة، وذهب إلى سمرقند فجاء آخر وادعاها لنفسه ولم يصدقه أنه مستأجر واستحق عليه هل للآجر أن يرجع على بائعه؟ قيل لا أشار إليه في الباب الثاني من الزيادات فإنه قال: جاريته في يد عبد الله فقال إبراهيم لمحمد: هذه الجارية بعتها منك وسلمتها إليك وقد غصبها منك عبد الله وصدقه محمد، فلإبراهيم أن يأخذ الثمن من محمد، ولو استحق إنسان الجارية بالبينة من يد عبد الله ليس لمحمد أن يرجع على إبراهيم؛ لأن في زعم البائع وهو إبراهيم والمشتري وهو محمد أن عبد الله غاصب والغاصب لا ينتصب خصماً في إثبات الاستحقاق عليه، فلم يثبت الاستحقاق في حقهما فلا يرجع عليه، فإن كان المدعي للدابة فعلاً على الذي في يديه الدابة بأن قال: هذه الدابة ملكي غصبتها مني ينتصب هو خصماً ويسمع عليه البينة ويكون للآجر حق الرجوع على بائعه إذا ادعى على آجر أني استأجرت هذه الدابة التي في يدك من فلان بتاريخ كذا قبل أن تستأجرها أنت هل ينتصب صاحب اليد خصماً للمدعي في حق إثبات الإجارة عليه؟ حتى لو أقام بينة على الإجارة هل تسمع بينته؟ فهذا على وجهين:
إن ادعى المدعي على صاحب اليد فعلاً بأن قال: استأجرت هذه الدار من فلان وقبضتها فأخذتها مني بغير حق أو غصبتها مني تسمع بينته، وأما إذا قال: استأجرت من فلان قبل أن تستأجر أنت وقد سلم إليك ولم يدع عليه فعلاً لا تسمع بينته؛ لأن المستأجر لا ينتصب خصماً لا في إثبات الكل المطلق ولا في إثبات الإجارة عليه إلا بدعوى الفعل عليه، ويشترط دعوى فعل موجب للرد لا دعوى الفعل المطلق.
ألا ترى أنه لو قال المدعي: هذه الدار ملكي اشتريته من الذي أجرها منك لا ينتصب هو خصماً للمدعي وهو نظير مسألة الوديعة إذا ادعى رجل الوديعة وادعى أنه اشتراها من المودع لا ينتصب المودع خصماً له بخلاف ما إذا ادعى الوراثة وقد ذكرنا قبل هذا في مثل هذه المسألة أن المستأجر ينتصب خصماً لمن يدعي الاستئجار قبله على قول الشيخ الإمام الزاهد علي (46ب4) البزدوي، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي من غير تفصيل ولا ينتصب خصماً على ما ذكره شيخ الإسلام من غير تفصيل. والله أعلم.(7/562)
الفصل السادس والعشرون: في استئجار الدواب
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا تكارى الرجل من رجل إبلاً مسماة بغير أعيانها من الكوفة إلى مكة فالإجارة جائزة.
قال الشيخ الإمام الزاهد خواهرزاده رحمه الله: ليس تفسير المسألة أنه استأجر إبلاً بغير أعيانها؛ لأن استئجار إبل بغير أعيانها لا يجوز؛ لجهالة المعقود عليه. ألا ترى أنه لو استأجر عبداً للخدمة لا بعينه لا يجوز وإنما لا يجوز لمكان جهالة المعقود عليه. وإنما تفسير المسألة أن يقبل المكاري الحمل، فيقول له المستكري: احملني إلى مكة بكذا على إبل فيكون المعقود عليه الحمل في ذمة المكاري وإنه معلوم، والإبل آلة الحمل. وجهالة الآلة لا توجب فساد الإجارة، كما في الخياط والقصار وما أشبه ذلك. قال الصدر الشهيد رحمه الله: ونحن نفتي بالجواز كما ذكر في الكتاب، وتفسير ذلك ما قلنا وخيار ذلك معتاد، حتى لو لم يكن كذلك لا يجوز.
وفي «الفتاوى» : إذا تكارى دابة إلى موضع معلوم بأربعة دارهم على أن يرجع في يومه فلم يرجع إلى خمسة أيام، قال يجب درهمان أجرة الذهاب؛ لأنه مخالف في الرجوع. [
إذا استأجر بعيراً إلى مكة، فهذا على الذهاب دون المجيء، وفي العارية على الذهاب والمجيء؛ لأن في الإجارة مؤنة الرد على المؤاجر، وفي العارية مؤنة الرد على المستعير.
وفي «الأصل» : رجل تكارى دابتين من رجل صفقة واحدة على أن يحمل عليهما عشرين مختوماً، فحمل على كل واحد منهما عشرة مخاتيم قال: يقسم الأجر على أجر شك كل دابة منهما، ولا ينظر إلى ما حمل عليهما؛ لأن أجر الدابة على قدر سيرها وقوتها وسرعتها وإبطائها وإذا اتكارى قوم مشاة إبلاً على أن المكاري يحمل عليه من مرض منهم، أو من أعيا منهم فهذا فاسد؛ لأن الراكب مجهول.
في «الأصل» أيضاً: ولو شرطوا عليه عينه الأجير وتفسيرها: أن يركب واحد منهم ثم ينزل ثم يركب الآجر ثم ينزل، فذلك جائز؛ لأن الراكب معلوم. وإذا أجر الرجل دابة إلى الجبانة أو إلى الجنازة، فهذا لا يجوز. قالوا: إنما لا يجوز إلى الجبانة في بلدة لا مثلها جبانتان، أحديهما: بعيدة والأخرى قريبة. كما كان في بلاد محمد رحمه الله جبانتان أحدهما قريبة والأخرى بعيدة، ولا يدري إلى أيتهما أجر أما إذا كانت جبانة(7/563)
واحدة يجوز وتقع الإجارة على أول حدود من تلك الجباية كما لو استأجر دابة من محلة إلى محلة وفي الجنازة إنما لا يجوز إذا كان المصلى اثنين أو ثلاثة، ولا يدري إلى أيهم أجر أما إذا كان المصلى واحداً أو أكثر إلا أنه يعلم أنه إلى أيهم أجر يجوز.
وإذا استأجر دابة لسبع عليها رجلاً، أو لتلقى عليها رجلاً، لا يجوز لأن المعقود عليه في الدابة إنما يصير معلوماً إما ببيان مدة معلومة إذا كان الركوب مستغرقاً جميع المدة، أو بتسمية مكان معلوم، ولم يوجد واحد منهما. أما المدة فظاهر، وأما المكان فلأنه لم يذكر أنه إلى مكان يسعه وفي أي مكان يتلقاه فيبقى المعقود عليه مجهولاً. وهذه جهالة توقعهما في المنازعة، فلهذا لا يجوز.
ومن هذا الجنس إذا استأجر دابة من رجل كل شهر بعشرة، على أنه متى بدأ به من ليل أو نهار حاجة ركبها، فإن كان سمي بالكوفة ناحية من نواحيها فهو جائز، وإن لم يسم مكاناً لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً ببيان المدة إذا لم يكن الركوب مستغرقاً جميع المدة وإنما يصير معلوماً ببيان المكان، فأما إذا استأجر يوماً ليقضي بها حوائجه في المصر فهو جائز وإن لم يبين مكاناً، لأن الركوب هاهنا مستغرق جميع المدة فهو بمنزلة ما لو استأجر رجلاً يوماً للخدمة أو للخياطة وذلك جائز.
وإذا تكارى الرجل دابة من رجل على أن يركب مع فلان تسعه إلى مكان معلوم حتى جازت الإجارة، فحبسها من الغد إلى انتصاف النهار، ثم بدا للرجل أن لا يخرج فرد الدابة عند الظهر، فلا أجر لعدم تمكنه من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وهل يضمن بهذا الحبس؟ إن حبسها قدر ما يحبس الناس لانتظار خروج ذلك الرجل لا يضمن، وإن كان أكثر من ذلك يضمن؛ لأن المالك لم يأذن بحبس لا يستوجب الأجر به، لكن قدر ما يحبس الناس لخروج ذلك يحتاج إليه فصار ذلك مستثنى عرفاً وبقي ما ورائه على أصل القياس.
وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة ليركبها إلى مكة أو إلى مصر آخر كان له أن يبلغ بها منزله سواء استأجرها للركوب أو للحمل وهذا استحسان. والقياس أن يقال: كما انتهى إلى أول حدود تلك البلدة تنتهي الإجارة.
وجه القياس: أن الإجارة وقعت إلى الكوفة لا إلى منزله، فإذا انتهى إلى أول حدود الكوفة، وجب أن تنتهي الإجارة كما لو استأجر في المصر من محلة إلى محلة، ونزل المستأجر في المحلة المشروط إليها، فإنه تنتهي الإجارة إذا انتهى أول تلك المحلة، ولا يبلغ بها منزله كذا هاهنا.
وجه الاستحسان: أن العرف الظاهر فيما بين الناس، أن من استأجر دابة إلى مصر أو قرية إنه يبلغ بها منزله، وكذلك في الأحمال العرف فيما بين الناس أنهم يبلغون حمولاتهم إلى منازلهم وحوانيتهم والعرف كالمشروط، هذا العرف معدوم في المحلة، والمعنى في ذلك أنه ربما تكون المسافة من المحلة المشروطة إليها إلى منزل المستأجر(7/564)
المضاف ما يكون فيما بين المحلتين ويفتح أن يستأجر الرجل دابة إلى موضع ويدخل في الإجارة أضعاف ما ورد عليه الإجارة، أو نقول: هذا العرف فيما بين الناس إذا كانت الزيادة على المكان المشروط دونه أما لا عرف فيما إذا كانت الزيادة فوقه أو مثله، فترد هذه الزيادة إلى ما يقتضيه القياس.
وإذا استأجر دابة للحمل فله أن يركبها، وإذا استأجرها للركوب لم يكن له أن يحمل عليها، وإذا حمل عليها لا يستحق الأجر والفرق أن اسم الحمل يقع على الركوب، يقال حمل فلان فلاناً على دابته إذا ركبه، وإذا كان اسم الحمل يقع على الركوب دخل الركوب تحت اسم الحمل، أما اسم الركوب لا يقع على الحمل، ولهذا لا يقال: فلان ركب دابته إذا حمل عليها، وإنما يقال حمل فلا يدخل الحمل تحت اسم الركوب.
وفي «البقالي» : إذا استأجر دابة لحمل، فحمل عليها رجلاً لا يضمن؛ لأنه أخف. وإذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم، فالإجارة جائزة إذا سمى ما يطحن؛ لأنه إذا سمى ما يطحن، فالإجارة وقعت على عمل معلوم، إلا أنه لم يبين مقدار العمل، وبيان مقدار العمل بعد بيان جنس العمل ليس بشرط، ولأن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة ويطيق، وما يطحن مثلها قدراً فى العرف، وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها الحنطة، ولم يبين مقدار ما يحمل، فإنه يجوز على ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل كذا هاهنا.
وإذا تكارى دابة من رجل إلى بغداد على أن يعطيه الأجر إذا رجع من بغداد، فمات المستأجر ببغداد ولم يرجع منها، كان للمكاري أن يأخذ أجر الذهاب من تركته لأن أجر الذهاب قد وجب بالذهاب إلى بغداد، إلا أن المكاري كان لا يطالبه بذلك قبل الرجوع؛ لأنه ضرب لذلك أجلاً وهو قدر رجوعه من بغداد، فإذا مات فقد حل الأجل فكان له المطالبة بذلك، كما في سائر الديون المؤجلة إذا مات من عليه قبل حلول الأجل والله أعلم.
الفصل السابع والعشرون: في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والضياع والتلف وغير ذلك
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر حماراً بسرج، فنزع ذلك السرج وأسرجه بسرج مثل الحمر، فلا ضمان عليه. الأصل فيما تذكر من جنس هذه(7/565)
المسألة: أن المستأجر إذا خالف فيما شرطه من الحمل على الدابة ينظر إن كان الجنس واحداً وضرر الثاني أقل من ضرر (47آ4) المشروط أو مثله، فلا ضمان؛ لأن الجنس إذا كان واحداً وقد استوى الضرران، أو كان ضرر أقل لم يوجد الخلاف إلا من حيث الصورة والخلاف من حيث الصورة، لا يكفي لوجوب الضمان، وإن كان ضرر الثاني أكثر من ضرر المشروط يجب الضمان بقدر الزيادة؛ لأنه في الزيادة خالف صورة ومعنى، وإن كان الجنس مختلفاً يجب ضمان كل الدابة، ولا يعتبر فيه قلة الضرر ولا كثرته؛ لأن هذا خلاف صورة ومعنى، لأن هذا الجنس له يدخل تحت العقد أصلاً، وصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله.
بيان هذا الأصل في تخريج المسائل: إذا استأجر دابة ليحمل عليها حنطة بكيل معلوم إلى مكان معلوم فحمل عليها شعيراً بمثل ذلك الكيل إلى ذلك المكان، وهلكت الدابة لا يضمن؛ لأن الشعير بمثل ذلك الكيل من الحنطة يكون أخف على الدابة من الحنطة، فهذا خلاف صورة لا معنى. وإن كان الشعير بمثل قدر الحنطة، وباقي المسألة بحاله يضمن؛ لأن الشعير بوزن الحنطة يكون أكثر كيلاً من الحنطة، فيأخذ من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فيكون هذا خلافاً صورة ومعنى.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب «العارية» إذا استعار دابة عليها كذا مناً من الحنطة، فحمل عليها مثل ذلك الوزن من الشعير والسمسم والأرز إنه يضمن قيمتها. وذكر شيخ الإسلام * رحمه الله * في شرحه: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فكان داخلاً تحت الإذن، وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله.
ولو استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها خمسة أقفزة حنطة ضمن قيمتها، وقيل: فيه روايتان. وإذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً بكيل معلوم، فحمل عليها حنطة بمثل ذلك الكيل ضمن قيمتها؛ لأن الحنطة بمثل كيل الشعير يكون أثقل على الدابة من الشعير، فيكون ضررها أكثر، فكان خلافاً صورة ومعنى وإن كان بمثل وزن الشعير لا يضمن فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها أحد عشر قفيزاً من شعير، حيث يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمتها إذا كانت الدابة مما يقوى على حمل أحد عشر قفيزاً، وفيما إذا حمل عليها حنطة بمثل كيل الشعير. قال: يضمن جميع قيمتها؛ لأن هناك المحمول عليه من جنس المسمى، فإنما هلكت الدابة بنقل أحد عشر قفيزاً وعشرة منها مأذون فيها والحادي عشر ليس بمأذون فيه، فيضمن بذلك المقدار، أما ههنا بخلافه.
وإذا استأجرها ليحمل عليها حنطة أو شعيراً بوزن معلوم، فحمل عليها لبناً أو رملاً أو حديداً، بمثل وزن الحنطة أو الشعير، ضمن؛ لأن الحنطة أو الشعير ينبسط على ظهر الدابة، والحديد والرمل واللبن يجتمع في مكان واحد، فيكون أدق بظهر الدابة، فيكون(7/566)
(خلافاً) صورة ومعنى، وكذلك إذا حمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً بمثل ذلك وزناً، ضمن لأن اللبن والحطب والقطن يأخذ من ظهر الدابة من غير موضع الحمل، فيكون أشق على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى.
ولو استأجر ليحمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً أو رملاً أو حديداً أو لبناً فحمل عليها حنطة أو شعيراً بمثل وزن هذه الأشياء لا يضمن؛ لأن ضرر الحنطة والشعير دون ضرر هذه الأشياء لأنهما لا يأخذان من ظهر الدابة شيئاً من غير موضع الحمل في موضع الحمل ينبسطان، فيكون حمله أيسر على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى.
نوع آخر
وإذا استأجر من آجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً، فعطبت الدابة من ذلك بعدما بلغت المكان المشروط، فعليه الأجر كاملاً ويضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة، أما عليه الأجر كاملاً؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر، فكان عليه الأجر كملاً كما لو استأجر داراً ليسكن فيها ما سكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم ينهدم شيء من الدار من عمله، فإن عليه الأجر كذا ههنا، وإنما قلنا استوفى المعقود عليه وزيادة؛ لأن المعقود عليه حمل عشرة مخاتيم حنطة، وقد استوفى ذلك وزيادة حيث حمل أحد عشر مختوماً، والزيادة لا تمنع استيفاء المعقود عليه كما لو حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، وركب دابة أخرى للآجر، وكما لو استأجر داراً ليسكن فيها فسكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم يملك شيئاً من المستأجر، وإن ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمته، والمضمون يصير ملكاً للضامن بأداء الضمان؛ لأن الجزء المضمون ليس بمستأجر؛ لأن المستأجر عنده من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة لأنه قدر المعقود عليه بالحمل لا بالمدة، فيصير المستحق له من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة، كما في الأجير المشترك المستحق عليه قدر ما يسمي من العمل؛ لأن المعقود عليه مقدر بالعمل قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة مستأجراً، وما زاد على ذلك غير مستأجر، وحكم المستأجر يخالف حكم غير المستأجر، فيجعل كل بعض من حيث الحكم بمنزلة دابة على حدة، كما في باب الرهن: إذا كان بعض الرهن مضموناً، وبعضه أمانة يعتبر كل بعض في حق الجناية عليه بمنزلة عبد على حدة؛ لأن حكم الأمانة يخالف حكم المضمون، كذا هاهنا.
وإذا كان كل بعض بمنزلة دابة على حدة من حيث الحكم جعل كأنه كان عنده دابتان، أحدهما مستأجرة، والأخرى غير مستأجرة، وقد حمل على المستأجر عشرة مخاتيم حنطة وعلى غير المستأجرة مختوماً، وهناك لا يصير شيئاً من المستأجر مضموناً مملوكاً للمستأجر كذا ههنا، فهو معنى قولنا: الجزء المضمون ليس بمملوك للمستأجر، والتقريب ما ذكرنا وأما يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة لأن الدابة بلغت بسبب الثقل وثقل العشرة من ذلك مأذون فيه، وثقل الحادي عشر غير مأذون فيه قالوا: تأويل المسألة من وجهين:(7/567)
أحدهما: إذا كانت الدابة تطيق حمل ما زاد، وكانت تسير مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق، يضمن جميع قيمتها على قياس مسألة تأتي بعد هذا. والثاني: أن يحمل عليها أحد عشر مختوماً دفعة واحدة أما إذا حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة ثم حمل عليها مختوماً، وعطبت الدابة يضمن قيمتها بتمامها، إذا حمل الحادي عشر في المكان الذي حمل العشرة، أما إذا حمل في مكان براً ويجب يضمن بقدر الزيادة على قياس مسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجر ثوراً ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة، فطحن أحد عشر مختوماً وعطبت الدابة، أو استأجرها ليكري بها جريباً، فكريت جريباً ونصف جريب، وهلك الثور، فإنه يضمن جميع القيمة؛ لأن الطحن يكون شيئاً فشيئاً. فكلما طحن عشرة انتهى العقد، فبعد ذلك هو في طحن الحادي عشر مخالف من كل وجه، فيضمن جميع قيمتها، كما لو طحن عليها قفيزاً ابتداء فأما الحمل يكون دفعة واحدة، وبعض المجهول مأذون فيه، فلا يضمن بقدره.
قال: وإذا استأجر دابة ليركبها، فركب هو وحمل مع نفسه آخر، إن سلمت الدابة، فعليه الأجر كاملاً لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر؛ لأنه لا ضمان لما سلمت الدابة، ولو ثبت الملك ليست بالضمان، فإن هلكت الدابة من ركوبهما بعدما بلغا المكان المشروط، فعليه الأجر كملاً ويضمن نصف قيمة الدابة. وإنما ضمن نصف القيمة؛ لأن الدابة تلفت من ركوبهما، فيكون التالف بركوب كل واحد منهما النصف، وركوب أحدهما مأذون فيه وركوب الآخر ليس بمأذون فيه، فيعطي لكل ركوب حكم نفسه، ويكون للمالك في ذلك الخيار، فإن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الغير.
فإن ضمن المستأجر (47ب4) لا يرجع على ذلك الغير مستأجراً كان أو مستعيراً، وإن ضمن ذلك الغير رجع على المستأجر إن كان ذلك الغير مستأجراً أو إن كان مستعيراً لا يرجع عليه، ثم في حق الضمان يستوي أن يكون ذلك الغير أخف أو أثقل؛ لأن العبرة في باب الركوب للعدد؛ لأن التلف لا يحصل بالثقل؛ لأن رب بخف ركوبه يفسد الدابة، لقلة هدايته بأمر الركوب؛ لحركاته واضطرابه، ورب جسيم لا يفسدها، هداية بأمر الركوب لقلة حركاته واضطرابه على الدابة فسقط اعتبار الوزن في الراكب، وثبتت العبرة للعدد.
قالوا: وإنما يضمن نصف قيمة الدابة إذا كانت الدابة تطيق ركوب اثنين، أما إذا كانت لا تطيق ركوب اثنين يضمن جميع قيمة الدابة؛ لأن ركوبهما والحالة هذه، قيل: معنى إن كان ركوباً صورة، والعبرة للمعنى، وإنما كان على المستأجر الأجر كاملاً وإن ضمن نصف القيمة وصار نصف الدابة ملكاً له بالضمان، لأن القدر المضمون ليس بمستأجر، لأن المستأجر من هذه الدابة قدر ركوبه؛ لأن المعقود عليه متعذر بالعمل، فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً ومازاد على ذلك غير مستأجر، والتقريب ما ذكرنا.(7/568)
ثم إن محمداً رحمه الله أوجب في هذه المسألة نصف القيمة مطلقاً، وذكر في «الجامع الصغير» فيمن استأجر دابة إلى القادسية فأردف رجلاً خلفه، فعطبت الدابة ضمن بقدر الزيادة. وذكر في «الجامع الصغير» أيضاً بعد مسالة القادسية بكثير واعتبر فيها الحزر والظن.
وفي «القدوري» يقول: المستأجر يضمن النصف، سواء كان الثاني أخف أو أثقل. قال الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: وحاصل ذلك: أن يعتبر الحزر والظن، فإن أشكل يعتبر العدد، وإن حمل عليها مع نفسه صغيراً لا يمكنه استعمال الدابة، ولا تصريفها ضمن بحساب ما زاد، لأن الصغير إذا كان بهذه المثابة، فحمله وحمل شيئاً آخر سواء. وإن حمل عليها مع نفسه شيئاً آخر، وبلغت الدابة ضمن بقدر الزيادة تحرر القاضي الراكب ويزن ما حمل مع نفسه أو يرجع في ذلك إلى من له مهارة يعرف أن هذا الحمل كم يزيد على قدر ركوبه، كذا هاهنا.
ثم إذا ركب وحمل عليها مع نفسه حملاً يضمن بقدر ما زاد إذا ركب في غير مكان الحمل؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل لا يجتمعان في مكان واحد، فيبقى موافقاً في البعض مخالفاً في البعض، فيضمن بحساب ما خالف فأما إذا ركب على مكان الحمل يضمن جميع القيمة؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل يجتمعان في مكان واحد، فيكون أدق على الدابة. فعلى هذه المسألة نقول:
إذا استأجر دابة ليركبها، فركبها وحمل على عاتقه غيره، يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تطيق أن يركب عليها مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق ذلك يجب جميع الضمان في الأحوال كلها.
ولو استأجر ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان عليه حين استأجرها إن لبس من ذلك مثل ما يلبسه الناس، فلا ضمان، وإن لبس ما لا يلبسه الناس ضمن بحساب ما زاد؛ لأن في الفعل الأول ما زاد من الثياب داخل تحت الإجارة عرفاً، والمعروف كالمشروط.
وفي الفعل الثاني: ما زاد من الثياب ليس بداخل تحت الإجارة أصلاً لا عرفاً ولا شرطاً، فيضمن بحساب ذلك، كما لو حمل عليها شيئاً آخر. وإذا استأجر دابة ليركبها فلم يركبها بنفسه بل ركب غيره، ضمن قيمة الدابة؛ لأن ركوب غيره ليس بداخل تحت العقد لأن الناس يتفاوتون في الركوب.
وفي «الأصل» : إذا تكارى الرجل من غيره دابة يحمل عليها إنساناً بأجر معلوم، فحمل عليها امرأة ثقيلة، فعطبت الدابة، فإن كانت الدابة بحال تطيق حملها، فإنه لا ضمان؛ لأنه حمل عليها إنساناً كما سمى في العقد؛ لأن اسم الإنسان يقع على الرجل والمرأة وعليه الأجر استحساناً، لأنه استأجرها للركوب ولم يتبين الراكب فوقعت الإجارة فاسدة. فإذا ركب إنساناً انقلبت الإجارة جائزة استحساناً. وإن كانت الدابة بحال لا تطيق حملها يكون ضامناً، لأن الدابة إذا كانت لا تطيق حملها كان حملها عليه إتلافاً لا حملاً، والإتلاف لم يدخل تحت الإذن إذا استأجر دابة ليركبها، فحمل عليها صبياً صغيراً(7/569)
فعثرت الدابة من حمله فهو ضامن؛ لأنه خالف، لأن الصبي الذي لا يستمسك نفسه على الدابة ضمن نصف القيمة، فثبت أن وضع الصبي على الدابة حمل، وليس إركاب، والحمل مع الركوب جنسان مختلفان، فصار به غاصباً ضامناً.
وإذا استأجر حماراً بسرج، فأسرجه بسرج لا يسرج بمثله الحمر، فهو ضامن بقدر ما زاد باتفاق الروايات بالإجماع، لأنه موافق في البعض صورة ومعنى؛ لأنه أسرج كما شرط في العقد، إلا أن هذا السرج أثقل من الذي شرط في العقد، فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً. وإن كان السرج الثاني أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان؛ لأنه ليس بمخالف معنى وكذلك لو استأجره بإكاف، تنزع ذلك الإكاف وأوكفه بإكاف هو أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان، وإن أوكفه بإكاف هو أثقل ضمن بقدر الزيادة، وإذا استأجر حماراً بإكاف ليركبه، فنزع الإكاف وأسرجه، فلا ضمان ولأن السرج أخف على الدابة من الإكاف، فلم يكن هذا خلافاً معنى.
ولو استأجر حماراً بسرج فحمل عليه مكان السرج إكافا وركبه، فهو ضامن هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: هذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: هو ضامن بقدر ما زاد، وذكر في «الأصل» وقال: هو ضامن بقدر ما زاد ولم يذكر الخلاف، فمن مشايخنا من قال: لا اختلاف بين الروايتين عند أبي حنيفة، فإنه ذكر في «الجامع الصغير» أن قول أبي حنيفة هو ضامن ولم يذكر أنه ضامن جميع القيمة أو بقدر ما زاد، فصار ما ذكر في «الأصل» تفسيراً لما ذكر في «الجامع الصغير» . ومنهم من قال: في المسألة روايتان على قول أبي حنيفة على رواية «الأصل» يضمن بقدر ما زاد، هو قولهما. وعلى رواية «الجامع الصغير» يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تؤكف بمثل هذا الإكاف، أما إذا كانت دابة لا تؤكف أصلاً أو لا يؤكف بمثل هذا الإكاف؛ يضمن جميع القيمة في قولهم جميعاً.s
وكان الفقيه أبو بكر محمد رحمه الله يوفق بين الروايتين، ويقول: رواية «الجامع الصغير» محمولة على دابة تصلح للإكاف والسرج وبرواية «الأصل» محمولة على دابة لا تصلح للإكاف. ومن المشايخ من لم يوفق بين الروايتين من هذا الوجه، وذكر لكل رواية وجهاً. وجه ما ذكر في «الأصل» وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن المستأجر فيما يسع، موافق في البعض صورة ومعنى، ومخالف في البعض معنى؛ لأن الإكاف والسرج جنس واحد؛ لأن كل واحد منهما آلة الركوب، وكل واحد منهما متخذ من الخشب، إلا أن الإكاف أثقل من السرج، فكان بمنزلة ما لو حمل عليها سرجاً آخر أثقل من السرج المأمور به.
وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» وهو الأصح: أنه مخالف في الكل صورة ومعنى؛ أما صورة: فلأن الإكاف غير السرج صورة واسماً وهيئة. وأما معنى: فلأن الإكاف أثقل من السرج على الدابة، فكان مخالفاً صورة ومعنى؛ فيضمن جميع قيمة الدابة إذا هلكت(7/570)
من ذلك قياساً على ما إذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً، فحمل عليها بمثل ذلك الكيل حنطة.
ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه وركبه فهو ضامن. قال مشايخنا: إذا استأجره من موضع إلى موضع لا يمكن الركوب إليه إلا بسرج، نحو: إن استأجره من بلد إلى بلد لا يضمن؛ لأن الإذن بالإسراج يثبت دلالة، وكذلك لو استأجره ليركب في المصر، والمستأجر ممن لا يركب في المصر عرياناً، فلا ضمان ويثبت (48أ4) الإذن بالإسراج في حقه دلالة وإن كان المستأجر ممن يركب في المصر عرياناً فعليه الضمان إذا لم يثبت الإذن بالإسراج في حقه لا نصاً ولا دلالة ثم إذا ضمن يضمن جميع القيمة أو بقدر ما زاد لا ذكر لهذه المسألة في الأصل.
وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يضمن بقدر ما زاد كما لو ركبها واركب مع نفسه غيره، وبعضهم قالوا: يضمن جميع القيمة وهو الصحيح لأنه بما صنع مخالف في الكل صورة ومعنى، فأما صورة فلأنه أمره أن يركبها عرياناً وقد ركبها مع السرج وأما معنى فلأن الركوب على السرج أضر بالدابة؛ لأن ثقل الراكب والسرج يجتمعان في مكان واحد فكان أدق لظهر الدابة، بخلاف ما إذا ركب وأركب مع نفسه غيره؛ لأن ثقل الآخر لم يجتمع في المكان الذي ركبه بنفسه.
ولو أستأجر دابة بغير لجام وألجمها، لا ضمان عليه؛ إذا كانت دابة تلجم مثلها؛ لأن اللجام في الأصل وضع لضبط الدابة عن السير، ولا بد للراكب من ذلك إذا كانت دابة تلجم مثلها، فيصير مأذوناً باللجام، حتى لو كانت دابة لا تلجم يصير ضامناً لإمكان الضبط من غير لجام، ولو كان عليها لجام فأبدلها بلجام آخر، فلا ضمان. هكذا ذكر القدوري في شرحه.
قال محمد رحمه الله: إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بدرهم، فجاوزتها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، فنفقت فهو ضامن. قال: وكذلك العارية. هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قيل: هذا إذا استأجرها واستعارها إلى الحيرة ذاهباً لا جايئاً. فأما إذا أستأجرها أو استعارها ذاهباً وجائياً وإذا ردها إلى الحيرة، ونفقت فلا ضمان عليه وهذا التفصيل على هذا الوجه مذكور في «الشروط» و «النوادر» . وقيل: هو ضامن في الوجهين. وإليه أشار في «الجامع الصغير» حيث أطلق المسألة إطلاقاً، ولقت المسألة أن المستأجر أو المستعير، إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق هل يبرأ عن الضمان؟ وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يبرأ كالمودع. وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العارية، وبعضهم قالوا: لا يبرأ بخلاف المودع، وإليه أشار في «الجامع الصغير» . وهكذا أطلق المسالة في القدوري، وروى ابن سماعة عن محمد: أن المستأجر يبرأ بالعود إلى الوفاق.
وصورة ما ذكر ابن سماعة: رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة، يركبها في المصر، فخرج عليها من المصر ثم ردها إلى المصر في تلك الأيام، فبقيت في يده لم(7/571)
يضمن بمنزلة المودع.
وجه قول من فرق بينهما: إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً: أنه إذا استعار ذاهباً وجائياً، فإذا جاوز الحيرة لم يبين العقد، فإذا عاد إلى الحيرة عاد وعقد الإجارة والإعارة تأبى والمستأجر والمستعير كل واحد منهما مأمور بالحفظ بمقتضى الإجارة والعارية؛ لأنه لا يمكنها استيفاء المنفعة إلا بالحفظ، فما بقي العقد يبقى الأمر بالحفظ، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً أمر المالك، ويد المأمور، يد الآمر فكان الرد إلى يد المأمور كالرد إلى الآمر، وهذا هو الطريق في المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، أن يبرأ عن الضمان؛ لأن الأمر بالحفظ في حق المودع مطلق، فيتناول كل زمان، وبعدما خالفه دخل العير في ضمانه لم يرتفع الأمر بالحفظ؛ لتصور المأمور به بعد ذلك، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً والتقريب ما مر.
وأما إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً فإذا جاوز بها إلى الحيرة انتهى العقد نهايته، وإذا انتهى العقد انتهى الأمر بالحفظ ما ثبت نصاً إنما يثبت بمقتضى الإجارة والعارية، فيرتفع بارتفاع الإجارة والعارية، فأما إذا عاد إلى الحيرة عاد والأمر بالحفظ ليس بقائم، فلا يصير ممتثلاً أمر المالك، فلا يعود أميناً بخلاف المودع؛ لأن الأمر بالحفظ في الوديعة ثابت مقصوداً وإنه مطلق فيتناول كل زمان، والتقريب بما مر.
وجه قول من سوى بينهما أن المالك ما أمر المستعير والمستأجر بالحفظ مقصوداً إنما أمرهما بالاستعمال والانتفاع وإنما يثبت لهما ولاية الحفظ تبعاً للاستعمال لا بأمر ثابت من جهة المالك، فإذا جاوز الحيرة صار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه، والغاصب لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد إما على المالك أو على من هو مأمور بالحفظ من جهة المالك، ولم يوجد هاهنا ذلك. والصدر الشهيد رحمه الله: كان يميل إلى القول الثاني. وغيره من مشايخ زماننا: كانوا يميلون إلى القول الأول.
وعن أبي يوسف في «النوادر» رواية أخرى: أنه إذا استعار أو استأجر ذاهباً وجائياً لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه إذا استأجر أو استعار ذاهباً وجائياً فالرد على المستأجر، فيكون المستأجر والمستعير بمنزلة المودع، فيبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.
وفي «القدوري» : وقال أبو يوسف ومحمد فيمن استأجر دابة إلى مكان معلوم، فلما سار بعض الطريق ادعاها لنفسه، وجحد أن يكون استأجرها، وصاحب الدابة يدعي الإجارة: فإن نفقت من ركوبه فلا ضمان، وإن نفقت قبل أن يركب ضمن. ولو انقضت المسافة فجاء بها ليردها على صاحبها، فتلفت وجب الضمان، فقد جعلاه ضامناً بالجحود، ثم أسقطا عنه الضمان بالركوب، وهذا يقتضي أن تكون يد المستأجر قائمة مقام يد الآجر. وعلل محمد رحمه الله لهذا فقال: لأنه ليس لرب الدابة أخذها منه، فلم يكن بجحوده مانعاً حقه. بخلاف المودع إذا جحد الوديعة؛ لأن هناك لصاحبها أخذها فبالجحود منعها منه، ثم عقب هذا التعليل فقال: لو انكسرت أو ضعفت حتى لا يمكن(7/572)
ركوبها ضمن قيمتها منكسرة، وعاصه، لأن الرد واجب إذا كانت الدابة بهذه الصفة، فتعلق بالجحود الضمان كما في الوديعة.
وذكر في «المنتقى» برواية ابن سماعة عين هذه المسألة، وأجاب على التفصيل الذي ذكره القدوري: أن الدابة إن هلكت قبل الركوب ضمنها وإن ركبها وهلكت من ركوبه فلا ضمان. ويخرج عن ضمان الغصب قال ثمة: ألا ترى أنه لو غصب من آخر دابة، ثم إن المالك أجرها منه إلى الكوفة بعشرة دراهم جاز، وبرئ عن الضمان إذا ركبها كذا ههنا، وهذا لأن بجحود المستأجر الإجارة إن انفسخ العقد في حق المستأجر، وصار المستأجر غاصباً العين لم ينفسخ في حق الآجر، فإذا ركبها إلى المكان المسمى وعقد الإجارة قائم في حق الآجر فإنما ركبها بحكم العقد في حق الآجر والضمان جميعاً.
هشام عن محمد: رجل استأجر من رجل غلاماً سنة، كل شهر بعشرة دراهم، وقبض العبد، فلما مضى نصف السنة جحد المستأجر أن يكون استأجر العبد، وقيمته يوم جحد ألف درهم، فمضت السنة وقيمته ألف درهم، ثم مات العبد. قال: الإجارة لازمة له، ويلزمه أجر جميع السنة، ويضمن قيمة العبد بعد السنة. قال هشام: قلت لمحمد: كيف اجتمع الأجر والضمان؟ قال محمد: لم يجتمعا، ففسر هشام ذلك، فقال: الأجر وجب لاستعماله العبد في السنة، والضمان وجب بعد مضي السنة؛ لأن بعد مضي السنة وجب عليه رد العبد على المالك، ولم يرد، فوجب الضمان فاختلف سبب وجوبهما واختلف الزمان، فكيف يظهر الاجتماع؛ وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: ينبغي أن يلزمه الأجر قبل الإنكار، ويبطل عنه الأجر بعد الإنكار.
استأجر قميصاً ليلبسه ويذهب إلى مكان كذا فلم يذهب إلى ذلك الموضع، ولبسه في منزله. قال أبو بكر: هو مخالف ولا أجر عليه وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: عندي أنه غير مخالف، وعليه الأجر؛ لأن هذا خلاف إلى خير فلا يصير به ضامناً، فلا يسقط الأجر، ولأن الأجر مقابل بمنفعة اللبس دون الحمل إلى ذلك المكان وإنما ذكر (48ب4) المكان لازماً في حق الآجر دون المستأجر. قال أبو الليث رحمه الله: وهذا بخلاف ما لو استأجر دابة ليذهب إلى موضع كذا، فركبها في المصر في حوائجه فهو مخالف؛ لأن في الدابة لا تجوز الإجارة إلا أن يبين المكان، وفي الثوب يحتاج إلى بيان الوقت دون المكان، فوقعت الإجارة في الدابة على المكان المذكور، والركوب في المصر ليس خلافاً إلى خير فصار مخالفاً، أما ههنا بخلافه.
استكرى دابة لمسيرة فرسخ، فسار عليها سبعة فراسخ وعليه من الكراء مقدار ما شرط وفيما زاد على الفرسخ هو غاصب، فلا أجر عليه. ولو أرضى صاحب الدابة كان له خيراً في الأجرة؛ لأنه تقاص في الأجرة بالحساب.
استأجر حماراً ليحمل عليه وقر حنطة إلى المدينة، فحمل الحنطة إلى المدينة(7/573)
وباعها، وانصرف إلى منزله، فوضع على الحمار مقدار قفيز من الملح، فأخذه مرض في الطريق، فمات فعليه ضمان الحمار إذا حمل عليه الملح بغير إذن صاحب الحمار؛ لأنه صار غاصباً بذلك، فدخل في ضمانه.
استأجر دابة ليحمل عليها حنطة من موضع إلى منزله يوماً إلى الليل، فكان يحمل الحنطة إلى منزله، وإذا أراد الذهاب ثانياً كان يركبها، فعطبت الدابة. ذكر عن أبي بكر رحمه الله: أنه يضمن لأنه استأجرها للحمل بدون الركوب، فكان غاصباً في الركوب. قال أبو الليث رحمه الله: هو القياس، لكن في الاستحسان لا يضمن؛ لأن العادة جرت فيما بين الناس بذلك فصار كأنه إذن له في ذلك من طريق الدلالة، وإن لم يأذن بالإقصاء.
استأجر حماراً ليحمل عليه اثني عشر وقراً من التراب إلى أرضه بدرهم، وله في أرضه لبن فكما عاد من أرضه يحمل عليه وقراً من اللبن، فإن هلك الحمار في الرجوع مع اللبن يضمن قيمة الحمار دون الأجر؛ لأنهما لا يجتمعان، ولو سلم الحمار حتى تم العمل، فعلى المستأجر تمام الدرهم، في كل وقر من التراب نصف دانق ويجوز أن يخالف في العمل ثم يجب الأجر المسمى، إذا سلمت الدابة عن ذلك العمل كما في مسألة فرسخ وسبعة فراسخ التي مرت.
وكمن استأجر دابة إلى موضع معين، فجاوزه ثم عاد إلى الوثاق لا يعود أميناً بل هو ضمين، حتى لو هلكت الدابة في طريق ذلك الموضع المعين، يضمن قيمتها، ثم إذا سلمت الدابة يحسب تمام الأجر؛ وكذا لو استأجر دابة ليركب هو بنفسه إلى مكان كذا، فركب وأردف معه غيره صار غاصباً في النصف إذا كانت الدابة فيما تطيق مثلهما، ولو سلمت الدابة يجب تمام الأجر كذا ههنا.
ولو استأجر حماراً ليحمل عليه كذا كذا حملاً، فزاد على ما سمى وحمل الحمولة إلى ذلك المكان، فلما وضع الحمولة وجاء بالحمار سليماً، ضاع قبل أن يرده إلى صاحبه، ينظر إلى مقدار ما زاد من الحمولة، فيضمن من قيمة الحمار بذلك القدر؛ لأنه صار غاصباً من الحمار بذلك القدر فلا يبرأ عن ضمان ما صار غاصباً منه إلا بالرد. رواه بشر عن أبي يوسف ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله. وهذا كما ذكر في اختلاف وقران.
أن من استأجر حماراً من الكوفة إلى القادسية ذاهباً وجائياً فجاوزته القادسية، ثم عاد به سليماً إلى الكوفة، فعليه نصف ما سمى من الأجر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه صار غاصباً فلا يبرأ عن الضمان إلا بالرد. وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة من مصر إلى مصره، فأمسكها في بيته فهلكت. قال: إن أمسكها مقدار ما يمسك ليتهيئوا أمورهم، فلا ضمان والأجر ثابت، وإن أمسكها أكثر من ذلك خرجت من الإجارة، وهي معلومة عنده.
نوع آخر
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جاء بدابته إلى بيطار، وقال: انظر فيها فإن(7/574)
بها علة، فنظر فيها فقال: بجنب إذنها علة يقال لها: فارة يعني بوش، فأمره صاحب الدابة بإخراجها، فأخرج ذلك بأمر صاحب الدابة وتلفت الدابة، فلا ضمان على البيطار؛ لأنه مأذون في ذلك.
وفي «المنتقى» : رجل قال لصيرفي: انقد لي عشرة دراهم بكذا، ففعل ثم وجد صاحب الدراهم فيها زيوفاً أو ستوقاً، فلا ضمان على الصيرفي؛ لا لأنه يبطل عليه حقاً، ولكن يرد من الأجر بحساب ما وجد زائفاً، حتى إن في مسألتنا يرد عشر الأجر، ولو وجد الكل زائفاً يرد كل الأجر؛ لأنه لم يوف المعقود يد القدر.
في «فتاوى النسفي» : إذا أخذ من له الدراهم دراهمه ممن عليه، وقد استعدها الناقد، ثم خرج بعض الدراهم زيوفاً أو ستوقاً فلا ضمان على الناقد؛ ولكن يرد القابض الزيوف على الدافع، فإن أنكر الدافع وقال: ليس هذا من دراهمي، فالقول قول القابض؛ لأنه لو أنكر القبض أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر القبض فيما عدا هذا العين.
سأل وراقاً أن يكتب له جامع القرآن وينقطه ويعشره ويعجمه، وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له أربعون درهماً، فكتب وترك بعض العواشر وأخطاء في النقط، قال إن فعل ذلك في كل ورقة فالدافع بالخيار، إن شاء أخذ المكتوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به أربعين، وإن شاء ترك المكتوب وضمنه مثل بياضه وحبره، وهو نظير ما لو دفع إلى خياط ثوباً، ليخيط له فخاط قباء وطاق واحد. يقال له: قرطق، يخير المالك بين أن يضمنه قيمة ثوبه ويترك القرطق عليه، وبين أن يأخذ القباء ويعطيه أجر مثله لا يجاوز به الأجر المسمى.
وإن كان الوراق وافقه في بعضه وخالفه في بعضه، أخذ وأعطاه حصة ما وافق من المسمى، وحصة ما خالفه من أجر المثل؛ لأنه فيما وافق جرى على موجب العقد، فاستحق حصته من المسمى، وفيما خالف لم يجرِ على موجب العقد من كل وجه، فكأنه عمل بإجازة فاسدة فيستحق أجر المثل؛ ولو دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي؛ فصبغة قفيز عصفر فهذا على وجهين: إن صبغه أولاً بربع الهاشمي؛ فصاحب الثوب بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ولا أجر، وإن شاء مصبوغاً بربع الهاشمي وأعطاه المسمى، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه المسمى، وما زاد ثلاثة أرباع القفيز في الثوب، وهذا لأنه حين صبغ بالربع فقد وفى بالشرط، فإذا صبغ بعد ذلك فهو متعدٍ في هذا الصبغ، فيصير كأنه غصب ثوباً مصبوغاً بعصفر بالربع، فصبغه بعد ذلك بثلاثة الأرباع، وهذا لأن الصبغ في حكم المقبوض من وجه، إلا أنه لم يكمل القبض فيه؛ لأنه لم يصل إلى يده، فكان له أن يضمنه الثوب أبيض، وله أن يضمنه مصبوغاً بعصفر، وإن كان صبغه ابتداء بقفيز، فله ما زاد الصبغ فيه ولا أجر له؛ لأنه لم يوف العمل على الوجه المأذون فيه، فيصير كأنه غصب ثوباً وصبغه بعصفر. هكذا ذكر «القدوري» .
وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله بخلافه، فقال: له أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض، وله أن يأخذ الثوب ويغرم الأجر. وما زاد ثلاثة أرباع القفيز فيه مجتمعاً كان أو(7/575)
متفرقاً. وهذا لأن الثوب لا يتشرب الصبغ دفعة واحدة؛ ولكن شيئاً فشيئاً فلا يقع الفرق بين أن يكون مجتمعاً أو متفرقاً. وستأتي هذه المسألة مع زيادة تفريعات في فصل المتفرقات إن شاء الله تعالى.
ولو دفع إلى صباغ ثوباً، وأمره بصبغه بزعفران أو ببقم، فخالف بصبغه غير ما سمى، إلا أنه من ذلك الصبغ يريد به أنه لم يسبغ صبغة، وقد كان أمره صاحب الثوب أن يسبغه، فالمالك بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض، ويسلم له الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله، لا يزاد به المسمى.
في «الأصل» وفي «القدوري» إذا أمر إنساناً أن ينقش اسمه في فص خاتمه، فغلط ونقش اسم غيره، ضمن الخاتم؛ لأنه فوت عليه الغرض المطلوب من الخاتم، وهو الختم به فصار كالمستهلك له.
ومنه لو أمره أن يحمر له بيتاً فخضر، فقال: (49أ4) يعطيه ما زاد الخضرة فيه ولا أجر له؛ لأنه عمل ما لم يستأجر له، فلا يستحق الأجر، ولكن يعطيه من قيمة الصبغ ما زاد في البيت.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل استأجر أرضاً ليزرعها حنطة، فزرعها رطبة، قال: هو ضامن يريد به أن يمكن في الأرض نقصان ولا أجر عليه، وهذا لأن الرطبة لا يعرف نهايتها وضررها بالأرض ظاهر، وإنه يخالف ضرر سائر وجوه الزراعة، فصار غاصباً فلا يجب الأجر.
قال محمد رحمه الله فيه أيضاً: في رجل دفع إلى خياط ثوباً، وأمره أن يخيطه قميصاً بدرهم، فخاطه قباء، وأقر بالخلاف فلصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه وترك القباء عليه، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل ما عليه لا يجاوز به المسمى هكذا ذكر ههنا. وفي «الأصل» . وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا خيار لصاحب الثوب والخياط ضامن قيمة ثوبه. بعض مشايخنا قالوا: أراد بالقباء العرطق الذي هو ذو طاق واحد، فإن هذا القباء يشبه القميص، فإن بعض الناس يستعملونه استعمال القميص، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فإن شاء رضي به باعتبار جهة الموافقة، وإن شاء تركه باعتبار جهة المخالفة إلا أن في الكتاب أطلق القباء إطلاقاً فيدل على أن الحكم في الكل واحد.
وجه ما روى الحسن: أن الخياط مخالف من كل وجه؛ لأنه خالفه في جنس ما أمر به، فإنه أمره بخياطة القميص وهو قد خاط القباء، والقباء ليس من جنس القميص، فكان مخالفاً من كل وجه، فيكون غاصباً من كل وجه. وحكم الغاصب من كل وجه أنه متى قطع ثوب غيره، وخاطه يملكه بالضمان ولا يبقى لصاحب الثوب الخيار، فكذلك هذا. وجه ظاهر الرواية هو: أن الخياط فيما صبغ موافق من وجه، مخالف من وجه، فيتخير كما لو خالفه في خياطة القميص من حيث الطول والقصر، إلا أن عبارة مشايخنا اختلفت في إثبات الموافقة من وجه منهم من يقول: إن خياطة القباء تشبه خياطة القميص من وجه(7/576)
من حيث الدخاريص والكمين وإن كان يخالف خياطة القميص فيما عدا ذلك. وإذا كان يوافق خياطة القميص من وجه، ويخالفه من وجه، كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فيتخير كما فيما تقدم ذكره من المسائل.
ومنهم من يقول: في إثبات المخالفة والموافقة من وجه. صاحب الثوب أمره بإدخال الخيوط في ثوبه بخياطة القميص، وهذا أدخل الخيوط في ثوبه بخياطة القباء، فكان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه. والموافقة إن قلت: يجب إثبات الخيار حتى لا يلغو إثبات الإذن والموافقة من وجه بخلاف ما لو غصب ثوباً فقطعه وخاطه قباء؛ لأنه مخالف في القطع، وفي إدخال الخيوط في ثوبه، فكان مخالفاً من كل وجه، بخلاف ما نحن فيه.
ومنهم من يقول: إنه موافق في الخياطة، فإن الخيوط الذي استعملها فيه داخل تحت الإذن، وإنما حصل الخلاف في نفس القطع، والغاصب إذا قطع الثوب ولم يخط لم يمنع صاحبه من أخذه فكذلك هذا لا يمنع رب الثوب من أخذه، بخلاف الغاصب فإنه مخالف في القطع والخياطة، فكان مخالفاً من كل وجه، وقد استهلك الثوب وأحدث صنعة متفرقة بغير أمره، فهو معنى قولنا: إنه موافق من وجه مخالف من وجه. وإذا كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، كان لصاحب الثوب الخيار، إن شاء ترك القباء عليه، وضمنه قيمة ثوبه ولا أجر له، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل عمله ولا يجاوز به ما سمى، وهذا على قول من يقول: بأنه يعطيه أجر المثل متى خالفه من وجه؛ لأن العقد يفسد بالخلاف من وجه ظاهر.
وعلى قول من يقول: يعطيه المسمى إذا رضي بالعيب، نقول: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا اختار وأخذ القباء ولم يرض بالعيب وله أن يأخذ القباء ولا يرضى بالعيب، ومتى كانت الحالة هذه، فإنه يعطيه أجر المثل، فأما إذا رضي بالعيب يعطيه المسمى.l
وسيأتي بيان القولين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن اختلفا، فقال الخياط: أمرتني بهذا. وقال رب الثوب: أمرتك بقميص، فالقول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأن الأمر استفيد من جهته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط، أقر بسبب الضمان وادعى ما يبرئه عنه، وهو الإذن وذلك غير ثابت، فهو ببينته يثبت ما ليس بثابت، وصاحب الثوب يثبت ما هو ثابت، وهو الضمان فكانت بينة الخياط أولى. ولو أمره بأن يخيط له قميصاً فخاطه سراويلاً، هل يتخير رب الثوب؟ فعلى مرد العبارة الأولى في مسألة القباء لا يتخير؛ لأن السراويل لا يشبه القميص أصلاً إذ ليس له كم ولا دخريص وعلى مرد العبارة الثانية والثالثة يتخير وإنه أقرب إلى الصواب.
فقد روي عن محمد فيمن دفع إلى رجل شيئاً ليضرب له طيناً، فضرب له كوزاً، إن له أن يأخذه ويعطيه أجر المثل، فكذا في السراويل. وقد مرت مسألة السراويل.
قال: إذا دفع إلى حائك غزلاً لينسجه له سبعاً في أربع، يريد به أن يكون طوله سبعاً وعرضه أربعاً، فخالف، فهذا على وجهين:
إما أن يكون الخلاف من حيث القدر، أو من(7/577)
حيث الصفة، والخلاف من حيث القدر على وجهين: إما أن يكون زيادة بأن حاك ثمان في أربع، أو إلى نقصان بأن حاك ستاً في أربع والخلاف من حيث الصفة على وجهين أيضاً: إما أن يكون من حيث الزيادة، بأن أمره أن ينسجه رقيقاً فنسجه صفيقاً أو من حيث النقصان، بأن أمره، أن ينسجه صفيقاً فنسجه رقيقاً، وفي الفصول كلها صاحب الغزل بالخيار، إن شاء ترك الثوب على النساج وضمنه غزلاً مثل غزله، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه الأجر، وإنما خير صاحب الغزل؛ لأن النساج موافق في أصل العمل مخالف في الصفة في الفصول كلها.
أما إذا كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في الصفة، فلا إشكال؛ أنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، وإن كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في القدر، فكذلك مخالف في الصفة إن زاد في الدرع، فلأنه لو استعمل جميع الغزل بقدر ما أمر به، وإن نقص عن القدر فلأنه لو استعمل الغزل في جميع ما أمر به كان يحصل الثوب أرق. وبسبب النقصان في الذرع يحصل الثوب أصفق، والصفاقة والرقة مقصودة في الثياب، فصح قولنا: إنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، فيتخير صاحب الثوب إن شاء مال إلى الخلاف، وجعله عاملاً لغير عقد وترك الثوب عليه، وضمنه غزله، وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه الأجر. ولم يذكر محمد رحمه الله: أنه يعطيه المسمى أم أجر المثل. وقد اختلف المشايخ: قال بعضهم: بأنه يعطيه أجر المثل على كل حال لا يجاوز به ما سمي إن كان أجر مثله أكثر، وإن كان أقل أو مثل المسمى يعطيه ذلك. وقال بعضهم: يعطيه المسمى إذا أخذ الثوب ورضي بالعيب، وإذا أخذ الثوب ولم يرض بالعيب، فإنه يعطيه أجر المثل لا يجاوز به ما سمى. وإلى هذا ذهب أبو بكر الأعمش، ومحمد بن سلمة رحمهما الله.
وجه من قال بأنه يعطيه أجر المثل: أن الحائك مخالف من وجه موافق من وجه، باعتبار أصل العمل موافق، وباعتبار الصفة مخالف، والصفة في الغائب معتبرة؛ لأن الغائب بالصفة يعرف، ولو كان مخالفاً من كل وجه، بأن كان الخلاف في الجنس لا في الصفة كان العمل متعرياً عن العقد، ولو كان موافقاً من كل وجه في حق أهل العمل أو الصفة جميعاً، كان العمل واقعاً بجهة العقد من كل وجه، فإذا كان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فكان العقد قائم من وجه فائت من وجه، والعقد إذا كان قائماً من وجه غير قائم من وجه، فإنه يجعل عقداً فاسداً كما قال في بيع (49ب4) المقايضة: إذا هلك أحد العوضين قبل القبض، فإن البيع يفسد لأن البيع على القائم قائم من وجه، منفسخ من وجه فحكم بفساده على ما عرف في موضعه، فلذلك هنا لما كان العقد قائماً من وجه غير قائم من وجه يحكم بفساد الإجارة والمستحق في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا ينقص عن المسمى، ولا يجاوز به المسمى. وإذا وجب أجر المثل على قول هذا القائل، فإن كان الخلاف من حيث الزيادة في القدر، فإنه يعتبر أجر مثل العمل المأمور به وهو سبعة أذرع في أربعة، لا أجر مثل العمل المأتي به ثمانية أذرع في أربعة؛ لأن الزيادة على(7/578)
السبع حصل بغير عقد، فلا يجب زيادة أجر بسبب ذلك الزيادة، ولكن لا يجاوز به المسمى كما في سائر الإجارات الفاسدة.
وإن كان الخلاف من حيث النقصان في القدر فإنه يعطيه أجر مثل ما عمل مقدراً بحصته من المسمى؛ لأن بعض المسمى قد سقط لأنه أتى ببعض العمل ولم يأت بالبعض فتسقط حصته ما لم يعمل من المسمى، ويبقى بعض المسمى، وينظر إلى أجر مثل عمله فيما عمل، فإن كان أقل أو مثل حصة الباقي، من المسمى فإنه يعطيه ذلك، وإن كان زيادة يعطيه بقدر حصته من المسمى، ولا يجاوز به، وإن كان الخلاف من حيث الصفة، إن كان من حيث الزيادة فإنه يعطيه أجر مثل عمله بقدر العمل المأمور به، ولا تعتبر الزيادة؛ لأن الزيادة حصلت بغير عقد، فإن كان ذلك مثل المسمى يعطيه ذلك، وإن كان أكثر من ذلك لا يجاوز به المسمى.
وإن كان من حيث النقصان: فإنه يعطيه أجر مثل عمله مقدراً بجميع المسمى، لا ينقص بخلاف ما إذا كان النقصان من حيث القدر، فإنه بقدر أجر المثل ينقص المسمى، وذلك لأن النقصان متى حصل من حيث القدر فقد سقط بعض المسمى وبقي البعض، فيعتبر أجر المثل الباقي، فأما إذا كان النقصان من حيث الصفة، فإنه لا يسقط شيء من المسمى؛ لأنه لا حصة للأوصاف من المسمى فيكون جميع المسمى على حاله، فيعتبر أجر المثل به إن كان مثله، أو أقل، فإنه يعطيه ذلك وإن كان أكثر لا يجاوز به المسمى، وأما من قال بأنه يعطيه المسمى متى رضي بأخذ الثوب معيباً، وإن لم يرضى بالعيب وأخذ الثوب فإنه يعطيه أجر المثل، ذهب في ذلك إلى أن الأمر كما قاله الأولون: إن هذا مخالف من وجه موافق من وجه، فيكون العقد قائماً من وجه وليس بقائم من وجه، إلا أنه في مثل هذا الموضع إنما يحكم بفساد العقد متى تعذر العمل بهما في الحالين. كما في مسألة بيع المقايضة، فجعلناه بيعاً فاسداً عملاً بالأمرين من الوجه الذي قلتم إذا أمكن العمل بهما في الحالين، فإنه لا يجعل العقد فاسداً وقد أمكننا العمل في الحالين بأن يعتبر الوفاق، متى اختار أخذ الثوب ورضي بالعيب، ويعتبر العقد جائزاً في هذه الحالة ويعطيه المسمى، ويعتبر الخلاف متى اختار أخذ الثوب ولم يرض بالعيب ويوجب عليه أجر المثل؛ لأنه لم يوجد من العامل ما يوجب زوال ملك صاحب الغزل عن الثوب؛ لأن أصل العمل جعل بإذن صاحب الغزل، إلا أن فيه عيباً وله أن لا يرضى بالعيب، ولا تتوفر على صاحب الغزل في المعيب إلا بأن يعطيه أجر مثل عمله، فيعطيه أجر مثل عمله عملاً بالخلاف، ولأنه متى رضي بالعيب سقط اعتبار العيب حكماً، أو صار كأنه أتى بالمأمور به فلزمه المسمى إلا في النقصان.
وإذا لم يرض بالعيب لم يسقط اعتباره، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فوجب أجر المثل، ثم على قول هذا القائل: إذا وجب اعتبار المسمى، إن كان الخلاف من حيث القدر إن كان إلى زيادة يجب المسمى لا غير، ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان ينقص عن المسمى لكنه ما نقص من العمل، وإن كان الخلاف من(7/579)
حيث الوصف إن كان إلى زيادة يجب المسمى ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان يجب جميع المسمى، إذا الفائت وصف وللأجر لا يقابل الأوصاف.
قال: وإذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: انظر إلى هذا الثوب، فإن كفاني قميصاً فاقطعه وخيطه بدرهم فقال: نعم، ثم قطعه، وقال بعد ما قطعه: إنه لا يكفيك، فالخياط ضامن قيمة الثوب، وإنما كان كذلك لأن القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب، لأن الإذن بالقطع معلق بشرط الكفاية؛ لأنه ذكر الشرط وحرف التعليق، والمعلق بالشرط عدم قبل الشرط، فهو معنى قولنا: القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب. ولو كان قال للخياط: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً، فقال: نعم. فقال له: اقطعه، فقطعه. فإذا هو لا يكفيه قميصاً، لا ضمان عليه؛ لأن القطع ههنا حصل بإذن المالك؛ لأن الإذن بالقطع ههنا مطلق لا تعليق فيه؛ لأنه لم يذكر حرف التعليق، فبقي الإذن مفصولاً عن أول الكلام، ألا ترى أن من قال لإمرأته: إن دخلت الدار أنت طالق يقع الطلاق في الحال. ولو قال: فأنت طالق لا يقع إلا بعد الدخول. وما افترقا إلا بما قلنا. ولو قال: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً. فقال: نعم. فقال صاحب الثوب: فاقطعه، أو قال: اقطعه إذاً فلما قطعه إذا لا يكفيه، لا ذكر لهذه المسألة في الكتب.
وحكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه قال: يضمن أما في قوله: اقطعه إذاً فلأنه مما لا يبتدأ به الكلام وإنما يذكر جواباً للشرط فاقتضى شرطاً وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتعليق فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتغليف فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال إن كان يكفيني قميصاً فاقطعه، ونظير هذا ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول فيمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف درهم فقال المشتري: فهو حر، كان قبولاً وإعتاقاً بعد القبول ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل كان إعتاقاً قبل القبول، وذلك لأن قوله فهو حر إخبار عن حكم الإيجاب فقال: حررته فهو حر. كما يقال: كسرته فانكسر. وإذا كان إخباراً عن حكم الإيجاب، اقتضى إيجاباً، والثابت اقتضاء كالثابت نصاً، كأنه قال بعد قول البائع: بعت حررت. ولو قال: حررت يضمن قبولاً؛ لأن القبول شرط صحته، فاقتصى قبولاً ليصح كمن قال لآخر: أعتق عبدك عني على الألف درهم. فقال: أعتقت اقتضى بيعاً؛ لأنه شرط صحته فكذا هذا. وقوله: هو حر، ليس بإخبار عن حكم الإيجاب، فإنه لا يعر عن حكم الإيجاب بهذه العبارة. لا يقال: حررته هو حر. كما لا يقال: كسرته انكسر. وإذا لم يكن إخباراً عن حكم الإيجاب لم يقتض إيجاباً، فبقى إخباراً عن الحرية مطلقاً. وليس من ضرورة صحة الإخبار عن الحرية القبول؛ لأنه يصح من غير قبول فأما من ضرورة صحة الإيجاب القبول، فكذلك هذا في «فتاوى الفضلي» .
استأجر حماراً وتركه على باب منزله، ودخل المنزل ليرفع خشبة الحمار، فخرج ولم يجد الحمار. قال: إن غاب الحمار عن بصره ضمن، إلا أن يكون ذلك في موضع(7/580)
لا يعد هذا القدر من الذهاب تضييعاً مثل، أن يكون في سكة غير نافذة، أو يكون في بعض القرى فحينئذ لا ضمان. ورأيت في بعض الفتاوى: إذا ربط الحمار المستأجر على باب داره، ودخل داره ولم يجد الحمار، فهو ضامن إن غاب عن بصره من غير فعل. وإذا كان للمستأجر حماران فاشتغل بحمل أحدهما فضاع الآخر، إن غاب عن بصره فهو ضامن.
وفي فتاوي «الأصل» إذا استأجر حماراً فضل في الطريق، فتركه ولم يطلبه حتى ضاع، قال: (50أ4) إن ذهب الحمار من حيث لا يشعر به، وهو حافظ له فإذا علم فطلبه ولم يظفر به، فلا ضمان عليه. وكذلك لو لم يطلب، وكان آيساً من وجوده، لو طلب بالقرب في حوالي الموضع الذي ذهب منه لا ضمان؛ لأن المطلوب من الأمين الحفظ، وإن ذهب وهو يراه ولم يمنعه، فهو ضامن يريد به إذا غاب عن بصره؛ لأنه لم يمنعه، فقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وعلى هذا مستأجر الحمار إذا جاء بالحمار إلى الخباز، وترك الحمار واشتغل بشراء الخبز فضاع الحمار، إن غاب عن بصره فهو ضامن، وإن لم يغب عن بصره فلا ضمان.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر حماراً وربطه على رأى في سكة نافذة، وهناك قوم نيام ليسوا من عيال المستأجر، ولا من أجرائه فسرق الحمار، فإن كان المستأجر لم يستحفظهم ضمن لتركه الحفظ الواجب عليه. وإن كان استحفظهم أو بعضهم وقبلوا حفظه ولم يكن اشترط ركوب نفسه في عقد الإجارة، وكان الأغلب في مثل ذلك الموضع إن لزم من يحفظ الدواب فيه لا يكون إضاعة لها، لم يضمن لأنه ليس بمضيع ولا تارك الحفظ. وإن كان الموضع موضعاً يلزم من يحفظ الدواب، يكون إضاعة لها فهو ضامن. يعنى: إذا لم يستحفظهم، فأما إذا استحفظهم وقبلوا حفظه، فالضمان على الذي قبل الحفظ لا على المستأجر؛ لأن الذي قبل الحفظ هو المضيع.
هذا كله إذا لم يشترط المستأجر ركوب نفسه أما إذا اشترط ركوب نفسه ضمن على كل حال لأنه إذا شرط ركوب نفسه ليس له أن يودعها من أجنبي، لأنه ليس له أن يعيرها أو يؤجرها من غيره. ومن ليس له الإعارة والإجارة، ليس له الإيداع؛ لأن الإعارة والإجارة نوع ائتمان فإذا لم يشترط ركوب نفسه فله أن يودع؛ لأن له أن يعير ويؤاجر فله أن يودع.
ومن هذا الجنس: رجل استأجر حماراً واستأجر رجلاً؛ ليحفظ الدابة فهلكت الدابة في يد الأجير، إن كان المستأجر استأجرها ليركب بنفسه يضمن. وإن لم يسم الراكب فلا ضمان. والمعنى ما ذكرنا.
وفيه أيضاً استأجر حماراً ليحمل عليها إلى المدينة، فحمل وساقه في طريق المدينة، ثم تخلف لحاجة بول أو غائط أو حديث مع غيره، فذهب الحمار قبله وعطب، فإن لم يتعمد عنه الحمار ولم يتوار عنه فلا ضمان. وإن توارى عنه فهو ضامن لأنه مضيع.(7/581)
وفي فتاوى «الأصل» مستأجر الحمار إذا أوقف الحمار وصلى الفجر فذهب الحمار وانتهت، فإن رأه ينتهب أو يذهب فلم يقطع الصلاة ضمن؛ لأنه ترك الحفظ الواجب مع القدرة عليه؛ لأن خوف فواته يبيح قطع الصلاة.
وفيه أيضاً وسئل أبو بكر عن من أمر رجلاً أن يستكري له حماراً ويذهب إلى مكان كذا، على أن يوفر الآمر الأجرة، ففعل المأمور ذلك وأدخله رباطاً، فهجم عليه اللصوص في ذلك الرباط، واستولوا على الحمار قال: فإن كان الرباط على الطريق الذي كان يمر المستأجر عليه، فلا ضمان وعليه الأجر إن كان فرغ من استعماله؛ لأنه لم يخالف.
رجل استأجر رجلاً ودفع إليه حماراً ليذهب إلى بلد كذا، ويشتري له شيئاً فذهب المأمور وأخذ السلطان حمر القافلة، فذهب بعض أصحاب الحمر في طلب الحمر، ولم يذهب البعض، وهذا الأجير لم يذهب أيضاً. قال: إن كان الذي بقي ذهبوا في طلب الدواب منهم من وجد دابته، ومنهم من لم يجد، ولا يلام على من لم يذهب في ترك الذهاب بسبب ما لزم من ذهب من الشدة والمشقة فلا ضمان.
وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً رجل استأجر من آخر حماراً ليذهب به إلى موضع معلوم فأخبر أن في الطريق لصوص، فلم يلتفت إلى ذلك الخبر، فذهب وأخذه اللصوص وذهبوا بالحمار. قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: إن كان الناس يسلكون ذلك الطريق مع هذا الخبر بدوابهم وأموالهم فلا ضمان، وإلا فهو ضامن؛ لأنه في الفصل الأول ليس بمضيع، وفي الفصل الثاني مضيع.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن جماعة أجر كل واحد منهم حماره رجلاً وأمروا رجلاً يذهب معه يتعاهد الدواب، فإنه لا يعرفه فذهب معه، فقال له المستأجر: قف هاهنا حتى أذهب أنا بحمار واحد، وأحمل الجوالق، فذهب بالحمار فلم يقدر عليه، فلا ضمان على المتعاهد؛ لأنهم أمروه بتعاهد ما في يد الغير وهو المستأجر، فلا يلزمه العهدة.
ومن هذا الجنس في «فتاوي النسفي» : رجلاً استكرى دابة من القرية إلى المصر، فبعث صاحب الدابة رجلاً مع المستكري، فاشتغل المبعوث في الطريق بأمر وذهب المستكري وحده وضاع الحمار من يده، فلا ضمان على الرجل المبعوث؛ لأن صاحب الدابة ما سلم الدابة إليه؛ ولأنه ما ضيع الدابة إنما تركها في يد المستكري الذي هو أمين صاحب الدابة، وإنه لا يوجب الضمان.
وفي «فتاوي الفضلي» : أكترى رجل حماراً من بلدة كسرى إلى بخارى فبقي الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً أن ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً، وقاطعه أجرته إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسك الأجير الحمار أياماً وأنفق عليه في علفه، ثم هلكت الدابة في يد الأجير، ففي المسألة حكمان: حكم النفقة، وحكم الضمان، أما حكم النفقة: فقد مر من قبل، وأما حكم الضمان فإن كان المستكري اكتراه لركوبه فهو ضامن قيمة الحمار؛ لأنه إذا اكتراه لركوبه(7/582)
فليس له أن يودع على ما مر قبل هذا. وإن كان اكتراه للركوب ولم يسم الراكب فلا ضمان عليه؛ لأن له أن يودع في هذه الصورة.
وفيه أيضاً: وإذا دفع الرجل فرسه إلى رجل ليذهب به إلى ولده، فذهب به وسار مرحلة، ثم إنه سيب الفرس في رباط، ومضى لوجهه، فجاء رجل من أهل تلك القرية، فذهب الأمير بالفرس فهلك الفرس في الطريق، فضمان الفرس على من يجب؟ قال: لا شك أن الأول ضامن بتسيبه، وأما مستأجر الأجير الذي ذهب بالفرس إلى منزله، إن كان لم يأخذ الفرس فلا ضمان عليه؛ لأنه لم تثبت يده على الفرس، وإن أخذه ثم دفعه إلى الأجير، فإن أشهد أنه إنما أخذ ليرده على صاحبه، وكان الأجير من في عياله لا ضمان أيضاً؛ لأن الملتقط بالإشهاد يصير أميناً، والأمين أن يدفع الأمانة إلى من في عياله، ويحفظه بيده. وإن ترك الإشهاد أو أشهد، لكن الأجير لم يكن في عياله ضمن؛ لأنه صار غاصباً بالأخذ من غير إشهادو صار ضامناً بالدفع إلى من ليس في عياله، وأما الأجير فهو ضامن على كل حال؛ لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، لا على وجه الجنسية، هكذا ذكره.
وهذا الجواب في حق الأجير، مشكل إذا كان المستأجر أشهد على أنه أخذه ليرده على المالك، والأجير في عيال المستأجر. وإن سلم الفرس في ذلك الرباط إلى ابن أخ صاحب الفرس، لا يبرأ عن الضمان. وإذا ضمن الأجير لا يرجع بما ضمن على المستأجر بخلاف المودع والمستأجر، فإنهما يرجعان بما ضمنا على المودع والمؤاجر؛ لأنهما يمسكان العين لصاحب العين.
أما المودع فظاهر، وأما المستأجر فلأن صاحب العين يستحق عليه الأجرة بهذه الإمساك وإنها عين، والمستأجر يستحق المنفعة والعين خير من المنفعة، فكانا عاملين لصاحب العين في إمساك العين، فيرجعان بما لحقهما من الضمان على صاحب العين، فأما الأجير فإنما يمسك العين لنفسه؛ لأنه بهذا الإمساك يستحق الأجر على الغير بمقابلة منفعة نفسه، فكان في هذا الإمساك عاملاً لنفسه، فلا يرجع بما لحقه من الغرم على غيره.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل استأجر حماراً لينقل التراب من خربة، فأخذ في النقل، فانهدمت الخربة وهلك الحمار، فإن انهدمت من معالجة المستأجر ضمن قيمة الحمار؛ لأن الحمار تلف بصنعه، وإن انهدمت من غير معالجة المستأجر بل لرخاوة فيها ولم يعلم المستأجر به فلا ضمان؛ لأنه (50ب4) لم يتلف بصنعه ولا قصر في حفظه.
وفيه أيضاً اكترى حماراً ليحمل عليه الشوك، فدخل في سكة فيها نهر، فبلغ موضعاً ضيقاً، فضرب الحمار فوقع الحمار في النهر مع الحمل، فاشتغل المستأجر بقطع الحبل فهلك الحمار، إن كان المكان بحال لا يسع فيه مثل ذلك الحمار فهو ضامن؛ لأنه عرض الحمار للتلف، وإن كان الحمار يسع في ذلك الموضع مع الحمل، إن عنف في الضرب حتى وثب الحمار بضربه يصير ضامناً أيضاً، لما ذكرنا، وإن وقع لا من ضربه فلا ضمان(7/583)
عليه؛ لأنه لم يتلفه لا بمباشرة ولا تسيباً.
وفيه أيضاً استأجر حماراً لينقل عليه الحطب من الكرم، وكان ينقل عليه الحطب ويوقره كما يوقر مثله، فعدم الحمار على حائط ووقع في النهر وهلك، إن لم يعنف عليه في السوق بل ساق مثل ما يسوق الناس مثل ذلك الحمار في مثل ذلك الطريق، فلا ضمان؛ لأنه ما تلف بفعله، وإن كان بخلافه فهو ضامن.
رجل استأجر حماراً وقبضه ما رحله في كرمه وتركه، فسرقت بردعته فأصابه البرد، فمرض فرده على صاحبه فمات من ذلك المرض، إن كان الكرم حصيناً والبرد بحال لا يصير بالحمار، ولو كان عليه البردعة لا ضمان عليه؛ لأنه لم يقصر في حفظهما؛ لأنهما محفوظان البردعة محفوظة عن السارق بحصن الكرم، والحمار محفوظ عن البردعة.
وإن كان الكرم غير حصين، والبرد بحال يضر بالحمار مع البردعة، ضمن قيمتها. أما ضمان البردعة فبتضييعه وتركه الحفظ الواجب عليه، وأما ضمان الحمار؛ لأن إرساله في برد مهلك بمنزلة إلقائه في النار وذلك استهلاك، فلا يبرأ بالرد إلى المالك عن شيء من ضمانه، كما لو خرج المغصوب ثم رده إلى المالك، فمات من ذلك. بخلاف ضمان الغصب.
وإن كان البرد بحال يضر بالحمار مع البردعة والكرم حصين، فعليه قيمة الحمار دون البردعة.x
لأنه أتلف الحمار دون البردعة ولو كان الكرم غير حصين وكان البرد بحال لا يخاف التلف مع بردعته، فهو ضامن لقيمة البردعة، وعليه نقصان الحمار وقت الرد على صاحبه؛ لأنه بمنزلة الغاصب للحمار حين أرسله في الكرم، فإذا ارسله إلى صاحبه برئ من الضمان بقدر ما رد، ويقرر عليه ضمان النقصان بموت الحمار.
زرع بين ثلاثة نفر بالشركة حصدوها، فاستأجر واحد منهم حماراً لينقل عليه حرم البر فدفع الحمار إلى الشريك لينقل الحرم فعطب الحمار، وكانت معاملاتهم أنه يستأجر أحدهم البقر أو الحمار، ويستعمله هو وشريكه، لا ضمان عليه؛ لأن المعروف كالمشروط. ولو شرط أن يستعمله شريكه لا يضمن، فكذا إذا كان المعروف منهم ذلك.
قد ذكرنا قبل هذا أن الرجل إذا استقرض دراهم وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه ويستعمله حتى يوفي له دراهم، فالحمار عند القرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن سلمه المقرض إلى بقار فعقره الذنب فالمقرض ضامن قيمة الحمار؛ لأن من استأجر حماراً أو ثوراً ليس له أن يبعث إلى السرح ليعتلف، فإذا علف كان مخالفاً فيضمن.
استأجر قباناً ليزن به حملاً، وكان في عمود القبان عيب لم يعلم المستأجر، فوزن به وانكسر، فإن كان مثل ذلك الحمل يوزن بمثل ذلك القبان مع العيب فلا ضمان؛ لأنه لم يوجد منه سبب التلف، وإن كان بخلافه فهو ضامن. هكذا في «فتاوى أبي الليث» . وينبغي أن يقال: إذا لم يعلم الآجر المستأجر بالعيب، فقد أذن له في أن يزن به القدر الذي يوزن فيه بدون ذلك العيب، فإذا وزن ذلك القدر لا يجب الضمان عليه.
استأجر قدراً فلما فرغ حملها على حمار ليردها على الآجر، فزلق رجل الحمار(7/584)
وانكسر القدر، فإن كان الحمار يطيق حمل تلك القدر فلا ضمان عليه؛ لأن رد القدر وإن كان على الآجر إلا أن العادة جرت فيما بين الناس أن بحمله المستأجر إلى الآجر. إما من طريق المروءة وإما خوفاً من أن يلحقه بسببه ضمان. والمعروف كالمشروط. ولأن المؤاجر راض بهذا آذن فيه دلالة، فلا يضمن المستأجر، وإن كان الحمار لا يطيق حمل تلك القدر فهو ضامن؛ لأنه سبب لتلفها.
إذا استأجر فأساً واستأجر أجيراً ليعمل فيه، فدفع إليه الفأس فذهب الأجير بالفأس قد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: المستأجر ضامن لأنه صار مخالفاً بالدفع إليه وبعضهم قالوا: إن كان استأجر الفأس أولاً فهو ضامن. هكذا ذكر في فتاوى أهل سمرقند وينبغي أن يقال: إن كان الناس يتفاوتون في استعمال الفأس، فلا بد لصحة الإجارة من تعيين مستعمل الفأس، كما لو استأجر دابة للركوب يشترط لصحة الإجارة تعيين الراكب؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب. وإذا عين نفسه حتى صحت الإجارة يصير مخالفاً بالدفع إلى الأجير، وإذا لم يعين المستعمل حتى فسد العقد، فإن استعمل الفأس أولاً بنفسه، ثم دفعه إلى الأجير يضمن عند بعض المشايخ. لما تبين لأنه تعين مستعملاً، وصار كأنه عين نفسه عند العقد، فيضمن بالدفع إلى الأجير وإن دفعه إلى الأجير قبل أن يستعمله بنفسه، فهو ليس بمخالف فإن استعمله المستأجر بعد ذلك بنفسه هل يضمن؟ يجب أن يكون في المسألة اختلاف المشايخ، كما في العارية. فإن استعار دابة للركوب، ولم يعين نفسه فركب بنفسه، أو لبس بنفسه فليس له أن يعيره بعد ذلك من غيره. ولو فعل فقد اختلف المشايخ في تضمينه. وكذلك لو ألبس غيره أولاً، أو أركب غيره أولاً، فليس له أن يلبس ويركب بنفسه بعد ذلك، ولو فعل ففي تضمينه اختلاف المشايخ فهنا يجب أن يكون كذلك.
وإن كان الناس لا يتفاوتون في استعمال الفأس، فالإجارة صحيحة، عين المستعمل أو لم يعين، ولا ضمان على المستأجر إذا دفعها إلى الأجير، سواء دفعها إليه قبل أن يستعملها بنفسه، أو بعدما استعملها بنفسه.
وفيه أيضاً: استأجر من رجل مرا وجعله في الطريق، ثم صرف وجهه من الطريق، ودعا أجيراً له ولم يبرح عن مكانه ذلك، ثم نظر إلى المر فإذا قد ذهب به. قال: إن كان تحويل وجهه لم يطل حتى لا يسمى به مضيعاً للمر لا ضمان عليه، والقول في ذلك قوله مع يمينه، إن كذبه الآجر. وإن طال إلتفاته فهو ضامن.
الفصل الثامن والعشرون: في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك
هذا الفصل مشتمل على أنواع أيضاً.(7/585)
الأول: في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، وبيان أحكامهما فنقول وبالله التوفيق.
اختلف عبارة المشايخ في الحد الفاصل بينهما بعضهم قالوا:
الأجير المشترك من يستحق الأجر بالعمل لا بتسليم نفسه للعمل.
والأجير الخاص: من يستحق الأجر بتسليم النفس. وبمضي المدة، ولا يشترط العمل في حقه لاستحقاق الأجر. وبعضهم قالوا:
الأجير المشترك: من يقبل العمل من غير واحد. والأجير الخاص: من يقبل العمل من واحد.
وإنما يعرف استحقاق الأجر بالعمل على العبارة الأولى؛ بإيقاع العقد على العمل. كما لو أستأجر خياطاً ليخيط له هذا الثوب بدرهم، أو استأجر قصاراً ليقصر له هذا الثوب بدرهم. وإنما يعرف استحقاق الأجر بتسليم النفس وبمضي المدة بإيقاع العقد على المدة. كما لو استأجر إنساناً شهراً ليخدمه، والإجارة على العمل إذا كان معلوماً صحيح بدون بيان المدة، والإجارة على المدة لا تصح إلا ببيان نوع العمل وإذا جمع بين العمل وبين المدة وذكر العمل أولاً نحو: أن يستأجر راعياً مثلاً ليرعى له غنماً مسماة بدرهم شهراً يعتبر هو أجيراً مشتركاً؛ لأنه جعله أجير مشترك بأول الكلام. لأنه أوقع العقد على العمل في أول كلامه. وقوله شهراً في آخر كلامه يحتمل أن يكون لإيقاع العقد على المدة، فيصير أجير واحد، ويحتمل أن يكون تقديراً للعمل الذي أوقع (51أ4) العقد عليه، فإنه لا بد من تقديره، ولا يمكننا تقديره إلا ببيان المدة في هذه الصورة، فلا يتغير أول الكلام بالاحتمال، إلا إذا صرح في آخر كلامه بما هو حكم أجير الوحد، بأن قال: على أن لا يرعى غنم غيري مع غنمي؛ لأنه بما صرح جعله أجير واحد، وبين أنه ذكر المدة لإيقاع العقد على المدة، لا لتقدير العمل المذكور في أول الشهر، وإذا كان صريحاً في جعله أجير واحد بأول الكلام؛ لأنه أوقع العقد على المدة في أول الكلام، وقوله: ليرعى هذه الأغنام محتمل بين أن يكون لإيقاع العقد على العمل، فيصير أجيراً مشتركاً، وبين أن يكون لبيان نوع العمل الذي يستحق على الأجير في المدة، فإن الإجارة على المدة لا تصح ما لم يبين نوع العمل.
فنقول: استأجرتك شهراً للخدمة أو للرعي أو للحصاد؛ لأن أنواع العمل متفاوت. وإذا كان كذلك لا يتغير حكم أول الكلام بالاحتمال، فبقي أجير واحد، إلا إذا نص في آخر كلامه بما حكم الأجير المشترك. فيقول: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فيكون تصريحاً منه أنه جعله أجيراً مشتركاً، فيتغير به أول الكلام، ويصير أجيراً مشتركاً من هذا الوجه.
إذا عرفت الحد الفاصل بين الأجير الخاص، وبين الأجير المشترك، فنقول:
من حكم الأجر الخاص، أن ما هلك على يده من غير صنعه فلا ضمان عليه بالإجماع، وكذلك ما هلك من عمله المأذون فيه فلا ضمان عليه بالإجماع.
ومن حكم الأجير المشترك: أن ما هلك على يده من غير صنعة فلا ضمان عليه،(7/586)
في قول أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن، وإنه قياس سواء هلك بأمر يمكن التحرز عنه كالسرقة والغصب، أو بأمر لا يمكن التحرز عنه كالحريق الغالب، والغارة الغالبة والمكابرة.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن هلك بأمر يمكن التحرز عنه فهو ضامن، وإن هلك بأمر لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان. وما هلك في يده بعمله، كالقصار إذا دق الثوب، فتخرق أو ألقاه في النورة فاحترق، أو الملاح إذا غرقت السفينة من يده، والحمال إذا بعثر فهو ضامن عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الهلاك حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأن الهلاك حصل من دون محرق، والدق المخرق غير مأذون فيه؛ لأنه لم يدخل تحت العقد. بيانه: أن المعقود عليه في حق الأجير عمل في الذمة، وإنه نوعان: سليم، ومعيب والمستحق بحكم المعاوضات السليم دون المعيب، وفي وسعه تسليم السليم؛ لأن العيب إنما يحصل بحرق، وعنف يكون من العامل، والتحرز عنه متمكن فلم يدخل المخرق تحت العقد والإذن بخلاف المعين؛ لأن المعين متبرع في العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم عن العيب بمطلق الإعانة. كما في هبة العين بخلاف ما نحن فيه وبخلاف النزاع والختان؛ لأنه ليس في وسعهما تسليم السليم؛ لأن السلامة بعد وجود القطع بحده إنما يكون بدفع السراية، ودفع السراية إنما يكون بقوة طبع المعقود به النزع، فلا يكون دفع في وسع الفاعل، فلا يصير مستحقاً عليه. بخلاف ما نحن فيه، فإن الدق السليم عن الخرق في وسعه، فيصير مستحقاً عليه بحكم المعاوضة. وبخلاف الأجير لواحد؛ لأن المعقود عليه في حق الأجير لواحد بتسلم النفس لا بمقابلة العمل. وإذا لم يكن الأجر في حقه بمقابلة العمل كان معيناً في حق العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم، ثم إذا وجب الضمان على الأجير المشترك بما جنت يده عند علمائنا الثلاثة، كان المستأجر بالخيار:
إن شاء ضمنه قيمته معمولاً، وعليه أجر المثل؛ لأنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة.
فإن شاء صاحب الثوب مال إلى الخلاف، وضمنه قيمة ثوبه غير معمول، ولا أجر له؛ لأنه لم يتسلم العمل.
وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه أجر مثله.
ثم الأجير المشترك إنما يضمن ما جنت يده عندنا إذا كان محل العمل مسلماً إليه تسليماً يكفي لنقل ضمان العقد لو كان مشتركاً، والمضمون ما يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفعه، وإنما شرط أن يكون محل العمل مسلماً إليه. لأن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان العقد فإنه لولا هذا العقد بأن كان معيناً لا يضمن، وضمان العقد لا يستوفى من العاقد إلا بالتخلية، كما في بيع العين.
وإنما شرطنا أن يكون المضمون بحال يجوز أن يضمن بالعقد لما ذكرنا: أن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده، إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان عقد، وإنما يضمن بالعقد ماله أثر في إيجابه وهو المال، فأما المضمون إذا كان شيئاً لا(7/587)
يضمن بالعقد كمال كالدم، فإنه لا يجب الضمان فيه على الأجير. وإنما شرطنا أن يكون في وسع الأجير دفع ذلك الفساد؛ لأن العقد إنما ينعقد على ما في وسع الأجير لا على ما ليس في وسعه.
نوع آخر في الحمال ومكاري الدابة والسفينة
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر حمالاً ليحمل له دناً من القراب إلى مكان معلوم بأجر معلوم، فوقع الحمال في بعض الطريق وانكسر الدن.
فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له.
وإن شاء ضمنه في المكان الذي انكسر وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الحمال أجير مشترك هلك العين في يده لوقوعه، وعثاره، والتحزر عنه ممكن في الجملة، فيجب عليه الضمان عندنا لما مر والمستأجر بالخيار على ما بينا؛ لأن الحمال موافق من وجه فإنه أمر بالحمل، وقد حمل مخالف من وجه؛ لأنه أمره بالحمل على وجه يصير الدن محمولاً إلى مكان معين، ولم يأت بذلك الحمل.
فإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وضمنه في المكان الذي حمل ولا أجر؛ لأنه لم يسلمه العمل.
وإن شاء مال إلى جهة الوفاق وضمنه في المكان الذي انكسر، وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وفي هذه المسألة إشكالان:
أحدهما: أنه قال له أن يضمنه قيمته في المكان الذي حمل، ولم يوجد منه سبب ضمان في ذلك المكان.
والثاني: أنه قال: إذا ضمنه قيمته في المكان الذي انكسر أعطاه الأجر بحسابه جمع بين الأجر والضمان، والأجر مع الضمان لا يجتمعان على مذهبنا والجواب عن الإشكال الأول: لا بل وجد سبب الضمان في ذلك المكان. وهذا لأن سبب الضمان وإن كان هو من عمله ذلك حالة الانكسار، إلا أن الفساد الحاصل من عمله استبدالي حالة العقد؛ لأن الانكسار من عمله إنما أوجب الضمان باعتبار العقد، فإنه بدون عقد الإجارة الأجير يكون معيناً في الحمل، ولا ضمان على المعين ولما كان وجوب الضمان باعتبار العقد كان سبب وجوب الضمان العقد من حيث الاعتبار، والحكم يضاف إلى السبب، فقد وجد سبب الضمان في المكان الذي انكسر من عمله، فلهذا يخير.
والجواب عن الإشكال الثاني: الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان عندنا في حالة واحدة، وقد اختلف الحالة هاهنا بيانه: أنه إذا ضمنته قيمته في المكان الذي انكسر، فقد جعل المتاع أمانة عنده من حيث حمل إلى المكان الذي انكسر، فالأجر يجب له في حالة الأمانة، وإنما صار مضموناً عند الكسر. وهذه حالة أخرى بعد انقضاء حالة الأمانة. ومثل هذا جائز. ألا ترى أنه لو حمل المتاع إلى ذلك المكان المعين، ثم أحرقه أو طرحه فإنه يضمن قيمته في ذلك المكان الذي أحرقه أو طرحه، ولا يبطل الأجر، لأن الأجر(7/588)
واجب في حالة الأمانة، وهذه حالة أخرى فلم يجتمع الأجر والضمان إذاً.
ومن وجه آخر أن الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان؛ لأن بالضمان يصير المضمون ملكاً للآخر، فيتبين أنه عمل في ملك نفسه وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأنه إذا ضمنه في المكان الذي انكسر، فإنما يملكه الحمال في المكان الذي انكسر فيبقى حاملاً إلى هذا المكان ملك الغير، فيستحق الأجر (51ب4) وصار كما لو استهلك المتاع بعدما سلمه إلى المالك، هذا إذا انكسر في وسط الطريق. فأما إذا سقط من رأسه أو زلق رجله بعدما انتهى إلى المكان المشروط، وانكسر الدن فله الأجر ولا ضمان عليه.
حكي عن القاضي صاعد النيسابوري هكذا؛ لأنه حين انتهى إلى المكان المشروط لم يبق الحمل مضموناً عليه. فإما يتوجب جميع الأجر وصار الحمل مسلماً إلى صاحب الدن، حتى لا يستحق الحبس، والمتولد من عمل غير مضمون لا يكون مضموناً عليه بخلاف ما إذا انكسر في وسط الطريق؛ لأن الحمل مضمون لأنه لم يقع الفراغ عنه بعد، وهذا الذي حكي عن القاضي صاعد يوافق قول محمد أخيراً على قول أبي يوسف، وهو قول محمد.
أو لأن الحمال يجب أن يكون ضامناً، فقد ذكر بعد هذا عن ابن سماعة: في رجل استأجر حمالاً يحمل له فرقاً من سمن إلى بيته، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال، فوقع من أيديهما وهلك، فالحمال ضامن في قول أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً. فأبو يوسف ما اعتبر الوصول إلى بيت صاحب الفرق إذ لو اعتبرها قال: بوجوب الضمان، وإنما بيته معنى آخر أن يد الحمال قد بتت، وصار الفرق في ضمانه، فلا تبرأ عن الضمان إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه، وإذا وضعاه عن رأس الحمال، فما زال يد الحمال من كل وجه وفي مسألة: ما لم يزل يد الحمال أصلاً. فأولى أن لا يبرأ عن الضمان عنده ههنا.
ثم رجع محمد عن هذا. وقال: لا ضمان على الحمال، وأشار إلى المعنى: أن السمن وصل إلى صاحبه فيبرأ عن الضمان. هذا إذا حصل التلف بجناية يده. أما إذا حصل التلف لا بجناية يده إن حصل بأمر لا يمكن بالتحرز عنه لا ضمان عليه بالإجماع. وله الأجر لأن عمل الحمال يعتبر مسلماً إلى المالك في موضع لم يجب الضمان على الحمال. فإنما هلك المتاع بعد التسليم، فلا يسقط الأجر.
وإن هلك بأمر يمكن التحرز عنه. فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه وله الأجر بحساب ذلك.
وعندهما يجب الضمان وللمالك الخيار. كما لو حصل التلف بجناية يده.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في الملاح إذا أخذ الأجر وغرقت السفينة من موج، أو ريح أو مطر، أو من شيء ليس في وسعه دفعه، فلا ضمان عليه.
وإن حصل الغرق من عمله بأن غرقت من يده أو من خرقه يضمن، إذا لم يكن صاحب المتاع فيها؛ لأن محل العمل سلم إليه والمضمون لا يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفع(7/589)
ذلك.
وإن كان صاحب المتاع في السفينة، أو وكيله وغرقت السفينة من يده ومعالجته فلا ضمان عليه، إلا أن يخالف لأن محل العمل غير مسلم إليه.
إذا كان صاحب الطعام في السفينة وكان بمنزلة ما لو عثرت الدابة المستأجرة من سوق أجير المشترك، فسقط الحمل ففسد، وصاحب المتاع راكب على الدابة؛ فإنه لا يضمن الأجير لأنه لم يحل بينه وبين المتاع، فكذلك هذا بخلاف ما لو عثرت الدابة المستأجرة، فسقط المتاع فهلك وصاحب المتاع يسير معه خلف الدابة، فإن الأجير يضمن؛ لأن الهلاك حصل من جناية يده، ومحل العمل مسلم إليه؛ لأنه سلم المتاع إليه وسيره معه خلف الدابة، ليس باسترداد لما دفع إليه. ألا ترى أنه بهذا السير غير متمكن من الدابة، فكيف يتمكن ما عليها، بخلاف راكب السفينة؛ لأنه متمكن من السفينة فيكون متمكناً مما كان في السفينة، فلا تحصل التخلية.
قياس مسألة السفينة من الدابة: أن لو كان صاحب المتاع راكباً على الدابة، فعثرت الدابة من مسافة، وسقط المتاع وهلك، ولو كان كذلك لا يضمن.
وفي «المنتقى» لو حمل متاعاً على حمال وصاحب المتاع يمشي معه، فعثر الحمال وسقط المتاع وفسد فهو ضامن؛ لأن عثاره من جناية يده.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: وإن كان على الدابة مملوك صغير لرب المتاع، واستأجر الدابة ليحملهما فعثرت الدابة فوقعا، فمات المملوك، وإن كان الهلاك من جناية يده؛ لأن المضمون هو الدم لأنه صار قاتلاً للعبد. وما يجب بقتل العبد ضمان دم، والدم مما لا يضمن بالعقد. بخلاف المتاع، ثم إنما يضمن المتاع إذا كان العبد بحيث لا يصلح لحفظ المتاع، فأما إذا كان يصلح لحفظ المتاع لا يضمن المتاع؛ لأنه في يد العبد ويد العبد يد المالك، فكان بمنزلة ما لو كان على الدابة وكيل المولى.
وقد نص على هذا في مسألة السفينة فقال: وكذلك السفينة لو حمل فيها رقيقاً له مع متاعه، ومثلهم لا يحفظ شيئاً فغرقت السفينة من فعله وهلك المتاع وهلك الرقيق، فإن الملاح يضمن المتاع، ولا يضمن الرقيق شرطه لضمان المتاع أن لا يصلح مثل هذا الرقيق للحفظ، فهذا يبين لك أنه إذا كان يصلح أن لا يضمن المتاع، وكذلك ما هلك من غير صنع الأجير المشترك، إنما يجب عليه ضمانه عندهما إذا صار العين مسلماً إلى الأجير، حتى قال محمد رحمه الله: وإذا كان رب المتاع والمكاري راكبين على الدابة المستأجرة، أو سابقين أو قائدين عثرت الدابة وهلك المتاع الذي عليه، لا ضمان على المكاري. وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا سرق المتاع من رأس الحمال ورب المتاع معه، فلا ضمان عليه؛ لأن يد صاحب المتاع قائم على المتاع بعد وقيام يده يمنع وقوع التسليم إلى غيره.
قال القدوري رحمه الله في كتابه: ولو كان الطعام في سفينتين مقرونتين إلا أنهما يسيران معاً، ويحبسان معاً، وصاحب المتاع في أحدهما فلا ضمان على الملاح فيما هلك.(7/590)
وفي «المنتقى» لو كانت سفن كثيرة وصاحب المتاع أو الوكيل في إحداها فلاضمان على الملاح، فيما ذهب من السفينة التي فيها صاحب المتاع أو وكيله، وضمن ما سوى ذلك. قال: هذا كله قول أبي يوسف ومحمد قال ثمة ولأبي يوسف: فيما إذا كانت السفن كثيرة قول آخر. فقال: إذا كانت السفن تنزل معاً وتسير معاً، حتى يكونوا في رفقة واحدة، فلا ضمان على الملاح وإن تقدم بعضها بعضاً وكذلك القطار إذا كان عليها حمولة ورب الحمولة على بعير فلا ضمان على الحمال، لأن يد صاحب المتاع ثابتة على جميع ذلك.
وعن أبي يوسف: فيمن استأجر حمالاً ليحمل له هو فرقاً من سمن فحمله صاحبه، والحمال ليضعاه على رأس الحمال، فوقع وتخرق الزق، لا يضمن الحمال؛ لأنه لم يسلم إليه السمن، فإن السمن بعد في يد صاحبه ولا ضمان على الحمال بدون التسليم وهكذا روى ابن سماعة في نوادره عن محمد.
قال: في نوادر ابن سماعه: ولو حمله ثم وضعه في بعض الطريق، ثم أراد رفعه فاستعان برب الزق فرفعا بصعابه، فوقع فتخرق، فالحمال ضامن لأنه صار في ضمانه حين حمله، ولم يبرأ منه بعد؛ لأنه لم يسلمه إلى صاحبه.
وإن حمله إلى بيت صاحبه، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال فوقع من أيديهما، فالحمال ضامن عند أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً؛ لأن يد الحمال قد ثبتت وصار في ضمانه فلا يبرأ إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه وإذا وضعاه جميعاً فيد الحمال لم تزل، فلا يزول الضمان. ثم رجع محمد رحمه الله وقال: لا ضمان على الحمال، لأن السمن قد وصل إلى يد صاحبه فيبرأ عن الضمان.h
قال الفقيه أبو الليث: القياس أن يضمن الحمال النصف؛ لأن الفرق وقع من فعلهما، وكثير من مشايخنا افتوا به. وروى ابن سماعة عن محمد: إذا كان رب المتاع والمكاري يسوقان الدابة، فلا ضمان على المكاري. وعن أبي يوسف: إذا كان رب المتاع مع المكاري، فعثرت الدابة فلا ضمان على المكاري. وإن كان عثار الدابة من سياقه أو قياده.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا انقطع حبل الحمال وسقط الحمل، ضمن الحمال بالاتفاق؛ لأنه لما شده بحبل لا يحتمله فكأنه هو المسقط للحمل، وكان التلف حاصلاً من جناية يده معنى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الحمال إذا أنزل في مفازة وتهيأ له الانتقال فلم (52أ4) ينتقل حتى فسد المتاع بسرق أو مطر، فهو ضامن وتأويله: إذا كان السرقة والمطر غالبا؛ لأنه يكون مضيعاً.
وفي «الواقعات» : استأجر حمالاً يحمل له طعاماً في طريق كذا، فأخذ في طريق آخر يسلكه الناس، فهلك المتاع فلا ضمان. وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: وهذا إذا كان الطريقين متقاربين لأنه لا يصح التعيين لعدم الفائدة.(7/591)
فأما إذا كان بينهما تفاوت ظاهر من حيث الطول والقصر أو السهولة والصعوبة، ضمن الأجير. وهو رواية هشام عن محمد غير أنه أطلق في الكتاب؛ لأن الطريق إذا كان يسلكها الناس، قل ما يقع التفاوت فيها حتى لو حمله في البحر ضمن، وإن كان مما يحمله الناس لما كان بينهما تفاوت فاحش، ولكن إذا بلغ فله الأجر في البحر وغيره؛ لأنه إذا سلم يبقى التفاوت صورة، فلا يمنع وجوب الأجر.
قال الناطفي: وهكذا الجواب عندي في البضاعة، إلا أن يأذن صاحبه في الحمل في البحر.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا استأجر مكارياً يحمل له عصيراً على دابته إلى موضع معلوم، فلما أراد أن يضعه عن الدابة أخذ أحد العدلين من جانب ورمى بالعدل الآخر من الجانب الآخر فانشق العدل من رميه وخرج العصير. فالمكاري ضامن لنقصان الزق، وللعصير؛ لأن الهلال كان بصنعه.
استأجر حمالاً ليحمل حقيبته إلى مكان معلوم، فانشقت الحقيبة بنفسها وخرج ما فيها. قال الفقيه أبو بكر: الحمال ضامن، كالحمال إذا انقطع حبله.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضمن الحمال، ويشبه هذا انقطاع الحبل؛ لأن ثمة التفريط كان من قبل الحمال، حيث شد الحمل بحبل واه، وههنا التقصير من قبل صاحب الحقيبة، حيث جعل ماله في حقيبة لا يستمسك ما فيها.
قال الفقيه رحمه الله: وتأخذ ونحن نفتي به أيضاً. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا رفع حملاً إلى مكار ليحمله إلى موضع، وشرط عليه أن يسير ليلاً، وصاحب الحمل معه يسيران ليلاً، فضاعت الدابة مع الحمل. قال: إن كان المكاري ضيع بترك الحفظ ضمن بلا خلاف. وإن ضاعت الدابة من غير تضييع من المكاري، لم يضمن المكاري في قول أبي حنيفة خلافاً لهما. وينبغي أن لا يضمن إذا كان رب المتاع يسير معه، بلا خلاف بدليل ما مر قبل هذا.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مكار حمل كرابيس رجل، فاستقبله اللصوص فطرح الكرابيس وذهب بالحمار. قال: إن كان لا يمكنه التخلص منهم بالحمار والكرابيس، وكان يعلم أنه لو حمله أخذ اللصوص الحمار والكرابيس فلا ضمان؛ لأنه لم يترك الحفظ مع القدرة عليه.
نوع آخر في النساج والخياط
قد ذكرنا بعض مسائل النساج في فصل الحبس بالأجر. ومن جملة ما لم نذكر ثمة نساج كان ساكناً مع صهره، ثم اكترى داراً وانتقل إليها وترك الغزل ثمة، فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأن الغزل ما دام ثمة فهو ساكن عنده، فالسكنى عنده لا تبطل ما دام بعض المتاع باقياً. وعندهما: هو ضامن على كل حال. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا دفع إلى نساج غزلاً لينسجه كرباساً، فدفع النساج إلى آخر لينسجه فسرق من عند الآجر، إن(7/592)
كان الآجر أجير الأول فلا ضمان على واحد منهما، وإن لم يكن أجير الأول وكان أجنبياً ضمن الأول بلا خلاف، ولا يضمن الآجر في قول أبي حنيفة خلافاً له. وهو نظير المودع إذا أودع الوديعة من أجنبي بغير إذن المالك.
وفي «القدوري» : ومن استأجر على عمل فله أن يعمل بنفسه وأجرائه إلا إذا شرط عليه العمل بنفسه فعلى ما ذكر القدوري: إذا كان الآجر أجيراً للأول، إنما لا يضمن الأول بالرفع إليه إذا لم يشترط على الأول عمله بنفسه. أما إذا شرط عليه العمل بنفسه يضمن بالرفع إلى الآجر. وإن كان الأجير أجيراً للأول.
وفي فتاوى أهل سمرقند: نساج ترك كرباس رجل في بيت الطراز فسرق ليلاً، فإن كان بيت الطراز حصيناً يمسك الثياب في مثله لا يضمن، وإن لم يكن حصيناً ولا يمسك الثياب في مثله، إن رضي صاحب الكرباس فيه فلا ضمان، وإلا فهو ضامن.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دفع إلى نساج كرباساً بعضه منسوج وبعضه غير منسوج، فسرق من عنده. فعلى قول من يقول: بأن الأجير المشترك يضمن ما هلك على يده من غير صنعه، يضمن النساج كل الثوب؛ لأن المنسوج مع غير المنسوج كشيء واحد لاتصاله به، وكذا نسج الباقي يزيد في قيمة المنسوج، فكان أجيراً مشتركاً في الكل.
وفي هذا الموضع أيضاً: إذا دفع إلى خياط كرباساً فخاطه قميصاً، وبقي منه قطعة فسرقت القطعة فهو ضامن. وكذا لو دفع صرمياً إلى إسكاف ففضل عنه شيء، فسرق منه لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه؛ لأن المالك إنما سلم إليه للقطع لا غير. فإذا قطع يجب عليه رد الزيادة.
وذكر الحاكم في «المنتقى» إذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: اقطعه حتى يصيب القدم، وكمه خمسة أشبار وعرضه كذا، فجاء به ناقصاً كان قدر أصبع ونحوه، فليس بشيء، وإن كان أكثر منه فله أن يضمنه، وكثير من مسائل الخياط مرت في الفصل السابع والعشرين.
نوع آخر في المسائل العائدة إلى الحمام
قد ذكرنا بعض المسائل العائدة إلى الحمام في فصل إجارة الحمام. ومن جملة ما لم نذكر ثمة رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: احفظ الثياب، فلما خرج لم يجد ثيابه، فإن أقر صاحب الحمام أن غيره رفعه وهو يراه، ويظن أنه يرفع ثياب نفسه فهو ضامن؛ لأنه تارك الحفظ، حيث لم يمنع القاصد وهو يراه.
وإن سرق وهو لا يعلم به فلا ضمان عليه، إن لم يذهب من ذلك الموضع، ولم يضيعه. وهذا قول الكل؛ لأن صاحب الحمام مودع في حق الثياب، إذا لم يشترط له بازاء حفظه الثياب أجر.
فأما إذا شرط له بإزاء الحفظ أجر، ودفع الثياب إلى الثاني: وهو الذي يحفظ(7/593)
الثياب بأجرة وفارسيته دار فلا ضمان عليه فيما سرق، عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأنه أجير مشترك.
وفي «فتاوى الفضلي» : امرأة دخلت الحمام، فأعطت ثيابها إلى المرأة التي تمسك الثياب بأجر وفارسيتها جابة دار فلما خرجت لم تجد عندها ثوباً من ثيابها.
قال: إن كانت هذه المرأة قبل هذه المرة تدخل الحمام وتدفع ثيابها إلى هذه الممسكة، وتعطيها الأجر على حفظ ثيابها فلا ضمان عليها عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لهما، وإن كان هذا أول مرة دخلت هذه الحمام، ودفعت ثيابها إلى هذه الممسكة فلا ضمان عليها في قولهم جميعاً؛ لأنه إذا كان هذا أول مرة، ولم يدفع الأجر أولاً، شرط لها أجراً فهي مودعة لا أجيرة مشتركة. هكذا ذكر وعلى قياس ما ذكرنا عن محمد: أن كل عمل لا يعمل إلا بأجر، فالأجر به ثمن يرصد له ... ينبغي أن يكون الثانية أجيرة مشتركة عند محمد، حتى تضمن عنده والفتوى على قول أبي حنيفة: أن الثاني لا يضمن إلا بما يضمن المودع.
رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: أين أضع الثياب؟ فأشار صاحب الحمام إلى موضع؟ فوضع ثمة ودخل الحمام، ثم خرج رجل وأخذ الثياب، فلم يمنعه صاحب الحمام؛ لأنه ظنه صاحب الثياب، ضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ له، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وهذا قول ابن سلمة وابن نصر الدبوسي.
وكان أبو القاسم يقول: لا ضمان على صاحب الحمام. والأول: أصح. وهو نظير ما لو دخل رجل بدابته خاناً، وقال لصاحب الخان: أين أربطها؟ فقال: هناك، فربطها وخرج فلما رجع، لم يجد دابته، فقال صاحب الخان لصاحب الدابة: إن صاحبك قد أخرج الدابة ليسقيها ولم يكن له صاحب، ضمن صاحب الخان؛ لأن قوله: أين أربطها؟ استحفاظ لصاحب الخان، فإذا أشار إلى موضع الربط (52ب4) فقد أجابه إلى الحفظ، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فصار ضامناً كذا ههنا. رجل دخل الحمام ونزع الثياب من يدي صاحب الحمام، ولم يقل بلسانه شيئاً فدخل الحمام ثم خرج، ولم يجد ثيابه، فالمسألة على وجهين:
إن لم يكن للحمام ثيابي يضمن صاحب الحمام ما يضمن المودع بأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام ما يضمن المودع؛ لأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام، إذا لم يكن ثيابي استحفاظ له.
وإن كان للحمام ثيابي إلا أنه لم يكن حاضراً، فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان حاضراً لا يضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ للثيابي دلالة دون صاحب الحمام، فلا يضمن صاحب الحمام إلا إذا صاحبه الثياب على استحفاظ صاحب الحمام، بأن قال(7/594)
له: أين أضع الثياب؟ فحينئذ يصير صاحب الحمام مودعاً، فيضمن ما يضمن المودع.
وإذا دخل رجل الحمام ودفع ثيابه إلى صاحب الحمام، واستأجره للحفظ واشترط عليه الضمان إذا تلف فضاع الثياب، كان الفقيه أبو بكر يقول: يضمن الحمامي إجماعاً. وكان يقول: الأجير المشترك إنما لا يضمن عند أبي حنيفة، إذا لم يشترط عليه الضمان. أما إذا شرط عليه الضمان يضمن، وكان الفقيه أبو جعفر يسوي بين شرط الضمان وعدم الشرط، وكان يقول: بعدم الضمان لأن شرط الضمان في الأمانة شرط مخالف لقضيه الشرع، فيكون باطلاً.
قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ ونحن نفتي أيضاً بما قال الفقيه أبو الليث.
ونوع آخر في البقار والراعي والحارس
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل راعياً يرعى معلوماً له مدة معلومة، بأجر معلوم، فهذا جائز، ويكون الراعي أجيراً مشتركاً؛ لأنه أوقع العقد على العمل لما ذكر العمل أولاً، إلا إذا قال: على أن لا ترعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يصر أجير وحد. وقد مر هذا في أول هذا الفصل ولو كان استأجره مدة معلومة على أن يرعى غنماً معلوماً له بأجر معلوم، فهو جائز، ويكون أجير وحد لأنه أوقع العقد في حقه على المدة، لما ذكر المدة أولاً. إلا إذا قال: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يكون أجير مشترك. ثم الراعي إذا كان أجير وحد وماتت من الأغنام واحدة، حتى لم يضمن لا ينقص من الأجر بحسابه، وذلك لأن الغنم لو ماتت كلها لا يسقط من الأجر شيء إذا سلم نفسه في المدة للرعي، وكان للآجر أن يمكنه رعي أغنام أجر؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، لا بحقيقة العمل فإذا ماتت شاة منها أولى أن لا يسقط من الأجر شيء.
ولو ضرب شاة منها ففقأ عينها أو كسر يدها ضمن؛ لأن أجير الوحد يضمن بالخلاف. وقد خالف لأنه ضرب والضرب غير داخل تحت الإجارة. إنما دخل كلها الرعي والرعي يتحقق بدون الضرب، وإذا لم يدخل الضرب تحت الإجارة صار الحال في حق الضرب، بعد الإجارة كالحال قبلها وقبل الإجارة لو ضرب شاة هذا، أو تلف من ضربه شيء ضمن، فكذلك هذا.
ولو هلك منها شيء في السقي أو الرعي لم يضمن؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد لا يضمن ما لم يخالف، ولم يخالف لأنه فعل ما أذن له في ذلك؛ لأن السقي داخل تحت العقد؛ لأن الرعي لا يتحقق بدونه، وإذا دخل تحت العقد لم يضمن ما هلك منها كأجير الوحد إذا دق فتخرق وهو مصدق فيما هلك منها لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين هذا إذا كان الراعي أجير واحد.
فأما إذا كان أجير مشترك فإنه لا يضمن ما مات من الأغنام عندهم جميعاً؛ لأن الهلاك حصل من أمر لا يمكن التحرز عنه؛ لأن الموت حتف أنف مما لا يمكن التحرز(7/595)
عنه. فإنه ليس في هذا الراعي ذلك.
وهذا إذا ثبت الموت بتصادقهما أو بالبينة فأما إذا ادعى الراعي الموت وجحد رب الأغنام فعلى قول أبي حنيفة: القول قول الراعي؛ لأنه أمين فيكون القول قوله أنه مات كالمودع.
وأما عندهما القول قول رب الأغنام. وكان يجب أن يكون القول قول الراعي؛ لأنه أمين، لأن المال أمانة في يده عندهما. وإنما لا يضمن إذا هلك بآفة يمكن التحرز عنه؛ لأنه يعد ذلك تضييعاً منه، فيضمن بالتضييع. ولهذا قالا: إذا خلط خلطا لا يمكن التمييز فإنه يضمن قيمته يوم الخلط، ولو كان قبضه قبض ضمان عندهما لكان يضمن قيمته يوم القبض كالغاصب، فدل أن المال أمانة في يد أجير المشترك عندهما. وإنما يضمن بالتضييع إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه. ولهذا علل محمد رحمه الله في الكتاب فقال: لأنه ضيع حيث لم يحفظها من السبع والسرقة.
وإذا كان المال أمانة في يده وإنما يضمن بالتضييع كان يجب أن يكون القول قوله ما لم يقر بالتضييع. ولم يوجد منه الإقرار بالتضييع إلا أنه جعل القول قول رب الغنم، وذلك لأنه وجب على أجير المشترك زيادة حفظ لم يجب على المودع. وعلى أجير الوحد مخافة أن لا يضيعوا أموال الناس، فإنه يجتمع في أيديهم أموال الناس على ما أشار في حديث علي رضى الله عنه. وإنما تأتى بزيادة حفظ لم يجب على المودع، وعلى أجير الوحد إذا لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن لم يوجد منه الإقرار بسبب الضمان؛ لأنه متى علم أن القول قوله عند الهلاك. كما في المودع لا يجد في الحفظ، فلهذه الضرورة لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن كانت المال أمانة عنده ليحصل ما هو المقصود من زيادة حفظ وجب عليه، لم يجب على المودع وعلى أجير الوحد.
ولو ساقها إلى المرعى فعطب منها شاة لا من سياقة بأن صعدت الجبل أو مكاناً مرتفعاً، فتردى منه فعطبت فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك ما كان من قبله وعلى قولهما ضمن؛ لأن الهلاك حصل من أمر يمكن التحرز عنه بأن لا يأتي هذا المكان، أو إن أتى هذا المكان بحفظها عن الصعود على الجبل، وعلى المكان المرتفع. وكذا لو أوردها نهراً ليسقيها، وغرق شاة منها على قول أبي حنيفة لا ضمان. وعلى قولهما ضمن. وكذلك لو أكل منها سبع أو سرق منها، فالمسألة على الخلاف. ولو ساقها وعطبت شاة منها من سياقه بأن استعجل عليها، فعثرت وانكسر رجلها، أو أندق عنقها فعليه الضمان عند علمائنا الثلاثة.
وإذا ساق الراعي الغنم فتناطحت بعضها بعضاً من سياقه، أو وطئ بعضها بعضاً من سياقة. فإن كان الراعي مشتركاً فهو ضامن على كل حال؛ لأن هذا من جناية يده. وإن كان خاصاً: إن كانت الأغنام لواحد فلا ضمان عليه. وإن كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة فهو ضامن.
وصورة الأجير الخاص في حق الاثنين والثلاثة: أن يستأجر رجلان أو ثلاثة راعياً(7/596)
شهراً ليرعى غنماً لهم، أو لهما فقد فرق في حق الأجير الخاص بينهما، إذا كانت الأغنام لواحد، وفيما إذا كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة. والفرق بينهما وهو أن الأغنام كلها لما كانت لواحد ففعل الأجير في السوق منقول إلى صاحب الأغنام، باعتبار القاتل والمقتول فإنه عامل له فيهما، فصار فعله في السوق منقولاً إلى صاحب الأغنام، فكأن صاحب الأغنام ساق بنفسه. ولو ساق بنفسه فقتل بعضها بعضاً لا يجب الضمان إذا كانت الأغنام كلها للسائق، فكذلك هذا. فأما إذا كانت لرجلين بأن كان بعضها لزيد وبعضها لعمرو ففعل الأجير إن صار منقولاً إلى زيد باعتبار القاتل، فإنه عامل لزيد في حق القاتل، فإن بالقاتل ملك زيد. فباعتبار المقتول لا ينتقل فعله في السوق إلى زيد لأنه في سوق المقتول أجير عمرو، وإذا انتقل فعله إلى صاحب القاتل باعتبار القاتل، ولم ينتقل باعتبار المقتول لم يثبت الانتقال، فبقي مقصوراً عليه وللراعي أن يبعثه بالأغنام على يدي غلامه أو أجيره أو ولده الكبير الذي في عياله؛ لأن بالرد من الحفظ. وله الحفظ بيد من في عياله. فإن هلك في يده (53أ4) حالة الرد. فإن كان الراعي مشتركاً فلا ضمان عليه في قوله أبي حنيفة على كل حال. وعندهما إن هلك بأمر يمكن التحرز منه فهو ضامن كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد، وإن كان الراعي أجير خاص، فلا ضمان على كل حال، كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد.
ويشترط أن يكون الراد كبيراً يقدر على الحفظ؛ لأنه متى كان صغيراً لا يقدر على الحفظ يكون هذا تضييعاً منه، والأجير يضمن بالتضييع عندهم جميعاً. وشرط أن يكون في عياله؛ لأنه متى لم يكن في عياله كان الرد بيده وبيد أجنبي سواء، ليس له الرد بيد الأجنبي هكذا بيد من ليس في عياله.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي: أن للمشترك أن يرد بيد من ليس في عياله وليس للخاص ذلك. والحاكم يرد به يتولى بينهما وقال: ليس لهما ذلك.
الراعي المشترك إذا خلط الأغنام بعضها ببعض، فإن كان يمكنه التمييز بأن كان يعرف غنم كل واحد، فلا ضمان عليه؛ لأن مثل هذا الخلط ليس باستهلاك، ويكون بمنزلة خلط السود بالبيض. والقول قول الراعي في تعيين الغنم لكل واحد، لأن اليد له، فيكون القول قوله: إن هذا لهذا، وإن كان لا يمكنه التمييز، بأن يقول: لا أعرف غنم كل واحد، فهو ضامن قيمة الأغنام، لأن مثل هذا الخلط استهلاك بمنزلة خلط السود بالسود والقول قول الراعي في مقدار القيمة؛ لأن صاحب الغنم يدعي عليه زيادة وهو ينكر.
