محمد المسجد مؤبد فتحت الإزالة، عن ملكه وعند أبي يوسف المسجد ليس بمؤبد فلم تتم الإزالة عن ملكه وصار من حيث المعنى كأنه لا إزالة.
ولو اشترى ثوباً وكفن به ميتاً، فإن كان المشتري وارث الميت وقد اشترى بشيء من التركة رجع بالأرش، ولو تبرع بالتكفين أجنبي لم يرجع بأرش العيب، والفرق وهو أن المشتري إذا كان وراثاً وقد اشترى من التركة لمورثه فالملك في الكفن لم يثبت للوارث بل هو على ملك المورث فبقي الملك في الكفن على الوجه الذي أوجبه العقد وقد تعذر الرد، بخلاف ما إذا تبرع أجنبي بالتكفين؛ لأن الكفن ملك المتبرع وبالتكفين أزاله عن ملكه فيبطل حقه من كل وجه كما لو تبرع به على إنسان في حال حياته.
إذا مات العبد المشترى في يد المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب به ورجع على بائعه وهو المشتري الأول بنقصان العيب، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه بنقصان العيب؛ لأن البيع الثاني لم ينفسخ فلم يثبت حق الرد في المشتري الأول فلا يثبت له حق الرجوع بالنقصان خلفاً عنه، وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف يرجع، ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة في «المنتقى» ولم يذكر قول محمد، وذكر في «المنتقى» أيضاً قول محمد في مثل هذه المسألة نظير قول أبي يوسف في هذه المسألة، وذكر قول أبي يوسف بخلافه.
وصورتها: رجل اشترى (79أ3) من آخر جارية وباعها فولدت في يد المشتري الثاني ولداً ووجد بها عيباً قد كان دلسه البائع الأول ولم يعلم به المشتري الأول ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بنقصان العيب لا يرجع المشتري الأول على بائعه بذلك في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن البائع قد كان أعتقه قبل البيع أو دبره، أو كاتب أمة فأقر أنه استولدها، وأنكر البائع ذلك، وحلف لا يصدق المشتري على البائع؛ لأن إقرار الإنسان ليس بحجة على غيره على ما عرف ويكون العبد حراً في الإقرار بالعتق وولاؤه موقوف، وصار مدبراً موقوفاً في مسألة التدبير وكذا في مسألة الاستيلاد، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً علم أنه كان عند البائع، فله أن يرجع بنقصان العيب؛ لأنهما تصادقا على الرجوع بنقصان العيب، أما البائع؛ فلأن في زعمه أن المشتري أقر كاذباً، وإنه صار كالمنسي للإعتاق والتدبير، وذلك لا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب على ما مر، والمشتري يزعم أن البيع وقع باطلاً، وإن له حق الرجوع بجميع الثمن فصار قدر النقصان متفقاً فلهذا رجع بنقصان العيب.
وكذلك لو كان المشتري أقر أنه والأصل والمسألة بحالها رجع بنقصان العيب لما قلنا، ولو كان المشتري أقر أن العبد لم يكن للبائع يوم باعه، وإنما كان لفلان فصدقه المقر له في ذلك، فإن شاء أجاز البيع وأخذ منه الثمن وإن شاء لم يجز وأخذ العبد؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن البائع كان فضولياً في هذا البيع وأن البيع توقف على إجازة المقر فيكون له الخيار، فإن أجاز بيعه وأخذ الثمن، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً قديماً لم يرجع بشيء على البائع؛ لأن الإقرار من المشتري نزل منزلة التمليك، ولا نعني به أن الإقرار تمليك مبتدأ؛ لأن الإقرار خيار عن كائن سابق والتمليك إنشاء الملك، ولكن نعني به أن الإقرار بدل عن التمليك؛ لأن الإقرار بالملك إخبار عن سبق الملك والملك لا بد له من التمليك ولكن الإقرار إنما يدل على سبق التمليك بأدنى زمان يمكن فيجعل كأن المشتري ملكه منه، ثم أقر له بناءاً على ذلك، فإذا كان هكذا انقطع ملك المشتري عن المبيع فبطل حقه في العيب أصلاً، وهذا إذا صدقه المقر له في الإقرار، فإن كذبه فيه رده بالعيب؛ لأن الإقرار نفسه ليس بتمليك، وإنما يثبت التمليك في ضمن الإقرار، فإذا بطل الإقرار بطل التمليك الذي يثبت في ضمنه.
وكذلك لو كان الإقرار من المشتري بهذا بعد علمه بالعيب وكذبه المقر له رده المشتري على البائع، بخلاف ما إذا عرضه المشتري على البيع بعد العلم بالعيب.
والفرق وهو أن العرض على البيع إنشاء تصرف يعتمد الملك في المحل بعضه الأصل فيكون ذلك دليلاً على تقرير ملكه وإبطال حقه في العيب، فأما الإقرار كما يصح في الملك يصح في غير الملك حتى أن من أقر بما لا يملك، ثم ملكه يوماً من الدهر يؤمر بالتسليم إلى المقر له فلا يكون هذا رضاً من المقر ينوب ملكه.
ولو وجد به المشتري عيباً قديماً وقد حدث عنده آخر حتى امتنع رده وذلك قبل إقراره فرجع بنقصان العيب، ثم أقر به المشتري المقر له وصدقه المقر له لم يرجع البائع على المشتري بنقصان العيب الذي أخذ منه؛ لأن أكثر ما في الباب أن الإقرار من المشتري جعل بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر أن التمليك إنما يثبت سابقاً على الإقرار بأدنى يوم يمكن فيحمل وجود التمليك بعد الرجوع بنقصان العيب، ويحتمل أن يكون قبله فلا يبطل المأخوذ بالشك، وفي الفصل الأول لا يثبت حق الرجوع للمشتري بالشك.
قال: رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم، وتقابضا فأقر المشتري أن العبد لفلان أعتقه قبل أن اشتريه وأنكر البائع ذلك كله فهو على وجوه: أما إن صدقه المقر له في الملك والإعتاق، أو صدقه في الملك دون الإعتاق، أو كذبه فيهما جميعاً.
ففي الوجه الأول: كان العبد مولى للمقر له؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق، فإذا صدقه في الملك نفذ الكل عليه، وإن وجد المشتري بالعبد عيباً قديماً لم(6/567)
يرجع بشيء؛ لأنه لما ثبت الملك للمقر له بإقرار المشتري ولم يصدقا على البائع جعل كأن المشتري ملكه بعد الشراء تمليكاً مبتدأ، ثم أعتقه المقر له، ثم أقر به المشتري، ولو كان كذلك لم يرجع المشتري على البائع بشيء فههنا كذلك.
وفي الوجه الثاني: دفع العبد إلى المقر له وكان عبداً له لا يعتق عليه؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق فثبت ما أقر به بحكم التصديق، وبطل ما شهد به بحكم التكذيب، وإن وجد المشتري به عيباً لم يرجع بشيء لما قلنا: إن الإقرار منه بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر.
وفي الوجه الثالث: عتق العبد على المقر؛ لأنه مالكه ظاهراً وقد أقر بحريته حيث(6/568)
نسب الإعتاق إلى من يزعمه مالكاً والمالك الظاهر متى أقر بحرية مملوكه يعتق وكان الولاء موقوفاً لما قلنا قبل هذا، وإن وجد المشتري بالعبد عيباً قديماً يرجع بنقصان العيب على البائع؛ لأن المقر بهذا الإقرار جعل كالمنسي للإعتاق ولم يجعل بمنزلة الملك؛ لأن التمليك إنما كان مقتضياً للإقرار بالملك للمقر له وقد بطل الإقرار بتكذيب المقر له فبطل ما ثبت في ضمنه.
ولو أقر المشتري أنه اشتراه وهو لفلان إلا أن المشتري قال أعتقه فلان بعد شرائي لا يرجع بنقصان العيب، أما إذا صدقه المقر له فيهما أو صدقه في الملك دون الإعتاق فلما قلنا، وكذلك إذا كذبه فيهما فرق بين هذا وبين ما تقدم، والفرق وهو: أن فيما تقدم المشتري زعم أن شراؤه وقع على حر فلم يثبت الملك له حتى يجعل الإقرار بالملك لفلان تمليكاً مبتدأ، منه أما ههنا إقرار الشراء وقع على مال متقدم وشراء ما هو مال متقدم صحيح فقد أقر بصحة الشراء، ثم أقر للمقر له بالملك على وجه لا يحتمل البطلان، والإقرار بالملك لفلان بعد الإقرار بصحة الشراء إقرار منه بالتملك من فلان وتعلق به حق البائع وهو أن تنقطع خصومة المشتري منه في العيب، وبتكذيب المقر له إن بطل الإقرار في حق المشتري لم يبطل في حق البائع.
استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن المشتري إذا قال: بعت العبد من فلان، وإن فلاناً أعتقه بعد الشراء وكذبه فلان، ثم وجد المشتري به عيباً لم يرده ولم يرجع بشيء؟ لأنه أقر بالتمليك من فلان على وجه لا يحتمل النقض وقد تعلق به حق البائع الأول من حيث البراءة عن العيب ولئن بطل إقرار البائع الثاني في حقه بتكذيب المقر له لم يبطل في حق البائع الأول كذا هنا.
ثم فرع على مسألة الاستشهاد وقال: لو ادعى أنه باعه من فلان ولم يذكر الإعتاق وكذبه المشتري الثاني وحلف وعزم البائع (79ب3) على ترك الخصومة كان له أن يرده على البائع الأول؛ لأن العقد قد انفسخ في حق المشتري الثاني بتكذيبه، وتوقف في حق البائع الثاني على رضاه، فإذا عزم على الفسخ فيما بينهما بتراضيهما فعاد العبد إلى قديم ملك المشتري الأول فكان له الرد بالعيب وشرط عزم المشتري الأول على ترك الخصومة حتى يتم النقص في حقه، لو وجد المشتري الأول بينة فأقامها على البائع الثاني قبل العزم على ترك الخصومة لا يلتفت القاضي إلى ذلك.
وهو نظير ما قال في «الجامع الصغير» في رجل ادعى على رجل أنه باع أمته وحجد المشتري وحلف، وعزم البائع على ترك الخصومة كان له أن يطأها، والمعنى ما مر، ثم ما ذكر هنا إشارة إلى أن عند العزم على ترك الخصومة ينفسخ العقد من الأصل ولم يجعل هذا إقالة في حق البائع الأول، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي ألزم المشتري الأول حكم الفسخ بغير رضاه وما يلزم الإنسان من غير رضاه لا يمكن أن يجعل إقالة.
رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن العبد مدبر لهذا الرجل أو كانت أمة فأقر المشتري أنها أم ولد لهذا الرجل اشتراهما وهما كذلك أو حدث(6/569)
المقر له فيهما أو كذبه في التدبير والاستيلاد وصدقه في الملك أوكذبه في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك بعد الشراء، وإنما يخالف هذا الأول فيما إذا كذبه المقر في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك قبل الشراء، فإنه قال في الإعتاق يرجع بنقصان العيب وفي التدبير والاستيلاد لا يرجع.
والفرق: أن في مسألة الإعتاق والشراء زعم أن شراءه وقع على الحر ولم يثبت الملك له فلم يجعل الإقرار من المشتري تمليكاً مبتدأ منه ولم يتعلق به حق البائع بل جعل المقر كالمنسي للإعتاق فملك الرجوع بالنقصان.
أما في مسألة التدبير والاستيلاد المشتري اعترف بقيام المالية وقت الشراء؛ لأن المدبر وأم الولد مالان محلان للبيع، ولهذا جاز البيع فيهما بقضاء القاضي، ويجوز البيع فيما ضمت إليهما فيثبت الملك للمشتري، وصار مقراً بملك حادث للمقر له من جهته، ويعلق به حق البائع وهو بطلان خصومة المشتري معه في العيب، إلا أنه بإسناد التدبير إلى ما قبل الشراء ادعى معارضاً مانعاً ثبوت الملك له بالشراء مع قيام المحلية فلم يصدق في دعوى الإسناد فيما يرجع إلى حق البائع فلهذا لم يرجع بنقصان العيب.
ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى سمناً ذائباً فأكله، ثم أقر البائع أنه قد كان وقع فيه الفأرة وماتت يرجع بنقصان العيب عند أبي يوسف ومحمد، وعليه الفتوى.
إذا اشترى شجرة وقطعها فوجدها لا تصلح إلا للحطب يرجع بنقصان العيب، إلا أن يأخذها البائع مقطوعة، في هذا الموضع أيضاً، قالوا: وهذا إذا اشترى لا لأجل الحطب أما إذا اشتراها لأجل الحطب، لا يرجع بنقصان العيب.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم اشترى عصيراً وقبضه وتخمر في يده، ثم اطلع على عيب به لم يرده ويرجع بنقصان العيب؛ لأن تعذر الرد كان لا يضيع من جهه المشتري، فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر بعينها فليس له ذلك؛ لأن امتناع الرد لحق الشرع؛ لأن الرد بالعيب بغير قضاء عقد جديد في حق الثالث وحرمة تمليك الخمر حق الشرع فصار الرد بالعيب عقداً جديداً في حق الشرع، فيمتنع في الخمر، فعلم أن امتناع الرد لحق الشرع فلا يسقط برضا العبد، فإن لم يخاصم في العيب حتى صارت خلاً رجع بنقصان العيب ولا يرده بالعيب إلا أن يقبله البائع؛ لأن العين وإن عاد مالاً متقوماً إلا أنه لم يعد حلواً، والرغبات مختلفة باختلاف الصفات فلا يرده إلا أن يقبله البائع؛ لأن امتناع الرد لحق البائع وقد رضي به البائع.
ولو أن نصرانياً اشترى من نصراني خمراً وتقابضا، ثم أسلما، ثم وجد المشتري بالخمر عيباً لا يرده بالعيب، وإن قبله البائع كذلك، ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن لم يرجع بنقصان العيب حتى صار الخمر خلاً لم يرده بالعيب، إلا أن يرضى البائع.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل اشترى الجوز أو البيض فيكسره فيجده فاسداً فله أن يرده ويأخذ الثمن كله، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: يريد به إذا وجده خاوياً علي أو وجده منتن اللب أو وجد البيض مذرة؛ لأنه تبين(6/570)
أن البيع لا يصح لما نبين بعد هذا إن شاء الله، أما إذا وجده قليل اللب أو وجد لبه فاسداً ولم يكن مكتنزاً فهو من باب العيب وليس من باب الفساد وقد تعذر الرد بسبب الكسر فيرجع بنقصان العيب إلا أن يرضي البائع بأن يأخذه مكسوراً، حتى لو وجده بهذه الصفة قبل الكسر كان له الرد بسبب العيب؛ لأن الرد ممكن.
والمسألة على هذا التفسير مذكورة في «المنتقى» ، وصورة ما ذكر ثمة إذا اشترى جوز فكسره فوجده فاسداً، فإنه يرده ما بقي ويأخذ الثمن، وإن كان ما كسر ينتفع به وله ثمن بأن كان قليل اللب أو كان أسود اللب، فإنه لا يرده ولا يرد ما بقي، ولكن يرجع بنقصان العيب فيما كسر، قال ثمة: فهذا عيب والأول ليس بعيب بل هو عدم، وهذا إذا كسره ولم يعلم بالعيب أما إذا كسره وهو عالم بعيبه صار راضياً فيبطل حقه في كل وجه.
ثم ما ذكر في «الكتاب» مستقيم في البيض، فإنه لا قيمة لقشره، فإذا وجده فاسداً يتبين أن المبيع لم يكن مالاً فتبين أن البيع كان باطلاً لعدم مصادفته محله فيرده ويرجع بجميع الثمن، وفي الجوز أيضاً مستقيم إذا لم يكن للقشر قيمة أما إذا كان للقشر قيمة بأن كان في موضع يعد الحطب ويستعمل قشر الجوز استعمال الحطب فوجد خاوياً، اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يرجع بحصة اللب ويصح العقد في القشر بحصته؛ لأن العقد في حق القشر صادف محله، ومنهم من قال: يرد القشر بجميع الثمن؛ لأن مالية الجوز قبل الكسر باعتبار اللب دون القشر، فإذا كان اللب لا يصلح للانتفاع به لم يكن محل البيع موجوداً وإن كان للقشر قيمة فتبين أن العقد وقع باطلاً، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي.
وإذا اشترى بيض نعامة فكسرها ووجدها مذرة ذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : أنه يرجع بنقصان العيب ولا يرجع بجميع الثمن؛ لأنه ينتفع بقشرها فكونها مذرة يكون عيباً فيها فيرجع بنقصان العيب فهذا الفصل يجب أن يكون بلا خلاف؛ لأن مالية بيض النعامة قبل الكسر باعتبار القشر وما فيه بخلاف قشر الجوز على قول بعض المشايخ، وأما إذا كسر بيض النعامة فوجد فيها فرخاً ميتاً اختلف فيه المتأخرون، منهم من قال: لا يجوز؛ لأنه اشترى شيئين وأحدهما ميت فلا يجوز كما بعد الانفصال، ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الميت في معدته ومثل هذا لا يمنع جواز العقد كما إذا اشترى جارية وفي بطنها ولد ميت.
وأما إذا وجد (98أ3) البعض فاسداً، لم يذكر في «الكتاب» ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: إذا اشترى ألفاً أو ألوفاً من الجوز فوجد فيها عيباً أو وجدها خاوية لا يرجع بشيء؛ لأن الكثير من الجوز لا ينجو عن مثل هذا في العرف والعادة، وهو نظير التراب في الحنطة، ثم إنه جعل فلولا في الألف والألوف جميعاً وما ورد على ذلك البيض فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر أيضاً أنه قال: إذا اشترى مائة بيضة فوجد فيها واحداً أو اثنين أو ثلاثة مذرة لا يكون له أن يرجع بشيء، وجعل الثلاثة في المائة قليلاً.
وأما إذا اشترى عشرة من الجوز فوجد فيها خمسة خاوية اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن بالإجماع، وقال بعضهم: يفسد العقد في الكل بالإجماع، وبعضهم قالوا: العقد يفسد في الكل عند أبي(6/571)
حنيفة؛ لأنه جمع في العقد بين ما له قيمة وبين ما لا قيمة له فصار كالحر والميتة، وعندهما يصح العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن وهو الأصح؛ لأن هذا بمعنى الثمن المفضل عندهما، فإن الثمن ينقسم على الأجزاء لا على القيمة.
وكذلك إذا اشترى بطيخاً وكثيرها منتناً لا تصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب، فإنه يرجع بجميع الثمن، فإن كان لا يصلح لعلف الدواب، أو كان قشره يصلح لعلف الدواب فهذا من باب العيب فيرجع بنقصان لتعذر الرد بسبب الكسر، وكذلك إذا اشتراه فوجده مراً أوكان يصلح لعلف الدواب أو يتكلف بعض الناس لأكله فهذا من باب العيب، وإن كان لا يصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب فالعقد باطل وعلى هذا حكم الثمار وغيره من الفواكه.
وفي «المنتقى» : اشترى بطيخاً بدرهم عدداً وكسر واحداً بعد القبض فوجده فاسداً لا ينتفع به فله أن يرجع بحصتها ولا يرد غيرها، وقال: وليس البطيخ في هذا كالجوز، يريد به أن في الجوز إذا وجد بعضه فاسداً رده كله.
قال: واللوز والفستق والبندق والبيض نظير الجوز والرمان والسفرجل والقثاء والخيار نظير البطيخ.
وفي «المنتقى» : اشترى دابة وقبضها فسرقت من يده، ثم علم بها عيباً لم يكن له أن يرجع إلى البائع بنقصان العيب رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة.
وفيه أيضاً: اشترى ثوباً فقطعه لابن صغير له ثوباً وخاطه فوجد به عيباً فليس له أن يرجع بنقصان العيب، ولو كان الابن كبيراً رجع؛ لأن الوجه الأول: الهبة تمت بالقطع ولم يمتنع الرد بالقطع، فإن البائع لو رضي به يجوز فكانت الهبة في حال لم يكن الرد ممتنعاً، فيبطل بها حق الرد وهو الأصل، فيبطل الحلف وهو الرجوع بنقصان العيب، أما في الوجه الثاني: الهبة إنما تتم بالتسليم وبالخياطة امتنع الرد فالهبة وقعت في حال كان حق الرد باطلاً، وثبت حق الرجوع بنقصان العيب فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، وكذلك لو قطع لمملوكه أو لأم ولده فله أن يرجع بنقصان العيب.
وفي «فتاوي الفضلي» : اشترى بعيراً قبضه فلما أدخله داره سقط فذبحه إنسان فنظروا إلى أمعائه فوجدوها فاسدة فساداً قديماً، ينظر إن ذبحه الذابح بغير أمر المشتري، لم يرجع المشتري على البائع بالنقصان؛ لأن الذابح يضمن القيمة، وإن ذبحه بأمر المشتري يرجع المشتري عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما لو اشترى طعاماً فأكله، ثم وجد به عيباً، فإنه يرجع بنقصان العيب.
وإذا اشترى حملاً وظهر به عيب فوقع فانكسر عنقه فنحره، ليس له أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن النحر حصل بعد العلم بالعيب وذلك يمنع الرجوع بالنقصان.
رجلان لكل واحد منهما بعير فتبايعا وتقابضا، ثم وجد أحدهما عيباً في البعير الذي اشتراه فمات في يده وقد مرض البعير الآخر فله الخيار، إن شاء رجع بحصته العيب من الآخر وإن شاء رجع بحصته العيب من قيمة البعير الآخر صحيحاً، وإنما نحر لمرض البعير الآخر.(6/572)
ولو اشترى عبداً بجارية وتقابضا فوطء المشتري الجارية، ثم رأى العبد صاحبه فلم يرضه، أو وجد به عيباً فرده يخير، إن شاء ضمن مشتري الجارية قيمتها يوم قبضها مشتريها، وإن شاء أخذ الجارية ولا يضمنه النقصان إن كانت بكراً ولا العقر إن كانت ثيباً؛ لأن الوطء حصل في ملك المشتري الواطئ.
نوع آخر منه في دعوى العيب والخصومة فيه وإقامة البينة عليه
يجب أن يعلم أن العيب نوعان: ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة والعيان كالقروح والعمى والإصبع الزائدة وأشباهها، وباطن لا يعرفها القاضي بالمشاهدة والعيان.
والظاهر أنواع: قديم كالأصبع الزائدة ونحوها، وحديث لا يحتمل الحدوث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كأثر الجدري وما أشبه ذلك، وحادث يحتمل الحدوث من البيع إلى وقت الخصومة كالجراحات وما أشبهها، وحادث لا يحتمل التقدم على مدة البيع.
وأما الباطن فنوعان: نوع يعرف بأثار قائمة كالثيابة والحبل والذاء في موضع لا يطلع عليها الرجال، ونوع لا يعرف بآثار قائمة كالسرقة والإباق والجنون، فإن كانت الدعوى في عيب ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة ينظر إليه، فإن وجده سمع الخصومة ومالا فلا، ثم إذا سمع الخصومة، فإن كان العيب قديماً أو حادثاً لا يحدث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كان للمشتري أن يرد؛ لأنا عرفنا قيامه للحال بالمعاينة وتيقنا بوجوده عند البائع إذا كان لا يحدث مثله، أو لا يحدث في مثل هذه المدة فيرده المشتري، إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري الرد بالرضا أو غيره ويكون القول قول المشتري فيه مع يمينه، ثم عند طلب البائع يمين المشتري يحلف المشتري باتفاق الروايات وعند عدم طلبه هل يحلف المشتري عامة المشايخ على أنه لا يحلف في ظاهر الرواية.
ورأيت في «المنتقى» رواية عن أبي يوسف: أن المشتري إذا أراد الرد بعيب لا يحدث مثله يحلف بالله ما علم بالعيب حين اشتراه ولا رضي به منذ علم ولا عرضهُ على بيع. قال: وكان أبو حنيفة يقول: لا أحلف المشتري حتى يدعي ذلك البائع، قال: وأجب إلى أن استحلفه وإن لم يدع البائع ذلك، وعن أبي حنيفة رواية أخرى: أن المشتري لا يحلف على ذلك من غير فصل.
ثم كيف يحلف المشتري أكثر القضاة على أنه، يحلف بالله ما سقط حقك في الرد بالعيب من الوجه الذي يدعيه لا نصاً ولا دلالة وهو الصحيح.
وإن كان عيباً يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة ويحتمل التقدم عليه، أو كان مشكلاً فالقاضي يسأل البائع أكان به هذا العيب في يدك، فإن قال: نعم كان للمشتري حق الرد إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري في الرد ويثبت ذلك بنكوله أو بالبينة، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه إن لم يكن للمشتري بينة على كون هذا العيب عند البائع.(6/573)
ثم كيف يحلف البائع. (98ب3) ذكر في «الأقضية» في موضع: يحلف بالله لقد بعته وما به هذا العيب، وهذا الإنكار يصح لجواز أنه حدث به هذا العيب بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي لثبوت حق الرد. وذكر في موضع آخر منه: أنه يحلف بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» والقدوري في «كتابه» . وهذا لا يكاد يصح لجواز أن العيب حدث بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي للرد، فمتى حلفناه عليهما كان البائع باراً في يمينه لو كان العيب حادثاً بعد البيع قبل التسليم، فيبطل حق المشتري في الرد.
وذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف بالله لقد سلمته بحكم هذا البيع وما به هذا العيب، وهذا لا يكاد يصح أيضاً لجواز أنه كان، إلا أن المشتري رضي به أو أبرأه عنه، فالاعتماد على ما روى بشر عن أبي يوسف: أنه يحلف بالله ما لهذا المشتري قبلك حق الرد بالعيب الذي يدعيه، وهذا تحليف على الحاصل، وإنه موافق لمذهب محمد رحمه الله في كثير من المسائل على ما يأتي بيانه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وإن كان عيباً لا يحتمل التقدم على مدة البيع، فالقاضي لا يرده على البائع؛ لأنه تيقن بانعدامه في يده، وأما إذا كان البيع باطناً، فإن كان يعرف بآثار قائمة في البدن، وكان ذلك في موضع يطلع عليه الرجال، فإن كان للقاضي بصارة بمعرفة الأمراض ينظر بنفسه في ذلك، وإن لم يكن له بصارة في ذلك يسأل عن من له بصارة في ذلك ويعتمد على قول مسلمين عدلين وهو أحوط والواحد يكفي، فإذا أخبره واحد مسلم عدل بذلك يثبت العيب بقوله في حق توجه الخصومة فيحلف البائع ولا يرد بقول هذا الواحد هكذا ذكر بعض المشايخ في «شرح الجامع» وفي «شرح أدب القاضي» الخصاف.
وذكر بعض المشايخ في «شرح المبسوط» : أنه ما لم يتفق اثنان عدلان من الأطباء لا يثبت العيب في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك ينظر إن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة عرف ذلك بقول الواحد أو المثنى أو أشكل عليهما ذلك اختلفوا فيما بينهم، فإنه لا يرد على البائع بل يحلف، وإن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة بأن عرف وجوده بقول الواحد لا يرد ويحلف البائع، وإن عرف وجوده بقول المثنى ذكر في الأقضية، وفي القدوري: أنه يرد بقولهم، وهكذا ذكر في «شرح الجامع» ، وعن أبي يوسف: أنه لا يرد بقول المثنى ويحلف البائع؛ لأنهم لا يهتدون عن حقيقة الأمر، وإنما يشهدون عما لا يصلح حجة للرد، وفي «أدب القاضي» للخصاف: أن قبل القبض يرد بقول المثنى وبعد القبض يحلف البائع، وإن كان عيباً لا يطلع عليه إلا النساء كالحبل وما أشبه ذلك، فالقاضي يريها النساء، الواحدة (من) النساء العدلة يكفي والثنتان أحوط، فإذا قالت واحدة عدل: أنها حبلى أو قالت اثنتان ذلك بقيت في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك أن قالت أو قالتا حدث في مدة البيع لا يرد على البائع ولكن حلف البائع، فإن نكل الآن يرد عليه، وإن قالت أو قالتا كان ذلك بعد القبض لا يرد ولكن يحلف البائع؛ لأن شهادة النساء حجة ضعفة والعقد بعد القبض(6/574)
قوي، ولا يجوز فسخ العقد القوي بحجة ضعفة. وإن كان ذلك قبل القبض فكذلك لا يرد بقول الواحد هل يرد بقول المثنى؟ ذكر بعض مشايخنا: أن على قياس قول أبي حنيفة لا يرد، وعلى قولهما يرد. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه لا يرد في ظاهر رواية، أصحابنا وفي «القدوري» : أنه لا يرد في المشهور من قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن ثبوت العيب بشهادتين أمر ضروري ومن ضرورة ثبوت العيب توجه الخصومة لما ليس من ضرورته الرد فيحلف البائع، فإذا نكل فقال: بدت بشهادتين بنكوله فيثبت الرد. وروي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مطلقاً: أنه يثبت الرد بشهادتهن؛ لأن شهادة
النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كشهادة الرجال فيما يطلع الرجال، وعن محمد في رواية ابن سماعة مطلقاً: أنه يثبت الرد بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال إلا في الحبل؛ لأن معرفة الحبل غير ممكن؛ لأن الحبل من جملة ما توخى الله علمه بنفسه، أما معرفة ما سوى الحبل حقيقة ممكن بالنظر إليه فجاز الرد بشهادتهن. وفي «النوادر» عن أبي يوسف: أن قبل القبض يثبت الرد بشهادتهن بخلاف ما بعد القبض، والفرق: أن شهادة النساء وإن كانت حجة ضعيفة إلا أن العقد قبل القبض ضعيف أيضاً، ولهذا ملك المشتري الرد بالعيب قبل القبض من غير قضاء ولا رضا ويجوز فسخ العقد بحجة ضعيفه بخلاف ما بعد القبض.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف: اشترى جارية فقبضها وادعى أنها رتقاء أريها النساء، فإن قلن هي رتقاء رددتها على البائع وكذلك إذا ادعى أن بها كية قديمة في موضع لا ينظر إليه إلا النساء قال وأرد في مثال هذا بقول امرأة واحدة، قال ثمة: وحكي عن محمد بن الحسن مثل ذلك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى جارية وادعى أن لها حبلاً وأراد ردها بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فإن القاضي يحلف البائع البيتة بالله لقد بعتها وما بها حبل، وإن قال المشتري للقاضي: حلفه ما يعلم أن بها حبلاً فالقاضي يحلفه، فإن حلف على ذلك لا يحلف البتة حتى يشهد نساء أنها حامل، فإذا شهد بذلك حلف على ذلك البته على نحو ما ذكرنا، فإن لم يحلف على العلم حلف البتة لقد باعها وما بها حبل.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: اشترى جارية وادعى أن بها حبلاً وأحضر أمرأة عدلة شهدت بذلك، قال: أقبل شهادتها على أن استحلف البائع بالله لقد باعها وقبضها المشتري وما هي يومئذ بحامل، وإذا لم تشهد المرأة قلت للبائع: أهي حامل عندك الساعة، فإن لم يقر قلت: أحلف ما هي عندك الساعة حامل.
وعن إبراهيم عن محمد: أن من اشترى في آخر جارية وادعى أنها خنثى يحلف البائع على ذلك؛ لأن هذا من جملة ما لا يطلع عليه الرجال والمرأة فيعذر معرفة ما وقع فيه الدعوى من جهة غيرها فيعتبر الدعوى والإنكار، والجواب في دعوى الاستحاضة في حق حكم الرجوع إلى النساء لتوجه الخصومة وفي الرد بشهادتهن قبل القبض وبعده كالجواب في دعوى الحبل على الوجه الذي ذكرنا كذا ذكر في كتاب «الاستحلاف» .(6/575)
ولكن إذا شهد الرجال على الاستحاضة قبلت شهادتهم؛ لأن درور الدم يراه الرجال فجاز أن يثبت بشهادتهم. وأما إذا ادعى المشتري انقطاع حيضها وأراد ردها بهذا السبب لا يوجد لها رواية في المشاهير، وحكي عن الحاكم الإمام أبي محمد الكوفيين أنه قال: يسأل المشتري أولاً عن مقدار مدة الانقطاع، فإن ادعى الانقطاع في مدة يسيرة لا يعد (99أ3) عيباً، وإن ادعى الانقطاع في مدة كثيرة سمعت دعواه؛ لأن الناس يعدونه عيباً، فحينئذٍ يسأل البائع: أهي كما ادعاه، فإن قال: نعم، سأله: أكانت منقطعة الحيض عنده، فإن قال: نعم، ردها بإقراره عليه، وإن قال: هي كذلك للحال، ولكن ما كانت منقطعة الحيض عنده، وإنما حدث هذا العيب في يد المشتري توجهت الخصومة على البائع لتصادقهما على قيام العيب في الحال، فإن طلب المشتري يمين البائع يحلف البائع على ذلك.
وكيفية الاستحلاف فيه كما في دعوى سائر العيوب، فإن حلف برئ، وإن نكل يرد عليه؛ لأن نكوله بمنزلة إقراره، وإنه حجة ملزمة، فإن شهد للمشتري شهود على انقطاع الحيض عند البائع لا تقبل شهادتهم بخلاف ما لو شهدوا على كونها مستحاضة، والفرق أن الاستحاضة درور الدم، وإنه مما يوقف عليه، أما انقطاع الحيض على وجه يعد عيباً لا يقف عليه الشهود، فقد تيقن القاضي بكذبهم، فلا يقبل شهادتهم.
وإن أنكر البائع انقطاع حيضها للحال هل يستحلف البائع على ذلك؟ على قول أبي حنيفة لا يستحلف، وعلى قولهما يستحلف.
بعد هذا يحتاج إلى بيان المدة اليسيرة والكثيرة. قالوا: ويجب أن تكون هذه المسألة نظير مسألة مدة الاستبراء إذا انقطع الحيض، وفي تلك المسألة الروايات مختلفة، فعن أبي يوسف: قدر الكثير بثلاثة أشهر، وعن محمد: أنه قدر الكثير بأربعة أشهر وعشر، ثم رجع وقدر الكثير بشهرين وخمسة أيام. وعن أبي حنيفة وزفر: أنهما كانا يقدران الكثير بسنتين. وإذا عرفت المدة الكثيرة، فما دون ذلك يكون يسيراً، والكثير عيب دون اليسير.
فإن كان القاضي مجتهداً كان له أن يقضي بما أدى إليه اجتهاده من هذه الأقاويل، وإن لم يكن مجتهداً ليأخذ بالمدة التي اتفق عليه أصحابنا أنها كبيرة وهي سببان حتى لا يكون خروجاً عن أقاويلهم. وإذا ادعى الانقطاع في مدة كثيرة ينبغي أن يدعي الانقطاع بأحد الشيئين إما الداء أو الحبل حتى تسمع دعواه.
الدليل عليه ماذكر في «فتاوي الفضلي» : إذا اشترى جارية وهي طاهرة فامتد طهرها ولم تحض من غير ظهور الحبل بها ليس له أن يردها على بائعه مالم يدع ارتفاع الحيض بالحبل أو بالداء؛ لأن الارتفاع بدون هذين الشيئين لايعد عيباً والمرجع في الحبل إلى قول النساء، والمرجع في الداء إلى قول الأطباء.
وإذا أخبرت امرأة بالحبل أو طبيبان بالداء فتمام المسألة ماكتبناها قبل هذا، ويعتبر في ذلك أقصى ماينتهي إليه ابتداء حيض النساء عادة وذلك تسعة عشر سنة عند أبي حنيفة.
ذكر الصدر الشهيد في بيوع «الجامع الصغير» وفي دعوى الحبل: لو قالت امرأة(6/576)
واحدة أن بالجارية حبلاً، وقالت امرأتان أو ثلاثة ليس بها حبل تتوجه الخصومة على البائع بقول ملك المرأة ولا يعارضها قول المرأتان والثلاث في أنهما ليس بها حبل، فإن قال البائع للقاضي: المرأة التي تقول انها حامل جاهلة ينبغي للقاضي ان يختار لذلك امرأة عالمة تقى ههنا.
فصل آخر
لابد من معرفته أن الاستحاضة وانقطاع الدم والحبل لأهل له يثبت بقول الجارية، وقد ذكر في كتاب الاستحلاف ما يدل على أنه لا يثبت، فقد ذكر ثمة: أن من اشترى أمة وادعى بها حبلاً واستحاضة فالقاضي لايجعل بين البائع وبين المشتري خصومة حتى تشهد امرأة أو امرأتان بها حبلاً أو استحاضة، وبهذا تبين ان ما ذكره الصدر الشهيد في «الجامع الصغير» : أنه لا يقف عليها غيرها غير مستقيم، وإن الطريق إقرار البائع أو إشهاده في الاستحاضة والحبل، وفي الانقطاع إقرار البائع.
وأما إذا كان العيب باطناً لايعرف بآثار قائمة بالبدن نحو الإباق والجنون والسرقة والبول في الفراش، فإنه يحتاج إلى إثباته في الحال؛ لأنه لايعرف عياناً وطريق معرفة ثبوته على ماذكره محمد في «الجامع» أن القاضي يسأل البائع عن ذلك إذا صح دعوى المشتري، وإنما تصح دعوى المشتري إذا ادعى أن هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري إلا أن في الجنون يصح دعوى المشتري إذا ادعى هذا القدر، وفي الإباق والسرقة والبول في الفراش لابد لصحة الدعوى من زيادة شيء وهو أن يقول المشتري هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري والحالة واحدة ويعني باتحاد الحالة أن يكون وجودها في يد البائع وفي يد المشتري قبل البلوغ وبعده.
أما لو كانت في يد البائع قبل البلوغ ووجدت في يد المشتري بعد البلوغ فهذا لا يكفي لصحة الدعوى والسؤال للبائع، وفي الجنون سواء كان الجنون في يد البائع والمشتري قبل البلوغ، أو كان في أيديهما بعد البلوغ، أو كان في يد البائع قبل البلوغ فهذا يكفي لصحة الدعوى ولسؤال البائع، وهذا؛ لأن الجنون عيب واحد؛ لأن سببه واحد وهو آفة تخل الدماغ ففي أي حالة وجد في يد المشتري فهو عين ماكان في يد البائع.
أما في الإباق وأشباهه: يختلف العيب باختلاف الحالة لاختلاف السبب فسبب الاباق والسرقة في حالة الصغر قلة العقل وبعد البلوغ سببه قلة المبالاة، وسبب البول في الفراش قبل البلوغ ضعف المثانة وبعد البلوغ داء في الباطن.
وإذا اختلف سبب العيب باختلاف الحالة يختلف العيب واختلاف العيب يمنع الرد، ثم إذا صح دعوى المشتري فالقاضي يسأل البائع أنها هذا العيب في الحال، فإذا أقر به ثبت العيب في حق توجه الخصومة فيسأل أكان هذا العيب بها عندك، فإن أنكر يحلف على الثبات، وإن أنكر البائع قيام هذا العيب للحال، فإن أقام المشتري بينة على ذلك يثبت قيام العيب للحال وتوجهت الخصومة على البائع في أن هذا العيب هل كان بها(6/577)
في يده. وإن لم يكن للمشتري بينة على ذلك وطلب من القاضي أن يحلف البائع بالله ما يعلم قيام العيب به في الحال.
ذكر في «الجامع الكبير» : أنه يحلفه ونسب الجواب إلى أبي يوسف ومحمد فإنه معصوم ومحمد أنه يحلف ولم يذكر قول أبي حنيفة، من مشايخنا من قال: ماذكر عن الجواب قول الكل إلا أنه لم يذكر قول أبي حنيفة لا لأن قوله يخالف قولهما بل؛ لأنه لم يحفظ قوله.
وحكى القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن المسألة على الخلاف، على قول أبي حنيفة لايحلف، وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ أنه قال: وجدت في كتاب الاستحلاف لمحمد ابن سلمة أن المسألة على الخلاف فوجه قولهما: أنه ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فعند الانكار يستحلف كما في سائر الدعاوي، ولأبي حنيفة أن اليمين لدفع الخصومة مستحقة لإنشائها (99ب3) ومتى استحلف البائع ههنا لاتنقطع الخصومة بينهما بل تتحقق بينهما خصومة أخرى في أن هذا العيب هل كان عند البائع ويستحلف البائع مرة أخرى، ولا كذلك سائر الدعاوي.
وفي «المبسوط» في «أدب القاضي» للخصاف: جعل طريق معرفة ثبوت هذه العيوب للحال البينة، فقال: لايثبت للمشتري حق الخصومة مع البائع مالم يقم بينة على وجود هذه العيوب في يد نفسه، فإن لم تكن له بينة وطلب يمين البائع فهو على الاختلاف الذي مر، وإذا ثبت وجود هذه العيوب في يد المشتري وأنكر البائع كونها عنده ولم يكن للمشتري بينة فاحتيج إلى تحليف البائع، كيف يحلف البائع؟.
فعلى رواية بشر بن الوليد: يحلف بالله لهذا ملك الرد بالسبب الذي يدعيه. وذكر في «الأقضية» في الجنون، بالله ما جن عندك قط، وفي الإباق والسرقة يحلف بالله ماسرق وما بال في الفراش عندك حتى بلغ مبلغ الرجال، وهذا بناء على ما قلنا: إن الجنون لا يختلف بالاختلاف الحالة وماعداه من السرقة والإباق والبول في الفراش يختلف باختلاف الحالة، واتحاد العيب شرط ثبوت حق الرد. ثم إذا اختلفا (المشتري و) البائع، فإن حلف بريء عن دعوى المشتري، وإن نكل يرد عليه بنكوله ولا يحلف المشتري على الرضا من دعوى البائع عند أبي حنيفة ومحمد وقدر هذا.
ثم إذا ادعى البائع ذلك كيف يحلف المشتري، أكثر القضاة على أنه يحلف بالله ما سقط حقك في الرد من الوجه الذي يدعيه البائع لاصريحاً ولا دلالة، وقال أبو بكر الرازي: يحلف بالله إنك محق في ردك العبد على البائع فقيل له: إن الاستحلاف مشروع على النفي وهذا استحلاف على الإثبات أيضاً، فإن المودع إذا ادعى الرد وهلاك الوديعة فإنه يستحلف على الرد وعلى الهلاك وهذا استحلاف على الإثبات.
قال في «كتاب الأقضية» : اشترى جارية وظفر المشتري بشجة كانت عند البائع وحلف القاضي البائع فنكل، ردها المشتري عليه، فادعى البائع بعد ذلك أنها حبلت في يد المشتري وهي حبلى في هذه الساعة فالقاضي يسأل المشتري عن ذلك، فإن قال(6/578)
المشتري: مالي بها علم فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: هي حبلى لا يثبت الرد بقولهن، ولكن تتوجه الخصومة على المشتري فيحلف القاضي المشتري بالله ماحدث هذا الحبل عندك، فإن حلف فلا شيء عليه والرد على حاله كما كان، إن نكل يثبت ما ادعاه البائع فيردها على المشتري؛ لأن رد المشتري على البائع لم يصح هنا؛ لأنه ردها مع عيب زائد وفيه ضرر للبائع أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه بأن يرد الجارية على المشتري، ولكن إنما يردها على المشتري مع نقصان عيب الشجة؛ لأنه تعذر الرد بعيب الشجة فيلزم البائع نقصان عيب الشجة، فإن قال البائع للقاضي: أنا أمسك الجارية مع (عيبها) ولا أضمن نقصان عيب الشجة كان له ذلك؛ لأن حق الرد إنما يثبت للبائع هنا دفعاً للضرر عنه بالرد عليه بعيب زائد، فإذا اختار إمساك الجارية فقد أسقط حق نفسه ورضي بذلك الضرر، فكان له ذلك ولا يلزمه نقصان الشجة هنا وأنه ظاهر.
ولو أن القاضي حين سأل المشتري عن الحبل قال المشتري: إن هذا الحبل كان عند الباع ولم أعلم به سمع دعواه؛ لأن الحبل عيني لايظهر إلا بعد مدة فيحتمل وجوده عند البائع، وإن لم يظهر إلا في هذا الوقت فصار المشتري بدعوى وجود هذا الحبل عند البائع مقراً بوجوده عنده لكن لم يثبت وجوده عند البائع؛ لأن قول المشتري ليس بحجة على البائع إن كان حجة على نفسه، فيحلف البائع، فإن حلف لم يثبت وجوده عند البائع، وقد أقر المشتري بوجوده عنده فكان للبائع أن يرد الجارية عليه ويرد معها نقصان عيب الشجة، وإن نكل عن اليمين ظهر أن هذا العيب كان عند البائع، وظهر أن هذا الرد كان صحيحاً.t
قال: ولو كان القاضي حين قضى برد الجارية على البائع بعيب الشجة فقبل أن يرد المشتري الجارية على البائع قال البائع: إنها حبلى، وهذا حبل حدث عند المشتري وقال المشتري: لا بل كان عند البائع فالقاضي لا يعجل في الرد ويحلف البائع على ما ادعى المشتري عليه أنه حدث عنده ولا يمين على المشتري هنا، بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يحلف المشتري في تلك المسألة الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد وردها على المشتري ما دام المشتري ينكر، فلا يملك البائع ذلك بيمين نفسه فيكون اليمين على المشتري، وهنا الرد لم يتم بعد فيجعل في الحكم كأن القاضي لم يقض بالرد فكان المشتري مدعياً الرد على البائع والبائع ينكر فكان القول قول البائع مع يمينه، لكن هذا الفرق يشكل بالوجه الثاني، فإن في الوجه الثاني الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد مع هذا يحلف البائع، وإنما الفرق الصحيح أن يقال: بأن في الفصل الأول المشتري منكر وجود الحبل عنده فيحلف على ذلك، وههنا مقر بوجود الحبل عنده حيث أقر بوجوده عند البائع، فلا يحلف المشتري على وجود الحبل عنده وهو مقر بذلك، ولكن المشتري ادعى أن هذا الحبل الموجود في يده كان عند البائع، والبائع ينكر فيحلف البائع كما في الوجه الثاني.
قال محمد: رجل باع نصف عبد له من رجل بخمسين ديناراً وباعه النصف الآخر(6/579)
بمائة دينار، ثم إن المشتري وجد العبد أعور فقال البائع: حدث عندك أيها المشتري، وقال المشتري للبائع: كان عندك فالقول قول البائع وعلى المشتري البينة، وإن لم يكن للمشتري البينة يحلف البائع، ويقال للمشتري: أتخاصم البائع في النصف الأول أو في النصف الثاني أو فيهما؛ لأن كل واحد من النصفين معقود عليه بإيراد العقد عليه على حدة واختلاف الأسباب ينزل اختلاف الأعيان.
ولو كانا عينين كان له أن يخاصم في أيهما شاء، وإن شاء خاصم فيهما كذا هنا، فإن قال: أنا أخاصم في الآخر وأقف في الأول لأتأمل أكان العيب عنده أم لا، كان ذلك، ويستحلف البائع على النصف الآخر، فإن نكل رد ذلك على البائع، وإن حلف لزم المشتري. وإذا حلف البائع، ثم إن المشتري خاصم من بعد في النصف الأول فأراد أن يستحلفه فقال البائع لما حلفت أنه لا عور عند البيع الثاني كان ذلك متى حلف أنه لا عور به عند البيع الأول بطريق الضرورة فلا أحلف مرة أخرى لايلتفت إلى ذلك؛ لأن هذه اليمين في النصف نفت الخصومة فلا تعتبر، ألا ترى أنه لو حلف المدعى عليه بعد الخصومة (100أ3) قبل طلب المدعي لا يعتبر يمينه فهذا أولى.
وكان الفقه في ذلك: أن اليمين أحد نوعي الحجة للمدعي كالبينة، ثم إن البينة لا تعتبر قبل وجود الدعوى فكذا اليمين، ثم إذا حلف في النصف الأول، فإن حلف لم يرد عليه شيء، وإن نكل عن هذا اليمين لزمه النصف الأولى، فإن قال المشتري: إن العيب واحد وقد ثبت بنكوله فأرد عليه النصف الآخر لا يلتفت إلى ذلك، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده النكول بدل، وبدل الفسخ في أحد النصفين لا يكون بدلاً للفسخ في النصف الآخر، وإنما يشكل عندهما النكول إقرار.
ولو أقر البائع بالعيب يوم باع النصف الأول كان للمشتري أن يرد عليه النصفان، ولكن الوجه في هذا أن يقال: بأن الإقرار حجة مطلقة في حق المقر، فإذا ثبت العيب بإقراره في النصف الأول ثبت في النصف الباقي؛ إذ يستحيل أن يكون العيب قائماً بأحد النصفين شائعاً ولا يكون قائماً في النصف الآخر، فأما النكول ليس بإقرار حقيقة ولكن جعل إقراراً ضرورة قطع الخصومة فيعتبر إقرار في محل الخصومة ههنا النصف الأول دون الثاني.
وكذلك لو خاصمه المشتري في النصف الأول قبل أن يخاصمه في النصف الثاني فنكل البائع عن اليمين فرد عليه النصف الأول، ثم أراد رد النصف الثاني بذلك النكول لم يكن له ذلك حتى يخاصمه فيه خصومة مستقبلة لما قلنا فلا يفيد، وإن أراد المشتري أن يخاصم في النصفين جميعاً يحلف البائع فيهما يميناً واحداً؛ لأن الدعاوي إذا اجتمعت وتوجهت من واحد على واحد والجنس متحد يكفي يمين واحدة، أصله حديث القسامة.
وألا ترى أن من ادعى أموالاً مختلفة على رجل فطلب يمينه في الكل يحلف يميناً واحداً؟ فكذا هنا يحلف يميناً واحداً بالله لقد باعه النصف الأول وسلمه إليه وما به هذا العيب، وباعه النصف الثاني وسلمه إليه وما به هذا العيب، فإن حلف فيهما برئ عنهما،(6/580)
وإن نكل فيهما لزماه وإن حلف في أحدهما ونكل في الآخر لزمه، ما نكل فيه وبرئ عما حلف فيه.
قال محمد في «الجامع» أيضاً: رجلان باعا من رجل عبداً صفقة واحدة أو صفقتين فمات أحد البائعين وورثه البائع الآخر، ثم طعن المشتري بعيب في العبد، فإن شاء خاصمه في أحد النصفين، وإن شاء خاصمه في النصف ألأخر وقيام الحلف كقيام الأصل، فإن خاصمه المشتري فيما باعه بنفسه حلفه على الثبات بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب؛ لأن هذا تحليف على فعل نفسه فيكون على الثبات، وإن خاصمه بالذي باشر البيع مورثه، حلفه بالله لقد باعه وسلمه إليه، ولم يعلم به هذا العيب؛ لأن هذا تحليفه على فعل الغير فيكون على العلم، فإن حلف في أحدهما لم يقع به الاستغناء عن اليمين في النصف الآخر، وإن نكل في أحدهما لم يكن ذلك لازماً في النصف الآخر لما قلنا، وإن جمع بين النصفين في الخصومة فلا يخلو إما أن يكون البيع صفقة أو صفقتين، فإن كان صفقتين حلفه على النصفين ويجمع بين اليمين بالله لقد بعته بالنصف وسلمته وما به هذا العيب، ولقد باعه صاحبك بصفة وسلمه وما يعلم بهذا العيب وهذا بالاتفاق.
فأما إذا كانت الصفقة واحدة فكذلك الجواب عند محمد، وعند أبي يوسف يكتفي باليمين على نصيبه خاصته على الثبات ويبرأ ذلك عن يمينه في النصف الذي باعه مورثه.
محمد رحمه الله سوى بين الصفقة والصفقتين وقال: بأن الصفقة ههنا، وإن كانت متحدة صورة فهي متعذرة حكماً، ولهذا كان للمشتري أن يخاصم البائع في أي نصف شاء، ولو كانت الصفقة متعذرة ومعنى يحلف على النصفين فكذلك إذا كانت متعذرة صورة.
يوضحه: أن الوارث في نصيب المورث قام مقام المورث، ولو كان المورث حياً فاليمين في نصيب أحدهما لا ينوب عن اليمين في نصيب صاحبه فهنا كذلك، وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين الصفقة والصفقتين ويقول بأن الصفقة إذا كانت واحدة، وحلف على أحد النصفين لا يكون في التحليف على النصف الآخر فائدة إذ لا يتصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر إذ وقت بيع النصفين واحد، فإذا استحلف على النصف الذي باعه على الثبات لا يمكنه الحلف لو كان به العيب فيحصل ما هو المقصود من الاستحلاف وهو النكول فاكتفى باليمين على الثبات في النصف الذي باعه مورثه، ولم يجعل على القلب، باعتبار أن اليمين على الثبات أقوى من اليمين على العلم، فإن في اليمين على الثبات يحنث، علم بالعيب أو لم يعلم، وفي اليمين على العلم لا يحنث ما لم يعلم بالعيب، والأقوى ينوب عن الأضعف أما الأضعف لا ينوب عن الأقوى، بخلاف ما لو كان البيع بصفقتين متفرقتين فقد تصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر؛ لأن وقت بيع أحد النصفين غير وقت بيع النصف الآخر فلو اكتفى بالاستخلاف على النصف الذي باعه يمكنه الحلف إذا لم يكن العيب قائماً وقت بيعه، وبخلاف ما إذا كان مورثه حياً؛ لأن هناك ربما يكون أحدهما أودع من صاحبه فينكل(6/581)
بنوع اشتباه لا ينكل به الآخر، فكان في استحلاف كل واحد منهما فائدة، أما ههنا فبخلافه، وبخلاف ما إذا خاصمه في أحد النصفين فحلف البائع، ثم خاصمه في النصف الآخر حيث لا
يكتفي باليمين الأولى ولا ثبوت الأولى عن الثانية؛ لأن اليمين في النصف الأول لسبق الدعاوي في النصف الآخر، ولا يعتبر اليمين قبل الدعوى، أما ههنا وجدت الدعوى في النصفين فجاز أن ثبوت اليمين في النصف الذي باعه عن اليمين في النصف الذي باع مورثه.
قال في «الجامع» أيضاً: متفاوضان باعا عبداً، ثم غاب أحدهما وطعن المشتري في العبد بعيب، فله أن يخاصم هذا الحاضر ويحلفه؛ لأن كل واحد منهما أصيل فيما باع وكيل عن صاحبه في الخصومة وكفيل عنه فيما التزم، وصاحبه التزم تسليم العبد سليماً فيكون كفيلاً عنه في ذلك، فلهذا يحلف، فإن نكل لزمه وإن حلف لم يلزمه، فإن حلف الحاضر، ثم حضر الغائب فأراد المشتري استحلافه كان له ذلك؛ لأن صاحبه فيما باشر لكونه أصيلاً فيحلف الآخر لكونه كفيلاً؛ لأن تحلف الأصيل لا يسقط الحلف عن الكفيل وفيما باشر هذا الذي حضر آخراً استخلف الأول لكونه كفيلاً فيحلف الذي حضر لكونه أصيلاً؛ لأن تحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل.
فرق بين هذا وبين ما إذا وجب لهما حق على رجل فاستحلف أحدهما الخصم، ثم حضر الأخر ليس له أن يستحلفه؛ لأن الاستحلاف يحتمل النيابة من جانب (100ب3) الطالب فصار استحلاف أحدهما لكونه وكيلاً عن الآخر كاستحلافهما، فأما في مسألتنا الكلام في الحلف والحلف لا يحتمل النيابة، وإنما يحلف كل واحد منهما فيما باع صاحبه بحكم الكفالة لا بحكم النيابة، وحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل، ثم فرق بين الاستخلاف والحلف في جريان النيابة وعدم جريانه، والفرق: أن ما هو المقصود من اليمين للمدعي لا يفوت بالنيابة في الاستحلاف؛ لأن المقصود بكون المدعي عليه، وفي هذا استحلافه واستحلاف ما بينه سواء، أما هذا المقصود يفوت بالنيات في الحلف؛ لأن كل من وجب عليه اليمين يثبت فاسقاً لا يتورع عن اليمين الكاذبة فلهذا افترقا، ثم كيفية التحليف أنه يحلف الحاضر منهما بالله لقد باعه النصف وسلمه وما يعلم بهذا العيب، فإذا حضر الآخر حلف على هذا الوجه أيضاً إن كان العقد بصفقتين بالاتفاق، وكان صفقة واحدة فكذلك عند محمد وعند أبي يوسف يستحلف يميناً واحدة على الثبات في النصف الذي باع، وقد مر هذا فيما تقدم.
نوع آخر في اختلاف الواقع فيه
وعن محمد في «الإملاء» : إذا اشترى الرجل من آخر عبدين بألف درهم صفقة واحدة ووجد عيباً بأحدهما بعد ما قبضهما، ثم اختلفا في قيمتهما يوم وقع البيع فقال المشتري: كان قيمة المعيب ألفي درهم وقيمة الآخر ألف درهم، وقال البائع: على عكس هذا، لم يلتفت إلى قول واحد منهما، وينظر إلى قيمة العبدين يوم يختصمان فيه،(6/582)
فإن كانت قيمة كل واحد منهما يوم الخصومة ألف درهم رد المعيب خاصة بنصف اليمين بعد ما حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه.
وإن أقاما جميعاً البينة على ما ادعيا أخذ بنيتهما جميعاً فيما ادعيا من الفضل فيجعل قيمة المردود ألفي درهم على ما شهد به شهود المشتري ويجعل قيمة الآخر ألفي درهم على ما شهد به شهود البائع فيرد المشتري المعيب يتضمن الثمن.
ولو مات أحدهما والآخر قائم ووجد بالقائم عيباً واختلفا في قيمة القائم، وفي قيمة الميت ولا بينة لهما، فالقول قول البائع في قيمة الهالك، فالبينة بينة البائع أيضاً، ولو لم يقيما بينة على قيمة الهالك، وأقاما البينة على قيمة الحي فالبينة بينة المشتري.
وفي «النوازل» : اشترى خلاً في خابية وحمله في جرة له فوجد فيهما فأرة ميتة فقال البائع: هذه الفأرة كانت في جرتك، وقال المشتري: لا بل كانت في خابيتك فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : اشترى دهناً بعينه في آنية بعينها وأتى على ذلك زمان فلما فتح رأس الآنية وكان رأسها مشدوداً منذ قبضها ووجد فيها فأرة ميتة وأنكر البائع أن تكون في يده فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب وتأويل المسألة إذا كان رأسها مشدوداً وقت القبض ولم يعلم انفتاحها بعد ذلك إلى أن وجد فيه الفأرة ولا عدمه، أما لو عرف استمرار الشد وعدم انفتاح رأس الآنية التي وجد فيها الفأرة فالقول للمشتري وله الرد.
وإذا اشترى عبداً وقبضه، ثم جاء به وقال: وجدته محلوق اللحية وأنكر البائع فالقول قول البائع، فإن أثبت المشتري أنه محلوق اللحية اليوم، فإن لم يكن أتى على البيع وقت يتوهم خروج اللحية عند المشتري له أن يرد؛ لأنه العيب عند البائع وإن كان أتى على البيع مثل ذلك لم يرد ما لم تقم البينة أنه كان محلوق اللحية على البائع أو يستحلفه فينكل.
وإذا ادعى المشتري عيباً بالمبيع والبائع يعلم أن هذا العيب كان به وقت البيع وبينه أن لا يأخذها حتى يقضي القاضي عليه بردها؛ لأنه لو أخذها بغير قضاء لم يكن له أن يردها على بائعه.
وفي «المنتقى» : رجل باع من آخر عبداً وقبضه المشتري وطعن به لعيب، وقال: اشتريته اليوم ومثله لا يحدث في اليوم، وقال البائع: بعته منذ شهر ومثله يحدث في الشهر فالقول للبائع.
وفيه أيضاً: اشترى من آخر جارية ووجد بها عيب فخاصم البائع إلى صاحب الشرطة والسلطان لم يوله الحكم فقضى على البائع وردهما إليه وقضى للمشتري بالثمن كله وبيع المشترى (قبل) أن يأخذ الثمن منه؛ لأنه يعلم أن البائع قد كان دلّس العيب.
وفيه أيضاً: اشترى دابة وأراد أن يردها بعيب فقال البائع: قد ركبتها في حوائجك بعدما علمت بالعيب، وقال المشتري: لا بل ركبتها لأردها عليك فالقول قول المشتري، وتأويل المسألة على قول بعض المشايخ: إذا كان لا يمكنه الرد إلا بالركوب.(6/583)
وفيه أيضاً: رجل اشترى من رجل غلاماً بجارية ووجد مشتري الجارية بالجارية عيباً وردها واختلفا في الغلام فالقول قول الذي في يده الغلام.
وفيه أيضاً: رجل باع من آخر جارية وقال: بعتها وبها قرحة في موضع كذا وجاء المشتري بالجارية ولها قرحة في ذلك الموضع وأراد ردها، فقال البائع: ليست هذه القرحة، والقرحة التي أقررت بها قد برئت وهذه قرحة حادثة عندك، فالقول قول المشتري، وكذلك لو قال البائع: بعتها وإحدى عينيها بيضاء وجاء المشتري بالجارية وعينها بيضاء، وأراد أن يردها فقال البائع: كان البياض بعينها اليمنى وقد ذهب وهذا بياض حادث بعينها اليسرى، وكذلك إذا قال البائع بعتها: وبرأسها شجة إلى آخر المسألة، فإن قال البائع: في فصل الشجة كانت شجته موضحة فصارت منقلة عندك، فالقول قول البائع في هذا، وكذلك في فصل بياض العين لو قال البائع: كانت نكتة بياض ازداد عندك والعين مبيضة كلها أو عامتها فالقول قول البائع، وإن كانت بعينها نكتة بياض فقال البائع، كان البياض مثل الخردل أقل من هذا إذا جاء من هذا أمر متقارب جعلت القول قول المشتري، وإن تفاوت فالقول قول البائع.
ولو قال: بعتها وبها حمى فجاء المشتري محمومة يريد ردها فقال البائع: زادت الحمى لا يصدق البائع وكان للمشتري أن يردها، ولو قال البائع: بعتها وبها عيب وجاء المشتري وبها عيب وأراد ردها فقال البائع: لم يكن بها هذا العيب وإنما كان كذا وكذا فالقول قوله؛ لأن العيوب مختلفة.
ولو قال: بعته وبه عيب في رأسه فجاء به المشتري وأراد إن يرده بعيب برأسه فالقول قول المشتري أنه هذا العيب وإن كذبه البائع.
والحاصل: أن البائع إذا نسب العيب إلى موضع وسماه فالقول قول المشتري، وإذا لم ينسب إلى موضع بل ذكره مطلقاً فالقول قول البائع.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا اشترى جارية وقبضها، ثم ادعى أن لها زوجاً وأراد ردها فقال البائع: كان لها زوج عندي ولكن مات عنها أو طلقها وانقضت عدتها، ثم بعتها فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر ثبوت حق الرد؛ لأن النكاح إنما يثبت حق الرد (101أ3) على تقدير البقاء، فإذا أنكر البقاء إلى وقت البيع فقد أنكر ثبوت حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج فلان عين الزوج إلا أنه طلقها قبل البيع فكذلك الجواب القول قول البائع ما دام الزوج غائباً، فإذا حضر الزوج، فإن صدق البائع في الطلاق لا يثبت للمشتري حق الرد؛ لأنه لم يثبت العيب وإن كذبه وقال: ما طلقتها فالقول قول الزوج؛ لأنهم اتفقوا على وجود النكاح ولم يثبت الطلاق بمجرد قول البائع فكان للمشتري حق الرد بعيب النكاح، وهذا الفصل مشكل؛ لأن ثبوت النكاح ههنا مضاف إلى تصديق المشتري، فإنه لولا تصديق المشتري ما ثبت النكاح بإقرار البائع، لحصول الإقرار بعد زوال ملكه، وحصول العيب مضافاً إلى المشتري لا يثبت له حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج بعد البيع إلا أنه طلقها منذ التسليم، أو قال: بعد التسليم لم يقبل قوله؛ لأن البائع أقر بقيام النكاح وقت البيع، ثم ادعى رداً له والمشتري ينظر.(6/584)
ولو كان لها زوج عند المشتري فقال المشتري للبائع: قد كان هذا الزوج عندك وقال البائع: كان زوجها عندي غير هذا وطلقها ذلك الزوج أو مات عنها، وقال المشتري: بل هو هذا فالقول قول البائع ولا يكون للمشتري حق الرد؛ لأن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله.
واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى عبداً أو قبضه فمات عند المشتري فادعى المشتري أن البائع باعه وبإحدى عينيه بياض ومات هو كذلك؟ وقال البائع: كان ذلك لكنه زال قبل البيع فالقول قول البائع، ولو قال: زال عنه بعد البيع فالقول قول المشتري، ولو قال البائع: كان البياض بعينه اليمنى فزال عندك وقد حدث البياض عندك باليسرى، وقال المشتري: بل البياض عندك كان باليسرى كان القول قول البائع. إن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله.
قال في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من آخر جارية، ثم أقام بينة أن لها زوجاً معروفاً غائباً لا قبل هذه الشهادة؛ لأن هذه بينة قامت لغائب أو على غائب وليس عنه خصم حاضر، وطعن أبو حازم القاضي في جواب هذه المسألة فقال: ينبغي أن يقبل هذه البينة؛ لأن الحاضر يدعي لنفسه حق الرد ولا يتوصل إلى إثباته إلا من بعد إثبات حق الغائب، وهو النكاح في مثل هذه الصورة ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إثبات حقه إذا كان للحاضر حق فيما هو حق للغائب، أو يكون ما هو حق الغائب سبب حق الحاضر أما إذا لم يكن فلا.
ألا ترى أن من تزوج امرأة فادعت أنه كان تزوج أختها قبلها وأقامت على ذلك بينة والأخت غائبة لا تقبل بينتها؟ وإن كان لو ظهر نكاح أختها حصل الخلاص عن حبالة هذا الزوج، ولكن قبل لما لم يكن لها حق في نفس النكاح، ولم يكن النكاح سبب حقها لم تثبت هي خصماً عن أختها، إذا ثبت هذا فنقول: حق الغائب النكاح والنكاح ليس حق الحاضر ولا يثبت حقه في الرد بالعيب والنكاح ليس بسبب للرد بل الموجب للرد التزام البائع تسليم المعقود عليه سليماً، ولكن ظهور العيب كما أن عند ظهور الإحصان يجب الرجم بزنا المحصن لا بنفس الإحصان، وكما أن عند يسار الحالف تجب الكفارة بالعتق باليمين لا ننفس اليسار فكذا ههنا، وإذا لم يكن للحاضر حقاً في النكاح ولم يكن النكاح سبب حق الحاضر لا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
وكذلك لو شهد الشهود أن لها زوجاً ولم يعرفوه فشهادتهم باطلة؛ لأنهم شهدوا بالنكاح لمجهول، ولو شهدوا بالنكاح لغائب معروف لا تقبل شهادتهم، فإذا شهدوا لغائب مجهول أولى. ولو شهدوا على إقرار البائع أن لها زوجاً معروفاً غائباً، أو على إقراره بأن لها زوجاً مجهولاً صح؛ لأن هذه شهادة على إقرار البائع وهو معلوم حاضر بخلاف الوجه الأول على ما مر.(6/585)
قال في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو شهد الشهود أن لفلان على فلان شيئاً أو غصب منه شيئاً كان باطلاً، ولو اشهدوا على إقراره أنه غصب من فلان شيئاً كان ذلك جائزاً؟ فكذا هنا، وهناك كذلك وإذا قبلت الشهادة ظهر النكاح فكان للمشتري أن يردها مع يمينه بالله ما يعلم أن الزوج مات عنها أو طلقها طلاقاً بائناً، هكذا ذكر في «الجامع» من مشايخنا من قال: هذا إذا ادعاه البائع فأما بدون الدعوى فالقاضي لا يحلف المشتري؛ لأنه نصب لفصل الخصومات، وذلك إنما يكون عند الدعوى، والأصح أن القاضي يحلف المشتري على هذا في الحالين صيانة لقضائه.
وإذا اشترى خادماً وقبضه وطعن بعيب فيه فجاء بالخادم ليرده فقال البائع: ما هذا بخادمي، وقال المشتري: هذا خادمك الذي اشتريته فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري لا يملك الفسخ بخيار العيب إلا بقضاء أو رضاء ولم يوجد قضاء فلم ينفسخ البيع، بفسخه نفى المشتري بما يدعي في هذا العين المعين مدعياً حق الفسخ لنفسه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، كما لو تصادقا أن المبيع هذا إلا أن المشتري ادعى عيباً فيه آخر والبائع ينكر، وهناك القول قول البائع كذا ههنا.m
نوع آخر منه
رجل قال لآخر: إن عبدي هذا أبق فاشتره مني فقال له الآخر: بكم تبيعه فقال: بكذا فاشتراه منه، ثم وجده المشتري آبقاً فليس له أن يرده، فإن باعه المشتري من آخر فوجده المشتري الثاني آبقاً فأراد أن يرده وأنكر المشتري الأول أن يكون آبقاً فأقام المشتري الثاني بينة على مقابلة البائع الأول لم يستحق به شيئاً؛ لأن البائع الأول أخبر أن عبده أبق لكن لم يجعل ذلك وصفاً للإيجاب فلم يصر إيجاب المشتري منتظماً لذلك، فلم يصر المشتري مقراً بذلك العيب وصار البائع الأول معترفاً بإباقة، واعترافه حجة عليه وليس بحجة على المشتري الأول.
ولو قال البائع الأول للمشتري الأول: بعتك هذا العبد على أنه أبق أو على أني بريء من إباقه والمسألة بحالها كان للمشتري الآخر أن يرده على المشتري الأول؛ لأن البائع الأول جعل الإباق وصفاً لإيجابه فصار جواب المشتري قبولاً لذلك الوصف، كأنه قال: اشتريته على أنه آبق، ولو قال هكذا كان مقراً بإباق العبد كذا هنا. ولو قال البائع الأول: بعت على أني بريء من الإباق ولم يقبل من إباقه لم يرده المشتري الآخر على المشتري الأول ما لم يقم البينة على أنه باعه وهو آبق؛ لأن البائع وإن جعل الإباق (101ب3) صفة لإيجابه إلا أنه ذكر الإباق مطلقاً غير مضاف إلى العبد فصار إيجاب المشتري منتظماً كذلك على سبيل الإطلاق وبهذا لا يصير مقراً بوجود العيب فيه، ألا ترى أن البيع قد يكون بشرط البراءة عن كل عيب وذلك لا يكون إقراراً بوجود كل عيب فيه بخلاف قوله على أني بريء من إباقه؛ لأنه أضاف الإباق إلى العبد بالهاء الذي هو كناية عنه فصار جواب المشتري قبولاً بذلك الوصف فصار مقراً بذلك أما ههنا فبخلافه.
وفي «المنتقى» : رجل أقر على عبده بدين، ثم باعه من آخر ولم يذكر الدين، ثم(6/586)
باعه المشتري من آخر ولم يذكر الدين، فإن للمشتري الآخر أن يرده على بائعه بذلك الإقرار الذي كان من البائع الأول؛ لأن الدين لازم للغريم أن يرد البيع فيه وليس هذا كالإقرار بالإباق قبل البيع وبعده في حق فسخ البيع الآخر بين المشتري الآخر وبين بائعه الذي لم يقر بالإباق، والإقرار بالزوج كالإقرار بالدين في أن المشتري الآخر يرد على بائعه بالإقرار الذي كان من البائع الأول.
وفيه أيضاً: رجل أقر أن أمته أبقت منه، ثم وكل وكيلاً أن يبيعها ولم يبين أنها آبقه فباعها مأموره وكتم ذلك الإقرار وتقابضا، ثم علم المشتري بذلك الإقرار وأراد ردها به على بائعه وكذبه بائعه وقال: لم تأبق، أو كان الإقرار من المولى بعد ما باع الوكيل وتقابضا فليس للمشتري أن يردها على الوكيل.
ألا ترى أن المضاف أو شريك العنان لو باع أمة، ثم أقر رب المال أو الشريك بعيب فيها ليس بظاهر لم يكن للمشتري أن يردها على البائع بذلك الإقرار، ولو أن الموكل قال للوكيل إن عبدي آبق فبعه وابرأ من إباقه، فباع الوكيل ولم يبرأ من الإباق، ثم علم المشتري بمقالة الموكل قبل القبض فله أن يرده بذلك، وليس هذا كالمسألة الأولى التي لم يبين رب العبد فيها الإباق للوكيل، فإن هناك لا يجوز إقراره على بعض بيع الوكيل.
قال: ولو كان هذا في رب المال والمضارب لم يكن للمشتري أن يرده بإقرار رب المال على المضارب علل فقال: لأن رب المال لو نهى المضارب عن البيع كان له أن يبيعه.
وفيه أيضاً: لو وكل رجلاً ببيع عبد له فأقر الوكيل أنه أبق ولا يعلم أنه أقر به قبل الوكالة أو بعد الوكالة، ثم باع العبد من رجل وتقابضا، ثم اطلع على مقالة الوكيل فله أن يرد على الوكيل، وليس للوكيل أن يرده على الموكل، ولو كان المشتري سمع إقرار الوكيل بذلك قبل البيع، ثم اشتراه منه لم يكن له أن يرده على الوكيل.
وفيه أيضاً: إذا باع رجل من رجل عبداً وأقر البائع والمشتري بإباقه وكان ذلك منهما في عقد البيع، ثم باعه المشتري من آخر وكتم الثاني من الآخر على أنه مأمون وليس بآبق، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين البائع الأول والمشتري الأول من إقرارهما وقت جريان البيع لم يكن له أن يرده، ولا يكون إقرار المشتري الأول بإباقه نافذاً على من لم يشتر منه من الباعة.
ولو أن المشتري الأول اشتراه من غير إقرار منه ومن البائع الأول بإباقه، ثم أقام المشتري الأول بينة على إباقه ورد القاضي على البائع الأول، ثم إن البائع الأول باعه من ذلك المشتري أو من رجل آخر، وباعه المشتري من رجل وباعه المشتري الثاني من رجل آخر، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين المشتري الأول وبائعه من رد القاضي العبد عليه بالإباق ببينة قامت فله أن يرد على بائعه؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة.(6/587)
وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر جارية، ثم ادعى أنها آبقة وأقام البينة على إباقها وردها القاضي بذلك أقام رجل بينة أنها أمته ولدت في ملكه وقضى القاضي له بالجارية، ثم باعها مأمونة فخاصمه المشتري في إباقها واحتج عليه بحكم الحاكم بالإباق فله أن يردها.
رجل اشترى عبداً فساومه رجل فيه فقال له المشتري: اشتره مني، فإنه ليس به عيب فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً يحدث مثله فخاصم فيه البائع وأقام بينة أنه كان عند البائع وأقام البائع بينة أنه قال عند المساومة: اشتر مني، فإنه لا عيب به لا يلتفت إلى هذه البينة ويقضى بالرد على بائعه؛ لأن بإقالة المشتري كذب معين؛ لأن هذا نفي لكل العيوب والإنسان لا يخلو عن قليل العيب عادة، ومن العيوب بالآدمي ما لا يقف عليه غيره غالباً فيسقط اعتبار حقيقة هذا اللفظ حمل على المجازة هو ترويج السلعة. ولو قال للذي ساومه: اشتر فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري ادعى ذلك العيب وأراد أن يرده على بائعه بذلك فليس له ذلك؛ لأن العمل بحقيقة ممكن؛ لأن الآدمي يخلو عن عيب واحد معين فكان ذلك منه إقرار في ذلك العيب فلا تسمع دعوى وجود ذلك العيب منه بعد ذلك.
ولو كان مكان العبد ثوباً وباقي المسألة بحالها، لا تسمع دعواه ولا يرده على بائعه في الوجهين جميعاً؛ لأنا لم نتيقن بكذبه؛ لأن عيوب الثوب مما يوقف عليه ولو كان العيب مما يحدث مثله أصلاً أو لا يحدث مثله في هذه المدة رد القاضي العبد على بائعه؛ لأنه صار مكذباً فيما أقر حقيقة، ولو صار مكذباً فيما أقر شرعاً ليس أنه يلتحق إقراره بالعدم كذا هنا.
نوع آخر منه
وإذا أصاب الإمام والجند غنائم في دار الحرب فأخرجوها إلى دار الإسلام فباع الإمام أو بعض أمنائه الغنائم لمصلحة رآها حتى جاز البيع، فوجد المشتري بجارية عيباً لا يدري أكان العيب يوم الشراء أو لم يكن، لم يكن له أن يخاصم الإمام في الرد بالعيب؛ لأن بيع الإمام خرج على وجه القضاء بالنظر للغانمين، ولو صار خصماً في هذا البيع خرج بيعه من أن يكون قضاء، فإن القاضي لا يصلح خصماً.
وإذا عرفت هذا الحكم في حق القاضي فكذا في حق أمينه؛ لأن أمنيه نائب عنه هذا بخلاف ما إذا نصب الإمام وصياً عن الميت بالتصرف حيث تلحقه العهدة؛ لأنه نائب الميت ولكن ينصب القاضي، والميت كان يصلح خصماً في حياته فكذا نائبه.
وإذا لم يصلح الإمام خصماً ولا نائبه كان للإمام أن يجعل أمينه خصماً للمشتري ابتداء وإن شاء نصب آخر دفعاً للضرر عن المشتري، فإن أقام المشتري البينة على الخصم أن العيب كان بالجارية يوم اشتراها ردها عليه، وإن لم يكن أراد استحلاف من يخاصمه لا يستحلف؛ لأن المقصود من الاستحلاف النكول الذي هو قائم مقام الإقرار، ولو أقر هذا الخصم بالعيب لا يصلح إقراره للمعنى الذي قلنا فكذا هذا الذي نصبه الإمام إذا أقر(6/588)
لا يصلح إقراره، وإذا (102أ3) لم يصح إقراره لما قلنا فالقاضي يخرجه عن الخصومة وينصب للمشتري خصماً آخر؛ لأنه لا وجه إلى الخصومة مع هذا الخصم؛ لأنه مقر بالعيب فينصب خصماً آخر نظراً للمشتري وإذا نصب القاضي خصماً آخر ورد المشتري الجارية على هذا الخصم الآخر ببينة أقامها فالقاضي يبيع الجارية ويوفي المشتري ثمنها، فإن كان الثمن الثاني مثل الثمن الأول فيها، وإن كان أنقص أعطاه الفضل من بيت المال، وإن كان الثمن الثاني أفضل جعل الفضل للفقراء إن كانت الجارية من الخمس، وإن كانت من الأربعة الأخماس جعل الفضل في بيت المال؛ لأن ذلك حق الغانمين وتعذر صرفه إلى كل الغانمين لكثرتهم وتفرقهم، وتعذر صرفه إلى بعض الغانمين لما فيه من إبطال حق البعض فكان بمنزلة اللقطة فيوضع في بيت المال، هذه الجملة من بيوع «الجامع» .
وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً وباعه من أبيه، ثم مات الأب، والابن وارثه، لا وارث له غيره، ثم وجد الابن بالعبد عيباً قديماً لم يستطع رده وذكر عين هذه المسألة في «الزيادات» وزاد ثمة وباعه من مورثه في صحته، ثم مات المورث، وورثه هذا البائع لا وارث له غيره، ثم وجد بالعبد عيباً قد كان دلّسَهُ البائع الأول لا يكون له أن يرده؛ لأنه لا وجه إلى الرد على البائع الأول؛ لأن الملك هو المستفاد من جهة البائع الأول قد انعدم ببيع الوارث عن المورث، ولا وجه إلى الرد على نفسه؛ لأنه لو رد لرد لنفسه فيصير الواحد راداً ومردوداً عليه وأنه لا يجوز، ولا ينصب القاضي هنا وصياً عن الميت؛ لأنه لو نصبه إما أن ينصبه ليرده على الوارث أو على البائع الأول، ولا وجه إلى أن يرده على البائع الأول؛ لأنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المتحلل قائم، ولا وجه إلى أن يرده على الوارث؛ لأن في هذا إيجاب المورث الدين على الوارث بعد الموت وإنه مستحيل إذا لم يكن وارث آخر؛ لأن ما يجب من الدين للمورث على الولد بملك الوارث كما يملك سائر أملاكه.
وإذا ملك ما على نفسه يسقط ضرورة أن الإنسان لا يثبت له على نفسه دين فلم يكن في إيجاب الدين للمورث على الوارث فائدة.
قال مشايخنا رحمهم الله: وهذا إذا لم يكن على الميت دين فأما إذا كان عليه دين، فالقاضي ينصب خصماً للميت ليرد العبد على الوارث ولا يملك الوارث ما عليه؛ لأن دين المورث يمنع وقوع الملك للوارث فكان الرد مقيداً بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين.
قال في «المنتقى» : ولو كان مع هذا الابن ابن آخر ذلك الآخر خصماً فيه يرده على ابن البائع، ثم إنه يرده على بائعه.
وفي «الزيادات» أيضاً: رجل اشترى عبداً وباعه من وارثه في صحته بثمن معلوم وقبض الثمن، ثم مات البائع وورثه هذا المشتري، ولا وارث له غيره، ثم وجد به عيباً كان له أن يرد فينصب القاضي وصياً عن الميت ليرده الوارث عليه، والرد ههنا مفيد إذ لا يستحيل وجوب الدين للوارث على مورثه بعد الموت، ألا ترى أنه إذا حفر بئراً على قارعة الطريق ومات ووقع فيها دابة الوارث وهلكت وجبت قيمة الدابة للوارث على المورث إلا أنه لا يمكنه الخصومة مع المورث والرد عليه فينصب القاضي وصياً عن(6/589)
المورث ليرد عليه الوارث، فإذا رد ارتفع السبب المتحلل بقضاء القاضي وعاد الملك المستفاد من جهة البائع الأول فيرده الوصي على البائع الأول ويأخذ الثمن منه ويدفعه إلى الوارث، فإن قبل رد الوارث إنما يكون للرجوع بالثمن ورجوع الوارث بالثمن يكون في تركة الميت وتركة الميت سالمة للوارث بغير مزاحم، فأي فائدة له في هذا.
قلنا: التركة سالمة للوارث إرثاً وبالرد والرجوع تسلم له التركة اقتضاء لدينه، وفيه فائدة حتى لا يتقدم عليه غريم آخر ولا يزاحمه وارث آخر إن ظهر، وهذا إذا نقده الثمن، فأما إذا لم ينقده الثمن لا يكون له الرد إذا لم يكن معه وارث آخر؛ لأنه لا فائدة في الرد في هذه الصورة؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة استفادة البراءة عن اليمين وقد استعاد البراءة بالموت لاستحالة أن يجب للميت على وارثه دين.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى لنفسه من ابنه الصغير وأشهد على ذلك، ثم وجد به عيباً فأراد أن يرده لنفسه على ابنه، ثم يرد لابنه على بائعه فليس له ذلك، ولكن بأن القاضي حتى يجعل لابنه خصماً يرده عليه، ثم يرده الأب لابنه الصغير على الذي اشتراه منه. وكذلك لو كان الأب باع من ابنه الصغير عبداً أو قبضه لابنه من نفسه، ثم وجد به عيباً وأراد رده على نفسه لابنه.
وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بأمة وتقابضا، ثم وجد مشتري الأمة بالأمة إصبعاً زائداً وردها عليه بقضاء قاض وأخذ العبد، ثم إن مولى الأمة اطلع على أن مشتري الأمة قد كان وطئها قبل أن يستردها، والوطء لا ينقصها شيئاً وذلك بعدما ماتت الأمة في يدي الذي ردت إليه أو بعد ما باعها فليس له شيء، قال: لأنه قد كان له أن يرد الأمة ويأخذ العبد.
نوع آخر في المكاتب والمأذون يردان بالعيب
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : مكاتب اشترى ابنه لم يستطع بيعه؛ لأنه كما اشتراه صار مكاتباً عليه على ما عرف، والمكاتب لا يباع، فإن وجد به عيباً لا يرده بالعيب؛ لأن الكتابة تمنع البيع فيمنع الرد ولا يرجع بنقصان العيب، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الكتابة كما تمنع الرد تمنع الرجوع بنقصان البيع؛ لأن الكتابة في معنى البيع من حيث إنها معاوضة قابلة للفسخ، والبيع كما يمنع الرد بالعيب يمنع الرجوع بنقصان العيب، وبعضهم قالوا: لأن الملك بهذا الشراء وقع للمولى فكأن المكاتب اشتراه، ثم باعه من المولى، ثم اطلع على عيب به، والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب وبعضهم قالوا: لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد ولهذا لا يصار إليه مع القدرة على الرد، إنما يظهر حكم الخلف عند وقوع الناس عن الأصل ولم يقع الناس عن الأصل ههنا؛ لأن الكتابة قابلة للفسخ يمكن الرد، فإن عجز المكاتب الذي اشترى ابنه كان له أن يرده بالعيب؛ لأن المانع من الرد الكتابة وقد ارتفعت الكتابة بالعجز والرد في الرق فارتفع المانع، والمكاتب هو الذي يلي الرد والخصومة فيه؛ لأن العاقد هو، فإنه هو المشتري، فإن لم يخاصم المكاتب في ذلك حتى لو باعه المولى أو مات كان(6/590)
(102ب3) الرد إلى المولى؛ لأن الملك للمولى، والمكاتب كان في معنى الوكيل عن المولى ألا ترى أنه يقع الرد عائداً إلى المولى وحكمه واقع له؟ فإذا تعذر الرد من جهة المكاتب بالموت أو بالبيع
صار كالوكيل بالشراء إذا مات قبل الرد بالعيب فهناك يثبت للمولى كل حق الرد كذا هنا. ولو أن المكاتب لم يعجز، ولكن أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه حتى لو عجز المكاتب بعد ذلك لم يستطع رده.
فإن قيل: كيف يصح الإبراء عن العيب إسقاط حق الرد وليس للمكاتب ههنا حق الرد فكيف يصح إسقاطه.
قلنا: سبب حق الرد وجوده وهو التزام البائع بالبيع تسليم المبيع تسليماً ولكن لم يثبت له حق الرد لمانع، وإسقاط الحق يعتمد سبب ثبوت الحق لاثبوت الحق لامحالة، ألا ترى أن إبراء الآخر المستأجر عن الآخر قبل استيفاء المنفعة صحيح وكذا تسليم الجار المنفعة مع وجود الشريك صحيح وإنما صح لما قلنا. وأقرب من هذا: الحر إذا اشترى عبداً وكاتبه، ثم وجد به عيباً ليس له أن يرده ولو أبرأه عن العيب صح حتى لو عجز ورد في الرق ليس له أن يرده، وإنما صح لما قلنا، فإن قيل: الإبراء عن العيب تبرع والمكاتب، ولكن تبرع هو من صنيع التجارة معهم ومثله يملك المكاتب كالتأجيل والإعارة واتحاد الضيافة اليسيرة بأقل من قيمته بما يتغابن الناس في مثله، وكذلك لو أبرأ المولى البائع عن العيب قبل العجز صح إبراؤه؛ لأن الملك للمولى على مامر والمكاتب بمنزلة الوكيل عن المولى، والموكل إذا أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه عن العيب كذا هنا، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا اشترى المكاتب ابنه فهو الجواب فيما إذا اشترى أباه أو أمه.
وأما إذا اشترى أخاه أو عمه أو أخته فهو على قول أبي يوسف ومحمد هو لا يتكاتبون معه فصار الجواب فيهم والجواب في الابن والأب على السواء، وعلى قول أبي حنيفة هؤلاء يتكاتبون معه فيملك ردهم بالعيب كما يملك بيعهم، فإن أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح إبراؤه عنده؛ لأن المولى لايملكه لما لم يتكاتب، ولهذا لو أعتقه المولى لايصح إعتاقه فكان أجنبياً عنه فلم يصح إبراؤه عنه لهذا.
قال: وإذا اشترى المكاتب أم ولده ووجد بها عيباً إن كان معها ولد لايملك رد بيعها وإنما يملك بيعها؛ لأن الجارية في باب الاستيلاد تبع للولد، قال عليه السلام: «أعتقها ولدها» وقد امتنع الولد ههنا لما مر فيمتنع بيع الجارية ولكن يرجع بنقصان العيب فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى ابنه، ثم وجد به عيباً فإنه كما لايرده بالعيب لايرجع عليه بنقصان العيب.
والفرق إما على المعنى الأول فلأنه لم يصر مكاتبه، وأما على الثاني؛ فلأنهما لم(6/591)
يصر مملوكه للمولى، وأما على المعنى الثالث؛ فلأن الاستيلاد لا يحتمل الرفع فكان الأصل ميؤوس فيظهر حكم الخلف والمكاتب هو الذي يلي الرجوع؛ لأنه من حقوق العقد والمكاتب هو العاقد فكان الرجوع له إلا أن يموت أو يباع بعد العجز على ما مر، فإن إبراء المكاتب البائع عن العيب قبل العجز صح لما قلنا، وإن إبراء المولى لايصح؛ لأن المولى أجنبي عنها، فإنها لم تتكاتب عليه ولم تدخل في ملكه، ولهذا لو أعتقها المولى لايصح بخلاف الولد على ما مر، وإن لم يكن معها ولد فكذلك الجواب على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة: له أن يردها بناء على أصل معروف، أن المكاتب إذا ملك أم ولده وليس معها ولد فعلى قولهما تصير أم ولد له ولا يتبعها، وعلى قول أبي حنيفة: لا تصير أم ولد له ويتبعها فهما سواء بينهما إذا كان معهما ولد وجعلها أم ولد له في الحالين.
وأبو حنيفة فرق، ووجه الفرق: أن المكاتب يشبه الحر من وجه ويشبه العبد من وجه فلشبهه بالأحرار جعلها أم ولد له إذا كان معها ولد ولشبهه بالعبيد لا يجعلها أم ولد له إذا لم يكن معهما ولد عملاً بالشبهين جميعاً.
قال: مكاتب أو حر اشترى عبداً أو كاتبه، ثم وجد به عيباً لايرده بالعيب لما قلنا: أن الكتابة مانعة أيضاً لما مر أن الكتابة مانعة من الرد بالعيب لكونها مانعة من البيع ولا يرجع بنقصان العيب أيضاً لما مر أن الكتابة في معنى البيع والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب، فإن إبراء المكاتب أو الحر البائع من العيب صح الإبراء حتى لايكون للمكاتب بعد العجز ولا للحر ولاية الرد بالعيب لما مر، ولو أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح الإبراء؛ لأن المولى أجنبي عن اكتساب المكاتب وإنما يملك من يكاتب عليه لأجل الضرورة، فإن التكاتب عليه لا يكون إلا بعد الدخول في ملكه.
وكذلك وارث الحر إذا أبرأ البائع لايصح إبراؤه، وإن كان ذلك في مرض موت الحر؛ لأنه لاملك للوارث في مال مورثه في حال حياته، وفي مرض موته له شبهة الملك، والإبراء لا يثبت بالشبهة، ولهذا لو عفى عن جارح مورثه في الخطأ، لايبرأ، وإنما لم يبرأ لما قلنا: وإذا صح الإبراء للحال لايتوقف على ملك يحدث كالوارث إذا أعتق، ثم مات المولى إذا أعتق عبد المكاتب، ثم عجز المكاتب، فإنه لاينفذ لما قلنا، ولو أن المولى أبرأ البائع بعدما عجز المكاتب الأول قبل عجز الثاني صح الإبراء أما بعد عجز الثاني فلأنهما بالعجز صارا ملكاً للمولى، وأما قبل عجز الثاني فلأن يعجز الأول صار الثاني مملوكاً للمولى وصار المولى فيه قائماً مقام المكاتب ألا ترى أنه كان يصح من المكاتب الأول إبراء البائع قبل عجز المكاتب الثاني؟ فكذا من المولى.
أكثر ما في الباب أن الرد ممتنع، إلا أن سبب حق الرد موجود فحصل الإبراء بعد وجود سبب الحق فيصح على ما مر، وكذا وارث الحر إذا أبرأ البائع بعد موت المورث صح الإبراء؛ لأن الملك والحق له.
وكذلك رجل اشترى عبداً وباعه من آخر، ثم مات المشتري الأول، ثم ظهر بالعبد(6/592)
عيب كان عند البائع الأول فإبراء وارث المشتري الأول البائع عن العيب صح الإبراء حتى لو رد العبد عليه صح الإبراء لا يستطيع رده على البائع، وإن كان الرد ممتنعاً في الحال وطريقه ماذكرنا.
أورد محمد رحمه الله هذه المسألة لبيان أن صحة الأداء لا تعتمد قيام الحق لامحالة بل كما يصح الإبراء عند قيام الحق يصح عند وجود سببه.
مكاتب اشترى عبداً وباعه من مولاه وتقابضا أولم يتقابضا حتى عجز المكاتب، ثم وجد المولى به عيباً لم يرده بالعيب؛ لأنه لو رد إما أن يرد على بائع العبد أو على (103أ3) العبد ولا وجه إلى الأول؛ لأن المولى استفاد ملكاً مبتدأً من جهة العبد فلم يملك الرد على بائع العبد ما لم يعد حكم البيع من العبد، وذلك بالرد على العبد ولا وجه إلى الرد على العبد لعدم الفائدة نيابة أن المولى إن نفذ الثمن ففائدة الرد وجوب الثمن ديناً في ذمة البائع والمكاتب بالعجز صار ملكاً للمولى، والمولي لا يستوجب على مملوكه ديناً، وإن لم ينفذ الثمن ففائدة الرد البراءة من الثمن، والمولى يعجز المكاتب ندى عن الثمن، إذ المملوك لا يستوجب على مالكه شيئاً ومالا يفيد لا يرد الشرع به على ما مر بهذا الطريق.d
قلنا: إن من اشترى من آخر عبداً ولم ينقده الثمن حتى وهب البائع الثمن منه، ثم وجد بالعبد عيباً لا يرده، وإنما لا يرد لعدم الفائدة على نحو ما قلنا.
ولو كان المولى اشترى العبد أولاً من رجل وباعه من مكاتبه، ثم عجز المكاتب، ثم وجد المولى بالعبد عيباً وأراد المولى أن يرده على بائعه هل له ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» . قال مشايخنا: وينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأنه باع ما اشترى منه فلا يملك الرد عليه ما لم يرتفع حكم البيع الثاني، وذلك بالرد وتعذر الرد بحكم البيع الثاني؛ لأن البائع الثاني هو المولى فيصير هو الرد والمردود عليه، وإنه باطل، وإذا تعذر الرد بحكم البيع الثاني تعذر بحكم الأول ضرورة عندما دون عليه دين مستغرق لرقبته.
اشترى عبداً وقبضه، ثم باعه من مولاه، إن باعه بمثل قيمته جاز بيعه بلا خلاف، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأن هذا البيع يفيد له ملك العين وملك التصرف؛ لأن دين العبد إذا كان مستغرقاً يمنع الرد وقوع الملك للمولى في أكسابه، وأما قول أبي يوسف ومحمد؛ فلأن هذا البيع إن كان لا يفيد له ملك العين يفيد ملك التصرف؛ لأن دين العبد وإن كان لا يمنع وقوع الملك للمولى في أكسابه يمنع المولى عن التصرف، فهذا البيع يفيد له ملك التصرف، وأنه يكفي لنفاذ البيع أصله: شراء العبد المأذون، فإنه صحيح مع أنه لا يفيد له ملك العين لإفادته ملك التصرف، وكذا شراء رب المال شيئاً من مال المضاربة صحيح، وإنما صح لإفادته ملك التصرف هذا إذا باعه بمثل قيمته، وإن باعه وحابى فيه محاباه فاحشة أو يسيرة لا يجوز، فلم يتحمل في هذا العقد الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير.
ومن هذا الجنس مسائل: أحدها هذه، والثانية: المضارب إذا باع ممن لا يقبل شهادته له، فإنه لا يتحمل فيه الغبن اليسير كما لا يتحمل منه الغبن الفاحش.(6/593)
والثالثة: المريض إذا باع وعليه دين محيط بتركته، فإنه لا يتحمل منه الغبن الفاحش إذا باع رب المال شيئاً من مال المضاربة بعدما صار رأس المال عروضاً، فإنه لا يتحمل منه الغبن اليسير، كما لا يتحمل الغبن (الفاحش) ، والأصل منه أن كل من تمكنت التهمة في تصرفه لا يتحمل منه الغبن اليسير ولا الغبن الفاحش، قلنا: والعبد في تصرفه مع المولى متهم بالميل إليه، وكذلك المضارب متهم في بيعه ممن لا تقبل شهادته له، وكذلك المريض منهم لجواز أنه قصد إيثار المشتري على الغرماء، وعلم أنه لو أبرأ بطريق التبرع ينقض تبرعه بمال إلى طريق يروج إيثاره وهو المبيع، وكذلك رب المال متهم؛ لأنه بعدما صار رأس المال عروضاً لا يملك منع المضارب ونهيه عن التصرف لتعلق حقه في الربح، فلعل أنه قصد الإضرار بحرمانه عن الربح، ثم إذا باعه من مولاه بمثل قيمته حتى جاز هذا البيع فقبضه المولى ووجد به عيباً إن كان للمولى نقد، نقد الثمن لم يملك رده على العبد؛ لأنه لا يفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة الرجوع بالثمن وهو ممتنع ههنا؛ لأن المولى لا يستوجب على عبده ديناً سواء كان على العبد دين أو لم يكن؛ لأن محل الدين ملكه والإنسان لا يستوجب ديناً في ملك نفسه، ولا يرجع بنقصان العيب على العبد أيضاً؛ لأن ذلك القدر يصير ديناً له في ملكه.
فإن قيل: المولي قد يستوجب على عبده ديناً، فإنه إذا باع شيئاً من عبده المأذون المديون بالدراهم أو الدنانير، فإنه يجوز ويجب الثمن في ذمة العبد، فإن حكم البيع بالدراهم والدنانير وجوب الثمن في ذمة المشتري، على ما عرف من أصلنا: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات.
قلنا: بيع المولى من العبد المأذون المديون عندنا لا ينعقد موجب الثمن في ذمة العبد، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيداً الملك في الدراهم المعينة عند القبض، على مثال البيع بشرط الخيار للمشتري لا ينعقد موجباً الثمن في ذمة المشتري؛ لأن خيار الشرط يمنعه، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيداً الملك في الدراهم المعينة عند القبض، وهذا لأن الدراهم والدنانير إن كانا لا يتعينان في عقود المعاوضات يتعينان عند القبض، فينعقد العقد فيما بين المتعاقدين في الحال مفيداً الملك عند التعيين بالقبض، وهذا الطريق مما لا يمكن بحقيقة في الفسخ فيما بين المتعاقدين من غير أن يعود الثمن ديناً في ذمة البائع، الأصل له في الشرع، وإن أراد المولى أو العبد الرجوع على البائع بشيء لم يكن لهما ذلك، أما المولي، فإنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المحلل قائم، وأما العبد فلأن ما استفاد العبد من الملك من جهته إزالة عن ملكه إلى ملك مولاه، فلا يملك الرد عليه ما لم يعد حكم ذلك الملك بالرد على العبد، هذا إذا كان المولي قد نقد الثمن، وإن لم يكن نقد الثمن كان له أن يرد على العبد؛ لأن الرد ههنا مفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة سقوط الثمن عن ذمة المولي وبراءته عن دين العبد، ولا يستحيل أن ببراءة المولى عن دين العبد كما لو أداه إلى العبد حقيقة، فإذا رد إلى العبد بقضاء القاضي عاد حكم الملك الذي استفاده العبد من جهة بائعه فكان له أن يرد على بائعه، فإن سقط الدين(6/594)
عن العبد في هذه الصورة مثل رد المولى العبد عليه، ثم أراد المولى رده على العبد لم يكن له ذلك؛ لأن المولى قد برئ من الثمن حين سقط الدين عن العبد، فلم يكن في هذا الرد فائدة فلا يرد هذا الذي ذكرنا إذا كان الثمن دراهم أو دنانير، فإن كان الثمن عرضاً بعينه أو مكيلاً أو موزوناً بعينه، ودين العبد قائم على حاله فوجد المولى بالعبد عيباً رده على العبد إن كان الثمن قائماً في يد
العبد على حاله؛ لأن الرد مفيد؛ لأن فائدة الرد ههنا استحقاق لتسلم هذا العين إلى المولى، ولا يمتنع أن يكون في يد العبد عين واجب التسليم إلى المولى، كما لو غصب من مولاه عيناً، وإن كان العبد قد استهلك الثمن لم يكن للمولى أن يرده؛ لأنه لا يفيد؛ لأنه لا يستفيد به عين الثمن (103ب3) وإنما يستفيد قيمته دينا في الذمة والمولي يستوجب على عبده ديناً، وكذلك لو كان العبد باع العبد من المولى بمكيل أو موزون بغير عينه، المولى عند التسليم لم يملك رده؛ لأن حقه لا يعود في المقبوض بعينه، بل في مثله ديناً في الذمة؛ وهذا لأن حق المشتري عند الرد إنما يعود فيما يثبت فيه حق البائع وقت العقد؛ لأن الرد فسخ العقد، والعبد عند العقد استوجب على المولى مكيلاً أو موزوناً ديناً في الذمة فالمولى عند الرد يستوجب على العبد مكيلاً أو موزوناً ديناً في الذمة أيضاً، والمولى لا يستوجب على عبده ديناً فلا يكون في الرد فائدة فلا يرد.
ولو كان العبد المأذون باع العبد من المولى بعرض بعينه أو بمكيل أو موزون بعينه، وقبض المولى العبد ووجد به عيباً فلم يخاصم العبد في الرد حتى سقط الدين عن العبد لا يملك المولى رد العبد.
وإن كان الثمن قائماً في يد العبد على حاله؛ لأنه لا يستفيد بهذا الرد شيئاً؛ لأنه كما سقط الدين عن العبد فقد تمكن المولى من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه بخلاف ما إذا كان الدين على العبد على حاله؛ لأن هناك المولى لا يتمكن من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه فكان الرد مقيداً، أما هنا فبخلافه هذا كله إذا قبض المولى العبد من المأذون، فإن لم يقبضه حتى وجد به عيباً كان له أن يرده على العبد في الوجوه كلها؛ وإنما كان كذلك؛ لأن قبل القبض الصفقة عين تام لما عرف أن تمام الصفقة بالقبض، ولهذا لا يحتاج في هذا الرد إلى قضاء القاضي، بل يتفرد به العاقد ولما لم تكن الصفقة قبل القبض تامة كان الرد امتناعاً عن إتمام العقد، والعاقد مختار في تحصيل العقد، وإتمامه سواء كانت فيه فائدة حكمته أو لم تكن كما في خيار الرؤية، وخيار الشرط، أما بعد القبض، الصفقة قد تمت، ولهذا لا ينفرد العاقد بالرد بل محتاج فيه إلى قضاء القاضي والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد على ما مر؛ ولأن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن، فلا يتوقف صحة الرد بالعيب على استفادته بمقابلته شيئاً ولا شيء بمقابلته، أما بعد القبض له حصة من الثمن، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئاً بطل.
وإنما وقع الفرق باعتبار أن الفائت بالعيب وصف، فما دام في يد البائع فهو بيع للمبيع، فلا يكون له حصة من الثمن، وإذا قبضه المشتري فقد احتبس هذا الوصف عند البائع فصار مقصود المكان له حصة من الثمن والأوصاف، وإلا يباع لا لفرد بالعقد فلا يفرد بضمان العقد،(6/595)
إنما يفرد بالفعل فجاز أن يفرد بالضمان الذي يعود إلى الفعل؛ ولأن تقرير الحصة من الثمن المعيب قبل القبض يؤدي إلى التناقض.
بيانه: إنما إذا أقررنا للعيب حصة قبل القبض لا يؤمن من أن يحدث فيه عيب قبل القبض فينتقض التقدير الذي كان؛ لأن العيب الذي يحدث قبل القبض يكون محسوباً على البائع، وما أدى إلى التناقض يكون باطلاً بخلاف ما بعد القبض، فإنا إذا قدرنا للعيب حصة من الثمن بعد القبض لا يتوهم نقضه بعيب يحدث فيه؛ لأنه يكون محسوباً على المشتري، فلا يؤدي إلى التناقض فلهذا افترقنا.
واستدل محمد رحمه الله: في «الكتاب» لبيان أن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن بمسألتين:
أحدهما: أن من اشترى عبداً ووجد به عيباً قبل القبض فصالحه البائع من ذلك العيب على جارية زيادة في البيع ولم يكن عوضاً عن حصة العيب انقسم الثمن على العبد، وعلى الجارية على قيمتهما ولم تكن حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو وجد بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن، وإن كان ذلك بعد القبض كانت حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو كان العيب ينقص العيب عشر قيمته كانت حصة الجارية عشر الثمن.
المسألة الثانية: الوكيل بالشراء إذا وجد بالمبيع عيباً ورضي به، إن كان ذلك قبل القبض لزم الموكل، كأنه اشتراه مع العلم بالعيب، وإن كان ذلك بعد القبض، للعيب حصة من الثمن فوجبت حصة العيب من الثمن للموكل، فصار الوكيل بالرضا بالعيب مبطلاً حق الموكل الذي وجب، وفي العيب قبل القبض.
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل عبداً وقبضه ونقد الثمن، ثم باعه المشتري من رجل آخر وهب الثمن من المشتري الثاني وأبرأه منه، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيباً وأراد أن يرده على البائع الثاني ليس له ذلك، ولو كان ذلك قبل القبض كان له ذلك.
والفرق من قبل القبض ما ذكرنا، ولو كان للمشتري الثاني فيه خيار الشرط أو خيار الرؤية والباقي بحاله فله أن يردها قبل القبض وبعد القبض؛ لأن خيار الشرط يمنع انعقاد العقد في حق الحكم، وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة قبل القبض وبعده في ذلك على السواء فكان الرد امتناعاً عن الإتمام فلا يتوقف على الفائدة، وبعد القبض الصفقة تامة فلم يكن الرد امتناعاً عن الإتمام بل كان إلزاماً، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئاً لا يشتغل به القاضي، فإنما سوينا في خيار الشرط وخيار الرؤية بينا قبل القبض وبعده، وفرقنا في خيار العيب بينما قبل القبض وبعده.
نوع آخر في البراءة عن العيوب
إذا باع شيئاً على أنه بريء من كل عيب صح المبيع وتثبت البراءة عن كل عيب.
وقال الشافعي: لا تصح البراءة وعلى هذا الخلاف الإبراء عن الحقوق المجهولة(6/596)
والصحيح مذهبنا؛ لأن الإبراء إسقاط فيه معنى التمليك، أما إسقاط بدليل أنه صح من غير قبول كالطلاق والعتاق، وأما فيه معنى التمليك بدليل أنه يريد بالرد وأياً ما كان فالجهالة لا تمنع صحته، أما صحة الإسقاط فظاهر، وإما صحة التمليك؛ فلأن هذا تمليك يحتاج فيه إلى التسليم؛ لأن ما وقعت البراءة عن مسلم لمن وقعت البراءة له، والجهالة إذا لم تمنع التسليم والتسليم لا يمنع صحة التمليك.
كما لو اشترى قفيزاً من صبرة ويدخل في هذه البراءة العيب الموجودة والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف، وقال محمد: لا يدخل فيه الحادث، وهذا بناء على أنه إذا باع بشرط البراءة عن كل عيب يحدث بعد البيع قبل القبض هل يصح هذا الشرط عند أبي يوسف يصح، وعند محمد لا يصح، فأما إذا كان من مذهب محمد أن البراءة عن العيب الحادث لا تصح لو نص عليه فعند الإطلاق أولى، وعند أبي يوسف لما صحت البراءة عنه حالة التنصيص عليه فكذا حالة الإطلاق.
المحيط البرهانى
وجه قول محمد: أن هذا إبراء قبل وجود السبب (104أ3) لأن سبب الفسخ العيب، فالإبراء قبل وجود العيب يكون إبراء قبل وجود السبب، والإبراء قبل وجود السبب لا يجوز، ولأبي يوسف أن حق المشتري في صفة السلامة مقصوداً، وصفة السلامة تستحق بالعقد لاقتصار مطلق العقد صفة السلامة؛ لأن في الفسخ مقصوداً وصفة السلامة تستحق بالعقد إذن فصار الإبراء عن كل عيب إبراء عما يقتضيه مطلق العقد من صفة السلامة، فكان إبراء بعد وجود السبب؛ لأن سبب استحقاق صفة السلامة العقد، ولو شرط أنه بريء عن كل عيب به لم ينصرف إلى حادث في قولهم جميعاً، وكذلك إذا خص ضرباً من العيوب صح التخصيص، ولو كانت البراءة عامة واختلفا في عيب فادعى المشتري أنه حادث، وقال البائع: كان به يوم العقد فالقول قول البائع في قول محمد، وقال زفر والحسن: القول قول المشتري ولا يتأتى على هذا قول أبي يوسف؛ لأن البراءة العامة عنده تتناول القائم والحادث فلا يفيد هذا الاختلاف على قوله إلا على رواية شاذة عنه: أن البراءة العامة عنده لا تتناول الحادث، على تلك الرواية جواب أبي يوسف في هذه المسألة نظير الجواب عند محمد.
ووجه قول زفر والحسن: أن البراءة تستفاد من جهة المشتري فيكون القول قوله فيما أبرأ، وجه قول محمد: إن الإبراء حصل بصفة العموم فيتناول العيوب كلها، فالمشتري بدعوى حدوث بعضها يدعي خروج شيء بعينه من اللفظ فلا يقبل قوله، ولو كانت البراءة عن كل عيب بها واختلفا على نحو ما ذكرنا فالقول قول المشتري؛ لأن الإبراء يتناول عيناً موصوفاً بكونه في الحال فلا يدخل تحته إلا ما يثبت بالحجة أنه بذلك الوصف.
قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول رجل اشترى من رجل جارية وقال البائع للمشتري: أنا بريء من يدها، ولم يذكر عيباً قال: هو بريء، قلت: وإن قال أنا بريء منها قال: الإبراء عن العيب؛ لأنه لا يقع هذا على أن البراءة عن العيب في كلام الناس.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل ثوباً وأراه البائع خرقاً(6/597)
فيه فقال المشتري: أبرأتك عن هذا الخرق، ثم جاء المشتري بعد ذلك يريد قبض الثوب، فإذا فيه ذلك الخرق فقال المشتري: ليس هذا الخرق مثل ما رأيته حين أبرأتك حين كان رأيته شهراً، والإذن ذراع فالقول قوله في ذلك، وكذلك القول في زيادة بياض عين الجارية.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: إذا قال أبرأتك عن كل عيب بعينه، فإذا هو أعور لا يبرأ، وكذلك إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بيده، فإذا يده مقطوعة لا يبرأه، وإن كان أصبع مقطوعة من يده يبرأ، وإن كان أصبعان مقطوعتان فهذان عيبان، لا يبرأ، وإن كانت الأصابع كلها مقطوعة مع نصف الكف فهذا عيب واحد فيبرأ.
وفي كتاب «العلل» : عن محمد إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بعينها، فإذا هي عمياء فهو بريء، ولو قال: أبرأتك عن كل عيب بكفها، فإذا هي مقطوعة الكف لا يبرأ؛ لأن الكف بعد القطع لا تسمى كفاً فأما العين بعد العمي تسمي عيناً، ففي مسألة العين الإبراء صادف محله فصح، وفي مسألة الكف الإبراء لم يصادف محله فلم يصح.
وعن «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا باع جارية قال: برئت إليك من كل عيب إلا من عيب بكفها، أو إلا من عيب بعينها فوجدها يابسة أو وجدها عمياء فهو برىء منها؛ لأنه قد سمى ذلك العيب له فهو برأ منه حين أخبره به.
وكذلك إذا قال: أنا بريء من كل عيب بهذا العبد إلا إباقه فوجده آبقاً فهو بريء عنه، ولو قال: إلا الإباق فله أن يرده بالإباق، ولو باع يوماً وبرىء عن كل خرق به دخل تحت البراءة كل خرق به، دخل تحت مرفوعه كانت أو غير مرفوعه، محيطة كانت أو غير محيطة، مرقوة أو غير مرقوة.
وكذلك إذا باع عبداً وبرىء من كل قرح به دخل تحت القروح الدامية وآثار قروح قد برئت، ولا يدخل تحته آثار الكي؛ لأن الكي غير القرح.
وفي «المنتقى» : إذا باع سلعة وقال برئت إليك من العيب بها، أو قال: برئت إليك عن عيب بها فهذا على عيب واحد، فإن قال وجد بها عيبان فهو بريء من أحدهما.
وفي «نوادر المعلي» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر جارية وبرئ البائع إليه من كل آمة برأسها موضحة وليس برأسها آمة لا يبرأ عن الموضحة، ولو برىء إليه من كل سن لها سوداء، أو حمراء، أو خضراء، وكذلك لو برىء إليه من عينيها السوداوين، فكانت حمراوين فهو بريء منهما، قال المعلى: وسألت محمداً عن ذلك فقال: كفء في الآمة يبينه.
وفي القدوري: وإذا اشترى عبداً على أن به عيباً واحداً فوجد به عيبين وقد تعذر رده بموت أو ما أشبه ذلك فعند أبي يوسف الخيار إلى البائع، وقال محمد: الخيار إلى المشتري يرجع بنقصان أي: العيبين شيئاً، فيقوم العبد وبه العيبان وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصان فيرجع بفضل ما بينهما، وإنما كان الخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأنه هو المبرىء عن العيب، فكان تعيين ما وقعت البراءة عنه إليه.(6/598)
قال في «الزيادات» : وكذلك إذا وجد به ثلاثة عيوب وتعيب عنده بعيب زائد حتى تعذر الرد يرجع بنقصان العيبين من الثلاثة أي: ذلك شاء عند محمد، فيقوم وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصانه، ويقوم وبه العيوب الثلاثة فيرجع بفضل ما بينهما.
وفيه أيضاً: إذا اشترى عبدين على أن بأحدهما عيباً فوجد بأحدهما عيباً فليس له حق الرد، ولو وجد به عيبان فله حق الرد، وكذلك لو وجد بكل واحد عيباً فله الرد، وبعد ذلك ينظر، إن كان ذلك قبل القبض رد أيهما شاء فهذا قول محمد، فالخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري حقاً له فكان التعيين إليه، فإن كان قبض أحد العبدين ولم يعلم بالعيب فيه، ثم علم بالعيب بالعبد الآخر، وقبضه مع العلم بالعيب، ثم علم بالعيب الذي قبضه أولاً، له أن يرد أيهما شاء، فإن أراد رد الذي قبضه مع العلم بالعيب فقال البائع: ليس لك أن ترده؛ لأنك رضيت بعيبه حين قبضته مع العلم بالعيب، لا يلتفت إلى قول البائع؛ لأن القبض مع العلم بالعيب إنما يكون رضا بالعيب، إذا كان عيباً يثبت له حق الرد، وهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد؛ لأنه أبرأه عن عيب واحد بأحدهما وحين قبض الثاني، مع العلم بالعيب، فالعيب بالأول لم يكن معلوماً فهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد مكان قبض الثاني مع العلم بالعيب وجوده وعدمه بمنزلة.
فإذا باع من آخر عبداً على أن لا عيب به ولكن يبرأ إليه من عيب واحد فاشتراه على ذلك وقبضه، ثم وجد به عيبين وقد تعذر (104ب3) بسبب من الأسباب يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته صحيحاً؛ لأنه وإن ذكر عيباً واحداً وكان نص في الابتداء على أنه لا عيب به، فيتناوله العقد سليماً بخلاف ما إذا لم يقل في الابتداء لا عيب به، فإن هناك يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته معيناً بالعيب الآخر.
ولو اشترى عبدين على أنه برئ من كل عيب بأحدهما قبضهما، ثم وجد بأحدهما عيوباً لا يكون له أن يرده، فإن استحق الآخر بعد ذلك رجع بحصته من الثمن عليهما فهماً صحيحان، ولو اشتراهما على أنه برئ من ثلاث شجاج بأحدهما فوجد بأحدهما ثلاث شجاج واستحق الآخر، فإنه يقسم الثمن على المستحق وهو صحيح، وعلى الآخر وهو مشجوج بثلاث شجاج؛ لأن في الوجه الأول دخلا في العقد سليماً بخلاف الوجه الثاني.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن البراءة عن كل عيب لا يكون إقرار بوجود العيب لعلمنا يقيناً أن العبد لا يجتمع فيه العيوب كلها، فيجعل مجاناً عن إلزام العقد وإبرامه بالامتناع عن التزام صفة السلامة وشرط البراءة عن بعض العيوب إقرار بوجوده، إذ لو لم يكن إقرار بوجوده لم يكن لتخصيص العيوب معنى وفائدة، ألا ترى أن قوله لا عيب به مطلقاً لا يجعل إقرار ينفي العيوب كلها؟ لأن الإنسان لا يخلو عن قليل عيب، والعمل بالحقيقة غير ممكن، فيسقط اعتبار الحقيقة ويجعل قوله لاعيب به مجازاً عن الترويج، حتى أن من عرض عيباً على رجل وقال: اشتر، فإنه لاعيب به، فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيباً كان له أن يرده على بائعه وليس لبائعه أن يحتج عليه بقوله عند العرض لاعيب به، وتخصيص بعض العيوب بالنفي يكون إقرار بانتفاء ذلك العيب، حتى(6/599)
من عرض عيباً على رجل، وقال: اشتر، فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيباً لم يكن له أن يرده على بائعه بذلك العيب، وجعل قوله ليس به عيب، كذا إقرار بانتفاء ذلك العيب؛ لأن العمل بالحقيقة ههنا ممكن، فإن الإنسان يخلو عن عيب معين فكذا ههنا.h
والدليل على صحة ماقلنا ما ذكر في «الكتاب» : أن من اشترى من رجل عيناً، ثم أراد أن يرده بالعيب فشهد شاهدان على أن البائع يبرأ عن كل عيب به، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به عيباً فأراد رده كان له ذلك، فلم يجعل الشهادة على البراءة عن كل عيب إقرار بالعيب، وبمثله لو شهدا على أن البائع يبرأ عن عيب كذا، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به ذلك العيب لا يكون له حق الرد، وجعل الشهادة على البراءة عن عيب مخصوص إقراراً بوجود ذلك العيب، وعن أبي يوسف إذا أبرأه عن كل عيب دخل فيه العيوب والأدواء، ولو أبرأه عن كل داء دخل فيه السقم والمرض ولا يدخل فيه الكي، ولا أثر قرح قد برأ ولا الأصبع الزائدة.
والحاصل: أن الداء داخل في العيب غير داخل في الداء، ولو أبرأه من كل عاملة دخل فيه السرقة والفجور، ولا يدخل فيه الكية ولا أثر القروح ولا الدمل والثؤلول والأمراض، وعن أبي حنيفة: أن الداء المرض الذي في الجوف طحال أو كبد والعاملة السرقة والإباق والزنا.
نوع آخر في الضمان عن العيوب
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: اشترى من رجل عبداً وضمن له من رجل عيوبه فوجد به عيباً ورده فلا ضمان عليه في قياس قول أبي حنيفة، وهذا على العهدة وقال أبو يوسف: هو ضامن للعيوب هذا مثل ضمان الدرك والاستحقاق، وكذلك لو ضمن له رجل ضمان السرقة والعتاق فوجده حراً أو مسروقاً ضمن، وكذلك لو ضمن رجل العمى والجنون فوجده كذلك رجع على الضامن بالثمن، ولو مات عنده قبل أن يرده وقضى البائع بنقصان العيب كان للمشتري أن يرجع بذلك على الضامن ولو ضمن له بحصة مايجد عن العيوب فيه من الثمن فهو جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن رده المشتري رجع بجميع الثمن على الضامن بذلك، كما يرجع على البائع.
ابن سماعة عن أبي يوسف: لو اشترى رجل عبداً فقال له رجل: ضمنت لك عماه وكان أعمى فرده على البائع لم يرجع على ضامن العمى بشيء، ولو قال: إن كان أعمى فعليه حصة العمى من الثمن فرده بالعمى كان له أن يضمن حصة العمى.
ولو اشترى عبداً فوجد به عيباً فقال له رجل: ضمنت لك هذا العيب لم يلزمه شيء.
وفي «واقعات الناطفي» : لو قال المشتري للبائع أنت بريء من كل حق لي قبلك، دخل العيب تحت الإبراء هو المختار، ولا يدخل الدرك؛ لأن العيب حق له قبله للحال والدرك لا.(6/600)
نوع آخر في الصلح عن العيوب
قال محمد في «الأصل» : إذا اشترى الرجل من آخر عبداً بألف درهم وقبضه منه ونقده الثمن، ثم وجد به عيباً فأنكر البائع أن يكون باعه وبه ذلك العيب، ثم صالحه البائع على أن يرد عليه دراهم مسماة حالة أو إلى أجل فهو جائز، والحاصل: أن الناس تكلموا في المشتري إذا وجد بالمبيع عيباً أن فيما أدى والأصح في ابتداء مايحدثه العيب حقه في الحر والفائت يطالب به البائع؛ لأنه ضمن له تسليمه بالعقد، ومن العيوب مايكون بعرض الزوال وإذا زال صار قادراً على تسليمه فقبل يطالبه في الابتداء به، ثم إن البائع يعجز عن تسليمه إليه لفواته فينفسخ البيع فيه، ويصير حق المشتري في حصة العيب من الثمن، إلا أنه متى وقع الصلح على جنس الثمن يعتبر استيفاء لحصة العيب من الثمن ويجوز حالا ومؤجلاً وإذا وقع على خلاف جنس الثمن يعتبر معاوضة بين المأخوذ وبين حصة العيب من الثمن، وفيما إذا صالح عن العيب على أكثر من حصة من الثمن، فطريق الجواز أن بمقدار حصة العيب هذا استيفاء لحصة العيب وما زاد على ذلك فالبايع حط عنه من الثمن، ولو صالحه من العيب على دينار، فإن نقده قبل أن يتفرقا فهو جائز، وإن افترقا قبل أن ينقده بطل الصلح، ولو كان المشتري باعه ونقد الثمن، ثم اطلع على عيب به فصالحه بائعه منه على دراهم لم يجز؛ لأنه لا حق للمشتري بعدما باعه لا في الرد بالعيب ولا في الرجوع بنقصان العيب، فإنما صالح فيما ليس بحق له، فإن كان العبد مات عند المشتري الثاني فرجع على بائعه بنقصان العيب، ثم إن البائع الثاني صالح البائع الأول على صلح.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: الصلح باطل وعندهما صحيح بناء على المشتري الثاني إذا رجع على بائعه، هل لبائعه أن يخاصم البائع الأول؟ عند أبي حنيفة ليس له ذلك خلافا لهما، وذكر في المأذون إذا حدث به عيب عند المشتري الآخر فيرجع على بائعه لنقصان ليس لبائعه أن يرجع إلى البائع ولم يذكر خلافاً، منهم من قال: هو قول أبي حنيفة.
ومنهم من فرق لأبي يوسف ومحمد بين المسألتين، والفرق: أن في تلك المسألة للبائع الأول أن يقول للمشتري الأول: سبيلك أن تقبل منه لا أقبل منك فإذا لم يقبل فأنت الذي فوت حقك فلا يمكنه (105أ3) الاحتجاج عليه ههنا فقلنا بأنه يرجع عليه، وإن كان الثمن مكيلاً أو موزوناً بغير عينه وبين الكيل والضرب وتقابضا، ثم وجد بها عيباً فصالح، فإن وقع الصلح على بعض الثمن من جنسه فهو استيفاء لا استبدال، فيجوز حالاً ومؤجلاً سواء كان الثمن قائماً في يد المشتري أو كان مستهلكاً، وإن وقع الصلح على خلاف صلح الجنس فهو معاوضة، ففي كل موضع حصل الافتراق فيه عن دين بدين لا يجوز، وإن كان الثمن مكيلاً أو موزوناً بعينه وتقابضا فصالحه على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلاً أو بعينه فهو جائز إن كان الذي أخذه عوضاً عن الجارية مستهلكاً، وإن(6/601)
كان الذي هو ثمن قائماً بعينه لم يجز الصلح على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلاً جاز حالاً إذا أوفاه إياه قبل أن يتفرقا أو كان بعينه؛ لأن الثمن في هذه المسألة تعين في العقد بالتعيين فكان حق المشتري في عين ما أدى، فكان ماوقع عليه الصلح عوضاً عما استوجبه عليه ومبادلة المكيل والموزون بجنسه مؤجلاً يجوز.
وفي المسألة الأولى: الثمن استحق بالعبد دينا قائماً يرجع بحصة العيب من ذلك لامن عين المقبوض فجاز الصلح عن مثله حالاً ومؤجلاً.
ولو طعن في بياض بعينها فصالح البائع من ذلك على أن حط عنه درهماً كان جائزاً، فلو أنه انجلى البياض بعد ذلك رد الدرهم على البائع.
وكذلك لو طعن بحبل فيها فصالحه البائع على أنه حط عنه درهماً، ثم ظهر أنه لم يكن بها حبل، فإنه يرد الدرهم، وكذلك لو اشترى أمة فوجدها (منكوحة عند) البائع فصالحه البائع على دراهم، ثم طلقها الزوج طلاقاً كان على المشتري رد الدراهم.
اشترى كر حنطة، ثم ظهر بعيب بأحدهما، فصالحه الآخر على درهم أو على قفيز حنطة أو على قفيز شعير لم يجز؛ لأن الحنطة بالحنطة مثل بمثل فتكون الزيادة رباً كما لو قال عند ابتداء العقد، وإذا لم تصح الزيادة هل يفسد البيع، إن كان بلفظة الصلح بأن قال صالحتك عن العيب على أن أزيد لك قفيز حنطة أو درهم فسد البيع عند أبي حنيفة؛ لأن الزيادة تلحق بأصل العقد ولو كان موجوداً لدى العقد كان العقد فاسداً كذا ههنا.
صالحه من كل عيب على درهم جاز سواء طعن المشتري بعيب أولم يطعن؛ لأن هذا إبراء عن العيوب المجهولة بعد وجوب سبب الحق له، وذلك صحيح، ولو اشترى العيوب منه بدرهم لايجوز؛ لأن مثل هذه الجهالة تمنع صحة البيع ولا تمنع صحة الصلح صالحه من العيب على ركوب دابته في حوائجه فهو جائز، قالوا: وتأويله إذا شرط ركوبه في المصر أما إذا شرط ركوبه خارج المصر إذا أطلق لا يجوز لمكان الجهالة، نص على هذا التفصيل في كتاب الإقرار.
صالحها من عيب الغلام على أن تزوج نفسها منه صح، وكان هذا إقرار بالعيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال وكان كالبيع إذا باعت ثوباً منه بحصته من العيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال إذا كان إقرار منها بالعيب؛ لأن البيع لا يصح إلا بمال بخلاف الصلح.
اشترى ثوباً فقطعه قميصاً وخاطه فباعه بعد ذلك، أو لم يبعه، ثم اطلع على عيب أو كان البيع بعد ظهور العيب، ثم صالحه من العيب على دراهم جاز؛ لأن حقه قد تقرر في الرجوع بنقصان العيب بسبب الخياطة، ألا ترى لو كان في يده ليس للبائع أن يقول أنا أقبله كذلك، فإنما صالح عن حقه، وكذلك إذا صبغه بصبغ أحمر، ثم باعه أو لم يبعه حتى صالح من العيب، ولو قطعه ولم يخطه حتى باعه، ثم صالحه من العيب لايصح؛ لأنه حقه لم يتقرر في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن القطع المجرد نقصان، ألا ترى أن للبائع يقول: أنا أقبله؟ كذلك، فإنما صالح عما ليس بحق له، والسواد بمنزلة القطع(6/602)
المفرد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: بمنزلة القطع مع الخياطة، صالحه على أن أبرأه عن كل عيب فهو جائز سمى أو لم يسم خلافاً لابن أبي ليلى، وكان أبو حنيفة رحمه الله يحتاط في ذلك ويقول: نكتب في صك الصلح برئت من كل عيب سميته وعرفته أو يكتب في الصك أنه باع العبد وخرج عن ملكه، ثم عاد إلى ملكه بصدقة أو ما أشبهها، أكثر ما في الباب أن هذا حيلة بالكذب إلا أن الكذب، مباح لإحياء حقه، ولدفع الظلم عن نفسه كالشفيع يعلم بالبيع في جوف الليل لا يمكنه الإشهاد، فإذا أصبح يشهد ويقول علمت الآن، وكذلك الصغيرة تبلغ في جوف الليل، فإذا أصبحت تقول بلغت الآن وأجزت نفسي فيرخص فيه كذا ههنا.
وحيلة أخرى: أن تعلق المشتري أعتقه بمخاصمته في عيب تجد بها، فإذا خاصمه عتق العبد ولا يمكنه الرد ولا الرجوع بنقصان العيب، طعن بعيب في عينها، ثم صالحه البائع من عيبها على ما جاز، وإن لم يذكر العيب وجعل يسميه محل العيب بمنزلة تسمية العيب.
وقال في «الأصل» : اشترى أمة بخمسين ديناراً وقبضها وطعن المشتري بعيب بها، فاصطلحا على أن قبل البائع السلعة ورد عليه تسعة وأربعين ديناراً قالوا جائز، فهل يطيب للبائع ما استفصل من الدينار، ينظر: إن كان البائع مقراً أن هذا العيب كان عنده على قول أبي حنيفة ومحمد لا يطيب، ويجب عليه رده على المشتري، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يلزمه الرد، بناءاً على أن عند أبي يوسف الإقالة بأكثر من الثمن الأول أو بأقل يعتبر بيعاً جديداً لا إقالة فلزمه الرد، وأما إذا كان جاحداً أن هذا العيب كان عنده أن عيباً لا يحدث مثله فكذلك الجواب، وإن كان عيباً يجوز أن يحدث مثله طاب الفضل للبائع بالاتفاق لم يقر ولم ينكر بل سكت فهو وما لو أنكر سواء، ولو كان المشتري أخذ ثوباً وقبل منه السلعة على أن يرد الثمن كان عليه هذا وما لو حبس شيئاً من الثمن سواء.
وإن كان مكان الثوب دراهم، فإن فضت فالجواب كما ذكرنا، وإن كاتب إلى أجل لا يجوز على كل حال.
اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ولم يخطه، ثم وجد به عيباً أقر البائع أنه كان عنده فصالحه البائع على أن قبل البائع الثوب وحط المشتري عنه من الثمن مقدار درهمين كان جائزاً، ويحصل ما احتبس عند البائع من الثمن بمقابلة ما انتقص بفعل المشتري.
وقال في «الأصل» أيضاً: طعن المشتري بعيب جحده البائع فاصطلحا على أن يحط كل واحد منهما عشرة ويأخذ الأجنبي بما وراء المحطوط، ورضي به الأجنبي فالبيع من الأجنبي جائز؛ لأن المشتري باع ملك نفسه وحطه أيضاً جائز؛ لأن حطه في ملك نفسه وهو والثمن (105ب3) يكون هذا من المشتري رضاء بالعيب، وحط البائع لا يجوز؛ لأنه لا في ملك لغيره، وكان للأجنبي الخيار إن شاء أخذ بما وراء العشرة من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأنه إنما اشترى ليسلم له المشترى بما وراء العشرين من الثمن، وتبين أنه إنما سلم له بما وراء العشرة، وهذه المسألة تدل على أن المشتري إذا ظهر أنه صار مغبوناً(6/603)
على وجه لا يتغابن في مثله أنه يثبت له الخيار، وأدلة الكتب متعارضة ظاهر الجواب لا خيار له، وعن محمد فيمن اشترى صبرة حنطة فوجد في أسفله دكاناً فله الخيار، وإذا اشترى طعاماً في جفنه، ثم علم مقداره يثبت له الخيار وهو خيار التكشف وخيار الكتمة، قال الشيخ الإمام شمس الحلواني رحمه الله: كان القاضي يقول الفقيه عبد الله كان يفتي بثبوت الخيار للمشتري إذا صار مغبوناً، وكان يقول هب، كان في المسألة روايتان: يختار هذه الرواية رفقاً بالناس إذا كان الثمن عشرة مثلاً، فاصطلحا على أن يأخذ من الآخر الثوب بثمانية، وحط البائع الأول عن المشتري الأول درهماً جائز سواء كان قبل قبض الثمن أو بعده لما عرف، أن الحط بعد قبض الثمن صحيح.
اشترى ثوباً بعشرة وتقابضا وسلمه المشتري إلى قصار فقصره وجابه متخرقاً، فقال المشتري: لا أدري عند القصار تخرق أو كان به عند البائع، فاصطلحوا على أن يقبل المشتري الثوب ويرد القصار عليه درهماً فذلك جائز، وكذلك لو كان هذا الصلح على أن يقبله البائع منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهذا إشارة إلى أنه إذا صالحه على أن يعتله البائع، ويغرم له القصار درهماً، ويترك له المشتري درهماً أنه يجوز، قال مشايخنا: وهو غلط؛ لأن اشتراط ترك الدرهم على المشتري صحيح؛ لأن البائع جاحد للعيب، أما اشتراط الدرهم على القصار باطل؛ لأنه ما كان بينه وبين القصار سبب يستوجب به الضمان عليه، وفي زعمه أنه يملك الثوب ابتداء من جهة المشتري بعد ما تخرق في يد القصار، فاشتراط أخذ الدرهم منه عذراً لا أن يكون تأويله أن القصار يضمن الدرهم أولاً للمشتري، ثم المشتري يدفع ذلك إلى البائع ليقبل المبيع منه فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يزعم أنه يملك المبيع ابتداء، وهذه الزيادة بدل ما تلف عند القصار فكان له أن يأخذ إذا رد جميع الثمن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: تأويله أن يقع الصلح على أن يقبل البائع الثوب من المشتري، على أن يحط المشتري من البائع درهماً، ويأخذ المشتري من القصار درهماً ويعطيه المشتري أجرة.
وفي «فتاوى الفضلي» : اشترى من آخر جارية ووجد بها عيباً فاصطلحا على أن يدفع البائع كذا درهماً والجارية للمشتري فهو جائز؛ لأن هذا صلح عن العيب، وإن اصطلحا على أن يدفع المشتري ذلك الجارية للبائع لا يجوز؛ لأنه ربا إلا إذا باعه منه بأقل من الثمن الذي اشتراها منه بعد أن كان يقدر الثمن كله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر عبداً ووجد به عيباً قبل أن يقبضه، وصالحه من العيب على عبد آخر وقبضهما المشتري، ثم استحق أحد العبدين رجع المشتري بحصة المستحق من الثمن أيهما كان، كأنه اشتراهما جميعاً، ولو قبض العبد المشتري، ثم وجد به عيباً فصالحه منه على عبد ودفع الثمن، ثم استحق العبد المشتري يبطل الصلح في العبد الثاني.
وفي «نوادر ابن سماعة» أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى جارية ووجد بها عيباً قبل القبض أو بعده فصالحه البائع على جارية أخرى، ثم استحقت الجارية الأولى بطل الصلح.(6/604)
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر كر حنطة بعشرة دراهم وقبض الكر ولم يدفع الثمن، حتى وجد بالكر ينقصه العشرة فأراد رده فصالحه البائع من العيب على كر شعير بعينه، فإنه جائز، وحصة الشعير نقصان العيب، وإن كان بغير عيبه، ووصفه وسمى أجله فهو باطل؛ لأنه صار بمنزلة سلم لم يدفع إليه رأس ماله، فإن دفع إليه غير الثمن وقال هذا حصة الكر الشعير فهو جائز والشعير سلم، وكذلك إذا دفع إليه كل الثمن، ولو دفع إليه عشر الثمن ولو نقل عشر هذا حصة الشعير، فإن الذي نقده من جميع الثمن فيثبت عشر كر الشعير ويبطل تسعة أعشاره.
نوع آخر منه
قال محمد في «الجامع» : عبد أو داراً في يدي رجل أقام رجل بينته أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بمائة دينار قضى القاضي بالثمنين على ذي اليد؛ لأن المبيع إذا كان مسلماً إلى المشترى كانت الحاجة إلى إثبات الثمن والثمن دين فصار، كما لو ادعى أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار، وكذلك إن اقام كل واحد منهما بينة أن العبد عبده باعه من ذي اليد بما يدعيه من الثمن؛ لأن المبيع إذا كان مسلماً إلى المشتري لا يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الملك لنفسه ليترجح بالنتاج، فإن وجد المشتري بالعبد عيباً وأراد أن يرده ليس له أن يرده عليهما؛ لأنه إذا رد عليهما كان راداً على كل واحد منهما النصف، وكل واحد زعم أنه باعه كله فكان له أن لا يقبل النصف مع عيب الشركة، ولكن يرده على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد أن البائع هو، وأن للمشتري حق الرد عليه وحق استرداد جميع الثمن منه، وفي زعم المشتري أن له حق استرداد كل الثمن من كل واحد منهما، فلهذا كان له أن يرد على أيهما شاء، ويسترد الثمن منه، وإذا رده على أحدهما لا يكون له على الآخر سبيل لا في الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب.
أما في الرد بعجزه عن ذلك حين رد على الأول، وأما في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن في زعم الآخر إلى نصيبه منه وإن له حق الرد بالعيب علي لا على صاحبي، فإذا رد على صاحبي مع أنه ليس له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة تمليك مبتدأ وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، فإن لم يرده بالعيب على أحدهما حتى تعيب عند المشتري بعيب ذا يد لا يكون له حق الرد عليه، ولكن يرجع بنقصان العيب على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد منهما أن له حق الرجوع بنقصان العيب عليه وهو يدعي على كل واحد منهما جميع الثمن فقد اتفقا على استحقاق قدر النقصان، فيرجع على أيهما شاء بذلك، إلا أن يقول الذي يريد أن يرجع عليه بالنقصان أنا أقبله كذلك، فحينئذ يرد عليه لامتناع الرد إنما كان دفعاً للضرر عنه، فإذا رضي به كان للمشتري أن يرد عليه فإن أبى أن يرده عليه وأعطاه النقصان كان للمشتري أن يرجع على الآخر بنقصان العيب.
فرق بين هذا وبينهما لو رد على أحدهما حيث لا يكون له على الآخر سبيل، والفرق بينهما أن فصل الرجوع على أحدهما بنقصان العيب في حق استرداد جميع الثمن(6/605)
(106أ3) من صاحبي أخذ ذلك منه بغير حق، فإذا أخذ منه قدر النقصان، فقد أخذ بعض حقه، وهذا لا يوجب سقوط حقه في الرجوع بنقصان العيب علي، أما في فصل الرد في زعم الآخر أن للمشتري حق الرد علي بالثمن لا على صاحبي، فإذا رد عليه لم يكن له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة بيع جديد، وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب.
ولو مات العبد، ثم اطلع على عيب قديم رجع بنقصان العيب عليهما إن شاء لما مر، ولو قطعت يد العبد المشترى وأخذ المشتري أرشها، ثم وجد به عيباً قديماً كان له أن يرجع بالنقصان عليهما؛ لأن الأرش زيادة منفصلة والزيادة مانعة من الرد بالعيب، فيكون له حق الرجوع بنقصان العيب عليهما لما مر، فإن قال أحدهما: أنا أقبله كذلك؛ لأن امتناع الرد بسبب الزيادة إنما كان لحق الشرع تحرزاً عن الربا، فلا يسقط ذلك برضا العبد، فإن باعه المشتري فإنه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، والفرق وهو أن البيع إنما يوجب بطلان الرجوع بنقصان العيب في موضع بقي حق الرد في نفسه بعد حدوث العيب ليصير المشتري بالبيع راضياً بذلك العيب، فيبطل حقه من كل وجه.
وفيما إذا تعيب المبيع بعيب زائد بقي للمشتري حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له أن يرده عليه، وبالبيع يبطل حقه من كل وجه، أما بعد القطع لم يبق له حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك لايملك الرد، فإذا لم يبق حقه في الرد تعذر حقه في النقصان قبل البيع، فلا يبطل بالبيع، فإن كان أقام أحدهما البينة أنه عبد وباعه من ذي اليد يوم الجمعة بمائة دينار يقضى بالثمنين؛ لأن الحاجة ههنا إلى إثبات الثمن، فإن وجد به عيباً رده إلى الثاني، وكذلك لو تعذر بالعيب يرجع بنقصان العيب على الثاني دون الأول؛ لأن القضاء بالعقدين على هذا الترتيب يوجب انقطاع حق المشتري عن الأول، فلهذا يرد بالعيب ويرجع بالنقصان على الثاني دون الأول.
نوع آخر في الوصي والوكيل والمريض
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى عبداً بألف درهم وقبضه ولم ينقد الثمن حتى مات وأوصى إلى رجل، ولا مال له سوى العبد وعليه دين ألف درهم سوى الثمن، فوجد الوصي بالعبد عيباً فرده بالعيب بغير قضاء القاضي، فرده جائز وليس للغريم نقضه؛ لأن الموجب للرد قد وجد، لو امتنع الرد إنما يمتنع لحق الغريم، وحق الغريم يتعلق بمالية العبد لا بعينه، ولأن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة بيع جديد في حق الثالث والغريم ثالثهما، فصار في حق الغريم كأن الوصي باع هذا العبد وللوصي هذه الولاية ويرجع الوصي على البائع، فيأخذ منه نصف الثمن ويدفعه إلى الغريم الآخر، والوصي هو الذي يلي ذلك؛ لأن هذا الرد اعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، وقبض الثمن من حقوق العبد، فيكون للعاقد.(6/606)
ولو أن البائع لم يقبل هذا العبد من الوصي حتى خاصمه إلى القاضي، فإن كان القاضي علم بدين الآخر لا يرده بل يبيعه ويقسم الثمن بينهما؛ لأن فيه إبطال حق غريم الآخر؛ لأن الرد بقضاء فسخ من كل وجه، فيبطل البيع ويعود إلى الأصل، فيسقط الثمن، فلا يصل الغريم شيء لا يضمن البائع نقصان العيب لا قبل بيع القاضي ولا بعده، أما بعد بيع القاضي؛ فلأن بيع القاضي حصل للميت، فيجعل كأن الميت باع نفسه، ولو باع الميت نفسه حال حياته، ثم اطلع على عيب به لم يرجع بنقصان العيب فههنا كذلك، وأما قبل بيع القاضي فلأن امتناع الرد في هذه الصورة كان بمعنى من جهة المشتري وهو اكتسابه سبب وجود الدين للغريم الآخر وامتناع الرد بمعنى من جهة المشتري لايثبت حق الرجوع بنقصان العيب.
وإن لم يعلم القاضي بدين الغريم وخاصم الموصي البائع في العيب رده بالعيب على البائع؛ لأن الموجب للرد قد ظهر وهو العيب، وفي المانع شك، ويبطل الثمن الذي للبائع على الميت؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، ومتى صح الفسخ والثمن غير منقود يبطل عن المشتري، فإن أقام الغريم الآخر بينة على دينه، خير البائع المردود عليه إن شاء أمضى الرد وضمن الغريم الآخر نصف ثمن العبد، فيصير الثمن بينهما نصفان، وإن شاء نقض الرد، ورد العبد حتى باع في دينهما؛ لأنه ظهر دين الغريم الآخر بعذر صحيح، هذا الرد من القاضي (يعد) فسخاً من كل وجه لما فيه من إبطال حق الغريم الآخر، فاعتبر رده بيعاً جديداً كيلا يبطل هذا الرد، أمكن اعتباره بيعاً جديداً لوجود معنى البيع فيه، وهو التمليك والتملك.
ولو أن رجلاً اشترى عبداً في صحته بألف درهم وقبض العبد ولم ينقد الثمن حتى مرض وعليه دين ألف درهم، فوجد بالعبد عيباً فرده بغير قضاء أو استقال البيع البائع فأقاله برئ من مرضه، فجميع ما صنع صحيح، وإن لم يبرأ من مرضه ومات وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه ولا مال له غيره كان الجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رد العبد بغير قضاء وإن أقاله البيع وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه؛ لأن المريض مرض الموت يملك بيع ماله، ولا يمكن إيثار بعض الغرماء على البعض كالوصي، ولو لم يقبل البائع البيع حتى خاصم المشتري البائع إلى القاضي في العيب في مرض المشتري، فالقاضي يرد العبد عليه سواء علم بدين الغريم الآخر أو لم يعلم، بخلاف مسألة الوصي، فإنه إذا خاصم البائع في العيب إلى القاضي بدين الغريم الآخر فالقاضي لايرده. والفرق سواء أن الميت للرد بموجود في الحالين لكن عسى يمتنع عمل الميت، والموجب لمانع، ففي مسألة المريض المانع وهو حق الغريم موهوم؛ لأن حق الغريم إنما يتعلق بمال المريض إذا كان المريض مرض الموت ولا يدرى في الحال أنه هل يتصل بهذا المرض الموت أو (لا) يتصل، وإذا وقع الشك لايمتنع عمل المثبت، أما في فعل الموصي المانع ثابت قطعا؛ لأن الوصي إنما يخاصم البائع بعد الموت، وبعد الموت المانع ثابت قطعاً، فجاز أن يمتنع عمل المثبت والموجب.(6/607)
فإن مات المشتري من مرضه بعدما رده عليه، فالجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رده بالعيب نقضاً، فلم يعلم القاضي بدين الغريم الآخر؛ لأنه لما مات ظهر أن المرض مرض الموت من ابتدائه، فظهر أن حق الغريم الآخر كان متعلقا بماله حتى رده القاضي على البائع كما لو رده الوصي فيكون الجواب في الوصي، إلا في خصلة أن ههنا متى كانت قيمة العبد أكثر من الثمن، فإنه لا يجبر المردود عليه بنقض (106ب3) الرد، ويباع العبد ويقسم الثمن نصفين.
و (لو) قال: أنا أمسك العبد وأرد نصف القيمة حتى تزول المحاباة، لم يكن له ذلك، وفي الوصي يخير المردود عليه، والفرق: أنه لما مات من مرضه ظهر أنه ماكان للقاضي ولاية الفسخ ليتعلق حق الغريم بماله، وإن فسخه لم يصح، فاعتبر عقداً جديداً وفيه محاباة، والمحاباة لا تعفي من المريض، وإن قلت: إذا كان عليه دين مستغرق لتركته، فتعذر تصحيح الرد من هذا الوجه وتعذر تصحيحه بتبليغ الثمن إلى تمام الصحة؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، فلا يصح الفسخ تأكيداً من الثمن الأول، وإذا تعذر تصحيح الرد بالطريقين تعين بعض الرد، فأما الوصي فعفى عنه المحاباة اليسيرة، فأمكن تصحيح الرد بمثل الثمن، فلهذا يخير فيه البائع. وهذه المسألة من أغرب المسائل، فإن عفي فيه المحاباة اليسيرة من الثابت ولم يعف من الأصل وهو المريض.
وإذا أمر رجل رجلاً ببيع عبد له، فباعه الوكيل وسلمه وقبض الثمن من المشتري أو لم يقبض حتى وجد المشتري بالعبد عيباً وخاصم الوكيل في العيب فقبله الوكيل بغير قضاء، فإن كان ذلك عيباً يحدث مثله من وقت البيع يلزم الوكيل دون الموكل، فلا يكون للوكيل أن يخاصم الموكل، وإن كان عيباً لا يحدث مثله في تلك المدة ذكر في «الأصل» أنه يلزم الموكل يجب أن يعلم أن الوكيل بالبيع والشراء خصم في الرد بالعيب من حقوق العبد فيرجع إلى العاقد، والوكيل في حق الحقوق كالعاقد لنفسه.
وإذا رد عليه بالعيب بعد القبض فهو على وجهين:
إن رد عليه برضاه والعيب مما يحدث مثله يلزم الوكيل باتفاق الروايات، ولا يكون له مخاصمة الموكل، كأن الوكيل اشتراه ثانياً من المشتري، وإن كان عيباً لا يحدث مثله في مدة البيع ذكر في بيوع «الأصل» أنه يلزم الموكل؛ لأنهما فعلا بأنفسهما عين مايفعله القاضي؛ لأن الرد متعين في هذا، فيجعل فعلهما كفعل القاضي، وذكر في عامة الروايات أنه يلزم الوكيل؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي عقد جديد في حق الثالث والموكل ثالثهما.
وإن كان الرد بقضاءٍ فهو على ثلاثة أوجه: إن كان ببينة قامت على الوكيل لزم الموكل؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة، فيعد الرد على الموكل، وإن كان الرد بنكول الوكيل، فكذلك يكون رداً على الموكل؛ لأن الوكيل مضطر في النكول كما هو مضطر في سماع البينة إذا لم يستبق منه ما يطلق اليمين على انتفاء العيب؛ لأن الإنسان كما يوكل غيره ببيع السليم يوكل ببيع المعيب، فاعتبر نكوله بالبينة، ولكن الوكيل مع الموكل على خصومته، فإن أقام بينة أن هذا العيب كان عند الموكل رده عليه، وإن لم(6/608)
يكن له بينة، فله أن يحلف الموكل فإن نكل رده عليه، وإن حلف لزم الوكيل، وهذا لأن الرد حصل بقضاء القاضي على كره منه، فإن صورة هذه المسألة أن يقر الوكيل بالعيب أولاً، ثم يجحد ويأبى القبول حتى يحتاج فيه إلى قضاء القاضي.
قلنا: والرد بقضاء فسخ من كل وجه، غير أن هذا الفسخ استند إلى سبب قاصر وهو الإقرار، فمن حيث إنه فسخ كان للوكيل حق مخاصمة الموكل، بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء، ومن حيث إنه استند إلى دليل قاصر يلزم الوكيل إلى أن يقيم الحجة على الموكل، وهذا كله إذا كان عيباً يحدث مثله في مدة البيع، فالقاضي يرده من غير بينة وإقرار ويمين، ويكون ذلك رداً على الموكل؛ لأن القاضي إنما قضى بالرد لعلمه أنه كان عند الموكل وعلمه هذا بالبينة، وهذا كله إذا كان الوكيل حراً بالغاً، فإن كان مكاتباً أو عبداً مأذوناً فالخصومة في الرد بالعيب بينهما ولا يرجعان على المولى، ولكن يباع المأذون فيه ويلزم الدين المكاتب، وإن كان الوكيل صبياً محجوراً أو عبداً محجوراً، فلا خصومة معهما، وإنما الخصومة مع الموكل.
وذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : أن من أجر عبد غيره ليشتري نفسه للآمر من مولاه بألف درهم، فقال: نعم فأتاه مولاه قال: بعني نفسي لفلان بألف درهم ففعل فهو للآمر، فإن وجد الآمر بالعبد عيباً، فأراد خصومة البائع، فإن كان العيب معلوماً للعبد يوم اشترى نفسه لم يرده؛ لأن العبد كان وكيلاً بالشراء، والوكيل إذا اشترى مع العلم بالعيب يمتنع الرد؛ لأنه أسقط حق الرد، وحق الرد (من) حقوق العقد فيكون إلى العاقد، والعاقد هو العبد وكان للعبد الرد من استطلاع رد الآمر؛ لأن المشتري وهو العبد في يد نفسه وهو وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الرد بالعيب من غير استطلاع رأي الموكل مادام المشتري في يده على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعالى.
وإذا أمر الرجل غيره أن يشتري عبد فلان بكذا، فاشترى ونقد الوكيل البائع الثمن وقبض العبد واطلع على عيب به فما دام العبد في يد الوكيل رده على البائع من غير استطلاع رأي الموكل، فإن كان قد سلم العبد إلى الآمر لا يرده من غير رأي الموكل، والفرق: أن في الرد إبطال العقد الذي هو حق الوكيل، وإبطال الملك الذي هو حق الموكل، فكان الوكيل في الرد أصيلاً من وجه ثابتاً من وجه، فلكونه أصيلاً ملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل مادام العبد في يده، ولكونه نائبا لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما دام العبد في يده، ولكونه نائباً لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما سلمه إلى الموكل، ومتى كان العبد في يد الوكيل، فأراد الوكيل الرد، فادعى البائع رضا الآمر بهذا العيب، فإن أقام على ذلك بينة قبلت بينته وامتنع الرد، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف الوكيل ليس له ذلك، بخلاف ما إذا ادعى على الوكيل أنك رضيت بالعيب، فأراد استحلاف الوكيل حيث له ذلك، والفرق: أنه إذا ادعى الرضا على الوكيل، فالوكيل يستحلف بطريق الأصالة، وإذا ادعى الرضا على الموكل، فالوكيل لا يستحلف بطريق الأصالة، وإنما يستحلف (بالنيابة، و) النيابة لا تجري في الاستحلاف، وإذا لم يستحلف الوكيل رد الوكيل الجارية على البائع، ثم إذا(6/609)
حضر الموكل وادعى الرضا وأراد استرداد الجارية من يد البائع فله ذلك، ولو كان الوكيل بالشراء وكيلاً بالخصومة في العيب فادعى البائع أن المشتري رضي بهذا العيب فالوكيل رده بحضرة الموكل فيحلف.
نوع آخر منه
رجل اشترى من آخر عبداً وقبضه وباعه من رجل آخر، ثم إن المشتري الآخر وجد به عيباً ورده على المشتري الأول، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الرد منه قبل القبض، وفي هذا الوجه للمشتري الأول أن يرده على البائع الأول سواء كان الرد بقضاء أو بغير قضاء (إن كان الرد بقضاء؛ فلأن) الرد قبل القبض فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وإن كان بغير قضاء؛ لأنه تصرف دفع وامتناع من القبض وولاية الدفع عامة (107أ3) فظهر أمره في حق الكل، ولهذا لم يتوقف على قضاء القاضي.
وهذا المعنى يعم العقار والمنقول جميعاً.
ومعنى آخر يخصّ المنقول أن الرد بالعيب قبل القبض لايمكن أن يعتبر بيعاً جديداً أصلاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لايجوز، فجعلناه فسخاً في حق الكل أصلاً، فصار كأنه لم يبع، فعلى هذا التعليل لايرد العقار عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن بيع العقار قبل القبض جائز، فأمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق البائع الأول.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ واختلفت فيه الروايات: أن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاء في العقار هل يعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، ذكر في كتاب الشفعة أنه لايعتبر، قال شيخ الاسلام: ماذكر في كتاب الشفعة قول محمد، فإن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، أما على قول أبي حنيفة يعتبر بيعاً جديداً؛ لأن عنده بيع العقار قبل القبض جائز، وبعض مشايخنا قالوا: ماذكر في الشفعة قول الكل فنقابل عند الفتوى.
و (الثاني) : إن كان الرد من المشتري الثاني بعد القبض، إن كان الرد برضا المشتري الآخر من غير قضاء، فالمشتري الأول لا يرده على بائعه؛ لأن الرد بالعيب بالتراضي فسخ في حق المتعاقدين عملاً باللفظ، وعقد جديد في حق الثالث عملاً بالمعنى، وهو التمليك والملك بالتراضي، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانياً، فلا يكون له حق الخصومة مع بائعه لافي الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب.
وفي «القدوري» عن محمد فيمن اشترى ديناراً بدرهم وقبض الدينار وباعه من ثالث، ثم وجد المشتري الآخر به عيباً فرده على الأوسط بغير قضاء كان للأوسط أن يرده على الأول، لا يشبه هذا العروض، وقد مرت المسألة من قبل، وهذا إذا كان عيباً يحدث مثله، فأما إذا كان عيباً لايحدث مثله، فعلى رواية البيوع والإقرار يرد على بائعه، وعلى رواية «الجامعين» والمأذون والوكالة لايرد على بائعه.
وإن كان الرد بقضاء قاض فهو على ثلاثة أوجه: فإن كان الرد بالبينة كان للمشتري الأول أن يرد على بائعه إذا ثبت أن العيب كان عند بائعه؛ لأن الرد بالبينة فسخ في حق الثالث إذ ليس فيه معنى البيع وهو التمليك(6/610)
والتملك، وإن حصل الرد بنكوله أو بإقراره بقضاء القاضي بأن أقر بالعيب أولاً، ثم أبى القبول، فكذلك الجواب عند علمائنا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا فسخ حصل بقضاء القاضي بغير رضا المشتري الأول، فيكون فسخاً في حق الكل كما لو حصل الرد بالبينة.
وإنما قلنا حصل بغير رضا المشتري الأول أما نصاً فظاهر، وأما دلالة فلأن الرضا بالفسخ بطريق الدلالة لو ثبت يثبت من حيث إنه باشر سبب الفسخ بالنكول أو الإقرار بالعيب، ليس بسبب للفسخ، فإن الفسخ لايوجد وإنما يوجد بقضاء قاض عن اختيار، وحكم الشيء ما يثبت به من غير أن يتخلل بين السبب وبين الحكم بفعل فاعل مختار، أكثر ما فيه أن القاضي مضطر في هذا، وهذا الاضطرار إنما جاء من جهة المشتري الأول بإقراره أو بنكوله، فيكون بمعنى المكره من جهته، وفعل المكره يتنقل إلى المكره، فيصير كأن المشتري الأول باشر الفسخ بنفسه، إلا أن نقول: فعل المكره إنما يتنقل إلى المكره فيما صلح آلة للمكره كما في القتل والإتلاف، وأما فيما لايصلح آلة للمكره فعل المكره لا يتنقل إليه. ألا ترى أن في حق الإثم في الإكراه على القتل لايصير فعل المكره منقولاً إلى المكره؟ لأنه في حق الإثم لا يصلح إلا له، وأما القاضي لا يصلح إلا للمشتري الأول في حق القضاء بالفسخ؛ لأن القضاء بالفسخ يكون بالكلام، والإنسان لا يصلح آلة لغيره في الكلام؛ إذ لا يتصور أن يصير الشخص الواحد متكلماً بكلام غيره. قال بعض مشايخنا: هذا الجواب الذي ذكر في فصل البينة والنكول مستقيم إذا لم يجحد المشتري الأول أن هذا العيب كان عنده بل سكت، فإن البينة على الساكت مسموعة، والساكت يستحلف أيضاً، فأما إذا جحد الأول أن هذا العيب كان عنده ورد عليه بالنكول أو بالبينة، فعلى قول أبي محمد: ليس له أن يخاصم البائع الأول لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف: له ذلك؛ لأن القاضي لما قضى عليه بالرد فقد أبطل جحوده والتحق بالعدم.
وعامتهم على أن الجواب في فصل الإقرار هكذا إن سبق منه الجحود نصاً، بأن قال: بعتها وما به هذا العيب، وإنما حدث عندك، ثم أقر به بعد ذلك وأبى القبول، فرد عليه القاضي لايكون له مخاصمة بائعه عند محمد؛ لأنه حصل مقراً لبائعه بسلامة العبد عند العيب حيث قال للمشتري الثاني: لم يكن به هذا العيب حين بعتها منك، لو بطل إقراره للبائع الأول بسلامته عن العيب، إنما يبطل بإقراره الثاني بعد ذلك، ولا يقدر المقر له على إبطال إقراره الأول بإقرار يكون منه بعد ذلك، فبقي إقراره الأول بسلامة المبيع عن هذا العيب عند البائع الأول، فلا يصح منه دعوى كون السلعة معيبة بعد ذلك لمكان التناقض.
وذكر في «المنتقى» : إذا اشترى عبداً وقبضه وأراد أن يرده على بائعه بالعيب فقال البائع: هذا العيب حدث عندك واستحلف القاضي البائع، فأبى أن يحلف فرده عليه قال: له أن يرده على بائعه، أي: له أن يخاصم بائعه فيه و (لو) لم يأب اليمين ولكن أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لم يكن له أن يخاصم بائعه، فقد ذكر المسألة مطلقاً من غير تفصيل.(6/611)
وفي «نوادر هشام» : عن محمد في رجل اشترى من آخر داراً وقبضها، ثم ردها بعيب بغير قضاء، قال: كان أبو حنيفة يقول مرة: كل شيء لو رفعا إلى القاضي قضى به، ففعل هذا دون القاضي، فهو على حقه مع بائعه الأول.
ولو وهبها وسلم، ثم رجع في الهبة بقضاء أو بغير قضاء، فله أن يردها على بائعه بناء على أن الرجوع في الهبة فسخ من كل وجه سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، وفيه كلمات كثيرة قد ذكرناها في كتاب الهبة من هذا الكتاب.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر جارية وباعها من غيره، فظهر بها عيب عند المشتري الآخر مما يحدث، فجاء به إلى المشتري الأول وأراد الرد عليه، فقال المشتري الأول: بعتها وما كان بها هذا العيب، وإنما حدث عندك وأقام المشتري الآخر بينة أن هذا العيب كان بها عند البائع الأول، فردها القاضي على المشتري الأول، فللأول أن يردها بذلك العيب على البائع الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله (وعند محمد رحمه الله) لا يردها.
وجه قول محمد: أن المشتري الأول لما ادعى حدوث العيب عند المشتري الثاني، فقد أنكر قيامه عنده وأقر أنه لم يكن عند البائع الأول، وبقضاء القاضي صار مكذباً في إنكاره في إقراره؛ لأن شرط جواز القضاء بالرد على المشتري قيام العيب عند بائعه، فبقي حكم إقراره (107ب3) فلا يكون له أن يخاصم بائعه.
ولهما: أن المشتري الأول صار مكذباً شرعاً فيما زعم بقضاء القاضي عليه بالرد، والتحق زعمه بالعدم.
نظيره مسألة الشفعة فإن المشتري إذا أقر بالشراء بألف والدار في يديه وأقام البائع بينة على البائع بألفين، فالشفيع يأخذ من المشتري بألفين، وإن زعم المشتري أن حقه في الألف ولكن لما صار مكذبا شرعاً بقضاء القاضي التحق زعمه بالعدم، وما يقول بأنه صار مكذباً فيما أنكر لافيما أقر، قلنا: الإقرار بعدم العيب عند البائع الأول لم يؤخذ نصاً، وإنما يثبت في ضمن دعوى الحدوث في يد المشتري الثاني، وإذا صار مكذباً في المتضمن بطل المتضمن ضرورة.
هذا إذا أقام المشتري الآخر بينة على أن هذا العيب كان عند البائع، فأما إذا أقام بينة أن هذا العيب كان عند المشتري الأول لم يذكر هذا الفصل في «الجامع» ، وإنما ذكر في إقرار الأصل، وقال: ليس للمشتري الأول مخاصمة بائعه بالإجماع، ووجه ذلك: أن المشتري الأول لم يصر مكذباً فيما أقر من كون الجارية سليمة وقت شرائه عند البائع الأول؛ لأن المقر الأول إنما يصير مكذباً في إقراره إذا قضى القاضي بالبينة عليه بخلاف ما أقر به، وهنا القاضي لم يقض على المشتري الأول بخلاف ما أقر به؛ لأن المشتري الأول أقر بكونها سليمة وقت شرائه إياها عند البائع الأول، والقاضي قضى بكونها معيبة وقت بيع الأول من المشتري الثاني؛ لأن القاضي قضى بالرد على المشتري الأول، وشرط كونها معيبة عند المشتري الأول؛ لأن عند البائع الأول لم يثبت بقضاء القاضي(6/612)
كونها معيبة عند البائع فلا يصير المشتري الأول مكذباً في إقراره بكونها معيبة عند البائع الأول، فلهذا لايكون له مخاصمة البائع الأول، وقود هذا التعليل أن لا يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه في المسألة الأولى بالاجماع، وقود ماذكر من العلة لهما في المسألة الأولى أن يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه عندهما في هذه المسألة أيضاً.
وفي «المنتقى» : اشترى من آخر داراً وسلمها إلى إنسان، ثم افترقا قبل القبض، ثم رأى المشتري بالدار عيباً فله أن يردها على بائعها وإن لم يتفرقا حتى يتقاضى السلم، فليس له أن يردها على بائعها، وهذا يجب أن يكون على قول محمد؛ لأن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، فلا يمكن أن تجعل هذه المناقضة بيعاً جديداً في حق البائع الأول، وقد ذكرنا جنس هذا في أول الفصل.
نوع آخر منه
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وقبضه، ثم باعه من آخر بمائة دينار وتقابضا، ثم إن المشتري الآخر لقي بائعه وزاد في الثمن خمسين ديناراً، حتى صحت الزيادة ودفع المشتري الزيادة إلى البائع، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فرده على البائع بقضاء قاضٍ استرد الثمن والزيادة جميعاً، وكان للمشتري الأول أن يرد على بائعه؛ لأن المبيع عاد إلى قديم ملكه، وكأن المشتري الآخر لم يزده في الثمن شيئاً، ولكنهما التقيا فجدد العقد بينهما بألفي درهم صح، وينقض البيع الأول بطريق الاقتصار كأنهما تقابلا، ثم تعاقدا، فإن وجد المشتري الآخر بالعبد عيباً فرده لم يكن لبائعه أن يرده على بائعه الأول؛ لأن هذا الرد لايعود إليه قديم ملكه بالعقد الأول، لما عرف أن الإقالة عقد جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانياً من المشتري الآخر، فلم يعد إلى المشتري الأول بالرد بالعيب الملك المستفاد من جهة البائع الأول بخلاف الزيادة؛ لأنها لاتوجب فسخ العقد الأول على أصح الأقوال؛ لأن الزيادة تصرف في وصف العقد، والتصرف في وصف البيع تقريراً لأصله، فعاد إلى المشتري الأول بالرد عليه قديم ملكه، أما ههنا بخلافه.
ولو كان المشتري الثاني زاد في الثمن عرضاً بعينه، ثم وجد بالعبد عيباً ورده على المشتري الأول بقضاء، رده المشتري الأول على البائع الأول لما مر، وإن لم يجد المشتري الثاني بالعبد عيباً لكنه هلك العرض قبل أن يقبض البائع الثاني، وقيمة العرض خمسون ديناراً، فإنه ينقض العقد في ثلث العقد ويكون ذلك الثلث إلى البائع الثاني؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد، ويصير كأن المشتري الثاني اشتراه بمائة دينار، وعرض قيمته خمسون ديناراً، فإن وجد المشتري بعد ذلك بالعبد عيباً ورد الثلثين الباقيين على البائع الثاني بقضاء، فإن للبائع الثاني أن يرد العبد على البائع بذلك العيب؛ لأنه عاد إلى البائع الثاني ملكه الذي استفاده من جهة البائع؛ لأن في الثلث انتقض العقد بهلاك أحد العرضين وإنه فسخ من الأصل، وفي الثلثين انتقض العقد بالرد بقضاء القاضي، وإنه(6/613)
فسخ من الأصل أيضاً، ولو كان لم يهلك العرض ولكن إقالة البيع في ثلث العبد، ثم وجد بالباقي عيباً يرده على بائعه، أما في الثلث ما عاد إليه الملك المستفاد من جهة البائع الأول، وأما في الثلثين، فحتى لايتضرر البائع الأول ضرر عيب الشركة.
نوع آخر منه
رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا، وباعه من آخر، فجحد المشتري الآخر فخاصمه المشتري الأول إلى القاضي ولم يكن له بينة فحلف، وعزم المشتري الأول على ترك الخصومة، ثم وجد به عيباً كان عند البائع الأول، فأراد رده على البائع الأول، فاحتج عليه البائع الأول بدعواه البيع من المشتري الثاني، فالقاضي يرده عليه ولا يبطل حقه بدعواه البيع من الثاني؛ لأن دعوى المشتري البيع من الثاني قد بطلت بيمين، حجة قاطعة لخصومته ههنا، فبطل دعواه بيمين الثاني، والتحق بالعدم، إلا أن المشتري متى علم أنه صادق في دعوى البيع لا يسعه فيما بينه وبين الله تعالى، إلا إذا عزم أن لا يخاصم الثاني، إذا وجد بينة يوماً من الدهر، فحينئذ يسعه الرد فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن بجحود الثاني ينفسخ العقد في حقه على ماعرف ويتوقف الفسخ في حق المشتري الأول، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد ساعده على الفسخ فينفسخ العقد فيما بينهما.
قالوا: وهذا إذا عزم المشتري على ترك الخصومة بعدما حلف الثاني، أما إذا عزم على ترك الخصومة قبل حلف الثاني، فليس له أن يخاصم بائعه، والفرق: أن بعد حلف الثاني، ولم يكن للمشتري الأول بينة ينعقد إبقاء العقد فيكون الأول (108أ3) مضطراً في مساعدة في الفسخ فلم يحتمل معنى المبادلة، فكان فسخاً من كل وجه في حق الناس كافة، فأقبل حلف الثاني، فالمشتري الأول غير مضطر في فسخ البيع الثاني، فاعتبر هذه المساعدة منه بيعاً جديداً في حق الثالث، فلا يكون له مخاصمة البائع الأول، وإن صدقه المشتري الآخر في الشراء وتصادقا أن البيع بينهما كان تلجئة وسمعة، فرده على المشتري الأول، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً كان عند بائعه كان له أن يرده على بائعه؛ لأن البيع بينهما إنما ظهر بإقرارهما قائماً يثبت على الوجه الذي أقرا به، وقد أقرا أنه ثبت كذلك والبيع تلجئة لا يزيل المبيع عن ملك البائع، فبقي الملك المشترى المستفاد من جهة بائعه على حاله فلا يمتنع الرد، وكذلك إن اتفقا على أنهما كانا بالخيار في هذا البيع، أو على أن فلانا منهما بعينه كان بالخيار، فرده صاحب الخيار رده المشتري الأول على بائعه، وكذلك لو أنفقا على المشتري الثاني لم يرده ورد بخيار الرؤية، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن الرد بخيار الشرط وبخيار الرؤية فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وكذلك إن اتفقا أن البيع الثاني كان بألف درهم إلى العطاء فرد البيع الثاني، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن البيع إلى العطاء بيع فاسد، والرد بفساد السبب فسخ في حق الناس كافة.
ولو تصادق المشتري الأول والثاني على جريان بيع بات بينهما، ثم خير أحدهما صاحبه بثلاثة أيام ولياليها جاز وقد مر هذا في فصل الجناية.
ولو أن من شرط له الخيار في هذه الصورة نقض البيع لم يكن للمشتري الأول أن(6/614)
يرده على بائعه بحكم العيب؛ لأن البيع في الأصل لما وقع باتاً تعلق به حق البائع الأول، وهو انقطاع حق المشتري الأول في الرد، فهما في إثبات الخيار وتحصيل الفسخ يريدان إبطال ذلك الحق على البائع الأول، وليس لهما هذه الولاية، ولو لم يخير أحدهما صاحبه بالفسخ ولكن وجد المشتري بالعبد عيباً ورده على المشتري الأول، فأراد المشتري أن يرده على البائع الأول، فقد ذكرنا هذا الفصل تمامه قبل هذا.
ولو أن المشتري الأول مع المشتري الثاني أقرًّ بالبيع الثاني عند القاضي، ثم جحد البيع، وأنكرا أن يكونا أقرا عنده بشيء جعلا عند القاضي جحودهما فسخاً للعقد؛ لأن الجحود جعل كناية شرعاً عن الفسخ، فإن أراد المشتري الأول الرد بعد ذلك لم يكن له ذلك؛ لأن البيع قد ثبت عند القاضي بإقرارهما، وجحودهما جعل نقضاً باختيارهما، فكان بمنزلة الإقالة، حتى لو أراد المشتري الآخر إمساك العبد بعد ذلك ليس له ذلك، وكذلك لو أعتقه المشتري الآخر لم يصح إعتاقه، ولو أعتقه المشتري صح؛ لأن الإقالة تمت فيما بينهما.
رجل اشترى عبداً وقبضه ووجد به عيباً فأراد أن يرده، فأقام البائع بينة أن المشتري أقر أنه باعه من فلان قبلت بنيته ولم يكن للمشتري أن يرده، سواء كان فلان حاضراً أو غائباً، فرق بين هذا وبينما إذا أقام البينة أن المشتري باعه من فلان الغائب حيث لا تقبل بنيته، وكان للمشتري أن يرده عليه بالعيب، والفرق: أن في الفصل الأول قامت على إثبات إقرار المشتري الأول، والمشتري الأول حاضر، وليس في قبولها قضاء على الغائب بالبيع؛ لأن الإقرار حجة قاصرة فقبلت، وثبت إقرار المشتري الأول بالبيع، فلا يتمكن من الرد بعد ذلك. أما في الفصل الثاني البينة قامت على إثبات البيع من الغائب، وذلك ممتنع لما فيه من القضاء على الغائب من غير أن يكون خصم حاضر، فلم تقبل هذه البينة، وصار وجودها والعدم بمنزلة، ولو انعدمت كان للمشتري أن يرده على البائع بالعيب كذا هنا.
ولو كان البائع أقام البينة أن المشتري باع هذا العبد من هذا الرجل وهو حاضر لكنهما يجحدان البيع والشراء لم يرده المشتري الأول؛ لأن البينة في هذه الصورة قامت على خصمين حاضرين فقبلت وثبت البيع بينهما، فإذا تجاحدا البيع جعل ذلك إقالة منهما للبيع، والإقالة بيع جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فاعتبر في حقه بيعاً جديداً، فبطل حق الرد بالعيب والله أعلم.(6/615)
الفصل الخامس عشر: في بيع المرابحة والتولية والوضعية
المرابحة بمثل الثمن الأول وزيادة، والتولية بيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة والوضيعة بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم، والكل جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، ولأن الناس تعاملوا ذلك كله من غير نكير منكر، وتعامل الناس حجة يترك بها القياس، ويخص بهذا الأثر.
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى شيئاً فباعه مرابحة، فإن كان البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال، جاز بيعه مرابحة سواء جعل الربح من جنس رأس المال أو من غيره، إذا كان معلوماً يجوز الشراء به؛ لأن الربح جزء من أجزاء الثمن، كما يجوز أن يكون من جنس واحد يجوز أن يكون من جنسين، ولكن بشرط أن يكون معلوماً يجوز الشراء به، وإن لم يكن البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال فباعه مرابحة ممن لايملك ذلك البيع، فالبيع باطل؛ لأن الثمن في بيع المرابحة مثل الثمن الأول وزيادة ربح، فإذا لم يكن الثمن الأول من ذوات الامثال والمشتري لا يملك عين ذلك الثمن، لو انعقد العقد ينعقد بقيمة ذلك الثمن وهي مجهولة لاتعرف إلا بالحزر والظن، وجهالة الثمن تمنع جواز العقد.
وإن كان يملكه فهو على وجهين: إن باعه بربح درهم أو شيء موصوف جاز العقد؛ لأنه يقدر على تسليم ما التزم، وإن باعه بربح «ده يازده» فالبيع باطل؛ لأنه جعل الربح من جنس رأس المال، فإنه جعل الربح مثل عشر الثمن، وعشر الشيء يكون من جنسه، فإذا لم يكن الثمن من ذوات الأمثال يصير العقد منعقداً بالثمن الأول وتنقص قيمته وهذا لا يجوز.
ولو اشترى ثوباً بعشرة فأعطي بها ديناراً أو ثوباً، فرأس المال العشرة، حتى لو باعه مرابحه لزم المشتري الثاني عشرة لا ما نقد المشتري الأول؛ لأن الثمن ما ملك بالعقد،(7/3)
والمملوك بالعقد الأول العشرة دون الثوب والدينار.
ولو اشترى ثوباً بعشرة خلاف نقد البلد، فباعه بربح درهم فالعشرة مثل ما نقد، والربح من نقد البلد؛ لأن رأس المال يجب أن يكون مثل الأول، فلا يتغير بنقد البلد، أما الربح فدرهم ذكره مطلقاً، ومطلق اسم الدرهم ينصرف إلى نقد البلد، ولو نسب الربح إلى رأس المال، فقال: أبيعك «ده يازده» فالربح من جنس الثمن؛ لأنه جعل الربح جزءاً للثمن حيث جعله مثل عشره فكان (108ب3) على صفة ضرورة.
في «المنتقى» : باع من رجل متاعاً مرابحة، وأخبره أن رأس ماله مائة دينار، فلما أن أراد أن يدفع الثمن قال: اشتريت بمائة دينار شامية والبيع ببغداد، قال: ليس له إلا نقد بغداد، وإن أقام البينة أن رأس ماله مائة دينار شامية قبلت بينته ويكون المشتري بالخيار.
وفيه: رواه ابن سماعة عن محمد بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى متاعاً بنيسابور، فقدم بلخ ولم يبين أنه اشتراه بنقد نيسابور، فقال ببلخ: قام علي هذا المتاع بكذا، فأبيعه بربح مائة درهم أو بربح ده دوازده، فإن الربح ورأس المال نقد بلخ، إلا أن يصدقه المشتري أنه نقد نيسابور أو تقوم بينته.
وإذا كان نقد نيسابور دون نقد بلخ في الوزن والجودة، فقال: قام علي بكذا، ولم يبين أنه نقد نيسابور كان رأس المال والربح على نقد نيسابور، وإذا كان نقد نيسابور أكثر وزناً وأجود من نقد بلخ ولا يعلم المشتري بذلك، فاشتراه على أنه نقد نيسابور وهو بلخ، ثم علم أن نقد نيسابور أكثر وزناً وأجود من نقد بلخ، فللمشتري الخيار إن شاء أخذه، وإن شاء ترك.
وإذا اختار البائع في رأس المال في بيع المرابحة والتولية، قال أبو حنيفة: يحط قدر الجناية في التولية ويتخير في المرابحة، إن شاء أخذ بجميع المذكور، وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: يحط الجناية في التولية وفي المرابحة يحط الجناية وحصتها من الربح، وقال محمد: يثبت له الخيار في الموضعين، إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
وجه قول أبي يوسف: أن العقد الثاني في المرابحة والتولية في حق الثمن بناء على الأول، وقدر الجناية لم يكن ثمناً في العقد الأول، فلا يمكن إثباته في العقد الثاني، وإذا سقط قدر الجناية سقط حصته من الربح في بيع المرابحة ضرورة.
وجه قول محمد: أنهما كانا باشرا عقداً باختيارهما ثمن سماه، فينعقد بجميع ذلك الثمن كما لو باعه مساومة وزاد؛ لأن انعقاد السبب الثاني يعتمد التراضي منهما، ولا يتم رضا المشتري الأول إذا لم يحجب له جميع الثمن المسمى، إلا أنه دلس على المشتري(7/4)
الثاني، والتدليس ثبت الخيار للمشتري كتدليس العيب.
ولأبي حنيفة رحمه الله في الفرق بين المرابحة والتوليه أن في إثبات الجناية في التولية، يعتبر العقد عن موضوع ما صرحا به؛ لأنهما صرحا بالتولية ومع الجناية هو مرابحة لا يكون معتبراً للعقد؛ لأنهما صرحا بالمرابحة أكثر مما ظنه المشتري، غير أن البائع دلس على المشتري بتسمية بعض الربح رأس المال، والتدليس يثبت الخيار.
ولو هلك المبيع أو حدث به ما يمنع الفسخ عند ظهور الجناية سقط خياره، ولا شيء له في قول أبي حنيفة، وهو المشهور من قول محمد رحمه الله؛ لأنه تعذر الرد بما حدث من الهلاك أو غيره، وتعذر الرد يسقط الخيار كما في خيار الرؤية وخيار الشرط، وروي ابن سماعة عن محمد رحمه الله أن المشتري يرد قيمة المبيع ويرجع على البائع بالثمن، وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن باعه مرابحة بما بقي بعد الحط، وكذلك لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك من المشتري الثاني مع حصته من الربح وكان له ولاية حط ذلك عن المشتري الآخر.
ولو زاد المشتري البائع في الثمن زيادة، باعه مرابحة على الأصل والزيادة جميعاً، وهذا مذهب علمائنا الثلاث رحمهم الله، بناءً على أن الزيادة في الثمن والحط عنه ملتحق بأصل العقد، ويجعل كأن العقد ورد ابتداء على هذا القدر، وقد جرت المسألة من قبل.
قال محمد في «الكتاب» : لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك عن المشتري الثاني مع حصته من الربح، إشارة إلى أنه لا يحط ذلك عن المشتري الآخر بنفس الحط عن الأول مالم يحط عنه، وهذا فصل قد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يحط ذلك عن المشتري الآخر ما لم يحط عنه، ومنهم من قال: ينحط عنه بنفس الحط عن الأول.
ولو اشترى ثوباً ولم ينقد ثمنه، ثم باعه مرابحة جاز، فإن أخر الثمن منه شهراً بعد ذلك لم يلزمه أن يؤخر عن المشتري ولا يشبه هذا الحط.
ولو اشترى ثوباً بعشرة فباعه مرابحة باثني عشر، ثم اشتراه ثانياً عشرة باعه مرابحة على ثمانية في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يبيعه مرابحة على عشرة؛ لأن الشراء جديد فنبني عليه بيع المرابحة، كما لو باعه المشتري من ثالث، ثم إن البائع اشترى من ذلك الثالث، ولأبي حنيفة: أنه لما باعه أولاً وربح، كان الربح على شرف السقوط بأن يرد بالعيب أو يبطل العقد بسبب من الأسباب، فلما اشتراه منه بعد ذلك تأكد الربح، والتأكيد إثبات من وجه، فصار كأنه اشترى الربح والثوب بذلك الثمن، فيصير مقدار الربح من الثمن بمقابلته، ويبقى الباقي بمقابلة الثوب فيبيعه مرابحة على ذلك القدر احتياطاً؛ لأن باب المرابحة مما يحتاط فيه؛ لأنه من باب الربا فيلحق الشبهة منه بالحقيقة، فعلى هذا عند أبي حنيفة: لو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين، ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلاً.(7/5)
نوع آخر فيما يحدث بالسلعة
مما يجب أن يبين وما لا يجب: وإذا حدث عيب في يد البائع بالمبيع، أو في يد المشتري بآفه سماوية، أو بفعل المبيع فله أن يبيعه مرابحة بجميع الثمن من غير بيان عند علمائنا الثلاث رحمهم الله؛ لأن جميع ما يقابله الثمن قائم؛ لأن الفائت وصف، والأوصاف لا يقابله شيء من الثمن إذا فاتت من غير صنع واحد، ومعنى إذ الأمانة بالصدق إذا نفى جميع ما يقابله الثمن، ولو كان الحادث من فعله، أو فعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما إذا حدث بفعله فلأنه حبس جزءاً من المبيع بجنايته، والأوصاف إذا صارت مقابلاً بالتبادل صار لها حصة من الثمن، وأما إذا حدث بفعل أجنبي فلأن جناية الأجنبي موجبة للضمان عليه، فيكون المشتري حابساً بدل جزء المعقود عليه، وذلك مبلغه من بيع المرابحة حتى يبين.
وفي «المنتقى» : اشترى عبداً وقبضه، ثم جاء أعور أو أعمى لم يبعه مرابحة، وكل ما ينقصه مما يحدث به من العيب عنده بقدر ما لا يتغابن الناس في مثله لم يبعه مرابحة، وكذلك إذا جابى لبائع، وكذلك إن حدث من المبيع نماء وهو قائم في يده كالثمرة والولد والصوف، أو هلك بفعله، أو بفعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما قبل الهلاك فإن المستولد من نفس المبيع له حكم المبيع، وفي ذلك نوع خيانة، وأما إذا هلك بفعله، أو بفعل أجنبي فلما مر، ولو هلك بآفة سماوية جاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو استغل الدار والأرض جاز أن يبيعه مرابحة من غير بيان؛ لأن العلة ليست بمتولدة من العين، ولهذا لا يمنع استيفاؤها الرد بالعيب فلا يكون (109أ3) حابساً شيئاً من المعقود عليه باعتبارها؛ لأن العلة بدل المنفعة واستيفاء المنفعة لا يمنع من بيعها مرابحة؛ وهذا لأنه أنفق عليها ... من المنفعة، فإذا كان استيفاء عين المنفعة لا يمنع من بيع المرابحة، فكذا استيفاء بدل المنفعة.
قال: ولو اشترى جارية ثيباً فوطئها جاز أن يبيعها مرابحة، وإن كانت بكراً لم يبعها مرابحة حتى يبين، والفرق هو أن المستوفى بوطء الثيب لا يقابله شيء من البدل؛ لأنه ليس بمال الاستخدام، وإن الحق بتفويت الحر في عين الملك بخلاف ما إذا كانت بكراً؛ لأن العذارة ... هو مال ويقابلها شيء من الثمن، فصار إزالتها كقطع العضو.
قال: ولو اشترى نسيئة لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن الأجل نسبه كونه مبيعاً، فإنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، فألحق بحقيقته احتياطاً، فصار كأنه اشترى شيئين، ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة على كل الثمن، وذلك لا يجوز من غير بيان فههنا كذلك، وهذا(7/6)
في الأجل المشروط، فإن لم يكن الأجل مشروطاً إلا أنه متعارف موهوم فيما بين التجار، مثل البياع يبيع الشيء من إنسان ولا يطالبه بالثمن بل يأخذه منه منجماً في كل شهر، أو في كل عشرة أيام هل عليه أن يبين ذلك في بيع المرابحة؟ أكثر المشايخ أنه ليس عليه ذلك، وروي عن أبي يوسف أنه لا يبيعه مرابحة حتى يتبين حاله، وبه أخذ بعض المشايخ، ثم في الأجل المشروط إذا باعه من غير بيان وعلم به المشتري فله الخيار، إن شاء رضي به وأمسكه، وإن شاء رده.
ذكر المسألة في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، وتصير هذه المسألة رواية فيمن اشترى شيئاً وصار مغبوناً فيه غبناً فاحشاً له أن يرده على البائع بحكم الغبن، وإليه أشار محمد رحمه الله في الصلح عن العيوب، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه يقول: في المسألة روايتان عن أصحابنا: وكان يفتي برواية الرد رفقاً بالناس، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر، والقاضي الإمام ركن الإسلام أبو بكر.... والقاضي الإمام جمال الدين.... مولى جدي رحمهم الله يفتون أن البائع إن قال للمشتري: قيمة متاعي كذا، إذا قال: متاعي يساوي كذا فاشترى بناء على ذلك، ثم ظهر بخلافه أن له الرد بحكم التغرير، أما إذا لم يقل ذلك، فليس له الرد، وغيرهم كانوا لا يفتون بالرد على كل حال، والصحيح: أن يفتى بالرد إذا وجد التغرير، وبدونه لا يفتى بالرد.
قال: ولو اشترى من إنسان بدين عليه كان له أن يبيعه مرابحة على قدر الدين، ولو صالح من الدين على ثوب لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين الفرق وهو أن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق، والمشتري الثاني اعتمد مما كسبه الأول، فإذا ترك الأول المماكسة في عقد الصلح كان في بيعه مرابحة من غير بيان نوع جناية فلا يفعل، فأما الشراء فمبناه على المماكسة، فكان الشراء بالدين والثمن النقد سواء، فجاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، وعن أبي يوسف في فصل الصلح أنه إذا زاد في ثمنه أكثر مما يتغابن الناس فيه، فإنه لا يبيعه مرابحة حتى يبين، وإن كان أخذه بقيمته أو بنحو ذلك باعه مرابحة من غير بيان.
قال: وقال أبو حنيفة: إذا اشترى ممن لا تجوز شهادته له لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يبيعه مرابحة. ولو اشترى من عبده أو مكاتبه لم يجز بيعه مرابحة بالاتفاق حتى يبين.
فوجه قولهما: أنه ليس لأحدهما في مال صاحبه ملك ولا حق، فكانا في ذلك بمنزلة الأخوين بخلاف العبد والمكاتب؛ لأن كسب العبد لمولاه وما حصل لمكاتبه من(7/7)
وجه كأنه لمولاه، فكان الشراء عدما من ذلك الوجه بخلاف ما نحن فيه.
ولأبي حنيفة: أن ما يحصله المرء لهؤلاء (ما) بمنزلة يحصله لنفسه من وجه، ولهذا لا تقبل شهادته لهؤلاء، فباعتبار هذا الوجه صاروا في حقه بمنزلة العبد والمكاتب، ولا يشاركه بعض هؤلاء مع البعض في المعاملة، أو ظاهر فيثبت معنى الجناية بترك البيان.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى الرجل شيئاً بغلاء والزيادة مما لا يتغابن الناس في مثله، فله أن يبيعه مرابحة ولا يبين، وإذا جاوزت الزيادة ذلك والمشتري يعلم لا يبيعه مرابحة ما لم يبين، وإن كان لا يعلم وسعه أن يبيعه ولا يبين.
قال: وإذا كانت الزيادة في الأمر البين الذي لا يحتاج الناس إلى أن تبين فيه المحاباة فليس عليه أن يبين، نحو أن يشتري فلساً بدرهم، فهذا معروف فيما بين الناس أن الفلس لا يباع بدرهم، فإن باع هذا ولم يبينه وسعه إلا أن يشتريه منه بجهل ذلك، فإن كان كذلك لم يبعه حتى يبين كما يبين في النسبة.
وفيه أيضاً: وهب لرجل ثوباً على عوض اشترط وتقابضا، فليس له أن يبيعه مرابحة في قياس قول أبي حنيفة وهذا مثل الصلح، وأما في قياس قول أبي يوسف إن كان العوض مثل قيمة الهبة فلا بأس بأن يقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا، وكذلك إن حط عن العوض ما يتغابن الناس فيه، وإن حط أكثر من ذلك لم يجز له أن يبيعه مرابحة بألف، ويقول: قام علي بكذا، وللشفيع أن يأخذها بالشفعة بألف. /
وفي «نوادر هشام» قال: سألت أبا يوسف عن رجل اشترى من رجل متاعاً بدراهم له عليه من ثمن المتاع، وهذا المتاع إن أصاب في يد غيره لم يشتره من ذلك الثمن بالنصف، قال: كان هكذا فلا يبيعه مرابحة حتى يبين؛ لأنه قد حاباه.
وفيه أيضاً: إذا اشترى عبداً بألف درهم ببعض لها صرف ونقد في ثمنه غلة، فلا صرف لها، فإنه يبيعه على الغلة التي نقدها؛ لأن قبول البائع نقداً دون نقده حط عن الثمن.
وفي «نوادر هشام» قال: قلت لأبي يوسف في رجل اشترى ثوباً بعشرة جياد ونقده زيوفاً، قال في قول أبي حنيفة يبيعه مرابحة على عشرة زيوف، وقال أبو يوسف: يبيعه على عشرة جياداً، ثم رجع أبو يوسف عن قول أبي حنيفة وشده فيه، قال: سمعت أبا يوسف يقول: فيمن اشترى ثوباً بعشرة دراهم مزيفة أنه يبيعه ويبين، وإن لم يبين فللمشتري الخيار.
إذا اشترى نصلاً وحمائل وجفناً، ثم أنفق على ذلك حتى ركبه وحلاه بفضة ثم باعه، وقال: القصة فيه كذا أبيعكها بوزنها بلا ربح، وما بقي قام علي بكذا وكذا، فهذا جائز استحساناً، من قبل أنه وقع لكل شيء من هذا ثمن على حدة.
ولو اشترى مختوم حنطة بعينها بمختوم شعير بغير عينه وتقابضا، فلا بأس أن يبيع(7/8)
الحنطة مرابحة (109ب3) وكذلك كل صنف من الكيل أو الوزن بصنف آخر.
ولو اشترى قفيراً من الحنطة بقفيزي شعير بغير عينه، ثم باع الحنطة بربح ربع حنطة لم يجز، وهذا بخلاف ما لو اشترى قلب فضة، ثم باعه بربح درهم.
قال: الوارث لا يبيع ما ورثه عن أبيه مرابحة على ما اشتراه الأب. ولو أقام المشتري بينة أن المشترى ميراث لبائعه من أبيه كان له أن يرده عليه. ولو أقام البائع (البيّنة) أنه كان ميراثاً إلا أنه بيع في دين علي واشتريته بهذا الثمن، ثم يقبل قوله، وله أن يحلف المشتري على علمه، وإن أقام بينته على ذلك قبلت بينته وكانت أولى من بينة المشتري؛ لأنهم شهدوا بمثل شهادته في الميراث وزادوا عليهما بيع الميراث وشراءه. وكذلك لو أقام (البيّنة) أنه كان ميراثاً إلا أني بعته من فلان وقبضت ثمنه وسلمه إليه، ثم إني اشتريته منه بهذا الثمن قبلت بينته في قول أبي حنيفة.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف فيمن اشترى عبداً بطعام عينه وتقابضا لم يكن له أن يبيعه مرابحة؛ لأنه لو هلك قبل القبض انتقض البيع ولو رده بعيب انتقض البيع. وروى بشر عن أبي يوسف بخلاف هذا. وعن محمد أنه يبيعه مرابحة رجل رقم يره وزاد في رأس المال وقال المشتري: أبيعك على هذا الرقم ولم يقل اشتريته بذلك، ولا قال قام علي به، جاز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: إن كان المشتري جاهلاً بذلك الأمر، فليس له أن يبيعه حتى يقول زدت في الرقم، وإن (لم) يقل وعلم المشتري به بعد ذلك فله أن يرده، وإن كان المشتري تاجراً يعرف ما يجري بين التجار من هذه الزيادات لزمه.
بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى من آخر ثوباً وبطانة، وجعلها حشوها قطناً وريشاً وهب له، ثم حسب الثمن وأجر الخياط، ثم قال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك الرجل يرث الثوب فبطنه بالقز والذي اشتراه ويحسب أجرة الخياط وثمن القز، وقال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك لو كان القز ميراثاً والظهارة مشترى.
ولو باع ثوبين قد اشترى أحدهما بعشرة والآخر ميراث باعهما مرابحة، وقال وقت البيع: قاما علي بعشرة، فهذا لا يجوز، قال: من قبل أن للثوب الميراث حصة من الثمن يردها بالعيب ويرجع بها في الاستحقاق، وهو لم يشتره بشيء، وهذا مخالف للذي وصفنا قبله من الثوب المحشو والمبطن؛ لأن ذلك ثوب واحد لا يراثل بعضه بعضاً، وهذان ثوبان كل واحد منهما ثوب على حدة.
رجل اشترى عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم باعه مرابحة على ألف ومائة درهم وتقابضا، ثم بلغ المشتري الثاني أن أصل شراء المشتري الأول كان بألف، فخاصم في ذلك فأقام بينة عليه بذلك، فقال معه: قد كنت اشتريته بألف درهم، ثم وهبته، ثم اشتريته بألف ومائة لم يصدق على ذلك، فإن طلب يمين المشتري على علمه، وقال المشتري:(7/9)
شهدني حين وهبته واشتريته بألف ومائة أستحلفه على علمه، ولو لم يدع بيعه هذا، ولكنه قال: المائة الزيادة أنفقتها عليه في طعامه وفي حمولته من البلد التي اشتريته فيه إلى هذا البلد، فإن كان إنما باعه مرابحة على ما قام، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان قال: قد اشتريته بألف ومائة على ذلك لم يقبل قوله في هذه المائة أنها نفقة؛ لأنه قد أقر في عقدة البيع أنها في أصل الثمن.
رجل اشترى ثوباً بخمسة عشر درهماً ونقد الثمن، ثم باعه بربح ده يازده، وأخبر أنه قام علي بعشرة، فانتقد عشرة وربحها، ثم قال بعده: غلطت، قام علي بخمسة عشر وكذبه المشتري، فإنه لا تقبل بينة البائع على ما ادعاه من رأس المال، فإن صدقة المشتري في ذلك، قيل للمشتري: أعطه خمسة دراهم ونصف، أو رد البيع في قول أبي يوسف رحمه الله، وأما في قياس قول أبي حنيفة فلا يؤخذ المشتري بزيادة، إنما يقال للبائع إن يثبت ما فسخ البيع وخذ الثوب ورد ما فقدت، وإن سبب فعلم البيع بالذي انتقدت لا يزاد عليه.
ولو قال المشتري: إنما اشتريته بخمسة فحسبت وجعلت رأس مالك عشرة وأراد استحلافه على ذلك، فلا يمين على البائع في قول أبي حنيفة، ويستحلف في قول أبي يوسف.
ولو أقر البائع أن رأس المال ذلك، أو قامت بذلك بينة، فإنه يرد في قول أبي يوسف على المشتري خمسة ونصف، وأما في قول أبي حنيفة فلا يرد شيئاً، إن شاء المشتري يرد البيع، وإن شاء أمسك بالثمن الذي نقده، فإن كان اشتراه تولية في المسألتين جميعاً فإنهما يترادان في الزيادة والنقصان في قول أبي يوسف، وكذلك قال أبو حنيفة في النقصان، وكذلك قياس قوله في الزيادة، وكذلك لو ابتاعه بربح درهم على عشرة، فهو مثل ذلك في جميع هذه الوجوه في ده يازده.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل غصب من آخر عبداً، فأبق منه وعيبه فقضي عليه بقيمة المغصوب منه، ثم ظهر العبد كان للغاصب أن يبيعه مرابحة على القيمة التي غرم، ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريت.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: اشترى بجراب هروي فيه كذا ثوباً لك كل ثوب بعشرين درهماً أنه يبيعه مرابحة على عشرين، ولو كان للجراب حصة لم يقدر على البيع مرابحة بعشرين، وكذلك دن الخل وقوصرة التمر بمنزلة، وأما ورق السمن والعسل وقد اشتراه جزافاً فله حصته من الثمن.
نوع آخر في بيان ما للمشتري أن يلزم السلعة في بيع المرابحة وما ليس له ذلك
قال محمد في «الأصل» : اشترى متاعاً فله أن يحمل عليه ما أنفق في القصارة والخياطة ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا، وكذلك يحمل عليه ما أنفق(7/10)
في الصبغ أو الغسل أو الفتل، ويقول: قام علي بكذا ولا يقول: اشتريته بكذا؛ لأن ذلك كذب وخيانة، وإن قال ذلك، ثم علم المشتري فله الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء رد؛ لأنه خيانة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف في مسألة القصارة والفتل والصبغ: إنه لا خيار للمشتري؛ لأن الذي أنفق في الصبغ والفتل والقصارة شراء أيضاً، فلا يكون هذا من باب الجناية، والأصل في جنس هذا أن يقال: ما جرت عادة التجار بإلحاقه برأس (110أ3) المال يلحق برأس المال وما لا فلا أو نقول: ما أثر في المبيع وتزداد به مالية البيع صورة ومعنى، فله أن يلحق برأس المال وما لا فلا، ولا يحمل عليه ما أنفق على نفسه في سفره، وأما الرقيق فله أن يلحق بهم طعامهم وكسوتهم بالمعروف. وفي «المنتقى» وفي الرقيق يحمل على أثمانهم طعامهم، ولا يحمل عليه كسوتهم، ويضم أجرة سائق الغنم، ولا يضم أجرة الراعي استحساناً، قال شمس الأئمة الحلواني: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاق أجر الراعي برأس المال يلحق أيضاً، والباج الذي يؤخذ في الطريق لا يلحق برأس المال، قال رحمه الله: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاقه برأس المال يلحق به أيضاً.
ولا يضم أجرة الطبيب والرائض والبيطار، وجعل الآبق وأجرة السمسار تضم إن كانت مشروطة في العقد بالإجماع، وإن لم تكن مشروطة بل كانت موسومة، أكثر المشايخ على أنها لا تضم، ومنهم من قال: لا تضم أجرة الدلال بالإجماع، بخلاف أجرة السمسار إذا كانت مشروطة في العقد، أو لم تكن على قول بعض المشايخ، وذكر في «البرامكة» : أن أجرة السمسار لا تضم من غير فصل، وفي «المنتقى» ويحمل على الثمن كراء السفينة وكراء الدابة التي حملت ويقول: قام علي بكذا، وفي الدواب يحمل على أثمانها ثمن العلف، ولا يحمل ثمن الجلال والبرامع، وكذا في الرقيق لا يحمل على الثمن ثمن العطر والأدهان، وكذا لا يضم كل ما جاوز القوت من الطعام والإدام، ولا يضم أجرة سائق الرقيق وحافظ الطعام والمتاع وما عمل بيده من قصارة أو خياطة أو ما أشبه ذلك من الأعمال لا يضمه إلى رأس المال.
وقال أبو يوسف: ولا يضم إلى ثمن الرقيق ما أنفق عليه في تعلم القرآن والكتابة والصناعة والسفر وغير ذلك، وقال محمد: يضم إذا اشترى لؤلؤة واستأجر من شقها ضم أجرة إلى ثمنها ويبيعها مرابحة على ذلك كله؛ لأنه يزيد في ثمنها، وأما الياقوتة فما كان ينقصه ذلك لا يحتسب بأجره في الثمن، وما كان منه يزيده الثقب..... أو لابد له منه احتسب أجر ذلك.
وفي الطعام لا يضم أجرة الكيالين إلى رأس المال ويضم أجرة النقالين. وإذا(7/11)
جصص الدار أو طينها أو طوى......، فإنه يضم ثمن ذلك وأجر..... ثمن الدار، ولا يضم أجرة الحافر سواء بئر ماء أو بئر بالوعة والفناء في الأرض يحتسب ذلك ثمنها، وكذلك النفقة في الكراب وكشح الكروم، ولو سقى الأرض لم يحتسب ذلك في رأس مالها، وكذلك إذا سقى النخل والكرم والشجر.
ولو أحدث في الأرض زرعاً أو كرماً أو شجراً وأنفق في سعتها يحتسب بذلك في رأس المال ما بقي فيها، فإذا ذهب ذلك من الأرض لم يحتسب بشيء ما أنفق من قبل أن منفعة الماء كانت للنخل والشجر، فإذا ذهب ذلك لم يبع مرابحة إلا على الثمن الذي اشتراها به، وإذا اشترى تمر نخل، فإنه يحتسب بأجرة اللقاط، ولا يحتسب بأجرة الحافظ.
وإذا اشترى شياه وأجر آخر من يذبحها ويسلخها ويملحها، فإنه يضم ذلك كله إلى رأس ماله. إذا اشترى نحاساً واستأجر من يضربه آنية حسب بذلك، وكذلك ينحته أبواباً، وكذلك الرجل يشتري الحطب ويتخذ منه فحماً، فإنه يحتسب أجر الموقد وأجر الآخر وأجر النقالين.
وإذا اشترى غنماً وأنفق عليها في علفها وأصاب من ألبانها وأصوافها دون ذلك ألحق الفضل من النفقة برؤوس مالها.
ونظير هذا رجل اشترى دجاجة وقبضها فباضت عنده ثلاثين بيضة فباع البيضات بدرهم، ثم أراد أن يبيع الدجاجة مرابحة، إن أنفق على الدجاجة قدر ثمن البيضات جاز؛ لأنه جعل ثمن البيض عوضاً عما أنفق، وإن لم ينفق لا يجوز وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل، إن قدر ما أصاب من الزيادة أولاً نفق في ماله لا يلزمه بيان ذلك في بيع المرابحة.