وتعتبر قيمة الأغنام يوم الخلط وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل. وعلى قولهما اختلف المشايخ بعضهم قالوا: تعتبر القيمة يوم القبض. وقال بعضهم: يوم الخلط وهو الصحيح؛ لأن الأجير المشترك عندهما لا يضمن بالقبض، وإنما يضمن بترك الحفظ والتضييع.
وقيل: يجب أن يتخير أرباب الغنم إن شاءوا ضمنوه، وإن شاءوا أخذوها مشتركة كما في خلط الحنطة بالحنطة. وإذا ادعى بعضهم طائفة من الغنم، فإن الراعي يحلف ما(7/597)
هذه غنم هذا؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقرَّ به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف. فإن حلف برئ وإن نكل ضمن القيمة لصاحبه. إذا خاف الراعي على شاة منها فذبحها فهو ضامن قيمتها يوم ذبحها؛ لأن الذبح ليس من عمل الرعي في شيء، فلا يكون داخلاً تحت العقد قال مشايخ بلخ: هذا إذا كان يرجى حياتها بأن كان شكل الحال يرجى حياتها وموتها. أما إذا تيقن لموتها فلا ضمان عليه؛ لأن الأمر بالرعي أمر بالحفظ، والحفظ الممكن حالة التيقن بالموت بالذبح. فيصير مأموراً بالذبح في هذه الحالة. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأول من شركة «واقعاته» : أن من ذبح شاة إنسان لا يرجى حياتها يضمن، والبقار والراعي لا يضمن في مثل هذا. وفرق بين الأجنبي والراعي والبقار والفقيه أبو الليث سوى بينهما فقال: لا يضمن الأجنبي كما لا يضمن الراعي والبقار لوجود الإذن بالذبح دلالة في حق الكل في هذه الحالة وهو الصحيح، وكذلك الجواب في البعير؛ لأن الذبح في هذه المواضع إصلاح اللحم، فأما في الحمار فلا يذبح. وكذا في البغل؛ لأن الذبح لا يصلح اللحم فيهما. وفي الفرس أيضاً لا يذبح عند أبي حنيفة؛ لأن الصحيح من مذهبه أن لحم الفرس مكروه كراهة التحريم. وإذا باع المالك بعض الأغنام، فإن كان الراعي خاصاً لم يبطل شيء من الأجر وإن كان مشتركاً يبطل من الأجير بحصة ما باع. والكلام فيه نظير الكلام.
فيما إذا مات بعض الأغنام وهذا لأن الخاص يستحق الأجر بتسليم النفس، وقد سلم نفسه للرعي بأقصى ما في وسعه، فأما المشترك يستحق الأجر بالعمل ولم يوجد عمل الرعي فيما باع. وإذا أراد رب الغنم أن يزيد في الغنم ما يطيق الراعي، كان له ذلك إذا كان الراعي خاصاً؛ لأن رب الغنم ملك جميع منافعه في حق الرعي في هذه الإجارة، فصار الأجير في حق الرعي بمنزلة العبد له وله أن يكلف عبده من الرعي ما يطيق، فكذا ههنا ولا يكلفه فوق طاقته؛ لأن الأجير الخاص لا يكون أشقى حالاً من عبده، وليس له أن يكلف عبده من الرعي ما لا يطيق فهاهنا أولى.
وسواء سمى له الغنم أو لم يسم فالعقد جائز إذا بين المدة؛ لأنه إذا بين المدة وصار أجير وحد تنصرف الإجارة إلى أقصى ما في وسع الأجير من الرعي في هذه المدة. وصار كأنه نص عليه. ولو نص عليه جاز العقد، وإن لم يسم الغنم كذا ههنا هذا إذا استأجر شهراً ليرعى غنمه ولم يشر إلى الغنم فأما إذا أشار إلى الغنم، بأن قال استأجرتك لترعى هذه الأغنام ثم أراد المستأجر أن يزيد في الغنم فالقياس أن ليس له ذلك، كما في الراعي المشترك.l
وفي الاستحسان له ذلك؛ لأنه لو لم يشر إلى هذه الأغنام كان المستحق عليه بحكم هذه الإجارة من الرعي ما في وسعه وطاقته. فلو تغير موجب هذا العقد إنما يتغير بهذه الإشارة، ولا وجه إلى ذلك؛ لأن قوله: هذه الأغنام بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه؛ لأن مطلق العقد يقتضي رعي هذه وغير هذه فبقوله: هذه الأغنام ذكر رعي هذه لا غير.
وذكر بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه لا يوجب تغيير أول الكلام،(7/598)
صار وجوده والعدم بمنزله. ولو انعدم قوله هذه الأغنام كان له أن يكلفه من الرعي ما يطيق كذا ههنا بخلاف الأجير المشترك؛ لأن الإشارة في الأجير المشترك ليس بذكر لبعض ما شمله مطلق العقد، بل هو ذكر لجميع ما تناوله العقد؛ لأن العقد في الأجير المشترك لا يجوز إلا بالإشارة إلى الأغنام، أو بذكر العدد. وإذا كانت الإشارة بياناً ما تناوله العقد بمطلق العقد بالمشار إليه، فلم يكن له أن يكلفه مقدار الزيادة.
أما ههنا فالعقد يجوز، وإن لم يشر إلى الأغنام ولم يسم عددها، ويستحق عليه من الرعي مقدار ما يطيق، فكانت الإشارة ذكر البعض لشمله أول الكلام، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا ولدت الأغنام أولاداً فإن كان الراعي أجير خاص فعليه رعي الأولاد، وإن كان الراعي أجير مشترك فليس عليه رعي الأولاد. وإن شرط على الأجير المشترك رعي ما يحدث من الأولاد فهو شرط فاسد. لو فارق العقد يفسد به العقد قياساً. وفي الاستحسان يجوز وجه القياس في ذلك وهو أن بعض المعقود عليه مجهول، وهو رعي الأولاد؛ لأنه لا يدري كم ظهر الأغنام وكذلك الأجر بإزاء الأغنام والأولاد، وإذا كان الأولاد مجهولاً كانت حصة الأولاد من الأجر مجهولة فيكون حصة الأمهات مجهولة أيضاً. ومع الجهالة تمكن الخطر في هذا العقد؛ لأنه لا يدري أن الأغنام تلد أولا تلد. وجه الاستحسان في ذلك: أن الجهالة إنما توجب فساد العقد؛ لكونها مانعة من التسليم والتسلم. وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأن تسليم الأولاد وتسلمها مما لا يحتاج إليه في الحالة حتى يقال في الحال مجهولة. وإنما يحتاج إليهم بعد الحدوث وبعد الحدوث هي معلومة، والأجر في الحال معلوم؛ لأن الأجر كله بإزاء الأمهات في الحال؛ لأن رعي الأولاد شرط على سبيل الزيادة وما يكون زيادة على المعقود عليه لا يكون لها حصة من البدل ما لم يوجد، بل يكون كله بمقابلة الأصل، وحال وجود الأولاد الذي هو حال انقسام البدل الأولاد معلومة، فكان الأجر معلوماً والخطر المتمكن في وجود الأولاد لا يوجب فساد العقد في الأمهات، لأن الأولاد جعلت معقوداً عليها على سبيل الزيادة والخطر في الزيادة لا يوجب خطراً (53ب4) في الأصل، والخطر في محل المبيع انعقاد العقد في محل آخر، فالخطر في الأولاد لا تمنع العقد على الأمهات للحال، وليس للراعي أن يبرئ على شيء منها بغير أمر صاحبها، وإن فعل ذلك يضمن ما عطب منها؛ لأن الإبراء لم يدخل تحت العقد؛ لأن الإجارة عقدت على الراعي، والإبراء ليس من الرعي، فصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله.
ولو أن الراعي لم يفعل ذلك، ولكن الفحل الذي في الغنم نزا على واحدة منها، فعطبت فلا ضمان على الراعي في ذلك بالإجماع، إن كان الراعي أجير خاص. وإن كان الراعي أجير مشترك فكذا الجواب عنده.
وعندهما: هو ضامن لأن الهلاك حصل بأمر يمكن التحرز (عنه) ، وإن مدت واحدة منها، وترك اتباعها حتى لا يضيع الباقي فهو في سعة من ذلك، ولاضمان عليه فيما مدت(7/599)
بالإجماع، إن كان الرعي خاصاً وعند أبي حنيفة إن كان الراعي أجير مشترك. وإن ترك حفظ ما مدت والأمين يضمن بترك الحفظ؛ لأن الأمين إنما يضمن بترك الحفظ إذا ترك بغير عذر، فأما إذا ترك بعذر، فإنه لا يضمن، كما لو دفع الوديعة إلى أجنبي حالة الحريق فإنه لا يضمن وإن ترك حفظها؛ لأنه تركها بعذر، فكذلك ههنا إنما ترك حفظها كيلا يضيع الباقي، وعندهما يضمن؛ لأنه ترك الحفظ بعذر يمكن الاحتراز عنه.
ورأيت في بعض النسخ: لا ضمان عليه فيما مدت إذا لم يجد من سعته يردها، أو سعته ليجر صاحبها بذلك. وإن تكارى من يجيء بالواحدة متطوع؛ لأنه لم يؤمر باستئجار هذا، وإن تفرقت الغنم والبقر عليه فرقاً لم يقدر على اتباعها كلها، وأقبل على فرقة منها وترك على ما سوى ذلك، فهو في سعة من ذلك ولا ضمان عليه؛ لأنه ترك حفظ البعض بعذر، وعلى قولهما: يضمن لأنه ترك بعذر يمكن الاحتراز عنه في الجملة.
وإذا كان الراعي أجير مشترك فرعاها في بلد، فعطبت واحدة منها أي هلكت بآفة نحو الغرق في الماء، وافتراس الفرس والسقوط من الحرّ وما أشبه ذلك. فقال ربّ الغنم: إنما شرطت عليك أن ترعى في موضع كذا وكذا عين موضعاً آخر غير هذا الموضع، وقال الراعي بل شرطت علي الرعي في الموضع الذي رعيتها، فالقول قول ربّ الغنم بالإجماع حتى يضمن الراعي بالإجماع؛ لأن الإذن يستفاد من جهته، والبينة بينة الراعي حتى لا يضمن في قول أبي حنيفة؛ لأنه هو المدعي؛ لأنه يثبت ما ليس بثابت. وكذلك إذا كان الراعي أجير خاص، واختلف على نحو ما بينا فالقول قول رب الأغنام لما ذكرنا.
وإذا خالف الراعي ورعاها في غير المكان الذي أمره، فعطبت فهو ضامن ولا أجر له وإن سلمت الغنم القياس أن لا أجر له.
وفي الاستحسان: يجب الأجر لأن الراعي، موافق في أصل الرّعي، مخالف في صفته. فإن الرعي في بعض الأماكن ربما يكون أجود من البعض. فعملنا بجانب الخلاف إن عطبت الأغنام فأوجبنا الضمان، ولم نوجب الأجر وعملنا بجانب الوفاق، إن سلمت الأغنام فأوجبنا الأجر.
راعي الرماك إذا يومق الرمكة، فوقع الرمق في عنقها، فجدبها فعطبت فهو ضامن؛ لأن التوميق لم يدخل تحت الإذن لأنه ليس من عمل الرعي فكان التلف حاصلاً من عمل غير مأذون فيه، وإن فعل ذلك بإذن صاحب الرمكة فلا ضمان هكذا ذكر في الأصل. قال بعض مشايخنا: هذا إذا كان الراعي أجير واحد، فإما إذا كان أجير مشترك فهو ضامن؛ لأن هذا من جناية يده، فيكون بمنزلة ما لو دق فتخرق وعامتهم على أنه لاضمان على كل حال؛ لأن هذا ليس من عمل الرعي، فكان الراعي معيناً فيه، ولاضمان على المعين على كل حال. وإذا شرطوا على الراعي ضمان ما عطبت بفعله فهو(7/600)
جائز. ولا يفسد به العقد؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد من غير شرط، وإن شرطوا عليه ضمان ما مات منها، إن كان الشرط في العقد يفسد العقد؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه النفق وإن شرطه بعد العقد لم يصح الشرط، ولا يفسد العقد. هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح إجاراته. وعلى قياس ما ذكر القدوريّ في بيوعه أنه إذا لحق بالعقد الصحيح شيء من الشروط المفسدة، التحقت بأصل العقد، وفسد العقد في قول أبي حنيفة يجب أن يقال على قول أبي حنيفة في فصل الإجارة، أنه إذا لحق هذا الشرط بالعقد أن يفسد العقد، وإذا شرط على الراعي إن مات منها يأتي بسمنها، وإلا فهو ضامن فليس عليه إثبات السمنة؛ لأن إثبات السمنة عمل شرط في هذه الشاة بعد إنفساخ العقد فيها؛ لأن الإجارة فيما ماتت قد انفسخت بموتها، فلا يلزمه ذلك كما قبل الإجارة. ولا يصير ضامناً بهذا الشرط لما مرّ قبل هذا وهل يفسد العقد بهذا الشرط فهو على التفصيل الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة.
وإذا قال ربّ الغنم للراعي: دفعت إليك مئة شاة، وقال الراعي لا بل تسعون. فالقول قول الراعي لإنكاره القبض فيما زاد على التسعين. وإن أقاما البينة فالبينة بينة صاحب الغنم؛ لأنها تثبت له زيادة في القبض على الراعي، وليس للراعي أن يسقى من ألبان الغنم. وأن يأكل لأن هذا التصرف لم يدخل تحت العقد؛ لأنها ليست من الرعي في شيء. وليس للراعي إذا كان خاصاً أن يرعى غنم غيره بأجر، فلو أنه أجر نفسه من غيره لعمل الرعي ومضى على ذلك شهور. ولم يعلم الأول به فله الأجر كاملاً على كل واحدة منهما لا يتصدق بشيء من ذلك، إلا أنه يأثم.
وإن كان هذا أجير وحد وليس لأجير الوحد أن يؤاجر نفسه من غيره، بخلاف الأجير المشترك لأن أجير الوحد في الرعي يشبه أجير المشترك من وجه، من حيث إنه يمكنه إيفاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة، بأن يرعى غنم الأول في المدة ويرعى غنم الثاني. فمن حيث إنه يقدر على إيفاء العمل لكل واحد منهما بتمامه، كان أجير مشترك، ومن حيث إنه أوقع العقد على المدة لا على العمل كان أجير وحد، ولو كان مشترك من كل وجه كما في القصار والخياط كان له أن يؤاجر نفسه من غيره، ويستحق الأجر على كل واحد منهما كاملاً، ولا يأثم ولا يتصدق بشيء من ذلك، ولو كان أجير وحد من كل وجه بأن أوقع العقد على المدة لعمل لا يمكنه الإيفاء إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة بأن أجر نفسه يوماً بدرهم للحصاد، أو للخدمة فخدم وحصد في بعض اليوم لغيره، فإنه لا يستحق الأجر كاملاً على الأول ويأثم، فإذا كان له شبهاً تأجير المشترك وقوما على الشبهين حظهما فقلنا: لشبهه بأجير المشترك يستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما، ولا يتصدق، ومن حيث إنه أجير وحد يأثم توقيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا شبه أجير الوحد في حق الإثم لا في حق نقصان الأجر؛ لتمكننا العمل بالشبهين؛ لأنا لو أظهرنا شبه أجير الوحد في حق نقصان الأجر، كان يأثم أيضاً؛ لأن الأجر إنما يسقط لمنعه بعض المعقود عليه عن الأول، وهذا(7/601)
موجب الإثم، فيتعطل العمل بالشبهين، فلهذا أظمها شبه أجير الوحد في حق الإثم، وفيما عدا ذلك من الأحكام ألحقناها بأجير المشترك.
ونظير هذا ما قلنا في باب الظئر إذا استأجر ظئراً شهراً لترضع ولده، كانت أجيرة وحد حتى لا يكون لها أن تؤاجر نفسها فإن أجرت نفسها، من قوم آخرين ولم يعلم الأولون حتى مضت المدة، وقد أرضعت ولد كل واحد فإنها تستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما. ولا تتصدق بشيء من ذلك، وتأثم. وإن كانت أجيرة وحد، لأنها أوقعت العقد على المدة لا على العمل، إلا أن لها شبهاً بأجير المشترك في الرضاع من حيث إنه يمكنها إيفاء الرضاع إلى كل واحد منهما بتمامه فوقر ما على الشبهين حظهما، فقال: تأثم؛ لأنها أجيرة وحد، ولشبهها بأجير المشترك قلنا: تستحق الأجر كاملاً ولا تتصدق بشيء فكذلك (45أ4) هذا.
قال: ولو كان تبطّل يوماً أو يومين في الشهر، أو مرض يسقط الأجر بقدره؛ لأنه لم يسلم نفسه للرعي في مدة التبطل والمرض، وأجير الوحد إنما يستحق من الأجر بقدره؛ ولو دفع إليه غنمه ليرعى على أنه أجرها ألبانها وأصوافها، فإن هذا فاسد؛ لأنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ لأن الأصواف والألبان الموجودة للحال مجهول المقدار، وما يزداد ويحدث بعد ذلك ساعة فساعة معدوم. وأحدهما مانع جواز الإجارة، فمجموعها أولى أن يمنع.
قال: ولو دفع رجل غنمه إلى راعي واشترط على الراعي جبناً معلوماً وسمناً معلوماً، وما بقي من ألبانها وسمونها وأصوافها، فهو للراعي فهذا فاسد؛ لأن فيه ما في الأول فإنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ فإن ما بقي بعد المشروط مجهول ومعدوم، وفيه زيادة غرر ليس في الأول. وهو: أنه يجوز أن لا يبقى للراعي شيء بعد المشروط لربّ الغنم فكان في هذا الفصل زيادة منع ليس في الأول، فإذا لم تجز الإجارة في الفصل الأول فههنا أولى وما أصاب الراعي من ألبانها وسمونها فهو ضامن؛ لأنه استهلكها بحكم عقد فاسد، وله على صاحب الغنم أجر المثل؛ لأنه استوفى عمله بحكم إجارة فاسدة.
وإن دفع الراعي غنم رجل إلى غيره فأستهلكها المدفوع إليه، وأقر بذلك الراعي فإن لصاحب الغنم أن يضمن الراعي، وليس له أن يضمن القابض إذا لم يقر أن المقبوض ملك المدعي، ولم يقم للمدعي بينة، أما الراعي فيضمن؛ لأنه لا يخلو إما إن كان يعتبر أميناً أو ضميناً، وأي ذلك ما اعتبر لابد من إيجاب الضمان عليه متى دفع المال إلى من ليس في عياله. ولا يضمن القابض للمدعي؛ لأنه لم يثبت كون ما قبض القابض ملكاً للمدعي لا بإقرار القابض، ولا بالبينة لو ثبت إنما يثبت بإقرار الراعي، وإقرار الراعي أن ما دفع كان لغيره مقبول في حقه، ولا تقبل في حق المدفوع إليه إذا أنكر، فلم يكن له(7/602)
تضمين القابض، فإن أقام المدعي البينة أن ما قبض كان له أو أقرَّ القابض بذلك أن كان ما قبض قائماً بعينه في يد القابض، كان للمدعي أن يأخذه؛ لأنه وجد عين ماله وإن كان مستهلكاً كان المالك بالخيار إن شاء ضمن القابض وإن شاء ضمن الراعي أما تضمين الراعي فلا إشكال؛ لأنه دفع ماله إلى غيره، وأما القابض فتضمينه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن الراعي دفع إليه على سبيل الإيداع. ومن مذهبه أن مودع المودع لا يضمن، إنما كان كذلك؛ لأنه وضع المسألة إن استهلكها المدفوع إليه، ومودع المودع يضمن إذا استهلك عندهم جميعاً، إنما الخلاف فيما إذا هلك في يده، وإذا رعى الراعي في مكان لم يؤذن بالرعي فيه، هل يستحق الأجر؟ فهذا على وجهين:
إما إن عطبت الغنم أو سلمت فإن عطبت فإنه لا أجر عليه؛ لأنها لما عطبت الغنم صار ضامناً، فصار الغنم ملكاً له من وقت الخلاف فصار راعياً ملك نفسه، فلا يستحق الأجر.
وإن سلمت فالقياس أن لا يستحق الأجر. وفي الاستحسان يستحق الأجر.
وجه القياس في ذلك أنه خالف فلا يستحق الأجر، وإن لم يضمن قياساً على ما لو استأجر دابة لتذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر، وسلمت الدابة فإنه لا أجر عليه، وإن لم يضمن فكذلك هذا.
ووجه الاستحسان أن الراعي فيما صنع موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأنه موافق في الأصل المعقود عليه مخالف في الصفة؛ لأن التفاوت بين المكانين في حق الرعي تفاوت يسير فلا يلحقها بجنسين مختلفين، ولهذا قيل بأن الإجارة صحيحة وإن لم يبين المكان وإذا لم يلتحقا بجنسين مختلفين بسبب التفاوت مع الجنس واحداً، إنما اختلفا في الصفة لا غير، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربما يكون أجود، وكان موافقاً في حق الأصل مخالفاً في حق الصفة والعمل بهما في حالة واحدة متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الأجر والآخر يمنع ولم يوجب فعملها في حالين. إن لم يسلم عملنا بجانب الخلاف، وأوجبنا الضمان ولم يوجب الأجر، وإن سلم عملنا بجانب الموافقة وأوجبنا الأجر، فأما في باب الدابة فالمستأجر مخالف من كل وجه؛ لأن الطرق في حق الركوب متفاوتة تفاوتاً فاحشاً، رب طريق يفسد الدابة يوماً يسير فيه لصعوبته، ورب طريق لا يفسدها بالسير فيه شهراً لسهولته، فالتحقا بجنسين مختلفين باعتبار التفاوت، وإن جمعهما اسم واحد وهو الركوب واختلاف المجانسة بين الشيئين متى بدت بسبب التفاوت دون الاسم، كاختلاف المجانسة الثانية من حيث الحقيقة.
ولو استوفى جنساً آخر حقيقة، بأن استأجر دابة للركوب فاستخدم عبده، أو لبس ثوبه لا أجر عليه سلم أو لم يسلم، فكذلك هذا.
فإن قيل: هذا يشكل بما لو دفع ماله إلى رجل مضاربة على أن يعمل به في الكوفة فأخرجه من الكوفة، فباع واشترى حتى ربح، فإن المضاربة فاسدة، ويضمن.
وهذا موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأن التفاوت بين الأماكن في حق التجارة تفاوت يسير، ولهذا صحت المضاربة من غير بيان المكان، ومع هذا قال: بأنه إذا تصرف(7/603)
في غير ذلك المكان، وربح فإنه يضمن كما لو خسر. قلنا: في المضاربة استهلك المضارب المال الذي وقعت فيه المضاربة بالبيع والشراء، فعاد إلى الكوفة، وفي يده مال آخر سوى ما وقعت عليه المضاربة. ولو أنه لم يستهلك المال، وعاد بالمال بعينه لم يكن عليه ضمان، وكان على المضاربة، فقياس مسألة المضاربة من مسألتنا أن لو عطبت الأغنام، وقياس مسألتنا من المضاربة أن لو لم يبع حتى عاد بالمال بعينه إلى الكوفة.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بقار لأهل قرية ومرعاهم بين أشجار ملتفة لا يقدر البقار على النظر إلى جميع الدواب، فذهبت من دواب مرحه لا ضمان عليه؛ لأنه إنما يرعى دوابهم في هذا المرعى بأمرهم، وهم إنما يستحفظون البقار بما في وسعه، فإذا لم يكن في وسعه النظر إلى جميع الدواب في ذلك المرعى لم يلزمه، فلا يكون تاركاً حفظاً لرميه، فلا يضمن. وفيه أيضاً: أهل موضع جرى العرف بينهم إن البقار إذا أدخل السرح في السكك أرسل كل بقرة في سكة صاحبها، ولا يسلمها إلى صاحبها، ففعل الراعي كذلك فضاعت بقرة أو شاة، قبل أن تصل إلى صاحبها، فقال أبو نصر الدبوسي: لا ضمان عليه لما مرّ غير مرّة، أن المعروف كالمشروط. وقال بعضهم: إذا لم يعد ذلك خلافاً لا ضمان عليه.
وذكر في «النوازل» : أن من أرسل بقرة إلى بقار ليرعاها فجاء ليله، وزعم أنه رد بقرتة، وأدخلها القرية فطلبها صاحبها في القرية، فلم يجدها ثم وجدها بعد أيام، وقد وقعت في نهر في الجناية. قال: إن كان أهل القرية رضوا من البقار بأن يأتي بالبقور إلى القرية، ولم يكلفوه أن يدخل كل بقرة في منزل صاحبها، فالقول للبقار: أني قد جئت بالبقرة إلى القرية مع يمينه، ولا ضمان عليه إذا حلف، وإن أبى أن يحلف ضمن قيمتها. وفي «المنتقى» : اشترط البقار على أصحابها أني إذا دخلت البقر القرية إلى موضع منها مسمى فأنا بريء منها، فالشرط جائز وهو بريء. فإن مات بقر رجل منهم، فجاء بمثلها إلى موضع البقر الذي اجتمع فيه البقر لم يخرجها. قال: فهو على الشرط الأول، وإن بعث رجل بقرة إلى ذلك الموضع، ولم يسمع بالشرط الذي كان بينه وبين أهل القرية لم يرى البقار حتى يرد عليه، وإن كان يسمع الشرط فالشرط جائز عليه استحساناً.
وفي «النوازل» : امرأة بعثت ثوراً إلى بقار ثم جاء الرسول إليه فقال: الثور لي وأخذ منه، فهلك الثور إن قامت لها بينة، فلها أن ترجع على البقار؛ لأنه ظهر أن البقار دفع مالها إلى الغير بغير إذنها، ثم لا يرجع البقار على الرسول إن كان يعلم أنه لها، ومع ذلك دفع إليه وإن لم يكن علم بذلك يرجع؛ لأنه ترك الباقورة في جناية وغاب عنها، فوقعت الباقورة في زرع رجل فأفسدته (54ب4) لا ضمان عليه إلا أن يكون البقار هو الذي أرسلها في الزرع، إنما تلف بفعل الباقورة وذلك غير مضاف إلى البقار، إذا لم يرسلها في الزرع وقد مرّ.
في «الأجناس» في كتاب الغصب والضمان: أهل قرية يرعون دوابهم بالنوبة فذهبت منها بقرة في نوبة أحدهم، قال إبراهيم بن يوسف: هو ضامن في قول من يضمن الأجير(7/604)
المشترك وقال أبو الليث: عندي أنه لا يضمن في قولهم جميعاً؛ لأن كل واحد منهم معين في رعيه لا أجير؛ لأنه إن جعل أجير كان ذلك مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها وذلك لا يجوز، فكان معيناً لا أجيراً والمعني لا يضمن.
ذكر المسألة في «مجموع النوازل» قال ثمة:
وإذا كان نوبة أحدهم فلم يذهب هو لكن استأجر رجلاً ليحفظها فأخرج الباقورة إلى المفازة، ثم رجع إلى الأكل، يعني: الأخير ثم عاد فضاع بقر منها، ينظر إن كان ضاع بعدما رجع من الأكل فلا ضمان عليه، وإن ضاع قبل ذلك فهو ضامن، ولا ضمان على صاحب النوبة بحال، لأن له أن يحفظها بأجرائه، ولكن هذا إذا لم يشترط عليه الحفظ بنفسه على ما مر قبل هذا.
رجل استؤجر لحفظ الخان فسرق من الخان شيء لا ضمان عليه؛ لأنه يحرس الأبواب، أما الأموال فهو في يد أربابها فلا يضمن إلا بالتضييع ولم يوجد، هذا جواب الفقيه أبي جعفر رحمه الله.
وذكر عن أحمد بن محمد القاضي: في حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوت وسرق منه شيء، أنه ضامن؛ لأنه في معنى الأجير المشترك، لأن كل واحد حانوت على حدة، فصار بمنزلة من يرعى غنماً لكل إنسان شاة ونحو ذلك.
قال الفقيه أبو بكر: عندي أن الحارس أجير خاص، ألا ترى أنه لو أراد أن يشغل نفسه في صنف أجر لم يكن له ذلك، والفتوى على قول أبي بكر، والفقيه أبي جعفر.
وإذا استأجر الحارس واحد من أهل السوق فله أن يأخذ الأجر منهم جميعاً، ويجعل له ما يأخذ منهم إذا كان المستأجر رئيسهم؛ لأن في هذا جرت المعاملة، وصار كأنهم استأجروه جميعاً، وإن كرهوا ولم يرضوا بذلك فكراهتهم باطلة؛ لأن في ذلك مصلحتهم، فإذا استأجر رئيسهم جاز ذلك؛ لأنهم جعلوه كالسيد على أنفسهم فكان استئجاره بمنزلة استئجارهم.
ولا يصير البقار تاركاً للحفظ وإن نام ما لم يغب البقور عن بصره، وإذا غاب عن بصره يصير تاركاً للحفظ.
وتأويله: إذا نام جالساً أما إذا نام مضجعاً يصير تاركاً للحفظ، وقد ذكرنا في كتاب الوديعة الفرق بين النوم مضجعاً وبين النوم جالساً في غير السفر وسوينا بينهما في السفر، فقلنا لا ضمان على كل حال فهاهنا يكون كذلك وبه ختم.h
نوع آخر في القصار وتلميذه
في «فتاوى أبي الليث» : قصار وضع الثوب على.... في الحانوت، وأقعد ابن أخيه حَافظ وغاب القصار، فدخل ابن أخيه الحانوت الأسفل فطر الطرار الثوب فهذا على وجهين:
إن كان البيت الأسفل بحال لو دخله إنسان غاب عن عينه الموضع الذي(7/605)
كان فيه الثوب وإنه هلى وجهين أيضاً:
إن كان ابن الأخت ضمه إلى القصار أبوه أو أمه أو لم يكن له أب ولا أم وضمه الخال إلى نفسه فالضمان على الصبي؛ لأنه منعه بترك الحفظ الواجب عليه، ولا ضمان على القصار؛ لأن له أن يحفظ الثياب بيد ذلك الصبي، ولا يضمن القصار بترك الثياب عند الصبي.
وإن كان الصبي غير منضم إلى القصار من جهة من ذكرنا، لكن القصار أخذ بيده وأقعده محافظاً للحانوت فالضمان على القصار؛ لأنه مخالف في استحفاظ من ليس في عياله.
وإن كان الصبي بحيث يراه مع دخوله ذلك الموضع، فإن كان الصبي منضماً إليه فلا ضمان على واحد منها.
أما القصار فلأن له حفظه بيد الصبي، وأما الصبي فلأنه لم يترك الحفظ لما كان الموضع الذي دخل فيه بحيث يرى الثوب فيه.
قصار سلّم ثياب الناس إلى أجيره ليشمسها في المقصرة ويحفظها، فنام الأجير ثم رجع بالثياب، وقد ضاع منها خمس قطع لا يدري كيف ضاعت ومتى ضاعت، قال الفقيه أبو جعفر: إذا لم يعلم أنه ضاع في حال نومه، فالضمان على القصار دون الأجير، وإن علم أنه ضاع في حال نومه، فالأجير ضامن بترك الحفظ الواجب عليه، وإن شاء صاحب الثياب ضمن القصار في الوجهين جميعاً.
قال الفقيه أبو الليث: إنما قال له أن يضمن القصار لأنه كان يأخذ في مسألة الأجير المشترك بقول أبي يوسف ومحمد، أما في قول أبي حنيفة فلا ضمان على القصار؛ لأن الهلاك لم يكن بعلمه وبه نأخذ.
قصار رهن ثوب قصاره ثم فكه وقد أصاب الثوب نجاسة عند المرتهن فلما نظر إليه صاحب الثوب كلفه القصار بتنقيته فامتنع القصار من ذلك وتشاجرا فترك الثوب في يد القصار فهلك عنده، إن كانت النجاسة لم تنقص من قيمة الثوب فلا شيء على القصار، لأنه إن خالف بالرهن فإذا أفكه وخلى بينه وبين المال خرج عن ضمان قيمة الثوب.
والنجاسة إذا لم تنقص من قيمته لا يلزمه بسببها شيء بمنزلة من صب على عبد غيره نجاسة، فجعل صاحب العبد عنده ليغسل تلك النجاسة فهلك، لا ضمان عليه.
وإن كانت تنقص قيمته فليس على القصار إلا نقصان الثوب، والثوب بذلك أمانة لما ذكرنا، أنه بالتخلية خرج عن ضمان الثوب.
وهو نظير من خرق ثوب إنسان خرقاً يسيراً، قال له رب الثوب: أصلح هذا الخرق فإن ترك الثوب عنده فهلك لم يكن على المخرق إلا نقصان الخرق هاهنا.
وإذا دق أجير القصار ثوباً من ثياب القصارة فخرقه أو عصره فتخرق فلا ضمان عليه؛ لأن الخرق حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأذون في ذلك، لأن الإذن يثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وأجير القصار لا يضمن بالخرق من عمله المأذون فيه، إلا أن يخالف، لأنه أجير وحد في حق القصار ولم يخالف، والإستاد ضامن لأن عمل الأجير منقول إليه فيصير كأن الإستاد عمل(7/606)
بنفسه من حيث الحكم، ولو عمل الإستاد بنفسه حقيقة كان عليه الضمان كذا هاهنا.
وإذا وطىء ثوباً فتخرقه إن كان ثوباً يوطأ مثله فلا ضمان عليه بذلك؛ لأنه مأذون فيه من جهة الإستاد دلالة، وإن كان ثوباً لا يوطأ مثله، فإنه يضمن سواء كان الثوب ثوب القصارة أو لم يكن، لأنه غير مأذون لوطىء ما لا يوطأ مثله من جهة الإستاد، وهذا بخلاف ما لو حمل شيئاً في بيت القصار بإذن الإستاد فسقط على ثوب فتخرق، إن كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير فإنما يضمن الإستاد وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، وفي الوطىء يضمن في الحالين إذا كان مما لا يوطأ مثله.
وجه الفرق بينهما: أن الوطىء غير مأذون فيه من جهة الإستاد لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلأنه ليس من أعمال القصارة، ودلالة فلأنه إذا كان الثوب رقيقاً لا يوطأ مثله فالثابت بدلالة الحال النهي عن وطئه لا الإذن بوطئه، فأما الحمل من أعمال القصارة وأسبابها، فإذا سقط على ثوب القصارة فالفساد حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأمور بأعمال القصارة في ثياب القصارة، فيصير عمله منقولاً إلى الإستاد فلا يضمن الأجير، ويضمن الإستاد، كما لو دق فتخرق.
وإن وقع على ما ليس من ثوب القصارة، فالفساد حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأنه إنما أذن فيه بالقصارة، فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما لم يكن من ثياب القصارة، وإذا هذا تحت الإذن كان هو والأجنبي في ذلك سواء، وكذلك لو دخل بنار أو سراج بأمر القصار فوقعت شرارة فأحرقته، إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان على الأجير وإنما الضمان على الإستاد (55أ4) وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، أما ما كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير؛ لأنه أجير فيما كان من ثياب القصارة بالقصارة، وهذا من أسبابه فما تولد منه يكون ضمان ذلك على الإسناد لا على الأجير، كما لو دق فتخرق.
ويضمن ما ليس من ثياب القصارة؛ لأنه ليس بأجير فما ليس من ثياب القصارة، فيكون الأجير والأجنبي في ذلك سواء. وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخدمه، فوقع شيء من يده من متاع البيت، وسقط على شيءٍ من متاع البيت، فأفسده فإنه لاضمان عليه؛ لأنه أجير في حق الواقع، والوقع عليه؛ لأنه استؤجر للخدمة، وإنما يستأجر للخدمة ليرفع متاع البيت ويضع، فيكون بمنزلة أجير القصار إذا دق فتخرق ثوباً من ثياب القصارة، بخلاف ما لو سقط على وديعة كان عند صاحب البيت فأفسد، كان الضمان على الخادم؛ لأنه ليس بأجير فيما كان عنده من الوديعة، فيكون هو والأجنبي سواء. وكان بمنزلة أجير القصار إذا سقط من يده شيء فوقع على ثوب ليس من ثياب القصار فأفسده. ولو كان كذلك يضمن فكذلك هذا.
وهذا بخلاف المودع إذا سقط من يده شيء فوقع على الوديعة فأفسدها يضمن، وههنا قال: لا يضمن، وذلك لأن المودع مأمور بالحفظ والإمساك في الوديعة غير مأمور بالتصرف فيها، فإذا سقط من يده عليها شيء كان ضامناً؛ لأنه لم يتولد هذا من الحفظ،(7/607)
فأما الأجير للخدمة مأمور بالعمل في متاع البيت؛ لأنه هو الذي يتولى رفعها ووضعها، فإذا تولد من ذلك فساد لا يكون عليه ضمان؛ لأنه تولد من عمل مأذون فيه. وكان قياس الوديعة من مسألتنا أن لو سقطت الوديعة من يد المودع، فهلكت وهناك لاضمان لأن الهلاك حصل من الإمساك. وإنه مأذون فيه فكذلك هذا. ولو أن أجير القصار فيما يدق من الثياب انقلبت منه المدقية، فوقعت على ثوب فتخرق، فهذا على وجهين:
أما إن انقلبت المدقة أولاً على الثوب قبل أن يقع على الخشبة التي يدق عليها، أو انقلبت بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، فإن انقلبت قبل أن يقع على ثوب القصارة وخرق ثوباً. إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الإستاد، لأن الخرق حصل من عمل القصارة فيما كان من ثياب القصارة فيكون بإذن الإستاد؛ لأنه أجير بالقصارة في حق هذا الثوب، وأجير القصار لا يضمن ما جنت يده، وإنما يضمن الإستاد. وإن وقع على ثوب ليس من ثياب القصارة، فإن الأجير يضمن لأن الخرق حصل بغير إذن الإستاد؛ لأن الإذن بالعمل يثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، ليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، فيكون هو والأجنبي في ذلك سواء.
فأما إذا انقلبت المدقة بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها ثياب القصارة، فأصابت ثوباً آخر، ذكر في «ظاهر الرواية» : أنه لا يضمن بلا تفصيل، بين أن يكون ذلك الثوب من ثياب القصارة أو لم يكن من ثيابه.
حكي عن أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يقول: يجب أن يكون الجواب فيه، كالجواب فيما إذا وقعت المدقة ابتداء على هذا الثوب، وقد ذكر الجواب فيه على التفصيل، فكذلك هذا.
وهذا لأن الإذن بالعمل ثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، ولكن في «ظاهر الرواية» لم يفصل. فكأنه فرق بين انقلاب المدقة على الثوب الذي ليس من ثياب القصارة قبل وقوعها على الخشبة، وبين انقلابها بعدما وقعت على الخشبة، وعليها ثياب القصارة.
ووجه الفرق بينهما أن الانقلاب متى حصل أولاً على الثوب الذي ليس من ثياب التجارة، فهذا العمل غير مأذون فيه أصلاً؛ لأن الإذن ثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة فإذا حصل هذا بغير إذن بقي مقصوراً على الأجير. ولم ينتقل إلى الإستاد، فكان الضمان على الأجير لا على الإستاد.
فأما إذا وقع أولاً على الخشبة التي يدق عليها وعليها ثوب القصارة ثم انقلبت إلى ثوب آخر ليس من ثياب القصارة وتخرق فهذا العمل حصل بإذن الأستاد لأنها وقعت على ثوب القصارة أولاً، وإنه أجير في حقه، فيكون مأذوناً في دقه. وإذا كان هذا العمل حاصلاً بإذن الإستاد انتقل هذا القدر من العمل إلى الإستاد، فكأن الإستاد دق بنفسه ثم انقلبت المدقة بعد ما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، وأصاب الثوب فتخرق. ولو كان كذلك يجب الضمان على الإستاد لا على الأجير، فكذلك هذا.(7/608)
وإن أصابت آدمياً يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا في الثوب. إن كان الانقلاب على الآدمي قبل أن يقع على الخشبة فالضمان على الغلام، وإن كان بعد ما وقعت على الخشبة يجب أن يكون الضمان على الإستاد لا على الأجير، كأن الإستاد فعل بنفسه.
ولو كسر شيئاً من أداة القصارة على هذا الوجه، إن كان مما يدق ويدق عليه فلا ضمان عليه؛ لأنه سلط على استعمال ما يدق، ويدق عليه من جهة الإستاد، فيكون الكسر حاصلاً بإذن الإستاد فلا يضمن فأما إذا كان مما لا يدق ولا يدق عليه. فالأجير ضامن لأن الكسر حصل بغير أذن الإستاد فإنه غير مسلط من جهة الإستاد على استعمال مالا يدق ولا يدق عليه.
ولو جفف القصار الثوب على حبل فجرت به حموله فخرقته لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك لم يكن من فعله وعمله. وعندهما يضمن لأن هذا مما يمكن التحرز عنه، والسابق ضامن لأن مشي الدابة منقول إلى السابق، فما تولد من مشيها كان ضمان ذلك على السابق.
وفي «العيون» : قصار استعان برب الثوب لدقه معه، فأعانه وتخرق الثوب ولا يدري من أي الدقيق تخرق، فالضمان كله على القصار، رواه ابن سماعة عن محمد. وروى بشر عن أبي يوسف: أن على القصار نصف القيمة باعتبار الأحوال، لمحمد: أن الثوب في ضمان القصار بالقبض، فما يحدث فيه يكون في ضمانه إلا أن يعلم أنه من فعل غيره، وهذا يجب أن يكون على قولهما خاصة. أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يضمن القصار أصلاً ما لم يعلم أنه تخرق من دقه بناء على أن الأجير المشترك يد أمانة عنده، يد ضمان عندهما، أو يكون قوله كقول أبي يوسف اعتباراً للأحوال.
وفي «النوازل» : سلم ثوباً إلى قصار أو خياط، ثم وَكَلَّ رجلاً بقبضه، فدفع إليه القصار غير ذلك الثوب؛ لم يلزم ذلك رب الثوب لأن القصار لا يستند بالمعاوضة ولا بالتمليك من ربّ الثوب، ولا ضمان على الوكيل إذا هلك الثوب في يده؛ لأنه قبض مال القصار بأمره، فكان أميناً، ولرب الثوب أن يبيع القصار بثوبه.
وفي «المنتقى» : رجل عنده ثياب وديعة، فجعل فيها ثوباً له ثم طلبها صاحبها، فدفعها كلها إليه، فضاع ثوب المستودع فالآخذ ضامن له، كلُ من أخذ شيئاً على أنه له، فضاع فهو ضامن له. وإن كان رب الثوب بعث رجلاً ليأخذ ثوبه فدفع القصار إليه ثوباً غير ثوب المرسل إن كان الثوب للقصار فلا ضمان على الرسول، وإن كان لغيره ضمن رب الثوب أيهما شاء فإن ضمن القصار لم يرجع على الرسول، وإن ضمن الرسول لم يرجع على القصار.
وسئل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي عمن دفع ثوبه إلى قصار ليقصره اليوم، فلم يفعل اليوم حتى هلك الثوب، هل يضمن القصار؟ قال: نعم. بعث ثوباً إلى قصار بيد تلميذه، ثم قال للقصار: إذا أصلحت فلا تدفعه إلى تلميذي فلما أصلحه دفعه(7/609)
إلى تلميذه، فذهب التلميذ بالثوب هل يضمن القصار فقيل: إن كان التلميذ حين دفع الثوب إلى القصار لم يقل له هذا ثوب فلان بعث به إليك لا يضمن، وإن كان قال: ذلك للقصار، فإن صدق القصار التلميذ في ذلك ضمن، وما لا فلا. والله أعلم.
نوع آخر في المتفرقات
وفي «النوازل» (55ب4) :
دفع إلى رجل مصحفاً ليعمل فيه، ودفع الغلاف معه أو دفع سيفاً إلى صيقل ليصقله، ودفع الجفن معه، فسرق لا يضمن الغلاف لأنه في الغلاف مودع؛ لا أجير والمودع لا يضمن إلا ما جنت يده.
وفي «القدوري» عن محمد أنه قال: يضمن المصحف والغلاف والسيف والجفن؛ لأن السيف لا يستغني عن الجفن، والمصحف عن الغلاف، فصار الشيء واحد، وإن أعطاه مصحفاً يعمل له غلافاً، أو سكيناً يعمل له نصاباً، فضاع المصحف أو السكين لم يضمن؛ لأنه أستأجره على إيقاع العمل في غيرها لا فيها وهما ليسا بتبع لذلك الغير، بخلاف ما تقدم، فكان فيهما كالمودع، وهذا كله على قول محمد.
أما على قول أبي حنيفة لا يضمن، إلا ما هلك بصنعه أو بالتقصير في الحفظ، كالمودع. والفتوى على قول أبي حنيفة لا يضمن إلا ما هلك، كما ذكرنا.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: دفع إلى رجل سيفاً ليصلح من جفنه شيئاً، فضاع نصله لم يضمن؛ لأن النصل عنده وديعة؛ لأن العمل في الجفن وكذلك لو دفع إليه مصحفاً ينقطه بأجر، فضاع غلافه لا يضمن. وكذلك إذا دفع إليه ثوباً لرقوه في منديل، فضاع بالمنديل وكذلك إذا دفع إليه ميزاناً ليصلح كفيه، فضاع العود الذي يكون فيه الميزان. ولو دفع إليه ثوباً يقطعه صفة على سرجه، فهو ضامن للصفة والسرج جميعاً؛ لأن العمل فيهما والله أعلم.
دفع إلى صانع ذهباً ليتخذ له سواراً منسوجاً، والنسج لم يكن من عمله، فأصلح الذهب وطوله ودفعه إلى من ينسجه، فسرق من الثاني، فإن كان الصانع الأول دفعه إلى الثاني بغير أمر مالكه، ولم يكن الثاني أجيراً ولا تلميذاً، كان للمالك أن يضمن أيهما شاّء في قولهما. وعند أبي حنيفة: الصانع الأول ضامن، أما الأجير فإن ذكر أنه سرق منه بعد العمل لم يضمن؛ لأنه إذا فرغ من العمل صارت يده يد وديعة، أما ما دام في العمل، فيده يد ضمان؛ لأنه يتصرف في مال الغير بغير أمره، ومودع المودع إنما لا يضمن عند أبي حنيفة إذا لم يتصرف في الوديعة بغير أمر مالكها.
نوع آخر
الرد في أجير المشترك، نحو القصّار والخياط والنساج، على الأجير لان الرد بقبض القبض، فإنما يجب على من كان منفعة القبض له، ومنفعة القبض في هذه المواضع(7/610)
للأجير لأن للأجير عين، وهو الأجرة، ولرب الثوب منفعة، والعين خير من المنفعة، فكان منفعة الأجير أكثر فكان الرد عليه وهذا بخلاف ما لو أجر عبداً أو دابة، وفرغ المستأجر، فإنه يجب الرد على صاحب الدابة؛ لأن ثمة للأجير عين، وللمستأجر منفعة، فكانت منفعة الأجير أكثر، فكان الرد عليه.
نوع آخر
النحاس أجير مشترك؛ لأنه يبيع للناس ويشتري لهم بأجر، حتى لو ضاع جارية أو غلام عنه لا بصنعه لا يضمن عند أبي حنيفة. وكذلك تم بأن أجير مشترك؛ لأنه يحفظ مال الناس بأجر فمتى ضاع شيء لا يصنعه، كان وجوب الضمان عليه خلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه. وكذلك الدلال أجير مشترك فلو دفع الدلال الثوب إلى رجل ليراه، ويشتري فذهب بالثوب ولم يظفر به، فلا ضمان على الدلال؛ لأن هذا أمر لابدّ منه في البيع، ولو كان في يد الدلال ثوب فقال له رجل: هذا مالي سرق مني، فدفع الدلال ذلك إلى من أعطاه فلا ضمان عليه؛ لأن أكثر ما فيه أن الدلال غاصب، إلا أنه قد رده على الغاصب، وغاصب الغاصب يبرأ بالرد على الغاصب.
نوع آخر
إذا دفع إلى قصار ثوباً، فلما سلمه القصار إليه قال: ليس هذا ثوبي قال محمد: القول قول القصار مع يمينه، في قول من يضمن القصار، وفي قول من لا يضمنه، ولكن لا يصدق في الأجر ولا أجر عليه، وإنما كان القول قول القصار؛ لأنه إن اعتبر ضميناً، فالقول قول الضمين في مثل هذا، كالغاصب يقول هذا الذي غصبه، وإن اعتبر أميناً فكذلك كالمودع إذا قال: هذا هو الذي أودعني، إلا أنه لا يستحق الأجر، لأن الضمين والأمين إنما لا يصدقان في حق دفع الضمان عن أنفسهما، أما في إيجاب الضمان على غيرهما، فلا لأن المدعي في ذلك الأجير، والمنكر هو المستأجر؛ لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، إنما تجب باستيفاء المنفعة المعقود عليها، ولم يعلم استيفاؤها.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر حمالاً ليحمل له حمولة إلى بلد كذا، ويسلمها إلى السمسار، فحملها فقال السمسار للحمال: إن وزن الحمولة في الغار ما صح كذا قد نقصت في الوزن، فإنما لا أعطيك من الأجر بحساب ما نقص، ثم اختلفا بعد ذلك، فقال السمسار: أوفيتك الأجر، وكذبه الحمال فالقول للحمال، ولا خصومة لكل واحد منهما قبل صاحبه؛ لأنه لا شغل بينهما، إنما الخصومة بين الحمال وبين صاحب الحمل.
وفي «العيون» عن محمد: فيمن دفع إلى ملاح أكرار حنطة فحمل كل كر بكذا، فلما بلغا موضع الشرط، قال رب الطعام: نقص طعامي. وقد كان كاله على الملاح. وقال الملاح: لم ينقص فالقول لصاحب الطعام. ويقال للملاح: كله حتى يأخذ منه من كل كر مقدار ما سمي ولو طلب ضمان الملاح، وقد كان دفع إليه أجره، فالقول للملاح أن الطعام وافر ويقال لصاحب الطعام: كله حتى يضمنه ما نقص من طعامك؛ لأن في(7/611)
الوجه الأول الملاح يدعي زيادة الأجر، وصاحب الطعام منكر لما ذكرنا، أن الأجرة إنما تجب بالعمل لا بنفس العقد.
وفي الوجه الثاني صاحب الطعام يدعي وجوب رد شيء من الأجر بحسابه، والملاح ينكر، ثم قال هاهنا: يقال لصاحب الطعام: كله، حتى تضمنه ما نقص من طعامك، فيحتمل أن يكون المراد به حتى يسترده من الأجر بقدر ما نقص من طعامك ويحتمل أنه أراد به تضمين ما انتقص من الطعام كما هو ظاهر اللفظ، فإن كان المراد به الأول فهو ظاهر على قول الكل وإن كان المراد به الثاني فهذا على قول محمد خاصة، أو على قوله وقول أبي يوسف على ما ذكرنا، فيما إذا قال الأجير المشترك: قد رددت. أما على قول أبي حنيفة ليس لصاحب الطعام تضمين الملاح، إلا بجناية أو تقصير منه على ما ذكرنا غير مرّة. والفتوى على قوله.
وفي «النوازل» : ركب سفينة قال له صاحب السفينة: حملتك بدرهمين، فهات الدرهمين. وقال الراكب: بل استأجرتني لأحفظ السكان بدرهمين، فهات الدرهمين. وأقاما البينة، تقبل بينة الراكب؛ لأن صاحب السفينة حيث استأجره لحفظ السكان، فقد أذن له بأن يركب كذا ذكر ههنا.
وذكر بعد هذا: رجل ادعى على إجارتك استأجرتني لأمسك السكان في سفينتك، من ترمذ إلي آمل بعشرة دراهم، وادعى عليه رب السفينة أني حملتك في سفينتي من ترمذ إلى آمل بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، والبداية بيميني أحدهما ليست بأولى من البداية بيمين الآخر، لاستواء حالهما في الدعوى والإنكار، فللقاضي أن يبدأ بأحدهما، وإن أقرع نفياً للتهمة فحسن ولا أجر لكل واحد منهما على صاحبه.
وإن أقاما البيّنة، فالبينة بيّنة الملاح، وله على صاحب السفينة عشرة دراهم، ولا أجر لصاحب السفينة على الملاح؛ لأن الأمرين جميعاً لو كانا لكانت إجارة صاحب السفينة انتقضت؛ لأنه لا بد للملاح من كونه في السفينة.
ولو ادعى رجل على آخر أني أكريتك، بغلاً من ترمذ إلى بلخ بعشرة دراهم، وادعى عليه الأجر أنك استأجرتني لأبلغه إلى فلان ببلخ بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، ولا أجر. وإن أقاما البينة، فبينة صاحب البغل أولى؛ لأن حفظ البغل واجب على غير صاحب البغل على تقدير ثبوت الأمرين، فلا تجوز الإجارة على ذلك تقدمت أو تأخرت، فلا يجب الأجر.
وفي «النوازل» : أجر داره سنة، فلما انقضت السنة أخذ الدار وكنسها وسكنها، فقال المستأجر: كان لي فيها دراهم فكنستها وألقيتها، فإن صدقه رب الدار في ذلك ضمن وإن أنكر فالقول (56آ4) قوله مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي عليه ضماناً، وهو ينكر.
نوع آخر
إذا دفع غزلاً إلى نساج لينسجه، أو دفع ثوباً إلى قصار ليقصره، أو إلى صباغ(7/612)
ليصبغه، فجحد المدفوع الغزل والثوب وحلف على ذلك ثم أقر وجاء به منسوجاً أو مقصوراً أو مصبوغاً، فإن كان قد عمل قبل الجحود فله الأجر؛ لأنه عمل حال قيام الإجارة، فاستحق الأجر وإن كان عمل بعد الجحود، ففي النساج الثوبُ للنساج، وهو ضامن للمالك غزلاً مثل غزله؛ لأنه بالجحود صار غاصباً للغزل؛ ومن غصب غزلاً ونسجه يبطل حق المالك، وضمن مثل ذلك الغزل؛ لأن الغزل من ذوات الأمثال ولا أجر له؛ لأنه عمل لنفسه وفي القصار الثوبُ لصاحبه ولا أجر له؛ لأنه ليس له في الثوب عين مال قائم، وقد عمل بعد بطلان الإجارة.
وفي الصباغ يخير رب الثوب إن شاء أعطاه قيمة ما زاد الصبغ فيه؛ لأن له عين مال قائم في الثوب وهو الصبغ، بخلاف القصار، وإن شاء ترك عليه ثوبه وضمنه قيمته أبيض كما في الغاصب. هذه الجملة في «العيون» .
وفي «واقعات الناطقي» : ثوب مخيط قال رب الثوب: أنا خطته وقال الخياط: أنا خطته فإن كان في يد رب الثوب، أو في داره فالقول قول رب الثوب مع يمينه، لأنه ينكر ما يدعيه، فإذا حلف لا أجر عليه، وإن كان في يد الخياط أو في يديهما، فالقول للخياط مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له، فإذا حلف فله الأجر على رب الثوب.
الفصل التاسع والعشرون: في التوكيل في الإجارة
وإذا وكل الرجل رجلاً بأن يستأجر له داراً بعينها ببدل معلوم ففعل، فالآجر يطالب الوكيل بالأجرة، والوكيل يطالب الموكل وللوكيل أن يطالب الموكل بالأجرة، وإن لم يطالبه الآجر. وإذا وهب الآجر الأجر من الوكيل، وأبرأه صح. وللوكيل أن يرجع بالأجر على الآمر.
الوكيل باستئجار الدار، إذا ناقص الإجارة مع الآجر إن لم يكن الوكيل قبض المستأجر، فمناقصته صحيحة قياساً أو استحساناً وإن قبضه فالقياس أن تصح المناقصة.
وفي الاستحسان لا تصح وإذا وكله أن يستأجر أرضاً له شهراً، فأستأجره شهرين، فالشهر الأول للموكل، والشهر الثاني للوكيل.
وإذا وكل رجلين باستئجار دار وأرض فأستأجر أحدهما وقع العقد له لأن أحد الوكيلين لا ينفرد بالاستئجار فيعذر إيقاع العقد للموكل فيقع للوكيل فإن دفعها الوكيل إلى الموكل انعقدت بينه وبين الموكل إجارة مبتدأة بالتعاطي. وهذه المسألة نص أن الإجارة تنعقد بالتعاطي.
وفي «نوادر» ابن سماعة عن محمد. وفي «الأمالي» عن أبي يوسف: رجل أمر رجلاً أن يؤاجر داره أو أرضه من رجل بأجر معلوم ففعل، ثم إن المؤاجر نقص المستأجر الإجارة، فالنقص جائز ولا ضمان على المؤاجر. ولو كان الأجر شيئاً بعينه ويعجل الأجر ذلك لا تجوز مناقصته على الآمر.(7/613)
والفرق أن في المسألة الثانية: الأجر صار مملوكاً للآمر، فالمؤاجر بالقبض يريد إزالة ذلك عن ملك الآمر، أما في المسألة الأولى الآمر لم يملك شيئاً، فالمؤاجر بالنقص لا يزيل ملكه عن شيء، فافترقا.
وإذا وكل الرجل رجلاً أن يستأجر له داراً بعينها من رجل هذه السنة بمئة درهم، فأستأجرها الوكيل وقبضها من المؤاجر، وأراد الموكل أخذها من الوكيل، فمنعها الوكيل من الموكل حتى يأخذ الأجر، فهذه المسألة على وجوه:
الأول: أن تكون الأجرة مطلقة، وفي هذا الوجه ليس للوكيل أن يحبس الدار من الموكل؛ لأن الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه أستأجره لنفسه، ثم أجر من الموكل، ولو كان هكذا وكان الأجر مطلقاً لم يكن للوكيل منع الدار؛ لأجل الأجرة لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، فكذا ههنا. فإن منعها الوكيل مع أنه ليس له حق المبيع حتى مضت السنة، فالأجر واجب على الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة العاقد لنفسه. والأجر من حقوق العقد ولو أستأجر الدار لنفسه سنة، وقبض الدار مدة الإجارة كان عليه الأجر، وإن لم يسكن كذا ههنا. ويرجع الوكيل على الموكل بالأجرة؛ لأن الوكيل قبض الدار من الآجر وله حق القبض، وقبض الوكيل متى حصل بحق، فهو بمنزلة قبض الموكل في حق المعقود عليه لأن يد الوكيل في حق المعقود عليه الذي يقابله البذل يد أمانة ونيابة، وللمنفعة حكم الوجود شيئاً فشيئاً في حق حكم العقد. فإذا صار يد الوكيل كيد الموكل صار كأن المنافع وجدت شيئاً فشيئاً في يد الموكل، فلا يسقط شيء من الأجر إلا إذا خرجت يد الوكيل من أن تكون يد الموكل، وذلك يأخذ معينين، بأن يحبس الوكيل العين بالبدل حتى تصير يد الوكيل يد ضمان بحكم العقد، وذلك لم يوجد ههنا؛ لأنه ليس للوكيل ههنا حق الحبس بالأجرة.
والثاني: أن يصير الوكيل غاصباً، ولا يمكن تحقيق الغصب ههنا لا في حق المنافع، لأن المنافع ليست بمحل الغصب عندنا، ولا في حق العين؛ لأنه لو اعتبر غاصباً للعين إما أن يعتبر من الآجر، أو من الموكل، لا وجه إلى الأول؛ لأن قبض الوكيل الدار من الأجر حصل بحكم العقد ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الموكل ليس بمالك للعين والغصب من غير المالك لا يتصور. وإذا لم تنقلب يد الوكيل يد غاصب، ولا يد ضمان بحكم الحبس تثبت يد الوكيل يد أمانة، فصار حدوث المنافع في يد الوكيل ووجودها في يد الموكل سواء.
الوجه الثاني: أن يكون الأجر مؤجلاً إلى سنة، والجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الأول. والكلام في هذا الوجه أظهر؛ لأن العقد إذا كان مطلقاً، فالأجرة لا تجب إلا بالسكنى، وإذا كان الأجر مؤجلاً لا يجب إلا بعد السنة، فكان انعدام حق الحبس للوكيل ههنا أظهر وأبين، فكان أولى بأن لا تتبدل يده عن النيابة، والأمانة بالضمان.
ولو غصب رجل أجنبي الدار من المستأجر، أو من الآجر حتى تمت السنة لم يجب عليها أجر؛ لأن يد الغاصب ليس كيد الوكيل، ولا كيد الآمر فيما يرجع إلى حكم العقد،(7/614)
والمنافع تحدث شيئاً فشيئاً، فحصل هلاك المعقود قبل قبض العاقد، وقبل قبض من وقع له العقد، فأوجب سقوط الأجر. بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك الدار في يد الوكيل عند حدوث المنفعة حقيقة، ويد الوكيل يد الموكل حكماً، فحصل هلاك المعقود عليه بعد قبض من وقع له العقد، من حيث الحكم فلهذا لم يسقط الأجر.
ورأيت في تعليق جدي القاضي الإمام الأجل جمال الدين ذكر في بعض الروايات: أن الوكيل في هذه الصورة لا يرجع بالأجر على الآمر استحساناً. قال: ثمة وهو الصحيح، فكأنه مال إلى الوكيل بالحبس صار غاصباً الدار من الآمر، والغصب من غير المالك منصور في الجملة، فصار هذا وما لو غصبه أجنبي سواء.
وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف، وأشار جدي إلى المعنى فقال: قبض الوكيل كقبض الموكل، فوقع قبض الوكيل أولاً للموكل، وصار الوكيل بالسكنى بعد ذلك غاصبا السكنى من الموكل، فيوجب ذلك سقوط الأجر عن الموكل. وأشار ابن سماعة إلى المعنى لأبي يوسف فقال: الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه استأجر لنفسه، ثم أجر من الموكل حكماً. ولو كان هكذا حقيقة، ولم يسلم الوكيل الدار إلى الموكل حتى مضت المدة لم يستحق الوكيل الأجر على الموكل، كذا ههنا.
قال: وكذلك لو كان الآمر قبض الدار من الوكيل، ثم تعدى عليها الوكيل فأخرجها من يد الآمر حتى مضت السنة، لزم الأجر لرب الدار على الوكيل، ويرجع الوكيل بها على الآمر؛ لأن الوكيل قبض الدار وله حق القبض، فصار الموكل قابضاً بقبضه حكماً، فلو سقط الأجر عن الآمر، إنما يسقط إذا خرج يد الوكيل من أن يكون يد الموكل، ولم يخرج على ما مر.
فإن إنهدمت الدار من سكنى الوكيل، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يصر غاصباً الدار (56ب4) من الآمر ولما مر ولم يصر غاصباً من الآجر، وله حق القبض، وكذلك لم يصر غاصباً بالسكنى؛ لأن أكثر ما في الباب أنه شرط سكنى الآمر إلا أن السكنى مثل السكنى، إلا أن من أستأجر داراً ليسكنها بنفسه، فأسكنها غيره بأجر وبغير أجر، لم يصر مخالفاً حتى يلزمه الأجر فههنا كذلك. ثم قال محمد رحمه الله في هذه المسألة، وفي المسألة الأولى: أن الوكيل يرجع بالأجر على الآجر في القياس.
وإنما أراد به والله أعلم القياس على الوكيل بالشراء فإن الوكيل بالشراء إذا حبس، وليس له حق الحبس حتى هلك، لا يسقط الثمن عن الآجر، فكذا لا يسقط الأجر عن الموكل ههنا هذا الذي ذكرنا إذا استأجر الوكيل الدار سنة بمئة درهم مؤجلة، أو مطلقاً. فأما إذا شرط الوكيل تعجيل الأجر لا يصح عليه وعلى الآمر؛ لأن الأجر مطلق وتعجيل الأجر معتاد، فيملك الوكيل ذلك، فالوكيل بالبيع المطلق يملك البيع بالأجل المعتاد بالاتفاق فههنا كذلك فإن قبض الوكيل الدار ودفع الأجرة، أو لم يدفع فله أن يمنع الدار من الآجر حتى يستوفي الأجر، لما ذكرنا أن الوكيل بالاستئجار في حق حقوق، العقد كأنه استأجره لنفسه ثم أجره من موكله. ولو أستأجر لنفسه ثم أجره من موكله بشرط(7/615)
تعجيل الأجر كان له حق حبس الدار، كذا هنا.
فإذا منع الوكيل الدار من الموكل بعدما طلب الموكل حتى مضت السنة، والدار في يد الوكيل، فالأجر للآجر على الوكيل لما مرّ ولا يرجع به على الآمر؛ لأنه لما حبس الدار من الآجر، وله حق الحبس خرجت يد الوكيل من أن تكون يد أمانة ونيابة، فلم تصر لمنافع حادثة في يد الموكل حكماً، فلم يجب الأجر على الموكل، وصار كالوكيل بشراء العين إذا قبض العين، وطلبه الآمر فمنعه عنه الوكيل، ثم هلك في يد الوكيل. وهناك يبطل عن الآمر اليمين ليبدل يده كذا ههنا، فلو لم يطلب الآمر الدار حتى مضت السنة لزم الوكيل الأجر؛ ورجع به على الآجر؛ لأن الآمر صار قابضاً للدار بقبض الوكيل. فلو بدلت يد الوكيل، إنما تبدل بالمنع، وذلك إنما يكون بعد الطلب، ولم يوجد فصار يد الوكيل باقياً على حكم النيابة، كما في الوكيل بشراء العين.
وإن مضت نصف السنة، ثم طلب الآمر الدار، فمنع الوكيل منه حتى تمت السنة، وجب الأجر كله على الوكيل، ويرجع على الآمر بحصة ما كان قبل الطلب، ولا يرجع بحصة ما بعد الطلب، والمنع اعتباراً للبعض بالكل، فصار كالوكيل بشراء الأعيان إذا هلك بعضها في يده قبل طلب الموكل، وبعضها بعد طلب الموكل، وسع الوكيل، فالوكيل يؤاخذ بالثمن كله، ويرجع على الآمر بحصة ما هلك بعد المنع، والطلب كذا ههنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أمر رجلاً أن يستأجر له أرضاً بعينها، فاستأجره المأمور كما أمره الآمر به، ثم إن الآمر اشترى الأرض لنفسه بعد ذلك من صاحبها، وهو لا يعلم بالإجارة ثم علم، فإنه لا يكون له أن يردها، ويكون في يده بحكم الإجارة.
معنى قوله لا يردها: لا يرد الإجارة؛ لأن استئجار المأمور الآمر قد صح، ونفذ على الآمر، ويعلق به حق الآمر فلا يملك إبطال حقه بالنقص والرد عليه.
وفيه أيضاً: الوكيل باستئجار الدار بعينها بعشرة إذا استأجرها بخمسة عشر، ودفعها إلى الموكل. وقال: إنما استأجرتها بعشرة، فلا أجر على الآمر، وعلى الوكيل الأجر لرب الدار؛ لأن العقد ههنا نفذ على الوكيل لمكان الخلاف. وهذه المسألة دليل أن الإجارة لا تنعقد بالتعاطي.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: الوكيل بإجارة الأراضي إذا دفع الأراضي مزارعة، إن كان البذر من قبل الوكيل لا يجوز، وإن كان من قبل المزارع جاز؛ لأن البذر إن كان من قبل المزارع يصير المزارع مستأجراً، والوكيل مؤاجراً ولا كذلك ما إذا كان البذر من قبل الوكيل، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في الوكيل بإجارة الدار بعشرة، إذا أجرها بخمسة عشر، فهو فاسد، ويتصدق بالخمسة إن كان قد أخذها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أجر رجلاً داراً ثم إنه استحقها رجل ببينة قامت له على الدار، وقال: كنت دفعتها إلى الآجر، وأمر به أن يؤاجرها لي، فالأجر لي، قال الآجر: كنت غصبتها منه، وأجرتها فالأجر لي فالقول قول رب الدار؛ لأن(7/616)
الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر أن الإنسان إنما يتصرف في ملك الغير لذلك الغير، وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لا تقبل بينته؛ لأنه بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق، والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال. وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغضب قبلت بينته، وكانت الأجرة له؛ لأنه بهذه البينة لا يبطل قول المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب، ثم إذا ثبت الغصب يترتب عليه حكم الأجرة. ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء، ثم أجرها مبنية. فقال رب الأرض: أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها، قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية. وعلى البناء، فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض، وما أصاب البناء فهو للغاصب؛ لأن في البناء الظاهر شاهد للغاصب؛ لأن البناء في يده.
الفصل الثلاثون: في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى
قال محمد رحمه الله في كتاب الشروط: في الرجلين أجرا من رجل داراً عشر سنين، فخاف المستأجر أن يخرجاه منها، فأراد أن يستوثق من ذلك، فالحيلة: أن يستأجر كل شهر من الشهور الأول بدرهم، والشهر الآخر مقسم الأجر، فإن معظم الأجر إذا كان للشهر الآخر، فهما لا يخرجانه من الدار.
وعن هذه المسألة استخرجوا الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى، أو جعلوا أجر السنين المتقدمة شيئاً قليلاً، وجعلوا معظم الأجر للسنة الأخيرة. وحكي أن في الابتداء كانوا يكتبون بيع المعاملة مثلما كان في زمن الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، كره ذلك لمكان شبة الربا، وأخذت هذا النوع من الإجارة ليصل الناس إلى الاسترباح بأموالهم، فيحصل لهم منفعة الدار والأرض مع الأمن عن ذهاب شيء من مقصود المال.
وقد أخبرني من أثق به: أني وجدت الإجارة الطويلة المرسومة في فتاوى قديمة مروّية عن محمد، برواية الشيخ الإمام الزاهد أبي جعفر الكبير، وإنما شرط الخيار لكل واحد منهما؛ ليتمكن كل واحد منهما من الفسخ، فيصل إلى أصل ماله بواسطة الفسخ، وإنما اشتبه ثلاثة أيام من آخر كل شهر حتى يشترط الخيار في هذه الأيام المستثناة فيكون شرط في غير الأيام الداخلة في العقد، إذ لو كان شرط الخيار في الأيام الداخلة في العقد يزيد الخيار على ثلاثة أيام في العقد. وإنه يفسد العقد عند أبي حنيفة. أما إذا شرط الخيار في الأيام المستثناة عن العقد، كان هذا اشتراط زيادة على ثلاثة أيام في غير العقد، ولأنه لا يفسد العقد؛ ولأنا إذا شرطنا الخيار في الأيام الداخلة في العقد، لا يصح الفسخ من غير محضر من صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد، فشرطنا الخيار في هذه الأيام المستثناة عن العقد؛ لتمكن كل واحد منهما من الفسخ بغير محضر من صاحبه؛ لأن الفسخ يكون امتناعاً من لزوم العقد بعد هذه الأيام، فلا يشترط حضرة صاحبه.(7/617)
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: يفتي بجواز هذه الإجارة. وكذا من بعده من الأئمة ببخارا إلى يومنا هذا.
وكان الزهاد من مشايخنا، كالشيخ الإمام أبي بكر بن حامد، والشيخ الإمام أبي حفص السفكردري وأمثالهما، كانوا لا يفتون بجواز هذه الإجارة وكانوا يقولون فيها شبهة، وليس الأمر كما قالوا.
وبيان الشبهة: أن هذا عقد واحد؛ لأنه حصل بإيجاب واحد، فإذا شرط الخيار ثلاثة أيام في آخر كل ستة أشهر، وفي آخر كل سنة نزيد مدة الخيار على ثلاثة أيام، واشتراط الخيار في عقد واحد زيادة على (57أ4) ثلاثة أيام يوجب فساد العقد على قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف يجيء شبهة أخرى.
وبيان ذلك: أنهما إذا عقدا عقد الإجارة في غرة الشهر، أو في وسط الشهر. وشرط الخيار في آخر كل سنة، فإن تلك السنة كلها تصير أيام خيار عنده، وكذلك السنة الثانية والثالثة إلى آخر المدة، فلا يفيد العقد فائدة.
وقاسوا هذه المسألة على مسألة أخرى على مذهب أبي يوسف.
وصورتها: رجل اشترى من آخر عبداً أو ثوباً على رأس شهر على أنه بالخيار فيه آخر يوم من هذا الشهر، إن ذلك الشهر خيار كله، والمعنى المجوز دفع حاجة الناس بأموال الغير؛ لأن الإنسان لا يعرض غيره شيئاً كبيراً من ماله من غير أن يطمع فيه وصول نفع مالي إلا نادراً، وبذلك النادر لا تقوم الحوائج، فكان في تجويز هذه الإجارة تعديل النظر من الجانبين.
ثم اختلف المشايخ الذين قالوا بجواز هذه الإجارة: أنهما يعتبر عقداً واحداً، أو عقوداً مختلفة. بعضهم قالوا: يعتبر عقوداً مختلفة حتى يزيد مدة الخيار ثلاثة أيام في عقد واحد فيفسد به العقد عند أبي حنيفة. وبعضهم قالوا: يعتبر عقداً واحداً؛ لأنا لو اعتبرناها عقوداً فما سوى العقد الأول يكون مضافاً، وفي الإجارة المضافة لا تملك الأجرة بالتعجيل، ولا باشتراط التعجيل. والغرض من هذه الإجارة تلك الأجرة، ويبتني على هذا الاختلاف إجارة دار اليتيم إجارة طويلة، واستئجار الدار لليتيم إجارة طويلة.
ووجه البناء: أن هذا العقد لاشك أنه لا يجوز في المدة التي يصيبها قليل الأجرة في الإجارة، وكثير الأجرة في الاستئجار، وهل يتعدى الفساد إلى الباقي؟ فمن جعله عقوداً قال: لا يتعدى، ومن جعله عقداً واحداً، قال: يتعدى.
وبعض المحققين من مشايخنا قالوا: يتعدى الفساد إلى الكل، اعتبرناها عقداً واحداً أو عقوداً إن اعتبرناها عقداً واحداً، فظاهر، وإن اعتبرناها عقوداً متفرقة فكذلك؛ لأنها إنما تعتبر عقوداً متفرقة باعتبار استثناء بعض هذه الأيام. أما من حيث اللفظ، ومقصود المتعاقدين فهما عقد واحد، أما من حيث اللفظ فلأن الآجر يقول: أجرتك هذه الدار بكذا هذه المدة بهذه الشرائط، والمستأجر يقول: قبلت، استأجرت. وأما من حيث مقصود المتعاقدين، فلأن مقصود المتعاقدين مباشرة عقد واحد، واستثناء بعض هذه المدّة(7/618)
من هذا العقد لإتمام ما هو مقصودهما من هذا العقد، وهو التوثيق بالمال مع حصول النفع للمستأجر، ويمكن كل واحد منهما من الفسخ قبل تمام المدة. فهو معنى قولنا: العقد واحد مقصوداً ولفظاً فإذا فسد البعض ثبت الفساد في الباقي من وجه، فيلحق بالفاسد من كل وجه احتياطاً، فإن طلبا حيلة في جواز هذه الإجارة، فالحيلة إذا كانت الدار للصغير أن يجعل مال الإجارة بتمامه للسنة الأخيرة، ويجعل بمقابلة السنين المتقدمة مالاً هو أجر مثله، أو أكثر. ثم يبرء والد الصغير المستأجر عن أجر السنين المتقدمة، ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وإن أراد أن يصير مجمعاً عليه يلحق به حكم الحاكم، والحيلة: إذا أستأجر الأب للصغير أن ينظر إلى أجر مثله كل سنة لهذه الدار، فيجعل مال الإجارة على اعتباره للسنين المستأجرة، ولسنين المتقدمة شيئاً قليلاً.
صورته: إذا كان مال الإجارة ألف درهم مثلاً، وأجر مثل هذه الدار كل سنة مئة، يجعل بمقابله عشرين سنة من أوائل هذه السنين شيء قليل ويجعل بمقابلة العشر سنين المستأجرة ألف إلا شيء قليل، فيجوز، ويجعل المقصود. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والأصح عندي أنه يعتبر عقوداً في سائر الأحكام عقداً واحداً في حق تلك الأجرة بالتعجيل أو باشتراط التعجيل. وعندي لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه يمكن اعتبارها عقداً واحداً.
قوله: يزيد الخيار على ثلاثة أيام في عقد واحد. قلنا: نعم، يزيد الخيار على ثلاثة أيام، لكن لا في العقد فإن من جوز هذه الإجارة شرط أن يشترط الخيار في هذه الأيام الثلاثة المستثناة التي هي غير داخلة تحت العقد، كيلا يريد الخيار في الأيام المستثناة، وإنها غير داخلة في العقد، كان هذا اشتراط الخيار زيادة على ثلاثة أيام في غير أيام العقد، وإنه لا يفسد العقد بالإجماع، وكذا يمكن اعتبارها عقوداً إن اعتبرناها عقوداً.
قوله: بأن الأجرة لا تملك في الإجارة المضافة قلنا عن أصحابنا فيه روايتان على ما ذكرنا، فنأخذ بالرواية التي تملك فيها الأجرة بالتعجيل، واشتراط التعجيل. وكما تجوز الإجارة الطويلة في العقار والضياع، تجوز في الدواب والمماليك أيضاً، إذ المعنى لا يوجب الفصل. وهذا كله في الأملاك.
جئنا إلى الأوقاف. فنقول: إذا استأجر الأوقاف من المتولي مدة طويلة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة يجب مراعاة شرطه لا محالة، ولا نفتي بجواز هذه الإجارة، وإن كان لم يشترط شيئاً، نقل عن جماعة من مشايخنا أنه لا يجوز أكثر من سنة واحدة. وقال الفقيه أبو جعفر: إنما أجوز في ثلاث سنين، ولا أجوز فيما زاد على ذلك. والصدر الشهيد الكبير هشام الدين تغمده الله بالرحمة، كان يقول: في الضياع، يفتى بالجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز.
وفي غير الضياع يفتى بعدم الجواز فيما زاد على سنة واحدة، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز، وهذا أمر مختلف باختلاف الزمان والموضع، ثم إذا استأجر على(7/619)
الوجه الذي جاز من حصة أجرتها، لا تفسخ الإجارة، وإذا ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه لا يفسخ العقد، وذكر في «شرح الطحاوي» : أنه يفسخ العقد، ويجدد على ما ازداد. وإلى وقت الفسخ يجب المسمّى لما مضى.
ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها، بأن كان فيها زرع لم يحصد بعد، فإلى وقت الزيادة يجب المسمى بحساب ذلك، وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر مثلها، وزيادة الأجر إنما تعرف إذا ازدادت عند الكل.f
ذكر الطحاوي هذه الجملة في كتاب المزارعة. وأما في الأملاك لا يفسخ العقد، رخص أجر المثل أو غلا باتفاق الروايات.
وإذا أستأجر من آخر داراً أو أرضاً مقاطعة مدة قصيرة سنة مثلاً، ثم إن الآجر أجرها من غيره إجارة طويلة، لاشك أن الإجارة الطويلة لا تجوز في مدة الإجارة القصيرة، لما ذكرنا أن إجارة المستأجر لا تنعقد أصلاً.
وهل يجوز فيما ورائها؟ فمن جعلها عقداً واحداً يقول: لا تجوز، ومن جعلها عقوداً متفرقة يقول: تجوز؛ لأن العقد فيما وراء المدة القصيرة مضاف، وإضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة، فإذا انقضت المدة القصيرة تنعقد الطويلة ضرورة، وإذا باع المستأجر في الإجارة الطويلة، ثم جاء وقت الاختيار، هل ينفذ البيع؟
حكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد البسّتاني: إن في المسألة روايتين؛ لأن الإجارة فيما وراء الأيام المستثناة مضافة، فإذا نفذ البيع في أيام الخيار تنفسخ تلك الإجارة، وفي فسخ الإجارة المضافة روايتان على ما مرّ، بعض مشايخ زماننا قالوا: يجب أن يفتى بعدم النفاذ احترازاً عن التلبيس والاحتيال، فإنهم قد يحتالون، ويقولون: قد بعنا قبل الأيام، وانفسخت الإجارة في الأيام، ويطلبون أجرة ما مضى بعد الفسخ، وعسى يزداد على مال الإجارة، فيؤدي إلى الإضرار بالمسلمين.
وإن باع الآجر المستأجر في الإجارة الطويلة في أيام الفسخ قبل الفسخ ذكر شمس الأئمة السرخسي إن هذا الفصل يجب (57ب) 4أن يكون على الروايتين. كما لو باع قبل الفسخ؛ لأن الإجارة في المدة الثانية مضافة.
وقال الصدر الشهيد حسّام الدين: يجب أن يكون نفاذ هذا البيع باتفاق الروايات؛ لأن للآجر ولاية في الفسخ في الأيام المستثناة، والبيع دلالة الفسخ، ولا كذلك الإجارة المضافة؛ لأنه ليس للآجر ولاية الفسخ في الإجارة المضافة، فجاز أن يكون في نفاذ بيعه اختلاف الروايتين، وبه ختم
نوع آخر من هذا الفصل
قد ذكرنا أن الأيام المستثناة في الإجارة الطويلة غير داخلة تحت العقد، فلو أجر المستأجر المستأجر من غيره يبين تلك الأيام في الإجارة الثانية، أنها اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر من شهر كذا، ويستثني نصاً لتبين الداخل من الأيام في العقد(7/620)
الثاني من غير الداخل، هكذا ذكر الحاكم السمرقندي رحمه الله في كتاب الشروط، وهذا إذا كتب ذكر الإجارة الثانية على هذه أما إذا كتب في الذكر الأول، أو على ظهره فذكر فيه سوى الأيام المستثناة المذكورة فيه، يكفي بجواز الإجارة الثانية، والله أعلم.
نوع آخر
اختلف المشايخ فيمن يجوز الإجارة الطويلة في فصل، وهو أنه: إذا كان من أحد العاقدين بحيث لا يعيش إلى مدة ثلاثين سنة معه غالباً، هل تصح هذه الإجارة؟ فبعضهم لم يجوزوا ذلك، وممن لم يجوزوا القاضي الإمام أبو عاصم العامري، ووجهه: أن الغالب يلحق بالتيقن في الأحكام حتى يحكم بموت المفقود بموت أقربائه، فإذا كان الظاهر والغالب أنه لا يعيش إلى هذه المدة تيقناً بفساد العقد، لأن تلك المدة التي خرجت من الإجارة مجهولة؛ ليتمكن الجهالة في الباقي، فلا يجوز. ولأن منفعة الأرض فيما سوى مدة عمره لا تكون مملوكة له، فقد جمع بين المملوك وغيره، والمملوك مجهول، فلا يجوز هذا العقد؛ ولأنه بمنزلة التأبيد في الإجارة لما ذكرنا. والتأقيت شرط جوازها والتأبيد يبطلها.
أقصى ما في الباب: أن حياته إلى هذه المدة غير مستحيلة، ولكن ذكرنا أن في الأحكام تصير الغالب، والظاهر.
وبعضهم جوزوا ذلك، وممن جوز ذلك الخصاف؛ لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام العاقدين، وإنه يقتضي التوقيت، فصح ذلك ولا عبرة لموت أحد العاقدين قبل أسماء المدة؛ لأن ذلك عسى يوجد فيما إذا كانت المدة مقدار ما يعيش الإنسان إليها غالباً، ولا عبرة له.
ونظير هذا: ما إذا تزوج امرأة إلى مئة سنة، أنه يكون متعة، ولا يكون نكاحاً صحيحاً في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وإن كان لا يعيش إلى هذه المدّة غالباً وجعل ذلك بمنزلة نكاح مؤقت، واعتبر ظاهر حياته في الحال، وجعل ذلك بمنزلة الوقت اليسير، وإنما فعلنا كذلك لما ذكرنا أن الاعتبار للفظ وإنه يقتضي التأقيت، فصار النكاح مؤقتاً. والنكاح المؤقت باطل.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: بأن مشايخنا يترددون في فصل النكاح في مثل هذه الصورة. بعضهم قالوا: يجوز النكاح في مثل هذه الصورة، ويجعل ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة فكأنهم قاسوا هذا على ما ذكر في كتاب الطلاق في باب الإيلاء، إذا قال: والله لا أقربك إلى خروج الدجال إلى طلوع الشمس من مغربها، فإن هناك لا يصير في القياس مولياً، ويصير مولياً استحساناً ويجعل في الاستحسان ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد كذا ههنا.
وإذا استأجر شيئاً إجارة طويلة صحيحة بدنانير دين موصوفة، فأعطاه مكان الدنانير دراهم، ثم تفاسخا العقد، فالآجر يطالب بالدنانير لا بالدراهم؛ لأن التعجيل مشروط في الإجارة الطويلة، والأجرة تجب باشتراط التعجيل في الإجارة الصحيحة، فإذا قبض مكان(7/621)
الدنانير دراهم، كانت هذه مصارفة بدين واجب فيصح، وصار المستأجر بائعاً الدراهم مؤقتاً الدنانير. ولو كان العقد فاسداً. وباقي المسألة بحاله يطالب الآجر بإعطاء الدراهم؛ لأن الأجرة لا تملك باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة، فلم تصح المصارفة، فلا يصير المستأجر مؤقتاً الدنانير فلا يجب على الآجر إيفاء الدنانير.
وإذا أجر أرضاً، وفي الأرض زرع أو أشجار لا يجوز، وإن أراد الحيلة في ذلك فقد مرّ ذكره في الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب.
وإذا أستأجر كرماً لم يره، وقد باع صاحب الكرم الأشجار قبل الإجارة صحت الإجارة، كان للمستأجر خيار الرؤية في الكرم، ولو تصرف في الكرم تصرف الملاك بطل خيار الرؤية كما في البيع.
ولو أكل من ثمار الكرم، فقد قيل: لا يبطل خيار الرؤية؛ لأنه تصرف في المشترى وهو الثمار لا في المستأجر، وهو الكرم. ولو قيل يبطل فله وجه أيضاً.
وإذا قال لغيره: أجرتك داري هذه، أو قال: أرضي هذه على أنك تفسخ العقد متى شئت كانت الإجارة فاسدة، لأن مدة الخيار تزيد على ثلاثة أيام.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا أجر الرجل حانوته مشاهرة، ثم أجره من غيره إجارة طويلة، وأمر الآجر المستأجر إجارة طويلة أن يكون هو الذي يقبض الأجر من المستأجر مشاهرة ثم مات الآجر بعد ذلك، والمستأجر إجارة طويلة هو الذي يقبض الأجرة، فما قبض فهو له إلا أجرة الشهر الذي وقعت الإجارة الأولى فيه؛ لأن الإجارة الثانية إنما تصح عند الشهر الثاني؛ لأن بمجيئه تنفسخ الأولى.
ومعنى المسألة: أن الإجارة الأولى وقعت صحيحة، وإنما تمنع صحة الإجارة الثانية ولكن للآجر حق الفسخ عند الشهر الثاني، وإقدامه على الإجارة الثانية دليل الفسخ، فانفسخ العقد الأول عند الشهر الثاني. وصحت الإجارة الطويلة، فإذا طلب المستأجر إجارة طويلة الأجر من المستأجر الأول وأجابه المستأجر الأول إلى ذلك، فقد انعقد بين الأول وبين المستأجر إجارة طويلة إجارة جديدة مشاهرة. فهو معنى قوله: ما قبض المستأجر الثاني من الأجرة فهي له، إلا أجر الشهر الذي وقعت فيه الإجارة. قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي رحمه الله: أراد بقوله: ما قبض المستأجر من الأجرة فهي له، ما قبض في حال حياة الآجر؛ لأن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، فما يأخذ بعد ذلك يأخذ بغير حق، فيلزمه رده على من أخذ منه. وفي «الفتاوى الصغرى» : إذا أجر داره من رجل إجارة طويلة، ثم أجر من آجر طويلة لا يجوز، ولا ينقلب جائزاً بعدما انفسخت الأولى بفسخها، وإنه مشكل. وينبغي أن تكون المسألة على روايتين، لأن في الإجارة الطويلة بعض العقود مضافة، وفي صحة فسخ الإجارة المضافة قبل مجيء الوقت المضاف إليه روايتان. والإجارة الثانية دليل فسخ الإجارة الأولى كالبيع، فيجب أن تكون في المسألة روايتان كما في البيع.(7/622)
الفصل الحادي والثلاثون: في النصيف
إذا استأجر الرجل داراً، ولم يسم بالعمل فيها، ينصرف إلى السكنى، وليس له أن يعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فإن عمل فانهدم كان عليه الضمان ولا أجر عليه، وإن سلم الأجر عليه قياساً، وعليه الأجر استحساناً.
والراعي إذا رعى في مكان لم يؤذن له بالرعي فيه، فعطب الغنم أو ما أشبه ذلك، صار الراعي ضامناً لما عطب ولا أجر له. وإن سلمت الغنم كان في وجوب الأجر له قياساً واستحساناً على ما مر.
وإذا استأجر ثوباً ليلبسه مدة معلومة بأجر معلوم، ليس له أن يلبس غيره فإن ألبس غيره في ذلك الوقت إن هلك ضمنه اللبس ولا أجر عليه، وإن سلم لا أجر عليه أيضاً.
وإذا استأجر دابة بعينها ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، ليس له أن يركب غيره فإن حمل (58أ4) عليها غيره ضمن، ولا أجر عليه وإن ركب هو وحمل معه آخر، فسلمت فعليه الكراء كله وإن عطبت بعد بلوغها ذلك المكان من ذلك الركوب، فعليه الأجر كله، وهو ضامن لنصف قيمته.
وإذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر وسلمت الدابة، أو هلكت فلا أجر عليه.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن استيفاء المعقود عليه يوجب الأجر على المستأجر، وعند استيفاء ما ليس بمعقود عليه، إنما يجب الأجر على المستأجر إذا تمكن المستأجر من استيفاء ما هو معقود عليه، أما إذا لم يتمكن فلا. ألا ترى أن من استأجر من آخر ثوباً ليلبسه، وغصب هذا المستأجر من هذا الأجر ثوباً آخر، ثم إن المستأجر لبس الثوب المغصوب دون الثوب المستأجر، فإن كان متمكناً، من لبس الثوب المستأجر بأن كان في بيته فإنه يجب الأجر على المستأجر في الثوب المستأجر وإن لم يكن متمكناً بأن غصب رجل الثوب المستأجر من المستأجر الأجر على المستأجر أصلاً؛ لهذا إن في الوجه الأول: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وهو منافع الثوب المغصوب مع تمكنه من استيفاء ما هو معقود عليه.
وفي الوجه الثاني: استوفى ما ليس بمعقود عليه وزيادة، فإن سلم العين يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الأجر ولا يجب الضمان، وإن هلك العين ليست استيفاء تلك الزيادة، إن صار المستأجر بسبب استيفاء الزيادة مستعملاً كل العين يجب ضمان كل العين، وإن صار مستعجلاً بعض العين يجب ضمان البعض، وهل يجب الأجر؟ ففيما إذا وجب ضمان كل العين لا يجب شيء من الأجر، فيما إذا وجب ضمان العين بقدر الزيادة يجب كل الأجر، ومتى كان المستوفى مع ما دخل تحت العقد جنساً واحداً من حيث الاسم، إلا أن بينهما تفاوت فإن كان تفاوتاً فاحشاً، التحقا بجنسين مختلفين، ولا يعتبر(7/623)
معقوداً عليه فباستيفائه لا يجب الأجر، وإن كان التفاوت يسيراً لا يلحقا بجنسين مختلفين، بل يعتبر الجنس واحداً، ويكون التفاوت راجعاً إلى الصفة، فإن لم يسلم يجب الضمان، ولا يجب الأجر وإن سلم يجب الأجر ولا يجب الضمان.
إذا ثبت هذا جئنا إلى مسألة البيت فنقول: المعقود عليه لما كان هو السكنى، فإذا سكن وعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فقد استوفى زيادة شيء بسبب عمل القصارين والحدادين، فإن سلمت الدار سقط اعتبار الزيادة، وإن هلك الدار لا يجب الأجر ويجب كل الضمان؛ لأنه باستيفاء هذه الزيادة صار مستعملاً كل الدار، فيجب كل الضمان عند الهلاك، ولم يجب شيء من الأجر.
وأما مسألة الراعي قلنا: الراعي في هذا المكان والرعي في المكان الذي أذن بالرعي فيه واحد اسماً إلا أن بينهما تفاوتاً، وهذا التفاوت يسير في الرعي، ولهذا صحت الإجارة على الرعي، وإن لم يبين المكان، فيبقى الجنس واحداً فكان هذا اختلافاً في الصفة، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربّما يكون أجود، فلهذا كان كما قلنا.
وأما مسألة الثوب قلنا: التفاوت بين اللبسين تفاوت فاحش، فالتحقا بجنسين مختلفين، وإن جمعهما الاسم، والداخل تحت العقد لبسه مكان لبس غيره، باعتبار هذا التفاوت غير داخل تحت العقد، فكان هذا استيفاء ما ليس بمعقود عليه، ولم يكن المستأجر متمكناً من استيفاء ما هو معقود عليه، وهو لبسه في المدة؛ لأن ذلك إنما يكون إذا لم يكن في يد غيره وكذلك الوجه فيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فحمل عليها غيره وفيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فأردف غيره إلى ذلك المكان، لم يسقط اعتبار الزيادة فيجب كل الأجر، وإن هلكت من الركوب بعد بلوغها إلى ذلك المكان لم يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الضمان. ولكن إنما يضمن نصف قيمته؛ لأنه باستيفاء الزيادة صار مستعملاً بعض الدابة، وهو ما زاد على مقدار ركوب المستأجر، أما قدر ركوب المستأجر فهو داخل في الإجارة؛ لأن المعقود عليه هنا مقدر بالركوب لا بالمدة فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً والبعض غير مستأجر، فصار باستيفاء هذه الزيادة مستعملاً هذا القدر، فلهذا يجب عليه ضمان ذلك القدر، وجب كل الأجر.
وفيما إذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر فنقول: بين المكانين تفاوت فاحش في الركوب، فاعتبر الجنسين مختلفين، فلم يكن الركوب في مكان آخر معقوداً عليه، واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب الأجر أصلاً، إذا لم يمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وإذا ذهب بها في مكان آخر فما تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.(7/624)
الفصل الثاني والثلاثون: يقرب إلى المسائل التي هي في معنى قفيز الطحان
إذا دفع إلى آخر بقرة بالعلف؛ ليكون الحادث بينهما نصفان، فالحادث كله لصاحب البقرة وعليه أجر مثل عمل المدفوع إليه، وثمن العلف وهذا لأن المدفوع إليه غير متبرع فيما صنع؛ لأنه إنما فعل ذلك رجاء أن يسلم له نصف الحادث، ولا يسلم له نصف الحادث منها لفساد العقد ليكون البدل مجهولاً. قال: فلو مضى على ذلك زمان واتخذ المدفوع إليه بعض اللبن مصلاً، والعين قائم في يده، فما كان قائماً من اللبن فهو للمالك، وما اتخذه المدفوع إليه مصلاً فهو للمدفوع إليه وانقطع حق المالك عنه لتبدل الاسم والمعنى، وعلى المدفوع إليه لصاحب البقرة مثل ذلك اللبن لأن اللبن مثلي، وما ذكر من انقطاع حق المالك عن المصل مشكل؛ لأن الاسم والمعنى وإن تبدلا، ولكن يصنع ما دون فيه من جهة المالك، وعلى هذا: إذا دفع الدجاجة إلى رجل لتكون البيضات بينهما، فلو أن المدفوع إليه دفع البقرة أو الدجاجة إلى رجل آخر بالنصف، فهلك في يده، فالمدفوع إليه الأول ضامن؛ لأن العين أمانة في يده وليس للآجر أن يدفع الأمانة إلى غيره من غير ضرورة، فلو أن المدفوع إليه بعث البقرة إلى السرح، فلا ضمان لمكان العرف.
وفي بيوع الفتاوى: امرأة أعطت بذر العلق إلى امرأة بالنصف، فقامت عليه حتى أدرك فالعلق لصاحب البذر؛ لأنه حدث من بذره ولها على صاحب البذر قيمة الأوراق، وأجر مثلها. وفي إجارات الفتاوى: إذا دفعت بذر العلق إلى أختها وأخيها على أن العلق بينهم، فلما خرج الدود قالا: إن أكثرها قد هلك، فقال لهما: ادفعا إلي ثمن البذر وأنا منه بريء وهما كاذبان فقد خرج العلق كله، فالعلق كله لها، ولهما عليها قيمة ورق الفرصاد، إن كان له قيمة وأجر مثل عملهما في ذلك.
وفي مضاربة «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا دفعت إلى امرأة دوداً لتقوم عليه بنفقتها على أن العلق بينهما نصفان، فهو بمنزلة المضاربة فكل العلق لصاحب الدود وعليها أجر مثل العاملة، وثمن الأوراق، ولو صب من آجر دود القزّ أو بيض الدجاجة، فأمسكها حتى خرج العلق أو الفرخ لمن يكون الفرخ والعلق؟ حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: إن خرج بنفسه فهو لصاحبه.
والحيلة في جنس هذه المسائل: أن يبيع صاحب البيضة نصف البيضة، وصاحب الدجاجة والبقرة من المدفوع إليه، ويبرئه عن ثمن ما اشترى، فيكون بينهما.
رجل له غريم في مصر آخر، قال لرجل: اذهب وطالبه بالذي لي عليه، وهو كذا فإن قبضته فلك عشرة من ذلك، ففعل فله أجر المثل؛ لأن هذا في معنى قفيز الطحان، فلم يصح هذا العقد، وقد استوفى منافعه بحكم هذا العقد، فيجب أجر المثل.(7/625)
الفصل الثالث والثلاثون: في الاستصناع
ذكرنا في كتاب البيوع كيفية الاستصناع وصفته، وما يجوز فيه وما لا يجوز، ولم نذكر ثمة المسائل فنذكرها ههنا، ومحمد رحمه الله أورد باب الاستصناع في البيوع والإجارات، فنحن فعلنا هكذا أيضاً اتباعاً له.
والاستصناع (58ب4) أن تكون العين والعمل من الصانع، فأما إذا كان العين من المستصنع لا من الصانع يكون إجارة، ولا يكون استصناعاً.
قال محمد رحمه الله: وإذا سلم الرجل إلى حائك في ثوب من قطن ينسجه له، وسمى عرضه وطوله وجنسه ودقته، والغزل من الحائك حتى كان استصناعاً، فالقياس أن يجوز؛ لأنه استصناع في عمل معلوم، ببدل معلوم فيجوز، كما في الخفاف والأواني استحسن. وقال: لا يجوز؛ لأن جواز الاستصناع بخلاف القياس؛ لأنه بيع المعدوم، لتعامل الناس ولا تعامل في الثياب فيبقى على أصل القياس.
وإن ضرب لذلك أجلاً يصير سلماً، ذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير ذكر خلاف.
وفي كتاب البيوع في شرح شيخ الإسلام: أن الاستصناع مما للناس فيه تعامل يصير سلماً، يضرب الأجل في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يصير سلماً، وفيما لا تعامل للناس فيه نحو: الثياب يصير سلماً بضرب الأجل بالإجماع.
وفي «القدوري» : وإن ضرب للاستصناع أجلاً فهو بمنزلة السلم، يحتاج فيه إلى قبض البدل في المجلس ولا خيار لواحد منهما في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بسلم من غير فصل بينما، للناس فيه تعامل وبينما لا تعامل لهم فيه فذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير خلاف.
يؤيد ما ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب البيوع: أن فيما لا تعامل فيه يصير الاستصناع سلماً بضرب الأجل بالإجماع.
قال محمد رحمه الله: وإذا دفع حديداً إلى حداد يصنعه أناءً، بأجر مسمى فجاء به الحداد على ما أمره به صاحب الحديد، ويجبر على القبول. ولو خالفه فيما أمره به، فإن خالفه من حيث الجنس بأن أمره بأن يصنع له قدوماً، فصنع له مراءً ضمن حديداً، مثل حديده، وإلا ناله ولا خيار لصاحب الحديد. فإن خالفه من حيث الوصف، بأن أمره أن يصنع له منه قدوماً يصلح للنجارة، فصنع له منه قدوماً يصلح لكسر الحطب، فصاحب الحديد بالخيار إن شاء ضمنه حديداً مثل حديده، وترك القدوم عليه، ولا أجر، وإن شاء أخذ القدوم وأعطاه الأجر، وكذلك الحكم في كل ما يسلمه إلى عامل ليصنع منه شيئاً مسماه، كالجلد يسلمه إلى الإسكاف ليصنعه خفين، أو ما أشبهه.(7/626)
رجل سلم غزلاً إلى حائك لينسجه، وأمره أن يزيد في الغزل رطلاً من غزله، فهذا على أربعة أوجه:
الأول: أن يقول: أقرضني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثله، وأمره أن ينسج منه ثوباً على صفة معلومة بأجرة معلومة، وإنه جائز استحساناً، سواء كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة، أو لم يكن.
والقياس فيما إذا كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة أن لا تجوز الإجارة؛ لأن هذه إجارة شرط فيها مالا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، ولكن تركنا القياس للتعارف والتعامل. فإن العرف جار فيما بين الناس، أنهم يدفعون غزلاً، ويأمرون الحائك بنسج ثوب مقدر ولا يفي الغزل للثوب المأمور به ويشترطون قرض ما يتم به الثوب من عند الحائك، فهذا شرط متعامل فيما بين الناس من غير نكير، فيجوز ويترك القياس لأجله كما ترك القياس في الاستصناع للتعامل، وترك القياس فيما إذا اشترى نعلاً على أن يشركه البائع ويحدده كان الشراء جائزاً وإن شرط فيما اشترى أجراً، وأجازه لأنه شرط متعارف فيما بين الناس، فكذلك هذا.
وأما الوجه الثاني: إذا قال زدني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثل غزلك، وإنه جائز ويكون قرضاً. وإنما جعل قرضاً، أما إذا قال: على أن أعطيك مثل غزلك؛ لأنه وإن احتمل البيع يحتمل القرض، فكان حمله على القرض حتى لا يصير بائعاً ما ليس عنده أولى من حمله على البيع ويصير بائعاً ما ليس عنده، وإنه منهي عنه شرعاً. وأما إذا سكت إنما جعل قرضاً، وإن احتمل الهبة؛ لأنه كما يحتمل الهبة يحتمل القرض والقرض أقل التبرعين؛ لأنه لتمليك المنفعة دون العين على ما عرف، والهبة لتمليك العين والمنفعة جميعاً، فكان الأقل منتفياً، فكان الأقل أولى بالإثبات.
ثم إن لم يكن مشروطاً في عقد الإجارة جازت الإجارة قياساً واستحساناً.
وإن كان مشروطاً، فالمسألة على القياس والاستحسان الذي ذكرنا؛ لأن رفع الاختلاف بين رب الثوب وبين الحائك بعد ما فرغ الحائك من العمل، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً، وقال الحائك: لا بل زدت، والثوب مستهلك، فإن باعه صاحبه قبل أن يعلم وزنه، فالقول قول ربّ الثوب مع يمينه، وعلى الحائك البيّنة. فإن نكل رب الثوب عن اليمين يثبت ما ادعاه الحائك، فيلزم رب الثوب ذلك. وإن حلفه برئ عما ادعاه الحائك، وإن كان الثوب قائماً سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن يقول: زد رطلاً من مالك على أن أعطيك ثمن الغزل، وأجر عملك كذا كذا درهماً. فالقياس: أن لا يجوز وفي الاستحسان يجوز ويجيء للقياس طرق ثلاثة إن كان شراء الغزل مشروطاً في الإجارة.
أحدها: أنه باع ما ليس عنده لا على وجه السلم، فيكون فاسداً.
والثاني: أنه شرط بيعاً في إجارة، وهذا يوجب فساد الإجارة، كما في إجارة الدار.
والثالث: أنه استصنع في حق الزيادة؛ لأن العمل والعين من الحائك، والاستصناع في الثياب لا يجوز كما لو استصنع في أصل الثوب، وإن لم يكن مشروطاً، فلا يجوز(7/627)
قياساً لعلتين أحداهما: وهو أنه باع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً ولم يوجد. ولأنه استصنع في حق الزيادة والاستصناع في الثياب لا يجوز، إلا أنه في الاستحسان يجوز لتعامل الناس فإن الإنسان قد يدفع غزلاً إلى حائك ويأمره بنسج ثوب، ويعلم أنه لا يكفي الغزل المدفوع للثوب المأمور به فيشترط عليه زيادة غزل على سبيل الشراء، أو يدفع غزلاً وعنده أنه يفي هذا الغزل، فينتقص الغزل عن القدر المأمور به ولا يجد رب الثوب غزلاً مثله، فنقول للحائك: زد فيه غزلاً من عندك على أن أعطيك ثمنه، فإذا كان كلا الأمرين متعارفاً فيما بين الناس، ترك القياس فيهما وخص به الأثر وهو النهي الوارد عن بيع ما ليس عنده.
وإذا جاز هذا، فإن اختلفا بعد الفراغ من الثوب، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً. وقال الحائك: زدت فيه ما أمرتني فهذا على وجهين أيضاً. فإن كان مستهلكاً ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه على عمله؛ لأنهما تنازعا في شيء، ولم يمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرهما، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. والحائك يدعي على صاحب الغزل زيادة ثمن الغزل، وزيادة الأجر. ورب الثوب ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه على علمه؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فيحلف على العلم، فإن نكل عن اليمين تثبت الزيادة، فكان عليه جميع ما سمي للحائك بعضه بإزاء العمل، وبعضه ثمن الغزل؛ لأن ما ادعاه الحائك ثبت بنكول رب الثوب، فكان كالثابت بإقراره. وإن حلف ولم تثبت الزيادة، ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه يطرح عنه ثمن الغزل، ويلزمه أجر الثوب؛ لأنه لم يثبت الزيادة من عند الحائك لما حلف رب الثوب، فلا يكون له ثمن الغزل، فيطرح عنه ما يخص الغزل.
ومعرفة ذلك: أن يقسم المسمى على أجر مثل عمله، فيما أمر به وذلك عمله في من ونصف قيمة الغزل المشروط على الحائك؛ لأنه قابل المسمّى بالغزل، وبالعمل في منّ، ونصف؛ لأن مناً من غزل أعطاه المستأجر، ونصف من اشترى منه، فيطرح عنه ثمنه وأصاب العمل هو آجر الثوب يلزمه، حتى أنه كان المسمى، مثلاً ثلاثة دراهم بإزاء الغزل وبإزاء العمل. وقيمة الغزل درهم مثل عمله فيما أمر به درهمان من المسمى، يطرح عنه درهم ثمن الغزل، ويقسم ما بقي من المسمى على أجر مثل عمله، فيما عمل، وفيما لم يعمل؛ لأنه جعل الأجر بإزاء عمله فيما دفع إليه من الغزل، وفيما أمره بالزيادة (59أ4) ولم يوف العمل فيما أمره بالزيادة، فلا بد أن يطرح عنه حصة ذلك من الأجر.
وكيف تعرف حصة ما لم يعمل في الزيادة من الأجر مما عمل؟ اختلف فيه المشايخ. قال بعضهم: يعرف باعتبار الوزن، إن كان ما دفع إليه مناً من غزل، وما شرط عليه نصف من يقسم الباقي من المسمّى بعد ثمن الغزل وذلك درهمان عليهما أثلاثا ثلثاه بازاء ما عمل، وثلثه بازاء ما لم يعمل فيطرح عنه الثلث، ولا تعتبر السهولة والصعوبة في العمل بسبب صغر الثوب، وكبره كما في المراحل إذا ماتت الدابة المستأجرة في وسط الطريق، فإنه يطرح بعض الأجر، ويبقى البعض، ثم يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار(7/628)
قدر المراحل لا عبرة فيهما للسهولة والصعوبة فكذلك هذا.
فقال بعضهم: بأنه يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار السهولة والصّعوبة في العمل بسبب صغر الثوب وكبره، وهذا لأن العمل قد يسهل على الحائك بطول الثوب، ويصعب بقصره، فإنه متى قصر يحتاج إلى الوصل، وإلى عمل الدقيق مراراً، ومتى طال يحتاج إلى ذلك مرة واحدة وهذا التفاوت معتبر فيما بين العمل من هذه الصناعة في زيادة الأجر بسبب صغر الثوب، ونقصانها بسبب الكبر، فلا بد من اعتبارها. وإذا وجب اعتبارهما يجب أن يقيم الباقي من المسمى، وذلك درهمان على أجر مثل عمله في من، وأجر مثل عمله في منّ ونصف درهمان ونصف، وفي منّ درهمان يكون بازاء الزيادة نصف درهم، فيطرح عنه من درهمين نصف درهم حصة ما لم يعمل، بخلاف المراحل؛ لأن الصعوبة والسهولة في المراحل ساقط الاعتبار، فيما بين أهلها إذا اشتملت على المراحل السهل والصعب، فلهذا وجب قدر المراحل في قسمة الأجر بخلاف ما نحن فيه؛ لأن التفاوت في القصر والكبر معتبرة في التفاوت في الأجرة، فلا بد من اعتبارها اللهم إلا أن يكون التفاوت بين القصير والطويل بذرع أو بذرعين حتى لا يكون لهذا التفاوت عبرة في زيادة الأجر ونقصانه.
ولم يذكر محمد رحمه الله أن صاحب الثوب يخير وإنما لم يذكر الخيار. وإن خالفه الحائك في صفة ما أمر به، لأنه متى نسج الثوب من منّ ونصف، يكون أطول مما إذا نسجه من منّ واحد، والطول في الثياب صفة مرغوبة كالصفاء والرقة، لأن الطويل يصلح لنوع لا يصلح له القصير، إلا أن التخير غير ممكن بعد هلاك الثوب؛ لأنه لا يمكنه ترك الثوب عليه حتى يضمنه غزلاً مثل غزله، فتعين وجوب الأجر، ثم ماذا يجب أجر المثل، أو المسمى؟ فعلى قول بعضهم: أجر المثل لا يجاوز حصته من المسمى، وعلى قول بعضهم: إن رضي بالعيب فعليه المسمى بحساب ذلك، وإن لم يرض بالعيب فعليه أجر مثل العمل لا يجاوز حصته من المسمى، كما قلنا فيما تقدم من المسائل. ومحمد رحمه الله ذكر الأجر في هذه المسألة مطلقاً ولم يقل المسمّى يخرجها على حسب ما ذكرنا في المسألة الأولى، فأما إذا كان قائماً: إن كان لا يعرف مقدار ما دفع إليه صاحب الغزل، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان هالكاً من أوله إلى آخره؛ لأنه تعذر معرفة ما وقع التنازع فيه من حيث الوزن، وإن كان الثوب قائماً فكان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الثوب مستهلكاً، فأما إذا كان الثوب قائماً وقد عرف مقدار ما دفع إليه من الغزل، بأن تصادقا على أن ما دفع إليه منّ إذا كان الثوب قائماً، فإنه يوزن الثوب؛ لأن معرفة ما وقع التنازع فيه ممكن من حيث العنان بالوزن؛ لأن ما وقع إليه إذا كان معروفاً يعرف الزيادة من حيث الوزن، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، بل يوزن الثوب فإن وزن فإذا هو من واحد لم تثبت الزيادة بيقين، فيكون القول قول صاحب الثوب من غير يمين وإن كان منوينّ فالقول قول الحائك، إن لم يدع رب الثوب إن الزيادة من الدقيق؛ لأن الزيادة تثبت بتصديق صاحب الثوب. وإن أدعى أن الزيادة من الدقيق، فلم يرى أهل البصر من(7/629)
تلك الصناعة، فإن قالوا: قد يزيد الدقيق مثل هذا، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه؛ لأن الظاهر صار شاهداً لرب
المال، لما قال أهل تلك الصناعة. أن الدقيق يزيد هذا القدر، إلا أنه يجعل القول قوله مع اليمين؛ لأن الزيادة لم تثبت بيقين أنه من الدقيق. وإنما يثبت بنوع من الظاهر وإن قالوا: الدقيق لا يزيد هذا القدر صار الظاهر شاهداً للحائك، فيكون القول قوله لكن مع اليمين، لأنه لم تثبت بيقين الزيادة بسبب الغزل، وإنما تثبت بنوع من الظاهر، فجعل القول قوله مع اليمين.
قال: ولو أن رجلاً دفع سمسماً إلى رجل فقال أقشره وزنه ببنفسج واعصره على أن أعطيك أجرك درهماً، كان هذا فاسداً؛ لأنه أستأجره لعمل مجهول، لأنه أستأجره لتربية السمسم بالبنفسج، وقدر ما يربي بالسمسم من البنفسج مجهول قد يقل وقد يكثر، فيكون العمل مجهولاً، وجهالة العمل يوجب الفساد إلا أن يكون قدر ما يربى به مثل هذا السمسم من البنفسج معرفاً، فيما بين الناس فحينئذ يكون جائزاً، لأن المعروف كالمشروط كما في نقد البلد، فيكون العمل معلوماً وقد أستأجره لما يصلح أجراً فرق بين هذا وبينما إذا دفع ثوباً إلى صباغ ليصبغه بعصفره كانت الإجارة جائزة، وإن لم يتبين قدر العصفر، وهنا قال: لا تجوز الإجارة إذا لم يبين قدر البنفسج، ووجه الفرق بينهما من وجهين:
الأول: وهو قدر ما يصنع به مثل هذا الثوب من الصبغ معروف فيما بين الصباغين، بحيث لو زادوا على ذلك المقدار فسد الثوب، والمعروف كالمشروط. ولو كان قدر العصفر مشروطاً جازت الإجارة؛ لأن العمل معلوم، وهنا ليس لمثل هذا السمسم مقدار معروف من البنفسج بين أهل الصنعة، بحيث لا يزاد عليه، فإنه كلما ازداد البنفسج يزداد السمسم حراً، حتى لو كان معروفاً فيما بين التجار بحيث لا يزاد عليه جاز أيضاً لأن المعروف كالمشروط.
والثاني: أن المعروف والمتعامل فيما بين الصباغين أنهم يجمعون الثياب من الناس، ويصبغون الكل بدفعة واحدة في وعاء واحد، ولا يفردون ثوب كل واحد من الناس بالصبغ على حدة، فلو شرطنا لجواز هذا العقد بيان مقدار العصفر ولأنهما للصباغ الإمساك بذلك، إلا بعد أن يفرد كل ثوب بالصبغ على حدة ضاق الأمر عليهم، وما ضاق على الناس اتسع. حكمة هذا التعامل معدوم في تربية السمسم، لأنهم يفردون سمسم كل رجل على حدة في التربية، ولا يخلطون سمسم هذا بسمسم الآخر، ومتى خلطوا ضمنوا؛ لأنه يتهيأ لهم التمييز، فلو شرطنا بيان مقدار البنفسج لكل سمسم لا يؤدي إلى أن يضيق الأمر عليهم، فأخذنا في البنفسج بالقياس.
قال: وإذا دفع الرجل جلداً إلى الإسكاف، وأستأجره بأجر مسمى على أن يحرم به خفين وسمى له المقدار، والصفة على أن نعلة الإسكاف وسطية من عنده، ووصف له(7/630)
البطانة والنعل، فهو جائز استحساناً. والقياس أن لا يجوز.
ووجه القياس في ذلك أن هذا إجارة شرط فيها شراء، فتفسد. كما لو أستأجر داراً، وشرط فيها شراء، ولأنه صار مشترياً ما ليس عنده لا على وجه السلم، وشراء ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً، وكان بمنزلة ما لو دفع ثوباً إلى خياط ليخيط له جبّة على أن يحشو وسطه من عنده بأجر مسمّى، فإنه لا يجوز لما ذكرنا، فكذلك هذا.
ذكر محمد مسألة الجبة في الأصل على هذا الوجه، إلا أنه ترك هذا القياس في باب الخفّ للتعامل، ولا تعامل في فصل الخياط، فيرد فصل الخياط إلى ما يقتضيه القياس.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل دفع إلى خياط ظهارة، وقال: بطنها لي من عندك فهو جائز، وقاسه على ما إذا اشترى خفاً، وقال للبائع: انعله بنعل من عندك، فصار في المسألة روايتان.
ولو دفع إليه بطانة. وقال: ظهرها لي من عندك فهو فاسد باتفاق الروايات، ثم إن محمداً رحمه الله جوز هذا التصّرف، وإن لم ير صاحب الجلد النعل والبطانة وصرفه إلى نعل وبطانة يليق بتلك الخف، وكذا إذا أمر الرجل إسكافاً أن يحرر على خفيه ومكعبيه أربع قطع من هرم بكذا، ولم ير الرجل القطع فهو جائز استحساناً (59ب4) وكذا ترقيع الخرق في الخفاف يجوز من غير أن يرى الإسكاف الرقاع.
وفي نوادر ابن سماعة: شرط الإراءة في النعل. وهكذا ذكر في القطع الأربع، وهكذا في ترقيع الخرق، فإذا في الخف نعل وفي النعل يخصف روايتان، وإذا جازت هذه الإجارة استحساناً، فإذا عمل الإسكاف وأتى به إن كان عمله متعارفاً صالحاً لا فساد فيه أجبر صاحب الجلد على القبول، ولم يكن له خيار، فقد اعتبر المقارنة للزوم لا حقيقة الموافقة من كل وجه، بين المسمّى في الذمة، وبين ما عين الأجير غير ممكن؛ لأنه لا بد من أدنى تفاوت يقع بين الموصوف في الذمة وبين العين، فسقط اعتبار الموافقة من كل وجه للزوم، وقامت المقارنة مقام الموافقة من كل وجه كما في السلم، لا يشترط الموافقة بين المسمّى في الذمة وبين العين للزوم، وإنما يشترط المقارنة؛ لأن الموافقة من كل وجه غير ممكن، فكذلك هذا وليس لصاحب الجلد خيار الرؤية لا في حق العمل ولا في حق النعل في حق العمل لا إشكال؛ لأن العمل كان واجباً في ذمة الأجير، وما ثبت في الذمة لا يثبت فيه خيار الرؤية، كما في السلم، ولا يثبت في حق النعل، وإن صار مشترياً للنعل لا على وجه السلم لوجهين:
أحدهما: أن شراء النعل إنما جاز تبعاً للإجارة، فإنه مشروط في الإجارة، فيكون تبعاً له وحكم البيع لا يفارق حكم البيوع، فإذا لم يثبت في الإجارة خيار الرؤية لما ذكرنا، لم يثبت فيما صار تبعاً للإجارة.