نوع آخر منه
في بيع ما اشترى مرابحة إذا كان المبيع جملة مما يكال أو يوزن أو يعد غير متفاوت، كان للمشتري أن يبيع بعض تلك الجمل مرابحة؛ لأن مالا يتفاوت، فالثمن فيه ينقسم على الأجزاء، فنصف الثمن يكون ثمن النصف بيقين وثمن الربع يكون ربع الثمن بيقين، فيبيع النصف منه مرابحة على نصف الثمن ويبيع الربع مرابحة على ربع الثمن، وإن كان مختلفاً مما لا يكال ولا يوزن، فإن باع نصفاً مشاعاً مرابحة جاز، بأن اشترى جراباً هروياً وباع ربع جميع ذلك أو نصفه بربع الثمن أو نصفه؛ لأن كل جزء من المشاع معلوم الحصة بالعقد، فصار كالمعين الذي لا يتفاوت، وإن باع بعضها معيناً بأن باع ثوباً معيناً من الجراب وكان الثمن في الأصل جملة لم يبعه؛ لأن الانقسام فيما يتفاوت باعتبار القيمة وطريق معرفتها الحزر والظن، ويجري في ذلك السهو والغلط، وإن سمى لكل واحد ثمناً جاز بيعه مرابحة على ما سمى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حصة كل(7/12)
واحد من الثمن معلوم بيقين، وقال محمد: لا يبيعه مرابحة؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع بثمن واحد مع التفصيل ليرغب المشتري في الرديء لماله من المقصود في بيع الرديء، فلو جوزنا له بيع أحدهما مرابحة من غير بيان ربما يبيع الرديء بمثل ثمن الجيد وفيه من الجناية ما لا يخفى.
وإذا اشترى ثوباً واحداً واحترق نصفه فليس له أن يبيع النصف الباقي بنصف الثمن، وإن كان الباقي نصف الثوب باعتبار الذرعان؛ لأن الثوب الواحد لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان؛ لأن الذرعان من ثوب واحد مما يتفاوت، وإنما ينقسم باعتبار القيمة، فنصف الثمن لا يكون ثمن النصف الباقي من حيث الإخاطة والتعين، وكذلك إذا اشترى ثوباً واحداً وأراد أن يبيع ذراعاً منه بأن ميز ذراعاً منه وباعه مرابحة على ما يخصه لا يجوز، إما لأن التمييز يوجب نقصاناً في هذا الذراع، فكأن اشترى شيئاً وعينه، أو لأن ما يخصه من الثمن غير معلوم من حيث الإخاطة والتعين؛ لأن الثمن لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان. وكذلك إذا لم يميزه ولكن عين ذراعاً في جانب واحد لا يجوز أن يبيعه مرابحة للمعنى الثاني، وإن لم يعين وأراد أن يبيع ذراعاً منه ما يخصه، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يفسد العقد عندهم جميعاً، وإذا فسد العقد لا تتصور المرابحة، وقال بعضهم: يفسد العقد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: لا يفسد كما في الدار ويجعل الذراع عبارة عن السهم، فمتى كان الثوب عشرة أذرع كان بائعاً عشر الثوب بعشر الثمن وذلك جائز. (110ب3) .
ولو اشترى رجلان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً لا يتفاوت اعتبر أقراراً ومعنى التبادل فيها ساقط، فيكون ما في يد كل واحد منهما كأنه عين ما كان له قبل القسمة، ولو كانت الجملة مختلفة فاقتسماها لم يجز لأحدهما أن يبيع حصته مرابحة؛ لأن القسمة فيما يتفاوت إقرار من وجه مبادلة من وجه، فما في يد كل واحد منهما نصفه كان له قبل القسمة، ونصفه بدل عما وصل إلى شريكه من نصيبه، فصار كأنه اشترى ذلك بنصيبه فلا يبيعه مرابحة.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى ثوباً بعشرة دراهم وقطع نصفه وباعه، ثم باع النصف الباقي مرابحة على عشرة، ثم علم المشتري بذلك، فهو بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك من قبل أن النصفين يتفاضلان، أشار إلى أنه لو أراد أن يأخذ هذا النصف بنصف الثمن ليس له ذلك؛ لأن ثمن هذا النصف مجهول هذا كرجل اشترى ثوبين صفقة واحدة بثمن واحد، ثم باع أحدهما مرابحة على جميع الثمن وعلم المشتري بذلك فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك وليس له أن يأخذ الثوب بحصته؛ لأن ثمنه مجهول.
وفيه أيضاً: رجل اشترى أمة وقبضها ففقأ رجل عينها، فأخذ لها إن شاء، فإنه يبيعها على ما بقي مرابحة، قال الحاكم أبو الفضل هذا الخلاف جواب «الأصل» .
وفيه أيضاً: رجل اشترى داراً وقبضها فانهدم بناؤها، فباع النقض وأخذ ثمنه لم(7/13)
يكن له أن يبيع الدار مرابحة من قبل أن ذلك بالحزر والظن.
مسائل هذا النوع في الاختلاف في المرابحة ورأس المال
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى ثوباً قيمته عشرة بعشرة، ودفع إليه رجل ثوباً اشتراه بعشرة وقيمته عشرون ليبيعه مع ثوبه، فجاء المأمور بالثوبين جميعاً إلى رجل وقال: إنهما علي بعشرين، فأنا أبيعكهما مرابحة بربح عشرة فاشتراها على ذلك يقسم الربح عليهما نصفين؛ لأن ثمن كل واحد منهما عشرة، أكثر ما فيه أن قيمة أحدهما نصف قيمة الآخر، ولكن الثمن في بيع المرابحة ينقسم على قدر رأس المال في البيع الأول ولا ينقسم على قدر قيمتهما في البيع الثاني؛ لأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول وزيادة، فيجعل هذا كالمنصوص عليه، فلو وجد مشتري الثوب، بالثوب الآخر عيباً، فأراد رده فقال البائع: كان ثمن كل واحد منهما عشرة؛ لأن الآمر اشترى ثوبه بعشرة وأنا اشتريت ثوبي بعشرة، فصار الثمن وهو ثلاثون منقسماً عليهما نصفين فلك أن ترده بخمسة عشر، وقال المشتري: بل كان لك وقد اشتريتهما صفقة واحدة بثلاثين، فانقسم الثمن في البيع الأول على قدر قيمتهما ثلاثاً، وانقسم الثمن الثاني وهو ثلاثون عليهما أثلاثاً، فجملة ما يقابل المعيب من الثمن والربح عشرون فأنا أرده بهذا القدر، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ظاهر ما قاله البائع عند البيع شاهد للمشتري؛ لأنه قال: قام علي بعشرين وهذه اللفظة إنما تستعمل في صفقة واحدة فيكون القول قول المشتري مع يمينه على العلم بالله ما يعلم أن الأمر كما قاله البائع، فإن حلف رده وأخذ من البائع على الآمر بخمسة عشر؛ لأن في زعم البائع أن حقه قبل الآمر في خمسة عشر وزعمه معتبر، وإن أقاما البينة بينة المشتري أيضاً.
ولو وجد المشتري العيب بالثوب المأمور والمسألة بحالها، فالقول قول المشتري أيضاً لما قلنا، ويقال للمشتري قد أقر لك البائع زيادة خمسة، فإن شئت فصدقه وخذها، وإن شئت فاترك.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً بمائة ورجل آخر اشترى جارية بمائتين فوكل أحدهما صاحبه ببيع مملوكه مع مملوك نفسه مرابحة، وساومه على أي حال رأى جمعهما، فقال المأمور لرجل: إنهما قاما بثلاثمائة فصدقه المشتري وأربحه ربحاً واشتراهما وقبضهما، ثم وجد بالعبد عيباً وأراد رده، فقال البائع: رأس مال هذا مائة وكذبه المشتري وحلف على علمه ما يعلمه قام بالذي قلت، فإنهما يقومان قيمة عدل، فيرد العبد بالذي يصيبه من القيمة، فإن أصابه أقل من المائة فقال للمشتري: إن البائع قد أقر لك بفضل، فإن شئت فصدقه وخذه، وإن شئت فاتركه، وإن كان نصيبه أكثر من نصف الثمن رده البائع عليه فلزم البائع غرم، له أن يقبضه ولا يرجع به على صاحب الجارية.
ولو كان المشتري هو الذي ادعى أن شراء الثوبين كان بصفقتين كل واحد بعشرة، وقال البائع: بل كانت الصفقة واحدة فالقول قول البائع، فإن وجد المشتري العيب بثوب المأمور رده بعشرة، وإن أقاما البينة فالبينة للمشتري؛ لأنه يثبت زيادة صفقة وزيادة ثمن(7/14)
المردود بالعيب، وإن وجد العيب بثوب الآمر رده بخمسة عشر؛ لأن المشتري ادعى فيه خمسة عشر وقد أقر له البائع بخمسة زائدة، فإن شاء صدقه وأخذ منه، وإن شاء ترك، قال مشايخنا: هذا إذا كان البائع مصراً على إقراره، فأما إذا لم يكن مصراً على إقراره لا يؤخذ بتلك الخمسة، لارتداد إقراره الأول بتكذيب المشتري ولم يذكر ههنا أن البينة بينة البائع؛ لأن البائع ببينته لا يثبت لنفسه حقاً.
مسائل التولية
بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى جارية بألف درهم فولدت عند المشتري ولداً، ثم ولي البيع رجلاً لم يبيعها ولدها قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب الأصل، وإذا ولي رجلاً شيئاً بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد، فإن أعلم البائع المشتري بكم قام عليه فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء ترك؛ لأن الذي قام عليه اسم لما اشتراه به ولما لحقه من المؤنة التي التحقت بالثمن، وذلك لا يعرف إلا ببيان البائع، فإذا لم يبين كان الثمن مجهولاً ففسد البيع فإن أعلمه بعد ذلك صح، يريد به إذا أعلمه في المجلس، وهذا؛ لأن ساعات المجلس كساعة واحدة فصار الإعلام في آخر المجلس كالإعلام وقت العقد.
وفي «القدوري» : لو باع شيئاً بربح ده يازده ولم يعلم ما اشترى به فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع وهذا رواية ابن رستم عن محمد، روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن البيع جائز، وتأويله: أنه موقوف في حق وصف الجواز إذا زالت الجهالة بدلالة ما فسر، أنه لو هلك ذلك الشيء فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، وهذا دليل على أن العقد محكوم بفساده ووجب الخيار ليكشف حال الثمن عند الإعلام بعد أن كان ملتبساً.
روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: فيمن اشترى ثوبين بمائة درهم فقبضهما، ثم ولي رجلاً أحدهما بعينه لم يجز، وكذلك لو أنه أشركه في أحدهما بعينه لم يجز، ولو كان المشتري قبض أحد الثوبين من البائع، ثم أشرك رجلاً فيهما (111أ3) جازت الشركة في النصف المقبوض، وكذلك لو ولاهما رجل جازت التولية في النصف المقبوض.d
ولو اشترى جاريتين بألف درهم وقبضهما وباع إحداهما، ثم وليهما رجل، فالمولى بالخيار إن شاء أخذ التي لم تبع بحصتهما، وإن شاء ترك إذا لم يعلم بيع أحدهما، وكذلك أشركه فيهما جازت الشركة في النصف التي لم تبع وإن لم تبع إحداهما لكنه أعتق إحداهما أو ما يثبت، ثم وليهما رجل أو أشركه فيهما جاز في الأمة ... منهما.
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن أحد الشيئين إذا كان طعاماً غير(7/15)
مقبوض فولاهما رجلاً لم تجز التولية في الآخر؛ لأن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز بالإجماع، قال الحسن: وروي عن أبي يوسف غير هذا، قال: إذا كان لا يختلف في إبطاله؛ لأنه ليس بمال، أفسدت البيع في الآخر، وإذا كان لا يختلف في إبطاله لعلة عارضة، وهو قال: أجزت البيع في الآخر والله أعلم.
مسائل الوضيعة
الأصل فيه: أن بضم قدر الوضيعة إلى رأس المال لم يسقطها من الجملة ويكون الثمن ما بقي
ومثاله: إذا اشترى ثوباً بعشرة فباعه بوضيعة ده يازده فإنك تجعل كل درهم من رأس المال أحد عشر جزءاً، فتكون الجملة مائة وعشرة فيسقط فيها جزء من أحد عشر وذلك عشرة، يبقى هناك مائة وهي تسعة دراهم وجزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم، وإنما جعلنا كل درهم على أحد عشر جزءاً؛ لأنه لما باعه بوضيعة ده يازده فقد جعل الوضيعة جزءاً من أحد عشر جزءاً، فيجعل كل درهم أحد عشر جزءاً لها، فتصير الجملة مائة وعشرة أجزاء، سقط من كل أحد عشر واحد يبقى مائة وهي تسعة دراهم وجزء من درهم، وعلى هذا القياس يجري الباب، حتى لو باع بوضيعة ده دوازده يجعل كل درهم اثنا عشر فيكون مائة وعشرون يسقط منها عشرون، بقي هناك مائة وبقي ثمانية دراهم وثلاث دراهم.
الفصل السادس عشر: في الاستحقاق وبيان حكمه
استحقاق العقد على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الخصومة من المستحق وطلب الحكم من القاضي دليل بعض العقد فينتقض به العقد كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا تعمل إجازة المستحق بعد ذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله: إن أخذ المستحق العين بحكم القاضي دليل النقض فينتقض به العقد، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لأجيز العقد فحكم له لا ينتقض العقد وتعمل إجازته، وإن لم يقل ذلك لا تعمل إجازته، وفي ظاهر الرواية: ليس شيء من ذلك دليل النقض، أما الخصومة وطلب الحكم فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتاً ظاهراً يوم البيع لا يمنع انعقاد البيع فظهوره في الإنتهاء لا يوجب النقض والفسخ من طريق الأولى، والأخذ بحكم القاضي محتمل، يحتمل التأويل والتلوم، ويحتمل النقض والفسخ، والعقد جائز بيقين فلا يثبت النقض بالشك، وإذا أجاز المستحق البيع وعمل إجازته، كان الثمن للمستحق ولكن البائع يقبضه ويدفعه إلى المستحق، وإذا كان المشترى شيئاً واحداً كالثوب الواحد والعبد الواحد،(7/16)
فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده، فللمشتري الخيار في الآخر؛ لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإن استحق أحدهما بعد القبض فلا خيار في الآخر وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأنها تفرقت بعد التمام، وإن كان المشترى مكيلاً أو موزوناً واستحق بعضه، فللمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذه بالحصة وإن شاء ترك، وإذا كان المشترى شيئين كالثوبين والعبدين فلم يقبضهما حتى استحق أحدهما أو قبض أحدهما بعد القبض، فلا خيار له في الآخر؛ لأن الصفقة وإن تفرقت عليه إلا أنها تفرقت بعد التمام، وإن استحق بعضه بعد القبض فعن أبي حنيفة روايتان.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم ووهب البائع الثمن للمشتري قبل القبض أو بعده، ثم استحق العبد فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن ما وهب البائع للمشتري ماله فلا يضمن له ماله في يده، ولو أجاز مستحق العبد العقد قبل أن يقضى له فإن البيع جائز، والهبة جائزة في قول أبي حنيفة رحمه الله إن كانت الهبة قبل قبض الثمن، ويضمن البائع مثله لرب العبد، ولا تجوز الهبة بعد القبض فيؤديه المشتري ويكون لرب العبد، وأما في قول أبي يوسف: فلا تجوز الهبة في الوجهين جميعاً؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء ببيع عبده فباعه ووهب الثمن من المشتري كان الحكم ما ذكرنا فهنا كذلك.
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجل اشترى من آخر أمة شراء جائزاً أو فاسداً أو ملكها بهبة أو صدقة واستولدها، ثم استحقها رجل ببينة أقامها قضى القاضي بالجارية وأولادها للمستحق؛ لأن الأولاد فرع ملكه إلا إذا ثبت غرور المستولد، ولابد لذلك من البينة على المشترى والهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المستولد بينة على ذلك يثبت غروره؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حر بالقيمة فيقضي القاضي حينئذٍ للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي بعقر الجارية أيضاً ولا يرجع المستولد على مملكها بالعقر بائعاً كان أو واهباً، ويرجع بقيمة الأولاد عليه إن كان بائعاً، ولا يرجع عليه إن كان واهباً.
والفرق: أن البائع بالبيع ضمن سلامة الجارية للمشتري؛ لأن المشتري ضمن سلامة الثمن وهذا عقد مجازاة ومقابلة، ولأجل ذلك ثبت له حق الرد بالعيب، وضمان سلامة الجارية يكون ضمان سلامة الزوائد بطريق التبعية ولم تسلم الزيادة للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب لم يضمن سلامة الموهوب للموهوب له ليصير ضامناً سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن ضمان سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان سلامة البدل ولا بدل في الهبة، ومجرد الغرور لا يثبت حق الرجوع ما لم يؤخر ضمان السلامة إما قضاءً أو في ضمن عقد المعاوضة، حتى لو كان الواهب ضمن سلامة الموهوب للموهوب له نصاً يقول بأنه يرجع على الواهب بقيمة الولد، فإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر (111ب3) واستولدها المشتري الثاني، ثم استحقها رجل وأخذ الجارية وقيمة الأولاد من المشتري الثاني على المشتري(7/17)
الأول بقيمة الأولاد قيل: يرجع على بائعه بقيمة الأولاد، على قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع.
لهما: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة الأولاد ولم يسلم لها الأولاد حين أخذ منه قيمة الأولاد. والدليل عليه: أن المشتري الأول في هذه الصورة يرجع على بائعه بالثمن، وإنما يرجع لأن بائعه ضمن سلامة المبيع لما رجع المشتري الثاني عليه بالثمن.
ولأبي حنيفة: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة أولاده لا سلامة أولاد المشتري منه، وهذا ضمان السلامة في ضمان البيع، فإنما يثبت ضمان سلامة أولاد المشتري الثاني في ضمان البيع الثاني والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني؛ لأنه حصل باختياره، فما وجد في ضمان السلامة في صحته يكون مقصوراً على البائع الثاني أيضاً، ألا ترى أن ضمان تسليم المبيع إلى المشتري الثاني لما وجب بالبيع الثاني، والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني لا على البائع الأول بخلاف الرجوع بالثمن؛ لأن البائع الأول ضمن للمشتري الأول ما باع منه ولم يسلم له ذلك لما رجع الثاني على المشتري الأول بالثمن.
اشترى داراً وبنى فيها بناءً، ثم استحق رجل الدار بالبينة، ونقض بناء المشتري، فالمذكور في عامة الكتب أن المشتري يرجع على البائع بقيمة البناء، وذكر في شركة «الجامع» : أن للمشتري الخيار في البناء المنقوض إن شاء أمسكه ولا يرجع على البائع لما لحقه من زيادة غرم؛ لأنه لما اختار النقض فقد أبرأ البائع عن الضمان، وإن شاء ترك النقض على البائع ورجع عليه بقيمة البناء مبنياً، وبعض مشايخنا قالوا: إذا اختار المشتري إمساك النقض فله أن يرجع إلى البائع بما يلحقه من زيادة غرم، وقاسه على ما إذا خرق ثوب إنسان خرقاً فاحشاً، كان لصاحب الثوب أن يمسك الثوب ويضمن النقصان كذا هذا، ولو أن المشتري باع الدار من رجل آخر وبنى فيها المشتري الثاني بناءاً، ثم استحقها رجل من المشتري الثاني يرجع المشتري على المشتري الأول بالثمن وبقيمة البناء، ويرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن، ولا يرجع عليه بقيمة البناء عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رواية أخرى، أنه قال: في رجوع المشتري الأول على بائعه بقيمة البناء أنا أقف في هذا حتى أنظر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله، ذكر المعلى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لا يرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن حتى يؤدى، وقال أبو يوسف: حتى يقضي عليه فرق أبو يوسف رحمه الله بين هذا وبينما إذا غصب رجل عبداً وجنى العبد في يد الغاصب جناية، ثم قبضه المغصوب منه فليس له أن يرجع على الغاصب بأرش جنايته حتى يرجع عليه.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وبنى فيها بناء، ثم استحق نصف الدار رد ما بقي من الدار ورجع بنصف قيمة البناء؛ لأنه مغرور في نصفها، ولو كان استحق نصف الدار(7/18)
بعينه فإن كان البناء فيه خاصة رجع بقيمة البناء، وإن كان البناء في النصف الذي لم يستحق فله أن يرد ذلك النصف، ولا يرجع بشيء من قيمة البناء، وعن محمد رحمه الله فيمن اشترى داراً على أن البائع فيه بالخيار فبنى المشتري فيها بناءاً، ثم اختار البائع البيع، ثم استحقت الدار فقال: لا يرجع المشتري على البائع بشيء من قيمة البناء؛ لأنه بنى فيها قبل أن يملكه البائع منه.
وفي شركة «الجامع» : اشترى داراً من رجلين وبنى فيها بناءاً، ثم استحق رجل الدار ونقض بناء المشتري، ثم حضر أحد البائعين كان للمشتري الخيار إن شاء أمسك المقبوض، وإن شاء سلم نصف المقبوض إليه ورجع عليه بنصف قيمة البناء؛ لأنه صار مغروراً من جهته في النصف، فإن حضر البائع الآخر بعد ذلك كان للمشتري الخيار في النصف الآخر، واختياره أخذ الشيئين مع الأول في أحد النصفين لا يكون اختياراً لذلك مع الثاني، فله أن يختاره مرة أخرى.
وروى إبراهيم عن محمد: فيمن اشترى جارية ووهبها من رجل وسلمها إليه، ثم إن الواهب اشتراها من الموهوب له واستولدها واستحقها مستحق رجع على البائع وهو الموهوب له بقيمة الولد؛ لأنه مغرور.
روى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء» ، قال أبو حنيفة: في رجل اشترى من آخر أمة وقبضها ونقد الثمن فاستحقهما رجل بالبينة وقضى القاضي بها للمستحق وأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن فقال له البائع: قد علمت أنهم شهدوا بالزور وأن الأمة لي، وقال المشتري: أنا أشهد لك أن الأمة لك وأنهم شهدوا بالزور فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن بعد هذا الإقرار، قال: من قبل أن المبيع لم يسلم له والشهادة على البائع، فلا يحل له أن يأكل الثمن، والمبيع لم يسلم للمشتري.
رجل اشترى أمة من رجل وقبضها، ثم اشتراها منه أهل الحرب، ثم اشتراها هذا الرجل منهم، استحقها مستحق بالبينة وقضى القاضي له أن يأخذها بالثمن فله أن يرجع بالثمن على بائعها الأول.
وفي «المنتقى» : رجل وطىء جارية ابنه، فولدت له يضمن قيمتها لابنه، ثم ولدت له ولداً آخر، ثم استحقها رجل فقضى بها له وبعقرها يرجع على الابن بالقيمة ضمن له وبقيمة له، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب «الأصل» ، وذكر بعد هذا المسائل.
رجل وطىء جارية ابنه وعلقت منه، فادعى الولد حتى ثبت نسبه منه وغرم قيمة الجارية بيقين، ثم ولدت بعد ذلك أولاداً، ثم استحقها رجل وأخذ عقرها وقيمة الولد، فعلى قول محمد لا يرجع الأب على ابنه بشيء من قيمة الأولاد، وقال أبو يوسف: يرجع عليه بقيمة كل ولد ولدته بعد الولد الأول.
وفيه أيضاً: جارية بين رجلين، اشتراها من رجل فاستولدها أحدهما وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها، ثم استولدها ثانياً، ثم استحقها مستحق وقضى القاضي له(7/19)
بالجارية وبقيمة الولدين وبالعقر على المستولد، فإن المستولد يرجع على الشريك بما ضمن له، ثم يرجعان بالثمن على البائع، يرجع المستولد على البائع بنصف قيمة الولدين حصة من الشراء، ولا يرجع عليه بالنصف الباقي؛ لأنها حصة شريكه لم يشترها منه ولا من الشريك، إنما هو ضمان دخل عليه بالاستهلاك وبطل الاستهلاك.
قال: ولو أن رجلاً غصب أمة فأبقت منه ضمن قيمتها، ثم وجدها واستولدها (112أ3) ، ثم استحقها مستحق وأخذها وعقرها وقيمة ولدها فقضى القاضي، فالغاصب يرجع على المغصوب منه بالقيمة التي دفعها إليه وبقيمة الولد ولا يشبه الغاصب في هذا الشريك، هذا في الشريك بمنزلة النكاح، ألا ترى أنه ضمن حصته من العقر، وإنما ثبت نسب الولد من قبل الشريك الرق للواطىء فيه، فليس الشريك يضار في هذا.
وروى المعلي عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأعتقها، ثم تزوجها فجاءت بولد، ثم استحقها رجل، قال: هو مغرور ويرجع بقيمة الولد، وقال محمد: هو ليس بمغرور ولا يرجع بقيمة الولد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع لرجل ساجة ملقاة في الطريق وقبض الثمن وخلى بين البائع وبين الساجة، ولم يحركها المشتري من موضعها فقد صار قابضاً لها، فإن أحرقها رجل فهي من مال المشتري، فإن جاء مستحق واستحقها بالبينة فالمستحق بالخيار إن شاء ضمن المحرق، وإن شاء ضمن البائع إن كان البائع هو الذي ألقاها في ذلك الموضع، ولا سبيل للمستحق على المشتري إن لم يكن حركها من ذلك الموضع.
رجل باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري حتى زاد البائع في المبيع أمة أخرى، ثم استحقت الأولى، فإن شاء المشتري أخذ الزيادة بحصتها من الثمن كأن الشراء وقع عليهما جميعاً.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: في رجل اشترى عشر بيضات واستحق بعضها أو تلف قبل القبض أنه قال فيه قولان: أحدهما أن يبطل من الثمن بقدر العدد، والثاني أنه يبطل بقدر حصة ذلك من الثمن على القيمة، فعلى قول لم تجعل مختلفة وعلى قول الثاني جعلها مختلفة.
رجل باع من آخر جارية غيره وتقابضا، ثم اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: بعتها بغير أمر صاحبها، وقال المشتري: لا بل بعتها بأمر صاحبها فالقول قول المشتري والمسألة معروفة، ولو أن المشتري استولدها بعد ذلك، ثم استحقها مولاها قال أبو يوسف: يأخذ المولى الولد عبداً له مع الجارية؛ لأن المشتري ليس بمعروف.
رجل اشترى نصف عبد، ثم اشترى آخر النصف الآخر ولم يقبض الأول فما استحق فهو منهما، وإن قبض الأول ولم يقبض الآخر فما استحق فهو من الآخر، وإن قبضا فما استحق فهو منهما.(7/20)
رجل اشترى من رجل داراً بألف درهم ونقده الثمن وقبض الدار، وأقام أخ المشتري بينة أن الدار كانت لأبيه تركها ميراثاً له ولأخيه هذا المشتري، فإنه يقضي له بنصف الدار، فبعد ذلك ينظر: إن كذبه المشتري كان المشتري بالخيار، إن شاء رد النصف الباقي على بائعه ورجع عليه بجميع الثمن، وإن شاء أمسكه ورجع عليه بنصف الثمن، وإن صدقه المشتري بقي النصف في يده بنصف الثمن ورجع على بائعه بنصف الثمن الضامن للدرك يرجع عليه دون قيمة البناء إلا أن يسميه، وأما الضامن للخلاص وهو أن يسلم العبد من يد البائع إلى المشتري ويحصله من يد المستحق فليس على ضامن الخلاص رد الثمن، وإن مات العبد في يد المستحق بمنزلة موته في يد البائع، وإذا ضمن له الدرك فإنما هو من الاستحقاق وليس..... أن يسلمه من يد البائع.
في «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى أرضاً بشربها واستحق الشرب قبل القبض أخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكذلك المسيل إن كان قد قبض وأخذت فيها غرساً أو بناءاً أو زرعاً رجع بنقصان الشرب والمسيل.
قال محمد: كل شيء إذا بعته وحده لم يجز البيع فيه وإن بعته مع غيره جاز البيع فيه، فإذا استحق ذلك الشيء فإن شاء المشتري أخذ الباقي بجميع الثمن وإن شاء ترك، وكل شيء إذا بعته وحده جاز وإذا بعته مع غيره جاز أيضاً كان له حصة من الثمن.
قال هشام: قلت لمحمد رجل اشترى أمة هي ليست بحاضرة فقبضها ولم تقر بالرق وباعها من رجل آخر ولم تقر بالرق أيضاً وقبضها المشتري الآخر، ثم ادعت أنها حرة قال: يعتقها القاضي ويرد بعضهم الثمن على البعض، فإن قال المشتري الأول: قد كانت أقرت بالرق وليس له على ذلك بينة ولم يقر المشتري الثاني بذلك قال: يرد المشتري الثاني بالثمن (على) الأول ولا يرد المشتري الأول على بائعه؛ لأن المشتري الأول مقر أنها أقرت له بالرق.
وفي «الفتاوى» : رجل اشترى جارية وباعها حتى تداولتها الأيدي، ثم ادعت الجارية في يد المشتري الآخر أنها حرة الأصل وردها صاحبها على بائعها بقولها وقبل بائعها منه وردها هو أيضاً على بائعه وقبل منه، فأراد أن يرد على بائعه فليس لبائعه أن لا يقبلها منه إن لم تكن انقادت للبيع فتثبت الحرية بقولها في حق الكل، وإن كانت انقادت للبيع بأن بيعت وسلمت إلى المشتري وهي ساكتة فللبائع الأول أن لا يقبلها؛ لأنها لما انقادت للبيع فقد أقرت بالرق فدعوى حرية الأصل منها بعد ذلك دعوى العتق العارض، والعتق العارض لا يثبت بمجرد قولها، فكان للأول أن لا يقبلها كما لو ادعت العتق العارض.
قال هشام: وسألت محمد رحمه الله عن غلام لم يبلغ الحلم باعه إنسان، فأقر بأنه مملوك له وهو يعبر عن نفسه، ثم استحق بالحرية وغاب البائع ولا يدرى أين هو هل(7/21)
يرجع المشتري على الغلام بالغرور قال: لا، قلت: فالرجل الذي اشترى عبداً أقر على نفسه بالرق وغاب البائع وقبض المشتري العبد ولم ينقد الثمن فأعتق القاضي العبد؛ لأنه كان حر الأصل هل يشهد القاضي ببراءة المشتري عن الثمن والبائع غائب قال: نعم.
قال: وسمعت محمداً يقول رجل اشترى من صبي لم يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة جارية فاستولدها، ثم استحقها إنسان، فإنه يأخذها وولدها رقيقاً والنسب ثابت، وكذلك إن اشتراها من عبد محجور عليه.
ولو اشترى رجل جارية بعبد وتقابضا وولدت الأمة من المشتري، فإذا العبد حر الأصل فإن لبائع الجارية أن يأخذ الجارية وعقرها، وولدها رقيقاً والولد ثابت النسب، قال هشام: قلت لمحمد فإن كان الذي باع العبد كان اشتراه من غيره قال: الولد يكون له بالقيمة.
رجل اشترى أمة وقبضها فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً، ثم استحقت الأمة وقد ولدت للمشتري، قال محمد رحمه الله: يرجع بالثمنين على البائع، فإن كانت الأمة جاءت بالولد (112ب3) لأكثر من ستة أشهر من وقت اشتراها من الآخر رجع بقيمة الولد التي يعرفها للمستحق على المشتري الآخر، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت شرائها من المشتري الآخر لا يرجع بقيمة الولد على واحد منهما؛ لأن إقراره الثاني براءة الأول، قال محمد رحمه الله: ويضمن البائع في الأرض المشتراة إذا استحقت، البناء والغرس والزرع، وضمان الزرع: أن ينظر ما قيمة الزرع فيضمنه البائع، قال هشام: وذلك إذا لم يستحصد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى جارية فولدت منه فاستحق رجل نصفها قضى له عليه بنصف قيمتها وبنصف عقرها، فإن قضى بذلك فاستحق رجل آخر النصف الآخر بعد ذلك فإنه يقضي له أيضاً بنصف قيمة الجارية وبنصف عقرها ويقضي عليه بقيمة الولد بينهما نصفين.
رجل اشترى جارية وقبضهما فولدت له، ثم أعتقها وتزوجها فولدت له ولداً آخر، ثم استحقت فليس عليه إلا عقر واحد، وكذلك لو لم يتزوجها بعد العتق ولكنه زنى بها فولدت له أولاداً، ثم استحقت لم يغرم للمستحق إلا عقر واحد، وصار ذلك العتق ليس بعتق فكأنه وطء على الملك الأول، ويثبت نسب الأولاد ويغرم قيمتهم ويرجع على البائع بقيمة الأولاد الذين كانوا قبل العتق، ولا يرجع بقيمة الأولاد الذين كانوا بعد العتق.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد في يده كران حنطة، باع كراً منها من رجل بثمن مسمى ودفعه إليه فاستحق من يده قال: يأخذ المشتري الكر الباقي ودفعه، ثم استحق الأول قال: يبطل البيع فيه ولا سبيل له على المشتري الثاني، ولو كان في يده كران فباع أحدهما ولم يدفعه حتى باع الآخر ودفعه، ثم باع الكر الباقي ودفعه، ثم حضر المشتري الأول ووجد المشتريين جميعاً فإنما سبيله على المشتري الثالث؛ لأن البائع قد كان له أن يبيع الكر الباقي بعد بيعه من المشتري الأول فلما باعه وقع البيع على ما يملكه وجاز(7/22)
الدفع إليه، ثم لما باع الكر الآخر لم يجز بيعه؛ لأنه للمشتري الأول، فإن لم يجد المشتري الأول المشتري الثالث، إنما وجد المشتري الثاني يقضى له بنصف ما في يده، فإذا حضر الثالث أخذا جميعاً ما في يده فيكون بينهما نصفين وكذلك لو كان مكان الكرين عبداً فباع نصف من رجل ولم يدفع إليه، ثم باع نصفه من آخر ودفعه إليه، ثم باع نصفه من ثالث ودفعه إليه.
وروى ابراهيم عن محمد في رجل باع قفيزاً من طعام * ومعه ثلاثة أقفزة * من رجل، ثم باع قفيزاً من رجل آخر، ثم باع قفيزاً من ثالث، ثم قال لهم الأقفزة الثلاثة، ثم استحق القفيز الأول قال يأخذ المستحق القفيز الثالث فيكون له؛ لأن صاحب الطعام باع القفيز الأول وهو يملكه وباع الثاني وهو يملكه، (وباع) الثالث وهو لا يملكه.
رجل اشترى من دار نصفها مشاعاً، ثم استحق نصفها قبل القسمة فالبيع على النصف الباقي فإن كان قسم للمشتري، ودفع إليه ما اشترى، ثم استحق النصف الذي اشترى فللمشتري نصف نصف الباقي وهو ربع جميع الدار، ولو اشترى من صبرة نصفها وهو كر، ثم استحق نصفها قبل القسمة أو بعد القسمة والقبض فإنه يأخذ جميع النصف الباقي من الكر، ولو اشترى من عبد نصفه كان ما استحق من نصيب البائع، وسلم للمشتري نصفه وفرق بين العبد والدار.
رجل وهب لرجل عبداً أو تصدق به عليه فاستحق من يد الموهوب له أو من يد المتصدق عليه، كان للواهب أو المتصدق أن يرجع على بائعه بالثمن رواه ابن سماعة عن أبي يوسف.
وروى ابن سماعة عنه أيضاً: في رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه، ثم إن الموهوب له وهبه من رجل آخر، ثم استحق العبد من يد الموهوب له الآخر، كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن، ولو كان المشتري للعبد باعه من رجل، ثم وهبه لرجل من الابتداء، ثم إن الموهوب له باعه من رجل، ثم استحق من يد الآخر، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه قبل أن يرجع الآخر على بائعه وهو الموهوب له، فإذا رجع عليه رجع المشتري الأول على بائعه.
وروى بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى زق سمن أو عسل أو جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو جوالقاً من دقيق أو حنطة، ثم استحق منها فللمشتري الخيار إن شاء أخذ الباقي بحسابه من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن هذا شيء واحد فيكون الحال فيه قبل القبض وبعده سواء، ولو كان اشترى زقي سمن أو قوصرتي تمر أو جرتي زيت أو جوالقي حنطة واستحق أحدهما، إن كان قبل القبض فله أن يرد البيع كله، وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد الأخرى ويرجع بحساب ما استحق وكذلك سائر ما وصفت لك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل داراً وقبضها فاستحق رجل نصفها فأقام المشتري بينة أنه اشترى الجارية من هذا المستحق ولم يؤقت وقتاً قال:(7/23)
لا يرجع المشتري على البائع بثمن ذلك النصف، إنما هذا رجل اشترى من رجل داراً فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً ولو أقام البينة أنه اشتراها منه بعد الاستحقاق رجع على البائع الأول بنصف الثمن.
ابن سماعة عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى من رجل أرضاً بيضاء وبنى فيها بناءاً، ثم استحقت الأرض وقضى القاضي على المشتري بهدم البناء فهدمه، ثم استهلكه فلا شيء على البائع من قيمة البناء وهذا اختيار منه له، وإن لم يستهلكه ولكن المطر أفسده كان البناء صحيحاً فصار طيناً، أو كسره رجل، فعلى البائع فصل ما بين النقض والبناء، وإن شاء البائع أخذ النقض على تلك الحالة وأعطاه قيمة البناء مبنياً ويرفع عنه ما حدث في النقض من النقصان من كل وجه، فإن اختار هذا فالمشتري بالخيار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وكذلك يدخله بضمان أي جناية أحد فالمشتري بالخيار والبائع بالخيار، فإن اتفقا على وجه من ذلك أقضي بينهما، وإن اختلفا ترك في يد المشتري وضمن البائع فضل ما بين النقض إلى البناء، وإن كان النقصان من غير جناية أحد فهو مثل ذلك في قول أبي يوسف كان للمشتري أن يمسك ويرجع بفضل ما بين الهدم إلى البناء كما يمسك المفقوءة عيناه ويرجع بالنقصان.
رجل اشترى داراً وبني فيها وغاب، ثم أن البائع باعها من رجل ونقض المشتري الآخر بناء الأول وبنى فيها ثانياً، ثم جاء الأول، فهذه المسألة على وجهين: الأول أن يكون الثاني بناها بآلات هي ملكه وفي هذا الوجه يضمن المشتري الثاني للمشتري الأول (113أ3) حصة البناء من الدار العامرة ونقض البناء الأول للمشتري الأول، وإن بنى ينقض الأول فالمشتري الثاني يضمن للمشتري الأول حصة البناء من الدار العامرة وللمشتري الأول أن يمسك البناء وليس للمشتري الثاني رفعه؛ لأنه عين ملك الأول فإن زاد المشتري الثاني في ذلك زيادة، أعطاه قيمة الزيادة من غير أن يعطيه أجرة العامل؛ لأن الزيادة عينها مال متقوم، فأما العمل فلا يتقوم إلا بالعقد.
وفي «المأذون الكبير» : اشترى أمة واستولدها واستحقها رجل بالبينة وقضى على المشتري بقيمة الولد رجع المشتري بذلك كله على بائعه، وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا اكتست أكساباً أو وهب لها، ثم استحقت وقضي للمستحق بالكسب والهبة حيث لا يرجع المشتري على البائع بالكسب والهبة.
ولو اشترى أرضاً وأحياها أي عمرها فاستحقت من يد المشتري هل يرجع على البائع بما أنفق في عمارتها وحرثها؟ فلا رواية لهذه المسألة، وقيل: لا يرجع؛ لأن الإحياء حصل بصرف المنافع والمنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد.
وسئل الشيخ الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: عن رجل اشترى من آخر جارية، ثم ظهر أنها حرة وقد مات البائع ولم يترك شيئاً لا وارث له ولا وصي، غير أن بائع الميت حاضر قال: القاضي يجعل للميت وصياً حتى يرجع المشتري على وصي الميت، ثم وصي الميت يرجع على بائعه للميت.(7/24)
وسئل هو عمن اشترى سكناً في دكان وقف فقال المتولي: ما أذنت بالسكنى وأمر بالرفع، هل للمشتري أن يرجع على البائع؟ قال: إن كان المبيع بشرط القرار، رجع لفوات الشرط وظهور العيب وإلا فلا رجوع له على البائع بوجه ما لا بالثمن ولا بالنقصان.
أيضاً ذكر في «مجموع النوازل» : في رجل اشترى من آخر أرضاً بعينها فجاء مستحق واستحقها بالبينة وقضى القاضي بالأرض له وطلب المشتري من البائع الثمن فرد الثمن عليه، ثم ظهر فساد الدعوى وفساد القضاء بفتوى الأئمة، هل للمستحق أن يسترد تلك الأرض ويقول قد ظهر بطلان القضاء؟ قال: لا؛ لأن المشتري لما رجع على البائع بالثمن ورد البائع الثمن عليه فقد فسخا البيع فيما بينهما بالتعاطي فانفسخ العقد من كل وجه وارتفع حكمه فكيف يستردها قال: ولو لم يرجع المشتري على البائع بعد ما قضى القاضي بالأرض للمستحق وفسخ العقد بينهما، ثم بعد ذلك ظهر بطلان قضاء القاضي وبطلان الاستحقاق، كان لهذا المستحق عليه استرداد الأرض في هذه الصورة؛ لأنه ظهر بطلان الفسخ بناء على ظهور بطلان القضاء بخلاف الفصل الأول.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى جارية فولدت عنده ولداً لا باستيلاده، ثم استحقها رجل بالبينة أخذها وولدها، ولو أقر المشتري بالجارية لإنسان أخذ المقر له الجارية ولا يأخذ ولدها.
والوجه في ذلك: أن دعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل فتكون الشهادة بالملك من الأصل؛ لأن الشهود إنما يشهدون على وقت الدعوى فيكون القضاء بالملك المطلق قضاء بالملك من الأصل؛ لأن القاضي إنما يقضي مما يشهد به الشهود، والشهادة حجة مطلقة متعدية فظهر الملك في الجارية عند القضاء بها في حق الولد جميعاً، ولهذا قلنا: إن في القضاء بالملك المطلق يرجع الباعة بعضهم على بعض وطريقه ما قلنا: أن القضاء بالملك المطلق بالبينة، فظهر الملك من الأصل كافة، فأما القضاء بالملك بالإقرار ليس بقضاء بالملك من الأصل؛ لأن الإقرار حجة قاصرة، ألا ترى أن الباعة لا يرجع بعضهم على بعض؟
يوضحه: أن الإقرار ليس ثابتاً بل هو إخبار، وثبوت المخبر به فيه لصحة والمخبر به ملك الآمر، فيقضي بملك الآمر في أدنى زمان يتصور فيه الملك فيقضي بملك الآمر بعد الانفصال عنها؛ لأنه متيقن ولا يقضي به حال الاتصال؛ لأنه مشكوك فيه، ثم في فصل البينة هل يشترط قضاء على حدة بالولد أو القضاء بالأم يكفي؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: القضاء بالأم يكفي، وقال بعضهم: يشترط قضاء على حدة بالولد، وإليه أشار محمد رحمه الله في موضع آخر، فإنه قال: إذا قضى بالأصل للمستحق، ولم يعلم بالزوائد، لم تدخل الزوائد تحت القضاءوهذا؛ لأن القضاء بالزوائد منفصلة حقيقية فلا بد من القضاء بها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل اشترى ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم ادعى رجل أن الثوب له وأقام البينة قضى القاضي له بالقميص، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء.(7/25)
الأصل في جنس هذه المسائل: أن الاستحقاق متى وقع على ملك البائع، رجع المشتري على البائع بالثمن ومتى وقع على حدوث الملك للمشتري لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وهذا؛ لأنه متى وقع الاستحقاق على ملك البائع، لم يسلم المبيع للمشتري من جهة البائع بالبيع، فلا يسلم الثمن للبائع إذ البيع عقد معاوضة يقتضي السلامة بإزاء السلامة ومتى وقع الاستحقاق على حدوث ملك المشتري، فالمبيع مسلم للمشتري من جهة البائع، وإنما زال بسبب حدوث من جهته، فلا يمنع سلامة الثمن للبائع وإنما يعرف وقوع الاستحقاق على حدوث الملك للمشتري إذا حدث في العين بما يمنع الاستحقاق من الأصل، وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: في هذه المسألة الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لا على الملك من الأصل، إذا كان الثوب للمستحق من الأصل، لصار للذي خاطه، فإن من غصب ثوب إنسان وخاطه قميصاً، ينقطع حق المالك ويصير حق الغاصب أن ضرورة استحقاق القميص أن يكون بملك حدث على ملك المشتري، وبهذا لا يتبين أن المبيع لم يسلم للمشتري من جهة البائع، وكذلك لو اشترى حنطة فطحنها، ثم جاء رجل وأقام البينة أن الدقيق له يقضي القاضي بالدقيق للمستحق، ولا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لما قلنا، فقد سوى بين الخياطة والطحن ههنا وافترقا في حق صحة الزيادة، وإنما كان كذلك باعتبار أن المانع من صحة الزيادة هلاك المبيع، وبالطحن يهلك المبيع وهي الحنطة، أما بالخياطة لا يهلك المبيع؛ لأن المبيع هو الثوب وبعد الخياطة الثوب باق، أما المانع من الرجوع على البائع بالثمن حدوث معنى يمنع (113ب3) الاستحقاق من الأصل والخياطة مع الطحن يستويان في حق هذا المعنى. وكذلك لو أن رجلاً غصب من رجل ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم جاء رجل وأقام البينة أن القميص له وأخذ القميص من الغاصب لا يبطل الضمان الأول؛ لأن الملك لم يستحق من الأصل بل مقصوراً على صاحب اليد
لما قلنا في المسألة الأولى فبقي ملك المغصوب منه، بسبب الخياطة فيجب عليه قيمة الثوب، وكذلك الجواب في الحنطة بطحنها، ولو أن رجلاً اشترى شاة فذبحها وسلخها فأقام رجل البينة أن اللحم والجلد والأطراف والرأس له وأخذ ذلك كله كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن؛ لأن الاستحقاق اسم هذه الأشياء بمنزلة الاستحقاق باسم الشاة وهناك يرجع المشتري على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد الملك على الملك المطلق ولم يوجد ههنا ما يمنع القضاء من الأصل؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن العين بهذه الأشياء، فوجب القضاء بالملك عن الأصل، فتبين أن الاستحقاق على ملك البائع، ولو كان في الغصب يبطل حق المغصوب منه عن الضمان لما ذكرنا أن بهذه الأشياء لا ينقطع حق المالك عن العين، فورد الاستحقاق على ملك المغصوب منه فوجب بطلان حقه عن الضمان، ولكن يرجع الثاني على الغاصب بالنقصان.
وكذلك لو اشترى ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحق رجل الثوب المقطوع بالبينة، فإن المشتري يرجع بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد على الملك المطلق ولم(7/26)
يوجد ههنا ما يمنع القضاء بالملك من الأصل؛ لأن مجرد القطع لا يقطع ملك المستحق وإن كان هذا في الغصب بأن غصب رجل ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحقه رجل بالبينة يبطل حق الأول عن الضمان إذ الملك صار مستحقاً من الأصل.
ولو أن رجلاً غصب من رجل لحماً فشواه فأقام رجل البينة أن هذا اللحم المشوي له فقضي به له رجع المغصوب منه على الغاصب بقيمة لحمه؛ لأن الاستحقاق لم يثبت من الأصل إذ لو جعل هذا الاستحقاق له من الأصل، لصار الغاصب مالكاً له، فمن ضرروة هذه البينة أن يجعل الاستحقاق مقصوراً على الحال، ويجعل كأن المغصوب منه كان مالكاً، ثم الغاصب يملك عليه بالشيء، ثم المستحق يملك عليه بوجه من الوجوه، ثم وجب ههنا القيمة، فهذا دليل على أن اللحم مضمون بالقيمة لا بالمثل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: هو مضمون بالمثل، وتأويل هذه المسألة على قوله إذا لم يوجد مثله.
ولو كان هذا في الشراء بأن اشترى لحماً فشواه، ثم أقام رجل البينة أنه له وقضى به له لم يرجع على البائع بالثمن؛ لأن الاستحقاق مقصور على المشتري لما قلنا، ولو أقام المستحق البينة في هذا كله أن ذلك اللحم قبل أن يشويه المشتري، وذلك الثوب قبل أن يخيطه المشتري وتلك الحنطة قبل أن يطحنها المشتري كان له، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن. ولو كان هذا في الغصب يبطل حق الأول عن الضمان؛ لأن الاستحقاق ههنا ثبت من الأصل وتبين أن المشتري أو الغاصب كان غاصباً لهذه الأشياء من المستحق فكان ضامناً للمستحق.
ولو أن رجلاً اشترى من رجل شاة وذبحها وسلخها فأقام الرجل البينة أن اللحم له وأقام آخر بينة أن الجلد له وأقام آخر بينته أن الرأس والأطراف له وقضى القاضي بذلك، ودفع إلى كل واحد ما، استحقه ببينة لم يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن هذا الاستحقاق مقصور على المشتري؛ لأن تملك هذه الأشياء على الافتراق لا يتصور إلا بعد الذبح، إذ لا يجوز أن يستحق كل واحد منهم جزءاً من الشاة وهي حية، وإنما يجوز ذلك بعد الذبح، فكان الاستحقاق مقصوراً على المشتري، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على شيء من هذه الجملة أنه لو أقام الذي في يده بينة على مثله أن صاحب اليد أولى؛ لأن ذا اليد أسبقهما تاريخاً؛ لأنه يثبت الملك لنفسه ملكاً بغير الذبح، وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي لهذه الجملة رجل واحد؛ لأن ذلك يصلح استحقاقاً من الأصل؛ لأن الواحد يجوز أن يستحق هذه الجملة من الشاة حية، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على ذلك وذو اليد أقام البينة على مثله أن المدعي أولى؟
وكذلك على هذا لو أن رجلاً اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ولم يخطه، فأقام رجل البينة أن الكمين له وأقام آخر البينة أن الدخريص له وقضى القاضي، لا يرجع المشتري على البائع بالثمن وإنما لا يرجع لما قلنا.(7/27)
وفي «مجموع النوازل» : باع من آخر حماراً على أنه غارتي يريد به أن لا يرجع عليه عند الاستحقاق قال: للمشتري أن يرجع عليه عند الاستحقاق؛ لأن الرجوع حق ثابت شرعاً في البيع الجائز والفاسد، وقيل: يجب أن يكون البيع بهذا الشرط فاسداً؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيكون للمشتري أن يسترد الثمن ويكون للبائع أن يسترد المبيع بحكم فساد العقد، «اكرد لالي دلالي كرد» ، ثم استحق المبيع من يد المشتري فالمشتري على من يرجع بالثمن، والجواب «أكرد لا لي خود بيع كرده باشد مشتري برد لالي رجوع كغد» .
وفي صلح «فتاوى أبي الليث» : رجلان اشتريا عبداً صفقة واحدة فاستحق نصف العبد فهما بالخيار إن شاءا أخذا نصف العبد وإن شاءا تركا، فإن أخذا كان لكل واحد ربع العبد، وإن سبق أحدهما بالأخذ أخذ ربع العبد، ثم لا يكون للآخر حق الرد على البائع.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وقبضها، ثم خاصمه رجل في حائط بين دار المشتري وبين دار الذي خاصمه، ولم يكن في الشراء للحائط ذكر ولا شرط، فقامت البينة أن الحائط للجار وقضى به القاضي، فأراد المشتري أن يرد الدار، قال: إن كان للمشتري على الحائط خشبة واحدة أو أكثر وليس للمستحق عليه خشبة أصلاً، فله أن يرد الدار، وإن أراد أن يمسك الدار ولا يرجع بحصة كل الحائط فعل، وإن كان الذي استحق الحائط عليه جذوع أيضاً، فإن شاء رد الدار وإن شاء رجع بحصته من الحائط، وإن لم يكن لواحد منهما عليه جذوع وكان متصلاً ببناء المشتري رد الدار إن شاء، وإن أمسك الدار ورجع بحصة الحائط كله، وإن كان متصلاً بالبناءين جميعاً بناء المشتري وبناء المدعي رجع بحصة نصف الحائط وإن شاء رد الدار، وإن لم يكن متصلاً ببناء واحد منهما ولم يكن لواحد منهما عليه جذوع، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء على البائع (114أ3) .
إلا أن بكون سمى له الحائط في الشراء فحينئذ يرجع بحصته أو يرد الدار، وإن كان الحائط متصلاً ببناء الجار وليس بمتصل ببناء المشتري ولا جذوع للمشتري عليه، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء، ولو كان للمشتري عليه ستره، فلما استحق الحائط أمر بهدمها والسترة قائمة قبل شرائه كان له أن يرجع بنقصان هذه السترة، وإن شاء رد الدار، ولو كان للمشتري عليه فرادي لا غير، فاستحق الحائط لم يرجع بشيء ولم يرد الدار، ولو كان الحائط متصلاً ببناء المشتري اتصال تربيع وللجار عليه جذوع فالحائط للمشتري وللجار موضع جذوعه وليس للمشتري أن يرجع على البائع بحصة مواضع الجذوع في حائطه، ولكن يقال للمشتري: هذا عيب فإن شئت فرد الدار وإن شئت فخذها بجميع الثمن، ولو كان له مثل ما في دار وطريق فاستحق ذلك رد الدار إن شاء، وإن شاء أمسكها ورجع بنقصان ذلك، ولو كان كنيف شارع إلى الطريق أو ظلة شارعة فخاصم فيها(7/28)
أهل الطريق فأمره القاضي برفعها لم يرجع على البائع بشيء ولم يرد الدار، ليس هذا من حقوقه الواجبة هذا في طريق المسلمين.
وإن كان له باب في الطريق الأعظم وباب في طريق غير نافذ، فأقام أهل ذلك الطريق بينة أنهم أعادوا لبائع هذا الطريق فأمره القاضي بسده وقضى عليه فهو بالخيار إن شاء رد الدار وإن شاء رجع بنقصان ذلك الطريق.
رجل مات وترك ابنين وداراً فأدعى أحد الابنين أن أباه كان باع هذه من هذا الرجل بألف درهم وأنكر ذلك الرجل والأبن الآخر، فأقام ابن المدعي البينة على ما ادعى، فإني أقضي على الرجل بنصف الثمن وأقضي له بنصف الدار حصة الذي ادعى البيع، ولا خيار له في رده وليس هذا كالاستحقاق لنصف الدار؛ لأني إنما نقضت البيع ههنا في النصف لجحود المشتري، ولو ادعى لأجزت البيع فيه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل ادعى حقاً في الدار وأنكر المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه صالح المدعي على مائة يأخذها المدعي صح الصلح عندنا. هذه المسألة تبتني على أصلين: أحدهما: أن الصلح عن الحقوق المجهولة إذا كان لا يحتاج فيها إلى التسليم جائز عندنا. والثاني: أن الصلح على الإنكار جائز عندنا والمسألة معروفة.
ثم إذا صح الصلح لو استحقت الدار من يد المدعى عليه إلا ذراعاً منها لم يرجع عليه بشيء. ولو كان المدعي يدعي كل الدار وباقي المسألة بحالها يرجع على المدعي بحصته ما استحق عن المائة. والفرق: أن في المسألة الأولى الاستحقاق غير مناقض أصلاً؛ لأن الصلح وقع عن حقوق مجهولة، واسم الحق يتناول ما بقي في يد المدعى عليه بعد الاستحقاق، فيمكن للمدعي أن يقول للمدعى عليه: عنيت بالدعوى السابق هذا القدر الذي بقي في يدك، وإذا لم يكن الاستحقاق مناقضاً للصلح أصلاً لا يكون له حق الرجوع على المدعي بشيء. وأما في المسألة الثانية الاستحقاق مناقض للصلح بقدره وقع عن كل الدار على مائة، فلابد وأن ينتقض الصلح بقدر ما استحق، فيرجع على المدعي بحصة ذلك.
قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في عبد لرجل مقر له بالعبودية باعه من رجل، وقد قال العبد للمشتري: اشترني فإني عبد له فاشتراه، فإذا هو حر لا سبيل للمشتري على العبد إذا كان البائع غايباً غيبة منقطعة معروفة، وإذا كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد بالثمن، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا رجوع للمشتري على العبد بالثمن بحال، ووجه ذلك: أن ضمان الثمن وجوبه بالمعاقدة أو بالكفالة عن المعاقدة ولم يؤخذ شيء من ذلك بالعبد، إنما الموجود منه الإخبار بكونه عبداً، وإنه لا يوجب ضمان الثمن، ألا ترى أن أجنبياً لو قال للمشتري: اشترى هذا العبد، فإذا هو حر لا يرجع المشتري عليه بالثمن وطريقه ما قلنا، ألا ترى أن العبد إذا قال لرجل: ارتهني فإني عبد فارتهنه، فإذا هو حر لا يرجع المرتهن على العبد بدينه؟ كذا ههنا.
وجه «ظاهر الرواية» : أن العبد ضمن للمشتري سلامة نفسه أو سلامة الثمن من(7/29)
نفسه متى تعذر استيفاؤه من البائع، وقد تعذر الاستيفاء من البائع إذا غاب غيبة لا يدرى أين هو، فيرجع المشتري بالثمن على العبد بحكم الضمان، كالمولى إذا قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا، فإني قد أذنت له في التجارة، فبايعوه ولحقه ديون، ثم استحق العبد فإن أصحاب الديون يرجعون على المولى بقيمته، وجعل المولى ضامناً لهم سلامة حقوقهم من نفسه عند تعذر الاستيفاء من مالية العبد.d
بيانه: أن المشتري إنما رغب في الشراء اعتماداً على أمر العبد إياه وعلى إخباره أنه عبد، فيجعل العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه نفياً للغرور، وإذا صار العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه كان للمشتري حق الرجوع على العبد بحكم الضمان، ويمكن جعل العبد ضامناً للسلامة؛ لأن البيع معاوضة يستحق به السلامة، فيمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة على ما هو موجبه نفياً للغرور، ولا كذلك الرهن؛ لأنه شرع لملك الحبس من غير عوض ويصير يعارضه استيفاء ليس حقه من غير عوض، فلا يمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة.
أو نقول: الثمن يجب بالبيع، فجاز أن يكون الآمر به ضامناً، أما الدين لا يجب بعقد الرهن بل هو واجب قبل عقد الرهن فلا يكون الآمر به ضامناً للسلامة، تم قول محمد رحمه الله في هذه المسألة، فإذا العبد حر يحتمل أنه أراد به حرية الأصل، ويحتمل أنه أراد به العتق المعارض، فإن كان المراد منه حرية الأصل يثبت أن التناقض لا يمنع صحة الشهادة على حرية الأصل؛ لأن العبد في دعوى الحرية ههنا متناقض، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: التناقض في حرية الأصل إنما لا تمنع صحة الشهادة؛ لأنه لو منع، منع من حيث إنه يعدم الدعوى إلا أن دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط في الاتفاق، والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله في العتق العارض.
وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط عند أبي حنيفة في حرية الأصل وفي العتق العارض إلا أن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في حرية الأصل، فلا يمنع صحة الشهادة، وفي العتق العارض يمنع صحة الدعوى، فيمنع صحة الشهادة، وإن كان المراد مما ذكر في «الكتاب» العتق العارض ثبت أن التناقض في العتق (114ب3) العارض، لا يمنع صحة الدعوى عند أبي حنيفة؛ لأنه لا بد من دعوى العبد للقضاء بالحرية عند أبي حنيفة، والعبد في دعواه الحرية ههنا متناقض، والصحيح أن دعوى العبد عند أبي حنيفة شرط في حرية الأصل. وفي العتق العارض والتناقض لا يمنع صحة الدعوى وصحة الشهادة لا في حرية الأصل ولا في العتق العارض؛ لأن التناقض في حرية الأصل إنما لا يمنع لخفاء حالة العلوق، فإن الولد قد يجلب من دار الحرب صغيراً ولا يعلم بحرية أبيه وأمه، فبقي بالرق لم يعلم بحرية أبيه وأمه، فيدعي الحرية والتناقض فيما (طريقه) طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى ولا يجزئ الخفاء في حرية الأصل، يجزئ في العتق العارض؛ لأن المولى بنفسه (أقر) بالإعتاق من غير علم العبد، فيجعل التناقض فيه عفواً أو(7/30)
نقول التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون التناقض فيه مانعاً صحة الدعوى وقبول البينة، ألا ترى أن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى إذا كذب المُلاعِنُ نَفْسَهُ ثبت منه كذلك ههنا والله أعلم.
الفصل السابع عشر: في مسائل الاستبراء
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا اشترى جارية وجب على المشتري أن يستبرئها بحيضة، والأصل في ذلك قوله عليه السلام في سبايا أوطاس «ألا لا توطأ الحبالى حتى تضعن، ولا الحيالى حتى تستبرأن بحيضة» والحكمة في ذلك تعرف براءة الرحم وصيانة ماء نفسه عن الخلط، والتحرز من أن يصير ساقياً ماؤه زرع غيره، لكن لا يمكن بناء الحكم على حقيقة هذا المعنى لبطونه، فبني الحكم على السبب الظاهر، وهو استحداث ملك الرقبة واليد؛ لأن الصيانة إنما تجب عليه في تلك الحالة؛ لأن بملك الرقبة يقدر على الفعل شرعاً وبملك اليد يقدر عليه حقيقة فيعلق الحكم به لهذا، وتعدي الحكم من المنصوص عليه وهي المسبية إلى المشتراة بهذه العلة، ويستوي على ظاهر الرواية أن يكون البائع ممن يطؤها أو لا يطؤها؛ لأن هذا الحكم بناء على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد. وكذلك قال أبو حنيفة في الجارية: إذا كانت بكراً إنه يجب الاستبراء، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنها إذا كانت بكراً وقد أحاط علم المشتري أنها لم توطأ لم يجب الاستبراء.
وفي «المنتقى» : رجل وهب جارية لابنه الصغير وسكنت في ملكه أربعة أشهر، ثم قومها على نفسه واشتراها، فلا استبراء عليه عند أبي يوسف، وقال أبو حنيفة: عليه الاستبراء وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر استبرأها بشهر لقيام الشهر في غير ذات الحيض مقام الحيض، وفي ذوات الحيض كما في العدة، كما لا يجوز له أن يطأ ولا يقبلها ولا يلمسها بشهوة ولا ينظر إلى عورتها؛ لأن هذه الأشياء دواع في الوطء والداعي إلى الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، ويشترط في الاستبراء حيضة بعد استحداث ملك الرقبة واليد حتى إن الحيضة قبل القبض لا تجزئ بها عن الحيضة إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن هذا الحكم مبني على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد جميعاً لا على حقيقة تعرف براءة الرحم.
ولو انقطع الحيض لعلة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطؤها حتى تمضي مدة لو كان حاملاً طهر الحمل ثلاثة أشهر، وقال محمد رحمه الله: يعتبر أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم رجع وقال: شهران وخمسة أيام، وقال زفر: سنتان. وروي «المعلى» عن أبي(7/31)
يوسف في رجل اشترى جارية تحيض في السنة مرة واحدة، قال: عليه (السلام) «أن يستبرئها بحيضة» ، قيل له: قد كنت تقول قبل هذا بثلثة أشهر، قال: الآن أقول بخلاف هذا، فسئل عن من اشترى جارية مستحاضة لا يعلم حيضها كيف يستبرئها، قال: يدعها من أول الشهر عشرة أيام.
ولو ملك جارية حاملاً لا يطؤها (حتى) تضع حملها، أو بعد ما وضعت حملها لا استبراء عليه بالحديث الذي روينا، ولأن وضع الحمل في حق حصول المقصود وهو تعرف براءة الرحم فوق الحيضة، وإن وضعت حملها قبل القبض فعليه الاستبراء كما لو حاضت قبل القبض.
وإذا اشترى جارية لها زوج ولم يدخل بها فطلقها قبل أن يقبضها المشتري، فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، هكذا ذكر في «الأصل» ، وفي كتاب «الحيل» : أنه لا استبراء على المشتري، فعلى رواية كتاب «الحيل» اعتبر وقت الشراء هي مشغولة بحق الغير، وعلى رواية الأصل اعتبر وقت القبض، وهو الصحيح؛ لأن وقت وجوب الاستبراء على المشتري وقت القبض، وهي وقت القبض فارغة عن حق الغير. وإن كان الزوج طلقها بعد قبض المشتري فلا استبراء على المشتري، وهذا هو الحيلة لاسقاط الاستبراء أن يزوجها البائع قبل البيع من رجل أو يزوجها المشتري بعد الشراء قبل القبض، ثم يقبضها المشتري، ثم يطلقها الزوج، فلا يجب الاستبراء على المشتري؛ لأن وقت وجوب الإستبراء وقت القبض هي مشغولة بحق الزوج فلا يجب عليه الاستبراء، وبعد ما طلقها زوجها صارت فارغة عن حقه لم يوجد السبب وهو استحداث حل الوطء باستحداث ملك الرقبة والوطء باليد.
قال الشيخ الإسلام شمس الأئمة الحلواني: إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة إذا كان البائع لا يطؤها أما إذا كان البائع يطؤها يجب الاستبراء تحرزاً عن سقي زرع غيره، وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد.
والمذكور ثمة: رجل اشترى جارية لها زوج وقبضها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء على المشتري إلا أن يكون البائع زوجها بعد وطئه إياها قبل أن تحيض، فإني لا أحب لهذا المشتري في هذه الصورة أن يطأها حتى تحيض حتى لا يجتمعان عليها في طهر واحد، وإن لم يكن يجد المشتري حرة فلإسقاط الاستبراء حيلة أخرى، وهو أن يتزوجها المشتري قبل الشراء، ثم يشتريها ويقبضها، فلا يلزمها الاستبراء؛ لأن النكاح يثبت له عليها الفراش، وقيام الفراش له عليها دليل شرعي على فراغ رحمها من ماء الغير.
وفي «المنتقى» : رجل تزوج أمةً، ثم اشتراها قال استحسن أن يستبرئها، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة في هذه الصورة: أنه لا(7/32)
استبراء عليه وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يقول: رأيت في كتاب الاستبراء لبعض المشايخ أنه إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة أن لو تزوجها ووطئها ثم اشتراها؛ لأنه حينئذ يملكها وهي مشغولة بعذر، فأما إذا استبرأها قبل أن يطأها وكما استبرأها يبطل النكاح فحال ثبوت ملك اليمين لا نكاح فيجب الاستبراء لتحقق (115أ3) سببه وهو استحداث حل الوطء بملك اليمين، وكان يحسنه ودقته رحمه.
وإذا باع جارية ولم يسلمها إلى المشتري حتى تارك المشتري البيع، فلا استبراء على البائع استحساناً، وإذا ردها بالعيب بعد القبض أو تقايلا بعد القبض فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، وإذا رجعت الآبقة أوردت المغصوبة أو فكت المرهونة أو عجزت المكاتبة أو انقضت الإجارة لم يكن على المولى أن يستبرئها بلا خلاف. وإذا كان الخيار للمشتري فردها بعد القبض فليس على البائع أن يستبرئها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، فإذا رد القاضي المبيع على البائع لفساد البيع، عليه أن يستبرئها.
وإذا باع الغاصب الجارية المغصوبة من رجل وقبضها المشتري، ثم استحقها المالك إن لم يكن المشتري وطئها قبل الاستحقاق فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً، وإن كان قد وطئها إن علم بحالها أنها مغصوبة فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً أيضاً، وإن لم يعلم بحالها مغصوبة فالقياس أن لا يجب الاستبراء على المالك، وفي الاستحسان يجب.
وإذا زوج الرجل أمته من إنسان، ثم مات الزوج عنها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة ولا استبراء عليه، وإن طلقها الزوج بعد الدخول بها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة والاستبراء عليه، وإن طلقها الزوج قبل الدخول بها، فإن كان المولى لم يستبرئها بعد ما قبضها بحكم الشراء ولم تحض عند الزوج فعليه الاستبراء، وإن كانت قد حاضت عند الزوج فلا استبراء على المولى (إن كان) قد استبرأها بعد ما قبضها، ثم زوجها وطلقها قبل الدخول بها ولم تحض في يد الزوج فلا استبراء على المولى هو الصحيح.
وإذا تزوج جارية وكان الزوج يطأها لم يكن على الزوج استبراء في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يستبرئها بحيضة استحساناً كيلا يؤدي إلى اجتماع الرجلين على امرأة واحدة في طهر واحد، ولأبي حنيفة: أن عقد النكاح متى صح تضمن العلم ببراءة الرحم شرعاً، وهو المقصود من الاستبراء.
وإذا أراد الرجل أن يبيع أمته وقد كان يطؤها يستحب أن يستبرئها ثم يبيعها. وإذا أراد الرجل أن يزوج أمته من إنسان يطؤها، بعض مشايخنا قالوا: يستحب أن يستبرئها بحيضة ثم يزوجها كما لو أراد بيعها، والصحيح أن ههنا يجب الاستبراء، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، بخلاف ما إذا أراد أن يبيعها. والفرق: أن في فصل البيع يجب الاستبراء على المشتري، فيحصل المقصود به، فلا معنى للإيجاب على البائع، أما في فصل النكاح لا يجب الاستبراء على الزوج ليحصل به معنى الصيانة، فمست الحاجة إلى إيجابه على المولى.(7/33)
وفي «المنتقى» الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: كره للرجل أن يبيع جارية كان يطؤها حتى يستبرئها بحيضة، وإن كانت لا تحيض أبداً أو كانت آيسة فبشهر، وإن ارتفع حيضها بعد الوطء فبأربعة أشهر، وإن جامعها في الحيض فلا يبيعها حتى تطهر من حيضة.
وإذا زنت أمة الرجل فليس عليه استبراء في قول أبي حنيفة، وقال محمد: أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى أنه قال: يجب عليه الاستبراء، وإن حبلت من الزنا لم يقربها حتى تضع حملها.
وإذا كانت الجارية بين رجلين اشترى أحدهما من صاحبه نصيبه، فعليه الاستبراء. وإذا وطىء الرجل أمته ثم اشترى أختها فله أن يطأ الأولى، وليس له أن يطأ الثانية إذا اشتراها كيلا يصير جامعاً ماءه في رحم أختين، وإن لم يكن وطء الأولى فله أن يطأ أيتهما شاء، وإن وطئهما أو قبلهما أو لمسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما فقد أساء؛ لأنه ارتكب المحرم وهو الجمع بينهما في حق الوطء والدواعي ولا يطأ واحدة منهما بعد ذلك حتى يزول ملك الوطء عن الأخرى حتى ذكر في «الأصل» ، وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول في رجل عنده أختان وطئهما ثم باع إحديهما، فإن لم يستبرئ التي باعها بحيضة قبل أن يبيعها، فإنه لا يقرب هذه حتى تحيض، وروى بشر عن أبي يوسف: رجل عنده أمتان أختان وطء إحداهما، فلا ينبغي له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الموطوءة حيضة ويخرجها عن ملكه، وفي قول أبي حنيفة: إذا أخرجها عن ملكه وطء الأخرى. وفي «القدوري» : ذكر المسألة في غير ذكر خلاف، فقال: إذا أخرج التي وطىء عن ملكه جاز له أن يطأ الأخرى؛ لأن المحرم هو الجمع في الوطء وقد زال ذلك بإبطال ملك المتعة والله أعلم.
الفصل الثامن عشر: في بيع الأب والوصي والقاضي مال الصبي وشرائهم له
الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات لما فيه من رجوع الحقوق المضادة والأحكام المتنافية إلى الواحد، فإن البيع يوجب ضد ما يوجبه الشراء من الأحكام، قالوا الواحد إذا صار بائعاً ومشترياً يرجع إليه أحكام متضادة، ألا ترى أنه يصير مطالِباً ومطالَباً مسلماً ومتسلماً مستزيداً ومستنقصاً، وإنه ممتنع بحال، ولأن المعاوضة توجب حقاً لكل واحد من المتعاقدين على صاحبه، فالواحد إذا صار بائعاً ومشترياً وجب الحق له على نفسه، وأنه ممتنع، والقياس في الأب كذلك، حتى لا يجوز بيع الأب ماله من أبيه الصغير وشراء مال ابنه الصغير لنفسه لما قلنا من الاستحالة، إلا أنهم استحسنوا وجوزوا ذلك، وطريقه أن يجعل الأب رسولاً عنه في التصرف وأمكن جعل الأب رسولاً عنه في التصرف لانتفاء التهمة عن تصرفه مع نفسه بسبب كمال الشفقة، وعبارة الرسول عبارة المرسل، فصار العقد قائماً بعبارتين معنى، كأن الأب باع(7/34)
من ابنه وهو بالغ، ثم تحمل العهدة عليه بحكم الأبوة لعجزه عنها، فلا يؤدي إلى التضاد في الأحكام؛ لأنه إنما يؤدي إلى التضاد في الأحكام أن لو كان لخوف العهدة للأب بحكم العقد، ولهذا لو بلغ الصبي كان العهدة عليه بخلاف الوكيل؛ لأنه لم يوجد في حق الوكيل سبب لحمل العهدة عليه سوى العقد، فكان الخوف العهدة بحكم العقد فجاء التضاد، أما هنا فبخلافه على أنا نقول بأن هذا العقد لا يوجب التسلم والتسليم والمطالبة فلا يتحقق من التضاد في الأحكام.
واختلف المشايخ في أنه هل يشترط لتمام هذا العقد الإيجاب والقبول، والصحيح أنه لا يشترط حتى أن الأب لو قال: بعت هذا من ولدي فلان بكذا، وقال: اشتريت من مال ولدي هذا بكذا، فإنه يتم العقد، ولا يشترط أن يقول: بعت هذا من ولدي واشتريت، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهذا لأنه لا معتبر بالقبول عند وجود الرضا كما في فصل التعاطي، والرضا يتم بقوله: بعت هذه العين من ولدي، فلا يعتبر القبول (115ب3) ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة وبما يتغابن الناس فيه، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بمثل القيمة، فعلى هذه الرواية لم يتحمل الغبن اليسير من الأب في تصرفه في الوجهين جميعاً، ووجهه: أن الغبن اليسير إنما يتحمل في تصرفه مع الإيجاب؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، هذا المعنى موجود في تصرفه مع نفسه، والجواب الأب عند انعدام الأب بمنزلة الأب.
ولو كان له ابنان صغيران فباع مال أحدهما من الآخر بأن قال: بعت عبد ابني فلان من ابني فلان جاز؛ لأنه لو باع مال أحدهما من نفسه يجوز، فكذا إذا باع من الآخر، وإذا أتلفا فالعهدة عليهما هو الصحيح؛ لأن لحوق العهدة الأب بطريق التحمل عنهما لعجزهما عن التحمل بأنفسهما، وبالبلوغ ارتفع العجز، فكانت العهدة عليهما. وفي «الهارني» وفي الثمن لزم الأب شراء مال ولده الصغير ولا يبرأ الأب منه حتى ينصب القاضي وكيلاً من الصغير، فيقبضه عن الأب للصغير، ثم بعد قبضه بأمر القاضي يرده على الأب حتى يكون في يده عن ابنه وديعة.
وفي «الفتاوى» : الأب إذا باع مال الصبي من أجنبي بمثل القيمة، فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن كان الأب محموداً عند الناس أو كان مستور الحال يجوز حتى لو كبر الأبن لم يكن له أن ينقضه؛ لأن الأب له شفقة كاملة ولم يعارض هذا المعنى معنى آخر، فكان هذا البيع نظراً فيجوز، وإن كان فاسداً عند الناس إن باع العقار لا يجوز حتى لو كبر الأبن له أن ينقضه. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : هو المختار إلا إذا كان جبراً للصغير بأن باع بضعف قيمته؛ لأنه عارض ذلك المعنى معنى آخر فلم يكن هذا البيع نظراً. وإن باع ما سوى العقار من المنقولات ففيه روايتان: في رواية: يجوز ويؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل، وفي رواية: لا يجوز إلا إذا كان جبراناً للصغير، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وفي وصايا «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: بيع الأب المفسد جائز،(7/35)
فيؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل من غير فصل بين العقار والمنقول.
الوصي إذا باع مال اليتيم من نفسه أو باع مال نفسه من اليتيم، فعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف إذا كان فيه منفعة ظاهرة لليتيم يجوز، وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم لا يجوز. وعلى قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف: لا يجوز بحال.
وتكلموا في تفسير المنفعة الظاهرة على قول أبي حنيفة، بعضهم قالوا: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ما يساوي ألف درهم بثلثمائة ويبيع مال الصبي من نفسه ما يساوي ثمان مائة بألف درهم، وقال بعضهم: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ألف درهم بخمسمائة، ويبيع من مال الصغير ما يساوي خمسمائة بألف، وبعضهم قالوا: أن يبيع من مال الصبي من نفسه ما يساوي ألفاً بألف وخمسمائة. والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوصي مختار الأب بعد وفاته، وهو حال عجزه عن المراقبة بنفسه له الاستقصاء في النظر واختيار من هو أشفق الناس على الصغير، فنزل الوصي منزلة الأب إلا أن شفقة الوصي لا تكون نظير شفقة الأب، فشرط في تصرفه مع نفسه المنفعة الظاهرة، ولم يشترط في تصرف الأب مع نفسه المنفعة الظاهرة.
ثم إذا جاز بيع الوصي من نفسه على قول أبي حنيفة هل يكتفي بقوله: بعت أو اشتريت كما في الأب أو يحتاج إلى الشطرين؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، وذكر الناطفي رحمه الله في «واقعاته» : أنه يحتاج فيه إلى الشطرين بخلاف، وذكر للفرق ثمة وجهاً فقال: ولاية الأب تثبت شرعاً بلا قبول، فكذا يجوز بيعه بلا قبول، وولاية الوصي ما يثبت شرعاً بلا قبول، فكذا لا يجوز بيعه بلا قبول. قال الناطفي ثمة: رأيت هذه المسألة فيما علق على ابن الحسن، فكأنه أبو الحسن الكرخي رحمه الله.
وفي «واقعات الناطفي» أيضاً: الوصي إذا أمره إنسان أن يشتري أشياء من مال الصغير، فاشتراه له لا يجوز، بخلاف ما إذا اشتراه لنفسه على قول أبي حنيفة رحمه الله، والفرق: أنه إذا اشتراه فحقوق العقد من جانب اليتيم راجع إلى اليتيم، ومن جانب الوصي راجع إليه، فلا يؤدي إلى التضاد، وإذا اشترى لغيره فحقوق العقد من جانب اليتيم راجعة إلى الوصي ومن جانب الآمر كذلك فيؤدي إلى التضاد.
الصبي المأذون إذا باع من مال نفسه فهو كبيع الوصي بنفسه، فقد اعتبر في تصرفه مع الوصي جهة النيابة عن الوصي تولاه بنفسه، ولو باع الصبي المأذون من الأجنبي بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة في تصرفه مع الأجنبي جهة المالكية والأصالة لا جهة النيابة، فإن الوصي لو باع مال الصغير من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز، هما اعتبرا جهة النيابة في تصرفه مع الأجانب أيضاً حتى قالوا: لو باع الصبي ماله من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز ولو باع الوصي.
القاضي إذا باع مال اليتيم من نفسه ذكر في «السير» أنه لا يجوز، وأشار في المعنى(7/36)
فقال: لأن بيعه منه نوع قضاء وهو إنما استفاد القضاء من جهة غيره وما تم ذلك إلا به وبغيره، فكذا العقد الذي يعقده القاضي لا يتم إلا به وبغيره. وذكر الناطفي في كتاب «الأجناس» أن ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» من عذر جواز بيع القاضي مال اليتيم من نفسه، فكذلك قوله خاصة أما على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يجوز.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن القاضي إذا اشترى من متاع اليتيم لنفسه شيئاً، فهو بمنزلة الوصي، فإذا رفع إلى قاض آخر نظر فيه، فإن كان خيراً لليتيم أجازه وإلا لم يجزه، وأكرهُ القاضي شراءه.l
الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً ونقد الثمن من مال نفسه وأشهد على نفسه أنه إنما نقد عنه ليرجع في ماله، ذكر في بيوع «الإملاء» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: أن له الرجوع عليه، واختلفت الروايات في اعتبار وقت الإشهاد. قال في بيوع «الإملاء» : يعتبر الاشهاد وقت الشراء، وقال في «نوادر ابن سماعة» : يعتبر الإشهاد وقت نقد الثمن. وإن نقد عنه الثمن ولم يشهد على الرجوع، فإنه لا يرجع به على الأبن، نص عليه في بيوع «الإملاء» .
وفي «نوادر رستم» عن محمد رحمه الله (116أ3) إذا لم يشهد الأب على الرجوع لكن نوى الرجوع ونقد الثمن على هذه النية وسعه الرجوع فيما بينه وبين الله تعالى، ولو كان مكان الأب وصياً فله حق الرجوع ليشهد له الرجوع على ذلك أو لم يشهد، وكذلك الجواب في مهر امرأة الأبن الصغير.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى داراً لابنه الصغير، فعلى الأب أن ينقد الثمن، وإن مات قبل أن ينقده فهو في ماله خاصة ولا يرجع به في مال الأبن، قال: وما يشتري الأب يرجع به عليه يرجع بثمن الكسوة والطعام عليه، كذلك كل دين لزم الصبي في حاجته فضمنه الأب وأداه لم يرجع على الأبن استحساناً وهو متطوع فيه.
ولو اشترى لابنه داراً وأشهد عند عقده البيع أنه يرجع عليه بالثمن كان له أن يرجع به عليه، وكذلك كل شيء يشتريه مما لا يجبر الأب عليه، وكذلك كل دين كان على الأبن، فضمنه الأب يريد أنه إذا أشهد أنه يرجع عليه إذا أداه.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أن ما اشتراه الأب لابنه إن كان شيئاً يجبر الأب عليه مما كان طعاماً أو كسوة ولا مال للصغير لا يرجع الأب عليه، وإن أشهد أنه يرجع عليه كان له أن يرجع.
وإن لم يشهد لا يكون له أن يرجع وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا اشترى داراً أو ضيعة أو مملوكاً لابنه الصغير إن كان للابن مال، فالرجوع على التفصيل الذي ذكرنا، وإن لم يكن له مال لا يرجع عليه أشهد عليه أو لم يشهد، وكان هذا صلة منه لابنه. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الأحب إذا اشترى لابنه الصغير في صحته ونقد الثمن في مرض موته لا يرجع على الابن بشيء؛ لأن الذي تبرع به الأب على الابن الثوب وقد أمضاه في حالة الصحة.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: الأب إذا باع لابنه(7/37)
الصغير ما ثمنه عشرة بدرهم جاز، وإن اشترى له ما ثمنه درهم بعشرة لا يجوز، وفي «الأصل» سوى بين البيع والشراء فلم يجوزهما في هذه الصورة وأشباهها؛ لأن تصرف الأب مقيد بشرط عدم الضرر فقد تحقق الضرر ههنا. وعلى هذه الرواية فرق بين البيع والشراء، فلم يجوز الشراء لمكان التهمة؛ لأن الأب يضيف الشراء إلى نفسه من حيث إنه اشترى لنفسه، فلما وجد فيه عيباً أظهر الشراء للابن، ومثل هذه التهمة لا يجوز ... في جانب البيع، والداعي إلى النفاذ موجود لينفذ.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في رجل باع عبد ابنه الصغير من رجل بألف درهم، ثم قال في مرضه: قد قبضت من فلان الثمن، ثم مات في مرضه لم (أقبل) إقراره، علل فقال: لأنه كان ضمن لابنه ألف درهم في مرضه أو أقر بها له في ماله، ومعنى هذا الكلام أن الأب بإقراره بالاستيفاء من المشتري أقر للابن بمقدار الثمن في ماله، وإقرار المريض لابنه لا يرجع، فصار وجوده كعدمه، وكان للوصي أن يأخذ الثمن من المشتري كما لو لم يوجد هذا الإقرار من المريض. ولو كان قال في مرضه: قد قبضتها من فلان فضاعت كان مصدقاً، ولو قال: قبضتها واستهلكتها لم يكن مصدقاً ولا يبرأ المشتري منها؛ لأنه لما ادعى الضياع مما أقر للابن شيئاً من ماله بخلاف ما إذا ادعى الاستهلاك، ولا يكون للمشتري إذا أخذ منه الثمن أن يرجع به على الأب أو في ماله؛ لأن ذلك الإقرار قد بطل، وإقرار قد بطل لا شيء عليه الحكم.
وفي «المنتقى:» اشترى من ابنه الصغير عبداً والعبد في يد الأب، فمات العبد فهو من مال الأبن حتى يأمره الوالد بعمل أو بقبضه بمنزلة عبد اشتراه وهو وديعة عنده، وهذا؛ لأن العبد في يد الأب أمانة وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء.
وفي الباب الثاني من بيوع «الجامع» : إذا أرسل غلامه في حاجته، ثم باعه من ابنه الصغير جاز ولا يصير الأب قابضاً عن ابنه بمجرد البيع، حتى لو هلك قبل أن يرجع إلى الوالد، فذلك من الوالد، بخلاف ما إذا وهبه منه حيث يصير قابضاً له عن الأبن بقض الهبة حتى لو هلك الغلام قبل أن يعود، فذلك من مال الولد، وإن لم يمت الغلام في مسألة البيع حتى رجع إلى الوالد وتمكن من قبضه صار قابضاً له عن ولده، وإن كان الولد لم يبلغ بعد، وإن لم يرجع الغلام حتى بلغ الولد، ثم رجع إلى الولد وتمكن الوالد من قبضه لا يصير قابضاً له عن ولده حتى لو هلك هلك على الوالد.
والأصل أن الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً، فما دام الأبن صغيراً فحق القبض للأب، وإذا بلغ الأبن كان الأب قد اشترى من الأجنبي فحق القبض للأب، وإن كان قد اشترى من نفسه فحق القبض للابن.
وفي «الهاروني» : إذا باع الأب داره من ابنه في عياله والأب ساكن فيها لا يصير الأب قابضاً حتى يفرغها الأب، حتى لو انهدمت الدار والأب فيها يكون من مال الأب،(7/38)
وكذلك لو كان فيها متاع الأب أو عياله وهو غير ساكن فيها، فإن فرغها الأب صار الابن قابضاً، فإن عاد الأب بعد ما تحول عنها فسكنها أو جعل فيها متاعاً له أو سكنها عياله وكان عيناً صار بمنزلة الغاصب.
وفيه أيضاً: لو باع الأب من ابنه الصغير جبة له وهي على الأب أو طيلساناً هو لابسه أو خاتماً في أصبعه لا يصير الابن قابضاً حتى ينزع الأب ذلك، وكذلك الدابة والأب راكبها حتى ينزل عنها. ولو قال الأب: اشهدوا أني قد اشتريت جارية ابني هذه بألف درهم وابنه صغير في عياله جاز الشراء وصار الأب قابضاً للجارية إن كانت في يده والثمن دين عليه لا يبرأ إلا بالطريق الذي قلنا.
قال في «الزيادات» : وصي اليتيمين إذا باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، أما على قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف فلا والوصي إنما يقوم بالعقد في الطرفين باعتبار منفعة ظاهرة لا يظهر النفع في حق أحدهما، إلا بظهور الضرر في حق أحدهما. وكذلك لو أذن الوصي لهما في التصرف فباع أحدهما مالاً من الآخر لم يجز، وكذلك لو أذن لعبدين (أو) يتيمين بالتصرف فباع أحدهما ماله من الآخر لم يجز؛ لأنهما استفادا الولاية من جهة الوصي، والوصي لو فعل ذلك بنفسه لا يجوز فكذا إذا فعل من استفاد الولاية من جهته.
وفيه أيضاً: إذا وكل الأب رجلاً ببيع عبد له من ابنه أو بشراء عبد الابن للأب والابن صغير لا يعبر عن نفسه، ففعل الوكيل ذلك لا يجوز لما ذكرنا أن الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات، وإنما ورد الشرع به في حق الأب بجعل الأب رسولاً بحكم كمال الشفقة، وليس للوكيل مثل تلك الشفقة فلا يصير رسولاً فيكون العقد قائماً بعبارة واحدة، فإن كان الأب حاضراً فقبل من الوكيل (116ب3) جاز وتكون العهدة من جانب الابن على الأب ومن جانب الأب على الوكيل، وقيل على العكس؛ لأن جعل الأب متصرفاً عن نفسه أولى؛ لأن الأصل في الإنسان (أن تكون) متصرفاً لنفسه والأول أصح؛ لأن تصرف الأب عن نفسه مباح وعن الصغير فرض وإيقاع تصرفه عنه أولى من إيقاعه عما هو مباح.
ولو كان له ابنان وكل رجلاً حتى باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، قال في «الكتاب» : ألا ترى أنهما لو كانا كبيرين، فوكلا رجلاً حتى باع أحدهما من الآخر لا يجوز، وهذا جواب عن سؤال لم يذكر أن الوكيل قائم مقام الموكل. والأب لو باع مال أحدهما من الآخر يجوز، فإذا وكل رجلاً بذلك يجب أن يجوز، أشار بما ذكر من الاستشهاد إلى أنه يجوز أن يملك إنسان مباشرة تصرف نفسه ولا يملك تفويضه إلى غيره.
ولو وكل الأب رجلاً بالبيع ووكل رجلاً آخر بالشراء فتبايع الوكيلان يجوز؛ لأن العقد قائم بالاثنين وزالت الاستحالة، وذكر هشام أن الأب إذا اشترى عبد ابنه الصغير لنفسه شراء فاسداً فمات العبد قبل أن يستعمله الأب أو يقبضه أو يأمره بعمل مات من مال الصغير لما عرف أن البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل يتوقف ذلك على القبض،(7/39)
وبالتخلية لا يجعل قابضاً بل يشترط القبض الحسي الذي يصير به غاصباً مال الغير حتى يصير مضموناً بالقيمة فيملكه بها، وذكرنا قبل هذا أن بالتخلية في البيع الفاسد يقع القبض.
ولو باع عبده من ابنه الصغير بيعاً فاسداً، ثم أعتقه الأب جاز عتقه؛ لأنه لا يخرج عن ملك الأب بمجرد البيع، فقد أعتق ملك نفسه فينفذ عتقه.
وفي نوادر ابن سماعة عن محمد: لا يجوز (تفريع هلى قوله: ثم أعتقه الأب جاز عتقه) أو ولد المعتق عليه حتى تمضي سنة منذ يوم صار معتوقاً، قال: ولا أحفظ فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف شيئاً، قال ابن سماعة: كان محمد رحمه الله وقت ذلك شهراً، ثم بعده رجع عن ذلك ووقته لسنة، وكل جواب عرفته في المعتق فهو الجواب في المجنون؛ لأنهما يستويان في حق الأحكام.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: وصي يتيم باع غلاماً لليتيم قيمته بألف درهم على أن الوصي بالخيار، فإن زادت قيمة العبد في مدة الخيار فصارت ألفي درهم فليس للوصي أن ينفذ البيع، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي «الأمالي» عن محمد: رجل مات وعليه دين وترك عبداً، لا مال له غيره وترك ابناً صغيراً أو كبيراً، لا وارث له غيره، وقيمة العبد أكثر من الدين، فباع القاضي العبد بغير مائة واشترط الخيار ثلاثاً، فأجاز الابن البيع وهو كبير، فإجازته باطلة إلا أن يقضي الدين، وإن مات الابن في وقت الخيار انتقض البيع.
ولو أن وصي يتيم باع عبداً لليتيم واشترط الخيار ثلاثة أيام، ثم مات اليتيم في وقت الخيار جاز البيع، وكذلك الوالد، وعلل فقال: لأن العبد ههنا بيع للصغير، وفي الوجه الأول بيع لغير مولاه، أراد بالوجه الأول فصل بيع القاضي.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : اشترى الأب لابنه الصغير من مال الصغير ذات رحم محرم من الصغير لا ينفذ على الصغير؛ لأن تصرف الأب من مال الصغير مقيد بقيد النظر والأحسن، وليس من النظر للصغير أن يشتري له من يعتق عليه، فلا ينفذ على الصغير ولكن ينفذ على الأب. وكذلك لو اشترى لابنه الكبير المعتوه من مال المعتوه ذات رحم محرم من المعتوه لا ينفذ على المعتوه ولا ينفذ على الأب فبعد ذلك إن كان المشترى قريباً من الأب عتق على الأب بحكم قرابته، وإن كان أجنبياً عنه كأم الصغير والمعتوه أو اختهما لا يعتق عليه، والوصي فيما ذكرنا نظير الأب لكونه قائماً مقام الأب.
ولو اشترى الأب والوصي للمعتوه جارية قد كان استولدها بحكم النكاح، القياس أن لا يجوز على المعتوه، وبالقياس أخذ محمد.
ووجهه أنه لو صح هذا الشراء على المعتوه تضرر به المعتوه، وفي الاستحسان: يجوز على المعتوه بشراء واحدة من ذلك؛ لأن فيه نظراً للمعتوه؛ لأنه يدخل في ملكه من يطؤها ويقوم بخدمته، وشراء هذه أنفع له؛ لأنها أشفق عليه وأهدى إلى خدمته. والمحققون من مشايخنا قالوا: وجه القياس: لأن هذه الحاجة تندفع بالمنكوحة وبالجارية(7/40)
التي ينكر بيعها، فلا حاجة إلى شراء هذه، وفيه ضرر بالمعتوه على نحو ما بينا.
واستقبح محمد رحمه الله قول من أخذ بالاستحسان، وقال: من أخذ بالاستحسان يجوز هذه التصرف في الواحدة لا فيما زاد عليها، وهذا أمر قبيح؛ لأن هذا التصرف إن كان داخلاً في ولاية الأب لم يتقيد بالواحدة، وإن لم يكن داخلاً لم يتقيد في الواحدة. ومشايخنا أجابوا عن هذا وقالوا: جواز هذا الشرط ودخوله في ولاية الأب والوصي باعتبار حاجة المعتوه بالواحدة تندفع حاجته، فلا يجوز شراء غيرها، وروي عن محمد في «الأمالي» أنه رجع إلى الاستحسان.
ومما يتصل بهذا الفصل
المريض إذا باع ما يساوي ألف درهم بخمسائة من الأجنبي ولا مال سواه يصير محابياً بقدر خمسمائة فتنفذ المحاباة بقدر الثلث، ثم يقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام ثلثي الألف ولا ترد شيئاً من المبيع، وإما أن تفسخ العقد، وهذا إذا لم يكن على الميت دين، فإن كان على الميت دين محيط بماله، فإنه لا تنفذ محاباته في حق الغرماء أصلاً، لا فيما زاد على الثلث ولا بقدر الثلث، ولا يتحمل منه لا الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير، غير أن في حق الغرماء لا يصح أصلاً، وفي حق الوارث يعتبر من الثلث، وهذا لأن المريض مرض الموت يتصرف في محل يتعلق به حق الغير وهو الغريم والوارث، ولم يؤخذ منهم الأمر بالتصرف، إما لأنه لا يتفرغ لذلك بشغله بنفسه، أو لأنه لا يقدر على ذلك إلا أن الشرع رخص له في التصرف على وجه يؤدي في إبطال حق الغير، وبالرخص قد يتعلق حقان وبما يتعذر الاحتراز عنه بخلاف المطلوب فلا يتحمل منه لا اليسير ولا الفاحش.
وإذا باع عيناً من أعيان ماله من وراث عند أبي حنيفة لا يصح أصلاً من غير إجازة باقي الورثة سواء حابى أو لم يحاب، باع بمثل القيمة أو بأضعاف القيمة؛ لأنه وصية ولباقي الورثة حق القبض، وعندهما يصح البيع بمثل قيمته وبأضعافها. والوارث إذا باع عيناً من أعيان ماله من الورثة للمريض بمثل القيمة، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة في «المأذون الكبير» لشيخ الإسلام في باب إقرار العبد لمولاه، فإن باع المريض من وارثه شيئاً حابى. ذكر شيخ الإسلام في شرح المأذون: أن عندهما لا تصح المحاباة أيضاً أجازت الورثة أم لم يجيزوا، ويقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام القيمة، وإلا يفسخ.
وفي «الزيادات» : أن نفس البيع من الوارث لا يصح من غير إجازة (117أ3) الورثة عند أبي حنيفة، وعندهما يصح من غير إجازة الوارث والمحاباة مع الوارث لا تصح إلا بإجازة باقي الورثة وهو الصحيح؛ لأن المحاباة وصية بلا خلاف، والوصية للوارث لا يجوز إلا بإجازة بقية الورثة بلا خلاف.(7/41)
الفصل التاسع عشر: في كراهة التفريق بين الرقيق
الأصل أن من ملك شخصين بينهما قرابة مؤكدة بالحرمة، فلا ينبغي أن يفرق بينهما في البيع إلا إذا كان أحدهما صغيراً به ورد الأثر والمعنى دفع الضرر عن الصغير؛ لأن الصغير يستأنس بالكبير، والكبير يقوم تبعاً هذه، ففي التفريق بينهما إيحاش الصغير وإضرار به، وكذلك إذا كانا صغيرين؛ لأن كل واحد منهما يستأنس بصاحبه ويستوحش بمفارقته، وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما؛ لأن كل واحد من الكبيرين يقوم تبعاً هذه، ولا يلتفت إلى تعاهد الآخر ولا يستأنس به، فليس في التفريق بينهما إلحاق الضرر بأحدهما، وهذا الحكم في القرابة المؤكدة بالمحرمية حتى إذا اجتمع في ملك رجل زوجان لا بأس بأن يفرق بينهما، سواء كانا صغيرين أو كبيرين، أو كانا أحدهما صغيراً والآخر كبيراً، وكذا إذا اجتمع في ملك رجل شخصان هما ذوا رحم وليسا بذوي محرم كابني الخال وابني العم فلا بأس بالتفريق بينهما، وكذا إذا كانا ذوي محرم بالرضاع أو بالصهرية وليسا بذي رحم فلا بأس بالتفريق؛ لأن كراهة التفريق عرفت بالآثار وإنها وردت في القرابة المؤكدة بالمحرمية، فهذه الكراهية تمتد إلى وقت البلوغ في ظاهر مذهب أصحابنا وجد الرضا بالتفريق أو لم يوجد.
فبيانه فيما روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: رجل له أمة وابنتها وهي لم تبلغ فأراد بيعها بموضع ورضيت الأم بذلك والأبنة قال: أكره التفريق بينهما، وكذا إذا كان ثمة أبوان ورضيا بذلك.
وقال بعض مشايخنا: إذا راهق الصغير ورضيا أن يفرق بينهما، فلا بأس بالتفريق بينهما وعن أبي يوسف روايتان: في رواية إذا رضوا بذلك فلا بأس بالتفريق ولم يشترط على هذه أن يكون الصغير مراهقاً. وفي «نوادر بشر» عنه إذا رضوا بذلك جميعاً والأبنة مراهقة فلا بأس به.
وإذا اجتمع مع الصغير أبواه فلا ينبغي أن يفرق بينه وبينهما ولا بينه وبين أحدهما؛ لأن نفعهما مختلف وشفقتهما متفاوتة.
وإذا اجتمع مع الصغير أمه وخالته، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع الخالة؛ لأن الأم أقرب وشفقتها مغنية له عن غيرها إلا أن تكون الخالة صغيرة فحينئذ يكره بيع الخالة لما فيه من التفريق بينها وبين أختها. وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل أبيه أو من قبل أمه، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل ابيه أو قبل أمه فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو أخته أو أخوه فلا بأس بأن يبيع الأخ والأخت والجدة من قبل الأم أو الأب نظير الأم حتى إذا اجتمع مع الصغير جدته وعمته أو خالته أو أخوه أو أخته، فلا بأس بأن يمسك الجدة ويبيع من سواها، ذكر هذه المسائل على هذا الترتيب في «الزيادات» . والحاصل أن على رواية(7/42)
«الزيادات» إذا كان مع الصغير أمه لا بأس بأن يمسك الأم مع الصغير ويبيع من سواها إلا الأب فإنه لا يبيع الأب وإن كان مع الصغير أمه.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن الصغير إذا كان معه أمه أو عمته هل يبيع العمة قال: لا، وإذا كان مع الصغيرة أمها وأخوات لأب لا يبيع واحدة منهن حتى تحبل أو تحيض أو تستكمل سبعة عشر سنة.
وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: أفرق بين الصبي وجميع قرابته إذا كان معه أبوان، وإذا كان معه أحدهما فرق بينه وبين من كانت قرابته من قبل الحمى دون من كانت قرابته من الميت حتى أنه إذا كان مع الصغير أبوه وخاله لم أبع الخال، وإن كان مع الأم عمة لم أبع العمة.
قال في «الزيادات» : وإذا كان مع الصغير أخ لأب لأم لا يبيع واحداً منهما، وكذلك إذا كان مع الصغير أخت لأب وأخت لأم لا يبيع واحدة منهما؛ لأن جنس القرابة يختلف منفعتها متفاوتة فلا ينقضي حق الصغير مع أحدهما فيتوهم الضرر، وإن كان معهم أخ لأب وأم في المسألة الثانية لا بأس بأن يمسك الأخ لأب وأم في المسألة الأولى، والأخت لأب وأم في المسألة الثانية، ويبيع من سواه؛ لأن الأخ لأب وأم والأخت لأب وأم أقرب إلى الصغير، وشفقة الأقرب مغنية عن الأبعد.
والحاصل أنه: إذا اجتمع مع الصغير في ملك رجل قرابتان، فإن كانت أحديهما أقرب من الأخرى لا بأس بأن يمسك الأقرب ويبيع الأبعد، وإن كانتا في القرب إلى الصغير على السواء إن كانتا من الجانبين نحو أن يكون أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم لا يجوز له أن يفرق بين الصغير والكبيرين واحد منهما، فإن الذي من قبل الأب قائم مقام الأب والذي من قبل الأم قائم مقام الأم، وكما يكره التفريق بين الصغير وبين والديه يكره التفريق بينه وبين من قام مقامهما. وإن كانت من جانب واحد فلا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك الآخر استحساناً حتى إذا كان مع الصغير أخوان كبيران لا يبيع واحداً منهما ويمسك الآخر قياساً، وفي الاستحسان لا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك آخر مع الصغير؛ لأن جنس القرابة ونفعها متحد.
وذكر في البيوع من «الأمالي» وكره التفريق بين الصغير والأخوة المتفرقة والأخوات المتفرقة كما هو القياس لجواز أن يكون منفعة البعض أوفر فيبقى توهم الضرر، وذكر أيضاً أنه إذا كان له أبوان وأخ يكره بيع الأخ لجواز أن يكون الأخ أشفق. والصحيح ما ذكر في «الزيادات» ؛ لأنه تعذر اعتبار التفاوت والتساوي في الشفقة أمر باطن فيعتبر التفاوت والتساوي في القرابة لكونها شيئاً داعياً إلى الشفقة حتى لا تعتبر القرابة البعيدة مع القرابة القريبة، وعند اختلاف الجهة اختلف السبب وتعذر الترجيح فاعتبر كل سبب على حدة.
وإذا اجتمع مع أبوين له بأن كان جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم أسرا وأسر الولد معهما ففي القياس على الاستحسان الذي ذكرنا في(7/43)
الأخوين لا بأس بأن يبيع واحداً منهما، وفي الاستحسان لا يبيع واحداً منهما بخلاف الأخوين، والفرق: أن الأب في الحقيقة أحدهما وهو مشتبه فلو جوزنا بيع أحدهما ربما يبيع الأب ويمسك الأجنبي مع الصغير وفيه ضرر بالصغير بخلاف الأخوين؛ لأن كل واحد منهما أخ على الحقيقة، فإذا باع أحدهما كان الباقي مع الصغير أخاً على الحقيقة وبه يصير حق الصغير (117ب3) مقتضياً سعراً هو الكلام في حكم كراهة التفريق في البيع.
وأما الكلام في حكم جواز البيع وفساده فنقول: إذا فرق بين الصغير وبين والده أو والديه ومن سواهما من الأقارب في البيع فالبيع جائز في ظاهر الرواية.k
عن أبي يوسف: أن البيع باطل في الكل، وعنه رواية أخرى: أنه فرق بين الوالدين والمولودين وجوزه فيما عداه يأمن القرابات لقوة قرابة الولاد وضعف قرابة المتجردة عن الولادة، وجه رواية التسوية أن كراهة التفريق لدفع الضرر عن الصغير وفي حق هذا المعنى قرابة الولادة والقرابة المتجردة عن الولادة على السواء، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن ركن التمليك صدر من أهله مضافاً إلى محله، والنهي عن البيع إنما كان مجاوراً ينفك (عن) البيع، وهو إلحاق الوحشة بالصغير ومثل هذا لا يؤثر في فساد البيع كالبيع وقت النداء أو ما أشبهه. وإذا كان التفريق بحق يستحق في أحدهما لم يكن، وكذلك يجوز أن يلحق أحدهما دين فيباع فيه أو يجني أحدهما جناية؛ لأن المنع عن التفريق لدفع الضرر عن الصغير، ولا يجوز دفع الضرر عن شخص على وجه يلحق الضرر بشخص آخر.
وعن أبي حنيفة في فصل الجناية يستحب الفداء نظراً للجانبين، وكذلك لو اشتراهما فقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً رد المعيب خاصة، وقال أبو يوسف: يردهما؛ لأنهما في معنى كراهة التفريق كشيء واحد.
وجه «ظاهر الرواية» : أن الميت لحق الرد بالعيب وهو مقصور على المعيب حقيقة وحكماً، فلم يجز رد الآخر بعد تمام الصفقة، أكثر ما فيه أن فيه تفريقاً بينهما، ولكن بحق مستحق في أحدهما فيجوز كما لو جنى أحدهما أو لحق أحدهما دين، ولا يكره عتق أحدهما ولا كتابته؛ لأن كراهته للبيع لأجل التفريق ولا تفريق في الإعتاق.
ولو باع أحدهما بسمة للعتق كره عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد، والصحيح قول أبي حنيفة أن البيع بسمة ليس ببيع بشرط العتق، فإن البيع بشرط العتق فاسد لكنه ميعاد بينهما والوفاء بالوعد ليس بلازم حتى لو باعه ممن قال: إن اشتريته فهو حر لا يكره البيع بالاتفاق.
وفي «المنتقى» : لو باع أحدهما ممن يعتقه لم يجز في قول أبي يوسف، فإن قبضه المشتري وأعتق ضمن القيمة. ولو باع أحدهما من رجل، ثم باع الآخر من ذلك الرجل، قال أبو يوسف: البيع وقع فاسداً، فإذا اجتمعا في ملكه استحسنت أن أجيزهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى عبداً صغيراً وأمه عند البائع فأعتقه المشتري، فالبيع جائز وعليه الثمن، وكذلك لو مات عنده قال:(7/44)
إني إنما كنت انقض البيع لتفريقه بينهما، فإذا ذهب التفريق جاز البيع، وكذلك لو ماتت الأم عند البائع أو أعتقهما مولاها يجوز البيع، وكذلك لو باع المشتري الصغير من رجل فأعتقه. قال: والقياس في العتق والموت أن تلزمه القيمة الصغير ولكن يستحسن أن يجعله بالثمن إذا ذهب الفرقة.
الفصل العشرون: في الإقالة
الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الإقالة تجعل فسخاً في حق المتعاقدين في الصور كلها، فإن أمكن تصحيحها فسخاً لا تصح أصلاً، بيان هذا الأصل من المسائل: إذا باع جارية بألف درهم وتقايلا العقد فيها بألف درهم فعلى قوله صحت الإقالة وإن تقايلا بألف وخمسمائة صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة؛ لأن في الألف وخمسمائة ذكر الألف فيمكن تصحيحها إقالة بالألف بالغاً مبلغ الزيادة، وإن تقايلا بخمسمائة فإن كان العبد قائماً في يد المشتري على حاله لم يدخله عيب صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة، فيجب على البائع رد الألف على المشتري، وإن دخله عيب تصير إقالة بخمسمائة ويصير المحطوط بإزاء نقصان العيب؛ لأنه لما احتبس عند المشتري جزء من المبيع جاز أن يحتبس عند البائع بعض الثمن.
بعض مشايخنا قالوا: تأويل المسألة أن تكون حصة العيب خمسمائة أو أقل أو أكثر مقدار ما يتغابن الناس فيه، ولكن جواب «الكتاب» مطلق.
ولو كانت الإقالة بجنس آخر ذكر عامة الكتب أنها تصح إقالة عند أبي حنيفة بالثمن الأول ويلغو ذكر جنس آخر، وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة تبطل الإقالة في هذه الصورة، وإن ازدادت الجارية ثم تقايلا، فإن كان قبل القبض صحت الإقالة سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة؛ لأن الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ منفصلة كانت أو متصلة، وإن كانت الزيادة بعد القبض إن كانت منفصلة فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة؛ لأنه تعذر تصحيحها فسخاً بسبب الزيادة المنفصلة مانعة فسخ العقد حقاً للشرع، وأبو حنيفة لا يصحح الإقالة إلا بطريق الفسخ، وإن كانت الزيادة متصلة فالإقالة صحيحة عنده ولأن الزيادة المتصلة عند أبي حنيفة لا تمنع الفسخ حينما وجد الرضا ضمن له الحق في الزيادة ببطلان حقه في الزيادة وقد وجد الرضا لما تقايلا، فأمكن تصحيحها فسخاً فيصح فسخاً عنده.
والأصل عند أبي يوسف رحمه الله: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما قليل البيع بأن تقايلا بمثل الثمن الأول وكان العقد قابلاً للفسخ، ففي هذه الصورة تجعل الإقالة فسخاً في حقهما أمكن اعتبارها بيعاً جديداً أو لم يمكن بأن كانت الإقالة في المنقول قبل القبض وإذا وجد منهما دليل البيع وأمكن جعلها تبعاً سواء أمكن(7/45)
جعلها فسخاً أو لم يمكن أن يجعل بيعاً وأمكن أن يجعل فسخاً، كما لو تقايلا في المنقول قبل القبض أو تقايلا في بيع العرض بعد هلاك أحدهما، فالإقالة في هذه الصورة تجعل فسخاً؛ لأنه تعذر جعلها بيعاً، وإن لم يمكن أن تجعل بيعاً ولا فسخاً تبطل كما في بيع العرض بالدراهم إذا تقايلا بعد هلاك العرض، وكما لو تقايلا في المنقول قبل القبض على خلاف جنس الثمن الأول.
بيان هذا الأصل من المسائل: إذا تقايلا قبل قبض الجارية (والجارية) قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة أو نقصان أو تغيرت إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول، أو بجنس الثمن الأول ولكن زيادة أو نقصان؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ فيجعل فسخاً، وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا بعد القبض فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة ولا نقصان أو تغيرت (118أ3) إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول أو بجنس الثمن الأول، ولكن لزيادة أو نقصان اعتبارها بيعاً وأمكن اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ على كل حال. وكذلك الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ فيجعل فسخاً.
وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا قبل القبض.
وإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول، فالإقالة عنده صحيحة فسخاً؛ لأنه لم يوجد دليل البيع والعقد قابل للفسخ فتجعل الإقالة فسخاً، إذا سكتا عن الثمن الأول يصير مذكوراً مقتضى الإقالة ما يكون بالثمن الأول.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي يوسف تجعل الإقالة بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهوالزيادة في الثمن أو النقصان عنه، وأمكن جعلها بيعاً فجعلناها بيعاً حتى لا تلغو الزيادة أو النقصان. وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول تجعل بيعاً عنده؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن اعتباره بيعاً؛ لأن بيع المنقول بعد القبض جائز فجعلناها بيعاً.
وإن تغيرت الجارية إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل المشتري أو بآفة سماوية، فإن تقايلا بمثل الثمن الأول أو سكتا عن ذلك تجعل الإقالة فسخاً عنده غير أن البائع إذا لم يعلم بالعيب وقت الإقالة كان له الخيار إن شاء أمضى الإقالة وإن شاء رد، وإن علم بالعيب فلا خيار له، وهذا؛ لأن البائع في إقالة بيع العرض بالدارهم بمنزلة المشتري عند الشراء وإن تغيرت الجارية إلى زيادة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والأرش والعقر تجعل الإقالة بيعاً؛ لأن تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن(7/46)
اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب في هذا والجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء؛ لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ عند وجود الرضا ممن له الحق وفي الزيادة وقد وجد الرضا ههنا لما تقايلا.
والأصل عند محمد: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما دليل البيع بأن تقايلا بجنس الثمن الأول وكان البيع قابلاً للفسخ. وإن وجد منهما دليل البيع لم يمكن أن تجعل فسخاً وأمكن جعلها بيعاً رواية واحدة، كما لو تقايلا بعد القبض بالثمن الأول ولكن بعد الزيادة المنفصلة، أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثمن الأول. وإن وجد منهما دليل البيع جعلهما بيعاً وفسخاً كما لو تقايلا بعد القبض والجارية قائمة على حالها بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان. وعن محمد روايتان وفي رواية كتاب المأذون يجعلها بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة يجعلها فسخاً وإن لم يمكن جعلها بيعاً ولا فسخاً تبطل الإقالة.
بيان هذا الأصل من المسائل
إذا تقايلا قبل قبض الجارية تصح الإقالة ويكون فسخاً عند محمد إذا حلصت الإقالة بالثمن الأول أو على جنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان، وإن حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول تبطل الإقالة عنده على نحو ما قلنا.
وعند أبي يوسف رحمه الله: وإن تقايلا بعد قبض الجارية فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول وقد سكتا عن الثمن الأول يجوز الإقالة عنده فسخاً على نحو ما قلنا لأبي يوسف، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان عن محمد في الصورة روايتان، ففي رواية كتاب المأذون تصح الإقالة بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة تصح فسخاً؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن جعله بيعاً وفسخاً وفي مثل هذه الصورة عن محمد روايتان. وإن تقايلا على خلاف الثمن الأول صحت الإقالة عنده بيعاً رواية واحدة؛ لأنه وجد دليل البيع وتعذر جعلها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول وأمكن جعلها بيعاً وفي مثل هذه الصورة تصح الإقالة بيعاً عنده رواية واحدة.
وإن كانت الجارية قد تغيرت عن حالها إلى زيادة أو نقصان إن كان التغير إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل أجنبي أو بآفة سماوية، فالجواب فيه عند محمد رحمه الله نظير الجواب عند أبي يوسف رحمه الله، إن تغيرت الجارية إلى زيادة فإن كانت الزيادة منفصلة تصح الإقالة عنده بيعاً؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية(7/47)
قائمة على حالها لم تتغير؛ لأن الزيادة المتصلة لا تمنع صحة الفسخ عنده سواء وجد الرضا ممن له الحق في الزيادة أو لم يوجد، وإذا كان الفسخ لا يتعذر بسبب الزيادة المتصلة صار وجودها والعدم بمنزلة.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب المأذون إقالة العبد المأذون له في التجارة: إذا باع(7/48)
بألف درهم، ثم إن العبد أقال البيع في الجارية وجعلها على وجهين: أما إن كانت الإقالة قبل قبض المشتري الجارية أو بعد قبضه إياها، وجعل كل وجه على وجهين: أما إن كان الثمن موهوباً أو غير موهوب. فإن كانت الإقالة قبل قبض الجارية والثمن غير موهوب تصح الإقالة فسخاً عندهم إلا في فصل، وهو ما إذا حصلت الإقالة بخلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك تبطل الإقالة عندهم أما في سائر الفصول؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً جديداً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وأمكن جعلها فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب للمأذون؛ لأنه لا يكون فسخاً بغير ثمن فيجعل فسخاً، وأما إذا حصلت الإقالة بخلاف الثمن الأول فلأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن في الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول فيبطل ضرورة وإن كان الثمن موهوباً للمأذون، فالإقالة باطلة عندهم جميعاً في الفصول كلها؛ لأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً لحصولها قبل القبض في المنقول تعذر اعتبارها فسخاً لما كان الثمن موهوباً؛ لأنه يكون فسخاً بغير ثمن والمأذون لا يملك ذلك؛ لأنه يكون تبرعاً.
وإن تقايلا قبل قبض الجارية بعد ما تغيرت الجارية إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها؛ لأن الزيادة قبل القبض والنقصان قبل القبض لا يمنع الفسخ على كل حال، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة، فتصح الإقالة فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب إلا إذا حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك لا تصح الإقالة أصلاً، وإن كان الثمن موهوباً للمأذون لا تصح الإقالة في الفصول كلها عندهم جميعاً.
وأما إذا تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا والثمن غير موهوب، فإن كانت الجارية قائمة على حالها، إن تقايلا بالثمن الأول أو سكتا عن ذكر الثمن الأول تصح الإقالة فسخاً عنده؛ لأنه لم يوجد دليل البيع وأمكن اعتبارها فسخاً، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن (118ب3) إلى زيادة أو نقصان تصح الإقالة فسخاً عند أبي حنيفة، ويلغو ذكر الزيادة والنقصان على قول أبي يوسف بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهو ذكر الزيادة أو النقصان وأمكن اعتبارها بيعاً وفسخاً، فجعلناها بيعاً حتى لا تبطل الزيادة أو النقصان، وعند محمد في هذه الصور روايتان.
وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تبطل الإقالة لتعذر اعتبارها فسخاً، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: تصح الإقالة بيعاً جديداً؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً جديداً، هذا إذا تقايلا والجارية قائمة على حالها.
فإن كانت الجارية قد تغيرت أو تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة، فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة على كل حال يعتبر الإقالة فسخاً، وتعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة المنفصلة، وعندهما تصح الإقالة بيعاً جديداً في الفصول كلها؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً. وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب كما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وإن تغيرت إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري أو بآفة سماوية، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير هذا إذا تقايلا بعد القبض والثمن غير موهوب.
فأما إذا تقايلا بعد القبض والثمن موهوب للمأذون، فإن كانت الجارية قائمة على حالها وقد تقايلا بالثمن الأول بطلت الإقالة عند أبي حنيفة؛ لأنه قد تعذر اعتبارها فسخاً إذا كان الثمن موهوباً، عندهما يجعل بيعاً؛ لأنه إن تعذر اعتبارها فسخاً أمكن اعتبارها؛ لأن البيع بعد هبة الثمن صحيح. وإن سكتا عن ذكر الثمن الأول فكذلك عند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعند أبي يوسف تصح بيعاً واضطربت روايات المأذون في هذا الفصل عند محمد، في بعض الروايات اعتبرها بيعاً كما فيما تقدم، وفي بعض الروايات الإقالة باطلة كما هو قول أبي حنيفة. ووجه هذه الرواية: أن الإقالة عند محمد إنما تجعل بيعاً عند تعذر اعتبارها فسخاً إذا أمكن جعلها بيعاً ههنا؛ لأنهما سميا ثمناً ولم يصر الثمن الأول مذكوراً يمقتضى الإقالة؛ لأن الثمن الأول إنما يصير مذكوراً بمقتضى الإقالة إذا بقي للعقد ثمن، ولم يبق ههنا ثمن فلم يصر الثمن الأول مذكوراً، والبيع لا يصح من غير تسمية الثمن بخلاف ما إذا كان الثمن غير موهوب؛ لأن هناك صار الثمن الأول مذكوراً بمقتضى الإقالة فأمكن أن يجعل بيعاً.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي حنيفة الإقالة باطلة، فعلى قولهما تصح بيعاً، وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الإقالة باطلة، وعلى قولهما تجعل بيعاً، فإذا تقايلا وقد تغيرت عن حالها والثمن موهوب، وإن تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة نحو الأرش والولد والعقر، فعند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعندهما الإقالة صحيحة بيعاً رواية واحدة إلا في فصل واحد، وهو إذا سكتا عن ذكر الثمن فإن هذا الفصل عن محمد روايتان في رواية تصح الإقالة بيعاً، وفي رواية تبطل الإقالة. وإن كانت الزيادة متصلة فهذا وما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء، وإن تغيرت إلى نقصان تعيبت بفعل المشتري أو بآفة سماوية أو ما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء عندهم جميعاً. هذه الجملة من «مأذون شيخ الإسلام خواهرزاده» رحمه الله.
وفي «القدوري» : الإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، قال أبو يوسف رحمه الله: الإقالة بيع وإلا إذا تعذر فتجعل فسخاً، وقال محمد: هو فسخ إلا إذا تعذر فيجعل بيعاً، وقال زفر: هو فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما.
وفي «المنتقى» قال محمد: إن الإقالة بعد القبض وقبل القبض مناقضة وليست ببيع، وكذلك قال أبو حنيفة، ثم هذا الخلاف الذي ذكرنا فيما إذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة، أما إذا حصل بلفظ المفاسخة أو المتاركة أو الرد، فإنها لا تجعل بيعاً فإن أمكن جعلها بيعاً، وإذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة فهو بيع جديد في حق الثالث بلا خلاف حتى أن الشفيع إذا سلم الشفعة في بيع مع المشتري تقايلا البيع يتجدد للشفيع حق الشفعة واعتبرت الإقالة بيعاً جديداً في حقه، ونظائر هذا كثيرة. ثم إنما تعتبر الإقالة فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع وإنما ثبت(7/49)
بأمر زائد أو شرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا اشترى الرجل من رجل عبداً بكر من طعام وسط إلى أجل أو حالاً وتقابضا وقد كان أعطاه المشتري حنطة أجود من المشروط أو أردأ أو مثل المشروط، ثم تقايلا لا يلزمه رد المقبوض بعينه وإن كان قائماً؛ لأن الطعام في هذه المسألة ثمن ولهذا جاز الاستبدال به، والأثمان لا تتعين عند الفسخ كما لا تتعين عند البيع. وكذلك الجواب فيما إذا كان الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، وإذا لم يجب رد الطعام بعينه في هاتين الصورتين يرد مثل الذي كان مشروطاً أو يرد مثل المقبوض لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتاب نصاً، عامة المشايخ على أنه يرد مثل المشروط، وهذه الصورة ألزمه تفاوت ما بين المقبوض والمشروط وهو تفاوت ما بين الوسط والرديء بسبب تبرعه؛ لأن حقه كان في المشروط، فهو إذا تجوز بالرديء فقد تبرع بمقدار ذلك، فلو لزمه رد مثل المشروط لزمه ذلك التفاوت بسبب تبرعه وإنه لا يجوز.
ثم على قول عامة المشايخ فرق بين الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بغير قضاء وبين الرد بالعيب قبل القبض أو بعد القبض بقضاءٍ فقال: إذا كان الرد بالعيب قبل القبض كيف ما كان أو كان الرد بعد القبض بقضاء يلزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط، والفرق: أن الرد بالعيب قبل القبض بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه في حق الكل وليس ببيع جديد، ولهذا لا يتجدد للشفيع حق الشفعة. وإذا انفسخ البيع من كل وجه فيما يستقبل من الأحكام صار وجود البيع وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع ووجب على القابض رد المقبوض بعد ما ملكه بسبب صحيح لزمه رد مثل المقبوض كما في العوض كذا ههنا.
أما الإقالة والرد بالعيب بعد القبض إذا كان بتراضيهما بمنزلة بيع جديد ولهذا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإذا كان بمنزلة بيع جديد صار كأن المشتري باع العبد من البائع ثانياً بمثل الثمن المشروط في البيع؛ لأن الإقالة بناء على العقد، فإنما تصح بما كان مشروطاً في أصل البيع فكأن المشتري باع العبد من البائع بمثل الثمن الأول الذي كان مشروطاً في البيع، ولو كان كذلك كان على البائع أن يعطي المشتري مثل الثمن (119أ3) المشروط في البيع ولا يلزمه رد مثل المقبوض كذا ههنا، فإن قيل: الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ إنما اعتبر بيعاً جديداً في الثالث أما في حق المتعاقدين اعتبر فسخاً حتى أن البائع بعد الإقالة لو باع العبد من المشتري ثانياً قبل القبض يجوز، كما لو كان الرد بقضاءٍ أو قبل القبض بغير قضاءٍ ولو باعه من غيره لم يجز؛ لأنه في حق الثالث بيع جديد فصار بائعاً المبيع قبل القبض. إذا ثبت هذا فنقول: وجوب رد مثل المقبوض أو رد مثل المشروط في البيع في حق المتعاقدين فتعتبر الإقالة في هذا فسخاً وإذا اعتبر فسخاً يجب أن يعتبر الفسخ المقبوض لا بمثل ما كان مشروطاً في البيع.(7/50)
والجواب: أن الإقالة فسخ فيما بين المتعاقدين من موجبات البيع وهو ما يثبت بين البيع من غير شرط فصيرورة العين مبيعاً من موجبات البيع، فإنه يثبت من غير شرط فتعتبر الإقالة فسخاً في حق العبد فيما بينهما فيكون العبد عائداً إلى البائع بحكم الفسخ لا ببيع جديد فكان له أن يبيع العبد من المشتري قبل القبض كما لو كان الرد بقضاءٍ، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فإنما يثبت بأمر زائد أو بشرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه، وإن كان ذلك في حق المتعاقدين.
الدليل على صحة هذا مسألتان ذكرهما محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا كان لرجل على غيره ألف درهم مؤجل باعه المطلوب بذلك عبداً قبل حلول الأجل أو صالحه من ذلك على عوض، قال: يبرأ المطلوب من الدين كما لو عجل الدين، فلو أن مشتري العبد وجد بالعبد عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، قال: يعود الدين على الطالب حالاً لا مؤجلاً كأن الطالب باع العبد في المطلوب ثانياً بألف درهم، واعتبرت الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء في حق الأجل بيعاً جديداً، وإن كان من حقهما لهذا المعنى أن الأجل ليس من موجبات البيع، فإنه لا يثبت بنفس البيع، وإنما يجب بشرط زائد، وبمثله لو كان الرد بالعيب في هذه المسألة قبل القبض بغير قضاءٍ، فالدين يعود مؤجلاً؛ لأن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاءٍ، وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه، فإذا انفسخ البيع الأول من كل وجه، صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع كان الدين على المطلوب مؤجلاً.
المسألة الثانية: إذا اشترى عبداً فوجد به عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، ثم جاء رجل وادعى أن العبد له، وأقام على ذلك شاهدين أحد الشاهدين مشتري العبد، قال: لا تقبل شهادته، واعتبر هذا بيعاً جديداً في حق الشهادة؛ لأنه ليس من موجبات البيع فصار كأن المشتري باع العبد ثانياً من بائعه وشهد للمدعي بالملك، ولو كان كذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه ساعي في نقض ما تم به وبمثله لوروده بقضاء قاضي، أو بغير قضاءٍ قبل القبض تقبل شهادته واعتبر البيع منفسخاً من كل وجه، وإذا انفسخ البيع من كل وجه صار وجود البيع وعدمه سواء، ولو عدم البيع كان يقبل شهادته للمدعي فهنا كذلك، فعلم أن الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ، وإنما تعتبر فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فاعتبر شراءً جديداً في حقه كما يعتبر شراءً جديداً في حق الثالث.
إذا ثبت هذا فنقول: زيادة الجودة على المشروط في أصل البيع ونقصان الجودة ليس من موجبات البيع، فإنه لا يجب ذلك بالبيع، وإنما وجب بعارض آخر، وهو أن المشروط الجودة، أو إبراء البائع المشتري عن الجودة، وإذا لم يكن ما حصل من الجودة فللبائع من موجبات البيع اعتبرت الإقالة في ذلك بيعاً جديداً، وإن كان ذلك من حقهما، وإذا اعتبر بيعاً جديداً صار كأن المشتري باع العبد ثانياً من البائع بمثل الثمن الأول، ولو كان كذلك لا يجب على البائع رد مثل المقبوض، وإنما يجب عليه رد مثل المشروط في أصل البيع فكذا ههنا، وإذا كان فسخاً من كل وجه ظهر الفسخ في حقه كما ظهر في حق الأجل ولزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط.(7/51)
وفي «القدوري» : وقبول الإقالة على المجلس؛ لأن الإقالة نظير البيع في حق ارتباط اللفظين بالآخر فيعتبر له المجلس كما في البيع، قال: الإقالة بلفظين، أحدهما: يعبر به عن المستقبل نحو أن يقول: أقلني فيقول: أقلت، وقال محمد: لا يقوم إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي اعتباراً بالبيع، ولهما أن الإقالة لا تكون إلا بعد نظر فتأمل، فلا يكون قوله أقلني مساومة بل كان تحقيقاً للتصرف كما في النكاح، وبه فارق البيع.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل باع رجلاً لبعد، ثم لقيه المشتري ولم يقبض البيع قال: إنك قد أغليت علي فلا حاجة لي فيما بعتني، فأقلني فقال البائع: قد أقلتك، قال: ينتقض البيع، وإن يقل (لم) المشتري: قبلت أو رضيت، وهذه الرواية عن أبي يوسف توافق القدوري عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله قال: كذلك لو كان قال له المشتري: فافسخ البيع فيما بيني وبينك ففسخ كان جائز.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: مسألة تدل على أن قوله مثل قولهما، فإنه قال في رجل اشترى من رجل عنباً بألف درهم، ثم تقابضا، ثم قال المشتري للبائع: أقلني على أن أؤخرك ألف سنة فقال: قد فعلت جازت الإقالة ولم يجز التأخير، قال القدروي رحمه الله أيضاً: وتصح الإقالة إذا كان المبيع قائماً أو بعضه ولا يعتبر قيام الثمن، يجب أن يعلم أن من شرط صحة الإقالة قيام العقد لكون الإقالة رفعاً للعقد، وقيام العقد بقيام المعقود عليه لا قيام المعقود به؛ لأن المعقود عليه محل إضافة العقد، ولا محل ثبوت حكمه، وما يكال ويوزن إذا كان موصوفاً في الذمة كان ثمناً، وإذا كان بعينه يكون مبيعاً.
قال محمد في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر عبداً بكر حنطة بعينها وتقابضا فهلك العبد، ثم إنهما تقايلا العقد فيما بينهما جازت الإقالة؛ لأن الكر لما كان متعيناً كان هذا بيع العين بالعين، وفي بيع العين بالعين كل واحد منهما مبيع في حق نفسه ثمن في حق ما يقابله؛ لأن العقد لا بد له من معقود عليه، وليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه أولى من الآخر فجعلنا كل واحدمن العوضين مبيعاً في حق نفسه ثمناً في حق ما يقابله، ولهذا لا يجوز الاستبدال بالكر قبل القبض لما فيه من استبدال المبيع قبل القبض، وإذا هلك قبل القبض، فسد العقد ولما كان كل واحد منهما معقوداً عليه في حق نفسه يبقى العقد ببقاء أحدهما فتصح الإقالة، وإذا صحت الإقالة لزم الآخر رد العبد وقد عجز عن رده بسبب الهلاك فيلزمه قيمته، وإذا باع العبد بكر بغير عينه وتقابضا فهلك، ثم تقايلا والكر فلم يعينه فالإقالة باطلة؛ لأن الكر إذا (119ب3) كان بغير عينه كان ثمناً، ولهذا لا يشترط فيه التأجيل، ولو كان مبيعاً فالمبيع لا يثبت في الذمة إلا مؤجلاً، وكذا لا يجوز الاستبدال به قبل القبض مع أن الاستبدال بالمبيع قبل القبض ممتنع، وكذلك لو تقايلا حال قيام العبد لا يلزم بائع العبد رد عين ما قبض من الكر، كما في الدراهم فكان ثمناً، ولما كان ثمناً لا يبقى العقد بيعاً به فلم يستقم رفعه.(7/52)
فرق بين هذا وبين ما لو أسلم عبداً في كر حنطة إلى أجل، ثم هلك العبد، ثم تقايلا على المسلم فيه ثمَّ يجوز، والفرق وهو: أن المسلم فيه مبيع بدليل عكس ماذكرنا من الأحكام ولما كان كذلك كان هذا بيع العرض بالعرض فهلاك أحدهما لا يمنع صحة الإقالة، أما ههنا بخلافه على ما مر.
وإذا اشترى عبداً بدراهم وتقابضا، ثم تقايلا بعد ما هلك العبد، فالإقالة باطلة؛ لأن الدراهم ثمن من كل وجه فلا يبقى العقد ببقائها، ولو صح ما ذكرنا أن الثمن إنما يثبت له حكم الوجود في الذمة بالعقد، وما يكون وجوده بالعقد كان حكماً للعقد، وحكم العقد لا يكون محلاً للعقد؛ لأن محل العقد وشرط الشيء يسبقه وحكم الشيء يعقبه وبينهما تنافي.
ولو اشترى عبداً بنقرة فضة إن كانت النقرة بغير عينها فكذلك الجواب، وإن كان بعينها لم تنتقض الإقالة بهلاك العبد لما مر، وإذا لم تنتقض الإقالة كان على الذي هلك العبد في يده قيمته دراهم أو دنانير.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الإقالة على النقرة بعينها بعد هلاك العبد، فإن هناك قال: يقضي بالدنانير خاصة، والفرق وهو: أن ههنا الإقالة صحت على النقرة وعلى العبد، والربا لا يجري بين العبد والنقرة وهذه الحالة، وهو حال وجوب قيمة العبد حال بقاء الإقالة لا يجري الربا إذ الموجود في حالة البقاء ليس إلا القبض الذي له شبه بالعقد وأثره في إيجاب التصدق لا في جريان الربا، ووجوب التصدق حكم شيء بينه وبين ربه لا يدخل تحت القضاء فلم يجب القضاء بخلاف الجنس تحرزاً عن هذه الشبهة التي لا تدخل لها في القضاء لكن قيل: إن قضى بخلاف جنسه لا يجب عليه التصدق بشيء، وإن قضى بجنسه تصدق بالفضل تحرزاً عن الشبهة.
كما لو اشترى عبداً قيمته ألفا درهم فقتل العبد قبل القبض وأختار المشتري أخذ القيمة قضى القاضي بالقيمة دنانير أو دراهم، لكن إن قضى بالقيمة دراهم بالفضل وإن قضى بالقيمة دنانير لم يتصدق بشيء كذا ههنا، أما فيما سبق الحال ابتداء الإقالة، فالإقالة عقد جديد في حق الثالث وحرمة الربا حق الشرع فصار في حق الشرع بمنزلة عقد مبتدأ على النقرة وعلى قيمة العبد، وفي حالة الابتداء يجري الربا وإنه يدخل تحت الحكم فيقضى بالدنانير تحرزاً عن الربا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل اشترى عبداً بألف درهم فلم يقبضه حتى قال المشتري للبائع: بعه فقيل هل يكون هذا نقضاً للبيع، فقد ذكرنا هذه المسألة مع أجناس في صدر هذا الكتاب إلا أن موضوع المسألة فيما وضع محمد رحمه الله ثمة أن المشتري، قال للبائع: بعه فقيل، ثم باعه فهو مناقضة للبيع الأول، وموضوع المسألة ههنا أن المشتري قال للبائع: بعني فقيل هو مناقضة للبيع.
وعنه في رجل اشترى من رجل عبداً فلم يقبضه حتى سأله البائع أن يبيعه إياه بألف درهم ففعل، لم تكن هذا مناقضة للبيع الأول.(7/53)
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً ودفع إليه الثمن ولم يقبض، ثم إن المشتري لقي البائع وقال: قد وهبت لك العبد والثمن لم تجز الهبة في الثمن، قال: لأني إنما جعلت قوله: وهبت لك العبد نقضاً للعبد فلا يمكنني أن أجعله هبة للثمن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبداً بجارية وتقابضا، ثم تقايلا فدفع مشتري العبد العبد إلى بائعه، ولم يقبض الجارية حتى ماتت في يد مشتريها، فإن البيع يعود إلى حاله ويرد العبد إلى الذي كان في يده.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبداً بعبد وتقابضا فعمي أحدهما، ثم أقاله البيع، قال: إن كان يعلم بالعمى أخذه وليس له غيره، وإن لم يكن علم، فإنه يرد العبد ويأخذ قيمة عبده صحيحاً.
إذا اشترى عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا، ثم قتله المشتري قبل أن يرده فقد ذهب بالثمن، وإن فقأ إحدى عينيه فالبائع بالخيار إن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء ترك، وإن لم يفقأ عينه ولكن ذهبت من وجع، فإن شاء البائع أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل اشترى من رجل عبداً، ثم قال للبائع قبل أن يقبضه: بعه، فإن أعتقه البائع فعتقه جائز عن نفسه، وقال أبو يوسف رحمه الله: باطل، قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون وجه هذه المسألة أنه جعل قوله بعه بمنزلة الإقالة، وجعل عتق البائع بمنزلة قبول الإقالة على قول أبي حنيفة رحمه الله.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا، فقطعت يده عند المشتري فأخذ أرشها، ثم تقايلا البيع، فإن كان البائع علم بالقطع لزمته الإقالة بجميع الثمن ولا شيء له من الأرش، وإن لم يكن علم بالقطع، فهو بالخيار إن شاء أخذه دون الأرش بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذلك لو كانت جارية فولدت عند المشتري لم يبعها الولد في الإقالة.
وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بأمة وتقابضا، ثم باع نصف العبد، ثم إقالة البيع في الأمة جاز وكان له قيمة العبد والله أعلم.
الفصل الحادي والعشرون: في الدعاوي والشهادة في البيع
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه
إذا كانت الدار في يدي رجل ادعاها رجل أنه اشتراها وأقام على ذلك بينة فهذا على وجهين:(7/54)
الأول: أن تكون الدار في يد البائع وفي هذا الوجه لو شهد الشهود المشتري بمجرد الشراء منه يقضي له بالدار، وإن لم يشهدوا بالملك للبائع.
الوجه الثاني: أن تكون الدار في يد غير البائع وذو اليد يدعي الدار لنفسه، وأنه على وجوه، فشهدوا أنه اشتراها من فلان فلم يزيدوا عليه، فإنما لا يقضي له بها ولا ينتقض يد ذو اليد بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت الملك للمدعي بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت إلا مجرد الشراء من فلان يوجب الملك للمدعي إن كان البائع مالكاً أو نائب المالك، وإن كان غاصباً لا يوجب الملك للمدعي فيقع الشك في نقض يد ذي اليد، فلا ينقض بالشك، وكان هذا بمنزلة ما لو شهدوا أنه كان في يد المدعي، ولم يزيدوا عليه، فإنه لا ينقض يد ذي اليد بهذه الشهادة، وإن ثبت حدوث يد ذي اليد؛ لأنه احتمل أن يد المدعي كان بحق فيجب نقضه بهذا الاعتبار، واحتمل أنه كان بغير حق فلا يجب نقضه فلم ينقض بالشك والاحتمال فكذلك هذا، ولا يقال (120أ3) بأن الظاهر أن تكون يده يد الملك؛ لأنا نقول الظاهر يصلح حجة للدفع ولا يصلح حجة الاستحقاق وههنا حاجته إلى استحقاق اليد على ذي اليد.
وإن شهدوا أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، فإنه يقضي بذلك للمدعي وينقض يد ذي اليد؛ لأنه ثبت ملك المدعي بلا احتمال، فإنهم شهدوا بالملك للبائع، وإذا ثبت ملك البائع ثبت ملك المشتري بالشراء منه فينقض يد ذي اليد، كما لو شهدوا أنه ملك المدعي.
وكذلك إن شهدوا أنه اشتراها من فلان وأنها لفلان تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم أنها لفلان كشهادتهم أنه كان يملكها، وكذلك لو شهدوا أنها لهذا المدعي اشتراها من فلان يقضي بها للمدعي؛ لأنهم شهدوا بالملك للمدعي وشهدوا بالملك لبائعه، مقتضى شهادتهم بالملك للمدعي، فإن المشتري يملك من جهة البائع.
وكذلك لو شهدوا أن فلاناً باعها منه وسلم إليه، فإنه يقضي للمدعي، وينقض يد ذي اليد وكان يجب أن لا يقضي وهو رواية القاضي أبو حازم عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك للمشتري نصاً، ولم يشهدوا بالملك للبائع ليكون شهادة بالملك للمشتري إذا ثبت شراء أو هبة إنما شهدوا بالبيع والتسليم، وكلا الأمرين قد يكون من المالك ومن نائبه، وقد يكون من الغاصب فصار هذا كما لو شهدوا أنه باعها وهي في يده يوم البيع ولم يزيدوا على ذلك، وهنا لا تقبل الشهادة كذا ههنا، إلا أن الجواب منه أن يقال: بأنهم بهذه الشهادة أثبتوا للمدعي يد ملك فينتقض يد ذي اليد، كما لو نصوا أنه كان في يده ملك، وإنما قلنا ذلك؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيده مقرون بسبب الملك والشهادة للمدعي باليد مقروناً بسبب الملك فهي محتملة بين أن يكون يد ملك وبين أن لا تكون احتمالاً على السواء، فإذا اقترن به سبب الملك ترجح جانب يد الملك وسقط اعتبار احتمال أنه ليس بيد ملك، وإذا سقط هذا الاعتبار فكأنهم شهدوا نصاً أن يد المدعي يد ملك.(7/55)
ونظير هذا قالا: في شاهدين شهدوا بدار لرجل يدعيها في يد إنسان أنها كانت في يد ابنه وقت الموت، فإنه يقضى بالدار له وينتقض به يد ذي اليد؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيد مقرون بسبب الملك؛ لأن ماكان في بدايته وقت الموت ينتقل إلى وارثه بعد الموت ويصير في يده فيكون شهادة له باليد مقروناً بسبب الملك؛ لأن الموت سبب ملك للوارث فيما تركه الميت للوارث فترجح يد الملك على يد غير الملك لما اقترن باليد سبب الملك، وإذا ترجح الملك صارت العبرة أو يقول الشهادة بالتسليم شهادة بالملك للبائع من حيث المعنى فيقبل كما لو شهدوا له بالملك نصاً.
بيانه: أن التسليم إن كان تسليم مالك فلا شك أن يكون شهادة بالملك، وإن لم يكن تسليم مالك يصير مالكاً بالتسليم يصير عاجزاً عن الرد، وعجز الغاصب عن الرد يوجب الضمان والمضمون يصير مالكاً للضامن بالضمان كان بمنزلة الشهادة باليد عند الموت اعتبرت الشهادة بالملك عند الموت؛ لأن يد غير المالك تنقلب يد المالك بالموت بسبب العجز عن الرد بالتجهيل، وإذا شهدوا أنه كان في يد المدعي وقت البيع، فلا ذكر لهذا في «الأصل» .
وقد اختلف المشايخ فيه ممن اختار العبارة الأولى في المسألة المتقدمة يقول: تقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة باليد عند سبب..... شهادة بالملك كما لو شهدوا أنه كان في يده عند الموت، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بينما شهدوا أنه كان في يده يوم البيع، وبينما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت.
ومن اختار العبارة الثانية في المسألة المتقدمة يقول: لا تقبل هذه الشهادة وهكذا روى هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهدوا أنها كانت في يده عند الموت، والفرق: أن الشهادة باليد عند البيع ليست بشهادة للملك للبائع؛ لأن يده إن لم تكن يد ملك لا تنقلب يد ملك بمجرد البيع لا يعجز عن التسليم ما دام في يده، فأما الشهادة باليد عند الموت شهادة بالملك له؛ لأن بالموت يعجز عن الرد فتنقلب يده بالموت يد ملك إن لم تكن يد ملك في الأصل.
وأما إذا شهدوا أنه اشتراها من فلان وقبضها منه ولم يزيدوا على ذلك كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا أن فلاناً باعها منه وسلمها إليه؛ لأن الشهادة بقبض المشتري شهادة بتسليم البائع، ثم إذا قبلت الشهادة في هذه المسائل يثبت الشراء على البائع، وينتصب ذو اليد خصماً من البائع ويقوم إنكاره مقام إنكار البائع حتى لو حضر البائع، وأنكر البيع لا يلتفت إلى إنكاره.
دار في يد رجل إدعاها رجل وشهد شاهدان أنه اشتراها منه إن سميا مقدار الثمن قبلت شهادتهما سواء شهدا بإستيفاء الثمن أو لم يشهدا؛ لأن المشهود به معلوم من كل(7/56)
وجه؛ لأن المشهود به في البيع المبيع والثمن، وكل ذلك معلوم فكانت الشهادة مقبولة، وأما إذا لم يسميا بأن لم يشهدا باستيفاء الثمن لا تقبل شهادتهما؛ لأن الثمن مجهول وهو مقضي به إذا لم يكن مستوفياً؛ لأنه لا بد للقاضي من القضاء بالثمن على المشتري حتى يمكن قبض المبيع من البائع، وإذا كان مقدار الثمن مجهولاً لا يمكنه القضاء، وإذا تعذر القضاء بالثمن تعذر القضاء بالمبيع وشهادة لا يمكن القضاء بها لا تقبل.
وأما إذا شهدا بإستيفاء الثمن كانت الشهادة مقبولة، فإن كان مقدار الثمن غير مقضي به متى كان مستوفياً، فجهالته وهو غير مقصودة لا يصير ما هو مقضي به وهو المبيع معلوم، فإن أنكرت قضاء بهذه البينة فقبلت، وإذا ادعى على آخر أنك اشتريت مني هذه العين والمشتري يجحد، فجاء المشتري بشاهدين واختلفا في جنس الثمن أو في مقدار الثمن، فإنه لا تقبل شهادتهما على كل حال، وإذا كانت العين قائماً في يد المشتري، وذلك لأن المعقود عليه ما دام قائماً فالعقد مقضي به أيضاً، ألا ترى أنهما إذا تقايلا حال قيام المعقود عليه صحت الإقالة؟ ولا يمكن للقاضي أن يقضي بالعقد بما شهدوا؛ لأنهما شهدا بعقدين مختلفين؛ لأن العقد بألف غير العقد بألفين، ولهذا قلنا: إن الاختلاف لو وقع فيما بين المتعاقدين على هذا الوجه يتحالفان، وإذا كان العقد بألف غير العقد بألفين فقد شهد كل واحد منهما بعقد لم يشهد به صاحبه، وما غاب عن علم القاضي لا يثبت بشهادة واحد هذا إذا كان المبيع قائماً، فأما إذا كان المبيع هالكاً في يد المشتري، وادعى المشتري الشراء أو أنكر البائع، وقال: لا بل غصب مني فأقام المشتري شاهدين فاختلفا فهذا على وجهين.
إما أن يختلفا في المقدار أو جنس الثمن، فإن اختلفا في جنس الثمن بأن شهد (120ب3) أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار، فإنه لا تقبل هذه الشهادة، وإن لم يكن العقد مقضياً به حال هلاك المعقود عليه حتى لو تقايلا لم تصلح الإقالة، وإنما المقضي به المال إلا أن الدعوى لو وقعت في مطلق المال، واختلفا على هذا الوجه لا تقبل شهادتهما؛ لأنه لابد للمدعي من أن يدعي أحد المالين، وأنه إذا ادعي أحدهما وقد كذب شاهد فلا تقبل شهادته، وأنه اختلفا في مقدار الثمن إن تخلل بين الإثنين حرف العطف بأن شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة، فإن كان المدعي يدعي أكثر المالين، فإنه يقبل هذه الشهادة على الأقل؛ لأن العقد غير مقضي به في هذه الإقالة فكأن الدعوى وقعت في مطلق المال.
واختلف الشاهدان على هذا الوجه والمدعي يدعي أكثر وهناك تقبل الشهادة على الأقل عندهم جميعاً نص على هذا في كتاب الإجارات كذا هنا، وإن كان المدعي يدعي أقل المالين، فإن كان يدعي ألف درهم لا تقبل؛ لأنه كذب شهادة بالأكثر إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه ألف وخمسمائة كما شهد به الشاهد بالأكثر إلا أني استوفيت خمسمائة لم يعلم به هذا الشاهد إن وفق على هذا الوجه، فإنه يقضى له بألف درهم؛ لأن المانع من قبول الشهادة تكذيب الشاهد بالأكثر وقد زال التكذيب متى وفق المدعي على هذا الوجه فتقبل الشهادة.u(7/57)
فأما إذا لم يتخلل بين الأقل والأكثر حرف العطف بأن شهد أحدهما بالألف والآخر بألفين إن كان المدعي يدعي الأقل، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عندهم جميعاً كما لو وقع الدعوى في مطلق المال؛ لأنه كذب شاهده بأكثر المالين إلا أن يوفق المدعي على قول أبي يوسف ومحمد، فيقول: كان لي عليه ألفان إلا أني استوفيت منه ألف درهم ولم يعلم به الشاهد بأكثر المالين فحينئذ تقبل الشهادة عندهما؛ لأن المانع من قبول الشهادة عندهما في هذا الفصل تكذيب الشاهد بأكثر المالين، وقد زال التكذيب فتقبل الشهادة كما لو تخلل بين المالين حرف العطف، وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا تقبل وإن وفق على هذا الوجه؛ لأن المانع من قبول الشهادة أنهما لم يتفقا على ألف لفظاً ولا يثبت اتفاقهما على ألف لفظاً ولا يبيعه هذا التوفيق، وإن كان المدعي يدعي أكثر المالين ألفي درهم، فالمسألة على هذا الوجه والاختلاف لا تقبل عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: تقبل هذه الشهادة.
قال: وإذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنه قد اشتراها منه وأقام على ذلك شاهدين فشهدا أنه باعها وسميا الثمن، واتفقا عليه، غير أنهما اختلفا في الأيام أو البلدان، فإنه لا يمنع قبول الشهادة؛ لأن البيع تصرف قولي واختلاف الشاهدين في الزمان والمكان لا يمنع قبول الشهادة متى قامت الشهادة على القبول، ألا ترى أن العادة بين الناس أنهم يدورون على الشهود، وعند الإشهاد فتختلف الأماكن والأوقات ويكون الإقرار واحداً.
قال: وإذا ادعى الرجل داراً في يدي رجل أنه اشتراها وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان الدار ولا الحدود ولا يسميان من ذلك شيئاً، فإن شهادتهما لا تقبل؛ لأنهما شهدا لمجهول؛ لأنهما لم يشيرا ولا حدود المشهود به، والتعريف في العقارات يقع بأحد هذين الأمرين، فإذا لم يوجد واحد منهما كان المشهود به مجهولاً، وجهالة المشهود به تمنع قبول الشهادة؛ لأنه لا يمكن القضاء بها، وإن قالا: قد سمى البائع والمشتري موضع الدار وحدودها وصفوا ذلك وسمو إلا أنا لا نعرف أن هذا المحدود هل هو في يد البائع أم لا؟ فإنه تقبل هذه الشهادة؛ لأن المشهود به معلوم، فإنهم حدوا الدار، والتعريف يقع بذكر الحدود في باب العقار إلا أنه لا يقضى بها متى أنكر المشهود عليه أن تكون الدار التي ذكرها الشهود وحدوها وهي الدار التي في يده الجواز أن يكون لهذا الدار التي ادعاها الحدود التي ذكرها الشهود، ويحتاج المدعي إلى إقامة بينة أخرى، أن الدار التي ادعاها المدعي بهذه الحدود التي ذكرها الشهود، فإذا أقام بينة أخرى على هذا الوجه قضي بالدار.
ونظير هذا: ما قالوا في رجل جاء بكتاب قاض إلى قاض أن فلاناً وفلاناً شهدا عندي أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا ديناراً فأحضر المدعي أنه فلان بن فلان، وأنكر الرجل أن يكون بن فلان ما لم يقم المدعي بينة أخرى أن هذا الرجل فلان بن فلان، فإنه لا تقبل بينته كذا ههنا، وإذا كان المشتري يجحد الشراء، والبائع يدعيه فالجواب فيه(7/58)
كالجواب فيما إذا كان يدعيه المشتري، فإن القاضي يحتاج إلى أن يقضي بالثمن إذا كان البائع مدعياً كما يحتاج لو ادعاه المشتري، فيكون الجواب في الفصلين واحد.
وإذا كانت الدار في يد رجل، فأقام على ذلك الرجل شاهدين أنها داره ابتاعها من فلان، وأقام الذي في يديه بينة أنها داره ابتاعها من ذلك لفلان أيضاً، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: إما أن تكون الدار في أيديهما أو في أيد أحدهما أو في يد البائع، وكل وجه من ذلك على أربعة أوجه: أما إن أرخا وتاريخهما على السواء أو تاريخ أحدهما أسبق من تاريخ آخر، أو لم يؤرخا أصلاً، أو أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن كانت الدار في أيديهما وقد أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فإنه يقضى بالدار بينهما نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد فتستويان البينة، فإنه يقضى بينهما نصفان فكذلك هذا، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر،، فإنه يقضي بالدار بينهما نصفان ولا يقضي بجميع الدار لصاحب التاريخ؛ لأن الذي لا تاريخ له ثابت بيقين وقع الشك في نصفها إن كان شراءه بعد شراء صاحب التاريخ وجب نقض يده، وإن كان قبله لا يجب نقضه وقد احتمل شراء الدار التي لا تاريخ له أن يكون سابقاً على صاحب التاريخ وأن يكون لاحقاً فقد وقع الشك في نقض يده فلا يجوز نقضها بشك ويخبر كل واحد منهما أثبت الشراء في الجميع ولم يسلم له إلا النصف فيخبره.
كما لو اشترى داراً، ثم استحق نصفها، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فأسبق التاريخ أولى لوجهين:
أحدهما: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة ولو عاينا شراء أحدهما سابقاً وشراء الآخر بعد ما كان السابق بينهما أولى، وإن كانت الدار في أيديهما، وكذا إذا ثبت بالبينة العادلة.
والثاني: وهو بينة أسبقهما تاريخاً أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت ملكه منذ شهرين والآخر منذ شهر فكانت بينة من أسبق التاريخ أكثر إثباتاً فكان أولى، وإن كانت الدار في يد أحدهما، إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، أو أرخ أحدهما فذو اليد أولى إن كان تاريخهما على السواء أو لم يؤرخا؛ لأنهما استويا في إثبات الشراء مما يتأكد باليد فيكون صاحب اليد، وأنه يثبت آكد لشيئين أولى كالعتق مع الشراء إذا اجتمعا (121أ3) كان العتق أولى؛ لأنه آكد فكذلك هذا، وكذلك إن أرخ أحدهما فصاحب اليد أولى؛ لأن يده ثابتة بيقين وقع الشك في نقض يده إن كان شراء الذي لا تاريخ به سابقاً على يده وجب نقض يده، وإن كان لاحقاً لا يجب نقض يده وقد احتمل كلا الأمرين، فلا ينقض يده بالشك.
وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخاً أولى سواء كان في يده أو في يد الآخر إن كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد فلا إشكال؛ لأنه من غير تاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخاً من الآخر فكذلك أولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة؛ ولأنه أكد ثباتاً.(7/59)
إن كانت الدار في يد البائع إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا فالدار بينهما نصفاً ويجبر كل واحد منهما استويا في الدعوى والحجة، وإن كان تاريخ أحدهما أسبق فالسابق أولى كما لو ثبت الأمر أن متعاينة، فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن صاحب التاريخ أولى.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الدار في يد أحد المشتريين، وقد أرخ الخارج ولم يؤرخ ذو اليد، ذكر أن ذا اليد أولى من صاحب التاريخ، ووجه الفرق بينهما: وهو أن الدار متى كانت في يد البائع لو جعلنا صاحب التاريخ أولى نقل بعض ما هو ثابت، ومتى جعلنا صاحب الإطلاق أولى أنكر بعض ما هو الثابت وتقليل نقض ما هو الثابت أولى، وإنما قلنا ذلك؛ لأنا متى جعلنا صاحب التاريخ أولى نقضنا بشراء الآخر غير أنه لم يثبت الشراء ومتى قضينا للذي لا تاريخ له فقضينا على صاحب التاريخ شراءه وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة وتقليل نقض ما هو الثابت أولى من تكثرة بخلاف ما لو كان في يد أحد المشتريين حيث قضي لذي اليد ولا يقضى لصاحب التاريخ حتى نقل بعض ما هو الثابت، وذلك لأنا متى قضينا لصاحب التاريخ يحتاج إلى أن ينتقض الشراء على ذي اليد ويده ثابت معاينة، والثابتة معاينة فوق الثابت بالبينة فيكون نقض الثابت معاينة وهو أكثر من نقض الثابت بالبينة وهو التاريخ، فإذاً من حيث المعنى لا فرق بينهما؛ لأنا في الموضعين نقضي على وجه نقل النقض هذا الذي ذكرنا كله إذا ادعيا يلغي الملك من وجه واحد، فأما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه.
اثنين ادعى أحدهما أنه اشترى هذه الدار من زيد، وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وأقاما جميعاً البينة فهذا لا يخلو من وجهين: إما أن تكون في أيديهما أو أيد أحدهما، إن كان في أيديهما يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما بينة يثبت الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعه غير الثابت باتفاق صاحبه فكأن البائعين حضرا وادعيا، وأقام البينة على الملك والدار في أيديهما، وهناك المدعي بينهما يكون نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد، فكذلك إن كان في أيد أحدهما فالخارج أولى بخلاف ما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه فلا يقضي لذي اليد.
ووجه الفرق بينهما: أنهما متى ادعيا تلقي الملك من وجه اثنين فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه فيجعل كأن البائعين حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً والدار في أيد أحدهما وأقام البينة.
ولو كان كذلك كان الخارج أولى فكذلك هذا، وأما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه ثابت بتصادقهما، وإنما يثبت كل واحد منهما بينة الملك بسبب الشراء وذو اليد آكد الشرائين والقضاء للآكد أولى إذا تعذر العمل بهما، كالرهن مع الشراء هذا إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين من غير التاريخ، فإن ادعيا مع ذلك تاريخاً أو ادعاه أحدهما فهذا وما لو ادعيا ملكاً مطلقاً سواء؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك بملكيته، فكأن كل واحد من المالكين حضر وادعى الملك لنفسه، وسيأتي الكلام في دعوى الملك المطلق في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.(7/60)
قال: وإن كانت الدار في يدي رجل فأقام عليها رجل البينة أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وأقام الذي في يديه البينة أنه باعها منه بألفي درهم ولا يدري التاريخ بين البيعين، فإنه يقضي بألفي درهم ببينة البائع؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن أحدهما يفسخ الأول لا محالة وبأخذهما بعينه متعذر؛ لأنه ليس أحدهما بأن يعتبر بأولى من الآخر، فإذا تعذر القضاء بالعقدين، وبعقد واحد، يجعل كأن الدعوى وقعت في مطلق المال كما لو حصل الدعوى بعد هلاك المبيع، ولو وقع الدعوى في مطلق المال ادعى أحدهما العين، وأقر المدعي قبله بألف وأقاما جميعاً البينة كان بينة صاحب العين أولى لوجهين؛ الأول: أنه أكثر إثباتاً، والثاني: أنه يثبته ببينة دعواه والآخر يثبت إقراره لغيره والبينة مشروعة على إثبات الدعوى لا على الإقرار لغيره فكذلك هذا.
ولو أقام البائع البينة أنه باعها بعبد أو طعام وأقام المشتري بينة أنه اشتراها منه بألف درهم كانت بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أنه بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أن إلي أكثر إثباتاً يثبت زيادة؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد ولا تتحقق في جنسين، وإنما تجيء العلة الأخيرة وهو أن البائع بببنته يثبت دعواه على المشتري والمشتري ببينته يثبت إقراره بألف للبائع والبينات مشروعة لإثبات الدعوى على الغير لا لإثبات إقرار الغير، فإن من أقر لإنسان ورد المقر له إقراره، فأراد إثبات إقراره بالبينة لا تقبل بينتهُ.
هذا معنى قولهم: إن البائع أثبت لنفسه والمشتري لغيره، فكان البائع أشبه بالمدعي عين فكذلك هذا، قال: ولو أقام المشتري البينة أنه ابتاع هذه الدار ودار أخرى بألف درهم وأقام البائع البينة أنه باع هذه الدار وحدها بألفين أجزت البيع فيهما جميعاً بألفين؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الدار متى بيعت مرة أخرى لا يمكن أن تباع (مرة) أخرى مع آخر ما لم يشترها البائع ثانياً والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين لزمنا قبول البينتين؛ لأن كل واحد منهما يثبت زيادة فوجب قبول بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة.
قال: إذا كانت الدار في يدي رجل فأقام بينة أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام فلان البينة أنه اشتراها في شوال بخمسمائة، فإنه يقضي بالشراء بخمسمائة؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت معاينة، ولو عاينا الشراء الآخر بخمسمائة، فإنه ينتقض البيع بألف درهم؛ لأن القضاء بالعقدين وبعقد واحد بعينه متعذر على ما بينا فتعتبر الدعوى في مطلق المال، ادعى أحدهما بألف والآخر بخمسمائة وأقام البينة كان كذلك تقبل بينة من يثبت (121ب3) ألف للوجهين اللذين ذكرنا فيما تقدم.
قال: وإذا ادعى الرجل داراً في يدي رجل وأقام بينة أنه اشتراها بألف درهم والبائع يقول: لم أبع شيئاً وأقام البائع البينة على أنه قد رد عليه الدار، فإني أقبل ذلك منه وأنقض البيع، هكذا ذكر في كتاب الدعوى، ويجب أن لا تقبل بينة البائع، وذلك لأن البائع ناقض في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أولاً أنه لم يبع، ثم ادعى الفسخ حين ادعى(7/61)
الفسخ لا يصح إلا بعد البيع فكان مناقضاً في الدعوى.
والمناقضة في الدعوى تمنع صحة الدعوى فكان يجب أن لا تقبل بينة البائع على الفسخ بعدما جحد البيع إلا أن الجواب عنه في وجهين:
الأول: المناقضة إنما تتحقق بين الدعوى إذا لم يمكن التوفيق بينهما، وههنا التوفيق ممكن بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً لنفسي، وإنما باع وكيلي، ثم فسخت البيع بعد ذلك نفي، وإذا أمكن التوفيق بين الكلامين من هذا الوجه يوفق ويحمل عليه حملاً لأمره على الصلاح، وإذا حمل عليه يجعل كالمنصوص عليه فكأن البائع قال: لم أبع بنفسي وإنما باع وكيلي، ثم استحقت العقد معك وأقام على ذلك بينة، ولو كان كذلك تقبل بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.
ونظير هذا ما قالوا فيمن ادعى على آخر ديناً فقال المدعي قبله لم يكن لك علي دين فأقام المدعي بينة على الدين، ثم ادعى قبله الإيفاء أو الإبراء وأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يحمل قوله: لم يكن لك دين حين أنكرت؛ لأني قضيت ذلك أو أبرأتني، فكذلك هذا التوفيق بين الدعوتين ممكن فتوفيق القاضي أنهما حملاً لأمر البائع على الصلاح، فإن الظاهر من حال العاقل أن لا يناقض في كلامه، ومحمد رحمه الله لم يذكر توفيق المدعي والمسألة مجهولة على أنه وفق إلا أنه يذكر في بعضها توفيق المدعي ولا يذكر في البعض.
والثاني: وهو أن قوله فسخت البيع؛ لأن جحود البيع فسخ، ألا ترى أنهما لو تبايعا، ثم تجاحدا لفسخ البيع بينهما كما لو تقايلا فيكون جحود أحدهما دعوى الفسخ؟ فكأن البائع ادعى الفسخ أول مرة وأنكر المشتري، ثم أقام البائع البينة على الفسخ، ولو كان كذلك تقبل منه بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا.
نوع منه
قال محمد رحمه الله: في «الزيادات» : رجل باع عبد رجل من رجل، ثم اختلف البائع والمشتري فقال البائع: أمرني صاحب العبد بالبيع وقال المشتري: لا بل (لم) يأمرك به، ادعى المشتري عدم الأمر وادعى البائع الأمر فالقول قول من يدعي الأمر؛ لأن دخولهما في هذا العقد وهما عاقلان اعتراف بينهما لصحته ونفاذه، والنفاذ في ملك الغير لا يكون إلا بالأمر فمن يدعي عدم الأمر يدعيه بعد الإقرار بالأمر فيكون مناقضاً، فإن أقام المدعي لعدم الأمر بينة، صاحب العبد لم يأمره بالبيع لم تقبل بينته؛ لأن هذه البينة قامت على النفي؛ ولأن البينة إنما تسمع إذا ترك ثبت على دعوى صحيحة والدعوى ههنا لم تصح لمكان التناقض.
وكذلك لو أقام بينة على إقرار صاحبه إن صاحب العبد لم يأمره بالبيع لا تقبل بينته؛ لأن الدعوى لم تصح على عدم أمره، وكذلك لو لم يكن له بينة، فإن أراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من عدم الأمر لا يلتفت إلي ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح والاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة.(7/62)
وإن تصادق البائع والمشتري أن البيع كان بغير الأمر فذاك بينهما فسخ للعقد، والوكيل مع الموكل يفسخان العقد ويصح فسخهما.
بيانه: أن دخولها في هذا العقد اعتراف منهما نفاذه وإقراره بأمر صاحب العقد واتفاقهما على عدم الأمر بعد ذلك يجعل اتفاقاً منهما على الفسخ فيجعل ذلك فسخاً منهما على طريق الابتداء على طريق نفي العقد في الأصل، وإنما يصح الفسخ بينهما لا على الموكل؛ لأن تصادقهما لا يعمل في حق الموكل ويجعل في حق الموكل هذا بيعاً مبتدأً، فإن حضر صاحب العبد وصدقهما ادعى لزمه الفسخ وهذا العبد إلى قديم ملكه؛ لأن فسخهما إنما لم يقبل في حق الموكل دفعاً للضرر حتى صدقهما فيما زعما، وإن كذبهما فيما زعما وقال: كنت أمرته فالبيع ماض في حقه صحيح في حقهما، ويجعل في حق الموكل كأن الوكيل اشتراه من المشتري.
وهو نظير المشتري مع الوكيل إذا قالا: البيع بفسخ الإقالة فسخاً بينهما بيعاً مبتدأً في حق الموكل كذا ههنا، ثم يبطل الثمن على المشتري عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ قد صح فيما تلقهما والفسخ يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن الوكيل بالبيع يملك إسقاط الثمن عن المشتري عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بالفسخ كما يملك الإبراء ويضمن للموكل مثله كما في الإبراء، وعلى قول أبي يوسف لا يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن عنده الوكيل بالبيع لا يملك إسقاط الثمن عن المشتري.
وفيه أيضاً: رجل في يده مملوك لرجل قال رجل لصاحب العبد: آمرك أن تبيعه مني بكذا فصدقه صاحب اليد أو سكت وباع منه العبد وتقابضا، ثم حضر البائع عند القاضي وقال: إن صاحب العبد قد حضر وأنكر الأمر بالبيع، وأقام البينة على ذلك وأراد نقض البيع، أو أراد استحلاف المشتري على ذلك بأن لم يكن له بينة لا يلتفت إلى قوله؛ لأن هذه الدعوى منه لم تصح لمكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، أما إذا صدق المشتري فيما قال فظاهر، وأما إذا سكت؛ فلأنه إنما باعه بناءاً على ما ادعى به الأمر فصار بمنزلة المقر بالأمر، ولم يذكر في «الكتاب» أن صاحب اليد لو كذب في دعوى الأمر وباعه بعد ذلك، والصحيح: أن الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا تصدق أو سكت؛ لأنه إنما باعه بناءاً على دعوى الأمر فيعلق به حق الغائب فلا يملك إبطاله، وإن حضر صاحب المملوك عند القاضي وجحد الأمر بالبيع، ثم غاب وطلب البائع نقض البيع أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأنه لما جحد الأمر عند القاضي، فقد ظهر عنده أن البائع كان فضولياً وإن العقد كان موقوفاً والفضولي يملك نقض العقد الموقوف، ويكون فسخ القاضي إعانة له لا أن يكون فسخاً على الحقيقة بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القاضي لم يعاين جحود المالك، وإنما البائع يريد إثباته بالبينة بيمين المشتري، ولا بد لذلك من الدعوى الصحيحة، ودعوى البائع لم تصح، فإن طلب المشتري يمين المالك بالله ما أمره بالبيع فالقاضي لا يؤخر النقض لذلك ويقول له: انقض البيع ورد العبد على البائع وانطلق واطلب يمين المالك؛ لأن حق النقض قد ثبت للحال بدليل وهو جحود المالك الأمر؛(7/63)
لأن الشرع لما جعل القول قول المنكر فقد جعله حجة فيثبت به عدم الأمر من غير يمين؛ إذ اليمين شرع لنفي التهمة لا لكونه حجة مثبتة فهو معنى قولنا: إن حق النقض قد ثبت للحال بدليل، فلا يجوز تأخيره بطلبه اليمين على ذلك، ولو أن صاحب العبد لم يحضر ولم يجحد الوكالة حتى مات فورثه البائع
فقال (122أ3) إن صاحب العبد لم يأمرني بالبيع لا يلتفت إليه؛ لأنه ساع في نقض ما تم به.
فإن قيل: ينبغي أن يلتفت إليه من حيث أنه صار بمنزلة الميت وقام مقامه ومن هذا الوجه لا يتحقق التناقض، ألا ترى أن صاحب العبد لو كان حياً فحضر وجحد الوكالة قبل ذلك منه؟
قلنا: إنما يلتفت إلى قوله إذا صار بمنزلة الميت قائماً مقامه في هذا العين، وشرط قيامه مقام الميت في هذا العين بقاء هذا العين على ملكه وذلك لا يثبت بمجرد قوله، فلهذا لا يلتفت إلى قوله، وكذلك لو طلب يمين المشتري على ذلك لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح لما مر، وكذلك لو لم يمت رب العبد وادعى البائع أنه جحد الأمر، ووهب هذا العبد مني وسلمه إلي وصار العبد لي لا يلتفت إلى قوله؛ لأنه يدعي بطلان بيع أقر بصحته متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به.
بيانه: أنه يدعي أن ذلك العقد كان موقوفاً، وإن العبد صار ملكاً لي بالهبة فطرأ الملك البات على الملك الموقوف فأوجب بطلان العقد الموقوف فصار مدعياً انتقاض ما تم به فلم يصح، ولو مات صاحب العبد فورثه البائع وأقام بينة على أنه يثبت بينته على إقرار المشتري بطلان حقه ولا يريد إبطال ما أوجبه بل يقول: أوجبت البيع وألزمت التسليم إلا أن المشتري نقض وأبطل ما أوجبت البيع له فانعدم التناقض من جهة البائع، والمشتري في دعوى النقض في هذه الفصول بمنزلة البائع؛ لأنه أحد المتعاقدين، وإن حضر صاحب العبد من المشتري كان له ذلك؛ لأن العبد كان مملوكاً له لو خرج عن ملكه إنما يخرج إذا حصل البيع من البائع بأمره، وقوله في إنكار الأمر مقبول إذا لم يبين منه ما يجعله متناقضاً في إنكار الأمر فلم يثبت الأمر فبقي العبد على ملكه كما كان فكان له أن يأخذ العبد وعليه اليمين إن طلب المشتري ذلك لاحتمال النكول، وإن كان المشتري غائباً فلا سبيل له على العبد؛ لأن العبد في يد المشتري حقيقة وقد صار مملوكاً له ظاهراً؛ لأنا حكمنا بصحة البيع ظاهراً؛ لأنه إنما اشتراه بناءاً على ظاهر الوكالة فلا بد من نقض العقد وإبطال يد المشتري ليتمكن المولى من أخذه، وفي ذلك قضاء على الغائب وأنه لا يجوز، ولكن للمولى أن يضمّن البائع قيمة العبد؛ لأنه باعه بغير أمره وسلمه بغير أمره فوجب عليه قيمة العبد عند تعذر رد العبد كما في الغاصب إذا أبق المغصوب من يده، وللبائع أن يطلب يمين المولى، بالله ما أمره بالبيع لاحتمال النكول، فإن حلف أخذ قيمته وإن نكل بطل الضمان؛ لأنه صار مقراً.v
وكذلك لو أقام البائع بينة على صاحب العهد في هذه الصورة أنه أمره بالبيع قبلت بينته لأنه بهذه البينة يسقط الضمان عن نفسه فكان خصماً فيه، وإن لم يجد بينة على ذلك وحلف الآمر فحلف حتى(7/64)
ضمن قيمة العبد للآمر سلم العبد للمشتري وكان الثمن للبائع؛ لأن البائع ملك بأداء الضمان فتبين أنه باع ملك نفسه وسلم ملك نفسه، ألا ترى أن الغاصب إذا باع المغصوب ثم ادعى الضمان نفد البيع وسلم العبد للمشتري كذا هذا.
فإن قيل: الملك بالضمان يستند إلى وقت وجوب الضمان، وسبب وجوب الضمان هو التسليم دون البيع والبيع كان سابقاً على التسليم فيستند الملك إلى وقت البيع فينبغي أن لا ينفذ البيع.
قلنا: الرواية محفوظة لمودع الوديعة وضمن القيمة للمودع أنه ينفذ بيعه.
وطريقة أنه وإن كان أميناً في العين إلا أنه لما أشغل بالبيع وتبين لذلك جر القبض لنفسه فيصير ضامناً بالقبض السابق على البيع، فعند أداء الضمان يثبت الملك له من ذلك الوقت، فكان ثبوت الملك سابقاً على البيع والتسليم فيفسد البيع كذا هنا.
ولو لم يحضر به العبد حتى مالت فورثة البائع ورجل آخر نصفين فأراد الوارث الآخر أن يأخذ نصف العبد وجحد الآمر المورث كان له ذلك؛ لأنه قام مقام الموروث في نصف العبد ولم يبق منه ما يجعله متناقضاً في جحود الأمر ولا ساعياً في نقض ما تم به، ولكن يحلف أولاً بالله ما يعلم أن المورث أمر بالبيع إن طلب المشتري يمينه؛ لأنه قام مقام المورث.
ولو حضر المورث وجحد الأمر وطلب المشتري يمينه أن يحلف فكذلك ههنا، إلا أن المورث يحلف على الثبات بالله ما أمرت بالبيع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه والوارث يحلف على العلم؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فإذا حلف، إن نكل صار مقراً للأمر فلا يكون له على العبد سبيل ولكن يأخذ نصف الثمن لم يصر مقراً بالأمر فكان له أن يأخذ نصف العبد.
ولو أراد البائع أن ينقض البيع في النصف الآخر ليس له ذلك لما قلنا من التناقض، والسعي في نقض ما تم به وكان للمشتري الخيار في النصف إن شاء أخذه بنصف الدين، وإن شاء رده؛ لأن الصفقة قد تغيرت عليه باستحقاق النصف، ودخله عيب الشركة فكان له الخيار لهذا، هذا الذي ذكرنا إذا اتفق البائع والمشتري يوم العقد أن العبد لفلان، فإذا لم يجز بينهما شيء من ذلك وقت العقد فقال البائع بعد بيع العبد: كان لفلان وقد بعتك بغير أمره وقال المشتري: لا أدري لمن كان هو فالقاضي لا يلتفت إلى قول البائع ولا ينقض البيع بينهما؛ لأن العقد قد صح من حيث الظاهر فيصير البائع بدعواه متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به فلا يصل ذلك منه وكذلك إذا حضر فلان المقر له وصدق البائع فيما أقر به وأراد أخذ العبد ليس له ذلك إلا ببينة يقيمها على ملكه أو يستحلف المشتري فنكل بخلاف الوجه الأول؛ لأن في الوجه الأول البائع مع المشتري اتفقا على كون العبد ملكاً لفلان فجاز أن يعتبر قوله في إنكار الأمر، أما ههنا اتفقا على كون العبد ملكاً لفلان ليعتبر قوله في إنكار الآخر إذا اعتبر قوله إنما يعتبر في دعوى الملك لنفسه، ودعوى الإنسان الملك لنفسه من غير حجة مردود، فإن لم يكن له بينة وحلف المشتري، فنكل ودفع العبد إلى المقر له رجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن البائع كان مقراً بأن المبيع(7/65)
ملك المستحق وقد رجع المشتري إلى تصديقه بحكم النكول القائم مقام الأب فظهر أن البائع أخذ ما أخذ من الثمن بغير حق فكان للمشتري حق الرجوع عليه بالثمن، وإن لم يحضر المقر له حتى مات فورثه البائع، أن البائع أقام بينة أن العبد كان ملك الميت وقد بعته بغير أمره، ثم مات البائع وانتقض البيع لطروء الملك النافذ بحكم الإرث على ملك (122ب3) .
الموقوف فالقاضي لا يقبل بينته، ولو أراد أن يحلف المشتري على ذلك لا يحلف؛ لأن الدعوى منه لم تصح فكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، فلا يترتب عليه سماع البينة والتحليف، وإن مات المقر له ورثه البائع ورجل آخر، فأقام الوارث الآخر بينة أن العبد كان لفلان الميت مات وتركه ميراثاً بيني وبينه، وأنه باع بغير أمره وصحح الميراث منه وقبل ذلك لعدم التناقض يقضي له بنصف العبد ولا يقضي بنصف البائع؛ لأنه لو قضى به البائع لا يصلح خصماً في ذلك، ودعواه فيه فاسدة فيه كيف يصح القضاء به للبائع والبائع لا يصلح خصماً فيه، ثم يسأل القاضي المشتري العبد كان للمقر، فإن قال: كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت، وأن البيع حصل بأمر المشتري يقر بالأمر صريحاً والبائع يقر بذلك مقتضي الإقدام على البيع، فإن إقدامه على البيع ولا يصح البيع في ملك الغير إلا بإذنه فقد تصادقا على الأمر، وعلى صحة البيع، ولكن تصادقهما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق الوارث الآخر، فكان للوارث الآخر أن يأخذ نصيبه وبقي البيع في نصيب البائع.
فإن قال: ينتقض البيع في نصيب البائع لحقه، ولكن لو أراد المشتري أن ينقض البيع فيه لتفرقة الصفقة وبدخول عيب الشركة فيه كان له ذلك، وإن أقال المشتري البيع كان للبائع أن يسلم له شيء من العبد ونقض البيع في كل العبد؛ لأن الملك يثبت للعبد في جميع العبد بإقالة الوارث الآخر البينة على ذلك؛ لأن أحد الورثة يتنصب خصماً عن الميت فيما يدعي للميت وصار البائع مستحقاً عليه بزعم المشتري، والشراء من المستحق عليه باطل فلهذا نقض البيع في الكل، قال ولو لم يمت رب العبد ولكن أقال، ثم أمر البائع بالبيع وأشهد على ذلك شهوداً، لو كان ذلك في غير مجلس القضاء، ووكل البائع بخصومة المشتري في ذلك لم يكن البائع وكيلاً؛ لأنه يصير ساعياً في بعض ما تم به، إذ جحود صاحب العبد في غير مجلس القضاء غير معتبر، فلا يصح ذلك منه، واستشهد في «الكتاب» أن الشيء في نقض ما تم من جهته مردود.
فقال: ألا ترى أن بائع الدار إذا كان شفيع الدار وأراد أن يأخذها بالشفعة ليس له ذلك، وذلك لأجل أنه يسلم الشفعة مباشرة العقد بدليل أن المشتري إذا كان شفيعاً كان له حق الأخذ، وإن كان باشر العقد ولكن إنما كان ذلك؛ لأن البائع في نقض ما تم به والمشتري ليس ببائع في نقض ما تم به.
قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى أن البائع لا يصح وكيلاً عن الشفيع في طلب الشفعة، وإنما لم يصح لما قلنا، وهو السعي في نقض ما تم به.(7/66)
نوع آخر
رجل اشترى من رجل بيتاً بألف درهم وتقابضا، ثم ادعى المشتري أن الطيسلان كان لابنه يوم اشترى، فإن أباه مات وترك ميراثاً له لا وارث له غيره وأراد الرجوع على البائع بالثمن لم يسمع دعواه وأقام على ذلك بينة لم تقبل بينته؛ لأنه بالإقدم على الشراء صار شراء بالملك للبائع على رواية «الجامع» ، وعلى رواية «الزيادات» صار مقراً بصحة الشراء على الروايات كلها فبدعواه للأب والإرث من جهته يصير متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به فلا تصح دعواه ولا تقبل بينته، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة تصح دعواه قبلت بينته بعد ذلك، فورث الأب الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل.
أما على رواية «الجامع» ؛ فلأنه وإن صار مقراً بملك الطيلسان للبائع ولكن إقراره حصل في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب فبطل الإقرار الحاصل في ضمنه، وعلى رواية «الزيادات» المشتري صار مقراً بصحة الشراء لا يملك الطيلسان للبائع إلا أن القاضي لما قضى بالطيلسان للأب تبين أن الشراء لم يكن له حق البيع فصار مكذباً في إقراره فالتحق بالعدم.
وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات فورثه الأب كان الطيلسان له ميراثاً؛ لأن الملك تقرر للأب بقضاء القاضي، فلا يبطل بالموت للأب، وإن كان القاضي لم ينقض للأب بالطيلسان حتى مات بطلت البينة، ولم يكن له على البائع سبيل؛ لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء وقد انقطعت خصومة الأب بالموت، والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً، فإن كان الأب قد ترك ابناً آخر غير هذا المشتري كان هو على حجته يعني في البينة التي أقامها الأب في البينة التي بينها بنفسه؛ لأنه لم يسبق منه ولا من أبيه ما يوجب المناقضة ولكن القاضي إنما يقضي بنصف الطيلسان، وذلك حصته وكان ينبغي أن يقضي تلك الطيلسان؛ لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعي له كما ينتصب خصماً عنه في جميع ما يدعي عليه، ولو كان الميت حياً ليس له أن يقضي بكل الطيلسان كذا ههنا.
وجوابه: أن القضاء يقع للوارث من وجه من حيث أن الملك في العين يثبت للوارث ويقع للمورث من وجه فمن حيث إنه يقع للمورث يصلح الابن الآخر خصماً في النصف الآخر ومن حيث إنه يقع للوارث ففي نصيب الصلح يصير خصماً إذ لا مناقضة فيه، وفي نصيب الابن المشتري يكون نائباً عنه فلا يصلح خصماً، كما لو كان الابن المشتري حاضراً.
ولو كان حاضراً بنفسه لا يسمع خصومة فكذلك ههنا فامتنع القضاء به، ثم إذا قضى القاضي بالنصف للابن الآخر والابن المشتري بالخيار في النصف الباقي؛ لأن بعض المبيع استحق من يده، فإن اختار امساكه لزمه نصف الثمن، وإن اختار رده لا يلزمه شيء ولو كان المشتري أقر عند البيع صريحاً أن الطيلسان للبائع، ثم اشتراه منه، ثم(7/67)
استحق الطيلسان والد المشتري وقضى القاضي له بالطيلسان، ثم مات الوالد فورث الابن الطيلسان منه فهذا على وجهين.
إن لم يرجع الابن المشتري بالثمن على البائع سلم الطيلسان للابن المشتري فلا رجوع له بالثمن على البائع؛ لأن المشتري لما أقر بالملك للبائع صريحاً فقد أقر أن البيع كان صحيحاً فهذا الإقرار منه لم يبطل في حقه بقضاء القاضي؛ لأن في زعمه أن الشهود شهدوا بزور وأن القاضي أعطاه في قضائه فحين مات الأب سلم الطيلسان له بجهة البيع لا بجهة الإرث فلا يكون له حق الرجوع على المشتري بالثمن بخلاف الوجه الأول، وهو ما إذا لم يكن أقر الابن المشتري بالملك للبائع صريحاً؛ لأن الإقرار هناك (123أ3) يثبت في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بقضاء القاضي فيبطل ما يثبت في ضمنه فسلم الطيلسان للأب بحكم الإرث لا بحكم البيع، فكان له أن يرجع بالثمن على بائعه وإن كان الابن قد رجع على البائع بالثمن قبل موت المورث، ثم مات الأب، وورث الابن الطيلسان ليس له ذلك ويرد الثمن على البائع؛ لأن البائع مع المشتري وإن تصادقا أن البيع قد صح، وأن القاضي أخطأ في قضائه إلا أن المشتري لما رجع على البائع بالثمن فقد رضي بانفساخ البيع وإنفسخ العقد في حقه فلا يكون له أن يلزم البائع بالبيع وقد انفسخ العقد في حقه ولكن البائع بالخيار، إن شاء استرد الطيلسان وترك الثمن في يد المشتري؛ لأن البيع لم ينفسخ في حق البائع برجوع المشتري عليه بالثمن؛ لأنه يلزم لكن راضياً بالفسخ.
ألا ترى أنه احتيج فيه إلى قضاء القاضي بل يوقف على إجازته، فإن شاء أجاز الفسخ وأخذ الطيلسان على المشتري واسترد الثمن قبل هذا على قول محمد؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ لم ينفذ باطناً عنده فكان البائع بالخيار، إن شاء أبطله، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر فقضاء القاضي بالفسخ نفذ باطلاً فلا يكون للبائع الخيار، فيأخذ الطيلسان من المشتري ليترك الثمن عليه.
وإن كان الرجوع بالثمن بغير قضاء القاضي فالثمن يسلم للمشتري ويؤمر برد الطيلسان على البائع؛ لأن العقد قد انفسخ فيما بينهما بتراضيهما فيسلم الثمن للمشتري ويؤمر المشتري برد الطيلسان على البائع؛ لأن المشتري قد كان أقر صريحاً أن الطيلسان للبائع ولم يبطل هذا الإقرار فيؤمر بتسليم الطيلسان إليه لهذا.
نوع آخر فيه من المسائل المتفرقات
قال أبو يوسف: رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد ونقدتك الثمن وهو ألف درهم، وحجة البائع البيع وقبض الثمن فشهد شاهدان على إقراره بالبيع وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد ولكنه قال: إن عبدي زيد وشهد آخران هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع على هذا العبد اسمه زيد فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، وإن حلف رد الثمن، وإن نكل عن اليمين لزمه البيع بنكوله.(7/68)
وإن شهد شاهدا البيع أنه باع عبده زيد المولد ونسبه إلى شيء يعرف من عمل أو صناعة أو حلية ذلك هذا العبد فهذا والأول سواء في القياس، إلا أني استحسن إذا نسبوه أمر معروف أن أجيزه وكذلك الأمة.
وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عمن اشترى من آخر أرضاً على أنها..... وامتنع المشتري عند نقد الثمن لعلة أنه أنقص والبائع يقول بعتها كما هي، فإن القول قول البائع مع اليمين فيما أنكر من شرط الجرتبين معنى المسألة أن المشتري قال: اشتريتها على أنها...... وأنكر البائع شرط الجربين فالقول قول البائع، وإن حلف أحد تمام الثمن وإن نكل وأقام البينة للمشتري على شرط الجربين قال: بعد هذا القول قول المشتري مع اليمين أنها ليست جربين، فإن حلف فله ردها وليس للمشتري أن يتربص أن يسمح بل ينقد تمام الثمن، وإذا اختلف البائع والمشتري فادعى المشتري بيعاً بائناً والبائع يدعي بيع الوفاء فالقول قول البائع؛ لأن المشتري يدعي زوال ملك البائع عنه وهو ينكر.
وإن أقاما البينة فالبينة بينة المدعي الوفاء؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ لأنه خلاف الظاهر في الساعات.
فإن قيل: أليس أن بيع الوفاء اعتبر في الحكم رهناً، وفي الاختلاف في الرهين البيع البيع أولى؛ لأنه يزيل الملك فكانت البينة عليه إثباتاً.
قلنا: ليس هذا تم ظاهراً بل له حكم الرهن بعد ثبوته فلا بد من اعتبار ظاهر الكلام أولاً وكلاهما بيع وأحدهما ظاهر والآخر خلاف الظاهر فكان فيه زيادة فكان أولى، وكذلك إذا ادعى أحدهما البيع والصلح عن غير طوع، وادعى الآخر عن طوع، فأقام البينة على ما ادعيا فبينة مدعي الكره أولى.
وكذلك إذا ادعى أحدهما إقرار بدين كذا طائعاً، والآخر يدعي على إكراه أو كانت البينة بينة من يدعي الإكراه، والقول في هذه المسائل قول من يدعي الطوع، ذكر هذه المسائل في «مجموع النوازل» وقد تقدم في مسألة بيع الوفاء أن القول قول من يدعي الوفاء وهو البائع، وقد ذكر جنس هذه المسائل قبل هذا في فصل الاختلاف الواقع مع المتعاقدين.
الفصل الثاني والعشرون: في السلم
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان شرائط السلم
فنقول: للسلم شرائط كثيرة:(7/69)
أحدها: بيان جنس المسلم فيه كقولنا تمرزلا.
والثاني: بيان نوعه كقولنا فارسي أو ما أشبهه.
والثالث: بيان صفته كقولنا جيد أو رديء.
والرابع: بيان قدره في المكيلات بالكيل والموزونات بالوزن والمعدودات بالعد لأن بدون بيان هذه الأشياء يقع بينهما منازعة من التسليم والتسلم، أما إذا لم يبينا الجنس، فإن المسلم فيه أجناس مختلفة فالمسلم فيه ربما يعطي جنساً، ورب السلم يطالبه بجنس آخر وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الآخر؛ لأنهما متعاوضان وقضية المعاوضة التساوي، وأما إذا لم يبينا النوع والصفة؛ فلأن المسلم فيه يختلف باختلاف النوع وصفته فتعين كل واحد منهما نوعاً آخر وصفة أخرى، وأما إذا لم يبين المقدار؛ فلأن كل واحد منهما يعين المقدار غير ما يعين صاحبه، وينبغي أن يعلم مقداره بمعيار يؤمن فقده من أيدي الناس، ولو علم قدره بمكيل بعينه نحو أن يقول بهذه الإناء بعينه أو بهذا الزنبيل أو بوزن هذا الحجر لا يجوز إذا كان لا يعرف كم يسع في الإناء ولا يعرف وزن للحجر، وبيع العين يخالف بيع السلم هذا في المشهور.
فإن من قال لغيره: بعت منك من هذه الصبرة بهذه الزنبيل أو بوزن هذا الحجر جاز في المشهور من الرواية؛ لأن التسليم في باب السلم لا يعقب العقد، وإنما يكون بعد حلول الأجل، ومن الجائز أن يهلك ذلك الإناء الحجر قبل حلول الأجل فلا يدري كم يجب تسليمه، فأما في بيع العين السلم يعقب العقد، وأنه لا يهلك في هذه الساعة الطبيعة غالباً فلا تتمكن الجهالة.
وكذا في الذرعيات ينبغي أن يعلم قدر يؤمن فقده من أيدي الناس وإن أعلمه بخشبة بعينها ولا يدري كم هي أو بذراع مده أو يد فلان لا يجوز.
الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه مؤجلاً بأجل معلوم حتى إن سلم الحال لا يجوز وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأجل ليس بشرط لجواز السلم والصحيح مذهبنا؛ لأن جواز السلم عرف بخلاف القياس بالنص والنص جوزه بشرط الأجل قال عليه السلام: «من أسلم منكم فليسلم في كيل (123ب3) معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» ، واختلفت الروايات في الأجل الذي لا يجوز السلم بدونه.
ذكر ابن أبي عمرو أن البغدادي أستاذ البخاري قال: إنه مقدر بثلاثة أيام فصاعداً قال: وهو قول أصحابنا رحمهم الله عن أبي الحسن الكرخي أنه ينظر إلى مقدار المسلم فيه وإلى عرف الناس في تأجيل مثله، فإن كان شرط أجلاً يؤجل لمثله في العرف والعادة تجوز السلم ومالا فلا، وعن أبي بكر الرازي رحمه الله أنه قال: أقل مقدار يتعلق به(7/70)
جواز السلم أن يكون زائداً على مجلس العقد ولو بساعة، وعن محمد أنه أدناه بالشهر فصاعداً وعليه الفتوى.
الشرط السادس: أن يكون المسلم فيه موجوداً من وقت العقد إلى وقت محل الأجل حتى أن السلم في المنقطع لا يجوز وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي: الشرط وجوده وقت محل الأجل لا غير، والصحيح مذهبنا؛ لأنه أسلم فيما هومعجوز التسليم في الحال فلا يجوز كما لو حصل محل الأجل قبل إدراك المسلم فيه.
بيانه: أن العجز ثابت في الحال لو ارتفع العجز إنما يرتفع بسبب قيام الأجل إلى وقت الإدراك، ألا ترى أنه لو جعل محل الأجل قبل ذلك لا يجوز.
قلنا: وقيام الأجل وقت الإدراك ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب بقاؤه بيقين لجواز أنه سقط قبل ذلك لها بإسقاط من له الأجل أو بموته، واستصحاب الحال يصلح لإثبات ما كان ثابتاً ولا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يقبل السلم في المنقطع وإذا لم يثبت القدرة بسبب قيام الأجل الثابت باستصحاب الحال حصل السلم في معجوز الحال، وفي الثاني: وليس كما لو كان موجوداً عند العقد؛ لأن القدرة ثابتة في الحال بيقين لوجوده في أيدي الناس فجاز العقد لثبوت القدرة في الحال ولم يمتنع الجواب لتوهم زوالها بعارض يستمر إذا كان المسلم فيه موجوداً من وقت العقد إلى وقت محل الأجل، حتى جاز السلم فلم يأخذه رب السلم بعد محل الأجل حتى انقطع، فصاحب السلم بالخيار، ان شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله وإن شاء انتظر وجوده؛ لأن العقد وقع صحيحاً وقد عجز المسلم إليه عن تسليم المعقود عليه، فكان لرب السلم أن يفسخ العقد ويرجع برأس ماله، وحد الانقطاع ما ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله أن لا يوجد في السوق الذي تباع فيه، وإن كان يوجد في الثبوت.
الشرط السابع: أن يكون المسلم فيه يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الأثمان نحو الدراهم المضروبة والدنانير المضروبة؛ لأن المسلم فيه يجب أن يكون مبيعاً؛ لأن السلم شرع بطريق الرخصة، والرخصة باستباحة المحضور مع قيام الحاضر فاستباحة الشيء مع قيام الحاضر بخلاف القياس، فالتنصيص على الرخصة في السلم تنصيص على أن السلم بخلاف القياس، وإنما يكون جواز السلم بخلاف القياس أن لو كان المسلم فيه مبيعاً، فأما إذا كان ثمناً كان جوازه على مواقعة القياس؛ لأن البيع بالثمن والثمن ليس في ملكه بجائز قياساً واستحساناً، فلا يجوز السلم في التبر على رواية كتاب الصرف لا يجوز؛ لأن على رواية كتاب الصرف التبر ثمن، وعلى رواية كتاب الشركة يجوز؛ لأن على رواية كتاب الشركة التبر مبيع.
الشرط الثامن: أن يكون المسلم فيه من الأجناس الأربعة من المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة والذرعيات، حتى لا يجوز السلم في الحيوإن هذا(7/71)
مذهبنا، وإنما كان كذلك؛ لأن الحيوان متفاوت في نفسه، فإنك تجد حيوانين (متساويين) في الجنس والصفة والنوع، ثم يختلفان في القيمة اختلافاً فاحشاً لتفاوت بينهما في المعاني الباطنة من الهماجة وحسن السير وما أشبه ذلك، ولهذا لا يضمن الحيوان في الإتلاف بمثله وما كان بهذه الصفة لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال، إما لأنه يفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم أو؛ لأن الواجب في الذمة يفضي بالمثل بلا زيادة ونقصان كضمان الإتلاف، وإذا كان المماثلة شرطاً بين الواجب والمؤدى وإنها لا توجد في الحيوان أدى إلى الربا، إلى هذا أشار عمر رضي الله عنه في قوله: فإن من الربا صوباً لا يكذب.g
... على أحد منهما السلم في السن أي السلم في الحيوان، فقد جعل السلم في الحيوان من الربا، وإنما يتحقق الربا في السلم في الحيوان من الوجه الذي قلنا كان القياس أن لا يجوز السلم في النبات أيضاً؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال، فيؤدي إلى الربا أيضاً على نحو ما بينا في الحيوان، لكن تركنا القياس ثمة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه سئل عن السلم في الكراس، فقال: «لا بأس به إذا كان ضرباً معلوماً إلى أجل معلوم» والنص الوارد في النبات بخلاف القياس لا يكون وارداً في الحيوان؛ لأن في الحيوان نصاً آخر بخلافه، وهو حديث عمر رضي الله عنه.
الشرط التاسع: بيان مكان الإيفاء إذا كان المسلم فيه شيئاً له حمل ومؤنة كالحنطة وغير ذلك، وهذا قول أبي حنيفة آخراً، وكان أبو حنيفة لا يقول ببيان مكان الإيفاء ليس بشرط، ولكن إن ببيان مكان الإيفاء يتعين ذلك المكان للإيفاء، وإن لم يبينا مكاناً بتعين مكان العقد للإيفاء لا يتعين مكان العقد للإيفاء، بل بقي مكان الإيفاء مجهولاً.
وأجمعوا أن مكان العقد يتعين لإيفاء رأس المال، وأجمعوا على أن بيع العين إذا كان المبيع حاضراً في مجلس العقد يتعين مكان العقد لإيفاء المبيع، وأجمعوا على أن في مكان القرض والغصب والاستهلاك يتعين للإيفاء.
وعلى هذا الخلاف إذا باع عبداً حاضراً بكر حنطة ديناً في الذمة إلى أجل عند أبي حنيفة آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة هو الصحيح، وعندهما يتعين مكان العقد للإيفاء. وعلى هذا الخلاف إذا قسم الرجلان داراً على أن يرد أحدهما كراً مؤجلاً في الذمة على صاحبه عند أبي حنيفة رحمه الله آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة لصحة القسمة هو الصحيح، وما ذكر في كتاب القسمة مجهول على قوله الأول، وعندهما: يتعين مكان القسمة للإيفاء.
وعلى هذا الخلاف إذا أجر داره بما له حمل ومؤنة عند أبي حنيفة رحمه الله آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء لصحة الإجارة، وعندهما: يتعين مكان الدار للإيفاء.
وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في المسألة: أن سبب التزام الكر السلم، فيتعين مكان السلم للإيفاء كما في الغصب والقرض وما أشبه ذلك، وهذا؛ لأن(7/72)
العقد عقد معاوضة والمعاوضة تقتضي التساوي، فإذا وجب تسليم أحد البدلين وهو رأس (124أ3) المال في مكان العقد يجب تسليم البدل الآخر فيه تحقيقاً للتساوي، ألا ترى أن بيع العين إذا كان المبيع حاضراً في مكان العقد حتى وجب تسليم المبيع في مكان العقد يجب تسليم الثمن في مكان العقد، وإذا كان غائباً عن مكان العقد حتى وجب تسليمه في المكان الذي فيه يجب تسليم الثمن في ذلك المكان ليستوي حكم البدلين كذا ههنا، وإذا تعين مكان العقد للإيفاء كان مكان الإيفاء معلوماً، ولو فسد العقد ههنا فسد لجهالة مكان الإيفاء.
ولأبي حنيفة: أن مكان العقد لو تعين مكان الإيفاء، أما إن تعين نصاً بالعقد أو ضرورة لا وجه إلى الأول؛ لأن العقد يتعرض للمكان أصلاً من حيث النص، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الضرورة إنما تتحقق إذا وجب تسليم المعقود عليه عقب العقد حتى يصير مطالباً بالتسليم عقيب العقد، فيتعين مكان العقد للإيفاء ضرورة وجوب التسليم عليه في مكان العقد، وفي هذه المسائل التي ذكرناها لم يجب تسليم العقد عليه عقيب العقد، فلم يصر مطالباً بالتسليم في مكان العقد، فلا يتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، ولم يعينا مكاناً آخر يبقى مكان الإيفاء مجهولاً وإنه يفسد العقد فيما له حمل ومؤنة لمكان المنازعة، وأما إذا كان المسلم فيه شيئاً ليس له حمل ومؤنة لا يشترط بيان مكان الإيفاء بالإجماع.
وهل يتعين مكان العقد للإيفاء؟ ذكر في بيوع «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ما يدل على أنه يتعين عندهم جميعاً، وذكر في كتاب الإجارات ما يدل على أنه لا يتعين عندهم جميعاً، وإن بينا مكاناً آخر للإيفاء فيما ليس له حمل ومؤنة هل يتعين ذلك المكان للإيفاء؟ وذكر في كتاب الإجارات أنه لا يتعين، وذكر الطحاوي أنه يتعين، وإليه أشار محمد في «الأصل» .
الشرط العاشر: قبض رأس المال في المجلس سواء كان رأس المال شيئاً يتعين بالتعيين أو لا يتعين، إنما كان كذلك لأن السلم عقد جوز بخلاف القياس إلى رأس المال، فإذا افتراقا من غير قبض رأس المال يتبين أنه لا حاجة فيعمل فيه بالقياس، فقد ذكر قبض رأس المال والمجلس، وقبض رأس المال في المجلس ليس بشرط لا محالة، وإنما الشرط القبض قبل افتراقهما بالأبدان ألا ترى أن ما ذكر في «النوادر» لو تعاقدا عقد السلم ومشيا ميلاً أو أكثر ولم يغب أحدهما عن صاحبه، ثم قبض رأس المال فافترقا جاز.
وفي «النوادر» أيضاً: لو ناما أو نام أحدهما لم يكن ذلك فرقة، وفيه أيضاً: إن أبى المسلم إليه قبض رأس المال في المجلس أجبر عليه.
الشرط الحادي عشر: إعلام قدر رأس المال في المقدرات نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فإن كان مشاراً إليه ليس بشرط حتى أن من قال لغيره: أسلمت إليك هذه الحنطة في كذا منٍ من الزعفران لا يعرف قدر الحنطة لا يجوز على(7/73)
قول أبي حنيفة، وأجمعوا على أن رأس المال إذا كان شيئاً ذرعياً أو حيواناً أو شيئاً من العدديات المتقاربة أنه يصير معلوماً بالتعيين والإشارة، وأجمعوا أن في بيع العين الثمن يصير معلوماً بالإشارة إليه والتعيين، ولا يحتاج إلى إعلام قدره، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن الدراهم قلما تخلو عن الزيف، وقد يرد الاستحقاق على بعضها، فإذا رد الزيف ولم يستبدل في المجلس، إن استحق بالبعض فسخ العقد بقدره، فإذا لم يعلم مقداره لا يدري في أي قدر نفي العقد، وفي أي قدر انفسخ، أكثر ما في الباب أن هذه أمور موهومة إلا أن الأصل في السلم عدم الجواز، وإنما جوز إذا وقع الأمن عن الغرر من كل وجه، وإنما يقع الأمن عن الغرر من كل وجه بإعلام رأس المال، وبه فارق ما إذا كان رأس المال ثوباً بعينه حيث لا يشترط بيان ذرعانه؛ لأن الذرعان في الثياب تجري مجرى الوصف بعد الإشارة ليس بشرط.