والثاني: أن العمل بخيار الرؤية غير ممكن؛ لأن العمل بخيار الرؤية أن يرد ما اشترى إلا بزيادة ضرر يلحق أحدهما فإنه متى رد النعل وحده يحتاج فيه إلى نقص الصفة،(7/631)
وإذا رد مع الخف يضمن الإسكاف قيمة الخف، وكل ذلك ضرر بالإسكاف هذا إذا عمل عملاً مقاوماً صالحاً، فأمّا إذا فسد بأن خالف في صفة ما أمر به ذكر أن صاحب الجلد بالخيار إن شاء ترك الخف عليه وضمنه قيمة جلده، وإن شاء أخذ الخف وأعطاه الأجر. وإنما يجبر لما ذكرنا أن العامل موافق من وجه مخالف من وجه فإن شاء مال إلى الخلاف وضمنه وإن شاء مال إلى الوفاق، وأخذ الخف، فإن ترك الخف عليه وضمنه فلا أجر عليه؛ لأن العمل حصل للعامل متى ترك الخف عليه، فلا يكون عليه أجر. وإن مال إلى الوفاق وأخذ الخف، فإنه يعطيه أجر مثل عمله في حرز الخف أجر مثل عمله؛ لأن الثابت في حرز الخف إجارة محضة، وفي الإجارة المحضة متى تعذر إيجاب المسمّى يجب أجر المثل، ولا يجب ما زاد العمل فيه. وفي النعل عمل وعين حال اتصل بملك صاحب الخف، وفي هذا يجب قيمة ما زاد كما في الصبغ، إذا حصل بحكم الغصب، واختار المالك أخذ الثوب، فإن صاحب الثوب يضمن قيمة ما زاد الصبغ فيه، فلهذا اعتبر أجر مثل عمله في حزر الخف وفي حق النعل اعتبر قيمة ما زاد ومعرفة ما زاد النعل فيه أن ينظر إلى قيمة الخف محرراً غير منعل، ومبطن وإلى قيمته مبطناً منعلاً. فإن كان قيمته غير منعل ولا مبطن عشرة، وقيمته منعلاً اثنا عشر، علم أن قيمة ما زاد فيه درهمان، فيكون درهمان قدر ما زاد النعل فيه، ثم ينظر أجر مثل عمله في حزر الخف غير منعل ومبطن، فإن كان ثلثه مثلاً يضم إلى قيمة الخف ما زاد، فيصير خمسة، ثم يقابل بالمسمى فإن كان خمسة مثل المسمى أو أقل من المسمّى، فللإسكاف ذلك. وإن كان المسمى أقل من خمسة بأن كان المسمى أربعة، فإنه يعطي له أربعة؛ لأنه أبرأه عن الزيادة على أربعة لما رضي بأربعة.
وإذا اعتبر قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه لا يعتبر أجر مثل عمله في حزر النعل؛ لأن أجر عمله في حزر النعل قد اعتبر لما اعتبرنا قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن قيمة ما زاد النعل أن يعتبر الخف منعلاً ومبطناً وغير منعل وإنما صار منعلاً بالعمل والنعل، فيكون قدر ما زاد النعل قيمة العمل والنعل، فمتى أوجبنا أجر مثل عمله في حزر النعل لا ينتقص أجر مثل عمله مرتين.
وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا دفع خفاً محرزاً إلى إسكاف لينعله بنعل من عنده بأجر معلوم، حتى جازت الإجارة استحساناً؛ للتعامل فنعله بنعل لا ينعل به الخفاف، حتى أفسد الخف بذلك ثبت لصاحب الخف الخيار، كما في هذه المسألة. واختار الأخذ فإنه يعطيه أجر مثل عمل وقيمة ما اتصل به من النعل من ابلا غير محرز لا يجاوز بهما ما سمي، وهنا أوجب مع أجر المثل قيمة ما زاد العمل فيه، ولم يوجب عليه قيمة النعل. والبطانة من ابلا غير محرز، والمتصل بخف الإسكاف في الموضعين عين مال وعمل، ثم أخذ في الموضعين أوجب قيمة ما زاد النعل فيه. وفي الموضع الآخر أوجب قيمة النعل من ابلا غير محرز من مشايخنا قال: لا فرق بين المسألتين ما ذكر في تلك المسألة يكون(7/632)
ذكراً في هذه المسألة: أن صاحب الخف إذا أراد أن يعطيه أجر مثل عمله في حزر الخف والنعل والبطانة، ثم قيمة النعل والبطانة من ايلا فله ذلك كما في تلك المسألة وذلك لأن للصباغ في الخف في المسألتين سيان، عين مال وعمل، فإن شاء صاحب الخف أعطاه أجر مثل عمله في الخف، وقيمة العين من ابلا غير محزر. وإن شاء أعطاه مع أجر مثل عمله في الخف ما زاد العمل فيه في الموضعين جميعاً. ومنهم من فرق، وقال في مسألتنا: أمكن إيجاب قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه، لأن النعل والبطانة أوجب زيادة في الخف وفي تلك المسألة لم يكن إيجاب قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن نعل الخف بما لا ينعل به الخفاف يوجب فساداً في الخف، ولا يوجب زيادة في الخف وإذا تعذر إيجاب ما
زاد العمل فيه، أوجب قيمة النعل من ابلا غير محزر، قياس هذه المسألة من تلك المسألة: أن لو شرط عليه نعلاً جيداً، فحرز بنعل غير جيد، ولكن ينعل بمثله الخفاف، وهناك صاحب الخف إذا اختار الأخذ يعطيه أجر مثل عمله، وقيمة ما زاد فيه لا يجاوز به ما سمي، كما في هذه المسألة ثم قال محمّد في المسألتين جميعاً: لا يجاوز به ما سمّي. فمن مشايخنا من قال: أراد بقوله: لا يجاوز به ما سمى فيما يخص العمل، فأما ما يخص العمل فإنه يجب بالغاً ما بلغ وذلّك؛ لأن ما يخص العمل إجارة، وفي الإجارة متى وجب قيمة العين، فإنه يجب بالغاً ما بلغ. كما في الشراء الفاسد. ومنهم من قال: بأنه لا يجاوز به ما سمي في حق النعل والعمل جميعاً وإنما كان كذلك وذلك لأن ما يخص النعل إن كان بدل عين من حيث الصورة والحقيقة، فهو بدل منفعة حكماً؛ لأن العين إنما تملك تبعاً للإجارة، والمملوك بالإجارة منفعة فكذا ما ملك تبعاً للإجارة، ولهذا لم يثبت فيه خيار الرؤية، وجاز وإن لم يكن عنده تبعاً للإجارة، وفرق محمد بين هذه المسألة وبين مسألة الصبغ، فإنه قال: إذا دفع الثوب إلى صباغ ليصبغه بعصفر من عنده، فصبغه بما سمي إلا أنه خالف في صفة ما أمر به بأن اتسع، أو قصر في الإشباع حتى تعيب الثوب، قال: صاحب الثوب بالخيار إن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته أبيض، ولو شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به ما سمي، ولم يقل يعطيه قيمة ما زاد الصبغ، كما قال في مسألة الخف يعطيه قيمة ما زاد النعل فيه، والعمل في الموضعين حصل بحكم العقد، والصانع في الموضعين جميعاً موافق من وجه مخالف من وجه في أصل العمل موافق، وفي وصفه مخالف.
ثم قال: في الصبغ يعطيه أجر مثل عمله، ولم يوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وفي النعل أوجب قيمة ما زاد النعل فيه مع أجر مثل عمله، ووجه الفرق بينهما: أنا متى أوجبنا في مسألة الصبغ قيمة ما زاد الصبغ فيه لسوينا، فيه بين حالة الغصب وبين حالة العقد؛ لأن الواجب بحكم الغصب * وهو مخالف من كل وجه في الصبغ * قيمة ما زاد الصبغ فيه فلو أوجبنا ههنا قيمة ما زاد الصبغ فيه أيضاً، والصبغ في مسألتنا حصل بحكم العقد من وجه لسوينا بين حالة الغصب، وبين حالة العقد، وألغينا اعتبار العقد وعمل الصانع أسند إلى عقد قائم بينهما؛ لأنّ. (60أ4) الصانع لم يخالف من كل وجه، وإنما خالف من(7/633)
وجه في اللون، فأما في أصل الصبغ موافق، فيكون مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فيجب أن لا يحكم عليه بالخلاف العام، ولا يحصل كأنه صبغ بغير عقد، فأوجب أجر المثل في مسألة الصبغ حتى لا يلغو اعتبار العقد والتسمية، فيكون في إيجاب أجر مثل عمله قيمة العمل، وقيمة الصبغ؛ لأن أجر مثل عمله أن ينظر أنه بكم يستأجر لهذا والصبغ من عنده بخلاف مسألة النعل، لأنا وإن أوجبنا قيمة ما زاد النعل فيه، ولم يوجب أجر مثل عمله في حرز النعل لا يقع التسوية بين حالة الغصب وحالة، العقد حتى يلغو اعتبار العقد؛ لأن الواجب حالة الغصب في مسألة النعل قيمة النعل مزايلاً لا قيمة ما زاد النعل فيه كمن غصب ساحة وأدخلها في بناية، يضمن قيمة ساحته مزايلاً لا قيمة ما زاد الساحة في بنائة، فكذلك ههنا.q
فإن قيل: إن كان إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ لتقع التفرقة بين حالة العقد، وحالة الغصب حتى لا يلغو اعتبار العقد، ولا يصير الصباغ كالعامل بغير عقد وأجر أصلاً، كان يجب أن يوجب أجر عمله في الصبغ من غير أن يكون الصبغ من عنده، وقيمة الصبغ مزايلاً كما اعتبره في مسألة النعل: إذا أنعله بما لا ينعل به الخفاف، فالمفارقة تقع بهذا الطريق بين حالة الغصب، وحالة العقد.
والجواب عنه: أن المفارقة بين الغصب والعقد تقع بهذا الطريق، إلا أنه غير ممكن اعتبار هذا الوجه في مسألة الصبغ لأنا لو أوجبنا قيمة العمل على حدة، وقيمة الصبغ مزايلاً احتجنا إلى تقويم الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، ولا يمكن تقويمه في ذلك الوقت، لأنه مخلوط بالماء حال ما يتصل بالثوب، فلا يمكن تقويمه؛ لأن قيمة الصبغ تتفاوت بتفاوت الماء ولا يعرف قدر الماء، فقد تعذر اعتبار هذا الوجه للتفرقة بين حالة العقد، وبين حالة الغصب، فلم يبق للتفرقة وجه إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ، بخلاف مسألة النعل؛ لأن تقويمه مزايلاً ممكن حال ما يتصل بالخف، فمتى أوجبنا أجر عمله على حدة أمكننا إيجاب قيمة النعل مزايلاً فبالوجهين جميعاً تقع التفرقة بين حالة الغصب والعقد في مسألة النعل، فذكر الوجهين جميعاً ثمة، ولم يذكر في الصبغ إلا وجهاً واحداً، وهو إيجاب أجر المثل؛ لأن التفرقة بين حالة الغصب وحالة العقد لا تقع إلا به.
ثم أوجب محمد رحمه الله أجر مثل عمله متى اختار أخذ الخف، ولم يوجب المسمى، وهذا على قول من يقول بإيجاب المسمى في مثل هذه المسائل متى رضي بالعيب واختار أخذ الخف محمول على ما إذا اختار أخذ الخف ولم يرض بالعيب. وفي مثل هذه الحالة يجب أجر المثل على قول هذا القائل، وعلى قول من قال بإيجاب أجر المثل على كل حال متى خالف لا يحتاج إلى هذا التأويل.
ولو أن رجلاً دفع خفه إلى رجل لينعله من عنده بأجر مسمى فأنعله بنعل تنعل بمثله الخفاف، فهو جائز عليه، وإن لم يكن جيداً ولا خيار له؛ لأنه وافق شرطه من حيث العرف، ولو وافق شرطه من حيث الشرط، بأن سماه نعلاً موصوفاً، فأتى بذلك لم يكن له خيار، فكذا إذا وافق شرطه من حيث العرف فقد وافق شرطه عرفاً لما نعله بنعل تنعل(7/634)
به الخفاف في العرف والعادة، وإن شرط الجودة وأتى بما يطلق عليه اسم الجيد أجبر على القبول، ولا خيار له؛ لأن مطلق اسم الجيد ينصرف إلى ما ينطلق عليه اسم الجيد، لا إلى المتناهي في الجودة الذي لا يعدل في العرف والعادة، كما في السلم.
وإن لم يكن جيد يجبر لأنه خالف شروطه من حيث الشرط، ولو خالف مشروطه من حيث العرف يجبر على ما بينا، فإذا خالف مشروطه من حيث الشرط أولى أن يجبر.
قال: ولو اختلفا في قدر الأجر، بأن قال الإسكاف: شرط لي درهماً، وقال رب الخفّ: شرطت لك دانقين، وقد حرره على وصفه له، ولم يختلفا في ذلك وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة العامل؛ لأنه يثبت ببينته زيادة أجر، فكان أولى بالقبول. كما في البائع والمشتري إذا أقاما جميعاً البينة. ولم يذكر الجواب فيما إذا لم تقم لهما بينة. ويجب أن يحكم في ذلك قيمة النعل بخفه موجب معلوم مزايلاً، ويجعل القول قول من شهد له قيمة النعل كما في الصبغ؛ لأن لاتصال النعل بخفه موجب معلوم، لو جعل بغير عقد وهو قيمته مزايلاً لا يقع البراءة عنه إلا بالتسمية، فيجعل ذلك موجب العقد حالة الاختلاف في التسمية، كما في مسألة الصبغ. وكما في النكاح على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا اختلفا في مقدار المسمى، فإن كانت قيمة النعل درهماً كما يدعيه الإسكاف، فالقول قوله مع اليمين لأن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا على أن العقد عقد به إلا أن ربّ الخف ادعى أنه حط عنه أربعة دوانق، وأنكر الإسكاف فيكون القول قول الإسكاف مع يمينه.
ولو كانت قيمة النعل يشهد لصاحب الخف بأن كان دانقين، كما يدعيه صاحب الخف جعل القول قوله مع يمينه؛ لأن قيمة النعل يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به، إلا أن الإسكاف ادعى أنه زاد أربعة دوانق، ولما حلف صاحب الخف لم تثبت الزيادة، فيقضى له بدانقين ولا يتحالفان. وإن كان المبيع قائماً عندهم جميعاً لأنهما لم يختلفا في موجب العقد، إنما اختلفا فيما يغير موجب العقد، إما إلى زيادة أو إلى نقصان. والاختلاف متى وقع فيما يغير موجب العقد بعدما ثبت الموجب، فإنه لا يجب التحالف إذا لم توجد الدعوى، والإنكار من الجانبين. كما في بيع العين إذا تصادقا أن الثمن كان ألفاً، إلا أن البائع ادعى زيادة خمس مئة على الألف، وأنكر المشتري، أو ادعى المشتري براءة خمس مئة. وأنكر البائع لا يجب التحالف عندهم جميعاً، فكذلك هذا.
وإن كانت قيمة النعل لا تشهد لأحدهما بأن كان نصف درهم، فإنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، كما ذكر في فصل الصبغ في بعض روايات هذا الكتاب. وذلك لما ذكرنا أن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به إلا أنهما اختلفا فيما يغير موجب العقد.
ادعى الإسكاف أن رب الخف زاده على هذا الموجب نصف درهم، وانكر رب الخف وادعى صاحب الخف براءة دانق، وأنكر الإسكاف ذلك، فجعل كل واحد مدعياً(7/635)
ومدعى عليه، فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، بخلاف ما إذا كانت قيمة النعل تشهد لأحدهما؛ لأنّ من يشهد له قيمة النعل لا يدعي نغيراً إنما يدعي الذي لا يشّهد له موجب العقد، إما إبراء أو زيادة، وإذا لم تتحقق الدعوى والإنكار من الجانبين لم يجب التحالف، هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر، فأما إذا اختلفا في أصل الأجر، قال صاحب الخف: عملته لي بغير أجر. وقال الإسكاف: لا بل عملت لك بأجر ذكر أنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، أما صاحب الخف فلأنه مدعي على الإسكاف هبة العمل والنعل والإسكاف أنكر ذلك. والإسكاف يدعي بيع العمل والنعل وصاحب الخف أنكر ذلك فكل واحد منهما ادعى عقداً أنكره صاحبه، فيجب التحالف. وإن كان الفسخ متعذراً كما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد لا في مقداره، ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع والمال هالك، يجب التحالف لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فكذلك هذا فإن حلفا ولم يثبت واحد من الأمرين، ذكر أن صاحب الخف يغرم قيمة ما زاد النعل فيه، وكان يجب أن يضمن قيمة نعله مزايلاً؛ لأنهما لما تحالفا لم يثبت واحد من الأمرين، فيبقى عاملاً بغير عقد، وإلا يقال: متى حصل بغير عقد واختار المالك أخذ الخف فإنه يضمن قيمة النعل مزايلاً إلا أن الجواب أن الأمر كما قلت لم يثبت واحد من الأمرين إلا أن الإذن لم ينتف، لأنهما مع اختلافهما في كيفية العقد أنه كان هبة أو بيعاً انتفاء على الإذن. وإذا كان الإنعال (60ب4) حاصلاً بإذن يعذر القول بأنه يعطيه قيمة النعل مزايلاً؛ لأن هذا حكم الغاصب، وهذا كان مأذوناً في العمل، ولم يكن غاصباً، فأوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو من حيث الحكم قيمته مزايلاً، ولا يكون شيء منه بدل العمل ألا
ترى في مسألة الصبغ أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه إذا كان غاصباً، وأنه قيمة الصبغ لا غير؛ لأنه لا قيمة للعمل بغير عقد ولكن لما تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وجعله قيمة الصبغ لا قيمة العمل، فكذلك ههنا أوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو قيمة النعل لا قيمة العمل ضرورة أن لا يصير المأذون في العمل غاصباً، ولم يخير صاحب الخف ههنا مثل ما كان يخير فيما مضى لأن فيما مضى كان العامل مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، وكان له أن يميل إلى الخلاف وإلى الوفاق، وههنا موافق من كل وجه، إلا أن الخلاف وقع أنه بأجر أو بغير أجر، وإذا لم يكن مخالفاً لم يخير، ولكن قال: يأخذ الخف ويعطيه قيمة النعل، وكان الجواب فيه كالجواب في الثوب، إذا هبت به الريح وألقته في صبغ إنسان، والصبغ لا يكون لصاحب الثوب تضمين الثوب، بل يأخذ الثوب ويعطيه قيمة ما زاد الصبغ فيه، فكذلك هذا.
قال: ولو عمل الخف كله من عند حتى كان استصناعاً، ثم اختلفا قبل القبض في مقدار الأجر كان القول قول الإسكاف، وكان يجب أن يتحالفا؛ لأن الاستصناع يصير بيعاً في الانتهاء وفي بيع العين إذا اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض يتحالفان قياساً، إلا أنه قال: لا يتحالفا، ن ويكون القول قول الإسكاف؛ لأن يمينه يفيد، لأن المستصبغ يدعي(7/636)
على الإسكاف ما لو أقر الإسكاف به لزمه، فإذا أنكر يستحلف فأما يمين المستصبغ لا يفيد؛ لأنه لو نكل لا يلزمه شيء، كما لو أقر به.
قال: وإذا اختلف الصباغ ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك بأن تصبغه بعصفر، وقال الصّباغ: أمرتني بأن أصبغه بزعفران. قال: القول قول رب الثوب مع يمينه. وهذا قول علمائنا. وقال ابن أبي ليلى: القول قول الصباغ مع يمينه. والخلاف في هذه المسألة، نظير الخلاف فيما إذا قال: أكلت مالك بإذنك، أو هدمت دارك بأذنك، وأنكر صاحب المال الإذن، فعلى قول علمائنا رحمهم الله: القول قول صاحب المال مع يمينه، ويضمن المقر. وعلى قول ابن أبي ليلى القول قول المقر مع اليمين، ولا ضمان عليه. وذهب في ذلك أن المقر ينكر سبب الضمان، وصاحب المال يدعي عليه، فيكون القول قول المنكر. كما لو أنكر الأكل أصلاً، وإنما قلنا: إنه ينكر سبب الضمان؛ لأنه أقر بأكل موصوف بالإذن، وصبغ وخياطة موصوف بالإذن وهذا غير موجب للضمان، فكان منكراً للضمان من الأصل، كما لو قال: أقررت لك بألف درهم وأنا صبي أو مجنون، وقال المقر له: لا بل أقررت، وأنت بالع أو صفيق. وعلماؤنا: ذهبوا إلى أنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وادعى ما يبرئه وأنكر صاحب المال البراءة، فيكون القول قوله كما لو أقر بالدين وادعى القضاء والإبراء وأنكر صاحب الدين، وإنما قلنا: أقر بالسبب الموجب للضمان، وذلك لأنه أقر بالأكل وبالصبغ في ثوب الغير، وهذا سبب الضمان في الصبغ متى اختار المالك ترك الثوب على الصباغ، وادعى الإذن إلا أن الإذن لم يثبت بمجرد دعواه، لما أنكر صاحب المال؛ لأنه دعوي عليه وإذا لم يثبت الإذن بقي مقراً بأكل مطلق بغير إذن، وإنه سبب ضمان. بخلاف ما لو أضاف الإقرار إلى حال الصبي؛ لأن الخلاف ثمة وقع أن السّبب قد وجد، أو لم يوجد، المقر يقول: لم يوجد لأن إقرار الصبي والمجنون لا يكون إقراراً، فكان المقر منكرا الإقرار من حيث المعنى، والمقر له مدعياً، فكان بمنزلة ما لو أدعى أنه أقرّ له والمدعى عليه قال: لم أقرّ لك وكان كما لو قالت المرأة: تزوجتني وأنا صبية، وقال: لا بل تزوجتك وأنت
بالغة كان القول قول المرأة؛ لأنها أنكرت النكاح معنى، وأما ههنا سبب الضمان قد تحقق، وهو الأكل والصبغ والقطع والخياطة، وإنه سبب ضمان إلا أنه ادعى البراءة بدعوى الإذن وأنكر صاحبه، فيكون القول قول صاحب المال، ووجه آخر للفرق وهو أن إضافة الإقرار إلى حالة الصبي ليس بدعوى على المقر له، ولكن حكاية عن فعله فيثبت فعله بقوله، أما ههنا يدعي إذن صاحب المال، وإنه فعل يوجد من صاحب المال، فيكون دعوى عليه، فلا يثبت إذا أنكر.
قال: وإذا استصنع الرجل خفين عند إسكاف، فعمله ثم فرغ منه، قال المستصنع: ليس هذا على المقدار والخرر والتقطيع الذي أمرتك، وقال الإسكاف: بل هذا أمرتني وأراد الإسكاف أن يحلف صاحب المال ليس له ذلك، بخلاف الصباغ إذا ادعى أن ما صبغ كان بأمره، وأراد صاحب الثوب كان له ذلك، وذلك لأن الصباغ يدعي على(7/637)
صاحب الثوب، معنى لو أقر به لزمه، ولم يكن خيار، فإذا أنكر يستحلف على ذلك لأن الاستحلاف بعيد فأما ههنا الصابغ يدعي على المستصبغ معنى لو أقر به لا يلزمه، فإن المستصنع لو أقر بالموافقة، أو ثبت ما ادعى بالبينة كان لا يلزمه، وكان له خيار، ومن ادعى على آخر معنى لو أقر به لا يلزمه، فإذا أنكر لا يستحلف على ذلك؛ لأن الاستحلاف لا يفيد وستأتي بعض مسائل الاستصناع في المتفرقات إن شاء الله تعالى.
الفصل الرابع والثلاثون: في المتفرقات
ذكر في «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار سنة بألف درهم، كل شهر بمئة. تقع الإجارة على ألف ومائتي درهم، ويصير القول الثاني فسخاً للأول، كما لو باع بألف، ثم باع بأكثر.
قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا قصد أن تكون الإجارة كل شهر بمئة. أما إذا غلطا في التفسير، لا يلزمه الألف درهم؛ لأنه لم يقصدا فسخ العقد الأول، فإن ادعى الآجر أنه كان قصدهما فسخ الأول، وادعى المستأجر الغلط في التفسير فالقول قول مدعي الفسخ مع يمينه، كما لو تواضعا على بيع تلجئة ثم باشر البيع مطلقاً من غير شرط، يثبت البيع بينهما مطلقاً، إلا أن يتفقا على أنهما باشرا على ما تواضعا عليه، كذا ههنا.
وفيه أيضاً: إذا قال لآخر: أجرتك داري هذه يوماً واحداً بكذا وسنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا. وباقي السنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا، وباقي السنة مجاناً، فسكنها سنة كان عليه أجر مثله في يوم واحد، ولا شيء له في الباقي؛ لأنه بقي الإجارة في الباقي، وإنما وجب أجر المثل في يوم واحد؛ لأن الإجارة في يوم واحد وقعت بصفة الفساد؛ لجهالة اليوم، وإذا دفع الرجل إلى قصار ثوباً ليقصره فقصره وتصادقا أن الدفع حصل مطلقاً، وأنهما لا يشترطا شيئاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» .
وذكر في «النوازل» : أن على قول أبي حنيفة القصار متبرع، ولا أجر له وعلى قول محمد: إن اتخذ دكاناً وانتصب لعمل القصارة بالأجر، يجب الأجر وما لا فلا. وعلى قول أبي يوسف هو متبرع، إلا أن يكون خليط، وهو أن يكون يدفع إليه ثيابه للقصارة بالأجر عادة. وفي باب الخلع من شرح «الكافي» إذا قال للحمال: احمل هذا إلى بيتي، وقال للخياط: خط إن كان الخياط معروفاً أنه يخيط بأجر، والحمال كذلك يجب الأجر وما لا فلا.
وفي إجارات المنتقى: مثل محمد رحمه الله: عن رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره، فقصره وقال: قصرت بغير أجر وضاع، قال: أما في قولي إذا كان قصاراً قد نصب نفسه للقصارة، لم أصدقه وأضمنه كما لا أصدق رب الثوب في هذه الصورة إذا(7/638)
قال: قصرت لي مجاناً. وقال القصّار: قصرت بغير أجر. وفي نكاح «النوازل» : إذا دفع إلى قصار ثوباً ليقصره ولم يذكر الأجر يحمل على الأجرة لمكان العرف.
وفي باب. (61أ4) الأجر من صرف «الكافي» : إذا دفع الرجل إلى رجل ذهباً أو فضة، وأمره أن يصوغه كذلك، ثم اختلفا فقال الدافع: عملته لي بغير أجر، وقال العامل: عملته بأجر ذكر في الرواية: أن القول قول الدافع لإنكاره وجوب الأجر في ذمته. وفي «الشرح» عن أبي يوسف: أن هذا الرجل إن كان أعلم على باب دكانه بعلامة، أو نحو ذلك بحيث يعلم أنه لا يعمل إلا بأجر، فالقول قول العامل. وإن لم يكن كذلك، فالقول قول الدافع.
وعن محمد أنه إذا كان بين هذا الرجل، وبين العامل خلطة، وإعطاء بحيث اعتادا أنهما لا يفندان كل مرة، ولا يشترطان شرطاً فالقول قول العامل. وإن لم يكن بينهما خلطة على نحو ما ذكرنا، فالقول قول الدافع. قال: وكذلك لو اختلفا في مقدار الأجر، فالقول قول الدافع؛ لإنكاره الزيادة على ما أمر به.
وفي هذا الباب أيضاً: إذا استقرض من آخر كر حنطة. وقال: اطحنها لي بدرهم، فطحنها، وكان ذلك قبل أن يقبضها المستقرض، فذلك باطل. ولا أجر للمقرض؛ لأنه لما لم يقبضها المستقرض لم يصر ملكاً له، فصار المقرض عاملاً لنفسه بطحن حنطة نفسه، فكيف يستحق الأجر على غيره.
وإذا باع الدلال صبغة رجل بأمره، فقال صاحب الصبغة: بعتها بغير أجر. وقال الدلال: لا بل بعت بأجر، فإن كان هذا الدلال معروفاً بأنه يبيع أموال الناس بأجر لا يصدق الآمر على دعواه، ويجب أجر المثل.
وفي «النوازل» : استقرض من آخر دراهم، وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه، ويستعمله إلى شهرين حتى يوفر عليه الدراهم، فالحمار عند المقرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن استعمله فعليه أجر مثله. وكذلك إذا سلم إلى المقرض داره ليسكنها فهذه إجارة فاسدة. ولا يكون رهناً.
وفيه أيضاً: لو استقرض دراهم من رجل، وقال: اسكن حانوتي هذا، فما لم أرد عليك درهمك، فلا أطالبك بأجرة الدار، والأجرة التي تجب عليك هبة لك، فدفع المقرض الدراهم، وسكن الحانوت مدة، قال: إن كان ذكر ترك الأجرة عليه مع استقراضه منه المال، فالأجرة واجبة على المقرض يريد به أجر المثل، وإن كان ذكر ترك الأجرة قبل استقراض أو بعده فلا أجر على المقرض، والحانوت عنده عارية؛ لأن في الوجه الأول قصد التوسل بمنافع الدار إلى القرض، فما رضي باستيفائها مجاناً، والمستقرض وافقه على ذلك. حيث أقرضه على تلك المواضعة، فكان إجارة فاسدة.
فأما في الوجه الثاني: لم يطمع في مقابله منافع الدار شيئاً فكانت الدار عارية.
قيل الصحيح: إنه يجب أجر المثل في الوجهين؛ لأنا نعلم يقيناً أن عرضه من دفع الدار، وترك الأجرة والتوسل إلى القرض، فما رضي باستيفاء منافع الدار مجاناً في(7/639)
الحالين جميعاً، فوجب أجر المثل في الحالين جميعاً من هذا الوجه. وفي «نوادر ابن سماعة» ، عن أبي يوسف: رجل استأجر من آخر أرضاً، على أنها عشرة أجربه بعشرة دراهم، فزرعها، ثم وجدها خمسة عشر جريباً، أو وجدها تسعة أجربة، قال: فله الأجر الذي سمي. ولو قال: كل جريب بدرهم. حسب عليه كل جريب بدرهم. ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان. ويرجع بالأجر، فيأخذه قوله حتى يرد الأجر عليه أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة إظهاراً للعدل والإنصاف فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الأجر في العبد فيجب تعيين حق المستأجر في حصة ما بقي من المدّة من الأجر، وذلك بالاستيفاء.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله رجل اكترى من رجل داراً بعبد سنة، فسكن الدار، ثم ناقصه الإجارة في العقد، فإنه يرد العبد ويعطيه أجر مثل الدار، وإنما كان كذلك؛ لأن جعل العبد أجرة صحيح، كجعله ثمناً، فصارت الأجرة عوضاً وصارت هذه الإجارة في معنى بيع العوض بالعوض. وأحذ العوضين وهو العبد باقي. فيصح النقص والإقالة عليه؛ لأن في بيع العوض بالعوض بعد هلاك العوضين تصح الإقالة، والنقص على العرض القائم. وإذا صحت الإقالة على العبد عاد العبد إلى ملك المستأجر، فوجب على الآجر رد العبد على المستأجر، ووجب على المستأجر رد المنافع على الآجر، وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد أجر المثل.
وفي «الأصل» إذا أستأجر عشراً من الإبل إلى مكة بعبد بعينه، أو بغير عينه، فإن كان العبد بعينه فالإجارة جائزة، وإن كان العبد بغير عينه، فالإجارة فاسدة، ثم إذا كان العبد بعينه حتى جازت الإجارة، فهلك العبد قبل التسليم بعدما استوفى المعقود عليه كان على المستأجر أجر مثل الإبل لما عرف أن العقد يفسد بهلاك أحد البدلين قبل القبض، إذا كانا عينيين، فإذا فسد العقد كان عليه رد ما استوفى بعينه من المنافع، وقد عجز عن ردها بعينها، فكان عليه رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل، وإذا كان العبد بغير عينه حتى فسدت الإجارة كان على المستأجر أجر المثل مات العبد، أو لم يمت.
رجل تكارى منزلاً كل شهر بدراهم معلومة، وطلق الرجل المستكري المرأة، وخرج من المصر، وذهب هل لصاحب المنزل سبيل على المرأة قالا: لا، لأن المرأة ليست بعاقدة، وليست بكفيلة عن العاقد بالأجر، والأجر إنما يجب بأحد هذين، وليس لصاحب الدار أن يخرج المرأة من الدار حتى الهلال؛ لأن الإجارة لازمة قبل مجيء الهلال ألا ترى لو كان المستأجر حاضراً لم يكن له أن يفسخ الإجارة قبل مجيء الهلال، فإذا كان غائباً أولى.
فإن جاء الهلال والزوج غائب هل لصاحب الدار أن يفسخ الإجارة ويخرج المرأة من الدار يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة ومحمد ليس له(7/640)
ذلك. وعلى قول أبي يوسف: له ذلك.
إذا تكارى منزلاً كل شهر بدرهم على أن ينزله، ولا ينزل غيره، فتزوج امرأة أو امرأتين، فله أن ينزلهما وليس لصاحب الدار أن يأبى؛ لأن هذا شرط مانع لا منفعة فيه لصاحب الدار؛ لأن سكنى غيره لا يصير بالدار حتى يكون في ترك سكنى غير المستأجر منفعة للمستأجر، فقد حكم بجواز هذا العقد مع هذا الشرط، وإن كان هذا شرطاً لا يقتضيه العقد إلا أنه ليس لأحد المتعاقدين فيه منفعة، ومثل هذا الشرط لا يفسد العقد كما لو اشترى ثوباً بشرط أن لا يلبس، أو اشترى دابة بشرط أن لا يركبها وهذه المسألة مأولة تأويله أن لا يكون للمنزل بئر بالوعة ولا بئر وضوء وقد ذكرنا هذا التأويل في المسائل المتقدمة.
وفي «الأصل» : إذا أستأجر الرجل من آخر داراً، ودفعها إليه رب الدار إلا بيتاً منها، كان فيه متاع له وسكنها المستأجر قال: يرفع عنه بحصة ذلك وهذا مشكل؛ لأن الغائب صفة؛ لأن البيت صفة للدار.
ولهذا قالوا: لو أستأجر داراً على أن فيها ثلاثة بيوت، فإذا فيها بيتان، فإنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، والجواب: أن الفائت إن كان صفة، إلا أن الفوات بفعل البائع، والوصف له حصة من البدل، إذا فات بفعل البائع. كما في بيع العين بخلاف ما لو انهدم بيت منها، أو حائط وسكن المستأجر في الباقي، حيث لا يسقط شيء من الأجر؛ لأن الوصف هناك فات بآفة سماوية، والوصف متى فات بآفة سماوية لا يوجب سقوط شيء من البدل. وما ذكرنا من الجواب: فيما إذا أستأجر داراً على أن فيها ثلاث بيوت، فإذا فيها بيتان أنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر، فذلك فيما إذا لم يقل كل بيت بكذا، فأما إذا قال: كل بيت بكذا، يرفع عنه بحساب ذلك، على قياس مسألة الجريب التي تقدم ذكرها في هذا الفصل.
قال: وإذا أستأجر الرجل داراً شهوراً مسماة بأجر معلوم، ثم أراد رب الدار أن يشتري من المستأجر بالأجر شيئاً قبل القبض جاز؛ لأن الأجر دين لم يجب بعقد صرف، ولا سلم، فيجوز الاستبدال به. قيل: كما في سائر الديون. وقد مرت المسألة من قبل. وكذلك الثاني يستأجر البيت ليبيع فيه كل شهر بأجر معلوم، فكان رب البيت يأخذ منه الدقيق. (61ب4)
والسويق يشرى، ذلك شيء يعني بالأجر، قبل استيفاء المنفعة، كان جائزاً، لما ذكرنا في أول الكتاب أن الشراء بالأجر جائز قبل الوجوب وبعد الوجوب، ولو أن رب البيت أراد أن يتعجل الأجر كله قبل الهلال فأبى المستأجر أن يعطيه، فإنه يجبر المستأجر على أن يعطيه بقدر ما سكن لأنه بقدر ما سكن وجب الأجر فيجر على اتفاقه، فأما حصة ما لم يسكن لا يجبر على إلغائه، لأن أجرة ما لم يسكن غير واجب عليه بعد، فلا يجر على اتفاقه.
قال ولو أن رجلاً استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين ما من رب البيت الثاني أن يعطيه ذلك، فكان الرجل يشتري به الثاني السويق والدقيق والزيت والسمن حتى(7/641)
استوفى أجر الشهرين فهو جائز، وذلك لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى من الثاني شيئاً بالأجر يصح الشراء، ويري الثاني من الأجر لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن فكذا إذا اشتراه المستقرض.
وإنما قلنا أن المستقرض قام مقام المقرض، لأن المقرض أقرضه الأجر منه وسلطه على قبضه يصح ذلك وصار الموهوب له وكيلاً عن رب البيت في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم الهبة، لأن الهبة لا تصح إلا بملك الواهب، ولا يصير ما وهب ملكاً للواهب إلا بالقبض فكذا ههنا لا يصح القرض إلا بملك المقرض وما أقرض لا يصير ملكاً له، إلا بالقبض فصار ثابتاً عنه في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم القرض، وإذا كان كذلك صح أن المستقرض قام مقام المقرض وليس للثاني على المستقرض شيء، لما ذكرنا أن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى بالأجر شيئاً لم يكن للثاني على المقرض شيء؛ لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن، فكذلك هذا، ولرب البيت على المستقرض أجر هذين الشهرين، لأن رب البيت ما ملكه الأجر هبة، وإنما ملكه قرضاً، والقرض مضمون بالمثل، فكان لرب البيت عليه أجر هذين الشهرين.
قال: ولو اشترى المستقرض من الثاني بالأجر ديناراً فإنه يجوز إذا اشترى الدينار بعد وجوب الأجر، بأن مضت المدة أو شرط التعجيل عندهم جميعاً، وإن لم يكن وجب الأجر بأن كان قبل مضي المدة واشتراط التعجيل، فعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو صادف مع الثاني كان الجواب على هذا التفصيل فكذلك هذا.
قال: ولو كان للثاني على الرجل المستقرض دينار أو أجر البيت عشرة دراهم كل شهر، فمضى شهر ثم أمر رب البيت الثاني أن يدفع أجر هذين الشهرين إلى هذا الرجل قرضاً عليه، ورضى الرجل بذلك فهو جائز، لأنه ملكه الدين الذي له على الثاني، وسلطه على قبضه قرضاً، فيصح كما لو وجب منه، وسلطه على قبضه فإن قاصه بالدينار الذي له عليه وأخذ بالفضل حوائجه، قال فهو جائز وهذا الجواب لا يشكل فيما اشترى من الحوائج لأنه اشترى الحوائج بالأجر بما وجب من الأجر وبما لم يجب فيجوز كما يجوز من رب البيت، وإنما يشكل فيما إذا قاصه بالدينار ذكر أنه جائز إذا رضى بذلك الثاني، وإن كان الجنس مختلفاً، فإن أحدهما دينار والآخر دراهم، لأن المقاصة في الجنس المختلف، إنما لا يجوز إذا لم يوجد التراضي على المقاصة، فأما إذا وجد يجوز إلا أنه يكون صرفاً، ثم يجوز هذا الصرف عندهم بحصة ما وجب من أجر شهر عندهم جميعاً، لأن المستقرض قائم مقام المقرض، والمصارفة من المقرض بأجر واجب جائز عندهم، فكذا من المستقرض، فأما بحصة ما لم يجب من الأجر وهو الشهر الثاني يجب أن يكون المسألة على الخلاف، يجوز عند محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ولا يجوز في قول أبي يوسف الآخر كما لو باشر المقرض الصرف بأجر لم يجب بعد، وهو الشهر الثاني. ثم قال: وليس هذا بصرف فيما بين رب البيت والمستقرض ولكنه صرف فيما بين(7/642)
المستقرض والثاني، وذلك لأن رب البيت ما عقد عقد الصرف مع المستقرض، إنما أقرضه الآخر الذي له على الثاني، وعقد المصارف إنما جرت بين المستقرض والثاني، ثم قال وهذا كله قول أبي يوسف وهو قول محمد، فأما على قوله الآخر فإنه لا يجوز، وقد ذكرنا هذا في أول الكتاب.
قال: ولو كان رب البيت أقرضه الدراهم على أن يرد عليه ديناراً بعشرة دراهم فإنه لا يجوز لأن بجوازه قرضاً غير ممكن؛ لأن القرض يكون مضموناً لجنسه، فإذا شرط جنساً آخر فقد شرط ما لا يقتضيه القرض فكان قرضاً فاسداً، ولا وجه إلى أن جوزنا مصارفه، لأنهما صرف مشبه، فيكون باطلاً.
قال: فإن أحاله على هذا الوجه بالدراهم الأجر على الثاني، يريد به أنه أحاله على الثاني ليأخذ الأجر منه ليعطيه ديناراً. فقال: فقاصه الثاني بالدينار، الذي له على المستقرض وأخذ بالبعض حوائجه قائماً لرب البيت على المستقرض عشرون درهماً تأويله، إذا وجب أجر هذين الشهرين حتى صار الصرف عندهم جميعاً، وصار المستقرض مستقرضاً عشرين درهماً من الثاني بالمقاصة، فيكون لرب البيت على المستقرض ما اقتضى من الثاني وذلك عشرون درهماً ولا يكون عليه دينار، كما شرط عليه لأن اشتراط الدينار اشتراط باطل لأنه صرف مشبه.
قال: ولو أن هذا الثاني لم يكن وجب عليه أجر هذين الشهرين ولكن رجل استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين، فأمر هذا الثاني أن يعطيه إياه وأن يعجل له، وطابت نفس الثاني بذلك، فأعطى الرجل دقيقاً أو زيتاً أو ديناراً بعشرة، ثم مات رب البيت قبل أن يسكن الثاني شيئاً من هذين الشهرين أو انهدم البيت، فإن الثاني لا يرجع على الرجل بعشرين درهماً فرضاً عليه، وذلك لما ذكرنا أن المستقرض صار وكيلاً عنه بالقبض أولاً، حتى يصح القرض ثم لنفسه فإذا قبض ناب قبضه مناب قبضين، فصار قابضاً له أولاً ثم لنفسه بحكم القرض، وإذا صار قابضاً للأمر صار كأن الأمر قبض بنفسه ثم أقرضه ولو أن صاحب البيت قبض العشرين بيده، ثم أقرضه من المستقرض ثم انفسخت الإجارة لم يكن للثاني أن يرجع على المستقرض بشيء، وإنما يرجع على رب البيت، ثم رب البيت يرجع على المستقرض بحكم القرض فكذلك هذا، ثم يرجع بعشرين درهماً على رب البيت في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فأما على قول أبي يوسف الآخر ما كانت حصة الحوائج يرجع عليه بالدراهم، لأن الشراء قد صح فصار مقضياً للدراهم، فأما ما يخص الدينار فإنه لا يرجع على رب البيت بالدراهم ولكن يرجع على المستقرض فيأخذ منه الدينار؛ لأنه قبضه بحكم صرف فاسد.
وفي «فتاوى الفضلي» : رجل اكترى حماراً من كسر إلى بخارى فبقى الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً حتى ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً وقاطعه أجره إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسكه الأجير أياماً وأنفق عليه في علفه.
إن علم المأمور بالنفقة، أن الحمار لغير الآمر فهو متطوع، فما(7/643)
أنفق لا يرجع على أحد بشيء إلا أن يكون الآمر ضمن له النفقة.
فإن كان لا يعلم بذلك رجع على الآمر بالنفقة، وإن كان لم يضمن له الآمر النفقة، فإن كان استأجر أجيراً لحفظه فالأجر عليه.
وفي «الفتاوى» : إذا استأجر مشاطة ليزين العروس فالإجارة فاسدة، والأجر مكروه غير طيب لها إلا أن يكون على وجه الهدية من غير شرط ولا يتقاضى، فيكون أهون وفيه نظر.
والصواب أن يقال إذا استأجرها مدة معلومة أو كان العمل معلوماً أنه يجوز الإجارة ويطيب لها الأجر لأن تزيين العروس ليس بمعصية، بل هو مباح فصار كسائر الأعمال المباحة.
وفي «فتاوى الفضلي» : الدلالة في النكاح لا يستوجب الأجر وبه كان يفتي رحمه الله، وغيره من (62آ4) مشايخ زمانه كانوا يفتون بوجوب أجر المثل لهما، لأن معظم الأمر في النكاح يقوم بها، ولها سعي في إصلاح مقدمات النكاح، فيستوجب أجر المثل بمنزلة الدلال في باب البيع، وبه يفتى.
وفيه أيضاً أهل بلدة ثقل عليهم مؤنات العمال فاستأجروا رجلاً بأجرة معلومة ليذهب ويرفع أمرهم إلى السلطان الأعظم، ليخفف عنهم بعض التخفيف، وأخذ الأجرة من عامتهم غنيهم وفقيرهم، ذكر أنه إن كان بحال لو ذهب إلى بلد السلطان يتهيأ له إصلاح الأمر بيوم أو بيومين جازت الإجارة، وإن كان بحال لا يحصل ذلك إلا بمدة وقتوا للإجارة وقتاً معلومة، فالإجارة جائزة، والأجر كله له، وإن لم يوقتوا فالإجارة فاسدة وله أجر مثله والأجر عليهم على قدر مونتهم، وهذا نوع توسيع واستحسان، أما على جواب الكتاب لا تجوز هذه الإجارة إلا مؤقتة، وبه يفتى. وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في باب الرشوة من شرح «أدب القاضي» أن هذه الإجارة لا يجوز إلا مؤقتة، وإن كان مدة الإصلاح يوماً أو يومين.
قال في «الأصل» : رجل تزوج امرأة فنزل عليها وهي في منزل بكر، فمكث عندها سنة فجاء صاحب المنزل يطلب أجر منزله، فقالت المرأة: أجر منزله عليك. فقال الزوج: إنما استكريت بأجرة عليك. وقالت المرأة: قد أخبرتك أنه معي بأجر. وقال الرجل: ما أخبرتني أنها تسكن بأجر، فإنه لا عبرة لإنكار الزوج إنها لم تخبره لأنها وإن أخبرته فلا أجر عليه، وإنما لم يكن على الزوج أجر لأن الزوج ليس بعاقد ولا بضامن عنها الأجر لرب المنزل، فلا يجب عليه الأجر فإن ضمن الأجر عنها لرب البيت، الآن يؤاخذ الزوج بالأجر لأنه كفل عنها بالأجر لرب المنزل، والكفيل يؤاخذ بما كفل به، فإن أدى لا يرجع سواء كفل بإذنها أو بغير إذنها، إن كان بغير إذنها فلا إشكال، كما لو كفل عنها بدين آخر، وإن كان بإذنها فكذلك، وذلك لأن العرف أن الزوج إنما يضمن عنها أجر المسكن على سبيل الصلة، لا ليرجع بذلك عليها لأن الإسكان عليه، والمعروف كالمشروط فكأنه شرط في الكفالة أن يكفل عنها، ولا يرجع بذلك عليها ولو صرح أن لا(7/644)
يرجع بذلك عليها لا يرجع، فكذلك هذا.
ونظير هذا قال محمد رحمه الله في «كتاب النكاح» : أن الأب إذا ضمن المهر عن الصغير فإنه لا يرجع في مال الصغير استحساناً، لأنه في العرف إنما يبذل ذلك صلة للصغير لا ليرجع في ماله، فكذلك هذا، فإن لم يضمن لرب المنزل ذلك، ولكن أشهد لها بأن قال: أضمن لك الأجر ولم يضمن لرب البيت، فإنه لا يلزمه الأجر؛ لأنه لم يضمن عنها لرب البيت حتى يصير كفيلاً عنها بالأجر، فيؤخذ بذلك إنما ضمن لها ما عليها من الأجر، ومن ضمن للمديون ما عليه، ولم يضمن عنه لصاحب الدين لا يكون كفيلاً.
الكفيل أن يضمن عن المديون ما عليه لصاحب الدين، ولم يوجد هذا فلم يمكن بجواز هذا كفالة، وإذا لم يكن كفالة، فإما أن يعتبر بعد ذلك هبة من الزوج لها أو عدة فإن كان هبة، فهي هبة، لم يقبض فلا يجر على الوفاء بها، وإن كان عدة فلا يجر على إنجاز هذا الوعد.
قال في الأصل: رجلان استأجرا منزلاً من رجل، كل شهر بدرهم، واشترطا فيما بينهما على أن ينزل أحدهما في أقصى الحانوت، والأجر في مقدمه، ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة. قال: الإجارة جائزة، ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك، أما الإجارة جائزة لأنها خلت عن شرط يفسدها، فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك؛ لأن هذا مواضعه منهما على المهاياة، ولكل واحد من الشريكين أن ينقض المهاياه وإنما كان لكل واحد منهما نقض المهاياة، وذلك لأن المهايأة قسمة المنفعة فيعتمر بقسمة العين، وفي قسمة العين لكل واحد منهما، أن ينقص القسمة قبل التمام فإنهما إذا أفرزا أو عزلا الأنصب. فقلَّ أن يتعين نصيب كل واحد منهما بالإقراع.
إذا أراد أحدهما نقص القيمة، كان له ذلك، فلان يكون لكل واحد منهما نقص القسمة ولم يتعين حق واحد منهما في المنفعة قبل وجودها، ولم ينفرز نصيب أحدهما من الآخر أولى وأحرى، ثم ذكر في «الكتاب» : أن الإجارة لا تفسد إذا لم يكن اشترطا ذلك في أصل الإجارة، ولم يذكر أنهما إذا شرطا ذلك في الإجارة هل يفسد الإجارة، قال مشايخنا: ولقائل أن يقول بأنه يفسد الإجارة، أما القائل أن يقول بأن الإجارة تفسد لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد؛ لأن هذه المهايأة منها، والمهايأة على هذا الوجه الذي شرطا، وهو أن يسكن أحدهما في المقدم، والآخر في المؤخر مما لا يقتضيه الإجارة ألا ترى أن الآبي منهما لا يجير على ذلك، ولأحدهما في هذا الشرط منفعة، يوجب فساد العقد، وإليه أشار في «الكتاب» ؛ فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في الإجارة فمفهوم ما ذكر يقتضي أنه إذا شرط ذلك في العقد أوجب فساده، وأما من قال بأنه لا يفسد ذهب في ذلك إلى أن هذا الشرط متى شرط في العقد، يكون اشتراطاً على المالك، صار كل واحد منهما مستأجراً ما عين من المالك فكان الأجر، قال: أجرت من هذا(7/645)
مقدم الحانوت، ومن الآخر مؤخره، ولو نص على هذا كان جائزاً.
ومفهوم قول محمد: ولم يشترط ذلك في أصل العقد، أنهما متى شرطا ذلك في العقد لا يكون لكل واحد منهما أن يرجع، لأن كل واحد يصير مستأجراً ما عين من المالك، ومتى لم يكن مشروطاً في العقد يكون مهاياة منهما ولكل واحد منهما أن ينقض المهاياة.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل استأجر رجلاً ليبني له حائطاً أراه موضعه، وسمى طوله في السماء، وطوله على الأرض وعرضه، على أن يبني كل ألف آجرة بكذا، وكذا من الجص بكذا، وكذا من الدراهم، فبنى في السفل فأدخل ألف أجرة بالجص المسمى لها، ثم مات البنّاء، فإن الآجر يقسم على موضع ما بقي من الحائط، وما بنى فيعطي بحصة ما بنى من القيمة؛ لأن كل ألف آجرة شرط بناؤها فهي في أعلى الحائط وأسفله، يدركها رخص الأسفل، وعلا الأعلى، فلا بد من الجمع بين القيمتين ليجتمع الرخص مع الغلاء، فيظهر في التوزيع العدل.
وعنه أيضاً أجر الرجل عبده، وسلمه ثم باعه من غير عذر، وسلمه إلى المشتري، فقتل، لم يكن للمستأجر أن يضمن المشتري قيمته، والمستأجر في هذا الحرف مخالف للمرتهن، والفرق وهو أن حق المستأجر في المنافع والقبض لا يلاقيها، وحق المرتهن في العين والقبض يلاقيه.
ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر، كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان، ويرجع بالأجر فيأخذه.
قوله حتى يرد الأجر عليه، أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة، إظهاراً للعدل والإنصاف، فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الآجر في العبد، فيجب تعيين حق المستأجر، في حصة ما بقي من المدة من الأجر، وذلك بالاستيفاء.
وإذا غصب رجل الدار المستأجرة من المستأجر ثم تركها الغاصب، فأراد المستأجر أن يمتنع عن قبضها في باقي المدة، أو أراد الآجر أن يمتنع من التسليم فليس للمستأجر أن يمتنع من التسليم في باقي السنة، وللآجر أن يمتنع عن التسليم.
قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن في السنة وقت يرغب في الاستئجار لأجله، أما إذا كان ولم يسلم في ذلك الوقت، فإن المستأجر يتخير، وقد مرّ جنس هذا فيما تقدم.
وفي «القدوري» : لو استأجر من آجر دارين فانهدمت أحداهما أو غصبت أو ما أشبه ذلك، فله أن يترك الأخرى؛ لأن الصفقة وقعت متحدة، وقد تفرقت فيثبت الخيار.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر دابة ليلاً ليزف عليها عروساً إلى بيت زوجها، فهذا على وجهين: إما أن تكون العروس بعينها أو بغير عينها، فإن كان(7/646)
العروس بعينها، وبيَّن المكان، فإنه يجوز الإجارة، كما لو استأجر رجلاً دابة ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، كانت الإجارة جائزة، فكذلك هذا، وإن كان العروس بغير عينها فالإجارة فاسدة، كما لو استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركب كانت الإجارة فاسدة فإن أركب عروساً فالقياس. (62ب4) أن لا يعود العقد جائزاً، وفي الاستحسان يعود العقد جائزاً، وعليه المسمى كما لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين من يركب، ثم يركب هو أو أركب غيره، فإنه يعود العقد جائزاً استحساناً، وفي القياس لا يعود جائزاً، وقد ذكرنا هذا، فإن حبسوا الدابة حتى أصبحوا من الغد، هل يجب الأجر، إن كان استأجر هذه الدابة لركوب عروس بعينها في المصر، فإنه يجب الأجر، وإن استأجرها لركوب عروس بعينها خارج المصر، فإنه لا يجب الأجر لأنه لم يكن من الركوب في المكان الذي أضيف إليه العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهذا لأن تسمية المكان في باب الدابة، وأنه شرط لجواز العقد عليها بمنزلة تسمية المدة في غيرها من الإجارات، والتمكن من الاستيفاء متى وجد في غير المدة المضاف إليها العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهل يعتبر ضامناً بالحبس إن وقعت الإجارة على الركوب خارج المصر يضمن لأنه لم يجب الأجر بهذا الإمساك، ولم يؤذن له بإمساك لا يجب الآجر.
وإن وقعت الإجارة على أن يركبها في المصر لا يصير ضامناً بهذا الحبس؛ لأنه يجب الأجر بهذا الإمساك، وإن كان استأجروها لركوب عروس بغير عينها، فإنه لا يجب الأجر متى حبسوها سواء استأجروها للركوب في المصر أو خارج المصر، لأن الإجارة فاسدة متى لم يعينوا العروس، وفي الإجارات الفاسدة الأجرة لا تجب بالتمكن من الاستيفاء، وإنما تجب بحقيقة الاستيفاء ولم يوجد، فإن استأجر لحمل عروس بعينها، فأركب غيرها صار ضامناً ولا يجب الأجر سلمت الدابة أم ملكت، كما لو استأجر دابة ليركب بنفسه فاركب غيره، وإن كان لحمل عروس بغير عينها، لم يضمن، كما لو استأجر دابة للركوب فاركب غيره، إذا اشترى بيتاً وأجره من غيره قبل القبض لا يجوز كما لو باعه، وهذا إذا كان منقولاً، فإن كان عقاراً، فقيل هو على الخلاف في البيع، وقيل لا يجوز الإجارة إجماعاً.
في «الجامع الصغير» : رجلان استأجرا شيئاً ودفع أحدهما إلى صاحبه ليمسكه فلا ضمان عليه، إذا كان شيئاً لا يحتمل القسمة؛ لأن ما لا يحتمل القسمة فلأحد المستأجرين أن يدفعه إلى صاحبه ليمسكه، في «إجارة الفسطاط» استأجر قدراً ليطبخ فيه شيئاً معلوماً، فطبخ في البيت، وأخذ القدر بحجره مع ما فيه ليخرج إلى الدكان فانزلقت رجله في الطين، فوقع وانكسر القدر فعليه ضمان القدر بمنزلة الحمال، إذا انزلقت رجله، ووقع الحمل، وانكسر، وقيل: ينبغي أن لا يجب الضمان في هذه الصورة قياساً على ما إذا استأجرت المرأة ثوباً لتلبسه فلبسته وتخرق من لبسها، وقد مرت مسألة الثوب من قبل وهو الصحيح.u
استأجر رجلاً شهراً معيناً ليعمل له عملاً معلوماً، فعمل له ذلك العمل بشهرين، هل(7/647)
يستحق الأجر في الشهر الثاني؟ يجب أن تكون المسألة على الخلاف المعروف في القصار أو الخياط، إذا عمل من غير عقد، وقد كان انتصب نفسه لذلك، وإذا تكارى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم، فجعل في جوالق عشرين مختوماً، ثم أخر المستأجر رب الدابة، وكان هو الذي وضعها على الدابة، فلا ضمان؛ لأن صاحب الدابة هو المباشر لحمل الزيادة على دابته، وإن حملاها جميعاً، ووضعاها على الدابة، ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة؛ لأن نصف الحمل يستحق بالعقد ونصفه غير مستحق، وفعل كل واحد منهما في الحمل شائع في النصفين، فما حمله المستأجر نصفه وهو ربع الكل مستحق بالعقد، ونصفه وهو الربع غير مستحق، فلهذا ضمن ربع قيمتها، وإن كان الحمل في عدلين، فحمل كل واحد عدلاً ووضعاها على الدابة جميعاً، لا يضمن المستأجر شيئاً ويجعل حمل المستأجر مما كان مستحقاً بالعقد في باب ما يضمن الأجر، ويعرف عن هذه المسألة كثير من المسائل، رجل يبيع بالمزايدة، فاستأجر رجلاً لينادي عليه أن وقت له وقتاً، أو قال كذا صوتاً، يجوز إذا دفع إلى صباغ لبداً ليصبغه أحمر، فقد قيل إن قال بكذا من العصفر يجوز، وإن لم يبين مقدار العصفر لا يجوز، وهذا ليس بصواب فقد ذكرنا الرواية في فصل الاستصناع، إن بان مقدار الصبغ ليس بشطر، فلو صبغه رديئاً هل يضمن؟ فقال: قيل إن انتقص الثوب، وكان النقصان فاحشاً عند أهل البصر فلصاحب اللبد أن يضمنه قيمة لبده أبيض، وإن كان النقصان يسيراً فله أن يضمنه النقصان.
وعلى هذا التفصيل القصار إذا قصر الثوب رديئاً. إذا استأجر حماراً أو بقراً، ليس له أن يبعث به إلى السراح، هكذا ذكر في الفتاوى، وقيل إن كان المتعارف فيما بين الناس أن المستأجر يبعث ذلك إلى السراح، فله أن يبعث ومالا فلا.
وذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» ، أن للمستأجر أن يؤاجر، وأن يعير، وأن يودع، والبعث إلى السرح إيداع، فهلكه المستأجر.
وفي «مجموع النوازل» زوج أمته، ثم أجرها من زوجها، جاز لأن خدمة الزوج ليست عليها، فالإجارة وردت على ما ليس بمستحق فيصح.
استأجر أرضاً ليلبن فيه لنفسه عليها، فالإجارة فاسدة، بعد ذلك ينظر إن كان للتراب قيمة في ذلك الموضع يضمن قيمة التراب، ويكون اللبن له؛ لأن الإجارة لما لم تصح، صار المستأجر غاصباً للتراب، ولما حوله لبناً فقد هلك على المالك، وإن لم يكن للتراب قيمة لا شيء عليه، واللبن له لأنه حصل بصنعه.
رجل يقبل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع باثني عشر درهماً اليوم، فحمله في أكثر من ذلك لا يلزمه الأجر المسمى، بل يجب أجر المثل بمنزلة ما لو استأجر رجلاً لينجز له عشر مخاتيم دقيق اليوم، هكذا ذكر في الفتاوي، وهذا يجب أن يكون على قول أبي حنيفة؛ لأن على قوله هذه الإجارة وقعت فاسدة، لأنه جمع فيها بين الوقت والعمل، أما على قولهما هذه الإجارة وقعت جائزة، فيجب الأجر المسمى.
رجل حمل رجلاً كرنا إلى بعض البلدان، فعلى الحامل كراؤه حتى يرده إلى الذي(7/648)
حمله منه، وكذا في كل ما له حمل ومؤنة.
رجل استأجر من آخر كرماً إجارة طويلة، وقبضها وأجرها من غيره مقاطعة كل ستة أشهر، ببدل معلوم فلما رآه المستأجر الثاني، وجد الأشجار قد احترق من البرد ولم يجد أجره ليرده عليه، حتى جاء أيام الفسخ وحضر آجره وفسخ الإجارة، وطلب مال المقاطعة، وأبى المستأجر الثاني، واعتل بعلة أن الأشجار محترقة، سمع علته وسقط عنه مال المقاطعة إذا لم يعمل في الكرم عملاً يدل على الرضا، ولو كان آخذه حاضراً حتى أمكنه الرد ولم يرد لا يسقط مال المقاطعة، وعلى هذا إذا أجر داره وأراد المستأجر ردها بخيار رؤية، أو بخيار عيب، إن لم يمكنه الرد بأن كان المؤاجر غائباً، كان له الرد إذا حضر المؤاجر، ولا يجب الأجر إذا لم يكن عمل في الدار عملاً يدل على الرضا، وإذا وجب الأجر على المستأجر مالاً بالقرض أو نحوه، فقال المستأجر للآجر: احسب هذا من مال الإجارة وفارسيته فرورواز مال إجارت فقال الأجر: فرور فتم فقد قيل: ينفسخ الإجارة بقدره.
استأجر رجلاً ليذهب محمولاته إلى موضع كذا بكذا فلما سار نصف الطريق بدا للحمال أن يذهب فترك الحمولة على المستأجر ثمَّ وطلب نصف الأجر، قال: له ذلك إذا كان الباقي من الطريق مثل الأول في السهولة، هكذا ذكر في الفتاوي. وقد ذكرنا في فصل الاستصناع أن العبرة في قسمة الأجر بقدر المراحل للسهولة والصعوبة، فيتأمل عند الفتوى.
قال في «الأصل» : ولو أن رجلاً دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي بدرهم فصبغه بقفيز، فهذا على وجهين أما إن صدقه رب الثوب في ذلك فصاحب الثوب بالخيار، إن شك ترك الثوب عليه وضمنه قيمة الثوب، وقد ذكرنا وجه ذلك فيما تقدم، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد العصفر فيه مع الأجر، ولم يذكر أنه أراد به المسمى (63أ4) أو أجر المثل قال بعضهم: أراد به أجر المثل. وقال بعضهم: أراد به المسمى. من قال بأنه يعطيه أجر المثل، تقول بأن العمل وإن لم يصر معيناً من حيث الحقيقة بالزيادة، بل الزيادة تزيده جوده، لكن من حيث الحكم صار معيناً، لما كان لا يتوصل إليه إلا بزيادة عزم، ولهذا ثبت له الخيار كما لو يكن في العمل عيب من حيث الحقيقة، ولو يكن في العمل به عيب من حيث الحقيقة بأن خالف في صفة المأمور به، كان الجواب على ما عرف من الخلاف بين المشايخ، فكذلك هذا،
وقال بعضهم: بأنه أراد به المسمى لأنه لا عيب في العمل المأمور به من حيث الحقيقة، فإنه أتى بما أمر به وزيادة، فالزيادة تزيده جودة، وإذا لم يتمكن في القدر المأمور به عيب من حيث الحقيقة، لا يكون له عطاء أجر المثل، لأن أجر المثل إنما يعطيه في مثل ذلك الموضع ليدفع عن نفسه ضرر العيب، ثم قال: يعطيه ما زاد العصفر في قيمة الثوب، يريد به ما زاد العصفر في قيمة الثوب من الثلاثة الأرباع، لا قيمة ما زاد القفيز فيه؛ لأنه ضمن للربع بدلاً، وهو الآجر فلا يضمن مرة أخرى، ثم إنما يعرف قيمة(7/649)
ما زاد العصفر فيه، وهو أن يغرم الثوب مصبوغاً بربع قفيز ومصبوغاً بقفيز فإن كانت قيمته ربع قفيز عشرة، وقيمته مصبوغاً بقفير اثنى عشر، علم أن الصبغ زاد فيه بقدر درهمين، فإن قيل في إيجاب قيمة ما زاد الصبغ فيه إيجاب قيمة العمل؛ لأن قيمة ما زاد الصبغ فيه أن يقوم مصبوغاً، وغير مصبوغ، وفي تقويمه مصبوغاً وغير مصبوغ اعتبار قيمة العمل والعمل لا يتقوم من غير عقد، ولا شبهة عقد، والجواب عنه أن قيمة ما زاد الصبغ فيه بدل الصبغ، من حيث الحكم لا قيمة العمل، لأن إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً متعذر؛ لأنه لا يعرف قيمة الصبغ بقيمة العمل، مزايلاً حال ما يتصل بالثوب لأنه مخلوط بالماء، وإذا تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزيلاً أوجبنا قيمة ما زاد الصبغ فيه، واعتبرنا ذلك كله قيمة الصنع.
والدليل عليه أن محمداً أوجب أجر المثل حيث احتاج إلى إيجاب قيمة العمل مع قيمة الصنع، وهنا لما أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، علمنا أنه جعل ذلك قيمة الصبغ مزايلاً، ومنهم من قال بأن الصباغ ملك رب الأرض صنعاً معمولاً وهو مال فلا بد من أن يغرم قيمته، كذلك على الوصف الذي ملكه كمن بنى في أرض رجل، ورضي به صاحب الأرض بأخذه، فإنه يغرم له قيمة البناء مبنياً لأنه ملك ذلك البناء وهو مبني معمول، فلزمه قيمة بناء مبني، فكذلك هذا، وإلى هذا ذهب الفقيه أبو بكر البلخي هذا إذا صدقه في الزيادة، فأما إذا كذبه في الزيادة، فإنه يري أهل البصر من تلك الصناعة، لأنه أمكن معرفة فيما وقع التنازع فيه لا من جهتها، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، فإن قالوا مثل هذا الصبغ قد يكون بربع قفيز كان القول قول رب الثوب لأن الظاهر معه، لكن مع يمينه بالله ما يعلم أنه زاد، لأنه لم يثبت من حيث اليقين أنه لم يرد فيه على الربع، وإن قالوا لا يكون إلا بالقفير صار الظاهر مع الصباغ مع اليمين؛ لأنه لم يثبت ما قالوا من حيث اليقين، فإن حلف تثبت الزيادة، وإذا ثبت الزيادة كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا صدقه رب الثوب الخياط إذا فرغ من الخياط وبعث الثوب على يدي ابنه، وهو ليس ببالغ، فطر الطرار منه في الطريق، فإن كان الصبي عاقلاً ضابطاً يمكنه حفظه لا يضمن، وإن لم يكن ضابطاً ولا يمكنه حفظه ضمن.
في «مجموع النوازل» مثل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن رجل استأجر رجلاً ليوقد النار في المطمورة ليلة، ففعل ونام في بعض الليل فاحترقت المطمورة وما فيها، هل يضمن الأجر؟ قال: لا قيل له فإن أوقد النار ثانياً، بغير أمر هل يضمن؟ قال: نعم.
رجل دفع عيناً إلى رجل على أنه إن شاء قبضه بالشراء بكذا وإن شاء أخذه إجارة سنة بكذا، فقبض وملك عنده، إن ملك بعد الاستعمال فهو على الإجارة، ولو قال أردت الملك إن كانت قيمته مثل الآخر، أو أكثر قبل قوله وإن كان الأجر أكثر لا يصدق، ولو لم يستعمله حتى هلك فلا ضمان عليه، لأنه لم يقبضه على الضمان.
في «مجموع النوازل» : رجل يبيع شيئاً في السوق فاستعان بواحد من أهل السوق(7/650)
على بيعه، فأعانه، ثم طلب منه الأجر، فإن العبرة في ذلك لعادة أهل السوق، فإن كان عادتهم أنهم يعملون بأجر يجب أجر المثل، وإن كان عادتهم أنهم يعملون بغير أجر فلا شيء له.
رجل قال لخياط: خط هذا الثوب لأعطيك أجرك، فقال الخياط: لا أريد الأجر، ثم خاطه فلا أجر له.
ولو أن صباغين أجر أحدهما آلة عمله من الآخر، ثم اشتركا في ذلك العمل، إن كان أجر كل شهر بكذا يجب الأجر في الشهر الأول، ولا يجب فيما بعده شيء، لأن الإجارة في الشهر الأول، وقعت صحيحة، وإنما ينعقد في كل شهر بعده بدخول ذلك الشهر، والشركة سبقت بأول الشهر الأول؛ فمنعت انعقادها فلا يجب أجر ما سوى الشهر الأول من هذا الوجه، وإن أجرها عشر سنين مثلاً، كل شهر بكذا، وجب أجر كل المدة؛ لأن الإجارة انعقدت على كل المدة في الحال، فلا يبطلها الشركة بعد ذلك، وإذا استأجر رجلاً ليبني له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه، وما أشبه ذلك وفارسيته، شكر درادن، ذكر في «فتاوي أبي الليث» : أنه لا يجوز، وينبغي أن يجوز إذا كان بآلات المستأجر للتعامل.
وفي «مجموع النوازل» : رجل دفع إلى سراج بعض آلات السرج، وأمره أن يتخذ له سرجاً بهذه الآلات، وبآلات أخرى يحتاج إليها من عند نفسه، على أن يدفع إليه أجر عمله وثمن آلاته، ودفع إليه عشرة دراهم، فلما أتم السرج، استولى على السرج بعض الظلمة وذهب به، قال: يسترد من السراج قيمة آلاته، وما دفع إليه من الأجر؛ لأن العمل لم يصر سلماً إليه، ولم يصر المستأجر قابضاً آلات السرج، باتصاله بآلاته؛ لأنه يمكن تمييزها من غير ضرر، وهذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لا يعامل في السرج بخلاف القلنسوة والخف، لأن فيهما تعاملاً.
ومثل شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله عمن دفع إلى طبيب جارية مريضة، وقال له: عالجها بمالك فما يزداد من قيمتها بسبب الصحة، فالزيادة لك، ففعل الطبيب ذلك، وبرأت الجارية، فللطبيب على المالك أجر مثل المعالجة، وثمن الأدوية والنفقة، وليس له سوى ذلك.
وسئل أيضاً عمن قال لطيان أصلح هذا الخراب بعشرة، فلما شرع في العمارة ازداد الخراب فأصلح الكل فلا شيء له سوى العشرة. وسئل هو أيضاً: رجل استأجر رجلاً شهراً، قال: لا يدخل يوم الجمعة في العقد بحكم العرف.
وفي «مجموع النوازل» : معلم طلب من الصبيان ثمن الحصير، وصرف البعض إلى حاجة نفسه، أو اشترى به الحصير، واستعمله في الكتب زماناً، ثم رفعه وجعله في بيته، هل يسعه ذلك قال: نعم؛ لأن هذا في الحقيقة تمليك من آباء الصبيان للمعلمين وفيه أيضاً: دفع الرجل ولده الصغير إلى أستاذ ليعلمه حرفة كذا، في أربع سنين، وشرط على الأب أنه لو حبسه قبل أربع سنين، فللأستاذ عليه مائة درهم فحبسه بعد ثلاث سنين،(7/651)
فليس للأستاذ أن يطالب الأب بالمائة، ولكن يطالبه بأجر مثل عمله.
وقيل في الصغير يدفع شيئاً من المأكول إلى المعلم، إنه لا يحل للمعلم أكله، وقيل يحل، وهو الأصح لأن الآباء والأمهات راضون بذلك.
استأجر رجلاً، ليكتب له عيناً بالعربية أو بالفارسية، يطيب له الأجر، وكذا لو استأجرت امرأة لتكتب لها إلى حبيبها، يجب الأجر ويطيب له، لأنه بدل كسبه هذا إذا بين ثم ... الجواز بأن بين مقدار الخط، وما أشبه ذلك، أما إذا لم يبين كانت الإجارة فاسدة.
استأجر وراقاً ليكتب له جميع القرآن وينقطه ويعجمه. (63ب4) ويعشره وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له بدلاً معلوماً، فأصاب الوراق البعض وأخطأ في البعض، فإن فعل ذلك في كل ورقة فله الخيار، إن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل عمله، لا يجاوز ما سمى، وإن شاء ترك عليه وأخذ منه قيمة ما أعطاه، وإن كان ذلك في بعض المصحف دون البعض، يعطيه حصة ما أصاب من المسمى، ويعطيه مثل عمله، لأنه وافق في البعض، وخالف في البعض، وقيل في النكال إذا غلط في جميع حدوده أو في بعضه، فإن لم يصلحه فلا أجر له وإن أصلحه فللآجر الخيار، وإن رضي به فللكاتب أجر مثله.
رجل له أجيران يعملان له عمل الزراعة بنفور له عين أحدهما بقرين، ولآخر بقرين، فاستعمل أحدهما غير ما عين له، فهلك ضمن المستعمل قيمته، وهل يضمن الأجر بالدفع؟ فقد قيل: يضمن وقيل: لا يضمن؛ لأن مودع في البقر، وقد دفعه إلى من يقوم على الدواب، والقول الأول أصح؛ وأنه جواب ظاهر الرواية وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي.
في «مجموع النوازل» : رجل أودع عند رجل أحمالاً من الطعام، ففرغ المودع الظروف، وجعل فيها طعاماً له، ثم إن المودع سأل المودع أن يرد عليه أحماله حتى يحمل إلى مكة، فدفع إليه طعام نفسه، ولم يعلمه به، فحملها المودع على إبله حتى أتى مكة، كان للمودع أن يأخذ طعامه ولا أجر عليه.
سئل شمس الأئمة الحلواني: عمن استأجر حماماً في قرية مدة معلومة، فنفر الناس، ووقع الخلا، ومضت مدة الإجارة، هل يلزم المستأجر الأجر؟ قال: إن لم يستطع الرفق بالحمام فلا وأجاب ركن الإسلام السعدي بلا مطلقاً، ولو بقي بعض الناس، وذهب البعض، يجب الأجر، كذا أجابا.
وفي «مجموع النوازل» : استأجر من آجر طاحونة ببدل معلوم، على أن عليه ما سمى من الأجر أيام جريان الماء وانقطاعه، فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأنه لا ينتفع بالرحا زمان انقطاع الماء، والأجرة بدل المنفعة فيفسد به العقد.
وفي «النوازل» سئل الفقيه أبو القاسم عن طحان ركب في الطاحونة حجراً من ماله،(7/652)
واتخذ فيه حديداً وأشياء أخر كلها من ماله، فانقضت مدة إجارته، هل له أن يدفع ذلك؟ قال: إن كان فعل ذلك بإذن صاحب الطاحونة على أن يرجع في العلة يرجع فيها، وأن فعل بغير أمره إن كان غير مركب فهو له، وإن كان مركباً يدفع إليه قيمته.
وفي «فتاوى الفضلي» : وصي أو متولي أجر منزل اليتيم، أو منزل الوقف بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى، فلا يلزمه الأجر بالسكنى، ذكر هنا أنه يجب على أصول علمائنا أن يصير غاصباً، ولا يلزمه الأجر لأنه قال في كتاب المزارعة الوكيل يدفع الأرض مزارعة: إذا دفعها مزارعة وشرط للمزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثلة، أن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً ويصير الزارع غاصباً، ولم يقل أن هذه مزارعة فاسدة، فيحكم فيها بما يحكم في المزارعة الفاسدة، قال: وذكر الخصاف في كتابه: أن المستأجر لا يكون غاصباً، ويلزمه أجر المثل، وجعل حكمه حكم الإجارة الفاسدة، فقيل له الفتى بما ذكره الخصاف؟ فقال: نعم، وذكر بعد هذا أيضاً أنه يلزم المستأجر أجر المثل بكماله، لأن الإجارة لو كانت من مالك المنزل، ولم يكن سمى الأجر فيها، كان يجب على المستأجر أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيها الأجر وجب الأجر، ولا يزاد على المسمى، فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر، لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي والقيم أيضاً لولا يسميان فيها الأجر يجب فيها أجر المثل بالغا ما بلغ، فإذا سميا الأجر لو لم تجب الزيادة على المسمى لكان سقوط الزيادة لإبطالهما إياها بالتسمية وليس لهما إلى إبطالهما سبيل، فيجعل كأن التسمية لم توجد في الزيادة، فوجب وذكر قبل هذا إذا أجر منديلاً لابنه الصغير بدون أجر المثل.
قال القاضي الإمام على السعدي لو غصب إنسان دار صبي، قال بعض الناس يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، وهكذا فيمن غصب الوقف قال بعضهم: يجب أجر المثل. قال الفضلي رحمه الله: والذي يصح عندي أن المستأجر يصير غاصباً عند من يرى غصب الدور، ويجب جميع المسمى عنده، أما عند من يرى غصب الدور فعلى مذهبه جميع المسمى لازم له على كل حال. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين يفتي بوجوب أجر المثل في أرض الوقف، في الغصب، وفي أرض الصبي لا. ومن المشايخ من يفتى بوجوب أجر المثل، أما إذا كان ضمان النقصان خير لليتيم وللوقف، وهكذا فيمن سكن داراً له، أو حانوتاً له وذلك وعد للإجارة، يجب أجر المثل، إلا إذا كان النقصان خيراً له.
وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً: أجر منزلاً إجارة طويلة، وهذا المنزل موقوف عليه، كان وقف والده عليه وعلى أولاده أبداً ما تناسلوا، وأنفق المستأجر في عمارة هذا المنزل بعض النفقات بأمر المؤاجر، فإن لم يكن للمؤاجر ولاية في الوقف، كان غاصباً، ولم يكن على المستأجر إلا المسمى، وذلك للمؤاجر يتصدق به، وإن كان له ولاية في الوقف وعلى المستأجر أجر المثل في المدة التي كانت في يده لا عبرة لما سمى من قليل الأجر(7/653)
في السنين الأولى، ويرجع المستأجر بالذي أنفق في غلة الوقف، إن كان للمؤاجر ولاية في الوقف، وإلا فهو متطوع فيما أنفق لا يرجع به على المؤاجر ولا في علة الوقف، لأنه إذا لم يكن له ولاية، صار وجود الأمن منه كعدمه، ولو أنفق بدون أمره لا يرجع بذلك على أحد، كذا ههنا، وقد ذكرنا فيما تقدم أن مكتري الحمار إذا أمر غيره أن ينفق على الحمار المكترى الذي بقي في الطريق ففعل، إن كان المأمور يعلم أن الحمار لغير الأمر فهو متطوع، لا يرجع بما أنفق علي أحد، إلا أن يكون الأمر ضمن له النفقة، وإن كان لا يعلم أن الحمار لغير الآمر فليس بمتطوع، فكذا في مسألة البناء، في الوقف بأمر الآجر يجب أن يكون الجواب على ذلك التفصيل.
مريض أجر داره من رجل بدون أجر المثل، يعتبر من جميع المال؛ لأن حق الورثة لا يتعلق بالمنافع، وما لا يتعلق به حق الورثة، فالمريض والصحيح فيه على السواء.
استأجر حانوتاً موقوفاً على الفقراء وأراد أن يبني عليه غرفة من ماله، وينتفع بها من غير أن يزيد في أجره، فحينئذ يبني على مقدار ما لا يخاف على البناء القديم من ضرر، وإن كان هذا حانوتاً يكون معطلاً في أكثر الأوقات، وإنما رغب فيه المستأجر لأجل البناء عليه، فإنه يطلق له في ذلك من غير زيادة في الأجر؛ لأن فيه مصلحة الوقف.
رجل استأجر حجرة من أوقاف المسجد، ويكسر فيها الحطب بالقدوم، والجيران لا يرضون بذلك، والمتولي يرضى به، فإن كان في ذلك ضرر بين بالحجرة مثل القصارة والحدادة، والمتولي يجد من يستأجرها بذلك الأجر، فعليه أن يمنعه من ذلك، فإن لم يمنع أخرجه من الحجرة، وأجرها من غيره، وإن كان غيره لا يستأجر بتلك الأجرة، فالقيم يتركها في يده، إلا إذا خاف تلف بناء الوقف من ذلك العمل.
وفي «فتاوي الفضلى» : متولي الوقف أجر ضيعة الوقف من رجل سنين، ثم مات الآجر، ثم مات المستأجر قبل انقضاء المدة، ودفع المستأجر غلة الضيعة، فإن كانت الغلة زرعا زرعها الورثة ببذرهم كانت الغلة لهم، وعليهم ما نقصت الزراعة الأرض، تصرف ذلك إلى مصالح أرض الوقف لا حق للموقوف عليهم الأرض في ذلك، لأن هذا النقصان إنما وجب لنقصان في عين الأرض، وهو الموقوف عليهم في منفعة الأرض لا في عينها، وإنما وجب نقصان الأرض دون الأجر؛ لأن الإجارة قد انفسخت بالموت، وصارت الورثة بالزراعة بعد ذلك غاصبين، فوجب النقصان دون الأجر لهذا.
وفي «النوازل» ساحة (64أ4) بين يدي حانوت لرجل في الشارع، فأجرها من رجل يبيع الفاكهة كل شهر بدرهم، فما يأخذ من الأجرة فهو للعاقد؛ لأنه غاصب، وفي الغضب الأجرة للعاقد.v
قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا كان ثمة بناء أو دكان؛ لأن بذلك يصير غاصباً، أما بدونه لا يصير غاصباً؛ لأن غصب العقار عندهما لا يتحقق، وعندي أن الصحيح هو الأول، لأن عندهما الغصب إنما لا يتحقق في العقار في حق حكم الضمان، لا فيما وراء ذلك يتحقق، ألا ترى أن في حق الرد يتحقق، فكذا في حق استحقاق الأجرة.(7/654)
رجل استأجر أرضاً، وانفسخت الإجارة بينهما بمضي المدة أو بالفسخ، قبل مضى المدة وفي الأرض زرع، والزرع يغل، فالزرع للمستأجر، فإن أبى المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم بعد ذلك أدرك الزرع، ودفع الآجر الغلة، وادعى المستأجر الغلة وخاصم الآجر فيها، هل يسمع دعواه؟ فقد قيل يسمع دعواه، وقد قيل لا يسمع دعواه، وهو الأشبه، وكذلك لو كان الآجر دفع الغلة أولاً، ثم أبرأه المستأجر عن الدعاوي لا يصح دعوى المستأجر الغلة، وهذا إذا جحد الآجر أن الزرع زرعه، فأما إذا كان مقراً أن الزرع للمستأجر يؤمر بالرد عليه، وعلى هذا إذا أبرأ أحد الورثة الباقين، ثم ادعى التركة، وجحد باقي الورثة التركة، لا يسمع دعواه، ولو أقروا بالتركة يؤمرون بالرد عليه.
استأجر طاحونة، وأجرها من غيره، فانهدم بعضه، فقال المستأجر الأول للثاني: أنفق في عمارة هذه الطاحونة، فأنفق هل يرجع بذلك على المستأجر الأول إن علم الثاني أنه مستأجر وليس بمالك، لا يرجع وإن ظنه مالكاً فيه روايتان، في رواية لا يرجع ما لم يشترط الرجوع، وفي رواية يرجع بدون الشرط.
دار فيها بئر استأجر رجل الدار، فله أن يتوضأ بذلك الماء، ويشرب.
استأجر حجرة كل شهر ببدل معلوم، وغاب وترك امرأته في الدار، فليس للآجر أن يخرجها؛ لأنه ليس له أن يفسخ الإجارة، من غير محضر من صاحبه، والحيلة في ذلك أن يؤاجر هذه الدار من إنسان، في بعض الشهور فإذا مضى ذلك الشهر ينفسخ الإجارة الأولى وتنعقد الثانية، وكان للمستأجر الثاني أن يخرج المرأة من الدار.
وإذا استأجر من آجر داراً، ثم إن الآجر وهب له أجر شهر رمضان، إن استأجرها سنة جاز الهبة عند محمد رحمه الله لأنه أبرأ بعد وجود سبب الوجوب، وإن استأجرها كل شهر لا يجوز الهبة عند محمد، إلا إذا دخل شهر رمضان.
استأجر داراً وبنى فيها حائطاً من تراب، كان فيها بغير أمر صاحب الدار، ثم أراد الخروج وأراد نقض الحائط، هل له ذلك، ينظر إن كان اتخذ من التراب لبنا، وبنى الحائط من اللبن، فله ذلك وعليه قيمة التراب؛ لأن باتخاذ اللبن صار اللبن ملكاً له، فله أن يأخذ ملك نفسه، وإن كان بنى الحائط من الطين له يأخره بنايا شد فليس له أن ينقض الحائط، لأن ما نقض يعود على ملك المالك؛ لأنه يصير تراباً.
رجل اشترى شجرة وقطعها، واستأجر أرضاً ليضع فيها الأشجار حتى تيبس، والأرض المستأجر لها طريق في أرض رجل آخر، فأراد مشتري الأشجار أن يمر في الأرض التي فيها طريق إلى الأرض المستأجرة بخشبه وحمولاته، وأراد صاحب الأرض أن يمنعه من ذلك، ليس له أن يمنعه، لأنه يحتاج إلى الإخراج والإخراج يكون بطريقة، وطريقه هذا.
وبه ختم كتاب الإجارات بعون الله وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين.(7/655)
كتاب القضاء
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلاً
1 * في بيان من يجوز له تقليد القضاء منه.
2 * في الدخول في القضاء.
3 * في ترتيب الدلائل للعمل بها.
4 * في اختلاف العلماء في اجتهاد الصحابة.
5 * في التقليد والعزل.
6 * في بعض التقليد وما يقع للقاضي نفسه وحكم الأمراء.
7 * في جلوس القاضي، ومكان جلوسه.
8 * في أفعال القاضي وصفاته.
9 * في رزقه ومدته ودعوته.
10 * في بيان ما يكون حكماً، وما لا يكون حكماً، وما يبطل به الحاكم بعد وقوعه صحيحاً وما لا يبطل.
11 * في العدو.
12 * فيما يقضي القاضي بعلمه، وفي القضاء بشهادة من أقل من اثنين.
13 * في القاضي يجد في ديوانه شيئاً لا يحفظه وفي نسيانه قضاءه وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ.
14 * في القاضي يقضي بقضيته ثم بدا له أن يرجع عنه وفي وقوع القضاء بغير حق.
15 * فيما إذا وقع القضاء بشهادة الزور، ولم يعلم القاضي.
16 * في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم له أو المحكوم عليه وفيه بعض مسائل الفتوى.
17 * في أقوال القاضي، وما ينبغي للقاضي أن يقول وما لا ينبغي.
18 * في قبض المحاضر من ديوان القاضي المعزول.
19 * في القضاء في المجتهدات،(8/3)
20 * فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما لا يجوز.
21 * في الجرح والتعديل.
22 * فيما ينبغي للقاضي أن يضعه على يدي عدل.
23 * في الرجلين يحكمان بينهما حكماً.
24 * في كتاب القضاة إلى القضاة.
25 * في اليمين.
26 * في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين.
27 * وفي الحبس والملازمة.
28 * فيما يقضي به القاضي ويرد قضاءه وما لا يرد.
29 * في بيان ما يحدث بعد إقامة البينة قبل القضاء.
30 * في بيان من يشترط حضرته بسماع الخصومة والبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك.
31 * في نصب الوصي والقيم وإثبات الوصاة عند القاضي.
32 * في القضاء على الغائب والقضاء الذي يتعدى إلى غير المقضى عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في إقامة البينة.
33 * في المتفرقات.(8/4)
الفصل الأول: في بيان من يجوز له تقليد القضاء منه
قال الخصاف في «أدب القاضي» : إنما يجوز تقليد القضاء لمن كان عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن القاضي مأمور بالقضاء بحق، قال الله تعالى: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} (ص: 26) ، وإنما يمكنه القضاء بالحق، إذا كان عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، أما العلم بالكتاب والسنة؛ فلأن الاجتهاد في موضع النص باطل، فكان العمل بالنص في موضع النص متعيناً، وإنما يمكنه العمل بالنص، إذا كان عالماً به، وأما اجتهاد الرأي فلأن النصوص معدودة، والحوادث مهدودة، والإنسان لا يحد في كل حادثة تفصل به تلك الحادثة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك، إذا كان عالماً باجتهاد الرأي، وعندنا العلم بالأدلة شرط الأولوية، وليس شرط جواز تقليد القضاء، حتى لو قلد جاهل وقضى هذا الجاهل بفتوى غيره، يجوز والصحيح مذهبنا؛ لأن المأمور في حق القاضي القضاء بالحق، والقضاء بما أنزل الله، والقضاء بفتوى الغير قضاء بالحق وبما أنزل الله تعالى.
والخصاف لم يشترط العدالة، وصاحب كتاب «الأقضية» أبو جعفر، شرط العدالة، وكذلك الخصاف شرط العدالة وهي شرط لازم عند الشافعي، وهكذا روي عن أصحابنا في غير رواية الأصول، وبه أخذ بعض مشايخنا، حتى إن قلد القضاء وهو غير عدل، لا يصير قاضياً.
وعلى ظاهر رواية أصحابنا العدالة شرط الأولوية، وهو اختيار عامة مشايخنا رحمهم الله، حتى أن الأولى أن لا يقلد الفاسق، ومع هذا لو قلد يصر قاضياً، اعتباراً للقضاء بالشهادة، فإن الأولى أن لا تقبل شهادة الفاسق، ومع هذا لو قبلت وقضى بها نفذ القضاء.
ولو قلد القضاء وهو عدل ثم فسق، فعلى قول الشافعي رحمه الله ينعزل، وإشارات محمد رحمه الله في الكتب متعارضة في بعضها يشير إلى أنه ينعزل، وبه أخذ بعض مشايخنا، وفي بعضها يشير إلى أنه لا ينعزل، ولكن به يستحق العزل، وبه أخذ عامة المشايخ، إلا إذا شرط في التقليد أنه متى خان ينعزل، فحينئذ ينعزل لأنها غايته لا بالجور وبعض مشايخنا قالوا: (64ب4) إن كان عدلاً حين قلده السلطان ثم فسق ينعزل، وإن كان فاسقاً حين قلده يصير قاضياً، وهذا لأنه إذا كان عدلاً يوم قلده فإنما، قلده اعتماداً(8/5)
منه على عدالته، تنفيذ التقليد بحال عدالته، ولا يبقى التقليد بعد ارتفاع العدالة، وإذا قلده فيما هو عدل، فلم يعقد على عدالته، فصح التقليد.
ثم من شرط العدالة في القضاء، يحتاج إلى الفرق بين القضاء والإمارة، فإن الإمام يصير إماماً، وإن كان فاسقاً، وإذا كان عدلاً، ثم فسق لا يخرج عن الإمارة والإمامة، والفرق أن مبنى الإمارة على السلطنة والغلبة، ألا ترى أن من الأمراء من قد غلب، وجاز أحكامه، وصلى خلفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبنى القضاء على الأمانة والعدالة، فإذا بطلت العدالة بطل القضاء ضرورة، هذا بيان من يجوز له تقلد القضاء.
جئنا إلى بيان من يجوز تقلد القضاء منه، فنقول: يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، أما من السلطان العادل فظاهر، وأما من السلطان الجائر، فلأن الصحابة تقلدوا الأعمال من معاوية بعد ما أظهر الخلاف مع علي رضي الله عنه، والحق مع علي رضي الله عنه في قومته، وتقلدوا من يزيد مع جوره وفسقه، والتابعين تقلدوا من حجاج بعد ما تبين منه اللجاج، ومع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن البصري: لو كان كلامه بحيث أنها وصية بأبي محمد قبلناه، ولكن أن يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر، إذا كان يمكنه من القضاء بحق، ولا يخوض في قضاياه بشر، ولا ينهاه عن تنفيذ بعض الأحكام كما ينبغي، أما إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق ويخوض في قضاياه بشر، ولا يمكنه من تنفيذ بعض الأحكام كما ينبغي، لا يتقلد منه.
قال القاضي الإمام أبو جعفر رحمه الله وهو صاحب كتاب «الأقضية» بعد ما تبين أهل القضاء: ولا ينبغي لأحد أن يفتى للناس إلا من كان هكذا، يريد به أن المفتي ينبغي أن يكون عدلاً، عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، أما اشتراط العلم بهذه الأشياء؛ فلأن المفتي بفتواه يبين أحكام الشرع، وإنما يمكنه بيان أحكام الشرع إذا علم بالأدلة الشرعية، وأما اشتراط العدالة فمؤتمن عليه، قال: إلا أن يفتي بشيء قد سمعه فإنه يجوز، وإن لم يكن عالماً بما ذكرنا من الأدلة، لأنه حاك ما سمع من غيره، فهو بمنزلة الراوي في باب الأحاديث، فشرط فيه ما يشترط في الراوي، من العقل والضبط والعدالة والقهر على ما عرف في موضعه.
الفصل الثاني: في الدخول في القضاء
أورد الخصاف في «أدب القاضي» أحاديثاً في كراهة الدخول في القضاء، وفي الرخصة فيه، قال: وقد دخل فيه قوم صالحون، وامتنع عنه قوم صالحون، وترك الدخول أمثل وأسلم وأصلح في الدين، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن بعد استجماع شرائط القضاء في شخص هل يجوز له تقلد القضاء؟ قال بعضهم: يكره له التقليد، ألا ترى كيف(8/6)
امتنع عنه أبو حنيفة رحمه الله حتى ضرب ثلاث مرات في كل مرة ثلاثين سوطاً، وألا ترى أن محمداً رحمه الله كيف أباه حتى قيد نيفاً وخمسين يوماً، وفي رواية نيفاً وأربعين يوماً، وقال بعضهم: له أن يقلد إذا كان يمكنه القيام بحقه، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام اشتغلوا به حتى نبينا عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم اشتغلوا به، ولأن في القضاء إظهار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء شريعته، ولهذا يطلق على القاضي اسم خليفة رسول الله بلا خلاف، وإن اختلفوا أنه هل يطلق عليه اسم خليفة الله، وفيه إيصال الحق إلى مستحقيه، وفيه نصرة المظلومين، وكل ذلك حسن عقلاً وشرعاً، وقال بعضهم: من قلد بغير مسألة فلا بأس بالقبول، ومن سأل يكره له ذلك، وهذا لأن من سأل فقد اعتمد على نفسه، ووكل إليه، ومن أجبر عليه فقد اعتمد على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والذي عليه عامة المشايخ أن الدخول في القضاء رخصة، والامتناع عنه عزيمة، أما الدخول فيه رخصة لما ذكرنا أن فيه إيصال الحق إلى المستحق، وفيه نصرة المظلومين، وأما الامتناع عنه عزيمة، لوجهين أحدهما أن القاضي مأمور بالقضاء بحق وعسى يظن في الابتداء أنه يقضي بحق، ثم لا يقضى في الانتهاء بحق، والثاني أنه عسى لا يمكنه القضاء إلا بإعانة غيره، وذلك الغير عسى لا يعينه على القضاء، ولكن هذا إذا كان في البلد قوم صالحون للقضاء، أما إذا لم يكن في البلد قوم يصلحون للقضاء سواه، يدخل في القضاء لا محالة؛ لأنه لو لم يدخل ربما تقلد الجاهل فيضيع أحكام الله تعالى، وعلى هذا حكم الإثم،
إذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء، وامتنع واحد منهم لا يأثم، وإذا لم يكن في البلد من يصلح للقضاء إلا واحد وامتنع هو يأثم، وإذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء فامتنعوا جملة عن القضاء، فإن كان الوالي بحيث يفصل الخصومات بنفسه، كما ينبغي، فإنهم لا يأثمون، وإن كان الوالي بحيث لا يفصل الخصومات بنفسه كما ينبغي، فإنهم يأثمون، لأنهم ضيعوا حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فإنهم يشتركون في الإثم.
الفصل الثالث: في ترتيب الدلائل للعمل بها
قال: ينبغي للقاضي أن يقضي بما في كتاب الله تعالى، وينبغي أن يعرف ما في كتاب الله تعالى من الناسخ والمنسوخ، لأنه إنما يجب العمل بالناسخ دون المنسوخ وينبغي أن يعرف من الناسخ ما هو محكم، وما هو متشابه، وفي تأويله اختلاف، كالأقراء فإن الله تعالى نص على الأقراء في مضي العدة، وقد اختلف العلماء في تأويلها، فمنهم من جعلها عبارة عن الأطهار، فينبغي أن يعرف المتشابه، وما فيه اختلاف العلماء؛ ليترجح قول البعض على البعض باجتهاده، فإن لم يجد في كتاب الله تعالى، يقضي بما جاء عن رسول الله عليه والسلام، قال الله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7)) وينبغي أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الأخبار، لما ذكرنا(8/7)
أنه يجب العمل بالناسخ دون المنسوخ، فإن اختلفت الأخبار يأخذ بما هو الأشبه، ويحيل اجتهاده إليه، ويجب أن يعلم المتواتر والمشهور، وما كان من خبر الآحاد؛ لأن المتواتر واجب العمل به قطعاً، يكفر جاحده، ولكن يخشى عليه المأثم، وما كان من خبر الآحاد يخطّأ جاحده.
ويجب أن يعلم مراتب الرواة، فإن منهم من عرف بالفقه والعدالة كالخلفاء الراشدين، والعبادلة وغيرهم، ومنهم من عرف بطول الصحبة وحسن الضبط، والأخذ براوية من عرف بالفقه أولى من الأخذ برواية من لم يعرف بالفقه، وكذلك الأخذ برواية من عرف بطول الصحبة، أولى من الأخذ برواية من لم يعرف بطول الصحبة، وإن كان حادثة لم يرد فيها سنة رسول الله، يقضي فيها بما اجتمع عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن العمل بإجماع الصحابة واجب، فإن كان الصحابة فيها مختلفين، يجتهد في ذلك، ويرجح قول بعضهم على البعض باجتهاده، إذا كان من أهل الاجتهاد، وليس له أن يخالفهم جميعاً باختراع قول ثالث؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن ما عدا القولين باطل، وكأن الخصاف رحمه الله يقول له ذلك، لأن اختلافهم اتفقوا على أن ما عدا القولين باطل، وكان الجصاص رحمه الله يقول: ذلك لأن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد فيه مجالاً، والصحيح ما ذكرنا، ولا يفضل قول الجماعة على قول الواحد، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله، أما على أصل محمد: يفضل قول الجماعة على قول الواحد، وقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» في مسألة: قال أهل العراق وأهل الحجاز كذا، وقال أهل الشام: كذا، فأخذنا بقول أهل العراق والحجاز لكثرتهم ولانتفاء التهمة عن قولهم.
ثم الإجماع (65أ4) ينعقد بطريقين:
أحدهما: اتفاق كل الصحابة على حكم بأقوالهم، وهذا متفق عليه.
والثاني: تنصيص البعض، وسكوت الباقين، بأن اشتهر قول البعض وبلغ الباقون ذلك، فسكتوا ولم ينكروا ذلك، وهذا مذهبنا، وإنما كان كذلك لأنه لو كان عند الباقين خلاف ذلك، لما حل لهم السكوت فيحمل سكوتهم على الموافقة حملاً لأمرهم على ما يحل لهم شرعاً، ولكن هذا الإجماع في المرتبة دون الأول، لأن الأول مجمع عليه، والثاني مختلف فيه، فإن وجد من كل الصحابة اتفاق إلا واحد، فإنه خالفهم فعلى قول الكرخي لا يثبت حكم الإجماع، وهو قول الشافعي، والصحيح عندنا أنهم إن سوّغوا له الاجتهاد، ولا ينعقد الإجماع مع مخالفته، نحو خلاف ابن عباس رضي الله عنهما في زوج وأبوين، قال: للأم ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد، بل أنكروا عليه ذلك، يثبت حكم الإجماع بدون قوله حتى لو قضى قاض بجواز بيع الدرهم بالدرهمين، لا ينعقد قضاؤه.
وحكي عن القاضي أبي حازم رحمه الله: أن الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا على شيء(8/8)
لا يلتفت إلى خلاف من خالفهم، حتى لم يعتبر خلاف زيد في توريث ذوي الأرحام، وأمر المعتصم برد الأموال التي اجتمعت من تركات ذوي الأرحام، فقال له أبو سعيد البردعي: هذا شيء يفتى فيه على قول زيد، فقال أبو حازم: لا يعتبر خلاف زيد في مقابلة الخلفاء الراشدين. ولكن الصحيح ما ذكرنا، فإن جاء حديث من واحد من الصحابة ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك، فعن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات:
في رواية قال: أقلد منهم من كان من القضاة المفتيين لقوله عليه السلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» ، وقد اجتمع في حقهما القضاء والفتوى، فمن كان منهما كعثمان وعليّ والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، ومن كان بمثابتهم أقلدهم، ولا أستجر خلافهم.
وفي رواية قال: أقلد جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب رضى الله عنهم. أما أنس فقد بلغني أنه اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وإنما لا أقلد علقمة فكيف أقلد من يستفتي علقمة، وأما أبو هريرة فإنه لم يكن من أئمة الفتوى، بل كان من الرواة فيما كان يروى لا يتأمل في المعنى، وكان لا يعرف الناسخ والمنسوخ، ولأجل ذلك حجر عليه عمر رضي الله عنه، عن الفتوى في آخر عمره، وأما سمرة بن جندب فقد بلغني عنه أمر يتأبى، والذي بلغ عنه، إنه كان يتوسع في الأشربة المسكرة سوى الخمر، وكان يتدلك في الحمام بالخمر، فلم نقلدهم في فتواهم لهذا، أما فيما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يأخذ بروايتهم، لأن كل واحد موثوق به فيما يروي.
وفي رواية قال: أقلد جميع الصحابيين ولا أستجر خلافهم، وهو الظاهر من المذهب، فقد قال في كتاب الحيض: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، بلغنا ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال في كتاب الأيمان: إذا نذر بذبح ولده يصح نذره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، بلغنا نحو ذلك، عن ابن عباس رضى الله عنهما، وقال: في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، أنه لا يجوز، بلغنا ذلك عن عائشة رضى الله عنها، ونظائره في الكتب كثيرة، وهذا لأنهم ما كانوا يفتون جزافاً، وإنما كانوا يفتون سماعاً أو اجتهاداً، فإن كان سماعاً يلزمنا اتباعهم، وهذا ظاهر، وإن كان اجتهاداً فكذلك، لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاينوا وشهدوا التنزيل، وشهد لهم رسول الله عليه السلام بالخيرية، بقوله: «خير القرون قرني الذي أنا فيهم» . فيوفقون في الصواب بسبب صحبة رسول الله عليه السلام ولكونهم خير القرون(8/9)
مالا يوفق غيرهم، ولأنهم عرفوا طريق رسول الله في بيان الأحكام، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص، والمحال التي تعتبر باعتبارها الأحكام، فيكون رأيهم أقوى، واجتهادهم أصوب.
وإن اجتمعت الصحابة على حكم، وخالفهم واحد من التابعين، إن كان المخالف ممن لم يدرك عهد الصحابة، لا يفيد خلافه، حتى لو قضى القاضي بقوله، بخلاف إجماع الصحابة كان باطلاً، وإن كان ممن أدرك عهد الصحابة، وزاحمهم في الفتوى، وسوغوا له الاجتهاد، كشريح والنخعي والشعبي رضي الله عنهم، لا ينعقد الإجماع مع مخالفته.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يثبت إجماع الصحابة في الأسعار؛ لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عهد الصحابة، فلا يثبت الإجماع بدون قوله، وهذا لأنه لما أدرك عهد الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، حتى زاحمهم في الفتوى، فقد جعلوه كواحد منهم فصار خلافه كخلاف واحد منهم.
فإن كانت حادثة ليس فيها إجماع الصحابة، ولا قول واحد من الصحابة، ولكن فيه إجماع التابعين، فإنه يقضى بإجماعهم؛ لأن إجماع التابعين حجة قال الله تعالي: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} (النساء: 15) الآية، وخلاف إجماعهم اتباع غير سبيل المؤمنين، إلا أن إجماع التابعين في كونه حجة دون إجماع الصحابة، لأن بعض الناس قالوا: إجماعهم ليس بحجة، إنما ذلك للصحابة، وكذلك إجماع كل فريق بعد ذلك حجة، ولكنه دون الأول في كونه حجة. [
وإن كانت حادثة فيها اختلاف التابعين، يجتهد القاضي في ذلك، إذا كان من أهل الاجتهاد، ويقضي بما هو أقرب للصواب، وأشبه بالحق، وليس له أن يخالفهم باختراع قول ثالث عندنا، على نحو ما ذكرنا في الصحابة، وإن جاء عن بعض التابعين ولم ينقل عن غيرهم فيه شيء، فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان: في رواية قال: لا أقلدهم، رجال اجتهدوا، ونحن رجال نجتهد، وهو ظاهر المذهب، وفي رواية «النوادر» قال: من كان منهم أفتى في زمن الصحابة، وسوغوا له الاجتهاد، مثل شريح، ومسروق بن الأجدع، والحسن، فأنا أقلدهم، وهذا لأن من أفتى في زمن الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، فقد جعلوه كواحد منهم، فإن لم يجد عنهم بإجماع، يعمل بإجماع من بعدهم، إن كان في الزمان الذي هو فيه، وهذا لأن إجماع كل عصر حجة بالنص الذي تلونا وبقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» .
فإن لم يجد في ذلك إجماعاً، وكان فيه اتفاق بين أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله، يأخذ بقولهم ولا يسعه أن يخالفهم برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم.(8/10)
فإن أبا يوسف رحمه الله كان صاحب حديث، حتى روي عنه أنه قال: أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ، وإذا كان هذا يحفظ هذا من المنسوخ، فما ظنك من الناسخ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضاً.
ومحمد رحمه الله كان صاحب فقه ومعنى، وكان صاحب قريحة أيضاً، ولهذا قال في «المسائل» رجوعه وأبا حنيفة رحمه الله كان مقدماً في هذا كله إلا أنه قلّت روايته لمذهب يقول به، في باب الحديث: إنما يحل رواية الحديث لمن يحفظ من حين يسمع إلى أن يروي.
وإن اختلفوا فيما بينهم، قال عبد الله بن مبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة لا محالة لأنه كان في زمن التابعين وزاحمهم في الفتوى، وقد شهد رسول الله عليه السلام بالخيرية فالظاهر أن يوفق للصواب، ما لا يوفق غيره، والمتأخرون من مشايخنا رحمهم الله اختلفوا وقالوا: إذا اجتمع اثنان منهم على شيء وفيهما أبو حنيفة رحمه الله، أنه يأخذ بقول أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان أبو حنيفة من جانب وأبو يوسف ومحمد رحمها الله من جانب، فإن كان القاضي من أهل الاجتهاد يجتهد، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يستفتي غيره، ويأخذ بقول المفتي بمنزلة العامي، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله أعلى رتبة؛ لأنه قد يرزق الرجل الصواب، وإن كان غيره أعلى رتبة، فإن أدراك الصواب فضيلة يرزقه الله تعالى من عباده من يشاء وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يأخذ بقول (65ب4) أبي حنيفة، ولا يترك مذهبه؛ لأنه أفقه عنده من غيره، فلا يترك متابعته.
وإن اختلف المتقدمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين فهذا الإجماع، هل يرفع الخلاف المتقدم؟ فقد قيل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، لا يرفع، وعلى قول محمد رحمه الله: أنه يرفع، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه يرفع الخلاف المتقدم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، وإنما يخالف في ذلك بعض العلماء، على ما يأتي بيانه بعد هذا، إن شاء الله.
وإن اتفق أهل عصر على قول،.....، فخرج هذا القاضي عن قولهم، وقضى بخلاف قولهم لما رأى الصواب بخلافه، فإن كان قد سبق هذا الاتفاق، اختلاف العلماء، فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يسعه الخلاف. وبعضهم قالوا: يسعه. فإن لم يسبق هذا الاتفاق اختلاف لا يسعه الخلاف بالاتفاق، بقي الكلام بعد هذا في تفسير الاجتهاد، وفي أهلية الاجتهاد.
أما تفسيره فالاجتهاد بذل المجهود لطلب المقصود، وأما أهله: فأهل الاجتهاد من يكون عالماً بالكتاب، والسنة، والآثار، ووجوه الفقه، ويشترط مع ذلك، أن يكون صاحب قريحة يعرف عرف الناس، وعاداتهم، ومعاملاتهم، فالعرف قد يغلب على(8/11)
الناس، كما في الاستصناع، والحكم قد يتغير بتغير العصر والزمان، ويشترط مع ذلك أن يكون عالماً بلغة العرب؛ لأن القرآن والأخبار جاءت بلغتهم.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إذا كان يحفظ المنسوخ من أقوال المتقدمين له أن يجتهد.
قال: وإذا كان في البلد قوم من أهل الفقه شاورهم في ذلك؛ لأن القاضي لا يكون أفطن في نفسه من رسول الله عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمشاورة، قال الله تعالى: {وشاورهم} (آل عمران: 159) وقال عليه السلام: «من العزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه» ، وقال عليه السلام: «المستشير يصيب» أو قال: «كاد أن يصيب» . وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما في شيء، فسكتا مهابة منه فقال عليه السلام: «قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما» . ولأن بالمشاورة تجتمع الآراء، وظهور الحق عند اجتماع الآراء أَبْيَنُ، ولهذا قيل: في المشاورة تلقيح العقول، فإذا شاورهم، واتفق رأيه ورأيهم على شيء، حكم به؛ لأنه لما اتفق رأيه ورأيهم صار ذلك كالإجماع، والإجماع من جملة الحجج، وإن وقع الاختلاف بين هؤلاء الذين شاورهم، نظر إلى أقرب الأقاويل عنده من الحق، وأمضى على ذلك باجتهاده، إذا كان من أهل الاجتهاد، ولا يعتبر في ذلك كبر السن، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه كان شاور ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول له: «غص يا غّواص» ، وكان يأخذ بقوله وعمر كان أكبر سناً منه، وكذلك لا يعتبر كثرة العدد، فالواحد قد يوفق للصواب ما لا يوفق الجماعة، ولأجل ذلك قبلنا شهادة الواحد على رؤية الهلال، إذا كانت السماء متغيمة، وينبغي أن يكون ههنا قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قول محمد رحمه الله يعتبر كثرة العدد على ما مر قبل هذا، وإن لم يقع اجتهاده على شيء، وبقيت الحادثة مختلفة ومشكلة عليه، كتب إلى فقهاء غير المصر الذي هو فيه، فالمشاورة بالكتاب سنة قديمة في الحوادث الشرعية.
وروي عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أنهما كانا يكتبان إلى عمر رضي الله عنه يستشيرانه، وعمر كان يكتب إلى ابن مسعود رضي الله عنه يستشيره، وكان ابن سماعة يكتب إلى محمد رحمه الله، وهذا لأن المشورة من الغائب بالكتاب بمنزلة المشورة من الحاضر بالخطاب، فإن اتفق الذين كتب إليهم القاضي على شيء ورأي القاضي يوافق رأيهم، وهو من أهل الرأي والاجتهاد، مضى ذلك برأيه، وإن اختلفوا أيضاً فيما بينهم نظر إلي أقرب الأقوال عنده من الحق، إذا كان من أهل الاجتهاد، وإن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد في هذه الصورة، وقد وقع الاختلاف(8/12)
بين أهل الفقه، أخذ بقول من هو أفقه وأورع عنده كذا هنا، لأنه بمنزلة العامي والعامي إذا استفتى في حادثة، وقد وقع الاختلاف فيما بين الفقهاء، أخذ بقول من هو أفقه عنده، كذا هنا، وإن كان القاضي شاور قوماً من أهل الفقه، فاتفقوا على شيء، ورأي القاضي بخلاف رأيهم، لا ينبغي للقاضي أن يترك رأي نفسه، ويقضي برأيهم، لأن عنده أن هؤلاء على الخطأ، ولا متابعة في الخطأ، فإن قيل: إذا كان لا يأخذ برأيهم فأي فائدة في المشورة.
قلنا: احتمال انضمام رأي غيره إلى رأيه فيقوى بذلك رأيه إلى هذا أشار عبيدة السلماني حين قال علي: اتفق رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد، أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن فقال عمر رضي الله عنه: رأيك مع رأي عمر خير من رأيك وحده. أشار إلى أن عند اجتماع الرأيين يحدث زيادة قوة، وإن شاور القاضي رجلاً واحداً كفى، ولكن مشاورة الفقهاء أحوط، فإن شاور ذلك الرجل إلى شيء، ورأي القاضي بخلاف رأيه، فالقاضي لا يترك رأي نفسه، لما قلنا، فإن اتهم القاضي رأيه لما إن ذلك الرجل أفضل وافقه عنده، لم يذكر هذه المسألة ههنا.
وذكر في كتاب «الحدود» وقال: لو قضى برأي ذلك الرجل أرجو أن يكون في سعة من ذلك وإن لم يتهم القاضي رأيه، لا ينبغي له أن يترك رأي نفسه، وقضى برأي غيره لما قلنا، ولو ترك رأي نفسه وقضى برأي غيره، هل ينفذ قضاؤه؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
الفصل الرابع: في اختلاف العلماء في اجتهاد الصحابة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
يجب أن يعلم بأن العلماء اختلفوا في هذا الفصل على ثلاثة أقوال، منهم من قال: ما كان له أن يجتهد لأنه كان يمكنه أن يرجع إلى رسول الله عليه السلام، فيسأله فكان الاجتهاد في ذلك الزمان اجتهاداً في موضع النص وإنه باطل، ومنهم من قال: من كان بعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له الاجتهاد، ومنهم من قال: كان له الاجتهاد مطلقاً ويستدل هذا القائل بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما» ؛ وقال عليه السلام لعمرو بن العاص: «اقض بين هذين» ، فقال علي: ماذا؟ فقال عليه السلام: «على أنك إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر واحد» .(8/13)
واختلفوا أيضاً أن رسول الله عليه السلام هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه، ويوصل الحكم باجتهاده، بعضهم قالوا: ما كان يجتهد بل كان ينتظر الوحي، ومنهم من قال: كان يرجع فيه إلى شريعة من قبله؛ لأن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم يعرف نسخه، ومنهم من قال: كان لا يعمل بالاجتهاد إلى أن ينقطع طمعه عن الوحي، فإذا انقطع كان يجتهد، فإذا اجتهد صار ذلك شريعة له، فإذا أنزل الوحي بخلافه يصير ناسخاً له، ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا، وكان لا ينقض ما أمضى بالاجتهاد، وكان يستأنف القضاء في المستقبل.
الفصل الخامس: في التقليد والعزل
ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» في باب القاضي يقضي بعلمه، إذا قلّد السلطان رجلاً قضاء بلدة كذا، لا يصير قاضياً في سواد تلك البلدة ما لم يقلده قضاء البلدة ونواحيها، ويكتب في رسمه ومنشوره أنا قلدناه قضاء بلدة كذا ونواحيها. وهذا الجواب إنما يستقيم على رواية «النوادر» ، لأن على رواية «النوادر» المصر ليس بشرط النفاذ القضاء فأما على ظاهر الرواية المصر شرط نفاد (66أ4) القضاء فلا يصر مقلداً على القرى، وإن كتب في منشوره ذلك.
وإذا علق السلطان القضاء والإمارة بالشرط وأضافهما إلى وقت في المستقبل، بأن قال للرجل إذا قدمت بلدة كذا فأنت قاضيها إذا أتيت مكة فأنت أمير الموسم، أو قال جعلناك قاضياً رأس الشهر أو قال جعلتك أمير رأس الشهر فذلك جائز والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام بعث جيشاً وأمر عليه زيد بن حارثة وقال: «إن قتل زيد فجعفر أميركم وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة أميركم» .
وأما تعليق الحكومة بين اثنين وإضافتها إلى وقت في المستقبل، ففيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وسيأتي بيانه في باب التحكيم إن شاء الله تعالى، ويجوز تعليق عزل القاضي بالشرط، إليه أشار في «أدب القاضي» للخصاف في باب ثبوت الخليفة، والمذكور ثمة إذا كتب الخليفة إلى القاضي: إذا وصل كتابي إليك فأنت معزول، فوصل إليه الكتاب انعزل؛ لأن هذا عزل معلق بالشرط، وقد وجد الشرط
وإذا قلد السلطان رجلاً قضاء يوم يجوز وتأقت في هذا وإذا قيده بالمكان يجوز ويتقيد بذلك المكان أيضاً.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الصلح» في باب الحكمين وإنه معقول؛ لأنه أنابه فثبت بقدر ما أنابه وللمقلد في هذا التقليد فائدة؛ لأنه عسى يجوز(8/14)
النائب في موضع آخر، ولا يمكنه الخيانة في ذلك الموضع، وربما يكون أقدر على إحضار الخصوم، وتتقيد الأحكام في ذلك الموضع، فعلى هذا لو قلد القاضي أنابه نائبه بمسجد معين لا يكون للنائب أن يقضي في مسجد آخر، وإذا استقضى الصبي، ثم أدرك ليس له أن يقضي بذلك الأمر. في باب الجمعة من صلاة «المنتقى» ، رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله. والعبد إذا استقضى ثم أعتق كان له أن يقضي بذلك الأمر.
والفرق أن العبد أهل حقيقة فيصح تقليده إلا أنه لم يجز حكمه لقيام الرق، فإذا زال الرق بالعتق فقد زال المانع من نفاذ حكمه، فنفذ حكمه من غير تقليد جديد ولا كذلك الصبي، وسيأتي فصل العبد بخلاف هذا في فصل التحكيم إن شاء الله تعالى وفي «فتاوي المنتقى» : سئل عن سلطان مات، واتفقت الرعية على ابن صغير له جعلوه سلطاناً ما حال القضاء والخطباء وتقليده أيامهم، مع عدم ولايته قال ينبغي أن يكون الاتفاق على والي عظيم فيصير سلطاناً لهم، ويكون السلطان في الحقيقة هو الوالي.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله في قاضٍ أو والٍ ارتد عن الإسلام والعياذ بالله، أو عمي، أو فسق، ثم مات أو أبصر أو أسلم، فهو على عمله، وهكذا روى داوود بن رشيد عن محمد رحمه الله، وفي رواية هشام زيادة وهي وإن كان قضى بقضاء في حال فسقه، ثم صلح أبطلته، قال هشام: قلت لمحمد: والي من ولاة المسلمين ولى قاضياً مشركاً يقضي بين المسلمين ثم أسلم، قال: هو قاض على حاله ولا يحتاج إلي توليه ثانية.
وروى هشام عن محمد رحمه الله: النصراني إذا استقضي ثم أسلم لم يجز حكمه.
في «كتاب الأقضية» في باب الحكمين: القاضي إذا ارتد عن الإسلام خرج عن الحكومة، وعن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: لا ينبغي أن يستقضي فاسق ولا مرتشٍ، ولا آكل ربا ولا ينبغي أن يستقضى شارب خمر معاود للشرب ولا صاحب مغنيات، ولا يستقضى ذمي من أهل الذمة، ولا تستقضى المرأة على حال فإن كان ما ذكر في حق المرأة جواب الحكم لا جواب الأولوية، فهذه الرواية مخالفة لظاهر الرواية، وستأتي مسألة المرأة بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا أقر السلطان غلاماً من غلمانه على بلده، وأمره نصب القاضي جاز له نصب القاضي بطريق النيابة من السلطان، ويصير نصب الغلام بأمر السلطان كنصب السلطان بنفسه، وإذا قال الخليفة لوالي بلدة (مذكراً في ما بدت قضاء تقليدكن وعن مئة قلد من شئت صح، ولو قال كسرى قضاء تقليدكن وعرهية قلد أحداً لا يصح) .