وينبنى على هذه المسألة إذا أسلم عشرة دراهم في سنتين ولم يبين حصة كل واحد منهما أن كانا مختلفي الجنس بأن أسلم (في) هروي ومروي أو أسلم في حنطة وشعير أو كانا متفقي الجنس مختلفي الصفة بأن أسلم في هرويين أحدهما جيد والآخر رديء لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يبين حصة كل واحد منهما، وإن كانا متفقي الجنس والصفة بأن أسلم في هرويين جيدين، القياس على قول أبي حنيفة: أن يشترط بيان حصة كل واحد منهما، وفي الاستحسان: لا يشترط بيان حصة كل واحد بالإجماع قياساً واستحساناً.
الثاني عشر: أن يكون رأس المال منتقدة عند أبي حنيفة رحمه الله أن غيره كرها خلافا لهما، بأن ترك الانتقاد يؤدي إلى فساد السلم على ما عليه غالب دراهم الناس، فإما لا يخلو عن الزيوف حتى لم ينقده ربما يجده أكثره زيوفاً فيرده، وينفسد السلم في قدر المردود استبدل مثله خياراً في مجالس الرد، أو لم يستبدل والاحتراز عن هذا الفساد يمكن (عند) الالتقاء ويكون شرطاً عند أبي حنيفة رحمه الله.
الشرط الثالث عشر: أن يكون عقد السلم باتاً لا خيار فيه، فإذا عقد عقد السلم بشرط الخيار لهما أو لأحدهما، فالسلم فاسد إلا إذا أبطل صاحب الخيار خياره قبل التفرق بالأبدان ورأس المال قائم في يد المسلم إليه، فحينئذ ينقلب العقد جائزاً. ولو كان رأس المال هالكاً في يد المسلم إليه وقت إبطال الخيار لا ينقلب العقد إلى الجواز.
الشرط الرابع (عشر) : أن يكون ما جعل مسلماً فيه مضبوطاً بالوصف على الوجه الذي يذكر الوصف بذوات الأمثال حتى قالوا ما كان مضبوطاً بوصفه معلوماً بقدره موجوداً من وقت أجله يجوز السلم فيه ومالا فلا.
نوع آخر في بيان ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز
إذا أسلم ثوباً هروياً في ثوب مروي لا يجوز، وإذا أسلم قفيز حنطة في قفيز شعير لا يجوز أيضاً، والأصل في جنس هذه المسائل معروفة، علة الحرمة في ربا النقد، وفي(7/74)
ربا النساء، فنقول ربا النقد يحرم بوصفين وهو القدر والجنس، ومعنى القدر الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات، وربا النساء يحرم بأحد وصفي علة ربا النقد، وهو الجنس بثمنين بأن أسلم هروياً في ثوب هروي أو الوزن أو الكيل في مثمنيين أو ثمنين حتى إنه إذا أسلم قفيز حنطة أو قفيز شعير لا يجوز لوجود الكيل في مثمنيين.
وكذا إذا أسلم دراهم في الذهب لا يجوز لوجود الوزن في ثمنين، وإذا أسلم في الحديد في الزعفران لا يجوز لوجود الوزن في مثمنين، فإذا أسلم الدراهم في الزعفران يجوز؛ لأنه لم يوجد الوزن في مثمنين أو ثمنين إنما وجد في ثمن ومثمن.
ولا بأس بأن يسلم الفلوس في الحديد والرصاص وما أشبهه؛ لأنه لم يجمعهما أحد وصفي علة الربا النقد وهو الوزن أو الجنس.
وإذا أسلم الفلوس في الصفر لا يجوز؛ لأن جمعهما الجنسية والمراد من الفلوس الفلوس الرائجة، أما لو كانت كاسدة لا يجوز إسلامها في الحديد والرصاص؛ لأنها بالكساد صارت وزنية، فيكون هذا إسلام الموزون وهما مثمنان. ولو أسلم النصل في الحديد لا يجوز (124ب3) لمكان الجنسية، وكذا السيف في الحديد، وإن أسلم السيف في الصفر يجوز إذا كان السيف يباع وزناً لا يجوز؛ لأن في الوجه الثاني جمعهما الوزن وفي الوجه الأول لا.
وإذا أسلم الدراهم في المكيلات وزناً وأسلم الدراهم في الوزنيات كيلاً، ومعناه: وإذا أسلم فيما ثبت كيله بالنص وزناً أو أسلم فيما يثبت وزنه كيلاً وروى الحسن في «المجرد» عن أصحابنا رحمهم الله أنه يجوز، وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا يجوز، فصار فيه روايتان.
وفي «المنتقى» ذكر قول أبي حنيفة ومحمد فيما إذا أسلم في المكيل وزناً في طرف عدم الجواز، وقول أبي يوسف في طرف الجواز. واتفقت الروايات عن أصحابنا أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، وإن تماثلا وزناً كالحنطة بالحنطة وأشباهها؛ لأن الشرع ورد فيها بالجواز بشرط التماثل في الكيل، قال: وفي «فتاوى أهل سمرقند» لو علم أنهما تماثلاً كيلاً يجوز، وكذا بيع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز إن تماثلا في الوزن؛ لأن الدقيق كيلي حتى لو علم أنهما تماثلاً كيلاً يجوز، وفيه أيضاً: وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه كيلاً كالدراهم بالدراهم كيلاً إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله قال: يجوز إذا اعتاد الناس ذلك.
والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبداً، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبداً، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعرف أصل زمانه فهو مكيل أبداً، وإن تعارف الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في تلك الوقت فهو موزون أبداً، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأو موزوناً أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة.
وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في آخر الباب الأول من كتاب البيوع.
وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلاً أو وزناً معلوماً إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلاً أو موزوناً غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأيضاً، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلاً ووزناً، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضاً.
وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً به وقت حلول الأجل، ولا بد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً بالقطع ذكر المسألة في «الأصل» .
وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس.
والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبداً، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبداً، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعرف أصل زمانه فهو مكيل أبداً، وإن تعارف الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في تلك الوقت فهو موزون أبداً، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.(7/75)
وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأو موزوناً أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة.
وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في آخر الباب الأول من كتاب البيوع.
وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلاً أو وزناً معلوماً إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلاً أو موزوناً غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأيضاً، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلاً ووزناً، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضاً.
وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً به وقت حلول الأجل، ولا بد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً بالقطع ذكر المسألة في «الأصل» .
وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس.
ثم اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: لا فرق بين مسألة الحنطة وبين مسألة الثوب؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر: إذا أسلم في حنطة هراة، وهو مما ينقطع عن أيدي الناس لا يجوز، وذكر إذا أسلم في ثوب هروي يجوز، ولم يذكر هو ينقطع عن أيدي الناس، ولو كان ينقطع من أيدي الناس لا يجوز، فعلى هذا يقع الفرق بين الثوب والحنطة. ومن المشايخ من فرق بين الحنطة والثوب، والفرق: أن نسبة الثوب إلى هراة لبيان جنس المسلم فيه لا لتعيين المكان؛ لأن الهروي ما ينسخ على صفة معلومة سواء نسخ على تلك الصفة بهراة أو غيرها يسمى هروياً، وذلك الجنس مما لا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس حتى (لو) كان هذا لتعيين المكان وثبات ذلك المكان مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم أيضاً، فأما نسبة الحنطة إلى مكان لتعيين ذلك المكان، فإذا كان طعام ذلك الموضع مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم فيه حتى لو كان نسبة الحنطة(7/76)
إلى مكان لبيان ذكر الصفة لا لتعيين المكان كالجسموإني ببخارى، فإنه يذكر لبيان الجودة لا يفسد السلم، وإن كان يتوهم انقطاع حنطة ذلك الموضع.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: يجوز أن يسلم المروي البغدادي في مروي مرو؛ لأنهما جنسان، وكذلك المروي البغدادي في مروي الأهوازي ومروي الواسطي. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال: «لا خير أن يسلم عن لا في قطن؛ لأنه وزني وكله» ، وفي «الفتاوى» : إذا أسلم قطن هروي في ثوب هروي جاز؛ لأنه عدمت المجانسة؛ لأن الثوب خرج من أن يكون قطناً.
وفيه أيضاً: إذا أسلم شعراً في مسح شعر، إن كان لا ينقص ذلك المسح ولا يصير شعراً جاز؛ لأنه انعدمت المجانسة، وإن كان ينقص ويصير شعراً لا يجوز؛ لأنه حتى شعراً ألا ترى أنه يعود شعراً؟.
وفي «المنتقى» : إذا أسلم صوفاً في لبد وشعراً في مسح أو خز في ثوب خز لا يجوز ولم يوصل. ولو أسلم غزلاً في ثوب جاز، وعلل فقال: لأن اللبد ينقض فيعود صوفاً، وكذلك الخز والمسح والثوب لا ينقض فيعود غزلاً، وعن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس أن يسلم اللبن في الجبن، وعنه أيضاً: ويجوز أن يسلم السمن في الناطف وإن لم يخلط الناطف بالدقيق.
قال في «الجامع الصغير» : لا (خير) بالسلم في الجوز (و) في البيض عدداً ووزناً وكيلاً، ولا خير في سلم الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء وما أشبه ذلك؛ لأن الجوز والبيض عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة جائز ولا كذلك الرمان والسفرجل؛ لأنه عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة لا يجوز، والمتقارب ما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أن كل ما يتفاوت آحاده في القيمة فهو عددي متفاوت وما لا يتفاوت في القيمة فهو عددي متقارب، ثم قال: يجوز السلم في الجوز والبيض عدداً، لم يشترط للجواز (125أ3) إعلام الصفة أنه جيد أو وسط أو رديء، قالوا: وذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» أنه يجوز السلم في الجوز وإن لم يسم وسطاً ولا جيداً، وأما البيض: إن بين بيض الأوز أو الدجاجة أو الحمام يجوز، وإن لم يسم وسطاً ولا جيداً، فلم يجعل إعلام الصفة شرطاً للجواز في البيض والجوز؛ لأنه لما سقط إعلام القدر حتى جاز السلم فيها عدداً مع أن بين العددين تفاوت من حيث القدر، فلأن يسقط إعلام الصفة أولى.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: ولا خير في السلم في الجوز الهندي وفي بيض النعام، وعنه أيضاً: (لو أسلم) بيض الأوز في بيض الدجاج أو أسلم بيض النعام في بيض الدجاج جاز، وإن أسلم بيض الدجاج في بيض النعامة أو أسلم بيض الدجاجة في بيض الأوز إن كان في حين يقدر عليه لا يجوز.(7/77)
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويجوز السلم في الفلوس عدداً، ذكر المسألة مطلقاً من غير ذكر خلاف، فمن مشايخنا من قال: إن جواز السلم في الفلوس قولهما؛ لأن ثمنية الفلوس عندهما قابلة للبطلان؛ لأن الفلوس إنما صار ثمناً باصطلاح الناس، وإلا فهي سلعة في الأصل، وما ثبت باصطلاحهم على خلافه، فإذا أقدما على السلم فيها والسلم لا يجوز إلا في المثمن ذلك إبطالاً لاصطلاح الأول، فعادت سلعة، فيجوز السلم فيها، فأما على قول محمد رحمه الله: ينبغي أن لا يجوز لا يعتبر الفلس ثمناً حتى لا يجوز بيع فلس بفلسين، والسلم في الأثمان لا يجوز. قالوا: وقد روى أبو الليث الخوارزمي عن محمد نصاً: أن السلم في الفلوس لا يجوز.
ومن المشايخ من قال: جواز السلم في الفلوس قول الكل، وهذا القائل يفرق لمحمد رحمه الله بين السلم وبين البيع، والفرق: أن من ضرورة جواز السلم كون المسلم فيه مثمناً، فيضمن أقدامها على البيع إبطالاً لذلك الاصطلاح في حقهما، فبقي ثمناً كما كان، فلا يجوز بيع الواحد بالاثنين، ويجوز السلم في الثوم والبصل كيلاً لا عدداً، ذكرهما شيخ الإسلام في «شرحه» وجعلهما من العدديات المتفاوتة، والسلم في الباذنجان يجوز عدداً، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» ، والسلم في الكاغد يجوز عدداً؛ لأنه عددي ذكره الصدر الشهيد في «واقعاته» ، ولا خير في السلم في الرطبة؛ لأن الرطبة لا تباع وزناً إنما تباع حزماً وبين الحزم متفاوت، وكذلك في الحطب حزماً أو قالا، فإن بين من ذلك على وجه لا تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم يجوز في بعض الشروح لو بين الطول والعرض والغلظ في المسألتين، وكان عرف ذلك، وإذا أسلم في كندم بنكير أو قال: كندم منك، أو قال: كندم سره يجوز؛ لأنه لايراد بهذه الألفاظ الجيد.
في «فتاوي أبي الليث» ، وفي «الأصل» : لا خير في السلم في الزجاج إلا أن تكون مكسرة، فيشترط منها وزنا معلوماً فيجوز، وكذلك الزجاج فإنه موزون معلوم على وجه لا تفاوت فيه، فأما الأوإني المتخذة من الزجاج فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم لا بذكر العدد ولا بذكر الوزن، قال شمس الأئمة السرخسي: إلا أن يكون شيئاً معروفاً يعلم أنه لا تفاوت في المالية كالمكاحل والطاسات، فإن أبعاد ذلك لا تختلف في المالية إنما تختلف أنواعه، وكل نوع معلوم عند أهل هذه الصنعة، فيجوز السلم فيه حينئذ بذكر العدد.
قال: ولا بأس بالسلم في الآجر واللبن إذا اشترط من ذلك معروفاً وأجلاً معلوماً ومكاناً معلوماً وأراد بقوله شيئاً معلوماً لبناً معلوماً. ولو اشترى آجره لم يجز من غير إشارة رواه الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة إلا أن وضع المسألة في «المجرد» في مائة آجرة من أبون. وذكر شيخ الإسلام وجه الفرق، فقال: الآجر من العدديات المتقاربة باعتبار القدر متى كان اللبن واحداً إلا أن ما يكون من التفاوت بين لبن ولبن من حيث المقدار لايعتبر الناس فيما بينهم متى كان اللبن واحداً.
ولا تجوز المماسكة بينهم لأجل ذلك، فأما باعتبار الصنعة وهي النضج من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت من حيث النضج بين آجر متفاوت معتبر يعتبره الناس(7/78)
فيما بينهم، وتجري فيه المماكسة فيما بينهم، فألحق بالعدديات المتقاربة في باب السلم باعتبار الحاجة وبالعدديات المتفاوتة في البيع لانعدام الحاجة، ويمكن أن يقال بأن الآجر من العدديات المتقاربة إذا كان الملبن واحداً في السلم وفي بيع العين جميعاً وفساد البيع في مسألة «المجرد» لاختلاف اللبن واحداً لما قلتم، فإن الموضوع بمسألة «المجرد» لو باع مائة آجرة من أتون لم يجز، ولم يذكر أن الملبن واحد أو مختلف، وكما يوضع في الأتون اللبن من ملابن واحد يوضع اللبن من ملابن تختلف، فيمكن أن نحمل مسألة «المجرد» على الملابن المختلفة وعند ذلك لا يقع الفرق بين مسألة السلم وبين مسألة البيع، ثم ذكر في هذه المسألة مكاناً معلوماً.
واختلف المشايخ بعضهم قالوا: أراد به مكان الإيفاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: أراد به المكان الذي يضرب فيه اللبن.
ولا بأس في السلم بالثياب والبسط والحرير بعد أن يشترط طولها وعرضها بذرع معلوم ويبين صفتها وهذا استحسان. والقياس: أن لايجوز؛ لأن الثياب ليست من ذوات الأمثال، لكن استحسنا ذلك بحديث ابن عباس على ما مر، وبحديث علي فإنه قال: «لا بأس بالسلم في الثياب» ، والمعنى فيه أن الثياب مصنوع العباد والعبد إنما يصنع بآلة، فإذا اتحد الصانع والآلة يتحد المصنوع، فلا يبقى بعد ذلك إلا تفاوت يسير، والتفاوت اليسير في المعاملات متحمل، ثم إن محمداً رحمه الله اشترط لجواز هذا السلم بيان الطول والعرض والصفة ولم يشترط بيان الوزن، ولا شك أن بيان الوزن في الكرباس ليس بشرط؛ لأن الكرباس لايختلف باختلاف الوزن. وهل يشترط بيان الوزن في الحرير؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يشترط، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في «شرح القدوري» ؛ لأن الحرير يختلف باختلاف الوزن ولم يبين الذرع لايجوز؛ لأن الذروعات بمنزلة الصفة، فكأنه أسلم في موزون وترك صفته.
قال شيخ الإسلام خواهر زاده في «شرحه» : إذا اشترط الوزن في الحرير ولم يشترط الذرعان إنما لا يجوز السلم إذا لم يبين لكل ذرع ثمناً، أما إذا بين لكل ذرع ثمناً يجوز، وإن بين طولها وعرضها بذراع رجل معروف فلا خير فيه، هكذا ذكر في «الأصل» . قال مشايخنا: أراد بقوله بذراع رجل معروف فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، ألا ترى أنه قال: لو مات ذلك الرجل لم يدر رب السلم، وإذا شرط كذا كذا ذراعاً مطلقاً فله ذراع وسط اعتباراً للنظر من الجانبين.
واختلف المشايخ في تفسير قوله: فله ذراع وسط، بعضهم قالوا: أراد به المصدر، وهو فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، يعني لا يمد كل المد (ولا يرخى كل) الإرخاء، وقال بعضهم: أراد به الخشب؛ لأن خشب الذرع يتفاوت في الأسواق، فمنها ما يكون أقصر ومنها مايكون أطول. قال شيخ الإسلام: والصحيح أنه يحمل عليهما إذا شرط مطلقاً (125ب3) فيكون له الوسط منهما نظراً بين الجانبين.
قال في «الأصل» : ولا بأس بالسلم بالتبن كيلاً معلوماً وضماناً معلوماً وكيله(7/79)
العرارة، فإن كان معلوماً يجوز، وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه، فقد شرط الكيل في التبن، وقد اختلف المشايخ قال بعضهم: إنه مكيل على كل حال؛ لأنه متولد من المكيل وإن تعارفوا كيلاً فهو مكيل.
ولا باس بالسلم في البواري بعد أن يشترط ذرعاً وصفة معلومة وصنعة معلومة، هكذا ذكر في «القدوري» ، ولا خير في السلم في جلود الإبل والبقر والغنم؛ لأنه عددي متفاوت وإن بين لذلك ضرباً معلوماً يجوز. والأدم إذا كان يباع وزناً يجوز السلم فيها بذكر الوزن إذا بينوا على وجه لا تمكن المنازعة بينهما في التسليم، والتسليم معه لا يصير.
(ولا خير) في السلم في الرؤوس والأكارع؛ لأنها من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت الذي يكون بين رأس ورأس وكراع وكراع تفاوت يعتبره الناس فيما بينهم، وتجري المماسكة لأجله، ولا يشترون إلا بعد الإشارة.
ولا خير في السلم في اللحم في قول أبي حنيفة من غير فصل بينما إذا كان منزوع العظم أو لم يكن، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لا بأس به إذا بين الجنس بأن قال: جذع أو ضأن، بأن قال: مضى أو حل وبين صفة اللحم بأن قال: سمين أو مهزول وبين الموضع بأن قال: من الحنت مثلاً وبين القدر بأن قال: عشرة أمناء فوجه قولهما أن الجهالة تنعدم ببيان هذه الأشياء، ولو لم يجز السلم ههنا، إنما لم يجز لمكان الجهالة.
ولأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، ويكثر عند صغره، فكان المسلم فيه مجهولاً، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم. الثاني: أن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال ورغبات الناس تتفاوت فيه أيضاً، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم، ولا بأس بالسلم في الشحوم والألبان؛ لأنها لا تختلف سمناً وهزالاً، وكذلك ما فيها من الدسم لا يختلف باختلاف ما فيها من العظم.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا بأس بالسلم في السمك المالح وزناً معلوماً. يجب أن يعلم أن السلم في السمك عدداً لا يجوز طرياً كان أو مالحاً؛ لأنه عددي متفاوت فيه الصغير والكبير، وأما السلم فيه وزناً، فإن كان طرياً وكان السلم في غير حينه لا يجوز، هكذا ذكر في «الأصل» ، وطعن بعض المشايخ في قوله غير حينه وقالوا: الطري مما يوجد في الأحايين كلها؛ لأن وجوده بالأخذ واحدة ممكن في الأوقات كلها، والجواب: أن الأخذ قد يتعذر في بعض الأوقات بأن يتجمد الماء أو يكثر أو ما أشبه ذلك، فلهذا شرط الحين وإن كان السلم في الطري في حينه، أو كان السلم في المالح ذكر في «الأصل» ولم يحك خلافاً.
وروى أبو يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة: أن السلم في السمك لا يجوز بحال من الأحوال، وجه هذه الرواية: أن السمك لحم، فلا يجوز السلم فيه كما لا يجوز في لحم البقرة والشاة عنده. وجه الفرق لأبي حنيفة على ظاهر الرواية: أن السلم في لحم(7/80)
البقرة والشاة إنما لم يجز، إما لأن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، وهذا المعنى لم يكن بحقيقة ههنا؛ لأن العظم في السمك ساقط الاعتبار فيما بين الناس لا تجري المماكسة باعتباره، أو لأن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال، وهذا المعنى لا يمكن يحقيقة ههنا أيضاً؛ لأن السمن والهزال ليس بظاهر فيه، وهذا كله قول أبي حنيفة.
و (قال) أبو يوسف ومحمد: لا يجوز السلم في كبار السمك، وفرقا بينه وبين اللحم؛ لأن في اللحم يمكن بيان مكان اللحم، فتزول الجهالة في السمك لا يمكن، وهذا كله في كبار السمك، وأما الصغار منه فالسلم فيها جائز وزناً معلوماً أو كيلاً معلوماً، طرياً كان أو مالحاً بعد أن يكون السلم في الطري في حينه، فقد فرقا بين الصغار والكبار، والفرق: أن في الكبار إنما لا يجوز السلم عندهما؛ لأنه لا يمكن بيان مكان اللحم وهذا المعنى لا يتأتى في الصغار.
وقال في «الأصل» : ولا خير في السلم في شيء من الطيور ولا لحومها، أما في الطيور فلا يجوز؛ لأنه سلم في الحيوان، فإن قيل: السلم في الحيوان إنما كان باطلاً لتفاوت الحيوان في نفسه تفاوتاً يعتبره الناس، ومن الطيور ما لا يتفاوت تفاوتاً يعتبره الناس كالعصفور، فكان يجب أن يجوز السلم فيه كما في الجوز والبيض، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن بطلان السلم في الحيوان ثابت نصاً على ما روينا والعبرة في المنصوص عليه النص لا للمعنى، والنص لم يفصل بين حيوان وحيوان، وإليه أشار محمد رحمه الله حين سئل: لماذا لا يجوز السلم في الحيوان لأنه لا يضبط في الوصف؟ قال: لا لأني أجوز السلم في الديباج ولا أجوزه في الشاة وضبط الشاة أهون علي من ضبط الديباج السنة....
والثاني: أن العصفور إن كان من العدديات المتقاربة إلا أنه بمعنى المنقطع؛ لأنه مما لا يقتنى ولا يحبس التوالد وقد يمكن أخذه وقد لا يمكن، ولا رجحان لإمكان الأخذ على عدم الإمكان حتى يقام مقام الوجود في أيدي الناس، فيبقى العبرة للانقطاع بخلاف السمك الطري؛ لأن إمكان الأخذ راجح على عدم الإمكان، فيكون العبرة لإمكان الأخذ فيقام إمكان الأخذ مقام الوجود في أيدي الناس.
وأما لحومها: فأما عدداً فلا إشكال أنه عددي متفاوت، وأما وزناً هل يجوز؟ فظاهر ما ذكر محمد يدل على أنه لا يجوز؛ لأنه أطلق إطلاقاً، فمن مشايخنا من قال: بأن المسألة على الاختلاف لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجوز كما لو أسلم في اللحم، ومنهم من يقول: لا يجوز وزناً عند الكل إلا أنه حمل المذكور من لحم الطير على طيور لا تقتنى ولا تحبس للتوالد، فيكون البطلان بسب أنه أسلم في المنقطع، فلا يجوز بسبب الانقطاع عندهم جميعاً، وإن ذكر الوزن فأما فيما يقتنى ويحبس للتوالد(7/81)
فيجوز عند الكل؛ لأن ما يقع من المتفاوت في اللحم بسبب العظم في الطيور تفاوت لا يعتبره الناس، فإنه لا تجري المماكسة بسببه فكان بمنزلة عظم الإلية وعظم السمك، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف خواهرزاده.
ولا يجوز السلم في الخبز عند أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا وزناً ولا عدداً؛ لأن الخبز عنده يختلف بالعجن والنضج وكيفية الخبز، فمنه الخفيف ومنه الثقيل، والمقاصد مختلفة، ومع التفاوت لا يمكن تجويز السلم فيه، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يجوز وزناً واختيار المشايخ للفتوى قول أبي يوسف إذا أتى بشرائطه لحاجة الناس، لكن يجب أن يحتاط وقت القبض حتى يقبض من جنس الذي لا يصير استبدالاً بالمسلم فيه قبل القبض.
وبيع الحنطة بالخبز وبيع الدقيق به وبيع الخبز بهما يجوز متساوياً متفاضلاً إذا كانا نقدين، وإن كان أحدهما نسيئة والآخر نقداً، فإن كان الخبز نقداً يجوز بالاتفاق، وإن كان الخبز نسيئة عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز بناء على اختلافهم في جواز التسليم في الخبز وزناً، والمشايخ أفتوا بقول أبي يوسف. وإذا أراد دفع الحنطة إلى الخباز جملة وأخذ الخبز متفرقاً ينبغي أن يبيع صاحب الحنطة خاتماً أو سكيناً من الخباز بألف من الخبز مثلاً (126أ3) ويجعل الخبز ثمناً ويصفه بصفة معلومة حتى يصير ديناً في ذمة الخباز ويسلم الخاتم إليه، ثم يبيع الخباز الخاتم من صاحب الحنطة بالحنطة مقدار ما يريد الدفع إليه ويدفع الحنطة فيبقى له على الخباز الخبز الذي هو ثمن، هكذا قيل، وهو مشكل عندي، قالوا: إذا دفع دراهم إلى خباز، وأخذ منه كل يوم شيئاً من الخبز، فكلما أخذ يقول: هوعلى ما قاطعتك عليه.
ولا خير في السلم في الجوهر واللؤلؤ لا عدداً ولا وزناً ولا كيلاً، قال الشيخ الإمام الأجل السرخسي: ما ذكر من الجواب محمول على الكبار من اللآلئ، وأما الصغار منها التي تباع وزناً وتجعل في أدوية العين والمفوح فالسلم فيها يجوز وزناً، ولا بأس بالسلم في الجص والنورة كيلاً معلوماً ومكاناً معلوماً، واختلف المشايخ في قوله: ومكاناً معلوماً قال بعض: أراد به مكان الإيفاء على قول أبي حنيفة، وقال بعضهم: أراد به المكان الذي يستخرج منه الجص والنورة.
ولا بأس بالسلم في الأدهان إذا شرط من ذلك ضرباً معلوماً، من مشايخنا من قال: هذا في الدهن الصافي، فأما المربي بالبنفسج وغيره فلا؛ لأن المربي يختلف باختلاف ما يربى من الأدوية، فهو نظير الناطف المبرز، ولا يجوز السلم فيه لما يقع من التفاوت في البروز التي فيه، والأصح أن المربي وغيره في ذلك سواء.
ولا بأس بالسلم في الصوف وزناً وإن اشترط كذا وكذا جزه بغير وزن لم يجز، وإن أسلم في صوف غنم بعينها لم يجز، وكذلك ألبانها وسمونها، ولا خير في السلم في السمن الحديث والزيت الحديث والحنطة الحديثة وهي التي تكون في هذا العام؛ لأنها قد لا تكون، ولا بأس بالسلم في نصول السيف يريد به إذا كان معلوم الطول والعرض(7/82)
والصفة، ولا يجوز إسلام الصوف في الشعر؛ لأنه يجمعهما الوزن. قال شمس الأئمة الحلوإني: هذا إذا كان الشعر يباع وزناً كذنب الفرس وغيره، لا بأس بالسلم في الجبن والمصل إذا كان معلوماً عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت هو الصحيح.
ولا بأس بالسلم في القطن والكتان والإبريسم والنحاس والحديد والرصاص والصفر والشبة، وهذه الأشياء من ذوات الأمثال، والحناء والوسمة والرياحين اليابسة التي تكال نظير هذه الأشياء وأما الرياحين الرطبة والبقول والقصب والخشب والحطب فهذه الأشياء ليست من ذوات الأمثال، فلا يجوز السلم فيها.
في باب البيع بالفلوس في كتاب الصرف، وفي بيوع «الأصل» : لا بأس بالسلم في الجذوع إذا بين ضرباً معلوماً وبين الطول والعرض والغلظ والأصل والمكان الذي يوفيه فيه، وكذلك الساج وصوف العيدان والخشب والقصب وإعلام الغلظ في القصب بإعلام ما يشد به أنه ذراع أو شبر، والغزل من ذوات الأمثال ذكره شمس الأئمة السرخسي في أول إجازته، وذكر الطحاوي في كتابه أنه كل ما كان موزوناً فهو مثله.
نوع آخر منه
إذا أسلم إلى رجل ديناً له عليه لم يجز؛ لأن هذا بيع الدين بالدين، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن ذلك، فإن لم يفترقا حتى نقده في المجلس يعني نقد رب السلم رأس المال في المجلس صح؛ لأن الدراهم لا تتعين في العقود، وإن عينت فلا تتعين كذلك الدين، وإن أضيف العقد إليه فصار وجود الإضافة إلى الدين والعدم بمنزلة. ولو لم توجد الإضافة إلى الدين وقبض الدراهم في المجلس صح فههنا كذلك.
قال: ولو أسلم إليه دراهم له ثالث لم يصح السلم، وإن نقده في المجلس؛ لأن الفساد ههنا ما كان باعتبار الإضافة إلى الدين، وإنما كان باعتبار شرط التسليم على ثالث، وهو شرط بغير مقتضى العقد أن يكون التسليم على العاقد، فإذا شرط التسليم على غيره فقد غير مقتضى العقد، فلا يرتفع الفساد لهذا.
ذكر في «الجامع الصغير» : رجل أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة، ومائة كانت له ديناً على المسلم إليه، فحصة النقد جائزه، وحصة الدين باطلة، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» ، واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يقول أسلمت إليك مائتي درهم في كر حنطة ولم يصف المائتين إلى دراهم بعينها، ثم نقد رب السلم من المائتين مائة وجعل المائة الأخرى قصاصاً بدين كان له قبل عقد السلم، أو قال: أسلمت إليك هذه المائة الدين التي لي عليك في كر حنطة، ففي الوجه الأول جاز السلم بحصة ما نقد عندهم جميعاً، ويبطل بحصته ما لم ينقد عندهم جميعاً؛ لأن السلم وقع جائزاً نافذاً من الابتداء خالياً عن الشروط الفاسدة لما ذكر المائتين مطلقاً، ألا ترى أنه لو نقد المائتين كلها في المجلس جاز، وإنما فسد بعض السلم بعدذ لك بسبب طارئ(7/83)
وهو أنه لم ينقد المائة وجعلها قصاصاً بماله على المسلم إليه، والعقد متى فسد بعضه بسبب طارئ، فإنه يقتصر الفساد على ما فيه الفساد ولا يستتبع في الكل، كما لو باع عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وكما إذا أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة ولم ينقد المائة الأخرى حتى افترقا عن المجلس صح السلم بحصة ما نقد وبطل بحصته ما لم ينقد، فرق أبو حنيفة بين هذه وبينما إذا جعل رأس المال حراً وعبداً، فإنه يفسد العقد كله وكذلك إذا أسلم مكيلاً في مكيل أو موزوناً في موزون أو شيئاً من جنسه وغير جنسه بطل العقد في جميعه في قول أبي حنيفة، وهنا قال: العقد لا يفسد كله والصفقة واحدة في الموضعين جميعاً وإنما فعل هكذا والله أعلم لأن
العقد في هذه المسائل فسد بعضه بفساد قوي مقارن العقد، وفي مسألة «الكتاب» فسد بفساد طارئ، والأصل عند أبي حنيفة أن العقد إذا كان صفقة واحدة وفسد بعضه بمفسد مقارن للعقد فسد كله، وإذا فسد بعضه بمفسد طارئ على العقد لا يفسد كله، والأصل عند أبي يوسف ومحمد: أن الفساد بقدر المفسد على كل حال حتى قالا في المسائل التي مر ذكرها بأن السلم يجوز في حصة العبد وفي حصة الموزون، وقد مر شرح ذكر الأصلين قبل هذا، وذكر أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله فيمن باع جارية في عنقها طوق فضة بألف درهم نسىئة أن البيع باطل في الجميع (، إلا) في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوعه في هذه المسألة رجوعاً في جميع المسائل.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين مسألة «الجامع الصغير» وبينما إذا باع عبدين على انه بالخيار، فمات أحدهما في مدة الخيار أن العقد يفسد كله حتى لو أراد أن يخبر العقد في القائم ليس له ذلك، والعقد قد وقع جائزاً وقد فسد بمفسد طارئ، ثم لم يقتصر الفساد على وجه فيه الفساد بل شاع في الكل، وههنا قال: لا يفسد العقد في الكل، والفرق ظاهر أن فساد بعض العقد بسبب موت أحد العبدين في مدة الخيار طارئ من وجه باعتبار وقوع صورة العقد طارئ، وباعتبار النفاذ وثبوت الحكم مقارن؛ لأن النفاذ ما كان ثابتاً، وإنما يثبت بالإجازة فاعتبار صورة العقد تمنع شيوع الفساد واعتبار النفاذ يوجب شيوع الفساد (126ب3) واعتبار النفاذ يوجب الفساد، فيرجح ما يوجب الشيوع احتياطاً، أما ههنا فالعقد وقع نافذاً موجباً لحكمه، فإنه أوجب الملك في البدلين إلا أنه فسد البعض بعدذ لك بسبب المقاصة، وأنه طارئ من كل وجه، فلا يتعدى إلى الباقي.
وفرقوا أيضاً بين الصرف والسلم، فإنه إذا اشترى مائة دينار بألف درهم مطلقاً غير مضاف إلى دراهم بعينها ونقد خمسمائة وجعل خمسمائة الأخرى قصاصاً بالدين الذي له على بائع الدينار كان ذلك جائزاً، وههنا قال: لا يجوز، والفرق أن جواز الصرف على موافقة القياس إلا أن القبض شرط بقائه على الصحة وقد وجد القبض في جميع الألف من بائع الدينار؛ لأنه قبض خمسمائة حقيقة وخمسمائة في خدمته كالمقبوض له وأما عقد السلم فيجوز بخلاف القياس لحاجة المسلم إليه، ومتى جوزناه بما في ذمته لا تندفع حاجته، فلو جوزناه جوزناه من غير حاجة وما جوز بحاجة لا يمكن تجويزه بغير حاجة فلهذا افترقا، هذا إذا لم يضف المائتين إلى دراهم بعينها فأما إذا أضاف المائتين إلى(7/84)
دراهم بعينها بأن قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة التي لي عليك في كذا وكذا من طعام، فكذلك الجواب عند علمائنا الثلاثة لا يفسد العقد في الكل بناءاً على أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين عند علمائنا، فصار وجود الإضافة إلى الدين وهي دراهم والعدم بمنزلة ولو عدمت الإضافة وباقي المسألة بحالها جاز العقد في حصة المعقود كذا ههنا.
ثم فرق علماؤنا بين هذه المسألة وبينما إذا قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة والخمسمائة الدين التي لي على فلان ونقد خمسمائة، فإن السلم يبطل في الكل، وههنا يجوز بحصة ما نقد ولم يوجد في المسألتين جميعاً إلا الإضافة، وإنها باطلة عندها، وإنما كان كذلك؛ وذلك لأن في تلك المسألة رب السلم أضاف السلم إلى دراهم له في ذمة المسلم وشرط التسليم عليه، والإضافة إن لغت في حق استحقاق المشار إليه إلا أنه نفى شارطاً تسليم إحدى الخمسمائتين على غير، فكان بمنزلة ما لو ذكر ألف درهم مطلقاً على أن ينقد خمسمائة بنفسه، وينقد خمسمائة فلا يكون فساد العقد بسبب اشتراط تسليم بعض الثمن على غيره وإنه مقارن للعقد، فأوجب فساد الكل، ألا ترى أنه لو نقد الكل من ماله لم يجر وهنا لغت الإضافة إلى الدراهم، ولم يوجد بعد إلغاء الإضافة اشتراط تسليم بعض الثمن على غير العاقد.
نوع آخر في قبض رأس المال والمسلم فيه ومسائلهما
قال القدوري في «شرحه» : لا يجوز للمسلم إليه أن يبرئ رب السلم من رأس مال السلم؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط متلاش، فينعدم به القبض والقبض وجب حداً من حدود الشرع، فلا يجوز إسقاطه، قال: فإن أبرأه وقبل رب السلم البراءة بطل عقد السلم، وإن رد البراءة لم يبطل؛ لأن العقد قد صح بتراضيهما فلا يقدر أحدهما على فسخه إلا برضا الآخر، والمسلم إليه يريد فسخ العقد بالإبراء لما مر أنه ينعدم القبض المستحق فلا يقدر من غير قبول صاحبه، قال: ولا يجوز أن يأخذ برأس المال شيئاً آخر من غير جنسه؛ لأنه يسقط به القبض المستحق شرعاً، قال: ولو أعطاه من جنسه أجود أو أردأ ورضي المسلم إليه بالأردأ جاز؛ لأنه جنس حقه أصلاً إلا أنه دون حقه وصفاً، فمن حيث إنه جنس حقه أصلاً صح التجوز به، ومن حيث إنه دون حقه وصفاً يشترط رضاه.
قال: ولو أعطاه أجود من حقه أجبر على القبول، وقال زفر: لا يجبر؛ لأنه متبرع فيما يرجع إلى صفة الجودة، ولو تبرع بزيادة صفة الجودة (لا يجبر على القبول) ، ولنا: أنه وفاه حقه بكماله وأحسن في الدين وقد قال عليه السلام: «خيركم أحسنكم قضاء للدين» ، ولأن صفة الجودة قائمة بالعين، فكانت من توابع الإيفاء وليس له أن يمتنع من الاستيفاء.(7/85)
لو قال المسلم إليه لرب السلم: خذ هذا وزد لي درهماً، يجب أن يعلم أن ههنا مسألتين: أحديهما: أن يكون السلم في المكيلات والموزونات، والثانية: أن يكون في الذرعيات، وكل مسألة على أربعة أوجه.
إما أن يأتي المسلم إليه بالزيادة من حيث القدر أو بالنقصان من حيث الصفة، فإن كان المسلم فيه مكيلاً وقد أتى بالزيادة من حيث القدر بأن أسلم إليه عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة، فجاء المسلم إليه يأخذ قفيزاً من حنطة، وقال لرب السلم: خذ هذا وزدني درهماً فإنه يجوز، وإنما جاز؛ لأن تجويزه لا يؤدي إلى الزيادة؛ لأنه إن جعلنا المؤدى عين الواجب حكماً لا غيره ضرورة أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز صار المودى مقابلاً بالدراهم، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشترياً أحد عشر قفيزاً بأحد عشر درهماً، وهذا جائز وإن اعتبرنا الحقيقة وجعلنا المؤدى غير الواجب في الذمة؛ لأن الواجب في الذمة دين، وهذا عين صار رب السلم باعتبار الحقيقة مشترياً أحد عشر قفيراً بعشرة أقفزة حنطة له في ذمة المسلم إليه وبزيادة درهم فيكون بالعشرة والدرهم بإزاء القفيز الحادي عشر فكان جائزاً فدل أن تجويزه لا يؤدي إلى الربا.d
فأما إذا أتى ما زيد من حيث الصفة بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فأتى المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة جيدة، وقال: خذها وزدني درهماً ذكره في بيوع «الأصل» أنه لا يجوز ولم يذكر فيه خلافاً، وذكر في كتاب الصلح وقال: لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ويجوز على قول أبي يوسف رحمه الله فكان المذكور في بيوع «الأصل» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وجه ما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله ظاهر، وهو أن تجويزه هذه المعاوضة أن تعذر باعتبار الحال لما يتبين في حجتها أمكن تجويزها بطريق الزيادة، بأن يجعل رب السلم كأن زاد في رأس المال درهماً والمسلم إليه زاد في الجودة، والزيادة تلتحق بأصل العقد وتجعل كالموجود لدى العقد وإذا جعلناها كالموجود لدى العقد صار كأنه أسلم أحد عشر درهماً في عشرة أقفزة حنطة جيدة، ولو أسلم أحد عشر درهماً في عشرة أقفزة حنطة جيدة جاز فكذلك ههنا.
وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيقولان: إن تجويز هذا التصرف باعتبار الحال متعذر؛ لأنه باعتبار الحال ما يأخذ غير الواجب في ذمة المسلم من حيث الحقيقة، فيصير باعتبار الحقيقة رب السلم مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم بإزاء الجودة وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة مال الربا لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، فإنه لو باع قفيز حنطة رديئة، وزيادة درهم بإزاء الجودة لم يجز، فباعتبار الحكم لا يتمكن الربا؛ لأن المستوفى عين الواجب في باب السلم من حيث الحكم، فعلى هذا الاعتبار يكون ما يأخذ مقابلاً بالدراهم لا بجنسه من الحنطة يصير رب السلم مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بأحد عشر درهماً، وهذا ليس بربا فيمكن الربا من وجه دون وجه فتمكن شبهة الربا. وقول أبي يوسف رحمه الله (127أ3) بأن تجويز هذا(7/86)
التصرف بطريق الإلحاق ممكن فاسد؛ لأن الزيادة إنما تلتحق بأصل العقد إذا صحت حيث وجدت؛ لأنها تصح للحال أولاً، ثم تستند وصار كالزيادة بعد هلاك المبيع، فإنها لا تصح وإن كانت تستند. ولو صحت لهذا إن إنشاءها في الحال غير ممكن بهذا الذي ذكرنا إذا أتى بأزيد مما شرط عليه.
فأما إذا أتى بأنقص مما شرط عليه، فإن أتى ما نقص من حيث القدر، بأن أتى بتسعة أقفزة وقد أسلم إليه في عشرة أقفزة، فقال: خذ هذا وأزيد عليك درهماً، فإنه يجوز عندهم جميعاً؛ لأنهما تقابلا السلم في بعض المسلم فيه، وذلك قفيز واحد، والإقالة في نص المسلم فيه جائزة لما مر، فأما إذا أتى بأنقص من حيث الصفة بأن أسلم في عشرة أقفزة حنطة جيدة قال بعشرة أقفزة حنطة وسط، وقال: خذها وأزيد عليك درهماً لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله: نص على هذا الخلاف في كتاب الصلح، فأما أبو يوسف فيقول بأن تجويز هذا التصرف إن تعذر بطريق الإقالة للحال؛ لأنه أقاله على مجرد الوصف لا يصح أمكن تصحيحه بطريق الحط؛ لأن الحط يلتحق بأصل العقد كالزيادة، فإذا التحق بأصل العقد صار كأنه أسلم في الابتداء بتسعة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فيكون جائزاً بهذا الاعتبار.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله طريقان:
أحدهما: أن يقال بأنا لو جوزنا هذا التصرف يتمكن فيه شبة الربا؛ لأن المؤدى باعتبار الحقيقة غير الواجب، فيكون مقابلاً بجنسه من الحنطة، فيصير رب السلم بائعاً بعشرة أقفزة حنطة له جيدة في ذمة المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة بعينها وسط وزيادة درهم، وإنه ربا وباعتبار الحكم يصير مشترياً عشرة أقفزة حنطة وسط بتسعة دراهم التي كانت رأس المال، وإنه ليس ربا، فيتمكن الربا من وجه ولا يتمكن من وجه، فتتمكن شبهة الربا (وشبهة الربا) مانعة جواز العقد كالحقيقة.
والثاني: أنه أقال السلم على مجرد الوصف لا يقبل العقد، فلا يقبل الفسخ.
فإن قيل مجرد الوصف مما يقبل ابتداء العقد، فإن المسلم فيه كان ثوباً وسطاً، فأتى المسلم إليه بثوب جيد وقال: خذ هذا وزدني درهماً، فإنه يجوز وقد صار المسلم إليه بائعاً مجرد الوصف من رب السلم؛ لأن الأصل له فيصير الوصف مع الأصل له وشراء الوصف مع الأصل جائز، فأما ههنا لو صحت الإقالة على مجرد الوصف يبقى الأصل لرب السلم ويصير لوصف السلم إليه بالإقالة، والوصف على هذا الوجه لا يقبل العقد، فإنه لو باع الجودة من الثوب بدون الأصل لا تجوز الإقالة، (وصار) رب الثوب بائعاً للجودة بدون الأصل.
وقول أبي يوسف بأن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط ممكن قلنا: هذا إذا أمكن إتيانه للحال ولم يكن للوجهين الذين ذكرنا، والجواب في الموزونات نظير الجواب في المكيلات، هذا الذي ذكرنا كله إذا كان المسلم فيه مكيلاً أو موزوناً.(7/87)
فأما إذا كان المسلم فيه ذرعياً بأن كان ثوباً وجاء بأزيد من حيث القدر بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أذرع، فأتى بثوب هو أحد عشر ذراعاً، وقال لرب مال السلم: خذ هذا وزدني درهماً جاز ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا على ما بينا، وكذلك إذا أتى بالزيادة من حيث الصفة، فإنه يجوز عندهم جميعاً بخلاف ما لو كان المسلم فيه مكيلاً أو موزوناً حيث لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. والفرق: أن تجويز هذا في الثوب لا يؤدي إلى الربا؛ لأن المأخوذ إما أن يعتبر عين الواجب من حيث الحكم، فيكون مقابلاً بالدراهم فيصير مشترياً ثوباً جيداً بأحد عشر درهماً، وهذا جائز ويعتبر الحقيقة، فيعتبر المؤدى غير الواجب، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشترياً ثوباً جيداً بثوب وسط في ذمة المسلم إليه، وزيادة درهم بإزاء الجودة، وإنه جائز في غير مال الربا؛ لأن للجودة في عين مال الربا قيمة عند مقابلتها بعينها.
فإنه لو اشترى ثوباً جيداً بثوب رديء وزيادة درهم بإزاء الجودة كان جائزاً، فأما في الحنطة فإن أجاز هذا باعتبار أن المأخوذ عين الواجب، فيكون مقابلاً بالدرهم فيصير مشترياً عشرة أقفرة حنطة جيدة بأحد عشر درهماً وهذا جائز، فاعتبار الحقيقة يكون المؤدى مقابلاً بما وجب لرب السلم في ذمته، فيصير مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة له وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم، وهذا لا يجوز، فيتمكن الربا من وجه، ولا يتمكن من وجه فثبت شبهة الربا.
وأما إذا أتى بالنقصان من حيث الصفة بأن أسلم في ثوب جيد، فأتى بثوب وسط وقال لرب السلم: خذ هذا لأزيد عليك درهماً لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد (و) يجوز في قول أبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف، ما ذكرنا في فصل المكيل أن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط والإلحاق بأصل العقد ممكن.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: الوجه الثاني الذي ذكرنا في فصل المكيل، أن في هذه الإقالة لو صحت صحت على مجرد الوصف وتعذر تصحيح الإقالة على مجرد الوصف على ما مر، ولا يجيء في هذا الفصل، لأبي حنيفة الوجه الأول الذي ذكرنا في فصل المكيل من شبهة الربا؛ لأن التجويز في الثوب لا تتمكن فيه شبهة الربا.
أما إذا أتى بأنقص من حيث القدر بأن أتى بتسعة أذرع وقال: خذها وأزد عليك درهماً لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يجوز، وهذا لأن الذرع إذا لم يجعل له حصة من الثمن فهو بمنزلة الصفة حتى تسلم الزيادة للمشتري في بيع العين من غير عوض، وإن وجده أنقص لا يحط عنه شيء من الثمن، وإذا كان بمنزلة الصفة في هذه الحالة كانت الإقالة على ذراع منها، والإقالة على القدر جائزة إنما لا يجوز على مجرد الوصف وتصح الحوالة والكفالة والارتهان برأس المال.
وقال زفر: لا يجوز؛ لأن هذه التصرفات إنما شرعت للتوثيق مالاً بماله، ولنا: أن رأس المال دين كسائر الديون، فيصح أخذ الرهن والحوالة والكفالة به قياساً على سائر(7/88)
الديون، واستحقاق قبض رأس المال في المجلس لا ينفي معنى التوثيق.
قال: فإن فارق رب السلم المسلم إليه قبل القبض بطل العقد، وإن كان الكفيل والمحال عليه في المجلس، ولا يضرهما افتراق الكفيل والمحال عليه إذا كان المتعاقدان في المجلس؛ لأن القبض من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالمتعاقدين فيصير بقاء المجلس في حقهما، ولا يضرهما افتراق غيرهما.
قال: ولو أخذ به رهناً فإن افترقا والرهن قائم انتقض العقد، ولو هلك في المجلس مضى العقد على الصحة؛ لأن الاستيفاء لا يتم إلا بهلاك الرهن، والافتراق قبل تمام القبض موجب انتقاض السلم.
قال: ولو أخذ بالمسلم فيه رهناً فهلك الرهن صار مستوفياً؛ لأن القبض وجد حقيقة ويتم بالهلاك والرهن، وإن لم يكن من جنس حقه صورة (127ب3) فهو من جنسه معنى وهو المالية، والمرتهن إنما يصير مستوفياً دينه من مالية المرهون من صورته.
قال: ولو لم يهلك الرهن ولكن مات المسلم إليه وعليه ديون كثيرة، فصاحب السلم أحق بالرهن إلا أنه لا يجعل الرهن بدينه بل يباع بجنس حقه حتى لا يصير مستبدلاً بالمسلم فيه قبل القبض.
قال: إذا قال رب السلم للذي عليه السلم: كل مالي عليك وعزله في بيته أو في غرائزك ففعل ذلك رب التسليم ليس بحاضر، فإنه لا يكون قبضاً من رب السلم، وذلك؛ لأن رب السليم لو دفع إليه غرائز نفسه، وقال: كل مالي عليك من السلم في غرائري هذه ففعل، ورب السلم ليس بحاضر، فإنه لا يصير قابضاً، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر من حيث إنه أمره يستعمل غرائزه لم يصح باعتبار الحنطة؛ لأنها ملك المسلم إليه فلأن لا يصير قابضاً ههنا ولم يصح الأمر لا باعتبار الحنطة ولا باعتبار الغرائر؛ لأن كلهيما ملك المسلم إليه أولى، هذا إذا كان رب السلم غائباً، فأما إذا كان رب السلم حاضراً في منزل المسلم إليه وكان بحضرته لا شك أنه لا يصير قابضاً إذا لم يخل بينه وبين الطعام؛ لأن القبض إنما يثبت إما بالقبض حقيقة بأن يأخذ مواجهة أو بتخلية المسلم إليه إياه ولم يوجد واحد منهما، فإذا خلى بينه وبين الطعام، فأهله هل يصير قابضاً أم لا؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» نصاً.
وقد ذكر القدوري في «شرحه» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله: لا يصير قابضاً حتى لو هلك بعد ذلك كان الهلاك على المسلم إليه، وعلى قول محمد يصير قابضاً، وظاهر ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» يدل على أن المذهب عنده كذلك؛ لأنه قال: ورب السلم ليس بحاضر، فهذا يدل على أنه إذا كان حاضراً في منزله إذا خلى بينه وبين الطعام يصير قابضاً.
وجه قول محمد رحمه الله: أن التخلية من البائع، فيصير المشتري بها قابضاً قياساً على ما لو حصلت التخلية من غير منزل البائع، وإنما قلنا بأن التخلية قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة المسلم إليه يده على الحقيقة، وقد أزالها حين خلى بينه وبين الطعام.(7/89)
وأبو يوسف رحمه الله يقول: بأن التخلية لم تصح فلا يعتبر، وإنما قلنا ذلك؛ لأن شرط صحة التخلية زوال يد المسلم إليه حتى إذا كان في يده حقيقة وقال: خليت لا يصير قابضاً، وههنا يد المسلم إن زالت من حيث الحقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن المنزل وما فيه في يده حكماً، فيده إن زالت حقيقة لم تزل حكماً، فلم تثبت التخلية، فأما إذا دفع رب السلم غرائر نفسه، وقال المسلم إليه: كل مالي عليك من الطعام في غرائري، فإنه لا يصير قابضاً إذا جعلها في غرائره حتى إذا هلك لا يهلك على رب السلم.
فرق بين هذا وبينما إذا اشترى طعاماً بعينه يشترط الكيل، ثم دفع المشتري إلى البائع غرائر، وقال له: كله في غرائري فكال في غرائره، فإن المشتري يصير قابضاً. ووجه الفرق بينهما: هو أن القبض لو ثبت في باب السلم، فإنما يثبت إما بالكيل أو بجعل الحنطة في غرائر رب السلم، ولا يجوز أن يثبت القبض بالكيل يلاقي ملك السلم إليه، وإذا لم يصح أمره بالكيل لم يصر الاكتيال منقولاً إلى رب السلم كما قبل الأمر، ولا يجوز أن يثبت القبض بجعل الحنطة غرائزه وإن صح الأمر به من حيث إنه تصرف في الغرائز، والغرائز ملك رب السلم؛ لأن جعل المسلم إليه الحنطة في غرائز رب السلم غير منقول إلى رب السلم؛ لأن المسلم إليه في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المسلم إليه، وقد أذن له رب السلم بجعلها في غرائزه، فصار مغيراً الغرائز من المسلم إليه، والمستقر عامل لنفسه في الانتفاع بالعارية وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان عليه، وإذا صار عاملاً لنفسه فما صح الأمر به لم يصر منقولاً إلى الأمر حتى يصير فعله كفعله، وإذا لم يصير فعله كفعله وإذا لم يصر فعله منقولاً إليه لا حق الكيل ولا في جعله في الغرائر صار الحال بعد الأمر كالحال قبل الأمر، وقبل الأمر لا يصير قابضاً، فكذلك ههنا بخلاف شراء العين، وذلك؛ لأن الفعل صار منقولاً إلى المشتري في حق الكيل وجعل الحنطة في غرائره بعد الكيل من كل وجه؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائره عامل للمشتري من كل وجه؛ لأنه يضع ملكه في ملكه ومنفعة ذلك له فيكون عاملاً له، وإذا صار عاملاً له صار فعله منقولاً لا إلى الأمر حكماً، فيجعل كأن الأمر فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه حقيقة صار قابضاً، فكذا إذا صار فعل البائع منقولاً إليه.
وعن هذا قلنا: إن في شراء العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير قابضاً، وفي السلم لا يصير رب السلم قابضاً؛ لأن الأمر بالطحن في باب السلم لا يجوز؛ لأن الطحن يلاقي ملك المسلم إليه، فيصير الحال بعد الأمر كالحال قبله، أما الأمر بالطحن في باب التراخي فقد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعة الطحن حاصلة للمشتري، فانتقل فعله إليه.
فإن قيل في فصل الشراء: ينبغي أن لا يصح الأمر في حق ثبوت القبض؛ لأن البائع لا يصلح وكيلاً عن المشتري في القبض، ألا ترى أنه لو وكله بذلك نصاً لا يصح، قلنا: القبض بالأمر يثبت حكماً لا قصداً، ويجوز أن يثبت الشيء حكماً وإن كان لا يثبت قصداً على ما عرف، وما ذكرنا من الجواب في فصل السلم فيما إذا كان لم يكن في غرائر(7/90)
السلم حنطة لرب السلم، فأما إذا كانت مكال المسلم إليه السلم فيها بأمره هل يصير رب السلم قابضاً؟ فلا رواية في هذا الفصل، وقد قيل: لا يصير قابضاً. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ولا يصح عندي أنه يصير قابضاً، ثم فرق بين السلم وبين مسألتين أخريين ذكر أحديهما في كتاب الصرف، والأخرى في كتاب المزارعة.
أما التي ذكرها في كتاب الصرف: إذا دفع درهماً إلى صانع وقال له: زد من عندك درهماً بمالي بكذا ففعل، فإن الآمر يصير قابضاً للدرهم الزائد الذي صار مستقرضاً من الصانع حكماً لاتصاله بماله، وإن كان الآمر بالخلط في حق الزيادة لا في ملك الصانع؛ لأنه في حق الدرهم المدفوع لا في ملك الأمر، وههنا قال: لا يصير قابضاً، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر؛ لأنه ملك الأمران لم يصح باعتبار الحنطة.
وأما التي ذكرها في المزارعة إذا قال لآخر: ازرع أرضي ببذرك على أن الخارج كله لي فبذر، فإنه يصير مقرضاً البذر من الآمر، ثم الآمر يصير قابضاً البذر حكماً لاتصاله بملكه، وإن كان الأمر في حق الحنطة لا في ملك المأمور؛ لأنه باعتبار الأرض لا في ملك الآمر.
ووجه الفرق بينهما: هو أن الأمر في مسألة الخاتم وفي مسألة المزارعة صح في حق الدرهم المدفوع وفي حق الأرض؛ لأنه لا في ملك الآمر على ما مر، وصار فعل المأمور منقولاً إلى الآمر؛ لأن المأمور عامل له بأمره؛ لأنه أمره بالحنطة في أرضه، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلط الجنس بالجنس سبب ملك، وكذا إلقاء حنطة الغير في أرضه سبب ملك، وإذا كان سبب ملك لو وجد من الآمر كان لا الآمر أمر المأمور بأن يباشر له سبب ملك، فيكون آمراً عاملاً له (128أ3) بأمره بالشراء فاشترى، وإذا صار عاملاً له بأمره وقد صح الاعتبار بملكه صار فعله منقولاً إليه حكماً فكان بمنزلة ما لو فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضاً فكذلك هذا، فأما في مسألتنا هذه فالأمر بجعل الحنطة في غرائره إن صح باعتبار الغرائر؛ لأنه يتصرف في ملكه، إلا أن فعله لم يصر منقولاً إليه، وإن كان عاملاً بأمره؛ لأنه عامل لنفسه؛ لأن جعل الحنطة في الغرائر ليس بسبب ملك الأمر لا قبل التسليم ولا بعد التسليم قبل السلم فلا إشكال بعده؛ فلأنه لا يملكه بحمله في الغرائر، وإنما يملكه بالأخذ قبل الجعل في الغرائر، وإذا لم يكن الوضع في الغرائر سبب ملك الآمر لا يمكننا أن نجعله عاملاً للآمر من حيث أنه يباشر له سبب ملك أمره، بقي عاملاً لنفسه بهذا الوضع من حيث إنه جعل غرائره مشغولاً بحنطة نفسه وصار مستعير الغرائر على ما مر، وعمل المستعير لا يصير منقولاً إلى الآمر وإن عمل بأمره، وإذا لم يصر منقولاً صار الحال بعد الأمر كالحال قبله.
وصار قياس مسألتنا من مسألة المزارعة أن لو قال له: أقرضني كر حنطة وألقه في ناحية من أرضي جملة، فألقاه في ناحية من الأرض جملة، لا يصير قابضاً وإن صح الأمر من حيث التصرف في الأرض؛ لأن الإلقاء جملة في ناحية من الأرض ليس بسبب ملك حتى يصير عاملاً للأمر بمباشرة ما هو سبب ملك له فيبقى عاملاً لنفسه من حيث إنه(7/91)
استعمل أرضه بحنطة فيصير مستعير الأرض منه.
وقياس مسألة الخاتم من مسألتنا: أن لو كان في الغرائر حنطة لرب السلم، ولو كان كذلك يصير رب السلم قابضاً؛ لأن الأمر قد صح باعتبار ملكه بالخلط، وإذا صح الأمر وأنه سبب ملك الآمر، لو وجد من الآمر صار عاملاً له فصار فعله منقولاً إليه فصار كأنه فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضاً فكذلك هذا.
قال: وإذا وكل رب السلم وكيلاً بدفع رأس المال إلى المسلم إليه صح، فإن دفع الوكيل ومما في المجلس بعد لا يبطل السلم، وإن ذهب رب السلم عن المجلس أو المسلم إليه قبل دفع الوكيل بطل السلم، وكذلك لو كان المسلم إليه وكل رجلاً بالقبض.
وإذا كفل رجل لرب السلم برأس المال قبل أن يتفاسخا السلم فالكفالة باطلة؛ لأنه لم يكفل بدين واجب للحال ولا أضاف الكفالة إلى سبب الوجوب قالوا: لو كان كفل بأمر المسلم إليه وقبل ذلك رب السلم صحت الكفالة، ويضمن ذلك شرط صحتها وهو فسخ السلم أولاً.
نوع آخر
إذا أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رجل حنطة على أنها كر وأوفى رب السلم عن كر السلم، فإنه يحتاج لإباحة التصرف فيه من الأكل والبيع وأساه ذلك إلى كيلين كيل للمسلم إليه وكيل لرب السلم ولا يكفي رب المسلم إليه وإن كان رب السلم حاضراً حين اكتال المسلم إليه، وكذلك لو أن المسلم إليه أمر رب السلم بقبضه فقبضه يحتاج أن يكيل مرتين بكيله، أولاً للمسلم إليه بحكم النيابة عنه، ثم يكيله لنفسه ولا يكتفي بكيل واحد.
وكذلك لو كان المسلم إليه دفع إلى رب السلم دراهم حتى يشتري له حنطة، فاشترى له حنطة بشرط الكيل وقبضه وكاله، ثم قبضه قضاء لحقه فعليه أن يكيله ثانياً لنفسه، وهذا؛ لأن الكيل أعطي له حكم القبض شرعاً فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في العين معقود عليه فيما بيع مكايلة، ألا ترى لو وجده أزيد مما سمى من القدر رد الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا تدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل في العقد، ولو وجده انقص، فإنه ينقص عنه حصة من الثمن؛ لأن كل كيل أصل بنفسه وليس مع الباقي قلنا: والقدر غير متعين قبل الكيل لجواز أن يكون مثل الكيل المشروط أو أزيد منه أو أنقص منه وإنما يتعين بالكيل وكان الكيل حكم القبض من حيث إنه يعمل عمل القبض فعين ما ملك بالعقد غير متعين، ثم يحتاج في هذه المسائل قبضين قبض المسلم إليه وقبض رب السلم، وقبض المسلم إليه من بائعه لا ينوب عن قبض رب السلم وإن كان بحضرة رب السلم فكذا الكيل، وإذا اشترى المسلم إليه من رجل حنطة مجازفة أو استفاد من أرضه حنطة أو أوفي رب السلم فههنا يكتفي بكيل واحد، حتى إذا كاله المسلم إليه بحضرة رب السلم لم يحتج رب السلم إلى كيل آخر.
وكذلك إذا استقرض المسلم إليه حنطة على أنها كر، ثم أوفى رب السلم، فإنه(7/92)
يكفي كيل واحد، إما كيل رب السلم وإما كيل المسلم إليه بحضرة رب السلم، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراه المسلم إليه مجازفة أو استفاده من أرضه؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق المسلم إليه لإباحة التصرف، أما فيما اشتراه مجازفة؛ فلأن المعقود عليه عين المشار إليه لا المقدار وأنه متعين قبل الكيل، وأما فيما استفاده من أرضه، فالكلام فيه ظاهر وإنما المحتاج اليه الكيل في حق رب السلم؛ لأن القدر معقود عليه في حقه، فكان المحتاج إليه كيلاً واحداً من هذا الوجه، وإنما الأشكال في فصل الاستقراض بملك بعوض، فكان كالشراء فيصير القدر معقوداً عليه متى استقرضه بشرط الكيل، كما لو اشتراه مكايلة، والوجه في ذلك: أن القرض إن كان مبادلة من حين الصورة، فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن مايرد المستقرض عين المقبوض حكماً لا بدله إذ لو لم يجعل، كذلك مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وإنه حرام، ولما كان القرض تمليكاً بغير بدل من حين الحكم يعتبر بما لو كان تمليكاً بغير بدل من حيث الحقيقة، وهناك لايحتاج إلى الكيل، فكذا ههنا بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكماً، وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزونات. /
نوع آخر في السلم ينتقض فيه القبض بعد الافتراق
إذا قبض المسلم إليه رأس المال، ثم وجدها أو بعضها زيوفاً أو نبهرجة فههنا مسائل.
إحديها: أن يجدها مستحقة، وكان ذلك في مجلس العقد، فإنه يقف على إجازة المستحق، إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل السلم؛ لأنه لما ظهر أنها مستحقة ظهر أن رب السلم صار قاضياً دينه من مال الغير، فيكون القضاء موقوفاً على إجازة صاحب المال، كما لو باع ماله، فإن أجاز ورأس المال قائم جاز؛ لأن القبض توقف على إجازة المستحق، فيعتبر بما لو توقف العقد على إجازة المستحق، ولو توقف العقد على إجازته، فإنما يجوز بإجازته إذا كان المقبوض قائماً ويصير مثل ما نقد ديناً لصاحب المال على رب السلم؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له صاحب المال في الابتداء أن يقضي دينه من ماله ضمن مثل ماقضى لصاحب المال، فكذا إذا أجاز قضاءه في الانتهاء، وإن لم يجز انتقض القبض والقضاء؛ لأنه كان موقوفاً على إجازته، فإذا لم يجز بطل كما لو توقف البيع على إجازته، فإنه ينتقض إذا لم يجز فكذا ههنا.
وإذا انتقض القبض صار كأنه لم يقبض، فإن قبض درهماً آخر في المجلس بقي العقد على الصحة، وجعل كأنه أخر القبض إلى أخر المجلس، فإن لم يقبض بطل العقد، وإن وجدها ستوقة (128ب3) وكان ذلك في مجلس العقد، ويجوز به المسلم إليه لا يجوز؛ لأن الستوقة ليست من جنس رأس المال (، لأنه) فضة، والستوقة (ليست) بفضة من حيث الحكم؛ لأن الرصاص والنحاس في الستوقة على الفضة، والفضة مغلوبة، والعبرة للغالب، فكان الكل نحاساً أو رصاصاً من حيث الحكم. ولو كان الكل نحاساً أو(7/93)
رصاصاً من حيث الحقيقة ورأس المال فضة إذا تجوز به المسلم إليه لم يجز؛ لأنه يصير مستبدلاً برأس مال السلم قبل القبض، وإنه لا يجوز، هذا إذا تجوز به، فأما إذا رده وقبض مكانه آخر في المجلس جاز؛ لأنه إذا قبض آخر مكانه آخر المجلس وإن وجدها زيوفاً أو نبهرجة وكان ذلك في مجلس العقد، فإن تجوز به المسلم إليه جاز؛ لأن الزيوف من جنس رأس المال؛ لأن الزيوف من الدراهم ما تكون الفضة فيه غالبة على الغش، والعبرة للغالب، فكان الكل فضة، فالتجوز به لايصير مستبدلاً برأس المال، وإن رده واستبدل به في المجلس يجوز، وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن افترقا قبل الاستبدال بطل السلم، فأما إذا وجد شيئاً منها مستحقاً وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن أجاز المالك وكان رأس المال قائماً جاز؛ لأن خيار الإجازة لا تمنع صحة القبض، فلا يتبين أن الافتراق عن المجلس جعل قبل قبض رأس المال، وإذا صح القبض على سبيل التوقف جاز بإجازته إذا كان رأس المال قائماً، وإن رد بطل السلم بقدره قل أو كثر عندهم جميعاً؛ لأن القبض كان موقوفاً بين أن يكون قبض رأس المال متى أجاز، وبين (أن) لا يكون قبض رأس المال متى لم يجز، والموقوف بين الشيئين إذا تعين أحدهما كان هو الثابت من الأصل، وكان قبض رأس المال لم يوجد أصلاً.
وأما إذا وجد شيئاً منها ستوقاً وكان بعد الافتراق عن المجلس بطل السلم بقدره قل أو كثر يجوز به، أو رد أو استبدل مكانه أو لم يستبدل لما ذكرنا أن الستوقة ليست من جنس رأس المال، وإذا لم تكن من جنس رأس (المال) ظهر أن الافتراق عن مجلس العقد حصل من غير قبض رأس المال بقدر الستوقة، فبطل السلم بقدره ولا يعود جائزاً بالقبض بعد المجلس كما لو لم يقبض هذا القدر أصلاً في المجلس ثم قبض، وأما إذا وجد شيئاً منها زيوفاً وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن تجوز به جاز، كما لو تجوز به في المجلس وإن لم يتجوز به ورده أجمعوا على أنه إذا لم يستبدل في مجلس الرد أن السلم يبطل بقدر مارده، وأما إذا استبدل مكانه أخرى في مجلس الرد، فالقياس: أن يبطل السلم بقدره، وبالقياس أخذ زفر، وفي الاستحسان: لا يبطل متى كان المردود قليلاً، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وإن كان كثيراً فعند أبي حنيفة يبطل وعندهما: لا يبطل استحساناً.
وكذلك على هذا الاختلاف أحد المتصارفين إذا وجد شيئاً مما قبض زيوفاً ورد بعد المجلس. وجه القياس: أن الرد بالزيافة مما ينقض قبض المسلم إليه في رأس المال من الأصل بدليل أنه: إذا لم يستبدل مكانه أخرى في مجلس الرد بطل السلم بقدره، ولو لم ينتقض قبضه من الأصل، وإنما انتقص من وقت الرد مقصوداً على الرد كان لايبطل السلم كما لو وهب رأس المال منه ولهذا ينفرد الرد.
والدليل على أبي حنيفة ما إذا كان المردود كثيراً، وإذا كان الرد بالزيافة مما ينقض قبضه من الأصل لو نفى السلم بعدها صحيحاً، فإنما يبقى صحيحاً بصحة القبض الثاني، والقبض الثاني صح من وجه صح من حيث إن مجلس الرد مجلس العقد حكماً؛ لأن(7/94)
العقد كان باقياً على الصحة إلى وقت الرد حكماً بسبب قيام المعقود عليه وكون المقبوض، وإذا كان العقد قائماً إلى وقت الرد كان مجلس الرد مجلس العقد من حيث الحكم، فصح القبض الثاني باعتبار الحكم، وباعتبار الحقيقة لا يصح القبض الثاني؛ لأنه لم يوجد في مجلس العقد حقيقة، فإن حقيقة العقد توجد بالإيجاب والقبول، فقد دار القبض الثاني بين أن يصح وبين أن لا يصح، والصحة لم تكن ثابتة فلا يثبت بالشك والاحتمال.
وأبو حنيفة رحمه الله هكذا يقول في المردود: إذا كان كثيراً إلا أنه في القليل استحسن وصح القبض الثاني وإن كان القياس يأبى صحته لنوع ضرورة، فإن أموال الناس لا تخلو عن قليل زيف يكون فيها، لو أخذنا بحقيقة القياس في القليل لضاق الأمر على القياس، والقياس يترك بالضرورة والحرج، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة بسبب الحرج والضرورة، هذه الضرورة معدومة في الكثير؛ لأن أموال الناس تخلو عن كثير الزيوف، فكانت العبرة فيه للقياس أن يبطل السلم بقدر المردود كما قاله زفر رحمه الله، وبخلاف الستوقة والمستحقة؛ لأن أموال الناس تخلو عن المغصوب والنحاس والرصاص قليلاً كان أو كثيراً.
وأبو يوسف ومحمد قالا: بأن القبض الثاني صح من وجه ولم يصح من وجه كما قاله زفر رحمه الله فيعتبره صحيحاً احتيالاً لجواز العقد، فإنه يحتال لجواز العقد ما أمكن، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة احتيالاً منا لجواز العقد كما رجح أبو حنيفة رحمه الله كون هذا المجلس مجلس العقد على كونه غير مجلس العقد حقيقة إذا كان المردود قليلاً ولهذا سمياه استحساناً.
وهذا بخلاف ما لو وجد ستوقة أو مستحقة ولم يخبر المستحق؛ لأن هناك ظهر أن العقد كان باطلاً كما تفرقا عن المجلس؛ لأنه لم يوجد قبض رأس المال، فأما هنا فبقي العقد صحيحاً بعد الافتراق لوجود قبض رأس المال، وإنما يبطل القبض بالرد، فيكون العقد باقياً إلى مجلس الرد، فيكون مجلس الرد مجلس العقد حكماً، فيعتبر بما لو كان مجلس العقد حقيقة إذا تفرقا بعد قبض رأس المال جاز كذا هنا.
ثم اتفقت الروايات الظاهرة المشهورة عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كان كثيراً، وإن كان المردود أقل من النصف كان قليلاً، وهذا لأن الكثرة والقلة بين شيئين من حيث الحقيقة إنما تعرف بالمقابلة لا بالتسمية؛ لأن مامن قليل إلا يوجد ماهو أقل منه، فمتى كان المردود أكثر من النصف كان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً باعتبار المقابلة؛ لأن ما يقابله من غير المردود أقل فكان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً؛ لأن ما يقابله من غير المردود أكثر، فيكون المردود قليلاً باعتبار المقابلة، وأما النصف ففيه روايتان: في رواية جعله قليلاً، وفي رواية أخرى ما زاد على الثلث كثير، والثلث وما دونه قليل وهذه الرواية موافقة لما ذكرنا (129أ3) في الصيد والذبائح أن الظاهر من العضو في الشاة إذا كان أكثر من الثلث فهو كثير، والثلث وما دونه قليل.(7/95)
نوع آخر في بيان ما يكون قصاصاً في السلم وما (لا) يكون
هذا النوع ينبنى على أصلين: أحدهما: أن دين السلم مما يستوفى ولا يوفى به دين آخر إما أن يستوفي؛ لأن الاستيفاء وفاء بموجب العقد، وأما لا يوفى به دين آخر؛ لأن إيفاء دين آخر به استبدال والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، لقوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد المسلم فيه حال بقاء العقد، ورأس مال السلم بعد انفساخه، ولأن المسلم فيه مبيع وإنه دين، واستبدال المبيع بالعين قبل القبض لا يجوز مع أن العين أقبل للتصرف من الدين، فلأن لا يجوز بالمبيع بالدين أولى.
وأصل آخر: وهو أن باب في المقاصة تصير آخر الدينين قضاء لأولهما ولا يصير أول الدينين قضاء لآخرهما؛ لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسعه، ولهذا في الدين المشترك لو وجب للمديون على أحد الشريكين دين بقدر حصته، فصار قصاصاً كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه؛ لأنه صار مستوفياً حصته، وإذا كان دين المديون سابقاً على دينهما، فصار قصاصاً لم يكن لشريكه أن يرجع عليه بشيء؛ لأنه صار قاضياً بنصيبه ديناً عليه لا مقتضياً، وعلامة الاستيفاء قبض عين مضمون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر. ألا ترى أن في موضع الذي صار مستوفياً إنما صار مستوفياً بهذا الحد، وهو قبض عين ديون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، وهذا لأن قبض عين الدين لا يتصور قبضه بهذا الطريق، وهو أن يصير المقبوض مضموناً على القابض إذا قبضه لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، ثم يلتقيان قصاصاً إذا كان المقبوض مثل الدين، وإن كان في هذا نوع مبادلة لكن الاستيفاء لا يهيأ بدونه يسقط اعتبار هذا النوع من المبادلة شرعاً بقي المحرم الاستبدال الخالص، وإنما شرطنا أن يكون قبض مثل هذا العين عقد السلم؛ لأنه لو كان قبله كان دين السلم آخر الدينين، وآخر الدينين يصير قضاء لأولهما ولا يصير أولهما قضاء لآخرهما، فيكون استبدالاً بالمسلم فيه.
وإذا وجب على رب السلم مثل السلم بسبب متقدم على العقد لم يصر قصاصاً بالسلم. أما على الأصل الأول؛ فلأن ما هو صورة الاستيفاء وهو القبض الحقيقي لم يوجد بعد عقد السلم، وأما على الأصل الثاني؛ فلأنه لو وقعت المقاصة صار دين السلم قضاء لما وجب قبل عقد السلم، وكذلك إذا وجب بعقد بعده لم يصر قصاصاً نحو أن يشتري رب السلم من المسلم إليه شيئاً بحنطة مثل السلم للأصل الأول، وهو انعدام القبض حقيقة بعد عقد السلم ديون الأصل الثاني.
ولو وجب عليه بقبض مضمون نحو أن غصب منه كذا بعد عقد السلم واستقرض منه قصاصاً لوجود حد الاستيفاء وهو قبض(7/96)
مضمون بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر.
ولو كان غصبه كراً قبل العقد وهو قائم في يده حتى حل السلم قصاصاً صار سواء كان بحضرتهما أو لم يكن؛ لأن القبض حقيقة موجود وإنه مما يمتد، فكان للدوام حكم الابتداء فجارت المقاصة، ولو كان الكر وديعة عند رب السلم قبل العقد أو بعده، فجعله بالمسلم إليه قصاصاً لم يكن قصاصاً إلا أن يكون بحضرتهما أو يرجع رب السلم، فيتخلى به؛ لأن قبض رب السلم كان أمانة، والمعتبر في الاستيفاء قبض ضمان، فلا بد من تجديد القبض بالتخلية به. ولو غصب منه كراً بعد العقد قبل حلول السلم، ثم حل، فإنه يصير قصاصاً.
ولو كان الغصب واقعاً قبل العقد، فلا بد من أن نجعله قصاصاً. والفرق وهو: أن في الفصل الأول القبض الحقيقي بصفة الضمان وجد بعد عقد السلم، فصلح اقتضاءاً، لكن لم تثبت المقاصة قبل حلول الأجل لما فيه من إبطال الأجل، فإذا حل الأجل زال المانع، فتثبت المقاصة، أما في الفصل الثاني القبض حين وجد لم يصلح اقتضاءاً لوجوده قبل عقد السلم إلا أن لدوامه حكم الابتداء جازت المقاصة، ومن حيث إنه حين وقع لم يصلح اقتضاءاً لا بد من إثبات المقاصة من قبل المتعاقدين، ولو غصب منه بعد عقد السلم كراً أجود من السلم لم يصر قصاصاً إلا برضا المسلم إليه، وإن كان أردأ لم يصر قصاصاً رب السلم اعتباراً لحق كل واحد منهما في الوصف.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل أسلم إلى رجل مائة درهم في كر حنطة وسط إلى أجل معلوم، ودفع إليه رأس المال، ثم إن رب السلم باع من المسلم إليه عبداً بكر حنطة وسط مثل المسلم فيه، وقبض الكر ولم يسلم العبد إليه حتى انتقض العقد في العبد، بموت العبد أو بالرد بخيار الشرط أو الرؤية أو بالرد بالعيب قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء، أو بعد القبض بقضاء حتى انفسخ من كل وجه في حق الناس كافة، كان على رب السلم أن يرد الكر الذي هو ثمن العبد حكماً لانفساخ العقد في العبد، فإن العقد قد انفسخ في العبد بهذه الأسباب من كل وجه، وعند انفساخ العقد لا يسلم العبد للمشتري، فلا يسلم ثمنه للبائع.
فإن قال بائع العبد وهو رب السلم: أنا أمسك الكر المقبوض وأرد مثله، كان له ذلك؛ لأن المستحق على البائع من الثمن حال انفساخ العقد ما هو المستحق على المشتري حال مباشرة العقد، والمستحق على المشتري حال مباشرة العقد إذا كان العقد مطلقاً كر في الذمة لا كر بعينه، فكذا المستحق على البائع حال انفساخ العقد.
توضيحه: أن استحقاق الرد بحكم الفسخ قائماً، يثبت استحقاق ما ورد عليه الفسخ، والفسخ ما ورد على المقبوض العين، وإنما ورد على الموصوف في الذمم ضرورة ورود البيع عليه، فإن الفسخ إنما ورد عليه البيع، ولأن هذا الكر ما صار ملكاً له بالعقد ليزول عن ملكه بانفساخ العقد؛ لأن العقد ما ورد على المعين، وإنما صار ملكاً له بالقبض وقبضه باق بعد، فيبقى الكر مملوكاً له، فكان له أن يحبسه، فإن لم يرد رب(7/97)
السلم الكر الذي هو ثمن حتى حل السلم صار قصاصاً بكر السلم تقاصا أو لم يتقاصا؛ لأن البيع إذا انتقض وإنفسخ من كل وجه بالأسباب التي ذكرنا بطل جهة الثمنية للكر، فبقي الكر في يده مقبوضاً بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر وهو قبل السلم، فقد وجد علامة الاستيفاء، فصار قصاصاً بالسلم لهذا، وكذلك لو كان عقد البيع قبل السلم ولكن قبض الكر الذي هو به أسلم ممن كان بعد السلم، ثم انفسخ البيع بينهما بالأسباب التي ذكرنا صار الكر الذي هو ثمن قصاصاً (129ب3) بالسلم عند حلول الأجل؛ لأن العبرة لحالة القبض؛ لأن الاستيفاء يقع بالقبض، والقبض وجد بعد عقد السلم، فتقدم العقد وتأخره في هذا سواء.
ولو كان مشتري العبد وهو المسلم إليه رد العبد بعد القبض بالتراضي أو تقايلا العقد في العبد والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن لا يصير قصاصاً بالسلم في الفصلين جميعاً تقاصا أو لم يتقاصا، وإنما كان كذلك؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي، والإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث؛ لأن الصورة صورة الفسخ وهو قولهما فسخاً، والمعنى معنى المبادلة، وهو التمليك والتملك بالتراضي ولا يمكن اعتبار المعنى والصورة في حق شخص واحد، فاعتبرنا الصورة في حق المتعاقدين، واعتبرنا المعنى في حق الثالث، وحرمة الاستبدال بالمسلم فيه حق الشرع فصار في حرمة حق الاستبدال الذي هو حق الشرع عقداً جديداً، وإذا اعتبرنا على هذا الوجه بقي العقد الأول وثمنه، فبقي الكر مقبوضاً بجهة الثمنية، فلا يمكن أن يجعل ذلك القبض استيفاء، لما ذكرنا أن الاستيفاء إنما يكون بقبض عين مضمون هو مثل السلم لا بجهة الاقتضاء بدين آخر، وهذا الكر بقي مقبوضاً بجهة الثمنية، فلو صار قصاصاً كان هذا استبدالاً بالمسلم فيه قبل القبض، وإنه لا يجوز، أو نقول بأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي والإقالة اعتبر كل واحد منهما فسخاً في حق المتعاقدين فيما هو من حقوق ذلك العقد اعتباراً للصورة، وفيما ليس من حقوق ذلك العقد اعتبر بيعاً جديداً اعتباراً للمعنى على ما ذكرنا، وعقد السلم بشيء من حقوق ذلك العقد فيجعل في حق حكم السلم بمنزلة بيع مبتدأ، ولما كان هكذا بقي العقد الأول وثمنه والتقريب ما ذكرنا، ولو كان عقد البيع وقبض الكر قبل عقد السلم والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن العبد لا يصير قصاصاً بكر السلم وإن تقاصا؛ لأنه لو صار قصاصاً صار دين السلم ايفاء وقضاء الثمن العبد؛ لأنه آخر الدينين وقد ذكرنا أن آخر الدينين يصير قصاصاً لأولهما، فيصير آخرهما مقبوضاً بدين السلم ولا يصير دين السلم مقبوضاً فلا يجوز.
نوع آخر هو قريب من هذا النوع
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل أسلم إلى رجل في قفيز من رطب وجعل أجله في جنسه حتى كان جائزاً، فأعطاه المسلم إليه مكانه قفيزاً من تمر وأسلم في قفيز من تمر، فأعطاه مكانه قفيراً من الرطب، وتجوز به رب السلم فهو جائز في قول أبي(7/98)
حنيفة؛ لأن الرطب والتمر عنده جنس واحد جاز أحدهما بالآخر كيلاً بكيل ابتداء، فيكون هذا استيفاءاً للمسلم فيه لا استبدالاً، وعندهما: إن كان المسلم فيه قفيز رطب، فأعطاه مكانه تمراً لا يجوز على كل حال؛ لأنهما يعتبران المماثلة بعد الجفاف ولهذا لا يجوز بيع الرطب بالتمر عندهما كيلاً بكيل ابتداءً ولا مساواة بينهما في تلك الحالة، فإن الرطب تنقص إذا جف فيصير رب السلم بقبض كرٍ من تمر مستوفياً أكثر من حقه باعتبار النظر إلى تلك الحالة وهو ربا فلم يجز، وصار كما لو أسلم في ثلاثة أذرع قفيز تمر، فاستوفى قفيزاً من تمر، فأعطاه قفيزاً من رطب فهو على وجهين:
إما أن يقبضه على وجه الاستيفاء بأن يقول المسلم إليه لرب السلم: خذه لحقك أو قضاء لحقك أو قضاء من حقك أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقبضه على وجه الصلح والإبراء بأن يقول: خذه صلحاً بحقك أو قضاء من حقك على أني بريء مما كان لك قبلي.
ففي الوجه الأول: هو باطل؛ لأن تقدير ما قال المسلم إليه خذ كمال حقك وما أعطاه لا يفي بكمال حقه؛ لأن العبرة عندهما لحال الجفاف، والرطب ينقص إذا جف فلا يصير مستوفياً جميع حقه باعتبار تلك الحالة، وليس في لفظه ما يدل على إسقاط شيء فلا يدرى كم أخذ من حقه وكم بقي مع أنه إذا انتقص مقدار الربع مثلاً، فإن جعلناه مستوفياً جميع حقه كان استيفاء لقفيز بثلاثة أرباع قفيز وذلك ربا، وإن جعلناه مستوفياً بثلاثة أرباع قفيز، فالمسلم إليه لم يرض بإعطاء قفيز من الرطب إلا وأن يكون قضاءً عن جميع حقه، وفي هذا تفويت حقه في صفة الرطوبة وهي صفة مقصورة.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان على طريق الصلح والإبراء ينظر إلى هذا الرطب كم تنقص إذا جف، فإن علم ذلك بنى على ما يعلم، وإن لم يعلم بنى ذلك على أكثر ما لا يزيد عليه النقصان، فإن علم أنه إذا جف ينقص مقدار الربع أو علم أنه لا يزيد النقصان على الربع ويبقى بثلاثة أرباع ينظر بعد هذا إن كانت قيمة القفيز من الرطب مثل قيمة ثلاثة أرباع قفيز من تمر أو أقل، فالصلح جائز؛ لأن رب السلم استوفى بعض حقه وأبرأه عما بقي؛ لأن في لفظ الصلح ما يدل على الإبراء والإسقاط، كيف وقد صرح بالإبراء في بعض المواضع ولم يشترط عليه بإزاء ما أبرأه عوضاً، وهو الحسن الجميل الذي ورد به الأثر فيجوز، وإن كانت قيمة قفيز من الرطب أكثر من قيمة ثلاثة أرباع تمر السلم بطل الصلح؛ لأنه وإن استوفى قدر ثلثة أرباع وأبرأه عن الربع فقد جعل لنفسه بمقابلة ما أبرأه عنه فضل جودة الرطوبة فلا يجوز، كمن له على آخر ألف درهم نبهرجة إلى سنة فصالحه على خمسمائة نبهرجة معجلة، أو كان له على رجل ألف درهم نبهرجة حالة، فصالحه على خمسمائة جيدة حالاً لا يجوز لما قلنا: إنه اعتاض صفة الجودة عما أبرأ فكذا ههنا.
واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح هذا بما لو كان لرجل على رجل قفيز تمر مؤجل فصالحه على نصف قفير تمر حال كان الصلح باطلاً؛ لأنه حط القدر بمقابلة فضل الجودة في المسألة الأولى، وبمقابلة فضل الحلول في المسألة الثانية كذا هنا.(7/99)
رجل أسلم إلى رجل في قفيز من حنطة، فأعطاه مكانه قفيز حنطة مقلية لم يجز في قولهم جميعاً؛ لأنه لا مماثلة بين المقلية وغير المقلية شرعاً، ولهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية قفيزاً بقفيز عندهم جميعاً، فكان هذا استبدالاً عند الكل لا استيفاء فلهذا لا يجوز. وكذلك لو أسلم في قفيز بسر أخضر أو أصفر في جنسه وأعطاه مكانه قفيز بسر مطبوخ، أو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفير حنطة مطبوخة، لو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفيز دقيق لا يجوز؛ لأنه لا مماثلة بين البسر المطبوخ وبين الأخضر، ولهذا لا يجوز مع أحدهما بالآخر قفيزاً بقفيز ابتداء، وكذا المطبوخ على هذا، وكذا لا يجوز بيع قفيز حنطة من المطبوخة بقفيز من غير المطبوخة، ولا يجوز بيع قفيز حنطة بقفيز دقيق، فعلم أنه لا مماثلة، فكان هذا استبدالاً لا استيفاءاً.h
ولو أسلم في قفيز حنطة فأعطاه قفيزاً من حنطة قد أنقع (130أ3) من الماء حتى انتفخ، فهذا جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز؛ لأنهما مثلان عندهما خلافاً لمحمد رحمه الله، ولهذا جاز بيع الحنطة المبلولة بغير المبلولة عندهما قفيزاً بقفيز خلافاً لمحمد، وكان قول محمد في هذا على قياس قوله في الرطب.
ولو أسلم في زيتون فأخذ مكانه زيتاً لا يجوز وإن علم أنه أقل مما في الزيتون؛ لأنهما صنفان فيكون استبدالاً والله أعلم بالصواب.
نوع آخر في الاختلاف الواقع بين رب السلم وبين المسلم إليه وإنه على وجوه
الأول: أن يقع الاختلاف بينهما في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما ويجب أن يعلم بأن ههنا مسألتان: الأولى ما إذا كان رأس المال ديناً كالدارهم والدنانير وإنها على وجوه ثلاثة: الأول: أن يقع الاختلاف في المسلم فيه وإنه على وجوه ثلاثة، إن وقع الاختلاف في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: أسلمت عشرة دراهم في كر شعير تحالفا استحساناً إن لم يكن لهما بينة، ويبدأ بيمين المسلم إليه في قول أبي يوسف الأول، وفي قوله الآخر يبدأ بيمين رب السلم، وإذا تحالفا فالقاضي يقول لهما: ماذا تريدان؟ لأن العقد لا ينفسخ بمجرد التحالف كما في بيع العين، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فسخ القاضي بينهما، وإن قالا: لا نفسخ، تركهما رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه، وأيهما أقام بينة قبلت بينته، وفي قبول بينة المسلم إليه إشكال إذ لا وجه إلى قبولها لإثبات العشرة لنفسه؛ لأن رب السلم قد أقر له بعشرة، ولا وجه إلى قبولها لإثبات الشعير؛ لأنه يثبت الشعير للغير، والبينة لا تقبل على إثبات حق الغير، ولكن الوجه في ذلك أن بينة المسلم إليه إنما تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه، وكما تقبل بينة الإنسان لإثبات الحق لنفسه تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه.
ألا ترى أن بينة المودع على الرد مقبولة لإسقاط اليمين عن نفسه؛ لأن البراءة حاصلة له بقوله رددت. وإن أقام البينة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بعد، فعند محمد(7/100)
رحمه الله يقضي بعقدين، يقضي على رب السلم بعشرين درهماً وعلى المسلم إليه بكر حنطة وكر شعير، وإن تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير قضي بعقد واحد ببينة رب السلم، وعند أبي يوسف رحمه الله: يقضي بعقد واحد ببينة رب السلم على كل حال.
فالأصل عند محمد في جنس هذه المسائل أن يقضي بسلمين ما أمكن، فإن لم يمكن لضرورة حينئذ يقضي بسلم واحد، وإنما كان الأصل القضاء بعقدين؛ لأنه اجتمع ما يوجب القضاء بعقدين، فإن كل واحد ادعى عقداً غير العقد الذي ادعاه صاحبه، فإن العقد على الحنطة على الشعير وما يوجب القضاء بعقد واحد، فإنهما مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يجر بينهما إلا عقد واحد فكان القضاء بعقدين وفيه عمل بالبينتين، وبدعوى العقدين صورة أولى من القضاء بعقد واحد، وفيه تعطيل إحدى البينتين.
إذا ثبت هذا فقول ما داما في مجلس العقد أمكن القضاء بالعقدين إذ يمكن القضاء بعشرين في كل عقد بعشرة إذ يمكن نقد رأس المال كل عقد في مجلسه، أما إذا تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير لا يمكن القضاء بعقدين إذا لم ينقد رأس مال أحدهما في المجلس فنقضي ببينة رب السلم؛ لأن رب السلم ببينته تثبت الحق لنفسه، والمسلم إليه يثبت الحق لغيره.
والأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: القضاء بسلم واحد إلا إذا تعذر، فيقضي بسلمين حينئذٍ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإنما كان الأصل هو: القضاء بعقد واحد مما يأباه القياس؛ لأن القياس يأبى جواز سلم؛ لأنه بيع ما ليس عند الناس. إذا ثبت هذا فنقول القضاء على إثبات العشرة لنفسه وعلى إثبات الشعير لغيره، والعشرة ثابتة له بإقرار رب السلم، فلا تقبل بينته من هذا الوجه، ولذلك لا تقبل بينته على إثبات الشعير؛ لأن البينة على الشعير قامت على إثبات ما أقر به للغير والبينة على إثبات ما يقر به الإنسان لغيره غير مقبولة، فإن من أقر لإنسان بشيء وكذبه المقر له، فقال المقر: أنا أقيم البينة على ذلك لا تقبل بينته، فهو معنى قولنا: أمكن رد بينة المسلم، فيمكن القضاء بعقد واحد ببينة رب السلم من هذا الوجه فيقضي به.
وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، فهذا وما لو اختلفا في جنس المسلم فيه سواء إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وإن اختلفا في صفة المسلم فيه ولا بينة لواحد منهما، القياس: أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن (لا) يتحالفا، وبالقياس نأخذ.
وجه الاستحسان: أنهما اختلفا في صفة المبيع، فلا يتحالفان كما في بيع العين.
وجه القياس: أن الاختلاف في صفة المسلم فيه، وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين بأن قال المشتري: اشتريت منك هذا الكر وقال البائع: لا بل بعتك هذا الكر الآخر، وهذا لأن الدين غائب عندنا يعرف بصفته فيختلف أصله باختلاف صفته، فهو معنى قولنا: الاختلاف في صفة المسلم فيه وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين. ولو اختلفا في أصل المعقود عليه في بيع(7/101)
العين مخالفاً كذا ههنا بخلاف ما إذا اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين أنه عشرة أذرع أو أحد عشر؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه قط لا يصير عينين باختلاف الصفة، فيكون الاختلاف واقعاً في الصفة لا في المعقود عليه لا يوجب التحالف؛ لأن هذا السبب باختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه.
ألا ترى أن البيع يوجد بدون هذه الصفة، فكان بمنزلة ما اختلفا في شرط يلحق بالعقد الذي يوجد بدونه العقد، وذلك لا يوجب التحالف كذلك ههنا، والمعنى: أن التحالف عرف بخلاف القياس بالنص فيما إذا وقع الاختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، فيبقى ما وراءه على أصل القياس، فإن قامت لأحديهما بينة فإنه يقضي ببينته طالباً كان أو مطلوباً، كما وإن أقاما جميعاً البينة فعلى قولهما لا شك أنه يقضى بعقد واحد ببينة رب السلم كما لو اختلفا في جنس المسلم فيه أو في قدره. وأما على قول محمد رحمه الله: ذكر في بعض المواضع أنه يقضي بعقدين وإنه قياس، وبه نأخذ؛ لأن الاختلاف في صفة الدين على جواب (130ب3) القياس جعل بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه.
هذا إذا اختلفا في المسلم فيه ورأس المال(7/102)
شيء لا يتعين بالتعين إن اختلفا في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت إليه عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: لا بل أسلمت إلى ديناراً في كر حنطة، ولا بينة لواحد منهما لا يتحالفان قياساً، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اتفقا على حق رب السلم واختلفا في حق المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه يدعي الدينار ورب السلم ينكر، فالقول قول رب السلم لا المنكر في الشرع.
وفي الاستحسان: يتحالفان كما إذا اختلفا في جنس الثمن في بيع العين، فإن أقام البينة، فعند محمد يقضي بعقدين على رب السلم بدينار وعشرة دراهم، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد؛ لأن القضاء بعقدين على هذا الوجه ممكن؛ لأن رأس المال دين والمسلم فيه كذلك ومحل الدين الذمة، وفي الذمة سعة فأمكن القضاء بعقدين، ومن أصله القضاء بعقدين إلا في موضع التعذر، ولم يذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وأبي يوسف في هذه الصورة.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عنهما: أنه يقضي بعقد واحد ببينة المسلم إليه وهو الصحيح؛ لأن الأصل عندهما أن يقضي بعقد واحد ما أمكن القضاء بعقد واحد يرد بينة رب السلم؛ لأن بينته قامت على إثبات العشرة وكر حنطة وكر حنطة ثابت له بإقرار المسلم إليه، فلا حاجة إلى إثباته بالبينة، والعشرة ثابتة للمسلم فبينة رب السلم قامت في حق العشرة على إثبات ما أقر به لغيره فهو معنى قولنا أمكن رد بينة رب السلم فأمكن القضاء بعقد واحد فيقضى به.
وإن وقع الاختلاف في قدر رأس المال أو صفته، فالجواب فيما إذا وقع الاختلاف في صفة المسلم فيه أو قدره، فأما إذا اختلفا في المسلم فيه وفي رأس المال ورأس المال شيء لا يتعين بالتعيين إن اختلفا في جنس المسلم فيه وفي جنس رأس المال، ولا بينة لواحد منهما يتحالفا قياساً واستحساناً؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، المسلم إليه يدعي الدينار على رب السلم، ورب السلم يدعي الحنطة على المسلم إليه، والمسلم إليه ينكر، فيتحالفان قياساً واستحساناً كما في بيع العين، فإن أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة يقضي بالعقدين إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بلا خلاف، أما عند محمد فظاهر، وأما عندهما؛ فلأن عندهما إنما يقضي بعقد واحد عند الإمكان ولا إمكان ههنا؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد ما يرد إحدى البينتين، أو بقول كل واحد منهما في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد، وهنا تعذر القضاء بعقد واحد يرد إحدى البينتين؛ لأن كل واحد منهما قامت في موضعها ومحلها؛ لأن رب السلم أقام البينة على الحنطة، والحنطة غير ثابتة له بإقرار المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه منكر للحنطة، والمسلم إليه أقام البينة على الدينار، والدينار غير ثابت بإقرار رب السلم؛ لأن رب السلم منكر للدينار، فهو معنى قولنا: تعذر رد البينتين، وتعذر قبول واحد في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد لا في جنسين مختلفين، فالدينار لا يصلح زيادة في الدراهم، والدراهم لا تصلح زيادة في الدينار، والحنطة لا تصلح زيادة في الشعير، وكذا الشعير لا يصلح زيادة في الحنطة، فتعذر القضاء بعقد واحد من هذا الوجه فيقضي بعقدين ضرورة.
وإن وقع الاختلاف في قدر المسلم فيه وفي قدر رأس المال ولا بينة لهما يتحالفان، وإذا أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقام البينة قضى بعقدين عند محمد إن لم يتفرقا عن مجلس العقد، وعندهما: يقضي بعقد واحد إذ القضاء بعقد واحد ممكن بأن يقول: بينة كل واحد منهما على إثبات الزيادة في عقد واحد على ما أقر له صاحبه؛ لأن الجنس واحد، فيمكن القضاء بكل واحد من البينتين في عقد واحد من حيث إثبات الزيادة من غير إثبات عقد آخر، فلا ضرورة إلى القضاء بعقدين، فيقضي على رب السلم بعشرين ببينة المسلم إليه، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة ببينة رب السلم.
وإن اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه، فالجواب في البينة عندهم جميعاً كالجواب فيما إذا اختلفا في صفة رأس المال لا غير، فكل جواب عرفته ثمة في حق إقامة البينة عندهم جميعاً فهو الجواب هنا، هذا الذي ذكرنا إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير.
المسألة الثانية: إذا كان رأس المال عيناً بأن كان عرضاً إن اختلفا في جنس المسلم فيه، فإن الجواب في التحالف أن لا يتحالفا قياساً، ويكون القول قول المسلم إليه؛ لأنهما اتفقا على حق المسلم إليه، واختلفا في حق رب السلم؛ لأن رب السلم يدعي حنطة والمسلم إليه ينكر، فيجب أن يكون القول قول المسلم إليه ولا يتحالفان، ولكن في الاستحسان يتحالفان، ثم الجواب إلى آخره على ما قلنا.
وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد(7/103)
واحد منهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا إشكال؛ لأن عندهما يقضي بسلم واحد مع إمكان القضاء بسلمين في حال عدم الإمكان.