وهو نظير الموكل إذا قال للوكيل وكل من شئت صح، ولو قال: وكل أحداً لا يصح وإذا قال السلطان لأمير من أمرائه فلان ولاية بنود آدم أو قال تراد آدم لا يملك تقلد القضاء لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام في المتعارف تفويض الأمور الشرعية، وإنما يراد به(8/15)
تفويض الأمور الحسية وتخليص أموال تلك البلدة من الجنايات وغير ذلك، وإن جعله أميراً على بلدة وجعل خراجها له فأطلق له التصرف في الشرعية على العموم كما تقتضيه الإمارة، فله أن يقلده وأن يعزل لأنه لما فوض إليه أمور هذه البلدة مطلقاً، أو على الأمور فقد قام مقام السلطان فكان له أن يقلد، وأن يعزل كالسلطان وههنا دقيقة مروية عن أبي يوسف رحمه الله تأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل.
وإذا قال السلطان لرجل: جعلتك قاضياً ولم يعين بلدة وللسلطان بلاد كثيرة لا شك أنه لا يصير قاضياً على البلاد كلها وهل يصير قاضياً على البلدة التي هو فيها؟ فقد قيل لا يصير وقيل يصير وهو الأظهر والأشبه.
وإذا اجتمع أهل بلدة على رجل وجعلوه قاضياً يقضي فيما بينهم لا يصير قاضياً، ولو اجتمعوا على رجل وعقدوا معه عقد السلطنة أو عقد الخلافة يصر خليفة وسلطاناً.
وإذا قلد السلطان رجلاً قضاء بلدة واستثنى من ذلك خصومة رجل بعينه لو استثنى نوعاً من أنواع الخصوم صح التقليد والاستثناء ولا يصير قاضياً في المستثنى وهذا لأن التقليد إنابة فإنما يثبت بقدر ما أناب، وعلى هذا إذا قال السلطان للقاضي لا تسمع خصومة فلان حتى أرجع من سفري، لا يجوز للقاضي أن يسمع خصومته قبل رجوع السلطان عن السفر ولو سمع وقضى لا ينفذ قضاؤه، لأنه أخرج خصومة فلان عن ولايته في الانتهاء فيعتبر بما لو أخرجها في الابتداء بالاستثناء، وذلك صحيح فهاهنا كذلك.
السلطان إذا قال لرجل جعلتك قاضياً فليس له أن يستخلف إلا إذا أذن له بذلك صريحاً، ولو قال له جعلتك قاضي القضاة فله أن يستخلف، وإن لم يأذن له بذلك صريحاً لأن قاضي القضاة هو الذي يتصرف في القضاء عزلاً وتقليداً.
وكان القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي يقول إذا كتب السجل من الحاكم ينبغي أن يكتب فيه خليفة الحاكم، من قبل فلان وفلان مأذون بالاستخلاف بحكم المثال الصحيح من جهة فلان.
إذا قال السلطان لرجل جعلتك نائبي في القضاء بشرط أن لا ترتشي ولا تشرب الخمر ولا تميل أمر أحد على خلاف الشرع فالتقليد صحيح والشرط صحيح، وإذا فعل شيئاً من ذلك لا يبقى قاضياً لأن تقدير هذا الكلام أنت نائبي ما دمت لا تشرب ولا ترتشي ولا تميل أمر أحد على مخالفة الشرع، فهذا تقليد مؤقت معنى، ومثل هذا التقليد صحيح، فإذا وجد الوقت ينتهي التقليد.
السلطان إذا قال: قلدت قضاء بلدة كذا زيداً، أو عمرواً لا يصح؛ لأن هذا تقليد للمجهول المرأة فيما تصلح شاهدة تصلح قاضية، لأن القضاء من باب الولاء كالشهادة ذكره الخصاف في «أدب القاضي» في باب القاضي يستخلف رجلاً وما يجوز له من ذلك.
إذا وقع القضاء، في حادثة بحق، فأمر السلطان القاضي أن يسمع تلك الحادثة ثانياً بحضرة فلان لا يفترض على القاضي ذلك، لأنه لا فائدة فيه.
أهل البغي إذا غلبوا على بلاد أهل العدل، فالقضاة قضاة على حالهم ما لم يعزلهم(8/16)
الباغي، فإذا عزلوهم خرجوا عن القضاء حتى لو انهزم البغاة بعد ذلك، لا ينفذ قضاؤهم ما لم يقلدهم سلطان أهل العدل (66ب4) ثانياً، لأن الباغي صار سلطاناً بحكم القهر ألا ترى أن تقلد القضاء منه يجوز، فيصح العزل منه.
السلطان إذا قلد رجلاً قضاء بلدة لها قاض، ولم يعزل الأول صريحاً، إن قيل ينعزل الأول فله وجه؛ لأن تقليد قاضيين في مصر واحد غير معتاد، فيضمن تقليد الثاني عزل الأول، فإن قيل لا ينعزل الأول، فله وجه وهو الأظهر والأشبه؛ لأنه لا تنافي بينهما.
ألا ترى أن السلطان من الابتداء لو قلد رجلين قضاء بلدة يجوز وللسلطان أن يعزل القاضي، ويستبدل مكانه آخر لرتبة، ولغير رتبة؛ لأن للسلطان ولاية عامة، فيملك التقليد والصرف في أي زمان أراد، وقد صح عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا يترك القاضي على القضاء أكثر من سنة؛ لأنه لا يتفرغ للتعليم والتعلم حال اشتغاله بالقضاء، فنسى العلم.
السلطان إذا عزل قاضياً لا ينعزل ما لم يصل إليه الخبر حتى لو قضى بقضايا بعد العزل قبل وصول الخبر إليه، جازت قضاياه، وهو نظير الوكيل إذا عزل لا ينعزل قبل وصول الخبر إليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله، أنه لا ينعزل، وإن لم يعزله حتى يقلد غيره مكانه، ويقدم صبيانه لحق العباد، واعتبره بإمام الجمعة إذا عزل، وهذا إذا حصل العزل مطلقاً، فأما إذا حصل العزل مطلقاً بشرط وصول الكتاب إليه لا ينعزل ما لم يصل إليه الكتاب، علم بالعزل قبل وصول الكتاب إليه، أو لم يعلم، ورواية أبي يوسف ستأتي ها هنا، وإذا مات الخليفة وله قضاة وأمراء وولاة، فهم على حالهم قضاة وأمراء وولاة، رواه هشام وداود بن رشيد عن محمد، وليس هذا كالوكالة.
إذا عزل السلطان القاضي انعزل نائبه بخلاف ما إذا مات القاضي حيث لا ينعزل صاحبه، هكذا قيل، وينبغي أن لا ينعزل النائب بعزل القاضي؛ لأنه نائب السلطان، أو نائب العامة، ألا ترى أنه لا ينعزل بموت الخليفة، وعليه كثير من المشايخ، وإذا عزل السلطان نائب القاضي لا يعزل القاضي.
الفصل السادس: فيه بعض التقليد وما يقع لمقاضي نفسه وحكم الأمراء
قال أبو حنيفة رحمه الله إذا غلب الخوارج على بلدة، واستقضوا عليها قاضياً من أهل البلدة ليس من الخوارج، ثم غلب عليهم أهل العدل يمضي قاضي أهل العدل من قضاياه، كل ما تخالف فيه الفقهاء، قال محمد رحمه الله: ولا يجوز قضاء أهل الخوارج، وشهادتهم علل وقال لأنهم إذا اخرجوا فقد استحلوا دماءنا وأموالنا.(8/17)
وفي «أدب القاضي» للخصاف: إذا كان القاضي من أهل البغي لا تنفذ قضاياه، وأشار في كتاب الأقضية إلى أنه تنفذ قضاياه، فإنه قال: هو بمنزلة فساق أهل العدل، وقد ذكرنا أن الفاسق يصلح قاضياً على أصح الأقاويل، وفي «واقعات الناطفي» الإمام إذا لم يكن عادلاً فأحكامه جائزة، فإن كثيراً من العلماء تقلدوا الأعمال والقضاء من معاوية مع أنه كان جائراً وكان في الصحابة من هو أفضل منه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» ،: إذا كان الأمير الذي يولى القضاء جائراً لم يجز حكمه ويجوز حكم قضاته وسيأتي عن أبي يوسف رحمه الله ما يؤكد هذا القول، والصواب ما ذكر في «واقعات الناطقي» أن حكم الإمام جائز، وإن كان جائراً السلطان إذا قضى بين اثنين.g
ذكر في «شهادات فتاوي أبي الليث» رحمه الله: قول بعض المشايخ: أنه لا يجوز، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنه يجوز، ومسألة الواقعات التي مرت تشهد لقول الخصاف، والصحيح ما ذكر الخصاف، لأن القاضي استفاد الولاية من جهة السلطان وتقلد القضاء منه، فمن المحال أن ينفذ من القاضي ولا ينفذ من السلطان.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: الأمير إذا كان يولى القضاء من قبله، فيقضي ذلك الأمير، أو كتب إلى القاضي فهو جائز إذا كان عدلاً، وإذا كان جائراً فلا، فهذه الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تؤكد ما ذكر الخصاف من نفاذ قضاء الأمير، ويؤكد ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» من عدم جواز حكم الأمير إذا كان جائراً، وإذا كان القاضي من قبل الخليفة لا من قبل الأمير، فليس للأمير أن يقضي، ولو قضى لا ينفذ قضاؤه.
قال هشام رحمه الله سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا كان القاضي من الأصل يعني من الخليفة ثم مات، فليس للأمير أن يولي قاضياً، وإن كان أمير عشرها وخراجها؛ لأنه قد عزل عنه الحكم، حيث كان القاضي من الأصل، وإن حكم هذا الأمير لم يجز حكمه وكذلك إن ولي هذا الأمير قاضياً من قبله لم يجز حكمه، وإن جاء هذا القاضي الذي ولاه هذا الأمير كتاب الخليفة إليه من الأصل لا يكون ذلك إمضاء للقضاء، وإذا كان للقاضي خصومة على إنسان، أو كان لغيره عليه خصومة، فترافعا إلى خليفة هذا القاضي، فقضى للقاضي أو عليه، اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز، وجه هذا القول أن خليفة القاضي ليس بنائب عن القاضي، ليصير حكم الخليفة كحكم القاضي بل هو نائب عن الله، أو عن جماعة المسلمين، ألا ترى أنه لا ينعزل بموت القاضي؟ فيجوز حكمه له وعليه.
وقد صح أن علياً رضى الله عنه قلد شريحاً رضى الله عنه، وخاصم عنده في حادثة، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» لو أن قاضياً قضى للإمام الذي ولاه بقضية، أو قضى عليه جائز ذلك، وكذلك لو قضى لولد الإمام أو والده أو زوجته، وكذلك قاضي القضاء لو خوصم إلى قاضي ولاه، فقضى له أو عليه جاز، وكذلك لو أن الإمام ولى قاضياً على مثل خراسان والمروان، فولى قضاة على الكور، ففعل ثم خاصم القاضي إلى(8/18)
بعض من ولاه فقضاؤه جائز له وعليه، وسيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل ما يؤكد هذا القول.
والذي يشهد للقول الأول ما ذكر هشام في «نوادره» قال سألت محمداً رحمه الله عن قاض وجب له الشفعة قبل رجل فلم يعطها إياه، وجحد، والوالي الذي في بلاده ليس بمن يولي القضاء، كيف يصنع؟ قال: ينبغي للوالي أن يقول لهما: اختارا رجلاً يحكم بينكما، قلت: فإن أبى الرجل ذلك أجبره عليه قال: نعم، فقد أشار محمد رحمه الله إلى التحكيم في هذه الصورة، ولو صار حكم الخليفة للقاضي لا حاجة إلى التحكيم.
قال هشام: سألته عن قاضي البلدة إذا مات وواليها ممن لا يولى القضاء أيجبر الخصوم على رجل يحكم بينهم؟ قال: أما كل شيء يحتاج فيه إلى أن يرجع المقضي عليه إلى آخر فلا يجوز، ولا يجبر عليه، وأما ما كان من قرض، أو غصب يجبر عليه.
وفي «المنتقى» : إذا خاصم ابن القاضي غيره إليه، أو خاصم غيره ابنه إليه ينظر فيه، فإن توجه القضاء على ابنه يقضي على ابنه، وإن توجه لابنه تركهما، ويقول لهما: اختصما إلى غيري.
الفصل السابع: في جلوس القاضي ومكان جلوسه
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» قال أبو حنيفة: وينبغي للقاضي أن يجلس للحكم في المسجد الجامع وبين المعنى، فقال: لأنه أشهر المجالس، ومعناه أنه في المصر الغرباء وأهل البلدة، فينبغي أن يختار للجلوس موضعاً هو أشهر المواضع، حتى لا يخفى على أحد مجلسه، والمسجد الجامع في كل موضع أشهر المواضع، قال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: هذا إذا كان المسجد الجامع في وسط البلدة؛ كيلا يلحق بعض الخصوم زيادة مشقة بالذهاب إلى طرف البلدة، وإن جلس في مسجد حيه فلا بأس به، هكذا روي عن بعض السلف أنهم يجلسون في مسجد حيهم.
وكذلك إن جلس في بيته لا بأس به، قال فخر الإسلام: هذا إذا كان مسجد حيه أو بيته في وسط البلدة، ويختار مسجد السوق؛ لأنه أشهر، قال الخصاف في «أدب القاضي» : أيضاً وإذا دخل المسجد لا بأس بأن يسلم على الخصوم فقد صح أن شريحاً رضي الله عنه كان يسلم على الخصوم وهذا، لأن السلام سنة متبعة، والقاضي (67آ4) بسبب قضائه لا يمتنع عن سائر السنن كصلاة الجنازة، وعيادة المريض، فكذا عن هذه السنة، والمراد من السلام المذكور التسليم العام، ولا ينبغي له أن يسلم على أحد الخصمين؛ لأن الذي سلم عليه القاضي قد يجترئ على صاحبه فيطمع الجور في القاضي.
واختلف المشايخ في التسليم العام، ذكر الخصاف رحمه الله أنه لا بأس به وبعض(8/19)
مشايخنا قالوا عليه أن يسلم؛ لأن السلام سنة متبعة، ولا يجوز ترك السنة لأجل العلم، وهذا القائل يقول: إن الأمير والوالي إذا دخل المسجد، فالأولى أن لا يسلم لما قلنا، وإذا دخل المسجد، وجلس ناحية منه لفصل الخصومة، لا ينبغي له أن يسلم على الخصوم، ولا ينبغي للخصوم أن يسلم عليه أما لا ينبغي له أن يسلم، لأنه إنما جلس لفصل الخصومة فينبغي أن يشتغل بما جلس له لا بغيره، ولأن القاضي جالس، والسنة في السلام أن يسلم القائم على الجالس، والماشي على القائم، والراكب على الماشي، وأما لا ينبغي للقوم أن يسلموا عليه لأن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما تقدموا إليه لأجل الزيارة، إنما تقدموا إليه لأجل الخصومة، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
وبعض مشايخنا يقيسون الأمراء والولاة على القضاة، فقالوا: هم لا يسلمون على الرعية، والرعية لا يسلمون عليهم، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: والصحيح هو الفرق بين القضاة والأمراء والولاة، والرعية يسلمون على الأمراء والولاة، والخصوم لا يسلمون على القضاة، والفرق وهو أن القاضي ما جلس للزيارة، والخصوم ما تقدموا إليه لأجل الزيارة والسلام تحية الزائرين فلا يسلمون عليه لهذا، وأما الأمراء والولاة يجلسون للزيارة لا لفصل الخصومات، والناس يدخلون عليهم لأجل الزيارة، فيسلمون عليهم لما ذكرنا أن السلام تحية الزائرين، فعلى قول هذا لو جلس الأمير لفصل الخصومة لا يسلمون عليه، ولو جلس القاضي لزيارة الناس يسلمون عليه، ولو سلم الخصوم على القاضي بعد ما جلس ناحية من المسجد لفصل الخصومات، فلا بأس بأن يرد عليهم السلام، هكذا ذكر الخصاف، وهذا إشارة إلى أنه لا يجب عليه رد السلام، وهذا لأن الرد جواب السلام، والسلام إنما يستحق الجواب إذا كان في أوانه، أما إذا كان في غير أوانه فلا.
ألا ترى أن من سلم على المصلي لا يستحق الجواب، وإنما لا يستحق لما قلنا حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: من جلس لنفع تلامذته فدخل عليه داخل وسلم، وسعه أن لا يرد، لأنه إنما جلس للتعليم لا لرد السلام فلا يكون السلام في أوانه، وإذا جلس القاضي لفصل الخصومات ينبغي أن يقيم بين يديه رجلاً يمنع الناس عن التقدم بين يديه في غير وقتها، ويمنعهم عن إساءة الأدب، ويقال له صاحب المجلس، وله أسامي الشرطي، والعريف، والحلوان.
وينبغي أن يكون معه سوط؛ لأنه يحتاج إلى تأديب السفهاء، والتأديب عادة يكون بالسوط، وقد كان لرسول الله عليه السلام قضيب يأخذ بيده، وكان ذلك القضيب معه إلى أن توفي عليه السلام، ثم صار القضيب في يد أبي بكر رضي الله عنه، ثم صار في زمن عمر رضي الله عنه الدرة، ثم صار بعده السياط.
وينبغي أن يكون أميناً لأن مجلس القاضي بحضرة النسوان، فيؤدي إلى الفتنة لو لم يكن أميناً، وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يرتشي، فلا يميل إلى بعض الخصوم، ولا يترك إذا أساء الأدب.
وإذا جلس الخصمان بين يدي القاضي، ورأى القاضي أن يأمر صاحب المجلس(8/20)
ليقوم معدتيه حتى لا يعرف ما يدور بين الخصمين وبين القاضي، ولا يعلم به أحد الخصمين ولا يلق شيئاً فعل ذلك، وإن كان ثقة مأموناً، فتركه بقرب منه، فلا بأس والقاضي أن القاضي يعمل ما فيه النظر والاحتياط في أمور الناس، ولا ينبغي لهذا الرجل أن يسار لأحد الخصمين، لأنه ربما يتهم الخصم الآخر أنه واضعه على شيء، فيجر بذلك تهمة إلى القاضي، وينبغي للقاضي إذا تقدم إليه الخصمان أن يسوي بينهما في النظر، والمجلس فيجلسهما بين يديه، لأن القاضي مأمور بالعدل والإنصاف بين الخصوم وعين العدل التسوية بينهما في المجلس إذا أجلسهما بين يديه، لأنه إذا لم يجلسهما بين يديه أما إن أجلسهما من جانب واحد وفيه تفويت التسوية، لأن أحدهما يكون أقرب إلى القاضي، وأما إن أجلس أحدهما من جانب، والآخر من جانب وفيه تفويت التسوية أيضاً؛ لأن لليمين فضلاً على الشمال.
وفي «النوازل» : رجل خاصم السلطان إلى القاضي، فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، والخصم على الأرض ينبغي للقاضي أن يقوم من مكانه، ويجلس خصم السلطان فيه، ويقعد على الأرض، ثم يقضي بينهما حتى لا يكون مفضلاً أحد الخصمين على الآخر، وهذه المسألة دليل على أن القاضي إذا وقع له خصومة، أو عليه لا بأس أن يحكم فيه خليفته، وقد صح أن يهودياً ادعى على الرشيد دعوى في زمن أبي يوسف بين يدي أبي يوسف، وقد سمع أبو يوسف رحمه الله خصومتهما، وقضى على الرشيد، وإنه دليل على دليل القول أيضاً.
وحكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه كان يقول: إذا وقع الدعوى بين الرجل وابنه ينبغي أن يسوي بينهما في المجلس، لأن الدليل الموجب للتسوية لا يوجب الفضل بين خصم وخصم، وينبغي للخصمين أن يجثوا بين يدي القاضي، أو صاحب مجلسه تعظيماً للحكم، كما يجلس المتعلم بين يدي المعلم تعظيماً للمعلم.
وينبغي للقاضي أن يسوي بينهما في النظر، ولا ينظر إلى أحدهما دون الآخر؛ لأن نظره إلى أحدهما إن كان نظر شفقة ورأفة، فقد مر تهمة الميل إلى نفسه، وإن كان نظر هيبة ينكر، قلت: المنظر فعسى يذهب ويترك حقه، فيكون القاضي هو المضيع لحقه، وكذلك لا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما؛ لأنه ينكسر قلب الذي رفع صوته عليه، لأنه يجر به تهمة الميل إلى خصم الآخر، وكذلك لا ينبغي له أن يطلق بوجهه إلى أحدهما في شيء من المنطق ما لا يفعل ما لآخر مثله لما ذكرنا.
وكذلك لا ينبغي له أن يسأل على أحدهما، ويلقنه حجته، لأنه مكسرة لقلب الخصم الآخر، وسبباً لتهمة الميل.(8/21)
والحاصل: أن القاضي مأمور بالتسوية فيما يقدر على التسوية وفيما في وسعه، وكل شيء يقدر على التسوية بينهما فيه لا يعذر تركها فيه، وما لا يقدر على التسوية فيه لا يؤاخذ بترك التسوية فيه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي في القسم بين نسائه وكان يقول: «هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يعني: بميل القلب إلى عائشة رضى الله عنها.
قال صاحب «الأقضية» : وينبغي أن يكون جلوسهما بين يدي القاضي على قدر ذراعين، أو نحو ذلك بحيث يسمع كلامهما من غير أن يرفع أصواتهما، وهذا لأن القاضي لا يمكن من القضاء بحق على الوجه الذي أمر إلا بعد سماع كلامهما، والخصوم نهوا عن رفع الصوت بين يدي القاضي لما فيه من إسقاط حشمته، فقدرنا موضع جلوسهما بما قدرنا ليتمكن القاضي من القضاء على الوجه الذي أمر من غير أن يكون إسقاط حشمته وهيبته.
وينبغي للقاضي إذا جلس في المسجد أن يسند ظهره إلى المحراب، وكان الرسم في زمن الخصاف وغيره أن يجلس مستقبلاً القبلة بوجهه، ورسم زماننا أحسن؛ لأن القاضي إذا جلس مستقبل القبلة كان القوم والخصوم بين يده مستدبرة في القبلة، وإذا أسند القاضي ظهره إلى المحراب كان الخصوم والقوم بين يديه مستقبل القبلة، ويقف أعوان للقاضي بين يدي القاضي ليكون أهيب في أعين الناس، ويجب أن يكون قيامهم بعيد من القاضي حتى لا يسمعوا ما يدور بين القاضي وبين من تقدم إليه من الخصوم، ولا يعرفون رأي القاضي في بعض ما يقع لهم من المسائل، ولا يحتالون لإبطاله ويجلس كاتبه ناحية منه بحيث يراه حتى إذا احتاج إليه كان قادراً عليه (67ب4) ولأنه إذا كان يراه لا يخشى منه الزيادة والنقصان في الكتابة.
قال الخصاف في «أدب القاضي» : وإذا جلس القاضي للقضاء فلا بأس بأن يجلس مع نفسه من يثق بدينه، وأمانته وفقهه في مجلس الحكم قريباً منه، بحيث يسمعون كلامه وكلام من يحضره من الخصوم.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: ينبغي للقاضي أن ينظر لنفسه وإن كان رأى رجلاً حيياً، ورأى جلوسه بانفراده أحسن لنفسه لا يجلس مع غيره؛ لأن الرجل إذا كان حييّاً ربما يحتشم ممن معه فينقطع، ويعجز عن أدراك الصواب، ولا يتبين له الحق لحيائه وحشمته ممن معه، وإذا كان معه يكون مجتمع الرأي يدرك الصواب، ولا يغيب عنه الصواب فإذا كان هكذا فالأصل أن لا يجلس معه غيره، وإن كان جريء القلب غريم الصواب والنصرة، فلا بأس بأن يجلس معه قوماً من أهل العلم والرأي والتدبير لمنافع.
أحدها: أن يكون أعظم لأمر القضاء وأهيب في أعين الناظرين.(8/22)
والثاني: أنه إذا اشتبه إليه شيء يشاورهم وإذا أشكل عليه شيء سألهم.
والثالث: أنه إذا ضل يرشدونه وإذا زل ينبهونه، وقد جاء على هذا أثار من الصحابة والتابعين، ثم شرط الخصاف في الذي جلس مع القاضي الأمانة والديانة والفقه، أما اشتراط الأمانة، والديانة؛ فلأن مجلس القضاء يحضره الشبان من النسوان فلو لم يكن أميناً متديناً ربما يمكن فيه فساد، وأما الفقه فلأن المقصود من إجلاس غيره معه المشورة وإصابة الحق واستخراج الحكم، وإنما يحصل من الفقيه لا من غيره.
قال الخصاف: ولا ينبغي للقاضي أن يشاورهم بمحضر من الخصوم، حتى لا يقع في قلب من كان جاهلاً أن القاضي لا يدري ويسأل عن غيره فيذهب حرمته وماء وجهه، ثم إذا تقدم إليه الخصمان سأل المدعي دعواه هكذا ذكر الخصاف وصاحب كتاب «الأقضية» أبو جعفر رحمه الله.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: ليس للقاضي أن يسأل المدعي عن دعواه، لأن فيه تهيج الخصومة، والقاضي نصب لقطع الخصومة لا لتهييجها، ولكن يسكت ويستمع ما ادعاه المدعي، وبعضهم قالوا يسأل وبه أخذ الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وهذا لأن مجلس القضاء مجلس هيبة وحشمة، فمن لم ير مثل هذا المجلس يتحير وعسى يعجز عن بيان دعواه، فينبغي للقاضي أن يسأل ولو نسبه لكلامه حتى يقدر على بيان دعواه، وهكذا ذكر في «محاضر ابن سماعة» وهكذا ذكر في «المنتقي» .
وروي عن محمد رحمه الله: إن القاضي بالخيار إن شاء سأل وإن شاء سكت، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله أن على قول أبي يوسف رحمه الله القاضي يسأل، وعلى قول محمد رحمه الله لا يسأل بل يسكت، ثم إذا سأله أو لم يسأله ولكن ادعى بنفسه سأل القاضي المدعى عليه عن دعوى المدعي في صحيفة وينظر فيه، أصحيح هو أو فاسد؟ فإن كان فاسداً لا تقبل على المدعى عليه؛ لأن الدعوى إذا لم تكن صحيحة لا يتوجه الجواب على المدعى عليه، ولكن يقول للمدعي قم فصحح دعواك هكذا ذكر الخصاف في موضع من «أدب القاضي» .
وذكر في موضع آخر أن القاضي لا يقول له ذلك، وبه أخذ بعض مشايخنا رحمهم الله، لأن هذا من القاضي تلقين، ولكن يقول له: دعواك هذه فاسدة، فلا يلزمني سماعها وهذا ليس تلقين بل هو فتوى بالفساد، وإنما يقول له: إن دعواك فاسدة؛ لأنه لو لم يقل له ذلك ربما يتهمه المدعي بالميل إلى خصمه حيث لم يقبل عليه، ولم يسأل الجواب فيبين ذلك، ليعلم المدعي أنه إنما لم يسأله؛ لأن السؤال لم يكن مستحقاً عليه، وإن كانت دعواه صحيحة فالقاضي يسأل المدعي عليه ويقول له: إن خصمك ادعى عليك كذا أو كذا فماذا تقول هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» .
وفيه اختلاف المشايخ على نحو ما ذكرنا في جانب المدعي فإن عند بعض المشايخ لا يسأله القاضي الجواب، حتى لا يكون تلقينا، ولكن ينظر إليه ليأتي بالجواب ثم إذا(8/23)
سمع جواب المدعى عليه كتب جوابه في قرطاس، أو أمر الكاتب أن يكتب ذلك بين يديه: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان يوم كذا بكذا ليلة خلت من شهر كذا من سنة كذا فأما الكتابة ليقع الأمن عن الزيادة والنقصان في جواب المدعى عليه، فيمكن الرجوع إليه عند مساس الحاجة، ولأجل ذلك قال: يكتب الكاتب بين يدي القاضي حتى يقع الأمن عن الزيادة والنقصان من الكاتب وأما كتابة التاريخ فلأن المدعي عليه، ربما يأتي بالدفع والحكم فيه يختلف، بينما قبل الدعوى، وبينما بعد الدعوى.
ثم إن كان القاضي يعرف المدعى عليه والمدعي أثبتهما في رقعه معروفة، وكتب حضر فلان وأحضر معه فلاناً وإن لم يعرفهما أرسل الكتابة إرسالاً وكتب حضر رجل ذكر أنه فلان بن فلان، ينسبه إلى أبيه وجده أو إلى مواليه فكتب ذكر أنه مولى فلان بن فلان فإن كان له تجارة أو صناعة يعرف بها ينسبه إليها زيادة في التعريف، وكذلك بحملة زيادة في التعريف ولكن يحليه بما يره لا بما يشبه، وأحضر رجلاً ذكر أنه فلان على نحو ما بينا في جانب المدعي ثم يكتب فادعى فلان بن فلان يعني المدعي، ثم يكتب فادعى فلان بن فلان يعني المدعي الذي حضر على فلان بن فلان يعني المدعى عليه، الذي أحضره معه كذا وكذا يكتب دعواه من غير زيادة ونقصان، ثم يكتب، فسأل القاضي المدعي عليه فلان بن فلان عما ادعي عليه فلان بن فلان من الدعوى الموصوفة في هذا الكتاب، فإن كان قد أقر به كتب إقراره، وإن كان قد جحد يكتب جحوده، ليعلم بعد ذلك أنه هل ينبغي له أن يسمع البينة عليه أم لا، وينبغي أن يكتب الجحود بلفظه، ولا يحوله إلى لسان العربية إلا إذا أمكنه أن يحوله من غير زيادة ونقصان، ومن غير أن يدخل فيه كلمة مبهمة مشتركة، فإن الجحود يختلف حكمه باختلاف أنواعه.
فإن في الوديعة لو جحد الإيداع أصلاً ثم ادعى الرد أو الهلاك لا تسمع دعواه، ولو قال: ليس علي تسليم ما ادعيت ولا قيمتها ثم ادعى الرد أو الهلاك لا تسمع دعواه، فكتب عبارته بلسانه من غير زيادة ونقصان حتى يبني عليه حكمه، وهذا الذي ذكرنا رسم قضاة ديار الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وعرف زماهما والقضاة في زماننا على رسم أحسن من هذا، فإن المدعي في زماننا ما في كاتب باب القاضي حتى يكتب دعواه في بياض، وكتب حضر القاضي يكتب اسم القاضي الذي ترفع إليه الحادثة، ويترك موضع التاريخ، ثم يكتب اسم المدعي، ونسبه ويكتب اسم المدعى عليه ونسبه ويكتب دعواه بشرائطه، ثم يترك موضع الجواب، فإذا جلس المدعي ووكيله للخصومة يدعى وكيله من ذلك الكتاب، ويسأل القاضي المدعى عليه الجواب عن دعواه، فإذا أجابه بالإقرار أو بالإنكار دفع البياض إلى القاضي حتى يكتب التاريخ في أوله والجواب في آخره، بعبارة المدعى عليه، ثم إن كان الجواب بالإقرار أمره القاضي بالخروج عن عهده بالقرينة، وإن كان بالجحود فالقاضي يقول للمدعي: إن خصمك قد جحد دعواك فماذا تريد؟.
هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وهو اختيار بعض المشايخ وإنه(8/24)
على الاختلاف، فإن قال المدعي: حَلِّفه فالقاضي يقول للمدعي: ألك بينة على ما هو رأي الخصاف وصاحب كتاب الأقضية، وهو قول بعض المشايخ فإن قال: لا حلف القاضي المدعي عليه، وإن قال نعم لي بينة فالقاضي يأمر بإحضارها، ويكتب أسماء الشهود وأنسابهم وحلاهم ومحالهم، أو يأمر الكاتب حتى يكتب ذلك فإذا أحضر المدعي شهوده يكتب الكاتب لفظ شهادتهم (67آ4) من غير زيادة ونقصان، فإذا جلس الشهود بين يدي القاضي، وجاء أوان الشهادة أخذ للقاضي البياض، وسألهم عن شهادتهم، وإن كتب القاضي لفظ شهادتهم بنفسه فهو أوثق وأحوط، ثم يقلد القاضي لفظ شهادتهم بالدعوى فإن كانت موافقة للدعوى، وعرف القاضي الشهود بالعدالة يقول للمدعي عليه هل لك دفع؟ فإن قال نعم ولكن أمهلني حتى آتي به أمهله.
وإن قال: لا وجه عليه القضاء، وإن لم يعرف القاضي إياهم بالعدالة يتوقف وإن قال المدعي لي بينه حاضرة إلا أني أطلب يمين المدعى عليه، إن قال حاضر في المجلس فالقاضي لا يجيبه ولا يحلف المدعى عليه بالإجماع كذا ذكره القدوري رحمه الله في «شرحه» ، وإن قال حاضره في بلدته، فالقاضي لا يجيبه ولا يحلف المدعى عليه، في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يجيبه وقول محمد مضطرب ذكره القدوري رحمه الله مع قول أبي حنيفة رحمه الله، وذكره الخصاف مع قول أبي يوسف، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله أن القاضي يحلفه في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يحلفه.h
وجه من قال يجيبه، أن المدعي عسى يقدر عليه الوصول إلى حقه بالبينة بأن لا يعدل شهوده، فيجيبه إلى طلب التحليف حتى لا يصير معرضاً لحقه على الهوى والتلف.
وجه قول من قال: لا يجيبه أن القياس يأبى استحقاق اليمين على المدعى عليه، لأنها تستحق بمجرد الدعوى، ومجرد الدعوى لا يصلح سبباً للاستحقاق لكن عرفنا الاستحقاق قريباً على البينة في قصة الخضري والكندي فيبقى الاستحقاق لا بهذه الصفة، على أصل القياس وإذا كانت المسألة مختلفة، فإن كان القاضي لا يرى استحلافه لا يحلفه، وإن كان يرى استحلافه يحلفه وإذا حلفه، وحلف وطلب من القاضي أن يعطيه رقعة أن فلاناً ادعى على فلان كذا وحلفه وحلف حتى لا يقدمه إلى هذا القاضي ثانياً، أو إلى قاض آخر، فيحلفه مرة أخرى، أعطاه نظراً له والقاضي بالخيار إن شاء كتب ذلك في رقعة على حدة وإن شاء كتب ذلك في البياض الذي كتب فيه الدعوى والإنكار، وكتب فيه التاريخ وأعطاه.
ثم الدعوى لا تخلو أما أن تقع في العين، أو في الدين فإن وقع الدين والمدعى مكيل، فإنما يصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أي أنه حنطة أو شعير، ويذكر نوعه أنه صيفي أو بري، أو خريفي أو ربيعي، وصفته أنه وسط أو جيد أو رديء، ويذكر الحمراء أو البيضاء في الحنطة، ويذكر قدره فيقول: كذا قفيزاً؛ لأن الحنطة تكال بالقفيز ويذكر بقفيز، كذا لأن القفيزات تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب لأن أحكام الديون(8/25)
تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم لا يجوز الاستبدال به، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء فيه، ليقع التحرر عن موضع الخلاف.
وإن كان من ثمن بيع جاز الاستبدال به، وبيان مكان الإيفاء فيه، ليس بشرط، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم شرائط صحته من أعلام جنس رأس المال ووزنه، إن كان وزنياً وإيفائه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رحمه الله وتأجيل المسلم فيه شهراً، أو أكثر حتى يخرج عن حد الاختلاف، وكذا ما سوى ذلك من شرائط السلم، على ما عرف في البيوع.
ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض إلى حاجته، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يصير ديناً عليه إلا بالاستهلاك، وينبغي أن يذكر في دعوى القرض أيضاً أنه أقرضه كذا من مال نفسه، لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض سفير ومعبّر، ولا يكون له حق الأخذ، ولا حق المطالبة بالأداء، وكذلك في كل سبب من الأسباب يذكر شرائط أيضاً لأن كل أحد لا يهتدي إلى العقد شرائط.
العقد فينبغي أن يبين ذلك للقاضي حتى يتأمل فيه القاضي إن وجده صحيحاً عمل به وإلا رده، وإن كان المدعي به وزنياً يذكر جنسه، فإن كان ذهباً وكان مضروباً، ويذكر كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه نيسابوري الضرب أو بخاري الضرب، أو ما أشبه ذلك، ولم يذكر صفته أنه جيد أوردئ أو وسط، وإذا ذكر البخاري والنيسابوري لا يحتاج إلى ذكر الأحمر، لأن البخاري أو النيسابوري لا يكون إلا حمراء، ولا بد من ذكر الجيد، عليه عامة المشايخ.
وفي «فتاوي النسفي» : إذا ذكر أحمر خالص كفى ولا يحتاج إلى ذكر الجيد، ولا بد أنه يبين أن من ضرب أي والي عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوتاً، وبعضهم لم يشترطوا ذلك، وأنه أوسع، ويذكر المثقال مع ذلك، فإن الدنانير توزن بالمثقال، ويذكر نوع المثقال؛ لأن مثاقيل البلدان مختلفة، وإن لم يذكر مضروباً لا يذكر كذا ديناراً بل يذكر مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش تذكر كذلك، وإن كان فيه غش ذكر ذلك أيضاً نحو والده نوصي أوده متى والده شتى، أو ما أشبه ذلك.
فإن كان المدعي به نقرة، وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليه، وصفتها أنها جيد أو وسط أو رديئة، وكذا ذكر قدرها كذا درهماً وزن سبعة؛ لأن وزن الدراهم مختلف باختلاف البلدان، والذي في ديارنا وزن سبعة، وهو الذي كل عشرة منها يزن سبعة مثاقيل، وإن كانت فضة غير مضروبة ذكر فضة خالصة من الغش، إن كانت خالية من الغش، ويذكر نوعها نقرة كليخة أو نقرة طمغاجي، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسط أورديء، ويذكر قدرها كذا كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا كذا طمغاجي كفى، ولا يحتاج إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعي به دراهم مضروبة والغش فيها غالب فإن كان يعامل بها وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً، ومنها أشياء أخر تأتي في كتاب «الدعوى» إن شاء الله.
وإن كان الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو هالك، ففي الحقيقة(8/26)
الدعوى في الدين وهو القيمة فيشترط بيان القدر والصفة والنوع والجنس على ما بينا.
وإن كان قائماً فإن كان بحال يمكن إحضار مجلس الحكم، فلا بد من الإحضار مجلس الحكم، ولا بد من الإشارة إليه في الدعوى والشهادة، وستأتي المسألة مع فروعها في كتاب الدعوى إن شاء الله.
وإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً، أو صار به لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بين الجنس والصفة والقيمة، فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة بأن لم يعلم قيمته أشار في عامة الكتب إلى أنها مسموعة.
فإنه ذكر في كتاب الرهن: إذا ادعى على رجل آخر أنه رهن عنده ثوباً، وهو ينكر قال تسمع دعواه، وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه، وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول ما ذكر في الكتاب هذا.
وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل المسألة أن الشهود على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصب الجارية بإقراره في حق الحبس والقضاء جميعاً، وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الحبس، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه.
قال فخر الإسلام علي رحمه الله، إذا كان المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ما له، فلو كلفه بيان القيمة فقد أضر به، أو تعذر عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب.
وإن وقع الدعوى في العقار، فلا بد من ذكر البلدة التي فيها الدار المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة بدأ بالأعم وهو البلد ثم بالأخص، وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم: يبدأ بالأعم، وقال بعضهم: يبدأ (68ب4) بالأخص وعند أهل العلم له الخيار إن شاء بدأ بالأعم، وإن شاء بدأ بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، فلا بد من ذكر حدود الدار بعد هذا.
قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظتين على السواء أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف للدار المدعى به باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له غاية، فإن ذكر الحدين لا يكفي في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه وكذلك في الشهادة(8/27)
إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة إذا قبلت شهادة الشهود، قال الخصاف في «وقفه» : أجعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث، حتى ينتهي إلى مبتدأ الجزء الأول أي بإزاء الحد، الأول وإن ذكر المدعى الحدود الأربعة وأخطأ في واحد منهما لا تقبل شهادتهم عندنا، خلافاً لزفر رحمهم الله وزفر رحمه الله قاس ترك ذكر أحد الحدود بوقوع الغلط، ونحن فرقنا بينهما، والفرق أن بالغلط يختلف المدعى به، وبالترك لا تختلف دعواه والله أعلم.
الفصل الثامن: في أفعال القاضي وصفاته
قال صاحب «الأقضية» : وأكره للقاضي أن يفتي في القضاء للخصوم، وهذا فصل اختلف فيه العلماء، قال بعضهم: لا يفتي في مجلس القضاء أصلاً كيلا يشغله ذلك عن سماع الخصومات، وقال بعضهم يفتي في العبادات، ولا يفتي في المعاملات، مجلس القضاء وغيره في ذلك على السواء، وهذا لأنه لو أفتى في المعاملات، فالناس يقفون على رأيه في المعاملات، فيشغلون بالتلبيس فيما يقع بينهم من المعاملات والخصومات، فيصير القاضي كالملقن والمعلم لهم، وهذا المعنى لا يتأتى في العبادات، وبعضهم قالوا: يفتي في المعاملات، والعبادات جميعاً في مجلس القضاء وغيره، فقد كان رسول الله عليه السلام يفتي، وكذلك الخلفاء بعده.
واتفقوا على أنه لا يفتى للخصوم حتى لا يفتون على رأيه فيشغلون بالتلبيس.
وفي «المنتقى» : الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لا ينبغي للقاضي أن يفتي في شيء من أمر الخصومات، ولا يفتي أحداً يرى أنه من قبل خصم يخاصم إليه، وإن كان رجل يثق به، وهو لا يخاصم، ولا يتهم أنه يستفتى لخصم يخاصم إليه، فلا بأس بأن يفتيه.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في رجلين تقدما إلى القاضي في أمر، فظن القاضي أنهما إنما تقدما إليه ليعلما ما يقضي به في ذلك، أقامهما من عند نفسه، لأنه نصب لفصل الخصومات لا لتلقين الخصوم وتعليم المخارج.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا ينبغي له أن يبيع ويشتري ليتيم أو ميت مديون؛ لأن ذلك من عمل القضاء، ومباشرته في باب القضاء أنفى للتهمة، وإنما لم يكن له أن يبيع ويشتري في مجلس القضاء لنفسه، لأن البيع والشراء يجري فيهما المماكسة عادة فتذهب حشمة المجلس، ولو باع واشترى لنفسه في غير مجلس القضاء جاز عندنا، فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذلك الخلفاء بعده، والمعنى فيه أن حاجته إلى البيع والشراء بعد تقلد القضاء، كحاجته إليه قبل تقلد القضاء وقبل القضاء ملك البيع والشراء لحاجته فبعد القضاء يملك، ولحاجته أيضاً، ومن المشايخ من قال: إن كان يكفى المؤنة من جهة بيت المال، أو يبيع ويشتري ممن يعلم أنه يحابيه لحشمة(8/28)
القضاء، يكره له أن يبيع ويشتري بنفسه، وإن لم يكن يكفى المؤنة من جهة بيت المال ويبيع ويشتري ممن يعلم أنه لا يحابه لحشمة القضاء، فلا يكره له ذلك.
وأطلق المسألة في «المنتقى» فقال: ولا ينبغي له أن يشتري ويبيع ما دام قاضياً، وينبغي ذلك غيره ممن يثق به، ولا ينبغي له أن يستقرض إلا من صديق له أو خليط له، كان قبل أن يستقرض، ولا يخاصم إليه ولا يتهم أنه تعين خصماً، وكذلك الاستعارة، وتشييع الجنازة ويعود المريض؛ لأن هذه الأشياء من حقوق المسلم على المسلم، قال عليه السلام: «ست من حقوق المسلم على المسلم» ، وذكر من جملتها «أن يشيع جنازته، وأن يعوده مريضاً» وما كان على الإنسان من حق لا يسقط بتقليده القضاء، ولكن لا يطيل مكثه في ذلك المجلس، لأن الذين حضروا مجلسه ينتظرونه، ولا يمكن أحداً من الخصوم يتكلم معه في ذلك المجلس بشيء من الخصومات لأن الخصم الآخر يتهمه.
ولا يقضي وهو غضبان. قال عليه السلام: «لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان» ، واختلف عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: لأنه ينتقم من أحد الخصمين إذا تقدما إليه هكذا، هو العادة أن الإنسان إذا غضب ينتقم ممن يتقدم إليه فيكون ذلك ظلماً منه، وهذا القائل لا يفصل فيما إذا كان وجه القضاء بيناً، وبينما إذا لم يكن بيناً، وإطلاق الحديث يشهد لهذا القائل.
وبعضهم قالوا: بسبب الغضب يتفرق رأيه، فتشتبه عليه جهة الصواب، وهذا القائل يفصل بينما إذا كان وجه القضاء بيناً، وبينما إذا لم يكن وجه القضاء بيناً، لأن وجه القضاء إذا لم يكن بيناً يحتاج فيه إلى التأمل، والاجتهاد فيه مرة يفرق الرأي، بخلاف ما إذا كان بيناً، لأنه لا يحتاج فيه إلى التأمل والاجتهاد وهذا القائل يقول: بأن الحديث محمول على ما إذا لم يكن وجه القضاء بيناً.
وكذلك لا يقضي إذا دخله نعاس؛ لأن الذي دخله نعاس لا يفهم ما يذكر عنده، فلا يدري بأيّ شيء يقضي.
ولا يقضي وهو جائع أو عطشان، لأن الجوع يقطع الرأي، والعطش كذلك فيشتبه عليه جهة الصواب، قالوا: وهذا إذا لم يكن وجه القضاء بيناً فأما إذا كان وجه القضاء بيناً فلا بأس بأن يقضي.
وعن هذا قال مشايخنا: لا ينبغي له أن يتطوع في اليوم الذي يريد المجلس للقضاء، لأنه ربما يلحقه جوع مفرط فيضعف رأيه، ويعجز عن إدراك الصواب، وكذلك لا يقضي، وهو كضبط الطعام لأنه إذا كان هكذا يمل القوم ويحب النوم، ولكن ينبغي أن(8/29)
يكون على اعتدال الأحوال لا يكون كضبط الطعام، ولا يكون به جوع مفرط، أو عطش مفرط، وكذلك لا يقضي وهو يدافع أحد الأخبثين، لأنه يتفرق برأيه قالوا إذا كان وجه القضاء بيناً لا بأس بأن يقضي.
قال مشايخنا: وينبغي للقاضي إذا كان شاباً أن يقضي شهوته في أهله قبل أن يجلس للقضاء، حتى إذا حضرته الشبان من النساء لا يشغل قلبه بهن، فيقدر على إدراك الصواب، ولا ينبغي له أن يتعب نفسه في طول المجلس، ولكن يجلس في طرفي النهار أو ما أطاق. وكذلك الفقيه والمفتي.
ولا يمازح الخصوم ولا أحدهما، لأن المزاح يذهب مهابة المجلس، ولا يضحك في وجه أحدهما لأنه بسببه يجترئ على خصمه، وكذلك لا يومىء إلى أحدهما إنما لهذا المعني، ولا يعبس وجهه عليهما، ولا على أحدهما ولا يعجل للخصوم الإتيان بحججهم، لأن ذلك يضر بهم.
وفي «الأصل» : ولا يخوف الخصم، ومعناه أن يتكلف لتخويف الخصوم، لأن ذلك يمنعهم عن إظهار الحق بالحجة، ولا يقضي وهو يمشي أو يسير على الدابة، لأنه قل ما يمكنه تأمله الحجج في هذه الحالة، وكذلك قال مشايخنا في المفتي: لا ينبغي أن يفتي وهو يمشي، ولكن يجلس في موضع، فإذا استقر فيه أفتى، ومنهم من قال: لا بأس بأن يفتي في الطريق إذا كانت المسألة واضحة، قال في «الأصل» : ويقدم على منازلهم في المجيء إليه الأول فالأول، ولا يبتدئ بأحد جاء قبله غيره يعني في سماع الخصومة، فقد اعتبر محمد رحمه الله السبق، والمتقدمون من المشايخ قبل الخصاف كانوا يعتبرون السبق أيضاً.
والخصاف اعتمد على الرقاع، وصورة الرقاع: أن يأمر القاضي كل مدعى، حتى يكتب اسمه واسم خصمه، ثم يرفعه ثم يقرع بينهم، فمن خرجت قرعته أولاً يسمع خصومته. وصورة القرعة: أن يكتب القاضي الرقاع في جراب أو في كمه، ثم يدخل يده، ويخرج رقعة منها فمن خرجت قرعته (69أ4) أولاً يسمع خصومته، ثم يدخل يده ويخرج رقعة أخرى ويفصل تلك الخصومة، هكذا يفعل حتى يأتي على الكل، وهذا إذا كان الخصوم عدداً يعرف القاضي من طريق الحزر، والظن أنه يقدر على فصل خصومتهم في هذا اليوم، فأما إذا أكثروا وعلم القاضي (أنه) لا يقدر على فصل الكل في هذا اليوم يأخذ القاضي أو كاتبه الرقاع ويجعل كل عشرين أو نحو ذلك * قدر طاقة القاضي الجلوس لهم، والصبر عليهم * اختيارة ويكتب لكل اختياره منها رقعة فيها اسم أشهرهم، ثم يجعل كل رقعة منها في جراب ونحو ما بينا، ويقرع بين الكل جملة، فكل رقعة اختار خرجت بعد ذلك، فلهم يوم الأخذ إلى آخره، ويعلم الخصوم التي في كل اختياره أن أسماءهم في اختيار كذا التي نوبتها يوم كذا حتى لا يكثر ترددهم على باب القاضي، ويحتاج في هذا إلى الإقراع مرتين مرة بين الاختيارات، ومرة بين الخصوم التي في كل اختياره، فيكون أحدهما على طريق الجمل، والأخرى على طريق الإفراد.(8/30)
وله أصل في الشرع، فإن الإمام في باب الغنيمة، يعزل أنصباء الغرماء، فيقرع بينهم ثم يقسم فيما بين الرايات، ويقرع فيما بينهم مرة أخرى، ويكون أحدهما على طريق الجمل والأخرى على طريق الإفراد، كذا هاهنا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ما قاله الخصاف حسن، لأن القاضي متى اعتمد على القرعة، وأعلم الخصوم نوبتهم يوم كذا عسى لا يمكنه فصل تلك الخصومات في ذلك اليوم لمعنى من المعاني، فيصير القاضي مخلفاً في وعده، والخلف في الوعد مذموم، والتحرز عنه واجب فيجب الاعتماد على السبق وبه يفتى، وإن اشتبه على القاضي من سبقه أقرع بينهم.
قال الخصاف في «أدب القاضي» : وإن اجتمع على باب القاضي أرباب الشهود والأيمان والغرباء، ورأى القاضي أن يقدم أرباب الشهود على الكل فله ذلك، لأنه لو طال مكثهم ربما يملون ويذهبون قبل أداء الشهادة، فيضيع حق المدعي، وإن رأى أن يقدم أرباب الأيمان على أرباب الشهود فله ذلك أيضاً، لأن فصل الخصومة بالأيمان أسهل، وإن رأى أن يقدم الغرباء على الكل فله ذلك، لأن قلب الغريب يكون مع أهله وولده، فمن كثر مكثه وتردده يمل فيترك حقه ويذهب، فيكون القاضي هو المضيع لحقه ولكن هذا إذا لم يكن بالغرباء كثرة، فالقاضي لا يقدمهم لأجل الغربة، ولكن يعتمد السبق على نحو ما بينا لأن تقدمهم في هذه الصورة يؤدي إلى الإضرار بالمقيمين، وإنه لا يجوز.
وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله فقد ذكر هشام في «نوادره» : سألت ابتداء الحكم بالغرباء، قال: نعم ما لم يضر بالمقيمين وقال: الذي يرجع من ليله إلى أهله بمنزلة المقيم، والذي يبيت عن أهله بمنزلة الغريب إلا أن الغريب يعني المسافر أشد حالاً.
فإن قال واحد من الخصوم للقاضي: أنا غريب عازم على الرجوع إلى وطني، فقدمني على سائر الخصوم لأجل الغربة، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، لأنه ادعى لنفسه حق التقدم، فيعتبر بما لو ادعى لنفسه حقاً آخر، وهناك لا يقبل قوله بدون البينة، فكذا هنا. ولا يشترط العدالة في هذه البينة حتى لو أقام شاهدين مستورين قبل القاضي ذلك منه، إذ ليس في هذا كبير التزام، وللقاضي ولاية تقدمه في الجملة بدون البينة، ومن أصحابنا من قال: يسأله مع من يريد السفر فإن أخبر بذلك سأل الرفقة متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم وهل استعد لسفره، لأن الاستعداد للسفر يصلح علامة على السفر قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) .
فإن قالوا: نعم يثبت ما ادعاه فيقدمه القاضي، وعلى هذا أمر المستأجر إذا زعم المستأجر أنه يريد السفر، وأراد نقض الإجارة بعذر السفر، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، ولكن يسأله مع من يريد السفر والخروج؟ وإذا أخبر بذلك سأل رفقته متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم، وهل استعد للخروج: فإن قالوا: نعم تحقق العقد، ويجب الفسخ، وإن رأى القاضي تقديم النسوان يعمل ذلك، لأن مبنى حالهن على الستر، وتأخيرهن يؤدي إلى التشهير، لأنه يجتمع على باب القاضي أناس مختلفون والتشهير ينافي الستر، وإن رأى القاضي أن يجعل لهن نوبة على حدة في يوم واحد من أيام الجمعة فعمل ذلك، لأن في اختلاطهن بالرجال فتنة، فيجعل لهن نوبة على حدة نفياً للفتنة، وهذا إذا كانت الخصومات بين النسوان، فأما إذا كانت بين النسوان والرجال يعتمد في ذلك على الإقراع والسبق على نحو ما بينا والله أعلم.
وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله فقد ذكر هشام في «نوادره» : سألت ابتداء الحكم بالغرباء، قال: نعم ما لم يضر بالمقيمين وقال: الذي يرجع من ليله إلى أهله بمنزلة المقيم، والذي يبيت عن أهله بمنزلة الغريب إلا أن الغريب يعني المسافر أشد حالاً.
فإن قال واحد من الخصوم للقاضي: أنا غريب عازم على الرجوع إلى وطني، فقدمني على سائر الخصوم لأجل الغربة، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، لأنه ادعى لنفسه حق التقدم، فيعتبر بما لو ادعى لنفسه حقاً آخر، وهناك لا يقبل قوله بدون البينة، فكذا هنا. ولا يشترط العدالة في هذه البينة حتى لو أقام شاهدين مستورين قبل القاضي ذلك منه، إذ ليس في هذا كبير التزام، وللقاضي ولاية تقدمه في الجملة بدون البينة، ومن أصحابنا من قال: يسأله مع من يريد السفر فإن أخبر بذلك سأل الرفقة متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم وهل استعد لسفره، لأن الاستعداد للسفر يصلح علامة على السفر قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) .
فإن قالوا: نعم يثبت ما ادعاه فيقدمه القاضي، وعلى هذا أمر المستأجر إذا زعم المستأجر أنه يريد السفر، وأراد نقض الإجارة بعذر السفر، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، ولكن يسأله مع من يريد السفر والخروج؟ وإذا أخبر بذلك سأل رفقته متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم، وهل استعد للخروج: فإن قالوا: نعم تحقق العقد، ويجب الفسخ، وإن رأى(8/31)
القاضي تقديم النسوان يعمل ذلك، لأن مبنى حالهن على الستر، وتأخيرهن يؤدي إلى التشهير، لأنه يجتمع على باب القاضي أناس مختلفون والتشهير ينافي الستر، وإن رأى القاضي أن يجعل لهن نوبة على حدة في يوم واحد من أيام الجمعة فعمل ذلك، لأن في اختلاطهن بالرجال فتنة، فيجعل لهن نوبة على حدة نفياً للفتنة، وهذا إذا كانت الخصومات بين النسوان، فأما إذا كانت بين النسوان والرجال يعتمد في ذلك على الإقراع والسبق على نحو ما بينا والله أعلم.
الفصل التاسع: في رزق القاضي وهديته ودعوته وما يتصل به
ولا بأس أن يأخذ القاضي رزقاً من مال بيت المال، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وعلل فقال: لأنه عامل من عمال المسلمين، وقاسه على عماله عامل الصدقات.
قال: وقد ذكر هشام عن محمد أنه كان لا يرى بأساً بأن يأخذ القاضي رزقاً من مال بيت المال، ويروي تعليل محمد رحمه الله أن القضاة من السلف قل أن يرزقوا من بيت المال، فلا بأس بأن يرزق القاضي في زماننا، وأن يتعفف ويتنزه ولم يرتزق فذاك أفضل، لأن القضاة من السلف منهم من لم يرتزق كمسروق وقاسم.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: حاصل الجواب في هذه المسألة أن القاضي إذا كان ذا ثروة ويسار، فالأولى أن لا يرزق، كما فعل عثمان رضي الله عنه، وإن كان صاحب حاجة، فالأولى أن يرزق كما فعل أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، وهذا لأنه فرّغ نفسه لعمل المسلمين، وعجز عن الكسب، فمتى لم يأخذ كفايته من مال بيت مال المسلمين إما أن يقصر في عمل المسلمين، أو يطمع في مال المسلمين، وفساد ذلك مما لا يخفى.
وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله قال: إن القاضي إن كان فقيراً لا يترك حتى لا يرتزق وإن كان غنياً، فبعض مشايخنا على أن الأولى أن يرتزق حتى لا يصير ذلك سنة، لمن يكون بعده، وقد يكون من بعده فقير فيضيق عليهم الأمر، وكما يجعل كفاية القاضي في مال بيت المال يجعل كفاية عياله ومن يمونه من أهله وأعوانه في مال بيت المال، لأن المعنى لا يوجب الفصل.Y
ولم ينقل عن محمد رحمه الله أن القاضي هل يأخذ الرزق في يوم البطالة؟ وقد اختلف المتأخرون فيه، والصحيح أنه يأخذ. فأما أجر كاتب القاضي وأجر قسامه، فإن رأى القاضي أن يجعل ذلك على العموم فله ذلك، وإن رأى أن يجعل ذلك في مال بيت المال، وفيه سعة فلا بأس به، وعلى هذا الصحيفة التي يكتب فيها الدعوى الذي يدعي المدعى وشهادتهم إن رأى القاضي أن يطلب ذلك من المدعي فله ذلك، لأن منفعة ذلك(8/32)
تعود إليه، وإن كان في بيت المال سعة ورأى أن يجعل ذلك في بيت المال فلا بأس به.
وقال أبو يوسف رحمه الله في قاض أجري له ثلاثون درهماً لثمن القرطاس والمصحف: أكره له أن يصرف شيئاً من ذلك إلى غير ما جعل إليه.
وأما الكلام في هديته، فنقول: هدايا القاضي أنواع: هدية ممن له خصومة، وليس له أن يقبلها سواء كان بينهما قرابة أو لم يكن؛ لأنها شبه الرشوة، والأكل بسبب القضاء. وهدية ممن لا خصومة له، وإنها على نوعين: إما أن يكون بينهما مهاداة قبل القضاء بسبب القرابة أو الصداقة أو لم يكن، فإن لم يكن لا ينبغي له أن يقبلها، لأنه إنما أهداه لأجل القضاء، فيشبه الرشوة والأكل بسبب القضاء، وإن كان بينهما مهاداة قبل القضاء، فإن أهداه بعد القضاء بمثل ما كان يهديه قبل القضاء فلا بأس بأن (69ب4) يقبلها، ويحمل ذلك على المباسطة السابقة حملاً لأمر المسلمين على الصلاح والسداد فيقبلها، وإن كان أهداه بالزيادة على ما يهديه قبل القضاء فإنه لا يأخذه، لأن الزيادة كانت لقضائه.
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزوديّ رحمه الله: إلا أن يكون مال المهدي قد ازداد، فبقدر ما ازداد ماله إذا ازداد في الهدية فلا بأس بقبولها. وإن لم يكن بينهما مهاداة، وكان بينهما قرابة، فللقاضي أن يقبل هديته، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، لأن في قبول هديته صلة الرحم، وإنها فرض.
ثم إذا أخذ الهدية فلم يكن له أخذها أو أخذ الزيادة، فلم يكن له أخذها، ماذا يصنع بها؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: وضعها في بيت المال، وبعضهم قالوا: يردها على أربابها إن عرفهم، وإليه أشار في «السير الكبير» . وإن لم يعرف مهديها أو عرفه إلا أنه كان بعيداً حتى تعذر عليه الرد يضعها في بيت المال، ويكون حكمها حكم اللقطة، وإنما وضعها في بيت المال، لأنه إنما أهدي إليه لعمله وحشمته، وهو في هذا العمل نائب عن المسلمين وحشمته بالمسلمين، فكانت الهدايا من حيث المعنى للمسلمين، فيوضع في بيت مال المسلمين، وهذا بخلاف هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له خاصة، لأن منعته وحشمته كانت لنفسه، على ما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 97) فكانت الهدية لمنعة له بخلاف هدايا القضاء.
وهو نظير ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : أمير أهل الحرب إذا أهدى إلى أمير أهل الجيش هدية، فأمير الجيش لا يختص بها بل تكون بينه وبين الجيش، وإذا أهدي إلى واحد من المبارزين شيئاً يختص بها ذلك المبارز، لأنه إنما يهدى إلى أمير الجيش لقوته ومنعته بالجيش، فكانت الهدية للجيش معنى، فأما قوة المبارز ومنعته بذاته فكانت الهدية له خاصة فيختص به، وعلى هذا لو أهدى الرجل إلى مفتى أو واعظ شيئاً كان له أن يقبل ويختص به، لأنه إنما يهدي إليه لعلمه بخلاف هدية القضاء.
فأما الكلام في دعوة القاضي. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا بأس للقاضي أن يجيب الدعوة العامة، ولا يجيب الدعوة الخاصة، لأنه بمعنى الرشوة، قال: ظاهر أن الناس يميلون إلى القاضي باتخاذ الدعوة له على الخصوص طمعاً في ميل(8/33)
القاضي إليهم، وتكلموا في الحد الفاصل بين الدعوة الخاصة والعامة، بعضهم قالوا: إن كان خمسة نفر أو ستة نفر إلى العشرة فهذه دعوة خاصة، وإن جاوز العشرة فهذه دعوة عامة، وحكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله أنه قال: الدعوة العامة دعوة عرس أو ختان وما سوى ذلك دعوى خاصة.
وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن صاحب الدعوة إن كان بحال لو علم أن القاضي لا يحضر لا يتخذ الدعوة، فهذه دعوة خاصة لا يجيبها، وإن كان الداعي بحال لو علم أن القاضي لا يحضر يتخذ الدعوة، فهذه دعوة عامة فيجيبها، ولم يفصل بين الدعوة الخاصة بين القريب وبين الأجنبي، وكذا لم يفصل بينما إذا كان بين القاضي وبين صاحب الدعوة مباسطة قبل القضاء وكان يتخذ الدعوة لأجله أو لم يكن، وذكر القدوري أن القاضي يجيب الدعوة الخاصة في المحرم. وهكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» .
وذكر الطحاوي في «مختصره» ، أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجيب الدعوة الخاصة من القريب، وعلى قول محمد رحمه الله يجيب، وذكر شيخ الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام رحمهما الله أن صاحب الدعوة إن كان ممن لا يتخذ الدعوة للقاضي قبل تقلده القضاء لا يجيب دعوته، القريب والأجنبي فيه سواء، لأن الظاهر أنما فعل ذلك لأجل القضاء خاصة، وإن كان ممن يتخذ الدعوى للقاضي قبل تقلده القضاء، فالقاضي يجيب دعوته، القريب والأجنبي في ذلك على السواء، لأنه لا يكون ذلك بسبب القضاء ظاهراً.
وقيل: صاحب الدعوة إذا كان يتخذ الدعوة قبل القضاء في شهر مرة، وبعد القضاء في كل أسبوع مرة، فالقاضي لا يجيب دعوته إلا في كل شهر مرة، وكذا إذا كان صاحب الدعوة زاد في المباحات بعد القضاء على ما قبل القضاء، فالقاضي يجيب الدعوة له، إلا أن يكون مال صاحب الدعوة قد ازداد فبقدر ما زاد من ماله ازداد في المباحات، فالقاضي يجيبه.
وهذا كله إذا لم يكن لصاحب الدعوة خصومة، فأما إذا كان لصاحب الدعوة خصومة لا يجيب دعوته، وإن كان بينهما قرابة أو مباسطة قبل القضاء، لأنه يصير آكلاً لقضائه معنى.
ومما يتصل بهذا الفصل فصل الرشوة
واعلم بأن الرشوة أنواع نوع منها أن يهدي الرجل إلى الرجل مالاً لإبقاء التودد والتحبّب، وهذا النوع حلال من جانب المهدي والمهدى إليه، قال عليه السلام: «تهادوا تحابوا» .(8/34)
ونوع منها: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً، لأن ذلك الرجل قد خوفه فيهدي إليه مالاً ليدفع الخوف من نفسه، أو يهدي إلى السلطان مالاً ليدفع ظلمه عن نفسه أو ماله، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ، وإذا أخذ يدخل تحت الوعيد المذكور في هذا الباب، لأنه يأخذ المال للكف عن التخويف والظلم، والكف عن التخويف والظلم واجب بحكم الإسلام، ولا يحل أخذ المال بمقابلة الواجب.
وهل يحل للمعطي الإعطاء؟ عامة المشايخ على أنه يحلّ، لأنه يجعل ماله وقاية لنفسه، أو يجعل بعض ماله وقاية للباقي، وكل ذلك جائز وموافق للشرع، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رشى دينارين بالحبشة، ونجى نفسه، وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: لم نجد في زمن بني أمية أنفع لنا من الرشا.
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: فعلى هذا إذا كان الرجل في قرية فيها ظالم، وكان الرجل يهدي إلى الظالم شيئاً من الفواكه، أو من المطعومات ليدفع ظلمه عن نفسه لا بأس به، والخصاف علق حل الإعطاء بالرجاء، فقال: رجونا أن لا يكون إثماً، ووجه ذلك أن القبض حرام، والإعطاء تمكين من القبض، والتمكين من الحرام حرام، إلا أن قصد المعطي في هذا دفع الظلم عن نفسه لا التمكين من الحرام، فمن هذا الوجه لا يكون حراماً، ومن ذلك الوجه يكون حراماً، فعلقه بالرجاء لهذا.
ونوع منها: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً ليسوي أمره فيما بينه وبين السلطان، ويعفه في حاجته، وإنه على وجهين:
الأول: أن تكون حاجته حراماً، وفي هذا الوجه لا يحل للمعطي الإهداء، ولا للمهدى إليه الأخذ، لأن المهدي يعطي ليتوصّل به إلى الحرام، والمهدى إليه يأخذ ليعينه على الحرام.
الثاني: أن تكون حاجته مباحاً، وإنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن يشترط أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان، وفي هذا الوجه لا يحل للآخذ الأخذ، لأن القيام بمعونة المسلمين واجب بدون المال، فهذا مما أخذ لإقامة ما هو واجب عليه، فلا يحل.
وهل يحلّ للمعطي الإعطاء؟ تكلموا فيه، منهم من قال: لا يحل؛ لأن هذا تمكين من القبض الذي هو حرام، ومنهم من قال: يحل؛ لأن غرضه دفع الظلم عن نفسه، وعلى قياس قول الخصاف يجب أن يكون حل الإعطاء معلقاً بالرجاء، على ما بيّنا والحيلة في حل الأخذ، وفي حل الإعطاء عند الكل أن يستأجره صاحب الحادثة يوماً، إلى الليل ليقوم بعمله بالمال الذي يريد الدفع إليه فتصح الإجارة ويستحق الأجير الأجر، ثم المستأجر بالخيار إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في عمل آخر، قالوا: وهذه الحيلة إنما يصلح إذا كان العمل الذي أستأجره عليه عملاً يصلح الاستئجار عليه.
الوجه الثاني: إذا (70أ4) لم يشترط ذلك صريحاً، ولم يعلم أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ عامتهم على أنه لا يكره على قياس(8/35)
مسألة المؤذن والإمام على ما يأتي بيانهما بعد هذا إن شاء الله تعالى، وبعضهم قالوا: يكره، وهذا نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ونوع آخر: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً، لأنه سوى أمره عند ذي سلطان، فأعانه في حاجته، ولا يصرح عند الإهداء أنه إنما أهدى إليه، لأنه سوى أمره عند السلطان وهذا نوع يحل للمعطي الإعطاء؛ لأنه أنعم عليه بالنجاة من الظلم، وقد قال عليه السلام: «من أزلت عليه نعمة فليشكرها» .
هل يحل للآخذ الأخذ؟ تكلموا فيه منهم من قال: لا يحل، لأنه أقام الواجب ولا يجوز أخذ المال على إقامة الواجب.
وقد جاء عن عبد الله جعفر أنه أعان مظلوماً، وخلصه من الظلم وأهدى إليه هدية تبلغ أربعين ألف درهم، فقال عبد الله: إنما لا يأكل منه دانقاً، ومنهم من قال: يحل؛ لأن هذا برّ وصلة، وقاسوه بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصّلاة أن الإمام أو المؤذن إذا جمع لهم القوم شيئاً وأعطوه من غير أن يشترط عليهم، فما أحسن هذا، فقد سمى ذلك حسناً، وإن كان يعلم أنهم إنما أعطوه بسبب الإمامة والأذان مع ذلك سماه حسناً، وجعل بمنزلة البر والصّلة لما كان الإعطاء بغير شرط كذا هاهنا.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يحكي عن أستاذه القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أنه ينظر في هذا إلى العمل الذي أقامه، فإن كان شيئاً لو أستأجره على ذلك يستحق الأجر بأن بعثه رسولاً إلى ظالم، فلما بلغه الرسالة أعطاه المرسل يحل له الأخذ، وما لا فلا هذا إذا لم يكن بينهما تهاد قبل ذلك بسبب من الأسباب، فأما إذا كان بينهما تهادي قبل ذلك بسبب صداقة أو قرابة، فأهدى إليه كما كان يهدي قبل ذلك، ثم إن المهدى إليه قام لإصلاح أمره، فهذا أمر حسن؛ لأنه مجازاة الإحسان بالإحسان، ومقابلة الكرم بالكرم.
ونوع من ذلك: أن يهدي الرجل إلى سلطان ليقلد القضاء له أو عملاً آخر، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ، ولا للمعطي الإعطاء، لأن المعطي إنما يعطي ليأخذ أموال الناس، ويظلم عليهم، والآخذ إنما يأخذ ليسلطه على الظلم، ومن أخذ القضاء بالرشوة، هل يصير قاضياً؟ فالصحيح أنه لا يصير قاضياً، ولو قضى لا ينفد قضاؤه.
ونوع من ذلك: أن يهدي الرجل إلى قاض ليقضى له، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ ولا للمهدي الإعطاء، أما لا يحل للآخذ الأخذ، لأن القضاء إن كان بالجور، فالقضاء بالجور حرام، فإنما أخذ المال لمباشرة الحرام، وإن كان القضاء بحق، فلأن القضاء بالحق عبادة، وأخذ المال على العبادات لا يجوز، وأما لا يجوز الإعطاء؛ لأنه إن كان القضاء له بالجور، فإنما يعطى المال لأجل الحرام، وإن كان القضاء بالحق؛(8/36)
فلأن إعطاء المال لمقصود المحصول له، فيكون سفهاً والسفه حرام.
بيان هذا: أن المقصود من هذا الإعطاء أن يقضي له، فيصير المدعى به حقاً وملكاً له، وإنما يصير المدعى به حقاً وملكاً على تقدير نفاذ القضاء، وقضاء القاضي فيما ارتشى باطل لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : فإذا قبل القاضي الرشوة، وقضى للراشي، فقضاؤه فيما ارتشى باطل، وقضاياه فيما لم يرتش نافذة، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسيّ رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزوديّ رحمه الله أن قضاياه باطلة فيما ارتشى وفيما لم يرتش.
واعلم بأن القاضي بأكل الرشوة يصير فاسقاً؛ لأنه آكل السحت، وإنه يوجب الفسق، والقاضي بالفسق ينعزل عند بعض مشايخ العراق، وعند بعض مشايخ العراق وعامة مشايخنا أنه لا ينعزل ولكن يستحق العزل، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب.
ثم على قول بعض مشايخنا إذا انعزل لا شك أنه لا تنفذ قضاياه أصلاً لا فيما ارتشى ولا فيما لا يرتشي، وعند مشايخنا، وبعض مشايخ العراق: إذا لم ينعزل تنفذ قضاياه فيما لم يرتش بلا خلاف، وفيما ارتشى اختلفوا على نحو ما بينا، فوجه قول من قال: إنه ينفذ؛ لأنه على قضائه بعد، وجه قول من قال: لا ينفذ أنه قضى بخلاف أمر الشرع؛ لأن الشرع أمره بقضاء لا يعتاض عنه، فقضاء يعتاض عنه يكون بخلاف أمر الشرع فيكون باطلاً، حتى قالوا: لو رد الرشوة، ثم حكم ينفذ حكمه، لأنه ما اعتاض عن قضائه، وإن ارتشى ولد القاضي أو كاتبه أو من أشبههما، فإن كان ذلك بأمر القاضي ورضاه، فهذا وما لو ارتشى القاضي بنفسه سواء، وإن كان بغير أمر القاضي ورضاه نفد قضاياه، لأنه ما أعتاض عن قضائه، فلم يكن قضاؤه بخلاف أمر الشرع والله أعلم.
الفصل العاشر: في بيان ما يكون حكماً وما لا يكون حكماًوما يبطل به الحكم بعد وقوعه صحيحاً وما لا يبطل
قال مشايخنا: ينبغي للقاضي إذا أراد الحكم أن يقول للخصمين أحكم بينكما، وهذا على وجه الاحتياط، حتى إذا كان في التقليد خللاً يصير حكماً بتحكيمهما، وإذا قال القاضي: ثبت عندي أن لهذا على هذا كذا هل يكون هذا حكماً من القاضي؟ كان القاضي الإمام أبو عاصم العامري رحمه الله يفتي بأنه حكم، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، واختيار الصدر الشهيد رحمهما الله، وكان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله يقول: لا بد وأن يقول القاضي: قضيت، أو يقول: حكمت، أو يقول: أنفذت عليك القضاء، وهكذا ذكر الناطفي في «واقعاته» ، والمذكور به: إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل، فقال القاضي للمدعى عليه: لا أرى لك حقاً في(8/37)
هذه الدار، فهذا لا يكون حكماً، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول: إذا ظهرت عدالة الشهود في دعوى عين، وطلب المدعي الحكم من القاضي، فقال القاضي للمدعى عليه: أين محدود ودباين مدعى ده، فهذا لا يكون حكماً، وينبغي أن يقول: حكم كردم مرأين محدود مرأين مدعى راوا.
والصحيح أن قوله: حكمت وقضيت ليس بشرط، وأن قوله ثبت عندي يكفي، وكذلك إذا قال: ظهر عندي، أو قال: صح عندي، أو قال: علمت، فهذا كله حكم.
وإذا قال القاضي بعدما قضى في حادثة: رجعت عن قضائي، أو قال: بدا لي غير ذلك، أو قال: وقفت على تلبيس من الشهود، وأراد أن يبطل حكمه لا يعتبر هذا الكلام منه، والقضاء ماض على حاله، إذا كان بعد دعوى صحيحة، وشهادة مستقيمة، وعدالة الشهود ظاهرة.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله: ادعى حرية نفسه، وقضى القاضي بها ببينة أقامها العبد، ثم قال العبد: كذبت أنا عبد، هل يبطل القضاء بالحرية؟ فلا رواية لهذه المسألة في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن لا يبطل القضاء.
وهذا بخلاف ما لو ادعى رجل على رجل مالاً، وقضى القاضي بالمال للمدعي ببينة، ثم قال المدعي: كنت كاذباً فيما ادعيت، حيث يبطل القضاء.
والفرق: أن في الحرية حق الله تعالى والعبد لا يقدر على إبطال حق الله تعالى، ولا كذلك المال، لأن المال من العبد، والعبد يقدر على إبطال حقه، وإذا قال المدعي بعد القضاء: المقضي به ليس بملكي لا يملك القضاء بخلاف ما إذا قال: لم يكن بملكي، وهذا لأن قوله: ليس ملكي يتناول الحال، وليس من ضرورة نفي الملك للحال إنتفاؤه من الأصل، بخلاف قوله: لم يكن ملكي.
المقضي له إذا قال: ما قضي به فهو حرام لي، وأمر إنساناً أن يشتري ذلك له من المقضي عليه، فهذا يبطل الحكم؛ لأن الأمر بالشراء دليل على أن لا حق له في المشترى والإنسان لا يشتري ملك نفسه ولا يأمر غيره بذلك.
تكذيب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه إياهم بعد القضاء يبطل القضاء على ما عليه «إشارات الأصل» في «الجامع» ، وكان. (70ب4) القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا يبطل القضاء وعلل فقال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء، وعلى اعتبار أنه كان كاذباً يجوز إبطال القضاء، ولا يجوز إبطال القضاء بالشك كما لا يجوز القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما قاله القاضي الإمام مخالف «لإشارات الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد مما ذكر في «الجامع» تفسيق ينشأ عن تكذيب المشهود له، وإنه يوجب بطلان القضاء كما يمنع جواز القضاء، والمراد مما قاله القاضي الإمام بفسق التفسيق بأن قال: هم زناة، هم شاربوا خمر، لا بفسق ينشأ عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء.(8/38)
ما لا يبطل القضاء
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ببينة أقامها، فأقر المقضي له بالدار أن الدار دار فلان لا حق له فيها، وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك، حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضائه، فرد الدار عليّ أو قيمتها فالقضاء ماض، ولا سبيل للمقضي عليه لا على الدار، ولا على المقضي له، لأن القضاء نفذ من حيث الظاهر وقع الشك في نقضه، لأن قول المقضي له: هي لفلان محتمل يحتمل أن يكون نفياً لحقه عنها بسبب سابق على القضاء، ويحتمل أن يكون نفياً لحقه عنها بسبب حادث بعد القضاء أوجب نقله إلى فلان، وقع الشك في نقض القضاء، فلا ينقض بالشك.
فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان يتأتى فيما إذا أقرّ به بعدما غابا عن مجلس القضاء، لا يتأتى قبل الغيبة والجواب فيهما واحد.
قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً بأن يقول المدعي: الدار كانت لي من الأصل، وقد كنت بعتها قبل القضاء من المقر له على أني بالخيار ثلاثة أيام حتى بقيت الدار على ملكي في مدة الخيار، ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها، ثم لما قضى القاضي بالدار لي انقضت مدة الخيار عقيبه بلا فصل، فأمكن الجمع بين هذا الإقرار وبين الدعوة الأولى والشهادة على هذا الوجه، وإذا كان محتملاً لا يجوز نقض القضاء بالشك، ولو لم يقل على هذا الوجه، ولكن قال بعد القضاء له: هذا الإقرار لفلان ولم يكن لي قط بدأ بالإقرار لفلان، ثم بالنفي عن نفسه أو بدأ بالنفي عن نفسه، ثم بالإقرار لفلان، بأن قال: هذه الدار لم تكن لي قط وإنما هي لفلان، فإن صدقه المقر له في جميع ذلك يرد الدار على المقضي عليه في الوجهين جميعاً، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء إذا لم يمكن الجمع بين هذا الإقرار وبين الدعوى الأولى والشهادة، ولا بقي على المقر للمقر له، لأنه أدعى ما يبطل إقراره؛ لأنه أدعى أنه لم يكن له قط، وعلى هذا الاعتبار لا يصح إقراره بالملك لغيره، وقد صدقه المقر له في ذلك فبطل إقراره.
وأما إذا صدقه المقر له في الإقرار، وكذبه في النفي بأن قال المقر له الدار كانت للمقر وهبها لي بعد القضاء وقبضتها منه، ذكر في «الكتاب» أن الدار تدفع إلى المقر له، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا بدأ بالإقرار، ثم بالنفي؛ لأنه يدعي بطلان الإقرار بعد صحته ظاهراً، والمقر له كذبه في بطلان إقراره، فلم يبطل إقراره، ويضمن قيمة الدار في هذا الوجه للمقضي عليه؛ لأن في زعمه أنه صاحب الدار، وقد عجز عن تسليمها بسبب إقراره الأول، فيضمن قيمتها كما لو انهدمت الدار. يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، وفي هذا الوجه ينبغي أن لا يصح إقراره، لأنه لما بدأ بالنفي، فقد أكذب شهوده فيما شهدوا به؛ لأنهم شهدوا أن الدار من الأصل له، وقد أقر أنها ليست له من الأصل، وأقر ببطلان القضاء، وأن الدار ملك للمقضي عليه، فإذا قال بعد ذلك: ولكنها لفلان حصل مقراً بملك الغير، فينبغي أن لا يصح إقراره والجواب: أن تصحيح إقراره واجب ما أمكن، وأمكن تصحيح(8/39)
إقراره بتقديم إقراره على النفي، والتقديم والتأخير شائع في الكلام، فقدمنا إقراره تصحيحاً، ولكن يجب أن يكون قوله: ولكنها لفلان موصولاً بالنفي؛ لأنه إنما يقدم الإقرار ويؤخره تصحيحاً إذا كان الكلام بعضه موصولاً بالبعض.
قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أن المقر له إذا قال: وهبها لي بعد القضاء، وقبضتها منه فهي لي بالهبة، إنما يصح هذا إذا غابا عن مجلس القضاء حتى أمكن للقاضي تصديق المقر له فيما ادعى من الهبة، فأما إذا قال هذا في مجلس القضاء، فقد علم القاضي كذبه؛ لأنه علم أنه لم يجر بينهما هبة، وما يكون كذباً كان وجوده والعدم بمنزلة، فينبغي أن لا يصح إقرار المقر في هذا الوجه.
قالوا أيضاً: قول محمد في «الكتاب» أن القاضي يقضي بقيمة الدار للمقضي عليه على المقضي له قول محمد، وهو قول أبي يوسف الأول؛ لأن العقار إنما يضمن بالغصب عند محمد وأبي يوسف الأول رحمهما الله.
ومنهم من قال: هذا قول الكل؛ لأن العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر يضمن بإتلاف الملك إن كان لا يضمن بالغصب، ألا ترى أنه يضمن بالشهادة بالملك عند الرجوع؟ وإنما يضمن لإتلاف الملك، والمقضي له أتلف الملك على المقضي عليه هاهنا.
ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فهذا وما لو قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها سواء، حتى لا يبطل قضاء القاضي بالدار للمقضي له، لأن قوله: ليست لي نفي للملك للحال، فيحمل أنه إنما نفاه للحال؛ لأنه ملكه من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنه نفاه للحال؛ لأنه لم يكن له من الأصل، ولا ينقض القضاء بالشك.
وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي له بالدار، ثم جاء رجل آخر وادعى أنها داره اشتراها من أب المقضي له، في حال حياته وصدقه المقضي له بذلك، فإن الدار ترد على المقضي عليه ويبطل القضاء، لأن المقضي له أكذب شهوده على وجه لا يمكن التوفيق؛ لأن وراثه من أبيه داراً باعها الأب في حال حياة لا تصور فيبطل القضاء، وإذا بطل القضاء وجب رد الدار على المقضي عليه، ويقال لمدعي الشراء: أقم البينة على المقضي عليه أنها كانت لأب المقضي له، وأنك اشتريتها منه، فإن أقام البينة على هذا الوجه قضى بالدار له، وما لا فلا، والله أعلم.(8/40)
الفصل الحادي عشر: في العدوى وتسمير الباب والهجوم على الخصم وما يتصل بذلك
وإذا تقدم رجل إلى القاضي وادعى على رجل حقاً، والقاضي لا يعرف أنه محق أو مبطل وأراد الاعداء على خصمه، يريد به أنه طلب من القاضي أن يحضر خصمه، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون المدعى عليه في المصر، وإنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن يكون المدعى عليه رجلاً صحيحاً، أو امرأة برزة تخالط الرجال، وفي هذا الوجه: القياس أن لا يعديه؛ لأنه يتضرر به المدعى عليه؛ لأنه ينقطع عن أشغاله، ومجرد الدعوى لا تصلح سبباً للاستحقاق، خصوصاً إذا كان فيه إضراراً بالغير، وفي الاستحسان يعديه بالآثار المشهورة في هذا الباب من جملة ذلك:
ما روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا أبا جهل» وعن عثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم عدوا، وجرى التوارث بهذا إلى يومنا من غير نكير منكر، ولأن القاضي مأمور في فصل الخصومة، وفصل الخصومة إما بالبينة، والبينة لا تسمع إلا على الخصم الحاضر، وإما بالإقرار واليمين، وذلك لا يتحقق بدون حضرة المدعى عليه، والمدعى عليه لا يحضر بنفسه، والمدعي لا يتمكن من إحضاره؛ لأنه يقابله، فيقبض القاضي لإحضاره.
ثم الإعداء، على نوعين:
أحدهما: أن يذهب القاضي بنفسه، والثاني: أن يبعث من يحضره، ورسول الله عليه السلام فعل كلا النوعين، إلا أن في زماننا القاضي لا يذهب بنفسه، إما لأن الخصومات تكثر على باب القاضي، فلو ذهب في كل خصومة (72آ) بنفسه لا يتفرغ لفصل الخصومات، أو لأن حشمة القاضي بأعوانه، فلو ذهب مع كل الأعوان كان حرجاً، ولو ذهب بنفسه يستخف به، فلا يحصل المقصود بالذهاب بنفسه، وأما حشمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوته كانت بنفسه، فكان يحصل المقصود بذهابه بنفسه.
الوجه الثاني: من هذا الوجه، وهو ما إذا كان المدعى عليه في المصر، ويكون مريضاً، أو امرأة مخدرة، وهي التي لم تعتد لها الخروج، فالقاضي لا يعديهما، أما المريض فلأنه معذور، قال الله تعالى: {ولا على المريض حرج} (النور: 61) وأما المرأة المخدرة، فلأنه لا فائدة في إحضارها؛ لأن الحياء يمنعها عن التكلم، وعن جواب الخصم، وربما يصير ذلك سبباً لفوات حقها، بخلاف ما إذا كانت برزة تخالط الرجال، لأنها تتمكن من الجواب، ومن إقامة الحجة، فكان في إحضارها فائدة.(8/41)
وتكلم المشايخ في مقدار المرض الذي لا يعيد به القاضي، قال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه من الحضور بنفسه والمشي على قدميه، ولو حمل أو ركب على أيدي الناس يزداد مرضه، وقال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه الحضور بنفسه، وإن كان يمكنه الحضور بالركوب وحمل الناس من غير أن يزداد مرضه، لأن بهذا القدر حل التخلف عن الجماعة، فكذا من الحضور مجلس الحكم، وهذا القول أوضح وأوفق، ثم إذا لم يحضرهما يعني المريض والمخدرة ما يصنع القاضي؟ فالمسألة على وجهين:
إن كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف، يبعث خليفته إليهما ليقضي بينهما وبين خصومهما، لأن مجلس الخليفة مجلس القاضي لكون الخليفة قائم بمقام القاضي، وإن لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف يبعث القاضي إليه أميناً من أمنائه فقيهاً، ويبعث معه شاهدين عدلين حتى يخبرا القاضي بما يجري، لأنه لا يثبت بقول الأمين ذلك؛ لأنه شهد على فعل نفسه، ولأنه واحد، وإنما يبعث معه شاهدين عدلين ممن يعرفان المرأة وَالمريض، لأن المقصود من بعث الشاهدين أن يخبرا القاضي بما جرى بين المريض والمرأة، والمدعى عليهما، وهذا المقصود إنما يحصل إذا كانا يعرفانهما. وينبغي للقاضي إذا بعث الأمين أن يبين له صورة الاستحلاف وكيفيته، حتى إذا أنكر المدعى عليه حلفه على ما هو رأي القاضي، فالناس يختلفون في كيفية الاستحلاف، فلهذا قال: يبين له ذلك.
ثم إذا ذهبوا إلى المدعى عليه، فالأمين يخبره بما ادعى عليه، فإن أقر بذلك أشهد عليه الشاهدين بما أقر به بحضرة وكيله، فيقضي القاضي بحضرة وكيله، وإن أنكر فالأمين يقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم، يأمر المدعى عليه أن يوكل وكيلاً ليحضر مع خصمه في مجلس القضاء، فتقام عليه البينة بحضرة وكيله، وإن قال: ليس لي بينة، فالأمين يحلف المدعى عليه، وإن حلف أخبر الشاهدان القاضي بذلك حتى يمنع المدعي من الدعوى إلى أن يجد بينة، وإن نكل عن اليمين ثلاث مرات أمره الأمين أن يوكل وكيلاً يحضر مع خصمه مجلس الحكم ويشهد عليه الشاهدين بنكوله، ويقضي القاضي عليه بالنكول.
هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» ، وهذا إشارة إلى أنه لا يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على فور النكول، وهو مذهب الخصاف، كما لا يشترط للقضاء بالبينة والإقرار أن يكون على فورهما، ولا يمكن للقاضي أن يقضي بنكول كان عند الأمين، وهذا لأن النكول قد يكون تورعاً عن اليمين الكاذبة، وعلى هذا التقدير القاضي يقضي، وقد يكون ترفعاً عن اليمين الصادقة.
قالوا: وعلى هذا التقدير القاضي لا يقضي وإنما يعين التورع عن اليمين الكاذبة بقضاء القاضي، فيجب أن يكون القضاء على فوره حتى يعين التورع عن اليمين الكاذبة، فعلى قول هذا القائل: الأمين يقضي عليه بنكوله، ثم ينقل الشاهدان قضاء الأمين إلى مجلس القاضي، فيمضي القاضي قضاء الأمين بمحضر من وكيله، وبعض مشايخنا،(8/42)
قالوا: إذا لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف ينبغي أن يقول للمدعي أتريد هذا حكماً يحكم بينكما.
فإن قال: نعم يبعثه إلى المدعى عليه، فإن رضي بحكومته، فحكم بينهما جاز، والتحكيم جائز وحكم الحاكم نافذ، وسيأتي بيانه بعد إن يشاء الله تعالى هذا إذا كان المدعي عليه خارج المصر وهو الوجه الثاني من هذا الفصل.
وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يكون قريباً من المصر، والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان في المصر، فيعديه بمجرد الدعوى استحساناً لما مر، (الثاني) وإن كان بعيداً من المصر لا يعديه بمجرد الدعوى، والفاصلة بين القريب والبعيد إنه إذا كان بحيث لو ابتكر من أهله أمكنه أن يحضر مجلس الحكم، وبحيث يبيت في منزله، فهذا قريب، وإن كان يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، فهذا بعيد وإنما لا يعديه إذا كان بعيداً على هذا التفسير، لأن في الإعداء إضراراً به، فإنه يتضرر بالبيتوتة في غير أهله.
ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في الفرقة، إذا وقعت الفرقة بين الزوجين وبينهما ولد، فأرادت أن تنقل ولدها إلى قريتها، إن كان بحيث يمكن للزوج أن يزور ولده وينظر في أمره، ويبيت في أهله، فلها أن تنقل وإلا فلا.
وكذلك المضارب ينفق من مال نفسه في المصر لا من مال المضاربة، وإذا سافر ينفق من مال المضاربة، وإن خرج إلى قرية فإن كان بحيث يمكنه أن يعود إلى أهله في يومه ويتعيش عندهم، فإن نفقته لا تكون في مال المضاربة، وهو والمسافر سواء، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إنه ينبغي للقاضي أن ينصب قاضياً على مسيرة يومين من المصر، لأنه إذا كان بين المصر والقرية مسيرة يومين يحتاج إلى إحضار الخصم بالدعوى وفيه ضرر؛ لأنه يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، وينقطع عن أشغاله.
ثم على قول من أخذ بالقياس في هذه الفصول إذا لم يعده بمجرد الدعوى، إذا كان بعيداً من المصر ماذا يصنع؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي يأمر المدعي بإقامة البينة على ما ادعاه، ولا تكون هذه البينة لأجل القضاء، وإنما تكون الأصل الإحضار، وقد يكون البينة لا لأجل القضاء كما في كتاب القاضي، فإن هناك المدعي يقيم البينة ليكتب له، لا ليقضي له، فإذا أقام بينة على ما ادعى أمر بإحضاره، والمستور في هذا يكفي، فإذا حضر أمر المدعي بإعادة البينة ليقضي بها.
وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحلف المدعي على ما أدعى، فإن حلف أحضره، وإن أرسل القاضي إلى المدعى عليه من يحضره، فلم يجده، فقال المدعي للقاضي: إنه توارى عني، وطلب التسمير والختم يعني على باب داره فالقاضي يكلفه إقامة البينة، على أنه في منزله؛ لأن القاضي بالتسمير يجعل الدار سجناً عليه، إن كان هو في الدار، وإن لم يكن في الدار يمنع الدار عنه، وكل ذلك عقوبة فلا بدّ من الجناية، وإنما تتحقق الجناية إذا كان في الدار، وأبى الحضور، فإن جاء شاهدان يشهدان أنه في منزله، فالقاضي يسألهما: من أين علمتما؟ لما ذكرنا أن التسمير عقوبة، والاحتياط في العقوبات(8/43)
واجب، فإن قالا: رأيناه فيه اليوم أو أمس أو منذ ثلاثة أيام قبل القاضي ذلك، وأمر بالختم؛ لأن الظاهر أنه حاضر، فتتحقق الجناية لكنه أخفى نفسه كما قال المدعي، وإن كانت الرؤية قد تقادمت لا يقبل ذلك منهما؛ لأن الرؤية إذا تقادمت يحتمل أنه سافر بعد الرؤية، قبل الدعوى، فلم تتحقق الجناية، ثم جعل ما زاد على ثلاثة أيام متقادماً، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أن ذلك مفوض إلى رأي القاضي.
وإن تقادمت رؤية الشاهدين، إلا أنه كان لا يمكن للمدعي الدعوى لتأخر خروج قرعته، بأن كان القاضي أقرع بين الخصوم ليعلم كل أحد نوبة (71ب4) دعواه فقبل ذلك منه، لأنه عذر.
ثم إذا أراد القاضي التسمير، فكما إذا سمر الباب من جانب السكة سمر الباب الذي هو من جانب السّطح؛ لأن المقصود جعل الدار سجناً عليه؛ لأنه لو ظفر به حبسه في السجن، فإذا لم يظفر به جعل الدار سجناً عليه، وإنما يصير البيت سجناً عليه بتسمير كلا البابين.
فإن قال الخصم للقاضي بعد ما ختم الباب ومضى أيام: قد حبس في الدار ولا يحضر فانصب لي عنه وكيلاً، أقيم عليه البينة، فإن أبا يوسف رحمه الله كان يقول القاضي يبعث رسولاً، ومعه شاهدان؛ لأن قوله غير مقبول على فعل نفسه، فيحتاج إلى شاهدين ليشهدا له بما يجري عند القاضي، فينادي الرسول على باب الخصم ثلاثة أيام كل يوم ثلاث مرات: يا فلان بن فلان القاضي يقول: احضر مع خصمك فلان بن فلان مجلس الحكم، وإلا نصبت عنك وكيلاً، وقبلت البينة عليك بحضرة وكيلك، فإذا فعل ذلك ولم يحضر نصب القاضي عنه وكيلاً، وسمع البينة عليه، وأمضى الحكم عليه بحضرة وكيله.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وقال غير أبي يوسف رحمه الله: لا أرى أن أنصب عنه وكيلاً، فقد بين أن هاهنا مخالف لأبي يوسف، ولم يذكر المخالف، فقيل: المخالف أبو حنيفة لا محمد رحمهما الله، فقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله مثل قول أبي يوسف، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: رأيت في بعض روايات «النوادر» عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قول أبي يوسف. ونصّ في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله، أن القاضي لا يقضي عليه حتى يحضر.
وفي «نوادر هشام» : سألت محمداً رحمه الله ما تقول في سلطان لإنسان قبله حق، فلا يجيب إلى القاضي، فأخبرني أن أبا يوسف رحمه الله كان يعمل بالأعذار، وهو قول أهل البصرة، قال:
وصورة ذلك: أن يبعث القاضي رسولاً إليه من قبله ينادي على بابه، أن القاضي يقول: أجب ينادي بذلك أياماً، فإن أجاب، وإلا جعل القاضي لذلك السلطان الذي أبى أن يجيب وكيلاً، فيخاصم هذا المدعي فقلت له: فهل أنت تجعل له وكيلاً؟ فقال: نعم، فقلت: فلا تكون قضيت على الغائب، فقال: لا، قال: وكان أبو حنيفة لا يعمل بالأعذار.(8/44)
وأما الهجوم على الخصم، وصورته:
أن يكون لرجل على رجل دين، فيتوارى المديون في منزله، ويبين ذلك للقاضي فيبعث أمينين من رفاقه، ومعهما جماعة من أعوان القاضي ومن النساء إلى منزله بعثه حتى يهجموا إلى منزله، ويقف الأعوان بالباب، وحول المنزل وعلى السطح حتى لا يمكنه الهرب، ثم تدخل النساء المنزل من غير استئذان وحشمه فيأمرن حرم المطلوب حتى يدخلن في زاوية، ثم يدخل أعوان القاضي، ويفتشون الدار غرفها وما تحت السرر حتى إذا وجدوه أخرجوه، وإذا لم يجدوه يأمرون النساء حتى يفتشن النساء فربما تزيّا بزي النساء، فهذا هو صورة الهجوم فإذا طلب المدعي ذلك من القاضي، هل يفعل القاضي؟
قال صاحب «الأقضية» : وسع فيه بعض أصحابنا قالوا: أراد به أبا يوسف رحمه الله، فقد روى عنه أنه كان يفعل ذلك في زمن قضائه، وقد روي عن هشام عن محمد رحمه الله مثل هذا أيضاً، وأصل ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه هجم على بيت رجلين أحدهما قرشي، والآخر ثقفي بلغه أن في بيتهما شراب، فوجد في بيت أحدهما دون الآخر، وكذلك هجم على بيت ناصبة بالمدينة، وأخرجها وعلاها بالدرة حتى سقط الخمار عن رأسها، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين، والدخول فيه من غير استئذان، إذا سمع منه صوت فساد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ظاهر المذهب عندنا أنه لا يجوز الهجوم للقاضي؛ لأن فيه هتك ستر المسلم، وهتك حرمة محارم المسلم، وذلك لا يجوز.
وإن رأى القاضي أن يعطي المدعي طينة أو خاتماً لإحضار الخصم جاز؛ لأن المقصود إحضار الخصم، وكما يحصل هذا المقصود بالراحل يحصل بالعلامة، وفي العلامة لا يحتاج المدعي إلى أن يحمل مؤنة الراحل، فكما جاز بعث الراحل فكذا يجوز بعث العلامة من طريق الأولى، والقضاة في هذا مختلفون، بعضهم اختاروا دفع طينة، وبعضهم اختاروا قطع قرطاس، وبعضهم اختاروا دفع الخاتم، والخصاف اختار بذل العلامة في المصر، والأشخاص خارج المصر؛ لأن في المصر نقل مؤنة الراحل، فاختاروا بذل العلامة خارج المصر لهذا.
ولو أعطاه القاضي طينة أو خاتماً وذهب به إلى الخصم ينبغي له أن يقول للخصم: هذا خاتم القاضي فلان يدعوك أتعرفه، فإن قال نعم أعرفه، ولكن لا أحضر، أشهد المدعي على ذلك شاهدين حتى يشهدان عند القاضي بتمرده، فإذا شهدا بذلك بعث القاضي من يحضره، أو يستعين على ذلك بالوالي، لأن الوالي نصب لإحياء حقوق الناس.
واختلف العلماء في أجرة الشخص، بعضهم قالوا: هي في بيت المال، وبعضهم قالوا: على المتمرد؛ لأنه صار جانياً بالتمرد، ولأجل ذلك احتيج إلى الشخص، فسبب وجوب هذه الأجرة كان منه، فيكون في ماله، وهو نظير ما قلنا في السارق: إذا قطعت(8/45)
يده فأجرة الحداد، وثمن الدهن الذي يحسم به عروقه على السارق، لأنه تقدم منه سبب وجوبها وهو السرقة كذا هاهنا.
ثم إذا حضر المدعى عليه مجلس القاضي، فالقاضي يأمر المدعي بإعادة البينة على تمرده، لأنه يريد معاقبته، فلا بد من إثبات الجناية عليه، وتلك البينة قامت على الغائب، فلا يكتفي بها لعقوبته، فإذا أعاد البينة عاقبه على ما صنع من التمرد وإساءة الأدب، وكذلك لو كان المدعى عليه في الابتداء قال: أحضر، ثم لم يحضر، لأنه ظهر تمرده بفعله، إلا أنه يعاقبه في هذه الصورة دون ما يعاقبه في الصورة الأولى؛ لأن هذا انقاد قولاً لا فعلاً، والأول ما انقاد قولاً، ولا فعلاً.
ثم قال: ولا يشترط التعديل في هذه الشهادة يعني في الشهادة على التمرد، والمستور يكفي، وهذا قول الخصاف رحمه الله، وهكذا نقل عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة رحمهم الله.
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يشترط التعديل، وهكذا روي عن محمد رحمه الله، ووجهه أن في هذه الشهادة إلزام العقوبة على المدعى عليه، فيشترط التعديل في الشهادة على سائر العقوبات.
ولو كان القاضي من الابتداء أمر المدعي أن يأخذ طينة الأمير لإحضار المدعي، فذلك جائز؛ لأن المقصود ربما لا يحصل بطينة القاضي، ويحصل بطينة الأمير؛ لأن للأمير من الحشمة ما ليس للقاضي، فكانت طينة الأمير أقرب إلى حصول المقصود.
وفي «الفتاوى» : أن من أراد أن يستوفي حقه من باب السلطان، ولا يذهب (إلى) باب القاضي فهو مطلق فيه شرعاً، ولكن لا يفتى به، وبعض مشايخ زماننا على أنه إنما يطلق له في ذلك إذا ذهب إلى القاضي أولاً، وعجز عن الاستيفاء من جهته، أما لو أراد الذهاب إلى باب السلطان أولاً لا يطلق له في ذلك، وبه يفتى، وإذا ذهب إلى باب السلطان، والتمس حوب داره لإحضار خصمه، وأخذ حوب دار من خصمه زيادة على الرسم، هل للخصم أن يرجع بالزيادة على المدعي؟ ينظر إن ذهب المدعي إلى القاضي أولاً، وعجز عن استيفاء حقه من جهة القاضي، لا يرجع الخصم بالزيادة على المدعي، وإن لم يذهب إلى القاضي أولاً يرجع.
وإذا كان المديون يسكن في دار بأجر، وطالبه الغريم بالخروج إلى باب الحاكم، فامتنع، فالقاضي هل يسمر الباب عليه؟ اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يسمر.
في «فتاوي أبي الليث» في كتاب الشهادات، وفي «مجموع النوازل» إذا كان المديون يسكن في دار زوجته. (72أ4) وأبى الخروج إلى الحاكم، فالقاضي يسمر الباب عليه؛ لأن في هذا الباب العبرة للمساكنة، حتى لو ثبت عند القاضي أنه نقل الأمتعة عنها، ولم يبق ساكناً فيه لا يسمر الباب، والله أعلم.(8/46)
الفصل الثاني عشر: فيما يقضي القاضي بعلمه، وفي القضاء بأقل من شهادة الاثنين
القاضي إذا علم بحادثة في البلدة التي هو فيها قاض في حال قضائه، ثم رفعت إليه تلك الحادثة في البلدة، وهو في قضائه بعد، يقضي بعمله في حقوق العباد قياساً واستحساناً، في الأموال وغيرها، كالنكاح والطلاق وغير ذلك فيه على السواء، لأن العلم الحاصل له بمعاينة السبب فوق العلم الحاصل بالشهادة؛ لأن في الشهادة احتمال الكذب، ولا احتمال في المعاينة، ثم القاضي يقضي بالشهادة في هذه الحقوق، فبمعاينة السبب أولى.
ثم إن صاحب «الأقضية» ذكر في هذه المسألة إذا علم بحادثة في حال قضائه، وفي مجلس قضائه.
وذكر الخصاف في هذه المسألة إذا علم في البلدة التي هو فيها قاضي في حال قضائه في مجلس قضائه، أو في غير مجلس قضائه.
وفي «المنتقى» عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله في «الإملاء» : قال أبو حنيفة رحمه الله: ما أقرّ به رجل بين يدي القاضي أخذه به إلا الحدود الخالصة للهِ تعالى نحو الزنا وشرب الخمر والسرقة، قال: هذا إذا أقرّ به عند القاضي في مجلس القضاء، أما إذا أقرّ به في غير مجلس القضاء لم يأخذه بشيء من ذلك، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا الذي ذكرنا في حقوق العباد، أما في الحدود الخالصة لله تعالى يقضي بعلمه قياساً، ولا يقضي بعلمه استحساناً؛ لأن الحدود الخالصة لله تعالى، يستوفيها الإمام من غير أن يكون هناك خصم مطالب، فلو قضى بعلم نفسه يتهمه بعض الناس بالحدود، وبالإقامة بغير حق، وعليه أن يصون نفسه عنه، بخلاف القصاص وحد القذف؛ لأن هناك خصم مطالب، إلا أنه إذا أتى بالسكران، فالقاضي يعزره لأجل التهمة، لما به من أمارات السكر، ولا يكون ذلك حداً.
وأما إذا علم بحادثة قبل أن يستقضى، ثم استقضي، ورفعت إليه تلك الحادثة، وهو قاض فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك العلم، وعلى قول أبي يوسف: ما ذكرنا أن العلم الحاصل بالمعاينة فوق العلم الحاصل بالشهادة، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مذهب شريح والشعبي.
والمعنى فيه أن العلم الحاصل قبل القضاء علم شهادة، وأنه دون علم القضاء؛ لأن علم القضاء علم بما هو ملزم، فإن القضاء ملزم وعلم الشهادة ليس بملزم؛ لأن الشهادة لا تصير ملزمة إلا بقضاء القاضي، فلو جاز القضاء إما أن يجوز بذلك القدر، ولا وجه إليه، وإما أن يقال يزداد علمه ولا وجه إليه؛ لأن الموجود ليس إلا تقلد القضاء، وإنه لا يوجب زيادة العلم.
وأبو يوسف رحمه الله احتج على أبي حنيفة رحمه الله، فقال: ألا ترى أن رجلاً لو سمع رجلاً طلق امرأته أو أعتق أمته، وهو يقدر على أن يحول بين المرأة والأمة، وبين(8/47)
الزوج والمولى، يجب عليه أن يحول بينهما فإذا استقضي لا يحول، قال: وألا ترى أن رجلاً لو رأى رجلاً يغصب ثوباً من غيره، وهو يقدر على نزع الثوب من الغاصب ورده إلى المالك يلزم النزع والرد عليه، فإذا استقضي لا يلزمه ذلك.
وأبو حنيفة رحمه الله، يقول في المسألة الأولى: إذا استقضي يحول بين الزوج والمولى، وبين المرأة والعبد، ولكن لا يقضي بالطلاق والعتاق كما كان يفعل قبل الاستقضاء، وفي المسألة الثانية يقول: إن رده لا على وجه الحكم فله ذلك، وهو فيما صنع مأجور، وإن رده على وجه الحكم فليس له ذلك، وهو فيما صنع مخطئ كما قبل القضاء.
فالحاصل: أن على قول أبي حنيفة ما كان له قبل القضاء وهو الحيلولة ورد الثوب لا على وجه الحكم، فهو باق بعد القضاء، وما لم يكن له قبل القضاء ليس له ذلك بعد القضاء، والحكم بذلك العلم لم يكن له قبل القضاء؛ فلا يجوز أن يستفيده، بتقلد القضاء.
ولو علم بحادثة وهو قاض، ولكن في مصر هو ليس بقاض فيه، ثم حضر مصره الذي هو قاض فيه، ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بهذا العلم، فهو على الخلاف الذي مرّ، وهذا لأنه في المصر الذي ليس بقاض فيه بمنزلة واحد من الرعايا، فلا يكون علمه في ذلك المصر علم قضاء، فلا يصير علم قضاء بدخوله في المصر الذي هو فيه قاض.
ولو علم بحادثة وهو قاض، ولكن في رساتيق المصر الذي هو قاض (فيه) ، ثم دخل المصر، ورفعت إليه تلك الحادثة لا شك على قولهما أنه يقضي بذلك العلم.
فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إذا لم يكن مقلداً على القرى حتى كان له أن يقضي في المصر، وليس له أن يقضي في القرى لا يقضي، بمنزلة ما لو علم بحادثة في مصر، هو ليس بقاض فيه، ثم رجع إلى مصره الذي هو فيه قاض، فأما إذا كان مقلداً على القرى، بأن كان في منشوره تقليد البلدة ونواحيها كان له أن يقضي؛ لأنه إذا كان مقلداً على القرى كما هو مقلد على النواحي، كان له أن يقضي في القرى كما له أن يقضي في البلدة، فإنما استفاد العلم في حال قضائه، فيقضي به، وهذا القول يرجع إلى أن المصر ليس بشرط لنفاذ القضاء، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله.
وقال بعض مشايخنا: وإن كان مقلداً على القرى ليس له أن يقضي بذلك العلم على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان مقلداً على القرى ليس له أن يقضي في القرى فما استفاد العلم في مكان قضائه، فكان علم شهادة لا علم قضاء، فلا يكون له أن يقضي بذلك العلم، وهذا القول يرجع إلى أن المصر شرط لنفاذ القضاء، وهو ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وهذا لأن القضاء من معالم الدين مختص بالأمصار كالجمعة والعيدين.
وفي «المنتقى» وما سمع خارجاً من المصر في أي وجه خرج لم يحكم به إلا أن(8/48)
يكون خرج للعيدين، فكأنه سمع في مجلس قضائه وهذا على قياس قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله.
وأما إذا علم وهو قاض في مصره، ثم عزل عن القضاء، ثم أعيد عليه بعد ذلك هل يقضي بذلك العلم؟ لا شك أن على قولهما يقضي، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي، لأن بالعزل صار ذلك العلم علم شهادة، ولم يبق علم قضاء، فلا ينقلب علم قضاء بعد ذلك بالتقليد، وصار كما لو شهد الشهود عند القاضي في حادثة وهو قاض، ثم عزل عن القضاء، ثم أعيد عليه، فإنه لا يقضي بتلك الشهادة كذا هاهنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في حاكم أخبر بإعتاق رجل عبده، أو بطلاق رجل امرأته ثلاثاً، قال: إن أخبره بذلك عدلان، فينبغي أن يجتهد في طلب ذلك أشد الطلب حتى يظفر به، وينظر في أمره، يريد بهذا إذا أخبر أن فلاناً أعتق عبده ثم استرقه، أو طلق امرأته ثلاثاً ولا يعزل عنها، وإنما كان الجواب كذلك؛ لأن خبر العدلين حجة مطلقة يقطع الأحكام بها ويلزم القضاء بها، فيثبت المخبر به في حق القاضي؛ فلهذا كان عليه الطلب، وإن كان المخبر واحداً عدلاً وكان أكثر رأيه أنه صادق، فالأفضل في ذلك طلبه، وإن لم يفعل رجوت أن يكون في سعة منه، وهذا لأن خبر الواحد العدل حجة في الديانات حتى عمل به في طهارة الماء ونجاسته، إلا أنه ليس بحجة مطلقة، فمن حيث إنه حجة وكان أكثر رأيه أنه صدق فالأفضل هو الطلب، ومن حيث إنه ليس بحجة مطلقة، قلنا: إن لم يطلب كان في سعة.
ونظير هذا رجل أخبره رجلان عدلان أنه مع امرأته ارتضعا من امرأة واحدة، لزمه الاجتناب عنها، ولو أخبره بذلك رجل واحد، فالأفضل أن يجتنب عنها، وإن أقام عليها فهو في سعة منها، والمعنى ما ذكرنا، ولو كان المخبر للحاكم رجل واحد لا يدري صدقه من كذبه، يعني لا يدري عدالته، فليس عليه الطلب (72ب4) أصلاً؛ لأن الخبر إنما يصير حجة بوصف الصدق، وإنما يثبت هذا الوصف للخبر بالعدالة، فإذا لم توجد العدالة لا يثبت هذا الوصف للخبر في حق الحكم، فلا يلزم الطلب أصلاً والله أعلم.
الفصل الثالث عشر: في القاضي يجد في ديوانه شيئاً لا يحفظوفي نسيانه قضاءه، وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ
إذا قضى القاضي بقضيته، وأتى على ذلك زمان، ثم احتاج المقضي له إلى تلك القضية، فشهد شاهدان عند ذلك القاضي أنك قد قضيت لهذا على هذا بكذا، ولا يتذكر القاضي ذلك، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضي إلا بما يحفظه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: القاضي يقبل هذه الشهادة، ثم رجع فقال: لا يقبل، روى رجوعه بشر في «نوادره» ، ومحمد رحمه الله يقول: القاضي يقبل(8/49)
شهادتهما، ويلزم المشهود عليه ذلك، وهو قول حسن بن زياد، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
واجمعوا على أنه إذا لم يبينا المقضي عليه بأن شهدا عند القاضي أنك قضيت لهذا بكذا، ولم يقولا على من قضيت، أن القاضي لا يقبل شهادتها.
حجة محمد رحمه الله: أن الأقضية تكثر، ولكثرتها لا يمكن للقاضي حفظها، فلو لم يمكن إثباتها بالبينة لتعطلت الحقوق، ألا ترى أنه يمكن إثباتها بالبينة عند قاض آخر، وإنما أمكن إثباتها لما قلنا، وهذا الطريق موجود في هذا القاضي.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو قبلت هذه البينة صار القاضي خصماً؛ لأنه بهذه البينة يثبت عليه فعله، والقاضي لا يصلح خصماً، ألا ترى أن رجلاً لو أقام عليه بينة، أنك غصبت مني كذا، أو استقرضت مني كذا لا يقبل هذه الشهادة، وطريقه ما قلنا؛ ولأن القضاء أعلى مرتبة من الشهادة.
ولو شهد شاهدان عند رجل أنك تحملت شهادة كذا وهو لا يتذكر، لا يسعه أن يشهد بقولهما، فأولى أن لا يقضي القاضي بشهادتها.
وإذا وجد القاضي شهادة شهود في ديوانه، أي في خريطته، والخريطة مختومة بختم القاضي، والشهادة مكتوبة بخطه أو بخط نائبه، إلا أنه لا يتذكر تلك الشهادة فعلى قول أبي حنيفة: لا يقضي بتلك الشهادة، وعلى قولهما يقضي.
وكذلك إذا وجد سجلاً في خريطته، والخريطة مختومة بختمه والسجل مكتوب بخطه، أو بخط نائبه، فالقاضي لا يمضي ذلك السجل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندها يمضي.
وإذا وجد الشاهد شهادته مكتوبة بخطه، وهو لا يتذكر الحادثة، فعامة المشايخ على أن هذا الفصل على الخلاف الذي مرّ ذكرهُ، وهو الظاهر، وذكر شمس الأئمة السرخسي أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يسعه أن يشهد، وعلى قول محمد يسعه.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف، كما ذكره شمس الأئمة، ومن هذا الجنس رواية الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد الرجل سماعه مكتوباً في موضع لكن لا يتذكر ذلك لا يحل له أن يروي عند أبي حنيفة، وعندهما له أن يروي، فشرط الرواية عند أبي حنيفة أن يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروي، وعندهما الحفظ ليس بشرط.
فمحمد رحمه الله وسع في هذه الفصول كلها، وجوز للقاضي قبول الشهادة على قضائه، وجوز الاعتماد على المكتوب، وقال: النسيان مركب في الآدمي، فلو لم يجز الاعتماد على هذه الأشياء، عند النسيان لتعطلت الحقوق، وأبو حنيفة شدد في الكل، فلم يجوِّز للقاضي قبول الشهادة على قضائه، ولم يجوز الاعتماد على المكتوب في الفصول الثلاث، والوجه في ذلك: أن الشهادة والقضاء يثبتان على العلم، وكذلك رواية(8/50)
الأخبار؛ لأنها شهادة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علم بدون التذكر، والكتاب لأجل التذكر لا لأجل الاعتماد عليه؛ لأنه لا يؤمن فيه الزيادة والنقصان، فبدون التذكر وجوده والعدم بمنزلة.
وأبو يوسف رحمه الله وسع فيما يجد القاضي في ديوانه مختوماً بخاتمه، وفي رواية الأخبار، وضيق في قبول القاضي الشهادة على قضائه، وفي الشاهد يجد شهادته مكتوبة بخطه على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي، قال: الأخذ بالعزيمة فيما قاله أبو حنيفة رحمه الله إلا أن رواية الأحاديث ضرورة، لأن الإنسان سمع مثلاً عشرين ألف حديث، ولا يمكنه حفظ الكل، فلو لم يكن له أن يعتمد على خط سماعه لتعطل ذكر الحديث، وما يتوهم من التزويد في كتابة السماع نادر غاية الندرة، إذ لا يقع فيه ولا ضرر لأحد، وكذلك فيما يجده القاضي في ديوانه مختوماً، بختمه ضرورة؛ لأن القضاء يكثر ولا يحفظ الكل، فيقع الحاجة إلى الاعتماد على الخط، واحتمال الترديد منتف ظاهراً؛ لأنه في يده مختوم بخاتمه، فالظاهر أنه لم يغير شيئاً منه، بخلاف الصك على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله؛ لأن الصك لا يكون في يد الشاهد، فلا يأمن فيه الزيادة والنقصان حتى روي عنه أنه قال: لو كان الصك في يد الشاهد جاز له، أن يشهد وإن لم يتذكر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد قال: سألت محمداً رحمه الله، عن قاض يخرج من البلدة التي هو قاض فيها، ولم يخلف عيالاً هل له أن يضع قماطره عند من يثق به، من أهل البلدة وإذا رجع عمل بما فيه إذ القماطر بخاتمه والكتب الذي في جوف القماطر مختمة أو غير مختمة، والقاضي يذكر قضاياه أو لا؟ قال: لا بأس بهذا، وهذا أمر لا بأس به، ولا يمنع منه، ولو لم يجز ذلك لم يجز أن يحكم بما في بيته، لأنه لا يؤمن أن يغير شيئاً من ذلك بعض أهله.
قال في «كتاب الأقضية» : ولو أن قاضياً عزل عن القضاء ثم رد عليه، فإنه لا يعمل بشيء مما كان في ديوانه الأول إلا شيئاً يتذكره، اعلم بأن هذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يتذكر ذلك، وفي هذا الوجه لا يقضي للخلاف، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن على قوله لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي، إذا كان لا يتذكر ذلك، فأولى أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الأول، والفرق لهما: أن قضية القياس أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي إذا كان لا يحفظ ذلك كما قال أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بغير علم لا يجوز، لكن تركنا القياس في ديوانه الحالي ضرورة؛ لأن القاضي لكثرة اشتغاله لا يمكنه حفظ جميع الأشياء، فلو لم يجز العمل بما في الديوان(8/51)
عند النسيان ضاق الأمر على الناس مثل هذه الصورة، لا يتأتى في ديوانه الأول؛ لأن بالعزل يبطل حكم ذلك الديوان؛ لأنه لا يمكن العمل به، والباطل لا يعود، خصوصاً إذا كان ثبوته مع المنافي، فعمل بالقياس فيما يجد في ديوانه الأول كما عمل أبو حنيفة رحمه الله.
الفصل الرابع عشر: في القاضي يقضي بقضية ثم بدا لهأن يرجع عنه، وفي وقوع القضاء بغير حق
وإذا قضى القاضي بقضية، ثم بدا له أن يرجع عنها، فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه ردّه لا محالة؛ لأنه باطل، وإن كان ذلك مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لا محالة، وقضى في المستقبل بما يرى أنه أفضل.
واعلم بأن التحول من رأي إلى رأي في المجتهدات جائز؛ لأن المجتهد فيما اجتهد لا يكون مصيباً الحق لا محالة، لأنه لا يعمل فيه بدليل قطعي، وإنما يعمل فيه بغالب الظن، فالدليل الموجب للعلم بالرأي الأول: غلبة الظن أنه هو الصواب، فإذا غلب على ظنه أن الصواب هو الثاني دون الأول، فقد وجد الدليل الموجب للعمل بالرأي الثاني فيعمل به، إلا أنه يعمل بالرأي الثاني في المستقبل دون الماضي؛ لأن الرأي الثاني حدث الآن، ولم يكن موجوداً في الماضي، فلا يجب العمل به حال عدمه يوضحه: أن الرأي الثاني ناسخ للأول، وإنما يعمل بالناسخ في المستقبل دون الماضي، وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين قضى في حادثة بقضية، وقضى بعد ذلك في مثلها بخلافه، فقيل له في ذلك فقال تلك كما قضينا وهذه كما نقضي.
ثم قضاء القاضي إذا وقع بخلاف الحق لا يخلو عن وجهين: إما أن (73أ4) أخطأ فيما قضى أو يعتمد الجور فيما قضى وأقر بذلك، أو أخطأ وكل ذلك على وجهين: إما أن يكون ذلك في حقوق الله تعالى، أو في حقوق العباد.
فإن أخطأ وكان ذلك في حقوق إن أمكن التدارك والرد، بأن قضى بمال أو صدقة أو بطلاق أو عتاق، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في القذف، فإنه يبطل ذلك القضاء، ويرد العبد رقيقاً ويرد المرأة إلى زوجها، ويرد المال إلى من أخذ منه؛ لأنه لما بطل القضاء عاد الأمر إلى ما كان قبله، وإن كان خطأ لا يمكن رده بأن كان قضى بالقصاص واستوفى، لا يقتل المقضي له بالقصاص، وإن تبين أنه قتل بغير حق ويصير صُورة القضاء شبهة مانعة وجوب القصاص، ولكن تجب الدية في مال المقضي له؛ لأن القتل الحرام في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة أو غرامة، وتعذر إيجاب العقوبة فتجب الغرامة، ويكون في مال المقضي له؛ لأنه تعذر الإيجاب على القاضي لأن خطأه موضوع عنه، إما لأنه مأمور بإتباع الظاهر، وقد اتبع الظاهر فقد أتى بالمأمور والإتيان بالمأمور به(8/52)
ينافي وجوب الضمان على المأمور، وإما لأنه يتقاعد عن أمر القضاء حتى لا يلزمه الضمان عند ظهور الخطأ الذي ليس في وسعه الاحتراز عنه، فيؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ وإنه لا يجوز، وإذا تعذر إيجاب الغرامة على القاضي أوجبناها على المقضي له، لأن القاضي عامل له فكان عمل القضاء له فيكون الغرم عليه، ليكون الغرم بمقابلة الغنم، وهذا كله إذا ظهر خطأ القاضي بالبينة أو بإقرار من المقضي له.
فأما إذا ظهر ذلك بإقرار القاضي لا يظهر ذلك في حق المقضي له، حتى لا يبطل قضاؤه في حق المقضي له، لأن حق المقضي له قد تعلق بذلك، والقاضي بما قال يريد إبطاله.
وهو نظير الشاهد إذا رجع عن شهادته لا يعمل رجوعه في حق المقضي له، لا ينقضي القضاء، ولكن الشاهد يضمن كذا هنا.
وإن أخطأ وكان ذلك في حقوق الله تعالى، بأن قضى بحد الزنا أو بحد السرقة أو بحد شرب الخمر، واستوفى القطع والرجم والحد، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في القذف، فضمان ذلك في بيت المال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على القاضي لما مر، وهذا القضاء كان لجماعة من المسلمين، فيكون الغرم في مالهم، وإن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله في هذه الوجوه كلها، بالجناية والإتلاف على المقضي عليه، فجناية القاضي وإتلافه على الغير سبب لوجوب الضمان، ويعزر القاضي على ذلك لإرتكابه الجريمة العظيمة، قال: ويعزل عن القضاء ولم يقل وينعزل عن القضاء، فهذا إشارة إلى أن القاضي بمجرد الفسق لا ينعزل، ولكن يستحق العزل، وقد مرّ هذا في صدر الكتاب والله أعلم.
الفصل الخامس عشر: فيما إذا وقع القضاء بشهادة الزور، ولم يعلم القاضي به
الكلام في هذا الفصل في مواضع:
أحدها في العقود والفسوخ، وفيها اختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وعلى قول محمد وأبي يوسف الآخر ينفذ ظاهراً لا باطناً صورة المسألة، في العقود كثيرة من جملتها:
رجل ادعى على امرأة النكاح وهي تجحد، وأقام عليها شاهدي الزور، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، حل للرجل وطؤها وللمرأة التمكين منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، وعندهما لا يحل لهما ذلك، والوجه لأبي حنيفة أن القاضي قضى بأمر الشرع، فيجب تنفيذه ظاهراً وباطناً ما أمكن، بيان الوصف: أن دليل الأمر بالقضاء شهادة شهودهم صدقة ظاهراً كان الصدق حقيقة، فيما لا يوقف عليه، والشهود هاهنا صدقة(8/53)
ظاهراً بيان التأثير أن القضاء وقع بأمر الشرع علم أنه وقع بحق، لأن الأمر بالباطل لا يكون، وإنما يكون هذا القضاء بحق إذا نفذ ظاهراً وباطناً وأمكن القول بنفاذه باطناً، بإنشائه النكاح مقتضى القضاء سابقاً عليه، وللقاضي ولاية إنشاء النكاح في الجملة، وقد مست الحاجة هاهنا إلى الإنشاء حتى لا يقع قضاؤه تمكيناً من الحد له، فيثبت الإنشاء سابقاً على القضاء، وإذا ثبت الإنشاء كان الرجل واطئاً لامرأته، وكانت المرأة ممكنة من زوجها، وكل ذلك جائز وصورة المسألة في الفسخ كثيرة من جملتها:
امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً، وأقامت على ذلك شهود زور، وقضى القاضي بالتفرقة بينهما، وتزوجت بزوج آخر بعد انقضاء العدة، فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف الأول: لا يحل للزوج الأول وطؤها ظاهراً وباطناً، ويحل للزوج الثاني وطؤها ظاهراً وباطناً، علم بحقيقة الحال أن الزوج الأول لم يطلقها بأن كان الزوج الثاني أحد الشاهدين، أو لم يعلم بحقيقة الحال، بأن كان الزوج الثاني أجنبياً وأما على قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله: لا يحل للثاني وطؤها إذا كان عالماً بحقيقة الحال لأن الفرقة عندهما لم تقع باطناً، وإن لم يعلم بحقيقة الحال يحل له وطؤها، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع، وهل يحل للأول وطؤها؟ على قول أبي يوسف الآخر: لا يحل مع أنه لم تقع الفرقة عنده باطناً، لأنه لو فعل ذلك كان زانياً عند الناس فيحدونه، هكذا ذكر في بعض المواضع.
وذكر شيخ الإسلام في كتاب الرجوع عن الشهادات: أن على قول أبي يوسف الآخر يحل للأول وطؤها سراً، وعلى قول محمد: يحل للأول وطؤها ما لم يدخل بها الثاني، الآن يحل للأول وطؤها سواء كان الثاني يعلم بحقيقة الحال أو لم يعلم، وهذا الجواب على قول محمد رحمه الله ظاهر فيما إذا لم يعلم الثاني بحقيقة الحال؛ لأن الثاني تزوجها وهي في الباطن منكوحة الأول عند محمد إلا أن الثاني لم يعلم به، فكان النكاح الثاني فاسداً عنده، فإذا دخل بها الثاني وجب عليها العدة من الثاني، فلا يحل للأول وطؤها وإن كانت امرأة الأول حتى تنقضي عدتها من الثاني، يشكل فيما إذا كان الثاني عالماً بحقيقة الحال، لأنه إذا كان عالماً بحقيقة الحال لا تجب العدة من الثاني بهذا الدخول؛ لأنه تزوجها وهو يعلم أنها منكوحة الأول فوقع نكاحه باطلاً، وكان هذا الوطء زناً، ومنكوحة الإنسان إذا زنت لا يجب عليها العدة، ولا يحرم على الزوج وطؤها، والوجه في ذلك: أن هذا النكاح اختلف العلماء في جوازه، وكل نكاح هذا حاله، فالمدخول منه يوجب العدة، لأن أحداً لم يقل بجواز ذلك النكاح، فلم ينعقد أصلاً، أما هاهنا بخلافه، ومن جملة صور الفسخ:
صبّي وصبيّة سبيا وهما صغيران فكبرا وأعتقا، ثم تزوج أحدهما الآخر، ثم جاء حربيّ مسلماً وأقام بيّنة أنهما ولداه، فالقاضي يقضي بنسبهما ويفرق بينهما، فإن رجع الشاهدان عن شهادتهما حتى تبين أنهما شهدا بزور لا يسع الزوج وطؤها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقضي عليه بالحرمة، وقد نفذ القضاء ظاهراً وباطناً، وكذلك على قول(8/54)
محمد لا يسع للزوج وطؤها؛ لأنه لا يعلم بحقيقة كذب الشهود، فإن كان تزوجها أحد الشاهدين يجب أن تكون المسألة على الخلاف، ومن جملة صور العقد: إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور وإنه على وجهين:
5
أحدهما: أن تكون الدعوى من جانب المشتري بأن ادعى رجل على غيره، أنك بعت مني هذه الجارية بكذا، وأقام على ذلك شهود زور، قضى القاضي بالجارية للمشتري نفد قضاؤه باطناً عند أبي حنيفة حتى يحل للمشتري وطؤها، خلافاً لمحمد رحمه الله. بعض مشايخنا قالوا: يجب أن تكون مسألة البيع على التفصيل عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان الثمن المذكور مثل قيمة الجارية أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه، ينفذ قضاؤه باطناً، (73ب4) وهكذا ذكر في «المنتقى» نصاً عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن طريق تصحيح القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله في العقود والفسوخ، أن القاضي بقضائه يصير منشئاً لذلك التصرف، وإنما يصير القاضي منشئاً فيما له ولاية الإنشاء للبيع وله ولاية الإنشاء بمثل القيمة أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه، وأما ليس له ولاية إنشاء البيع بأقل من القيمة قدر ما لا يتغابن الناس فيه؛ لأنه تبرع بمقدار العين فليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع وبعضهم قالوا: لا بل ينفذ القضاء على كل حال؛ لأن البيع وإن كان تعين فهو مبادلة، ألا ترى أنه يملكه المكاتب والعبد المأذون، وإن كانا لا يملكان التبرع، فينفذ قضاؤه باطناً عنده، كما في سائر المبادلات.
الوجه الثاني: أن تكون الدعوى من جانب البائع: وصورته: رجل ادعى على آخر أنك اشتريت مني هذه الجارية، وأقام على ذلك شهود زور، وقضى القاضي بذلك، حل للمشتري وطء الجارية، عند أبي حنيفة رحمه الله إن عزم المشتري على ترك الخصومة حل له وطؤها، لأن بدعوى البائع وجد أحد شطري العقد والقاضي بقضائه تولى الشطر الآخر من جهة المشتري بغير رضاه، فتوقف على اختياره، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد اختاره، فينفذ في حقه، هذا إذا أقام المدّعي شهود زور، ولو لم يقم المدعي شهوداً وحلف المشتري ورد الجارية على البائع، إن عزم البائع على ترك الخصومة حل له وطؤها، لأن بجحود المشتري انفسخ الشراء في حقه، لأن جحوده ما عدا النكاح فسخ له، وتوقف الفسخ في حق البائع، على اجتهاده، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد اختاره فتم الفسخ بينهما، فيحل للبائع وطؤها.
ثم اختلف المشايخ في تفسير العزم على ترك الخصومة قال بعضهم: تفسيره العزم بالقلب، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد العزم على الفسخ وإنه مشكل؛ لأن فسخ شيء من العقود لا يثبت بمجرد النية، ألا ترى أنه لو كان في البيع خيار شرط أو خيار رؤية ونوى بقلبه الفسخ لا ينفسخ بمجرد النية إلا أن يكون معنى المسألة: عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل اقترنت به النية لا بمجرد النية.
ومن جملة صور العقد: رجل ادعي على رجل هبة مقبوضة، وأقام على ذلك شهود زور، وقضى القاضي للمدعي، فعلى قول محمد رحمه الله ينفد القضاء ظاهراً لا باطناً(8/55)
حتى لا يحل للمقضي له الانتفاع به، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان بناء على أن قضاء القاضي بالتبرعات بشهادة الزور هل تنفذ باطناً، فعن أبي حنيفة فيه روايتان.
في رواية لا ينفذ إذ ليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع في الجملة، وأما الأملاك المرسلة، فالقضاء فيها بشهادة الزور لا ينفد باطناً بالإجماع؛ لأن هناك لا يمكن تصحيح القضاء باطناً، لأنه لا يمكن إنشاء الملك سابقاً؛ لأن إنشاء الملك مطلقاً بلا سبب ليس في وسع العباد، وتعذر إنشاء السبب لأن في أسباب الملك كثرة، وليس البعض أولى من البعض، وأما قضاء القاضي بالنسب بشهادة الزور فقد قيل إنه على الخلاف وقيل: إنه لا ينفد باطناً بلا خلاف.
صورة المسألة: أمة ادعت على مولاها أنها ابنته وأنه أقر بذلك وأقام على ذلك شهود زور وقضى القاضي بذلك، حرم على المولى وطؤها عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد رحمهما الله فإن مات الأب وترك ميراثاً هل يحل لها أكله؟ ذكر في كتاب الرجوع أنه يحل لها أكله من غير ذكر خلاف، واختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا هو على الخلاف.
وبعضهم قالوا: لا يحل لها أكله بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين النسب والنكاح، والفرق أنه في قضاء النكاح أمكن تصحيح قضائه باطناً بإنشاء السبب، لأنه ادعى السبب، ففعله كذلك تصحيحاً لقضائه بقدر الممكن، أما هاهنا ما ادعى السبب؛ لأنه ادعى الملك بالإرث، والثابت للوارث.
عين ما كان ثابتاً للمورث على ما عرف، والثابت للمورث ملك مطلق، فكذا الثابت للوارث فعلم أن هذا دعوى ملك مطلق وقضاء القاضي في الأملاك المرسلة، لا ينفذ باطناً.
وبعضهم قالوا: يحل لها أكل ميراثه بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين النسب وما تقدم، والفرق أن المرأة لا تعرف ثبات النسب وعلوقها حقيقة؛ لأن العلوق غيب عنها، وإنما يعرف بشهادة الشهود، فصار حالها كحال القاضي، من حيث أن كل واحد منهما يعتمد شهادة الشهود، فيحل لها أن تأكل ميراثه، أما في ما تقدم المدعي يعرف حقيقة الحال، ويعرف بطلانه في الدعوى وخطأ القاضي في قضائه، فلا يثبت القضاء في حقها ما لم يكن ثابتاً من قبل، وإن ماتت ذكر محمد هذه المسألة في كتاب الرجوع، وذكر أنه يحل له أكل ميراثها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله وهذا الجواب على قول الكل؛ لأن الحال لا يخلو إما لو كانت أمته أو ابنته فإن كانت أمته، فهذا إرث أمته، فيحل له بالإجماع، وإن كانت ابنته كان ميراثاً حلالاً لها بالإجماع، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن هذا الجواب مشكل عند الكل لو كان المذكور قول الكل، أما عند محمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن طريق تصحيح قضاء القاضي عنده باطناً إنشاء السبب، وليس للقاضي ولاية الإنشاء في الميراث والنسب قال محمد رحمه الله حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وتأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء، لأن القاضي قضى بالحرية، وله فيه ولاية الإنشاء، فيثبت الولاء له بقضاء القاضي هذه فيأكل ميراثها بسبب القرابة.(8/56)
قال محمد رحمه الله: والأصح عندي أنه يأكل ميراثها عند أبي حنيفة رحمه الله بسبب القرابة، لأنه لما كان للقاضي ولاية الإنشاء في قطع النسب باللعان، كان له ولاية الإنشاء في القضاء بالنسب إذا صادف محله، وقد صادف محله هاهنا لأن ليس لها نسب معروف، فلهذا قال: يأكل ميراثها، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع في موضع آخر أن النسب يثبت بقضاء القاضي باطناً بشهادة الزور عند أبي حنيفة رحمه الله، وذكر وجه ذلك فقال: إن كان القاضي لا يملك إنشاء النسب لولاية القضاء من غير بينة يملك الإنشاء بشهادَةِ الزور، فيما يملك الخصمان إنشاءه على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء الهبة بشهادة الزور. حتى قال: بأن قضاء القاضي بشهادة الزور ينفذ باطناً على هذه الرواية، والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة، ولكن طريقه أن الخصمان يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشاءها بشهادة الزور.
الفصل السّادس عشر: في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم أو المحكوم عليه
وفيهِ بعض مسائل الفتوى:
رجل فقيه قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو نواها واحدة رجعية فراجعها ورافعته إلى قاضي، يراها ثلاثاً فجعلها ثلاثاً، وفرق بينهما، أو كان الزوج نواها واحدة بائنة فتزوجها، ورفعته إلى القاضي يراها ثلاثاً، وفرق بينهما نفد هذا القضاء ظاهراً وباطناً، حتى لا يحل له المقام معها، ولا يسعها أن تمكنه من نفسها، فإن كان الزوج نواها ثلاثاً، فرافعته إلى القاضي الذي يراها واحدة بائنة أو واحدة رجعية، فجعلها واحدة بائنة أو واحدة رجعية نفد هذا القضاء باطناً، عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يسعه أن يراجعها أو يتزوجها، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا ينفذ هذا القضاء باطناً فالحاصل أن المبتلى بالحادثة إن كان عامياً لا رأي له، فعليه أن يتبع حكم القاضي فيما يقضي في تلك الحادثة سواء حصل الحكم له بأن. (74أ4) حصل الحكم بالحل، أو حصل الحكم عليه بأن حصل الحكم بالحرمة، وإن كان المبتلى بالحادثة فقيهاً له رأي، وحكم القاضي بخلاف رأيه إن حصل الحكم عليه بأن كان هو يعتقد الحل، وقضى القاضي بالحرمة فعليه أن يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه بلا خلاف، وإن حصل الحكم له بأن كان هو يعتقد الحرمة وقضى القاضي بالحل، ذكر في بعض المواضع أنه يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه من غير ذكر خلاف، وذكر في بعض المواضع أن على قول أبي يوسف لا يترك رأي نفسه، ولا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقد حراماً.
فوجه قولهما: أنا أجمعنا على أن المبتلى بالحادثة، إذا كان عامياً وقضى القاضي له ينفذ قضاؤه، فكذا إذا كان عالماً، لأن قضاء القاضي يلزم في حق الناس كافة يوضحه أن القاضي يقضي بأمر الشرع، وما يصير مضافاً إلى الشرع، فهو بمنزلة النصّ، فلا يترك(8/57)
ذلك بالرأي، كما لا يترك النصّ بالاجتهاد، وأبو يوسف يقول: الإلزام في جانب المقضي عليه فأما في حق المقضي له فلا إلزام، ولهذا لا يقضي القاضي بدون طلبه وفي زعمه أن القاضي مخطئ في هذا القضاء فلا يتبعه في ذلك.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رجل تزوج امرأة، ثم جن جنوناً مطبقاً وله والد فادعت المرأة أنه كان حلف قبل أن يتزوج بطلاق كل امرأة يتزوجها ثلاثاً، قال: نصب القاضي والده خصماً، فإن نصبه ورأى أن هذا القول ليس بشيء فأبطله وأمضى النكاح ثم برئ الزوج، وهو يرى وقوع الطلاق بهذا القول، هل يسعه المقام معها؟ قال: نعم، ولكن على قياس قول أبي يوسف لا يسعه المقام معها، لأن الحكم وقع له.
ولو أن فقيهاً قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو يراها ثلاثاً فأمضى رأيه فيما بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة رجعية أمضى رأيه، الذي كان عزم عليه ولا يردها لأنه لما أمضى رأيه في ذلك صار بمنزلة انضمام الحكم إليه، فلا ينقضه بما حدث، بخلاف ما إذا قضى القاضي بخلاف رأيه الذي عزم عليه؛ لأن قضاء القاضي أقوى من رأيه وإمضائه، فجاز النقض به، وكذلك لو كان في الابتداء يرى أنها تطليقه رجعّية فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعد ذلك أنها ثلاث تطليقات لم يحرم عليه لما ذكرنا أن الرأي إذا اتصل به الإمضاء لم ينفسخ باجتهاد آخر، ولو كان في الابتداء لم يعزم على ذلك لم يمض رأيه حتى رآها ثلاثاً لم يسعه المقام معها، لأن مجرد الاجتهاد يجوز أن ينقض باجتهاد مثله، ويصير كالفاسخ له في حق وجوب العمل، إلا إذا كان الإمضاء متصلاً بالأول، وإذا المبتلى بالحادثة فقيه له رأي، فاستفتى فقيهاً آخر، فأفتى له بخلاف رأيه يعمل بعلم نفسه، وإن كان المبتلى جاهلاً يأخذ بفتوى أفضل الرجال عند العامة فقهاً، ويكون ذلك بمنزلة الاجتهاد له، فإن أفتاه مضى في تلك الحادثة، وقضى القاضي في تلك الحادثة بخلاف الفتوى، إن كان القضاء عليه يتبع رأي القاضي، ولا يلتفت إلى فتوى المفتي، وإن كان المفتي أعلم من القاضي في تلك الحادثة عند العامة، وإن كان القضاء له، فهو على الاختلاف الذي مرّ ذكره، لأن قول المفتي في حق الجاهل بمنزلة رأيه واجتهاده فصارت هذه المسألة عين تلك المسألة.
وفي «القدوري» إذا لم يكن الرجل المبتلى بالحادثة فقيهاً، واستفتى إنساناً فأفتاه بحلال أو حرام، فإن لم يعزم على ذلك حتى أفتاه غيره بخلافه فأخذ بقول الثاني، وأمضاه في منكوحته لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه، ويرجع إلى ما أفتى به الأول، لأنه متعبد بالتقليد كما يتعبد المجتهد بالاجتهاد، فلا يجب على المجتهد أن يعمل بما أمضاه، ولم يجز نقض ذلك ببدل الرأي، فكذا المقلد إذا عزم على العمل بفتوى واحد من المفتين لم يسعه أن ينقض ذلك بفتوى آخر.
وفي «النوادر» إذا حلف الرجل بطلاق كل امرأة يتزوجها، فتزوج امرأة فاستفتى فقيهاً عدلاً، من أهل الفتوى، فأفتاه ببطلان اليمين وسعه اتباع فتواه وإمساك المرأة.
وفيه أيضاً: إذا استفتى فقيهاً، فأفتاه ببطلان اليمين فتزوج امرأة أخرى، ثم استفتى(8/58)
فقيهاً آخر، فأفتاه بصحة اليمين يفارق الأخرى، ويمسك الأولى عملاً بفتواهما، والله أعلم.
الفصل السابع عشر: في أقوال القاضي وما ينبغي للقاضي أن يقول وما لا ينبغي
ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجوز للقاضي أن يقول أقر فلان عندي بكذا الشيء يقضى به عليه من قتل، أو مال أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجل عدل ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: أقر بقتل أقر بسرقة فتقطع، لو أجزت هذا لزعمت أن طاعته مفترضة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد لا قاض ولا غيره.
قال: ولا أقيم حداً على أحد بقول قاض: أقر عندي بكذا حتى يقول معه ذلك الرجل العدل، فإن كان القاضي عندي عدلاً، والشاهد معه على ذلك عدلاً، وسعني أن أقيم عليه، وإلا لم يصدق قولهما، ولو كان هذا الحاكم هو الذي ولي قطع يد هذا بإقرار زعم منه عنده كان في القياس أن أقطع يده بيده، لكني أدرأ عنه القصاص لاختلاف الفقهاء في أن قول القاضي أقر عندي بكذا نافذ عليه، قال: واجعل الدية في ماله عليه هذا جملة ما ذكره ابن سماعة عن محمد رحمه الله.
واعلم بأن بإخبار القاضي عن إقرار رجل بشيء لا يخلو، إما أن يكون الإخبار عن إقراره بشيء يصح رجوعه عنه كالحد في باب الزنا والسرقة وشرب الخمر، في هذا الوجه لا يقبل قول القاضي بالإجماع، لأنه إنما يحتاج في الرجوع إلى قول القاضي عند جحود الخصم، وإذا جحد الخصم، فقد رجع عن الإقرار، وإمّا أن يكون الإخبار عن إقراره بشيء لا يصح عنه الرجوع كالقصاص وحد القذف، وسائر الحقوق التي هي للعباد، وفي هذا الوجه قبل قوله في الروايات الظاهرة عن أصحابنا رحمهم الله.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يقبل قوله، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في ظاهر الروايات قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أولاً، وما روى ابن سماعة فهو قوله آخراً، ثم في بعض النسخ وقع رواية ابن سماعة مطلقة، وفي بعضها مقيدة لا يقبل قوله، وفي بعضها لا يقبل قوله ما لم يضم إليه عدل آخر وهو الصحيح، وجه هذه الرواية أن القاضي ليس بمعصوم عن الكذب، فإخباره بانفراده لا يكون حجة، وكثير من مشايخنا أخذوا بهذه الرواية في زماننا لما رأوا من فساد القضاة، وذكر بعض مشايخنا رجوعه عن هذه الرواية برواية هشام.
وجه الروايات الظاهرة أن القاضي أمين ألا ترى أنه تنفذ قضاياه، ولو كان متهماً لما نفد قضاؤه، لأن كونه متهماً ينافي كونه قاضياً، وألا ترى أنه ينافي كونه شاهداً، وألا ترى أنه لا تنفذ قضاياه في حق الوالدين والمولودين، وإنما لا ينفذ لمكان التهمة وهاهنا(8/59)
لما نفذ قضاياه علمنا أنه ليس بمتهم، وقول الأمين مقبول كالوكيل والمودَع.
وكان الشيخ الإمام الزاهد إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يجعل هذه المسألة على وجوه: إن كان القاضي عالماً عدلاً نقبل قوله؛ لأن علمه يؤمنه عن الغلط، وعدالته تؤمنه عن الجور، وإن كان عدلاً غير عالم لم يستفسر إن أحسن ذلك قبل قوله، وإن كان جاهلاً فاسقاً أو فاسقاً غير جاهل لا يقبل قوله إلا أن يعاين السبب.
وأنكر بعض مشايخنا ذلك، وقال: مع جهله أو فسقه لا يقبل قوله أصلاً؛ لأنه يخاف عليه إما الغلط أو الجور، وهذا إذا أخبر القاضي عن ثبوت الحق بالإقرار، فأما إذا أخبر عن ثبوت الحق بالبينة بأن قال: قامت بذلك بينة عندي وعدلوا وقبلت شهادتهم على ذلك، قبل قوله وله أن يحكم بها بخلاف الإقرار لأن رجوع الخصم ثمة يعمل، وهاهنا رجوع الخصم لا يعمل هذا الذي ذكرنا إذا أخبر القاضي عن شيء وهو قاض.
فأما إذا أخبر عن شيء بعد العزل وصورته، إذا عزل القاضي فجاء رجل وخاصمه إلى القاضي المقلد، وقال: إنه وقع مالي، (74ب4) وذلك كذا وكذا إلى هذا بغير حق أو قال: إنه قتل ولي فلاناً، وهو قاض بغير حق وقال القاضي المعزول فعلت ما فعلت بقضاء قضيته عليه بإقراره، أو ببينته فعلى رواية ابن سماعة لا يقبل قوله: لأنه على روايته لا يقبل قوله، وهو قاض فأولى أن لا يقبل قوله بعد العزل.
فأما على الرواياتِ الظاهرة المسألة على وجهين: إما أن كان العين الذي وقع فيه الخصومة قائماً أو كان هالكاً، وفي الوجهين جميعاً، لا ضمان على القاضي، وكذلك إذا قال القاضي المعزول لرجل: قضيت عليك لفلان بألف وأخذتها منك ودفعتها إليه حين ما كنت قاضياً، وقال الرجل: لا بل أخذتها مني بعد العزل ظلماً، فالقول قول القاضي على الروايات الظاهرة؛ لأن القاضي أضاف إقراره إلى حالة معهودة له ينافي في تلك الحالة وجوب الضمان عليه، فإن فعل القاضي على وجه القضاء لا يوجب الضمان بحال من الأحوال، فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان، والقول للمنكر في الشرع وصار كالوكيل بالبيع إذا قال بعد العزل: قد كنت بعت وقبضت الثمن وهلك الثمن في يدي وكان ذلك قبل العزل، وقال الموكل: استهلكت ببيعه لا يوجب الضمان على الوكيل، وإنما لا يضمن؛ لأن فعل الوكيل على وجه الموافقة لا يوجب الضمان بحال فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان، وكذلك إذا قال الوصي للصبي بعد البلوغ: أنفقت عليك من مالك كذا وكذا وذلك نفقة مثله، وقال الصبي: لا بل استهلكت مالي، فالقول قول الوصي؛ لأن فعل الوصي بالمعروف لا يوجب الضمان بحال فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان وهل ينزع ذلك الشيء من يد المقضي له إن كان قائماً؟ فهو على وجهين.
إن كان صاحب اليد يقول هذا العين ملكي من الأصل لم آخذه من هذا، ولم يقض القاضي المعزول لي به لا ينزع من يده؛ لأن المال في يده، واليد دليل الملك، فيحال الملك عليه إلا إذا وجد دليلاً آخر بخلافه.(8/60)
وإن كان صاحب اليد يقول: هذا العين ملكي؛ لأن القاضي المعزول قضى لي به على هذا الرّجل كونه قاضياً ينزع من يده، ويسلم إلى المقضي عليه لأنهم تصادقوا على وصول هذا العين إلى المقضي له من جهة المقضي عليه بفعل ذلك القاضي والمقضي له بالإضافة إلى القضاء في تلك الحالة يدعيان التملك عليه وهو منكر، فالقول قول المنكر، أما إذا كان العين مستهلكاً، فالدعوى في الحاصل في الضمان، والقاضي بالإضافة إلى تلك الحالة منكر للضمان، والقول قول المنكر في الشرع، ولهذه المسألة أجناس كثيرة موضعها «إقرار الأصل» و «الزيادات» .
قال في «أدب القاضي» : وللقاضي أن يقرض أموال اليتامى، وهذا مذهبنا خلافاً للشافعي، وهذا لأن القاضي يحتاج إلى حفظ أموال اليتيم، وقل ما يمكنه الحفظ بنفسه فيحتاج إلى الدفع إلى غيره، والدفع بطريق الإقراض أنفع لليتيم من الدفع بطريق الإيداع، لأن الوديعة إذا هلكت في يد المودع هلكت من مال اليتيم، والقرض إذا هلك في يد المستقرض يهلك من مال المستقرض، فهو معنى قولنا: إن الإقراض أنفع لليتيم، فإذا ملك القاضي الإيداع أولى أن يملك الإقراض.
قال في «الأقضية» : وإنما يملك القاضي الإقراض إذا لم يجد ما يشتري به لليتيم (و) يكون لليتيم منه غلة، فأما إذا وجد لا يملك الإقراض بل يتعين عليه الشراء، قال هكذا روي عن محمد رحمه الله، وكذلك إذا وجد من يدفع إليه ماله مضاربة يدفع ماله مضاربة، ولا يقرض؛ لأنها أنفع في حق الصغير؛ لأنه يجعل به الربح للصغير وبالقرض لا يحصل، وإذا أقرض ينبغي أن يقرض من المليء لا من المفلس؛ لأن المال في ذمة المفلس يأوي، وينبغي أن يكتب من أقرضه صكاً خوفاً عن النسيان كيلا يفوت حق الصبيان، وينبغي أن يتفقد عن أحوالهم في كل وقت حتى إذا أفلس واحد منهم يسترد منه المال، إذ كما لا يجوز أن يقرض المفلس لا يجوز أن يترك المال على المفلس.
قال هشام: يذكرنا عن محمد رحمه الله في الأموال التي تجمع عند القاضي لأيتام أي ذلك أفضل للقاضي دفعها بوديعة أو بضمان؟ فأخبرنا أن أبا حنيفة وابن أبي ليلى وأبا يوسف رحمهم الله، كانوا يرون أن يدفعها بضمان، قال: وكذلك قول محمد رحمه الله إذا كان الذي يضمن يوفي المحيا والممات، قال: وليس للقاضي أن يستقرض لنفسه ذلك.
في «المنتقى» لو أن قاضياً باع مال يتيم بنفسه، أو أودع مال يتيم أو باع أمينه بأمره، وهو يعلم بذلك من رجل، ثم مات هذا القاضي واستقضي غيره، فشهد قوم أنهم سمعوا القاضي الأول يقول: استودعت فلاناً مال اليتيم، أو يقول: بعت فلاناً مال فلان اليتيم بكذا وكذا فجحد فلان، قال: يقبل القاضي الثاني هذه الشهادة، ويأخذ المستودع والمشتري بالمال وإن لم يكن الأول أشهدهم أنه قضى بذلك، قضاؤه وقوله عليه سواء، وإذا قبض القاضي مال يتيم أو غائب ووضعه في بيته، ولا يعلم أين هو؟ فهو ضامن، وإن(8/61)
علم أنه دفعه إلى قوم ولا يدري إلى من دفعه؟ فلا ضمان عليه، وكذلك إذا قال القاضي: دفعت إلى ولي من أولياء الأيتام، ولا أدري إلى من دفعته فلا ضمان عليه.h
في «المنتقى» أيضاً ذكر في «الأصل» وسبيل القاضي أن يرد الخصوم إلى إذا لم يستبين له فصل القضاء وإذا استبان له فصل القضاء، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا طمع في الصلح حال استبيانه القضاء ردهم إلى الصلح ولا يقضى ما لم ييأس عن الصلح.
وذكر في «أدب القاضي» وإذا طمع القاضِي في اصطلاح الخصمين، فلا بأس بأن يردهم، ولا ينفذ الحكم عليهم، ولا ينبغي أن يردهم بأكثر من مرتين، فإن لم يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم، وإن أنفذ القضاء بينهم من غير أن يردهم، فهو في سعة منهم، يريد به، وإن طمع في الصلح، وإذا أراد القاضي كتابة السجلات والمحاضر بنفسه، وأراد أن يأخذ على ذلك أجراً فله ذلك، لأن هذا ليس من عمل القضاء فإن تمام القضاء بالحكم، وكتابة السجل أمر زايد عليه، ولكن إنما يأخذ بقدر ما يجوز أخذه لغيره، والتقدير فيما يجوز أخذه لغيره.
يحكى عن السيد الإمام الأجل أبي شجاع رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله، وعن بعض المتقدمين: في كل ألف درهم خمسة دراهم، وفيما دون الألف إذا كان مشقة كتابته مثل مشقة كتابة الألف خمسة أيضاً، وإن كان على النصف من ذلك، ففيه درهمان ونصف وإن كان ضعف ذلك عشرة دراهم.
وفي «فتاوى النسفي» وإذا كان القاضي يتولى القسمة بنفسه حل له أخذ الأجر وكل نكاح باشره القاضي وقد وجب مباشرته عليه كنكاح الصغار والصغائر، فلا يحل له أخذ الأجرة عليه، وما لم يجب مباشرته عليه حل له أخذ الأجرة عليه، وأراد أن يبيع مال اليتيم لمصلحة اليتيم لا ينبغي له أن يأخذ الأجر من مال اليتيم لأجل هذا الأذن، ولو أخذ وأذن بالبيع لا ينفذ بيعه، وإذا غاب الرجل عن امرأته، وتزوجت بزوج آخر، ثم حضر الزوج الأول وأقام البينة على النكاح، والمرأة تدعي الطلاق فالقاضي لا يعزرها، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله؛ لأنه يمكنها أن تقول: طلقني إلا أني ما وجدت البينة على الطلاق.
غريب مات في بلدة وترك أموالاً، فقاضي البلدة يتربص مدة يقع في قلبه أنه لو كان له وارث يحضر في هذه المدة، فإذا تربص هذه المدة، ولم يحضر له وارث يضعها في بيت المال ويصرفها إلى القناطر، ونفقة الأيتام وأشباه ذلك، وإذا حضر الوارث بعدما صرفها إلى المصارف يقضي حقه من مال بيت (75أ4) المال قال في «الأصل» .
قال أبو حنيفة رحمه الله: ويكره للقاضي تلقين الشهود بأن يقول له اشهد بكذا، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به.
وقال في «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بتلقين الشاهد إذا كان عدلاً، وإنما قال أبو يوسف ذلك حين ابتلي بالقضاء، ورأى بعض الشهود عجزاً عن أداء(8/62)
الشهادة، وهذا لأن بمجلس القضاء هيبة، وللقاضي حشمة، ومن لم يتعود التكلم في هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يسعه على البيان القاضي.
قال في «الأصل» : وإذا ارتاب القاضي في أمر الشهود فرق بينهم لا يسعه غير ذلك، ويسألهم أيضاً أين كان هذا؟ ومتى كان هذا؟ ويكون هذا السؤال بطريق الاحتياط، وإن كان لا يجب هذا على الشهود في الأصل، فإذا فرقهم، فإن اختلفوا في ذلك اختلافاً يفسد الشهادة ردها، وإن كان لا يفسدها لا يردها، وإن كان يتهمهم، فالشهادة لا ترد بمجرد التهمة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اتهم الشهود فرق بينهم، ولا يلتفت إلى اختلافهم في لبس الثياب، وعدد من كان معهم من الرجال والنساء، ولا إلى اختلاف المواضع بعد أن يكُون الشهادة على الأقوال، وإن كانت الشهادة على الأفعال، فالاختلاف في المواضع اختلاف في الشهادة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا اتهمتهم ورأيت الريبة، وظننت أنهم شهود الزور أفرق، وأسألهم عن المواضع والثياب ومن كان معهم، فإذا اختلفوا في ذلك، فهذا عندي أبطل به الشهادة.
وعن إبراهيم عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا لرجل بدار، فالقاضي يسألهما كيف هي العلة لا يقطع بشهادتهما شيئاً، فإن قال الشاهد: لا أخبرك، ولا أزيد على هذا هي له، أمضيت الشهادة.
وعن أبي يوسف: رجل ادعى عبداً في يد إنسان فالقاضي لا يسأل صاحب اليد من أين هذا لك؟ وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للقاضي أن يقول للشهود بشيء لرجل لا يعلمونه باع أو وهب، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله إذا شهد عند القاضي شاهدان بدار لرجل فله أن يسألهما عن البناء، والله أعلم.
الفصل الثامن عشر: في قبضِ المحاضِر من ديوان القاضي المعزول
إذا عزل القاضي وقلد غيره ينبغي للقاضي المقلد أن يبعث أمينين من أمنائه ليقبضا من القاضي المعزول ديوانه، وديوان القاضي خريطته التي فيها الصكوك والمحاضر، ونصب الأوصياء والقُوام في الأوقاف، وتقدير النفقات وما يشاكله؛ لأن القاضي يكتب لهذه الأشياء نسختين يضع إحداهما في يد الخصم والقيم، والأخرى يجلدها في ديوانه، حتى إذا احتاج إلى الرجوع إليها أمكنه العمل بها عن إيقان، فما في يد الخصم لا يؤمن عليه التغير والتبديل، والقاضي المقلد يحتاج إلى قبض ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ذلك في الحوادث التي ترفع إليه، فيبعث أمينين من أمنائه ليقبضا ذلك، وإن أبى القاضِي المعزول الدفع، فإن كان البياض الذي كتب عليه نسخة هذه الأشياء من بيت المال يجبر(8/63)
على الدفع، لأنه إنما اتخذ ذلك للعمل به، وقد صار العمل لغيره، فلا يترك في يده، وإن كان ذلك من مال القاضي أو من مال الخصوم فقد اختلف المشايخ فيه.
والأصح أنه يجبر على الدفع؛ لأنه ما اتخذه للتمويل بل للعمل به إحياء لحق المسّلمين، وقد صار العمل إلى غيره، وإذا قبضا ديوانه يقبضان الودائع وأموال اليتامى أيضاً ويكون عند المقلد، ويأخذان أسماءَ المحبوسين أيضاً، فالقاضي إذا حبس رجلاً بحق ينبغي أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده، والسبب الذي لأجله حبسه، وتاريخ الحبس، لأنه يحتاج إليه لسماع البينة على الإفلاس، فيأخذان ذلك أيضاً، ويجعل القاضي المقلد ذلك في ديوانه، وينبغي أن يذكر في تذكرته تاريخ الحبس من الوقت الذي أثبته المعزول لا من وقت عمله، لأنه بناء على ذلك الحبس، ويسألان القاضي المعزول عن المحبوسين، وأسباب الحبس لا، لأن قول القاضي المعزول حجة، وكيف يكون حجة وإنه بالعزل التحق بواحد من الرعايا؟ ولكن ليكشف ويسأل المحبوسين عن أسباب الحبس، ويجمع بينهم وبين خصومهم، وإن كان في المحبوسين جماعة لم يحضر لهم خصماً، وقالوا: حبسنا بغير حق، فالقاضي المقلد لا يطلقهم تحسيناً للظن بالقاضي المعزول فيما باشر من حبسهم، ويأمر منادياً بالنداء أنا وجدنا فلاناً وفلاناً محبوسين، فمن كان له عليهم حق فليأتنا، فإن حضر رجل فصل الخصومة بينهما على وجهه، وإلا أطلقهم بكفيل.
وتقدير مدة النداء والمدة التي يسع فيها الإطلاق موكول إلى رأي القاضي قبل ما ذكر هاهنا من أخذ الكفيل قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يأخذ بناءً على مسألتين:
إحداهما: إذا قسم القاضي التركة بين الورثة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند أبي حنيفة، خلافاً لهما.
الثانية: إذا قضى القاضي دين الغرماء من التركة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يأخذ الكفيل هاهنا على قول الكل، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن في مسألة القسمة، وقضاء الدين حق هذا الذي حضر ظاهر، وحق الآخر موهوم، ولا يجوز تأخير هذا الحق الظاهر، إلى وقت أخذ الكفيل لحق موهوم، أما في هذه المسألة الحق ظاهر؛ لأنَا نحمل فعل القاضي المعزول على السّداد، فلا يكون في أخذ الكفيل تأخير حق ظاهر لحق موهوم.
ثم اعلم بأن الحبس أنواع أحدها: الحبس بالدين وإنه يشتمل على فصول.
الأول: إذا قال المحبوس: حبست بدين فلان أقررت به عند القاضي المعزول، فالقاضي المقلد يجمع بين المحبوس وبين خصمه، فإن صدقه خصمه في ذلك أعاده إلى الحبس إذا طلب خصمه ذلك، وأما إذا أنكر المحبوس بالدين، وقال: إن هذا يدعي علي شيئاً بغير حق وقد حبسني ظلماً وخصمه يقول: لي عليه كذا، وقد حبسته بحق، فالقاضي(8/64)
يأمر خصمه بإقامة البينة على ما ادعى، فإذا أقام وعرفهم القاضي بالعدالة أدام حبسه، وإن لم يعرفهم بالعدالة واحتاج إلى السؤال أخذ كفيلاً بنفسه، ويطلقه ولا يحبسه، أما لا يحبسه لأنه لم يظهر سبب حبسه، وأما لا يطلق بدون الكفيل نظراً للمدعي، لأنه لو حضر البينة لم يجد المدعى عليه.
وإن قال بعض المحبوسين: أنا محبوس بدين فلان، فمره يأخذ مني كفيلاً ويطلقني، فالقاضي يأمر بإحضار خصمه، فإذا حضر وصدق المحبوس في إقراره، والقاضي يعرف المقر له باسمه ونسبه أو لم يعرفه، ولكن شهد الشهود بذلك، أو لم يشهد الشهود بذلك، وفي الوجوه كلها القاضي يأمر المحبوس بأداء المال إليه؛ لأن إقراره حجة عليه، ولا يطلق لتهمة المواضعة، ويأمر منادياً بالنداء على ما بينا، فإن لم يحضره خصم آخر أطلقه في الوجوه كلها، ولم يذكر الخصاف أخذ الكفيل في الوجه الأول والثاني، وذكر في الوجه الثالث، وبعض مشايخنا ذكروا أخذ الكفيل في الوجوه كلها؛ لأن أخذ الكفيل للتوثق، وفي هذا المعنى الوجوه الثلاثة سواء، وكذلك إذا لم يجيء المحبوس بالمال، ولكن قال المقر له: أنا أختار الرفق، وأمهله مدة كذا، وأطلقه، فالقاضي لا يطلقه، ويحتاطه بالطريق الذي قلنا، ثم يطلق بكفيل، وإن قال المحبوس: لا كفيل لي، أو قال: لا يجب علي إعطاء الكفيل إذ ليس لي خصم يطلب مني الكفيل، فالقاضي يتأنى في ذلك، ولم يعجل بإطلاقه حتى ينادي، فإن لم يحضر له خصم بعد ذلك أطلقه.
الوجه الثاني: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً للعبد، كالقصاص، فإذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بالقصاص لفلان، وجمع القاضي بينه وبين خصمه، وصدقه خصمه فيما أقر، ولا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يكونَ (75ب4)
القصاص في النفس أو في الطرف، فإن كان في النفس يخرجه القاضي من السّجن، ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولا يتأنى بخلاف ما لو أقر بمال؛ لأن هناك يتأتى تهمة المواضعة بأن تواضعا حتى يقر لهذا الرجل بالمال، ويدفع إليه المال، حتى يتخلف عن السجن، ثم إذا خرج من السجن أخذ ما دفع، ويكون الخصم غيره، أما هاهنا لا يتأتى تهمة المواضعة؛ لأن الإنسان لا يجود بنفسه ليتخلص عن السجن، فلهذا افترقا، وإن كان القصاص في الطرف يخرجه القاضِي من السّجن أيضاً، ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أن يكون لرجل آخر عليه حق في نفسه، فتواضع مع هذا الرجل ليغر له بطرفه ليتخلص عن السجن، فيبطل حق الآخر في النفس.
الثالث: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً لِلّهِ تعالى نحو الزنا، وشرب الخمر والسرقة، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست، لأني أقررت بالزنا عند القاضي(8/65)
المعزول أربع مرات في أربع مجالس، فحبسني ليقيم عليّ الحدّ، فالقاضي المقلد لا يقيم عليه الحدّ بتلك الأقارير؛ لأن تلك الأقارير لا تكون حجة في حق القاضي المولى، فيستأنف الأمر، فإن أقر عنده أربع مرات في أربع مجالس، أقام عليه الحد، تقادم العهد أو لم يتقادم؛ لأن تقادم العهد يمنع صحة الشهادة، أما لا يمنع صحة الإقرار فيرجمه إن كان محصناً، ويجلده إن كان غير محصن، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أنه يجيء خصم في نفسه، وإن رجع عن الإقرار صح رجوعه، كما لو رجع عند القاضي الأول، ولكن لا يعجل القاضي في إطلاقه لتوهم الحيلة.
وإن قال: إنما حبست لأنه قامت البينة علي بالزنا، فحبسني القاضي المعزول ليقيم علي الحد، فيقول: البينة القائمة عند القاضي المعزول غير معتبرة في حق هذا القاضي، فلا يقيم عليه الحد بتلك البينة، ولو شهد الشهود عند هذا القاضي بزناه لا يقيم عليه الحد أيضاً، إذا كان العهد قد تقادم؛ لأن تقادم العهد يمنع صحة الشهادة، ولا يعجل في إطلاقه لتوهم الحيلة بل يتأنى، ويطلقه بعد ذلك بكفيل لما ذكرنا.
فإن قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بشرب الخمر عنده، أو لأنه قامت البينة عليّ بشرب الخمر فحبسني ليقيم عليّ الحدّ، فهذا القاضي لا يقيم عليه الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حد الشرب إنما يقام على الشارب إذا كان الخمر في بطنه، والرائحة توجد منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله البينة والإقرار في ذلك على السواء، والمسألة معروفة في الحدود.
وإن قال: إنما حبست لأني أقررت بالسرقة من فلان، أو لأنه قامت البينة عليّ بالسرقة من فلان، فإن هذا القاضي يجمع بينه وبين خصمه؛ لأن الدعوى في السرقة شرط كما في باب المال، ولا يقضى عليه بالقطع تقادم العهد أو لم يتقادم، ولا يعجل في إطلاقه، ولو قامت البينة ثانياً لا يقضي عليه بالقطع إذا تقادم العهد فحد السرقة وحد الزنا في حق هذا الحكم على السواء.
الرابع: الحبس بسبب عقوبة هي بين حق الله تعالى وبين حق العبد، وهو حد القذف، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني قذفت هذا الرجل بالزنا، وصدقه ذلك الرجل في إقراره استوفى منه حد القذف، ولا يعجل القاضي في إطلاقه، ولو رجع عما أقر لا يصح رجوعه بخلاف الرجوع عن الحدود الخالصة لله تعالى.
جئنا إلى حكم الودائع والأموال.
إذا قال القاضي المعزول: على يدي فلان كذا وكذا دفعته من المال إليه، وهو لفلان بن فلان، فإن صدقه الذي في يديه المال في جميع ذلك أمر بالتسليم إلى المقر له، وهذا ظاهر، وإن قال: دفع إلي فلان القاضي المعزول هذا القدر من المال لكن لا أدري أنه لمن، وفي هذا الوجه أمر بالتسليم إلى المقر له أيضاً، لأنه أقر أن المال وصل إليه من جهة القاضي المعزول، فكان يده يد القاضي المعزول معنىً، وقد أقر القاضي المعزول أنه لفلان، وصاحب اليد إذا أقر بما في يده لغيره أمر بالتسليم إليه، وإن كان صاحب اليد(8/66)
كذب القاضي المعزول في جميع ما قال، فالقول قوله، وهذا ظاهر أيضاً، وإن كان صاحب اليد قال: دفع إلي القاضي المعزول هذا القدر من المال، وهو لفلان آخر غير الذي أقر له القاضي، فهذا على وجهين:
أحدهما: هذا، وفي هذا الوجه يؤمر بالتسليم إلى الذي أقر له القاضي؛ لأنه لما أقر بالوصول إليه من جهة القاضي، فقد أقر باليد للقاضي من حيث المعنى، فلو كان في يد القاضِي حقيقة وهو يقول: إنه لفلان يؤمر بالتسليم كذا هاهنا.
الوجه الثاني: إذا بدأ بالإقرار بالملك بأن قال: المال الذي في يدي لفلان غير الذي أقر له القاضي المعزول دفعه إلى القاضي المعزول أمر بالتسليم إلى الذي أقر له صاحب اليد؛ لأن إقراره بالملك الأول قد صح لأنه أقر بما في يده، وتعلق به حق المقر له، فإذا قال بعد ذلك: دفع إلى القاضِي المعزول، فقد أقر باليد للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر أنه لفلان، فقد أقر لمن أقر له القاضي به بعد ما أقر به الأول، فلا يصح إقراره للثاني في حق الأول، فإن دفع إلى الأول بغير قضاء ضمن للثاني، وإن دفع بقضاء، فكذلك عند محمد، وعند أبي يوسف لا يضمن.
أصل المسألة: إذا أقر الرجل أن هذا المال الذي في يدي لفلان دفعه إلى فلان آخر، وقال الدافع: هو ملكي، فإن هناك يؤمر المقر بالتسليم إلى المقر له الأول، وهل يضمن للثاني؟ فهو على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار.
وإن قال القاضي المعزول: في يدي ألف درهم أصابه فلان اليتيم من تركة أبيه، وصدقه ذو اليد في ذلك، فإن لم يدع أحد من باقي الورثة ذلك المال فهو لليتيم؛ لأن صاحب اليد أقر للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر به لليتيم، ولم ينازعه في ذلك أحد، فيكون ذلك لليتيم، وإن قال باقي الورثة: لم يستوف منا أحد حقه من تركة الميت كان ذلك المال مشتركاً بين جميع الورثة، واليتيم من جملتهم؛ لأن اليد للقاضي المعزول معنى، وهو قد أقر أن المال كان لوالد اليتيم، وما كان للإنسان يصير ميراثاً لجميع ورثته، ولا يختص به البعض إلا إذا ثبت استيفاء الباقين حقوقهم، ولم يثبت ذلك بقول القاضي المعزول لما أنكروا الاستيفاء؛ لأن القاضي المعزول بالعزل التحق بواحد من الرعايا، فقد صح إقرار القاضي المعزول أن هذا ملك والدهم باعتبار اليد المقر به، ولم يصح إقراره على سائر الورثة بالاستيفاء باعتباره يده المعنوية، وإذا لم يثبت هذا الاستيفاء، فإن هذا المال تركة الميت، فيقسم بين سائر الورثة، واليتيم من جملتهم، إلا أنه ينبغي للقاضي المقلد أن ينظر لليتيم ويحلف باقي الورثة بالله: ما استوفيتم حقوقكم من تركة والدكم فلان؛ لأنه عاجز عن النظر بنفسه فينظر له القاضي المقلد.
وإن قال القاضي المعزول: هذا المال لفلان اليتيم، ولم يقل: أصابه من تركة والده، وادعى باقي الورثة أنه من تركة والدهم فالمال لليتيم؛ لأن القاضي المعزول هاهنا ما أقر بالملك لوالد اليتيم ليصير مقراً بكونه ميراثاً لورثته، بل أقر لليتيم بالملك مطلقاً،(8/67)
وليس من ضرورة كونه مملوكاً لليتيم أن يكون من تركة والده، فيعمل ذلك باقي الورثة يدعون لنفسهم حقاً في هذا المال، فلا يصدقون إلا بحجة.
وإن كان مالاً بصك على رجل قد كان القاضي بين في الصك بينة، وأشهد في الصك أنه لفلان اليتيم أصابه من تركة والده فلان، وأن سائر الورثة استوفوا حقوقهم، فنقول: مجرد الصك ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول على استيفاء باقي الورثة حقوقهم ليس بحجة، وإنما الحجة شهادة شهود يشهدون على إشهاد القاضي عليهم بالاستيفاء، أو على إقرارهم بالاستيفاء، فإن شهد الشهود بذلك كان هذا المال (76أ4) لليتيم وإلا فهو لسائر الورثة.
وإذا قال القاضي المعزول: ثبت عندي بشهادة الشهود، أن فلاناً وقف ضيعة كذا على كذا، وحكمت بذلك، ووضعتها على يدي فلان، وأمرته بصرف غلاتها إلى السبيل المشروط في الوقف، وصدقه بذلك صاحب اليد، فإن أقر ورثة الواقف بذلك أنفذ القاضي المقلد هذا الوقف؛ لأن اليد على الضياع للقاضي المعزول، وهو قد أقر بوقفيته من جهة من زعمه مالكاً، وصدقه خلفاؤه في ذلك، فيعتبر تصديقهم بتصديق الميت لو كان حياً، وإن كان الورثة قد جحدوا ذلك، ولم يقم عليهم بينة كان ميراثاً بينهم؛ لأن بإقرار القاضي يثبت كون الضيعة ملكاً للميت، ولم تثبت الوقفية، فيبقى على ملكه ميراثاً بين ورثته، ولكن يستحلف الورثة على علمهم، فإن حلفوا فالأمر ماض، وإن نكلوا قضي عليهم بالوقفية بإقرارهم، وإن قامت البينة عليهم بذلك قضى القاضي عليهم بالوقفية، كما لو قامت البينة على الواقف حال حياته.
وإن قال القاضي المعزول: إنه وقف على أرباب، أو قال: على المسجد، وبين وجهاً آخر من وجوه البر، ولم يقل: وقفها فلان، فالقاضي المقلد ينفذه، ولا يسأل عن التفسير؛ لأن التفسير يضر بالوقف، عسى فإنه ربما ينكر ورثة الواقف الوقف، ولا يوجد على ذلك بينه فيردونه ميراثاً، وهذا هو السبيل في كل موضع يقع الاستفسار ضاراً، فالقاضي المقلد يتركه ويكتفي بالإجمال، وينبغي للقاضي أن يحاسب الأمناء ما جرى على أيديهم، من أموال اليتامى وغلاتهم كل ستة أشهر، وكل سنة على حسب ما يرى حتى ينظر هل أدى الأمانة فيما فوض إليه أو خان؟ فإن أدى الأمانة قرره عليه، وإن خان استبدل غيره.
بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يحاسب الأمناء كل سنة، وكذلك يحاسب القوام على الأوقاف، لما ذكرنا، ويقبل قولهم في مقدار ما حصل في أيديهم من الغلات والأموال، الوصي والقيم في ذلك على السواء، فإن الأصل في الشرع أن القول قول القاضي في مقدار المقبوض، وفيما يخبر من الأوقاف على اليتيم، أو على الضيعة، وما صرف منها في مؤنات الأراضي، إن كان وصياً يقبل قوله في المحتمل، وإن كان فيما لا يحتمل لا يقبل قوله، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وفرق بين الوصي وبين القيم.(8/68)
فالوصي: من فوض إليه الحفظ والتصرف.
والقيم: من فوض إليه الحفظ دون التصرف.
وإذا عرفت الفرق بين الوصي وبين القيم، فإذا ادعى الوصي الإنفاق، فقد ادعى ما دخل تحت ولايته، فيقبل قوله، وكثير من مشايخنا سووا بين الوصي وبين القيم فيما لم يكن للضيعة منه بد، وقالوا: يقبل قول القيم في ذلك كما يقبل قول الوصي، وقاسوا على قيم المسجد، أو واحد من أهل المسجد إذا اشترى للمسجد ما لا بد منه نحو الحصير والحشيش والدهن، أو صرف شيئاً من غلات المسجد إلى أجر الخادم، لا يضمن لكونه مأذوناً فيه دلالة، فإنه لو لم يفعل ذلك يتعطل المسجد كذا ههنا، ومشايخ زماننا قالوا: لا فرق بين الوصي والقيم في زماننا، فالقيم في زماننا من فوض إليه التصرف والحفظ جميعاً كالوصي.5
قال: وإن اتهم القاضي واحداً منهم، يريد به واحداً من الأوصياء فيما ادعى من الإنفاق على اليتيم، أو على الوقف، حلفه القاضي على ذلك، وإن كان أميناً كالمودع إذا ادعى هلاك الوديعة، أو ردها، قال بعض مشايخنا: إنما يستحلف إذا ادعى عليه شيئاً معلوماً؛ لأن الاستحلاف يصح على دعوى صحيحة ودعوى المجهول لا يصح.
وقال بعضهم: يحلف على كل حال؛ لأنه إنما يحلف نظراً لليتيم واحتياطاً له، وفي مثله يستحلف على كل حال، وإن أخبروا أنهم أنفقوا على الضيعة واليتيم من أموال الأراضي والغلات كذا وبقي في أيدينا كذا هذا القدر إن كان منهم معروفاً بالأمانة، فالقاضي يقبل منه الإجمال، ولا يجبره على التفسير؛ لأنه لو أجبره على التفسير ربما لا يمكنه الخروج عن العهدة مع صدقه في الإخبار، والإنسان قد يعجز عن حفظ حسابه وعن الخروج منها فيتضرر، وليس للقاضي ولاية الإضرار بالغير، ومن كان منهم متهماً، فالقاضي يجبرهم على التفسير شيئاً فشيئاً، ولا يقبل منه الإجمال، وليس تفسير الجبر ههنا الجبر وإنما تفسيره أن يحضره القاضي يومين أو ثلاثة ويخوفه، ويهدده إن لم يفسر احتياطاً في حق اليتيم، فإن فعل ذلك، ومع هذا لم يفسر، فالقاضي يكتفي منه باليمين ويتركه.
قال: وإن قال الوصي للقاضي المقلد إن القاضي المعزول حاسبه، فالقاضي المقلد: لا يكف عنه إلا بالبينة؛ لأنه يدعي بطلان حق المحاسبة على القاضي، فلا يصدق عليه إلا بحجة، وإن قال الوصي أو القيم: أنفقت على اليتيم، أو قال: على الوقف كذا من مالي وأراد أن يرجع بذلك في مال اليتيم، والوقف، لا يقبل قوله بخلاف ما ادعى الإنفاق من مال اليتيم أو من مال الوقف، حيث يقبل قوله في المحتمل؛ لأنه أمين فيما في يديه من مال اليتيم والوقف، ويدعي الخروج عن عهدة الأمانة بدعوى الإنفاق، من غير أن يثبت لنفسه استحقاق شيء، وقول الأمين في مثل هذا مقبول، فأما إذا ادعى الإنفاق من مال نفسه، فما ادعى الخروج عن عهدة الأمانة، بل ادعى الاستحقاق لنفسه على الصغير والوقف، ودعوى الاستحقاق لا يقبل من غير حجة.(8/69)
قال: وإن ادعى القيم أو الوصي أن القاضي المعزول أجرى له مشاهرة في كل شهر كذا وكذا، في كل سنة كذا وكذا، وصدقه القاضي المعزول في ذلك، أو لم يصدقه، فالقاضي لا ينفذ ذلك؛ لأن مجرد الدعوى ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول في الحال ليس بحجة، فإن قامت له بينة على فعل القاضي في حال قضائه قبلت، وأنفذ القاضي المقلد ذلك، لأن للقاضي ولاية تقدير كفايته، وأجراها له في مال اليتيم والوقف، فهذه البينة قامت على إثبات فعل القاضي المعزول في حال قضائه، وفيما هو داخل تحت ولايته، وقوله في حال قضائه فيما هو داخل تحت ولايته مقبول، فهذه البينة قامت على ما هو حجة، فقبلت.
بعد هذا القاضي المقلد ينظر في ذلك إن كان ذلك مقدار أجر عمله أو دونه أنفذ ذلك كله، وإن كان أكثر أنفذ مقدار أجر مثل عمله، وأبطل الزيادة؛ لأنه لم يكن للقاضي المعزول أن يزيد على أجر مثل عمله، فلا يكون للمقلد تنفيذ الزيادة.
وإن كان القيم قد استوفى الزيادة، أمره القاضي بالرد علي اليتيم؛ لأنه استوفى ما ليس له ذلك، قال في «الأصل» : وما وجد في ديوان القاضي المعزول من شهادة، أو قضاء أو إقرار، فهو باطل لا يعمل به القاضي المقلد، إلا أن يقوم بينة أنه قضى به وأنفذه، وهو قاض يومئذ؛ لأن القاضي الثاني لا يعلم حقيقة شيء من ذلك، فلا بد من طريق يقع العلم له بحقيقة تلك البينة، ويشرط أن يشهدوا أنه قضى به، وهو يومئذ قاض لجواز أنه قضى به بعد العزل، وقضاؤه بعد العزل باطل.
الفصل التاسع عشر: في القضاء في المجتهدات
قال في «أدب القاضي» : وما اختلف فيه القضاة، وقضى فيه قاض بقضية ثم رجع إلى قاض آخر، يرى خلاف ذلك أمضى قضاء الأول ولا ينقضه، ولو نقضه كان باطلاً، والأصل فيه: ما روي أنه لما انتهت الخلافة إلي علي رضي الله عنه رفع إليه قضايا عمر وقضايا عثمان رضى الله عنهما، وطلب منه نقضها، لما أن رأي علي رضى الله عنه في تلك القضايا كان بخلاف ذلك، فلم ينقض علي رضى الله عنه شيئاً من ذلك، وحين قدم الكوفة قام خطيباً وقال: إني لم أقدم عليكم لأحل عقدة عقدها عمر، أو لأعقد عقدة حلها عمر رضي الله عنه، والمعنى في ذلك أن قضاء القاضي في موضع الاجتهاد نافد بالإجماع، فكان القضاء الثاني ينقض الأول مخالفاً للإجماع، ومخالفة الإجماع ضلال وباطل؛ ولأن القضاء إذا جعل في محل الاجتهاد، فقد يرجح الجانب الذي اتصل به القضاء بالقضاء، فلا يعارض من الجانب الآخر؛ ولأنه لو جاز للثاني نقض الأول يجوز للثالث نقض الثاني إذا كان رأيه بخلافه، وكذا للرابع والخامس إلى ما لا يتناهى وليس في أحكام الله تعالى ما لا يتناهى.(8/70)
واعلم (76ب4) بأن قضاء القضاة التي يرفع إلى قاض آخر لا يخلو، إما أن يكون جوراً بخلاف الكتاب والسنة والإجماع، أو يكون في محل الاجتهاد، واجتهد فيه الفقهاء، واختلف فيه العلماء أو يكون بقول مهجور، فإن كان في محل الاجتهاد وحكمه ما ذكرنا، وإن كان جوراً فالقاضي الذي رفع إليه لا ينفذه وينقضه، ولو نفذه كان لقاضي آخر أن يبطله، لأن ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولا يجوز تقرير الباطل والضلال، وإن كان بقول مهجور، فالقاضي الذي يرفع إليه ينقضه، ولا ينفذه، ولو نفذه كان لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله، وسيأتي بعد هذا بيانه إن شاء الله تعالى.
وبعد هذا يحتاج إلى بيان محل الاجتهاد، قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: كل أمر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وجاء عنه غير ذلك الفعل، أو جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عن ذلك الرجل، أو غيره من الصحابة بخلافه وعمل في الناس بأحد الأمرين دون الآخر، أو عمل بأحد القولين، ولم يعمل بالأخر، ولم يحكم به أحد، فهو متروك منسوخ، فإن حكم به حاكم من أهل زماننا لم يجز، أشار إلى أنه وإن قضى بالنص لكن ثبت بإجماع الأمة انتساخه، حيث لم يعمل به أحد من الأمة، والعمل بالمنسوخ باطل غير جائز.
قال: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، وحكم به حاكم من حكام أهل الأمصار، فأخذ بعضهم بقوله، وأخذ بعضهم بقول الآخر، يعني بعض الحكام أشار إلى أن بمجرد خلاف بعض العلماء لا يصير المحل محل الاجتهاد ما لم يعتبر العلماء، وسوغوا له الاجتهاد فيه.
ألا ترى أن عبد الله ابن عباس كان من الفقهاء، ثم لما لم يسوغوا الاجتهاد له في ربا النقد، حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري رضى الله عنه لم يعتبر خلافه على ما بينا قبل هذا، ثم قوله: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، يشير إلى أن العبرة بحقيقة الاختلاف في صيرورة المحل مجتهداً فيه، وفي بعض المواضع يشير إلى أن العبرة لإنشاء الدليل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» في أبواب الأنفال، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم إن الخصاف لم يعتبر الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن معهم، ومن بعدهم من السلف.
قال صاحب «الأقضية» : فإذا زنى رجل بأم امرأته، ولم يدخل بها، فجلده القاضي، ورأى أن لا يحرمها عليه فأقرها معه، وقضى بذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه قضى في فصل مجتهد فيه، فإن بين الصحابة اختلافاً في هذه الصورة، فعلي وابن مسعود وعمران بن الحصين وأبي بن كعب رضي الله عنهم قالوا بالحرمة، وابن عباس كان لا يقول بالحرمة، وكان يقول: الحرام لا يحرم الحلال، وربما كان برواية مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفا، وهذا القضاء في حق هذا المقضي عليه متفق عليه، وفي حق(8/71)
المقضي له إن كان جاهلاً فكذلك، وإن كان عالماً فعلى الخلاف لما مر.
وحكى القدوري في «شرحه» ، فيمن تزوج امرأة زنى بها أبوه أو ابنه، وقضى القاضي بنفاذ هذا النكاح، وفي نفاذ هذا خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فعلى قول أبي يوسف لا ينفذ قضاؤه، لأن الحادثة منصوص عليها في «الكتاب» ، فإن النكاح في اللغة الوطء، ولا ينفذ حكم الحاكم على خلاف النص، وعلى قول محمد رحمه الله ينفذ؛ لأن هذا النص ظاهر وللتأويل فيه مشاع، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما على ما روينا يؤيده فكان محل الاجتهاد، فينفذ قضاؤه فيه.
وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها، أو اختارت نفسها فهذه المسألة مختلفة في الصدر الأول، فعلى قول عمر وابن مسعود رضى الله عنهما إن اختارت زوجها فهي امرأته، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة، وعلى قول أهل المدينة إن اختارت زوجها فقد بانت منه، وإذا كانت المسألة مختلفة في الصدر الأول من هذا الوجه، فبأي قول من هذه الأقوال قضى كان قضاؤه في فصل مجتهد فيه فينفذ، وإذا قضى القاضي بجواز بيع أمهات الأولاد لا ينفذ قضاؤه.
واعلم بأن جواز بيع أمهات الأولاد مختلف في الصدر الأول، فعمر وعلي رضى الله عنهما أولاً كانا لا يجوزان بيعها، وهكذا روي عن عائشة رضى الله عنها، وقال علي رضى الله عنه آخراً: يجوز بيعها. ثم أجمع المتأخرون على أنه لا يجوز بيعها، وتركوا قول علي آخراً بعد هذا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه قول محمد رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ينبغي أن ينفذ، فكأنه مال إلى قول من قال: إن المتقدمين إذا اختلفوا في شيء على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد القولين، فهذا الإجماع رفع الخلاف المتقدم عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف، وإذا ارتفع الخلاف المتقدم على قول محمد لم يكن قضاء هذا القاضي في فصل مجتهد فيه، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يرتفع الخلاف المتقدم كان هذا قضاء في فصل مجتهد فيه فنفذ.
هما يقولان: لو ثبت الإجماع باتفاق من بعدهم لا بد من تعليل؛ لأن مخالفة الإجماع ضلال، وتضليل بعض الصحابة أو بعض السلف محال، يوضحه أن المخالف لو كان حياً لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فكذا إذا مات؛ لأن بالموت فات المستدل لا الدليل، والمانع الدليل دون المستدل والدليل قائم، فيمنع انعقاد الإجماع حجة لا يوجب الفصل بينما إذا سبقه مخالف، وبين ما إذا لم يسبقه مخالف، ألا ترى أنه لو اجتمع علماء عصر على حكم واحد، وانعقد إجماعهم على ذلك، ثم اجتمع أهل عصر بعدهم على خلاف ذلك يصح؟ وانتسخ الأول بالثاني كأنه ورد آية مضادة لحكم آية قبلها.
ثم قول الكل لم يصلح مانعاً انعقاد الإجماع والإجماع، فقول الواحد أولى وقولهما: بأنه يودي إلى تضليل بعض السلف، فليس كذلك؛ لأن الإجماع إنما انعقد(8/72)
الآن والتضليل في مخالفة الإجماع، فإذا انعقد الإجماع لا تتحقق المخالفة، فلا يؤدي إلى الإضلال، كان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقول: لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، أن إجماع المتأخرين يرفع الخلاف المتقدم؛ لأن حد الإجماع قد وجد والدليل الموجب لكون الإجماع حجة لا يوجب الفصل، فكان هذا القضاء في غير محل الاجتهاد، فلا ينفذ عند الكل، فكان ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه قول الكل، وما يقول بأنه يؤدي إلى تضليل بعض السلف.
قلنا: لا يؤدي لأنا نجعل هذا الإجماع بمنزلة البيان، أن ما أدى إليه اجتهاد المخالف في الصدر الأول يبدل الآن، وصار بمنزلة ما لو كان حياً، وتحول رأيه إلى خلاف ذلك، وإنما حملنا على هذا حملاً لأمر المسلمين على إجماعهم على ما يحل لهم على تعين الحق والصواب في قولهم، وصيانة لهم عن تضليل من كان قبلهم، قال القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «تقويمه» في آخر فصول الإجماع: إن محمداً رحمه الله روى عنهم أنه لا ينفذ القضاء أنه لا ينفذ من غير ذكر خلاف.
وفي الباب الأول من أقضية «الجامع الكبير» أن قضاء القاضي بجواز بيع أم الولد يتوقف على إمضاء قاض آخر، وهو الأصح، والوجه في ذلك: أن العلماء اختلفوا على أن بيع أم الولد هل بقي مختلفاً فيه؟ قال أصحابنا: لم يبق مختلفاً فيه كما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الإجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم.
ومن العلماء من قال: لا يرفع، فبقي مختلفاً، فكان في كونه مختلفاً فيه اختلاف، فيتوقف على قضاء قاض آخر، فإن أمضاه قاض آخر بعده لا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، لا يكون لأحد بعد ذلك أمضاؤه، وهو كذلك هذا الحكم في كل حادثة اختلف (77أ4) الناس فيها أنها مختلفة، أو ليست بمختلفة أن قضاء القاضي فيها يتوقف على إمضاء قاض آخر، إن إمضاه قاض آخر ينفذ، وليس لأحد بعد ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، وليس لأحد بعد ذلك إمضاؤه.
وفي «الزيادات» : لو أن المسلمين أسروا أسارى من أهل الحرب، وأحرزوهم بدار الإسلام، ثم يظهر عليهم المشركون، ولم يحرزوهم بدار الحرب حتى ظهر عليهم قوم آخرون من المسلمين، وأخذوهم من أيديهم في دار الإسلام، فإنهم يردون على الطريق الأول اقتسم الفريق الثاني، أو لم يقتسموا؛ لأنه لم يثبت للكفار فيهم ملك ولاحق ما داموا في دار الإسلام، لبقائهم في أيدي الفريق الأول من حيث الحكم والاعتبار، فصار أخذ الفريق الثاني من الكفار في دار الإسلام كأخذهم من الفريق الأول على الفريق الأول.
قال: في «الكتاب» : إلا أن يكون الذي قسم بين الفريق الثاني يرى ما صنع المشركون ملكاً وإحرازاً فحينئذ كان الفريق الثاني أولى بملك فقال: لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء.
ومعناه أن العلماء اختلفوا في أن مجرد الاستيلاء من الكفار ملكاً، وقسم بين(8/73)
الفريق الثاني بناء على ذلك حصل قسمة في محل مجتهد فيه، فينفذ كقسمة الغنائم في دار الحرب.
وذكر في «السير الكبير» إذا استولى المشركون على مال المسلمين وأحرزوه بعسكرهم في دار الإسلام، ثم استنقذه منهم جيش من المسلمين قبل الإحراز بدار الحرب، فذلك مردود على صاحبه، وكذلك لو لم يقل الإمام بذلك حتى قسم المال بين من أصابه فالقسمة باطلة والمال، وهو المتاع مردود عل صاحبه.
وإن علم الإمام للحال ورأى إحرازهم بالعسكر إحرازاً يأمر فخمسه وقسمه مع غنائم المشركين بين من أصابه من المسلمين، ثم رفع إلى قاض يرى ذلك غير إحراز جاز ما صنع الأول، ولم يبطل، لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء ومعناه ما ذكرنا.
فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن قال بأن نفس الاستيلاء سبب الملك، ومن قال بأن مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وهو أصحابنا ما جعلوا مجرد الاستيلاء سبباً؟ قلنا: كون مال المسلمين محلاً بالاستيلاء مختلف فيه، وكون مجرد الاستيلاء سبباً مختلف فيه أيضاً، والإمام في هذه المسألة أخذ بقول من قال بأن مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وبقول من قال: بأن مجرد الاستيلاء سبب، فكان اجتهاده من الطرفين مصادفاً محلا مجتهداً فيه.
ونظير هذا ما قلنا فيمن قضى بشهادة الفاسق على الغائب، أو شهادة رجل وامرأتين بالنكاح على الغائب ينفذ قضاؤه، وإن كان من يجوز القضاء على الغائب يقول: ليس للنسوان شهادة في باب النكاح، وليس للفساق شهادة أصلاً، ولكن قيل كل واحد من الفصلين مجتهد فيه، فينفذ القضاء من القاضي باجتهاده فيهما، فكذا في مسألتنا والمعنى فيه أن المجتهد يتبع الدليل القائل به ما ذكر، ثم في «الزيادات» وفي «السير الكبير» نص على أن قضاء القاضي بالملك للكافر بمجرد الاستيلاء، وقبل الإحراز بدار الحرب نافذ، قيل: وقد ذكر في «سير الجامع الكبير» : أنه لا ينفذ، لأنه لم يثبت فيه اختلاف المتقدمين، قال: ولو قضى قاض بشاهد ويمين لا ينفذ قضاؤه، قال: لأنه خلاف التنزيل؛ لأن ظاهر قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) يقتضي أن يكون حجة الاستحقاق من جانب المدعي بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، ومن جعل الحجة شهادة شاهد واحد ويمين المدعي، فقد خالف النص.
وإنما قال الزهري: إنه بدعة؛ لأنه لم يعمل به أحد من الصحابة، وإنما أحدثه معاوية، فكان بدعة منه، وذكر في كتاب الاستحلاف أن على قول أبي حنيفة، وسفيان الثوري رحمهما الله ينفذ قضاؤه لما روي عن رسول الله عليه السلام، «أنه قضى بشاهد ويمين الطالب» ، وقد أخذ به بعض العلماء، فكان قضاء في فصل مجتهد فيه فينفذ،(8/74)
وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل.
وفي «أقضية الجامع» من تعليقي أن القضاء بشاهد ويمين يتوقف على إمضاء قاض آخر، ولو قضى كل متروك التسمية عمداً ذكر في «النوادر» أن على قول أبي حنيفة ومحمد ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل، ولو قضى في حد أو قصاص بشهادة رجل وامرأتين، ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلاف رأيه، فإنه ينفذ قضاؤه، ولا يبطله، وليس طريق نفاذ القضاء الأول في هذه الصورة حصول في محل مجتهد فيه؛ لأنه لم يبلغنا الاختلاف فيه إلا ما روي شاذاً عن شريح رضي الله عنه، وإنما طريقه أن القضاء الأول حصل في موضع اشتباه الدليل.
بيانه أن المرأة من أهل الشهادة شهادة مطلقة، لأن الأهلية بمعان قائمة بها وتلك المعاني لا تختلف وظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (البقرة: 282) يدل على قبول شهادة النساء مع الرجال مطلقاً، نظراً إلى اللفظ وأنه وإن ورد في باب المداينة، إلا أن العبرة عندنا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولو لم يرد نص قاطع في إبطال شهادة النساء مع الرجال في هذه الصورة، وما روي عن الزهري، وهو قوله: مضت السنة الحديث ليس بدليل قطعي، فكان موضع الاجتهاد، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه.
وفي «السير الكبير» اشترى الرجل دابة وغزا عليها، فوجد بها في دار الحرب عيباً، فإن كان البائع معه في العسكر خاصمه، وإن لم يكن ينبغي له أن لا يركبها، ولكن يسوقها معه حتى يخرجها إلى دار الإسلام، ولو ركبها لحاجة نفسه، أو حمل أمتعة عليها سقط حقه في الرد وجد دابة أخرى أو لم يجد، فإن أتى الإمام وأخبره فأمره بالركوب فركب سقط حقه في الرد، ولو أكرهه على الركوب لما أنه كان يخاف الهلاك، فركب ولم ينقصها ركوبه فله الرد؛ لأن عند الإكراه ينعدم الفصل من المكره، وينعدم الرضا به، وإن لم يكرهه الإمام على الركوب ولكن قال: اركبها وأنت على ردك فركبها سقط حقه في الرد، فإن ارتفعا إلى القاضي بعد ذلك، فردها بالعيب على طريق الاجتهاد، لما قال له الأمير من ذلك، ثم رفعت إلى قاض آخر يري ما صنع الأول خطأ، فإنه يمضي قضاء الأول لأن قضاء الأول حصل في موضع الإجتهاد؛ لأن ظاهر النصوص الموجبة لطاعة الأمير يخرج ركوبه من أن يكون رضاً بالعيب، وكذلك التنصيص من الأمير، بقوله وأنت على ردك يسقط اعتبار دليل الرضا منه بالعيب ولو قضى بإبطال طلاق المكره، نفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه في فصل مجتهد، لأنه موضع اشتباه الدليل، لأن اعتبار الطلاق بسائر التصرفات يبقى حكمه.
وإذا قضى قاض بأمر مختلف فيه، ثم رفع إلي قاض آخر فأبطله، ثم رفع إلى قاض ثالث، فهذا القاضي يمضي القضاء الأول إلا الترك ويرد الثاني؛ لأن الأول نفذ بالإجماع لحصوله في فصل مجتهد فيه، فكان قضاء الثاني بالرد في غير محل لاجتهاد فلا ينفذ، ولو كان نفس القضاء الأول مجتهدا فيه بعض المشايخ قالوا هو مختلف فيه، وبعضهم(8/75)
قالوا: لا اختلاف فيه فرده القاضي الثاني، فإن القاضي الثالث يمضي الرد، لأن القضاء بإبطاله حصل في فصل مجتهد فيه، وهو لا يعلم بذلك اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينفذ قضاؤه وإليه أشار محمد في كتاب الإكراه.
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وعامتهم على أنه لا يجوز وإليه أشار في «السير الكبير» ، فقد ذكر في «السير الكبير» في أبواب الفداء إذا مات الرجل وترك رقيقاً، وعليه الديون فباع القاضي رقيقه، وقضى ديونه ثم قامت البينة لبعضهم أن مولاه كان دبره كان بيع القاضي فيه كان باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، فاجتهد وأبطل تدبيره؛ لأنه وصية وباعه في الدين، ثم ولي قاض آخر، يرى ذلك خطأ ينفذ قضاء الأول، وقد حصل قضاؤه بالبيع في فصل مجتهد فيه في الفصلين، مع هذا ينفذ قضاؤه في الفصل الأول لما لم يعلم، ونفذ في الفصل الثاني لما علم.
وهكذا ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات، والمذكور ثمة وإذا شهد محدودان في قذف ولم يعلم القاضي بذلك، حتى قضى بشهادتهما ثم (77ب4) علم فإن كان من رأيه أن شهادة المحدود في القذف بعد التوبة حجة أمضي قضاؤه، وإن لم يكن من رأيه ذلك نقض قضاؤه، وهذا لأن القضاء بشهادة المحدود في القذف ينفذ ظاهراً لا باطناً على ما عرف في موضعه، فكانت هذه الحالة بمنزلة ابتداء الشهادة، ولو علم القاضي بكون الشاهد محدوداً في القذف في حال ابتداء الشهادة، إن كان من رأيه أنه حجة يقضى بها، ومالا فلا على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فهذا تنصيص على أن قضاء القاضي في المجتهد أن ينفذ إذا علم بكونه مجتهداً فيه فيما عدا الترك، أشار في «الجامع» أيضاً، وهكذا ذكر الخصاف في كتابه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «كتاب الرجوع» : هذا هو ظاهر المذهب، وها هنا شرط آخر لنفاذ القضاء في المجتهد أن يصير الحكم حادثة، فيجري خصومة صحيحة بين يدي القاضي على خصمه، ثم إذا قضى القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وهو يرى أن شهادته حجة إنما ينفذ قضاؤه؛ لأن هذا فصل مجتهد فيه، إما لأن فيه اختلافاً في الصدر الأول، فعمر رضى الله عنه كان يراها حجة، وإما لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن الآية مؤولة والخلاف بين العلماء في حرف الاستثناء إلى أو إلى رد الشهادة ظاهر.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر يبطله، فكأنه رأى قضاء الأول مخالفاً لظاهر الآية، فلهذا قال: أبطله الثاني.
وفي «أقضية الجامع» من تعليقي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الحدادي رحمه الله: إذا قضى القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، ورفع قضاؤه إلى قاض آخر، إنما لا يبطل الثاني قضاء الأول إذا كان الأول يراه حقاً، وعلم الثاني أن الأول رآه حقاً، بأن أظهر الأول ذلك للثاني، أو لم يعرف الثاني أن الأول رآه حقاً، أم لا؛ لأن الظاهر إنما يقضي بشيء إذا رأى ذلك حقاً، أما إذا علم الثاني أن الأول لم يرد ذلك حقاً بأن قال الأول: الصحيح قول ابن عباس أن شهادته لا تقبل، وإن مات كان للثاني أن يبطله؛ لأنه بين أن الأول ما كان قضى حيث قضى بخلاف رأيه، وسيأتي الكلام بعد هذا في القاضي يقضي بخلاف رأيه.
ولو كان القاضي هو المحدود في القذف، فقضى لرجل بقضية، ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر، يري ذلك باطلاً يرد قضاؤه:
يجب أن يعلم بأن المحدود في القذف لا يصلح قاضياً قبل التوبة، ولا تنفذ قضاياه بالإجماع، وإذا رفع قضاياه إلى قاض آخر أبطله القاضي الثاني لا محالة، فلو نفذه القاضي الثاني، فالقاضي الثالث يبطله؛ لأن تنفيذ القاضي الثاني حصل بخلاف الإجماع فكان باطلاً، فكان للثاني أن(8/76)
يبطله، وبعد التوبة لا يصلح قاضياً عندنا، خلافاً للشافعي فإذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر يرى بطلانه أبطله، فقد فرق بين قضاء المحدود في القذف، وبين القضاء بشهادة المحدود في القذف.
فقال: القاضي إذا كان محدوداً في القذف، ورفع قضاياه إلى قاض آخر يرى بطلانه أبطله، والفرق أن قضاء المحدود في القذف نفسه مختلف فيه عندنا لا يصلح قاضياً، وعند من خالفنا يصلح قاضياً، ونفس القضاء إذا كان مختلفاً يتوقف على إمضاء قاض آخر، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف نفسه ليس بمختلف، بل المختلف شهادة المحدود في القذف، أنها هل تصلح حجة؟ فالقضاء بشهادة المحدود في القذف يكون حاصلاً في المختلف فيه فينفذ.
توضيح ما قلنا، أن قضاء المحدود في القذف إذا كان نفسه مختلفاً فيه لو نفذ كان القاضي ملزماً قول نفسه، فيكون عاملاً لنفسه، والإنسان فيما يعمل لنفسه لا يصلح قاضياً، فعلى قول من لا يرى ذلك قضاء تنعدم صورة القضاء، ونفاذ القضاء من غير وجود صورته لا يكون، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف لو نفذ كان القاضي ملزماً قول الشاهد، فيكون عاملاً لغيره لا لنفسه، فيوجد صورة القضاء، فيمكن تنفيذه، ولو رفع قضاء القاضي المحدود في القذف إلى قاض يرى جوازه فأمضاه، ثم رفع إلى قاض آخر يرى بطلانه، فالقاضي الثالث يمضي إمضاء القاضي الثاني، ولا يبطل قضاء الأول؛ لأن إمضاء الثاني حصل في محل مجتهد فيه، فنفذ فلا يكون لأحد إبطاله.
قال في «المنتقى» : وإذا كان القاضي محدوداً في القذف لا يسعه أن يقضي على وجه الحكم، ولكن يبين المغصوب من يد الغاصب ويرفعه إلى الطالب بمنزلة من ليس بقاض، فيكون معيناً للطالب، واستشهد صاحب «الأقضية» لإيضاح الفرق بين قضاء القاضي المحدود في القذف، وبين القضاء المحدود بشهادة المحدود في القذف، فقال ألا ترى أن القاضي لو قضى للزوج بشهادة زوجته ينفذ قضاؤه لوجود صورة القضاء مصادفته محلا مجتهداً فيه، لأن هذا مجتهد فيه، أن الزوج هل يصلح شاهداً لزوجته؟ وعلي رضى الله عنه كان يرى ذلك، ولو قضى لامرأة نفسه بشهادة شهود لا يجوز لانعدام صورة القضاء لكونه عاملاً لنفسه، بل يتوقف على إمضاء قاض آخر، كذا ههنا.
ولو أن قاضياً قضى بشهادة شاهدين ثم علم أنهما كافران، رد قضاؤه أو ظهر أن قضاءه وقع بخلاف الإجماع، وإن علم أنهما عبدان، فكذلك الجواب وإنه مشكل؛ لأن(8/77)
شريحاً رضى الله عنه كان يجيز شهادة العبد وكذلك مالك وداود بن علي، والجواب أن الصحابة أجمعوا على عدم قبول شهادة العبد، فإن علياً وزيد بن ثابت رضي الله عنهما لما اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة هل يعتق بقدره؟ قال علي رضي الله عنه: يعتق فاحتج عليه زيد بفصل الشهادة، فقال أرأيت لو شهد أتجوز شهادته في البعض دون البعض؟ فلولا أنهم كانوا متفقين على عدم قبول شهادة العبيد، وإلا لما احتج زيد بفصل الشهادة، وقول بعض المتأخرين بخلاف إجماع الصحابة لا يعتبر، ولا تصير الحادثة به مجتهداً فيه بخلاف شهادة المحدود في القذف، لأنه كان مختلفاً بين السلف.
ولو علم أنهما أعميان فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الرجوع أن الجواب فيهما كالجواب في العبدين وظاهر ما ذكر في «المختصر» يدل عليه.
عبد أو صبي أو نصراني استقضى وقضى نفسه، ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر فأمضاه، فإنه لا يجوز إمضاؤه، وهذا الجواب ظاهر في حق الصبي والنصراني مشكل في حق العبد، بناءً على ما ذكرنا أن القضاء معتبر بالشهادة، والصبي لا يصلح شاهداً أصلاً، والنصراني لا يصلح شاهداً في حق المسلمين فلا يصلح قاضياً، فأما العبد يصلح شاهداً عند مالك وشريح فيصلح قاضياً، فإذا اتصل به أمضاه قاض آخر ينبغي أن ينفذ كما في المحدود في القذف، والجواب ما ذكرنا، ولو أن أعمى قضى بقضية، ورفع إلى قاض آخر فأمضى ينفذ قضاؤه؛ لأن في أهلية شهادته خلاف ظاهر، إن كان بصيراً وقت التحمل، فالخلاف بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وبين أبي يوسف رحمه الله وإن كان أعمى وقت التحمل فالخلاف بينهما وبين مالك وقد اعتبر خلافه؛ لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن التمييز شرط في الشهادة، فمالك اعتبر أصل التمييز وقد وجد، ونحن اعتبرنا كمال التمييز، ولم يوجد.
وهذا مما يشتبه وللاجتهاد فيه مجال، وليس فيه إجماع السلف بخلافه، بخلاف فصل العبد على ما مر، ولو رفع قضاؤه إلى قاض لا يرى جواز قضائه (78آ4) أبطله؛ لأن نفس القضاء مجتهد فيه، لأن الخلاف في أهلية شهادته خلاف في أهلية قضائه، ثم قال: ولو رفع قضاؤه إلى قاض يرى شهادته وقضاءه جائزاً، أو لا يدري أنه هل يرى ذلك، فانفذ حكمه ثم رجع إلى قاض يرى ذلك باطلاً، فليس له أن يبطله؛ لأن إمضاءه حصل في محل مجتهد فيه، ثم سوى بينما إذا كان شهادته ترى جائزة، وبينما إذا كان لا يدري؛ لأنه إذا كان لا يدري يحمل على أنه يرى جوازه، لأن الظاهر أن القاضي لا يقضي بخلاف ما يعتقده.
ولو أن امرأة استقضت جاز قضاؤها في كل شيء، إلا الحدود والقصاص؛ لأنها تصلح شاهدة فيما عدا الحدود والقصاص، فتصلح قاضية فيها، ولا تصلح شاهدة في الحدود والقصاص، فلا تصلح قاضية فيها، فإن قضت في الحدود والقصاص، ثم رفع قضاؤها إلى قاض آخر، فأمضاه نفذ قضاؤها؛ لأن في أهليتها للشهادة اشتباه الدليل، فكان مجتهداً فيه، وإذا قضى القاضي في المجتهد فيه بخلاف رأيه ذكر الشيخ الإمام(8/78)
الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «مقدمة قضاء الجامع» ، أنه لا ينفذ، وهكذا ذكر في وقف «فتاوى الفضلي» ، وإليه أشار محمد رحمه الله في قضاء «الجامع» ، فإنه قال: إذا شهد محدودان في قذف بعدما تابا عند قاض، فرأى القاضي أن يجيز شهادتهما، وقضى بذلك نفذ قضاؤه بشرط رؤية القاضي جواز شهادتهما لنفاذ قضائه بشهادتهما.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا قضى بخلاف رأيه ينفذ عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، وكان الفقيه أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله يقول لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يجوز وفي «شرح الجامع» لأبي بكر الرازي رحمه الله أن القاضي إذا قضى بخلاف مذهبه مع العلم لا يجوز في قولهم وذكر الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله في شرح كتاب «الأقضية» أن على قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ، ولا رواية في هذا عن محمد رحمه الله، قال: هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع أن على قول أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي يوسف لا يجوز.
وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله أن على قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، قال رحمه الله ذكر الخلاف في بعض المواضع في نفاذ القضاء، وفي بعض المواضع ذكر الخلاف في حل الأقدام على القضاء، وذكر في كتاب القسمة في الوصايا التي ازدادت على الثلث عند أبي حنيفة بطريق المنازعة، وعندهما بطريق العول والمضاربة، ثم قال: وبأي ذلك أحدث فهو حسن، فإن كان الخلاف في جواز الأخذ برأي الغير، فوجه قول من قال بالجواز أن القاضي أمر بالمشاورة، فلو لم يجز له الأخذ برأي غيره إذا كان مخالفاً لرأيه لم يكن للأمر بالمشاورة فائدة، وجه قول من قال بعدم الجواز قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة: 49) الله تعالى نهى القاضي عن اتباع هوى الغير، وإن كان الخلاف في نفاد القضاء، فوجه قول من قال بعدم النفاذ، أنه زعم فساد قضائه فيعامل في حقه بزعمه، وجه من قال بالنفاذ أنه قضى في محل الاجتهاد فينفذ قضاؤه، كما لو قضى برأي نفسه، وهذا لأن القضاء إنما يرد لمكان الخطأ، ولا يتيقن بالخطأ في موضع الاجتهاد؛ لأن كل مجتهد لا يقطع القول بأن الصواب ما أدى إليه اجتهاده، ولا ما أدى إليه اجتهاد خصمه، بل الأمر محتمل عنده، فإذا كان الأمر محتملاً عنده يتعين الصواب في الجانب الذي يتصل به القضاء حملاً لأمره على الصلاح فينفذ.
وفي «رجوع الجامع» إذا قضى على الغائب، وهو لا يرى ذلك لا ينفذ عند محمد رحمه الله، وذكر في هذه المسألة في «فتاوى الفضلي» وذكر أنه ينفذ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وكان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله يفتي بعدم نفاذ القضاء في هذه الصورة، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بنفاذ القضاء، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يفتي بالنفاذ أيضاً، وما يفعله قضاة(8/79)
زماننا مع تقليدهم شفعوي المذهب في اليمين المضاف، وبيع المدبّر وأشباه ذلك، إن كان التقليد للحكم ببطلان اليمين وبجواز بيع المدبر كانت المسألة على الاختلاف، وكان جواز حكم الشفعوي على الخلاف، كما لو فعل المقلد بنفسه ذلك، وإن كان التقليد للحكم بما يرى كان جواز الحكم من الشفعوي بالاتفاق، ألا ترى أن السلف كانوا يقلدون الأعمال والقضاء من الخلفاء العباسية، ويرون ما يحكمون به على آرائهم نافذاً وإن كان ذلك مخالفاً لرأي الخلفاء لاتباعهم في المسائل جدهم ابن عباس.
وإذا قضى القاضي بقتل في قسامة لا ينفذ قضاؤه، وصورته: قتيل وجد في محلة، وادعى أولياء القتيل على رجل أنك قتلته، قال بعض العلماء وهو مالك والشافعي رحمهما الله في القديم: إذا كان بين المدعى عليه، وبين القتيل عداوة ظاهرة، ولا يعرف له عداوة على غير المدعى عليه، وبين دخوله في المحلة ووجوده قتيلاً مدة قريبة، فالقاضي يحلف ولي القتيل على دعواه، فإذا حلف قضى بالقصاص، وعندنا فيه الدية والقسامة، فهذا هو صورة هذه المسألة، وإنما لم ينفذ القضاء؛ لأنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفذ القضاء، ولكن إذا رفع إلى قاض آخر أبطله إذا لم يستوف القود لماذ ذكرنا أنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة وأول من قضى به معاوية، وقد ردوا عليه فلهذا كان للثاني أن يبطله، ولو قضى قاض بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لا يجوز وقد مر هذا.
وكذلك لو قضى قاض بجواز متعة النساء لا يجوز وصورته: إذا قال الرجل لامرأة: أتمتع بك إلى كذا، وقال: شهراً أو ما أشبه ذلك، وإنما قال: لا يجوز القضاء بجوازها؛ لأنها منسوخة، قالت عائشة رضي الله عنها: نسختها آية الطلاق، وقيل: نسختها السنة، وقيل: إجماع الصحابة، وابن عباس رضي الله عنهما وإن قال بجوازها إلا أن قوله بخلاف الكتاب والسنة لا يعتبر، كيف وقد صح رجوعه عنها؟ وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز قضاؤه، وهكذا روى خالد عن محمد عن أبي حنيفة رحمه الله، ولو كان مكان لفظة الخلع لفظة التزويج، بأن قال الرجل لامرأة: تزوجتك إلى كذا، فقضى قاض بجواز هذا النكاح، وأبطل الأجل جاز قضاؤه؛ لأنه محل الاجتهاد، فإن عند زفر هذا النكاح صحيح، واشتراط الأجل باطل، وهذا لأن اشتراط الأجل شرط فاسد، والنكاح مما لا يبطل بالشروط الفاسدة.
وعن أبي يوسف رحمه الله برواية بشر أنه لا يجوز قضاؤه في هذه الصورة أيضاً.
وإذا نسي القاضي مذهبه قضى بمذهب غيره، قال أبو حنيفة رحمه الله: ينفذ القضاء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا ينفذ، هكذا روى الخصاف في «أدب القاضي» ، وهكذا ذكر في «العيون» في آخر «أدب القاضي» ، وهكذا ذكر القاضي أبو علي النسفي رحمه الله، وصورة ما ذكره القاضي أبو علي رحمه الله: إذا نسي القاضي رأيه، وقضى(8/80)
برأي غيره، لم يذكر رأيه قال أبو حنيفة: يأخذ برأيه في المستقبل، ولا يبطل ذلك القضاء، وقال أبو يوسف: يبطله، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي قول محمد مع أبي يوسف رحمهما الله.
وجعل القاضي الإمام ركن الإسلام هذا هذه المسألة فرعاً لمسألة تقدم (78ب4) ذكرها، وهو ما إذا قضى القاضي بمذهب غيره، وهو عالم بمذهب نفسه، وذكر أن تلك المسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه كذا هذه، ولو أن قاضياً قضى بخلاف في دار استحقت من يد المشتري، وأخذ الضامن بدار مثلها، ثم رفع إلى قاض آخر أبطله، وصورة المسألة رجل باع داراً له، وضمن البائع للمشتري الخلاص، أو ضمن أجنبي له الخلاص، وتفسيره: أن يقول الضامن للمشتري: إن استحقت الدار المشتراة من يدك فأنا ضامن لك استخلاص الدار، أحتال حتى استخلص ذلك الدار بالبيع أو بالهبة، وأسلمها إليك، فهذا الضمان باطل عندنا؛ لأنه ضمن ما يعجز عن الوفاء به، وعند بعض الناس يصح هذا الضمان، وهذا القول لا يستند إلى قياس صحيح، وقد استنكره المتقدمون، فقد قال شريح: من شرط الخلاص، فهو أحمق سلم ما بعت وخذ ما اشتريت، ولا خلاص، وإذا قضى قاض بجواز هذا الضمان، فقد قضى بما هو باطل.
ثم ما ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة، وهو اختيار صاحب كتاب «الأقضية» ، فأما على قول أبي يوسف ومحمد تفسير ضمان الخلاص والعهدة والدرك واحد، وهو الرجوع بالثمن عند الاستحقاق، وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص ما ذكرنا، وتفسير ضمان الدرك ما قالا، وتفسير ضمان العهدة ضمان الصك القديم الذي عند البائع، ثم عندهما تفسير هذه الأشياء إذا كان واحداً وهو الرجوع بالثمن عند الاستحقاق كان هذا الضمان صحيحاً، وإذا استحق المبيع من يد المشتري يرجع بالثمن على الضمان، فمتى قضى قاض بصحة هذا الضمان، وأثبت للمشتري حق الخصومة مع الكفيل ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر لا يبطله، فأما إذا ضمن تسليم الدار إلى المشتري لا يصح ضمانه، فلا يصح القضاء به، لما ذكرنا.
ولو أن امرأة رجل أو نفسه عفت عن دم العمد، وأبطل ذلك قاض لما أن من رأيه أنه لا عفو للنساء؛ لأنه لاحق لهن في القصاص، كما هو مذهب بعض العلماء، وقضى بالقود للرجال، فقبل أن يقاد الرجل رفع إلى قاض يرى عفو النساء صحيحاً، فالقاضي ينفذ ذلك العفو، ويبطل القضاء بالقود، لأن القضاء الأول باطل؛ لأنه بخلاف الكتاب، وهو قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم} (النساء: 12) وبخلاف قول الجمهور، وإن كان هذا الرجل قد قتل بعمده، فالقاضي الثاني لا يتعرض لشيء هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» .
قالوا: وينبغي أن يقال: إن كان المقضي له بالقصاص عالماً يقتص منه؛ لأنه قتل شخصاً محقون الدم، وإن كان جاهلاً يقضي عليه بالدية، أصل المسألة ما ذكر في «الأصل» إن الدم إذا كان بين اثنين، فعفى أحدهما، ثم قتل الآخر، إن كان القاتل جاهلاً(8/81)
تجب الدية، وإن كان عالماً يجب القصاص.
ولو أن امرأة طلقها زوجها قبل الدخول بها، وقد كانت قبضت المهر وتجهزت بذلك، فقضى القاضي للزوج بنصف الجهاز؛ لأنه كان يرى ذلك كما قال بعض الناس، بناء على أن الزوج لما دفع الصداق إليها، فقد رضي بتصرفها برضا الزوج كتصرف الزوج بنفسه، ولو أن الزوج اشترى ذلك بنفسه، وساق إليها، ثم طلقها قبل الدخول بها كان لها نصف الجهاز، فكذا هاهنا، فإذا قضى قاض لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه بخلاف قول الجمهور، وبخلاف كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى جعل للزوج الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، والمفروض هو المسمى في العقد، والجهاز لم يكن مسمى في العقد فلا ينصف، فكان هذا قضاء بخلاف النص فكان باطلاً.
ولو قضى قاض بإبطال المهر من غير بينة ولا إقرار أخذ بقول بعض الناس، إن قدم النكاح يوجب سقوط المهر إما بإيفاء من الزوج، أو بإبراء من المرأة، وترك المرأة الطلب في هذه المدة دليل عليه، فهذا القضاء باطل؛ لأنه مخالف لإجماع السلف.
ولو طلق امرأته في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه أو طلقها بكلمة واحدة، وقضى قاض بإبطال كله، فهو باطل؛ لأنه يخالف السنة والإجماع فكان باطلاً.
ولو أن رجلاً قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها ورفع الأمر إلى قاض يرى بطلان ذلك القضاء فأبطله، نفذ قضاؤه؛ لأنه فصل مجتهد فيه في الصدر الأول، وإذا قضى القاضي في الخلع أنه فسخ أو طلاق نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة في الصدر الأول. هكذا ذكره شيخ الإسلام.
ولو قضى قاض بالقرعة في رقيق أعتق الميت واحداً منهم لم ينقض قضاؤه، لأنه مجتهد فيه، فمالك والشافعي يقولان بالقرعة، واعتمدا حديث الحسن البصري «أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، ولا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وأعتق اثنين منهم» ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأن استعمال القرعة نوع قمار وإنه حرام، وأنه كان ثم انتسخ، والعمل بالمنسوخ باطل، ولو قضى برد نكاح امرأة بعيب غم أو جنون أو نحو ذلك لم ينقض قضاؤه؛ لأنه مجتهد فيه في الصدر الأول كان عمر رضي الله عنه يقول برد المرأة بالعيوب الخمسة، وكان علي وابن مسعود رضى الله عنهما يقولان: لا ترد، ولو ردت المرأة الزوج بواحد من هذه العيوب، وقضى قاض بجوازه نفذ قضاؤه؛ لأن هذا فصل مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، فمحمد رحمه الله يقول بالرد، فالقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه، ولو قضى بجواز نكاح بغير الشهود نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة، فمالك وعثمان البتي كانا(8/82)
يشرطان الإعلان حتى لو حصل الإعلان بحضور الصبيان والمجانين يصح النكاح عندهما، وقد اعتبر خلافهما؛ لأن الموضع موضع اشتباه الدليل لأن اعتبار النكاح بسائر تصرفاته، أو بفسخه يقتضي أن لا يشترط الشهادة ولأن الشهادة بعض الدلائل المقتضية لجواز النكاح مطلقة عن اشتراط الشهادة، ولو قضى بجواز بيع المدبر نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة، الموضع موضع الاشتباه؛ لأن التدبير إن اعتبر سبباً للحرية للحال كانت الحرية ثابتة من وجهة، فيمنع جواز البيع، وإن اعتبر فرصة أو تعليقاً للحرية لا يمنع جواز البيع، فكان الموضع موضع الاشتباه من هذا الوجه، ولو قضى بشهادة الابن لأبيه، أو قضى بشهادة الأب لابنه نفذ قضاؤه عند أبي يوسف خلافاً لمحمد، هكذا ذكر في «الأقضية» .
واعلم بأن هذه المسألة كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم، فعلي رضي الله عنه كان يرى جوازها، ثم أجمع المتأخرون على بطلانه، ورفع الخلاف عند محمد رحمه الله، فلم يكن قضاؤه في فصل مجتهد فيه، ولم يرفع الخلاف المتقدم عند أبي يوسف، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه، وهذا تنصيص أن الخلاف بين أصحابنا في إيقاع الخلاف المتقدم بالإجماع المتأخر على نحو ما ذكره شمس الأئمة على ما بينا.
وإذا قضى بالشهادة على الشهادة فيما دون مسيرة سفر نفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهد فيه، فأبو يوسف رحمه الله لا يشترط مسيرة السفر، وإذا قضى بشهادة شاهد شهد على خط أبيه، نفذ قضاؤه، وإذا قضى بأن العين لا يؤجل أبطل قضاؤه، وإذا قضى بشهادة شهود على وصية مختومة من غير أن تقرأ عليهم أمضاه الآخر، وكذلك إذا قضى بما في ديوانه وقد نسي، أو قضى بشهادة شهود على صك لا يذكرون ما فيه، إلا أنهم يعرفون خطوطهم وخاتمهم أمضاه الآخر، ولم يكن ينبغي للأول أن يفعل ذلك، وهذا كله قياس قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف.
وإذا قال الغريم للطالب: إن لم أفصل مالك اليوم فامرأته طالق، فعيب وخشي الغريم أن لا يظهر اليوم، فيجب في عينه، فأتى القاضي وأخبره فنصب القاضي عن الغائب وكيلاً، وأمر الوكيل بقبض المال من المطلوب حتى يبرء، فقبض المال وحكم بحاكم آخر (79أ4) فإن أبا يوسف رحمه الله قال: لا يجوز هذا، هكذا ذكر في «الأقضية» وهذا قولهم، وإن خص قول أبي يوسف بالذكر، وذكر الناطفي في «الواقعات» ذكر في كتاب الحسن بن زياد، أن القاضي ينصب وكيلاً عن الغائب، ويقبض ما عليه ولا يجب، قال الناطفي: وعليه الفتوي وجه ما ذكر، في «الأقضية» : أنه لو جاز هذا إنما يجوز من حيث إن نصب الوكيل عن الغائب مختلف فيه، إلا أن الخلاف فيما إذا ادعى رجل عن الغائب حقاً، وقامت البينة عليه، فعندنا القاضي لا ينصب عنه وكيلاً، وعند بعض العلماء ينصب عنه وكيلاً، ولم يوجد ذلك ها هنا، فلا يكون هذا قضاء على الغائب، لكن هذا تكلف تحرزاً عن الحنث، وكذلك لو قدم رجل رجلاً إلى القاضي، وقال: لأبي على هذا ألف درهم، وأبي غائب.
وأخاف أن يتوارى هذا، ورأى القاضي(8/83)
أن يجعل الابن وكيلاً له، فجعله وكيلاً قبل البينة عليه على المال، وحكم بالمال، ثم رفع إلى قاض آخر، فإنه لا يجيزه، قال: وإنما أستحسن في المفقود خاصة أن أجعل ابنه وكيلاً في طلب حقوقه، وإنما لم يجز القضاء لما ذكرنا أن هذا ليس بقضاء على الغائب، إنما هذا الذي أتى القاضي أخبر أن للغائب على هذا كذا، وإنه ليس بخصمه عن الغائب، بل هو فضولي، فلا ينفذ قضاؤه له؛ لأنه خارج عن أقوال الأئمة وأما المفقود، فهو كالميت في حق بعض الأحكام، وللقاضي ولاية نصب القيم في مسألة أما هنا بخلافه.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: يجوز قضاؤه لاشتباه الدليل، فإن للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب في الجملة، ونظير هذا لو جاء رجل إلى القاضي، وقال: كان لفلان علي كذا من المال، وقد أوفيته، وإنه في بلد كذا، وإني أريد أن أقدم تلك البلدة، وأخاف أن يجحد ويأخذني بذلك، فإن القاضي يجعل عن الغائب خصماً، ويسمع عليه البينة، كذا لو جاءت امرأة إلى القاضي، وقالت: إن زوجي طلقني ثلاثاً، وإنه في بلد كذا، وإني أريد أن أقدم تلك البلدة، وأخاف أن يجحد الطلاق، فاسمع من شهودي، واكتب لي حجة، فإن القاضي يجعل عن الغائب خصماً، ويسمع عليه البينة لما مر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في قاض حجر على مستحق الحجر للفساد، فرفع ذلك إلى قاض آخر فأبطل الحجر، وأجاز البيع جاز قضاؤه، وبطل الحجر؛ لأن نفس القضاء بالحجر مختلف فيه، فلم ينفذ من الأول، وكان للثاني أن يبطله، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى بخلافه، ولو رفع إلى قاض يرى جواز الحجر، فأجاز القضاء الأول بالحجر، وأبطل تصرفات المحجور، ثم رفع إلى غيره من القضاء، فليس له أن يبطل ذلك القضاء، ويجيز تصرفات المحجور؛ لأن ذلك القضاء صادف محلاً للاجتهاد، وهو نفاذ القضاء الأول، فينفذ ظاهراً وباطناً، فليس لأحد بعد ذلك أن يبطله.
وإذا قضى القاضي في المأذون في نوع أنه مأذون في نوع واحد، كما هو مذهب الشافعي عند شرائط القضاء من الخصومة والدعوى يصير مستفتاً عليه حتى لو رفع إلى قاض آخر يرى خلافه لا يبطله، ذكره محمد رحمه الله في أول «المأذون الكبير» ؛ لأن هذا الفصل مختلف بين السلف، قال شريح رضي الله عنه: لا يعتبر مأذوناً في الأنواع كلها، وبهذه المسألة تبين أن المختلف بين السلف كالمختلف بين الصحابة.
وفي «إقرار الأصل» إذا حجر القاضي على رجل حر، ثم أقر المحجور عليه بدين، فعلى قول أبي حنيفة إقراره صحيح؛ لأن على قول الحجر لم يصح، فصار الحال بعد الحجر كالحال قبله، وعلى قولهما لا يصح إقراره؛ لأن على قولهما: الحجر صحيح في التصرفات التي يبطله الهزل والكره، فالتحق بالصبي.
فإن قيل: ينبغي أن لا يصح الإقرار عندهم جميعاً؛ لأن القاضي بالقضاء بالحجر، فإذا قضى القاضي بالحجر فقد جعله موجباً، وهذا إشارة إلى أن يقضي القضاء بالحجر، ليس بمختلف فيه.
قلنا: هذا ليس بقضاء على الحقيقة؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي عليه ومن(8/84)
مقضي له ومن مقضي به، وها هنا إن وجد المقضي عليه، وهو السفيه، والمقضي به وهو السفه لم يوجد المقضي له؛ لأن الولي الذي رفع الأمر إلى القاضي لا يصلح مقضياً له؛ لأن القاضي بهذا الحجر لا يقضى له على المحجور بشيء حتى لو وجد القضاء بأن وجد المقضي له أيضاً، بأن يصرف المحجور بعد الحجر تصرفاً، ورفع إلى هذا القاضي، أو إلى قاض آخر، وصححه، أو أبطله بعد ذلك عند الكل حتى لم يكن لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله.
فإن قيل: إذا لم يكن هذا قضاء على الحقيقة كان بمنزلة الفتوى، فينبغي أن لا يتحجر عندها كما لو أفتى به مفت آخر.
قلنا: الحجر يثبت من غير قضاء، إذا كان للحاجر ولاية الحجر، وإن لم يكن الحجر نصاً كالحجر من المولى على عبده، وكالحجر من الولي على الصبي عن التجارة، فإن ذلك صحيح، وإن لم يكن قضاء على الحقيقة؛ لأن له ولاية الحجر كذا ها هنا للقاضي ولاية الحجر على السفيه بحكم القضاء، فيصح حجره، وإن لم يكن حجره قضاء على الحقيقة.
الفصل العشرون: فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما لا يجوز
يجوز بأن يعلم بأن الإنسان لا يصلح قاضياً في حق نفسه.
إما لأنه لا يصلح شاهداً لنفسه، ومن لا يصلح شاهداً في شيء لا يصلح قاضياً فيه؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية؛ لأن فيه تنفيذ القول على الغير، إلا أن ولاية القضاء أقوى، وتنفيذ القول فيه أبلغ، فمن لا يصلح لأولى الولايتين كيف يصلح لأعلاهما؟
وإما لأن القضاء لا بد له من مقضي له ومن مقضي عليه، فإذا قضى القاضي لنفسه من كل وجه، أو من وجه لا ينفذ قضاؤه غير أنه إذا قضى لنفسه من كل وجه لا ينفذ بإمضاء قاض آخر، وإذا قضى لغيره من كل وجه، فإن لم يصلح قاضياً بيقين لا ينفذ قضاؤه، وإن أمضاه قاض آخر، وإن كان في صلاحه اختلاف، فإذا أمضاه قاض نفذ قضاؤه بالإجماع.
وإن وقع الخلاف في قضاء القاضي أنه قضى لغيره من كل وجه، أو قضى لغيره من وجه لنفسه، يتوقف على إمضاء قاض آخر، وسيأتي بيانه في خلال المسائل إن شاء الله تعالى.
قال في كتاب الوكالة: وإذا وكل القاضي رجلاً ببيع دار أو بإجارتها، وبالخصومة له في كل حق يطلبه قبل رجل، أو بطلب حق قبله رجل، فهو جائز وهذا ظاهر، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لوكيله، أما إذا كان وكيلاً بالخصومة؛ لأن الوكيل في الخصومة(8/85)
سفير ومعبر، فيكون القضاء للموكل، والقضاء لنفسه باطل لما ذكر، ولمعنى الآخر وهو التهمة، وأما إذا كان وكيلاً بالبيع والإجارة فكان حكم العقد وما هو المقصود منه يقع للموكل، فكان القضاء واقعاً للموكل، وكذلك لا يقضي لوكيل أبيه وإن علا، ولا لوكيل ابنه وإن سفل؛ لأنه قضاء لنفسه من وجه؛ لأن بينهما شبه بعضية، ولأجلها لم تقبل شهادته لهؤلاء، ولا يجوز قضاؤه لهم من الطريق الأول، ثم فرق بين القاضي نفسه وبين من لا يقبل شهادته له في حق القضا، ء والشهادة، فقال: قضاء الإنسان وشهادته لنفسه وعلى نفسه لا يجوز، وقضاء الإنسان لمن لا تقبل شهادته له لا يجوز، وعليه يجوز.
والفرق أن شهادة الإنسان لنفسه، وقضاءه لنفسه إنما لا يجوز؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي له، ومن مقضي عليه، والشهادة لا بد لها من مشهود له، ومن مشهود عليه، وفي حق هذا المعنى الوجهان على السواء، فأما قضاء القاضي لمن لا تقبل شهادته له، إنما لا يجوز لمكان التهمة، ولا تهمة إذا كان القضاء عليه، فلهذا افترقا، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لعبده ولا لمكاتبه، ولا لعبد من لا تقبل شهادته لهم ولا لمكاتبهم؛ لأن القضاء يقع للموكل، وكذلك لا يجوز له أن يقضي لشريكه شركة عنان، أو مفاوضة إذا كانت الخصومة في مال هذه الشركة؛ لأن القضاء يقع للقاضي من وجه.
ولو مات رجل وأوصى للقاضي بثلث ماله، وأوصى إلى رجل آخر لم يجز قضاؤه للميت بشيء من الأشياء؛ لأن بقدر الثلث يقع القضاء للقاضي، وكذلك إذا كان القاضي أحد الورثة لا يقضي، للميت بشيء، لا يكون قضاء لنفسه من وجه، وكذلك لو كان الموصى له ابن القاضي أو امرأته أو غيرهما من لا تقبل شهادته لهما، وكان عبيد هؤلاء؛ لأن القضاء لهؤلاء لا يجوز (79ب4) وكذلك لو كان القاضي وكيل الوصي في ميراث الميت؛ لأن القضاء يقع له من حيث الظاهر، وكذلك لو كان للقاضي على الميت دين لا يجوز قضاؤه للميت بشيء، وفرق بين قضاء القاضي لغريمه بعد موت الغريم، وبين قضائه له في حال حياته.
والفرق أن الدين لا يتعلق بمال الصحيح، فبقي ماله بعد لحوق الدين خالص ملكه، فكان القضاء واقعاً للغريم من كل وجه، فأما بعد الموت، فالدين يتعلق بماله، فكان المال المقضي به حقاً لرب الدين من ذلك الوجه، وإذا وكل أحد الخصمين عند القاضي، أو مكاتبه، أو بعض من لا تقبل شهادته له لا يجوز له أن يقضي للوكيل على خصمه؛ لأن القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وإنه لا يصلح قاضياً في حق هؤلاء والله أعلم.
وإذا وكل رجل رجلاً بالخصومة، فاستقضى الوكيل، فليس له أن يقضي في ذلك؛ لأن القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وليس له أن يقيم وكيلاً عن موكله؛ لأنه إن أقام بحكم القضاء كان هذا قضاء للغائب، وإن أقام بحكم الوكالة، فهذا وكيل لم يقل له الموكل: ما صنعت من شيء فهو جائز، فوكل رجلاً بالخصومة جاز، وليس له أن يقضي لهذا الوكيل، وإن صار الوكيل الثاني مع الوكيل الأول وكيلين للموكل الأول، ولهذا ملك عزلهما وينعزلان بموته، ولكن من حيث إن الوكالة الثانية مستفادة من جهة الأول؛ وإنه(8/86)
يملك عزله كان وكيل الأول، فيكون هذا من القاضي قضاء لوكيل نفسه من وجه، وإنه لا يجوز.