أما على قول محمد؛ فلأنه تعذر القضاء بعقدين؛ لأن رأس المال عين، والعين متى جعلت رأس مال في السلم لا يمكن أن يجعل رأس مال في سلم آخر إلا بعد إثبات الشراء ثانياً من المسلم إليه ولم يمكن إثبات الشراء؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك لتعذر القضاء بعقدين فوجب القضاء بعقد واحد، بخلاف ما لو كان رأس المال دراهم أو دنانير؛ لأنه يجب ديناً في الذمة وفي الذمة سعة، فيمكن القضاء بعشرين كما يمكن بعشرة فقد أمكن القضاء بعقدين، فلا يقضي بعقد واحد.
وإن اختلفا في قدر المسلم فيه فالجواب في حق التحالف والبينة كالجواب في الفصل الأول عندهم جميعاً.
وإن اختلفا في صفة المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس على ما مضى من الاستحسان أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن لا يتحالفا، وبالقياس نأخذ، ثم الجواب إلى آخره على ما بينا، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن إلا بعد الشراء ثانياً من المسلم إليه، والشهود لم يشهدوا بالشراء.
فإن اختلفا في جنس رأس المال ولم يقم لأحدهما بينة، القياس: أن لايتحالفا ويكون القول قول رب السلم، وفي الاستحسان: (131أ3) يتحالفان. وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته لما بينا، وإن أقاما جميعاً البينة فعلى قول محمد رحمه الله يقضي بعقدين؛ لأن القضاء بالعقدين ممكن؛ لأن كل فريق شهد بعين لم يشهد به الآخر، والقضاء بعينين في عقدين ممكن، فيقضي بعقدين كما لو اختلفا في جنس رأس المال ورأس المال دين، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضي بعقد واحد على رواية الكرخي وهو الأصح؛ لأن القضاء بعقد واحد ممكن برد أحد البينتين وهي بينة رب السلم؛ لأنها قامت على إثبات ماهو ثابت له بإقرار المسلم إليه، ولما أمكن رد إحدى البينتين أمكن القضاء بعقد واحد.
وإن اختلفا بعقد في مقداره إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول رب السلم ولا يتحالفان؛ لأن المسلم إليه يدعي زيادة ثوب في رأس المال وهو ينكر، وفي جانب المسلم فيه اتفقا على أنه كر حنطة إلا أنهما يتحالفان استحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقد واحد عندهم؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن؛ لأن أحد الثوبين باتفاق البينتين صار رأس المال في عقده، فلا يتصور أن يجعل رأس المال في عقد إلا بإدراج زيادة لم يشهد به الشهود وهو الشراء.
وإن اختلفا في صفته إن لم يقم لأحدهما بينة، فإنهما لا يتحالفان قياساً واستحساناً، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اختلفا في صفة رأس المال وهو عين،(7/104)
فكان بمنزلة ما لو اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين، فيكون القول قول منكر الزيادة قياساً واستحساناً، فإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً؛ لأن رأس المال واحد (وهو) عين.
وإن اختلفا فهما إن اختلفا في جنس رأس المال وجنس المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياساً واستحساناً؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقدين لما ذكرنا فيما إذا اختلفا في جنس رأس المال والمسلم فيه فهما دينان.
وإن اختلفا في قدر رأس المال والمسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينته، فالجواب في التحالف أنهما يتحالفان قياساً واستحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً ويقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة؛ لأن القضاء بعقدين متعذر لما ذكرنا، ويمكن العمل بالبينتين من حيث إثبات الزيادة؛ لأن الجنس واحد من الجانبين، فإنما إذا اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه ولم يقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياساً واستحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة فإنه يقضي بعقد واحد وتقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة يقضي بثوب هو أحد عشر ذراعاً وبكر حنطة جيدة؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن رأس المال عين ولا بد من قبول كل واحد من البينتين؛ لأنهما قامت على إثبات ما هو غير ثابت، فيقضي بعقد واحد بالزيادة الثابتة بالبينتين. هذا الذي ذكرنا كله إذا اختلفا في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما.
الوجه الثاني: إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء، فقال الطالب: شرطت لي الإيفاء في مكان كذا، وقال المطلوب: لا، بل شرطت لك الإيفاء في مكان كذا لمكان دون ذلك المكان، ولم تقم لهما بينة، فعلى قول أبي حنيفة لا يتحالفان قياساً واستحساناً، ويكون القول قول المسلم إليه مع يمينه، وقال أبو يوسف ومحمد: ذهبا في ذلك إلى أنهما اختلفا في مقدار المسلم فيه من حيث المعنى أو في مقدار رأس المال فيتحالفا، كما لو اختلفا في مقدار رأس المال، وإنما قلنا ذلك؛ لأن المسلم إليه يلزمه زيادة قفيز أو قفيزين لمؤنة الكراء متى لزمه النقل إلى المكان الذي يدعيه غير رب السلم تلزمه زيادة درهم لو لزمه النقل من المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ومؤنة الكراء تلحق بأصل المال حتى لو كان له أن يضم مؤنة الكراء إلى الثمن ويبيعه مرابحة على الكل.
فإذا صارت مؤنة النقل ملحقاً بأصل المعقود عليه، فكأن رب السلم يدعي عليه اثني عشر قفيزاً بعشرة دراهم وهو يقول: عشرة أقفزة فكأن المسلم إليه يدعي عليه أحد عشر أو اثني عشر درهماً بكر حنطة، فرب السلم يقول: عشرة دراهم، ينزل اختلافهما في بيان مكان الايفاء من حيث منزلة اختلافهما في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال، وذلك مما يوجب التحالف هذا، وهذا الخلاف ما لو اختلفا في مقدار الأصل، فإنهما لا يتحالفان، ويكون القول قول رب السلم في الزيادة؛ لأن الاختلاف في الأجل ليس باختلاف في المعقود(7/105)
عليه ولا في بدله لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى، وذلك لأن رب السلم لا تلزمه زيادة مال بسبب نقصان الأجل، فلا يكون الاختلاف في الأجل اختلافاً في المعقود عليه ولا في بدله، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس بالنص، والنص إنما ورد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في بدل المعقود عليه أو في المعقود عليه، فإذا لم يوجد الاختلاف في المعقود عليه ولا في بدله لا حقيقة ولا معنى يرد إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يوجب أن يكون القول قول المنكر وعلى المدعي فبهذا تعلقا.
وأما أبو حنيفة ذهب في ذلك إلى أن التحالف وجب نصاً بخلاف القياس، والنص الوارد بإيجاب التحالف متى اختلفا في المعقود عليه أو في بدله لا يكون وارداً دلالة فيما إذا اختلفا في مكان الإيفاء؛ لأن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه، وليس بمعقود عليه من وجه من حيث إنه ليس بإزائه بدل مقابلة لم يكن معقوداً عليه، ومن حيث إنه قال يلزمه سبب تسليم المعقود عليه كان معقوداً عليه، ولهذا قالوا في بيع المرابحة أنه يقول: قام علي بكذا ولا يقول اشتريت بكذا، ولهذا قال محمد رحمه الله: إنهما إذا أقاما جميعاً البينة، فإنه لايقضي بعقدين، وإن أمكن القضاء بالعقدين كما إذا اختلفا في مقدار الأجل وقامت لهما بينة، وإذا كان بمنزلة المعقود عليه من وجه لم يكن النص الوارد بإيجاب التحليف متى اختلفا في المعقود أو في بدله من كل وجه وأرادا نصاً دلالة، ورد هذا إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يقتضي أن يكون القول قول المسلم إليه؛ لأن رب السلم يدعي عليه زيادة وهو ينكر ذلك، أو يقال: اختلفا في شرط ملحق بالعقد يوجد العقد بدونه، فلا يوجب التحالف، وإن كان لا يصح العقد إلا به قياساً على الأجل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن (131ب3) بيان مكان الإيفاء شرط ملحق بالسلم، والسلم يوجد بدون بيان مكان الإيفاء إلا أنه يكون فاسداً كالأجل، والدليل على أن الاختلاف في المكان كالاختلاف في الأجل أن الأسفار تختلف (باختلاف) المواضع والأمكنة كما تختلف باختلاف الأيام والأزمنة، ألا ترى أن التجار يجلبون الطعام وغيرها من السلع من بلد إلى بلد لطلب الربح كما يحبسونها لوقت رجاء الربح بسبب تغير السعر، ثم الاختلاف في الأجل لم يوجب التحالف، فكذا في بيان مكان الإيفاء اختلافاً في قدر المسلم فيه أو في رأس المال معنى، فمن حيث الحقيقة اختلاف في شرط ملحق للعقد يوجد العقد بدونه كالأجل، فيجب التحالف من وجه ولا يجب من وجه، فلا يجب هذا إن لم تقم بينة أحدهما، وإن قامت لأحدهما بينة،
فإنه يقضي ببينته طالباً كان أو مطلوباً لما ذكرنا. وإن أقاما جميعاً البينة ذكرنا أنه يقضي بينة الطالب؛ لأن في بينته زيادة إثبات، وهو النقل إلى المكان الذي يدعيه بنفيه بينة المسلم إليه، فكانت أولى بالقبول ويقضي بعقد واحد.
وهذا عند أبي يوسف رحمه الله لا إشكال؛ لأنه على مذهبه لو اختلفا في المقدار المعقود عليه من حيث الحقيقة وقامت لهما بينة لا يقضي بعقدين فهذا أولى.l
وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن الأصل عنده أن يقضى بعقدين متى اختلفا في مقدار المعقود عليه على الحقيقة ليكون عملاً بالبينتين، وهنا قال: يقضي بعقد واحد مع إمكان(7/106)
القضاء بعقدين بأن يقضي ببينة رب السلم بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي ادعاه رب السلم وببينة المسلم إليه بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ولكن وجه الفرق له ما ذكرنا أن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه دون وجه على ما بينا، والاختلاف في مقدار المعقود عليه من كل وجه، ورأس المال دين يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة على مذهبه، والتحالف إذا لم تقم لهما بينة والاختلاف فيما ليس بمعقود عليه من كل وجه كالأجل لا يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة ولا التحالف إذا لم يقم لهما بينة، فإذا كان لهما بينة عملنا بالشبهين في حق حكمين مختلفين، فعملنا بشبه المعقود عليه في حق التحالف ليمكننا العمل بالشبه الآخر؛ لأنا متى عملنا بشبه المعقود عليه في حق القضاء بعقدين يلزمنا إظهار هذا الشبه في حق التحالف من الطريق الأولى؛ لأن التحالف أسهل ثبوتاً من القضاء بعقدين حتى وجب التحالف في بيع العين في موضع لا يجب القضاء بعقدين، هذا الذي ذكرنا إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء.
الوجه الثالث: أما إذا اختلفا في الأجل، فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: أما إن اختلفا في أصل الأجل، بأن قال أحدهما كان بأجل، وقال الآخر: بغير أجل أو اختلفا في مقدار الأجل بأن قال رب السلم: كان الأجل شهراً، وقال المسلم إليه: لا بل شهرين، أو اختلفا في المضي بأن قال رب السلم: كان شهراً وقد مضى، وقال المسلم إليه: لم يمض بعد، وإنما أسلمت إلي الساعة.
فإن اختلفا في أول وجه، فهذا على وجهين: إما أن يكون مدعي الأجل الطالب أو المطلوب، فإن كان مدعي الأجل وهو الطالب، والمطلوب ينكر ولم تقم لهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول المطلوب مع يمينه، وفي الاستحسان: يكون القول قول الطالب مع يمنيه. وجه القياس في ذلك: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل إن كان يدعي فساد العقد إلا أنه يدفع استحقاق مال عن نفسه بدعوى الفساد، فيكون القول قوله إذا لم يسبق منه إقرار بالجواز.
بيان ما قلنا: إن السلم في جانب المسلم إليه يبيع بأقل الثمنين، فيكون ما يستحق عليه من المسلم فيه أكثر مما يحصل له من رأس المال، فكان دافعاً عن نفسه استحقاق مال بدعوى الفساد فيكون القول قوله.
وإن كان مدعياً لفساد العقد كالمضارب ورب المال إذا اختلفا فقال رب المال: شرطت له نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي ثلثه أو النصف، كان القول قول رب المال، وإن كان مدعياً للفساد بما ادعى؛ لأنه دافع بدعوى الفساد استحقاقاً عن نفسه، على ما مر بيانه قبل هذا.
وللاستحسان طريقان في ذلك أحدهما: أن يقال إن المطلوب لما أقر بالسلم فقد أقر بالأجل؛ لأن السلم عبارة عن أخذ مال عاجل بآجل فصار مقراً بالأجل راجعاً عنه، فلا يصدق في الرجوع. والثاني: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من غير أن يدفع عن نفسه استحقاقاً؛ لأن المسلم فيه غير مستحق للحال، متى ثبت جواز العقد لا يكون بدعوى الفساد دافعاً استحقاقاً عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد دافعاً استحقاقاً عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد كما في النكاح، وكما في المضارب على ما مر، هذا إذا كان الطالب هو مدعي الأجل.
فأما إذا كان المطلوب هو يدعي الأجل، قال أبو حنيفة رحمه الله: القول قوله استحساناً، وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الطالب قياساً.
وجه قولهما: أن الطالب بإنكار الأجل وإن كان يدعي فساد العقد إلا أنه بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال للحال؛ لأن رأس المال يستحق عليه للحال في السلم متى ثبت جواز السلم، ولا يحصل له للحال عرض إنما يحصل له في الثاني؛ لأن المسلم فيه أجل، والآجل لا يعادل العاجل؛ لأن النقد خير من النسيئة، وقد ذكرنا أن أحدالمتعاقدين إذا ادعى الفساد يكون القول قوله، إذا كان دافعاً عن نفسه استحقاقاً، بخلاف ما لو أنكر المطلوب الأجل وادعى الطالب ذلك؛ لأن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من(7/107)
غير أن يدفع عن نفسه استحقاقاً للحال؛ لأن المسلم فيه لا يستحق عليه للحال، ومتى جاز العقد فيكون القول قول من يدعي الصحة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أن كل واحد منهما بإنكار الأجل مدعٍ للفساد من غير دفع الاستحقاق عن نفسه، فيكون القول قول من يدعي الجواز وإنما قلنا ذلك؛ لأن ما يحصل لكل واحد منهما في باب السلم مثل ما يستحق عليه من حيث المعنى في جانب المسلم إليه إن كان يستحق عليه زيادة؛ لأن يبيع بأقل الثمنين من جانبه فهو أجل، وما يحصل له، وإن كان ناقصاً فهو عاجله، والعاجل وإن كان قليلاً خير من الآجل، والزيادة خير من الناقص، فكان في كل واحد من البدلين ضرب نقصان ونوع زيادة فاستويا، فالتحق السلم لهذا المعنى بالنكاح وببيع العين فيسقط اعتبار الاستحقاق في كل واحد من الجانين كأنه لا استحقاق أصلاً، فصار منكر الأجل مدعياً للفساد من غير أن يدفع عن نفسه (132أ3) استحقاقاً، فيكون القول قول من يدعي الصحة، وهذا خلاف رب المال إذا ادعى فساد المضاربة عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق عليه خير مما يحصل له؛ لأنه يستحق عليه عين مال ويحصل له منفعة والعين خير من المنفعة.
وفي باب السلم ما يحصل لكل واحد منهما عين مال إلا أن في كل واحد منهما نوع نقصان ونوع زيادة فاستويا زال اعتبار الاستحقاق من الجانبين فيبقى دعوى الفساد من غير دعوى الاستحقاق فيكون القول قول من ينكر الفساد؛ لأن الظاهر يصلح لرفع المعصية عن فعل الغير، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة. وإن قامت لأحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة من يدعي الأجل؛ لأنه يثبت زيادة شرط في العقد ليس في بينة الآخر، هذا إذا اختلفا في أصل الأجل.
وإن اختلفا في مقدار الأجل إن لم يقم لأحدهما بينة فالقول قول الطالب مع يمنيه(7/108)
ولا يتحالفان عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر: يتحالفان.
وجه قول زفر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» فقد أوجب التحالف عند اختلاف المتبايعين بلا فصل بينما إذا وقع الاختلاف بينهما في المعقود عليه أو في بدله أو شرط ملحق بالعقد، فلو خليت فظاهر الحديث كنت أقول بأنهما إذا اختلفا في الأجل أو في خيار الشرط في بيع العين يتحالفان إلا أني تركت ظاهره بالإجماع، ولا إجماع على ظاهره؛ لأنهما متبايعان اختلفا فيما لا يجوز العقد بدونه، فوجب أن يتحالفا قياساً على مالو اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في مقدار رأس المال، بخلاف ما إذا اختلفا في الأجل وخيار الشرط في بيع العين، فإنهما يتحالفان؛ لأن الأجل في بيع العين وخيار الشرط مما يجوز العقد بدونه، فلم يكن الاختلاف الواقع فيه كالاختلاف الواقع في مقدار الثمن أو في مقدار المعقود عليه.
وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أن التحالف واجب بخلاف القياس من الوجه الذي ذكرنا، والشرع على وجوبها باختلافها في المعقود عليه أو في الثمن؛ لأنه علق وجوب التحالف للمتبايعين، وهذا اسم مشتق من البيع فيتعلق وجوب التحالف باختلافهما فيما يوجد به البيع، والبيع يوجد بالمبيع وبالثمن لا بالأجل ولا بشرط ملحق به، وإذا كان كذلك صار تقدير الحديث كأنه قال إذا اختلف المتبايعان في المبيع أو في الثمن تحالفا وترادا، ولو نص على هذا لا يجب التحالف في شرط ملحق به لا قياساً ولا دلالة؛ لأن الشرط الملحق بالعقد دون المبيع والثمن؛ ولأنهما متبايعان اختلفا فيما يوجد العقد بدونه، فوجب أن لا يتحالفا قياساً على ما لو اختلفا في الأجل والخيار في بيع العين، وإنما قلنا ذلك؛ لأن السلم بدون الأجل يكون سلماً إلا أنه يكون فاسداً بخلاف ما لو اختلفا في مقدار المسلم فيه ورأس المال؛ لأنهما اختلفا فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة يقضي ببينته إن قامت للمطلوب؛ فلأنه يثبت الزيادة، وإن قامت للطالب؛ فلأنه يثبت حادثا يسقط به الثمن عن نفسه، فيقبل كالمشتري إذا تفرد بإقامة البينة على ألف درهم.
وإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة المطلوب؛ لأنه يدعي زيادة الأجل ففي بينته زيادة إثبات ولا يقضي بعقدين عندهم جميعاً، عند أبي يوسف لا إشكال، وعند محمد؛ لأن الاختلاف في مقدار الأجل لا يجعل العقد عقدين، ولهذا لم يتحالفا بخلاف ما إذا اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما من العقد غير ما يدعيه صاحبه ولهذا تحالفا.
وإن اختلفا في المضي إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقول قول المطلوب أنه لم يمض؛ لأن الطالب يدعي توجه المطالبة بعدما لم يكن متوجهاً والمطلوب ينكر، فيكون المطلوب متمسكاً بما كان ثابتاً، فيكون القول قوله، وإن قامت لأحدهما بينة يقبل ببينته،(7/109)
وإن قامت للمطلوب لا شك أنه يقبل ببينة؛ لأنه يثبت زيادة أجل ببينته، وإن قامت للطالب فكذلك تقبل بينته؛ لأنه يدعي إيفاء الأجل، وتوجه المطالبة على المسلم إليه بعد ما لم يكن ثابتاً فتقبل ببينته.
وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة المطلوب؛ لأن ببينته يثبت زيادة أجل من حيث المعنى، فكان القول قوله في شيء، والبينة بينته في شيء آخر، وهذا جائز كما في المودع الرد كان القول قوله؛ لأنه منكر للضمان والبينة بينته؛ لأنه مثبت للرد كذلك هذا.
الوجه الرابع: إذا وقع الاختلاف بينهما في قبض رأس المال في المجلس، فأقام رب السلم البينة أنهما تفرقا قبل قبض رأس المال وأقام المسلم البينة أنه قبض رأس المال قبل الافتراق، فإن كان رأس المال في يد المسلم إليه، فالبينة بينة المسلم إليه والسلم جائز؛ لأن بينته قامت على إثبات القبض وبينة رب السلم قامت على النفي، والبينات مقبولة للإثبات دون النفي.
والثاني: أن ببينته تثبت عقداً جائزاً وبينة رب السلم تثبت عقداً فاسداً، ولا يقال بأنه لا يدعي على رب السلم شيئاً إذا كان رأس المال في يده بل يقر له بكر حنطة ويريد أن يثبت إقراره لغيره، فكيف يقبل بينته؛ لأنا نقول موضوع المسألة أن رب السلم ينكر قبضه في مجلس العقد ويدعي عليه غصباً بعد التفرق أو وديعة حتى يكون مدعياً استحقاق ما في يد المسلم إليه من الدراهم، فيكون القول قول المسلم إليه لإنكاره استحقاق ما في يده، وتقبل بينته أيضاً؛ لأنها قامت على الإثبات، وفي قبولها فائدة وهو سقوط الثمن.
ولو كانت الدراهم في يدي رب السلم والمسلم إليه يقول: قبضت ثم غصبت مني بعد ذلك، أو أودعتك، ورب السلم يقول: لم يقبض وتفرقنا قبل القبض، وأقاما البينة فالبينة بينة المسلم إليه؛ لأنها قامت على إثبات القبض واستحقاق ما في يدرب السلم.
ثم ذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة فيما إذا قامت لهما بينة ولم يذكر الجواب فيما إذا قامت لأحدهما بينة أو لم تقم لهما أصلاً، ولا بد من معرفته فنقول إن قامت لأحدهما بينة على الوجه الذي ذكرنا إن قامت لرب السلم لا تقبل؛ لأنها قامت على النفي، فلا تقبل. وإن كان لو قبلت كان قبولها استحقاق ما في يد المسلم إليه كبينة رب الوديعة لا تقبل على نفي الرد، وإن كان في ذلك إيجاب الضمان وبينة المسلم إليه تقبل؛ لأنها قامت على الإثبات، وفيها سقوط اليمين عنه أو استحقاق ما في يد الطالب.
وإن لم تقم لأحدهما (132ب3) بينة، فهذا على وجهين:
إما أن تكون الدراهم في يد المطلوب أو في يد الطالب، فإن كانت في يد المطلوب إن كان الطالب لا يدعي عليه غصباً ولا وديعة، وإنما يقول: ما قبضت رأس المال، فإنه لا يمين على واحد منهما؛ لأن اليمين يجب على المنكر، وأحدهما لا يدعي على صاحبه حقاً، أما المطلوب فلأنه يقر بالسلم للطالب، وليس يدعي عليه شيئاً، والطالب يكذبه في إقراره ولا يدعي على المطلوب شيئاً. وإن ادعى الطالب الغصب عنه أو الوديعة ما أنكر القبض في المجلس، فالقول قول المطلوب؛ لأن المطلوب أقر للطالب بكر حنطة وكذبه الطالب(7/110)
فيما أقر له وادعى على المطلوب استحقاق ما في يده من الدراهم والمطلوب أنكر، فيكون القول قوله مع يمينه. كمن أقر لإنسان بدينار وكذبه المقر له، وادعى عليه عشرة دراهم في يد رب السلم، فإن كان المطلوب ادعى القبض ولم يدع على الطالب غصباً ولا وديعة بعد ذلك، فلا يمين على واحد منهما؛ لأن المطلوب أقر له بالسلم وكذبه الطالب في إقراره، ولم يدع الطالب على المقر شيئاً، ولا المقر على الطالب شيئاً.
وإن ادعى المطلوب الغصب أو الوديعة بعد ما ادعى قبض رأس المال في المجلس وأنكر الطالب، فمن مشايخنا من قال: القول قول المطلوب مع يمينه فيحلف ويجوز السلم، ويأخذ رأس المال من رب السلم، وذهبوا في ذلك إلى أن المطلوب ادعى صحة العقد، ورب السلم ادعى فساده، فيكون القول قول من يدعي الصحة كما لو اختلفا في أصل الأجل كان القول قول من يدعي الأجل عند أبي حنيفة على كل حال. وإذا جعلنا القول قوله مع اليمين وجوزنا السلم وأثبتنا له استحقاق ما في يد رب السلم يكون الاستحقاق مضافاً إلى إقرار الطالب؛ لأن الطالب يجعل مقراً بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل مقراً بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل بآجل، فيصير مقراً بتسليم رأس المال، ثم راجعاً بعد ذلك، فيكون الاستحقاق مضافاً إلى إقرار الطالب لا إلى يمينه كما في الأجل. وكما لو اختلف الزوجان في النكاح بشهود وغير شهود جعل القول قول من يدعي النكاح بشهود، وإن كان يستحق على ما يدعيه لصاحبه؛ لأنه لا يصير مستحقاً بإقراره، فإن الإقرار بالنكاح إقرار بشهود؛ لأنه لا جواز للنكاح إلا بشهود.
ومنهم من قال: بأن هذا هكذا إذا قال الطالب لم يقبض مفصولاً بأن قال: أسلمت إليك وسكت، ثم قال: إلا أنك لم تقبض، أو قال: أسلمت إليك ولم تقبض بالعطف لا بالاستثناء؛ لأنه مع العطف اعتبر مفصولاً كما في المضاربة إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح وعشرة أعشر هذا مفصولاً، وكما في الطلاق قبل الدخول اعتبر قوله وطالق ثانياً مفصولاً بخلاف الاستثناء، ومتى كانت الحالة هذه يكون القول قول المطلوب مع يمينه؛ لأن السلم في هذه الحالة عبارة عن التسليم لا عن العقد، ولهذا قال بأن المطلوب إذا أقر بالسلم، ثم قال: إني لم أقبض مفصولاً، وقال رب السلم: قبضت كان القول قول رب السلم استحساناً مع يمينه، قال:؛ لأن المطلوب أقر بالقبض، فإذا صار عبارة عن التسليم صار رب السلم مقراً بالقبض، ثم راجعاً عنه فلا يصدق، فأما إذا قال موصولاً: لم يقبض والمطلوب يقول: قبضت يجب أن يكون القول قول الطالب في هذه المسألة ولا يكون القول قول المطلوب؛ لأن السلم في هذه الحالة جعل عبارة عن العقد لا عن السلم، ولهذا صدق المطلوب إذا أقر بالسلم وأنكر القبض موصولاً، وإذا جعل عبارة عن العقد لا عن التسليم لا يكون الطالب مقراً بالقبض، ثم منكر القبض بعد الإقرار ومتى لم يجعل مقراً بالقبض متى جعلنا القول قول المطلوب مع يمينه استحق بيمينه مالاً ادعاه على الطالب، واليمين حجة للدفع لا للاستحقاق لظاهر الحال بخلاف الأجل؛ لأن(7/111)
السلم لا جواز له بدون الأجل بحال من الأحوال، فإنه متى وقع بغير أجل لا ينقلب جائزاً بضرب الأجل، فيكون الإقرار بالسلم لا محالة إقرار بالأجل سواء اعتبر عقداً أو تسليماً، فأما السلم فهو العقد يجوز من غير قبض رأس المال وإنما القبض شرط إيفاء العقد على الصحة، فأمكننا أن نجعل السلم عبارة عن العقد لا عن القبض والتسليم.
الوجه الخامس: إذا جاء المسلم إليه بعد ما تفرقا عن المجلس ببعض رأس المال، وقال وجدته زيوفاً إن صدقه بذلك رب السلم كان له أن يرده على رب السلم، وإن كذبه في ذلك وأنكر أن يكون من دراهمه وادعى المسلم إليه أنه من دراهمه، فهذه المسألة على ستة أوجه:
إما أن يكون المسلم إليه أقر قبل ذلك، فقال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت حقي، أو قال: قبضت رأس المال، أو قال: استوفيت الدراهم، وفي هذه الوجوه لتعريفه، لا تسمع دعواه للزيافة حتى لا يستحلف رب السلم؛ لأنه متناقض في دعوى الزيادة؛ لأنه أقر بقبض الجياد فظاهر، وأما في قوله استوفيت الدراهم؛ لأن الاستيفاء عبارة عن تمام الحق، فكأنه قال: استوفيت الدراهم التي هي تمام حقي وتمام حقه في الجياد. وأما إذا قال قبضت الدراهم فالقياس أن يكون القول قول رب السلم؛ لأن المسلم إليه يدعي على رب السلم فسخ القبض، فليرجع عليه بالجياد ورب السلم ينكر، وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه بدعوى الزيافة منكر قبض حقه، ولم يسبق منه إلا الإقرار بقبض مطلق الدراهم، واسم الدراهم مطلقاً كما يتناول الجياد يتناول الزيوف، ورب السلم يدعي إيفاء الحق فيكون قول المسلم إليه، وأما إذا قال قبضت فالقول قول المسلم إليه فههنا أولى.
وأما إذا قال: وجدتها ستوقة أو رصاصاً، ففي الوجوه لتعريفه لا شك أن لا يقبل قوله وكذلك في الوجه الخامس، وهو: ما إذا قال: قبضت الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم؛ لأن الستوق والرصاص ليسا من جنس الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم.
وفي الوجه السادس وهو: ما إذا قال: قبضت يقبل قوله؛ لأنه أقر بمطلق القبض لا بقبض الدراهم، فبدعواه أن ما قبض ستوقة أو رصاص (133أ3) لا يكون متناقضاً، وإذا جاء المسلم إليه بدراهم ستوقة أو رصاص وجدها في رأس المال، وقال: هذا نصف رأس المال وقال رب السلم: هو ثلث رأس المال، فالقول قول المسلم إليه، ولو كان زيوفاً أو نبهرجة أو مستحقة واختلفا في مثل ذلك، فالقول قول رب السلم مع يمينه ذكر «القدروي» المسألة على هذا الوجه.
والفرق: وهو أن قبض المستحق والزيوف وقع صحيحاً، وإن كان أحدهما على سبيل النفاذ والآخر على سبيل التوقف، وإنما ينتقض بالرد بعد الحكم بالصحة، فالمسلم إليه يدعي الانتقاض في النصف ورب السلم ينكر فيما زاد على الثلث، فيكون القول قول رب السلم مع يمينه، أما في الستوقة والرصاص القبض لم يقع صحيحاً، ولهذا لو تجوز به لا يجوز، فكان الاختلاف في قدر المقبوض، ورب السلم يدعي زيادة في القبض والمسلم إليه ينكر، فيكون القول قول المسلم إليه مع يمينه.(7/112)
الوجه السادس: رجل قال لآخر أسلمت إلي عشرة دراهم في كر حنطة إلا أني لم أقبضها، فإن ذكر قوله إلا أني لم أقبضها موصولاً بكلامه صدق قياساً واستحساناً، وإن ذكر مفصولاً بأن سكت ساعة، ثم قال: إلا أني لم أقبضها، صدق قياساً، ولم يصدق استحساناً، وهذا؛ لأن قوله: إلا أني لم أقبضها بيان تغيير لا بيان تقرير؛ لأن قوله: أسلمت إلي، على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال، لا عن قوله باشرت معي عقد السلم؛ لأن قوله أسلمت إن صار للعقد حقيقة بسبب الشرع، والاستعمال نفي للقبض حقيقة بالشرع والاستعمال أيضاً وترجح حقيقة القبض بحكم الوضع، فإنه في الأصل موضوع للتسليم لا للعقد.
وإذا ترجح أحد الاحتمالين على الآخر صار الاسم للراجح حقيقة وللآخر مجازاً، وإذا صار هذا الاسم مجازاً للعقد صار قوله عنيت بالعقد إرادة للمجاز، وإرادة المجاز من الكلام يغير الكلام من حيث الحقيقة، ولكنه بيان من حيث إن العرب تتكلم بالحقيقة وتريد المجاز، فهو معنى قولنا: إن هذا بيان تغيير فيصح موصولاً، ثم إذا لم يصدق على جواب الاستحسان ذكر أن القول قول الطالب مع يمينه، وكان ينبغي أن لا يستحلف الطالب على جواب الاستحسان؛ لأن قوله: أسلمت إلي على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال.
ولو قال: أسلمت إليَّ رأس المال، ثم قال بعد ذلك: لم أقبض، لا يصح دعواه حتى يستحلف الطالب على دعواه؛ لأنه صار مناقضاً في الدعوى كذا ههنا، والجواب إنما لا يصدق في دعوى العقد على طريق الاستحسان؛ لأنه ادعى المجاز من كلامه لا لأنه مناقض؛ لأن المناقضة إنما تثبت بضد ما أقر له من كل وجه بأن قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض، وههنا لم يقر بصريح القبض، وإنما أقر بالسلم، وإنه يحتمل العقد مجازاً، وإن كان حقيقة للتسليم لا للعقد، وإذا كان محتملاً للمجاز لا يصير مناقضاً في قوله لم أقبض فيكون دعواه صحيحاً، ومن ادعى دعوى صحيحاً يستحلف خصمه على دعواه هذا إذا قال: أسلمت إليَّ.k
أما إذا قال: دفعت إلي عشرة، أو قال: نقدتني لكني لم أقبضها، قال أبو يوسف: لا يصدق وصل وإن فصل، كما لو قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض وقال محمد: يصدق إن وصل، وإن فصل لا يصدق، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار.
نوع آخر
منه في شرط الإيفاء والحمل ومسائلها: إذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يوفيه السلم في مصر كذا، ففي أي مكان دفعه إليه من ذلك المصر فله ذلك، وليس لرب السلم أن يكلفه تسليمه في موضع آخر، فقد جوز المسلم من غير بيان مكان الإيفاء في المصر إنما فعل كذلك؛ لأن بتأمن محالها واختلاف أماكنها جعل كمكان واحد حكماً؛ لأن القيمة لا تختلف بتفاوت محال المصر، وإذا كان كذلك صار مكان الإيفاء معلوماً، فجاز السلم، وله أن يوفيه من أي مكان شاء من ذلك المصر؛ لأن المصر لما جعل(7/113)
كمكان واحد من حيث الحكم صار كأنه شرط عليها الإيفاء في مكان واحد من حيث الحقيقة، ولو كان كذلك ففي أي ناحية من ذلك المكان أوفاه فله ذلك، وليس لرب السلم أن يعين مكاناً آخر كذا ههنا.
وإن اختلفا فقال رب السلم: شرطت لي أن توفني في محلة كذا، وقال رب السلم: أعطيك في محلة أخرى غير دارك أجبر رب السلم على القبول لما ذكر، وإذا شرط رب السلم أن يوفيه إياه في مكان كذا، فقال المسلم إليه لرب السلم: خذه في غير ذلك المكان وخذ مني الكراء فأخذه جائز ولا يسلم له الكراء أما أخذ التسليم فلأنه استوفى في عين الحق وأما عدم سلامة الكراء؛ لأن المأخوذ صار ملكاً لرب السلم بالأخذ فهذا إذا أخذ الكراء من المسلم إليه، فإنما أخذ الكراء لينقل ملك نفسه، والإنسان بنقل ملك نفسه لا يستوجب الكراء على غيره، وإذا لم يسلم له الكراء كان له الخيار، إن شاء أمسك المقبوض ورد الكراء، وإن شاء رد للمقبوض مع الكراء ليوفيه في المكان المشروط؛ لأنه إنما رضي بقبضه في غير المكان المشروط بشرط أن يسلم له الكراء، فإذا لم يسلم له الكراء، فقد تغير عليه بشرطه فتخير، قالوا: وإنما يتخير إذا كان المقبوض قائماً، وأما إذا هلك لا خيار له؛ لأنه إنما يثبت الخيار لينتقض قبضه، وإنما يمكنه نقض قبضه قبل الهلاك لا بعد الهلاك، فإذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يحمل المسلم إلى منزله بعد ما أوفى في المكان الذي شرط فيه الإيفاء، بأن شرط عليه أن يوفيه السلم في درب سمرقند ببخارى، ثم يحمل إلى منزلة بكلاباد فلا خير في السلم على هذا الوجه؛ لأن بالإيفاء في المكان المشروط بدرب سمرقند يصير المسلم فيه ملكاً لرب السلم، فإذا شرط عليه الحمل إلى كلاباد صار مستأجراً له أو مستعيناً به، فيكون إجارة أو إعارة مشروط في عقد السلم، فيوجب فساد السلم كما في بيع العين، وكما لو اشترى حنطة على أن يطحنها المشتري، فهذا إذا شرط الحمل إلى منزله بعد الإيفاء في المكان المشروط، فأما إذا شرط الحمل إلى منزله ابتداء قبل اشتراط الإيفاء في محلة المصر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» ، وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: يجوز السلم استحساناً،
وكان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله واشتراط الإيفاء في منزلة سواء؛ لأن الإيفاء في منزلة لا يتصور بدون الحمل إلى منزله، ولو شرط الإيفاء في منزله ابتداء أليس أنه يجوز استحساناً فكذا إذا شرط الحمل إلى منزله، وكان يقول إنما يفسد السلم باشتراط الحمل إلى منزله إذا كان (133ب3) اشتراط الحمل بعد اشتراط الإيفاء في مكان، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني، وروي عن أبي عبد الله البلخي أنه كان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله يوجب فساد السلم سواء كان ابتداء بعد شرط الإيفاء في مكان، ويروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، فإنه يثبت هذه الرواية عنهم، والوجه في ذلك: أن الإيفاء مما يقتضيه عقد السلم، فإنه يجب على المسلم إليه إيفاؤه، واشتراط ما يقتضيه العقد من غير شرط لا يوجب الفساد، فأما لا يقتضي الحمل؛ لأن على المسلم إليه الإيفاء دون الحمل بأن يشتريه المسلم إليه في المكان المشروط ويوفيه من غير حمل، فقد(7/114)
شرط في السلم مالا يقتضيه ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيوجب الفساد، هذا كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيمن اشترى وقر حطب وشرط الحمل إلى منزله لم يجز البيع قياساً واستحساناً؛ لأن البيع لا يقتضي الحمل، ولو شرط الإيفاء في منزله يجزئه استحساناً؛ لأن البيع يقتضي الإيفاء كذا ههنا.
ولو شرط أن يوفيه إياه في منزله بعد ما يوفيه في محلة كذا بأن قال: على أن يوفيني في درب سمرقند، ثم يوفيني بعد ذلك في منزلي بكلاباد، عامة المشايخ على أنه لا يجوز قياساً واستحساناً؛ لأن اشتراط الإيفاء في منزله بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل، ولو شرط الحمل بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل. ولو شرط الحمل بعد الإيفاء أليس أنه لا يجوز استحساناً وقياساً، وكان الفقيه أبو بكر محمد بن سلام رحمه الله يقول: يجوز استحساناً؛ لأن بشرط الإيفاء ثانياً يفسخ شرط الإيفاء الأول؛ لأن الموفي لا يتصور إيفاؤه ثانياً، وإذا انفسخ الشرط الأول صار كأنه شرط الإيفاء إلى منزله لا غير هناك يجوز السلم استحساناً كذا ههنا.
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا شرط في السلم حمله إلى موضع كذا، فهو جائز وهو قول أبي حنيفة من أن الطعام في ملك المسلم إليه وضمانه حتى يسلمه بخلاف ما لو شرط؛ لأن اشتراط الحمل لا يتضمن فسخ شرط الإيفاء؛ لأن الموفي يتصور حمله، وإذا لم ينفسخ الشرط الأول بقي شرط الحمل شرط إجارة أو إعارة فيوجب فساد السلم.
ولو شرط أن يوفيه إياه في منزلة ابتداءاً، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: المسألة على القياس والاستحسان، القياس: أن لا يجوز، وفي الاستحسان: يجوز، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا القياس والاستحسان فيما إذا لم يبين منزله ولم يعلم المسلم إليه أنه في أي محلة، أما إذا بين أو علم المسلم إليه ذلك يجوز قياساً واستحساناً.
نوع آخر
من هذا الفصل في الإقالة والصلح: يجب أن يعلم بأن الإقالة في السلم جائزة؛ لأن السلم نوع بيع فيجوز إقالته كما يجوز إقالة سائر أنواع البيوع، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد أخذ السلم حال قيامه ورأس المال بعد انفساخه، فدل الحديث أن السلم قابل للفسخ والإقالة. ولو أقاله في البعض وأخذ البعض جاز؛ لأنه لو أقاله في الكل يجوز، فيجوز في البعض أيضاً اعتباراً للبعض بالكل.
ولو أبرأ رب السلم المسلم إليه من المسلم فيه، فيجوز بخلاف ما لو أبرأ إليه رب السلم عن رأس المال حيث لا يجوز، والفرق: أن قبض المسلم فيه ليس بمستحق حقاً للشرع بل هو حق العبد، فيصح الإبراء عنه، أما قبض رأس المال مستحق للشرع ليخرج(7/115)
العقد من أن يكون ديناً بدين، فلا يصح الإبراء عنه، ومتى صحت الإقالة يجب على المسلم إليه رأس المال إلى رب السلم، فإن أراد رب السلم أن يستبدل برأس المال شيئاً بعد الإقالة لم يجز استحساناً، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وأصل المسألة أن الاستبدال برأس مال السلم بعد الإقالة قبل القبض هل يجوز؟ على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: لا يجوز وهذا استحسان، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ومتى جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الإقالة قبل القبض صار آخذاً عين السلم وعين رأس المال، والمعنى فيه: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض رأس المال تمت من وجه من حيث إنها أفادت لرب السلم ملك الرقبة، ولم يتم من وجه من حيث إنها لم تفد لرب السلم ملك التصرف، وملك اليد وحق رب السلم في المسلم إليه يثبت بنفس العقد ويتأكد بتسليم رأس المال، فما لم يقبض رأس المال يكون حقه في المسلم فيه قائماً من وجه، وإذا بقي حقه في المسلم إليه من وجه بدلاً عن رأس المال، وإنه جائز؛ لأنه وجب بسبب فسخ السلم لا بسبب السلم، ويأخذ من وجه بدلاً عن المسلم فيه؛ لأن الإقالة من حيث إنها لا تتم بها لم توجد؛ لأنه لا حكم لها شرعاً من ذلك الوجه، فيصير مستبدلاً بالمسلم فيه من وجه وإنه يجوز، وبرأس مال السلم من وجه وإنه لا يجوز، وقع الشك في الجواز، فلا يجوز بالشك والاحتمال، ولأجل ما ذكرنا من المعنى لم يشترط قبض رأس المال في مجلس الإقالة في باب السلم؛ لأنا إن اعتبرنا حق رب السلم في المسلم فيه من وجه لا يجب، فيصير كما لا يجب قبض المسلم فيه، وإن اعتبرنا حقه في رأس المال فكذلك لا يجب قبض رأس
المال؛ لأنه لم يجب بعقد؛ لأنه وجب بفسخ السلم وفسخ السلم لا يكون سلماً لا في حقها ولا في حق الثالث؛ لأن الفسخ حصل قبل قبض المبيع، فيكون فسخاً في حق الكل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل أسلم إلى رجل جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا، فماتت الجارية في يد المسلم إليه، فعليه قيمتها يوم قبضها، وإن هلكت الجارية ثم تقايلا جازت الإقالة عليه قيمة الجارية.
إعلم بأن من هذا الجنس أربع مسائل:
إحداها: بيع العرض بالعرض إذا تبايع الرجلان عرضاً بعرض وتقابضا، ثم هلك أحد العرضين بعد الإقالة قبل التسلم بحكم الإقالة بقيت الإقالة على الصحة. ولو تقايلا بعد ما هلك العرضان فالإقالة باطلة.
والثانية: بيع العرض بالدراهم أو دنانير: إذا تبايع الرجلان عرضاً بدراهم أو دنانير وتقابضا، ثم تقايلا بعدما هلكت الدراهم فالإقالة صحيحة، ولو تقايلا بعدما هلكت العرض فالإقالة باطلة. ولو تقايلا وهما قائمان، ثم هلك أحدهما قبل التسليم بحكم الإقالة، إن هلك العرض بطلت الإقالة، وإن هلكت الدراهم بطلت الإقالة على الصحة، وقد ذكر مع العرض بالدراهم أو بالدنانير في فصل الإقالة، ثم الفرق بين فصل بيع العرض بالعرض وبين فصل بيع العرض بالدراهم أو بالدنانير أن الإقالة صحتها تعتمد قيام(7/116)
العقد من حيث الحكم؛ لأنها رفع للعقد ورفع العقد إنما يتصور حال قيامه والبيع (134أ3) قائم في بيع العرض بالعرض من حيث الحكم قيام أحد العرضين؛ لأن قيام العقد قبل هلاك أحدهما كان بهما لا بأحدهما بعينه بأن يضاف قيام العقد إليه حكماً بأولى من الآخر؛ لأن كل واحد منهما مال حقيقة وحكماً؛ لأن كل واحد عين حقيقة وحكماً، وكل واحد منهما مثمن من وجه، فلا مزية لأحدهما على الآخر، فكان قيام العقد من حيث الحكم بهما جميعاً، وإذا كان قيام العقد حكماً بهما لا بأحدهما بعينه لم يرتفع العقد بهلاك أحدهما على ما عرف أن الثابت بشيئين لا يزول بزوال أحدهما، فبقي العقد بقيام أحدهما، فجازت الإقالة حال قيام أحدهما لقيام العقد بقيام أحدهما كما جازت حال قيامهما، فأما في بيع العرض بالدراهم والدنانير، فقيام العقد حكماً مضاف إلى البيع خاصة لا إلى البيع والثمن جميعاً؛ لأن للمبيع فضل مزية على الثمن، فإن المبيع مال حقيقة وحكماً؛ لأنه عين حقيقة وحكماً، والثمن دين حقيقية وحكماً إن لم يكن مشاراً إليه، وإن كان مشاراً إليه دين حكماً؛ لأن البيع لا يتعلق بعين المشار إليه، وإنما يتعلق بمثله ديناً في الذمة ولهذا جاز الاستبدال قبل القبض قلنا: والدين في الذمة مال حكماً واعتباراً وليس بمال حقيقة، ولهذا قالوا بأن البراءة عن الدين تصح من غير قبول كالطلاق والعتاق ويرتد
بالرد؛ لأنه مال حكماً وهبة العين لا يصح من غير قبول، ولا تتأدى زكاة العين بالدين؛ لأن الدين أنقص من العين، فصار مؤدياً الكامل بالناقص.
وكذلك قالوا فيمن حلف وقال: مالي صدقة على المساكين وله ديون على الناس لا تدخل تحت مطلق اسم المال من غير نية؛ لأنه ناقص في كونه مالاً، وإذا كان للمبيع ضرب مزية على الثمن لا بد من إظهار مزيته، وقد تعذر إظهار مزية المبيع على الثمن في حق انعقاد البيع؛ لأنه لابد لانعقاد البيع من مثمن وثمن، فأظهر مزيته في حق البقاء لما تعذر إظهار مزيته على الثمن في حق الانعقاد، فجعلنا قيام البيع حكماً كله مضافاً إلى المبيع لا إلى الثمن، فإذا هلك المبيع ارتفع البيع وإن بقيت الدراهم والدنانير.
والدليل: على أن بقاء البيع مضاف إلى قيام البيع لا إلى الثمن أنا أجمعنا على أنه لو وجد الثمن زيوفاً حال قيام المبيع فرده واستحق الثمن، فإنه يرجع بمثله ولا ينفسخ البيع. ولو كان قيام البيع مضافاً إليه لمكان ينفسخ البيع برده، كما في بيع العرض بالعرض لو استحق أحد العرضين إذا وجد به عيباً فرده، فإنه ينتقض البيع في الباقي، وفي الثمن لما بقي البيع على حاله علمنا أن قيام العقد مضاف إلى المبيع، فإذا هلك ارتفع البيع فلا يرتفع مرة أخرى بالإقالة.
المسألة الثانية بيع الثمن بالثمن: إذا تبايعا درهماً بدرهم أو ديناراً بدينار أو دراهم بدنانير، وتقايلا بعد هلاك أحد البدلين أو بعدما هلك البدلان لا تصح الإقالة، والفرق: وهو أن في باب الصرف لو تقايلا قبل هلاك البدلين صحت الإقالة بمثل الدراهم والدنانير التي قبضا ديناً في الذمة لا بأعيانهما كان لكل واحد فيهما أن يرد مثل ما قبض، ولا يلزمه رد ما قبض بعينه؛ وهذا لأن الفسخ معتبر بالعقد، والعقد لا يتعلق بأعيانهما وإن(7/117)
أشير إليها عندنا، فكذا الإقالة لا تتعلق بأعيانهما لو كانا قائمين صار هلاكهما كقيامهما بخلاف بيع العرض بالعرض؛ لأنهما متى كانا قائمين يتعلق الإقالة بأعيانهما، فمتى كانا هالكين لم يبق شيء من المعقود عليه لما هلك اليد؛ لأن كل واحد من البدلين وجب في الذمة، وقد سقط ذلك بالقضاء، فالإقالة لم تضف معقوداً عليه، فيجب أن لا تصح الإقالة، والجواب عنه أن الدين مما لا يسقط بالقضاء، ألا ترى أن البائع إذا حط عن المشتري بعض الثمن بعد ما قبض الثمن صح مع الحط لإسقاط بعض الثمن، ولو كان الثمن يسقط بالثمن بالقضاء كان لا يصح الحط كما لو حصل الحط بعد الإبراء، وإذا كان كذلك فالدين الواجب في الذمة مما لا يسقط بالقضاء إلا أن الطالب لا يطالب الغريم بعد القضاء؛ لأن المطالبة لا تفيد، فإنه لو طالبه طالبه بما بقي في ذمته طالبه الغريم بما أوجب له في ذمة الطالب؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعاينها، وإذا كان كذلك فما هو المعقود عليه وهو الدين قائم في ذمة كل واحد منهما، فصحت الإقالة باعتبار ما بقي في ذمتهما كما صح العقد باعتبار ما يجب في ذمتهما.
المسألة الرابعة: إذا كان رأس المال عرضاً وهلك العرض، ثم تقايلا السلم صحت الإقالة لقيام المسلم فيه وكان قيام المسلم مضافاً إلى قيام المسلم فيه ديناً، وإن كان المسلم فيه رأس المال إذا كان عرضاً كان عيناً حقيقة وحكماً، وفرق بين فصل السلم وبين بيع العرض بالدراهم، والفرق: أن في بيع العرض بالدراهم المبيع مال حقيقة وحكماً؛ لأنه عين حقيقة وحكماً والثمن دين حقيقة وحكماً أو حكماً لا حقيقة، فكان للمبيع ضرب مزية على (الثمن) والتقريب ما مر، فأما المسلم فيه إن كان ديناً حقيقة فهو عين حكماً؛ لأنه مبيع، ولهذا لم يجز الاستبدال به قبل القبض والمبيع ما يكون عيناً، فكان له حكم العين ورأس المال إن كان عيناً فهو دين حكماً حتى لو افترقا قبل قبض رأس المال بطل السلم، وإن كان رأس (المال) عيناً وجعل كأن الافتراق حصل عن دين بدين فاستويا، فصار قيام العقد مضافاً إليهما كما في بيع العرض بالعرض لا إلى أحدهما بعينه.
وإذا قبض رب السلم رأس المال وتقايلا السلم، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، فقال المسلم إليه: كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم: لا بل كان رأس المال عشرة، فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن في بيع العين إذا تقايلا العقد حال قيام العين واختلفا في مقدار الثمن، فإنهما يتحالفان ويفسخ الإقالة فيما بينهما بعد التحالف، والفرق: أن المقصود من التحالف شرعاً الفسخ متى يعود كل واحد منهما إلى رأس ماله، والإقالة في باب السلم لا تقبل الفسخ لا حكماً ولا قصداً، فإنهما لو قالا: نقضنا الإقالة، تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، وكذلك إذا هلك العين في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع والثمن والدراهم، فإن الإقالة تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، فالتحالف يقيد يمر به في الإقالة في بيع العين، فجاز الاشتغال به قياس الإقالة في السلم من الإقالة في بيع العين أن لو تقايلا(7/118)
بعد ما قبض رب السلم المسلم فيه قائم في يده، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، وهناك يتحالفان أيضاً؛ لأن الإقالة في هذه الحالة تحتمل الفسخ قصداً، ففسخهما الإقالة على ما يقوله بعض مشايخنا وهو الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله، (134ب3) ثم إنما كانت الإقالة في باب البيع قابلة للفسخ ولم تكن الإقالة في باب السلم قابلة للفسخ؛ لأن في باب السلم ما يتأول الإقالة وهو المسلم فيه في ذمة المسلم إليه، فملك المسلم إليه بالإقالة يسقط عنه فلا يمكن تصحيح فسخ الإقالة باعتبار المعقود عليه لو صح صح باعتبار الثمن، فكذا فسخها. فأما في باب البيع ما تتأوله الإقالة وهو المبيع قائم حقيقة فيمكن تصحيح الفسخ باعتبار المعقود عليه حتى لو هلك المعقود عليه بعد ما تقايلا وتقابضا، ثم أراد أن ينقض الإقالة لم يكن له ذلك.
وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: رجل أسلم إلى رجل في كر حنطة، فقال رب السلم للمسلم إليه: أبرأتك من نصف السلم، وقال المسلم إليه: وجب عليه رد نصف رأس المال؛ لأن هنا إقالة في نصف السلم، هكذا قاله أبو نصر محمد بن محمد بن سلام والفقيه أبو بكر الإسكاف، قالا: لأن السلم نوع بيع.
ومن اشترى شيئاً ثم قال المشتري قبل أن يقبض المشتري: وهبت لك نصفه وقبل البائع صار إقالة في النصف بنصف الثمن كذا هنا.
وقال أبو القاسم الصفار: هذا حط ولا يرد شيئاً من رأس المال، قال: وهو بمنزلة حط نصف الثمن في البيع. وفيه أيضاً: وقال أبو نصر فيمن أسلم دراهم في شيء، ثم إن رب السلم (قال:) وهبت ذلك الشيء للمسلم إليه إن قبل المسلم إليه، فعليه أن يرد رأس المال. وقال أبو بكر: ليس عليه الرد والهبة تبرئه من ذلك.
وفي «نوارد ابن سماعة» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل ثوباً في كر حنطة ودفعه إليه، ثم ناقضه السلم، فله أن يبيع الثوب منه قبل أن يقبضه ولا يشبه العرض في هذه الدراهم، وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف زوائد أحدها: أنه لو باعه من غير المسلم فيه قبل القبض لا يجوز. الثاني: إذا لم يكن مستهلكاً لم يكن له أن يشتري منه قيمته شيئاً قبل أن يقبضه، وهو بمنزلة رأس المال إذا كان دراهم.
وفي «نوادر إبراهيم بن رستم» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وله عليه أيضاً كر إلى سنة، فإقالة السلم على أن يعجل له الكراء لنسبة مال الإقالة جائزة والكراء إلى أجله، وإذا كان السلم حنطة ورأس المال مائة درهم، فصالحه على أن يرد عليه مائتي درهم أو مائة درهم أو خمسون كان باطلاً؛ لأن الصلح عن السلم متى كان غير مضاف إلى رأس المال بيع المسلم فيه، وههنا الصلح غير مضاف إلى رأس المال، فإنه لم يقل مائة وخمسون من رأس مالك وبيع المسلم فيه قبل القبض لا يجوز، فأما إذا قال: صالحتك من السلم على مائة من رأس مالك كان جائزاً، أو كذلك إذا قال على خمسين من رأس مالك كان جائزاً؛ لأن الصلح على رأس المال في باب السلم إقالة السلم قبل القبض جائزة إن كان لا يجوز بيعه.(7/119)
بعد هذا اختلف المشايخ في قوله: صالحتك من السلم على خمسين درهماً من رأس مالك أنه يصير إقالة في جميع السلم أو في نصف السلم، وإن قال: صالحتك من السلم على مائتي درهم من رأس المال لا يجوز يريد بقوله: لا يجوز، لا يجوز الزيادة؛ لأن الإقالة في باب السلم على أكثر من رأس المال لا يجوز عندهم جميعاً إلا أنهم لا يجوز الزيادة ويقع الإقالة في باب السلم بعد رأس المال كما في بيع المنقول لو تقايلا على أكثر من الثمن الأول قبل القبض يصح الإقالة بمثل الثمن ولا تثبت الزيادة، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وأشار شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» أنه تبطل الإقالة في هذا الوجه أصلاً، هذه الجملة من كتاب الصلح.
وفي بيوع «الأصل» : إذا صالح أحد ربي التسلم مع المسلم إليه على حصة من رأس المال، فالصلح موقوف عند أبي حنيفة ومحمد على إجازة الآخر، فإن أجازا وكانا المقبوض من رأس المال مشتركاً بينهما وما بقي من الطعام مشتركاً بينهما، وإن رد بطل الصلح وبقي حق كل واحد قبل المسلم إليه في الطعام، وهذا إذا أسلما عشرة دراهم مشتركة إلى رجل في كر من طعام، فإن لم يكن العشرة مشتركة بينهما لكن أسلما عشرة دراهم، ثم نقد كل واحد منهما خمسة لم يذكر محمد رحمه الله هذا في البيوع، وذكر بعض المشايخ في شرح البيوع أنه يجوز هذا الصلح في حصة المصالح بالإجماع، وبعضهم قالوا: هذا ليس بصحيح، فقد ذكر في صلح «الأصل» هذا الفصل، وذكر فيه قول أبي حنيفة رحمه الله على حسب ما ذكر في الفصل الأول، ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا قال أحد ربي السلم عقد السلم بحصته، وقد اختلف المشايخ فيه على ما ذكرنا في الفصل المتقدم، ومسائل الصلح في هذا الباب كثيرة سيأتي بيانها في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.t
نوع آخر في وجود العيب فيه وخيار الرؤية فيه
قال هشام في «نوادره» : سألت أبا يوسف عن رجل أسلم عشرة دراهم في ثوب فأخذه وقطعه، ثم وجد به عيباً، قال: ليس له أن يرجع بنقصان العيب، قلت: لم؟ قال: ما تقول في رجل له على رجل طعام فقضاه دون طعامه فأكله؟ ثم علم بذلك أنه يرجع بنقصانه، وعنه أيضاً: قالت: سألت محمداً عن رجل أسلم إلى رجل درهمين أحدهما في الحنطة والآخر في الأرز ودفعهما إليه، ثم وجد أحدهما ستوقة قال: إن كان دفعهما إليه معاً فسد نصف الحنطة ونصف الرز، وإن كان دفع إليه كل درهم على حدة، فإن أقاما فالبينة بينة الذي أسلم إليه، وإن لم يقم لهما تحالفا وفسد السلم كله.
وعن إبراهيم بن رستم عن محمد قال: رجل أسلم إلى رجل خمسة دراهم في خمسة أقفرة حنطة وخمسة دراهم في خمسة أقفرة شعير خمسة للحنطة على حدة وخمسة للشعير على حدة، فأصاب درهماً ستوقاً يعني بعدما تفرقا، فقال رب السلم: هو من الحنطة، وقال المسلم إليه: هو من الشعير، فالقول قول رب السلم، وإن تصادقا أنهما لا(7/120)
يعلمان من أيهما قال يرد المسلم إليه درهماً آخر على رب السلم وينتقص من كل واحد منهما خمسة.
وروى بشر (بن) الوليد عن أبي يوسف: في رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وخمسة دراهم في كر شعير فأعطاه عشرة للحنطة، ثم أعطاه خمسة للشعير، ثم وجد درهماً ستوقاً، فقال المسلم إليه: هو من دراهم الحنطة، وقال رب السلم: هو من دراهم الشعير، قال: إن كان المسلم إليه أقر بالاستيفاء، فالقول قول رب السلم، وإن لم يكن أقر بالاستيفاء فالقول قوله، فإن تصادقا أنهما لا يدريان من أيهما هو، قال: يكون نصفه من العشرة ونصفه من الخمسة، فينتقص عشر الحنطة ونصف عشر الشعير؛ لأنه في الحنطة لم يوجد قبض رأس المال، وفي حصة الشعير لم يوجد قبض نصف عشر رأس المال، وإن كان أعطاه خمسة عشر في صفقة واحدة، فإنه ينتقص ثلثا عشر الحنطة وثلث خمس الشعير. (135أ3) .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عبداً في كر حنطة وبجارية للمسلم إليه ودفع عبده وقبض الجارية من غير رؤية، ثم نظر إليها فردها بخيار الروية، فإن ذلك جائز ويرجع إليه من عنده بحصته الجارية، ويجوز منه حصة الكراء السلم.
وفي «المنتقى» : رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في ثوب موصوف مسمى، ودفع رب السلم الدراهم وقبض الثوب فوجد به عيباً، ثم حدث عند القابض عيب، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع بالنقصان؛ لأنه لا يأخذ ثوبه وبعض رأس ماله؛ لأنه يكون اعتياضاً عن الجودة، وإنه ربا. وقال محمد رحمه الله: أما ما يقبض فهو سلم، فلا يجوز أن يأخذ الثوب ودراهم العيب، ولها إذا قبضه فهو الثوب الذي وقع عليه البيع، فصار بمنزلة البيع إن وجد به عيباً رده وإن حدث عنده عيب آخر ولم يستطع رده رجع بنقصان العيب الذي وجده، وكذلك لو كان كر حنطة مكان الثوب، ألا ترى أنه يبيعه مرابحة على ما أسلم فيه، ولو لم أجعله بيعاً حتى قبضه وجعلته ديناً اقتضاه، فما كان له أن يبيعه مرابحة. قال ثمة: وينبغي له في قياس قول أبي يوسف أن يرد قيمة الثوب معيناً ويرجع بسلمه إلى الثوب ويرد مثل الكر معينا، ويرجع بسلمه في الكر كما قال في ألف اقتضاها وعلم بعد ما أنفقها أنها كانت زيوفاً، وسيأتي بعض مسائل هذا الفصل في الوكالة إذا وكل الرجل غيره أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة كان التوكيل صحيحاً؛ لأنه وكل بما يملكه بنفسه ويجري فيه النيابة، والتوكيل بمثله صحيح كالتوكيل بشراء العين وكالتوكيل بالبيع، بيانه: أن الحال لا يخلو إما أن يكون رأس المال عيناً أو ديناً، فإن كان عيناً فقد أمره بالتصرف في عين مملوك له من حيث الإزالة عن ملكه إلى غيره بعوض يحصل له وهو بملك ذلك بنفسه، فيملك الأمر به. وإن كان رأس المال ديناً بأن كان دراهم، فقد أمره بإيجاب رأس المال في ذمته ورب السلم يملك إيجاب رأس المال ديناً في ذمته ملكه، فيملك الأمر به كما لو وكله بالشراء.(7/121)
فرق بين هذا وبينما إذا وكل رجلاً بقبول السلم بأن قال: خذ لي عشر دراهم في طعام مسمى، فإن التوكيل لا يصح حتى إذا قبل الوكيل السلم يصير قابلاً لنفسه حتى يكون رأس المال له، وله منفعة من الموكل بقبول السلم توكيل بما لا يملك الموكل بنفسه بقضية الأصل؛ لأن قبول السلم بيع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان مما لا يملكه الموكل بنفسه، فكان القياس: أن لا يجوز لو قبل الموكل بنفسه كما في بيع العين إذا باع ما لا يملك، لكن عرفنا ذلك بالنص، فإن النبي عليه السلام رخص في السلم، والرخصة وردت في بيع ما ليس عنده لا في الأمر ببيع ما ليس عنده، ففي الأمر ببيع ما ليس عنده تكون العبرة للقياس، والقياس يأبى جواز الأمر ببيع ما ليس عنده بخلاف التوكيل بالشراء حيث يصح وإن لم يكن الثمن في ملكه؛ لأن الشراء بما ليس عند الإنسان جائز على موافقة القياس، فكان الأمر به جائزاً على موافقة القياس أيضاً إذا ثبت أن التوكيل بالسلم جائز، فالوكيل هو الذي يطالب بتسليم المسلم فيه عند محل الأجل وهو الذي يسلم رأس المال؛ لأنه هو العاقد وحقوق العقد ترجع إلى العاقد عند علمائنا الثلاثة، ثم إن كان الوكيل نقد دراهم الموكل أخذ المسلم فيه ودفعه إلى الموكل، وإن كان نقد دراهم نفسه، ولم يدفع إليه الذي وكله شيئاً يرجع بما نقد على الموكل، وكان ينبغي أن لا يرجع؛ لأنه أمره بالسلم أما ما أمره بالنقد قلنا: الوكيل مضطر في هذا النقد؛ لأن حقوق حق الوكيل وإنما يبقى قبض المسلم فيه حقاً له؛ لأن السلم يفسد حينئذ، فكان مضطراً في هذا النقد لإحياء حق نفسه، ومن قضى دين غيره مضطراً كان له الرجوع بما قضى على المقضي عنه. وإذا عقد الوكيل السلم، ثم أمر الموكل بأداء رأس المال وذهب الوكيل، فقد بطل السلم.
وكذلك لو كان الذي عليه السلم وكل رجلاً يقتضي رأس المال وذهب عن مجلس العقد، ولم يوجد وإذا خالف الوكيل بالسلم فأسلم في غير ما أمره الموكل بالسلم فيه كان للموكل أن يضمن الوكيل دراهمه، وإن شاء ضمن المسلم إليه؛ لأن الوكيل لما خالف نقد العقد على الوكيل؛ بالسلم وكيل بشراء العين، والوكيل بشراء العين إذا خالف نقد العقد عليه، فكذا هذا وإذا نقد العقد على الوكيل قاضياً دين نفسه من دراهم الموكل، فصار غاصباً وصار المسلم إليه غاصب الغاصب، فإن ضمن الوكيل بقي السلم صحيحاً على الوكيل، وطريق بقائه صحيحاً بتضمين الوكيل، وإن بطل ذلك التسليم فقد وجد تسليم آخر في ذلك المجلس من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن الدراهم في يد المسلم إليه وإنها مضمونة على المسلم إليه نفسه، فثبوت قبضه عن قبض السلم، فكأنه وجد تسليم آخر من حيث الحكم بعدما بطل الأول في المجلس، ألا ترى أن قبض الغاصب ينوب عن قبض الشراء؟ فكذا ههنا.
وإن ضمن السلم إليه إن ضمنه وهما في المجلس يعني الوكيل والمسلم إليه ونقد(7/122)
الوكيل دراهم أخر، فالسلم جائز؛ لأنه لما ضمن المسلم إليه فقد انتقض قبضه، وصار كأنه لم يقبض رأس المال في أول المجلس وقبضه في آخر المجلس، وإن ضمنه بعدما تفرقا عن المجلس، فإن أسلم بطل؛ لأنه قد انتقض وصار كأنه لم يقبض رأس المال أيضاً حتى تفرقا عن المجلس.
وإذا دفع الرجل إلى رجل دراهم ليسلمها له في الحنطة، ثم الوكيل أسلم إلى رجل، فهذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر، فالعقد للآمر، وإن نواه لنفسه عقد العقد بدراهم مطلقة، فإن تصادقا أنه نواه لنفسه فهو لنفسه، وإن نقد دراهم للآمر بعد ذلك، وهذا لأن الوكيل بالسلم لا يصير محجوراً عن السلم لنفسه؛ لأنه وكيل بشراء شيء بغير عينه، والوكيل بشراء شيء بغير عينه لا يصير محجوراً عن الشراء لنفسه؛ لأن ما هو مقصود الآمر من الأمر لا يفوت؛ لأن مقصود الآمر تحصيل ما سمى ويمكن تحصيل ما سمى الأمر إن لم يصر الوكيل محجوراً عن الشراء لنفسه إذا كان ما سمى الموكل بغير عينه، وإذا لم يصر محجوراً عن الشراء لنفسه ملك الشراء لنفسه وللآمر، فأي ذلك نوى، فقد نوى ما يملك فصحت نيته إذا ثبتت نيته بتصادقهما، وأما إذا تكاذبا في النية فقال الموكل: نويت لي، وقال الوكيل: نويت لنفسي يحكم بالنقد إن نقد الوكيل من مال نفسه كان السلم للوكيل، وإن نقد من مال الموكل كان السلم للموكل هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف، فأما في قول محمد: فالسلم يقع للوكيل ولا يحكم بالنقد، كما لو (135ب3) تصادقا أنه لم يحضره نية؛ لأنه جعل الوكيل عاملاً لنفسه في الحالين جميعاً، وبعضهم قالوا: لا بل المذكور في «الكتاب» قولهم بحكم النقد حال التكاذب بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين حالة التكاذب وبينما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية وهو الأصح، والفرق: أن في حالة التكاذب استويا في الدعوى والإنكار الوكيل ادعى أنه نوى لنفسه والموكل أنكر ذلك، والموكل ادعى أنه نواه له، وأنكر الوكيل ذلك، فقد استويا في الدعوى والإنكار، وفي مثل هذا يحكم الحال كما في مسألة الطاحونة، وما في حالة التصادق لم يوجد منهما الدعوى والإنكار، فلم يجب تحكيم الحال، وجعلنا السلم واقعاً للوكيل؛
لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص بخلافه.
وأما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية، فقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما، قال محمد: لا يحكم النقد ويجعل السلم واقعاً للوكيل؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص على خلافه ولم ينص، فوقع العقد للوكيل، وبعدما وقع للوكيل لا ينتقل إلى الموكل النقد من ماله. وقال أبو يوسف: يحكم في هذا النقد؛ لأن هذا العقد صالح لكل واحد منهما لما ذكرنا أن الوكيل يملك مباشرة هذا العقد لنفسه كما يملك مباشرته للوكيل، فيحكم النقد إذا عزفته النية عملاً لأمر على الصلاح حتى لا يصير غاصباً دراهم الآمر متى عقد لنفسه.(7/123)
نوع آخر
من هذا الفصل في المتفرقات: إذا أسلم في القطن لا يعطي فيه الورام كما في البيع اتفق عليه مشايخ زماننا؛ لأن الورام في البيع أمر عرفي، ولا عرف في السلم.
بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل أسلم إلى رجل عبداً في كر حنطة، ودفع إليه العبد، ثم إن المسلم إليه باع العبد من رجل وسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً ورده على المسلم إليه بغير حكم، ثم إن رب السلم مع المسلم إليه أرادا أن يتقايلا السلم. والمسألة على وجهين: إن قال رب السلم للمسلم إليه: رد علي وأبرأتك من المسلم، أو قال: أبرأتك من السلم بهذا العبد، أو قال: أقلني السلم بهذا العبد، فهذا كله باطل. وهذا كرجل قال لغيره: بعني مالك علي من السلم بكذا، وإن قال: أقلني السلم ولم يذكر العبد، أو قال: أبرئني من السلم وخذ رأس مالك، ولم يذكر العبد ففعل، فقد انتقض السلم وله قيمة العبد (وللمسلم) رأس ماله.
وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: رجل باع من آخر عبداً بثوب موصوف في الذمة إن ضرب للثوب في الذمة أجلاً جاز، وإن لم يضرب الأجل لا يجوز؛ لأن الثوب لا يجب في الذمة إلا سلماً ولا سلم بدون الأجل. ولو افترقا قبل قبض العبد لا يبطل العقد؛ لأن هذا العقد اعتبر سلماً في حق الثوب بيعاً في حق العبد، ويجوز أن يعتبر في عقد واحد حكم عقدين كما في الهبة بشرط العوض، وكما في قوله: إن أديت إلي ألفاً، فأنت حر، اعتبر فيه حكم اليمين وحكم المعاوضة.
الفصل الثالث والعشرون: في القروض
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
الفصل الثالث والعشرون: في القروض
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
نوع منه
في بيان ما يجوز استقراضه وما لا يجوز: كل شيء يكال أو يوزن نحو الحنطة والشعير والسمسم والتمر والزبيب جاز استقراضه، الأصل فيه أن ما هو من ذوات الأمثال ويكون مضموناً على الغاصب والمستهلك بالمثل استقراضه (جائز) ؛ لأن المقبوض بحكم القرض مضمون بالمثل من غير زيادة ولا نقصان مما يكون من ذوات الأمثال نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، يمكن اعتبار المماثلة المشروطة في القرض فيه فيجوز استقراضه، وما لا يكون من ذوات الأمثال نحو الحيوان واللآلئ والجواهر والأكارع والرؤوس لا يجوز استقراضه؛ لأن طريق معرفة القيمة الحزر، وبه لا تثبت(7/124)
المماثلة المعتبرة في القرض، وهي المماثلة من غير زيادة ولا نقصان كما لا يثبت به المماثلة المشروطة في أموال الربا، واستقراض الثياب لا يجوز؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال حقيقة، وإنما صارت من ذوات الأمثال شرعاً في باب السلم حتى جاز السلم فيها بشرط مخصوص، والأجل لا يثبت في القرض، فلم يكن من ذوات الأمثال في القرض لا حقيقة ولا شرعاً. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إقراض الخبز ولا (استقراضه) لا عدداً ولا وزناً، وهذا على أصله مستقيم؛ لأن عنده لما لم يجز السلم في الخبز لمكان التفاوت أولى أن لا يجوز القرض؛ لأن باب القرض أضيق من باب السلم، ألا ترى أنه لا يجوز إقراض الثياب ويجوز السلم في الثياب.
وقال أبو يوسف في رواية مثل قول أبي حنيفة، وعن ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس به وزناً قال ابن أبي مالك: سألت أبا يوسف عن استقراض الخبز مرة، قال: لا بأس به وعليه أفعال الناس جارية، قال ابن أبي مالك: وهذا قوله المعروف، وذكر في بعض المواضع عن محمد أنه يجوز عدداً ولا يجوز وزناً، قال: لأن العادة جرت باستقراضها عدداً لا وزناً والقياس يترك بالعادة.
وذكر في «المنتقى» عن محمد: أنه جوز قرض الخبز عدداً، وقال: بلغنا ذلك عن إبراهيم النخعي، قال ثمة أيضاً: قال محمد: الوزن في قرض الخبز من الدناءة والعدد أحب إلي.
ويجوز استقراض الجوز كيلاً؛ لأنه يكال مرة ويعد أخرى ولهذا جاز السلم فيه كيلاً، ويجوز استقراض الكاغد عدداً؛ لأنه عددي متقارب، كذا ذكره الصدر الشهيد في «واقعاته» . واستقراض الباذنجان عدداً يجوز ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أول شرح الغصب، ويجوز استقراض اللحم وزناً، رواه إبراهيم عن محمد، والذي روي عنه: من أقرض رجلاً عشرة أرطال لحم الغنم، قال: هو جائز وإنه مشكل على مذهبه؛ لأن اللحم عنده من ذوات القيم حتى إن من أتلف على آخر لحماً يضمن قيمته، هكذا ذكر محمد رحمه الله في بيوع «الجامع» في الرواية. ونص فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في شرح «الجامع» أنه من ذوات الأمثال، قال رحمه الله: وتأويل ما ذكر محمد أنه يضمن بالقيمة إذا كان في موضع لا يوجد له المثل، وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : أن اللحم من ذوات الأمثال يضمن بالمثل في ضمان العدديات، ويجري بثمنيته الربا وأشار إليه الطحاوي في كتابه، فإنه قال: كل ما يكون موزوناً فهو مثلي.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف أنه قال: (لا) خير في قرض الحنطة والدقيق بالوزن، وكذلك التمر وإن كان حيث يوزن، قال هشام رحمه الله: قلت لمحمد: التمر عندنا بالري وزناً فما تقول فيمن أقرضه بالوزن، قال: لا يصلح ذلك؛ لأن أصله كيل، وعن محمد أيضاً: أنه قال: لا يجوز الحنطة أن تقرض وزناً، فإن أخذه وأكله قبل أن(7/125)
يكتاله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزاً. وفي «الأصل» : (136أ3) إذا استقرض الدقيق وزناً لا يرده وزناً، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أنه يجوز بيع الدقيق واستقراضه وزناً إذا تعارف الناس ذلك أستحسن فيه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : فإذا كانت الدراهم ثلثها فضة وثلثاها صفر، فاستقرض رجل منها عدداً وهي جارية بين الناس عدداً، فلا بأس به وإن لم تجر بين الناس إلا وزناً لم يجز استقراضها إلا وزناً؛ لأن الصفر إذا كان غالباً تكون العبرة للصفر، وتكون الفضة ساقطة الاعتبار وكون الصفر موزوناً، فأثبت بالنص فتكون العبرة موزوناً ما ثبت بالنص لما فيه لتعامل الناس، فمتى تعاملوا بيعها وزناً يكون موزوناً، فلا يجوز استقراضها إلا وزناً، ومتى تعاملوا بيعها عدداً كان عددياً، فلا يجوز استقراضها إلا عدداً، فقد أسقط محمد رحمه الله اعتبار الفضة في القرض إذا كانت مغلوبة، ولم يسقط اعتبارها في حق البيع حتى لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا على سبيل الاعتبار، إنما فعل هكذا؛ لأن القرض أسرع جوازاً من البيع؛ لأن القرض مبادلة صورة، تبرع حكماً؛ لأن رد المثل في القرض أقيم مقام رد العين حكماً، والربا إنما يتحقق في البيع دون القرض، فاعتبرت الفضة المغلوبة في البيع ولم تعتبر في القرض لهذا.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً لا يجوز استقراضها إلا وزناً، وإن تعامل الناس التبايع بها عدداً؛ لأن الفضة إذا كانت غالبة بمنزلة ما لو كان الكل فضة ولكنها زيف، ولو كان كذلك لم يجز استقراضها إلا وزناً وإن تعامل الناس بها عدداً، فههنا كذلك.
وإن كانت الدراهم نصفها فضة ونصفها صفراً لم يجز اعتبار استقراضها إلا وزناً؛ لأنه لم يسقط اعتبار واحد منهما؛ لأن إسقاط اعتبار واحد منهما حال كونه مغلوباً ولم يوجد، فوجب اعتبارهما لم يجز الاستقراض في حق الفضة إلا وزناً، فإذا تركوا ذلك بطل الاستقراض في الفضة، فبطل في الصفر ضرورة، ويجوز استقراض الجمد وزناً؛ لأن الناس تعارفوا وزناً.
نوع آخر منه
قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة كان يكره كل قرض جر منفعة قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض عادلية صحاحاً أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجود مما عليه، فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض الرجل رجلاً دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض متاعاً بثمن غال فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطاً في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غال فعلى قول الكرخي: لا بأس به. وذكر الخصاف في «كتابه» وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم(7/126)
يذكر الكراهة إنما قال: لا أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة لكنه دون الكراهة، ومحمد لم ير بذلك بأساً، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئاً لا بأس به من غير فصل، فإنه دليل على أنه رفض قول السلف.
قال شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله: ما نقل عن السلف محمول على ما إذا كانت المنفعة وهي شراء المتاع بثمن غال مشروطة في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة والهدية مشروطة في القرض وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض في البيع.
فأما إذا تقدم البيع على الإقراض وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب عند المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستين ديناراً حتى صار للمقرض على المستقرض مائة دينار وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً، ذكر الخصاف أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن مسلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئاً كان يبيعه أولاً سلعة بثمن غال ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته، وكثير من المشايخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة. ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد لجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما وافقا معاً فكانت المنفعة مشروطة في القرض. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، ويقول: محمد بن سلمة كان يقول هذا ليس بقرض جر منفعة بل هذا بيع جر منفعة وهو القرض.
وأما هدية المستقرض: إن كانت الهدية مشروطة في الاستقراض فهو حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، فإن لم تكن الهدية مشروطة في الاستقراض، وعلم أنه أهدى إليه لا لأجل الدين أو لأجل الدين، ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنه لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا.
بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة والصداقة أو كان المستقرض معروفاً بالجودة والسخاوة، فهذا قائم مقام العلم أنه أعطاه لا لأجل الدين فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيء من ذلك، فالحال حال الإشكال، فيتورع عنه حتى يتبين أنه أهدي لا لأجل الدين، ومن قال: بالكراهة في مسألة البيع يقول بالكراهة ههنا أيضاً، ومحمد لم ير به بأساً من غير تفصيل.
وأما دعوة المستقرض قال محمد: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام خواهرزاده: (إلى) هذا جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين أو أشكل عليه الحال.
قال شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا كان يدعوه قبل الإقراض، أما إذا كان لا يدعوه قبل الإقراض أو كان يدعوه في كل عشرين يوماً وبعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام أو زاد في الباحات، فإنه لا يحل(7/127)
ويكون مسيئاً.
وإذا أرجح في بدل القرض ولم يكن الرجحان مشروطاً في القرض فلا بأس به، روي أن رسول الله استقرض من رجل دراهم وأرجح وقال: «أنا كذلك بريء» .
قال مشايخنا رحمهم الله: والرجحان على ضربين: إن كان يدخل تحت الوزنين لا بأس به وإن كان لا يدخل تحت الوزنين فهو على ثلاثة أقسام: أما إن كانت الدراهم مكسرة أو كانت صحاحاً لا يضرها الكسر، وفي هذين الوجهين لا يجوز؛ لأنه تعذر اعتبارها زيادة على بدل القرض؛ لأنه يكون ربا وتعذر اعتبارها هبة؛ لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وأما إن كانت (136ب3) الدراهم صحاحاً يضرها الكسر، وفي هذا الوجه ينظر إن كان الرجحان زيادة يمكن تمييزها بدون الكسر بأن كان يوجد فيها درهم خفيف يكون مقدار الزيادة لا يجوز، وإن كان الرجحان زيادة لا يمكن تمييزها بدون الكسر يجوز بطريق الهبة، ويكون هذا هبة المشاع فيما يحتمل القسمة.
وإذا أقرضه بالكوفة بشرط أن يوفيه بالبصرة لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة؛ لأن المستقرض يكفيه خطر الطريق ومؤنة الحمل، وعلى هذا السفاتج التي يتعامل بها التجار، فإنهم يقرضون فيما بينهم ويكتب المستقرض للمقرض سفتجة إلى مكان، فإن كان ذلك شرطاً في القرض فهو مكروه؛ لأنه قرض جر منفعة، فإنه يسقط عن المقرض مؤنة الحمل وخطر الطريق، وإن لم يكن ذلك مشروطاً في القرض فلا بأس به.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد: رجل قال لآخر: أقرضني ألفاً على أن أعيرك أرضي هذه تزرعها ما دامت الدراهم في يدي، فزرع المقرض لا يتصدق بشيء وأكره له هذا.
نوع آخر منه
إذا استقرض فلوساً فكسدت، فإن على قول أبي حنيفة يرد عينها إن كانت قائمة، ومثلها إن كانت هالكة، وأما على قول أبي يوسف فقد ذكر بعض مشايخنا في شرح كتاب الصرف: أن المشايخ اختلفوا فيه على قولهما، قال بعضهم: يرد عينها وإن كانت هالكة فعليه قيمتها، وقال بعضهم: عليه قيمتها على كل حال. وفي «المنتقى» ما يدل على هذا القول، فقد ذكر ثمة: أنه إذا استقرض فلوساً، فعليه مثلها في قول أبي حنيفة، وقال محمد: عليه قيمتها يوم سقطت زاد في رواية إبراهيم عن محمد فعليه قيمتها في آخر ما فسدت بساعة قليلة قبل أن تكسد، وقال يعقوب: عليه قيمتها يوم استقرض، فقد ذكر القيمة على قولهما من غير فصل بينما إذا كانت قائمة أو هالكة على قولهما.
والفلوس المغصوبة إذا كسرت، فإن كانت قائمة رد عينها بالإجماع، وإن كانت هالكة، فعلى الاختلاف الذي مر.
وهذه المسألة في الحاصل فرع لمسألة أخرى في كتاب الغصب، أن من غصب من(7/128)
آخر رطباً وهلك عنده أو استهلكه، ثم انقطع أوان الرطب، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمته من الفضة يوم الخصومة، وقال أبو يوسف: عليه قيمته من الفضة يوم الغصب، وقال محمد: عليه قيمته من الفضة يوم الانقطاع.
وجه كونها فرعاً لتلك المسألة: أن الواجب على المستقرض رد مثل ما قبض وعلى الغاصب كذلك، وقد حصل قبض الفلوس وهي رائجة، فيجب رد مثلها من ذلك الضرب رائجة، وقد عجز عن تسليمها رائجة بالكساد، كما أن غاصب الرطب عجز عن تسليم الرطب بالانقطاع إلا أن غاصب الرطب عجز عن رد الأصل، ومستقرض الفلوس عجز عن رد الصفة وهي كونها رائجة.
وإذا صارت هذه المسألة بناء على تلك المسألة لو أوجبنا القيمة على قول أبي حنيفة وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة ههنا كما وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة ثمة، قلنا: إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفيد؛ لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء بل إيجاب العين كاسدة أعدل من قيمتها فأوجبنا المثل على قوله ولم نوجب القيمة لهذا، وعلى قولهما لما وجب اعتبار قيمتها رائجة إما يوم الاستقراض وإما في آخر يوم كانت رائجة كان إيجاب القيمة من الفضة أعدل من إيجاب عينها كاسدة فيؤول الكلام إلى تلك المسألة، فإن اصطلحا على شيء يداً بيد، فهو جائز؛ لأن الواجب في الذمة على قولهما القيمة من الفضة، وعلى قول أبي حنيفة الفلوس، وأياً ما كان فالاستبدال به جائز بعد أن يكون الافتراق عن عين بدين، والجواب في العدلي على ما ذكرنا من غير تفاوت. وكثير من المشايخ كانوا يفتون بقول محمد رحمه الله، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة، والصدر الشهيد حسام الدين، وبعض مشايخ زماننا أفتوا بقول أبي يوسف رحمه الله وقوله أقرب إلى الصواب في زماننا.
وفي بيوع «الأمالي» : رجل استقرض من آخر شيئاً من الكيلي أو الوزني وانقطع عن أيدي الناس، قال: يجبر المقرض على التأخير حتى يدرك الحديث عند أبي حنيفة؛ لأن الانقطاع عن أيدي الناس يجري مجرى الهلاك، ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الحق لا ينقطع عن الغير بهلاك العين على ما عرف في موضعه. وإذا بقي الحق في العين، ولوجود العين غاية معلومة يجبر على التأخير إلى وقت وجوده ليصل إليه عين حقه، أكثر ما فيه أن في التأخير ضرب ضرر للمقرض إلا أن في أخذ غير الحق ضرراً للمستقرض، وهذا الضرر فوق ضرر التأخير، فكان أولى بالدفع.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: في رجل استقرض من آخر شيئاً من الفواكه كيلاً أو وزناً، فلم يقبضه المقرض حتى انقطع، فهذا لا يشبه الفلوس إذا كسدت؛ لأن هذا مما لا يوجد، فهذا يجبر صاحبه على تأخيره إلى أن يجيء الحديث إلا أن يتراضيا على قيمته. قال: وهذا في الوجه مثل رجل استقرض من رجل طعاماً من بلد الطعام فيه رخيص، فالتقيا في بلد الطعام فيه غال، فأخذه الطالب بحقه، فليس له أن يحبسه ويؤمر المطلوب بأن يوثق له حتى يعطيه إياه في البلد الذي استقرضه فيه.(7/129)
نوع آخر منه
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا أخذ المقرض المستقرض في بلدة أخرى، فإن شاء أخذه حتى يؤديه في الموضع الذي استقرضه، وإن شاء أخذه بقيمة ذلك الموضع ههنا، وإن أبى المستقرض أن يعطيه القيمة أجبر عليه. وروى إبراهيم عن محمد: رجل استقرض من آخر طعاماً بالعراق، فأخذه المقرض بمكة، قال أبو يوسف: عليه قيمته يوم أقرضه، وقال محمد: عليه قيمته بالعراق يوم اختصما، وليس عليه أن يرجع معه إلى العراق ويأخذ طعامه.
في «القدوري» : إذا استقرض دراهم بخارية والتقيا في بلدة لا يقدر على البخارية، فإن كان ينفق في ذلك البلد، فإن شاء صاحب الحق أجله قدر المسافة ذاهباً وجائياً ويستوثق منه، وإن كان في بلدة لا ينفق وجب القيمة.
وروى بشر عن أبي يوسف: رجل أقرض رجلاً طعاماً أو غصبه إياه وله حمل (و) مؤنة، والتقيا في بلدة أخرى الطعام فيها أرخص، فإن أبا حنيفة قال: يستوثق له من المطلوب حتى يوفيه طعامه حيث أقرضه أو غصبه، قال أبو يوسف: إن تراضيا عليه فحسن وأيهما طلب القيمة أجبرت الآخر عليه وهي القيمة في البلد الذي استقرض أو غصب على حال يوم أقضي، والقول في ذلك قول المطلوب، فإن كان الغصب قائماً في يديه بعينه أجبره على أخذه ولا أجبره على القيمة.
نوع آخر
رجل أقرض رجلاً ألف درهم وقبضها المستقرض، ثم إن المقرض قال للمستقرض: اصرف الدراهم التي عليك بالدنانير، فإن عين له شخصاً بأن قال له مع فلان، ففعل جاز على المقرض بالإجماع، وإن لم يعين شخصاً ففعل، قال أبو حنيفة قال: لا يجوز على المقرض و (قال: لا يجوز) . أصل المسألة: إذا قال رب الدين للمديون أسلم ما لي عليك (37أ3) في كر حنطة ولم يعين المسلم إليه، فإن أراد الطالب أن يأخذ الدنانير من المستقرض باختياره جاز ذلك، وهذا عندهم جميعاً، أما عند أبي يوسف ومحمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة؛ لأن بالدفع والأخذ ينعقد بينهما بيع جديد بالتعاطي.
إذا كان للرجل على رجل ألف درهم دين، فدفع المطلوب دنانير إلى الطالب، وقال: اصرفها وخذ حقك منها، فقبضها الطالب فهلكت في يده قبل أن يصرفها، فهي من مال المطلوب؛ لأن الدنانير أمانة في يده؛ لأنه قبضها بحكم الوكالة، والوكيل أمين فيما في يده بحكم الوكالة، فإن صرفها فهلكت الدراهم في يده قبل أن يأخذ منها هلكت من مال الدافع أيضاً؛ لأنه وكيل بالصرف، فالقبض بحكم العقد يقع للآمر أولاً وتصير الدراهم أمانة في يده ما لم يحدث فيها قبضها لنفسه، فإذا أخذ بحقه منها، فقد أخذت في المأخوذ قبضها لنفسه، فإذا هلك بعد ذلك هلك على مال الطالب، وإن لم يأخذها بحقه بعد؛ لأن في هذه المسألة أمره الطالب بالبيع بحقه، وإنما يكون البيع بحقه إذا كان بائعاً لنفسه فيقع البيع للطالب، أما في المسألة الأولى ما أمر الطالب بالبيع بحقه إنما أمره(7/130)
بالصرف لنفسه واستيفاء الحق من الدراهم، فيقع الصرف للدافع، ويقع القبض بحكم الصرف للدافع أيضاً، والتقريب ما ذكرنا.
نوع آخر من هذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل استقرض من رجل كراً من طعام، ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي عليه بمائة درهم جاز الشراء؛ لأن المستقرض صار ملكاً للمستقرض بنفس القبض، ووجب عليه للمقرض كراً مثله، فصح الشراء، بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الدين حيث لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه التسليم إلا بالقبض، فكان عاجزاً عن التسليم للحال فلا يجوز، أما ههنا المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته وذمته تكون في يده أيضاً، فلما اشترى وقع مسلماً إليه فصح.
وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس، فالشراء ماض على صحته، وإن لم ينقدها في المجلس بطل لافتراقهما عن دين، وهذا بخلاف ما إذا وجب على المستقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما باع ماله على صاحبه بما لصاحبه عليه حيث يجوز، وإن افترقا عن المجلس من غير قبض شيء لأن هناك الافتراق حصل بعد قبض البدلين حكماً؛ لأن بنفس الشراء ملك كل واحد ما ذمته إذ ذمته في يده، قالوا: وهذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله؛ لأن عندهما المستقرِض يصير ملكاً للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله ديناً في الذمة فيصح الشراء.
أما عند أبي يوسف: فالمستقرض لا يصير ملكاً للمستقرض إلا بالقبض مع الاستهلاك، فلم يجب في ذمة المستقرض شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه لا يصح بلا خلاف، وكذلك الاختلاف في الملك في المنقود وسائر ما يستقرض.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن (القبض) بمنزلة العارية، ولهذا لا يصح التأجيل فيه مع صحة القرض وجعلت إعارة كل مكيل وموزون قرضاً، لا إعارة تمليك المنفعة، ولهذا لا يملكه المكاتب والعبد والأب والوصي، والإعارة تمليك المنفعة لا تمليك العين إلا أن منافع هذه الأعيان لا تنفصل عن الأعيان، فأقيمت المنافع مقام الأعيان، ثم المنافع لما كانت لا تملك إلا بالاستهلاك، فكذلك الأعيان التي قامت مقام المنافع.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد هو: أن الأعيان لما أقيمت مقام المنافع فيما لا يتهيأ الانتفاع إلا بعد استهلاكها يقوم قبض العين أيضاً مقام قبض المنفعة لهذه الضرورة، والمنفعة في باب الأعيان تمليك بالقبض، فكذا العين تملك بالقبض، غير أن قبض المنافع لا يكون بدون الاستهلاك، فإذا افترقا في حق القبض يفترقان في الملك الذي هو بناء عليه. والدليل عليه: أن المستقرض لو باع القرض من غيره يجوز، وكان الثمن له. ولو بقي على ملك المقرض قبل الاستهلاك لكان يقف هذا البيع على إجازته، وكذا سائر تصرفاته من الهبة والصدقة على هذا.
ثم إذا نقد المشتري المائة في المجلس، ثم وجد بالكر عيباً لم يرده بالعيب؛ لأنه لا وجه إلى رده بحكم الشراء؛ لأن العقد ما يتناوله. ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛(7/131)
لأن القرض تبرع لا يوجب السلامة عن العيب، ولكن يلزمه مثل المقبوض، ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بدلاً عن المقبوض بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب في نفسه، فكذا ما وجب عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر أنه معيب وقد تعذر رده؛ لأنه دين في ذمة المشتري، فلما اشتراه سقط عن ذمته، فيرجع بنقصان العيب، كما لو اشترى عبداً فهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به، ولو كان القرض المقبوض مستهلكاً كان الجواب كما قلنا، لكن عند الكل، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضاً.
وقال في آخر الباب: لو اشترى ما عليه من الكر (قبل) القبض بكر مثله جاز إذا كان عيناً، وإن كان ديناً لا يصح إلا أن يقبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض عيباً لم يرده ولا يرجع بنقصان العيب بخلاف الوجه الأول، والفرق بينهما: أنه لو رجع ينقص الكر الذي دفع المستقرض، فيكون هذا مبادلة كر من طعام بأقل من كر وذلك ربا، أما إذا كان الثمن دراهم لو رجع ببعض الدراهم كان هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم، وذلك لا يؤدي إلى الربا.
وقال في آخر الباب: إذا اشترى المستقرَض بعينه وهو مقبوض لم يصح الشراء؛ لأنه ملك المستقرض، وإنما اشترى ملك نفسه فلا يصح، وعلى قياس قول أبي يوسف يصح؛ لأنه ملك المقرض، فإن قيل: لم لا يقدم فسخ المقرض تصحيحاً لما قصدا كما يقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين وخمسمائة تصحيحاً لما قصدا، قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إتيانها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد شرطاً لتمام الفسخ بمقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطاً للشيء لا يسقط اعتباره وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء.
نظير هذا ما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا تثبت الهبة بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض؛ (لأن القبض) شرط للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة يقتضي غيره وهو الاعتاق (137ب3) عن الآخر كذا ههنا.
ولو اشترى المقرض من المستقرض عين ما قبضه صح عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه ما زال عن ملك المقرض فلا يصح شراؤه.
وعنه أيضاً: رجل أقرض رجلاً مائة درهم على أنها جياد، فقبضها ثم اشتراه المستقرض المقرض بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة ومحمد: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم ديناً في الذمة بالإضافة بل يتعلق بمثلها وصار هو بائعاً الدنانير بمثل ذلك الدراهم، فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة وجودها والعدم بمنزلة بخلاف مسألة الطعام العقد يتعلق بالعين بالإشارة فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء أما ههنا بخلافه.(7/132)
ثم إذا صح الشراء ههنا لو افترقا عن المجلس من غير قبض البدل وهو الدينار يبطل الصرف لافتراقهما عن المجلس من غير قبض بدلي الصرف، وإن قبض الدنانير قبل أن يتفرقا، فالعقد ماض على الصحة؛ لأن الدنانير مقبوضة حقيقة والدين مقبوض عليه أيضاً، فوجد قبض بدلي الصرف في المجلس (وأما) في مسألة الحنطة العقد ليس بصرف، فإنما يبطل بالدينية في البدلين، وذلك يزول بقبض أحدهما، ثم في مسألة الحنطة لم يجعل الدين بمنزلة المقبوض إذ لو كان في معنى المقبوض لما احتيج إلى قبض البدل الآخر؛ لأن في عقد غير الصرف يكتفى بقبض أحد البدلين.
والوجه في هذا أن يقال: إن في العقود كلها الشرط تعين أحد البدلين حقاً للشرع ليصير محل العقد موجوداً، غير أن في باب الصرف لما لم يتحقق التعيين إلا بالقبض شرط قبض أحد البدلين للتعيين، وشرط قبض الآخر حقاً للعاقد الآخر تحقيقاً للتساوي بينهما، وفي مسألتنا الدين لما كان في حكم المقبوض، ووجد قبض الآخر في المجلس صار حق الشرع وحق العبد مقاماً، فيجوز أما في مسألة الحنطة، ما في الذمة وإن صار في حكم المقبوض لكن لم يتعين فيه؛ لأن صيرورته مقبوضاً لا ينافي كونه ديناً فلم يصر حق الشرع مقاماً، فشرط تعيين البدل الآخر ليصير حق الشرع مقاماً.
فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفاً أو نبهرجة لم يردها؛ لأنه لو ردها بحكم العقد أو بحكم القرض، وكلا الوجهين ممتنع على ما مر في الفصل الأول، ولا يرجع بنقصان العيب ههنا أيضاً بخلاف مسألة شراء الكر الذي عليه بالدراهم، والفرق وهو أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة، فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض أيضاً بالإضافة.
ولهذا إذا اشترى كر حنطة في ذمته من إنسان، ثم تصادقا أنه لا حنطة عليه إنه يبطل الشراء، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض، فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشترياً الكر بأقل من مائة وإنه ليس بربا، أما في مسألتنا الدراهم التي في ذمة المستقرض لا تتعين لإضافة العقد إليها، ألا ترى أنها لو كانت عيناً لا تتعين لإضافة العقد إليها، فكذا إذا كانت ديناً لا تتعين لإضافة العقد إليها.
ولهذا لو اشترى مائة درهم في ذمته لإنسان بعشرة دنانير، ثم تصادقا أنه لا شيء عليه لا يبطل الشراء، وإذا لم يتعلق العقد بالدراهم التي في ذمة المستقرض وجب للمستقرض بهذا الشراء مائة درهم جياد في ذمة المقرض بدلاً عن الدنانير، وللمقرض على المستقرض مائه مثلها فصار قصاصاً، فصار المستقرض قاضياً ما كان عليه بما وجب له في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع بنقصان العيب تسلم له مائة درهم وزيادة شيء وهذا هو الربا.
قال: وليس للمستقرض أن يرد على المقرض مثل دراهمه الزيوف ويرجع عليه بالجياد، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: له ذلك، وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى أن من كان له على آخر مائة جياد، فأوفاه المديون زيوفاً ولم يعلم رب الدين حتى هلكت الدراهم في يده أو استهلكها، ثم علم بذلك، فأراد أن يرد عليه مثل المقبوض من الزيوف ويرجع عليه بالجياد ليس له ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف له ذلك استحساناً.(7/133)
فوجه قول أبي يوسف أن المقبوض لو كان قائماً بعينه كان له أن يرده ويرجع بالجياد، فكذا إذا تمكن من رد مثله وعجز عن رد العين، إذ رد المثل جعل كرد العين إيفاء لحقه في الجودة ونظراً له.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: بأن المقبوض إذا كان قائماً بعينه، فأراد (رده) ينتقض القبض من الأصل ويلتحق بالعدم، فيعود حقه في الأصل فيعود في الجودة أيضاً، أما برد مثل المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض إذ القبض لم يرد على المثل، وبرد غير المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض، فلا يعود حقه في الأصل، فلو عاد في الجودة عاد ابتداءً، وحقه لا يعود في الجودة ابتداء. ولو وجد المستقرض الدراهم المستقرضة ستوقة أو رصاصاً، وباقي المسألة بحالها ردها على المقرض؛ لأن الستوقة والرصاص عروض واستقراض العروض باطل.
بعد هذا إن لم يتفرقا عن المجلس وقد نقد الدنانير واستوفى مائة جياداً في المجلس بل يتعلق بمثل المسمى في الذمة، فإذا تبين أنه لم يكن في ذمته دراهم بسبب القرض صار كأن العقد مطلق لم يضف إلى ذمة المستقرض، فلا يبطل العقد إذا قبض في المجلس، فأما إذا تفرقا عن المجلس فقد الصرف لافتراقهما عن غير قبض أحد البدلين وهو الدراهم في المجلس، فكان للمستقرض أن يسترد دنانيره وصار كرجل اشترى دراهم بدنانير وسلم الدنانير وقبض الدراهم، ثم وجدها ستوقة، إن استبدل في المجلس يصح العقد وإن افترقا عن المجلس حتى يبطل العقد برد الدنانير كذا ههنا.