فرق بين هذا، وبينما إذا أمر القاضي رجلاً أن يبيع مال اليتيم، فخاصم الوكيل في شيء من حقوق ذلك العقد إلى هذا القاضي، فإنه يجوز له أن يقضي لهذا الوكيل، والفرق أن القاضي في تصرف مال اليتيم ليس بخصم، وكذا نائبه، ولهذا لا يلحق العهدة، فانتقل العقد إلى اليتيم من كل وجه، فصار قضاء لليتيم من كل وجه لا لوكيل القاضي، أما هاهنا بخلافه.
وإذا وكَّل رجل القاضي، ثم عزل عن القضاء، أو كانت الوكالة قبل القضاء، ثم استقضي وعزل، فهو وكيل على حاله، حتى كان له أن يخاصم عند قاض آخر.
قال: في «الجامع الكبير» : وإذا مات الرجل، وله ديون على الناس بعضها على القاضي، وبعضها على من لا يقبل شهادته له بحق امرأته أو ابنه، فادعى رجل عند هذا القاضي أن الميت أوصى إليه، فاعلم بأن ها هنا ثلاث مسائل: إحداها: هذه، والحكم فيها أن القاضي إذا قضى بوصايته صح قضاؤه استحساناً حتى لو قضى بعض من سمينا الدين إلى هذا الوصي يبرأ، ولو رفع قضاؤه إلى قاض آخر، فإن القاضي الآخر يمضيه ولا ينقضه، وبمثله لو أن القاضي لم يقض له بالوصاية لا يصح قضاؤه حتى كان للورثة ولاية مطالبته بالدين.
والفرق أن القاضي بالقضاء في الفصل الثاني يعمل لنفسه؛ لأنه يثبت براءة نفسه ويصحح دفعه إليه، والقضاء لنفسه باطل، ولا كذلك في الفصل الأول.
يوضحه أن القضاء معتبر بالشهادة، والغريم لو شهد بالوصاية لهذا الرجل بعد ما أدى الدين إليه لا تقبل شهادته لمكان التهمة، فكذا لا يصح قضاؤه، وقيل: قضاء الدين لو شهد الغريم بالوصاية لهذا الرجل تقبل شهادته إذا كان الموت ظاهراً استحساناً؛ لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان الموت ظاهراً بدون الشهادة، فكذا يصح قضاؤه أيضاً.
ثم إن محمداً رحمه الله سوى في الفصل الثاني بين القاضي وبين امرأته وأبيه، وقال: إذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر أبطله، ولو أمضاه كان باطلاً، بعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يكون الجواب في امرأته وأبيه بخلاف الجواب في حق نفسه؛ لأن قضاء القاضي لنفسه باطل بالإجماع، فلا يجوز لأحد أن يمضيه، أما قضاؤه لامرأته وابنه مختلف فيه؛ لأن شهادته له لا يختلف فيه، فكذا قضاؤه، فالقضاء بالإمضاء مصادف محلاً مجتهداً فيه، فكان لغيره أن يمضيه إذا كان من رأيه ذلك، ولو لم يبلغ أحد الأوصياء، حتى جعل له القاضي وصياً، ثم إن القاضي، أو بعض من سميناه رفع الدين إليه يجوز الأنصباء، والنصيب، ويجوز الرفع إليه، وبمثله لو قضى الدين إليه أولاً، ثم نصب وصياً عن الميت لا يصح النصب، والوجه في ذلك أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت برأيه، ويكون هذا النصب قضاء؛ لأن القاضي في هذا النصب عامل لنفسه، ولا كذلك النصب قبل قضاء الدين.(8/87)
المسألة الثانية: مسألة دعوى الميت إذا كان مكان دعوى الوصاية دعوى النسب في هذه المسألة، بأن جاء رجل، وادعى أنه ابن الميت ووارثه، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنسب منه، إن كان القضاء بنسبه بعد قضاء الدين إليه لا ينفذ قضاؤه، وإن كان قبل قضاء الدين إليه، نفذ قضاؤه.
والفرق بينما قبل القضاء، وبينما بعد القضاء ما ذكرنا من الوجهين، وفي هذه المسألة على الفرق الثاني نوع إشكال؛ لأن انتفاء التهمة في شهادة الغريم بالإيصاء وقضائه، إنما كان؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي بدون الشهادة، فلم يكن هذا النصب مضافاً إلى الشهادة، فأما ليس للقاضي ولاية إثبات النسب من غير شهادة، فكان ثبوت النسب مضافاً إلى الشهادة إلى ولاية القضاء، فكان قاضياً وشاهداً لنفسه من وجه.
قلنا: لا بل التهمة منتفية هنا أيضاً؛ لأنه لم يكن للقاضي ولاية إثبات النسب ابتداء، وله ولاية إثبات ولاية الاستيفاء للغير، وفي إثبات النسب إثبات ولاية الاستيفاء، وله ذلك، إن لم يكن له ولاية إثبات النسب، فيصلح قاضياً وشاهداً في القضاء بالنسب من حيث إن فيه إثبات ولاية الاستيفاء للغير، واثبات النسب أمر زائد على هذه الولاية، فتنفى التهمة من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: إذا كان مكان دعوى الوصاية والنسب دعوى الوكالة، بأن غاب رب الدين، وجاء رجل، وأقام بينة أن رب الدين وكله بقبض الدين الذي له على القاضي، أو على من سميناه من قرابته، فقضى القاضي بوكالته لا يجوز سواء كان القضاء قبل دفع الدين إليه.
فرق بين الوصاية والوكالة قبل دفع الدين.
والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي، وإن لم يكن على الميت دين، فلا يكون في هذا النصب عاملاً لنفسه أصلاً، فلا يكون قضاؤه لنفسه أصلاً، فأما ليس للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، فهو بهذا القضاء يعمل لنفسه من حيث إنه يثبت من يقتضي منه فيبرأ بدفعه إليه، فيكون قاضياً لنفسه، فلهذا لا يصح، فإن رفع قضاه بالوكالة إلى قاض آخر، فإن كان القضاء بالوكالة بعد قضاء الدين رده لا محالة، ولو أمضاه لا يجوز إمضاؤه؛ لأنه وقع باطلاً، لأنه قضى لنفسه من كل وجه، وإن كان القضاء بالوكالة من الأول قبل قضاء الدين إليه، فأمضاه الثاني جاز إمضاؤه.
علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأن إمضاء الثاني جعل في فصل مجتهد فيه. واختلف عبارة المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أراد به حقيقة الاختلاف، فمن المشايخ من يجيز القضاء بالوصاية، وبعضهم قالوا: أراد به اشتباه الدليل.
ووجه ذلك أن الوكالة أمانة في حال الحياة، والوصاية أمانة بعد الموت، فالقياس الظاهر يوجب التسوية، فينبغي أن يملك القاضي نصب الوكيل كما يملك نصب الوصي، وينبغي أن يملك القضاء بالوكالة، قبل قضاء الدين كما يملك القضاء بالوصاية، فإذا أخذ بالقياس الظاهر، وقضى بالوكالة قبل قضاء الدين، جعل قضاؤه في محل مجتهد فيه. أو(8/88)
نقول: هذا قضاء على الغائب مجتهد فيه، فإن قيل: هذا القضاء إذا كان مجتهداً فيه ينبغي أن لا يتوقف على إمضاء قاض آخر، على ما مر.
قلنا: هذا هكذا إذا كان قضاء للغير من كل وجه، أما إذا كان قضاء لنفسه من وجه لا ينفذ بل يتوقف على إمضاء قاض آخر؛ لأن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف، وهذا قضاء لنفسه من وجه من حيث إن به يحصل النفع لنفسه من حيث (80أ4) أن يقضيه الدين فيبرأ، وقضاء للغير من وجه من حيث إنه مما لا يقضيه الدين، وينتظر حضور الموكل، فيتوقف على إمضاء قاض آخر، فإن أدى اجتهاده إلى أنه قضاء للغير، وأمضاه نفذ؛ لأنه صادف محلاً مجتهداً فيه، فلا ينبغي لما يحصل له من النفع غيره.
ونظير هذا إذا قضى لامرأته يتوقف على إمضاء قاض آخر، وإن كان هذا القضاء مجتهداً فيه لهذا إن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف، والخلاف في أن قضاء الرجل لامرأته، هل هو قضاء لنفسه من وجه؟ فإذا أمضاه قاض آخر يترجح جانب كونه قضاء للغير على كونه قضاء لنفسه، فينفذ ما صادفه محلاً مجتهداً فيه.
وقيل: ذلك لا ينفذ كذا هنا على أن في نفاذ القضاء على الغائب روايتان، فعلى إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن نفس القضاء مختلف فيه، فيتوقف على هذه الرواية على إمضاء قاض آخر، وعلى إحدى الروايتين ينفذ ولا يتوقف؛ لأن على إحدى الروايتين لا خلاف في نفس القضاء، وإنما الخلاف في أن الإنكار على سبيل اليقين، هل هو شرط؟ فعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن لا يتوقف القضاء بالوكالة هنا على إمضاء قاض آخر، والله أعلم.
إذا نصب القاضي مسخراً على الغائب لا يجوز، ولو حكم عليه لا يجوز، وتفسير المسخر أن ينصب القاضي وكيلاً عن الغائب ليسمع الخصومة عليه، والقاضي يعلم أن المحضر ليس بخصم، فالقاضي لا يسمع الخصومة عليه، وإنما يجوز نصب الوكيل عن خصم اختفى في بيته ولا يحضر مجلس الحكم، فالقاضي ينصب عنه وكيلاً، ولكن بعد ما بعث أمناءه إلى داره، ونودي على باب داره على ما ذكرنا، قبل ذلك، أما في ذلك الموضع فلا.
والدليل على أن نصب المسخر لا يجوز ما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : رجل ادعى عقاراً في يدي رجل، وأقام البينة على الملك، فالقاضي لا يسمع بينته، ولا يقضي له بالملك ما لم يعلم أن العقار المدعى به في يد المدعى عليه، أو يشهد الشهود بذلك لجواز أن المدعي واضع رجلاً حتى يقر بأن العقار المدعى به في يده، فيقضي القاضي بذلك عليه، ويكون بذلك استحقاقاً عليه، وعلى غيره، والعقار في الحقيقة في يد غيره.
وذكر محمد رحمه الله في «شهادات الجامع» : رجل غاب، فجاء رجل وادعى على رجل ذكر أنه غريم الغائب، وأن الغائب وكله بطلب كل حق له على غرمائه بالكوفة والخصومة فيه، والمدعى عليه ينكر وكالته، فأقام المدعي بينته على وكالته، قضى القاضي عليه بالوكالة.(8/89)
قال شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة دليل على جواز الحكم على المسخر فإنه قال: ادعى على رجل ذكر أنه غريم الغائب، ولم يقل: ادعى على رجل هو غريم الغائب، قال الصدر الشهيد رحمه الله: ولكن هذا عندنا محمول على ما إذا لم يعلم القاضي بكونه مسخراً قبل، وينبغي أن تكون هذه المسألة على روايتين؛ لأن هذا في الحاصل قضاء على الغائب، وفي القضاء على الغائب روايتان، في إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن نفس القضاء مختلف فيه، وفي الرواية الأخرى ينفذ؛ لأن نقض القضاء ليس بمختلف فيه، وإلى هذا مال شيخ الإسلام رحمه الله، والمسألة في شرح كتاب المفقود.
وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول في القضاء على الغائب: يفتى بعدم الجواز والنفاذ كيلا يتطرقوا إلى هدم مذهب أصحابنا رحمهم الله، فلو أن القاضي حكم على المسخر، وأمضى قاض آخر صح الإمضاء، ولا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله.
إذا قضى القاضي بعين في يدي رجل، والمقضي به ليس في ولايته صح القضاء، ولكن لا يصح التسليم.
صورة المسألة: بخاريّ ادعى داراً على سمرقندي عند قاض بخاري، أن الدار الذي في يديه بسمرقند في محلة كذا إلى أخره ملكي وحقي، وفي يديه بغير حق، وأقام بينة على دعواه، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي، ويصح قضاؤه؛ لأن المقضي له والمقضي عليه حاضر إلا أن التسليم لا يصح؛ لأن الدار ليست في ولايته، فكتب إلى قاضي سمرقند لأجل التسليم.
وإذا أمر القاضي إنساناً أن يقضي بين اثنين لم يجز قضاؤه، إلا أن يكون الخليفة أذن للقاضي بذلك؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى العلم والأمانة والرأي، والخليفة بالتفويض إلى هذا القاضي من غير إذن بالاستخلاف رضي بعلمه وأمانته ورأيه، أما ما رضى بغيره، فرق بين القاضي وبين إمام الجمعة، فإن الخليفة إذا فوض إلى إنسان إقامة الجمعة مطلقاً، فاستخلف غيره جاز.
والفرق أن هناك الإذن بالاستخلاف إن لم يوجد نصاً وجد دلالة؛ لأن الخليفة إنما فوض إلىه إقامة الجمعة مطلقاً مع علمه أن العوارض المانعة من إقامة الجمعة نحو المرض، والحدث في الجمعة، وغير ذلك يتوهم مقصور وعلى تقدير التحقق، لا يمكن انتظار إذن الإمام لضيق الوقت، فقد أذن له بالاستخلاف دلالة، أما ها هنا لما لم يوجد الإذن صريحاً لم يوجد دلالة؛ لأن أكبر ما فيه أن العوارض المانعة من القضاء موهوم مقصور في حق هذا القاضي، ولكن انتظار إذن الإمام هنا ممكن؛ لأن تأخير سماع الخصومات ممكن؛ لأنه غير مقدر بوقت، فلهذا افترقا.
وفرق بين القاضي وبين الوصي أيضاً، فإن الوصي يملك التفويض إلى غيره، وإن لم يأذن له الوصي، والفرق أن في حق الوصي الإذن بالتفويض ثابت دلالة أيضاً؛ لأن الوصي إنما يعمل بعد موت الوصي، فإذا أوصي إليه مع علمه أنه قد يعجز على التصرف بنفسه، وعلى تقدير العجز لا يمكنه استطلاع رأيه في التفويض إلى غيره، فقد أذن له(8/90)
بالتفويض إلى غيره، دلالة أما هنا استطلاع رأي الخليفة، والاستخلاف ممكن للقاضي إن عجز عن القضاء، فلا حاجة إلى إثبات الإذن دلالة بالتفويض إلى غيره فإن كان الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء فهو جائز، ملك الاستخلاف؛ لأنه صار راضياً بغيره.
وهو نظير الوكيل بالبيع لا يملك أن يوكل غيره، وإذا أذن الموكل في التوكيل إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء، فهو جائز يملك توكيل غيره، إلا أن بين مسألة التوكيل، وبين مسألة القاضي فرق من وجه، فإن الموكل إذا أذن للوكيل أن يوكل فوكل، وقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: ما صنعت من شيء فهو جائز، لا يكون للوكيل الثاني أن يوكل غيره.
والخليفة إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف، وقال الخليفة: ما صنعت من شيء فهو جائز، كان له أن يستخلف غيره، فلو أن الخليفة لم يأذن له بالاستخلاف، فأمر رجلاً فحكم بين اثنين حتى لم يجز حكمه، ثم إن القاضي أجاز ذلك الحكم ننظر إن كان بحال يجوز حكمه لو كان قاضياً جاز إمضاء القاضي حكمه، وإن كان بحال لا يجوز حكمه لو كان قاضياً ينظر إن كان ممن يختلف فيه الفقهاء، كالمحدود في القذف جاز إمضاؤه ذلك، وإن كان عبداً أو صبياً لم يجز؛ لأن القاضي إذا لم يؤذن في الاستخلاف صار الحال في حقه بعد الاستخلاف كالحال قبل الاستخلاف، وقبل الاستخلاف لو قضى وهو من أهل القضاء توقف نفاذه على إجازة قاض آخر، وإن لم يكن من أهل القضاء لا يتوقف، كذا ها هنا.
ولو أن الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، ثم أراد أن يعزله، لم يكن له ذلك إلا إذا كان الخليفة أذن له بالعزل أيضاً، بأن قال: له ولِّ من شئت، واستبدل من شئت.
ولو أذن له في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، فهذا القاضي الثاني يصير قاضياً من جهة الخليفة لا من جهة القاضي الأول، حتى لو أراد القاضي الأول أن يعزل الثاني لم يكن له ذلك، إلا إذا قال الخليفة للقاضي الأول: استبدل من شئت.
ولو أن الخليفة أمر القاضي أن يستخلف رجلاً يسمع (80ب4) من الخصوم ويسمع من الشهود، ويكتب الإقرار، ولا يقطع الحكم، وأمر القاضي رجلاً يقوم بذلك لا يجاوز ذلك، فإن لهذا الرجل أن يسمع من الشهود، ويكتب إقرار من أقر عنده، ويسأل عن الشهود، ثم ينهي ذلك للقاضي، فيكون القاضي هو الذي يحكم بعد أن يعرف صحة ذلك؛ لأن الخليفة لو أمر القاضي أن يسمع من الشهود، ويكتب الإقرار، ولا يقطع الحكم، بل يرفع الأمر إلى الخليفة حتى يحكم الخليفة بنفسه، كان صحيحاً، فكذلك إذا أمره بالاستخلاف على هذا الوجه.
ثم الخليفة إذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة بل يأمر بإحضار المدعي، والمدعى عليه بإحضار الشهود، ويأمر الشهود أن يشهدوا ثانياً عنده بحضرة المدعي والمدعى عليه، فإذا صحت الشهادة عنده قضى بتلك الشهادة، وهذا(8/91)
فصلٌ الناس عنه غافلون، فإن نائب القاضي يسمع البينة، ويكتب الإقرار، ويبعث إلى القاضي والقاضي يقضي بذلك، ولا ينبغي له أن يقضي بذلك، وإنما عليه أن يأمر بإعادة البينة، وأن يحضر المقر حتى يقر عنده، ثم يحكم بما يصح عنده، وإن كان الشهود شهدوا عند الخليفة بالحق، ثم غابوا فأعلم الخليفة القاضي بما شهدوا عنده، لهذا على هذا، فالقاضي لا يقبل، ولا يحكم حتى يعيدوا الشهادة عنده.
وكذلك إذا كان المدعى عليه أقر عند الخليفة، ثم جحد بعد ذلك فأخبر الخليفة القاضي بإقراره عنده، فالقاضي لا يقبل ذلك على طريق الشهادة؛ لأنه لو شهد على إقراره غير خليفته مع رجل آخر يقبل ذلك، فخليفته أولى.
وسئل القاضي الإمام شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن القاضي إذا سمع الدعوى، ويسمع النائب الشهادة هل يقضي النائب بالشهادة بدون إعادة الدعوى؟
قال: لا إلا أن يأمر القاضي بالحكم بتلك البينة، وسئل أيضاً عن القاضي إذا سمع الدعوى والشهادة ولم يحكم، وأمر نائبه بالحكم، وهو مأذون بالاستخلاف بحكم المثال الصحيح هل يصح هذا الأمر؟ وإذا حكم النائب هل يصح حكمه؟ قال: نعم.
وفي «الفتاوى» عن الفقيه أبي القاسم: أن القضاة على قسمين: قاض قلده قاض ولي بسبب من دفع الرشوة أو الشفعاء، فالأول إذا قضى، ثم رفع بقضيته إلى قاض يرى خلافه، فإنه لا يبطل قضاؤه، وإذا حصل في محل الاجتهاد، والثاني إذا قضى، ثم رفع قضاؤه إلى قاض يرى خلافه له أن ينقضه.
بعض مشايخ زماننا قالوا: إن من تقلد القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً، وإذا قضى لا ينفذ حكمه، ولا يحتاج فيه إلى النقض، وأما الذي طلب القضاء بالشفعاء، فهو والذي قلد سواء في حق نفاذ قضائه في المجتهدات.
وإذا كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف فحكم خليفته في حادثة، ووقعت الحاجة إلى إثبات حكمه عند القاضي الأصل، ينبغي أن يثبتوا ذلك بشرائط من نفذ، ثم دعوى صحيحة على خصم كما لو ثبتوا قضاء قاض آخر.
ومما يتصل بهذا الفصل
ما ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن في ظاهر الرواية المصر شرط نفاذ القضاء، وفي «النوادر» ليس بشرط وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب القاضي يقضي بعلمه: إن المصر شرط نفاذ القضاء وإليه أشار محمد في «الأصل» .
وفي «المنتقى» إشارة عن أبي يوسف إلى أن المصر شرط نفاذ القضاء، فإنه قال: قضاة أمير المؤمنين إذا خرج أمير المؤمنين، فخرجوا معه، فلهم أن يقضوا؛ لأن هؤلاء ليسوا بقضاة أرض إنما هم قضاة الخليفة، فأينما خرج الخليفة فلقضاته أن يقضوا، وإن خرج القاضي وحده، فليس له أن يقضي، وعن أبي يوسف في «الإملاء» أن المصر ليس بشرط، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وكثير من مشايخنا أخذوا برواية «النوادر»(8/92)
أن المصر ليس بشرط باعتبار الحاجة، فإنه عسى تقع الحاجة إلى أن يخرج القاضي إلى محدود، ويسمع الدعوى ثمة، ويقضي هناك، وإذا أمر القاضي إنساناً بالقسمة في الرستاق، فقسم صحت قسمته باختلاف الروايات؛ لأن القسمة ليست من أعمال القضاء حتى يشترط لصحتها المصر في ظاهر الرواية، والله أعلم.
الفصل الحادي والعشرون: في الجرح والتعديل
ولا يسأل القاضي عن الشهود عند أبي حنيفة إلا أن يطعن الخصم فيهم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يسأل عنهم من غير أن يطعن الخصم فيهم، وهذا في غير الحدود والقصاص، أما في الحدود والقصاص يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم فيهم، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان، فأبو حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فكان الغالب فيهم العدالة، فبقي الحكم على الغالب، وهما كانا في القرن الرابع الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بالكذب، فكان الغالب فيهم الكذب، فأمر بالسؤال لهذا.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يحكم زي الشهود وسيماهم، إن كان عليهم زي الصالحين عمل فيهم بقول أبي حنيفة، وإن كان عليهم زي الفسقة عمل فيهم بقولهما، وقيل لا بل هذا اختلاف على الحقيقة، حجتهما أن التعديل حق القاضي؛ لأن القاضي منهي عن القضاء بشهادة الفاسق، مأمور بالتثبت فيه، فلا يتوقف استيفاؤه على طلب الخصم قياساً على سائر الحقوق، ولأبي حنيفة رحمه الله الحديث المعروف وهو قوله عليه السلام: «المسلمون عدول بعضهم على بعض» ولأن الظاهر من حال المسلمين العدالة، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعارضه ظاهر آخر، ففيما إذا طعن الخصم فيهم ظاهر آخر، فوجب السؤال بخلاف ما قبل الطعن، كان قضيته ما قلنا: أن الإنسان في الحدود وفي القصاص أيضاً إلا أنا إذا تركنا القياس، ثمة؛ لأن الظاهر لا يخلو عن نوع احتمال وشبهه، والحدود تدرأ بالشبهات، فشرطنا السؤال ثمة احتيالاً لدرئها قبل السؤال، فأما المال يثبت مع الشبهات؛ ولأن في الحدود لو وقع الخطأ لا يمكن التدارك بخلاف المال.
فلو أن الخصم عدل الشهود، فهذا على وجهين: أما إن عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فقال: هم شهود عدول، فلما شهدوا عليه أنكرهما، أو عدلهم بعدما شهدوا عليه، فإن عدلهم بما شهدوا عليه، فهو على وجوه:(8/93)
إن قال: صدقوا فيما شهدوا به علي، أو قال: شهدوا علي بالحق، أو قال: الذي شهدوا به في هذه الشهادة حق، وفي هذه الوجوه الأربعة القاضي يقضي عليه بما شهدوا لأن بهذه الألفاظ إقرار منه بالمال، ويكون القضاء بالإقرار لا بالشهادة، وإن قال: هم عدول إلا أنهم أخطؤوا، أو قال: هم عدول، ولم يزد على هذا، فإن كان المشهود عليه عدلاً من أهل التعديل، فالقاضي يقضي بشهادتهما، عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من غير أن يسأل من المزكي بناء على أن العدد في المزكي عندهما ليس بشرط، وعند محمد ما لم يسأل القاضي عن المزكي لا يقضي بشهادتهما.
بيانه أن العدد في المزكي شرط عنده، هكذا ذكر في «كتاب التزكية» وفي كتاب «الأقضية» في أوله وفي «أدب القاضي» للخصاف، في آخر باب المدعى عليه يعدل الشهود وفي «الرقيات» ، فعلى هذه الروايات اعتبر تعديل الشهود عليه تعديلاً، وذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» قريباً من الثلث الأول، وفي «أدب القاضي» للخصاف في أول باب المدعى عليه يعدل الشهود: أن القاضي لا يقضى بشهادتهما حتى يسأل عنهما وهكذا روي عن أبي يوسف في «الأمالي» ، وهكذا روى هشام عن محمد، فعلى هذه الروايات (81أ4) لم يعتبر تعديل المشهود عليه تعديلاً.
ووجه هذه الروايات أن المدعى عليه إن عدلهما بقوله: هم عدول، فقد جرحهما بإنكاره ما شهدا به بنسبته إياهما إلى الكذب؛ ولأن تعديل الشهود حق المدعي، وفي زعم المدعي أن هذا التعديل لم يصح؛ لأن المدعى عليه ظالم ليس من أهل التعديل، والمنقول عن محمد رحمه الله في هذا أن المدعى عليه حين قال: أولهما لم يزكهما.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: فإما أن يقال: في المسألة روايتان، أو يحمل ما ذكر في بعض الروايات أن القاضي لا يقضي بشهادتهما حتى يسأل أنه قول محمد خاصة، لا لأن تعديله ليس بتعديل، ولكن لأن العدد في المزكي عنده شرط على ما يأتي بيانه بعد هذا، أو يقال: ما ذكر في بعض الروايات أن تعديل المشهود عليه ليس بتعديل محمول على ما إذا كان جاحداً، أما إذا كان ساكتاً، وهو من أهل التعديل يصح تعديله، هكذا أول رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وإن لم يكن المدعى عليه من أهل التزكية والتعديل بأن كان فاسقاً أو مستور الحال، لا يصح تعديله، ولا يقضي القاضي بشهادتهما.
فإن قيل: يجب أن يصح تعديل المشهود عليه، وإن كان فاسقاً، أو مستور الحال؛ لأنه إقرار على نفسه، وإقرار الفاسق أو مستور الحال على نفسه صحيح.
قلنا: كما أن هذا إقرار على نفسه، فهذا إقرار بوجوب القضاء على القاضي لا يصح، ثم إذا لم يثبت التعديل بقول الفاسق ومستور الحال، فالقاضي يسأل المشهود عليه: أصدقوا أم لا؟ إن قال: صدقوا، فقد أقر على نفسه، فيقضي عليه بإقراره، وإن قال: أوهموا أو أخطأوا، فالقاضي لا يقضي عليه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله ينبغي للقاضي إذا أقام المدعي البينة أن(8/94)
يسأل عن الشهود، فإن عدلهم المشهود عليه بعدما شهدوا عليه قضى عليه، ولم يلتفت إلى طعنه بعد ذلك، هذا إذا عدلهما المشهود عليه بعد الشهادة، فأما إذا عدلهما قبل أن يشهدوا عليه، ثم شهدا عليه، فأنكر المشهود عليه ما شهدا به، فالقاضي لا ينفذ ذلك عليه، ولا يكتفي بذلك التعديل.
أما على الرواية التي لا تعتبر تعديل المشهود عليه بعد الشهادة فظاهر، وأما على الرواية الأخرى؛ لأنه يمكنه أن يقول: كنت ظننت أنهما عدلان، وأنهما لا يشهدان على زور غير أنهما تغيراً أو فسقا، هكذا ذكر المسألة في «كتاب الأقضية» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة ما يدل على أن تعديله قبل الشهادة معتبر، فإنه روى أن المشهود عليه إذا عدل الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن فيهم، قال: لا يقبل طعنه، وقضى عليه بشهادتهم، وإن كان قد عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، قال: لم يقض عليه بتعديله إياهم قبل أن يشهدوا قبل الجواب بالطعن، فهذا يبين لك أن بدون الطعن يقضي عليه بذلك التعديل السابق.
ثم التزكية نوعان: تزكية السر، وتزكية العلانية.
فتزكية العلانية: أن يحضر العدل مجلس الحكم ويسأله القاضي عن الشهود بحضرتهم فيزكيهم، ويقول بحضرتهم: هؤلاء عدول.
والتزكية في السر أن يسأل القاضي المعدل عن الشاهد في السر، فيعدله ويجرحه وقد كانت التزكية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أن القوم كانوا صلحاء، وكان المعدل لا يخاف من المدعي والشهود؛ لأنهم كانوا منقادين للحق، وبعد ذلك فسد أحوال الناس، وآل الأمر إلى أن المزكي لو جرح الشهود بحضرتهم قاتلوه بالأذى، وظهر عجز المعدل عن تزكية العلانية، فأحدثوا تزكية السر، وهو معنى ما نقل عن محمد رحمه الله في «النوادر» : تزكية السر عناء وبلاء، وقيل: أول من أحدث تزكية السر شريح، وحين أحدثها قيل له: أحدثت ما لم يكن، فقال: أحدثتم فأحدثنا، يعني: أظهرتم إحداث العداوة والخصومة مع المعدل، فأحدثنا تزكية السر.
قال في «أدب القاضي» : لو جمع القاضي بين تزكية السر وبين تزكية العلانية، فذلك أحسن، وتفسير الجمع أن المزكي عدل الشهود في السر، فالقاضي يجمع بين الشهود وبين المزكي في مجلسه، ويقول للمزكي: أهؤلاء الذين زكيتهم؟.
قال في كتاب «الأقضية» وينبغي أن يكون المعدل في العلانية هو المعدل في السر، وإنما كان هذا حسن حتى لا يتسمى الرجل باسم غيره، إذ لا يتفق اثنان على اسم واحد.
قال في «أدب القاضي» : وينبغي للقاضي أن يختار للمساءلة عن الشهود من كان عدلاً؛ لأنه يعدل غيره فلا بد من أن يكون عدلاً في نفسه، وينبغي أن يكون صاحب خبرة بالناس؛ لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لا يعرف العدل من غير العدل، وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يخدع بالمال، وينبغي أن يكون فقيهاً يعرف أسباب الجرح وأسباب التعديل؛ لأنه اختلف أقاويل أهل العلم في أسباب التعديل والجرح، فمنهم من ضيق كل(8/95)
التضييق حتى قال: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته، ومنهم من وسع كل التوسيع، ولا يضيق كل التضييق ولا يعدل مردود الشهادة من غير علم، ولا يجرح عدلاً من غير علم.
وينبغي أن يكون غنياً حتى لا يخدع بالمال، وإن وجد عالماً فقيراً، وغنياً غير عالم اختار العالم، وإن وجد عالماً ثقة لا يخالط الناس، ووجد ثقة غير عالم يخالط الناس يختار العالم؛ لأن العالم لا يقدم في شيء حتى يصح ذلك عنده، فهو بعلمه يقدر على الجرح والتعديل، وغير العالم لا يعرف العدل من غير العدل، فكان العالم أولى من هذا الوجه.
الأولى أن لا يكون المزكي مغفلاً، ولا يكون منزوياً لا يخالط الناس؛ لأنه إذا كان مغفلاً، أولا يخالط الناس لا يعرف معاملاتهم، ولا ينكشف له حالهم، ولا يمكنه تمييز العدل.
والعدد في المزكي ورسول القاضي إلى المزكي، وفي المترجم عن الأعجمي، وعن الشاهد أو الخصم الأعجمي ليس بشرط عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، والواحد يكفي، وعند محمد رحمه الله العدد شرط، والواحد لا يكفي، ويكفيه الاثنان إن كان المشهود به حقاً يثبت بشهادة رجلين عدلين، وإن كان حقاً لا يثبت إلا بشهادة الأربع، وأجمعوا على أن ما سوى العدد من سائر شرائط الشهادة سوى التلفظ بلفظة الشهادة من العدالة والبلوغ والبصر، وأن لا يكون محدوداً في القذف شرطه، والحرية شرط بالإجماع في ظاهر الرواية، والإسلام شرط بالإجماع، إذا كان المشهود عليه مسلماً.
وأجمعوا على أن التلفظ بلفظة الشهادة ليس بشرط، فوجه قول محمد رحمه الله: أن التزكية والترجمة شهادة معنى؛ لأن القضاء لا يجب إلا بهما كما لا يجب إلا بالشهادة؛ لأن العلم للقاضي لا يثبت إلا بهما، فكانت شهادة معنى، فيعتبر بالشهادة حقيقة، والواحد لا يكفي في الشهادة حقيقة، فكذا في التزكية والترجمة، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أنهما قالا: إن التزكية والترجمة شهادة معنى كما قاله محمد رحمه الله إلا أنه خبر حقيقة، ولهذا لا يشترط فيهما لفظة الشهادة، وهو قوله: أشهد.
فمن حيث إنه خبر لم يشترط فيها العدد، ومن حيث الشهادة شرطنا فيها سائر شرائط الشهادة، ولحقيقة أن اشتراط سائر الشرائط ما سوى العدد في الشهادة على موافقة القياس، أما العدالة فلأن بها يترجح الصدق، ولهذا شرطت العدالة في سائر الإجارات، وأما البلوغ عن عقل والحرية؛ فلأن الشهادة ولاية على الغير، وإنها متفرع عن الولاية عن نفسه، والولاية على نفسه لا تثبت إلا بالبلوغ عن عقل والحرية.
وأما البصر؛ فلأن (81ب4) القدرة على التمييز إنما يثبت به، وأما الإسلام إنما شرط إذا كان المشهود عليه مسلماً؛ لأنه لا ولاية للكافر على المسلم، أو لأن الكافر متهم بالخيانة في حق المسلمين، دل أن اشتراط هذه الشرائط في الشهادة على موافقة(8/96)
القياس، فيمكن اشتراطها فيما هو في معناها قياساً عليها.
وأما اشتراط العدد في الشهادة كان على مخالفة القياس، ولهذا لا يشترط في سائر الإخبارات، فيقتصر عليها، ثم هذا الاختلاف في تزكية السر، فأما في تزكية العلانية فالعدد شرط بالإجماع؛ لأن معنى الشهادة فيها أبين وأظهر ألا ترى أنه يختص بمجلس القضاء، بخلاف تزكية السر عندهما.
وذكر أبو علي النسفي رحمه الله في «كتابه» عن محمد رحمه الله ما يدل على أن العدد في تزكية السر عنده ليس بشرط، والذي ذكر فيما إذا عرف المزكي الشهود بالعدالة، أو لم يعرفهم بها، لكن سأل ممن عرفهم وأخبره بعدالتهم ينبغي للمزكي أن يعدلهم قطعاً، فيقول: هم عدول، ولا يقول: هم عدول؛ لأن الثقاة أخبروا بعدالتهم؛ لأن هذا ليس بتعديل بل هذا إخبار عن تعديل الغير، وهذا الإخبار لم يثبت عند القاضي لكون المخبر واحد رواه عن محمد رحمه الله.
وروى عنه رواية أخرى: أن القاضي يقبل ذلك منه؛ لأنه أحال بالتعديل على حجته، وهذه الرواية دليل على أن العدد في المزكي عند محمد رحمه الله ليس بشرط، أما الترجمان، إذا كان أعمى ذكر في غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة: أنه لا تجوز ترجمته؛ لأن العمى جرح، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجوز ترجمته، والمرأة الواحدة إذا كانت ثقة حرة جازت ترجمتها عندهما لرجل، وهذا في الأموال وما يجوز شهادتها فيه أما فيما لا تجوز شهادتها فيه لا تجوز ترجمتها.q
قال في كتاب «الأقضية» : إذا أراد المزكي أن يعدل الشهود ينبغي أن يقول إنهم عدول ثقات جائزوا الشهادة، قال: هذا هو أبلغ الألفاظ في التعديل.
وقال ابن سلمة: المزكي يقول في التزكية: هو عندي عدل مرضي جائز الشهادة، وفي «العيون» ذكر لفظ: عندي أيضاً، وبعض المشايخ قالوا: إذا قال: عندي لا يكون هذا تعديلاً بقوله: عندي وقع الشك، والفقيه أبو الليث رحمه الله زين هذا القول، وقال: هذا عندي ليس شيء؛ لأن العالم بالحقائق هو الله تعالى، وإنما يخبر المكلف عما عنده ووقع اجتهاده، وقال أبو يوسف رحمه الله: يقول المزكي: ما أعلم منه إلا خيراً كما ذكر عمر رضي الله عنه، ولو قال: لا بأس به فقد عدله.
وفي القاضي إذا قال المزكي: هم عدول، فهذا ليس بتعديل؛ لأن المحدود في القذف بعد التوبة عدل ولا تقبل شهادته، وما وراه أبو علي النسفي عن محمد رحمه الله دليل على أنه تعديل، وكذلك إذا قال: هم ثقات، فالقاضي لا يكتفي به فقد يطلق هذا اللفظ على المستور، وبعض مشايخنا قالوا: إنه تعديل، ولو قال: إنه مزكى يكتفي به؛ لأنه طلب منه التزكية، وقد أتى بلفظ التزكية، وصار كالشاهد بعد الاستشهاد يأتي بلفظة الشهادة، ولو قال: لا أعلم منه إلا خيراً فقد ذكر في «أدب القاضي» أنه تعديل، وإنه موافق لما روينا عن أبي يوسف ومن المشايخ من قال: إنه ليس بتعديل، والأصح أنه تعديل؛ لأنه نفى ما سوى الخير عنه، فكان مثبتاً صفة الخيرية له، إلا أنه يثبت بقدر ما(8/97)
علم من حيث الظاهر، وهو المأخوذ به في حق العباد، أما العلم بالحقائق لله تعالى.
وعن محمد أن المزكي إذا كان عالماً بصيراً يكتفي به منه، وإذا كان غير عالم لا يكتفي به منه؛ لأن غير العالم ربما لا يعرف هذا تعديل، وإن قال: لا أعلم منه إلا خصلة من أنواع الخير، لا يكون هذا تعديلاً؛ لأنه لم يثبت له إلا خصلة من أنواع الخير، وبهذا القدر لا تثبت العدالة.
وإن قال: هو عدل فيما علمنا، فقد قال بعض العلماء: إنه تعديل، وهكذا روي عن شريح، والأصح أنه ليس بتعديل؛ لأن قول الإنسان: فيما أعلم إذا اقترن بالإخبار بخرجه من أن يكون إثباتاً، ألا ترى أن الشاهد إذا شهد أن لفلان على فلان كذا فيما أعلم، لا تقبل شهادته؛ لأنه لا يكون إثباتاً وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد: إذا قال: لفلان علي ألف درهم فيما أعلم لا يكون إقراراً، تأويل حديث شريح أنه كان لا يقبل شهادة المستور كما هو قول أبي حنيفة.
وإن قال: هو عدل إن لم يكن شرب الخمر، فهذا ليس بتعديل؛ لأن فيما ذكر تعريض لوصفه بذلك النوع من الفسق، وإن قال: الله أعلم لا يكون تعديلاً بل يكون جرحاً؛ لأنه نفى علم نفسه حيث أحال بالعلم على الله تعالى.
قال ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف قال: أجيز في تزكية السر تزكية العبد والمرأة والمحدود في القذف والأعمى، إذا كانوا عدولاً، ولا أقبل في تزكية العلانية إلا من كنت أقبل شهادته؛ لأن تزكية السر من باب الإخبار، ألا ترى أنه لا يشترط فيه العدد عندهما، والمخبر به أمر ديني، وقول المرأة والعبد والمحدود في القذف في الأمور الدينية مقبول، إذا كانوا عدولاً، ألا ترى أنه تقبل روايتهم في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب الصوم بقولهم، فأما تزكية العلانية نظير الشهادة حيث شرط فيها العدد، وهؤلاء لا يصلحون للشهادة.
قال: وأقبل فيها رجل وامرأتان يعني في تزكية العلانية؛ لأن شهادة رجل وامرأتين في الأموال مقبولة، فكذلك التزكية، وعلى هذا تزكية الوالد لولده في السر جائزة، لأنها من باب الإخبار، أقصى ما فيه أنه تزكية لنفسه من حيث المعنى، ولكن يجوز للإنسان أن يزكي نفسه إذا احتاج إليه، ألا ترى أنه كيف زكى يوسف صلوات الله عليه في قوله تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (يوسف: 55) وأما في العلانية فلا تجوز إلا تزكية من تقبل شهادته له، وكذلك على هذا تزكية العبد مولاه في السر جائزة وروى محمد عن أبي حنيفة أن يجوز تعديل العبد والمرأة والأعمى، وعن محمد: لا يجوز تعديل هؤلاء.
قال: وينبغي للمعدل أن يختار السؤال ممن اتصف بالأوصاف التي شرطناها في المزكي، وإنما يسأل جيرانه وأهل سوقه؛ لأنهم أعرف بحاله، هكذا ذكر في «أدب القاضي» .
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إنه يسأل عن جيرانه، إذا لم يكن(8/98)
بينه وبينهم عداوة ظاهرة، ولا يتحامل هو عليهم، يعني: لا يكون يده فوق أيديهم بنحو أن لا يعطى الجباية وما أشبهه، وهو اختيار أبي علي النسفي، ورواه عن محمد، وذكر من جملة من يسأل عنه رفيق الشاهد وقريبه، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا كان في المرء ثلاث خصال فلا تشكوا في صلاحه إذا حمده ذوو قرابته، وجاره، ورفيقه.
وإن لم يجد في جيرانه، وأهل سوقه من يصلح للتعديل، يسأل أهل محلته، وإن وجد كلهم غير ثقات يعتمد في ذلك تواتر الأخبار، وكذلك إذا سأل جيرانه، أو أهل محلته، وهم غير ثقات، فاتفقوا على تعديله أو جرحه، ووقع في قلبه صدقه كان ذلك بمنزلة تواتر الأخبار، وإن أخبر بعضهم بعدالته وبعضهم بجرحه، فالحكم فيه كالحكم في اختلاف المزكي في التعديل والجرح، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن كان الشاهد غريباً لا يعرف إذا سأل عنه في السر، فالقاضي يسأل الشاهد عن معارفه، فإذا سماهم سأل عن معارفه في السر حتى يظهر عنده أنهم هل يصلحون للتعريف، فإن عدلوا سأل عنهم عن الشاهد، واعتمد على خبرهم في الجرح والتعديل، ولا يوقف فيه، وسأل عن العدل الذي في بلدته، إن كان في ولاية هذا القاضي وإن لم يكن كتب إلى قاضي ولايته تعرف عن حاله.
قال هشام: سألت محمداً عن رجل شهد عند القاضي، وهو على رأس خمسين فرسخاً، فبعث القاضي أميناً على جعل يسأل المعدل عن الشاهد، فالجعل على من؟ قال: على المدعي، وهذا ظاهر؛ لأن منفعة عمل الأمين راجعة إلى المدعي.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: لا ينبغي للقاضي أن يسأل عن الشاهد رجلاً له على المشهود له مال، إذا كان المشهود له مفلساً فلسه القاضي، أو ميتاً أقام وصية على غيره بينة؛ لأنه متهم في هذا التعديل بيانه: إذا أظهر عدالة الشهود لزم القاضي القضاء بشهادتهم، وعند ذلك يزول الإفلاس، وزوال الإفلاس يقع في حقه؛ لأن ماله في ذمته بمنزلة النادي زيول ذلك النوي بزوال الإفلاس، ثبت أن في التعديل نفعاً له فكان متهماً فيه.
ونظير هذه رواية في الشاهد، إذا كان له على المشهود له مال، وأنه مفلس أنه لا تقبل شهادته له، لهذه التهمة، وإن لم يكن مفلساً تقبل شهادته له، ويصح تعديله لشهوده؛ لعدم هذه التهمة، إذ لا يثبت بهذه الشهادة أمر لم يكن ثابتاً؛ لأنه كان متمكناً من استيفاء حقه قبل الشهادة وقبل التعديل، حسب تمكنه منه بعد ذلك.
قال: ولو أن غريباً نزل بين ظهراني قوم، وشهد هذا الغريب عند القاضي في حادثة، فسألهم القاضي، أو العدول عن حاله، وقد عرفوه بالصلاح، ولم يظهر منه ما يسقط عدالته هل يسعهم أن يعدلوه؟ كان أبو يوسف رحمه الله أولاً (82أ4) يقول: إن مكث بينهم ستة أشهر، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح، يسعهم أن يعدلوه، وإن كان ذلك(8/99)
فليس لهم أن يعدلوه، ثم رجع وقال: إذا مكث بينهم سنة، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح جاز لهم أن يعدلوه، ومالا فلا؛ لأن الحاجة إلى معرفة حاله بالتجربة، وقد ورد الشرع بتقدير مدة التجربة بالسنة، كما في العين.
يوضحه: أن من الفرائض ما لا يجب إلا بعد كمال الحول، كالزكاة وصوم رمضان، فما لم يحل عليه الحول لا يقفون عليه أنه متهتك أو ممن يراعي حق الله تعالى، في الزكاة والصوم، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه على قدر ما يقع في القلب صلاحه.
ورورى إبراهيم عن محمد أنه قال: من وقت في التزكية فهو مخطئ، وهذا على ما يقع في القلب، ربما يعرف الرجل في شهرين، والآخر لا يعرف في سنة، لأنه يرائي ويتصنع، وهذا القول أشبه بالفقه، وينبغي أن يكون على قياس أبي حنيفة كذلك؛ لأنه يفوض إلى رأي المجتهد في مثله، ولا يقدر فيه بشيء كما في الكثير الفاحش، وفي المدة التي يصير الكلب معلماً فيه.
ولو أن صبياً بلغ، وشهد شهادة، فحكمه حكم هذا الغريب الذي نزل من ظهراني القوم لا يعدلوه حتى يظهر فيها عندهم صلاحه وعدالته، والمدة التي يظهر فيها حاله عندهم، مقدرة على قول أبي يوسف كما بينا، ولا تقدر عند محمد بل هي على ما يقع في القلب؛ لأن العدالة مبناها على توجه الخطاب، حتى يعرف ازدجاره عن محظورات دينه وائتماره بالأوامر، والخطاب إنما توجه عليه الآن.
ولو أن نصرانياً أسلم ثم شهد، فإن كان القاضي عرفه عدلاً في النصرانية يقبل شهادته ولا يبالي، وإن لم يعرفه بالعدالة يسأل فيمن عرفه بالعدالة في النصرانية، ويسعه أن يعدله من غير تأني، وإنما وقع الفرق بين الصبي والبالغ، لما ذكرنا أن العدالة والفسق إنما يعرف بتوجه الخطاب، والخطاب متوجه على النصراني، وإذا رأيناه مزدجراً عما اعتقده محظور دينه، يستدل به على عدالته، فلا يتغير ذلك بالإسلام، فأما الصبي فإنما يتوجه عليه الخطاب بعد البلوغ، ولا يعرف انزجاره عن محظورات دينه قبل ذلك ليستدل به على عدالته، فلا بد من مدة بعد البلوغ ليعرف انزجاره عن محظورات دينه.
وقال بعض مشايخنا: الصبي إذا رهق الحلم، ولم يزل رشيداً حتى بلغ أن شهادته مقبولة، ويسع للمعدل أن يعدله، وإن لم يعرف سنه رشداً إلى أن بلغ، فإنه يتأنى فيه، ويتربص مدة يظهر صلاحه، ويقع في القلب أنه عدل لما ذكر في الغريب، وهذا القائل سوى بين الصبي وبين النصراني في اعتبار العدالة السابقة، وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، وجه التسوية: أن النصراني لا شهادة له على المسلم كالصبي، وإنما حدث لهما أهلية الشهادة على المسلمين بالبلوغ والإسلام، ثم لما اعتبر بالعدالة التي قبل الإسلام فلأن يعتبر العدالة التي قبل البلوغ في حق المراهق أولى، وهذا لأن المراهق مأمور بالصلاة، ويؤدب على تركها، ويؤمر بالقضاء إذا أفسدها، وكذلك الصوم وغيرهما من الأحكام المختصة بأهلية الشرائع، ما لم يكن النصراني، ثم لما بنى الحكم على(8/100)
العدالة قبل الإسلام، فلأن يبني على العدالة التي للصبي قبل البلوغ أولى، ولكن المشهور ما ذكرنا.
في كتاب «الأقضية» عن محمد رحمه الله في نصرانيين شهدا على نصراني وعدلا في النصرانية، ثم أسلم المشهود عليه، ثم أسلم الشاهدان، فالقاضي لا يقضي بتلك الشهادة؛ لأنهما كافران وقت الأداء، فإن شهدا بذلك بعد الإسلام يعني أعادا شهادتهما بعد الإسلام، فالقاضي يسأل المعدل المسلم عن حالهما؛ لأن ذلك التعديل لم يعتبر حجة على المشهود عليه بعد الإسلام، لكونه تعديل الكافر حتى لو كان ذلك التعديل السابق من المسلمين قضى القاضي بشهادتهما؛ لأن ذلك التعديل وقع معتبراً.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله، قال: سألت محمداً عن شاهدين مشركين شهدا على مشرك بشهادة، فعدلا فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى أسلم المشهود عليه، ثم أسلم الشاهدان، قال: أسأل الشاهدين أن يعيدا الشهادة، قلت: أتسأل عن تعديلهما قال: لا لأنهما عدلا في الشرك، قلت: فمسألة الشاهدين المشركين من المسلمين أو من المشركين، قال: من المسلمين قلت: فإن لم يعرفهما قال: يسأل المسلمون عن العدول من أهل الشرك، ثم يسأل أولئك المشركون عن الشهود.
قال محمد رحمه الله: في رجل ارتكب ما يصير به ساقط الشهادة من الكبائر، ثم تاب، وشهد عند القاضي قبل أن يأتي عليه زمان، لا ينبغي للمعدل أن يعدله، حتى يأتي عليه زمان، وهو على توبته يقع في القلب أنه صحت توبته، وهذا لأن التوبة أمر باطن لا تعرف إلا بدليلها، والامتناع عن ارتكاب الجناية محتمل بين أن يكون على وجه التوبة (وبه) يصير عدلاً، وبين أن يكون لا على وجه التوبة؛ لأن الفاسق لا يداوم على معصية، على سبيل الموالاة، وبه لا يصير عدلاً، فلا بد من انضمام شيء آخر يدل على أن الامتناع على سبيل التوبة، فضممنا مضي مدة، وهو على توبته فيها يقع في قلب المجتهد أنه صح التوبة، وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف فيما تقدم ينبغي أن تقدر تلك المدة لسنة أو لستة أشهر.
وإن كان هذا الفاسق شهد وهو فاسق ثم تاب، ومضى عليه زمان، وهو على توبته على نحو ما ذكرنا، فالقاضي لا يقضي بتلك الشهادة بل يأمر بإعادتها، فإن أعادها وعدله المعدل، فالقاضي يقبل شهادته إن كان لم يرد شهادته التي شهدها في حال فسقه، أما قبل الرد إنما يقبل شهادته؛ لأنه طهر شهادته بإخبار المعدل، وأما بعد الرد إنما لا يقبل شهادته؛ لأن بعد رده الشهادة هو متهم في التوبة، لجواز أنه قصد بها تنفيذ شهادته، ورفع ضرر عاد رد الشهادة عن نفسه، وهو في الباطن بخلافه.
ولو أن فاسقاً معروفاً غاب غيبة منقطعة سنة أو سنتين، ثم قدم، ولا يرى منه إلا الصلاح، فشهد عند القاضي، وسأل القاضي العدل عنه، فلا ينبغي للعدل أن يجرحه لما كان رأى فيه من قبل، ولا ينبغي له أن يعدله أيضاً حتى يتبين عدالته، وهو بمنزلة الغريب نزل بين ظهراني قوم.(8/101)
وكذلك الذمي إذا أسلم، وقد عرف منه ما هو جرح قبل الإسلام لا ينبغي للمعدل أن يجرحه لما رأى فيه من قبل، ولا يعدله أيضاً حتى يظهر عدالته لما مرّ.
قال: ولو أن رجلاً عدلاً مشهوراً بالرضا غاب، ثم حضر وشهد، وسئل المعدل عنه، فإن كانت الغيبة قريبة كان للمعدل أن يعدله؛ لأنه ظهر عدالته، ولم يظهر بخلافه إذ لو كان منه شيء بخلافه لوصل الخبر؛ لأن المدة قريبة، وإن كانت الغيبة منقطعة مسيرة ستة أشهر أو نحوه، فإن كان الرجل مشهوراً بالرضا والعدالة كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى، فله أن يعدله، لأنه لم يظهر بخلاف ما عرف منه إذ لو كان منه شيء بخلاف ذلك لتحدث الناس به؛ ولو تحدثوا به لوصل الخبر ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يغيبون، وكانوا لا يبطل حكم عدالتهم وطريقه ما قلنا.
وإن لم يكن الرجل مشهوراً، فالمعدل لا يعدله؛ لأن هذه مدة يجوز أن يتغير المرء بها، وإذا لم يكن مشهوراً فالناس لا يتحدثون بأفعاله وأحواله ليستدل بعدم وصول الخبر على عدم التغيير، وذلك ما إذا كان الرجل معروفاً مشهوراً.
وإذا عدل الشهود عند القاضي، وعرفهم القاضي بالعدالة، فشهدوا مرة أخرى، فإن كان بين التعديل وبين الشهادة الثانية مدة قريبة قضى القاضي بشهادتهم من غير سؤال، وإن طال الزمان، وقادم العهد سأل القاضي عنهم، يريد به على قول من يرى السؤال عن الشهود؛ وهذا لأن الإنسان لا يبقى على صفة واحدة في جميع الأزمان، بل يتغير على ما عليه الغالب، ولا يكون التغيير في زمان قريب وإنما يكون في زمان طويل.
فبعد ذلك اختلف المشايخ فيما بينهم، منهم من قدر الطويل بسنة، وهو قول أبي يوسف آخراً وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، ومنهم من قدر الطويل بستة أشهر، وهو قول أبي يوسف أولاً، واختيار الخصاف رحمه الله، ومنهم من قدره بأربعة أشهر، ومنهم من قدره بشهر، ومنهم من كره التقدير، وفوضه إلى رأي القاضي، إن وقع في رأيه بعد الاجتهاد والتأمل أنه تغير في هذه المدة، ورأى هذه المدة طويلة يسأل عنه، وإن وقع في رأيه أن لم يتغير في هذه المدة، ورأى هذه المدة قريبة لا يسأل عنه، وهذا القول أشبه بأصول أصحابنا رحمهم الله، وهو مروي عن محمد رحمه الله.
وإن عرف المزكي الشهود بالعدالة، غير أنه علم أن دعوى المدعي كان باطلاً، وأن الشهود أوهموا في بعض الشهادة، فينبغي أن يبين للقاضي بما صح عنده من عدالة الشهود، وإيهامهم في الشهادة أو بطلان دعوى المدعي، فالعدل قد ينسى، وقد يغلط، والمزكي قد يقف على بطلان دعوى المدعي بما يعترض على أصل سبب الاستحقاق من الإبراء أو الإيفاء في الديون، أو تلقي صاحب اليد الملك من المدعي أو ما أشبه ذلك، والشاهد لا يعرف ذلك، ويشهد بناء على ما عاين من سبب الاستحقاق، وبهذا لا تسقط عدالته (82ب4) فلهذا قال: يذكر عدالة الشهود وبطلان دعوى المدعي.
ثم القاضي يتفحص عما أخبره المزكي غاية التفحص، فإن تبين له حقيقة ما أخبره المزكي رد شهادة الشهود، وإن تبين له حقيقة ما أخبره المزكي قبل شهادة الشهود؛ ولأنه(8/102)
قد تثبت صحة دعوى المدعي بشهادة شهود عدول ولم يثبت بهذا الخبر بطلان دعواه؛ لأنه لا يصلح تعارضاً لشهادتهم، فلهذا قبل القاضي بشهادتهم.
فإن عرف المعدل من الشهود ما هو جرح، فلا ينبغي أن يذكر جرحه صريحاً، بل يذكره بالتعريض أو الكتابة بأن يقول الله أعلم أو ما أشبهه، تحرزاً عن هتك الستر على المسلم بقدر الممكن، وبعض مشايخنا قالوا: لا بد أن يذكر الجرح ويذكر سببه؛ لأن أسباب الجرح كثيرة فلعل أن المعدل ظن شيئاً سبب جرح ولا يكون سبب جرح، فلا بد من البيان لينظر القاضي فيه فإن رآه جرحاً رد شهادته وما لا فلا.
قال: وينبغي للقاضي إذا جرح الشهود أن يكتم الجرح ويقول للمدعي: زد في شهودك احترازاً عن هتك الستر قال بعض مشايخنا على قياس ما ذكر هاهنا: إذا عدل بعض الشهود وجرح البعض ينبغي للقاضي أن يكتب أسماء الذين عدلوا، ويترك أسماء المجروحين في السجل والمحضر؛ لأنه حينئذ يظهر المجروح لا محالة فيهتك ستره، ولكن هذا ليس بصواب؛ لأن الخصم ربما يطعن وعند ذلك يحتاج القاضي إلى معرفة الشهود، فإذا لم تكن أساميهم مذكورة في السجل ولا في الديوان لا تجدهم حتى تتعرف عن حالهم ثانياً، فالصواب كتابة أساميهم، ولكن يكتب أسماء المعدلين لا غير تحرزاً عن هتك الستر بقدر الممكن، وإن كان المعدل لا يعرف الشهود بالعدالة فأخبره رجلان عدلان وسعه أن يعدلهما، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأن خبر العدلين حجة مطلقة يجوز للقاضي أن يقطع الحكم به، فيجوز للمعدل التعديل به.
ألا ترى أنه إذا شهد عند رجل عدلان على النسب وسعه أن يشهد على النسب، فكذا هاهنا قالوا: هذا الاستشهاد مستقيم على ما ذكر محمد رحمه الله في مسألة النسب في الكتب الظاهرة، أما على ما ذكر بشر بن الوليد أن على قول أبي يوسف تجوز الشهادة على النسب بشهادة الرجلين العدلين، ولا تجوز عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يسمع من العامة، فهاهنا يجب أن يكون الجواب على الخلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة لا يسعه التعديل بإخبار العدلين حتى يسمع ذلك من العامة.
وروى هشام عن محمد رحمه الله مسألة التعديل بإخبار العدلين، وذكر فيها زيادة، فقال: إذا كان اللذان عدلاه يعرفان التعديل وسعه أن يعدله.
وروى إبراهيم عن محمد رجل عدل عند القاضي وأنا لا أعرفه إلا أنه وصف هل يسعني أن أزكيه وقد عرفت أن القاضي زكاه، قال: لا يسعك إلا أن تعرفه.
وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بحق وعدلهما المعدل بعد موتهما فالقاضي يقضي بشهادتهما، وكذلك لو عدلهما بعدما غابا. ولو عدلهما بعدما خرسا أو عييا فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، والفرق أن الموت ليس بجرح في الشاهد ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موتهم على العدالة، وكذلك من بعدهم وكذلك الغيبة ليست بجرح في الشهادة، فأما الخرس والعمى في معنى الجرح في الشاهد لو اقترن بالأداء يمنع الأداء، فيمنع القضاء أيضاً.(8/103)
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: شاهدان شهدا عند القاضي والحاكم يعرف أحدهما بالعدالة ولا يعرف الآخر فزكاه المعروف بالعدالة، قال بصير: لا يقبل تعديله وعن ابن سلمة روايتان. وعن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله في ثلاثة شهدوا عند الحاكم وهو يعرف اثنين ولم يعرف الثالث، فعدله الإثنان، قال: يجوز تعديلهما إياه في شهادة أخرى ولا يجوز في هذه الشهادة بأنه موافق لقول بصير وبه يفتى.
وفي «النوازل» : إذا سأل المعدل عن الشاهد، فسكت فهو جرح وهذا ظاهر؛ لأن الإنسان لا يمتنع لإظهار ما هو حسن، وإنما يمتنع عن إظهار ما هو قبيح وهذا هو الظاهر من حال المسلم.
وفيه أيضاً: الشاهد إذا كان في السر فاسقاً وفي الظاهر عدلاً، فأراد القاضي أن يقضي، فأخبر عن نفسه أنه ليس بعدل صح إقراره على نفسه، ولكن لا يسعه ذلك الكلام في ذلك الوقت؛ لأنه يتضمن إبطال حق المدعي وهتك ستر نفسه، وإذا سأل القاضي المعدل عن حال الشهود، فأخبره بما علم من حالهم، ثم أراد أن يسأل عن غيره، فلا ينبغي له أن يعلم أنه سأل غيره عن حالهم؛ لأنه متى أعلم بذلك ربما يعتمد الثاني على قول الأول فيتهاون بالسؤال، ولا يبالغ في التفحص.Y
وإذا اختلف أصحاب المسائل في الجرح والتزكية، فحاصل الجواب في هذا الفصل أن المخبر بأحد الأمرين إذا كان المثنى والمخبر بالأمر الآخر الواحد، فالقاضي يأخذ بقول المثنى تزكية كان أو جرحاً؛ لأن قول المثنى حجة مطلقة، يعني به في جميع الأحوال، وقول الواحد ليس بحجة مطلقاً فلا يعارض قول المثنى، وإن كان من كل واحد من الجانبين ما هو حجة مطلقة بأن كان من كل واحد (من) الجانبين مثنى فالترجيح للجارح، لأن الجارح مثبت والمعدل ناف فإنه يقول لا أعلم فيه إلا خيراً؛ ولأن المعدل اعتمد ظاهر الحال، فإن ظاهر حال المسلم العدالة، والجارح وقف على أمر بخلاف الظاهر خفي عن المعدل، والقاضي إنما يسأل ليقف على خلاف الظاهر وذلك في خبر الجارح، وكذلك إذا كان من أحد الجانبين مثنى ومن الجانب الآخر عشرة رهط، أو فوقها أو دونها لكنها فوق المثنى كان الترجيح للجارح؛ لأن المثنى حجة متكاملة والزيادة عليها فضل، ألا ترى أن في باب المال جعلنا الزيادة على المثنى فضلاً، كذا هاهنا، وإذا كانت الزيادة على المثنى فضلاً صار كأن من كل جانب مثنى، وإن كان من كل جانب رجل واحد أعاد المسألة من غيرهما هكذا اذكر المسألة في الأصل.
وفي «الأقضية» : إذ ليس من كل جانب حجة وتعذر على القاضي الحكم، فيسأل عن غيرهما رجلان ينضم إلى المخبر من أحد الجانبين ما يتم به الحجة، فيترجح الجارح وإن استكشف القاضي منهما يعني من المعدل ومن الجارح الأول، فيقول للمعدل بأي سبب عدلته ويقول للجارح: بأي سبب جرحته، فهو حسن؛ لأن أسباب الجرح مما يختلف فيه فلعل هذا الجارح اعتمد سبباً لا يكون الجرح عند القاضي والمعدل اعتمد سبباً لا يكون سبب تعديل عند القاضي، فيسأل القاضي حتى يعمل فيه برأيه.(8/104)
ثم ما ذكر من الجواب فيما إذا كان من كل جانب واحد أن القاضي أعاد المسألة عليها ظاهر على قول محمد رحمه الله، لأن العدد في المزكي شرط عنده، فإذا كان من كل جانب واحد لم يثبت واحد منهما لا العدالة ولا الجرح فيتوقف القاضي كشاهد واحد شهد عند القاضي فإن القاضي يتوقف إلى أن يشهد شاهد آخر كذا هاهنا، وأما على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف مشكل؛ لأن عندهما العدد في المزكي ليس بشرط، فتتم الحجة من الجانبين، فينبغي أن يكون الجرح أولى، كما لو كان من كل جانب مثنى، عامة المشايخ على أن المذكور في الأصل والأقضية قول محمد رحمه الله، فأما على قولهما فالجرح أولى هكذا ذكر في «المنتقى» .
وصورة ما ذكر في «المنتقى» إذا زكى الشهود واحد وجرحه واحد، قال أبو حنيفة وأبو يوسف الجرح أولى، وقال محمد: الشهادة موقوفة على حالها حتى يجرح آخر أو يعدل آخر، ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» و «الأقضية» قول الكل وهذا القائل يقول: في المسألة روايتان عنهما، ويفرق هذا القائل على قولهما بينما إذا كان من كل جانب واحد، وبينما إذا كان من كل جانب اثنان على رواية «الأصل» .
ووجه الفرق: أن الاثنين مما تتم بهما الشهادة، فإذا كان من كل جانب اثنين فقد بلغ كل فريق حد الشهادة وفي الجرح معنى الإثبات، وفي التعديل معنى النفي، والشهادة شرعت للإثبات لا للنفي، فرجحنا الجرح للتعديل لهذا، أما الواحد مما لا تتم به الشهادة بل كلامه خبر، والنفي والإثبات يستويان في الخبر، فلا يمكن ترجيح الجرح فيستقبل القاضي السؤال استقبالاً، فإذا سأل القاضي عن الشهود وطعن فيهم لا ينبغي للقاضي أن يصرح للمدعي بأن شهودك جرحوا، بل يقول له: زد في شهودك أو يقول له لم يجد شهودك ليكون ذلك أقرب إلى السنن، فإن قال المدعي أنا آتي بمن يعدلهم ويسمي قوماً يصلحون للمسألة، فإن القاضي يسمع ذلك منه ويسألهم. ذكر المسألة في «العيون» وفي «أدب القاضي» ، فإن عدلهم ذلك القوم سأل القاضي الطاعنين بما طعنوا فيهم؛ لأنه يجوز أنهم طعنوا بما لا يصلح وجه الطعن عند القاضي والمدعي، فإن بينوا ما هو جرح عند الكل كان الجرح أولى، وإن بينوا سبباً لا يصلح للطعن عند القاضي لا يلتفت إليهم ويقبل شهادة الشهود وكذلك لو عدلهم المزكي فطعن الشهود عليه، وقال القاضي: اسأل فلاناً وفلاناً سمى قوماً صالحين للمسألة يسأل عنهم، فإن جرحوا وبينوا سبباً صالحاً، فالجرح أولى هكذا ذكر في «العيون» وفي «أدب القاضي» أيضاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» : قلت لمحمد رحمه الله إذا سأل القاضي في السر عن الشهود فلم يعدلوا ثم أتاه المشهود له بالمعدلين في العلانية، قال لا يقبل ذلك منه، وهذه الرواية تخالف رواية «العيون» وبه يفتى؛ لأن العبرة لتزكية السر ويتمكن تهمة المواضعة بينهم؛ ولأن في التفحص عن ذلك إشاعة الفاحشة وتهييج العداوة بينهم....(8/105)
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا عدل الشاهد (84أ4) في السر فقال المشهود عليه أنا أجيء بالبينة في العلانية أنه صاحب كذا وكذا ... ، إذا كان كذلك لا تقبل شهادته، فإنى لا أقبل ذلك من المدعي، إذا عدل الشاهد في السر أشار إلى أن العبرة لتزكية السر وإنه يخالف رواية «العيون» أيضاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً قلت: لمحمد رحمه الله أما من القاضي المشهود له أن تأتيه من يعدل شهوده، قالا: لأن العبرة لتزكية السر ولتمكن التهمة في حق من يعدل الشاهد بأمر المشهود عليه، فلعله واضعه على ذلك ولا تهمة في حق مزكي القاضي.
وإذا شهد شاهدان على رجل بمال فقال المشهود عليه: هما عبدان، وقال الشاهدان: نحن أحرار الأصل لم نملك قط، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى يعلم أنهما حران.
روى ابن سماعة عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه قال: الناس أحرار إلا في أربع مواضع: الشهادة والحدود والقصاص والعقل، ونحوه ورد عن عمر رضي الله عنه.
صورته في الشهادة ما ذكرنا.
صورته في الحد: رجل قذف إنساناً وزعم القاذف أن المقذوف عبد، فالقاضي لا يحد القاذف حتى يعلم حرية المقذوف.
صورته في القصاص: رجل قطع يد إنسان وزعم القاطع أن المقطوعة يده عبد، فالقاضي لا يقطع يد القاطع حتى يعلم حرية المقطوعة يده.
صورته في العقل: رجل قتل رجلاً خطأً، وزعم العاقلة أن المقتول عبد، فالقاضي لا يقضي على العاقلة بالدية حتى يعلم حرية المقتول، وهذا كله إذا لم تكن حرية الشاهدين وحرية المقذوف وحرية المقطوع والمقتول معلومة للقاضي بيقين بأن كانوا مجهولين في النسب، ولم يعاين القاضي إعتاقهم من جهة أحد، فأما إذا كانت معلومة للقاضي يتعين بأن عرف حرية أبويهم من الأصل أو عرف حريتهم بالإعتاق، فالقاضي لا يلتفت إلى طعنهم؛ لأنه عرف كذبهم في طعنهم بيقين، فإن سأل القاضي عن الشهود وأخبر المزكون أنهم أحرار الأصل أجزت شهادتهم، ولم أكلفهم البينة، أشار إلى أن الإخبار عن حرية الشهود يكفي للعمل بالشهادة، هكذا ذكر في «كتاب الأقضية» ، وهذا لأن القاضي لا يحتاج إلى القضاء بالحرية؛ لأن ذلك إنما يكون بعد ثبوت الرق، والرق غير ثابت وإنما يحتاج إلى ما يعرف به أن شهادتهم حجة، فصارت الحرية كالعدالة ثم العدالة تثبت، بالإخبار فكذا الحرية.
وذكر في شهادات «الأصل» : أن القاضي إذا اكتفى بالإخبار فحسن وإن طلب على ذلك بينة فهو أحب وأحسن؛ لأن الحاجة إلى معرفة الحرية فوق الحاجة إلى معرفة العدالة؛ لأن أهلية الشهادة لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة؛ ولأن الحرية(8/106)
أخذت سببها من أصلين مختلفين من العدالة، باعتباراتها من أسباب قبول الشهادة ومن الملك باعتبار أنه تجري فيها الخصومة وفيها حق العباد، فلشبهها بالعدالة قلنا بأنها تثبت بمجرد الإخبار ولشبهها بالملك، قلنا بأن الإثبات بالبينة أولى؛ لأن الحرية تصير مقضياً بها.
ولو جاء إنسان وادعى رقبة هذا الشاهد بعد ذلك لا ذكر لهذه المسألة في الكتب، قال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله وفيه شبهه يجب أن لا يسمع إذا قام البينة على حرية ويسمع إذا لم يقم.
ثم إن أصحابنا رحمهم الله فرقوا بين فصل الشهادة وبينما عداها من الفصول وهو فصل الحد والقصاص والقتل. فقال: في فصل الشهادة: إذا أخبر المزكون بحرية الشهود فالقاضي يجيز شهادتهم ولم يشترط إقامة البينة، وقال في الفصول الثلاث القاضي لا يقضي بالحد والقصاص والعقد ما لم يقم البينة على الحرية.
والفرق أن الحرية من أسباب قبول الشهادة وليست من حقوق العباد التي تدخل تحت القضاء، فكانت كالعدالة ثم العدالة تثبت بالسؤال فكذا الحرية، فأما الحد والقصاص والعقل من الحقوق التي تدخل تحت القضاء، فلما لا يمكن إثباتها إلا بالبينة فكذا في الحرية التي لا يجب حد القذف ولا يجب العقل والقصاص؛ لأنها لا يمكن إثباتها إلا بالبينة، هذا إذا قال الشهود: نحن أحرار، فأما إذا قالوا: كنا عبيد فلان أعتقنا قاض لا يقضي بشهادتهم حق تقوم البينة على العتق، بخلاف الفصل الأول.
والفرق أنهم إذا قالوا: كنا عبيد فلان فقد أقروا على أنفسهم بالرق، وإقرارهم حجة عليهم، فيثبت الرق عليهم بإقرارهم فيحتاج القاضي بعد هذا إلى القضاء بالعتق، والقضاء بالعتق لا يكون إلا بالبينة فأما في الفصل الأول، فالرق لم يثبت، فلا حاجة إلى القضاء بالعتق، وإنما الحاجة إلى ما يعرف به أن شهادتهم هل صارت حجة؟ والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا قال الشهود: نحن أحرار الأصل، وقال المزكون: كانوا عبيداً لفلان أعتقهم، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم حتى تقوم البينة على العتق؛ لأن الرق قد ثبت عليهم بإخبار المزكين، فيحتاج القاضي إلى القضاء بالعتق والتقريب ما ذكرنا.
وإن أقام المشهود له بينة على المشهود عليه أن فلاناً أعتقهم وهو يملكهم، وقضى القاضي بعتقهم كان ذلك قضاء على العتق، حتى لو حضر وأنكر الإعتاق لا يحتاج إلى إقامة البينة عليه؛ لأن المشهود عليه انتصب خصماً عن المولى؛ لأن المشهود له ادعى حرية الشاهد على المشهود عليه، وقد صح منه هذا الدعوى؛ لأنه لا يتمكن من إثبات حقه على المشهود عليه إلا بها والمشهود عليه أنكر ذلك وصح منه الإنكار؛ لأنه لا يتمكن من دفع الشهود عن نفسه إلا بإنكار الحرية.
والأصل أن من ادعى حقاً على الحاضر لا يتوصل إلى إثباته إلا بإثبات سببه على الغائب، ينتصب خصماً عن الغائب فصار إقامة البينة على المشهود عليه كإقامتها على المولى الغائب.
وإذا شهد الشهود على رجل بمال أو دم فطعن فيهم المدعى عليه، فالقاضي لا(8/107)
يقضي بشهادتهم حتى يسأل عنهم، فإن سأل عنهم وزكوا في السر والعلانية، فأراد القاضي أن يقضي بشهادتهم، فقال المشهود عليه أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك، فهذه المسألة على وجهين:
الأول أن يقيم البينة على جرح مفرد لا يدخل تحت حكم الحاكم، وهو أن يقيم البينة على أنهم فسقة أو رماة، وعلى إقرارهم أن المدعي استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقرارهم، أنهم قالوا: لا شهادة للمدعي على المدعى عليه قلنا في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: شهدنا بالزور أو على إقرارهم أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي لا يقبل هذه الشهادة عندنا خلافاً لابن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله.
الوجه الثاني: أن يقيم البينة أن الشهود زنوا ووصفوا أو يقيم بينة أنهم سرقوا مني كذا، أو شربوا الخمر، أو أنهم شركاء في المشهود به، أو أنهم صالحوني على كذا درهماً حتى لا يشهدوا علي ودفعت ذلك إليهم، أو أنهم عبيد أو محدودون في القذف، أو على أن المدعي أقر أن الشهود شهدوا بزور، أو على أن المدعي أقر أنه استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقراره أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي يقبل هذه الشهادة بالاتفاق.
وجه قول ابن أبي ليلى: أن هذه شهادة قامت على الجرح، والمدعي قد يحتاج إلى إثباته بالبينة ليدفع خصومة المدعي عن نفسه، وجب أن يقبل قياساً على وجه الثاني.
ولعلمائنا رحمهم الله في المسألة طرق وأصحها وأوضحها ما اختاره القاضي الإمام صاعد النيسابوري، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده، والصدر الشهيد رحمهم الله، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب التزكية أن الشاهد بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة ألحق بفاعلها الوعيد في الدنيا والآخرة بنص القرآن؛ لأنه أظهر. قال الله تعالى: {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة} (النور: 19) ، علم أن الشاهد صار فاسقاً والمشهود به لا يثبت بشهادة الفاسق، فإن قيل: في إثبات إظهار الفاحشة ضرورة، وهي دفع الخصومة عن المدعي، وصار كالوجه الثاني.
قلنا: لا ضرورة، لأنها تندفع بقولهم سراً للقاضي أو للمدعي من غير أن يظهر ذلك في مجلس الحكم. وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنهم.... وصفوا الزنا؛ لأن في إظهار الفاحشة هناك ضرورة وهو إقامة الحد واسترداد المسروق، بخلاف ما إذا شهدوا أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جانب الشهود، وإنما فيه حكاية ظهور الفاحشة من غيرهم وهم شهود القذف أو القاضي والحاكي لإظهار الفاحشة، لا يكون يظهر الفاحشة فلم يصيروا فسقة وبخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة، وما شاكله؛ لأنهم بشهادتهم ما أظهروا الفاحشة إنما حكوا إظهار(8/108)
الفاحشة من غيره وهو المدعي، فلم يصيروا فسقة، بخلاف ما إذا أقام البينة أنهم صالحهم على كذا، حتى لا يشهدوا عليه ودفع ذلك إليهم؛ لأنهم وإن أظهروا الفاحشة وكان فيه ضرورة ليصل إلى المال حتى لو قال: لم أعطهم لم يقبل؛ لأن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة.
ثم المدعى عليه إذا أقام البينة أن شاهد المدعي محدود في القذف فالقاضي يسأل الشهود من حده هكذا ذكر في حدود «الأصل» ؛ لأن إقامة حد القذف إن حصل من السلطان (84ب4) أو من نائبه تبطل شهادته، وإن حصل من واحد من الرعايا بغير إذن السلطان لا تبطل شهادته، فلا بد من السؤال عن ذلك.
وإن قالوا حده قاضي كوة كذا، فالقاضي هل يسأله في أي وقت حده؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» .
في «كتاب الأقضية» : أن القاضي يسأل ليعلم أنه هل كان قاضياً في ذلك الوقت، فإن قال المشهود عليه بحد القذف: أنا أقيم البينة على إقرار ذلك القاضي أنه ما حدني ولم يؤقت واحدة من البينتين وقتاً، فإن القاضي يقضي بكونه محدوداً في القذف. ولا يمتنع القاضي من القضاء بكونه محدوداً في القذف، بسبب بينة الإقرار لوجهين: أحدهما أن العمل بالبينتين ممكن إذا لم يوقت واحدة من البينتين، وما يحمل بينة الإقرار، على ما قبل إقامة الحد وبينة إقامة الحد تحمل على ما بعد الإقرار، كان القاضي أقر قبل إقامة الحد أنه لم يحده حد القذف، ثم أقام عليه الحد بعد ذلك ومهما أمكن العمل بالبينتين لا يعطل واحدة منهما.
والثاني: أن البينة على الإقرار قامت على النفي من حيث المقصود؛ لأن المقصود من إثبات هذا الإقرار على القاضي نفي شهادة اللذين شهدا عليه لا بموت حكم آخر، فكانت هذه البينة باعتبار المقصود قائم على النفي، والبينة على النفي لا تقبل، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، فإن كان شهود القذف قد وقتوا وقتاً بأن شهدوا أن قاضي بلد كذا حده حد القذف سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فأقام المشهود عليه البينة أن ذلك القاضي مات سنة خمسة وخمسين وأربعمائة، وأقام البينة أنه كان غائباً في أرض كذا سنة سبع وخمسين، فإن القاضي يقضي بكونه محدوداً في القذف، ولا يلتفت إلى بينته ولا تجيء في هذه المسألة الطريقة الأولى الذي ذكرناها في المسألة الأولى، من إمكان العمل بالبينتين؛ لأن العمل بالبينتين غير ممكن وإنما تجيء الطريقة الأخرى، وهو أن بينة المشهود عليه من حيث المعنى قائمة على النفي؛ لأن المقصود من إثبات موت القاضي قبل ذلك، ومن إثبات الغيبة نفي شهادة الشهود الذين شهدوا عليه لا حكم آخر يثبت بالغيبة، فكانت بينة المشهود عليه باعتبار المقصود قائمة على النفي، والبينة على النفي غير مقبولة، فصار وجود هذه البينة وعدمه بمنزلة، إلا أن يكون أمراً مشهوراً في ذلك فحينئذ لا يقضي بكونه محدوداً في قذف، بأن كان موت القاضي قبل الوقت الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه مستفيضاً ظاهراً فيما بين الناس علمه كل صغير وكبير، وكل جاهل(8/109)
وعالم وكان كون القاضي في أرض كذا في الوقت الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه ظاهر مستفيض عرفه كل صغير وكبير وعالم وجاهل فح لا يقضي بكون الشاهد محدوداً في قذف، ويقضي على المشهود عليه بالمال، وذلك لأن بينة ... المشهود عليه بالحد على ما أقامها قائمة على النفي فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فبقي بينة المشهود له بالمال على كونه محدوداً في قذف، وإنها قائمة على الإثبات إلا أن البينة وإن قامت على الإثبات فإنه يثبت كذب الشاهد فيما شهد
به بيقين.
كرجل ادعى عبداً في يد إنسان ادعى أنه ملكه منذ عشر سنين وشهد الشهود بذلك، والعبد طفل رضيع، فإن الشهادة لا تقبل وإن قامت على الإثبات؛ لأنها كاذبة، بيقين فكذا هنا عرف القاضي كذب هذه الشهادة بيقين لما ثبت عنده موت هذا القاضي قبل الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه بيقين، وثبت كونه في أرض كذا في الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه.
فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه أعتق عبده في ذلك اليوم بعينه بالكوفة، فإن القاضي لا يقضي بواحدة من البينتين، وها هنا لو شهد شاهدان على الشاهد أن قاضي الكوفة حده يوم النحر من سنة كذا بالكوفة، وأقام المشهود عليه بينة أنه يوم النحر من سنة كذا تلك السنة كان بمكة، فإن القاضي يقضي ببينة الحد ولا يلتفت إلى البينة الأخرى.
والفرق بينهما أن كلتا البينتين في مسألة الطلاق والعتاق قامت في محلها، فإن كل واحدة منهما قامت على الإثبات، فكانت كل واحدة من البينتين معارضة للأخرى وإحداهما كاذبة وليست إحداهما بأن تجعل صادقة والأخرى كاذبة، بأولى من الأخرى، فتهاترتا فأما هاهنا بينة المشهود عليه على الموت والبينة قامت على النفي باعتبار المقصود، وإنها على النفي ليست بحجة، فصار وجودها وعدمها بمنزلة ولو عدم وجب القضاء بالأولى؛ لأنه لا معارض لها، فكذا هاهنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل وأقام على ذلك شهوداً، وأقام المشهود عليه شهوداً أن هذا الشاهد كان مدعياً ويزعم أنها له، فهذا جرح إن عدلت بينته بذلك، وكذلك لو أقام بينة أن الشاهد كان يدعي الشركة فيها.
الفصل الثاني والعشرون: فيما ينبغي للقاضي أن يضعه على يدي عدل وما لا يضعه
وإذا ادعت المرأة الطلاق على الزوج وجاءت بشاهد واحد، وطلبت من القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى تأتي بالشاهد الآخر ينظر إن كان الطلاق رجعياً لا يحول بينها وبين الزوج؛ لأن الطلاق رجعي لا يزيل النكاح، ألا ترى أنه لو أقامت شاهدين على(8/110)
الطلاق الرجعي، فالقاضي لا يحول بينها وبين الزوج، فهاهنا أولى.
وإن كان الطلاق بائناً إن قالت المرأة: شاهدي الآخر غائب وليس في المصر، فكذلك الجواب لا يحول بينها وبين الزوج؛ لأن في الحيلولة بينها وبين الزوج إزالة يد الزوج واليد مقصود كالملك، فكما لا يزال بشهادة الواحد ملك الإنسان، فكذا لا تزال يده بشهادة الواحد.
وإن قالت: شاهدي الآخر في المصر إن كان الشاهد الحاضر فاسقاً، فكذلك الجواب لا يحال بينها وبين زوجها؛ لأن شهادة الفاسق ليست بحجة أصلاً، لا في حقوق الله تعالى ولا في حقوق العباد، فصار وجودها والمعدوم بمنزلة.
فأما إذا كان عدلاً قال في «الأصل» : يؤجلها ثلاثة أيام وإن حال بينها وبين زوجها فحسن، هكذا ذكر في «الأصل» . وذكر في «الجامع» بخلافه، وسيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
أما يؤجله ثلاثة أيام؛ لأنه لا يمكن لكل مدع إحضار شهوده جمله في أول المجلس، ولا بعد يوم ولا بعد يومين ويمكنه الإحضار بعد أيام، فقدرنا بالثلاثة على ما عرف، وأما الحيلولة بطريق الاستحباب؛ لأن إيقاع الطلاق البائن يوجب تحريم الفرج وإزالة ملك الزوج، وشهادة الواحد إذا كان عدلاً حجة في حقوق الله تعالى وليست بحجة في حقوق العباد، فاعتبار حق الله تعالى يوجب الحيلولة واعتبار حق الزوج لا يوجب، فاستحب الحيلولة.j
ولم يوجب إذا كان الشاهد الآخر في المصر؛ لأنه متى كان في المصر لا تطول هذه الحيلولة، ولا يتضرر الزوج بها كثير ضرر، فأما إذا كان غائباً فمدة الحيلولة تطول ويكثر الضرر على الزوج، فاعتبر حق الزوج في هذه الحالة ولم يعتبر حق الله تعالى، وإذا كان مدة الحيلولة لا تطول راعى الجهتين بقدر الممكن، فقال: إن حال كان حسناً.
فأما إذا أقامت شاهدين على الطلاق البائن أو على الطلقات الثلاث لم يذكر هذا الفصل في «الأصل» . وذكر في «الجامع» أن القاضي يمنع الزوج عن الدخول عليها والخلوة معها ما دام مشغولاً بتزكية الشهود، وهذا استحسان والقياس أن لا يحول بينهما؛ لأنها امرأته بعد.
وجه الاستحسان: أن الشهود يحتمل أن يكونوا صدقة وعلى هذا التقدير يجب المنع، فوجب المنع احتياطاً لأمر الفرج ولا يخرجها القاضي من منزل زوجها؛ لأن تيقناً إخراجها؛ لأنها منكوحة أو معتدة، وأياً ما كانت يحرم إخراجها، ولكن يجعل القاضي معها امرأة أمينة تمنع الزوج من الدخول عليها، وإن كان الزوج عدلاً.
فرق بين هذا وبينما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ومنزله ضيق، فجعل بينهما سترة أو حائلاً يكتفى به، ولا يحتاج إلى امرأة أمينة إذا كان الزوج عدلاً، والفرق بينهما أن الزوج في مسألتنا ينكر الحرمة ويستحلها، والعدل لا يمتنع عما يستحله بدينه، أما في تلك المسألة الزوج يعتقد الحرمة فلا يخاف عليها إذا كان عدلاً ونفقة الأمينة في بيت المال؛ لأنها مشغولة بمنع الزوج عن الدخول عليها حقاً لله تعالى، فتكون نفقتها في مال الله(8/111)
تعالى؛ لأنها عاملة لله تعالى احتياطاً لأمر الله تعالى، ومال الله تعالى مال بيت المال.
قال في «الجامع» : وكذلك إذا شهد شاهد واحد عدل، فالقاضي يمنع الزوج عن الدخول عليها استحساناً، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» ، فقد ذكر في «الأصل» في هذه الصورة أن القاضي إن حال بينهما فهو حسن، ثم قال فإن زكيت الشهود فرق بينهما وإلا ردت المرأة على الزوج، فإن طالت المدة وطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة أو كان لها نفقة مفروضة لكل شهر، فالقاضي يفرض لها النفقة ويأمر الزوج بإعطاء المفروض.
ولكن إنما يفرض لها نفقة مدة العدة لا غير؛ لأنها إن كانت مطلقة فهي معتدة ولها نفقة العدة، وإن لم تكن مطلقة فهي منكوحة ممنوعة من الزوج لا لمعنى من جهة الزوج، هذا يوجب سقوط النفقة، ولكن النفقة كانت واجبة وقع الشك في سقوطها، فلا تسقط بالشك إلا أن هذا الشك في مقدار نفقة العدة، فأما الزيادة على نفقة العدة فقد تيقنا بسقوطها.
فإذا أخذت قدر (85أ4) نفقة العدة إن عدلت الشهود سلم لها ما أخذت؛ لأنه تبين أنها استوفت العدة وهي حقها، وإن ردت الشهادة وردت المرأة على زوجها رجع الزوج عليها بما أخذت؛ لأنه تبين أنها كانت منكوحة ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج تبين أنها ما كانت مستحقة للنفقة، وأن القاضي أخطأ في قضائه وأنها أخذت ما أخذت بغير حق.
قال محمد رحمه الله في عتاق «الأصل» : إذا ادعى العبد أو الأمة العتق على مولاه وليس لهما بينة حاضرة، فإنه لا يحال بينهما وبين المولى، لما ذكرنا أن في الحيلولة إزالة اليد واليد حق مقصود كالملك، فكما لا يجوز إزالة ملك الإنسان بمجرد الدعوى، فكذا لا يجوز إزالة يده بمجرد الدعوى.
وإن أقاما شاهداً واحداً، فإن قالا: الشاهد الآخر غائب عن المصر، فكذلك الجواب لما قلنا في الطلاق، وإن كان (حاضراً في المصر) ذكر أنه لا يحال بينهما أيضاً، وهذا الذي ذكره صحيح في حق العبد، أما في الأمة ينبغي أن يقال: إن حال بينهما فحسن على رواية «الأصل» ، وعلى رواية «الجامع» يحال بينهما على نحو ما ذكرنا في الطلاق، وهذا لأن عتق الأمة يتضمن حرمة الفرج كالطلاق، فكان الجواب في عتق الأمة نظير الجواب في طلاق المرأة.
وأما إذا أقاما شاهدين مستورين يحال بينهما جميعاً، إلى أن تظهر عدالة الشهود؛ لأن شهادة المستورين حجة في حق الله تعالى والعباد.
ألا ترى أن القاضي لو قضى بشهادتهما، بظاهر العدالة ينفذ قضاؤه بالإجماع، فيجوز إزالة يد المولى بشهادتهما، وهذا الجواب في الأمة يجري على إطلاقه؛ لأن في الأمة يحال بشهادة الواحد إذا لم يكن الشاهد فاسقاً، فشهادة المستورين أولى، وفي العبد محمول على ما إذا كان المولى مخوفاً عليه، يخاف منه الاستهلاك وتعيب العبد وكان(8/112)
معروفاً بذلك، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة لا يحال بينه وبين العبد، وإنما يؤخذ منه كفيل بنفسه وبنفس العبد.
ثم طريق الحيلولة في الأمة الوضع على يدي امرأة ثقة، والأمة تخالف المرأة الحرة، فإن هناك طريق الحيلولة أن يجعل معها امرأة ثقة ولا تخرجها من بيت الزوج والفرق أن وضع الحرة على يدي العدل أمر مفيد؛ لأنه لا يثبت للحر يد على الحرة إلا بالنكاح، ولا نكاح، فإذا لم يفد لم يوضع، أما هاهنا إن كانت البينة كاذبة كانت هي أمة ووضع الأمة على يد الحر مفيد لا يثبت للحر يد على الأمة بدون النكاح، فلهذا وضعنا.
ثم في فصل الأمة وفي فصل الطلاق قال بالحيلولة وإن كان الزوج والمولى عدلاً، هكذا ذكر في «الأصل» و «الجامع» . وفي «المنتقى» قال: إنما توضع الجارية على يدي العدل إذا لم يكن المدعى عليه مأموناً يخاف على الجارية أن يجامعها، فأما إذا كان مأموناً ثقة والقاضي يعرفه بذلك لا يعزلها. ثم قال: وكذلك إذا أقامت المرأة بينة على طلاقها.
فإن وضعت الجارية على يدي العدل وطلبت من القاضي النفقة، فالقاضي يأمر المولى بالإنفاق عليها؛ لأن نفقتها كانت واجبة على المولى وقع الشك في سقوطها إن كانت البينة صدقت تسقط نفقتها، وإن كانت كذبت لا تسقط نفقتها وإن صارت ممنوعة عن المولى؛ لأن نفقة المملوك لا تسقط عن المولى، وإن كانت ممنوعة عنه فلا تسقط نفقتها بالشك.
وإن أخذت نفقتها شهراً ثم لم تزك الشهود وردت الأمة على مولاها لا يرجع المولى عليها بما أنفق بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها، فإن هناك إذا لم تزك الشهود وردت المرأة على الزوج، فإنه يرجع عليها بما أنفق والفرق أن نفقة الملك إنما تجب باعتبار الملك نفسه وملك المولى باق في هذه الحالة، وأما نفقة المرأة إنما تجب إذا لم تصر ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج، وقد بين أنها صارت ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج.
وإن زكت البينة فإن أنفق المولى عليها على وجه التبرع، أو أكلت في بيت المولى فلا رجوع له عليها كما في سائر التبرعات وإن أجبر القاضي المولى على ذلك يرجع عليها بخلاف الطلاق.
والفرق أنا بنينا الاستحقاق بحكم الملك، وتبين أنه لا ملك وثمة الاستحقاق بالاحتباس حق الزوج، وتبين أنها محبوسة لحق الزوج في العدة.
وفي «المنتقى» ، يقول فيما إذا زكت البينة وأعتقهما القاضي، فإن قال المدعى عليه: قد كنت أنفق عليها كما أنفق على عبيدي فهو متطوع، وإن قال: دفعت ذلك إليهما قرضاً لهما على أنهما حران رجع عليهما بالكسوة والدراهم ولا يرجع عليهما بالطعام، لا استحسن أن يرجع بالطعام.
وإن كان الشاهدان على عتق العبد والأمة فاسقين، فلا شك أن في الأمة يحال بينها وبين المولى؛ لأن في الأمة يحال بشهادة الشاهد الواحد إذا كان عدلاً مع أنها ليست(8/113)
بحجة في حقوق العباد، فلأن يحال بشهادة الفاسقين وشهادتهما حجة في حقوق العباد، حتى لو قضى القاضي بشهادة الفاسق على تحر أنه صادق ينفذ قضاؤه أولى.
وأما في العبد ففيه اختلاف الروايات. ذكر في بعض الروايات أنه يحال؛ لأنها حجة القضاء في الجملة، فكان بمنزلة المستورين، وفي المستورين يحال في العبد إذا كان المدعى عليه ممن يخاف على العبد، وإن كان ممن لا يخاف عليه يكتفى بأخذ الكفيل على ما بينا، فكذا شهادة الفاسقين وفي رواية لا يحال؛ لأن زيادة العدد تقام مقام العدالة فيصير الفاسقان بسبب زيادة العدد كشاهد واحد عدل، وبشهادة واحد عدل لا تجب الحيلولة في العبد.
أمة في يدي رجل ادعاها رجل أنها له، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما القاضي، فالقاضي يخرجها عن يده ويضعها على يدي عدل لما مر. ولو طلب النفقة وأمر القاضي المشهود عليه بالإنفاق، ثم لم يزك الشهود وردت الجارية على المولى فالمولى لا يرجع بما أنفق على أحد، وإن زكت الشهود، وقضى القاضي بالجارية للمدعي لم يكن للمشهود عليه أن يرجع على المدعي؛ لأنه أنفق على جاريته بغير إذنه.
وهل يرجع بذلك؟ على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يرجع، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يرجع ويكون ذلك ديناً على ذمة الجارية تباع فيه الجارية إلا أن يعدلهما المقضي له؛ لأنه لما قضى بها للمدعي ظهر أن المدعى عليه كان غاصباً في حال ما أنفق عليها؛ لأنها في يد العدل ويد العدل يد المدعى عليه ولهذا لو هلكت في يد العدل ضمن المدعى عليه قيمتها، فتبين أنها استهلكت شيئاً من مال الغاصب، ومن أصل أبي حنيفة أن جناية المغصوب على مال الغاصب هدر كجناية المملوك على مالكه، وعندهما معتبرة كالجناية على الأجنبي وهي من مسائل الديات.
عبد في يدي رجل ادعاه رجل أنه عبده، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما القاضي لم يؤخذ من يد المدعى عليه؛ لأن الأخذ من يده والوضع على يدي عدل في فصل الأمة، إنما كان صيانة للفرج وإنه معدوم هاهنا، ولكن يأخذ القاضي كفيلاً من المدعى عليه بنفسه وكيلاً بنفس العبد.
أما أخذ الكفيل بنفس العبد؛ لأن المدعي استحق القضاء بالعبد عند تزكية الشهود والإشارة إلى العبد أمر لا بد منها لصحة القضاء، فلو لم يأخذ كفيلاً بالعبد ربما يغيب العبد، فيعجز القاضي عن القضاء بالعبد، وأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه كيلا يغيب، فإن القضاء لا يجوز على الغائب، ثم يأمر القاضي المدعى عليه أن يجعل الكفيل بنفسه وكيلاً بالخصومة حتى إنه إذا غاب ولم يقدر الكفيل على إحضاره فالمدعي يخاصم الكفيل ويقضي القاضي عليه ولكن إن أبى المدعى عليه أن يجعله وكيلاً فالقاضي لا يجبره بخلاف ما إذا أبى إعطاء الكفيل حيث يجبر عليه وإن لم يجد المدعى عليه كفيلاً، فالقاضي يقول للمدعي: الزم المدعى عليه والعبد.
ولو كان المدعي لا يقدر على ذلك وكان المدعى عليه مخوفاً على ما في يده(8/114)
بالإتلاف، فرأى القاضي أن يضع العبد على يدي عدل يضعه صيانة لحق المدعي، وكذلك إذا كان المدعى عليه فاسقاً معروفاً بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق الأمر بالمعروف، ولكن هذا لا يختص بالدعوى والبينة بل في كل موضع كان صاحب الغلام معروفاً بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إذا وضعه على يدي عدل أمره أن يكتسب وينفق على نفسه إذا كان قادراً على الكسب، ولم يذكر مثل هذا في الأمة؛ لأنها عاجزة عن الكسب عادة حتى لو كانت الأمة قادرة على الكسب بأن كانت غسالة معروفة بذلك، أو خبازة توصى بالكسب أيضاً، ولو كان العبد عاجزاً عن الكسب لزمنه أو صغره يؤمر المدعى (85ب4) عليه بالنفقة، فإذاً لا فرق بين الأمة وبين العبد، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي وأبي اسحق الحافظ.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ادعى جارية في يدي رجل أنها له، وأقام على دعواه بينة وزكت بينته، وقد كان القاضي وضعها في يدي عدل وهرب المدعى عليه، قال: أمر الذي بقي على يديه يعني العدل أن يؤاجرها وينفق عليها من أجرها، فإن كان لا يؤاجر مثلها آمر به أن يستدين بالنفقة عليها، فإذا حصل اليأس الناس من صاحبها أمرت ببيعها، فبدأت من الثمن بالدين فأديته ووقفت الباقي من الثمن، فإذا جاء الذي كانت في يديه قضيت عليه بقيمة الجارية لأني بعتها على الذي كانت في يده، فإن كان على المقضي عليه دين فمستحق الجارية أحق بهذا الثمن من الغرماء لأنها بمنزلة الرهين حين وضعها القاضي على يدي عدل.
دابة أو ثوب في يدي رجل ادعاها آخر، وأقام بينة وطلب المدعي من القاضي أن يضعه على يدي عدل لم يجبه القاضي إلى ذلك؛ لأن فيه قصر يد المدعى عليه من غير حجة، فلا يشتغل القاضي به إلا لضرورة، ولا ضرورة في هذه الأشياء على ما مر في العبد، ولكن القاضي يأخذ من العدل عليه كفيلاً بنفسه وبما وقع فيه الدعوى، ويجعل الكفيل بالنفس وكيلاً بالخصومة إذا طابت نفس المدعى عليه وقد مر هذا، ولا يجبر ذو اليد على نفقته عندنا بخلاف الرقيق والخلاف في موضعه قد عرف.
وإن قال المدعى عليه: لا كفيل لي قيل للمدعي: الزم المدعى عليه والمدعى به آناء الليل والنهار لتصون به حقك، فإن كان الذي في يده فاسقاً مخوفاً على ما في يده وأبى أن يعطيه كفيلاً وكان المدعي لا يطيقه في الملازمة، فالقاضي يقول للمدعي: أنا لا أجبر المدعى عليه على أن ينفقه لكن إن شئت أن أضعه على يدي عدل فأنفق عليه، وإلا لا أضعه، لأن المقصود من الوضع على يد العدل صيانة لحق المدعي وهو القضاء له بالعبد متى زكت شهوده، وهذا المقصود يفوت متى أبى المدعي الإنفاق؛ لأن المدعى عليه لا يجبر على إنفاقه، وإن كان هو المالك في الظاهر فلو لم ينفق المدعي على الدابة تتلف الدابة فلا يحصل مقصود المدعي من الوضع على يدي العدل.(8/115)
وفي «المنتقى» : رجل ادعى لؤلؤة في يدي رجل وأقام شاهدين وسأل وضع اللؤلؤة على يدي العدل، فإن لم يعدل شاهديه، أقام شاهدين آخرين؛ لأنه كان يتخوف أن يعينها ولا يشهد شهوده إلا بالمعاينة، فإني أستحسن أن أضعها على يدي عدل، وكذلك كل شيء يحول من مكانه والخوف عليه أن يعينه، فإن كانت جارية أو دابة فنفقتها عليه، وإن كان مثلها تؤاجر أجرتها، أو أمرت العدل أن يؤاجرها.
قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل في يده رطب أو سمك طري أو ما أشبه ذلك، فادعاه إنسان أنه له وقدمه إلى القاضي، وهو مما يفسد إن تركه، وقال المدعي بينتي في المصر أحضرهم، قال: لا أقف إلى ذلك ولكن أقول له يعني للمدعي: إن شئت أحلفه على دعواك، فإن حلف لم تكن لك، وإن قال: أنا أحضر البينة يعني اليوم، فإني أؤجل إلى قيام القاضي، وأقول للمدعى عليه لا تبرح إلى قيامه فإن فسد الشيء في ذلك الوقت لا يضمنه المدعي لحبسه عليه.
عمرو بن أبي عمرو، عن محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر سمكاً أو لحماً طرياً أو فاكهة ونحو ما يتسارع إليه الفساد ثم جحده أحدهما وادعاه الآخر وأقام على ذلك بينة واحتاج القاضي إلى أن يسأل عن الشهود فقال الجاحد: هذا يفسد إن ترك حتى يسأل عن الشهود، قال: إن كان شهد للمدعي شاهد واحد، وقال: الشاهد الآخر (حاضر) ، أجّل في شهادة الآخر، ما لم يخف الفساد فإن أحضر شاهده الآخر وإلا خلي بينة وبين البائع، ونهى المشتري أن يتعرض له.
ولو كان أقام شاهدين أمر البائع بدفعه إلى المشتري إذا خيف عليه الفساد، فإذا قبضه المشتري أخذه القاضي وأمر أميناً ببيعه وقبض ثمنه ووضع الثمن على يدي عدل، فإن زكت البينة قضى للمشتري بالثمن وأمر العدل بدفع الثمن إلى الذي شهدت له الشهود، وإن لم تزك البينة سلم القاضي ذلك الثمن الذي على يدي العدل إلى البائع.
ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده إذا كان المدعى به منقولاً، وطلب المدعي من القاضى أن يضعه على يدي عدل ولم يكتف بإعطاء المدعى عليه كفيلاً بنفسه وبنفس المدعى به، فإن كان عدلاً، فالقاضي لا يجيبه وإن كان فاسقاً أجابه، وفي العقار لا يجيبه إلا في الشجر الذي عليه ثمر؛ لأنه تفلي.
وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب ما لا يضعه القاضي على يدي عدل إذا قالت المرأة للقاضي: لست آمن على نفسي من زوجي أن يقربني في حالة الحيض، فضعني على يدي عدل، فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك، وإذا ادعى على امرأة كبيرة نكاحاً وهي تجحد فأقام بينة عليها وسأل من القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى يسأل عن شهوده، فالقاضي لا يفعل ذلك في هذا الباب أيضاً، وكذا الجارية البكر إذا كانت في منزل أبيها جاء رجل وادعى نكاحها، فالقاضي لا يضعها على يدي (عدل) لأنه لا تهمة هنا في هذا الباب أيضاً.
وفي باب المهاياة في كتاب الصلح: أمة بين رجلين خاف كل واحد منهما صاحبه(8/116)
عليها، وقال أحدهما: تكون عندك يوماً وعندي يوماً، وقال الآخر: لا بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل واحد منهما يوماً ولا أضعها على يد عدل، قال مشايخنا: ويحتاط في باب الفروج في جميع المواضع نحو العتق في الجواري، والطلاق في النساء في الشهادة وغير ذلك إلا في هذا الموضع، فإنه لا يحتاط لحشمة ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي أن فلاناً يأتي جواريه في غير المأتى، ويستعملن في البغاء ويطأ زوجته حالة الحيض وأمته من غير استبراء لا يكون للقاضي عليه سبيل لحشمة ملكه ها هنا.
الفصل الثالث والعشرون: في الرجلين يحكمان بينهما حكما
يجب أن يعلم بأن التحكيم جائز ثبت جوازه بقوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} (النساء: 35) ، وبما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه أنزل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ» وبأثر عمر وعلي رضى الله عنهما؛ وشرط جوازه أن يكون الحكم من أهل الشهادة، لأن الحكم فيما بين المحكمين بمنزلة القاضي المولى في حق الكل، وإنما يصح تقليد القضاء لمن صلح شاهداً، فكذا هاهنا ويشترط أن يكون أهلاً للشهادة وقت التحكيم، ووقت الحكم جميعاً حتى أنه إذا لم يكن أهلاً للشهادة وقت التحكيم فصار أهلاً للشهادة وقت الحكم، بأن كان الحكم عبداً فأعتق وحكم لا ينفذ حكمه، هكذا ذكر صاحب الأقضية في الأقضية، والشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح.
وهذا لما ذكرنا أن الحكم فيما بين المحكمين بمنزلة القاضي الموَلَّى في حق الكل، ثم أهلية الشهادة وقت التقليد فكذا هاهنا، وقد ذكرنا مسألة العبد في فصل التقليد والعزل بخلاف هذا وشرط آخر، أن يكون التحكيم فيما يملك المحكم إقامته بنفسه؛ لأن ولاية الحكم بحكم التحكيم فيقتصر على ما يملك الحكم فيه إقامته بنفسه، وحكم هذا الحكم يفارق حكم القاضي المولَّى من حيث إن حكم هذا الحكم إنما ينفذ في حق الخصمين، ومن رضي بحكمه ولا يتعدى إلى من لم يحكم، وجعل في حق من لم يرض بحكمه كأنه حكم واحد من الرعايا بخلاف القاضي المولى.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في رجلين حكّما بينهما حكماً في خصومة، قال: لا يجوز حكم من لا تجوز شهادته له لا عبد ولا صبي ولا محدود في قذف ولا ذمي، فقد ذكرنا أن من شرط جواز التحكيم أن يكون الحكم من أهل الشهادة، وهؤلاء لا يصلحون شهوداً، فلا يصلحون حكماً وكما لا يصح التحكيم للحال لا يصح(8/117)
مضافاً أيضاً حتى لو عتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الذمي، وحكم لا ينفذ حكمه.
فرق بين هذا وبينما إذا وكل العبدَ رجل بالشراء حيث تصح الوكالة مضافاً إلى ما بعد العتق، وإن كان لا يصح للحال، والفرق أما عند أبي يوسف رحمه الله فلأن عنده إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل لا يصح فلا يمكن تصحيحها مضافاً عند تعذر تصحيحها للحال، وأما على قول محمد رحمه الله فلأن عنده إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل وإن كانت صحيحة إلا أن التحكيم هاهنا حصل مرسلاً، والمرسل لا يصير مضافاً أصلاً.
ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق ونوى الإضافة إلى العبد لا يصح، ولا يقول إن الوكالة تصح باعتبار الإضافة بل تصح باعتبار الحال؛ لأن العبد من أهل الشراء ولهذا لو اشترى يجوز شراؤه إلا أن الشراء يتوقف على إجازة المولى والمأمور من أهل الشراء أيضاً فصح الأمر من العبد بالشراء للحال، إلا أنه توقف نفاذه إلى ما بعد العتق لمانع، وهو أن العبد ليس من أهل أن يلزمه حكم الشراء، فأما تحكيم العبد في الحال لم يصح؛ لأن العبد ليس من أهل الحكم.
فرق في العبد (86أ4) بين هذه الصورة وبينما إذا تحمل الشهادة وهو عبد ثم عتق يجوز له أن يشهد، وإن حصل التحمل حال عدم الأهلية، والفرق أن التحمل لحصول العلم، والعبد في حق حصول العلم له بالسماع أو بالمعاينة والحر سواء فصح التحمل وإذا صح التحمل أمكنه الأداء عند صيرورته أهلاً للأداء بالحرية، فأما التحكيم أمر بالقضاء والأمر لطلب المأمور به، وإنما يصح طلب الشيء ممن يتصور منه ذلك الشيء للحال والقضاء من العبد لا يتصور له في الحال؛ لأنه ليس من أهل القضاء للحال، وإذا لم يصح الأمر صار وجوده والعدم بمنزلة.
قياس مسألة التحميل من مسألتنا: أن لو وقع الخلل في التحمل حتى لم يقع للعبد العلم بسبب التحمل وهناك لو أراد أداء الشهادة بذلك التحمل بعد العتق لم يقدر عليه.
ولو حكما أعمى أو فاسقاً. ذكر في الأقضية أنه لا يجوز، وهذا الجواب في حق الفاسق مستقيم على الرواية التي قال: إن الفاسق لا يصلح قاضياً، أما على الرواية التي قال يصلح قاضياً لكن غيره أولى يصلح حكماً من الطريق الأولى.
قال في الأقضية: ويجوز أن يجعلا بينهما امرأة يعني يجوز إذا حكما بينهما امرأة وأراد به فيما سوى الحدود والقصاص، لما ذكرنا أن التحكيم ينبني على الشهادة والمرأة تصلح شاهدة فيما سوى الحدود والقصاص فتصلح حكماً. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز التحكيم معلقاً بالأخطار ولا مضافاً إلى وقت في المستقبل.
وقال محمد رحمه الله: يصح صورة التعليق إذا قالا لعبد: إذا أعتقت فاحكم بيننا أو قالا لرجل: إذا أهل الهلال فاحكم بيننا، صورة الإضافة إذا قال الرجل: جعلناك حكماً غداً، أو قالا: رأس الشهر فوجه قول محمد رحمه الله أن التحكيم تولية وتفويض؛ لأن كل واحد من الخصمين بالتحكيم مُعرض إلى الحكم ما كان يملك فعل ذلك بنفسه،(8/118)
فأشبه القضاء وتقليد القضاء يجوز مضافاً ومعلقاً، فكذا الخصومة.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن التحكيم صح معنى؛ لأنه لا يثبت إلا بتراضي الخصمين والمقصود منه قطع منازعة تحققت بينهما هاهنا، وهذا هو معنى الصلح فلا يصح معلقاً ومضافاً قياساً على سائر المصالحات بخلاف القضاء والإمارة؛ لأنه تفويض وتزكية حقيقة ومعنى ليس فيهما معنى الصلح؛ لأن الصلح لا يثبت إلا بالتراضي، ولا يصلح إليه إلا بقطع منازعة تحققت وهذا الحد لا يوجد في القضاء والإمارة، فأما التحكيم إن كان تفويضاً من الوجه الذي قلتم، ففيه معنى الصلح من الوجه الذي قلنا، فلئن كان يصح تعليقه وإضافته من الوجه الذي قلتم لا يصح من الوجه الذي قلنا فلا يصح بالشك.
وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما على أن يسأل فلاناً الفقيه ثم يحكم بينهما بقوله جاز. وكذلك إذا اصطلحا على حكم بينهما على أن يسأل الفقهاء ثم يحكم بينهما بما أحصوا عليه جاز، لما ذكرنا أن الحاكم المحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولَّى، ولو شرط هذا الشرط في تقليد القضاء يجوز، فكذا إذا شرط في التحكيم، فإن سأل ذلك الفقيه في الفصل الأول وحكم بينهما بقوله جاز وهذا ظاهر، وإذا سأل فقيهاً واحداً في الفصل الثاني وحكم بقوله جاز أيضاً، لأن اللام إذا لم تكن لتعريف المعهود تكون لاستغراق الجنس والحكم المعلق في الجنس يتعلق بأدنى ما يطلق عليه اسم الجنس، عرف ذلك في موضعه.
وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما في يومه هذا أو في مجلسه هذا فهو جائز. ألا ترى أنه جاز تقليد القضاء مؤقتاً فكذا التحكيم، فإن مضى ذلك اليوم أو قام عن مجلس ذلك، لا يبقى حكماً.
فرق بين المحكوم وبين الوكالة على إحدى الروايتين، فإن الوكالة لا تتوقت على إحدى الروايتين، حتى إن من قال لغيره بع عبدي اليوم، فباعه غداً جاز استحساناً على إحدى الروايتين، والفرق أن اليوم في الوكالة تذكر للتعجيل عرفاً وعادة، فكأنه قال للوكيل: بع عبدي هذا ولو قال هكذا ولم يعجل لا يبقى وكيلاً كذا هنا.
أما ذكر اليوم في باب الحكومة إن كان يراد به التعجيل في جانب من يتوجه الحكم له لا يراد به التعجيل في جانب من يتوجه عليه الحكم؛ لأنه لا يريد التعجيل إنما يريد التأقيت، فبعد مضي الوقت إن كان بقي حكماً في حق من يتوجه له القضاء لا يبقى حكماً في حق من يتوجه عليه القضاء، فلا يبقى حكماً بالشك وإذا رفع حكم الحاكم إلى القاضي المولى، فالقاضي المولى ينظر في حكمه، فإن كان موافقاً لرأيه نفذه، وإن كان مخالفاً لرأيه أبطله وإن كانت مما يختلف فيه الفقهاء.
فرق بين هذا وبين القاضي المولى إذا قضى في حادثة اختلف فيه الفقهاء ورفع ذلك إلى قاض آخر، يرى خلافه ليس له أن يبطله.(8/119)
والفرق أن كون الأول قاضياً ظهر في حق الناس كافة لما أن الأول استفاد الولاية ممن له ولاية على الناس كافة، فكما ينفذ قضاء الأول في حق المخاصمين نفذ في حق سائر المسلمين وقضائهم، فلو جاز لقاض آخر نقضه إذا كان مخالفاً لرأيه أدى إلى نقض ما أدي بالاجتهاد، باجتهاد مثله وإنه لا يجوز أما كون الحكم حكماً لم يظهر في حق غير المتخاصمين؛ لأنه استفاد الولاية من جهة المتخاصمين، وولاؤهما مقصورة عليهما، وقد كان للقاضي المولى قبل هذا الحكم رأياً في هذه الحادثة كان يحكم به فلو لم يجز نقض هذا الحكم، إذا كان مخالفاً لرأيه لظهر نفاذ حكم الحاكم في حقه وأظهر كونه حكماً في حقه، وإنه لا يجوز.
وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم بينهما ولم يعلماه ولكنهما قد اختصما إليه وحكم بينهما جاز؛ لأنهما لما توجها إليه للخصومة فقد أعلماه فصار حكماً بينهما فيجوز الصلح. وإذا اصطلحا على غائب يحكم بينهما فقدم وحكم بينهما جاز وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما فلان أو فلان فأيهما حكم بينهما جاز، لأن التحكيم صلح أو تفويض وأياً ما كان يجوز مع هذا النوع من الجهالة، أما الصلح فلأنه لو صالح على عبدين على أن المدعي بالخيار يأخذ أيهما شاء ويترك الآخر جاز.
وأما الوكالة فإنه لو قال رجل: وكلت هذا أو هذا ببيع عبدي هذا يجوز، وإذا تقدما إلى أحدهما عيناه للخصومة، فلا يبقى الآخر حكماً كما في مسألة الوكالة. إذا باع أحدهما العبد الذي وكل ببيعه، فإنه يخرج الآخر عن الوكالة، وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما أول من يدخل المسجد فذلك باطل؛ لأن الجهالة هاهنا أبين وأظهر.
ألا ترى أنه لو قال أول من يدخل المسجد هذا فقد وكلته ببيع هذا العبد لا يجوز، وهو نظير ما لو قال إذا جاءت بضاعتي فقد وكلت رجلاً من عرض الناس ببيعها، وذلك لا يجوز كذا هاهنا.
ولو سافر الحكم أو مرض فأعمي ثم قدم من سفره أو برئ ثم حكم جاز، والأصل في هذا أن الحكومة متى صحت لا يخرج الحكم عن الحكومة إلا بانتهاء الحكومة بأن كانت مؤقتة أو تفصل الخصومة أو يخرج الحكم من أن يكون أهلاً للحكومة باعتراض الردة أو ما أشبه ذلك أو بالعزل؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى لا يخرج عن القضاء إلا بأحد ما ذكرنا من الأسباب كذا هاهنا إذا ثبت هذا فنقول بالسفر والمرض لا يخرج من أن يكون أهلاً للحكومة، فبقي على حكومته.
ولو عمي الحكم ثم ذهب العمى وحكم لم يجز؛ لأن بالعمى خرج من أن يكون أهلاً للحكومة. ألا ترى أن القاضي المولى يخرج عن القضاء بالعمى فكذا الحكم.
ثم فرق بين الحكم والقاضي وبين الشاهد إذا عمي بعد تحمل الشهادة، ثم زال العمى وشهد جاز، والفرق أن كونه غير شاهد لا يمنع ابتداء التحمل، ألا ترى أنه لو تحمل وهو صبي أو عبد ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد وأدّى جاز فلأن لا يمنع بقاء التحمل أولى، أما كونه غير شاهد يمنع ابتداء القضاء والتحكيم فيمنع البقاء، لأن ما ليس(8/120)
بلازم فلبقائه حكم الإنشاء، ولو ارتد عن الإسلام ثم أسلم وحكم لا يجوز حكمه؛ لأن بالارتداء يخرج من أن يكون أهلاً للقضاء بالارتداد، فكذا الحكم وقد ذكرنا فصل العمى والارتداد في فصل التقليد والعزل بخلاف ما ذكر هاهنا.
ولو وجه الحكم الفصل على أحدهما يريد به أن الحكم قال لأحد الخصمين: قامت عندي الحجة بما ادعي عليك من الحق، ثم إن الذي توجه عليه الحكم عزله ثم حكم بعد ذلك عليه لم ينفذ حكمه عليه، فقد صحح العزل من أحدهما وإنه مشكل؛ لأنه صارحكماً بإتفاقهما، فينبغي أن لا يخرج من الحكومة إلا باتفاقهما، والوجه في ذلك اتفاقهما إنما شرط لصيرورته حكماً، لأن في التحكيم إثبات الولاية عليهما فلا بد من اتفاقهما إذ ليس (86ب4) لأحدهما ولاية على صاحبه، أما ليس في العزل إثبات الولاية على الغير بل فيه إبطال ما ثبت للحكم عليه من الولاية بتحكيمه، وإبطال ما ثبت له من الولاية بتحكيمه قبل تنفيذ القضاء جائز، وكان بمنزلة الشركات لا تثبت إلا بتراضيهما لما فيه من إثبات الولاية على الغير، ثم ينتقض بنقض أحدهما إذ ليس في النقض إثبات الولاية على الغير كذا هنا.
وإذا وكل أحد الخصمين الحكم بالخصومة وقبل الحكم الوكالة خرج عن الحكومة، لأنه بقبول الوكالة خرج من أن يكون شاهداً لصيرورته خصماً، والخصم لا يصلح شاهداً، فيخرج من أن يكون حكماً أيضاً، هكذا ذكر في الأقضية.
بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن على قوله الوكيل بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً، حتى لو عزل قبل الخصومة، فشهد لموكله لا تقبل الشهادة.
أما لا يستقيم على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن على قولهما الوكيل بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً حتى لو عزل قبل الخصومة، ثم شهد لموكله قبلت شهادته وإذا لم يصر خصماً بمجرد قبول الوكالة لا يخرج من الحكومة بمجرد قبول الوكالة له، حتى لو عزل في الحال وحكم ينفذ حكمه.
ومنهم من قال لا بل ما ذكر هاهنا قول الكل، وجه ذلك أن التوكيل بالخصومة توكيل بالخصومة في مجلس القاضي؛ لأن مجلس الخصومة مجلس القاضي، فيصير وكيلاً بالخصومة، إذا حضر مجلس القاضي للخصومة، فصار التوكيل كالمضاف إلى حضوره، فإذا عزل قبل حضوره مجلس القاضي، فقد عزل قبل صيرورته وكيلاً وقبل صيرورته خصماً، فأما الحاكم المحكم يصير خصماً بمجرد قبول الوكالة؛ لأنه فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى، فمجلسه كمجلس القاضي، وإنه لا يكون غائباً عن مجلسه فكما قبل الوكالة يصير خصماً، فيخرج عن الحكومة.
وإذا اشترى الحكم العبد الذي اختصما إليه فيه أو اشتراه ابنه أو أحد ممن لا تجوز شهادته له فقد خرج من الحكومة، أما إذا اشترى العبد هو، فلأنه صار خصماً عن أحد الخصمين، فإن بعد ما اشتراه الحكم يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه ليمكنه الإثبات لنفسه(8/121)
بالتلقي منه، وأما إذا اشتراه أحد ممن لا تجوز شهادته له، فلأنه يصير حاكماً له، وهو لا يصلح حاكماً؛ لأنه لا يصلح شاهداً له.
وإذا قال الحكم: قامت لفلان بينه عندي على فلان بكذا وكذا قضيت له به على فلان، فأنكر فلان البينة والقضاء، فإن قضاءه ماض عليه. وكذلك إذا قال الحكم: أقر فلان عندي لفلان بكذا وقضيت بها عليه، فإن قضاءه ماض عليه لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، لو قال على نحو ما قاله الحكم، كان قوله حجة فكذا قول الحكم.
فإن قيل: أليس أن الحكم قد خرج عن الحكومة بالحكم فحين أخبر أنه قضى عليه بإقراره من ليس يحكم، فينبغي أن لا يصدق في ذلك كالقاضي بعد العزل، إذا قال قضيت لهذا على هذا بكذا، قلنا: الحكم إنما يخرج عن الحكومة إذا حكم فيما بين المتخاصمين، وفي زعم المدعى عليه أنه لم يقض بعد لأنه أنكر القضاء، وإنه على حكومته ففي زعم المدعى عليه أنه يجبر على الحكم وهو حكم فيعامل معه بزعمه، وصار كالوكيل بالبيع إذا قال كنت بعت أمس فكذبه الموكل، فإنه يصدق الوكيل وإن كانت الوكالة تنتهي بالبيع؛ لأن في زعم الموكل أنه لم يبع وأن وكالته لم تنته، فإنه خبر عن البيع حال قيام الوكالة، فعومل معه بزعمه كذا ها هنا،
وإذا شهد شاهدان أن هذا الحكم قضى ليلاً على هذا بألف درهم وشهد آخران أن هذا الحكم أبرأ هذا عن الألف التي ادعاها هذا والحاكم ميت أو غائب أو حاضر، إلا أنه يجحد البعض ويقر بالبعض فإني أقضي بالبراءة؛ لأن المدعى عليه لما ادعى البراءة فقد أقر بالدين فوقع الاستغناء عن قبول بينة الطالب لإقرار المدعى عليه، والمدعى عليه بعد ذلك أثبت البراءة بالبينة من غير معارضة فتقبل بينته، ألا ترى أنه لو كان الحكم قاض مولى كان الحكم ما ذكرنا للمعنى الذي أشرنا إليه كذا هنا.
ولو كانت الخصومة في دار وشهد شاهدان آخران للخصم الآخر أن الحكم قضى بها لهذا تهاترت البينتان وتترك الدار في يد من كانت قبل هذا قضاء ترك؛ لأنه تعذر العمل بالبينتين؛ لأن إحداهما كاذبة بيقين وتعذر العمل بإحداهما إذ ليست إحداهما للعمل بها أولى من الأخرى.
ولو كانت الخصومة بينهما في ألف درهم وأقام المدعي بينة أن الحكم قضى له على المدعى عليه بالألف التي ادعاها يوم السبت، وأقام المدعى عليه بينة أن المدعى عليه أخرجه عن الحكومة قبل ذلك فحكمه باطل؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً ولو عاينا أن المدعى عليه أخرج الحكم عن الحكومة قبل يوم السبت، ثم إن الحكم حكم عليه بعد ذلك يوم السبت كان حكمه باطلاً كذا هنا.
قال: ولو كان المدعي أقام البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم الجمعة، وأقام المدع (عليه) البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم السبت، فإن القضاء الأول نافذ والقضاء الثاني باطل وهذا لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً ولو عاينا القضاءين على الترتيب(8/122)
الذي ادعيا كان الأول نافذاً والثاني باطلاً، لأن الحكومة قد انتهت بالقضاء الأول بحصول المقصود وهو فعل الخصومة، والحكم الثاني يكون بعد خروجه عن الحكومة فيقع باطلاً.
وحكم الحكم بالطلاق والنكاح والعتاق والكتابة والكفالة بالنفس والكفالة بالمال والشفعة والنفقة والديون والقروض والتبرع والقصاص وأرش الجراحات وقطع يد عمد وسائر حقوق العباد بينهم، فهو جائز إذا وافق رأي القاضي، أما الطلاق والعتاق وسائر الحقوق المالية فلا شك في جواز التحكيم فيها؛ لأن حكم الحكم صلح من وجه وتفويض من وجه، وأياً ما كان فهو جائز. وأما القصاص فقد نص على جواز التحكيم فيها هاهنا وفي صلح «الأصل» : وعن أبي حنيفة رحمه الله، أنه لا يجوز، وهكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، ووجه ذلك: أنه صلح من وجه ولا يجوز استيفاء القصاص بالصلح؛ ولأنه ليس بحجة في حق غير الحكمين فكان فيه شبهة، والقصاص لا يستوفى مع الشبهات.
وجه ما ذكر هنا: وفي «الأصل» أن القصاص من حقوق العباد وهما يملكان الاستيفاء بأنفسهما، فيملكان التفويض إلى غيرهما قياساً على سائر حقوق العباد. وأما أروش الجراحات، فإن كانت بحيث لا يتحملهما العاقلة وتجب في مال الجاني بأن كانت دون أرش الموضحة وهو خمسمائة درهم أو ثبت ذلك بالإقرار أو النكول أو كان عبداً وقضى على الجاني جاز؛ لأنه لا يخالف حكم الشرع وقد رضي الجاني بحكمه عليه فيجوز، وإن كانت بحيث يتحملها العاقلة بأن كان خمسمائة فصاعداً، وقد ثبت بالبينة وكان خطأ لا يجوز قضاؤه أصلاً؛ لأنه إن قضى بها على الجاني فقد قضى بخلاف حكم الشرع، وإن قضى بها على العاقلة فالعاقلة ما رضوا به.
وفي «أدب القاضي» للحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الحكم في قتل الخطأ، إن قضى بالدية على العاقلة لم يجز، وإن قضى بها على القاتل جاز وأما قطع اليد عبداً إن قطع يد الحر فحكمه وجوب القصاص، وقد بينا الكلام في جواز التحكيم، وإن قطع يد عبد فحكمه وجوب نصف القيمة في مال القاطع فجاز قضاؤه عليه بالمال؛ لأنه رضي بحكومته وحكم الحاكم جائز في الأموال باتفاق الروايات.
وقوله في «الكتاب» فهو جائز، إذا وافق رأي القاضي، معناه: أن للقاضي المولى أن يبطل حكم الحاكم إذا خالف رأيه.
قال: ولا يجوز التحكيم في شيء من الحدود لا زنا ولا شرب خمر ولا سرقة ولا لعان ولا قذف، وإن فعل ذلك فهو باطل؛ لأنهما لا يملكان إقامة ذلك بأنفسهما، فلا يملكان التفويض إلى الغير ويجوز التحكيم في تضمين السرقة؛ لأنه خالص حق المسروق منه، وله ولاية الاستيفاء ويجوز تحكيم المكاتب والعبد المأذون صحيح وإن اعتبرناه بالتفويض فهما في تفويض ما يملكان بأنفسهما إلى غيرهما بمنزلة الحر.
ولا يجوز كتاب الحكم بحكم إلى القاضي؛ لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا(8/123)
والقاضي لا يقضي بكتاب واحد من الرعايا وكذلك لا يجوز كتاب القاضي إلى حكم حكمه رجلان بشهادة شهود شهدوا عنده؛ لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا، وكذلك لا ينبغي للحكم أن يقضي بكتاب كتبه قاض إلى قاض آخر.
وإذا حكما رجلاً فجعل الحكم الحكم إلى غيره لم يجز إلا برضا الخصمين؛ لأنهما إنما رضيا بحكمه، أمّا ما رضيا بحكم غيره، فلو أن الثاني حكم بينهما بغير رضاهما وأجاز الأول حكمه ذكر في «الكتاب» أنه باطل.
بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب لا يكاد يصح على قول علمائنا؛ لأن الحكم إما أن يعتبر بالوكيل الذي لم يؤذن له بالتوكيل، أو بالقاضي الذي لم يؤذن له بالاستخلاف وأي الأمرين اعتبرنا يجب أن يكون إجازة الأول حكم الثاني صحيح، فإن القاضي الذي لم يؤذن بالاستخلاف إذا أجاز حكم خليفته جاز، والوكيل الذي لم يؤذن له في التوكيل، إذا أجاز تصرف وكيله يجوز.
والذي يؤيد هذا القول مسألة ذكرها محمد رحمه الله (87أ4) في «السير الكبير» وصورتها: إذا نزل قوم من أهل الحرب على حكم رجل من المسلمين، فحكم فيهم غيره بغير رضاهم لا يجوز، وإن أجاز ذلك الحكم يجوز. ومنهم من قال: هذا الجواب صحيح على قياس ما ذكر في بعض روايات كتاب الوكالة، أن الوكيل الذي لم يؤذن له في التوكيل إذا أجاز تصرف وكيله لا يجوز، وعلى قياس هذه الرواية لو أجاز القاضي الذي لم يؤذن له في الاستخلاف حكم خليفته لا يجوز أيضاً، وعلى قياس الرواية الأخرى، أن الوكيل لو أجاز تصرف وكيله يجوز لو أجاز القاضي حكم خليفته أو أجاز الحكم حكم حاكمه يجوز أيضاً، فإذاً في الحاصل في المسائل كلها روايتان، وسيأتي وجه الروايتين في وكالة «الأصل» ، فإن الوكيل بالخصومة لا يملك التحكيم لأن التحكيم صلح معنى والوكيل بالخصومة لا يملك الصلح، وإن وكله بالخصومة والصلح جميعاً أو وكله بالخصومة وأجاز منعه جاز التحكيم وهذا ظاهر.
ولو حكم رجلان رجلاً بينهما وحكم لأحدهما ثم اصطلحا على حَكَم آخر، فالثاني ينظر في حكم الأول إن كان عدلاً أمضاه وإن كان جوراً أبطله؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا قضى بين اثنين ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر نظر القاضي الثاني في قضائه على نحو ما بينا، وإذا رد شهادة شهود شهدوا عنده بتهمة ثم شهد أولئك الشهود عند قاض آخر، أو عند حاكم آخر، فإنه يسأل عنهم فإن عدلوا أجازهم، وإن جرحوا ردهم؛ لأن الحكم في حق غير المتخاصمين بمنزلة واحد من الرعايا فلا يعمل رده في حق القاضي، ولا في حق حاكم آخر بخلاف ما إذا رد القاضي المولى شهادتهم؛ لأن رده يظهر في حق الناس كافة فلا يكون لأحد أن يعمل بتلك الشهادة بعد ذلك.
وإذا أبى الخصمان حكم الحكم، وقالا: لم يحكم بيننا وقال الحاكم: لا، بل قد حكمت بينهما، فإنه يصدق الحكم ما دام في مجلس الحكومة، وبعدما قام عن مجلس الحكومة لا يصدق؛ لأنه حكى ما لم يملك استئنافه.(8/124)
وإذا اصطلحا على حكم حكم بينهما وأجاز القاضي حكومته قبل أن يحكم بينهما، فهذه الإجازة من القاضي لغو، حتى لو حكم الحاكم بخلاف رأي القاضي فللقاضي أن يبطله؛ لأن هذه الإجازة لو اعتبرت إما أن يعتبر إنفاذ التحكيم ولا وجه إليه؛ لأن التحكيم نفذ بين الخصمين لا يوقف فيها، فلا تعمل الإجازة فيها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في الموقوف لا في غير الموقوف، وإما أن يعتبر إنقاذ الحكم ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن الحكم لم يوجد وإجازه الشيء قبل وجوده باطلة، فصار وجود هذه الإجازة والعدم بمنزلة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف، فأما إذا كان مأذوناً في الاستخلاف يجب أن تجوز إجازته، ويجعل إجازة القاضي بمنزلة استخلافه إياه في الحكم بينهما فلا يكون له أن يبطل حكمه بعد ذلك.
وإذا حكم رجل بين رجلين ولم يكونا حكماه، فقالا بعد حكمه: رضينا بحكمه وأجزنا عليه، فهو جائز؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذنا له بالحكم بينهما في الابتداء جاز، فكذا إذا أجازا حكمه في الانتهاء.
وإذا اصطلح رجلان على أن يبعث كل واحد منهما حكماً من أهله فهو جائز، وإذا قضى أحدهما على أحد الخصمين وقضى الآخر على الخصم الآخر لا يجوز، لما ذكرنا أن الحكم في حق المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا كان اثنين لا ينفرد أحدهما بالقضاء؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى الرأي والخليفة رضي برأي المثنى لا برأي الواحد كذا هاهنا الخصمان رضيا برأي المثنى، فلا ينفرد أحدهما بالحكم.
وعن هذا قلنا إذا اصطلح مسلم وذمي على مسلم وذمي يحكمان بينهما وحكما جميعاً للمسلم على الذمي جاز؛ لأنهما يصلحان حكماً على الذمي، فيصلحا شاهداً عليه، ولو حكما للذمي على المسلم لا يجوز؛ لأن الذمي لا يصلح حكماً على المسلم فخرج من البين وتعذر تنفيذ حكم المسلم أيضاً، وإن صلح حكماً عليه؛ لأنه ما رضى برأيه وحده.
وعلى هذا المسلمان إذا حكما حراً وعبداً بينهما فحكم الحر بينهما لم يجز؛ لأن العبد لا يصلح حكماً، فخرج هو من البين بقي الحر منفرداً وهما ما رضيا برأي المنفرد، وإذا حكم الذميان ذمياً يحكم بينهما، ثم أسلم أحد الخصمين فقد خرج الحكم من الحكومة، هكذا ذكر في «الكتاب» ، وأراد بقوله خرج من الحكومة يعني خرج عن الحكومة في حق الحكم على المسلم، أما في حق الحكم على الذمي يبقى حكماً، وهذا لما عرف أن البقاء معتبر بالابتداء، والذمي يصلح لابتداء التحكيم على الذمي فيصلح لبقائه حكماً عليه، ولا يصلح لابتداء التحكيم على المسلم فلا يصلح لبقائه حكماً، ويجوز حكم الحاكم المحكم في الطلاق المضاف إليه أشار في صلح «الأصل» وفي «أدب القاضي» للخصاف، فإنه استثنى من حكمه في صلح «الأصل» الحدود. وفي «أدب القاضي» استثنى الحدود والقصاص، فهذا إشارة إلى أن ما عدا ذلك داخل في حكمه،(8/125)
وهو الصحيح من المذهب، لكن كثير من مشايخنا امتنعوا عن الفتوى في الطلاق المضاف وأمثاله كيلا يتجاسر العوام، فيؤدي إلى التهاون بأحكام الشرع.
وإذا حلف الحكم أحد الخصمين ونكل عن اليمين وقضى عليه، فقال المقضي عليه: لا أجيز حكمه علي وحلفه، فحكمه عليه ماض، ألا ترى أن المقضي عليه بالنكول من جهة القاضي لو أراد أن يرد قضاءه عليه، ليس له ذلك كذا هاهنا لما مر أن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، ولو كان المدعي من الابتداء أقام البينة على دعواه وعدلوا وحكم الحاكم بها على المدعى عليه جاز كما يجوز من القاضي المولى، فإن أنكر المقضي عليه الحكم أو أنكر التحكيم وادعى المدعي ذلك كان للمدعي أن يحلفه؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف عليه كما في سائر الدعاوي، فإن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن كان المدعي أقام بينة على ما ادعى من التحكيم والحكم ينظر إن كان الشهود الذين شهدوا على التحكيم والحكم (غير) الذين يجري الحكم بشهادتهم، لا تقبل شهادتهم لتمكن التهمة في الفصل الثاني؛ لأنهم يريدون تصحيح شهادتهم الأولى وإلزام حكمهما بواسطة ما قالا، ومثل هذه التهمة منتفية عن شهادتهم في الفصل الأول.
وفي «الزيادات» : إذا رفع حكم الحاكم في المجتهدات إلى قاض يرى خلاف ما حكم فنفذه مع ذلك، ثم رفع إلى قاض آخر يرى رد حكم الحكم أيضاً فالقاضي الثاني لا يرده؛ لأن إجازة القاضي حكم الحكم بمنزلة إنشاء القضاء منه، والقاضي إذا قضى في المجتهدات بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه، وقد ذكرنا هذا الفصل مع ما فيه من الخلاف فيما تقدم، وإذا لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف فأمر رجلاً حتى حكم بين اثنين، وأجاز القاضي حكم ذلك الحكم، قد ذكرنا أنه ينفذ حكمه على إحدى الروايتين ولكن هذا إذا كان الحاكم ممن يصلح قاضياً، وإن كان لا يصلح قاضياً كالعبد والصبي وغيرهما لا ينفذ حكمه بإجازته باتفاق الروايات، وإن كان ممن يختلف الفقهاء في صلاحيته للحكومة نفذ حكمه بإجازته؛ لأن إجازة القاضي حكم الحكم قضاء منه بأصالته، وإنه مجتهد فيه وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ.
وإذا حكما رجلاً فيما بينهما فقضى لأحدهما على صاحبه باجتهاده، ثم رجع عن قضائه وقضى للآخر، فإن القضاء الأول ماض والقضاء الثاني باطل، لما ذكرنا إن الحكم في حق الخصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، والقاضي المولى متى قضى بحادثة باجتهاده ثم أراد أن ينقض ذلك القضاء ويقضي بخلافه في تلك الحادثة ليس له ذلك كذا هنا.
وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم فيها بينهما، فقضى لأحدهما على صاحبه في بعض الدعاوي الذي حكماه في ذلك، ثم رجع المقضي عليه عن تحكيم هذا الحكم فيما بقى من الدعاوي، فإن قضاء الأول نافذ وما يقضى بعد ذلك لا ينفذ كما ذكرنا إن عزل كل واحد منهما للحكم عامل فيما لم يقض بعد، فأما فيما قضى نفذ ووقع الفراغ(8/126)
عليه، فإنه لا يعمل عزله وكان كالوكيل ببيع عبدين إذا باع أحدهما ثم عزل الموكل عمل عزله فيما لم يبع، ولم يعمل فيما باع وكذلك هاهنا.
قال: وإذا اصطلح الخصمان على حكم بينهما، فأقام المدعي شاهدين عنده، أن له على هذا الرجل وعلى كفيله الغائب فلان ألف درهم فقال المدعى عليه: الشاهدان عبدان فإنه يسمع طعن المشهود عليه؛ لأنه فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى والقاضي يسمع مثل هذا الطعن، فكذا الحكم. فإن أقام الشاهدان بينة أن مولاهما كان أعتقهما وعدلت بينة العتق، فالحكم يقضي بعتقهما في حق المشهود عليه ويقضي بالمال عليه ولا يقضي به على الكفيل، ولا يثبت العتق في حق المولى بحكم الحكم، وإن كان لو حصل هذا من القاضي المولى يثبت العتق في حق المولى، ويثبت المال على الكفيل (87ب4) لما ذكرنا أن حكم الحكم إنما يظهر في حق من قضى بحكمه، دون من لم يرض بحكمه، والمولى والكفيل ما رضيا بحكمه فلا يظهر حكمه في حقهما، أما المتخاصمان فقد رضيا بحكمه فظهر حكمه في حقهما.
فإن جاء مولى العبدين وأنكر العتق وقدمهما إلى القاضي، فإن شهد هذان الشاهدان على عتقهما أو غيرهما يريد بقوله: هذان الشاهدان اللذان شهدا على عتقهما عند الحكم قضى القاضي به فشهادتهما بالمال جائزة؛ لأنه لم يظهر عنده خطأ حكم الحاكم فيما حكم ولا ينقض حكمه، وإن لم تكن بيتهما بينة على العتق وقضى القاضي برقهما للمولى أبطل حكم الحكم فيما حكم؛ لأنه ظهر عند القاضي أن الحكم حكم بشهادة العبد والحكم بشهادة العبد باطل فكان له أن يبطل.
قال: ولو ادعى رجل قبل رجلين أنهما غصباه ثوباً أو شيئاً من الكيلي أو الوزني فغاب أحدهما، ورضي الآخر والمدعى عليه بحكم يحكم بينهما، فأقام المدعي بينة على حقه عليهما، فإنه يلزم الحاضر نصف ذلك ولا يلزم الغائب منه شيء؛ لأن الحاضر رضي بحكمه، أما الغائب فلم يرض بحكمه.
وكذلك على هذا إذا ادعى رجل على ميت ديناً وورثته غيب إلا واحد، فاصطلح هذا الوارث الحاضر مع المدعي على حكم يحكم بينهما، وأقام المدعي بينة على الميت بحقه وحكم الحاكم بذلك لا يظهر حكمه في حق الغيب؛ لأنهم ما رضوا بحكمه. غير أن في مسألة الورثة يقضي على الحاضر بجميع الدين ويستوفي ذلك مما في يده وفي مسألة الغصب يقضي على الحاضر بالنصف. والوجه في ذلك: أن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، ثم القاضي يقضي بجميع الدين على الميت بحضرة أحد الورثة لما عرف أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعى على الميت، وصار من حيث المعنى كأن المورث حي وهو حاضر.
وإذا قضى القاضي بجميع الدين والدين مقدم على الميراث وما في يده من الميراث يؤخذ جميع الدين مما في يده، فإذا عرفت الجواب في حق القاضي المولى، فكذا الجواب في الحكم، أما في الغصب القاضي المولى لا يقضي إلا بنصف القيمة؛ لأن أحدهما ليس بخصم عن الآخر، فإذا عرفت هذا في القاضي المولى، فكذا الجواب في الحكم.(8/127)
وإذا اشترى من آخر عبداً وقبضه ونقد الثمن، ثم طعن بعيب، واصطلحا على حكم، فقضى بالرد على البائع فهو جائز؛ لأن التحكيم حصل بما يملك الخصمان فعله بأنفسهما، فيصح كما في سائر الصور، وإذا صح التحكيم صار الحكم فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى لو قضى بالرد على البائع يجوز، فكذا ها هنا، فإن أراد البائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب لا يجوز لما ذكرنا أن حكم الحكم في حق غير المتخاصمين بمنزلة صلح باشره، ولو حصل الرد على البائع بطريق الصلح ليس للبائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب، ويجعل هذا الرد بمنزلة بيع جديد في حق البائع الأول فكذا هنا، ولو اصطلحوا جميعاً (على حكم هذا الحكم) المشتري الثاني والمشتري الأول والبائع الأول على حكم هذا الحكم، ورد هو العبد على البائع الثاني، فأراد البائع الثاني أن يرده على البائع الأول، ليس له ذلك قياساً، وله ذلك استحساناً.
وجه القياس أن البائع الأول ليس بخصم للحال إذ لا خصومة معه في العيب قبل الرد على البائع الثاني، فلا يصح تحكيمه، فصار وجود هذا التحكيم والعدم بمنزلة.
وجه الاستحسان: أن البائع الأول، إن لم يكن خصماً في هذا العيب في الحال فهو يعرض أن يصير خصماً بسبب هذا العيب، فإنه إذا رد العبد على البائع الثاني، كان للبائع الثاني أن يخاصم البائع الأول فيه، فصار الحكم في حقهم بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى لو رد العبد على البائع الثاني، كان للبائع الثاني أن يرده على البائع الأول، فكذا الحكم. ولو نقض البائع الأول الحكومة بعدما رد العبد على البائع الثاني قبل أن يرده عليه صح النقض؛ لأن هذا نقض قبل الحكم عليه وإنه جائز، وإذا صح العزل لا يملك الحكم رد العبد على البائع الأول بعد ذلك.
وإن خاصم البائع الثاني البائع الأول بعد ذلك بسبب هذا العيب عند قاض من القضاة، فالقياس أن لا يرده القاضي على البائع الأول؛ لأن التحكيم من البائع الأول لم يصح على جواب الاستحسان، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وفي الاستحسان يرده؛ لأن الحكم حين رد على البائع الثاني، فهو حكم في حق البائع الأول، فصح حكمه بالرد في حق البائع الأول فلا يبطل هذا الحكم بعزل الحكم، ألا ترى أنه لا يبطل هذا الحق بعزل القاضي المولى، حتى إن القاضي المولى إذا رد العبد على البائع الثاني، ثم عزل هذا القاضي وولي قاض آخر فرفعت إليه هذه الحادثة رد العبد على البائع الأول كذا هنا.
ولو أن رجلاً باع سلعة لرجل بأمره فطعن المشتري بعيب، فحكما بينهما حكماً برضا الآمر، وردها الحكم على البائع بسبب ذلك العيب بإقرار البائع أو بنكوله أو ببينة قامت، فإن كان الرد بالبينة أو بنكول الوكيل فله أن يرده على الموكل وإن كان الرد بإقراره بالعيب، وذلك عيب لا يحدث مثله رده على الموكل أيضاً، وإن كان يحدث مثله لم يرد على الموكل حتى يقيم البينة أن هذا العيب كان عند الموكل؛ لأنه صار حكماً في حقهم بتراضيهم، فصار بمنزلة القاضي المولى والحكم فيما إذا كان الرد من القاضي المولى على نحو ما ذكرنا، فكذا إذا كان الرد من الحكم.(8/128)
ولم يذكر القياس والاستحسان في هذه المسألة، كما في المسألة المتقدمة؛ لأن هناك البائع الأول ليس بخصم في العيب للحال، فلا يصح تحكيمه للحال قياساً، أما هنا الآمر خصم في الحال؛ لأن الرد على الوكيل رد على الآمر، فصح التحكيم من الآمر في الحال قياساً واستحساناً، وإن كانت الحكومة بغير رضا الآمر لا يلزم الآمر من ذلك شيء إلا ببينة أو كان عيباً لا يحدث مثله وهذا لأن التحكيم في حق الآمر لما لم يصح لعدم رضاه صار بمنزلة ما لو قبل المأمور المبيع بالعيب بغير قضاء، وهناك الجواب على التفصيل إن كان يحدث منه يلزم المأمور دون الآمر، باتفاق الروايات، وإن كان عيباً لا يحدث مثله، ففيه اختلاف الروايات في بعضها يلزم الأمر، وفي بعضها يلزم المأمور، كذا هنا.
ولو كان هذا الرجل اشترى عبداً لرجل بأمره وطعن المشتري بعيب به وحكما فيما بينهما رجلاً برضا الآمر ورده ببينة أو بإقرار أو بنكول كان ذلك جائزاً على الآمر وهذا ظاهر، ولو كان التحكيم بغير رضا الآمر ورد ببعض ما ذكرنا، فكذلك الجواب كان الرد جائزاً على الآمر.
فرق بين الوكيل بالشراء وبين الوكيل بالبيع، فإن في الوكيل بالبيع إذا حصل التحكيم بغير رضا الآمر ورد المشتري على الوكيل نفذ الرد على الوكيل دون الموكل، والفرق أن حكم الحكم في حق غير الممكن بمنزلة الصلح الذي باشراه، ولو كان مكان الرد في الوكيل بالبيع صلحاً باشراه بغير قضاء نفذ عليه وعلى الآمر جميعاً لفقه، وهو أن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة الإقالة في حق الثالث، والآمر ثالثهما، والإقالة في حق الوكيل بالبيع في هذه الحالة لا يصح؛ لأن الوكالة انتهت نهايتها بالبيع والتسليم والتحق الوكيل بالإصابة، فأما الإقالة من الوكيل بالشراء ما دام المشترى في يده صحيحة، لأن الوكالة بالشراء لا تنتهى ما دام المشترى في يد الوكيل بالشراء.
الفصل الرابع والعشرون: في كتاب القضاة إلى القضاة
يجب أن يعلم بأن كتاب القاضي إلى القاضي صار حجة شرعاً في المعاملات بخلاف القياس؛ لأن الكتاب قد ينقل ويزور، والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم؛ ولأن القاضي لا ولاية له على الخصم الذي في غير بلده، فكيف يكون كتابه حجة عليه؟ ولأن القاضي الكاتب بكتابه ينقل شهادة الشهود إلى المكتوب إليه والشهود بأنفسهم لو حضروا مجلس القاضي وكتبوا شهادتهم بين يدي القاضي، فالقاضي لا يعمل به، فكيف يعمل بكتاب غيره لكن جعلناه حجة بالإجماع، فقد روي عن علي رضي الله عنه وجماعة من التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي رضي الله عنهم، أنهم جوزوا ذلك في المعاملات ولم ينقل عن غيرهم بخلافه.(8/129)
والمعنى في ذلك الحاجة، فإن الإنسان قد يكون غائباً والشهود حضور ويتعذر عليه الجمع بين الشهود والخصم لما أنه لا يمكنه إحضار الشهود بلد الخصم، ولا يمكنه نقل الشهود إلى الخصم، فلا يمكنه أن يصل إلى حقه بالشهادة على الشهادة؛ لأن قاضي تلك البلدة عسى لا يعرف عدالة الأصول، وعسى لا يجد هناك من يعدل الأصول، وفي تعديل الفروع الأصول كلام على ما يأتي بيانه في موضعه، فلو لم يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لنقل الشهادة وإثبات عدالتهم لتعطلت الحقوق وضاعت فقبلناه صيانة للحقوق عن الضياع والبطلان، ولكن إنما يقبله القاضي المكتوب إليه عند وجود الشرائط، ومن جملة الشرائط البينة، حتى إن القاضي المكتوب إليه (88أ4) لا يقبل كتاب القاضي ما لم يثبت عنده بالبينة أنه كتاب القاضي، به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه.
والمعنى في ذلك أن كتاب القاضي لا يخلو عن نوع احتمال لما ذكرنا أن الخط يشبه الخط، فلا يجوز العمل به ما لم ينتف هذا الاحتمال وذلك بالبينة، ولأن كتاب القاضي يقع ملزماً في حق المكتوب (إليه) حتى يلزمه العمل به، وإذا عمل به وقضى على المدعى عليه بما فيه يلزمه ذلك، واللزوم يعتمد الحجة والحجة هي البينة، وبهذا يقع الفرق بين كتاب القاضي وبين كتاب المزكي إلى القاضي، فإن في كتاب المزكي إلى القاضي لا يحتاج إلى البينة، لأنه ليس في كتاب المزكي إلزام، فالقضاء مضاف إلى شهادة الشهود لا إلى التزكية، إنما التزكية لنوع رجحان الصدق، ولهذا لو قضى القاضي بالشهادة بدون التزكية صح قضاؤه، وبه يقع الفرق أيضاً بين كتاب القاضي وبين كتاب ملك أهل الحرب، إذا طلب الأمان فيه فإنه مقبول بغير البينة حتى لو أمنه الإمام صح أمانُه؛ لأن كتاب أهل الحرب ليس بملزم؛ لأن للإمام رأياً في الأمان وتركه.
ومن جملة ما عمل فيه بالقياس الحدود والقصاص، حتى لم يجوزوا كتاب القاضي إلى القاضي في المعاملات (إلا) بالأثر والإجماع، ولا أثر ولا إجماع في الحدود والقصاص، فبقي على أصل القياس.
ومن جملة ما عمل فيه بالقياس المنقولات نحو العروض والثياب والعبيد والجواري، على قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف، وقال: يجوز في العبيد في الإباق، ولا يجوز في غيرهم، وعنه رواية أخرى أنه يجوز في جميع المنقولات، وبه أخذ بعض المتأخرين من مشايخنا. وحكي عن القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب أنه كان يفتى به، وأجمعوا على أنه يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في العقار والديون.
فوجه قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول، وهو الفرق بين الديون وسائر المنقولات: أن في الدين توهُّم الشركة تمكَّن في موضع واحد وهو المقضي عليه؛ لأنه ربما يتفق رجلان بذلك الاسم والنسب، أما لم يتمكن في المقضي به وهو الدين؛ ولا في المقضي له وهو المدعي، فإن كل واحد منهما معلوم، ويمكن الشركة في المقضي عليه حالة العذر إذا كان المقضي له والمقضي به معلوماً لا يمنع القضاء، ألا ترى أن حوالة المقضي عليه لا تمنع القضاء حالة العذر إذا كان المقضى به والمقضى له معلوماً كما لو(8/130)
شهد شاهدان على رجل أنه طلق إحدى امرأتيه قبل الدخول ومات قبل البيان، فإنه يقضي بسقوط نصف المهر مع أن المقضي عليه بسقوط نصف الصداق مجهول أنها زينب أو عمرة لما كان المقضي له معلوماً وهو الزوج والمقضي به معلوماً وهو نصف الصداق.
والمعنى في ذلك كله أن المقضي به والمقضي له إذا كان معلوماً كان الرجحان لجانب العلم والعبرة للراجح في الأحكام، فأما في عين العبد فتوهم الشركة تمكن في موضعين، أحدهما: في المقضي به، وهو العبد، فإنه يتفق اثنان من العلماء في الاسم والنسب والحلية، وفي المقضي عليه، وهو الذي في يديه العبد، فكان الرجحان لجانب الجهل فيمنع القضاء.
ألا ترى أن تمكن الجهالة في موضعين مانع من القضاء، وإن كان الحال حال عذر بأن كان لرجلين عبدان، لكل واحد منهما عبد على حدة قال أحدهما: إن لم يدخل فلان هذه الدار اليوم فعبدي حر وقال الآخر: إن دخل فلان الدار اليوم فعبدي حر، ومضى اليوم ولا يدرى أنه دخل أو لم يدخل وكل واحد ينكر شرط الحنث، فالقاضي لا يقضي بعتقهما ولا بعتق أحدهما؛ لأن المقضي عليه وهو أحد الموليين مجهول والمقضي به وهو أحد العينين كذلك، فيترجح جانب الجهل على جانب العلم فيمنع القضاء، كذا هنا وبل أولى؛ لأن قطع الشركة في المقضي به * وهو العبد * بالإشارة إليه ممكن؛ لأن العبد يمكن إحضاره مجلس الحكم بخلاف العقار حيث يجوز فيه كتاب القاضي، وإن كان يوهم الشركة ثمة في موضعين أيضاً؛ لأنه قد يتفق محدودان بحد واحد، وفي المقضي عليه؛ لأنه قد يتفق رجلان بالاسم والنسب؛ لأن قطع هذه الشبهة بالإحضار غير ممكن؛ لأنه لا يمكن إحضار العقار، فسقط اعتبار الجهالة في المقضي به بالإحضار، فكأن الشركة ما تمكنت إلا في موضع وهو المقضي به، وإنها غير مانعة كما في الدين.
وجه ما روي عن أبي يوسف: أنه يجوز كتاب القاضي في العبيد في الإباق أن القياس أن لا يكتب في العبيد كما في سائر المنقولات، كما قلتم: إن توهم الشركة تمكن في موضعين إلا أنا تركنا القياس في العبيد (في) الإباق للضرورة؛ لأن الإباق مما يكثر من العبيد، وربما لا يكون للمولى شهود في البلدة التي فيها العبد، لو لم يُجز كتاب القاضي تبطل حقوق الناس.
مثل هذه الصورة لا تتحقق في الجواري والدواب، لأن الإباق من الجواري لا يكثر، وكذلك الند من الدواب من بلدة إلى بلدة لا تكثر، فيعمل فيهن بقضية القياس.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الإباق مسألة تدل على أن كتاب القاضي إلى القاضي في النقليات جائز، فإنه ذكر أنه إذا أخذ عبداً آبقاً أو جاريةً إلى القاضي، وأقام البينة على أنه وجده آبقاً، فأخذه وطلب من القاضي أن يفرض نفقته على مالكه، فإن علم القاضي أن المصلحة في بيع هذا العبد وحفظ ثمنه على مالكه فعل ذلك، فإذا باعه وأمسك ثمنه، فجاء مالكه وأتى بكتاب القاضي ليأخذ الدراهم الثمن كان له ذلك، فقد جوز كتاب القاضي في الدراهم الثمن، وإنه منقول.(8/131)
وتأويل المسألة أن بيع الآبق من القاضي لما نفذ بولاية شرعية انتقل حق صاحب العبد إلى ثمنه، وإنه دين على المشتري، فهو إنما جاء بكتاب القاضي لإثبات أن ذلك الدين حقه، وكتاب القاضي في الديون جائز، ثم القاضي قبض الدراهم المعين عوضاً عن ذلك، فإذا أثبت بكتاب القاضي أن ذلك الدين له وأراد أخذ الدراهم التي قبضها القاضي، وقد أجاز قبض القاضي تلك الدراهم عوضاً عن الدين الذي هو حقه فلا يظهر بهذا أن هذا الكتاب في العوض.
ويجوز كتاب القاضي في النكاح والطلاق وفي كل حكم يمكن تحقيق شرائط كتاب القاضي فيه من إعلام المشهود به، وغير ذلك على ما يأتي بيانه جائز.
وفي سائر النقليات إنما لم يجز كتاب القاضي عندهما؛ لأن إعلام المشهود به في هذه الأشياء بالإشارة، والإشارة في غير الكتاب، فلا تصح الدعوى والشهادة فلم يجز الكتاب.d
ونظير هذه المسألة النسب وصورتها رجل وامرأة ادعيا ابناً أو ابنة عند قاض من القضاة، وقالا: هو معروف النسب منا وهو اليوم في يد فلان في بلد كذا قد استرقه، وأقاما البينة عند القاضي، فطلبا منه أن يكتب لهما بذلك كتاباً إلى القاضي في ذلك البلد، لا يكتب عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأنهما يريدان قطع الملك والرق الثابت لصاحب اليد بالظاهر، وانتزاعه من يد صاحب اليد بدعوى الملك، وثمة الإشارة من المدعي والشهود شرط لسماع الدعوى والشهادة، ولا يتحقق ذلك في الغائب، فلا يكتب عندهما لهذا، فكذا هنا.
وعلى قول أبي يوسف: يكتب، لأن النسب لا يشار إليه وهو المدعي، فكان كدعوى الدين، وثمة يكتب فكذا هذا. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يكتب في النسب إلا في الأبوة والأمومة والبنوة؛ لأن دعوى هذه الأنساب دعوى حق مقصود.
ألا ترى أنه يسمع فيها الدعوى حالة الحياة وإن لم يدع بسببه مالاً أو حقاً، فيمكن إثباتها بالبينة بخلاف الأخوة والعمومة وأشباههما، إذ ليس فيهما حق مقصود، ألا ترى أنه لا تسمع فيهما الدعوى حالة الحياة إلا إذا ادعى بسببها مالاً كالنفقة وأشباهها، فلا يمكن إثباتها بالبينة.
بعد هذا تحتاج إلى بيان شرائط صحة كتاب القاضي إلى القاضي، فنقول: العلوم الخمسة شرط جوازه، وهو أن يكون الكتاب من معلوم يعني القاضي الكاتب إلى معلوم * يعني القاضي المكتوب إليه * في معلوم * يعني المدعى به * لمعلوم * يعني المدعى * على معلوم * يعني المدعى عليه.
أما القاضي الكاتب ينبغي أن يكون معلوماً؛ لأن الحجة كتاب القاضي لا بد وأن يعلم المكتوب إليه أنه كتاب القاضي حتى يقبله. وإعلامه إنما يكون بكتابة اسم القاضي واسم أبيه واسم جده أو قبيلته؛ لأن إعلام الإنسان إذا كان غائباً بهذه الأشياء، وإذا لم يذكر اسم أبيه وجده لا يحصل التعريف بالاتفاق، وإن ذكر اسم أبيه ولم يذكر اسم جده(8/132)
أو قبيلته، فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحصل التعريف، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإن كان مشهوراً اكتفى بالاسم الذي كان مشهوراً بذلك؛ لأن كتابة ما زاد على ذلك للتعريف، فإذا حصل التعريف بدونه اكتفى بذلك، وكذلك إذا كتب: من أبي فلان إذا كان مشهوراً بذلك الكنية كأبي حنيفة، وكذلك إذا كتب من ابن أبي فلان، وهو مشهور به، كابن أبي ليلى يكتفى به، ولا تقبل شهادة الشهود على اسم القاضي ونسبه ما لم يكن مكتوباً في الكتاب؛ لأنهم لو شهدوا على ما في (88ب4) الكتاب بدون الكتاب لا يقبل ذلك منهم فكذلك على التعريف.
وكذلك إعلام القاضي المكتوب إليه شرط؛ لأنه ما لم يثبت عنده أنه مكتوب إليه، لا يجب العمل به، بل لا يجوز العمل له به، وإنما يصير معلوماً بما يوجب تعريفه من ذكر الاسم والنسب على ما ذكرنا ولا يكتفي بالشهادة على الاسم والنسب إذا لم يكن مكتوباً لما ذكرنا.
وكذلك إعلام المدعي والمدعى به والمدعى عليه شرط؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، وهذه العلوم الثلاثة شرط لصحة الشهادة وإعلام المدعي والمدعى عليه بما يوجب تعريفهما من ذكر الاسم والنسب على حسب ما بينا في القاضي.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله لا يحصل التعريف بذكر اسمه واسم أبيه، بل يشترط مع ذلك اسم الجد. وعند أبي يوسف رحمه الله ذكر الجد ليس بشرط، وقول محمد رحمه الله مضطرب: واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إنه كقول أبي يوسف، وبعضهم قالوا: إنه كقول أبي حنيفة.
وجه قول أبي يوسف أنا أجمعنا على أنه يحصل التعريف بثلاثة أشياء: بذكر الاسم والنسب إلى الأب والجد، وقد وجد هنا المثنى وهو النسب والاسم، والمثنى أكثر الثلاث وللأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقصود هو الإعلام والتمييز وذلك لا يحصل بمجرد الاسم والنسب إلى الأب، فأما (إلى الجد) قل ما يتفق الرجلان في الاسم والنسب إلى الأب والجد، فيحصل به الإعلام.
وفي شرح كتاب «الأقضية» أن ذكر الجد عند أبي حنيفة * وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف * شرط، وفي قول محمد رحمه الله * وهو قول أبي يوسف في ظاهر الرواية ليس بشرط. وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول في الابتداء: لا يشترط ذكر الجد، ثم رجع في آخر عمره، وكان يشترط ذكر الجد وهو الصحيح وعليه الفتوى.
وإن لم يذكر اسم الجد ونسبه إلى القبيلة، فإن كان أدنى القبائل والأفخاذ الذي يعرف به بذلك، فقد كفى بلا خلاف، ويقوم مقام اسم الجد لحصول الإعلام به، فإنه قل ما يتفقان في أدنى الأفخاذ في اسمهما واسم أبيهما، وإن نسبه إلى أعلى الأفخاذ والقبائل بأن قال: تميمي، أو ما أشبهه لا يكتفى به، لأنه لا يقع به التعريف في الغالب، فصار(8/133)
كأنه قال: عربي أو عجمي، وإن نسبه إلى بلده ولم ينسبه إلى جده ولا إلى قبيلته، فقال: كوفي أو مصري، فذاك لا يكفي؛ لأن الاسم يجمع الألوف ولا يحصل به التعريف، وإن نسبه إلى حرفته وصناعته ولم ينسبه إلى قبيلته، والجد لا يكفي عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الصناعة ليست بشيء لازم، فالإنسان قد يشغل بصناعة في زمان ثم يتحول منها إلى غيرها بعد ذلك، فلا يحصل بها التعريف، وعندهما إذا كانت صناعة يعرف بها لا محالة يكفي. وإن ذكر اسم أبيه ولقبه وإنه يعرف بذلك اللقب لا محالة فإنه يكفي وبدون ذلك لا يكفي؛ لأن اللقب ليس بلازم كالصناعة، وإن ذكر اسمه واسم جده ولم يذكر اسم أبيه لا يكفي؛ لأن الإنسان إنما يتصل إلى الجد بواسطة الأب، فلا يصح النسب إلى الجد بدون النسب إلى الأب، وإن كتب من قاضي بلد كذا فلان بن فلان إلى قاضي بلد كذا فلان بن فلان فذلك يكفي بلا خلاف عند بعض مشايخنا؛ لأن كونه قاضياً من أسباب التعريف، فيستغنى به عن ذكر الجد.
وعن أبي يوسف رحمه الله آخراً أنه إذا كتب إلى قاضي بلد كذا، ولم يذكر اسمه ولا اسم أبيه فذلك يكفي؛ لأن القاضي في كل بلدة معروف فيقع الاستغناء عن ذكر الاسم والنسب. وزاد في «المنتقى» في هذه الرواية فقال: إذا كان تاريخ الكتاب نفذه إلى المكتوب إليه.
ولو كتب من فلان بن فلان قاضي بلد كذا إلى كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم، فذلك لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله يجوز، والظاهر أن محمداً رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، فأبو يوسف رحمه الله توسع حين ابتلي بالقضاء، ورأى أحوال الناس، واستحسن في كثير من المسائل تسهيلاً للأمر على الناس، من جملتها هذه المسألة، فإن القاضي يحتاج إلى الكتابة إلى الآفاق ولا يمكنه معرفة اسم قاضي الآفاق ونسبه لبعد المسافة، فلو شرطنا ذلك ضاق الأمر على الناس. ألا ترى أنه لو كتب إلى فلان بن فلان وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، فكل من يصل إليه من قضاة المسلمين يعمل به، وإن لم يكتب اسمه ونسبه كذا هنا.
وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بالاحتياط، فإن إعلام الكاتب والمكتوب إليه شرط لصحة الكتاب بالاتفاق وتمام الإعلام لا يحصل بهذا القدر، فلا يصح الكتاب، بخلاف ما إذا عين قاضياً وعرفه، ثم كتب: وإلى كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين؛ لأنه لما عرف الأول صحت كتابة القاضي إليه، فيجعل المضموم إليه تبعاً له فيجوز، ويجوز أن يصح الشيء تبعاً وإن كان لا يصح مقصوداً.
وإن كتب أن لفلان على فلان السندي غلام فلان بن فلان الفلاني كذا جاز؛ لأن تعريف المملوك بالنسبة إلى المالك، فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو ذكر اسم المولى ونسبه إلى أبيه وجده وإلى قبيلته، فقد تم تعريفه بذلك، وإن ذكر اسم العبد واسم المولى، ولم يذكر اسم جد المولى ولا قبيلته. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن(8/134)
ذلك لا يكفي، وذكر شيخ الإسلام أنه يكفي؛ لأن التعريف يحصل بذكر ثلاثة أشياء كما في الحر، وقد وجد ذكر ثلاثة أشياء، وهو اسم العبد واسم المولى واسم أب المولى، وإن ذكر اسم العبد واسم المولى إن لم ينسب المولى إلى قبيلته الخاص لا يكفي، وإن نسبه إلى قبيلته الخاص، فعلى قياس ما ذكره شيخ الإسلام يكفي.
وإن كتب أن لفلان على فلان وهو العبد السندي الحائك الذي في يدي فلان بن فلان أو الساكن في دار فلان بن فلان، فذلك لا يكفي؛ لأن التعريف إنما يقع بالنسبة اللازمة وذلك بالملك دون السندي؛ لأنها عسى أن تكون بغير حق.
قد ذكرنا أن إعلام المدعى عليه في كتاب القاضي شرط، وروي عن محمد في «النوادر» ما يدل على أن إعلام المدعى عليه في الكتاب ليس بشرط، والذي روي عنه: رجل له ضيعة بخراسان وهو بالعراق وشهوده على الضيعة بالعراق، فأقام بينة عند قاضي الكوفة أن ضيعة كذا بمرو بحدودها له، وأن له مانعاً منها لا يعرفه فإنه يكتب قاضي الكوفة إلى قاضي مرو ويكتب فيه، فإذا قدم بالكتاب فكل من منعه من الناس فاقض عليه.
قال مشايخنا: ويجوز أن يكون هذا في العقار خاصة؛ لأنه ربما لا يعلم لبعد المسافة أن العقار في يد من هو، فاستحسن وجوده للحاجة والضرورة، ألا ترى أنه لو شهد شاهدان بملكية العقار لرجل وشهد آخران أنها في يد فلان قضى بها له لما ذكرنا، فأما المدعي به إذا كان ديناً فهو في ذمة المدعى عليه، وإنه عالم بذلك، فلم تمس الحاجة إلى ترك إعلام المدعى عليه، فشرط إعلام المدعى عليه حتى يصير الخصم و (هو) محل وجوب الدين معلوماً.
وذكرنا أيضاً أن إعلام المدعى به شرط، بعد هذا ينظر إن كان المدعي به ديناً، وكان مكيلاً يذكر جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس أنه حنطة يذكر النوع أنها سقية أو برية خريفية أو ربيعية ويذكر الصفة أنها حمراء أو بيضاء جيدة أو رديئة أو وسط ويذكر السبب، وقد مرت هذه الفصول في فصل جلوس القاضي أيضاً.
وإن كانت الدعوى في عقار يذكر موضعها، وحدودها الأربعة، ولو ذكر حدين لا يكفي، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا ذكر حدين أحدهما طولاً والآخر عرضاً يجوز؛ لأن به يصير الطول والعرض معلوماً، وإن ذكر حدين متقابلين لا يجوز، وبعض مشايخنا قالوا: إن ذكر حدين متقابلين يجوز، وإن ذكر حدين متلازقين لا يجوز، وإن ذكر الحدود الثلاثة، فذلك يكفي عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وقد مر هذا أيضاً في فصل جلوس القاضي.
وإن كان العقار معروفاً مشهوراً كدار الوليد بكوفة، وكدار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل ببخارى لابد لتعريفه من ذكر الحدود عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ذكر الحدود في هذا ليس بشرط، ويكتفي بذكر اسم الدار، فأبو يوسف ومحمد قاسا شهرة الدار على شهرة الرجل، والرجل إذا كان مشهوراً يقع التعريف بمجرد اسم العقار، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بذكر الاسم عند الشهرة في العقار يصير أصل العرصة(8/135)
معلوماً، أما مقدار العرصة لا يصير معلوماً، والدار مما يزاد فيها وينقص عنها، وبه لا يتعين الاسم، وإذا لم يصر المقدار معلوماً تبقى الجهالة فلا بد من ذكر الحدود، وأما الآدمي لا يزاد فيه ولا ينقص عنه، فيصير بجملته معلوماً بذكر الاسم، إذا كان مشهوراً بذلك الاسم فلا حاجة إلى اشتراط آخر.
ومن شرائط صحة الكتاب أن يقرأ القاضي الكتاب على الشهود الذين يشهدهم على الكتاب أو يخبرهم بما في الكتاب، وأن يختم الكتاب بحضرتهم وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهذا بناء على أن عندهما يشترط أن يشهد الشهود عند المكتوب إليه بما في (89أ4) الكتاب. وإنما يمكنهم الشهادة بما في الكتاب إذا علموا بما في الكتاب، وذلك إما بقراءة القاضي الكتاب عليهم أو بإخباره إياهم بما في الكتاب، وكذلك يشترط عندهما أن يشهدوا عند المكتوب إليه أن القاضي الكاتب ختم الكتاب بحضرتهم، وإنما يمكنهم الشهادة على ذلك إذا ختم بحضرتهم.
وعند أبي يوسف أخراً شيء من ذلك ليس بشرط، بل إذا أشهدهم أن هذا كتابه وخاتمه وهم شهدوا عند المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضي فلان، وهذا خاتمه كفى، فوجه هذا القول أن المشهود به الكتاب والختم وكل ذلك يصير معلوماً للشاهد، بقول القاضي الكاتب، ويصير معلوماً للمكتوب إليه بإشارة الشاهد إلى الكتاب والختم، فلا حاجة إلى اشتراط شيء آخر.
ولهما أن المقصود من الكتاب أن يقضي المكتوب إليه بما في الكتاب، وإنما يجوز له القضاء بما في الكتاب إذا حصل له العلم بما في الكتاب بشهادة الشهود على ما في الكتاب، أما لا يحصل العلم بمجرد الشهادة على الكتاب والختم؛ لأن الكتاب في يد المدعي لا يؤمن من التغيير والتبديل، والخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يجوز الاعتماد على مجرد الكتاب بدون الشهادة بما عليه.
وإذا ثبت من مذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن شهادة الشهود بما في الكتاب شرط ينبغي للقاضي الكاتب أن يدفع إلى الشهود نسخة ما في الكتاب، ليكون عندهم، فيمكنهم الشهادة على ما في الكتاب قبل فتح الكتاب، فما قاله أبو حنيفة ومحمد احتياط، وما قاله أبو يوسف توسع، وكذلك يشترط عند أبي حنيفة رحمه الله أن يحفظ الشهود شهادتهم بما في الكتاب من وقت التحمل إلى وقت الأداء، ولكن هذا شرط لا يختص بكتاب القاضي، بل في جميع الشهادات يشترط حفظ الشاهد شهادته من وقت التحمل إلى وقت الأداء عند أبي حنيفة رحمه الله.
ومن الشرائط عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن يكون الكتاب معنوناً بأن يكتب فيه: هذا كتاب من فلان بن فلان القاضي إلى فلان بن فلان القاضي حتى إنه إذا لم يكتب فيه ذلك، وإنما كتب فيه عافانا الله وإياك، فالقاضي المكتوب إليه لا يقبله.
وعند أبي يوسف رحمه الله: العنوان ليس بشرط، إنما الشرط أن يشهد الشهود أن هذا كتاب القاضي فلان إليك وختمه، فوجب قوله إن شهادة الشهود تثبت كون الكتاب(8/136)
كتاب القاضي، فثبت كون المكتوب فيه مكتوب القاضي، فلا حاجة إلى اشتراط شيء آخر.
ولهما أن الكتاب إذا لم يكن معنوناً فيكون هذا الكتاب مكتوب القاضي إلى هذا القاضي لا يكون مكتوباً في الكتاب، وما لم يكن مكتوباً في الكتاب لا يثبت بمجرد الشهادة من الشهود عند هذا القاضي، إذا لم يكن مكتوباً في الكتاب بأن يشهدوا عند هذا القاضي أن فلاناً وفلاناً شهدا عند قاض (على) فلان بهذا الحق لهذا المدعي، فكذا كون هذا الكتاب من الكاتب إلى المكتوب إليه، لا يثبت بمجرد شهادة الشهود، وإذا لم يثبت ذلك بشهادتهم، فكأنهم لم يشهدوا، وبدون شهادتهم أن هذا كتاب فلان إليك، فالمكتوب إليه لا يقبل الكتاب كذا هنا.
وإذا ثبت أن العنوان شرط عندهما، فنقول: إن كان العنوان في الباطن، وعلى الظاهر، فالقاضي المكتوب إليه يعمل؛ لأنه يعمل به إذا كان العنوان في الباطن لا غير فهاهنا أولى. وإن كان العنوان في الباطن لا غير، فإنه يعمل به؛ لأنه يجب ختمه فيؤمن التبديل والتغيير وثبت كونه كتاب القاضي إليه لكونه مكتوباً في الكتاب كأصل الحادثة.
وإن كان العنوان على الظاهر لا غير، فالقاضي المكتوب إليه لا يعمل به؛ لأنه لا يؤمن التبديل والتغيير. ألا ترى أن أصل الحادثة إذا لم يكن تحت ختم القاضي بأن لم يكن الكتاب مختوماً، فالقاضي المكتوب إليه لا يعمل به؛ لأنه لا يؤمن التغيير والتبديل، فكذا كونه كتاب القاضي إذا لم يكن تحت خاتمه.
وبعض المتأخرين من مشايخنا اكتفوا بعنوان الظاهر وقالوا: كتابة أصل العنوان إذا لم يشترط عند أبي يوسف؛ فلأن لا يشترط عنوان الباطن ويكتفى بعنوان الظاهر أولى، وأخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله في هذا الفصل تسهيلاً.
ثم إذا أراد القاضي الكتاب يكتب في العنوان من الجانب الأيمن من الكتاب إلى القاضي فلان بن فلان بن فلان بن فلان الفلاني قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء بها بين أهلها، ويكتب من الجانب الأيسر من الكتاب من القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء بها بين أهلها، وإنما يكتب قاضي كورة كذا وإن كان التعريف حاصلاً بالاسم والنسب؛ لأنه إنما يقبل كتابه إذا كان قاضياً، فأما إذا لم يكن فلا، ثم يكتب التسمية ثم يكتب بعد التسمية: كتابي أطال الله بقاء فلان القاضي إلى آخره كما هو الرسم في الكتاب.
ثم يكتب أما بعد، وهذه كلمة فصل الخطاب، جاء في تفسير قوله تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص: 20) أن المراد من فصل الخطاب كلمة: أما بعد، فذكر هذا للفصل بينما تقدم ذكره من الكلام وبينما تأخر من الكلام. ثم يكتب: حضرني في مجلس قضائي بكورة كذا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا أطال الله بقاء القاضي، وإنما يكتب حضرني؛ لأنه يريد حكاية دعوى المدعي، وينبغي أن تكون الدعوى عند القاضي، وكذا شهادة الشهود حتى يجوز له أن يكتب إلى قاض آخر، ويقول: في مجلس قضائي؛(8/137)
لأن صحة الدعوى تنفذ بمجلس القضاء هكذا وقع في بعض الكتب.
والصحيح أن قوله في مجلس قضائي ليس بأمر لازم، بل إذا كتب في مجلس الحكم في كورة كذا كفاه، هكذا ذكر صاحب «الأقضية» . إلا إذا كان بلدة فيها قاضيان، كل قاض على ناحية على حدة فحينئذ يكتب في مجلس قضائي، حتى لا يظن ظان أن القاضي الكاتب كان في مجلس حكم القاضي الآخر، وهو ليس بقاضي تلك الناحية، ويكتب: في كورة كذا، لما عرف من اختلاف الروايات، أن القضاء هل يتقيد بالمصر، ففي ظاهر الرواية يتقيد حتى لا ينفذ القضاء في الرساتيق.
وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتقيد حتى ينفذ القضاء في السواد، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة القضاء من وجه فيجب أن يكون في المصر، فيكتب: كورة كذا حتى يزول الوهم، أن القاضي الكاتب ظن أن القضاء في غير المصر جائز، فيكون غير مجلس القضاء فيكتب في مجلس قضائي، فإذا كتب في كورة كذا يزول هذا الوهم.
بعد هذا المسألة على وجهين: إن عرف القاضي المدعي باسمه ونسبه يكتب حضرني فلان ابن فلان الفلاني، يذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ويثبت معرفته في الكتاب، فيكتب: وقد عرفته بوجهه واسمه ونسبه؛ لأن تمام التعريف بهذا؛ لأن بدون معرفة الوجه لا يحصل تمام التعريف، والاسم والنسب أمر لازم للتعريف لمن كان غائباً، وإنه غائب عن القاضي المكتوب إليه في الحال، وإن لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه سأله البينة على اسمه ونسبه حتى لا يتسمى رجل باسم غيره، فيؤخذ بحق صاحب الحق، فإذا قامت البينة عنده بشرائطه كتب: حضرني رجل ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان وسألته البينة على الاسم والنسب، فأقام بينة عدولاً وثبت عندي بشهادتهم أنه فلان بن فلان بن فلان.
وإن كان المدعي لا يقدر على إثبات نسبه بالبينة كتب القاضي: حضرني مجلس الحكم رجل ذكر أنه فلان ولم أعرفه ولم يقم بينة عندي على نسبه، فيكتب على هذا الوجه حتى إذا أقر المدعى عليه عند القاضي المكتوب إليه باسمه ونسبه كما ذكرنا وقامت البينة عند المكتوب إليه على اسمه ونسبه أنفذه عليه وما لا فلا، فبعد ذلك إن حكى المدعي في الكتاب كان أولى وأبلغ في الاحتياط، وأوثق في قلب القاضي المكتوب إليه فالتعريف ببيان الوصف والهيئة، والسيمى تفيد زيادة علم، قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} () ، ثم يكتب من غير خصم أحضره معه؛ لأن كتاب القاضي لإثبات الحجة على الغائب لنقل شهادة الشهود، حتى يقضي القاضي المكتوب إليه عليه بحضرته أو بحضرة وكيله، ولا حاجة إلى الكتاب، ثم يكتب: فادعى على رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، وإن كان رجلاً مشهوراً لا يحتاج إلى هذا بل يكتب فادعى على فلان ولا بد وأن يذكر المدعي أنه غائب عن هذه البلدة مسيرة سفر؛ لأن بين العلماء اختلافاً في تقدير المسافة التي يجوز كتاب القاضي فيها ولا رواية لهذه المسألة، في «المبسوط» .
والصحيح أن قوله في مجلس قضائي ليس بأمر لازم، بل إذا كتب في مجلس الحكم في كورة كذا كفاه، هكذا ذكر صاحب «الأقضية» . إلا إذا كان بلدة فيها قاضيان، كل قاض على ناحية على حدة فحينئذ يكتب في مجلس قضائي، حتى لا يظن ظان أن القاضي الكاتب كان في مجلس حكم القاضي الآخر، وهو ليس بقاضي تلك الناحية، ويكتب: في كورة كذا، لما عرف من اختلاف الروايات، أن القضاء هل يتقيد بالمصر، ففي ظاهر الرواية يتقيد حتى لا ينفذ القضاء في الرساتيق.
وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتقيد حتى ينفذ القضاء في السواد، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة القضاء من وجه فيجب أن يكون في المصر، فيكتب: كورة كذا حتى يزول الوهم، أن القاضي الكاتب ظن أن القضاء في غير المصر جائز، فيكون غير مجلس القضاء فيكتب في مجلس قضائي، فإذا كتب في كورة كذا يزول هذا الوهم.
بعد هذا المسألة على وجهين: إن عرف القاضي المدعي باسمه ونسبه يكتب حضرني فلان ابن فلان الفلاني، يذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ويثبت معرفته في الكتاب، فيكتب: وقد عرفته بوجهه واسمه ونسبه؛ لأن تمام التعريف بهذا؛ لأن بدون معرفة الوجه لا يحصل تمام التعريف، والاسم والنسب أمر لازم للتعريف لمن كان غائباً، وإنه غائب عن القاضي المكتوب إليه في الحال، وإن لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه سأله البينة على اسمه ونسبه حتى لا يتسمى رجل باسم غيره، فيؤخذ بحق صاحب الحق، فإذا قامت البينة عنده بشرائطه كتب: حضرني رجل ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان وسألته البينة على الاسم والنسب، فأقام بينة عدولاً وثبت عندي بشهادتهم أنه فلان بن فلان بن فلان.
وإن كان المدعي لا يقدر على إثبات نسبه بالبينة كتب القاضي: حضرني مجلس الحكم رجل ذكر أنه فلان ولم أعرفه ولم يقم بينة عندي على نسبه، فيكتب على هذا الوجه حتى إذا أقر المدعى عليه عند القاضي المكتوب إليه باسمه ونسبه كما ذكرنا وقامت البينة عند المكتوب إليه على اسمه ونسبه أنفذه عليه وما لا فلا، فبعد ذلك إن حكى المدعي في الكتاب كان أولى وأبلغ في الاحتياط، وأوثق في قلب القاضي المكتوب إليه فالتعريف ببيان الوصف والهيئة، والسيمى تفيد زيادة علم، قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} () ، ثم يكتب من غير خصم أحضره معه؛ لأن كتاب القاضي لإثبات الحجة على الغائب لنقل شهادة الشهود، حتى يقضي القاضي المكتوب إليه عليه بحضرته أو بحضرة وكيله، ولا حاجة إلى الكتاب، ثم يكتب: فادعى على رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، وإن كان رجلاً مشهوراً لا يحتاج إلى هذا بل يكتب فادعى على فلان ولا بد وأن يذكر المدعي أنه غائب عن هذه البلدة مسيرة سفر؛ لأن بين العلماء اختلافاً في تقدير المسافة التي يجوز كتاب القاضي فيها ولا رواية لهذه المسألة، في «المبسوط» .(8/138)
وكثير من مشايخنا قالوا: لا يجوز فيما دون مسيرة السفر كما في الشهادة على الشهادة؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، فكان هو والشهادة على الشهادة سواء، والمعنى فيه أن جواز كتاب القاضي إلى القاضي باعتبار الحاجة، فإنه ربما يتعذر على المدعي الجمع بين خصمه وشهوده لبعد المسافة فيحتاج إلى الكتاب، وهذا المعنى لا يتأتى فيما دون مسيرة السفر، وبعض مشايخنا جوزوا ذلك (89ب4) .
وهكذا ذكر صاحب الأقضية. والذي ذكره صاحب الأقضية إذا كان في مصر واحد قاضيان، كل قاض يقضي على ناحية خاصة دون ناحية صاحبه، حتى صار كل واحد منهما في ذلك بمنزلة قاض في مصر على حدة، فيكتب أحدهما إلى صاحبه في حق لرجل قامت له بينة عليه، قال على قياس قول أبي يوسف: أجزأ المكتوب إليه فيقبل الكتاب إذا شهد عنده شاهدان أنه كتابه وخاتمه، وعلى قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يقبل حتى يشهدا عنده أنه قرأه عليهما، أو أشهدهم على ما فيه وختم بحضرتهما، وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف ورواية هشام عن محمد، وهكذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء.
ووجهه: أن نقل القاضي في حكم القضاء، لا في حكم الشهادة، ألا ترى أنه يختص هذا النقل بولاية القضاء، ثم يجوز القضاء من قاضيين في مصر واحد، فكذا هذا.
وإذا كانت مسألة مختلفة لا بد من ذكر الغيبة مدة السفر ليخرج عن حد الاختلاف، فإذا ذكر ذلك ولم يعلم القاضي يسأله البينة على ذلك، فإذا أقامها كتب القاضي، وذكر أنه غائب عن هذه البلدة مدة سفر، وكتب: وقد ثبت عندي غيبة مدة السفر بالبينة العادلة ليعلم القاضي الكاتب أن كتابة الكتاب كانت بشرطه.
ثم يكتب المدعى به، ويبالغ في إعلامه على نحو ما بينا، ثم يكتب: وإنه اليوم مقيم بكورة كذا، يريد به كورة القاضي المكتوب إليه؛ لأنه لو لم يكن في كورته لا يفيد كتاب القاضي، ثم يكتب: وإنه جاحد دعواه هذه؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، والشهادة إنما تقبل على الجاحد.
ثم يكتب: ويشهد شهوده على صحة دعواه هاهنا، ويتعذر عليه الجمع بينهم وبين المدعى عليه؛ لأن نقل الشهادة إنما يحتاج إليه حال غيبة الشهود عن المدعى عليه، وتعذر الجمع بين الشهود وبين المدعى عليه؛ حتى لا يصل إلى حقهم بالشهادة، فتمس الحاجة إلى كتاب القاضي لنقل الشهادة.
ثم يكتب: فسألني الاستماع إلى شهادتهم لأكتب بما صح عندي من شهادتهم إلى القاضي فلان، فأجبت إليه، ثم يكتب: فأحضرهم وهم فلان بن فلان، يكتب اسم كل واحد منهم، ونسبه وقبيلته وتجارته إن كان تاجراً، ومسكنه ومصلاه ومحلته مقام التعريف تذكر هذه الأشياء، ثم يكتب: فشهد كل واحد منهم بعد الدعوى عقيب الاستشهاد بشهادة صحيحة متفقة اللفظ والمعنى.
وإنما يذكر هذه الأشياء؛ لأن الشهادة الصحيحة هي التي يجب العمل بها دون(8/139)
الفاسدة، هكذا روي عن محمد رحمه الله. قالوا: وينبغي أن لا يكتفي بهذا القدر بل يفسر الشهادة ويبينها؛ لأن صحة الشهادة واتفاق المعنى وموافقة الدعوى فيما ادعي لا يثبت بمجرد ... ؛ لأنه ربما يظنها صحيحة موافقة للدعوى، وتكون فاسدة مخالفة الدعوى، فلا بد من البيان ليكون المكتوب إليه على بصيرة، فينظر إليها فإن عرفها صحيحة عمل بها، وإن عرفها فاسدة ردها، فلهذا يبين ويفسر شهادته ويصححها على الوجه الذي ذكرنا في الدعوى، ويتبين الدين ويعلمه على نحو ما بينا، ويذكر في شهادتهم إعلام المدعي والمدعى عليه.
وإعلام الحاضر بالإشارة، وإعلام الغائب بذكر الاسم والنسب والمدعي حاضر، فإعلامه بالإشارة إليه والمدعى عليه غائب، فإعلامه بذكر الاسم والنسب، فيكتب شهدوا أن لفلان المدعي هذا علي فلان بن فلان هذا الذي ذكر اسمه ونسبه في هذا الكتاب في دعوى المدعي هذا كذا وكذا، يذكر جنس الدين ونوعه وصفته وقدره وجميع ما ذكرنا في الدعوى ثم يكتب فواجب على فلان هذا تسليم المال إلى هذا المدعي ليقبضه لنفسه.
وقد اختلف المتأخرون في أنه هل يشترط ذكر هذا؟ والصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حاجة القاضي إلى نقل الشهادة وبيان شهادة الشهود لا إلى بيان حكم ما ثبت عنده من جهة الشهود، وهذا ليس من صلب شهادتهم، ولا يشترط ذكره، ويشترط بيان سبب الدين لما ذكرنا في الدعوى، ولتكون الشهادة موافقة للدعوى.
وإن كانت الدعوى في العقار يكتب في شهادتهم العقار، يذكر موضعها وحدودها على نحو ما ذكرنا في الدعوى، ويذكر أنها في يد المدعى عليه هذا بغير حق. ولا بد للشهود في العقار أن يشهدوا أنها في يد هذا المدعى عليه بغير حق، لأن المدعى عليه في العقار إنما ينتصب خصماً باعتبار يده، فما لم تثبت يده على العقار عند القاضي، فالقاضي لا يجعله خصماً ثم يكتب وشهد كل واحد من الباقين بمثل شهادته هذه، وأشار في جميع مواضع الإشارات ولا يكتب على مثل شهادته؛ لأن كلمة مثل صفة في الكلام قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) ، أي كهو شيء فيصير هذا شهادة على شهادة الأول، وإنه لا يقبل هاهنا، ولكن يكتب بمثل شهادته، كما قلنا لم يكتب: فأتوا بالشهادة على وجهها وساقوها على سببها، فسمعتها وأثبتها في المحضر المخلد ديوان الحكم؛ لأنه ينبغي أن يكون ذكر الدعوى والشهادة مكتوباً في بياض، ويكون في خريطة القاضي حتى يؤمن عن التغيير والتبديل، فعسى يحتاج إلى الرجوع إليه، حتى يكون عن بصيرة وطمأنينة.
ثم بعد ذلك إن عرف القاضي الشهود أثبت ذلك في الكتاب، فيكتب: وهم معروفون عندي بالعدالة والرضا وقبول القول، فإن لم يعرفهم سأل المزكي عن حالهم الواحد يكفي، والاثنان أحوط وأبعد عن الخلاف، فإن أتوا عليهم بالعدالة يكتب:(8/140)
ورجعت في التعريف عن حالهم إلى من إليه التزكية والتعديل بالناحية، وهم فلان وفلان، فنسباهم إلى العدالة والرضا وقبول الشهادة.
فإن عدل بعضهم وجرح البعض، فإنه يكتب اسم من عدلاه؛ لأن القاضي المكتوب إليه إنما يقضي بشهادة العدلين، وكذلك يذكر اسم المزكين؛ لأن العدالة إنما تثبت بقولهم، فينبغي أن يعرفهم القاضي المكتوب إليه حتى يعلم أنه هل يجوز الاعتماد على قولهم في التزكية؟ وإنما كتب القاضي الكاتب السؤال عن الشهود وتعرف عن حالهم؛ لأنه لو لم يكتب ذلك احتاج القاضي المكتوب إليه إلى السؤال عنهم حتى يمكنه القضاء بشهادتهم، والسؤال عنهم، وعسى لا يمكنه ذلك في مصره، فيكتب القاضي ذلك حتى يعلم القاضي المكتوب إليه أن لا حاجة إلى السؤال عن حالهم.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : ولو لم يكتب القاضي الكاتب في الكتاب أسماء الشهود الذين شهدوا عنده، وأخفى واكتفى بقوله شهد بذلك عندي شهود عدول كفى.
قال: وهذا لما قلنا في القاضي إذا كتب في السجل إن شاء أظهر فيه أسماء الشهود وأنسابهم وإن شاء أخفى، واكتفى بقوله بعدما ثبت عندي شهادة شهود عدول كذا هاهنا.
ثم القاضي الكاتب بعدما ظهرت عنده عدالة الشهود الذين شهدوا عنده بالحق للمدعي يحلف المدعي، فإن كان المدعى ديناً يستحلفه بالله ما قبضتَ هذا المال منه، ولا تعلم أن رسولاً لك أو وكيلاً لك قبض منه، أما أصل الاستحلاف مع أنه ليس هاهنا أحد يدعيه؛ لأن القاضي ناظر الكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، والغائب عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فينظر له القاضي باستحلاف خصمه.
هذا كما نقول فيمن ادعى ديناً على ميت وأقام البينة: إن القاضي يحلِّفع بالله بما استوفيت هذا الدين ولا أبرأته منه؛ لأن الميت عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فينظر له القاضي بالاستحلاف، وإذا استحلفه يحلف بالله ما قبضت هذا المال من هذا المدعى عليه، ولا يعلم أن رسولك أو وكيلك قبض هذا المال منه ولا أبرأته ولا أحلته به على أحد ولا اغتصبت مثله من جنسه ولا اغتصبت به؛ لأن الواحد من هذا لا تحصل براءة المدعى عليه، فيحلفه على جميع ذلك على الثبات والأصح ما ذكرنا؛ لأن الحلف على فعل الغير يكون على العلم، وسيأتي بيان ذلك في فصل اليمين إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت حكم الاستحلاف في الدين فكذا في جميع الدعاوي التي يجوز فيها الكتاب؛ لأن الاستحلاف لنظر الغائب وإنه موجود في جميع هذه الفصول، ويحتاط القاضي في كل فصل حتى لا يستحلفه على ما يبطل دعواه، ويذكر في كتابه استحلاف المدعي، وكيفية استحلافه وما كان منه على وجه النظر للغائب ليكون أبلغ في العذر وأقرب إلى تحقيق معنى العدل، وهذا إذا لم يذهب المدعي بالكتاب بنفسه بل نصب وكيلاً.
فأما إذا ذهب بالكتاب بنفسه، فالقاضي الكاتب لا يحتاج إلى هذا الاحتياط وإلى(8/141)
تحليف المدعي، فإنه لو أراد المدعى عليه استحلافه يمكنه عند القاضي ذلك، ثم يكتب فقبلت شهادتهم قبول مثلها، وسألني المدعي هذا مكاتبة في ذلك الإشهاد عليه وعلى مضمونه وعلى ختمه فأجبته (90أ4) إليه، لإيجاب العلم للإجابة إليه، فأجزت كتابي هذا مسهلاً إليه ما جرى من عندي، ذلك على ما طويت كتابي هذا، وحكيت فيه معلماً بذلك إباءه حتى إذا وصل كتابي هذا إليه صحيح الختم وثبت عنده من الوجه الذي يوجب العلم قبوله قبله وقدم في باب مورده بالحق لله تعالى عليه تقديمه فيه معاناً بالتوفيق، وإنما يكتب سؤال المدعي؛ لأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لإحيائها، فتبين أن كتابة هذا الكتاب كان لسؤال المدعي ليكون معذوراً، ولأن كتاب القاضي حق المدعي، وحق الإنسان إنما يوفى بعد طلبه.
وروي عن محمد رحمه الله أن القاضي الكاتب يذكر في الكتاب أسماء الشهود الذين أشهدهم على الكتاب، فيكتب: وأشهدت فلاناً وفلاناً وفلاناً على كتابي ومضمونه، وسأختم على كتابي بحضرتهم والإشهاد على مضمون الكتاب أمر لازم، لما ذكرنا أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي المكتوب إليه لا يقبل الكتاب حتى يشهد الشهود على مضمون الكتاب، وكذلك الختم بحضرتهم شرط لازم حتى يمكنهم الشهادة على الختم شرط عندهما، واختار بعض المتأخرين كتابة علامته على أوصال قطاع الكتاب وإنه زيادة لا بأس بها، ولا يحتاج إليها؛ لأن بالختم على الكتاب ينتفي احتمال إدخال قطعة فيها وإخراج قطعة عنها، كما ينتفي احتمال التغيير والتبديل.
ولو وقع القاضي على صدر الكتاب وآخره كما في السجلات وغيره، ويكتب في آخره هذا الكتاب كتب عني بأمري بما جرى فيه مني وعندي، وإنه يشتمل على كذا وكذا قطعة وعلى الأوصال على ظاهره مكتوب كذا، وعلى الباطن مكتوب كذا، وسأختمه بخاتمي ونقش خاتمي كذا بذكر هذه الأشياء مبالغة في التوثيق، ولو لم يتوثق به لا بأس به؛ لأنه وقع الأمن بسبب الختم عن الاحتمال.
ثم إذا انتهى الكتاب إلى المكتوب إليه ينبغي للمكتوب إليه أن يجمع بين الذي خاصمه بالكتاب وبين خصمه، يطلبه ولا ينبغي له أن يقبل البينة على أنه كتابة القاضي إلا ومعه خصمه، وإنما يجمع للمكتوب إليه بين المدعي وبين خصمه؛ لأنه يحتاج إلى فصل الخصومة بينهما، وإنما يمكنه ذلك عند حضورهما.
ثم إذا جمع بينهما والمدعي يدعي حقه عليه، ويسأل القاضي المدعى عليه في دعواه، فإن أقر به ألزمه القاضي ذلك بإقراره، ووقع الاستغناء عن الكتاب، وإن جحد دعواه حتى إذا احتاج المدعي إلى إقامة الحجة يعرض الكتاب على القاضي، فإذا عرض، فالقاضي يقول له: ما هذا؟ فيقول كتاب القاضي فلان، فيقول له القاضي: هات البينة على أن هذا كتاب ذلك القاضي لأيعرف حقيقة الحال، فيسأله الحجة على ذلك، والحجة الشهادة.
ولو قبل الكتاب من غير حضرة خصمه جاز، ولو سمع البينة على أن هذا كتاب(8/142)
القاضي من غير حضرة خصمه لا يجوز فحضرة الخصم شرط قبول البينة على الكتاب لا شرط قبول الكتاب، وإنما كان حضرة الخصم شرط قبول البينة على الكتاب؛ لأن القضاء مضاف إلى هذه الشهادة، فلا بد لقبولها من حضرة (الخصم) كما لا بد للقضاء من حضرة الخصم؛ ولأن هذه شهادة في حقوق العباد ولا تقبل الشهادة في حقوق العباد إلا بحضرة الخصم.
وقول محمد رحمه الله في الشروط: وإن قبل ذلك وليس معه خصم حاضر أراد به قبول الكتاب، لا قبول البينة على الكتاب. ثم إذا اشهد الشهود أن هذا كتاب القاضي فلان، مختوم بخاتمه ختمه بحضرتنا، وقرأه علينا وفسروا ما في الكتاب على وجهه وشهدوا به، فالقاضي يقبله.
وفي «نوادر ابن رستم» أنه إذا وصل كتاب إلى القاضي ينبغي للمكتوب إليه أن يسأل الشهود عن القاضي الكاتب أهو عدل؟ فإن عدلوه عمل به وقبله وإن لم يعدلوه لا يقبله ولا يعمل به، وهذا السؤال لازم على الرواية التي تشترط العدالة لصيرورته قاضياً، وعليه الفتوى هذا السؤال بطريق الاحتياط ليكون أبعد عن الخلاف، قال ابن رستم: قلت لمحمد رحمه الله: إن قالوا: هو جاحد، قال: أنظر فيما قضى به، فإن كان موافقاً للحق أمضيته.
ثم القاضي إذا قبل الكتاب ماذا يصنع؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يفتحه، والأولى أن يكون الفتح بحضرة الخصم؛ لأن الفتح لإمكان القضاء مكان القضاء، وإن فتح بغير محضر منه جاز؛ لأن الفتح ليس بقضاء حقيقة.
ثم إذا فتحه نظر فيه إن كان ما فيه موافقاً لما شهد به الشهود، ختم الكتاب بخاتمه ووضعه عنده كما يفعل بالسجلات والمحاضر، وإن كان مخالفاً وهذه الشهادة، فإن كان موافقاً سأل عن الشهود اسم عدل إن كان القاضي لا يعرفهم بالعدالة.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» لا يفتح الكتاب قبل حضور عدالة الشهود؛ لأن الفتح للقضاء وقبل ظهور عدالة الشهود لا يجوز القضاء؛ ولأن الشهود ربما لا يعدلون فيحتاج إلى شهود آخرين ولا يمكنهم أداء الشهادة بعد فتح الكتاب؛ لأنه ليس عليه خاتمه، فيؤدي إلى تضييع الحقوق وما قاله محمد رحمه الله أصح؛ لأن عندهما الشهادة على ما في الكتاب شرط، فلو لم يصح الكتاب حتى يشهدوا بما فيه، فإن ماتوا قبل ظهور عدالتهم أمكن للقاضي القضاء بها؛ لأن الموت بعد تمام الأداء لا يمنع القضاء، وعلى قول أبي يوسف لما لم يشترط شهادتهم على ما في الكتاب واكتفى بشهادتهم على الكتاب والختم لا يحتاج إلى فتح الكتاب قبل ظهور عدالتهم.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله أن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله إذا جاء الرجل بكتاب في حق ينبغي للقاضي أن يحضر المدعى عليه، فإذا أحضره سأل الذي جاء بالكتاب أهو هذا الذي يدعى عليه؟ فإن قال: نعم سأله بعد ذلك أوَكيل أنت في الكتاب أو صاحب الكتاب؟ فإن قال: أنا صاحب الكتاب سأله البينة على أنه كتاب(8/143)
القاضي، وإن قال: أنا وكيل الطالب وأنا فلان بن فلان، فإنه يسأل البينة أنه فلان بن فلان وأن فلاناً وكله.
فرق بين هذا وبينما إذا قال: أنا صاحب الحق حيث لا يسأله القاضي البينة أنه فلان بن فلان؛ لأن شهود الكتاب يشهدون أن القاضي الكاتب كتب هذا الكتاب لأجله، وإذا أشاروا إليه وقع الاستغناء عن الاسم والنسب، فأما إذا قال: أنا وكيل فلان فشهود الكتاب لا يشيرون إليه في شهادتهم بل يشهدون أن القاضي الكاتب كتب الكتاب لأجل فلان الغائب، وأن الغائب وكل المسمى بالاسم والنسب، فلا بد من إثبات اسمه، فلعله وجد الكتاب مطروحاً فأخذه وأراد أن يأخذ بحق غيره، فلا بد من إثبات اسمه ونسبه ومن إثبات الوكالة حتى يصير خصماً يسمع منه دعوى الكتاب، فإن أقام بينة على الكتاب قبل أن يقضى ببينة وكالته القياس أن لا يقبله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان: يقبل، وهو قول محمد، وعن أبي يوسف روايتان، وسيأتي الكلام بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا سمع القاضي البينة على الوكالة والكتاب، فقبل أن تظهر عدالة الشهود عزل القاضي الكاتب، ثم ظهر عدالتهم، قضى القاضي بالأمرين جميعاً، أما بالوكالة فظاهر، وأما بالكتاب: فلأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، فحيث شهدوا بالكتاب وأتوا بجميع الشرائط فقد تم النقل فلا يمنع القضاء بعد ذلك لمكان العزل؛ لأن ذلك لا يخل بالنقل الذي تم به.
وإن عدلت بينة الوكالة ولم تعدل بينة الكتاب حتى عزل القاضي الكاتب، فأراد الوكيل أن يقيم بينة أخرى على الكتاب والختم، لا يقبل ذلك منه؛ لأن العزل وجد قبل تمام النقل، فصار كالعزل قبل الكتاب، وذلك يضيع الكتاب، فهذا يمتنع القضاء به.
وإن عدلت بينة الكتاب ولم تعدل بينة الوكالة حتى عزل الكاتب، فأراد الوكيل أن يقيم البينة على أن فلاناً قد كان وكله يومئذ، وعدلت الشهود، قبلت البينة، وقضى بالوكالة؛ لأنه يقضي بالوكالة في زمان متقدم، وظهر أن بينة الكتاب والختم قامت من الخصم. وهذا التفريع إنما يتأتى على قول محمد رحمه الله، لا على قول أبي حنيفة؛ لأن على قوله البينة على الكتاب قبل القضاء بالوكالة غير مقبولة.
ثم إذا قبل القاضي الكتاب وفتحه وأتى بجميع الشرائط على نحو ما بينا. هل يقضي بما في الكتاب؟ إن علم القاضي أن الذي جاء بالكتاب فلان بن فلان الفلاني، أو أقربه الخصم، أو شهد الشهود أنه صاحب الكتاب يقضي، وإن لم يكن شيء من هذا سأله البينة أنه فلان بن فلان؛ لأن الكتاب ينطق بالحق لفلان بن فلان، فلا بد من أن يعلم المكتوب إليه أنه فلان بن فلان، فلعل الذي جاء بالكتاب غير صاحب الحق تسمى باسم صاحب الحق ليأخذ حقه، وإن سأل البينة قبل ذلك فهو أحسن قصراً للمسافة.
وإن كان المدعي يدعي داراً بالإرث فالقاضي الكاتب كتب في كتابه، وذكر أن فلان بن فلان بن فلان مات، فقد ذكر في تعريف من يتلقى الملك منه (90ب4) بالإرث؛ لأن(8/144)
القضاء بالملك للوارث يحتمه الإرث إنما يكون بواسطة ثبوتها للمورث، فلا بد من معرفته ليمكنه القضاء له ثم ينتقل منه إلى الوارث، وتعريفه بذكر اسمه ونسبه، ثم يكتب: وترك داراً بالكوفة في بني فلان إلى آخر ما ذكرنا، ثم يكتب: وكانت هذه الدار ملكاً وحقاً لفلان بن فلان بن فلان وفي يده وتحت تصرفه إلى أن توفي وخلف فلاناً لا وارث له غيره، وترك هذه الدار المحدودة ميراثاً له، ولا ينبغي أن يكتفي بذكر المدعي لا أعلم له وارثاً غيري؛ لأنه إذا قال: لا أعلم له وارثاً، فما ادعى استحقاق جميع الدار لنفسه بل أظهر الشك في ذلك بالإضافة إلى علمه، فكيف يقضي له بملكية جميع الدار ثم يذكر، وأتاني فلان المدعي بفلان وفلان فشهدوا أن فلان بن فلان توفي إلى آخر ما ذكرنا.
وإذا وقع الدعوى في العقار وطلب المدعي من القاضي أن يكتب له (في) ذلك كتاباً، فهذا على وجهين: إما أن يكون العقار في بلد المدعي ويكون المدعى عليه في بلد آخر، وإما أن يكون العقار في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعي، وإنه على وجهين: إما أن يكون في البلد الذي فيه المدعى عليه أو يكون في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعى عليه، وفي الوجوه كلها القاضي يكتب له بذلك كتاباً؛ لأن العبرة في هذه الغيبة للمدعى عليه.
فبعد ذلك إن كان العقار في البلد الذي فيه المدعى عليه ووصل الكتاب إلى المكتوب إليه يعمل به بشرائطه على ما بينا، ويحكم به للمدعي، وأمر المحكوم إليه بتسليمه إلى المدعي، وإن امتنع المدعى عليه عن التسليم فالقاضي يسلم بنفسه؛ لأن العقار في ولايته فيقدر على تسليمه.
وإن كان العقار في البلد الذي فيه المدعي، فالقاضي المكتوب إليه بالخيار، إن شاء يبعث المدعى عليه، أو وكيله مع المدعي إلى القاضي الكاتب حتى يقضي له عليه، ويسلم العقار إليه، وإن شاء حكم به لوجود الحجة وسجل له وكتب له قضية العقار، ليكون في يده وأشهد على ذلك ولكن لا يسلم العقار إليه؛ لأن العقار ليس في ولايته فلا يقدر على التسليم إلا أن العجز يمنع التسليم، أما لا يمنع الحكم بالملك، فلهذا قال: يحكم بالعقار للمدعي ولكن لا يسلم إليه.
ثم إذا أورد المدعي قضية القاضي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب وأقام بينة على قضائه، فالقاضي الكاتب لا يقبل هذه البينة؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ ذلك القضاء، وتنفيذ القضاء بمنزلة القضاء، فلا يجوز على الغائب ولكن ينبغي للقاضي المكتوب إليه، أنه إذا قضى للمدعي وسجل له بأمر المدعي المدعى عليه أن يبعث مع المدعي أميناً لتسليم الدار إلى المدعي، فإن أبى ذلك كتب المكتوب إليه إلى الكاتب كتاباً، ويحكي كيفية كتابه الذي وصل إليه ويخبره بجميع ما جرى بين المدعي وبين المدعى عليه بحضور المدعي وبحكمه عليه بالعقار وأمره إياه، أن يبعث معه أحداً ليسلم العقار إليه، وامتناعه عن ذلك ثم يكتب، وذلك قبلك وسألني المدعي الكتاب إليك وإعلامك بحكمي له على فلان بذلك ليسلم إليه هذا العقار، فاعمل في ذلك يرحمك الله وإيانا بما يحق لله عليك ويسلم(8/145)
العقار المحدود في الكتاب إلى المدعي فلان بن فلان موصل كتابي هذا إليك، فإذا وصل هذا الكتاب إلى القاضي الكاتب سلم العقار إلى المدعي وأخرجه من يد المدعى عليه.
وإن كان العقار في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعى عليه، فالقاضي المكتوب إليه بالخيار إن شاء بعث المدعى عليه، أو وكيله مع المدعي إلى قاضب البلد الذي فيه العقار، ويكتب إليه كتاباً حتى يقضي للمدعي بالعقار بحضرة المدعى عليه، وإن شاء حكم به للمدعي وسجل له، ولكن لا يسلم العقار إليه على نحو ما بينا فيما إذا كان العقار في البلد الذي فيه المدعي.
فإذا أراد القاضي أن يكتب في العبد الآبق عند أبي يوسف رحمه الله كيف يكتب؟ صورته:
إذا كان لرجل بخاري عبد أبق إلى سمرقند فأخذه رجل سمرقنديٌ فأخبر به المولى، وليس للمولى شهود بسمرقند إنما شهوده ببخارى، فطلب المولى من قاض ببخارى أن يكتب بما شهد الشهود عنده، فالقاضي يجيبه إلى ذلك ويكتب له كتاباً إلى قاضي سمرقند على نحو ما بينا في الديون غير أنه يكتب: شهد عندي فلان وفلان وفلان، أن العبد السندي الذي يقال له فلان حليته كذا وقامته كذا ملك فلان المدعي هذا، وقد أبق إلى سمرقند واليوم في يد فلان بسمرقند بغير حق وشهد على كتابه شاهدان إلى (.
... ) إلى سمرقند، ويعلمهما ما في الكتاب حتى يشهدا عند قاضي سمرقند بالكتاب، وبما فيه فإذا انتهى هذا الكتاب إلى قاضي سمرقند يحضر العبد مع الذي في يديه حتى يشهدا عند قاضي سمرقند بالكتاب وبما فيه حتى تقبل شهادتهما بالإجماع.
فإذا قبل القاضي شهادتهما، وثبتت عدالتهما عنده فتح الكتاب، فإن وجد حلية العبد المذكور فيه مخالفاً لما شهد به الشهود عند القاضي الكاتب رد هذا الكتاب إذ ظهر أن هذا العبد غير المشهود به في الكتاب، وإن كان موافقاً قُبِل الكتاب ودفع العبد إلى المدعي من غير أن يقضي له بالعبد، لأن الشهود لم يشهدوا بحضرة العبد ويأخذ كفيلاً من المدعي بنفس العبد، ويجعل في عنق العبد خاتماً من رصاص حتى لا يتعرض له أحد في الطريق، أنه سرق ويكتب كتاباً إلى قاضي بخارى بذلك ويشهد شاهدين على كتابه وختمه وعلى ما في الكتاب، فإذا وصل الكتاب إلى قاضي بخارى، وشهد الشهود أن هذا الكتاب كتاب قاضي سمرقند وخاتمه، أمر المدعي أن يحضر شهوده الذين شهدوا عنده أول مرة فيشهدون بحضرة العبد أنه ملك هذا المدعي.
فإذا شهدوا بذلك ماذا يصنع قاضي بخارى؟، اختلفت الروايات عن أبي يوسف ذكر في بعض الروايات أن قاضي بخارى لا يقضي للمدعي بالعبد؛ لأن الخصم غائب ولكن يكتب كتاباً آخر إلى قاضي سمرقند، ويكتب فيه ما جرى عنده، ويشهد شاهدين على كتابه وختمه وما فيه ويبعث بالعبد معه إلى سمرقند حتى يقضي له قاضي سمرقند، وشهد الشاهدان عنده بالكتاب والختم وبما في الكتاب وظهرت عدالة الشاهدين، قضى(8/146)
للمدعي بالعبد بحضرة المدعى عليه وأبرأ كفيل المدعي.
وقال في رواية أخرى: إن قاضي بخارى يقضي بالعبد للمدعي ويكتب إلى قاضي سمرقند حتى يبرئ كفيل المدعي، وعلى الرواية التي جوّز أبو يوسف كتاب القاضي في «الأمالي» وصورته ما ذكرنا في العبد غير أن المدعي إذا لم يكن ثقة مأموناً، فالقاضي المكتوب إليه لا يدفعها إليه ولكن يأمر المدعي حتى يجيء برجل ثقة مأمون، فالقاضي المكتوب إليه بدينه وعقله يبعث بها معه؛ لأن الاحتياط في باب الجرح واجب، وإذا مات القاضي الكاتب قبل أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فالمكتوب إليه لا يعمل بهذا الكتاب عندنا.
وقال أبو يوسف في «الأمالي» : يعمل وهو قول الشافعي، ووجهه: أن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، لأنه بكتابه ينقل شهادة الشاهدين الذين شهدوا عنده بالحق إلى القاضي المكتوب إليه، والنقل قد تم بالكتابة فكان بمنزلة شهود الفرع إذا ماتوا بعد أداء الشهادة قبل القضاء، وإنه لا يمنع القضاء.
ولنا: أن القاضي الكاتب وإن كان نقل أداء شهادة الذين شهدوا عنده إلا أن لهذا النقل حكم القضاء، ألا ترى أنه لا يصح هذا النقل إلا من القاضي، ولم يشترط فيه العدد ولفظه: الشهادة، ووجب على القاضي الكاتب هذا النقل بسماع البينة، وما يجب على القاضي بسماع البينة قضاء، فدل أن لهذا النقل حكم القضاء ولم يتم بعد؛ لأن تمامه بوجوب القضاء على المكتوب إليه، ولا يجب القضاء على المكتوب إليه قبل وصول الكتاب إليه وقبل قراءته فلم يكن النقل تاماً، فيبطل بموت القاضي كما في سائر الأقضية إذا مات القاضي قبل إتمامها بخلاف شهود الفرع، إذا ماتوا بعد الشهادة قبل القضاء؛ لأن ما يتوقع من جهتهما أداء موجب للقضاء وقد تم، أما المتوقع من جهة القاضي الكاتب نقل موجب القضاء ولم يتم بعد، ولأن مسألة الكتاب من مسألة الشهادة، إذا قال الشاهد: أشهد ومات قبل تمام الأداء وهناك تبطل الشهادة أيضاً، ولو قبل مع هذا وقضي به ثم رفع إلى قاض آخر أمضاه؛ لأن قضاءه صادف محل الاجتهاد.
وكذلك الجواب فيما إذا مات بعد وصول الكتاب إليه قبل القراءة، لأن وجوب القضاء على المكتوب إليه إنما يكون عند القراءة فقبل القراءة لم يكن النقل تاماً، فيبطل بالموت.
وأما إذا مات بعد وصول الكتاب والقراءة، فإن المكتوب إليه يعمل به هكذا ذكر في «ظاهر الرواية» ، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقضي، والصحيح ما ذكر في «ظاهر الرواية» ؛ لأن المتوقع من قبل القاضي الكاتب نقل الشهادة، وقد تم النقل منه فموته بعد ذلك لا يضر، والمتوقع من قبل المكتوب إليه القضاء وإنه حي، فأمكن القول بوجوب القضاء عليه إذا مات القاضي الكاتب. فإن عزل الكاتب فالجواب فيه كالجواب فيما إذا مات إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وأما إذا مات المكتوب إليه أو عزل واستعمل مكانه قاضٍ آخر، فوصل الكتاب إلى(8/147)
الذي استعمل، هل يعمل به؟ ينظر إن كان في الكتاب وإلى كل من يصل إليه، من قضاة المسلمين يعمل به، وإن كان بخلافه لا يعمل به عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، والصحيح قولنا؛ لأن القاضي الكاتب اعتمد على (91أ4) علم الأول وأمانته، والقضاة يتفاوتون في أداء الأمانات؛ لأنهم غير معصومين عن الخيانة، فصاروا كالأمناء في الأموال، وثمة التعيين صحيح، فكذا هاهنا. وإذا صح التعيين ظهر أن الثاني غير المكتوب إليه وغير المكتوب إليه، لا يملك القضاء بالكتاب، بخلاف ما إذا كان في الكتاب، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين؛ لأن هناك اعتمد على علم الكل وأمانتهم فكان الكل مكتوباً إليهم، أما هاهنا بخلافه.
وقال في كتاب الحوالة: وإذا جاء الرجل بكتاب القاضي إلى قاضٍ آخر، فلم يجد خصمه ثمة، فسأل الطالب القاضي المكتوب إليه أن يكتب له إلى قاض آخر بما أتاه من القاضي الأول فعل إذا ثبت عنده ذلك، وشرط الثبوت ما ذكرنا؛ وهذا لأن شهادة الشهود الذين شهدوا عند القاضي الكاتب صار منقولاً إلى المكتوب إليه حكماً، فيعتبر بما لو شهدوا عنده حقيقة ولو شهدوا عنده حقيقة وطلب المدعي من القاضي أن يكتب له كتاباً إلى قاضي البلد الذي خصمه هناك، أليس أنه يكتب له كتاباً؟ كذا هنا، إلا أن القاضي المكتوب إليه إنما يكتب بقدر ما ثبت عنده، والثابت عنده كتاب القاضي الأول بالحق على الغائب لا نفس الحق، فيكتب ويفسخ كتاب القاضي الأول؛ لأنه هو أصل الحجة وإن شاء حكاه ذلك في كتابه، وكذلك إن كان المدعي، قال للقاضي الأول: إني لا آخذ من الشهود من يصحبني إلى بلد الخصم فاكتب إلى قاضي بلد كذا، فكتب ذلك القاضي إلى قاضي بلد الخصم، أجابه القاضي إلى ذلك، فإن الإنسان عسى يصير مبتلى بهذه فربما لا يجد من بلد الكاتب، فلعله يذهب إلى بلد الخصم، ويجد قافلة من بلدة أخرى يذهب إلى بلد الخصم، ومن هذه البلدة إلى تلك البلدة، وكذلك على هذا لو عرض الشهود الذين على الكتاب فأشهدوا على شهادتهم جاز ذلك.
وإذا شهد الفروع على شهادة الأصول على الكتاب بما ذكرنا من الشرائط عند المكتوب إليه فإنه يقبله؛ لأن الشهادة على الشهادة حجة في إثبات الحقوق التي تثبت مع الشبهات، فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة، فيثبت بشهادة الفروع شهادة الأصول، ويثبت بشهادة الأصول كتاب القاضي إليه، فلو كان المدعي قال للقاضي الأول: اكتب لي إلى قاضي مرو أو إلى قاضي نيسابور حتى أذهب إلى مرو، فإن وجدت خصمي ثمة وإلا ذهبت إلى قاضي نيسابور، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يجيبه (إلى) ذلك؛ لأنه توسع في هذا الباب حتى جوّز الكتاب إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين للحاجة، والجهالة فيه أعظم، فإن كان يجوز ثمة فهاهنا أولى، وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يكتب على هذا الوجه؛ لأن جهالة المكتوب إليه عندهما مانعة صحة الكتاب.
ولو كان كتب إلى قاضي مرو فوجد الطالب خصمه هناك وأقام البينة على الكتاب(8/148)
بشرائطه عند قاضي مرو بحضرة المطلوب ثم هرب المطلوب قبل أن تظهر عدالة الشهود، وذهب إلى سرخس، ثم ظهرت عدالة الشهود، قال أبو يوسف رحمه الله: ليس للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى قاضي سرخس.
وقال محمد رحمه الله: له ذلك، وهذه المسألة فرع مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهو أن الرجل إذا ادعى على آخر مالاً، وأقام البينة بمحضر من المطلوب وجحوده، ثم هرب المطلوب ليس للقاضي أن يقضي بتلك البينة عند محمد رحمه الله؛ لأن القضاء لإلزام الحق، وليس للقاضي ولاية على الغائب فلا يصح الإلزام عليه بالقضاء؛ ولأنه لم يظهر عجزه عن الطعن بسبب الغيبة، فلعله ذهب ليأتي بالدفع فلا يجوز القضاء.
وقال أبو يوسف رحمه الله: له أن يقضي عليه بتلك البينة؛ لأن حضرة الخصم لأجل سماع البينة عليه، إنما شرطت للجحود الذي هو شرط سماع البينة وليصير الحال معلوماً للمدعى عليه، حتى لو كان له دفع يأتي به وقد جحد ولم يأت يدفع حتى هرب، فدل على عجزه عن الدفع، فكان للقاضي أن يقضي عليه وقياسه على ما لو أقر المدعى عليه ثم غاب، وهناك القاضي يقضي عليه بإقراره كذا هنا.
ومحمد رحمه الله فرق بين الإقرار وبين البينة، والفرق أن الإقرار يوجب الحق بنفسه من غير اتصال القضاء به، فلم يكن في القضاء حال غيية الخصم إلزام الحكم على الغائب، فأما الشهادة لا توجب الحق بنفسها قبل اتصال القضاء بها، فلو قضى بها حال غيبة الخصم كان فيه إلزام الحكم على الغائب، وإنه لا يجوز ولاية لو جاز القضاء بالبينة مع غيبة الخصم يفسد عليه الطعن مع البينة، فلا يقضى حتى لا يفوت حقه في الدفع والطعن بخلاف الإقرار، فإنه لاحق له في الطعن، فلهذا اختار، والظاهر من قول أبي حنيفة أنه مع محمد رحمهما الله، وإذا كان له أن يقضي مع غيبة المطلوب عند أبي يوسف رحمه الله لا حاجة إلى الكتاب فلا يكتب.
وعند محمد رحمه الله لما لم يكن له أن يقضي، وقد ظهر عنده وثبت كتاب القاضي وما فيه كان له أن يكتب إلى غيره إحياء لحق المدعي، فإن رجع الطالب إلى القاضي الكاتب الأول وقال: اكتب لي إلى قاضي بلدة أخرى؛ لأني لم أجد خصمي في تلك البلدة، فإنه لا يكتب له في ذلك حتى يرد عليه ذلك الكتاب؛ لأنه مبهم فيما يقول إذ يجوز أنه وجد خصمه واستوفى حقه، فلما ارتحل خصمه إلى بلدة أخرى أراد أن يحتال بهذه الحيلة ليأخذ منه ثانياً، فيحتاط القاضي ولا يكتب حتى يرد عليه ذلك الكتاب، فإذا رد الآن يكتب، فالإنسان قد يصير مبتلى بهذا بأن يرتحل خصمه من بلدة المكتوب إليه إلى بلدة أخرى، وما ذكرنا من الاحتمال قد زال برد الكتاب؛ لأن القاضي المكتوب إليه لو أخذ المدعى عليه بحق المدعي لا يترك المدعي حتى يذهب بالكتاب، فيكتب ثانياً إحياء لحق المدعي.
ولو أن القاضي الكاتب أراد أن يكتب له ثانياً قبل رد ذلك الكتاب عليه مع أنه ليس(8/149)
(ينبغي) ذلك ينبغي أن يبين في الكتاب، أنه قد كتب له مرة إلى قاضي بلدة كذا بهذه النسخة ليزول به الالتباس، وكذلك لو أن الطالب قال: قد ضاع مني الكتاب وطلب من القاضي أن يكتب له ثانياً، يكتب لما قلنا وبين في الكتاب أنه قد كتب له بهذه النسخة مرة وإنه زعم أنه ضاع حتى يزول به الالتباس.
قال في «أدب القاضي» : وإذا كتب كتاباً بحق لرجل، فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر الخصم الذي أخذ الكتاب عليه، فقدمه إليه فإنه لا ينبغي للقاضي أن يقضي عليه بذلك حتى يعيد المدعي البينة على ذلك بحضرته؛ لأنه إنما سمع تلك البينة للنقل لا للقضاء، فصار بمنزلة شاهد الفرع إذا تحمل الشهادة عن الأصل ثم استقضى لم يكن له أن يقضي بشهادة الأصل حتى يشهدوا عنده ثانياً على الحق؛ لأنه إنما سمع منهم تلك الشهادة ليتحمل شهادته عليها لا ليقضي بها، فلم يجز له أن يقضي بها، وهذا لأن البينة للقضاء شرط صحتها حضرة الخصم وتقدير جحوده ولم يوجد فلا يجوز القضاء بها.
وإن كتب القاضي إلى الأمير الذي استعمله أي قلده، وهو معه في المصر: أصلح الله الأمير وقص القصة والشهادة وبعث بالكتاب معه ثقة يعرفه الأمير، فإن أمضاه الأمير فهو جائز، وإن لم يكن معنوناً ولا مختوماً، ولا شهد عليه الشهود أنه كتاب القاضي وختمه وهذا استحسان.
والقياس أن لا يجوز إذا لم يكن عليه عنوان باسم القاضي، واسم الأمير واسم آبائهما وأجدادهما، ولا يكون مختوماً ولا شهد عليه شاهدان؛ لأن الكتاب إذا لم يكن مختوماً لا يؤمن فيه الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل؛ ولأنه بدون الشهادة والعنوان لا يثبت أنه كتاب القاضي إليه فوجب أن لا يقبل كما إذا كان الأمير في مصر آخر وكما في كتاب القاضي إلى القاضي.
وجه الاستحسان: أن كتاب القاضي إلى الأمير في المصر ينكر؛ لأنه يستعين به في كل ما يعجز بنفسه، فلو شرطنا هذه الشرائط أدى (إلى) حرج بخلاف ما إذا كانا في مصرين؛ ولأنه قل ما يتجاسر أحد على التغيير في الكتاب إلى الأمير إذا كانا في مصر واحد؛ لأنهما يلتقيان عن قريب، فيتذاكران ما نقل أحدهما إلى الآخر فيقفان على التغيير لو حصل فلا يتجاسر أحد على ذلك، بخلاف ما إذا كان في مصر آخر؛ لأنه لا يقف على التغيير فيبالغ في الاحتياط.
قال في «الأصل» : ولا يُقبل كتاب برستاق أو قرية ولا كتاب عاملها، وإنما يقبل كتاب قاضي مدينة فيها منبر وجماعة. وهذا على «ظاهر الرواية» ؛ لأن على «ظاهر الرواية» : المصر شرط لنفاذ القضاء، ولكتاب القاضي حكم القضاء، أما على الرواية التي لم يشترط المصر فيها لنفاذ القضاء يقبل كتاب الرستاق وقاضي القرية.
ولو أن رجلاً في يديه أمة أقام الآخر البينة أنها له، وقضى القاضي له فقال الذي في يديه: إني اشتريتها من فلان وهو في بلد كذا وقد دفعت الثمن إليه فاسمع شهودي واكتب لي، فإنه يكتب له في ذلك بما يصح عنده، لأنه يريد الرجوع بالثمن وإنه دين،(8/150)
فصار بمنزلة سائر الديون، فيكتب فيه القاضي كما في سائر الديون.
ولو أن جارية في يدي رجل ادعت أنها حرة الأصل (91ب4) بعد ما أقرت بالرق وأقامت البينة قضى القاضي بحريتها؛ إما لأن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في الحرية؛ لأنها لا تحتمل الفسخ؛ أو لأن دعوى الأمة ليست بشرط لسماع البينة على حريتها. فإن أقام الذي في يديه البينة على أنه اشتراها من فلان الغائب بكذا ونقده الثمن، وطلب من القاضي الكتاب يجيبه إلى ذلك؛ لأنه يريد الرجوع بالثمن وإنه دين. ولو أنها لم تقم البينة على حريتها ولكن ادعت الحرية وأنكرت إقرارها بالرق، ولم يكن لذي اليد بينة على إقرارها بالرق جعلها القاضي حرة؛ لأنها في يد نفسها، والقول قولها بغير يمين عند أبي حنيفة خلافاً لهما، فإنهما يجعلان عليها اليمين.
فإن قال ذو اليد: إني اشتريتها من فلان ونقدته الثمن فاسمع من شهودي لأرجع عليه بالثمن لا يجيبه إلى ذلك بخلاف المسألة الأولى. والفرق أن في هذه المسألة القاضي ما قضى بحريتها بل تركها على ما كانت، وقد كانت على الحرية بحكم ظاهر الدار؛ لأن الدار دار الإسلام، ومن كانت في دار الإسلام فالظاهر أنها حرة، لكن لم يكن يحكم بحريتها قبل دعواها؛ لأن سكوتها مخالف لذلك الظاهر، فإذا ادعت الحرية فقد تقرر حكم ذلك الظاهر فتركها القاضي على ما أوجبه الظاهر، لا أن الحرية وجبت بقضائه، وإذا لم يكن هذا قضاء بالحرية لم تظهر الحرية في حق البائع، فلا يكون للمشتري حق الرجوع على البائع أما في المسألة الأولى القاضي قضى بالحرية وأوجبها بالبينة، وإنه قضاء على الناس كافة، فتظهر الحرية في حق البائع فيستحق لهما الرجوع على البائع.
وكذلك إذا ادعت حرية الأصل بعدما أقرت بالرق وصدقها صاحب اليد لا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الحرية إنما ظهرت بإقرار صاحب اليد، وإقراره لا يكون حجة على البائع، وكذلك إذا أنكرت الرق ابتداء، وادعت حرية الأصل حتى كان القول قولها لا يكون للمشتري أن يرجع بالثمن على البائع، فإن أراد المشتري أن يحلف البائع في هذين الفصلين ما يعلم أنها حرة الأصل يريد به الرجوع بالثمن على البائع فله ذلك؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف فإن حلف لا شيء عليه، وإن نكل فقد أقر بما ادعاه المشتري فيلزمه رد جميع الثمن.
فإن قيل: كيف يحلف البائع هاهنا، وإن التحليف يترتب على دعوى صحيحة ودعوى الحرية من المشتري لم تصح لمكان التناقض، فإن الإقدام على الشراء إقرار بالرق عليها قلنا: لا بل دعوى الحرية من المشتري صحيحة مع تناقضها لما عرف أن التناقض لا تمنع صحة دعوى الحرية، فلو أن المشتري في هذين الفصلين لم يطلب تحليف البائع ولكنه أراد أن يقيم البينة على حريتها يريد به الرجوع بالثمن على البائع، سمعت بينته.
فرق بين هذا وبينما إذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل وأقر صاحب اليد بالعين له لا يكون لصاحب اليد أن يرجع على بائعه بالثمن، فلو قال صاحب اليد: أنا أقيم البينة على(8/151)
أنه ملك المدعي يريد به الرجوع على البائع لا تسمع بينته، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن في فصل الاستحقاق بينة المشتري قامت على إثبات ما هو ثابت؛ لأنها قامت على إثبات الملك للمستحق والملك للمستحق ثابت بإقرار المشتري، أما في فصل الحرية بينة المشتري قامت على إثبات ما ليس بثابت؛ لأن المشتري بينته تثبت أن البائع غاصب للثمن، لأن الحرة لا تدخل تحت العقد أصلاً وبدلها لا يصير ملكاً للبائع، فهو بهذه البينة يثبت أن البائع قبض مال المشتري بغير حق، وهذا هو تفسير الغصب والغصب لم يكن ثابتاً. أما المشتري في فصل الاستحقاق لا يثبت غصب البائع الثمن؛ لأنه لا يثبت أن ما أخذه البائع أخذه بغير حق؛ لأن بدل المستحق مملوك ولكن يثبت الملك للمستحق في المحل ليثبت لنفسه حق فسخ العقد، وفيما يرجع إلى الملك البينة قامت على إثبات ما هو ثابت.
الفرق الثاني: أن في الفصلين جميعاً المشتري متناقض إلا أن التناقض لا يمنع دعوى الحرية ويمنع دعوى الملك.
ولو أن رجلاً أورد على قاض كتاباً من قاض على رجل بحق فوافى البلد وقد مات المطلوب، فأحضر الطالب ورثة المطلوب أو وصيه وجاء بالكتاب إلى القاضي وأحضر شهوده على الكتاب بمحضر من الوارث أو القاضي، فالقاضي يقبل الكتاب ويسمع من شهوده على الكتاب بمحضر من الوارث أو الوصي وينفذ ذلك، سواء كان تاريخ الكتاب بعد موت المطلوب أو قبله؛ لأن الوارث خليفة المورث والوصي نائب عن الميت، فيكون قائماً مقام الميت. ألا ترى أن الطالب لو أقام بينة بالحق على الميت كان الوارث والوصي هو الخصم كذا هنا.
وإذا ورد على قاض كتاب قاض آخر بشيء لا يراه هذا القاضي وهو مما اختلف فيه الفقهاء، فإنه لا ينفذه؛ لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، ثم شهود الفرع إذا شهدوا بحق عند القاضي وهو لا يرى ثبوت ذلك الحق وهو مما اختلف فيه العلماء فإنه ينفذه ويمضيه. والفرق وهو أن السجل لا يكون إلا بعد القضاء، والقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه، فينفذ فلا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله، فأما الكتاب يكون قبل القضاء، فكان للقاضي الذي ورد عليه الكتاب أن يتبع رأي نفسه.
وإلى هذا الفرق أشار الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» ، فقال: لأن كتاب القاضي ليس بقضية، إنما هو بمنزلة الشهادة ولئن سلمنا أن كتاب القاضي قضاء إلا أنه ليس بقضاء من كل وجه بل هو قضاء من وجه دون وجه، فمن حيث إنه قضاء إن كان يجب على الثاني العمل به، فمن حيث إنه ليس بقضاء لا يجب فلا يجب العمل به على الثاني بالشك.
ولو أن رجلاً أورد على قاضٍ كتاباً من قاض بحق على رجل، وكان في الكتاب اسم المدعى عليه ونسبه وصناعته وفخذه، وفي تلك الصناعة أو في تلك الفخذ اثنان على ذلك الاسم والنسب لم يقبل القاضي الكتاب حتى يقيم البينة على المطلوب أنه هو الذي(8/152)
كتب فيه الكتاب؛ لأن التعريف لا يقع بهذا إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وإن لم يكن في تلك القبيلة أو الصناعة اثنان على ذلك الاسم أنفذ القاضي الحكم عليه؛ لأنه وقع التعريف بهذا.
فإن قال: المطلوب في هذا الفخذ، أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب، فهذا على وجهين:
إن قال: أنا أقيم البينة أن في هذا الفخذ أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب تقبل هذه الشهادة وتندفع الخصومة؛ لأنه إذا كان فيه رجل آخر بهذا الاسم في الحال لا يتعين هو المطلوب.
وإن قال أنا أقيم البينة أنه كان في هذا الفخذ أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب وأنه مات لم أقبل ذلك منه إلا أن يكون موت فلان بعد تاريخ الكتاب وشهادة الشهود بالحق في كتاب القاضي الآن، وتندفع الخصومة؛ لأنه إذا كان فلان مات قبل تاريخ الكتاب تعين الباقي مطلوباً، وإذا مات فلان بعد تاريخ الكتاب لم يتعين فيبقى الاشتباه.k
وإن قال الخصم: أنا فلان بن فلان الفلاني وليس لهذا علي شيء لم أقبل ذلك منه ولم يكن في هذا حجة له؛ لأنه أقر أن المكتوب في الكتاب هو، فلا يكون جحوده الحق حجة له.
ولو قال: لي حجة، أني دفعت المال إليه أو أبرأني، وإني مخرج قبل القاضي منه، لأنه يدعي المخرج منه وإسقاط الحق فتقبل حجته على ذلك.
وإن قال الخصم لست بفلان بن فلان الفلاني والقاضي المكتوب إليه لا يعرفه، فعلى الرجل الذي يأتي بالكتاب أن يقيم البينة أنه فلان بن فلان بعينه؛ لأن القاضي لم يعرف المطلوب، فيحتاج المدعي إلى إقامة البينة على أنه بعينه حتى يتمكن القاضي من القضاء عليه، وإن كان الكتاب على ميت أحضر القاضي بعض ورثته وسمع من الشهود وقبل الكتاب؛ لأن بعض الورثة ينتصب خصماً فيما يدعى على الميت.
ولو أن هذا القاضي لم يأته بالكتاب من القاضي لكنه أتاه برسالة من القاضي مع رجل بمثل ما يكون في الكتاب، وأشهد على ذلك، لم يقبل القاضي هذه الرسالة. وفرق بين الرسالة والكتاب، والفرق من وجهين.
أحدهما: أن القياس يأبى الرسالة كما يأبى الكتاب لبعض ما ذكرنا من المعاني في الكتاب، لكن عرفنا جواز الكتاب بالأثر وبإجماع التابعين (92أ4) ولا أثر ولا إجماع في الرسالة فيعمل فيها بالقياس.
الفرق الثاني: أن الكتاب من القاضي الكاتب جعل كالخطاب بنفسه للقاضي المكتوب إليه، والكتاب وجد من موضع القضاء، فكان الخطاب موجوداً من موضع القضاء فيكون حجة، أما في الرسالة، الرسول ينقل خطاب المرسل في هذا الموضع، والمرسل في هذا الموضع ليس بقاض، وقول القاضي في غير موضع قضائه كقول واحد من الرعايا.(8/153)
ونظير هذا ما روي عن محمد في مصر فيه قاضيان في كل جانب منه قاض على حدة، فيكتب أحدهما إلى الآخر كتاباً قبل المكتوب إليه. ولو أتى أحدهما إلى صاحبه وأخبره بالحادثة بنفسه لم يقبل قوله؛ لأن في الوجه الأول الكاتب خاطبه من موضع القضاء وفي هذا الوجه الأول خاطبه من غير موضع القضاء.