ولو كان الدين على المستقرض دنانير أو فلوساً فاشتراها بدراهم، ثم وجدها زيوفاً أو نبهرجة أو ستوقة، ففي الدنانير الجواب ما ذكرنا في جميع الأحوال، وكذلك الجواب في الفلوس إذا كان زيوفاً أو نبهرجة أما إذا وجد الفلوس ستوقة وقد تفرقا بعد قبض الدراهم كان العقد جائزاً، وإن حصل الافتراق عن عين بدين ولكن في غير عقد الصرف فلا يوجب الفساد.
الفصل الرابع والعشرون: في الاستصناع
يجب أن يعلم أن الاستصناع جائز في كل ما جرى التعامل فيه كالقلنسوة والخف والأواني المتخذة من الصفر والنحاس وما أشبه ذلك استحساناً، ولا يجوز فيما لم يجر التعامل فيه كالثياب وما أشبهها، والقياس: أن لا يجوز الاستصناع أصلاً، وبه أخذ زفر والشافعي.n
وجه القياس في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام: «أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» ، وهذا بيع ما ليس عنده لا على (138أ3) وجه السلم،(7/134)
فلا يجوز عملاً بهذا الظاهر، ولأن من جوز الاستصناع فيما للناس فيه تعامل (إما) أن يجوزه إجارة أو بيعاً أو سلماً، ولا وجه إلى تجويزه بيعاً؛ لأنه باع ما ليس عنده. ولا وجه إلى تجويزه سلماً؛ لأنه لم توجد شرائط جواز السلم، وإذا لم يمكن تجويزه على موافقة هذه العقود كان باطلاً، كالاستصناع في الثياب فهذا على وجه القياس.
وجه الاستحسان: أن القياس وإن كان يأبى جواز الاستصناع من الوجه الذي قلتم إلا أنا تركنا القياس وجوزناه بتعامل الناس، فإن الناس تعاملوا الاستصناع في هذه الأشياء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا من غير نكير، ولا رد من الصحابة رضي الله عنهم ولا من التابعين رحمهم الله، وتعامل الناس من غير نكير (ولا) رد من علماء كل عصر حجة يترك بها القياس ويخص بها الأثر، ألا ترى أن دخول الحمام بأجر جائز استحساناً لتعامل الناس من غير نكير من علماء كل عصر وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن مدة ما يمكث في الحمام وقدر ما يستعمل من الماء مجهول. وكذلك لو قال لسقاء: أعطني شربة ماء بفلس جاز ذلك لتعامل الناس فيه من غير نكير ورد من علماء كل عصر، وإن كان القياس يأبى جوازه فكذلك هذا.
والأصل في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» ، والمسلمون رأوا الاستصناع حسناً فيكون حسناً بخلاف الاستصناع فيما لا يتعامل الناس فيه نحو الثياب وما أشبه ذلك؛ لأن المجوز للاستصناع التعامل ففيما لا تعامل فيه لا يجوز فيعمل فيه بالقياس.
ثم الاستصناع فيما للناس فيه تعامل إذا جاز استحساناً فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان، ولو كان مواعدة لجاز قياساً واستحساناً، والدليل عليه: أنه فصل بين ما للناس فيه تعامل وبين ما لا تعامل للناس فيه، ولو كانت مواعدة لجاز في الكل.
والدليل عليه: أن محمداً رحمه الله قال في «الكتاب» : إذا فرغ الصانع من العمل، وأتى به كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، فقد سماه شراء، وكذلك قال: إذا قبض الآخر فإنه يملكه، ولو كانت مواعدة لكان لا يصير الآخر ملكاً له، فدل أنه ينعقد لا مواعدة، ثم كيف ينعقد معاقدة؟ نقول ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعاً انتهاء متى سلم قبل التسليم بساعة بدليل أنهم قالوا: إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع ولا يستوفي المصنوع من تركته. ولو انعقد بيعاً ابتداءً وانتهاءً لكان لا يبطل بموته كما في بيع العين والسلم.
وقال محمد رحمه الله: إذا أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى شيئاً لم يره ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية كما في الخياطة والصباغ،(7/135)
ولو كان ينعقد بيعاً عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية؛ لأنه يكون مشترياً ما رآه، خيار الرؤية لا يثبت في المرئي، علمنا أنها تنعقد إجارة ابتداء وإن كان القياس يأباه؛ لأنه إجارة على عمل في ملك الأجير لم يصر بيعاً انتهاءً قبل التسليم بساعة، وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعاً تركنا القياس في الكل لمكان التعامل.
والمعنى في ذلك: أن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعاً، فلا بد من اعتبارهما جميعاً (واعتبارهما جميعاً) في حالة واحدة متعذر؛ لأن بين الإجارة والبيع تناف فجوزناها إجارة ابتداء؛ لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ويمنع انعقاد البيع، فاعتبرناها إجارة ابتداء وجعلناها بيعاً قبل التسليم بساعة توفيراً على الأمرين حظهما كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض اعتبرناها (هبة) في الابتداء عملاً باللفظ وبيعاً انتهاء عملاً بالمعنى فكذلك هذا، ولهذا قلنا: لو مات قبل التسليم تبطل الإجارة ومتى سلم كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره.
وهذا بخلاف ما لو استأجر وراقاً ليكتب له كتاباً بحبره أو صباغاً ليصبغ بصبغه، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وانتهاء، وإن كان فيها تمليك العين من المستأجر وهو الحبر والصبغ ممكناً من غير أن يجعل بيعاً في الانتهاء لإيصال الصبغ بملكه، فإن إيصال الصبغ بملكه من غير بيع لم يضطر إلى أن تجعل الإجارة بيعاً انتهاء، وإنه خلاف القياس، فأما هنا تمليك العين من المستصنع تبعاً للعمل غير ممكن وإن اعتبرناها إجارة ابتداء؛ لأن العمل لا يصير ملكاً له قبل ملك المحل، وإذا لم يمكن تمليك العين منه تنعقد الإجارة تبعاً للعمل احتجنا إلى تمليك العين منه أولاً ولا يمكننا ذلك إلا بالبيع فجعلناه بيعاً انتهاء. وجعلناه بيعاً قبل التسليم بساعة ليثبت به خيار الرؤية، ولهذا أورد محمد رحمه الله الاستصناع في كتاب البيوع وفي كتاب الإجارات؛ لأن به شبهاً من الأصلين من الإجارة والبيع، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وتنقلب بيعاً انتهاء، فكان له اتصال بالكتابين جميعاً فلهذا أورده في الكتابين.
فإن قيل: لو كان ينعقد إجارة لكان الصانع يجبر على العمل ويجبر المستصنع على إعطاء الدراهم كما في سائر الإجارات، ولو أتى الصانع بمصنوع صنعه قبل العمل يري الصانع عما لزمه بالاستصناع، ولو انعقد إجارة لاستحق عليه العمل بعد العقد. قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم لزومه مختلفة. روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الصانع لا يجبر على العمل بل يتخير إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وذكر الكرخي في «كتابه» : أن هذا العقد ليس بلازم ولم ينسب هذا القول إلى أحد، وقال أبو يوسف رحمه الله أولاً: يجبر المستصنع دون الصانع وهو رواية عن أصحابنا رحمهم الله، ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما بل يجبر الصانع على العمل ويجبر المصنوع على القبول.
وجه ما وري عن أبي يوسف: أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر عليه وأما المستصنع؛ فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع؛ لأنه(7/136)
عسى لا يشتريه غيره منه أصلاً، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعاً للضرر عن البائع.
وجه قول أبي يوسف أولاً وهو رواية عن أصحابنا أن المستصنع اشترى شيئاً لم يره، الصانع، باع شيئاً لم يره للمشتري، ما لم يره الخيار بالنص لا للبائع.
وجه ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المذكور في «القدوري» : أنه لا يجبر كل واحد منهما إنما لم يجبر الصانع على العمل، وإن كان ينعقد إجارة؛ لأنه لا يمكنه العمل إلا بإتلاف عين، والإجارة تنفسخ بهذا القدر، ألا ترى أن المزارع له أن يمتنع من العمل إذا كان البذر من جهته ورب الأرض كذلك؛ لأنه لا يمكنه المضي في هذه الإجارة إلا بإتلاف عين. وكذلك لو استأجر رجلاً ليقطع يده وقد وقع فيها أكله كان له أن يمتنع، فكذلك هذا.
ولا يجبر (138ب3) المستصنع على إعطاء الدراهم وإن شرط تعجيله؛ لأن الإجارة في الأجرة شراء ما لم يره كان له أن يفسخ العقد ولا يعطي البدل، ولأن جواز الاستصناع بخلاف القياس لأجل الحاجة، والضرورة في الجواز لا في اللزوم، بقي اللزوم على أصل القياس، وعن هذا قلنا: إن للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع؛ لأن العقد ليس بلازم، فإذا رآه ورضي به ليس له أن يبيعه؛ لأن الصانع بالإحضار أسقط خياره ولزم العقد من جانبه، فإذا رضي به المستصنع يثبت اللزوم في حقه أيضاً، فلا يكون للصانع أن يبيع بعده.
وأما قوله: لو أتى المصنوع صنعه قبل العقد لم يجبر على العمل قلنا: المقصود من العمل المعمول، فإذا سلم المعمول سقط عنه العمل هذا إذا لم يضرب لذلك أجلاً. فأما إذا ضرب لذلك أجلاً قال أبو حنيفة: يصير سلماً ولا يبقى استصناعاً حتى يجب تعجيل رأس المال في المجلس، ومتى أتى بالمصنوع على الوصف الذي وصفه لا يكون له خيار الرؤية، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه لا يصير سلماً بل يبقى استصناعاً، وهذا في استصناع للناس فيه تعامل.
وأما ما لا تعامل للناس فيه كالاستصناع في الثياب، فإنه ينقلب سلماً يضرب الأجل بالإجماع هكذا قالوا، وذهبا في ذلك إلى أن الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعاً انتهاء، فأما إذا ضرب فيه الأجل، فاعتبار معنى الإجارة فيه يمنع أن يصير سلماً؛ لأن الإجارة لا تصير سلماً بضرب الأجل، كما (لو) قال لخياط: خط هذا الثوب غداً أو إلى شهر لا يصير سلماً، واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلماً؛ لأن المستصنع في حكم مبيع عين، ولهذا يثبت للمستصنع خيار الرؤية، وضرب الأجل لا يصح في الأعيان وإنما يصح في الديون، فضرب الأجل اقتضى أن يكون المبيع ديناً في الذمة، والمبيع لا يثبت ديناً في الذمة إلا سلماً، فقد اجتمع ما يوجب أن يكون الاستصناع سلماً وما يمنع وقد أمكن تجويزه استصناعاً من غير أن نجعله سلماً، فلا نغفله وقد استوى الموجب لصيرورته سلماً مع المانع بخلاف ما لا تعامل للناس فيه؛ لأنه لا يمكن تجويزه استصناعاً فجوزناه سلماً.(7/137)
وأما أبو حنيفة يقول: اجتمع ما يوجب أن يصير الاستصناع سلماً، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اعتبار معنى الإجارة * إن كان * يمنع أن يكون سلماً واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلماً فقد استويا.
وهنا اعتبار آخر يوجب أن يصير سلماً وهو أنا لو جوزناه سلماً ورجحنا جانب البيع كان ذلك تجويز هذا العقد على موافقة القياس من وجه؛ لأن المبيع حينئذٍ يثبت ديناً في الذمة وثبوت المبيع في الذمة على موافقة القياس وجه كما في السلم، فأما متى صار استصناعاً لم يكن المبيع في الذمة ديناً ولا عيناً، وهذا خلاف القياس من كل وجه، فصار ما يوجب صيرورته سلماً شيئان وما يمنع شيء واحد، فتكون العبرة لما يوجب.
ثم إذا صار سلماً لم يكن للمستصنع خيار الرؤية كما في سائر الأسلام لا يثبت خيار الرؤية، وإن اشترى ما لم يره، فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن للمشتري في بيع العين خيار الرؤية وإنما كان كذلك، وذلك لأن إثبات خيار الرؤية الفسخ ولا يحصل هذاالمقصود متى اثبتنا خيار الرؤية في السلم، وذلك لأنه متى رد المقبوض بخيار الرؤية لا ينفسخ السلم؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد؛ لأن العقد لم يتناول هذا المقبوض بعينه، وإنما يتناول مثله ديناً في الذمة فلا ينفسخ العقد برده بل يعود حقه إلى مثله، وإذا لم يعد بموته وحكمه لا يثبت، وفي بيع العين يفيد ثمرته وحكمه؛ لأن حكمه الفسخ، والبيع ينفسخ متى رده بخيار الرؤية؛ لأنه رد عين ما تناوله العقد فينفسخ العقد برده، وإذا أفاد حكمه وثمرته يثبت.
الفصل الخامس والعشرون: في البياعات المكروهة والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة
قال مشايخنا: العرية التي فيها الرخصة ليس تفسيرها عندنا أن يشتري الثمار على رؤوس النخيل بثمار محدودة كيلاً أو مجازفة، فإن ذلك لا يجوز عندنا، وإنما تفسيرها أن يهب الرجل ثمرة نخيله من بستانه لرجل، ثم يشق على المعري دخول المعرى له في بستانه كل يوم ويكون أهله في البستان ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمراً محدوداً بالخرص يعني بالحزر والظن، ليدفع ضرورة عن نفسه ولا يكون مخالفاً للوعد وهذا جائز؛ لأن الموهوب لم يصر ملكاً للموهوب له ما دام متصلاً بملك الواهب، فما يعطيه من الثمر لا يكون عوضاً عنه يكون هبة مبتدأة لكن سمي بيعاً مجازاً؛ لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن الخلف في الوعد.
فإن قيل: لو كان تفسير العرية ما قلتم ينبغي أن لا تقتصر الرخصة على ما دون خمسة أوسق، والراوي ذكرها مقصودة على ما دون خمسة أوسق، قلنا: عندنا الرخصة غير مقصورة إلا أن الراوي إنما ذكر الرخصة؛ لأن العرية التي وقعت كانت فيما دون خمسة أوسق، فظن الراوي أن الرخصة مقصورة فروى كما ظن.(7/138)
اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها في قوله عليه السلام: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم» ، تفسيرها: أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر يستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقرار طمعاً في الفضل الذي لا يناله في الإقراض، فيقول: ليس تيسر علي القراض إذ لا يحصل له ربح ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشرة درهم وقيمته في السوق عشرة ليبيع في السوق بعشرة، فيرضى به المستقرض، فيبيعه المقرض منه باثني عشر، ثم يبيعه المشتري في السوق بعشرة فيحصل لرب الثوب ربح درهمين بهذه التجارة ويحصل للمستقرض قرض عشرة سمي هذا العقد بالعينة؛ لأنه أعرض عن الدين إلى بيع العين.
قال بعضهم: تفسيرها أن يدخلا بينهما ثالثاً فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهماً ويسلمه إليه، ثم يبيع المستقرض من الثالث الذي ادخلاه بينهما بعشرة ويسلم الثوب إليه، ثم إن الثالث يبيع من صاحب الثوب وهو المقرض بعشرة ويسلم الثوب إليه ويأخذ منه العشرة، ويدفعها إلى طالب القرض، فيحصل لطالب القرض عشرة دراهم ويحصل لصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهماً، وهذا حيلة من حيل الربا، وكان محمد بن سلمة البلخي رحمه الله يقول لتجار بلخ: إن العينة التي جاءت (139أ3) في الحديث «خير من يبايعكم» هذه.
وفي «فتاوى النسفي» : أن البيع الذي تعارف (عليه) أهل سمرقند وسموه بيع الوفاء تحرزاً عن الربا في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يحل الانتفاع به إلا بإذن الراهن، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلك من عينه، والدين ساقط بهلاكه في يده، إذا كان فيه وفاء بالدين، وللبائع استرداده إذا قضى الدين؛ إذ لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، وعليه فتوى السيد الإمام أبو شجاع السمرقندي، وفتوى القاضي الإمام علي السغدي ببخارى وكثير من الأئمة على هذا.
و (في) «فتاوى أبي الفضل» : سئل عن كرم بيد رجل وامرأة، باعت المرأة نصيبها من الرجل واشترطت أنها متى جاءت بالثمن رد عليها نصيبها ثم باع الرجل نصيبه، هل للمرأة فيه شفعة؟ قال: إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشفعة للمرأة سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرجل قيل: ثم قال؛ لأن بيع المعاملة والبلخية حكمه حكم الرهن وللراهن الشفعة، وإن كان الرهن في يد المرتهن.
وبعض مشايخ سمرقند قالوا: إذا لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع يجعل هذا بيعاً صحيحاً في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل له الانتفاع بسائر(7/139)
أملاكه، ويجعل رهناً في حق البائع حتى لا يتمكن المشتري من بيعه، وإذا مات لا يورث عنه، وإذا جاء البائع بالمال يؤمر المشتري بأخذ المال ورد المبيع عليه، ويجوز أن يكون للعقد الواحد حكمان، وقد مر نظير هذا في السلم، وإنما فعلنا هكذا لحاجة الناس بعضهم إلى أموال البعض مع صيانتهم عن الوقوع في الربا.
وسئل أبو القاسم عمّن يحتاج إلى شراء الأشياء، ويخاف الوقوع في الحرام، هل يجب عليه أن يسأل عن كل أحد يريد الشراء عنه عن حال ما يريد شراءه؟ قال: الأشياء على ظاهرها التي جرت العادة عليه حتى تجيء العوارض، وإذا كان نقد قد غلب الحرام على أهله أو كان البائع ممن يتخذ المال من خبث، فالسؤال حسن، وإن كان نقد الغالب عليها الحلال في الأسواق لا يجب السؤال.
وسئل عن بيع الزنار لأهل الذمة قال: لا بأس به؛ لأن ذلك ذل لهم ويكره بيع المكعب المفصص من الرجل إذا علم أنه يشتريه ليلبسه، وسئل الفقيه أبو بكر عمن يريد بيع عبده الأمرد من فاسق يعلم أنه يعصي الله به قال: يكره؛ لأنه إعانة على المعصية.
وسئل أبو القاسم عمن يبيع ويشتري في الطريق قال: إن كان الطريق واسعاً ولا يكون في قعوده ضرر للناس فلا بأس، وعن أبي عبد الله القلانسي أنه كان لا يرى بالشراء منه بأساً وإن كان بالناس ضرر في قعوده، والصحيح هو الأول؛ لأنه إذا علم أنه لا يشتري منه لا يبيع على الطريق فكان هذا إعانة له على المعصية وقد قال الله تعالى: {ولا تعاونوا على الاثم والعدوان} () وبعض مشايخنا قالوا: لا تجوز له العقود على الطريق وإن لم يكن للناس في قعوده ضرر ويصير بالقعود على الطريق فاسقاً؛ لأن الطريق ما اتخذ للجلوس فيه إنما اتخذ للمرور فيه.
رجل اشترى شيئاً بعشرة دراهم صغار فدفع إليه العشرة وبعضها كبار وهو لا يعلم لا يحل للبائع أن يأخذه ويصرفه إلى حوائجه.
وسئل بعض مشايخ بلخ عن بعض الطين الذي يؤكل لا يعجبني بيع الذي يؤكل إلا إذا لم ينتفع به إلا للأكل؛ لأنه يضرو يقتل.
رجل له سلعة معيبة يريد بيعها ينبغي أن يبين حتى لا يقع المشتري في الغرور، قال بعض مشايخنا: لو لم يبين وباع صار فاسقاً مردود الشهادة لا يؤخذ به.
قال محمد رحمه الله في آخر بيوع «الجامع الصغير» : ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء وبيع من كسدت بضاعته، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمباع حلساً له ببيع من يزيد والناس تعاملوا بيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا من غير منكر.(7/140)
والاستيام على سوم الغير مكروه، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» فظن بعض الناس أن بيع المزايدة استيام على سوم الغير وليس كذلك.
والفرق بين المزايدة وبين الاستيام على سوم الغير عرف أن صاحب المال إذا كان ينادي على سلعة فطلبه إنسان بثمن فكف عن النداء وركن إلى ما طلب منه ذلك الرجل فليس للغير أن يزيد في ذلك، وهذا استام على سوم الغير، وإن لم يكف عن النداء، فلا بأس لغيره أن يزيد ويكون هذا بيع المزايدة ولا يكون استياماً على سوم الغير.
وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، فقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر الدلال المالك فقال: بعه بذلك واقبض الثمن فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، وهذا استيام على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الوحشة، والوحشة إنما تحصل إذا ركن صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك، أما قبل ذلك فلا.
إذا باع العصير ممن يتخذه خمراً فلا بأس به، وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: يكره، وأجمعوا على أنه إذا باع العنب أو الكرم ممن يتخذه خمراً إنه لا بأس به، فوجه قولهما وهو الفرق بين العنب والعصير والفساد والفتنة من المشتري يحصل بعين ما يتناوله العقد، فصار كبيع السلاح من أهل الفتنة في أيام الفتنة، وفي فصل العنب الفساد والفتنة من المشتري لا يحصل بعين ما يتناوله العقد، بل يحصل بعين آخر، فإن ما يتناول العقد يتبدل العقد، فكان بمنزلة ما لو باع الحديد من أهل الفتنة، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الفتنة والفساد لا تقع إلا بعد تغير المعقود عليه في نفسه، فلا يكره كبيع الحديد من أهل الفتنة والفساد.
ولا بأس ببيع السرقين ويكره بيع القذرة يريد به الخالصة، فإن كانت مخلوط بالتراب فلا بأس ببيعها عندنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: في رجل اشترى من آخر جارية (شراء) فاسداً بألف درهم وتقابضا ثم تصرف كل واحد منهما فيما صار له يعني المشتري في الجارية، والبائع في الدراهم وربح طاب للبائع ما ربح من الدراهم ولم يطب للمشتري ما ربح في الجارية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله، يجب أن يعلم أن الحنث نوعان: حنث لعدم الملك ظاهراً، وحنث للملك لفساد سببه.
والمال نوعان: نوع يتعين بالتعيين كالعروض، ونوع لا يتعين بالتعيين كالأثمان وكان الحنث لعدم الملك يعمل في النوعين جميعاً في العروض والأثمان حتى لا يطيب الربح كالمودع يتصرف في الوديعة ويربح (139ب3) لا يطيب له الربح سواء كانت الوديعة عرضاً أو ثمناً؛ لأن الخبث لعدم الملك غير أن الثابت في العرض حقيقة الخبث؛(7/141)
لأن العقد يتعلق بمال غيره وقت المباشرة وإن كان في الثاني يصير مملوكاً للغاصب، والثابت في الأثمان شبهة الخبث؛ لأن العقد لم يتعلق بها استحقاقاً وإنما يتعلق به إشارة وهي ملك، فصار ملك الغير وسيلة إلى الربح من وجه فيتمكن فيه شبهة الخبث فيجب التصدق.
وإن كان الخبث في محل مملوك له لفساد سببه يعمل في العروض حتى لا يطيب له ما ربح في العروض، ولا يعمل في النقود حتى يطيب ما ربح فيها عند فساد السبب، هذا هو طريق بعض المشايخ في تخرج المسألة.k
وطريق بعضهم أن العقد لا يتعلق بالدراهم المملوكة بالعقد الفاسد، إنما يتعلق بمثلها ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم لا تتعين في عقود المعاوضات، فالربح على مثل الدراهم المملوكة العقد الفاسد لا على عينها فطاب له.
فأما الجارية فقد تعلق بها العقد فكان الربح حاصلاً على ملك بعقد فاسد، والعقد الفاسد معصية، فكان فيه نوع خبث، والربح الحاصل من أصل الخبث سبيله التصدق.
وطريق بعضهم أن الفساد ساقط الاعتبار حكماً في حق الدراهم والدنانير؛ لأن حق المالك انقطع عن العين حتى لم يجب على القابض رد المقبوض بعينه ولو كان للفساد عبرة في جانب الدراهم والدنانير لكان لا ينقطع حق المالك عن العين كما في جانب المبيع، فصار وجود البيع الفاسد وعدمه بمنزلة في حق الدراهم والدنانير بقي مجرد الإذن بالقبض للتصرف فيه من غير بيع، ولو أذن له بالقبض للتصرف من غير بيع كان قرضاً وكان التصرف فيه مباحاً كذا هاهنا.
فأما الفساد غير ساقط الاعتبار حكماً في حق الجارية؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن عينها، فهذا ربح حصل من أصل ملك بسبب فاسد فلا يطيب له. ذكر محمد رحمه الله في إجارات «الجامع الكبير» حكم الدراهم المملوكة بعقد فاسد في طيبة الربح على نحو ما ذكر في «الجامع الصغير» .
وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الكبير:» أن هذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي تقول بأن الدراهم والدنانير متى ملك ببيع فاسد ينقطع حق المالك عن عين الدراهم والدنانير، أما على الرواية التي تقول بأن المالك حقه لا ينقطع عن عينها وللمالك أن يأخذ عينها يجب أن لا يطيب له الربح؛ لأن الفساد بقي معتبراً في حقها حكماً، فهذا ربح حصل من ملك استفيد بسبب فاسد، فلا يطيب له.
وذكر في إجارات «الجامع» : أن من استقرض من آخر ألفاً على أن يعطي المقرض كل شهر عشرة دراهم وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح لأنه ربح استفيد بسبب مباح؛ لأنه استقرض الألف على أن يعطي المستقرض المقرض كل شهر عشرة إجارة للألف وهذه إجارة باطلة؛ لأنها إجارة ما لا يمكن الانتفاع (به) إلا بعد استهلاكه فلم تنعقد الإجارة الفاسدة ولا جائزة، ولهذا لم يجب الأجر، بقي مجرد القرض من غير إجارة وإنه مباح فكان الربح حاصلاً بسبب مباح.(7/142)
قال محمد في «الجامع الصغير» : ولو أن رجلاً قال لآخر لي عليك ألف درهم فقبضها وتصرف القابض فيها وربح ثم تصادقا على أنه لم يكن عليه دين يطيب له الربح؛ لأنه ملك المقبوض ملكاً فاسداً؛ لأنه بمنزلة بدل المستحق؛ لأن وجوب الدين بالتسمية؛ فإذا تصادقا بعد التسمية أنه لم يكن عليه دين صار بمنزلة ما لو لم يستحق العوض فيفسد الملك في العوض لكن لا يبطل، فيتمكن شبهه عدم الملك، ولو حصل الربح من دراهم غير مملوكة يتمكن في الربح شبهة الخبث فلا يعتبر في وجوب التصدق.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل باع من آخر حنطة ثم إن البائع باعها من آخر فقبضها المشتري الثاني واستهلكها، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ الثاني بمثلها، فإن أخذه بمثلها فباعه بأكثر من رأس المال قال: طاب له الفضل قلت: إن أبا يوسف يقول: يتصدق بالفضل فأبى محمد أن يقبل ذلك، وقال: إنما يتصدق بالفضل إذا أخذ قيمته دراهم.
قال أبو يوسف: رجل اشترى عبداً وقبضه ومات عنده فأقام رجل بينة أنه اشتراه قبله، قال: له أن يضمنه قيمته ويتصدق بفضل القيمة على الثمن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل أمر رجلاً أن يشتري له متاعاً بألف درهم فاشتراه بنقد البلد فأعطاه الآمر وصح ونقد المشتري في ثمن المتاع علة هل يطيب له الفضل؟ قال: إن علم الآمر بذلك وعلله منه فهو طيب له وإن لم يعلم، فإن في نفسي ما فيها من هذا ولم يجب بشيء.
وفي «المنتقى» : رجل غصب من آخر عبداً فباعه بعبد ثم باع العبد الثاني بعرض ثم باع العرض بدراهم، فعلى قول أبي حنيفة يتصدق بالفضل عما ضمن من قيمة العبد الغصب، وكذلك لو غصبه ألف درهم واشترى بها عبداً وباعه بألفين ثم اشتري بالألفين عرضاً وباعه بأكثر من ذلك. وقال أبو يوسف في المسألتين جميعاً: يطيب له الفضل.
ولو اشترى أمة شراءً فاسداً وباعها بأمة، فإنه يحل له وطء هذه الأمة ولم يكن يحل له وطء الأولى، قال ابن سماعة: وروى أصحابنا أنه قال يعني أبا يوسف: لو باع هذه الأمة تصدق بما زاد على قيمة الأولى التي ضمن قيمتها، ووافق أباحنيفة في البيع الفاسد، فإنه يقول: لو باع المبيعة بيعاً فاسداً بعرض، ثم باع ذلك العرض بفضل عما ضمن من قيمة البيع الفاسد إنه يتصدق بالفضل وجعل البيع الفاسد أشد من الغصب في هذا.
هشام عن محمد: في رجل اشترى دجاجة ببيضة بغير عينها فلم يقبض الدجاجة حتى باضت خمس بيضات، فما أصاب الدجاجة أخذها به، وما أصاب البيضات الخمس أخذ حصة ما يصيب البيضة من البيضة ويتصدق ببقية البيض، ولو اشتراها ببيض بعينها فهو جائز كله، وكذلك لو اشترى نخلة بمد من رطب بغير عينه فلم يقبض النخلة حتى حملته رطباً، فإن اشتراها بثمر بعينه فهو جائز على نحو ما بينا.
بشر عن أبي يوسف: لو باع درهماً من نصراني بدرهمين ثم أسلم قال: إن عرف(7/143)
صاحبه فليرد عليه الفضل، فإن لم يعرف تصدق به.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل (140أ3) اشترى ذمية بيعاً فاسداً وقبضها وباعها وقضى القاضي عليه بالقيمة للبائع الأولى، وأداها إليه وأبرأه البائع الأول، وفي الثمن الثاني فضل على القيمة التي أداها، فإنه يتصدق بذلك الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإنما طاب للمساكين وهو أطيب ... له من اللقطة؛ لأنه يملكه الذي يتصدق بالربح حتى عمل بالثمن وربح ربحاً فبيعت فيها بيوع كلها ربح قال: يتصدق بالفضل في جميع ذلك.
ولو غصب مالاً أو عمل بوديعة أو مضاربة خالف فيها وربح تصدق بالفضل في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يطيب له الفضل من قبل أنه كان له أن ينقد في ذلك غير الغصب، ولو اشترى بغير الغصب ونقد الغصب أو اشترى بالغصب ونقد غير الغصب فهو كذلك، وقال أبو حنيفة: لا يتصدق بهذا، وإنما يتصدق إذا اشترى به ونقده.
وقال أبو يوسف: إذا اشترى جارية بألف درهم وولدت في يد البائع ولداً فقبضها المشتري وفيهما فضل كثير على الثمن فذلك طيب له، ولو قتلا في يد البائع واختار المشتري أخذ القيمة، فإنه يتصدق بالفضل، ولو قتل الولد وأخذه، فإنه يتصدق بفضل قيمته على حصته من الثمن.
ولو اشترى عبداً بألف درهم فقتله عبد قبل القبض فدفع به أخذه المشتري وفي قيمته فضل على الثمن، فليس عليه أن يتصدق به؛ لأنه عرض وليس يحسب الفضل في العرض إنما يحسب في الدراهم والدنانير، ولو باع هذا العبد بفضل أكثر مما كان فيه أو اقل، فإنه يتصدق بالفضل ولا يجاوز ما كان فيه إنما يتصدق بالأقل من الربح الذي صار فيه من الفضل بالقيمة يوم قبض هذا العبد.
ولو باع هذا العبد بعرض لا يتصدق، وإن كان فيه فضل، فإن باع ذلك بدراهم أو دنانير فيها فضل، فإن نظر إلى قيمة العبد المدفوع بالجناية يوم قبضه، فإن لم يكن فيه فضل يومئذ لم يتصدق بشيء، وإن كان في قيمته فضل يومئذٍ نظر إلى ذلك الفضل، قال: هذا الربح الذي صار في يده فيتصدق بالأوكس منهما.
ولو اشترى عبداً بألف وقيمته ألفان فقتل في يد البائع فاختار المشتري أخذ القيمة وهي ألفا درهم ولم يتصدق بأحد الألفين حتى ضاع أحد الألفين، وبقي الألف الآخر لا يتصدق بشيء، ولو لم يضع حتى لو اشترى بها وربح تصدق بأحد الألفين وحصته من الربح، عند أبي حنيفة لا يتصدق بربح الألف، فإن هلك ألف درهم منها بعد ما تصرف فيها، فعليه التصدق بالألف؛ لأنها دخلت في ضمانه بالتصرف.
ولو كان صالح مع القاتل من القيمة على عبد وأعتق العبد لم يلزمه التصدق بشيء، فإن كان أعتقه على مال أو كاتبه على مال، فلا يتصدق بشيء إلا في خصلة أن يكون العبد يوم قبضه يساوي أكثر من رأس ماله ويكون الذي أعتقه عليه مثل قيمته أو أكثر(7/144)
فيتصدق بذلك الفضل الذي في القيمة على رأس ماله.
الحسن عن أبي حنيفة في البيوع غصب من آخر حنطة تساوي خمسين وباعه بمئة ثم ضمنه صاحب الكر مثله تصدق بالفضل، وإن كان ثوباً طاب له الفضل؛ لأنه لا يجوز بيع الكر إلا بمثله ويجوز بيع ثوب واحد باثنين.
فصل في الاحتكار
الاحتكار مكروه، وإنه على وجوه:
أحدها: أن يشتري طعاماً في مصر أو ما أشبهه ويحبسه ويمتنع من بيعه، وذلك يضر بالناس فهو مكروه للحديث المعروف. والمعنى فيه: أن حق العامة تعلق بما جلب إلى المصر فالمحتكر بالاحتكار يريد إبطال حقهم فلا يطلق له ذلك.
والثاني: أن يشتري طعاماً في مكان قريب من المصر فحمل إلى المصر وحبسه وذلك يضر بأهل المصر فهو مكروه أيضاً للحديث؛ ولأنه إذا كان يحمل طعام ذلك المكان إلى المصر تعلق به حق أهل المصر، فلا يطلق في إبطال حقهم بالاحتكار وهذا على قول محمد.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا اشترى طعاماً في غير المصر وجلبه إلى المصر فلا بأس به من غير فصل بينما إذا كان المكان الذي اشترى فيه الطعام قريباً من المصر أو بعيداً عنه، من غير فصل بينما إذا كان يحمل الطعام إلى المصر أو لا يحمل؛ وهذا لأن حق أهل المصر إنما يتعلق بطعام جمع في المصر أو جلبه إلى فنائها، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، وفي رواية مثل ما قال أبو حنيفة، وفي رواية: إذا اشتراه من نصف ميل وحمله إلى المصر واحتكر فيه يكره.
والثالث: أن يشتري طعاماً في مصر وجلبه إلى مصر آخر واحتكر فيه، فإنه لا يكره لقوله عليه السلام: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ؛ ولأن حق أهل المصر لا يتعلق بطعام مصر آخر، وكذلك لو زرع أرضه وادخر طعامه، فإنه لا يكره، فإنه في معنى الجالب؛ لأنه حدث بكسبه، ولأن ذلك خالص حقه ولم يتعلق به حق غيره فلا يكون احتكاره إبطالاً لحق الغير ولكن يستحب له البيع نظراً للناس وإشفاقاً بهم، وإذا قلت المدة لا يكون احتكاراً؛ لأن الناس لا يتضررون في مدة قليلة، وإذا طالت المدة يكون احتكاراً؛ لأنهم يتضررون في مدة طويلة فلا بد من حد فاصل بينهما.
وفي الحديث قدر الطويل بأربعين فما دونه يكون قليلاً، وعن أصحابنا أنهم قدروا(7/145)
الطويلة بشهر فما دونه يكون في حكم القليل ثم يقع التفاوت في الاحتكار بين أن لا يتربص العشرة وبين أن يتربص، فوبال الثاني أعظم من وبال الأول.
وفي الجملة التجارة في الطعام غير محمودة قال محمد رحمه الله: ويجبر المحتكر على البيع ولا يسعر.
أما الجبر على البيع لأن فيه نظراً للعامة، وفي عدم الجبر اضراراً بهم، أكثر ما في الباب أن الجبر ضرر بالمحتكر إلا أن هذا ضرر خاص والضرر الخالص يسقط اعتباره، وعند الضرر العام قبل الجبر على البيع يجب أن يكون على قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجبر؛ لأن الجبر على البيع بمنزلة الحجر وهو لا يرى الحجر على الحر.
وأما لا يسعر لما روي أن السعر قد غلا بالمدينة فطلب من النبي عليه السلام أن يسعر فأبى وقال: «إن الله تعالى هو المسعر القابض الباسط الرازق» ، وفي حديث الحر قال: «الله تعالى يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم عندي مظلمة» ؛ ولأن الثمن حق البائع؛ لأنه يقابل ملكه، فيكون التقدير إليه إلا إذا أغلى فيه بأن يريد أن يبيع قفيزاً منه بمئة والناس يشترون منه بخمسين، فيمنع البائع عنه دفعاً للضرر عن الناس وإذا رفع أمر المحتكر إلى (140ب3) الحاكم فالحاكم أمره ببيع ما هو فضل عن قوته وعن قوت أهله على اعتبار سعة في قوته وفي قوت أهله وينهاه عن الاحتكار، فإن انتهى فبها ونعمت، وإن لم ينته ورفع إلى القاضي مرة أخرى فهو مصر على عادته وعظه وهدده، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى؛ لأنه ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر ومن ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر للشرع وعليه.
وإن كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون عن القيمة تعدياً فاحشاً وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس بالتسعير بمشورة من أهل الرأي والبصر، فإذا فعل ذلك ثم تعدى رجل عن ذلك القدر فباعه بثمن فوقه أجازه القاضي يعني أمضاه ولم يبطله، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله يبطله؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وفي إبطال بيعه نوع حجر عليه، أما قولهما فلأنهما إن كانا يريان الحجر على الحر إلا أن الحجر هنا لم يوجد حتى لو حجر القاضي على قوم من أرباب الطعام بأعيانهم تصير المسألة على الخلاف، ومن باع منهم بما قدر الإمام من الثمن جاز بيعه؛ لأنه غير مكره على البيع بل هو طائع.
ذكر القدوري في «شرحه» : إذا خاف الإمام الهلاك على أهل المصر أخذ الطعام من المحتكر وفرق فإذا وجدوا ردوا مثله وهذا صحيح؛ لأن أهل المصر في هذه الحالة(7/146)
مضطرون إلى ماله والحال حالة المخمصة وحكم الشرع في المضطر إلى مال الغير حالة المخمصة هذا قال: والتلقي إذا كان يضر بأهل البلد فهو مكروه، وإن كان لا يضر فلا يكره.
وصورة التلقي: أن يخرج من البلدة إلى القافلة التي جاءت بالطعام يريدون البلدة واشتراها خارج البلدة وهو يريد حبسها ويمتنع عن بيعها ولم يترك حتى تدخل القافلة في البلدة، فإن كان يضر بأهل البلدة فهو مكروه إذا كان في وقت الحاجة لأهل البلدة إليها، وإن كان لا يضر بأهل البلدة فلا يكره إذا كان لا يلبس على أهل القافلة سعر أهل البلدة، ولا يغرهم بأن أخبر أن قيمة الطعام في البلدة كذا وهو صادق في ذلك، فأما إذا لبس عليهم سعر أهل البلدة فهو مكروه لحق أهل القافلة والله أعلم.
الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات
دار بين اثنين باع أحدهما نصفه يجوز وينصرف إلى نصيبه هذا هو جواب «الكتاب» ، وقال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله إن عين النصف وقال: بعتك هذا النصف لا يجوز، وإن لم يعين النصف إنما باعه نصف الدار مطلقاً يجوز.
وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن رجل مات وترك ثلاث بنين وبنتين، فباع أحد البنين نصيبه من ابن آخر قبل القسمة من ضياع بعينه قال: إن كان نصيب الابن البائع معلوماً للمشتري جاز.
وفي «شرح الطحاوي» : أحد الورثة إذا باع شيئاً من التركة ينظر إن باع نصيبه من كل شيء والمشتري يعلم نصيبه يجوز، وإن باع شيئاً معيناً لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن لا يقع هذا في نصيبه، ومعنى قوله لا يجوز، لا يجوز البيع في كل ذلك الشيء أما في نصيبه يجوز.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ادعى عيناً في يد رجل فأقام على ذلك شاهدين أو شاهداً واحداً فقبل الحاكم باع المدعى عليه العين من رجل أو وهبه له قال: لا يجوز بيعه ولاهبته، وقال الحكم أبو الفضل في «المنتقى» : هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» يريد به فيما إذا أقام شاهداً واحداً، فقد ذكر محمد رحمه الله فقبل الحكم باع المدعى عليه أتى في «الجامع» في هذه الصورة أن البيع جائز، وفرق بين الشاهد الواحد والشاهدين.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قال لآخر: إن لك في يدي أرض ضربة لا تساوي شيئاً فقال فبعها مني بكذا، فقال: بعتها ولم يوفها البائع وهي تساوي أكثر من ذلك، فالبيع جائز؛ لأنه قال في يدي صار كأنه قال أرض كذا، فإذا أجابه فكأنه قال: بعتك أرض كذا.(7/147)
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره أبيعك هذه الدار تلجئة بألف درهم، إن البيع جائز، ولو قال لأمراة: أتزوجك متعة فالنكاح باطل، وقال أبو يوسف: البيع والترويج جميعاً باطل.
وفي «الإملاء:» إذا قال البائع: هذا لك بألف هذا لك بألفين، فقال المشتري: قبلت البيع الأول لم يجز؛ لأن البائع رجع عن البيع الأول فانتقض، ولو قال: قبلت البيعيتن بثلاثة ألاف فهو مثل قوله قبلت البيع الثاني بثلاثة آلاف فيكون البيع بألفين والألف الآخر في زيادة إن شاء قبلها وإن شاء لم يقبلها.
وعن محمد رحمه الله: أنه كان لا يرى بأساً أن يبيع الرجل من الرجل من طين هذه الأرض عمقها للحفرة.
وفي «الأصل:» إذا باع المشتري غنماً بشرط أن يرد المشتري منها شاة، فالعقد فاسدٌ؛ لأن المردود مجهول، وإنه يوجب جهالة الباقي، وإذا باع أجود الغنم أو أردأها، فقد اختلف المشايخ في هذا الموضع أيضاً.
وفي «المنتقى» : إذا باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم على أن يعطيه المشتري كل يوم درهماً وكل يومين درهمين، فإنه يعطيه في اليوم الأول درهماً، وفي اليوم الثاني ثلاثة دراهم، وفي اليوم الرابع ثلاثة دراهم، وفي الخامس درهماً، وفي السادس درهماً.
وإذا باع الأرض لشربها ولم يقيم الشرب كم هو ولا يعلمان به فهو جائز.
وذكر في «الجامع الصغير» : علو لرجل وسفل لآخر فسقطا جميعاً ثم باع صاحب العلو موضع العلو لا يجوز، ولم يذكر ما إذا سقط العلو والسفل قائم على حاله فباع صاحب العلو هل يجوز؟ والجواب أنه لا يجوز؛ لأنه بعد ما سقط العلو فالثابت لصاحب العلو حق التعلي، والتعلي ليس بمال؛ لأنه متعلق بهواء الساحة وأنه ليس بمال ومحل البيع ما هو مال، فالبيع لم يصادف بحاله، وهذا بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعاً للأرض بالإجماع ومقصوداً في الرواية وهو قول بعض مشايخ بلخ؛ لأن الشرب عين مال؛ لأنه عبارة عن نصيب من الماء، ولهذا قال بعض مشايخنا: من أتلف على إنسان شرباً ضمن، وإليه مال شيخ الإسلام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله، وإنما لا يجوز بيعه مقصوداً في رواية وهو اختيار مشايخنا رحمهم الله لمكان الجهالة حتى لو سقط اعتبار الجهالة بأن يبيع الشرب مع الأرض حتى دخل الشرب في العقد تبعاً يجوز بيعه بخلاف حق التعلي؛ لأنه ليس بمال على ما ذكرنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع (141أ3) الصغير» أيضاً: بيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل، فإن كان أراد بالطريق ومسيل الماء رقبة الطريق ورقبة مسيل الماء، فإنما وقع الفرق بين الطريق والمسيل؛ لأن الطريق معلوم الطول والعرض غالباً أو إن لم يكن كذلك يمكن إعلامه ببيان طوله وعرضه، فكان المبيع معلوماً غالباً، فأما مسيل الماء لا يكون معلوماً غالباً، ولا يمكن إعلامه غالباً أيضاً؛ لأن مقدار ما يشغل الماء من الأرض أو من النهر مختلف غالباً، فكان المبيع مجهولاً غالباً، وإن كان(7/148)
أراد بالطريق ومسيل الماء حق المرور وحق تسييل الماء فما ذكر من الجواب في تسييل الماء أنه لا يجوز البيع باتفاق الروايات إلى ما ذكر من المرور وأنه لايجوز البيع رواية «الجامع الصغير» ورواية كتاب القسمة وبه أخذ عامة المشايخ.
وذكر في «الزيادات» أن بيع حق المرور لا يجوز وبه أخذ الكرخي، وإنما وضع الفرق بين حق المرور وبين تسييل الماء في رواية من حيث جهالة المعقود عليه وتسييل الماء دون حق المرور.
وإنما وقع الفرق بين حق التعلي وبين حق المرور في رواية جواز بيع حق المرور؛ لأن حق المرور يتعلق برقبة الأرض، والأرض مال وله قرار، فكان لهذا الحق حكم المال بطريق التبعية، فأماحق التعلي متعلق بهواء الساحة، وإنه ليس بمال حتى يعطى له حكم المالية بطريق التبعية، فلهذا لم يجز بيعه.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب القسمة: أن بيع رقبة الطريق على أن يكون للبائع فيه حق المرور جائز بخلاف بيع حق المرور بانفراده في رواية بيع السفل على أن يكون لصاحب الدار حق قرار العلو جائز، وإذا باع علو منزل في داره دون السفل، فالبيع جائز، فإن بيع حق المرور مستحق واستحق بناء العلو دون الساحة ثم أجاز البيع جاز فقد أجاز المستحق البيع مطلقاً من غير فصل بينما إذا قضى القاضي للمستحق بالعلو أو لم يقض وهذا جواب ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقضي القاضي المستحق، ولا يبطل البيع من البائع والمشتري فالإجازة لاقت عقداً قائماً فيعمل، وفي المسألة روايات مختلفة سيأتي بيانها في موضع إن شاء الله.
ثم إذا أجاز إجازة المستحق كان الثمن كله للمستحق ولا يكون للبائع شيء من الثمن؛ لأنه لما استحق العلو تبين أن الثابت للبائع حق التعلي، وحق التعلي ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن.h
وذكر في كتاب الشرب وجعل للشرب حصة من الثمن حتى قال: لو شهد شاهدان بشراء أرض بألف درهم، وذكر أحدهما شرب الأرض ولم يذكر الآخر شربها، فإنه لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الذي ذكر الشرب جعل بعض الثمن بمقابلته.
والفرق: أن الشرب عين مال على ما مر، فجاز أن يكون بمقابلته شيء من الثمن عند دخوله في البيع بخلاف حق التعلي، فإنه ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن، وفي كتاب القسمة جعل للمرور قسطاً حتى إن من باع داره مع ممره واستحق الدار دون الممر يقسم الثمن على الدار دون الممر.
وكذلك قال: في رجلين باعا طريقاً لأحدهما حق المرور وللآخر رقبة الطريق كان الثمن بينهما، قال الكرخي: تأويل المسألة الأولى أن يكون نفس عرضة الطريق لهما، وتأويل المسألة الثانية أن يكون عرضة الطريق بينهما ولأحدهما إما مجرد حق الاستطراق لا يقابله شيء من الثمن وغيره من المشايخ أجروا على الظاهر، وفرقوا بين حق الاستطراق وبين حق التعلي، والفرق ما بينا أن حق المرور أعطي له حكم المالية بطريق(7/149)
التبعية فجاز أن يكون بمقابلة شيء من الثمن بخلاف حق التعلي على ما ذكرنا.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى قصيلاً من رجل على أن يفصله فتركه في الأرض بغير إذن رب الأرض أو بإذنه حتى سنبل واستحصد، فإن أبا حنيفة قال: هو للبائع كله؛ لأنه تحول عن حاله قبل القبض من قبل أن الفصيل يفصل ثم ينبت ويحصد، قال: وليس الرطبة والقصب هكذا قال: لو زاد ولم يسبل كان للمشتري مثل الرطبة ويتصدق بالفضل إن كان ترك بغير إذن، وقال أبو يوسف: في الأول أيضاً هو للمشتري.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر حنطة ندوية مجازفة وقد رأها ولم يقبضها حتى حفت فلا خيار له. ولو اشترى رطباً مجازفة وقد رأها فلم يقبضها حتى صار تمراً فله الخيار.
المعلى عن أبي يوسف: إذا قال لغيره أبيعك من هذا الطعام قفيزاً بدرهم فاشترى له ذلك منه ولم يقبضه حتى أصابه ماء وزاد وقال: إن كان عنده طعام من ذلك الضرب، فإنه يعطيه قفيزاً منه، وإن لم يكن فالمشتري بالخيار إن شاء قبض منه قفيراً من هذا الطعام، وإن شاء ترك.
وروى بشر عن أبي يوسف: اشترى جارية وشرط البائع أنها خبازة أو مشاطة وقبضها على ذلك ثم هلكت عنده ثم أقر البائع أنها لم تكن خبازة ولا مشاطة قال أبو حنيفة: لا يرجع على البائع بشيء؛ لأن ذلك ليس بعيب وإن كانت قائمة فوجدها من جنس دونه بأن شرط البائع له أنها حبشية مثلاً فإذا هي هندية، فإنه يردها إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء، وكذلك قال أبو يوسف: قال: لأني لا أدري كيف أخذه من الجنسين ولا يعلم فضل ما بين الحبشتين لو شرط ... فوجده ... فليس في الأرض أحد يعلم فضل ما بين هذين وقد يكون من هذا الجنس ما هو خير من ذلك الأخير، قال: وأما الخبازة، فإنما يقوم عينها خبازة وغير خبازة، أشار أبو يوسف إلى أنه موافق لأبي حنيفة رحمه الله فيما إذا وجدها من جنس دونها إن كانت قائمة يردها، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء مخالف له فيما إذا شرط أنها خبازة، فإذا هي غير خبازة، وقد باتت في يد المشتري.
وعن أبي يوسف في مسألة الخبازة مثل قول أبي حنيفة ذكر المسألة بعد هذا قال: وكذلك كل ما يوزن من الآنية والذرعية وفي نسخة والأوعية ما لاينقص فإما ما ينقص من الكيل أو الوزن، فإنه يرجع بنقصانه في قولهم جميعاً.
وفي «القدوري» : لو اشترى عصيراً فتخمر قبل القبض فالبيع على حاله في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وذكر محمد في «الأصل» أن البيع باطل؛ لأن الخمر ليس بمحل للبيع، ولهذا لو اشترى خمراً لا يملكه بحال، كما لو اشترى ميتة فصار التخمر قبل القبض بمنزلة هلاك المبيع قبل القبض يوجب بطلان العقد، قال أبو الحسن: يعني قول(7/150)
محمد أن البيع باطل إن للمشتري أن يبطله (141ب3) واستدل على هذا التأويل بما إذا صارت خلاً قبل الفسخ أن يكون له أنه يأخذه ولو بطل العقد لم يكن له حق الأخذ، ومعنى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن العقد على حاله أنه لم يبطل بعد إما مفسد بلا شك.
ووجه هذا: أن صحة العقد كان باعتبار المالية والتقوم، وبالتخمر إن سقطت القيمة لم تبطل المالية حتى لو اشترى شيئاً ملك ولو زالت القيمة والمالية جميعاً انفسخ العقد.
كما لو مات المبيع قبل القبض ولو بقيا جميعاً بقي العقد جائزاً، فإذا زال أحدهما وبقي الآخر ارتفع الجواز ولم يرتفع أصل العقد، إلا أن هذا الفساد إنما يكون بعارض على شرف الزوال، فإذا زال صار كأن لم يكن وهو معنى تأويل أبي الحسن رحمه الله لقول محمد رحمه الله.
وفي «المنتقى» قال أبو حنيفة: إذا اشترى عصيراً فصار خمراً قبل أن يقبض المشتري، فلم يختصما حتى صار خلاً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بقيمتها وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: بطل البيع.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجلان بينهما دار فباع أحدهما نصف بيت منها شائعاً والبيت معلوم، فإن أبا حنيفة قال: لا يجوز البيع؛ لأن فيه ضراً على الشريك في تقطيعه نصيبه عليه عند القسم، قال: أرأيت لو باع نصف كل بيت من الدار لم يتقطع نصيب شريكه قال: وكذلك الأرض.
ولو كان بين رجلين عشر من الغنم وعشرة أثواب مروية مما يقسم باع أحدهما نصف ثوب بعينه من رجل، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: هذا جائز، وكذلك الغنم ولا يشبه هذا الدار الواحدة، وقال أبو يوسف: ينبغي أن يكون هذا والدار سواء في قوله، ألا ترى أنه لو باع نصف كل شاة منها من رجل على هذه لم يستطع شريكه أن يجمع له نصيبه فيها، فقد دخل عليه ضرر ويتقطع نصيبه، فكيف يختلفان.
ولو أن رجلين بينهما أرض ونخل باع أحدهما نصف نخل بعينه بأصله من رجل لم يجز في قول أبي حنيفة، وهذا كالبيت الذي وصفنا، ولو باع أحدهما نصف الأرض واشترى نصف النخيل بأصله، فإن هذا مثل ذلك في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك لو باعه نصف الدار شائعاً أن بيتاً منها معلوماً لم يدخل في البيع، وقال أبو يوسف: أنا أرى كل هذا جائزاً لا أنقض بيعاً من أجل قسمة لا يدري أتكون أو لا تكون، ولا يدري لعلها إذا كانت لا تدخل في القسمة ضرر من قبل هذا البيع.
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل من غيره كراً من طعام مكايلة بمئة درهم فاكتاله من البائع لنفسه، ثم إنه ولى رجلاً بالثمن الأول لم يكن للمشتري أن يقبضه إلا بكيل مستقبل، وإن كان المشتري الأول الذي باع من هذا الثاني اكتاله لنفسه بمحضر من المشتري الثاني؛ لأن الشراء الثاني حصل بشرط الكيل، ولم ينص فيه على الكيل باعتبار أن البيع الثاني بيع تولية، والتولية بعد العقد الأول وإقامة الثاني فيه مقام نفسه، وقد كان(7/151)
البيع الأول بشرط الكيل فيكون الكيل مشروطاً في الثاني ضرورة، وإن لم يكن مشروطاً نصاً فلا يكتفي بكيل بائعه وهو المشتري الأول لما مر في أصل الباب، فإن اكتاله المشتري الثاني فوجده يزيد قفيزاً رد الزيادة على المشتري الأول، سواء كانت زيادة تجري بين الكيلين أو زيادة لا تجري بين الكيلين، لأنه زائد على المعقود عليه، فإذا ردها المشتري الثاني على الأول ينظر إن كانت الزيادة مما يدخل بين الكيلين كانت الزيادة للمشتري الأول ولا يردها على بائعه، وإن كانت الزيادة مما لا يدخل بين الكيلين ردها المشتري على بائعه؛ وهذا لأن الزيادة إذا كانت تدخل بين الكيلين لا يمكن التحزر عنه وذلك عفو، وقال الله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها} (الأنعام: 152) فهذا دليل على أن ما يدخل بين الكيلين من الزيادة والنقصان عفو، أما إذا كانت الزيادة لا تدخل بين الكيلين يمكن التحزر عنها ولا يجعل عفواً هذا من حيث النص.
وأما من حيث المعقول هو أن الزيادة إنما ترد على البائع إذا ظهر خطأ الكيل الأول بيقين، وإذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين ظهر الخطأ في الكيل الأول لا بالاجتهاد فوجب الرد على البائع الأول، وإن وجده المشتري الثاني ناقصاً كان للمشتري الآخر أن يأخذ المشتري الأول بحصته إذا لم يسلم له شرطه فيرجع عليه سواء كان النقصان يدخل بين الكيلين أو لا، وهل يرجع المشتري الأول على بائعه؟ إن كان النقصان مما يدخل بين الكيلين لا إذا لم يظهر الخطأ في الكيل بيقين، وإن كان مما يدخل ثيت ذلك بالبينة أو بتصديق البائع يرجع إذا ظهر الخطأ في الكيل بيقين، لا باجتهاد فوجب الرجوع على البائع الأول بذلك.
ثم إذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين فالزيادة تكون للمشتري الأول، وإن كان هو ولى الثاني جميع ما اشترى إلا أنه ولاه ما اشترى باسم الكر وقد سلم له ذلك، فكان الفضل رزقاً ساقه الله إليه.
وكذلك لو كان البيع الثاني مرابحة بيع ما اشترى بمثل الثمن الأول إلا أنه زاد فيه ربحاً ولما كان كذلك كان في اقتضاء الكيل مثل التولية، ولو كان المشتري الأول باع من الطعام قفيزاً ودفعه إلى المشتري وقبض ثمنه، ثم إنه باع الباقي على أنه كر بمثل ما اشتراه تولية فاكتاله الثاني فوجده كراً تاماً فكذلك جائز ولا خيار له؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى ولكن ثمن الكراً يقسم على إحدى وأربعين قفيزاً، فما أصاب القفيز سقط عن المشتري الثاني، وذلك جزء من إحدى وأربعين جزءاً من الثمن ولزمه الباقي؛ لأن التولية بيع ما اشتري بمثل ما قام عليه ولقد وصل إليه بمقابلة القفيز شيء فلو لم يحط عن المشتري بذلك القدر حصل بيع الباقي بزيادة على ما اشترى تولية، فصار ذلك جناية، وإنه يمكن التحرز عنه، فوجب حط قدر الجناية عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من غير خيار، ومحمد يخير إن شاء أخذ الكيل بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
ولو كان العقد الثاني مرابحة والباقي بحاله، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد المشتري بالخيار إن شاء رده وإن شاء أمسكه بجميع ثمنه، وعلى قول أبي يوسف يحط قدر الجناية من الربح وهذه المسألة من مسائل «الأصل» .(7/152)
قال في «الجامع» أيضاً: إذا اشتري كراً على أنه أربعون قفيزاً فكاله (142أ3) البائع فوجده أربعين قفيزاً وتقابضا فأصاب الطعام ماء من ماء المطر فزاد حتى صار خمسين قفيزاً وأفسد الماء الطعام جاز للمشتري أن يبيعه مرابحة من غير بيان، فإن ولاه رجلاً أو باعه مرابحة على أنه كر فوجده خمسين قفيزاً كان للمشتري منه أربعون قفيزاً، إذ المشروط له هذا القدر، وكان للمشتري خيار الرد بالعيب إن لم يعلم به وقت الشراء، وإن علم ليس له ذلك لرضاه بالعيب.
وإن كان الطعام رطباً وباعها مرابحة على أنه كر فكالها المشتري، فإذا هو ينتقص من الكر، فالمشتري الآخر بالخيار إن شاء ترك بغير شرط عليه، وإن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن اشترى كراً على أنه أربعون قفيزاً فكاله وقبضه فولاه رجلاً أو باعه مرابحة فلم يكله له حتى أصاب الطعام ماء فزاد عشرة، ثم كاله فوجده خمسين قفيزاً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك لتغير المعقود عليه في ضمان البائع على ما مر، ومتى اختار الأخذ أخذ الأربعين قفيراً لما مر أن المشروط له هذا التقدير وسلم ما بقي من الطعام وهو عشرة أقفزة للبائع الثاني، ولو أن البائع الثاني كال الطعام للمشتري الثاني قبل أن يصيبه الماء فكان أربعون قفيزاً ثم أصابه الماء في يد بائعه، فصار خمسون قفيزاً وأفسده الماء، فللمشتري الثاني الخيار لتغير المعقود عليه في ضمان البائع، فإن اختار الأخذ أخذ الكل؛ لأن المبيع قد تعين بالكيل فكانت الزيادة الحاصلة زيادة في المبيع.
ولو باعه قفيزاً من الكراء فأصابه الماء قبل أن يقبضه فللمشتري الخيار، إن شاء قبض من ذلك الكر، وإن شاء ترك، وإن كان قد كال القفيز وأفرزه لما ذكرنا أن الكيل في غير المعين قبل التسليم هدر، فكان له الخيار كما قبل، إلا أن يكون الماء أصاب المقرر دون غيره فيأخذ قفيزاً من اليابس ولا خيار لواحد منهما على ما مر قبل هذا.
رجل اشترى كر حنطة بمئة درهم على أنه أربعون قفيزاً فكاله، فإذا هو أربعون قفيزاً فقبضه المشتري ثم تقايلا البيع ثم اكتاله البائع، فإذا هو يريد أن ينقص قفيزاً، فتصادقا أن ذلك من نقصان الكيل ومن زيادة مع الكيل، فالزيادة مع الأصل للبائع، والنقصان عليه حتى لا يحط بسببه شيء من الثمن.
وكذلك لو أصابه الماء فازداد ورضي به البائع فذلك كله له، إلا أن يكون لم يعلم فله أن يرده بالعيب وتبطل الإقالة ويعود البيع الأول، وكذلك إن كان رطباً وقت البيع وهو كرّ تام ثم جف ونقص عند المشتري ثم تقايلا فاكتاله فانتقص وعلم أنه من الجفاف أو تصادقا عليه فذلك كله للبائع ولا يحط شيء من الثمن.
فرق بين هذا وبين التولية والمرابحة، فإن هنالك جعل للمشتري الثاني ما يتيقن بالكيل ولم يجعل الزيادة والنقصان عليه، ومنها جعل الزيادة والنقصان بعد الإقالة على البائع. والفرق بينهما سواء هو أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين وإعادة إلى قديم الملك، وإنما يجب مراعاة الكيل في المبادلات وفيما يملكه الإنسان بالشراء ابتداء لا فيما يعود إلى قديم ملكه، ألا ترى أنه لو فسخ العقد بخيار الشرط أو بخيار العيب بقضاء أو بغير قضاء لا يعتبر فيه كيل مبتدأ، أما التولية والمرابحة فذلك بيع مبتدأ فيعتبر فيه الكيل(7/153)
إذا حصل بشرط الكيل، وقد حصل شرط الكيل فكذا ما جعل بناء عليه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من رجل حنطة بعينها على أنه اشتراها بدرهم، فلم يقبضه المشتري حتى أصابه ماء فابتل، فكاله المشتري، فإذا هو قفيز وربع قفيز كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ قفيراً بعينها بدرهم، وإن شاء ترك وإنما أثبتنا له الخيار بعيب المعقود عليه في ضمان البائع، وإنما اقتصر ملكه على القفير؛ لأن العقد إنما انعقد باسم القفيز يدخل تحت العقد ما يظهر بالقفيز لا ما وقعت الإشارة إليها؛ لأن ذلك من حكم بيع المجازفة وهذا بيع مكايلة.
ألا ترى أنه لو كاله قبل إصابة الماء فوجده أزيد رد الزيادة على البائع، ولو وجده أنقص سقط حصة النقصان من الثمن، ولما كان هكذا فقبل الكيل لم يظهر قدر البيع فالزيادة الحاصلة بالماء لم تكن زيادة في المبيع فلم يسلم للمشتري، وإن كان اكتال الطعام قبل أن يصيبه الماء بمحضر من المشتري فكان قفيزاً إلا أنه لم يدفعه إلى المشتري ثم أصابه الماء فصار قفيزاً وبيع قفيز كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ كله بدرهم وإن شاء تركه، أما الخيار فلما مر، وأما سلامة الكل له؛ لأن المعقود عليه ظهر قدره بالتقدير وهو الكيل والزيادة الحاصلة في المبيع فيسلم للمشتري.
وصار كالنخيل إذا أثمرت بعد البيع قبل القبض، وإنما شرط أن يكون الكيل بحضرة المشتري؛ لأن المعقود عليه لما كان يظهر قدره بالكيل صار للكيل شبهة بابتداء العقد فشرط أن يكون بحضرة المشتري لهذا، ولو كانت الحنطة رطباً في الابتداء فيبس حتى نقص، فإن كان بعد الكيل لم يأخذه المشتري بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل، وبالجفاف إنما يفوت وصف الرطوبة وفوات الوصف لا يوجب سقوط شيء من الثمن، فإن كان نقص قبل الكيل لا يأخذه إلا بحصته من الثمن؛ لأن المعقود عليه إنما يتعين بالكيل، فإذا كان النقصان قبل الكيل، فإنما يتعين ثلاثة أرباع قفيز فيأخذه بثلاثة أرباع الدرهم ويكون المشتري بالخيار كما لو اشترى شيئين فهلك أحدهما قبل القبض.
ألا ترى أنه لو اشترى هذا الطعام على أنه قفيز بدرهم فكاله فوجده يزيد أو ينقص مقدار ما يجري بين الكيلين، فإن كان زائداً أخذ المشتري قفيزاً منه بدرهم، وإن كان ناقصاً أخذه بحصته من الثمن، ولو كاله البائع للمشتري بمحضر منه فكان قفيزاً فلم يأخذ المشتري حتى أعيد عليه الكيل، فإذا هو يزيد أو ينقص قدر ما يكون بين الكيلين لزمه بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل الأول ولم يظهر خطأ الكيال للأول حتى لو كانت الزيادة والنقصان قدر ما لا يجري بين الكيلين إن كان زائداً رد الزيادة، وإن كان ناقصاً أخذه بحصته من الثمن في الحالين جميعاً إذا ظهر به خطأ الكيال الأول.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: في عبدين لرجلين لكل واحد منهما عبد على حدة وأحدهما أكثر قيمة من الآخر ولا يعرف عبد كل واحد منهما من عبد صاحبه فباعهما أحدهما، فالثمن بينهما نصفان.
وكذلك (142ب3) قال في ثوب رجل وقع في ثياب رجل ولم يعرف بعينه، فإني(7/154)
أبيعها وأقسم الثمن على عدد الثياب، ولو أوصى رجل لرجل بشاة ولآخر بصوفها فباعا جميعاً، فإن الثمن لصاحب الشاة وليس لصاحب الصوف شيء؛ لأن الصوف لا يباع على ظهر الشاة ولو جعلت له نصيباً من الثمن أفسدت البيع وكذلك الشاة وما في بطنها.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء» : امرأة قالت لزوجها: خلعتني بالألف التي لي عليك، وقال الزوج: لا ولكني بعتك بالألف التي لك علي هذا العبد في يديك، وقالت هي: لم أشتره منك، فأقامت هي بينة على الخلع وأقام الزوج بينة على بيع العبد أجزت البيع والخلع وضمنت المرأة ألفاً للزوج.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من رجل سمكة طرية وجحد البائع البيع فأقام المشتري بينة عليه، فالقاضي يأمر المشتري بقبض السمكة ودفع الثمن إلى البائع يريد به ما دام القاضي في المسألة عن الشهود ثم يقبض القاضي السمكة من المشتري والثمن من البائع ويبيع السمكة، ويضع الثمن الثاني والأول على يدي عدل، فإن عدلت البينة ودفع الثمن الثاني إلى المشتري الأول والثمن الأول، وإن ضاع الثمن من مال المشتري يعني المشتري الأول، وإن لم تعدل البينة ضمن المشتري يعني المشتري الأول قيمة السمكة للبائع.
قال هشام: وسألته عن رجل ادعى على رجل أنه باع جاريته هذه منه بألف درهم وجحد المشتري أن يكون اشتراها فحلفه القاضي فحلف، هل يفسخ القاضي الشراء بينهما؟ قال: لا، قلت: إن كان المدعى قبله قال بعد ذلك: هي حرة لوجه الله تعالى هل يكون هذا إقرار منه بالشراء ويلزمه قيمة الجارية؟ قال: لا، قلت: وإن قال المدعى قبله للمدعي إن كنت اشتريتها منك فهي حرة، قال: عتقت الجارية ولم يلزم المدعى قبله قيمتها؛ لأنها إنما عتقت بقول البائع إني بعتها منك.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك ثوباً بعشرة دراهم وقبضتَه ولم أقبض الثمن، وقال الآخر: أخذته منك رهناً بعشرة والثوب هالك قال: يضمن المرتهن الأقل من قيمته ومن عشرة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا أمس بألف درهم فلم يقبل، وقال المشتري: قبلت فالقول قول المشتري قد اشتريت منك عبدك هذا أمس فلم يقبل، وقال البائع: قبلت فالقول قول البائع؛ لأن لفظة البيع تنتظم فعلهما جميعاً.
وإن قال لأمراته: طلقتك أمس بألف درهم فلم تقبلي، فالقول قول الزوج والعتق على مال نظير الطلاق، والإجارة والنكاح نظير البيع.
وأما الكفالة بالمال فينبغي في قياس قول أبي حنيفة: أن يكون القول فيه قول الضامن فلا يلزمه الضمان إلا أن تقوم بينة على رضى المضمون له.
وعنه برواية ابن سماعة أيضاً: رجل عنده مملوك قال لغيره بعتك مملوكي هذا قبل أن أملكه قال: لا أصدقه وألزمه البيع وليس هذا كالطلاق والعتاق؛ لأن في البيع عقدة قد(7/155)
عقدها ثم يريد أن يبطلها وليس في الطلاق والعتاق.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال: اشهدوا أني قد بعت عبدي من فلان بألف درهم وفلان غائب فقدم فقال: قد كنت بعته قبل ذلك المجلس وهذا منك إقرار، وقال البائع: بل كان مني ابتداء، فإن القول قول المشتري؛ لأن هذا الكلام يكون على ما مضى وعلى ما يستقبل.
وفي «نوادر هشام» : عن (محمد) : رجل اشترى من رجل داراً بثمن معلوم وأشهد بقبض الثمن، ثم أقام البائع بينة أن المشتري أقر بعد شراء الدار أن هذه الدار تلجئة في يده، فإني أردها على البائع ويأخذ المشتري الثمن من البائع.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل جارية بثمن معلوم وتقابضا اختلفا في ولدها فقال البائع: قد ولدت قبل أن يشتريها، وقال المشتري: لا، بل ولدت بعد الشراء، فالقول قول من في يده الولد والبينة بينة المشتري.g
ولو اشترى داراً من رجل ونقد الثمن واختلفا في باب الدار وقد نزع من موضعه ووضع فيها، فقال المشتري: نزعته بعد ما اشتريت وقبضت، وقال البائع: كان موضوعاً فيه وقت البيع ولم يدخل في البيع فالقول قول المشتري إن كانت الدار في يده، وإن كانت الدار في يد البائع فالقول قول البائع مع يمينه، فإن نكل عن اليمين دخل الباب في البيع وللمشتري الخيار إن كان في تعليقه ضرر، وإن حلف يخير المشتري أيضاً، إن شاء أخذ الدار في غير باب، وإن شاء ترك، ولكن بعد أن يحلف بالله ما اشترى الدار بدون الباب.
وكذلك على هذا جذوع بيوت نقض أو نقض حائط أو شجرة مقلوعة في أرض أو تمر صرم من شجرة، فالقول في جميع ذلك قول الذي في يديه، وإن كان الثمر على الشجر والأرض في يد المشتري، فالقول قول المشتري، وإن كان في يد البائع، فقال المشتري: حدث بعد البيع، وقال البائع: كان قبل البيع ولم أشرط فالقول قول البائع، وللمشتري الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك.
اشترى أمةً وتقابضا وولدت واختلفا في الولد، فقال البائع: بعتك الأمة في رمضان عام أول وكانت الولادة في شعبان وأقام البينة، وقال المشتري: اشتريتها منك في شعبان وولدت في رمضان وأقام البينة والولد مشكل، فالبينة بينة البائع؛ لأن وقته أول. ولو أقر البائع أنه أخذ من الأمة ثوباً أو دراهم قبل أن يبيعها، وقال المشتري: أخذت ذلك منها بعدما اشتريت وقبضت، فالقول قول المشتري، وأما في الجماع والغلة فالقول قول البائع.
ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى عبداً وقبضه وأدى الثمن وأعتقه، ثم قال رجل للبائع: كنت بعتني الغلام قبل أن تبيعه من هذا وأعتقه وصدقه البائع في ذلك قال: يأخذ البائع منه الثمن أيضاً، ويكون في يده ثمنان حتى يرجع المشتري الذي قبض الغلام وأعتقه إلى تصديق البائع ويأخذ منه الثمن ويصير الغلام مولى الذي ادعاه أنه أعتقه أولاً،(7/156)
وإن كذبه الغلام أن يكون مولى للذي ادعى، ولا أنه أعتقه كان مولى للذي قبض وأعتق؛ لأن الغلام قدثبت ولاؤه من الذي قبضه وأعتقه فلا يتحول إلا بتصديق الغلام.
المعلى في «نوادره» : رجل قال لآخر: بعتك هذه الدار بمئة درهم وقال المدعى قبله: بل أجَّرتها بعشرة دراهم إلى الكوفة فسرت عليها، فإنه يحلف المدعى عليه على الشراء ما اشتريته بمئة درهم، فإن حلف رجع عليه المدعي للبيع بالعشرة التي أقر بها من الإجارة؛ لأنه لم يكذبه قال: بعد ما أقر له بالإجارة لم أؤاجركها (143أ3) فهذا كذاب.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا باع من آخر رطلاً من زيت في خابية فقال المشتري: أعطني من خابية غيرها، فللبائع أن لا يعطيه إلامن تلك الخابية (التي) وقع البيع عليها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع من آخر داراً ثم إن المشتري لقي البائع وقال له: لم يتهيأ لي ثمن الدار فافسخ العقد بيني وبينك، وتصدق علي بالدار التي بعتني فقال البائع: قد تصدقت عليك بالدار وفسخت البيع بيني وبينك، ولم يقل الآخر شيئاً بعد هذا الكلام قال: أجيز ذلك وأفسخ البيع فيه.
قال: لو أن رجلاً باع ثوباً له من مسكين بدرهم، ثم إن المسكين لقي البائع وقال: لإني بعشرة لا أقدر على ثمن الثوب، فإن رأيت أن تفسخ البيع وتصدقت عليّ بالثوب فقال البائع: قد تصدقت عليك به وفسخت البيع، فإنه يجوز ذلك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر داراً بألف ثم إن البائع قال للمشتري: تصدقت عليك بالدار وقبل المشتري ثم جاء البائع يطلب الثمن وقال: إنما تصدقت عليك بدارك قال: له أن يأخذ الثمن وصدقته باطلة.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل آخر عبداً وقبضه ثم جاء به مشجوجاً وقال: بعتني (العبد) مشجوجاً، فالقول قوله؛ لأن البائع يدعي لزوم البيع على المشتري فيه وهو منكر.
وفيه أيضاً: إذا باع جارية على أنه بالخيار فحدث بها عيب في يد البائع، فقال البائع للمشتري: اقبضها وأنا على خياري، فقبضها وهو يعلم بالجناية أو بالعيب أو كان قبضها بغير إذن البائع مع العلم بالجناية أو العيب، ثم إن البائع أجاز البيع ثم أراد المشتري أن يردها على البائع بالجناية التي كانت عند البائع أو بالعيب الذي حدث عنده، ليس له ذلك وقبضه بعد العلم بالجناية رضاً بالعيب.
وكذلك لو لم يقبضها ولكن أعطى البائع ثمنها بعد علمه بالجناية أو العيب وكذا لو كان قبضها ولم ينقد الثمن ولم يكن عالماً بالجناية أو العيب ثم علم بذلك بالجناية أو العيب فنقده الثمن من غير أن يأمره بذلك قاضي.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى شيئاً مما يفسد نحو السمك والفاكهة وشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، فخاف البائع أن يفسد قبل مضي مدة الخيار في(7/157)
يده فقال للمشتري: إما أن ترد البيع حتى أبيعه من غيرك أو تختاره وتقبضه، ففي القياس: لا يخير المشتري على ما أراد البائع؛ لأن المشتري ما شرط الخيار لنفسه إلا لمقصود وهو أن يكون مخيراً في المدة ولا يلزمه ضرر، فلا يكون لأحد تفويت هذا المقصود عليه بإلزامه الفسخ أو الإجارة، أكثر ما في الباب إن في عدم إلزام الفسخ والإجارة ضرر البائع إلا أن البائع لما شرط الخيار للمشتري مع علمه بحال المبيع، فقد صار راضياً بهذا الضرر والضرر المرضي لا يدفع.
وفي الاستحسان: يقال للمشتري: إما أن ترد البيع، وإما أن تأخذه ولا شيء عليك من الثمن ما لم تجز البيع أو يفسد عندك.
وجه ذلك: أن في إلزام المشتري الفسخ أو الإجارة إن كان ضرر بالمشتري لكن في عدم إلزامه ذلك ضرر بالبائع وضرر البائع أولى من ضرر المشتري؛ لأن ضرر المشتري أدنى، فإنه إذا قبضه يتمكن من أكله ومن بيعه من غيره ويتمكن من رد البيع ورد المبيع على البائع لهذا فهو متمكن من دفع الضرر عن نفسه، أما البائع لا يتمكن من دفع ضرره عن نفسه، والضرر الذي يتمكن الإنسان من دفعه أدنى بالتحمل أولى، وما يقول بأن البائع رضي بهذا الضرر هذا ممنوع؛ لأنه يحتمل أنه إنما باع رجاء أن يختار المشتري الفسخ أو الإجازة قبل الفساد، وإن رضي به لكن هذا ضرر محض، والضرر المحض لا يلزم بمجرد الرضا ولكن لا يجبر المشتري على إعطاء الثمن وإن قبضه؛ لأنه إنما أجبرناه على القبض دفعاً للضرر عن البائع وقد حصل هذا المعنى بالقبض والثمن ملك المشتري مع بقاء خياره، فلا يخير المشتري على إعطائه ولكن إن فسد عنده أو اختاره حينئذٍ يلزم إعطاء الثمن، وإن لم يفسد حتى نقض المشتري البيع ورده على البائع ولا شيء عليه من الثمن.
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن من اشترى من آخر عصيراً أو رطباً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وخاف البائع تخمر العصير وتحمض الرطب في مدة الخيار، فطلب قبض المشتري فالمشتري لا يجبر عليه وهو جواب القياس على نحو ما ذكرنا.
وفيه أيضاً: أن من ادعى على آخر أنه اشترى منه سمكة طرية في يده وجحد البائع، فأقام المشتري بينة على الشراء فخاف فساد السمكة في مدة التركة، وفيه ضرر بالبائع قال: يأمر القاضي المشتري حتى يقبض السمكة ويدفع الثمن، ثم يبيع القاضي السمكة ويضع الثمن الأول والثاني على يدي عدل، فإن زكيت البينة دفع الثمن الأول إلى البائع والثاني إلى المشتري، وإن ضاع في يدي العدل ضاع على المشتري؛ لأن بيع القاضي كبيعه ولو لم تتزك البينة ضمن المشتري قيمة السمكة؛ لأن الشراء لم يثبت فبقي قابضاً سمكة بجهة البيع، فيكون مضموناً عليه.
قال في «الزيادات» : رجل قال لغيره: هذا العبد بيني وبين فلان وفلان ثلاثاً وهما غائبان، فأنا أبيعكه بألف ولم يأمراني بذلك فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك ونقد الثمن ثم حضر الغائبان ولم يجيزا البيع لزم المشتري نصيب البائع.
واعلم بأن هاهنا ثلاث مسائل:(7/158)
إحداها: هذه، والوجه فيها: أن البيع تم في نصيبه من غير توقف، وتوقف في نصيب الغائبين على إجازتهما، فإذا لم يجيزا بطل ولا خيار للمشتري وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأن تفرق الصفقة، إنما يوجب الخيار إذا وقعت الصفقة جملة في الابتداء، ثم تفرقت بعد ذلك، والصفقة من الابتداء ما وقعت جملة حال وقوعها؛ لأنها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فامتاز نصيب البائع عن نصيب الغائبين حال وقوعها، كأنه اشترى نصيب الحاضر بصفقة ونصيب الغائبين بصفقة وهناك لا خيار للمشتري كذا هنا، فإن أجاز أحد الغائبين البيع في نصيبه، قال محمد رحمه الله: لزم المشتري نصيب المجيز بثلث الثمن أيضاً ولا خيار له، وعلى قياس قول أبي يوسف له الخيار لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وفلان وأنا أبيعكه بألف درهم بغير أمرهما فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك فبلغهما الخبر فأجاز أحدهما البيع في نصيبه وأبى الآخر، فعلى قول محمد رحمه الله: لا خيار للمشتري وعلى قول أبي يوسف له الخيار.
وجه قول أبي يوسف أن الصفقة هاهنا وقعت جملة، فإن العقد (143ب3) توقف في الكل على الإجازة، فإذا أجاز أحدهما دون الآخر، فقد تفرقت الصفقة عليه فكان له أن لا يرضى به بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الصفقة حال وقوعها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فوقعت الصفقة متفرقة من الابتداء، فلا يوجب الخيار حتى إنها لو توقفت في نصيب الغائبين جملة فقلت: بثبوت الخيار في نصيبهما إذا أجاز أحدهما البيع دون الآخر.
وجه قول محمد: أن المشتري لما أقدم على الشراء مع علمه أنهما عسى يتفقان على الإجازة، وعسى يحب أحدهما دون الآخر صار راضياً بهذا التفرق، ألا ترى أن أحد المشتريين ينفرد بالرد بخيار الشرط، وبخيار العيب باتفاق بينهما، وطريقه ما قلنا.
المسألة الثالثة: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وأنا أبيعكه بغير أمره بألف درهم فلعله يجيز البيع، فاشتراه على ذلك فحضر فلان وأجاز البيع في نصفه كان للمشتري الخيار بلا خلاف؛ لأن الصفقة وقعت جملة، فإذا أجاز صاحب العبد العقد في النصف، فقد تفرقت الصفقة عليه، ولم يصر المشتري راضياً بهذا التفرق؛ لأن الظاهر من حال المالك إذا كان واحداً أن يجيز في الكل تحرزاً عن تبعيض ملكه الذي هو عيب بخلاف ما إذا كان العبد لا يبين عن قول محمد؛ لأن الإجازة من المالكين ليس بظاهر إذ العيب ثابت في كل واحد منهما أما هي بخلافه.
قال: وإذا باع الرجل جارية من رجل ثم غاب المشتري ولا يدري أين هو فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي ثمنه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة على ذلك.
ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري، ونقد الثمن للبائع واستوثق من البائع(7/159)
بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان، والقياس: أن لا يسمع هذه البينة ولا يبيع الجارية على المشتري.
نص على هذا القياس، والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة وجه القياس في ذلك ظاهر وهو أن هذا بينة قامت على إثبات حق الغائب، وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فوجب أن لا يقبل قياساً على ماإذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب الذي لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة، وإنما لا تقبل لما قلنا.
وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره واحتاج أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما تأتي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري، فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب خصماً لإحياء الحقوق، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليندفع الضرر والبلية التي ابتلى بها البائع؛ لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري، وإقامة البينة عليه.
وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه؛ وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا يسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر إلا أنا تركنا القياس فيما إذا كان لا يعرف مكان المشتري لينزع البلية التي ابتلى بها البائع وليس في قبولها إزالة يد البائع الغائب عما في يده؛ لأن حق البائع إنما يستوفى من الجارية التي في يده، لو ادعى أنها له كان القول قوله، وهذا لا يجيز ترك القياس إذا قامت البينة على إنزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده.
حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وإنما شرط إقامة البينة في هذه المسألة؛ لأنه ادعى إيجاب الحفظ على القاضي في هذا المال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وعلى القاضي حفظه؛ لأنه مما يخشى عليه التلف، فكان للقاضي أن لا يلتزم هذا الحفظ إلا بإقامة البينة على ذلك.
وكان كالرجل جاء بدابة إلى القاضي وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي أن لا يصدق إلا ببينة، فكذلك هاهنا لا يصدقه، ولا يبيع إلا بينة؛ ولأنه يجوز أنه كان غاصباً لهذه الجارية، واحتال بهذه الحيلة ليبرأ عن ضمانها، ويسقط نفقتها عن نفسه، فكان للقاضي أن لا يتعرض له من غير بينة، ثم إنما يوفيه الثمن من حيث أنه ثبت بما أقام من البينة دين على المشتري من حيث أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضموناً على القابض بالمثل، فيكون بمعنى(7/160)
القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي: أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر كان له ذلك بأن يعرف ذلك من الناس، وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة ثم جاء الغائب، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانياً، فلو صار البائع مقضياً عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك، فهذا يبين لك أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء على الغائب.
ثم إذا باع القاضي الجارية وأدى الثمن إلى البائع، فإنه يأخذ منه كفيلاً ثقة لجواز أنه أخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن فيأخذ كفيلاً نظراً للمشتري، حتى إنه إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل، فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضعية فعلى المشتري، وإن كان فضل فللمشتري أن يتبع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري.
ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضعية تكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري، وقد أدى البعض ولم يؤد البعض فما (لم) يؤد يكون ديناً على المشتري، فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله؛ لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار (144أ3) ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحساناً لدفع البلية عن البائع، وهو إسقاط النفقة عنه، وإنما يحتاج إلى إسقاط النفقة إذا كان المبيع حيواناً، وإن كان يعرف مكان المشتري، فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع على ذلك.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة، فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة، وأقام البينة على ذلك فطلب من القاضي بيعها أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، فإن القاضي يبيع ذلك أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وإن كان يعرف مكانه إن كان يرجو قدومه عن قريب يأمره بالنفقة حتى لا تزول العين عن ملكه، وإن كان لا يرجو قدومه عن قريب، وخاف أنه متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربو على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع إلى النفقة على جميع ما له فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وهاهنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين عن ملكه؛ لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت مضمونة عليه، فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف مكانه، ولكن يأمره بطلب المشتري، وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر المشتري الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانياً؛ لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم حاضر.(7/161)
قال في «الزيادات» : رجل باع عبداً من رجل ووهبه عبداً آخر فنقد المشتري الثمن وقبضهما ثم مات أحدهما، فأراد المشتري أن يرد الباقي بالعيب، فقال البائع: لم أبعك هذا إنما بعتك الميت، فالقول قول (البائع لأن) المشتري يدعي عليه حق الرد بسبب العيب وهو ينكر؛ ولأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملكه بالهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فلا يكون له حق الرد بسبب العيب.
ولو أراد البائع أن يرجع في الحي بحكم الهبة والمشتري يقول: الحي مبيع والموهوب هو الميت، فالقول قول البائع وله أن يرجع في الحي؛ لأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملك الحي بجهة الهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فكان له حق الرجوع فيه.
ثم يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإذا حلف وجب على البائع رد الثمن، ووجب (على) المشتري رد قيمة الميت؛ لأنهما لما حلفا لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيجب على كل واحد منهما رد ما قبض، إلا أن رد الميت متعذر، فيقام رد قيمته مقام رده.
ولو كان باعه عبداً بألف درهم وباعه آخر بمئة دينار وتقابضا، ومات أحدهما ورد المشتري العبد الحي بالعيب واختلفا في ثمنه، فالقول في بيان الثمن قول المشتري؛ لأن تمليك الثمن استفيد من جهته، فكان القول في بيان جهة التمليك قوله، فيرجع على البائع بما أنه ثمن المردود، ولو لم يمت واحد منهما ورد المشتري المعيب بالعيب يرجع بالثمن الذي ادعاه ثم يتحالفان في الباقي؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود أنه دراهم أو دنانير اختلاف في ثمن الباقي وأنه يوجب التحالف فيتحالفان ويترادان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبض الكر الذي اشترى ولم يدفع الثمن، فلما حل السلم قضاه المسلم إليه بذلك الكر المشترى كر السلم قبل أن ينقده الثمن، فهذا لا يجوز؛ لأن رب السلم يصير مشترياً من وجه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وإنه لا يجوز.
بيانه: أن القبض بحكم الشراء شبيه بالشراء من حيث إنه يستفاد به ملك التصرف، ويتأكد به ملك العين، وفي باب السلم يثبت به ملك العين مع ملك التصرف، فكان شراء من هذا الوجه؛ لأنه ليس بشراء من كل وجه؛ لأن أصل الملك كان ثابتاً قبل القبض ولما كان القبض بحكم الشراء شراء من وجه، صار رب السلم باعتباره مشترياً من وجه ما باع قبل نقد الثمن، والثابت من وجه في باب الربا احتياطاً، ولا وجه إلى أن يجعل رب السلم مشترياً هذا الكر بكراء السلم؛ لأن المقبوض في باب السلم في حكم العين ما يتناوله العقد؛ إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا استبدالاً بالمسلم فيه، وذلك لا يجوز، فجعل هذا في حكم العين ما يتناوله العقد، ولما كان بدله مئة درهم وقد كان باع عين هذا(7/162)
الكر قبل ذلك بمئتي درهم فيصير مشترياً عند القبض من وجه ما باع قبل نقد الثمن فلا يجوز.
وهذه المسألة حجة لأبي حنيفة على أبي يوسف في رجل أسلم إلى رجل دراهم في ثوبين بعينين فقبضهما أنه لا يبيع واحد منهما مرابحة من غير بيان عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن المقبوض لما جعل في حكم عين ما يتناوله العقد صار بمنزلة ما لو اشترى ثوبين بعينين، وهناك لا يملك بيع أحدهما مرابحة من غير بيان فهاهنا كذلك، فإن قبض رب السلم الكر الذي باعه من المسلم إليه بكر السلم قبل نقد الثمن مع أنه لا يجوز فطحنه، أو هلك عنده كان على رب السلم للمسلم إليه طعاماً مثل طعامه؛ لأنه مقبوض بحكم القضاء الفاسد، وذلك مضمون بالمثل، فهذا كذلك، فإن قضى القاضي عليه بكر مثله فاصطلحا على أن يكون قضاء من المسلم فيه لم يجز ذلك لوجهين:
g
أحدهما: أن استيفاء السلم إنما يقع بقبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضاً صحيحاً ولم يوجد، ولأن المثل فيما يضمن بالمثل قائم مقام المضمون يجب بالسبب الذي يجب رد المقبوض (به) ثم القضاء إذا لم يقع بالمضمون، فكيف يقع بما هو قائم مقامه؟ فإن قبض المسلم إليه الكر الذي قضى به القاضي ثم قضاه إياه من طعام السلم جاز؛ لأنه وجد قبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضاً صحيحاً، فحصل به قضاء السلم، وإنما قلنا بأن هذا القبض صحيح؛ لأنه بهذا القبض لم يصر مشترياً ما باع قبل نقد الثمن؛ لأن هذا الكر الذي اقتضاه رب السلم ليس هو الكر الذي باعه لا حقيقة ولا حكماً بل بدل عن ذلك الكر؛ لأن الاستبدال بالكر الذي وجب على رب السلم قبل القبض جائز؛ لأنه دين وجب لا بعقد صرف ولا بعقد صرف سلم.
قال محمد رحمه الله: وهذا كالمسلم إليه اشترى من رب السلم كر حنطة بعينها بمتاع فلم يقبضه (144ب3) قضاء رب السلم عن المسلم فيه كان باطلاً؛ لأنه بمنزلة بيع المبيع قبل القبض، وإن قبضه المسلم إليه ثم قضاه صح وقد وقع في بعض النسخ.
وهذا بمنزلة ما إذا اشترى رب السلم من المسلم إليه كر حنطة بمتاع فقضاه إياه قبل القبض، وهذا وقع غلطاً؛ لأن المسلم فيه على المسلم إليه لرب السلم أيضاً، وما على الإنسان لا يتصور اقتضاؤه بما عليه حتى يكون الفساد بعلة استبدال المبيع قبل القبض، والصحيح ما وقع في عامة النسخ ولو لم يهلك الكر الذي قبضه رب السلم ولم يطحنه ولكن تعيب عنده، فإن شاء المسلم إليه قبضه ولا شيء له، وإن شاء تركه وضمنه حنطة؛ لأنه مضمون على رب السلم بحكم القضاء الفاسد، وهذا الضمان مثل ضمان الغصب.
والجواب في الحنطة المغصوبة إذا تعيبت أن المغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه مثله، وإن شاء أخذه، ولا شيء له إذ الجودة لا قيمة لها بانفرادها في أموال الربا فهاهنا كذلك، فإن ضمنه مثله فجعلاه قصاصاً من السلم لم يجز إلا أن يقبضه المسلم إليه ثم(7/163)
يعطيه بالسلم؛ لأن حق المسلم إليه انتقل إلى كر مثله في الذمة بالتضمين بالمثل كما في الاستهلاك، وهناك الجواب ما قلنا فهاهنا كذلك.
فإن اختار أخذ الكر فلم يأخذه حتى اصطلحا على أن يكون قصاصاً بكر السلم جاز؛ لأن ما مضى من القبض، إن فسد فحالة المقاصة القبض قائم والقبض مستدام وما يكون مستداماً كان لدوامه حكم الإنشاء، فصار كأن المسلم إليه قبضه ثم سلمه إلى رب السلم عن كر السلم بعد ما دخله عيب ولو كان كذلك كان جائزاً.
فإن اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن بعد تعيب المبيع صحيح على ما بينا قبل هذا، فإن رضي أحدهما أن يكون قصاصاً، وأبى الآخر لم يكن قصاصاً إلا بتراضيهما، وهذا لا يشكل في حق رب السلم؛ لأن حقه في الجيد فلا يلزمه المعيب إلا برضاه، إنما يشكل في حق المسلم إليه؛ لأن حق رب السلم قبله في الجيد، فإذاً يجوز بالمعيب ينبغي أن يجوز، ألا ترى أن هذا الكر المعيب لو قبضه المسلم إليه ثم قبضه رب السلم بحقه من غير رضا المسلم إليه صح، ولكن الوجه في هذا أن يقال بأن حق المسلم إليه ثابت في الجودة، ولهذا كان له أن يترك هذا الكر المعيب فإذا آل الأمر إلى أن يسلم له لم يكن راضياً بسقوط حقه عن الجودة، ومع بقاء حقه في الجودة لا تقع المقاصة إلا برضاه.
بخلاف ما إذا قبضه المسلم إليه ثم أخذ منه رب السلم بحقه حيث يصير قصاصاً من غير رضا المسلم إليه؛ لأن هناك الكر المعيب سلم له؛ لأن السلامة بالوصول وقد وصل إليه، أما دوام الوصول ليس بشرط، فلهذا افترقا.
لم يذكر في «الكتاب» ما لو اصطلحا على المقاصة قبل أن يختار المسلم إليه شيئاً قالوا ويجب أن يجوز؛ لأن اصطلاحهما على المقاصة لا تصح إلا بعد أن يختار المسلم إليه أخذ الكر، فيتضمن ذلك اختيار الكر سابقاً على المقاصة.
ثم إن محمداً رحمه الله أعاد مسألة الأول الباب فقال: لو أن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبضه، ولم يدفع الثمن حتى حل السلم، ثم إن رب السلم غصب الكر الذي اشتراه المسلم إليه فجعله قصاصاً بكر السلم لا يكون قصاصاً؛ لأنهما لو تراضيا على هذه المقاصة لا يكون قصاصاً لما مر في أول الباب، فإذا رضي به أحدهما وأبى الآخر أولى.
ولو غصبه من المسلم إليه رجل أجنبي فأحالة المسلم إليه رب السلم على الغاصب ليعطيه ذلك من طعام السلم لا يجوز، وكذلك لو أودعه عند رجل ثم أحال رب السلم به لم يجز، لأن المحتال عليه يقتضي بأمر المسلم إليه بأمره لا يجوز فكذا إذا قضاه غيره بأمره قال: إلا إذا أصابه عيب فحينئذ يصح اقتضاؤه من المحتال عليه كما يصح من المسلم إليه.
غير أن بين مسألة الغصب وبين مسألة الوديعة فرقاً من وجه: أن في مسألة الغصب لو هلك الكر عند المحتال عليه ما تعيب حتى صحت الحوالة، وفي مسألة الوديعة تبطل، وإنما جاء الفرق باعتبار أن مسألة الغصب ما يتعلق به الحوالة هلك صورةً لا معنى؛ لأن(7/164)
مثله قد وجب فبقيت الحوالة ببقاء مثله، أما في مسألة الوديعة ما تعلق به الحوالة هلك صورةً ومعنىً، لأنها هلكت أمانة فلهذا افترقا.
ولو كان الغاصب استهلك الكر قبل أن يحدث عيب، ثم إن المسلم إليه أحال رب السلم بكرّه على الغاصب ليعطيه من الكر الذي له في ذمته كان جائزاً؛ لأنه ملك الكر في ذمته بسبب الغصب، وهو بدل عن الطعام المبيع، فلم يكن في قضاء طعام السلم به بيع ما اشترى بأقل مما اشترى.
وإن كانت الحوالة قبل هلاك الكر قد بينا أنها باطلة، فإن هلكت ووجب مثلها لم تعد الحوالة جائزة؛ لأنها وقت وقوعها وقعت باطلة والحوالة متى وقعت باطلة لا تعود جائزة إلا بالتجديد ولو كان رب السلم أخذ الكر المبيع قضاء من طعام السلم مع أنه لا يجوز فحدث به عيب في يده، فلم يسترده المسلم إليه ولم يجعلاه قصاصاً حتى طحنه رب السلم، ثم اصطلحا على أن يجعلاه قصاصاً لم يكن لهما ذلك.
فرق بين هذا وبينما إذا جعلاه قصاصاً بعد العيب قبل الطحن يجوز، والفرق: هو أن بالقبض الأول لم يقع الاستيفاء في الوجهين جميعاً، غير أن الوجه الأول: القبض القائم لا يصلح لاستيفاء الحنطة بالدقيق، لا يكون إلا بطريق الاستبدال، وإنه لا يجوز، أما في الفصل الثاني القبض القائم صالح للاستيفاء؛ لأن الحنطة قائمة بعينها فجاز أن تقع المقاصة إذا جعلاه قصاصاً والله أعلم.
روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في طعام أو غيره سلماً فاسداً وقبض المسلم إليه المئة، ثم علما أن السلم فاسد فأرادا أن يصححاه في ذلك المجلس أو بعدما افترقا، قال أبو يوسف: إن كانت المئة قائمة بعينها في يد المسلم إليه فلهما ذلك.
رجل قال لآخر: بعني كر طعام وسط على أن توفيه إلى شهر في موضع، كذا بمئة درهم ودفع إليه مئة قال أبو يوسف: هو سلم صحيح.
بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف: إذا أسلم ديناً له على رجل في سلم ثم علم أنه لا يجوز فجعل له رأس المال، ودفعه إليه قبل أن يفترقا جاز له استحساناً.
قال: إذا اشترى الطعام بالعبد، وهو الثمن وللطعام أجل وموضع يوفيه فيه وكيل معلوم وضرب معلوم فهو سلم إن سماه سلماً أو كنى عن اسمه، فإن افترقا قبل أن يقبض العبد انتقض.
ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء:» رجل أرسل غلامه يجلب عليه ثياباً ليشتري لرجل ثوباً فنادى الغلام في السوق من معه ثوب كذا بكذا، فقال رجل: أنا، فقال الغلام: هاته فأعطاه إياه، فإن هذا قد أخذه على سوم وهو ضمان للثمن الذي سماه، فإن أراد الغلام أن يرجع على الذي أرسله (فقال الذي أرسله:) لم آمرك (145أ3) أن تقبض الثوب، وإنما أمرتك أن تجلب علي مع غلمان القوم، فلا ضمان عليه بعد أن يجلب أنه لم يأمره بالمساومة وقبض الثوب، ولو أقر بذلك ضمنه إذا أقر بقبض الغلام، وإن لم يقر(7/165)
بقبضه فلا ضمان عليه، وإن كان الغلام صغيراً، وقد أذن له الأب في البيع والشراء فهو ضامن عليه من قبل أن رب الثوب سلطه على القبض، وليس يجوز مساومته، ولو أن الغلام حين نادى من معه ثوب كذا بكذا، وقال رجل: أنا قال الغلام: إليّ أريده لفلان، فقال ذلك الرجل: خذه واذهب به، فضاع فلا ضمان عليه هذا رسول من رب الثوب إلى الآمر بالجلب.
ولو دفع إلى الآمر في هذه الصورة وضاع من يد الآمر لم يضمن الآمر؛ لأنه لم يقع في يده على سبيل المساومة.
ولو أن رجلاً أرسل رسولاً إلى بزاز أن ابعث إليّ ثوب كذا وكذا فبعث إليه البزاز مع رسوله أو مع غيره وضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر فلا ضمان على الرسول، فبعد ذلك ينظر إن كان الذي ضاع منه الثوب رسول الآمر فالآمر ضامن؛ لأن رسوله قبض الثوب على سبيل المساومة وقبض رسوله كقبضه، وإن كان رسول رب الثوب، فلا ضمان على الآمر إلا إذا وصل الثوب إليه فحينئذ يضمنه.