وكذلك لو أن قاضيين التقيا في عمل أحدهما أو في مصر ليس من عملهما، فقال أحدهما للآخر: قد ثبت عندي لفلان بن فلان بن فلان الفلاني كذا كذا، فاعمل بذلك بما يحق لله تعالى عليك، لم يقبل ذلك منه ولم ينفذه؛ لأن في الوجه الأول: الخطاب أو السماع وجد في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فصار كخطاب غير القاضي أو كسماعه وهو غير قاض، فلا يجوز أن يعتمد في القضاء به. وفي الوجه الثاني: الخطاب والسماع وجدا في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فكان كخطاب غير القاضي لغير القاضي بخلاف كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن خطاب الكاتب وجد في موضع ينفذ قضاؤه فيه، وسماع المكتوب إليه وجد أيضاً في موضع ينفذ قضاؤه فيه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل له على رجل غائب مال مؤجل، سأل من القاضي أن يكتب له بذلك كتاباً، فإنه يجيبه إلى ذلك ويكتب له، ويذكر فيه الأجل على ما شهد به الشهود؛ وهذا لأن الطالب يحتاج إلى إثبات المال المؤجل كما يحتاج إلى إثبات المال الحال؛ لأن الدين كما يكون حالاً يكون مؤجلاً، ولو انتظر محل الأجل عسى يغيب شهوده فيتعذر إليه الوصول إلى حقه، فقلنا بأنه يكتب إحياء لحقه، ولكن ينبغي أن يذكر الأجل في الكتاب كما شهد به الشهود حتى لا يطالبه قبل محل الأجل، فمطلق الدين يتصرف إلى الحال التي يثبت فيه التأجيل.
قال: وإذا ادعى المطلوب أن الطالب قد أبرأني عن كل قليل وكثير، وقال: قضيت الدين الذي له علي وأقام على ذلك بينة، وقال للقاضي: إني أريد أن أقدم البلدة التي فيها الطالب وأخاف أن يأخذني بالمال ويجحد الإبراء والاستيفاء وشهودي هاهنا فاسمع من شهودي واكتب لي إلى ذلك القاضي، فإنه لا يسمع من شهوده ولا يكتب له في ذلك على قول أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يكتب، وأجمعوا على أنه لو قال: جحدني الاستيفاء مرة وخاصمني مرة، فأنا أخاف أن يخاصمني مرة أخرى، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي ذلك البلد إنه يكتب، فوجه قول محمد: أن جواز كتاب القاضي إلى القاضي باعتبار الحاجة، والحاجة هنا ثابتة، فإنه لو حضر تلك البلدة ربما يأخذه الطالب بالمال، وليس له ثمة شهود على الإبراء، فيحتاج إلى العود إلى بلد الشهود وإقامة الشهود عند القاضي، وأخذ الكتاب منه وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: قبول البينة يعتمد جحوداً حقيقة أو جحوداً مخبراً به ولم يوجد كلاهما بخلاف ما إذا قال: جحدني الاستيفاء مرة أخرى؛ لأن الجحود صار مخبراً به إن لم يوجد حقيقة.(8/154)
فالحاصل: أن حقيقة الجحود من الحاضر يشترط لسماع البينة عليه ليقضي عليه، ومن الغائب يشترط خبر الجحود ليسمع البينة عليه ويكتب؛ ولأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهييجها، وفي هذا تهييج الخصومة؛ لأن الخصومة ما توجهت بعد، فلهذا لا يجيبه إليه، ألا ترى أن الطالب لو كان حاضراً وقدمه المطلوب إلى القاضي وادعى عليه الإبراء أو الاستيفاء وطلب من القاضي أن يسأله عن ذلك حتى لو أنكر أقام عليه البينة، فإنه لا يجيبه إلى ذلك، فلما لم يسمع منه ذلك حال حضرته، فحال غيبته أولى.
بخلاف ما لو قال: خاصمني مرة؛ لأن هناك الخصومة قد هاجت، فكانت الكتابة لفصلها وقوانين مسألة الاستشهاد، وبينما إذا أحضرت المرأة زوجها إلى القاضي، وقالت: إنه طلقني ثلاثاً وانقضت عدتي وتزوجت بزوج وإني أخاف أن ينكر الطلاق بعد ذلك، فاسأله حتى إذا أنكر أقمت عليه البينة فإن القاضي يسأله، والفرق ظاهر وهو أن القياس فيهما واحد وهو ما ذكرنا، إلا أنا تركناه ثمة احتياطاً؛ لأن الباب باب الفرج، والاحتياط في باب الفرج واجب.
ومن جنس مسألة دعوى الإبراء على الغائب مسألتان أخراوان:
إحداهما: مسألة الشفعة. وصورتها: رجل قال للقاضي: إني اشتريت داراً وفلان الغائب شفيعها وقد سلم الشفعة، وأجازني إذا ذهبت ثم يأخذني بالشفعة وينكر التسليم ويطلب منه أن يسمع البينة على التسليم ويكتب بذلك فهو على الخلاف الذي قلنا.
الثانية: مسألة الطلاق. وصورتها: امرأة قالت للقاضي: طلقني زوجي ثلاثاً وهو في بلد كذا اليوم، وأنا أريد أن أذهب إلى تلك البلدة وأخاف أن زوجي ينكر طلاقي فاسمع من شهودي، واكتب إلى قاضي تلك البلدة، فالقاضي هل يجيبها؟ فهو على الخلاف الذي ذكرنا.
فإن كان هذا الذي حضر القاضي أخبره عن الجحود والخصومة مرة سمع بينته وكتب له بذلك بلا خلاف. ولو كان الطالب أبرأ المطلوب عند القاضي أو كان الشفيع سلم الشفعة عند القاضي أو كان الزوج طلق المرأة عند القاضي، فالقاضي يكتب ما سمع منهم وهذا على أصل محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن العلم الحاصل بالمعاينة فوق العلم الحاصل بالبينة، فلما كان القاضي يكتب ثمة فهاهنا أولى. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن لا يكتب لما مر.
وإذا أراد القاضي أن يكتب بعلمه فاعلم بأن كتاب القاضي بعلمه بمنزلة قضائه بعلمه؛ لأن كتاب القاضي له حكم القضاء من وجه، ففي كل موضع جاز له أن يقضي بعلمه جاز له أن يكتب بعلمه، وقد ذكرنا فصل القضاء بالعلم قبل هذا ما فيه اتفاق وما فيه خلاف، فهذا بناء على ذلك.
إلا أن في فصل الكتابة اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في صورة، وهو ما إذا علم بالحادثة قبل أن يستقضي ثم استقضى بعضهم، قالوا: لا يكتب بذلك العلم، كما لا(8/155)
يقضي بذلك العلم، وبعضهم قالوا: يكتب. وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين الكتابة والقضاء، والفرق أن جواز القضاء ينبني على علم القضاء، والعلم الحاصل قبل الاستقضاء علم شهادة لا علم قضاء، أما جواز كتاب القاضي لا ينبني على علم القضاء بل يكتفى به بعلم الشهادة، ألا ترى أنه لو شهد عند القاضي شاهدان وكتب ثم حضر المكتوب عليه ليس له أن يقضي بذلك العلم، وقد جاز له الكتابة به، علم أن جواز الكتابة لا ينبني على علم القضاء.
قال محمد رحمه الله في كتاب الوكالة: رجل وكل رجلاً بالخصومة في دار في غير مصره بقبضها أو بإجارتها، وأراد كتاب القاضي فالقاضي يكتب له في ذلك؛ لأن الوكالة تثبت مع الشبهات فتثبت بكتاب القاضي إلى القاضي، فبعد ذلك إن كان القاضي عرف الموكل أثبت معرفته، وإن لم يعرف يكتب وقد سألته البينة على أنه فلان بن فلان على نحو ما بينا ثم يكتب وقد وكل فلان بن فلان يذكر اسم الوكيل ونسبه على ما قد بينا من رسم الكتابة، فإن كان وكله بقبض الدار يكتب وكله بقبض داره التي بالكوفة في بني فلان، وإذا كان وكله بالخصومة فيها يكتب وكله بالخصومة في داره التي بالكوفة، فالحاصل أنه ينبغي للقاضي أن يذكر في الكتاب ما يوكله به؛ لأنه هو المقصود، ثم إن كان الوكيل حاضراً أجاز زيادة في التعريف، وإن ترك لم يضره، وإن كان غائباً بالكوفة يكتب وكل رجلاً، ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان الفلاني، فهذا إشارة إلى أن توكيل الغائب صحيح، وهو المذهب لعلمائنا إلا أنه لا يلزم الوكيل قبل قبوله دفعاً للضرر عنه، كما في توكيل الخاص.
ثم إذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فالقاضي يحضر الذي في يديه الدار ويسأل البينة على الكتاب والحاكم بحضرته ويفتح الكتاب بعدما قامت البينة عليه ويقرؤه على الشهود حتى يشهدوا على ما فيه، وبعدما زكوا سأل الوكيل البينة أنه فلان (92ب4) بن فلان، فإن أقامها سأل الذي في يديه الدار عن الدار فإن أقربها للموكل أمر بدفعها إليه، وإن سأل الوكيل البينة أنه فلان بن فلان بن فلان قبل أن يسأل البينة على الكتاب فحسن وهذا على قول محمد رحمه الله.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يسأل الوكيل أنه فلان بن فلان بن فلان الفلاني، ثم يسأل البينة على الكتاب، وقد ذكرنا جنس المسألة فيما تقدم، وكذلك الجواب في الوكالة في الدواب والرقيق والعروض والوديعة والدين، لأن الوكالة جائزة في جميع هذه الأشياء فيقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.
قال: وللوكيل بالخصومة في الدار أن يخاصم من نازعه عملاً بإطلاق التوكيل، ولو كان الموكل سمى رجلاً بعينه فليس له أن يخاصم غيره، لأن التعيين في الخصومة مفيد فلعل الموكل عرف أن الوكيل يقدر على الخصومة مع هذا الرجل ولا يقدر عليها مع رجل آخر، وليس للوكيل بالإجارة إلا أن يؤاجر الدار ويكون خصماً لمن أجرها منه؛ لأن(8/156)
حقوق العقد ترجع إلى العاقد وهو العاقد، ولا يكون له أن يخاصم مع غيره؛ لأنه لم يوكله بالخصومة مع غيره.
قال: وإذا وكلت المرأة بمهرها ونفقتها وكيلاً وطلب من القاضي كتاباً في ذلك ينبغي للقاضي أن يذكر في كتابه: وذكرت أن لها على زوجها فلان بن فلان من المهر كذا وقد وكلت فلان بن فلان بقبض ذلك من زوجها، وبالخصومة فيه إن أنكر، وإنما كتب: وبالخصومة فيه تحرزاً عن قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما الوكيل بقبض الدين لا يملك الخصومة، ويكتب أيضاً: يطلب نفقتها من زوجها وبالخصومة فيها، فإذا وصل الكتاب إلى القاضي بحضرة الزوج وسأله عن المهر، فإن أقربه أمر بدفعه إلى الوكيل.
ولو كانت وكلته بمهرها وبالخصومة في نفقتها، حتى يفرض لها كل شهر نفقة مسماة، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه لا تقبل البينة إلا بحضرة الزوج؛ لأنه هو الخصم، فإذا ثبت ذلك عنده سأله عن المهر، فإن أقر به أخذ منه ويفرض من النفقة والكسوة ما يصلحها؛ لأن الموكلة لو حضرت وطالبته بذلك، ويثبت النكاح بالمهر عند القاضي أمره بأداء المهر وفرض عليه نفقتها، وكذلك يفعل ذلك بخصومته عنها بوكالتها.
قال في كتاب «الأقضية» : وإذا وكل الرجل رجلاً بالخصومة في عيب خادم (استرده) وأخذ بذلك كتاب القاضي لم يجز؛ لأن الخادم لا يرد حتى يحضر الموكل وهو المشتري فيحلف بالله ما رضي بالعيب؛ وذلك لأنه لو لم ينتظر يمين الموكل ورد بالعيب يلحق البائع ضرر ولا يمكن تداركه؛ لأن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً فلا يقع التدارك بالنكوك بخلاف فصل الدين، وقد ذكرنا ذلك في موضع فلهذا لا يرد، وإذا لم يكن للوكيل ولاية الرد إلى أن يحضر الموكل وهو المشتري ويحلف لم يكن في كتاب القاضي فائدة، فلهذا لم يجز. ثم ذكر هاهنا أن الوكيل لا يملك الرد بالعيب إلى أن يحضر المشتري ويحلف بالله ما رضي بالعيب، وإن لم يدع البائع رضا المشتري، هكذا ذكر الخصاف والجصاص وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله.
وذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» أن الوكيل يملك الرد بالعيب إلا إذا ادعى البائع رضا المشتري وحد ما ذكر هنا أن على القاضي صيانة قضائه عن النقص وجميع أنواع البينة وصيانة حق العباد، وذلك بانتظاره المشتري واعتبر بما إذا أراد المشتري الرد بالعيب بعد موت البائع، فإن القاضي يستحلف المشتري بالله ما رضي بالعيب وإن لم يدع الوارث ذلك.
وجه ما ذكر في «المبسوط» : أن القاضي نصب لفصل الخصومات، لا لإنشائها، وفي الاستحلاف بدون طلب المدعي إنشاء الخصومة، وهذا لا يجوز، ألا ترى أنه لا يستحلف الولي في باب القصاص بالله ما عفى بدون طلب القاتل، والقصاص مما يدرئ(8/157)
بالشبهات، فلأن لا يستحلف هاهنا أولى؛ ولأن الاستحلاف لنظر البائع، والبائع قادر على النظر لنفسه، بأن يدعي الرضا على البائع، فإذا ترك الدعوى لم ينظر لنفسه والقاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر بنفسه، فلهذا يستحلف له الولي على بلدة من بلاد المسلمين إذا أراد أن يكتب الكتاب الحكمية، فإن كان الخليفة قد ولاه القضاء جاز وإن لم يوله لم يجز، وهذا لأن الولاية تقبل التخصيص والتعميم فينظر إلى سببها وهو التقليد، فإن كان التقليد خاصاً تتخصص ولايته، وإن كان عاماً تتعمم ولايته، وإن لم يكن فيه ما يدل على التعميم لا تتعمم ولايته؛ لأنه عديم الولاية في الأصل، فإنما يثبت له بقدر ما أثبت له، وإذا لم يدخل القضاء في ولايته لا يصح فيه الكتاب الحكمي، إنما يصح ممن يصح منه القضاء؛ لأن له حكم القضاء.
ولو كان هذا الوالي قلد إنساناً وأجاز له أن يقضي هل يقبل كتاب هذا القاضي؟ ينظر إن كان الخليفة أذن لهذا الوالي بالتقليد قبل كتابه وما لا فلا؛ لأنه إذا لم يؤذن بالتقليد لم يصح منه التقليد ولم يصر المقلد قاضياً وكتاب غير القاضي لا يقبل، فأما إذا فوض إليه التقليد صح منه التقليد، وصار المقلد قاضياً فيقبل كتابه.
ذكر في كتاب «الأقضية» : إن كتب الخليفة إلى قضاته إذا كان الكتاب في الحكم بشهادة شاهدين شهدا عنده بمنزلة كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل إلا بالشرائط التي ذكرناها، وأما كتابه أنه ولى فلاناً أو عزل فلاناً يقبل عنه بدون تلك الشرائط ويعمل به المكتوب إليه إذا وقع في قلبه أنه حق ويمضي عليه، وهو نظير كتاب سائر الرعايا بشيء من المعاملات؛ فإنه يقبل بدون تلك الشرائط ويعمل به المكتوب إليه إذا وقع في قلبه أنه حق كذا هنا في الكتاب.
ولا تقبل شهادة أهل الذمة على كتاب قاضي المسلمين لذمي على ذمي؛ لأن لكتاب القاضي إلى القاضي حكم القضاء، ثم سائر الأقضية لذمي على ذمي لا تثبت بشهادة أهل الذمة، فكذا كتاب القاضي. والمعنى في ذلك أنهم يشهدون على فعل المسلم وهو القاضي، وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إثبات فعل المسلمين.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جاء بكتاب قاض إلى قاض وقبل المكتوب إليه الكتاب، وشهد الشهود على الكتاب، ثم قَدِمت بينة صاحب الحق على أصل الحق ينتظر المكتوب إليه، فإن المكتوب إليه لا يعمل بالكتاب ويأمر الطالب أن يحضر البينة على أصل الحق من قبل أن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، وشهود الأصل إذا حضروا بأنفسهم لم تقبل شهادة الفروع على شهادتهم كذا هنا. في «المنتقى» : ويكتب القاضي في كتابه الشهادة على الشهادة كما يكتب.
ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإذا تكسر خاتم القاضي الذي على الكتاب أو كان الكتاب مقشوراً وفي أسفله خاتم القاضي، فإن القاضي المكتوب إليه يقبل(8/158)
الكتاب إذا شهد الشهود أن هذا كتاب قاضي فلان، وأنه قرأه عليهم، فإن الخصاف رحمه الله عقيب هاتين المسألتين (قال:) وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد القاضي المكتوب إليه لا يقبل الكتاب إذا لم يكن مختوماً، غير أن أبا يوسف يقول: إذا كان الكتاب غير مختوم لا تصح الشهادة على الكتاب ما لم يشهد الشهود بما في الكتاب؛ لأنه إذا كان غير مختوم فهو بمنزلة الصك، وعلم الشهود بما في الصك شرط صحة الشهادة عنده، وإذا كان الكتاب مختوماً فعلم الشهود بما في الكتاب ليس بشرط.
ذكر الفقيه الإمام أبو بكر الرازي والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن قبول الكتاب مع كسر الخاتم قولهم جميعاً؛ لأن هذا مما يبتلى به الناس قالا رحمهما الله: والإضافة إلى أبي يوسف من الخصاف يحتمل أن يكون منصرفاً إلى المسألة الثانية، وهو ما إذا كان الخاتم في أسفل الكتاب ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف إذا انكسر خاتم القاضي الذي على الكتاب، فالقاضي المكتوب إليه لا ينفذه عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله كما إذا لم يكن مختوماً في الأصل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفذه إذا قامت عليه البينة كما لو لم يكن مختوماً في الأصل.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، كان نقول: إن كتاب القاضي إذا لم يكن مختوماً لا يقبل عند أبي يوسف رحمه الله حتى وقفنا على رواية الخصاف أنه يقبل، والرواية هذه؛ لأنه إذا انكسر خاتم القاضي أو كان الخاتم في أسفل الكتاب كان كأنه لم يختم ومع هذا جاز قبوله، وقد ذكرنا رواية الحسن عن أبي يوسف في هذا نصاً، قال أبو يوسف رحمه الله: ويكتب القاضي بشاهد واحد إلى قاض آخر، يريد به أن يجوز نقل شهادة شاهد واحد (93أ4) بالكتاب؛ وهذا لأن كتاب القاضي إنما جوز باعتبار الحاجة وقد تمس الحاجة إلى هذا بأن يكون إحدى شاهدي المدعي هاهنا، والشاهد الآخر في بلد المطلوب، فيحتاج إلى نقل شهادة هذا الشاهد حتى تنضم معه شهادة ذلك الشاهد الذي في بلد المطلوب.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا غلب الخوارج على بلدة واستقضوا عليها قاضياً من أهل البلدة، فكتب هذا القاضي كتاباً إلى قاضي أهل العدل، فإن المكتوب إليه يعلم أن الشهود الذين شهدوا عند الكاتب من أهل البغي لا يقبل الكتاب؛ لأن الكتاب لنقل الشهود وأولئك الشهود لو حضروا عند هذا القاضي وشهدوا لا تقبل شهادتهم لفقه، وهو أن الخوارج يستحلون دمائنا وأموالنا فلو قبلنا شهادتهم علينا ذهبوا بدمائنا وأموالنا، وإذا لم يقبل شهادتهم لو حضروا فكذا لا يعمل بشهادتهم إذا صارت منقولة إليه وإن كان يعلم أن الشهود من أهل العدل قبل الكتاب، فإن لم يعلم أن الشهود من أهل العدل أو من أهل الخوارج لا يقبل الكتاب؛ لأن على أحد الاعتبارين لا يقبل فلا يقبل بالشك أو يقول من كان في منعة الخوارج، فالظاهر أنه منهم.(8/159)
الفصل الخامس والعشرون: في اليمين
يجب أن يعلم بأن الاستحلاف في الدعاوي مشروعة، ثبت شروعه بالسنة وهو قوله عليه السلام: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله عليه السلام في قصة الحضرمي والكندي للمدعي منهما «ألك بينة» فقال: لا، فقال: «لك يمينه» والمعنى فيه: أن المدعى عليه أنوى حقه بإنكاره فالشرع شرع اليمين في جائز المدعى عليه حتى أن الأمر إن كان كما زعم المدعي كان هذا إتواء للمدعى عليه، لأن اليمين الكاذبة مهلكة للنفس والمال جميعاً فيكون إتواءان، وإن كان الأمر كما زعم المدعى عليه فالمدعى عليه بيمينه يدفع خصومة المدعي عن نفسه من غير ضرر يلحقه فيتحقق العدل والإنصاف، بعد هذا يحتاج إلى بيان موضع شرعيته وصفته وكيفيته.
أما بيان موضع شرعيته فنقول: الدعاوى نوعان: صحيحة وفاسدة، فالاستحلاف إنما يجري في الصحيحة منهما لا في الفاسدة، وإذا ادعى المدعي عند القاضي دعوى فعلى القاضي أن ينظر فيه، فإن كان فاسداً لا يلتفت إليه، وأمر المدعي بالكف عنه، وإن كان صحيحاً سمعه وأقبل على المدعى عليه، فإن أقر بما ادعاه المدعي ألزمه ما أقربه وإن أنكر أقبل على المدعي وقال له: إلك بينة؟، فإن قال: لا أو قال: شهودي غيّب أو مرضى حلّف المدعى عليه.
هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : قيل هذا السؤال إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله (لا يستقيم) على قولهما؛ لأن على قولهما القاضي يستحلف المدعى عليه بطلب المدعي وإن قال لي بينة حاضرة في المصر فلا فائدة لهذا السؤال على قولهما، وقال مشايخنا إذا قال المدعي: شهودي غيب أو مرضى إنما يحلف المدعى عليه إذا بعث القاضي أميناً من أمنائه إلى محلة الشهود الذين سماهم المدعي حتى يسأل عن الشهود، قال: وأخبر أنهم غيب أو مرضى أما بدون ذلك لا يحلفه على قول من لا يرى الاستحلاف إذا كان له بينة حاضرة في المصر؛ لأنه وقع الشك في الاستحلاف على قوله ثم بعد صحة الدعوى إنما يستحلف فيما سوى القصاص في النفس في موضع جاز القضاء بالنكول فيه، وفي كل موضع لا يجوز القضاء فيه، وبالنكوك لا يستخلف فيه وفي القصاص بالنفس يستحلف ولا يقضى فيه بالنكول تعظيماً لأمر الدم.(8/160)
وأما بيان صفته فيقول: إن اكتفى بذكر اسم الله تعالى وحده بأن قال: بالله والله جاز؛ لأنه هو الأصل في اليمين وبه ورد الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} (الأنعام: 109) ، وأما السنة فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «حلف ابن ركانة حين طلق امرأته بلفظ ألبتة بالله ما أردت به ثلاثاً وحلف يهود خيبر بالله ما قتلتموه ولا علمتم له قاتلاً» . وإن غلظ في اليمين جاز، والتغليظ في اليمين عرف بالكتاب والسنة.
أما الكتاب: فإن الله شرع اللعان، وأما السنة: فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حلف بن يهودياً بالله الذي أنزل التوراة على موسى، كيف تجدون حد الزنا في كتابكم» والمعنى في ذلك أن التغليظ في اليمين في معنى الزجر عن اليمين الكاذبة، فالإنسان قد يمتنع عن اليمين الكاذبة عند التغليظ ولا يمتنع عنها بدون التغليظ. ثم اختلف المشايخ فيه بعد ذلك، بعضهم قالوا: القاضي بالخيار في كل مدعى به وعلى كل مدعى عليه إن شاء غلظ وإن شاء لم يغلظ، وبعضهم قالوا: القاضي ينظر إلى المدعى عليه إن عرفه بالخير والصلاح أو رأى عليه سيما الخير ولم يتهمه اكتفى بذكر اسم الله وحده، وإن كان على خلاف ذلك غلظ، وبعضهم قالوا: نظر إلى المدعى به إن كان مالاً عظيماً غلظ عليه، وإن كان حقيراً اكتفى بذكر اسم الله وحده، وإن كان على خلاف ذلك غلظ، وبعضهم قالوا: نظر إلى المدعى به إن كان مالاً، ثم بعضهم قدروا العظيم بنصاب الزكاة، وبعضهم قدروا بنصاب السرقة.
وإذا غلظ بصفات الله وأسمائه ينبغي أن يتأمل حتى لا يكرر عليه اليمين بتكرار حرف القسم، فإن تكرر حرف القسم يتكرر اليمين، فإنه لو حلف بالله الرحمن الرحيم كان يميناً واحداً، وإذا حلف والله والرحمن والرحيم كانت ثلاثة أيمان ولا يجوز الاستحلاف في الدعوى الواحدة إلا بيمين واحدة.
ثم القضاة مختلفون في كيفية التغليظ وصفته واختار كل واحد لنفسه شيئاً ومختار الخصاف رحمه الله أن يقول له: قل والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، فهذا هو مختار الخصاف، فإن شاء القاضي اختار هذا وإن شاء زاد عليه وإن شاء نقص عنه، ولا يغلظ بالمكان عند علمائنا رحمهم الله.
وقال الشافعي رحمه الله: إن كان المدعى به دم عمد أو مالاً عظيماً يبلغ عشرين مثقالاً من الذهب يغلظ بالمكان، فيحلف بأشرف الأماكن، فإن كان بمكة يحلف بين المقام والبيت، وإن كان بالمدينة يحلف بين الروضة والمنبر، وفي سائر الأمصار يحلف(8/161)
في المسجد الجامع عند المنبر، وإن كان في موضع ليس فيه مسجد جامع يحلف في مسجد من المساجد، وهو قول أهل المدينة وأهل مكة، وهكذا روي عن أبي يوسف إلا أنه زاد فقال: يوضع المصحف في حجره ويقرأ عليه {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} (آل عمران: 77) الآية، حجتهم في ذلك أن التغليظ بذكر صفات الله تعالى، إنما يشرع للمبالغة في الزجر عن اليمين الكاذبة، وهذا المعنى يقتضي شرع التغليظ بالتحليف في أشرف الأماكن من غير نكير منكر؛ ولأن النصوص المقتضية للاستحلاف مطلقة عن المكان، فالتقييد بالمكان يكون زيادة على النص والزيادة بمعنى الفسخ.
وإن أراد التغليظ على اليهود يحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى؛ لأنه يعتقد حرمة التوراة ونبوة موسى عليه السلام.
وإن أراد التغليظ على النصراني يحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنه يعتقد حرمة الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام.
وإن أراد أن يغلظ على المجوسي يحلفه بالله الذي خلق النار؛ لأنهم يعظمون النار، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم ينقل عن أبي حنيفة رحمه الله فيه شيء في ظاهر الرواية. وروي في «النوادر» عنه أنه لا ينبغي أن يستحلف أحداً إلا بالله.
وذكر الخصاف أن غير اليهودي والنصراني يستحلف بالله، فهذا إشارة إلى أنه لا يذكر النار في استحلاف المجوسي، وعليه بعض المتأخرين من مشايخنا؛ لأن ذكره يشير إلى تعظيمه، وإنه لا يجوز. ألا ترى أن المسلم لا يستحلف بالله الذي خلق الشمس بخلاف اليهودي والنصراني حيث يذكر في استحلافهم التوراة والإنجيل؛ لأن التوراة والإنجيل كلام الله تعالى فلا يكون فيه تعظيم غير الله تعالى بخلاف النار، أما سائر المشركين يستحلفون بالله لأنهم يقرون بالله تعالى، قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (الزخرف:87) .
وأما بيان كيفيته فنقول: إن وقع الدعوى على فعل المدعى عليه من كل وجه بأن ادعى عليه أنك سرقت هذا العين مني، غصبت هذا العين مني يستحلف على الثبات، وإن وقع الدعوى على فعل الغير من كل وجه حلف على العلم، حتى لو ادعى المدعي ديناً على ميت بحضرة وارثه بسبب الاستهلاك، أو ادعى أن أباك سرق هذا العين مني غصبه مني، حلف على العلم، وهذا مذهبنا والأصل فيه: حديث القسامة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف اليهود على فعل أنفسهم على الثبات وعلى فعل غيرهم على العلم (93ب4) .
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: هذا الأصل مستقيم في المسائل كلها أن التحليف على فعل الغير يكون على العلم إلا في الرد بالعيب، يريد به: أن المشتري إذا ادعى أن العبد سارق أو آبق وأثبت إباقه أو سرقته في يد نفسه وادعى أنه أبق(8/162)
أو سرق في يد البائع وأراد تحليف البائع يحلف البائع على الثبات بالله ما سرق في يدك على ما عرف، وهذا تحليف على فعل الغير، قال الله تعالى إنما كان كذلك؛ لأن البائع التزم تسليم المعقود عليه سليماً عن العيوب، فالاستحلاف يرجع إلى ما ضمن بنفسه، فلذلك كان على الثبات.
وحكي عن الشيخ الإمام فخر الإسلام رحمه الله أنه كان يريد في هذا الأصل حرفاً كان يقول: التحليف على فعل نفسه على الثبات، والتحليف على فعل الغير يكون على العلم إلا إذا كان شيئاً يتصل يحلف على الثبات، خرج على هذا فصل الرد بالعيب؛ لأن ذلك مما يتصل به؛ لأن تسليم العبد سليماً واجب على البائع، وقد قيل بأن التحليف على فعل الغير إنما يكون على العلم إذا قال الذي استحلف: لا علم لي بذلك، فأما إذا قال: لي علم بذلك يحلف على الثبات.
ألا ترى أن المودع إذا قال: قبض صاحب الوديعة مني الوديعة، فإنه يحلف المودع على الثبات وألا ترى أن ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا وكل الرجل رجلاً ببيع عبده بألف درهم فباعه وسلمه إلى المشتري ثم أقر البائع الوكيل أن الآمر قبض الثمن، وجحد الآمر فالقول قول الوكيل في ذلك: أن الآمر قد قبض مع يمينه، فإذا حلف برئ المشتري عن الثمن ويحلف الوكيل على الثبات بالله لقد قبض الآمر وهذا تحليف على فعل الغير، ولكن الوكيل يدعي أن له علماً بذلك، فإنه قال: قبض الموكل الثمن وما كان له علم بذلك فيحلف على الثبات لهذا.
وإن وقع الدعوى على فعل المدعى عليه من وجه وعلى فعل غيره من وجه بأن قال: اشتريت مني استأجرت مني استقرضت مني، فإن هذه الأفعال فعله وفعل غيره، فإنها تقوم باثنين يحلف على الثبات، وهذا مشكل؛ لأن اعتبار فعل الغير يوجب التحليف على العلم، إن كان اعتبار فعله يوجب التحليف على الثبات، إلا أنه يرجح جانب الثبات؛ لأنه يوجب زيادة زجر، لأنه متى حلف على الثبات وقد اشترى حنث في يمينه علم بالشراء أو لم يعلم، ومتى حلف على العلم وقد اشترى إن كان عالماً بالشراء حنث في يمينه، وإن لم يكن عالماً به لا يحنث فكان في هذا زيادة زجر، فكان الترجيح لجانب الثبات بعد هذه المسألة على وجوه:
أما إن ادعى المدعي ديناً أو ملكاً في عين أو حقاً وكل ذلك على وجهين: إما أن يدعيه مطلقاً ولم يذكر له سبباً أو ادعاه بناء على السبب، فإن ادعى ديناً ولم يذكر له سبباً يحلف على الحاصل فيحلف بالله ما لهذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا ولا شيء منه فقد جمع بين قوله: عليك وقبلك وإليه أشار محمد رحمه الله، وهكذا ذكر الخصاف رحمه الله في كتاب الصلح وإنما جمع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على قوله: عليك إنما يتأول أنه ليس على رأسه أو عاتقه شيء، ولو اقتصر على قوله: قبلك عسى يتأول الأمانة؛ لأن قوله قبلك يستعمل في الأمانات كما(8/163)
يستعمل في الديون فيجمع بينهما احتياطاً، وجمع أيضاً بين كل المدعى به وبين بعضه؛ لأنه ربما أداه بعض هذا المال وأبرأه عن بعض المال، فلو حلفناه على الكل يحلف، ويكون صادقاً في الحلف ولا يلزم الحنث، فيجمع بين الكل وبين البعض احتياطاً.
قال أبو عمرو الطبري: لا ينبغي للحاكم أن يقول في الاستحلاف: ولا شيء منه؛ لأن التحليف بناء على الدعوى، فلا يزاد على مقدار الدعوى.
وكذلك إذا ادعى ملكاً في عين حاضر أو حقاً في عين حاضر ادعاه مطلقاً، ولم يذكر له سبباً يحلف على الحاصل، فيحلف بالله ما هذا العين لفلان بن فلان، ولا شيء منه يجمع بين الكل وبين البعض احتياطاً، وإن ادعاه بناء على السبب بأن ادعى عليه ديناً بسبب القرض أو بسبب الشراء، أو ادعى ملكاً بسبب البيع أو الهبة، أو ادعى غصباً أو وديعة أو عارية يستحلف على حاصل الدعوى في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، ولا يستحلف على السبب قضى عليه في كتاب الحوالة والكفالة حتى لا يستحلف: ما استقرضت منه هذا المال، ما غصبته، ما أودعته، ما اشتريت منه هذا العين بكذا، ما بعت منه هذا العين.
ووجه ذلك: أن في الاستحلاف على السبب ضرراً بالمدعى عليه، فالسبب قد يوجد ويثبت حكمه ثم ينفسخ السبب ويبطل حكمه، أو يبطل الدين بالإبراء والإيفاء، ويعود الملك إليه في العين بالهبة أو البيع ويبطل حكم الغصب والوديعة والعارية بالرد، فلو حلف على السبب لا يمكنه أن يحلف على انتفاء السبب لوجوده، ولو أقر بالسبب وادعى الناقض والمبطل لكانت الحجة عليه، وربما لا يمكنه إقامة الحجة وفيه من الضرر ما لا يخفى، وليس في الاستحلاف على الحاصل ضرر بالمدعي، فيحلف على الحاصل لهذا حتى لو كان في الاستحلاف على الحاصل ضرر بالمدعي بأن كان بين العلماء اختلاف أن ما يدعيه هل هو سبب لذلك الحكم؟ يحلف على السبب؛ لأنه لو حلف على الحاصل يحلف ويتأول قول من يقول بأنه ليس بسبب، وإن الحكم ليس ثابت فيحلف على السبب دفعاً للضرر عن المدعي، وكذلك إذا لم يكن في التحليف على السبب ضرر بالمدعى عليه بأن كان ما يدعيه شيئاً لا يحتمل الانفساخ وحكمه لا يحتمل البطلان كإعتاق العبد المسلم يحلف على السبب ليكون التحليف موافقاً للدعوى والإنكار.
وروي عن أبي يوسف أنه يستحلف على السبب في هذه الصورة؛ لأن الاستحلاف يترتب على الدعوى، فيكون على وفق الدعوى والإنكار. وما ذكر من وهم الضرر يندفع بالتعريض بأن يقول المدعى عليه للقاضي: الإنسان قد يلزمه المال بسبب ثم يبطل المال عنه، إما بانفساخ السبب أو بالإيفاء أو بالإبراء، ولو أقر بالسبب عسى لا يمكنه إثبات ذلك الفسخ، أو الإبراء فيلزمه المال فإذا عرض على هذا الوجه، فالقاضي لا يحلفه على السبب، بل يحلفه على الحاصل.
وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب رواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا أنكر المدعى عليه السبب بأن أنكر(8/164)
الاستقراض، وقال: ما استقرضت يحلف على السبب بالله ما استقرضت، وإن قال: ليس له علي ما يدعي، يحلف على الحاصل بالله ليس له عليك ولا قبلك هذا المال الذي يدعي ولا شيء منه، قال رحمه الله: هذا أحسن الأقاويل عندي وعليه أكثر القضاة.
وقال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام على البزدوي رحمه الله: ينبغي أن يفوض الأمر إلى رأي القاضي في هذا إن رأى المصلحة في التحليف على السبب حلف على السبب، وإن رأى المصلحة في التحليف على الحاصل حلف على الحاصل، قال: لأن من الناس من يكون تحليفه على السبب أولىو منهم من يكون تحليفه على الحاصل أولى، فيفوض إلى رأي القاضي.
لهذا قال الخصاف في «أدب القاضي» وفي الوديعة: إذا حلف الوديعة (ليست في يديك) ولا شيء منه ولا له قبلك حق منه؛ لأنه متى استهلكها أو دل إنساناً عليها، فلا تكون في يديه ولكن ضمان القيمة في ذمته، فلا يكتفى بقوله: في يديك بل يضم إليه ولا له قبلك حق منه احتياطاً، وهذا الجواب إنما يستقيم على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية؛ التحليف على الحاصل، أما على (ما) روي عن أبي يوسف رحمه الله يستحلف بالله ما أودعك هذا كذا وكذا.
وإن ادعى قبله ضيعة أو عقاراً وحدده وسمى موضعه وبلده على نحو ما بينا يحلفه بالله ما هذه الضيعة ولا هذه الدار التي حدد وسمى لفلان بن فلان هذا في يديك ولا شيء منها ولا له قبلك منها حق ولا بسببها، جمع بين هذا؛ لأنه أحوط.
وإن ادعى جارية أو غلاماً أو عرضاً من العروض مما ينقل ويحول، فإن كان حاضراً في مجلس القاضي، فالقاضي يحلفه بالله ما هذا العبد ملك هذا المدعي من الوجه الذي ادعاه ولا شيء منه لجواز أن يكون بعضه ملك المدعي، فلو لم يقل ولا شيء منه يتأول ذلك، فيكون صادقاً في يمينه ولا يلزمه الحنث.
وذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف المدعى عليه بالله ما لهذا (94أ4) المدعي في هذا العبد حق، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن لفظة الحق تنطلق على غير الملك من حق الإجارة والرهن، والمدعي ادعى الملك فيه دون الحق، وإنما يجب الاستحلاف على ما ادعاه المدعي، ولكن إن زاد في آخر اليمين ولا له فيها حق، كان مستقيماً، فإنه يكون تأكيداً للأول، وإن كان غائباً عن مجلس القاضي بأن كان المدعى عليه مقراً أنه في يده، إلا أنه ينكر كونه ملك المدعي كلفه القاضي الإحضار حتى يمكنه الإشارة إليه في الدعوى؛ وهذا لأن الدعوى إنما تسمع في المعلوم، فيشترط إعلام المدعي به بأبلغ وجوه الإعلام ما أمكن، والإشارة أبلغ في وجوه الإعلام، وإنما تكون الإشارة بعد الإحضار.
وإن أنكر المدعى عليه أن يكون ذلك في يديه. ذكر الخصاف رحمه الله: أن القاضي يقول للمدعي: سمه وانسبه إلى جنسه، وسم قيمته، شرط بيان القيمة لسماع الدعوى، وقد ذكرنا هذا الفصل وما فيه من الاختلاف قبل هذا ثم إذا سمى جميع ذلك حتى صح دعواه بلا خلاف، وأراد استحلاف المدعى عليه استحلفه القاضي بالله ما لهذا(8/165)
لديك هذه الجارية التي ذكرها ولا شيئاً منها ولا بقي له عليك ولا قبلك ولا قيمتها التي سمى وهي كذا وكذا، بذكر شيء منه لجواز أن في يديه بعض الجارية فيتأول، وإنما يذكر القيمة لجواز أنها مستهلكة، فلا تكون في يديه ولكن يجب عليه القيمة، وإنما يذكر شيئاً من القيمة لجواز أنه سقط بعض القيمة عنه فيتأول، وإنما يذكر ولا شيء له عليك ولا قبلك؛ لأن من مذهب بعض العلماء أن الحيوان يكون مغصوباً بالمثل فربما يتأول ذلك القول.
وإن ادعى شراء ضيعة وبين حدودها وموضعها وبين الثمن، وأنكر المدعى عليه أنه باعه ذلك، وأراد القاضي أن يحلفه على الحاصل كما هو جواب ظاهر الرواية كيف يحلفه؟ قال: يحلفه بالله ما بينك وبين هذا البيع قائم الساعة فيما ادعاه، أو يحلفه بالله ما هذه الضيعة شراء لهذا الساعة بما ادعاه من الثمن أو يحلفه بالله ما عليك تسليم هذه الضيعة إلى هذا بهذا البيع الذي ادعاه وهاهنا أشياء أخر تأتي بعد هذا.
وإن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها فهو على وجوه:
الأول: تدعي الطلاق الثلاث، وفي هذا الوجه إذ أراد القاضي أن يحلفه حلّفه بالله ما هذه المرأة بائن منك بثلاث تطليقات كما ادعت، وهذا تحليف على الحاصل، وإنه جواب ظاهر الراوية. قالوا: وإن شاء القاضي حلفه على السبب بالله ما طلقتها ثلاثاً في هذا النكاح الذي تدعي أنك مقيم عليها فيه؛ لأن هذا سبب لا يحتمل الانتقاض إلا أنه لا يستحلف بالله ما طلقتها ثلاثاً ثم عادت إليه بنكاح مستقبل بعدما تزوجت بزوج آخر، فلو حلفناه كذلك لتضرر وكذلك إذا لم تدع المرأة ذلك ولكن شهد عند القاضي شاهد واحد عدل أو جماعة من الفساق بذلك؛ لأن حرمة الفرج حق الشرع، فكان على القاضي الاحتياط في مثله بالاستحلاف.
الوجه الثاني: أن تدعي تطليقة، كما ادعت أنما هي محرمة عليك بتطليقة كما ادعت؛ يستحلف على حاصل الدعوى في ظاهر الرواية، قال مشايخنا: وفي هذا الجواب نوع نظر؛ لأن عند الشافعي الكنايات رواجع فلو حلفناه على الحاصل ربما يتأول قول الشافعي رحمه الله، فيحلف على السبب بالله ما طلقتها بلفظ كذا، كما ادعت في هذا النكاح الذي تدعي أنك مقيم عليها فيه حتى لا يمكنه التأويل إلا إذا ادعت الخلع أو ادعت تطليقة بائنة قبل الدخول، فإن هناك تثبت البينونة بلا خلاف، فلا يمكنه التأويل فيحلف على الحاصل.
الوجه الثالث: أن تدعي تطليقة رجعية، وفي هذا الوجه يحلف على الحاصل في ظاهر الرواية، فيحلف ما هي طالق منك الساعة، وهذا لأن الطلاق الرجعي يزيل النكاح بعد انقضاء العدة، إن كان لا يزيل النكاح في الحال ويؤثر في إزالة حل المحلية عند انضمام تطليقتين إليه، فيفيد الاستحلاف.
وإن ادعت أمة على مولاها أنه اعتقها، ففي ظاهر الرواية يستحلف على الحاصل بالله ما هي حرة الساعة بما ادعت من العتق؛ لأنه يتصور زوال الحرية عنها بعد ثبوتها(8/166)
بالإعتاق بالارتداد والالتحاق بدار الحرب والسبي بعد ذلك، فلو حلفناه على السبب بالله ما أعتقها لتضرر به المدعى عليه، فيحلف على الحاصل. وعلى رواية أبي يوسف: يحلف على السبب بالله ما أعتقتها إلا إذا عرض المدعى عليه ونقول: الرجل قد يعتق أمته ثم ترتد وتلتحق بدار الحرب وتسبى وتعود إلى ملكه ثانياً فلا يمكنه أن يحلف ما أعتقتها، فإذا عرض على هذا الوجه يحلف على الحاصل وإن كان المدعي للعتق عبداً، فإن كان العبد ذمياً فكذلك الجواب يحلف على الحاصل في «ظاهر الرواية» : لأن حرمته تحتمل الانتقاض بعد الثبوت بالإعتاق بأن تنقض العهد ويلتحق بدار الحرب ثم يسبى ويسترق، وإن كان العبد مسلماً فالقاضي بالخيار إن شاء حلفه على الحاصل بالله ما هو حر الساعة كما هو جواب «ظاهر الرواية» وإن شاء حلفه على السبب كما هو قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن حريته لا تحتمل الانتقاض بعد ثبوتها؛ لأن أكثر ما فيه أنه يرتد إلا أن المرتد لا يسترق.d
وإن ادعت امرأة على رجل نكاحاً أو ادعى رجل على امرأة نكاحاً، فاعلم بأن الاستحلاف لا يجري في الأشياء السبعة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، والأشياء السبعة النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والولاء والنسب وأمية الولد.
وصورة أمومية الولد: إذا ادعت جارية على مولاها أنها أسقطت منه سقطاً مستبين الخلق والمولى ينكر فأرادت أن تستحلف المولى على دعواها؛ وهذا لأن الاستحلاف لرجاء النكول فإنما يجري الاستحلاف فيما يقضى فيه بالنكول، ولا يقضى بالنكول في هذه الأشياء عند أبي حنيفة رحمه الله: وعندهما يقضى وهذا بناء على أصل معروف أن النكول عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة الإقرار، فكل ما يجوز فيه الإقرار يجوز فيه القضاء بالنكول، والإقرار بالنكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والولاء وأمومية الولد صحيح، فكان النكول فيها حجة فيجري فيها الاستحلاف.
ومن هذا قلنا: أن من ادعى على ولي صغيرة أنه زوجها منه وأنكر الولي ذلك استحلفه القاضي عندهما؛ لأن النكول عندهما إقرار وإقرار الولي على وليته الصغيرة بالنكاح صحيح عندهما، وكذلك لو كان الدعوى بالرضا بالنكاح أو في الأمر بالنكاح يستحلف عندهما، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالنكول بدل وكل ما يجري فيه البدل كان النكول فيه حجة فلا يجري فيها الاستحلاف، وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إن من ادعى على ولي صغيرة أنه زوجها منه وأنكر الولي ذلك فالقاضي لا يستحلفه؛ لأن النكول عنده بدل، والبدل لا يجري من الولي في النكاح فلا يجري فيه الاستحلاف، ثم على قول أبي حنيفة إذا كان الاستحلاف لا يجري في النكاح لو كان دعوى النكاح من المرأة، وقالت المرأة للقاضي: لا يمكنني أن أتزوج؛ لأن هذا زوجي وقد أنكر النكاح فمره ليطلقني لأتزوج، والزوج لا يمكنه أن يطلقها؛ لأن بالطلاق يصير(8/167)
مقراً بالنكاح، ماذا يصنع القاضي؟
ذكر فخر الإسلام علي رحمه الله يقول للزوج قل لها إن كنت امرأتي فأنت طالق، فإنّ على هذا التقدير لا يصير الزوج مقراً بالنكاح ولا يلزمه شيء، ولو كانت له امرأة تتخلص عن خيالته ويمكنها التزوج بغيره، وهذا كله إذا لم يدع المدعي بدعوى هذه الأشياء مالاً، فأما إذا ادعي مالاً بدعوى هذه الأشياء كالمرأة تدعي على رجل أنه تزوجها على كذا وطلقها قبل الدخول بها وادعت نصف المهر، أو لم تدع الطلاق وادعت النفقة حلفه القاضي بلا خلاف؛ لأن المقصود دعوى المال والاستحلاف يجري في دعوى المال بلا خلاف، ثم عندهما إذا كان يستحلف بدون دعوى المال وكيف الاستحلاف في هذه الأشياء مع دعوى المال؟
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : الاستحلاف على الحاصل: تحلف المرأة بالله ما هذا زوجك كما ادعى ويحلف الزوج بالله ما هذه امرأتك كما ادعت، ولم يذكر أن هذا جواب «ظاهر الرواية» فيحتمل أن يكون جواب «ظاهر الرواية» : أما على قياس ما يروى عن أبي يوسف يحلف على السبب تحلف المرأة بالله ما زوجت نفسها منه بكذا، ويحلف الزوج بالله ما تزوجتها على كذا إلا إذا عرض المدعى عليه ويحتمل أن يكون، ذكر الخصاف رحمه الله قول الكل احتياطاً لأمر الفرج.
وفي كتاب الأقضية أن على «ظاهر الرواية» يحلف على الحاصل وعن أبي يوسف أنه يحلف (94ب4) الزوج بالله ما هذه امرأتك، وإن كانت امرأتك فهي طالق ثلاثاً، وهذا حسن؛ لأن بيمينه لا يقع الفرق بينهما وبين الله تعالى ولا يسعها أن تتزوج فتبقى معلقة فتطلق منه، فكان النظر في الاستحلاف على هذا الوجه.
ولو ادعى على رجل أنه زوج ابنته الكبيرة منه وأنكر الأب ذلك لا يستحلف الأب عندهما بخلاف ما إذا كانت الابنة صغيرة؛ لأن الاستحلاف للنكول عندهما، وإقرار الولي على وليته البالغة بالنكاح عندهما لا يصح وعلى وليته الصغيرة صحيحة، ولكن تستحلف الابنة إذا كانت كبيرة وتستحلف على العلم؛ لأنها تستحلف على فعل الغير.
ولو ادعي على رجل أنه زوج أمته منه يستحلف المولى عندهما، وإن كانت كبيرة؛ لأن إقرار المولى على أمته بالنكاح صحيح عندهما وإن كانت الأمة كبيرة، عرف ذلك في كتاب النكاح.
جئنا إلى النسب فنقول: إقرار الرجل يصح بأربعة: بالأب والابن والزوجة والمولى، وإقرار المرأة يصح بثلاثة: بالأب والزوج والمولى، ولا يصح إقرارهما بغير هؤلاء وأراد بهذه الصحة الصحة مطلقاً فيما يلزم المقر والمقر له من الأحكام، وفيما يلزم غيرهما، وأراد بعدم الصحة عدم الصحة فيما يلزم غيرهما من الأحكام، أما فيما يلزمهما من الأحكام فالإقرار صحيح، إذا وجد التصديق من المقر له وهو من أهل التصديق في(8/168)
جميع الصور، حتى إن من أقر بأخ وله أخ معروف وصدقه المقر له في إقراره وكذبه الأخ المعروف، صح إقراره في حق نفسه، حتى لا يشارك المقر له الأخ المعروف في نصيبه.
فقد فرق بين الرجل وبين المرأة في الإقرار بالابن، فصححه من الرجل ولم يصححه من المرأة، وكان ينبغي أن لا يفرق بينهما؛ لأن علة انتساب الولد بانخلاق الماء، وهما في ذلك على السواء، والجواب: أن هذا من حيث الحقيقة هكذا، أما من حيث الحكم فالنسبة إلى الآباء، قال الله: {ادعوهم لآبائهم} (الأحزاب: 5) وقال الله تعالى: {وعلى المولود له} (البقرة: 233) فالأب في هذا الباب أصل والأم تابع، فإذا أقر الرجل بالابن فقد أقر على نفسه، وإذا أقرت المرأة بذلك فقد أقرت على الغير فلا يصح.
وفرق في حق الرجل بين الإقرار بالابن وبين الإقرار بالأخ والعم وما أشبههما، والفرق أن الإقرار بالبنوة إقرار على نفسه وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فأما الإقرار بالأخ والعم إقرار على الغير ابتداء وهو الأب أو الجد فإنما يصير أخاً له بواسطة ثبوت البنوة من الأب بإقراره، فكيف يثبت بواسطة الأخوة وكذا الإقرار بابن الابن غير صحيح؛ لأنه لا بد له من ثبوت البنوة من أبيه، ولا يجوز أن يثبت البنوة من أبيه بإقراره، وإنما صح الإقرار بالأب والزوجة والزوج والمولى؛ لأنه ليس بإقرار على الغير وهذا كله إذا لم يدع مالاً بدعوى النسب، فأما إذا ادعى مالاً بدعوى النسب، بأن ادعى رجل وامرأة على رجل أنه أخوه لأبيه أو أخته لأبيه وقد مات الأب وترك أموالاً كثيرة في يد هذا وطلب الميراث وادعى رجل وهو زمن على رجل أنه أخوه لأبيه وطلب من القاضي أن يفرض النفقة عليه، وأنكر المدعى عليه ذلك، فالقاضي يحلفه، لأن المقصود دعوى المال وفي دعوى المال يستحلف بلا خلاف.
وكذلك إذا لم يدع مالاً بدعوى النسب ولكن ادعى حقاً في ضمن دعوى النسب لا يثبت له ذلك الحق إلا بثبوت ذلك النسب فستحلف على دعوى النسب فقد ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : إذا ادعى الرجل حجراً على رجل بأن التقط رجل لقيطاً فجاء رجل وقال للملتقط: هذا الصغير الذي التقطته أخي وأنا أحق به، وأنكر ذو اليد أنه أخوه، حلف ذو اليد على ذلك.
وكذلك إذا وهب رجل لرجل شيئاً، وأراد الواهب الرجوع في الهبة فقال الموهوب له: أنا أخوك ولا حق لك في الرجوع، وأنكر الواهب أخوته كان للموهوب له أن يحلفه؛ لأن المقصود إثبات ذلك الحق ثم في دعوى النسب مع المال في موضع لا يصح الإقرار بالنسب إذا جرى الاستحلاف، يستحلف على النسب أو على المال، ذكر في الأقضية أنه يستحلف على المال، وذكر الخصاف أنه يستحلف على النسب فإذا نكل يقضى بالمال ولا يقضى بالنسب.
وإن ادعى رجل على رجل إجارة ضيعة أو دار أو حانوت أو إجارة عبد أو دابة أو نحو ذلك مما يؤاجر، أو ادعى مزارعة أرض أو معاملة في النخل والشجر، أو ادعى عارية في عين أو وديعة وأنكر المدعى عليه ذلك حلفه القاضي على الحاصل، أما الوديعة(8/169)
والعارية فقد مر الكلام فيهما، وإنما ذكرناهما ثانياً لزيادة فوائد، ثم إن كان العين حاضراً يستحلف بالله ما هذا العين ملك هذا المدعي، ولا شيء منه.
وكان الإمام الحاكم أبو محمد رحمه الله يقول: الأحوط أن يحلف بالله ما هذا الثوب لهذا ولا عليك تسليمه ولا تسليم شيء منه إلى هذا المدعي من الوجه الذي يدعيه المدعي، وإن كان غائباً أو كان مستهلكاً يستحلف بالله ما عليك تسليم هذا العين ولا تسليم قيمته ولا جزء منه ولا تسليم مثله إلى هذا المدعي، وهذا الجواب جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا، وإن كان العين مستهلكاً وأقر المدعي بالهلاك يستحلف المدعى عليه على القيمة عند بعض المشايخ، وقال بعضهم: يستحلف على العين والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما على القيمة وأما الإجارة فيستحلف بالله ما بينك وبين هذا المدعي إجارة قائمة بأمته لازمة اليوم، في هذا العين المدعى ولا له قبلك فيها حق بالإجارة التي وصف، قيل هذا الجواب على ظاهر الرواية، أما على قياس رواية أبي يوسف رحمه الله: ينبغي أن يستحلف على السبب وهو الإجارة وإليه مال فخر الإسلام علي البزدوي وقيل: لا بل في الإجارة يستحلف على الحاصل على قول الكل فرق هذا القائل لأبي يوسف رحمه الله على الرواية التي قيل، يستحلف على السبب في جنس هذه المسائل بين الإجارة وبينما تقدم.
والفرق: أن في التحليف على السبب هاهنا ضرراً للمدعي؛ لأن المنافع لا تتقوم بنفسها، وإنما تتقوم بالعقد فإذا حلفناه على السبب وحلف ينتفي العقد ولم يثبت تقوم المنافع فلا يثبت للمدعي حق الرجوع بشيء فلا يكون الاستحلاف على النسب مفيداً بخلاف ما تقدم؛ لأن العين متقوم في نفسه، فإذا حلفناه على السبب وحلف وانتفى العقد يبقى العقد مضموناً بنفسه، فيمكن الرجوع بضمان العين، فكان التحليف على السبب مفيداً والأول أصح، وكذلك الجواب في المزارعة والمعاملة؛ لأنها إجارة إلا أن الأجرة فيهما جزء من الخارج.
وإن ادعى المدعي أجرة الدار وجحد المدعى عليه يستحلفه القاضي بالله ماله قبلك هذا الأجر الذي يدعيه؛ لأن الدعوى وقع فيه، إلا أنه إنما استحلفه على الأجر والدار والوقف الذي ادعى كيلا يتأول الحالف متى حلف على الأجر غير أنه لا أجر عليه بسبب شيء آخر سوى الدار، أو يتأول أنه لا أجر عليه بسبب وقف آخر غير الوقف الذي ادعاه المدعي، قالوا: وإن شاء القاضي حلفه بالله ما له قبلك هذا الأجر الذي سمى بهذا السبب الذي ادعى أو من هذا الوجه الذي ادعى.
قال: ولو ادعت امرأة على زوجها، أنها سألته أن يطلقها فقال لها: أمرك بيدك، وإنها اختارت نفسها وأنكر الزوج ذلك، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول أن ينكر الزوج الأمر والاختيار جميعاً، وفي هذا الوجه القاضي لا يحلف الزوج على الحاصل بلا خلاف لا يحلفه بالله، ما هي بائن منك الساعة من الوجه الذي ادعت، لأن عند بعض العلماء الواقع بلفظ الأمر باليد رجعي، فلو حلفناه ما هي(8/170)
بائن منك ربما يتأول قول هذا القائل فيحلف على السبب ولكن يحتاط فيه للزوج فيحلف بالله ما قلت لها منذ أن تزوجها أمرك بيدك بعد مسألتها الطلاق وما يعلم أنها اختارت نفسها بعد ذلك في مجلس الأمر بجواز أنه تزوجها بعد ما اختارت نفسها بحكم ذلك الأمر، فلا يمكنه الحلف على ذلك الأمر، ولو أقر بذلك ثم ادعى النكاح بعده لم يصدق ويلزمه الطلاق فيحلفه على الوجه الذي ذكرنا احتياطاً.
وإن أقر بالأمر وأنكر اختيارها نفسها بخلاف الزوج أيضاً؛ لأنه لا يقبل قولها أنها اختارت نفسها لأنها اخبرت عما لا تملك الإنشاء؛ لأنها لا تملك اختيارها نفسها، بعدما قامت عن المجلس فلا يقبل قولها ولكن يحلف الزوج بالله ما يعلم أنها اختارت نفسها في مجلس الأمر الذي ادعت.
وإن أقر بالاختيار وأنكر (95أ4) الأمر يحلف الزوج بالله ما جعلت أمر امرأتك هذه بيدها قبل أن تختار نفسها في مجلس الأمر يقع الطلاق، فالمرأة تدعي عليه معنى لازماً فيحلف على الوجه الذي قلنا، ذلك إذا ادعت أن الزوج حلف بطلاقها أن لا يفعل كذا وقد فعل، وهو على التفصيل الذي قلنا إن أنكر الزوج الأمرين يستحلف؛ لأن المرأة ادعت البينونة بسبب التعليق ووجود الشرط والزوج ينكر فيعتبر بما لو ادعت البينونة بسبب المتجر، وهناك يستحلف الزوج بلا خلاف والاستحلاف يجري في الفرقة والطلاق بلا خلاف ثم في ظاهر الرواية يحلف على الحاصل بالله ما هي بائنة بثلاثة تطليقات من الوجه الذي ادعت، وعلى قياس رواية أبي يوسف يحلف على السبب بالله ما حلفت بطلاقها، أن لا تفعل كذا ثم فعلت وإن أقر باليمين وأنكر الفعل كذا، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» .
بعض مشايخنا قالوا: هذا على رواية أبي يوسف رحمه الله، أما على ظاهر الرواية يحلف على الحاصل: بالله ما هذه المرأة بائنة منك بثلاث تطليقات، وإن أنكر اليمين وأقر بالفعل يحلف بالله ما حلفت بطلاق امرأتك هذه ثلاثاً أن لا تفعل كذا قبل أن تفعله، بعض مشايخنا قالوا: هذا رواية أبي يوسف، أما على ظاهر الرواية: يحلف على الحاصل على نحو ما بينا؛ وهذا لأنه من الجائز أنه حلف ولكن أبانها بواحدة ثم فعل ذلك الفعل ثم تزوجها.
وعلى هذا إذا ادعى العبد والأمة على المولى أنه حلف أن لا يفعل كذا وقد فعل.
ذكر في كتاب الأقضية: ولو ادعى رجل على رجل أني اشتريت منك أمتك هذه بعبدي هذا، وأنكر المدعى عليه فالقاضي يحلف المدعى عليه بالله ما هذه الأمة له شراء بهذا العبد ولا يحلف ما بعت، وهذا على ظاهر الرواية على ما ذكرنا.
ذكر بعد هذه المسألة دعوى الشراء من المشتري، وذكر فيها تفصيلاً، فقال: إن ذكر(8/171)
المشتري نقد الثمن يحلف المدعى عليه بالله ما هذا العبد ملك هذا المدعي ولا شيء منه بالسبب الذي ادعى، ولا يحلف ما بعت، وإن لم يذكر المشتري نقد الثمن يقال له: أحضر الثمن، فإذا أحضره يستحلفه القاضي بالله ما عليك قبض هذا الثمن وتسليم هذا العبد من الوجه الذي ادعى، وإن شاء حلفه بالله ما بينك وبين هذا شراء قائم الساعة.
والحاصل: أن دعوى الشراء مع نقد الثمن دعوى المبيع ملكاً مطلقاً معي، وليس بدعوى العقد ولهذا يصح مع جهالة الثمن، فيحلف على ملك المبيع ودعوى البيع مع تسليم المبيع دون الثمن.
قال في كتاب الاستحلاف: ولو أن رجلاً ادعى أنه اشترى من رجل داراً بألف درهم أو عبداً أو ثوباً وقدمه إلى القاضي فادعى ذلك كله وجحد المدعى قبله ذلك، وقال: ما بعت منك شيئاً قط وطلب المدعي يمين المدعى قبله، فالقاضي يحلفه بالله ما هذه الدار للمدعي بهذا الشراء الذي ادعى أنه اشتراها بهذا الثمن الذي سمى، يستحلف على الحاصل، ولا يستحلف على الفعل بالله ما بعت منه وهذا جواب ظاهر الرواية، ثم ذكر أنه يستحلف على العين والثمن جميعاً، وكان يجب أن يستحلف على العين لا على الثمن لأنه إنما يستحلف على ما وقع فيه الدعوى، والدعوى وقعت في العين لا في الثمن إلا أنه استحلفه على الثمن والعين والبيع جميعاً، وذلك لأنه من الجائز أن يقر الجاحد بالبيع بعدما حلف فيصح إقراره، إلا أنه يدعي أن ثمنه كان ألفي درهم والمشتري يقول كان الثمن ألف درهم، فيجب التحالف؛ لأنهما اختلفا في مقدار الثمن والمعقود عليه قائم، والاختلاف في الثمن متى وقع على هذا الوجه، فإنه يجب التحالف، ومتى كان حلف الجاحد على البيع والثمن الذي ادعاه المشتري لا يحتاج القاضي إلى أن يحلف البائع ثانياً، وإنما يحتاج إلى أن يحلف المشتري بالله ما اشتريت بألفي درهم لا غير ففي الاستحلاف على العين لا غير تكرير اليمين، وفي الاستحلاف على العين والثمن تقليل اليمين، فكان هذا أولى، فلهذا استحلف البائع على البيع والثمن جميعاً.
هذا الذي ذكرنا إذا ادعى المدعي أنه اشترى وأنكر البائع، فأما إذا ادعى أنه باع من المدعى قبله ذلك بألف درهم وجحد المدعى قبله ذلك، وقال: ما اشتريت منه شيئاً قط، وسأل المدعي من القاضي أن يحلف المدعى قبله على ذلك كيف يحلفه؟ فهذا لا يصح من وجهين: أما إن ادعى المدعى أنه سلم ما باع منه إلى المدعي قبله ولم يقبض منه الثمن، أو ادعي أنه لم يسلم ما باع منه، ولا قبض منه ثمنه، فإن ادعى أنه باع وسلم ولم يقبض منه الثمن ذكر أنه يحلف بالله ما له قبلك هذا الثوب ولا ثمنه أو هذه الدار التي يدعيها ولا ثمنها، فيستحلفه على الحاصل ولا يستحلفه بالله ما اشتريت بالثمن الذي ادعاه وهذا جواب ظاهر الرواية، فيستحلف على العين والثمن جميعاً، وكان يجب أن يستحلف على الثمن؛ لأن الدعوى وقع في الثمن إذا كان المبيع مسلماً في العين، لكن(8/172)
إنما استحلفه على العين والثمن والبيع وذلك لأنه يجوز أن يقر المدعى عليه بعدما حلف بالشراء، ويصح إقراره ثم يختلفان في المعقود عليه، فيقول المدعى قبله: اشتريت منك ثوباً أو داراً آخر، فيجب التحالف؛ لأنهما اختلفا في المعقود عليه والمعقود عليه قائم، والاختلاف في المعقود عليه حال قيامه يوجب التحالف، فمتى حلف على الثمن لا غير متى احتيج إلى التحالف يحتاج البائع إلى أن يحلف المدعى عليه ثانياً بالله ما اشتريت الدار التي يدعيه المدعى بالثمن الذي سماه.
وإذا حلفناه على البيع والعين والثمن الذي سماه فمتى وجب التحالف يحتاج أن يحلف البائع بالله ما بعت من هذا المشتري ما يدعيه البائع، فيكون في الاستحلاف على العين والثمن تقليل اليمين، وفي الاستحلاف على الثمن تكرير اليمين، فكان الاستحلاف على وجه فيه تقليل اليمين أولى،
ثم قال في «الكتاب» : وإن حلفه بالله ماله منها قليل ولا كثير جاز، والأولى أجود أما يجوز؛ لأن قوله بالله ماله منها قليل ولا كثير بما يتناول العين والثمن جميعاً؛ لأن قوله منها كناية عن العين والثمن إلا أن الأول أجود؛ لأن العين والثمن صارا مذكورين على سبيل الاقتصار، فكان ذكرهما على سبيل التصريح أجود، هذا إذا ادعى أنه كان باع وسلم ولم يقبض منه الثمن، وإن ادعى أنه باع ولم يسلم ولم يقبض منه الثمن قال: يحلفه القاضي بالله ما هذه الدار لك بهذا البيع الذي يدعي بهذا الثمن الذي سمى، فقد استحلفه على الحاصل وهذا جواب ظاهر الرواية، وإذا وجب الاستحلاف على الحاصل في ظاهر الرواية استحلفه على العين والثمن جميعاً، لما ذكرنا أنه يجوز أن يقر المدعى قبله بالشراء بعد ما حلف، فيصح إقراره إلا أنه يقول: ما اشتريت منك هذه الدار الأخرى، فيقع بينهما اختلاف المعقود عليه، فيجب التحالف فمتى لم يحلف المدعى قبله بالله ما هذه الدار لك بهذا البيع الذي يدعي بهذا الثمن الذي سمى يحتاج القاضي إلى أن يحلف المدعى قبله ثانياً، فيتكرر اليمين عليه، ومتى حلفناه على ذلك يحتاج إلى أن يحلف البائع لا غير، فكان تحليفه على البيع والعين وفيه تقليل اليمين أولى.
وإذا استصنع الرجل عند رجل قلنسوة أو خفاً، وجاء به العامل مفروغاً عنه، فقال الآمر: ليس هذا على المقدار الذي أمرتك به. وقال الصانع: هو كما أمرتني به، ذكر في كتاب الاستحلاف أنه لا يستحلف الصانع وهذا الجواب لا يشكل على قول من يقول بأن الاستصناع مواعدة وليست بمعاقدة وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الاستحلاف لا يجري في المواعيد، وأما على قول من يقول باب الاستصناع معاقدة فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه، وأصح ما قيل: أن الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء وبيعاً انتهاء متى سلم، ولكن قيل: التسليم فحال ما جاء الصانع به في المستصنع، واختلفا قبل التسليم إلى الآمر فهذا آجر ومستأجر اختلفا بعد انقضاء مدة الإجارة، وفي مسألة لا يجري (فيها) الاستحلاف على ما عرف.
وإذا قال لغيره: أخذك غلامي حتى كتبت لي بفلان حلف على حاصل الدعوى،(8/173)
ولكن إنما يحلف إذا ادعى كفالة صحيحة منجزة أو معلقة بشرط متعارف، وذكر أن الكفالة له كانت بإذنه، أو ذكر إجازته لتلك الكفالة في مجلس الكفالة أما بدون ذلك لا يكون مدعياً كفالة صحيحة، فلا يترتب عليه التحليف ثم كيفية التحليف على الحاصل في هذا: أن الكفالة إن كانت بالمال، حلفه بالله ماله قبلك هذه الألف درهم بسبب هذه الكفالة التي يدعيها يذكر بسبب هذه الكفالة التي يدعيها حتى لا تتناول كفالة أخرى غير ما وقع فيه الدعوى وإن كانت كفالة بعرض يحلفه (95ب4) بالله ماله قبلك تسليم نفس فلان بسبب هذه الكفالة التي يدعيها.
رجل في يديه سلعة لا يعلم لأحد فيها حقاً، جاء رجل وادعى فيها دعوى وسع الذي في يديه أن يحلفه البتة بالله ماله فيها حق، لأنه وجد سبب الملك في حقه وهو الاستيلاء، وإنه يقضي انتفاء حق الغير، فكان له أن يعتمد على هذا السبب ويحلف.
ألا ترى أنه لو كان مكان ذلك في يديه جارية كان له أن يعتمد على هذا السبب ويطأها، فكذا يجوز الاعتماد عليه في حق الحلف ولو كان المدعي مع المدعى عليه تصالحاً من دعوى المدعي على دارهم، ثم إن المدعى عليه جحد حق المدعي فيه لا يسعه أن يحلف ما له قبله حق، فعلم أنه لا حق له في ذلك الشيء.
وإذا أحال الرجل غريماً من غرمائه على رجل بألف درهم، ثم إن المحتال له قدم المحيل إلى القاضي وهو لا يرى الحوالة توجب براءة الأصل وذلك قبل أن يجحد المحتال له، وقبل أن يفلس، حل للمحيل أن يحلف ما له عليه حق، إذا كان من رأي المحيل أن الحوالة توجب براءة الأصيل؛ لأن لكل أحد أن يتبع رأي نفسه في المجتهدات ما لم يصر مقضياً عليه، وإن قضى للمحتال له بمطالبة المحيل وجعل الحوالة بمنزلة الكفالة به أراد المحيل أن يحلف على براءة نفسه، لا يسعه ذلك؛ لأن قضاء القاضي حصل في محل مجتهد فيه؛ لأن من مذهب زفر والقاسم بن معن، أن الحوالة لا توجب براءة الأصيل فصار المحيل مقضياً عليه فلا يتبع رأي نفسه بعد ذلك، ولا يحلف على براءة نفسه.
رجل في يديه دار يزعم أن طائفة منها له يعلم مقدارها أو لا يعلم، فادعى رجل لنفسه فيها حقاً معلوماً بأن قال أدعي الثلث والربع، فقال المدعى عليه للقاضي: إنا نعلم للمدعي فيها حقاً ولكن لا أدري مقدار حقه فادع إليه ما أحسنت لا ينبغي للقاضي أن يتعرض لذلك بشيء، ولكن يحلف المدعى عليه على ما ادعى المدعي، فإن نكل فقد صار مقراً بذلك القدر أو صار باذلاً لذلك القدر، وأياً ما كان فهو حجة، وإن حلف على ذلك المقدار المعين، فالقاضي يسكن المدعي مع المدعى عليه في الدار بإقراره، أن له فيها حقاً؛ لأنه قد أقر للمدعي بالشركة فيها ولكن أنكر قدر ما ادعاه المدعي، ولم يثبت القدر كما حلف عليه بقي أصل الشركة، وفي حكم الشركة في الدار بين اثنين أو بين جماعة أن يسكنوا فيها، حتى ينتفع كل واحد بنصيبه بقدر الممكن.
قال في كتاب الصلح: رجل ادعى على رجل ديناً أو عيناً والمدعى عليه ينكر ذلك،(8/174)
فاصطلحا على أن يحلف المدعى عليه وهو بريء من المال فحلف المدعى عليه فالصلح باطل والمدعي على دعواه إن أقام بينة أخذه بها؛ وهذا لأن المدعى عليه لو استفاد البراءة إما أن يستفيد بهذا الصلح ولا وجه إليه لأن هذا صلح مخالف قضية الشرع، لأن قضية الشرع أن يمين المدعى عليه لا يمنع المدعي من إقامة البينة، وإما أن يستفيد البراءة بطريق إسقاط الحق ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن حق المدعي في إثبات ما ادعاه بالبينة ثابت شرعاً على وجه لا يتمكن من إسقاطه مع بقاء أصل حقه، وإنه لم يسقط أصل حقه حين طلب يمين المدعى عليه لا يمنع المدعي من إقامة (البينة) ، وإما أن يستفيد البراءة بالتنصيص على البراءة عند الحلف ولا وجه إليه؛ لأن البراءة معلوم بالشرط وتعليق البراءات بالشرط باطل، فإن لم يجد البينة وأراد أن يستحلف المدعى عليه عند القاضي بعد ذلك ينظر إن لم يكن الاستحلاف الأول بين يدي القاضي، فالقاضي يستحلفه ثانياً؛ لأن اليمين عند غير القاضي غير معتبرة؛ لأن المعتبر يمين قاطعة للخصومة، وإن كان الاستحلاف الأول من القاضي لا يحلفه ثانياً؛ لأن اليمين الأولى وقعت معتبرة؛ لأنها وقعت قاطعة للخصومة.
وكذلك لو اصطلحا على أن المدعي لو حلف فالمدعى عليه ضامن للمال، وحلف فالصلح باطل ولا شيء على المدعى عليه لأنه صلح على مخالفة الشرع لأنهما بهذا الصلح جعلا اليمين حجة للمدعي واليمين في الشرع لم تجعل حجة للمدعي.
قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل له على رجل مال مؤجل فقدمه إلى القاضي قبل أن يحل المال الذي يدعيه قبله، فحلف الرجل بالله ما له اليوم عليه شيء، وجهل القاضي وقبل ذلك منه هل يسع الحالف ذلك؟ قال: إن كان لا يرى أن يذهب بحقه فأرجو أن لا يكون بأس فقلت: فهل ينبغي للقاضي أن يقبل ذلك منه؟ قال: لا ولكنه يحلفه بالله ما له قبله شيء.
وذكر في «المنتقى» في باب الاستحلاف: رجل له على رجل ألف درهم نسيئةً، فأراد أن يحلفه بها عند القاضي ينبغي للمدعى عليه أن يقول للقاضي: سله أيدعي حالاً أو نسيئةً، فإذا قال: حالاً يحلف بالله ماله عليّ هذه الألف التي يدعيها ويسعه.
وإذا ادعى رجل على رجل دعوى وجحده المدعى عليه واستحلفه القاضي على ذلك فأبى أن يحلف، فإنه ينبغي للقاضي أن يقول له: إنك نكلت عن اليمين، ومن رأي القاضي بالنكول فأعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بالمال، فلو عرض عليه اليمين بعد ذلك ثلاث مرات وأبى أن يحلف قضى عليه بالمال هكذا ذكر الخصاف في كتابه، وهو مروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ذكر روايتهم في كتاب الاستحلاف، وشرط الخصاف رحمه الله أن يقول له القاضي في كل مرة: احلف وإلا قضيت عليك.
واختلف المشايخ أن التقدير بالثلاث في عرض اليمين هل هو أمر لازم؟ وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا قضى القاضي عليه بالنكول في المرة الأولى، هل ينفذ قضاؤه؟(8/175)
كان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: العرض ثلاث مرات أمر لازم، قيل: وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وبعض مشايخنا قالوا: إنه ليس بلازم.
وذكر شيخ الإسلام في شرح «السير الكبير» : أن القاضي إذا عرض اليمين على المدعى عليه ولم يحلف، إن صرح بأنه لا يحلف، فالقاضي لا يعرض عليه اليمين مرة أخرى، بل يقضي عليه، وإن سكت فالقاضي يعرض عليه اليمين ثلاث مرات ويقول في كل مرة: إن حلفت وإلا قضيت عليك بالمال.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الدعوى أن القاضي لو قضى في المرة الأولى، عامة المشايخ على أنه ينفذ قضاؤه، وبعضهم قالوا: لا ينفذ قضاؤه. قال محمد رحمه الله: والصحيح ما عليه عامة المشايخ.
وجه قول من قال: بأن التقدير بالثلاث ليس بأمر لازم: أن يكون له متسع للتورع عن اليمين الكاذبة إلا أنه يستحب العرض ثلاث مرات حتى يتأمل هل عليه شيء أم لا؛ أو لأنه يحتمل أنه لم يفهم كلام القاضي فالقاضي يبلي عذره فيه، والثلاث حسن لإبلاء العذر. ألا ترى أن المرتد يمهل ثلاثة أيام ولو لم يمهل وقتل في اليوم الأول جاز كذا ها هنا.
وجه القول الآخر: أن النكول حجة محتملة؛ لأنه يحتمل أنه نكل تورعاً عن اليمين الكاذبة، ويحتمل أنه نكل لاشتباه الحال، فما لم يتأيد بمؤيد لا يعمل به فإذا نكل ثلاث مرات فقد وجد المؤيد وقبل ذلك لم يوجد المؤيد فلو أن القاضي عرض عليه اليمين ثلاث مرات وأبى أن يحلف فقضى عليه بالنكول ثم قال أنا أحلف لا يلتفت إليه؛ لأن قضاء القاضي قد نفذ وأفاد حكمه، فلا يمكن نقضه بعد ذلك من غير حجة وهو معنى قول شريح رضي الله عنه في مثل هذه الصورة: قد مضى قضاء لي. ولو قال: أنا أحلف قبل أن يقضي عليه قبل ذلك منه؛ وهذا لأن النكول لا يكون حجة قبل إيصال القضاء به، فلم يلزمه بسببه شيء فكان له أن يحلف بخلاف الإقرار، ويقبل ذلك؛ لأنه عسى كان النكول، ليتأمل هل الأمر كما يزعم المدعي وإنه صادق في الإنكار حلف، فلهذا يقبل ذلك منه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهو نظير ما قلنا في أحد الزوجين إذا أسلم أنه يعرض الإسلام على الآخر ثلاث مرات، ويقول له القاضي: إن امتنعت عن الإسلام أفرق بينك وبين صاحبك فإن امتنع في المرة الثالثة، فالقاضي يفرق بينهما، فإن قال: بعد ذلك أنا أسلم لا ينفعه إسلامه في هذا النكاح، وإن قال: أنا أسلم قبل قضاء القاضي بالفرقة، فالقاضي لا يفرق بينهما.
ثم النكول الذي يترتب عليه القضاء عندنا مختص بمجلس القضاء؛ لأن النكول الذي يترتب عليه القضاء النكول عن اليمين القاطعة للخصومة، واليمين القاطعة للخصومة مختص بمجلس القضاء ويشترط أن يكون القضاء على فور النكول عند بعض المشايخ، وعلى قول الخصاف لا يشترط وقد مر هذا من قبل.(8/176)
قال الخصاف رحمه الله: وإن استمهل المدعى عليه من القاضي يومين أو ثلاثة بعدما عرض عليه القاضي اليمين ثلاث (96أ4) مرات ونكل عن اليمين في كل مرة فلا بأس بأن يمهله القاضي؛ لأنه طلب من القاضي أن ينظر له بالتأخير حتى ينظر فيه، ويتأمل فيزول الاشتباه عنه والقاضي نصب ناظراً، فلهذا قال: لا بأس بأن يمهله القاضي، وإن لم يمهله وأمضى الحكم جاز؛ لأن دليل القضاء قد وجد وعسى يكون مراده من الإمهال تضييع حقه بالتأخير وهو نظير أمر المرتد (إذا) استمهل يمهل له ثلاثة أيام، وإن لم يمهل له وقتل جاز كذا ها هنا، فلو أن القاضي عرض عليه اليمين في المرة الأولى فقال: لا أحلف، فلما عرض عليه اليمين في المرة الثانية قال: أحلف ثم لم يحلف، فالقاضي يحتسب بما سبق حتى يعرض عليه اليمين مرة واحدة بعد ذلك، وإذا نكل قضى عليه، ولو أن القاضي (عرض) عليه اليمين في المرة الأولى فقال: لا أحلف ثم استمهل ثلاثة أيام فأمهله القاضي، فلما مضت الأيام الثلاثة، فالقاضي يستقبل العرض عليه ثلاث مرات ولا يحتسب بما سبق.
والفرق: أن في المسألة الأولى لو لم يحتسب بما سبق لا يمكن القاضي من القضاء بالنكول أصلاً؛ لأنه كلما أراد أن يقضي عليه بالنكول يقول: أنا أحلف، فيحتاج إلى استقبال عرض اليمين ثلاث مرات فيتعذر عليه القضاء، أما في مسألة الاستمهال لو لم يحتسب بما سبق لا يتعذر عليه القضاء بالنكول؛ لأنه لو استمهل مرة أخرى فالقاضي لا يمهله، ولأن عرض اليمين إنما يبقى معتبراً إذا بقي للاستحلاف حقاً مستحقاً للمدعي فبقي العرض معتبراً.
قال: ولو أن المدعى عليه حين أنكر دعوى المدعي، وعرض عليه القاضي اليمين لم يقل: لا أحلف ولكنه سكت، فالقاضي يقول: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن لم تحلف قضيت عليك بما ادعى ثم يعرض عليه اليمين ثلاثاً، فإن حلف وإلا ألزمه ذلك، فقد جعل الساكت ناكلاً وإنما جعل كذلك؛ لأنه بالسكوت امتنع عن اليمين المستحقة فصار به ظالماً فيجعله القاضي ناكلاً ليقضي عليه هل يظلمه؟ ألا ترى أنه لو امتنع عن جواب المدعى عليه بالسكوت، فالقاضي يجعله ناكلاً فكذا هاهنا.
وبهذا يتبين أن النكول نوعان: حقيقي وحكمي، فالحقيقي: أن يقول لا أحلف والحكمي: أن يمتنع عن اليمين، ولكن إنما يجعل الإباء عن اليمين نكولاً إذا عرف أنه ليس في لسانه آفة تمنعه عن اليمين، وإذا عرف أنه ليس في أذنه آفة تمنعه عن سماع كلام القاضي، وهذا لأن الإنسان قد يسمع كلام القاضي، ولكن لا يمكنه أن يجيب؛ لأن في لسانه آفة وقد يمكنه أن يجيب إلا أنه لا يمكنه أن يسمع لآفة في سمعه وما لم يسمع ولم يقدر على الجواب لا يصير ظالماً بالإباء عن اليمين، فلا يجعل امتناعه عن اليمين نكولاً حكماً، وفي مسألتنا هذه عرف أنه لا آفة في لسانه ولا في سمعه؛ لأنه سمع كلام الخصم وأجابه في مجلس القاضي بالإنكار، فلهذا جعله ناكلاً حكماً.
ولو أن المدعي حين قدم المدعى عليه مجلس القاضي وادعى عليه الحلف الذي(8/177)
زعم أنه قبله فسأله القاضي عن دعواه فسكت ولم يجب القاضي لا بقليل ولا بكثير، وكلما كلمه القاضي بشيء لم يرد عليه الجواب، فإن القاضي لا يجعله ناكلاً لجواز أنه كان بسمعه آفة فلم يسمع كلام القاضي أو لم يكن بسمعه آفة إلا أنه كان بلسانه آفة فسمع كلام القاضي، إلا أنه لم يقدر على الجواب فلا يظهر ظلمه فلا يجعله القاضي ناكلاً، ولكن إذا كان في مجلس القاضي من يعرفه، فالقاضي يسألهم عنه، فإن شهدوا أنه عاقل ناطق سميع غير أبكم ولا أصم، فالقاضي يجعله ناكلاً ويقضي عليه، لأنه ظهر في الامتناع عن اليمين، وأما إذا لم يكن في مجلس القاضي من يعرفه فإن القاضي يقيمه عن مجلسه ويأخذ منه كفيلاً حتى يسأل عن معارفه وجيرانه، فإن سأل وأخبروا أنه لا آفة به أعاده إلي مجلسه، فإذا أعاده إلى مجلسه وهو ساكت بعد لا يتكلم:
أجمعوا على أن القاضي ينزله منكراً في حق سماع البينة عليه حتى لو أقام المدعى عليه بينة قبلت بينته وقضى عليه بالمال المدعى به، وأما في حق عرض اليمين عليه ثلاث مرات والقضاء عليه بالنكول هل ينزله منكراً؟ بعض مشايخنا قالوا: هذا على قولهم فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فالقاضي يحبسه ولا يقضي عليه بالنكول.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أما على قول أبي يوسف: فالقاضي لا يقضي عليه بل يحبسه حتى يجيب أو يحلف، وجه قول من قال: يستحلف ويقضي عليه: أنه جعل منكر في حق سماع البينة عليه فكذا في حق عرض (اليمين) ؛ لأن المعنى لا يختلف، وجه قول من قال لا يعرض عليه اليمين: أن الإنكار لم يوجد حقيقة، والشرع إنما شرع عرض اليمين والقضاء بعد ذلك بناء على الإنكار الحقيقي ولم يوجد.
وإن علم القاضي أن بلسانه آفة بأن علم أنه أخرس أمره أن يجيب بالإشارة ويعمل بإشارته، لأن الإشارة من الأخرس قائمة مقام الكلام من الناطق، ألا ترى أنه يعمل بإشارته في حق النكاح والطلاق، فإن أشار بالإقرار تم الإقرار وإن أشار بالإنكار عرض عليه اليمين، فإن أشار بالإجابة كان يميناً، وإن أشار بالإباء يكون نكولاً، فيقضي عليه بالنكول.
حكي عن موسى بن سليمان قال: سمعت محمد بن الحسن رحمه الله (يقول) إذا أراد القاضي أن يستحلف الأخرس يقول له: عليك عهد الله إن كان لهذا عليك هذا الحق ويشير الأخرس برأسه أي نعم ولا يستحلفه بالله ما لهذا عليك هذا الحق فيشير برأسه أي نعم؛ وهذا لأن قوله بالله ما لهذا عليك هذا الحق، لا بد وأن يقول القاضي: قل بالله ليعرف الأخرس أنه يطلب منه اليمين؛ لأن قوله بالله ليس يخاطب الأخرس ولا يعني إلزام الأخرس، فلا بد من خطابه بقوله قل ليعرف أنه طلب منه اليمين.
بخلاف قوله: عليك عهد الله، فإن هناك لا يحتاج إلى أن يقول له القاضي قل علي عهد الله؛ لأن قوله عليك خطاب الأخرس وفيه ما يفتي عن إلزامه عليه فيعرف الأخرس أن القاضي يطلب منه، فلا حاجة إلى الخطاب بكلمة قل ثم إنما الفرق جاء بين الصورتين(8/178)
باعتبار أن الإشارة من الأخرس صحت إذا كانت معروفة كالكلام من الناطق.
ولو قال للناطق: عليك عهد الله إن كان لهذا عليك كذا، فقال نعم (انعقدت) يميناً؛ لأن نعم تتضمن إعادة ما في السؤال في غير الأول في الإيجابات، وقوله: عليك عهد الله ليس بإيجاب فيصير معاداً قوله عليه إن كان، وكأنه قال: علي عهد الله إن كان لهذا علي كذا ولو كان هكذا كان يميناً.
وإذا عرفت هذا في الناطق فكذا في الأخرس وإشارتهم عندهم نعم، ولو كان قال للناطق: قل بالله هذا أمر، وقوله نعم في جواب الأمر لا يجعل جواباً ولا يتضمن إعادة ما في الأمر. ألا ترى أنه إذا قيل في العرف: لرجل أدخل هذه الدار، فقال: نعم لا يجعل جواباً وإذا لم يتضمن إعادة ما في الأمر لا تصير إشارة الأخرس جواباً متضمناً إعادة ما في الأمر فلا يصير الأخرس حالفاً.
وعن بعض المتأخرين من مشايخنا أن من ادعى عيناً في يدي أخرس، فالأخرس يحلف على الإثبات بالله كه أين عين ملك تواست، ولا يحلف على النفي بالله كه أين عين ملك اين مدعى بنست؛ لأنه لو حلف على النفي فهو مشير بالنفي بالله كه أين عين ملك ابن مدعي بنست، وفيه احتمال يحتمل أن يكون نفياً لليمين يعني سموكند نمى خورم، فيحلف على الإثبات تحرزاً عن هذا الاحتمال، وإن كان المدعي أخرس وله إشارات معروفة وخصمه صحيح يحلفه بطلب الأخرس ويحلفه بالله الذي لا إله إلا هو كما إذا كانا صحيحين.
وإن كان المدعى عليه أصم مع كونه أخرس والقاضي يعرفه أنه أصم، فإن القاضي يكتب له ويأمره أن يجيب بالكتابة، وإن كان لا يعرف الكتابة وله إشارة معروفة يؤمر بالإشارة ليجيب وتعامل معه كما تعامل مع الأخرس، وإن كان المدعى عليه مع كونه أخرس وأصم وأعمى، فالقاضي ينصب عنه وصياً ويأمر المدعي بالخصومة معه إذا كان له أب أو جد أو وصيهما، وإن عرف القاضي خللاً في عقله أو عرفه عديم العقل، فإن كان له أب أو جد أو وصي أب أو وصي جد يحضره مجلس الحكم حتى يدعي عليه، وإن لم يكن له واحد من هؤلاء نصب عنه خصماً ثم يسمع الخصومة عليه، نظراً للمدعي بقدر الممكن.
ولو ادعى رجل على رجل مالاً بحكم الشركة وجحد المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه قال: كان في يدي من مالك كذا وكذا بحكم الشركة ولكن قد دفعته إليك وأنكر المدعي الدفع والقبض هل يحلف المدعي على الدفع والقبض؟ ينظر إن كان المدعى عليه أنكر الشركة وكون مال الشركة في يده أصلاً بأن قال: (96ب4) لم يكن بيني وبينك شركة قط وما قبضت منك شيئاً بحكم الشركة لا يحلف المدعي على القبض، وإن كان المدعى عليه قال وقت الإنكار: ليس في يدي من مال الشركة شيء يحلف المدعي؛ وهذا لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة وفي الوجه الأول الدعوى لم تصح لمكان التناقض؛ لأن الجمع بين إنكار الشركة أصلاً وبين دعوى رد مال الشركة غير(8/179)
ممكن، أما في الوجه الثاني الدعوى قد صح لانعدام التناقض؛ لأنه يمكنه أن يقول ليس في يدي من مال شركتك لا أني قد دفعت إليك مال الشرك قبل هذا.
ولو ادعى عبداً في يد غيره، فقال صاحب اليد: إنه لفلان الغائب أودعنيه لا تندفع الخصومة عنه ما لم يقم البينة على ما ادعى عندنا وهي المسألة المخمسة، وإذا لم يقم بينه على ما ادعى حتى اختصما كان للمدعي أن يستحلفه على دعواه، فإن حلف برأ عن الخصومة وإن نكل قضى عليه بما ادعاه المدعي، فإن جاء المقر له الأول كان له أن يأخذ العبد من المدعي؛ لأن إقرار صاحب اليد الأول كان سابقاً على إقراره للمدعي فيثبت حق الأول في زمان لا مزاحم للمدعي فيه، ثم يقال للمدعي: أنت على خصومتك مع الأول، فإن أقام بينة على أنه له أخذه منه وإن لم يكن له بينة على ذلك استحلف الأول، فإن حلف برأ عن خصومة المدعي، وإن نكل قضى عليه بالعبد للمدعي؛ لأنه صار هو الخصم وترتيب الحجج بين الخصوم ما ذكرنا هذا أقر به الأول ونكل المدعي بعد ذلك، ولو لم يقل شيئاً حتى استحلفه المدعي ونكل وقضى به للمدعي ثم أقر به للغير، لا يصح إقراره ولا يضمن لذلك الغير شيئاً.
ولو أن رجلاً في يديه أمة أو عبد أو عرض من العروض، جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه له وقدماه إلى القاضي، فسأله القاضي دعواهما فإن أقر به لأحدهما وجحد الآخر يؤمر بالتسليم إلى المقر له؛ لأن بدعواهما لا يبطل ملكه ويده فإقراره يكون إقراراً على نفسه، فيصح ويؤمر بالتسليم إليه، فإن أراد الآخر استحلافه فلا سبيل له عليه وتكون خصومة الآخر مع المقر له؛ لأن فائدة الاستحلاف النكول الذي هو إقرار وبدل وبعد ما خرج عن ملكه لا يصح منه البدل ولا الإقرار، فإن قال الآخر للقاضي: إنما أقر به له ليدفع اليمين عن نفسه فحلفه لي، فالقاضي يحلفه على ذلك، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإنه ليس بصواب، والصواب أنه لا يحلفه لما ذكرنا أن فائدة الاستحلاف النكول الذي هو بدل أو إقرار.
ولو كان مكان دعوى الملك المطلق دعوى الغصب بأن ادعى رجلان عيناً في يدي ثالث ادعى كل واحد العين له غصبه صاحب اليد منه وقدماه إلى القاضي فأقر بالغصب من أحدهما، وأمر بالتسليم إليه، فأراد الآخر أن يستحلفه كان له ذلك؛ لأنه لو أقر للثاني يصح إقراره؛ لأنه يعيد الضمان عليه إن كان لا يفيد استحقاق العين؛ لأنه يقر للثاني بالغصب حسب إقراره الأول وقد عجز عن رده إلى الثاني والعجز عن رد المغصوب يوجب الضمان على الغاصب، حصل العجز من جهة الغاصب أو جهة القاضي بخلاف مسألة دعوى الملك المطلق فإن هناك لو أقر للثاني بعدما أقر للأول ودفع إلى الأول بقضاء لا يضمن للثاني شيئاً؛ لأنه ما أقر للثاني بلا ضمان؛ لأن مجرد الإقرار لا يصلح سبباً للضمان في حق الثاني، لأنه لا يزيل ملكه، ألا ترى أن الثاني لو أقام بينة أنه ملكه أخذه من الأول، وإذا خرج من الإقرار من البين بقي التسليم وأنه حصل بقضاء وأنه لا يصلح سبب ضمان، وإذا كان لا يضمن للثاني لو أقر بالعين له لم يكن الاستحلاف مفيداً(8/180)
لاستحقاق العين واستحقاق القيمة، فلا يستحلف.
ولو كان مكان دعوى الغصب دعوى الإيداع بأن ادعى كل واحد الوديعة في العين، فقال كل واحد: هذا العين لي أودعته من هذا فأقر به لأحدهما وأمره القاضي بالدفع إليه، فأراد الآخر أن يستحلفه لا يكون له ذلك؛ لأنه لو أقر للآخر بالعين بعد ذلك لا يضمن له، وإن صار العين تالفاً على الآخر؛ لأنه ما صار تالفاً بمجرد إقراره إنما صار تالفاً بالدفع إلى الأول والدفع إلى الأول حصل بقضاء قاض، وإذا كان لا يلزمه الضمان لو أقر به للثاني لم يكن الاستحلاف مفيداً.s
وعلى قول محمد رحمه الله كان له أن يستحلفه؛ لأنه لو أقر للثاني يلزمه الضمان بترك الحفظ، فإذا أقر به للأول فقد سلطه على الآخر فصار تاركاً الحفظ في حق الثاني، فيلزمه الضمان كما لو دل سارقاً على سرقة الوديعة، وإذا كان يلزمه الضمان لو أقر للثاني كان الاستحلاف مفيداً فيستحلفه هذا إذا أقر به لأحدهما، فأما إذا أقر لهما أمر بالتسليم إليهما ولا يضمن لواحد منهما شيئاً، أما في دعوى الملك المطلق فظاهر، وأما في دعوى الوديعة، أما على قول أبي يوسف فظاهر أيضاً، وأما على قول محمد رحمه الله: فلأنه إنما يصير مقراً لكل واحد منهما بالنصف، وقد سلم إلى كل واحد منهما ما أقر به فلم يصر تاركاً الحفظ الملتزم في حق كل واحد منهما بخلاف ما إذا أقر لأحدهما أولاً، ثم أقر به للآخر؛ لأن هناك لم يسلم إلى الثاني ما أقر له، فصار تاركاً للحفظ الملتزم في حق الثاني فضمن له عند محمد رحمه الله وأما في دعوى الغصب فلأنه صار مقراً لكل واحد منهما بالنصف، وقد سلم إلى كل واحد منهما ما أقر له بخلاف ما إذا أقر به لأحدهما ثم أقر به للثاني، فإن أراد أحدهما أن يحلفه على النصف الآخر لنفسه، ففي دعوى الملك المطلق لا يحلف، وفي دعوى الغصب يحلف، وفي دعوى الوديعة على قول أبي يوسف لا يحلف، وعلى قول محمد يحلف، وأما إذا جحد لهما وطلب كل واحد منهما من القاضي أن يحلفه له، فالقاضي لا يحلفه بالله ما هذا العبد لهما؛ لأن كل واحد منهما يدعى جميع العبد فكيف يستحلف له في نصفه، وهذا تحليف لكل واحد منهما في النصف ولكن يستحلف لكل واحد منهما بعد هذا اختلف المشايخ:
بعضهم قالوا: يحلف لهما يميناً واحدة بالله ما هذا العبد لهما لا لهذا ولا يحلف لكل واحد منهما يميناً على حدة؛ لأن عهد ذلك يحتاج إلى البداية بأحدهما وفيه تفويت التسوية، وبعضهم قالوا: يحلف لكل واحد منهما يميناً على حدة والرأي في ذلك للقاضي إن شاء بدأ بأحدهما من غير إقراع، وإن شاء أقرع بينهما تطييباً لقلوبهما ونفياً للتهمة عن القاضي، ثم إذا حلف لكل واحد منهما يميناً على حدة فالمسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا حلف لكل واحد منهما يميناً على حدة وفي هذا الوجه برأ عن دعواهما وهذا ظاهر.
الثاني: إذا حلف لأحدهما ونكل عن الآخر وإنه على وجهين: إن حلف للأول برأ عن دعواه، وإذا نكل للآخر قضى للآخر بكل العين كما إذا ادعاه وهو وحده فحلف ونكل، وإن نكل للأول فالقاضي لا يقضي بنكوله للأول بل يحلف للآخر وينتظر حاله مع(8/181)
الآخر بخلاف ما لو أقر به لأحدهما، فإن هناك القاضي يقضي بالعين للمقر له، وفي النكول قال: لا يقضي للذي نكل له، والفرق: أن الإقرار حجة موجبة الحق بنفسه لا تتوقف على قضاء القاضي، فحين أقر به للأول فقد ثبت الحق للأول فيؤمر بالتسليم إليه، فأما النكول لا يوجب الحق بنفسه بل يتوقف على قضاء القاضي، فإن القاضي بالقضاء به له مقراً أو ناكلاً على حسب ما اختلفوا فيه، فحين نكل للأول لم يثبت الحق بنكوله بل يتوقف على القضاء ولا يمكن للقاضي القضاء للأول ما لم يستحلفه للثاني.
فلو أنه قضى للذي نكل له أولاً مع أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه حصل في محل مجتهد فيه، فإن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن النكول إقرار؛ ولأنه من العلماء من قال يجوز للقاضي، نكل أو لا، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله.
ولو نكل لهما فهو على وجهين إما إن نكل لهما جملة بأن حلفه القاضي لهما يميناً واحدة كما هو قول بعض المشايخ، أو نكل لهما على التعاقب، فإن حلف القاضي لكل واحد منهما يميناً على حدة، كما هو قول المشايخ والحكم في الوجهين واحد، وإنما كان الحكم في الوجهين واحد؛ لأن النكول ليس بحجة في نفسه، وإنما يصير حجة بقضاء القاضي وحال ما يقضي القاضي فقد اجتمع النكولان، فكأنه نكل لهما جملة.
جئنا إلى بيان الحكم فنقول:
في دعوى الملك المطلق، القاضي يقضي بالعين بينهما.
وفي دعوى الغصب القاضي يقضي بالعين بينهما وبقيمة العين بينهما، ولا يضمن شيئاً من قيمة العبد لا لهما ولا لأحدهما، والفرق: وهو أن الإقرار حجة في نفسه لا يبنى على الدعوى ولهذا يصح قبل الدعوى، فإذا أقر بغصب العبد منهما فقد أقر بغصب النصف من كل واحد منهما، فإذا دفع العبد إليهما فقد وصل إلى كل واحد منهما نصف العبد فلا يلزمه شيء آخر، فأما النكول يبنى على الدعوى فكل واحد من المدعيين ادعى لنفسه جميع العبد فيكون نكوله لكل واحد منهما في جميع العبد فاستحق كل (97أ4) واحد منهما عليه جميع العبد ولم يصل إلى كل واحد منهما نصف العبد معنى.
وفي دعوى الوديعة القاضي يقضي بالعبد لهما ولا يقضي بشيء من قيمة العبد عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله: يقضي بقيمة العبد بينهما كما في دعوى الغصب.
ولو أن رجلاً في يديه عبد ورثه من أبيه جاء رجل وادعى أن هذا العبد عبده أودعه أباه الميت وأنكر صاحب اليد، فإنه يستحلف صاحب اليد على دعواه ولكن يستحلف على العلم وهذا ظاهر، فإن حلف برأ وإن نكل قضى به عليه، ثم إذا قضى به عليه وأمر بالتسليم إلى المدعي وسلم جاء رجل وادعى بمثل ما ادعاه الأول، وأراد أن يستحلف المدعى عليه ليس له ذلك.
فرق محمد رحمه الله بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى كل واحد من المدعيين أنه أودعه من صاحب اليد، واستحلف الأول فنكل له فإنه يستحلف للثاني عند محمد رحمه(8/182)
الله؛ لأن الاستحلاف مفيد؛ لأنه لو أقر للثاني يضمن للثاني لتركه الحفظ الملتزم بعقد الوديعة في حق الثاني؛ لأن الابن ليس بمودع بل حصل المال أمانة في يده، وفي مثله لا يجب الضمان بترك الحفظ فلم يكن في الاستحلاف فائدة ها هنا، فلا يستحلف.
قالوا: وهذا إذا لم يكن في يدي الابن شيء من تركة الأب سوى هذا العبد يستحلف للثاني عند محمد رحمه الله؛ لأنه يصح إقراره للثاني فيستحلف له أيضاً وهذا؛ لأن المدعي يدعي على الميت تجهيل الوديعة وتجهيل الوديعة سبب وجوب الضمان، فكان هذا الدعوى الدين على الميت وإقرار الوارث بالدين على الميت إذا كان في يده شيء من التركة صحيح، فيستحلف وإذا نكل يقضى عليه بنكوله ويؤخذ ذلك مما في يده ولو كان دعوى هذا العبد؛ لأنه لو أقر للثاني في هذه الصورة لا يصح إقراره ولا يضمن له شيئاً؛ لأنه ليس بغاصب حتى يضمن للثاني بالأخذ السابق والتسليم ما كان عن اختيار، فلهذا لا يضمن للثاني، وإذا لم يكن عليه ضمان للثاني لم يكن استحلافه للثاني مفيداً فلا يستحلف له، وإذا ادعى على عبد محجور عليه مالاً أو حقاً من الحقوق فالخصم في ذلك العبد حتى كان للمدعي حق إحضاره، فإذا أحضر وأنكر دعواه فله أن يستحلفه أما إذا كان المدعى به مالاً يؤاخذ العبد به في الحال كدين الاستهلاك وما أشبهه، فظاهر؛ لأن دين الاستهلاك ظاهر في حق المولى حتى يباع العبد فيه فصار كدين التجارة في حق المأذون وأما إذا كان مالاً يؤاخذ به العبد للحال وإنما يؤاخذ به بعد العتق كدين الكفالة وكمهر امرأة تزوجها بغير إذن المولى، ودخل بها فلأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه وأنه يؤاخذ به بعد العتق، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن حلف برأ عن الدعوى، وإن نكل ثبت الحق ويصبر المدعي إلى أن يعتق، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
قال الصدر الشهيد رحمه الله: وتصير مسألة العبد المحجور رواية في الدين المؤجل إذا ادعاه صاحب الدين وأنكره المديون، فأراد صاحب الدين أن يحلفه هل له ذلك؟ فقد اختلف المشايخ فيه:
بعضهم قالوا: يحلف استدلالاً بمسألة العبد المحجور، فإنه في الموضعين جميعاً المال واجب في الحال وإنما ما جرت المطالبة وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد وقد ذكرنا روايتهما في صدر هذا الفصل.
وبعضهم قالوا: لا يحلف وهذا القائل يفرق بين المسألتين والفرق أن التأخر في الدين المؤجل بدليل موجب له، وهو التأجيل فأوجب التأخر مطلقاً، فلم يبق واجب الأداء في الحال فلم تصح مطالبة المدعي إياه في الحال، فلم يتوجه اليمين، أما في العبد لا تأجيل في الدين فكان واجب الأداء للحال، ولهذا لو جاء إنسان وكفل به صح ويطالب الكفيل به للحال لكن تأخر المطالبة ضرورة العسرة، فلا يظهر التأخر في حق توجه اليمين عليه كما لو ادعى على المعسر الحر وجحده، فإنه يتوجه عليه اليمين، وإن كان لا يطالب به للحال، ومن العلماء من قال إذا كان المدعى به مالاً لا يؤاخذ به العبد المحجور عليه في الحال، وأراد المدعي أن يحضر العبد مجلس الحكم فللمولى أن يمنعه من ذلك ويقول له: لي حق استخدامه، فإذا أحضر به باب القاضي عجزت عن استخدامه والاستخدام مستحق لي(8/183)
فليس لك إبطاله، هذا كما قلنا في الرجل زوج أمته من إنسان كان له أن يمنعها من الزوج وإن كان للزوج حق الاستمتاع بها بحق النكاح كيلا يفوت حق الاستخدام على المولى كذا ها هنا، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي رحمه الله.
وإن وقع الدعوى على عبد مأذون له في التجارة فالجواب فيه كالجواب في العبد المحجور يحلف العبد سواء كان المدعى به مالاً يؤاخذ به المأذون في الحال أو يؤاخذ به بعد العتق، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله.
ومن قال في العبد المحجور إذا كان المدعى به مالاً لا يؤاخذ به العبد للحال إذا أراد أن يحضر العبد مجلس الحكم فللمولى أن يمنعه، يقول في المأذون كذلك؛ لأن المدعي لا ينتفع بحلفه للحال وللمولى فيه ضرر، فإن الخصومة مع العبد وجره إلى باب القاضي شغله عن خدمة المولى وخدمة المولى حقه، فكان للمولى أن يمنع المدعي من ذلك.
وإن وقع الدعوى على صبي محجور عليه، فإن لم يكن للمدعي بينة لا يكون له حق إحضاره؛ لأنه لا فائدة في إحضاره؛ لأنه لو أقر لا يصح إقراره ولا يتوجه عليه اليمين؛ لأن اليمين للنكول ونكوله ليس بحجة؛ لأنه لا يرتقي درجته على صريح الإقرار منه، وصريح الإقرار منه ليس بحجة فكذلك النكول، وإن كان للمدعي بينة وكان يدعي عليه بسبب الاستهلاك هل يشترط إحضاره؟ فالكلام فيه يأتي بعد هذا في فصل آخر إن شاء الله تعالى.
وإن وقع الدعوى على صبي مأذون فقد ذكر في «الفتاوى» : صبي مأذون باع شيئاً ووجد المشتري به عيباً وأراد رده على الصبي لكون هذا العيب في يده وأراد المشتري أن يحلفه قال: لا يمين عليه حتى يدرك، وعن محمد رحمه الله: لو حلف وهو صبي ثم أدرك لا يحلف، فهذا دليل أن يمينه معتبرة.
وفي «النوادر» : يحلف الصبي المأذون ويقضى عليه بنكوله بمنزلة البائع، وفي إقرار «الأصل» في باب الإقرار بترك اليمين: الصبي التاجر يستحلف، وكذا العبد التاجر، وفي كتاب «الأقضية» : الصبي المأذون إذا أقر بدين التجارة يصح إقراره، وإذا ادعي ذلك عليه وأنكر يستحلف، وإذا أقر بدين ليس هو دين التجارة لا يصح إقراره، وإذا ادعى ذلك عليه وأنكر لا يستحلف.
وفيه أيضاً: إذا وقع الدعوى على الصبي التاجر فيما ورثه عن أبيه يستحلف في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يستحلف.
وفي «الفتاوى» : دار في يد صبي يدعي رجل أن أباه غصبها منه لا يحلف الصبي عليه؛ لأنه لا فائدة فيه ولا ينزع الدار من يده؛ لأنه مالكها ظاهراً.
وذكر أبو الحسن بن عمار الطبري في كتابه: إذا كان صبي مأذون ادعى عليه رجل(8/184)
لا يمين عليه، ولو أقر به جاز.
وإذا ادعى مسلم على ذمي خمراً بعينه يصح، وإذا أنكر يستحلف؛ لأنه لو أقر به يصح فكان الاستحلاف مفيداً، وإذا ادعى عليه استهلاك خمر لا يحلف؛ لأنه لو أقر به لا يلزمه شيء فلا يفيد الاستحلاف.
قال: ويجوز الافتداء عن اليمين بالدراهم، وكذا يجوز الصلح عن اليمين على دراهم حتى لا يكون للمدعي أن يحلف المدعى عليه بعد ذلك، لأن الافتداء عن اليمين والصلح عن اليمين صلح عن إنكار وبعد الصلح على الإنكار لا يسمع دعوى المدعي فيما وقع الصلح عنه.
قال: رجل ادعى عيناً في يدي رجل وأراد استحلاف المدعى عليه، فإن قال المدعى عليه: العين في يدي بميراث وعلم القاضي ذلك، أو لم يعلم ولكن أقر بذلك أو لم يقر المدعي بذلك، ولكن أقام المدعى عليه بينة على ذلك، ففي هذه الوجوه كلها التحليف على العلم يحلف المدعى عليه بالله ما لم يعلم أن عليك تسليم هذا العبد إلى هذا المدعي؛ لأنه في الحاصل تحليف على فعل الغير؛ لأن الوارث يملك الموروث بفعل غيره وهو موت المورث لا بفعله ولهذا ملكه قبل أو لم يقبل، وإن لم يعلم القاضي حقيقة الحال ولا أقر المدعي بذلك ولا أقام المدعى عليه بينة على ذلك، فالقاضي يحلفه البتة، لأن سبب استحقاق اليمين الثبات قد تقرر وهو كون العبد في يده فهو بقوله: وصل إلي بالميراث يريد إسقاط يمين الثبات عن نفسه الميراث فلا يصدق عليه إلا بحجة فإن طلب المدعى عليه من القاضي أن يحلف المدعي ما وصل إليه من جهة (97ب4) فالقاضي يحلفه؛ لأنه يدعي سقوط يمين الثبات عن نفسه، والمدعي لو أقر بذلك يلزمه، فإذا أنكر يستحلف، ولكن يحلف على العلم بالله ما يعلم أنه وصل إليه بالميراث؛ لأنه تحليف على فعل الغير، فإن حلف المدعي على ذلك انتفى الوصول إلى المدعى عليه بجهة الميراث، فيحلف المدعى عليه على العلم، وإن قال المدعى عليه: وصل العين إلى يدي بالشراء أو بالهبة أو بالصدقة من جهة فلان يحلف على الثبات بالله ما عليك تسليم هذا العين إلى هذا المدعي وهذا مذهبنا، والمسألة قد مرت في صدر هذا الفصل.
وإن كان المدعى عليه يدعي لنفسه ملكاً مطلقاً يحلف على الثبات أيضاً، وإن احتمل دعوى الملك المطلق دعوى التمليك بفعل غيره من كل وجه وهو الميراث ودعوى التملك بفعل نفسه من كل وجه بالاصطياد والإحتشاش؛ لأن فيه زيادة زجر وقد مر نظير هذا في صدر هذا الفصل.
قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : العبد المأذون له في التجارة، إذا اشترى جارية ووطئها ثم استحقت من يده وهي ثيّب أن إقرار العبد بذلك الساعة لا يلزمه شيء، وإن أنكر وأراد استحلافه على علمه أحلفه بالله، فإن نكل جعلته عليه إذا عتق.
معنى قوله: أن إقرار العبد بذلك الساعة لا يلزمه شيء، أنه لو أقر بالوطء بعدما استحقت لا يلزمه العقد في الحال، وإنما يلزم بعد العتق.(8/185)
ومعنى قوله: إن أنكر وأراد استحلافه أن العبد لو أنكر الوطئ بعدما استحقت الجارية، وأراد المستحق استحلاف العبد على الوطء بعد استحقاقها حلف بالله.
يجب أن يعلم بأن المأذون بمنزلة الحر في حق بعض الأحكام، وبمنزلة المحجور في حق البعض، ألا ترى أنه لو أقر بثمن جارية اشتراها يؤاخذ به للحال كالحر، ولو أقر بمهر امرأة أو أقر بالجناية لا يؤاخذ به في الحال، وإنما يؤاخذ بعد العتق، ولكن إذا جحد المأذون ما يلزمه في الحال وما يؤاخذ بعد العتق، وأراد المدعي استحلافه يحلف كما في المحجور عليه على ما ذكرنا قبل هذا وهو اختيار الخصاف رحمه الله.
ثم إن الخصاف لم يصحح إقرار المأذون بوطء الثيب بعدما ورد عليها الاستحقاق في حق لزوم العقد للحال وجعله في هذا كالمحجور، ومن المتأخرين من صحح ما ذكره الخصاف رحمه الله، وفرق بين الثيب وبين البكر، فإن الجارية المشتراة إذا كانت بكراً واستحقت من يد المأذون وأقر بوطئها بعد الاستحقاق، يلزمه العقر في الحال، والفرق: أن المستوفى بوطء البكر صفة البكارة، وصفة البكارة مال ولهذا تزداد مالية الجارية، باعتبار هذه الصفة وتنقص بفواتها، وتصير هذه الصفة مستحقة بالشرط كما في باب البيع فثبت أنها مال، فقد أقر العبد بوجوب المال بدلاً عما هو مال، فيؤاخذ به في الحال، كما لو أقر بثمن جارية اشتراها، أما المستوفى بوطئ الثيب ليس بمال، فإنما أقر بوجوب المال بدلاً عما ليس بمال فلا يؤاخذ به في الحال كما لو أقر بجناية أو بمهر امرأة تزوجها، فالمأذون في فصل البكر كالحر، وفي فصل الثيب كالمحجور.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكره الخصاف أن إقرار المأذون بوطئ الثيب غير صحيح في حق لزوم العقد للحال خلاف ما نص عليه محمد رحمه الله في المأذون، والصحيح ما ذكره محمد رحمه الله في المأذون أن إقراره بوطء الثيب صحيح يؤاخذ بالعقد في الحال؛ وهذا لأن العقد إنما يلزم بسبب مقدمة الشراء فكان من توابع الشراء والشراء تجارة، فكان هذا من توابع التجارة، وما كان من توابع التجارة فإقرار المأذون به صحيح ويؤاخذ به في الحال بخلاف ما إذا أقر بمهر امرأة تزوجها عليه لأن ذلك ليس بتجارة، ولا هو من توابع التجارة فلا يؤاخذ به للحال.
الدليل على صحة ما قلنا: أن أحد المتفاوضين إذا اشترى جارية واستحقت من يده، فأقر المشتري أنه كان وطئها وهي ثيب يلزمه العقر ويؤاخذ به صاحبه، وإنما يؤاخذ صاحبه بالمهر.
وفي «الجامع الصغير» : المكاتب إذا وطئ أمة على وجه الملك بغير إذن المولى ثم استحقها رجل فعليه العقر، ويؤاخذ به للحال فقد جعله من توابع التجارة.
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وادعى عليه ألف درهم، وأنكر المدعى عليه ذلك فأراد المدعي استحلافه فقال المدعى عليه للقاضي: إن المدعي حلفني على هذه الدعوى عند قاضي بلد كذا، وأنكر المدعي ذلك، فأقام المدعى عليه بينة على ما ادعى، قبل القاضي بينته؛ لأنه بهذه البينة يثبت إيفاء حق المدعي في اليمين، ولو أثبت إيفاء حقه(8/186)
في المال بالبينة أليس أنه يقبل ذلك منه، كذلك ها هنا، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك وأراد أن يحلف المدعي فله ذلك، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ لأن المدعى عليه يدعي أيضاً حق المدعي في اليمين، ولو ادعى أيضاً حقه في المال وأنكر المدعي ذلك أليس أنه يحلف كذا هنا.
وإذا حلفنا المدعي إن نكل صار مقراً أنه حلف المدعى عليه مرة فلا يحلفه ثانياً، وإن حلف ثبت أنه لم يحلفه مرة، فكان له أن يحلفه ثانياً.
حكى القاضي أبو الهيثم عن القاضي أبي حازم: أنه لا ينبغي للقاضي أن يحلف المدعي على ما ادعاه المدعى عليه في هذه الصورة، ولكن ينبغي للقاضي أن يحلف المدعى عليه في الابتداء بالله ما لهذا المدعي عليك مال لا يحلفك عليه، قالوا: وما قاله أبو حازم أحسن مما قاله الخصاف؛ لأنا لو حلفنا المدعي بالله ما حلفت هذا المدعى عليه على دعواك هذا قبل قاضي بلد كذا، كان للمدعى عليه أن يقول: إنه حلفني على هذا مرة أخرى عند قاضي بلد كذا، ويطلب يمين المدعى عليه على ذلك ثم وثم إلى ما لا يتناهى، فكان ما قاله أبو حازم أحسن من هذا الوجه.
قال: ولو كان المدعي حين ادعى عليه ألف درهم قال المدعى عليه للقاضي: إن هذا المدعي قد كان ادعى علي بهذه الدعوى عند قاضي بلد كذا وكذا ثم خرج عن دعواه إذا برأ منها فحلفه أنه لم يبرأ عن هذا، لا ينبغي للقاضي أن يحلف المدعى عليه بالله ما أبرأت هذا المدعى عليه عن هذه الألف ولا عن شيء منها، وهكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» وأشار إلى الفرق بين دعوى المدعى عليه أن المدعي قد أبرأه وبين دعواه أن المدعي قد حلفه مرة.
واختلف المشايخ فيه منهم من قال: لا فرق بينهما من حيث المعنى وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع هذه المسألة: أن المدعى عليه ادعى البراءة عن الدعوى لا عن الألف، وذكر في الجواب: أن المدعي لا يحلف بالله ما أبرأته عن هذه الألف ولا عن شيء منها وهذا مستقيم؛ لأن الاستحلاف يكون على وفاق الدعوى لا على خلافه، والمدعى عليه ادعي الإبراء عن الدعوى لا عن المال، فلو حلفناه على الإبراء عن المال لا يكون التحليف على موافقة الدعوى.
وموضوع تلك المسألة: أن المدعى عليه ادعى على المدعي أنه حلفه مرة وذكر في الجواب أنه يحلف المدعي بالله ما حلفه، فكان هذا استحلافاً على وفق الدعوى فيحلف.
وزان مسألتنا من تلك المسألة أنه لو أراد القاضي أن يحلفه على الإبراء عن الدعوى كان له ذلك؛ لأنه على موافقة الدعوى، ومنهم من قال: لا يحلف المدعي على البراءة أيضاً، قال فخر الإسلام رحمه الله: وهكذا ذكر محمد رحمه الله في كتاب الكفالة وبين وجه ذلك أن قول المدعى عليه: المدعي أبرَأَني عن هذه الدعوى محتمل، فإنه يذكر ويراد به الإبراء عن العين المدعى به، وإنه لا يصح؛ لأن الإبراء عن الأعيان باطل، ويذكر(8/187)