ولو أن (رجلاً) بعث بكتاب إلى رجل مع رسول أن ابعث إليَّ ثوب كذا ففعل، وبعث به مع الذي أتاه بالكتاب ولم يكن يسأل الآمر حتى يصل إليه، إنما الرسول في الكتاب وليس كقوله انطلق فتقاضى انطلق فخذ كذا، ولو بعث رسولاً يجلب عليه ثياباً فقال الرسول: من معه ثوب كذا بكذا فقال رجل: أنا، فقال صاحب الثوب: علي، فقال الرسول: على أستاذي أو على فلان ولم يقل استاذي أو قال: من يريده فقال: فلان فقال: هاك فأخذه فلا ضمان على الرسول ولا على الآمر إن ضاع في يد الرسول، وإن وصل إلى الآمر فضاع من عنده فهو الضامن المساوم؛ لأن الذي أرسل لا ضمان على الرسول والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.(7/166)
كتاب الصرف
هذا الكتاب يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً:
1 * في بيان معنى هذا الاسم.
2 * في بيع الدين بالدين.
3 * في الساعات التي يشترط فيها قبض البدلين حقيقة.
4 * في الدراهم المغشوشة تباع بالفضة الخالصة.
5 * في الفلوس.
6 * في خيار الرؤية والرد بالعيب والاستحقاق في باب الصرف.
7 * في الرهن والحوالة وفي الكفالة في الصرف.
8 * في الحط عن بدل الصرف والزيادة فيه.
9 * وفي الصلح في الصرف.
10 * في بيع الإناء وزناً فيزيد أو ينقص.
11 * في السيوف وفي بيع الحلي الذي فيه الآلىء والجواهر، وفي بيع المملوكات ما يجوز وما لا يجوز.
12 * في الوكالة في الصرف.
13 * في الصرف مع مملوكه وقرابته وشريكه ومضاربه والوصي.
14 * في الصرف في المرض.
15 * في الاستبدال ببدل الصرف.
16 * فيما يكون قصاصاً ببدل الصرف وما لا يكون.
17 * في بيع الموزون بجنسه أو بخلاف جنسه وفي بيع المكيل كذلك.
18 * في تصرف المتصارقين في ثمن الصرف قبل القبض.
19 * في بيع الصرف مرابحة.(7/167)
20 * في الصرف في دار الحرب.
21 * في الصرف في الغصب والوديعة.
22 * يشتمل على الإجازة وعلى الصرف، ويدخل فيه استهلاك المشتري في عقد الصرف قبل القبض.
23 * في الصرف في المعادن وتراب الصوّاغين ويدخل فيه الاستئجار لتخلص الذهب والفضة من تراب المعادن.
24 * في المتفرقات.(7/168)
الفصل الأول: في بيان معنى هذا الاسم وشرط جواز هذا المسمى وحكمه
أما بيان معنى هذا الاسم فنقول: الصرف اسم لنوع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض، إما مبادلة الذهب أو مبادلة الفضة بالفضة أو مبادلة أحد الجنسين بصاحبه مفرداً كان أو مجموعاً مع غيره هذا هو لفظ «القدوري» ، وقوله: أو مجموعاً مع غيره يريد به مثلاً إذا باع ثوباً وذهباً بفضة، فحصة الذهب صرف؛ لأنه يقابله ثمن وحصة الثوب بيع.
والأموال أنواع ثلاثة:
نوع منها: هو ثمن في العقد على كل حال وهو الدراهم والدنانير.
ونوع منها: وهو مبيع في العقد على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال كالعروض والحيوانات وأشباهها.
ونوع منها: هو بين المبيع وهو المكيلات والموزونات، وقد ذكرنا ذلك بتمامه في أول كتاب البيوع، والمبيع يخالف الثمن في أحكام كثيرة قد ذكرنا في ذلك في أول كتاب البيوع.
وأما بيان شرائط جواز هذا المسمى فنقول: شرائط جواز هذا المسمى على الخصوص ثلاثة:
أحدها: أن لا يفترقا عن تقابض، والمراد منه: تفرق الأبدان لا الذهاب عن موضع الجلوس للعقد لما نتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، ثم قبض أحد البدلين قبل التفرق في بيع الدرهم (بالدرهم) ، وفي بيع الدينار بالدينار، وفي بيع الدرهم بالدينار، واشتراطه على موافقة القياس؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين، إما يتعينان بالقبض فشرطنا قبض أحد بدلي الصرف لتزول الدينية عن أحد بدلي الصرف، وإنه على موافقة القياس كما في سائر البياعات، أما اشتراط قبض البدل الآخر على مخالفة القياس.
ألا ترى أنه لم يشترط ذلك في سائر البياعات، وكذلك اشتراط قبض أحد بدلي الصرف فيما يتعين بالتعين من الذهب والفضة وهو ما إذا باع البئر بالبئر أو مع القلب بالقلب على مخالفة القياس، فإن في سائر البياعات، إذا بيع عين بعين لا يشترط قبضهما، ولا قبض أحدهما قبل التفرق يجب أن يكون في الصرف، كذلك شرط قبض أحد البدلين إذا بيع عين القلب بالقلب، وشرط قبض البدلين إذا بيع الدراهم بالدراهم، والدنانير بالدنانير، عرف ذلك بالنصوص من جملة ذلك قوله عليه السلام: «الفضة بالفضة وزن بوزن يد بيد والذهب بالذهب وزن بوزن يد بيد» .
فإن قيل: كيف يجوز أن يقال بأن قبض بدلي الصرف قبل الافتراق شرط جواز(7/169)
العقد لإحالة العقد، وشرط العقد ما يشترط حالة العقد كالشهادة في باب النكاح والمالية في بيع العين بالثمن، فأما ما يجب بعد العقد يكون حكم العقد لا شرط جواز العقد.
قلنا: شرط جواز العقد ما يشترط مقارناً للعقد إلا أن اشتراط القبض مقارناً لحالة العقد من حيث الحقيقة غير ممكن من غير تراض لما فيه من إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه فعلقت الجواز بقبض يوجد في المجلس؛ لأن مجلس العقد حكم حالة العقد كما في الإيجاب والقبول، فصار القبض الموجود بعد العقد في مجلس العقد كالموجود وقت العقد من حيث الحكم، ولو كان موجوداً وقت العقد من حيث الحكم، ثم اختلف المشايخ فيما بينهم أن التعارض قبل الافتراق (145ب3) شرط صحة العقد أو شرط بقاء العقد على الصحة وإلى كل واحد أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، فعلى قول من يقول: أنه شرط بقاء العقد على الصحة لا يتأتى هذا، وعلى قول من يقول شرط صحة العقد يتأتى الإشكال، ولكن وجه الجواب ما ذكرنا.
الشرط الثاني: أن لا يكون في هذا العقد خيار الشرط لأحدهما؛ لأن الخيار استثناء لحكم العقد وهو الملك عن العقد، فيمتنع الملك ما بقي الخيار، وإذا امتنع الملك يمتنع القبض الذي يحصل به التعيين الذي هو شرط جواز هذا العقد.
الشرط الثالث: أن لا يكون في هذا العقد أجل؛ لأن شرط الأجل يتقدم استحقاق القبض الذي به يحصل به التعيين، فرجع الكل إلى معنى واحد أن الفساد بسبب انعدام القبض الذي يحصل التعيين، وخيار الرؤية وخيار العيب يخالف خيار الشرط في هذا الباب؛ لأنه بختار العيب والرؤية لا يمتنع الملك فكان القبض الذي يحصل به التعيين ثابتاً، فيصح العقد ولا كذلك الأجل وخيار الشرط، فهذا هو الفرق بين هذه الفصول، وإن افترقا من غير تقابض أو شرط الخيار أو الأجل فسد البيع ثم لا يصح بعد ذلك، أما إذا افترقا من غير تقابض؛ فلأنه فات شرط الصحة وهو التقابض، وأما إذا كان فيه خيار الشرط، فكذلك لهذا المعنى أيضاً، وأما إذا كان فيه أجل قائم يفسد العقد إذا لم يتقابضا، فأما إذا تقابضا لا يفسد العقد؛ لأن الإقباض يكون إسقاطاً للأجل ولو شرطا الخيار ثم أبطلا قبل الافتراق أو كان الخيار لأحدهما فأبطله الذي هو له قبل الافتراق جاز استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
والكلام فيه نظير الكلام فيما إذا شرط الخيار في بيع العين أربعة أيام ثم أسقط الخيار قبل دخول اليوم الرابع، وقد مر الكلام فيه في كتاب البيوع، وإن كان لأحدهما أجل فيما عليه أولهما فأبطل ما لهما من الأجل قبل التفرق جاز استحساناً، وعن أبي يوسف أن صاحب الأجل إذا أسقط الأجل لا يبطل حتى يرضى به صاحبه.
وفرق بين هذا وبين الخيار والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأجل يثبت حقاً لصاحب الأجل وصاحب الحق يتمكن من إسقاطه من غير أن يتوقف ذلك على رضا غيره كذا هاهنا وصاحب الحق يتمكن من إسقاطه من غير أن يتوقف إلي.(7/170)
ثمّ فرق بين بيع الدراهم (بالدراهم) والدنانير بالدنانير وبيع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير، حيث لم يشترط في بيع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير قبض البدلين قبل الافتراق، ويكتفي بقبض أحد البدلين.
والفرق: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين كما في سائر العقود التي ليست بصرف، وإن كان العقد صرفاً قبل الافتراق لكن عرفنا اشتراطه في عقد الصرف وهو بيع الدرهم بالدرهم وبيع الدينار بالدينار وبيع أحد الجنسين بالآخر بالنص، والنص الوارد ثمة لا يكون وارداً في بيع الفلس بالدراهم؛ لأن ثمة الفلوس دون ثمنية الدراهم والدنانير؛ لأن ثمنية الفلوس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس بالدراهم أو بالدنانير على أصل القياس.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا اشترى فلوساً بدراهم على أن بائع الدراهم بالخيار فدفع الدراهم ولم يقبض الفلوس حتى افترقا، فالبيع فاسد؛ لأن قابض الدراهم لم يملك الدراهم لما شرط الخيار لبائع الدراهم؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه فكأنهما افترقا من غير قبض أصلاً، وإن كان الخيار لبائع الفلوس وقد قبض الدراهم، فالبيع جائز؛ لأن بائع الفلوس يملك الدراهم ههنا بالقبض، لأنه مشتري الدراهم وخيار المشتري لا يمنع الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض، وقد وجد قبض أحد البدلين، وإنه كافٍ في بيع الفلوس بالدراهم أو الدنانير، وعلى قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يجوز هذا العقد؛ لأن عنده خيار الشرط كما يمنع ثبوت الملك للبائع في البدل الذي من جانب المشتري يمنع ثبوت الملك للمشتري في البدل الذي من جانب صاحبه، فلا يملك مشتري الدراهم بالقبض فيتحقق الدينية من الجانبين.
ولو شرط النّساء في أحد البدلين في بيع الدراهم بالدنانير، وأشباه ذلك ثم إن المشروط له النسيئة نقد البعض دون البعض فسد البيع في الكل في قول أبي حنيفة، وذلك بأن يشتري ديناراً بعشرة دراهم إلى شهر فنقد خمسة ثم افترقا لا يجوز في حصة الخمسة، فإن اشترى بخمسة نقد وبخمسة نسيئة فنقد الخمسة فافترقا فالصرف فاسد كله؛ لأن العقد وقع على الفساد، ولو نقد العشرة كلها جاز وهذا نقض لما كان قبله ذكر المسألة على هذا الوجه في «المنتقى» .
وفي «القدوري» : لو اشترى ديناراً بعشرة دراهم بعينه ثم نقد بعض العشرة دون البعض فسد البيع في الكل في قول أبي حنيفة، وعندهما يصح بمقدار ما قبض ولو قبض الدراهم وهي مستحقة فالقبض صحيح، وإذا أجازه المالك ينفذ.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة حد التفرق فاعلم بأن التفرق الذي يوجب بطلان عقد الصرف قبل التقابض فيأخذ كل واحد منهما في جهة أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر، فهذا تفرق معتبر يوجب بطلان العقد سواء أكان البيع ديناً بدين كالدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير أو أحدهما بصاحبه.
أو كان عيناً بعين كالأواني والقلب وهذا؛ لأن القلب والآنية وإن كان يتعين بالتعيين إلا أن معنى الثمنية لا تبطل بالصنعة؛ لأن هذا معنى(7/171)
لازم بأصل التخليق فألحق بجنسه وهو الدراهم والدنانير، فيشترط قبض البدلين في المجلس كما في الدراهم والدنانير.
ولو قاما عن مجلس الصرف فذهبا معاً في جهة واحدة فرسخاً أو ما أشبهه ثم تقابضا قبل أن يفارق أحدهما صاحبه جاز العقد، وهذا دليل على أن المعتبر التفرق بالأبدان لا بالذهاب عن مجلس العقد، قال: وكذلك لو طال قعودهما في مجلس العقد أو ناما في مجلس العقد أو أغمي عليهما ثم تقابضا قبل أن يفارق أحدهما صاحبه جاز هكذا ذكر القدوري في «كتابه» .
وذكر مسألة النوم والقعود والإغماء علي بن الجعد عن أبي يوسف على نحو ما ذكر القدوري، وذكر ابن رستم عن محمد مسألة الذهاب معاً ميلاً أو أكثر على نحو ما ذكر القدوري، وذكر مسألة النوم بخلاف ما ذكر القدوري فقال: إذا ناما أو نام أحدهما فهذه فرقة، ولو ناما جالسين لم تكن فرقة.
وعن محمد رواية أخرى: إذا نام طويلاً بطل الصرف، وإن كان يسيراً فهو على صرفه فهذه المسألة دليل أيضاً أن العبرة للتفرق بالأبدان، والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنتظره» ، وقال أيضاً: (146أ3) وإن وثب من سطح فثب معه، وكذلك إذا قام أحدهما عن المجلس وبقي الآخر كذلك لا يبطل الصرف ما لم يتفرقا؛ لأنهما لو قاما معاً لا يبطل الصرف فإذا قام أحدهما أولى.
قال القدوري في «كتابه» : ولا يشبه هذا خيار المخيرة، يريد به: أن خيار المخيرة يبطل بالقيام عن المجلس؛ لأن خيار المخيرة يبطل بالإعراض والقيام عن المجلس دليل الإعراض.
قلنا: بطلان الصرف بالافتراق بالأبدان قبل قبض البدلين، وذلك يتحقق بمجرد قيام أحدهما أو قيامهما عن المجلس.
وعن محمد رحمه الله رواية أخرى: أنه جعل الصرف بمنزلة خيار المخيرة حتى قال: يبطل بما هو دليل الإعراض كالقيام عن المجلس والنوم طويلاً وأشباه ذلك.
وعن محمد: إذا كان لرجل على غيره ألف درهم ولذلك الغير عليه مئة دينار فأرسل من عليه الدراهم إلى صاحبه رسولاً، وقال: بعتك الدنانير التي عليك بالدراهم التي لك علي فقال صاحبه: قد قبلت فهو باطل علل، قال: من قبل أنهما تصارفا وهما مفترقان ومعنى هذا الكلام أن عبارة الرسول تنتقل إلى المرسل، فكأن المرسل باشر البيع مع صاحبه وهما مفترقان، إلا أن الافتراق في غير الصرف ليس بضائر.
وعن محمد فيمن قال لقوم: اشهدوا أني اشتريت من ابني الصغير هذا الدينار بعشرة دراهم، ثم قام قبل أن يزن العشرة فهو باطل؛ لأنه لا يمكن اعتبار الافتراق بالأبدان؛ لأن العاقد هو فيعتبر المجلس والله أعلم.(7/172)
الفصل الثاني: في بيع الدين بالدين وبالعين
وإذا باع الرجل ديناراً بدراهم وليس عند هذا دراهم، ولا عند ذلك الدينار فنقد هذا الدراهم، وذلك الدينار وتقابضا قبل أن يفترقا جاز.
فرق بين هذا وبينما إذا باع مكيلاً ليس عنده من آخر تمكيل ليس عند الآخر، ونقد كل واحد منهما ما باعه وتقابضا حيث لا يجوز، والفرق: أن في مسألة المكيل ما يقع عليه لفظ البيع مبيع فيصير بائعاً ما ليس عنده، وذلك لا يجوز أما في مسألة الدراهم بالدنانير يصير مشترياً بما ليس عنده، والشراء بما ليس عند الإنسان صحيح.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى فلوساً بدراهم وليس عند هذا فلوس ولا عند هذا دراهم، ثم إن أحدهما دفع وتفرق جاز؛ لأن كل واحد منهما ثمن فيصير كل واحد منهما مشترياً بثمن ليس عنده وذلك جائز، وإنما اكتفى بنقد أحدهما لما ذكرنا قبل هذا: أن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين قبل الافتراق.
وإن لم ينقد واحد منهما حتى تفرقا لم يجز؛ لأن هذا دين بدين، فإذا اشترى ديناراً بدراهم وليس عند هذا دينار ولا عند هذا دراهم فنقد أحدهما وتفرقا لم يجز؛ لأن هذا صرف، وفي الصرف يشترط قبض البدلين قبل التفرق، ولو باع تبر فضة بفلوس بغير أعيانها وتفرقا قبل أن يتقابضا فهو جائز؛ لأن الدين هاهنا بمنزلة العروض، فكأنه باع عرضاً بفلوس بغير أعيانها، وهناك لا يشترط التقابض كذا هاهنا ولم يكن الدين عنده لم يجز بمنزلة ما لو باع عرضاً ليس عنده بفلوس، وإذا اشترى شيئاً بدين وهما يعلمان أنه لا دين عليه لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة ما لو اشترى بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يصير ثمناً، ولو اشترى بدين مظنون ثم تصادقا على أنه لا دين فالشراء صحيح بمثل ذلك الدين.
الفصل الثالث: في الساعات التي يشترط فيها قبض البدلين حقيقةوما يكتفي فيه بقبض أحدهما حكماً، وما يكتفي منها بقبض أحدهما حقيقة، وما لا يكتفي
مسائل هذا الفصل قد ذكرناها بتمامها في أول الفصل السادس من البيوع فلا نعيد ذكرها.(7/173)
الفصل الرابع: في الدراهم المغشوشة تباع بالفضة الخالصةوفي الدراهم المغشوشة يشتري بها متاع وزناً أو عدداً بعينها أو بغير عينها
مسائل هذا الفصل وقد ذكرنا في أول الفصل السادس من البيوع فلا نعيدها.
الفصل الخامس: في الفلوس
بعض مسائل هذا الفصل ذكرنا في أول الفصل السادس من البيوع أيضاً: فذكر هاهنا ما لم يذكر ثمة، فمن جملة ما لم يذكر ثمة:
إذا اشترى الرجل متاعاً بعينه أو فاكهة بعينها بفلوس ليست عنده فهو جائز؛ لأن الفلوس كالدراهم والدنانير، ولو اشترى شيئاً بعينه مما ذكرنا بدراهم أو بدنانير ليست عنده جاز الشراء كذا هاهنا.
وإذا اشترى متاعاً بعينه بفلوس بعينها فله أن يعطي غيرها مما يروج بين الناس لما ذكرنا أن الفلوس ثمن، فصار الشراء بالفلوس بمنزلة الشراء بالدراهم.
ولو اشترى متاعاً بعينه بدراهم بعينها كان له أن يعطي مثل تلك الدراهم كذا هاهنا.
فإن قيل الفلوس إنما صارت ثمناً باصطلاح الناس لا بالشرع، فإذا عينا الفلوس في العقد فقد قصدا تعليق العقد بالمعين وجعله مثمناً يجب أن يبطل الاصطلاح على الثمينة في حقهما، كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما، فإنه يجوز وينفسخ الاصطلاح على الثمينة في حقهما تحقيقاً لجواز البيع إذ لا يجوز هذا البيع مع بقاء الثمينة.
والجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إن التعيين محتمل، يجوز أن يكون لتعليق العقد بالمعين، ويجوز أن يكون لبيان قدر الواجب وصفته فكأنه قال: بعت منك بمثل هذه الفلوس، فإن كان البيع لتعليق العقد به ينفسخ ذلك الاصطلاح السابق، وإن كان لبيان القدر الواجب في الذمة وصفته لا ينفسخ الاصطلاح السابق، فلا ينفسخ الاصطلاح بالاحتمال حتى لو تصادقا أنهما قصدا تعليق العقد بعينه يقول بأنه يبطل ذلك الاصطلاح وتصير الفلوس مثمناً لا يجوز للمشتري أن يعطي البائع مثلها، وفيما إذا أورد من المسألة الاصطلاح على الثمنية لم يبطل بسبب التعيين لكون التعيين محتملاً على ما ذكرنا، كما في هذه المسألة، وإنما بطل الاصطلاح ثمة مقتضى جواز البيع؛ لأن البيع لا يجوز وهما ثمنان؛ لأن بيع الثمن واحد باثنين لا يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين، وهاهنا الجواز ثابت من غير يقين، فإن بيع المتاع بفلوس في الذمة جاز فلا تبطل الثمنية لا مقتضى جواز البيع ولا مقتضى التعين ولو أعطى تلك الفلوس فافترقا ثم وجد فيها فلساً لا يتفق فرده(7/174)
واستبدله هل ينتقض العقد.
ففي هذه الصورة وهو ما (146ب3) إذا كان الفلوس ثمن متاع لا يبطل العقد سواء كان المردود قليلاً أو كثيراً استبدل أو لم يستبدل؛ لأن أكثر ما فيه أن القبض في الفلوس قد انتقض بالرد وصار كأن لم يكن إلا أنه لو لم يقبض الفلوس وافترقا لا ينتقض العقد؛ لأن الافتراق حصل عن عين بدين كذا هاهنا.
وإن كانت الفلوس ثمن الدراهم فهو على وجهين: إما إذا كانت الدراهم مقبوضة أو لم تكن مقبوضة، فإن كانت الدراهم مقبوضة ورد الذي لا يتفق واستبدل أو لم يستبدل فالعقد باق على الصحة؛ فكذلك لو وجد الكل في هذه لا تتفق الصورة فردها واستبدل، فالعقد باق على الصحة؛ لأن أكثر ما فيه أن قبض الدراهم ينتقض بالرد، ويصير كأن لم يكن فكأنه لم يقبض الفلوس، ولكن لو لم يقبض الفلوس والدراهم مقبوضة فافترقا لا ينتقض العقد لما ذكرنا أن بيع الفلوس بالدراهم يكتفى بقبض أحد البدلين قبل الافتراق.
فإن لم تكن الدراهم مقبوضة إن وجد كل الفلوس لا تتفق فردها بطل العقد في قول أبي حنيفة وزفر، استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن استبدل في مجلس الرد فالعقد صحيح على حاله، وإن لم يستبدل انتقض العقد، وإن كان البعض لا يتفق فردها، فالقياس: أن ينتقض بقدره قليلاً كان أو كثيراً، استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل في قول أبي حنيفة وهو قول زفر رحمهما الله، ولكن أبا حنيفة استحسن في القليل إذا رده واستبدل في مجلس الرد أن لا ينتقض العقد أصلاً.
واختلفت الروايات عن أبي حنيفة في تحديد القليل، فقال في روايته: إذا زاد على النصف فهو كثير وما دونه قليل، في رواية: إذا بلغ النصف فهو كثير، وفي رواية قال: إذا زاد على الثلث وقال أبو يوسف ومحمد: إذا ردها واستبدل في مجلس الرد لا ينتقض العقد قليلاً كان المردود أو كثيراً، هذا إذا كانت الفلوس فلوساً قد تروج وقد لا تروج، فأما إذا كانت الفلوس فلوساً لا تروج بحال، وقد تفرقا فرد الفلوس، ينتقض العقد استبدل في المجلس أو لم يستبدل، فإن وجد بعض الفلوس بهذه الصفة فرد ينتقض العقد بقدره استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل.
وإذا اشترى الرجل بدانق فلساً أو بقيراط فلساً، فهذا جائز استحساناً هكذا ذكر في «الأصل» .
قال شمس الأئمة الحلواني: هذا إذا كان الدانق أو القيراط معلوماً فيما بين الناس لا يختلف في معاملاتهم، فإذا كان مختلفاً يأخذ بعضهم عشرة وبعضهم تسعة لا يجوز العقد لمكان المنازعة، ولم يذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة السرخسي هذا الفصل على هذا التفصيل في شرحهما.
ولو اشترى شيئاً (بدرهم فلوس) قال في «الكتاب» : كان مثل ذلك في القياس والاستحسان الذي ذكرنا في الدانق أنه يجوز، ثم قال: وهو في الدراهم فحش ولم ينص على الجواز وعدم الجواز، وقال زفر: لا يجوز فيهما، وقال أبو يوسف: إنه يجوز(7/175)
فيهما.
وروى هشام عن محمد: أنه يجوز فيما دون الدراهم ولا يجوز في الدراهم.
وجه قول زفر: أن الدانق والدرهم ذكر الوزن والفلوس عددي فيلغو ذكر الوزن ويبقى ذكر الفلوس ومجرد ذكر الفلوس من غير ذكر العدد لا يكفي لجواز العقد.
وأبو يوسف رحمه الله يقول بذكر الدانق والدرهم يصير عدد الفلس معلوماً؛ لأن قدر ما يؤخذ الدرهم من الفلوس معلوم في السوق، وكذلك قدر الدانق من الفلوس معلوم في السوق، فتسمية الدرهم والدانق كتسمية ذلك العدد في الإعلام على وجه لا تتمكن المنازعة فيه بينهما.
ومحمد يقول فيما دون الدرهم ذكر الاستعمال للعبارة عما يوجد بدون عدد الفلوس فيقام مقام تسمية ذلك العدد، أما في الدراهم وما فوق ذلك لم يكثر استعماله للعبارة عما يوجد به من الفلوس، فلا يقام هو مقام تسمية ذلك العدد فبقي عبارة عن الفضة؛ لأن مطلق اسم الدانق يقع على الدانق من الفضة، ألا ترى أنه لو قال لغيره: بعتك هذا بدانق ينصرف إلى الدانق من الفضة، فإذا ذكر بعد ذلك الفلوس صار تقدير المسألة كأنه قال: بعتك هذا بدانق فضة على أن تعطيني مقام الفضة فلوساً فيكون هذا صفقة في صفقة فلا يجوز.
قال: إذا أعطى رجل رجلاً درهماً، وقال: أعطني بنصفه كذا فلساً وبنصفه درهماً صغيراً، وزنه نصف درهم، فهذا جائز؛ لأنه جمع بين عقدين كل واحد منهما يجوز حالة الإنفراد؛ لأنه جمع بين عقد الصرف وعقد البيع؛ لأن ما يخص الدرهم الصغير من الدرهم الكبير صرف، وما يخص الفلوس من الدرهم الكبير بيع فنحكم بالجواز حالة الاجتماع، فإن تفرقا قبل قبض الدرهم الصغير والفلوس، فالعقد قائم في الفلوس منتقض في حصة الدرهم الصغير؛ لأن في حصة الدرهم الصغير صرف، وقد افترقا قبل قبض أحد البدلين، وفي حصة الفلوس العقد بيع، وقد قبض بدله من الدرهم الكبير، ففي حصة الفلوس افتراق العقد حصل عن عين بدين، فإن لم يكن دفع الدرهم الكثير حتى افترقا بطل البيع في الكل.
ولو قال: أعطني بنصف هذا الدرهم كذا كذا فلساً، وأعطني بنصفه درهماً صغيراً وزنه نصف درهم إلا حبة، فإن العقد يفسد كله عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في حصة الفلوس وهذا؛ لأن العقد فسد في الدرهم الصغير لمكان الربا، فإن مقابله نصف درهم إلا حبة يكون رباً، ومن أصل أبي حنيفة أن العقد إذا فسد بعضه يعني الربا يفسد الكل عرف ذلك في كتاب البيوع.
وكان الفقيه أبو بكر الأعمش، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهم الله يقولون: الصحيح أن العقد يجوز في حصة الفلوس عندهم جميعاً على ما عليه وضع المسألة في «الأصل» ؛ لأن الصفقة صفقتان على ما عليه وضع المسألة في «الأصل» أعطني بنصفه كذا فلساً وأعطني بنصفه الباقي درهماً صغيراً، فإذا تكرر قوله أعطني تكرر العقد ففساد أحدهما لا يوجب فساد(7/176)
الآخر بمنزلة ما لو قال لغيره: بعني بنصف هذه الألف عبداً، وبعني بنصفها كذا كذا رطلاً من خمر، وهناك لا يبطل العقد في العبد، وإن بطل في الخمر لما كانت الصفقة متفرقة.
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني والفقيه مظفر بن اليمان والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهرزاده: أنهم صححوا ما ذكر في «الكتاب» ، ووجه ذلك: أن الصفقة متحدة هاهنا؛ لأنها لو تفرقت تفرقت بتكرر قوله أعطني مساومة وبتكرار المساومة لا يتكرر البيع، ألا ترى أن بذكر المساومة لا ينعقد البيع ما لم يقل: اشتريت، وإذا كان (147أ3) لا ينعقد البيع ما لم يقل اشتريت، وإذا كان لا ينعقد البيع بذكر المساومة فبتكراره كيف يتكرر العقد فكانت الصفقة واحدة والتقريب ما ذكرنا.
ولو قال: أعطني به كذا وكذا فلساً ودرهماً صغيراً، وزنه نصف درهم إلا قيراطاً كان ذلك كله جائز بخلاف المسألة الأولى، في المسألة الأولى صرح بالفساد حيث جعل بإزاء الدرهم الصغيرة نصف درهم من الدرهم الكبير إلا حبة، والعاقدان متى صرحا بفساد العقد لا يحمل على وجه الصحة، أما في هذه المسألة لم يصرحا بفساد العقد، فإنه لم يتيقن للدرهم الصغير حصة الدرهم الكبير، فإنه لم يقل وأعطني بنصف الدرهم الكبير درهماً صغيراً وزنه مثل نصف الدرهم الكبير إلا قيراطاً فيجعل بإزاء الدرهم الكبير مثل وزنه، وذلك نصف درهم إلا قيراطاً، والباقي من الدرهم الكبير يجعل بإزاء الفلوس بخلاف المسألة المتقدمة على ما ذكرنا.
ولو اشترى فلوساً بدرهم وافترقا، ثم وجد شيئاً من الفلوس مستحقاً ولم يجزه المستحق، فإن كان مشتري الفلوس نقد الدرهم، فإنه يستبدل مثله ويجوز العقد؛ لأن أكثر ما في الباب أن القبض في المستحق قد انتقض إلا أن الدراهم مقبوضة، وقد ذكرنا أن في بيع الفلس بالدرهم يكتفي بقبض أحد البدلين قبل الافتراق، ألا ترى أنه لو استحق كل الفلوس فردها أو لم يقبض الفلوس أصلاً حتى تفرقا، وكان مشتري الفلوس نقد الدرهم يبقى العقد على الصحة فههنا أولى، وإن لم يكن نقد الدرهم فالعقد ينتقض بقدر المستحق إن كان المستحق بعض الفلوس، وفي الكل إن كان المستحق جميع الفلوس؛ لأن القبض في المستحق قد انتقض فصار كأن لم يكن فكان الافتراق عن دين بدين، إما في الكل، وإما في البعض، وإذا وقع الشراء بالفلوس الرائجة وكسدت الفلوس قبل القبض، أو كان المشتري فلوساً وكسدت قبل القبض فقد ذكرنا هذه المسألة مع أخواتها وما يتصل بها في كتاب البيوع فلا يفيد ذكرها.
الفصل السادس: في خيار الرؤية والرد بالعيب والاستحقاق في باب الصرف
وإذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا، ثم وجد مشتري الدراهم الدراهم كلها (مستحقة) ، فإن كانا في مجلس العقد يتوقف على إجازة المستحق، فإن أجاز جاز، وإن لم(7/177)
يجز بطل القبض وصار كأنه لم يكن، فإن قبض دراهم أخرى في مجلس العقد فالصرف صحيح ويجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن لم يقبض بطل العقد، وإن وجدها ستوقة وكان ذلك في مجلس العقد ليس له أن يجوز به؛ لأن الستوقة ليست من جنس بدل الصرف، فيصير مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض، وإن لم يجوز ورده إن استبدل في المجلس جاز وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن وجدها زيوفاً أو نبهرجة، وكان ذلك في مجلس العقد إن تجوز به المسلم إليه جاز؛ لأن الزيوف من جنس بدل الصرف؛ لأن الزيوف ما كان الفضة فيه غالباً على الغش والعبرة للغالب، فكان الكل فضة فالتجوز به لا يصير مستبدلاً ببدل الصرف، وإن رده واستبدله في مجلس العقد جاز، وإن افترقا قبل الاستبدال بطل الصرف، وأما إذا وجدها أو بعضها مستحقة وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما إن أجازه المستحق وكانت الدراهم قائمة جاز؛ لأن خيار الإجازة لا يمنع صحة القبض على سبيل التوقف فلا يتبين أن الافتراق حصل من غير قبض بدل الصرف، وإذا صح القبض على سبيل التوقف جاز بإجازته إذا كان رأس المال قائماً، وإذا رد بطل الصرف كله إن كان الكل مستحقاً، وإن كان البعض مستحقاً بطل الصرف بقدره قلّ أو كثر؛ لأن القبض في المستحق موقوف بين أن يكون قبض رأس المال متى أجاز، وبين أن لا يكون قبض رأس المال متى لم يجز.
والموقوف بين شيئين إذا تعين أحدهما كان هو الثابت من الأصل، فكان قبض رأس المال لم يوجد أصلاً، وأما إذا وجدها ستوقة أو وجد شيئاً منها ستوقة وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما إن وجد الكل ستوقة بطل الصرف كله، وإن وجد البعض ستوقة بطل الصرف بقدره تجوز به، أو رده واستبدل مكانه أو لم يستبدل لما ذكرنا أن الستوقة ليست من جنس الدراهم، فتبين أن الافتراق حصل قبل قبض كل بدل الصرف أو قبل قبض بعضه.
وفي «نوادر ابن سماعة» وضع هذه المسألة في الإناء فقال: رجل باع من آخر إناء فضة وزنها عشرة بعشرة وتقابضا وتفرقا، ثم وجد بائع الإناء نصف الدنانير ستوقة ردها وله نصف الإناء وللمشتري نصف الإناء وزاد فيه فقال: ولا خيار للمشتري وعلل وقال: لأن هذا جاء من قبله حين لم يستوف الثمن جياداً قبل أن يفارقه، وإن وجدها زيوفاً أو وجد بعضها زيوفاً وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما، وإن رده إن لم يستبدل في مجلس الرد يبطل الصرف في المردود بلا خلاف، وإن استبدل في مجلس الرد القياس أن يبطل الصرف في المردود وبه أخذ زفر في الاستحسان لا يبطل.
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في رأس مال السلم إذا وجده المسلم إليه مستحقاً أو ستوقة أو زيوفاً، وقد ذكرنا الحجج في مسائل السلم في كتاب البيوع، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة: أن ما زاد على النصف كثير، وفي النصف روايتان، في رواية جعله كثيراً، وفي رواية جعله قليلاً، وفي رواية قال: إذا زاد على الثلث فهو كثير وقد مر هذا في كتاب البيوع أيضاً.(7/178)
وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بدراهم أكثر مما فيه وتقابضا وتفرقا ثم وجد بالسيف عيباً في جفنة أو نصله أو حمائله، فله أن يرد الكل ما وجد فيه العيب وما لم يجد؛ لأنه شيء واحد، وإن رده وقبله صاحبه بغير قضاء قاض، ثم فارقه قبل أن يقبض البدل بطل الرد عند علمائنا الثلاثة وعاد العقد على حاله، وقال زفر: لا يبطل الرد وعلى هذا الخلاف إذا تقايلا الصرف ثم افترقا قبل قبض البدل بطلت الإقالة عند علمائنا الثلاثة قالوا: الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء فسخ من وجه بيع جديد من وجه فاعتبرنا بيعاً جديداً في حق وجوب قبض البدل بعد الإقالة قبل الافتراق.
قلنا: إذا افترقا بعد الإقالة قبل قبض بدل الصرف تبطل الإقالة واعتبرناه فسخاً في حق جواز الاستبدال، فقلنا: إذا استبدل بعد الإقالة ببدل الصرف يجوز عملاً بالمعينين جميعاً بقدر الإمكان، ولو كان الرد بالعيب بعد القبض بقضاء ثم افترقا قبل أن يقبض البدل لا تبطل الإقالة؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض فسخ في حق الكل وقبض البدل إنما يجب بحكم عقد الصرف لا بحكم فسخ الصرف ولا كذلك الرد بعد القبض بغير قضاء (147ب3) .
ولو اشترى حلي ذهب فيه جوهر مفضض فوجد بالجوهر عيباً، فأراد أن يرد الجوهر دون الحلي ليس له ذلك ويقال له: إما أن ترد الكل أو تترك الكل.
وهذا لأن الانتفاع المقصود منه وهو انتفاع التحلي لا يتأتى إلا بالكل، فصار بالنظر إلى المقصود كان الكل شيء واحد، فهو بمنزلة ما لو اشترى مصراعي باب أو مصراعي خف وأراد أن يرد الذي وجد العيب به وحده لم يكن له ذلك والمعنى ما ذكرنا.
ولو أن رجلاً اشترى من رجل إبريق فضة فيه ألف درهم بألف درهم، أو اشترى من رجل ألف درهم بمئة دينار وتقابضا، ثم وجد الدراهم ستوقة أو رصاصاً فردها فله أن يفارقه قبل قبض الثمن وقبل قبض الإبريق؛ لأن رد الدراهم حصل بحكم فساد الصرف بسبب الستوقة والرصاص صار فاسداً لحصول الافتراق قبل قبض أحد البدلين والرد بحكم الفساد فسخ من كل وجه.
وإذا كان هذا الرد فسخاً من كل وجه صار نظير الرد بالعيب بقضاء القاضي، وهناك لا يضرهما الافتراق قبل قبض البدل فكذا ههنا، ولو كانت الدراهم زيوفاً فردها على قول أبي حنيفة رحمه الله إن لم يقبض الدنانير حتى تفرقا لم يضرهما ذلك؛ لأن الرد بالزيافة عند أبي حنيفة إذا كان كثيراً، والرد بالستوقة والرصاص سواء حتى لا يبقى العقد جائزاً، وإن استبدل في مجلس الرد؛ لأنه رد بسبب الفساد فيكون فسخاً من كل وجه.
ولو اشترى إناء فضة فلا بيع بينهما؛ لأنه أشار وسمى، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، فيتعلق العقد بالمسمى، وإنه معدوم فلا يقع البيع، ولو كانت فضة سوداء أو حمراء فيها رصاص أو صفر، وهو الذي أفسدها فهو بالخيار، وإن شاء أخذها وإن شاء ردها وهذا؛ لأن المشار إليه من جنس المسمى فأرسله سمي لها فضة في الناس فيتعلق العقد، بالمشار إليه، وإنه موجود فيقع العقد إلا أن به عيب فيثبت الخيار للمشتري(7/179)
لمكان العيب، ولو كانت الفضة رديئة من غير غش فليس له الرد؛ لأن حق الرد إنما يثبت لفوات المشروط.
كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب فوجده غير كاتباً، والنقصان يمكن في المعقود عليه بأن وجد المبيع ثابت الطرف أو ما أشبه ذلك ولم يوجد بشيء من ذلك، أما فوات المشروط؛ لأنه لم يشترط عند العقد إلا كون الإناء من الفضة، والإناء من الفضة كما لو شرط، وإما تمكن النقصان في المعقود عليه العين، وبسبب الرداءة لا يمكن النقصان في العين.
يوضحه: أن العيب ما تخلوا عنه أصل الفطرة السليمة، وصفة الرداءة بأصل الخلقة، ألا ترى أن بالرداءة تنعدم صفة الجودة، وبمطلق العقد لا يستحق صفة الجودة، إنما يستحق صفة السلامة.
فإذا اشترى إبريق فضة بذهب، ووجد به عيباً فهلك في يده أو حدث به عيب آخر، فله أن يرجع بنقصان العيب وهذا ظاهر، فلو كان الثمن فضة فلم يرجع بالنقصان.
والفرق: أن الثمن كان من جنس الإبريق فمتى رجع بالنقصان يرجع بشىء من الثمن، وعند ذلك يظهر التفاضل فيتحقق الربا، وإذا كان الثمن من خلاف جنس الإبريق فمتى رجع بالنقصان لا يظهر التفاضل فلا يتحقق الربا.
ولو اشترى ديناراً بعشرة وتقابضا والدراهم زيوف فأنفقه المشتري وهو لا يعلم فلا شيء له على البائع في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله: يرد مثل ما قبض ويرجع بالجياد.
وقال القدوري في «شرحه» : والظاهر من قول محمد: أنه مع أبي يوسف، وذكر الكرخي قول أبي حنيفة رحمه الله مع محمد.
فوجه قول أبي يوسف: أن صفة الجودة متقومه وقد أمكن استدراكه برد مثل المقبوض والرجوع بالجياد، فيرد مثل المقبوض ويستوفي ما كان حقاً له، ولأبي حنيفة: أن المستوفي في مثل جنس حقه أصلاً، إلا أن له حق الرد بسبب العيب، فيتعين المقبوض للرد؛ لأنه لو ردّ عيباً آخر فبقي لا يمكن تحقيق معنى الرد.
ولو اشترى ديناراً بعشرة دراهم استحق نصف الدينار، رجع بنصف الدراهم وله نصف الدينار، ولا خيار له في الباقي؛ لأن الشركة في هذا ليس بعيب، وكذلك سر الفضة؛ لأن الشركة فيها ليس بعيب ولا يضرها التبعيض، ولو كان المبيع قلباً فاستحق البعض منه كان للمشتري أن يرد الباقي، إن شاء وإن شاء أمسكه بحصة؛ لأن الشركة ههنا عيب ويرد الباقي بعيب الشركة.
ولو باع درهماً بدينار، ثم قال: برئت لك من كل عيب بهذا الدرهم فوجده ستوقاً لم يبرأ.
والفرق: أن البراءة وقعت من عيب بالدراهم والزيف درهم قام به العيب الزيافة تحت البراءة، أما الستوقة ليست بدرهم فلا يمكن أن يجعل هذا واحداً تحت البراءة.
وعن محمد فيمن قال: أبيعك هذه الدراهم وأراها إياه، ثم وجدها زيوفاً قال: ببدلها إلا أن يقول: هي زيوف أو يبرأ عن عيبها؛ وهذا لأنها وإن عينت لا تتعين، فصار(7/180)
وجود التعيين والعدم بمنزلة، ومطلق الدراهم تنصرف إلى الجياد فاستحق صفة الجودة بمطلق الاسم، وقد فاتت صفة الجودة إذا وجدها زيفاً، فكان له أن يبدلها قال: إلا أن شراء عن عينها فحينئذٍ لا يبقى له خيار العيب.
وعن محمد: فيمن اشترى ديناراً وتقابضا، ثم إن مشتري الدينار باع الدينار من ثالث، ثم وجد الثالث به عيباً فردها على الأوسط بغير قضاء، كان للأوسط أن يرده على الأول قال: ولا يشبه هذا العروض،
والفرق: أن الدنانير المعيبة لا تملك بالعقد؛ لأنها لا تتعين في العقد بالتعيين، وإنما يقع العقد على دراهم في الذمة، والملك في المعيبة يثبت بالقبض، وقد انتقض قبض الثالث بالرد فعاد إلى الأوسط قد تم ملكه فكان له الرد، فأما العروض، فإنها تملك بالعقد عيباً؛ لأنها تتعين بالتعيين في العقد، فإنما يعود إلى البائع بفسخ ذلك المبيع بالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء إن كان فسخاً في المتعاقدين فهو عقد جديد في حق الثالث، فلم يعد إلى الأوسط قد تم ملكه في حق البائع الأول، فلا يكون له الرد على البائع الأول.
قال القدوري في «شرحه» : وليس في الدنانير والدراهم خيار الرؤية إذا كان الكل نوعاً واحداً، وكذلك سائر الديون في العقود وهذا؛ لأن الرد في خيار الرؤية لا يفيد إما؛ لأنه ينفسخ العقد بالرد؛ لأن العقد لم يرد على هذا المعين فكيف ينفسخ العقد برده؛ أو لأنه لو رده يأخذ مثله فيثبت له خيار الرؤية أيضاً، وكذلك في الكرة الثالثة فيؤدي إلى ما لا يتناهى، ولو كان شيئاً بعينه إناءً أو تبراً أو حلياً مصوغاً، فله أن يرد بالعيب وخيار الرؤية؛ (148أ3) لأن الرد بخيار الرؤية ههنا مقيد؛ لأنها تتعين في العقد فينفسخ العقد فيه بالرد بخيار الرؤية، ولو استحق بعضه وهو بعينه قبل القبض أو بعده، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما بقي بالحصة، وإن شاء ترك فإن استحق ولم يحكم به للمستحق حتى أجاز المستحق جاز وكان الثمن فيما أجازه للمستحق يأخذه البائع ويسلمه إليه؛ وهذا لأن الظاهر الرواية العقد الذي جرى بين البائع والمشتري لا ينفسخ بمجرد الاستحقاق، وكذلك بحكم القاضي وسيأتي ذلك في «أدب القاضي» إن شاء الله.
وإذا لم ينفسخ ذلك العقد بمجرد الاستحقاق تلحقه الإجازة من المستحق، ويصير كان للعقد من الابتداء ورد بأن المستحق فيصير البائع وكيلاً من جهته وحقوق العقد تتعلق بالوكيل فيأخذ البائع الثمن من المشتري ويدفع إلى المستحق لهذا، وعن أبي يوسف: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لآخر العقد فحكم له أجاز بإجازته، وإن لم يقل ذلك لم يجز وههنا روايات أخر وسيأتي جملة ذلك في «أدب القاضي» .
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا ثم جاء بائع الدينار بدراهم زيوف وقال: وجدتها في ذلك الدراهم وأنكر مشتري الدينار أن تكون هذه الدراهم من دراهمه، فالمسألة على وجوه: إما إن أقر بائع الدينار قبل ذلك فقال: قبضت الجياد أو قال: قبضت حقي أو قال: قبضت رأس المال أو قال: استوفيت الدراهم أو قال: قبضت(7/181)
الدراهم أو قال: قبضت ولم يرد عليه.
ففي الوجه الأول والثاني والثالث والرابع: لا تسمع دعوى بائع الدينار وحتى لا يستحلف مشتري الدينار على ذلك؛ لأن بائع الدينار متناقض في هذه الدعوى.
وفي الوجه الخامس: وهو إذا قال: قبضت الدراهم فالقول قول بائع الدينار وعلى مشتري الدينار البينة أنه أعطاه الجياد استحساناً.
وجه ذلك: أن بائع الدينار بدعواه أنها من دراهمه وهي زيوف ينكر قبض حقه، ولم يسبق منه إقرار يناقض دعواه؛ لأن الذي سبق منه ليس إلا الإقرار بقبض الدراهم، ومطلق اسم الدراهم يتناول الزيوف فكان بائع الدينار قال: لم أقبض حقي، وقال مشتري الدينار: أوفيت حقك فكان القول قول بائع الدينار وكان على المشتري البينة أنه أوفاه.
وكذلك الجواب في الوجه السادس: وهو ما إذا قال بائع الدينار: قبضت ولم يزد على هذه؛ لأنه لو قال: قبضت الدراهم كان القول قوله في دعوى الزيافة فههنا أولى، ولو قال: وجدتها ستوقة أو رصاصاً لا شك أن لا يقبل قوله في الوجوه الأربعة، ففي دعوى الستوقة والرصاص أولى.
وكذلك في الوجه الخامس: لا يقبل قوله، وفي الوجه السادس يقبل قوله.
فرق بين الوجه السادس وبين الوجه الخامس.
والفرق: أن في الوجه الخامس بائع الدينار مناقض في دعوى الستوقة والرصاص، فكأنه أقر أنه قبض الدراهم ثم قال: لم أقبض الدراهم، أما في الوجه السادس: فهو ليس بمناقض في دعوى الستوقة والرصاص؛ لأنه ذكر القبض، أما ما ذكر شيئاً آخر والقبض يرد على الستوق والرصاص كما يرد على الجيد، فهذا هو الفرق بين الصورتين.
الفصل السابع: في الرهن والحوالة والكفالة والصرف
قال محمد: إذا اشترى الرجل من آخر عشرة دراهم بدينار فنقد الدينار واحد بالدراهم رهناً فهو جائز، يجب بأن يعلم بأن الرهن والحوالة والكفالة ببدل الصرف جائز عند علمائنا الثلاثة؛ لأن بدل الصرف دين فتصح الحوالة والكفالة والارتهان به كما في سائر الديون، فإذا جازت هذه التصرفات نقول بعد هذا إن قبض من المحتال عليه والكفيل قبل الافتراق أو هلك الرهن في يد المرتهن قبل الافتراق ثم الصرف بينهما ويعتبر قيام مجلس المتعاقدين ولا يعتبر افتراق الكفيل والمحتال عليه وعدم افتراقهما؛ لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالمتعاقدين فيعتبر قيام مجلس المتعاقدين لا مجلس غيرهما.
ولو افترق المتعاقدان والرهن قائم بطل الصرف؛ لأن الافتراق حصل قبل قبض أحد البدلين؛ لأن المرتهن إنما يصير مستوفياً ما وقع الارتهان به بعد الهلاك، فإذا افترق(7/182)
قبل الهلاك فقد حصل الافتراق قبل قبض أحد البدلين فكان الصرف باطلاً، وإذا بطل الصرف بالافتراق بقي الرهن مضموناً على المرتهن بأقل من قيمته ومن الدين، وإن برئ الرهن عن الدين لما فسد الرهن بالافتراق؛ لأنه برئ يحلف فإن الدينار يعود إلى ملك المرتهن.
والأصل: أن الراهن إذا أبرأ عن الدين يحلف لا يبطل ضمان الرهن، كما لو استوفى المرتهن الدين حقيقة، فإنه لا يبطل ضمان الرهن، وإن برئ الرهن عن الدين بإيفاء الدين؛ لأنه برئ يحلف فبقي ضمان الرهن على حاله كذا ههنا.
بخلاف ما لو أبرأ المرتهن الراهن عن الدين حيث يبطل ضمان الرهن؛ لأن الراهن هناك برئ عن الدين من غير حلف، أما ههنا بخلافه أو يقول ضمان الرهن حكم يثبت بالقبض، والقبض باق على ما بطل عقد الصرف بالافتراق، فعند الهلاك يتم الاستيفاء فيما انعقد ضمانه بالقبض، وقد بطل العقد الموجب للاستيفاء فيلزمه رد المستوفي كما لو استوفاه حقيقة.
قال: وإذا اشترى الرجل من آخر شيئاً محلى بدينار وقبض السيف ودفع الدينار، وهناك رهناً فالحكم ما ذكرنا في المسألة المتقدمة أنه رهن إن هلك الرهن قبل افتراقهما بقي الصرف على الصحة، فإن افترقا والرهن قائم بطل الصرف وبقي الرهن مضموناً بالأقل من قيمته ومن الدين لما ذكرنا.
وإن حصل الارتهان بالسيف بأن نقد المشتري الدينار وأخذ السيف رهناً فهلك الرهن عنده قبل أن يفترقا، فإن بائع السيف على مشتري السيف ولا يصير مشتري السيف مستوفياً السيف بالهلاك؛ إما لأن الاستيفاء العين من العين لا يتصور؛ وإما لأن المرتهن إنما يصير مستوفياً حقه بالهلاك إذا صح الرهن، ولم يصح الرهن ههنا؛ لأن الرهن حصل بالعين وهو السيف فالرهن بالأعيان لا يصح على ما يأتي بيانه في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى.
وإذا لم يصر المرتهن مستوفياً السيف بهلاك الرهن يؤمر بائع السيف رد السيف على المشتري كما الرهن، ويضمن المرتهن للراهن الأقل من قيمة السيف ومن الرهن؛ لأن الرهن بالعين فاسد وليس بباطل والفاسد من العقود بعد القبض ملحق بالصحيح في حق إفادة حكمه ما أمكن كما في البيع الفاسد، ولم يمكن اعتباره بالصحيح في حق الضمان بأن يجعله مضموناً بالعين الذي حصل به الارتهان فيجعله مضموناً بالأقل من قيمته ومن قيمة العين الذي ارتهن به أو يقول قبض (148ب3) الرهن ههنا حصل بجهة الاستيفاء، والمقبوض على جهة الشيء كالمقبوض على حقيقته في الضمان فجعلنا الرهن مضموناً، وجعلناه مضموناً بالأقل من قيمته من السيف كما ذكرنا.
قال: وكذلك لو كان مكان السيف منطقة أو سرج مفضض، أو إناء مصوغ أو فضة تبر، وهذا دليل على أن التبر يتعين بالتعيين في العقد، فإنه جعله كالسيف، فإنه لا يجوز أخذ الرهن بعينه.(7/183)
الفصل الثامن: في الحط عن بدل الصرف والزيادة فيه
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بمئة درهم وحلية السيف خمسون وتقابضا، ثم إن بائع السيف حط عن ثمنه درهماً فهو جائز؛ لأن الحط تعلق بأصل العقد، ويخرج ذلك المحطوط من أن يكون ثمناً مكانه من الابتداء، وباع السيف بتسعة وتسعين درهماً، فيكون بمقابلة الحلية مثل وزنها والباقي بمقابلة السيف.
ولو أن رجلاً ابتاع من رجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بعشرة دراهم وتقابضا، ثم إن بائع القلب حط عن ثمنه درهماً، وقبل المشتري وقبض الدراهم المحطوط من البائع فسد البيع كله في قول أبي حنيفة، وقول أبي يوسف ومحمد: الحط باطل، غير أن عند أبي يوسف لا يصير المحطوط هبة مبتدأ حق كان على مشتري القلب أن يرد الدرهم على بائعه والعقد الأول صحيح، وفي قول محمد: يصير ذلك هبة مبتدأة حتى كان للمشتري أن يمتنع عن تسليم الدراهم إلى البائع.
وجه قول أبي يوسف ومحمد في بطلان الحط: أن الحط لو صح لبطل من حيث صح.
بيانه: أن الحط لو صح التحق بأصل العقد فيصير العقد فاسداً من الأصل لمكان الربا، وإذا فسد العقد من الأصل، فهو معنى قولنا: أنه لو صح العقد لبطل من حيث صح فلا يصح بهذا الطريق.
قلنا: أنه إذا حط جميع الثمن لا يصح حتى لا يفسد العقد؛ لأنه لو صح لبطل من حيث صح؛ لأنه يلتحق بأصل العقد ويبقى العقد بلا ثمن فلا يصح من الابتداء كذلك ههنا.
فبعد هذا قال محمد رحمه الله: يجعل المحطوط هبة مبتدأة؛ لأن الحط لو صح حقيقة أفاد معنى الهبة وهو التمليك بغير عوض فعند تعذر تصحيحه بحقيقته يجعل كناية عن الهبة صيانة للتصرف عن الإلغاء وأبو يوسف لا يجعله هبة مبتدأة؛ إذ ليس في الحط معنى الهبة؛ لأن الهبة إيجاب ملك مبتدأ، والحط إخراج المحطوط عن الإيجاب وليس فيه إيجاب ملك مبتدأ.
وأبو حنيفة يقول: إن تعذر تصحيح الحط بحقيقته؛ لأنه لو صح لبطل من حيث صح أمكن أن يجعل مجازاً عن إنشاء العقد بما وراء المحطوط.
بيان هذا الكلام: أن في الموضع الذي صح الحط حقيقة بأن لم يكن ثمة ربا كان من حكمه أن يصير العقد الموجود بما وراء المحطوط من الأصل، فعند تعذر العمل بالحقيقة نجعل الحط كناية عن إنشاء العقد بما وراء المحطوط كأن البائع، قال لمشتري القلب ثانياً: بعتك هذا القلب بتسعة دراهم وقبل المشتري، وهناك ينفسخ العقد الأول(7/184)
ويثبت الثاني، وإن كان انعقاد الثاني بوصف الفساد إلا أن الفاسد من البيع بمنزلة الصحيح حتى يقع الحنث في اليمين على أن لا يبيع بالبيع الفاسد فيرتفع الأول بالثاني كما كان الثاني صحيحاً.
وهكذا نقول في حط جميع الثمن إنّ عند تعذر تصحيحه يجعل كناية عن حكمه إلا أن حكمه بغير ثمن قال: فإذا جعلناه كناية عنه صار كأن البائع قال للمشتري ثانياً: بعتك بغير شيء، ولو قال هكذا لا ينعقد الثاني ولا ينفسخ الأول؛ لأن انفساخ الأول حكم انعقاد الثاني هذا إذا حط بائع القلب عن ثمن القلب درهماً، وقبل البائع ذلك.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تصح الزيادة ويلتحق بأصل العقد ويفسد العقد كله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله: سوّى بين الحط والزيادة فحكم تصحيحهما والتحاقهما بأصل العقد وبفساد العقد بسببهما، وكذلك أبو يوسف سوى بين الزيادة والهبة فلم يصححهما لا بحقيقتهما ولا هبة مبتدأة، ومحمد رحمه الله فرق بين الزيادة والحط فصحح الحط هبة مبتدأة ولم يصحح الزيادة هبة مبتدأة.
والفرق: أن الحط في معنى الهبة؛ لأن المحطوط يصير ملكاً للمحطوط عنه بغير عوض وليس في الزيادة معنى الهبة؛ لأن الزيادة لو صحت يلتحق بأصل العقد ويأخذ حصته من المبيع، والهبة تمليك بغير عوض، والتمليك بغير عوض لا يصلح كناية عن التمليك بعوض فلهذا افترقا.
ولو اشترى قلب فضة وثوباً بعشرين درهماً وفي القلب عشرة دراهم وتقابضا، ثم حط البائع درهماً من ثمنها جميعاً، فإن المحطوط يكون عنهما بصفة في الثوب فيصح البيع في الثوب بحصة من العشرين، ويحط عن ثمنه نصف درهم وهذا بلا خلاف، وكذلك يصح نصف الحط في القلب عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يفسد العقد في كل القلب؛ لأنه يكون بمقابلته أقل من وزنه إلا أن هذا فساد طارئ فلا يفسد العقد في حصة الثوب.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يصح الحط في حصة القلب إلا أن محمداً يجعله هبة مبتدأة، وهذا بخلاف ما لو قال البائع: حططتك درهماً عن ثمنها، ولم يقل جميعاً، فإن الحط يصح كله ويصرف إلى الثوب ويقع العقد جائزاً.
ووجه الفرق بينهما: أنه قال: متى حططت عنك من ثمنها ولم يقل جميعاً، فلم يصرح بالفساد فيحتال بصحة الحط ما أمكن؛ لأن ظاهر عقله ودينه يحمله ذلك، وإنما قلنا: أنه لم يصرح بالفساد؛ لأنه وإن كنى عن سين بقوله: هما، إلا أنه يجوز أن يكني عن سين ويراد به أحدهما؛ وهذا لأن الكناية عن الجمع بصريح الجمع، وصريح الجمع يذكر ويراد به الخصوص فكذا الكناية عن الجمع.
وإذا كان محتملاً عن الجمع، وإذا كان محتملاً للخصوص حمل عليه بظاهر عقله ودينه احتيالاً للصحة، بخلاف ما لو قال من ثمنها جميعاً؛ لأنه صرح بالفساد؛ لأنه لا يمكن حمله على أحدهما مع قوله جميعاً كلمة تأكيد، وكلمة التأكيد متى ذكر عقيب صريح الجمع، فإنها تذكر لمنع الخصوص لا فائدة له سوى ذلك كما في قوله: {فسجد الملائكة(7/185)
كلهم أجمعون} (الحجر: 30) فكذا إذا ذكرت عقيب الكناية عن الجمع كان ذكرها لمنع الخصوص فحمل عليها، وإذا حمل عليها صار كأنه نص فقال: حططت عنك نصف درهم من ثمن القلب، ونصف درهم من ثمن الثوب، وهو قال: صرح بهذا كان ذلك تصريحاً منه بالفساد ههنا.
فإن قيل: هذا يشكل بما إذا نقد عشرة وقال: هذا المنقود من ثمنها جميعها، فإنه يجعل المنقود من ثمن القلب استحساناً، وقد ذكر كلمة التأكيد عقيب الكناية عن الجمع، ولم يمنع ذلك الحمل على الخصوص.
قلنا: ذكر كلمة التأكيد بعد الكناية (149أ3) عن الجمع في مسألة النقد لا يصح؛ لأنه لو لم يذكر كلمة التأكيد بأن قال: من ثمنها ولم يقل جميعاً لم يكن الخصوص ثابتاً من جهته، وإنما كان ثابتاً من جهة الشرع جعل الفضة مستحقة بالفضة في العقد، قال عليه السلام: «الفضة بالفضة» ، فكذا في القبض تكون مستحقة بالفضة شرعاً، لأن للقبض شبهاً بالعقد من حيث إن القبض يفيد ملك التصرف، كما أن العقد يفيد ملك الرقبة، وإذا كان التخصيص قبل ذكر كلمة التأكيد في مسألة النقد من جهة الشرع لم يمنع الخصوص بسببها، والعدم بمنزلة.
ولو عدمت فإنه يجعل المنقود عن القلب فكذا إذا جعل ذكرها كعدمها بخلاف مسألة الحط؛ لأن هناك الخصوص ثابت بدون ذكر كلمة التأكيد من جهته بظاهر عقله ودينه؛ لأن الحط ليس ببيع، ولا هو في البيع، وإنما هو أخذ بعض الثمن من العقد بغير عوض يحصل للبائع.
واستحقاق الفضة بالفضة ثابت شرعاً في البيع أو فيما هو في معنى البيع وهو القبض ولم يثبت استحقاق الفضة بجنسها شرعاً في الحط، فكان الخصوص في الحط بدون ذكر كلمة التأكيد ثابتاً من جهة العبد ولا من جهة الشرع، فجاز أن تعمل كلمة التأكيد من جهة العبد في منع الخصوص، وإذا امتنع الخصوص بذكر كلمة التأكيد انصرف الحط إليهما، والتحق بأصل العقد، فكأنه أنشأ البيع وقال: اشتريت منك هذا القلب بتسعة ونصف، ولو صرح بذلك يفسد العقد في القلب ولا يفسد في الثوب كذا هاهنا.
قال: وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بخمسين درهماً وحلية السيف خمسون، ثم إن البائع حط عن ثمن السيف درهماً جاز الحط؛ وصرف الحط إلى ما راء الحط احتيالاً بتصحيح الحط؛ لأنه لم يصرح بالفساد لما حط عن ثمن السيف؛ لأن السيف كما يذكر ويراد به الحلية مع النصل، يذكر ويراد به ما وراء الحلية، وإذا كان ما ذكر محتملاً للخصوص خص منه الحلية وصرف الحط إلى ثمن النصل احتيالاً للجواز بظاهر عقله ودينه وأمكن القول به؛ لأنه تخصيص لإيفاء حكم في المخصوص لإتيان حكم آخر في المخصوص، فظاهر الحال حجة لإيفاء ما كان إن لم يصلح لرفع ما كان ثابتاً.(7/186)
قال: ولو أن رجلاً اشترى آخر قلب فضة بعشرين ديناراً أو تقابضا، ثم إن بائع القلب حط عن المشتري عشرة دنانير فذلك جائز؛ لأن هذا الحط لو صح لا يبطل من حيث صح؛ لأنه يلتحق بأصل العقد، ويجعل من الابتداء كأنه باع قلب فضة بعشرة دنانير، وبيع القلب من الفضة بعشرة دنانير جائز كيف ما كان لاختلاف الجنس، ثم يبقى الحط جائزاً، وإن لم يقبض مشتري القلب قدر المحطوط من بائع القلب في مجلس الحط؛ لأن الحط ليس بصرف لا حقيقة ولا معنىً؛ لأنه إخراج بعض الثمن عن العقد من غير عوض يحصل للبائع، فإن قدر الحط يرجع إلى ملك المشتري من غير عوض، وإذا لم يكن فيه معنى البيع لا يمكن أن يعتبر صرفاً في حق الثالث فلا يجب القبض بخلاف الإقالة؛ لأنها بيع معنى فيمكن أن يعتبر صرفاً في حق الثالث فيجب القبض.g
قال: وإذا اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار ثم إن أحدهما زاد صاحبه شيئاً ينطر إن زاد بائع القلب وكانت الزيادة ثوباً ورضي به مشتري القلب فالزيادة جائزة؛ لأن الزيادة لو صحت لا تبطل من حيث صحت؛ لأنها تلتحق بأصل العقد من الابتداء، ورد على قلب فضة فيه عشرة دراهم، وعلى ثوب بدينار بذلك وذلك جائز، فهاهنا كذلك.
ولا يشترط قبض الثوب في المجلس؛ لأن ما يخص الثوب من الدينار بيع وليس بصرف، فإن كانت الزيادة ذهباً وكانت من قبل البائع ينطر إن كانت الزيادة ديناراً أو أكثر صحت الزيادة عند أبي حنيفة رحمه الله ويبطل العقد؛ لأن الدينار يكون بالدينار فيبقى القلب ربا، إن كانت الزيادة ديناراً ويبقى القلب مع شئ من الدينار ربا إن كانت الزيادة أكثر من الدينار.
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تصح الزيادة ويبقى العقد على الصحة، وإن كانت الزيادة نصف دينار فهو جائز، وتلتحق الزيادة بأصل العقد، وصار كأنه باع قلب فضة ونصف دينار بدينار وذلك جائز، إلا أنه يشرط قبض الزيادة في مجلس الزيادة بدل الصرف.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يصح العقد في الزيادة، وإن وجد قبض الزيادة في مجلس الزيادة، لأن الزيادة متى صحت التحقت بأصل العقد وصارت كالموجود لدى العقد، فإذا صارت كالموجود لدى العقد كأنه باع قلب فضة ونصف دينار بدينار، وقبض الدينار وسلم القلب ولم يسلم نصف الدينار حتى تفرقا، وهناك لا يصح العقد في الزيادة وهي نصف الدينار كذا هاهنا.
والجواب: لأن الزيادة متى صحت التحقت بأصل العقد القائم وقت الزيادة، ولا يستند إلى وقت إنشاء العقد حتى لا يثبت الملك في الزيادة مستنداً إلى وقت إنشاء العقد، وإنما يثبت الملك في الزيادة من وقت شرط الزيادة وهذا؛ لأن ثبوت الزيادة وقول العاقد ردت، وإنه وجد الآن والحكم لا يثبت.
فهو معنى قولنا: أن الزيادة لا تلتحق بإنشاء العقد السابق، وإنما تلتحق بأصل العقد القائم حكماً؛ وهذا لأن أصل العقد السابق قائم في الحال حكماً ولهذا يرد عليه الفسخ، وإذا التحقت بالزيادة بالعقد القائم وقت شرط الزيادة كان مجلس الزيادة في حق الزيادة كمجلس العقد، فلهذا يصح قبض الزيادة في(7/187)
مجلس الزيادة، وإن لم يقبض الزيادة في مجلس الزيادة بطل العقد في الزيادة بما يخصها من الدينار؛ ولأن بعض الدينار صار بمقابلة الزيادة وقد بطل العقد في الزيادة فيبطل فيما يخصها من الدينار هذا إذا كانت الزيادة من بائع القلب ثوباً أو ذهباً.
وإن كانت الزيادة من بائع القلب، فإنه يجوز وإن كثرت؛ لأنه يصير بائعاً القلب مع الفضة بدينار فيجوز كيف ما كان، وإن كانت الزيادة ذهباً، فإن كانت ديناراً أو أكثر جازت الزيادة، ويصير كأن مشتري القلب اشترى القلب بدينار أو بأكثر منهما وكل ذلك جائز، إلا أنه يشترط قبض الزيادة في مجلس الزيادة، وإن لم يقبضها بطل الصرف في القلب بحصة الزيادة من القلب صرف، فإذا لم يوجد قبض الزيادة في المجلس بطل الصرف في الزيادة فيبطل فيما يخصها من القلب ضرورة، وإن كان مشتري القلب زاد فضة، فإن كانت الفضة مثل القلب أو أكثر لا يجوز؛ لأن القلب يكون بمثله من الفضة فيبقى الدينار مع شئ من الفضة ربا، وإن كانت الفضة أقل من القلب يجوز وتصير الفضة بمثلها من القلب، والباقي من القلب يكون بإزاء الدينار فيجوز.
وإذا اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بمئة درهم وتقابضا، ثم زاد مشتري السيف درهماً أو ديناراً فهو جائز، وتصرف الزيادة إلى ما وراء الحلية وهو النصل بظاهر عقله ودينه احتيالاً للجواز، وإن تفرقا قبل قبض الزيادة لا تبطل الزيادة لما ذكرنا أن الزيادة في ثمن النصل لا في ثمن الحلية، ولو كان بائع السيف هو الذي زاد ديناراً صحت الزيادة وصار كأنه باع سيفاً فيه (149ب3) خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم، فإن لم يقبض وتفرقا انتقض العقد في الدراهم بحصة الدينار لما ذكرنا أن من حيث المعنى، كأنه باع سيفاً فيه خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم، فإن لم يقبض وتفرقا انتقض العقد في الدراهم بحصة الدينار لما ذكرنا أن من حيث المعنى، كأنه باع سيفاً فيه خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم فخمسون درهماً من الثمن يكون بمقابلةِ الحلية، والخمسون الباقية تقسم على الدينار وعلى قيمة النصل، فما أصاب الدينار يجب رده؛ لأن العقد قد انتقض فيه بترك قبض الدينار في المجلس.
قال في «الجامع» : إذا اشترى فضة بمئة دينار وتقابضا وهو قائم التقيا فزاد المشتري البائع في الثمن عشرة دنانير تصح الزيادة، ويشترط قبض الزيادة، ولا يشترط قبض الإبريق في الحال، وإن كانت الزيادة مقابل الإبريق في الحال إلا أن الزيادة للحال لا مقابل الإبريق حقيقة، وإنما مقابله تسمية؛ لأن الإبريق صار مملوكاً له بكماله بأصل الثمن، وبالزيادة لا يزداد ملكه ولم ينفسخ العقد بشرط الزيادة؛ لأن الزيادة لا تقابل الإبريق للحال حقيقة، وإنما تقابله صورة، غير أنها إذا صحت التحقت بأصل العقد فتثبت المقابلة من وقت وجود العقد من حيث المعنى، وإنه أقوى من المقابلة من حيث الصورة، وقبضُ الإبريق موجود وقت العقد حقيقة فوقعت الغيبة عن اشتراط قبضه وقت المقابلة صورة، أما في حق الزيادة لا يمكن اعتبار القبض وقت المقابلة معنى فاعتبرناه وقت وجود المقابلة صورة والله أعلم.(7/188)
الفصل التاسع: في الصلح في الصرف
رجل اشترى من رجل عبداً وتقابضا ثم وجد مشتري العبد بالعبد عيباً، وخاصم البائع فيه فأقر البائع بالعيب وجحده وصالح المشتري عن العيب على دنانير فهذا (على) وجهين:
الأول: أن يكون بدل الصلح أقل من حصة العيب من الثمن بأن كان حصة العيب من الثمن عشرة دنانير، ووقع الصلح على أقل من عشرة دنانير وافترقا قبل التقابض فالصلح جائز.
من مشايخنا من قال: ما ذكر من الجواب يستقيم على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يجوز الصلح إذا افترقا قبل التقابض.
وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلافهم في المغصوب منه إذا صلح مع الغاصب بعد هلاك المغصوب على أكثر من قيمته على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأن حق المغصوب منه بمجرد الهلاك لا ينتقل عن العين إلى القيمة إلا بقضاء أو رضاء فقبل القضاء والصلح يكون الصلح واقعاً عن الجزء الغائب، وإنه دين معنى فيبطل الصلح بالافتراق عن المجلس قبل قبض البدل؛ لأن الافتراق يكون عن دين بدين.
وعلى قول أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: صلح المغصوب منه مع الغاصب على أكثر من قيمته لا يجوز؛ لأن عندهما حق المغصوب منه بمجرد الهلاك ينتقل عن العين إلى القيمة فيكون الصلح واقعاً عن القيمة، فلا يجوز على أكثر من القيمة لمكان الربا فكذا هاهنا حق المشتري ينتقل عن الجزء الغائب إلى حصة من الثمن، وذلك عشرة دنانير، فيكون الصلح واقعاً من حيث المعنى على عشرة دنانير على ثمانية دنانير، ولو كان هكذا حقيقة لا يبطل الصلح بالافتراق قبل قبض بدل الصلح؛ لأن هذا ليس بصرف بل هو استيفاء لبعض الحق وإسقاط لبعض الحق كذا هاهنا.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر ههنا قول الكل، وهذا القائل يقول بأن حق المشتري في الجزء الغائب ينتقل إلى حصته من الثمن من غير أن يحتاج فيه إلى قضاء القاضي أو التراضي.
وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة رحمه الله من هذه المسألة الغصب.
والفرق: أن في باب الغصب حق المالك كان في عين المغصوب قبل الهلاك لو انتقل إلى القيمة؛ إنما ينتقل بنفس الهلاك وليس من ضرورة الهلاك انتقال الحق إلى القيمة؛ لأن الهلاك على ملكه مقصور بأن أبرأ الغاصب عن ضمان الغصب، وإذا لم يكن(7/189)
من ضرورة الهلاك إسقاط الحق إلى القيمة يفي حق المغصوب منه في عين العبد، فإنما صالح عن عين المغصوب لا عن قيمته، فيجوز كيف ما وقع الصلح، فأما حق المشتري في الأصل في الثمن لا في المبيع، وإنما انتقل إلى المبيع وأجزأ به بالبيع، فإذا عجز البائع عن تسليم شيء منه قبل القبض عجزاً لا يرجى زواله انفسخ البيع وانتقل حقه إلى الثمن.
ألا ترى أنه لو هلك المبيع كله قبل القبض ينتقل حق المشتري إلى جملة الثمن ولا يحتاج فيه إلى القضاء والتراضي، فكذا إذا هلك البعض، وإذا انتقل حق المشتري إلى حصة الجزء الغائب من الثمن، فلا يبطل الافتراق قبل القبض لما قلنا لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
فأما إذا وقع الصلح على أكثر من حصة العين، فإن كانت الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس في مثلها بأن وقع الصلح على اثني عشر ديناراً، فعلى قول أبي حنيفة: يجوز الصلح، وعلى قولهما: لا يجوز.
وجه قولهما: أن الصلح وقع عن حصة العيب من الثمن، فإذا كانت حصة العيب من الثمن عشرة، ووقع الصلح على اثني عشر فقد تمكن الربا.
ولأبي حنيفة: أنه إن تعذر تجويز هذا الصلح بطريق المعاوضة لمكان الربا أمكن تصحيحه بطريق أخر بأن يجعل البائع موفياً حصة العيب بتمامه، وذلك عشرة حطا حاطا دينارين عن ثمن الباقي، ولو كان كذلك يصح ما صنع ويجب رد دينارين عن ثمن الباقي إن كان الثمن مقبوضاً ويسقط عن المشتري هذا القدر إن لم يكن الثمن مقبوضاً كذا هاهنا.
وإن كان البائع صالح المشتري عن العيب على دراهم، فإن قبض بدل الصلح قبل أن يتفرقا قبل قبض بدل الصلح بطل الصلح وقع عن حصة الجزء الغائب عن الثمن، وحصة الجزء الغائب من الثمن دنانير، فإذا صالحه على دراهم لا يمكن تصحيحه بطريق استيفاء البعض؛ لأن الجنس يختلف لو صح بطريق المعاوضة وتعذر تجويزه بطريق المعاوضة؛ لأنه صرف، والصرف لا يصح إذا وقع الافتراق قبل قبض أحد البدلين.
وإذا ادعى رجل على رجل مئة درهم فأنكر المدعى عليه ذلك، أو أقر ثم صالحه منها على عشرة دراهم حالة أو إلى أجل، ثم افترقا قبل القبض فالصلح جائز، أما إذا كان الصلح عن إقرار؛ فلأن هذا الصلح استيفاء للبعض وإبراء عن البعض في زعم المدعى عليه، وليس بصرف فلا يبطل بالافتراق قبل القبض، وكذلك لو كان فيه خيار لأحدهما فافترقا قبل التقابض لا يبطل الصلح؛ لأن أثر الخيار في فوات القبض، وهذا الصلح لا يبطل بفوات القبض فاشتراط الخيار كيف يؤثر فيه.
وإن كان صالحه على خمسةِ دنانير وافترقا قبل التقابض بطل الصلح، وإن افترقا بعد القبض فالصلح صحيح على خلاف جنس الحق، فلا يمكن تصحيحه إلا بطريق المعاوضة (150أ3) فيكون صرفاً، والتقابض في الصرف شرط.(7/190)
وإذا ماتت المرأة وتركت ميراثاً من رقيق وثياب، وميراثها كله عبداً بها فصالح الأب زوجها على مئة دينار فهذا على وجهين:
الأول: أن يعلم نصيب الزوج من الذهب المتروكة، وفي هذا الوجه إن كان بدل الصلح أكثر من نصيب الزوج من الذهب يجوز، وإن كان مثله أو أقل لا يجوز.
الثاني: إذا كان لا يعلم نصيب الزوج من الذهب المتروك، وفي هذا الوجه لا يجوز الصلح.
وكذلك إذا صالحه على خمسمئة درهم فهو على وجهين أيضاً: إما أن يعلم نصيب الزوج من الدراهم المتروكة أولم يعلم.
والجواب في الوجهين على ما ذكرنا في فصل الذهب، وإن كان صالحه على مئة درهم وخمسين ديناراً جاز الصلح كيف ما كان، أما إذا كان بدل الصلح من كل واحد من الجنسين يجعل مثله من جنسه من بدل الصلح والفاضل من بدل الصلح يجعل بإزاء العروض، وإذا كان بدل الصلح من كل واحد من الجنسين مثل حصة الزوج من ذلك؛ فلأن بدل الصلح من الذهب يصرف إلى الفضة من التركة، وبدل الصلح من الفضة يصرف إلى الذهب من التركة والمتاع والرقيق تحرياً للجواز وطلباً للحصة، فإن وجد التقابض بقي الصلح في الكل على الصحة.
وإن لم يوجد التقابض يبطل الصلح هكذا ذكر في «الكتاب» : ويجب أن يقال بأن الصلح في حصة الصرف يبطل، وكذلك في حصة اللألئ والجواهر التي لا يمكن نزعه إلا بضرر، وأما فيما عدا ذلك من الثياب والمتاع والعروض فالصلح يبقى على الصحة.
وهو نظير ما لو اشترى ثوباً قيمته عشرة دراهم بعشرين ديناراً أو تفرقا من غير قبض يبطل العقد بحصة الصرف، ويبقى في الثوب بحصته على الصحة كذا هاهنا، وإن قبض الزوج الدراهم والدنانير التي هي بدل الصلح وكان الميراث في بيت الأب ولم يكن حاضراً في مجلس الصلح، فإن الصلح يبطل بحصة من الذهب والفضة.
هكذا ذكر في «الكتاب» : وهذا إذا كان الأب مقراً للزوج بما عنده حتى يكون نصيب الزوج أمانة في يده؛ لأن قبض الأمانة لا تنوب عن قبض الشراء فيجعل الافتراق بغير قبض فتبطل حصة الصرف وحصة ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر كالجوهر المرصع واللؤلؤ المرصع.
فإما إذا كان جاحداً للزوج ما عنده فالصلح صحيح في الكل؛ ولأن الأب إذا كان جاحد اً للزوج ما عنده كان الأب غاصباً نصيب الزوج، وقبض الغصب ينوب عن قبض الشراء، فإذا قبض بدل الصلح فالافتراق حصل بعد التقابض، فلا يبطل الصلح في حصة الصرف، وكذلك إذا كان الأب مقراً للزوج بما عنده إلا أن المشتري كان غاصباً حاضراً في مجلس الصلح، فالصلح جائز في الكل؛ لأن الزوج قبض بدل الصلح والأب قبض نصيب الزوج من التركة؛ لأنه يمكن من قبضه حقيقة إذا كان حاضراً في مجلس الصلح والتمكن من القبض حكماً عرف ذلك في موضعه فحصل الافتراق بعد قبض البدلين(7/191)
وستأتي هذه المسألة من طرف المرأة مع زيادة كما يأتي في كتاب الصلح إن شاء الله.
ثم إذا ادعى رجل سيفاً محلى بعينه في يدي رجل فصالحه المدعى عليه عشرة دنانير يدفعها المدعى عليه على المدعي فقبض المدعي منها خمسة، واشترى بالخمسة الأخرى ثوباً، فإن كانت الخمسة المقبوضة مقدار حصة الحلية فالصلح صحيح؛ لأن المنقود يجعل بإزاء الحلية مستحق في المجلس وقبض حصة والثوب ليس بمستحق.
وإذا جعلنا المنقود حصة الحلية حصل الافتراق بعد قبض البدلين فيما هو صرف؛ لأن موضوع المسألة المدعى عليه جاحداً للسيف حتى يكون غاصباً لها، وقبض الغصب ينوب عن قبض الشراء، وإن كان المدعى عليه مقراً بالسيف كان حاضراً في مجلس الصلح، وما بقي من بدل الصلح غير منقود فهو ثمن النصل والاستبدال بثمن النصل قبل القبض جائز، فإن كانت الخمسة المنقودة أقل من مقدار حصة الحلية فالصلح باطل في الكل.
أما في حصة الحلية فلا إشكال؛ لأنه بطل في بعضه فيبطل في الباقي؛ لأنه شئٌ واحد، وأما في حصة الشراء؛ لأنه دخل بعض الحلية في شراء الثوب والاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز لما فيه من فوات القبض، وإذا بطل شراء الثوب في البعض بطل في الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن شراء الثوب في البعض بطل معنى الربا؛ لأنه بطل لما فيه من فوات القبض في أحد البدلين في صرف يمكن ربا النساء، وإذا صار بعض بدل الحلية مشروطاً في شراء الثوب فقد بطل شراء بعض الثوب لمكان ربا فيه فيبطل في الباقي.
كما لو سلم حنطة في شعير وزيت وعندهما شراء الثوب يبطل بقدر ما صار من حصة الحلية داخلاً فيه ويبقى في الباقي كما في مسألة السلم.
وإذا اشترى الرجل إبريق فضة بمئة دينار وفي الإبريق ألف درهم وتقابضا، ثم وجد مشتري الإبريق بالإبريق (عيباً) وهو قائم بعينه حتى كان له رد الإبريق فصالح بائع الإبريق المشتري على دينار وقبض المشتري الدينار أو لم يقبض حتى تفرقا فالصلح ماضٍ.
ذكر المسألة في «الأصل» : من غير ذكر خلاف وهذا الجواب على قولهما مستقيم، وكذلك على قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من يقول من المشايخ: أن الصلح وقع عن حصة العيب من الثمن؛ لأن حصة العيب من الثمن دينار وبدل الصلح دينار أيضاً، فيكون هذا الصلح واقعاً على جنس حقه فلا يكون صرفاً، وإن وقع الصلح على عشرة دراهم، فإن قبض المشتري الدراهم قبل أن يتفرقا فالصلح جائز، وإن لم يقبض حتى تفرقا بطل الصلح؛ لأن الصلح وقع على خلاف جنس الحق فيعتبر صرفاً، فإن كانت الدراهم التي وقع عليها أكثر من حصة العيب فالصلح جائز؛ لأن الصلح وقع ثمن حصة العيب عند الكل عند بعض المشايخ، وحصة العيب دينار وشراء الدينار بدراهم أكثر من قيمة الدينار جائز، وعند بعض المشايخ: الصلح وقع عن الجزء الغائب بالدراهم أكثر من قيمته يجوز.
وإذا ادعى رجل على رجل عشرة دراهم وعشرة دنانير وأنكر المدعى عليه وأقر، ثم(7/192)
صالحه المدعى عليه على خمسة دراهم من ذلك كله، فهذا جائز سواء كان نقداً أو نسيئة وطريق الجواز أن يجعل المدعي مؤقتاً عن الدراهم التي ادعاها خمسة مبرئاً للمدعى عليه عن الخمسة دراهم وعن العشرة الدنانير.
وإذا اشترى الرجل قلب ذهب منه عشرة مثاقيل بمئة درهم وتقابضا واستهلك المشتري القلب، أو لم يستهلكه حتى وجد به عيباً قديماً (150ب3) قد كان دلسه البائع فصالحه البائع من ذلك على عشرة دراهم نسيئة فهو جائز، وأراد بقوله استهلك القلب أنه كسره لا حقيقة الاستهلاك بالآخر أو بالبيع؛ لأن ذلك يمنع الرجوع بنقصان العيب، وإنما جاز هذا الصلح؛ لأنه وقع على حصة العيب من الثمن، وإنه دراهم فيكون هذا صلحاً على جنس الحق، فيجوز سواء كان بدل الصلح هذا أو نسيئة، وإن صالحه على دنانير فالصلح جائز ويكون صرفاً؛ لأن الصلح على خلاف جنس الحق فيكون معاوضة فيكون صرفاً.
وإذا اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بدنانير وتقابضا، ثم وجد في القلب عيباً فنقضه فصالحه على قيراطي ذهب من الذهب على أن يريده المشتري ربع حنطة وفي بعض النسخ ربع كر حنطة وكانت الحنطة بعينها كان ذلك جائزاً.
وطريق الجواز: أن البائع بذل قيراطي ذهب من دينار بإزاء ربع كر حنطة، وبإزاء حصة العيب من الثمن، فإن حصة العيب من قيمة ربع كر حنطة على السواء، يقسم القيراطان عليهما نصفين فيكون أخذ القيراطين حصة العيب من الثمن، والقيراط الآخر حصة الحنطة وذلك جائز، فإن افترقا من غير قبض لا يبطل الصلح، أما حصة الحنطة؛ فلأن الافتراق فيها حصل عن عين بدين، وأما حصة العيب؛ فلأن الصلح فيها وقع على جنس الحق والصلح إذا وقع على جنس الحق لا يبطل بالافتراق قبل القبض، فإن تقابضا ثم وجد بالحنطة عيباً رد بحصتها من القيراطين.
وفي «المنتقى» : إذا كان للرجل على رجل دراهم بتجارة واصطلحا منها على دراهم لا يعرف وزنها قال: إني أنظر إلى التجارة به، فإن كان الغالب فيها النحاس فهو جائز على القليل والكثير، وإن كان الغالب فيها الفضة لا يجوز الصلح إلا على وزنها، وإن صالح على أقل لا يجوز من قبل أن هذا ليس على وجه الحط.
ألا ترى لو كان عليه ألف درهم غلة فصالح منها على تسعمئةٍ درهم بيض لا يجوز، ولو كان الدين بيضاً فصالح على تسعمئةٍ سود جاز وكان هذا حطأً، ولو صالحه على تسعمئةٍ ولم يشترط بيضاً جاز ذلك، وقال أبو يوسف: إن كان السود أفضل لم يجز الصلح على السود أقل من وزن البيض، وإن كان أسوأ جاز الصلح من أحدهما على الأخر بأقل من وزنه.(7/193)
الفصل العاشر: في بيع الإناء وزناً فيزيد وينقص
وإذا اشترى سيفاً محلى فيه مئة درهم من الحلية بمئتي درهم، ثم علم أن فيه مئتي درهم فهذا على وجهين: إما إن علم ذلك بعد ما تقابضا وتفرقا، وفي هذا الوجه بطل العقد في الكل؛ لأنه لا وجه إلى تصحيح هذا العقد في الحلية بالزيادة؛ لأن الزيادة بإزاء الحلية يكون صرفاً ولم يوجد قبض بدله في المجلس لما تفرقا ولا وجد إلى تصحيحه في جميع الحلية بمئة؛ لأنه يكون ربا فبطل العقد في الحلية ضرورة، وإذا بطل في الحلية بطل في النصل؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر هذا، إذا علم ذلك بعد ما تفرقا.
وأما إذا علم ذلك قبل أن يفترقا فالمشتري بالخيار إن شاء زاد في الثمن مئة أخرى، وإن شاء فسخ العقد في الكل، وإنما خير؛ لأن المشتري إنما رضي بجميع السيف بمئتي درهم، فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه مئة أخرى زيادة على المئتين لا يكون راضياً فيكون له الخيار، فإن اختار أخذ السيف لزمه مئة أخرى؛ لأنه الثمن، وذلك مئتان أيقسم من الابتداء على الحلية والنصل والحصن والحمائل نصفان؛ لأنهما شرطا في البيع أن الحلية مئة والمئة فكأنهما قالا: على أن المئة بمئة والمئة الأخرى بإزاء النصل والحصن والحمائل، فإذا صار بإزاء الحلية مئة يحتاج إلى أن يزيد بحصتها مئة أخرى حتى يصير مشترياً مئتين بمئتين فلا يتمكن الربا فيزيد مئة أخرى ويقبض البائع الثمن مع الزيادة، ويقبض المشتري السيف؛ لأنهما في المجلس بعد فيصح العقد.u
فرق بين هذا وبين ما إذا علما في الابتداء؛ أن وزن الحلية مئتي درهم وقد تبايعا السيف بمئتي درهم أراد المشتري أن يزيد مئة أخرى قبل أن يتفرقا، فإن العقد لا يجوز.
والفرق: أنهما إذا علما في الابتداء أن الحلية مئتي درهم وقد تبايعا بمئتي درهم فقد أوقعا العقد بصفة الفساد؛ لأنه لا بد وأن يكون بمقابلة النصل والحصن في الحمائل شيء من الثمن، فيكون بمقابلة الحلية أقل من وزنها، وبيع الفضة بالفضة واحد هما أقل وزناً من الآخر لا يجوز.
فهو معنى قولنا: أوقعا العقد بصفة الفساد والعاقدان إذا أوقعا العقد بصفة الفساد ولا يحتال تصحيحه؛ لأنه لا يمكن، فأما في مسألتنا هذه ما أوقعا العقد بصفة الفساد؛ ولأنهما لم يعلما وقت العقد أن الحلية مئتي درهم إنما علماها مئة درهم، فإذا تبايعا بمئتي درهم فقد جعلا بمقابلة الحلية مئة درهم؛ لأن الفضة مستحقة بمثلها شرعاً فكان بائع السيف وهي مئة، قال للمشتري: بعتك منك حلية السيف وهي مئة بمئة، وبعتك منك النصل والجفن والحمائل بمئة أخرى، ولو صرح بذلك لا يكون ذلك إيقاعاً للعقد بصفة الفساد ويمكن تصحيحه بالزيادة متى رضي المشتري بالزيادة.
وإذا اشترى قلب فضة على أن فيه ألف درهم بألف درهم، فإذا فيه ألفا درهم إن علم ذلك في المجلس فالمشتري يريد ألفاً أخرى إن شاء أخذ كل الإبريق، وإن لم يرد(7/194)
يبطل العقد في نصف الإبريق؛ لأن الفساد بسبب الافتراق قبل قبض بدل الصرف، وذلك بقدر النصف فيفسد العقد بقدر النصف، ويصح بقدر النصف إذ يصح العقد في نصف القلب شائعاً ممكن بخلاف مسألة السيف؛ لأن تصحيح العقد في نصف الحلية شائعاً غير ممكن؛ لأن بيع نصف الحلية شائعاً لا يجوز؛ لأن الحلية بمنزلة الوصف وبيع بعض الأوصاف لا يجوز فلا يمكن تصحيح البيع في نصف الحلية، فلا يمكن تصحيح البيع في الكل بالزيادة بعد الافتراق عن المجلس لما قلنا فتعين جهة البطلان في الكل.
أما في القلب فبخلافه على ما يتناول في «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى قلب فضة على أن فيه عشرة دراهم بدينار، فوجد فيه خمسة عشر قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا فالقياس: أن يكون القلب كله للمشتري بذلك الثمن، ولكن ادعى القياس في الذهب والفضة ويكون للمشتري فيه الخيار، إن شاء أخذ ثلثاه بالدينار وكان للبائع ثلث القلب، وإن شاء رده قال: وهذا قبل الفرقة، وبعده سواء من قبل أن الزيادة لم يرد عليها البيع، وإنما كان للمشتري الخيار؛ لأن القلب لم يسلم له كله، وهذا خلاف جواب الأصل، ولو كان اشترى القلب بعشرة دراهم على أن فيه عشرة دراهم وتقابضا، وتفرقا أو لم يتفرقا فوجد فيه خمسة عشر فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بثلثه بعشرة، وإن شاء رد، فإن قال: أنا أزيد خمسة وأستلم القلب لم يكن ذلك إذا كان قد تفرقا، وإن كانا لم يتفرقا فله ذلك، يزيد خمسة ويأخذ كله وإن شاء أخذ ثلثه بعشرة (151أ3) .
ولو اشترى إناء فضة بدينار على أن فيه عشرة دراهم فتقابضا وتفرقا فوجد فيه تسعة دراهم، فهو بالخيار إن شاء رده وإن شاء أمسكه، ورجع بحصة النقصان من الدينار، ولو كان اشتراه بدراهم، فإن شاء رده ورجع بدراهمه.
وإذا اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم بألف درهم، إن علم ذلك قبل أن يتفرقا عن المجلس فالمشتري يزيد ألف درهم إن شاء ويجوز العقد في الكل؛ لأنهما ما أوقعا العقد بجهة الفساد والتصحيح في الكل ممكن بإثبات الزيادة في مجلس العقد، فإن لم يزد المشتري ألفاً أخرى يصح العقد في نصف الفضة، ويبطل في النصف كما في مسألة الإبريق إلا أن مسألة القلب يتخير المشتري وهاهنا لا يتخير؛ لأن الشركة في النقرة ولا ينقصها التبعيض ولا يضرها ولا يعد عيباً، والشركة في القلب والتبعيض ينقضه ويضره يرد عيباً، فأثبتنا الخيار للمشتري في القلب ولم يثبت في النقرة لهذا، وإن علم ذلك بعدما تفرقا عن المجلس يجوز العقد في نصف الإبريق؛ لأن تصحيح العقد في النصف ممكن في النقرة؛ لأن بيع نصف النقرة شائعاً جائز كبيع نصف الإبريق إلا أن في الإبريق يتخير المشتري، وفي النقرة لا، هذا إذا حصل الشراء بالجنس.
أما إذا حصل بخلاف الجنس بأن اشترى سيفاً محلى على أن حليته مئتي درهم بعشرة دنانير، أو اشترى إبريق فضة على أنه ألف درهم بمئة دينار، فإذا فيه ألفان أو اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم بمئة دينار، فإذا فيه ألفان، أو اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم إلي فالعقد جائز في المسائل كلها؛ لأن الجنس مختلف، وإذا جاز العقد(7/195)
فالزيادة على المسمى من الوزن في مسألة النقرة لا تسلم للمشتري من غير شيء.
وفي مسألة الإبريق: يسلم للمشتري من غير شيء؛ وهذا لأن الوزن فيما يضره التبعيض جار مجرى الوصف؛ لأن تمييز البعض عن البعض يوجب نقصاناً في الباقي فكان بمنزلة الوصف من هذا وزيادة الوصف على المسمى يجوز أن يسلم للمشتري بغير شيء.
كما لو اشترى ثوباً على أنه عشرة أذرع، فإذا هو أحد عشر ذراعاً فالذرع الحادي عشر يسلم للمشتري بغير شيء، فأما الوزن فيما لا يضره التبعيض أصل من كل وجه؛ لأنه تمييز البعض عن البعض لا يوجب نقصاناً في الباقي فيعتبر أصلاً من كل وجه، والزيادة على المسمى فيما هو أصل من كل وجه لا يسلم للمشتري بغير شيء.
كما لو باع من أخر صبرة حنطة على أنها عشرة أكرار، فإذا هي أحد عشر كراً، فالكر الحادي عشر لا يسلم للمشتري لما كان كل كر أصلاً بنفسه كذا هاهنا.
وفي «نوادر هشام» : عن أبي يوسف: رجل اشترى سيفاً محلى بفضة بمئة وخمسين درهماً على أن حلية السيف مئة درهم، فإذا حلية السيف خمسون درهماً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بمئة درهم كأنه حين اشتراه بمئة وخمسين على أن الحلية مئة، فقد اشترى الفضة بمئة وبقية السيف بخمسين قاله محمد رحمه الله.
الفصل الحادي عشر: في بيع السيف وفي بيع الحلي الذي فيه اللآلئ والجواهر وأشباه ذلك وفي بيع المملوكات ما يجوز وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة درهم فالمسألة على أربعة أوجه:
الأول: أن تكون الدراهم التي في ثمن أكثر من الفضة التي هي في السيف، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل بمقابلة الفضة التي في السيف، وفي الوجه البيع جائز إلي من الدراهم التي هي ثمن مثلها، والباقي يكون بإزاء النصل والجفن والحمائل.
الوجه الثاني: أن تكون الدراهم التي هي في ثمن مثل الفضة التي في السيف، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع؛ لأنه يبقى النصل والجفن خالياً عن العوض فلا يكون ربا.
الوجه الثالث: أن تكون الدراهم التي هي ثمن أقل من الفضة التي في السيف، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع أيضاً؛ لأنه يبقى النصل والجفن وبعض الفضة خالياً عن الثمن.
الوجه الرابع: أن لا يدري أن الدراهم التي هي ثمن مثل الحلية أو أقل أو أكثر، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع أيضاً؛ لأنه يجوز من وجه واحد، وهو ما إذا كانت الدراهم التي هي ثمن أكثر من الفضة التي في السيف ولا يجوز من وجهين: وهو أن تكون الدراهم التي هي ثمن مثل الحلية أو أقل ولو جاز من وجه دون وجه يحكم بالفساد(7/196)
بطريق الاحتياط فهذا أولى، وإن لم يعلم مقدار الدراهم وقت البيع ثم علم بعد ذلك فكانت أكثر من الفضة التي في السيف، فإن علم وهما في مجلس العقد بعد جاز البيع، وإن علم بعد ما افترقا عن المجلس لم يجز البيع، والأصلُ أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطاً لجواز العقد تعتبر المماثلة في المعيار وقت البيع.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذا الأصل في شرح كتاب البيوع آخر الباب الأول إلا أن ساعات المجلس جعلت كساعة واحدة شرعاً في حق الأحكام المتعلقة بالمجلس فيجعل العلم بمقدار الدراهم في آخره كالعلم به وقت المباشرة للعقد وعلى هذا بيع صبر بصبرة مجازفة ثم كيلاً بعد الافتراق عن المجلس فكان متساويين كيلاً لم يجز وطريقةُ ما قلنا.
قال القدوري: وكذلك لو اختلف أهل العلم فيه فقال بعضهم: الثمن أكثر من الفضة التي في السيف.
وقال بعضهم: لا بل هو مثلها لا يجوز البيع؛ لأن الرجوع إلى قول البعض ليس بأولى فسقط اعتبار قولهم لمكان التناقض والتحق قولهم بالعدم.
وإذا باع الرجل من آخر حلي ذهب ولؤلؤ وجواهر بدنانير وقبض المشتري الحلي فهذا على أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون الدنانير مثل الذهب الذي في الحلي.
الوجه الثاني: أن تكون الدنانير أقل من الذهب الذي في الحلي.
الوجه الثالث: إذا كان لا يدري أن الدنانير التي هي ثمن مثل الذهب الذي في الحلي أو أقل أو أكثر في هذه الوجوه الثلاث لا يجوز البيع أصلاً لا في الذهب، ولا في الجواهر سواء أمكن تخليص الجواهر من غير ضرر أو لم يمكن أما في الذهب فظاهر، وأما في الجواهر أما إذا أمكن تخليص الجوهر من غير ضرر؛ فلأن الجواهر في هذه الصورة كالممتاز حكماً إن كان متصلاً حقيقة، ألا ترى أن من غصب جوهراً وركبه في حلية ويمكن تخليصه (151ب3) بغير ضرر لا ينقطع على المالك كأنه ممتاز حقيقة، وقد اشتراهما جميعاً بدنانير، والدنانير مثل الذهب أو أقل أو لا يدري، لم يجز البيع أصلاً لا في الذهب ولا في الجوهر فكذا هاهنا، وإذا كان لا يجوز هذا البيع في الجوهر.
وإن أمكن تخليص الجوهر عنه من غير ضرر؛ فلأن لا يجوز البيع في الجوهر إذا لم يمكن تخليصه إلا بضرر وقد يمكن في الجوهر سبب فساد آخر، وهو أنه باع ما لا يقدر على تسليمه إلا بضرر أولى، وأما إذا كانت الدنانير التي هي ثمن أكثر من الذهب الذي في الحلي، فالبيع جائز في الكل في الذهب وفي الجوهر، ويصرف إلى الذي في الحلي من الذهب الذي هو ثمن قدر مثله والباقي بإزاء الجوهر واللألئ فبعد ذلك المسألة على ثلاثة أوجه:
إن نقد الدنانير التي هي ثمن كلها قبل أن يتفرقا فالعقد ماض على الصحة، أما في حصة الذهب الذي في الحلي؛ فلأنه صرف وقد وجد التقابض قبل الافتراق، وأما في حصة الجوهر؛ فلأنه للبيع وقد قبض منه قبل الافتراق، ولم يقبض(7/197)
ثمنه قبل الافتراق لكان لا يفسد العقد لحصول الافتراق فيه عن عين بدين فههنا أولى.
وكذلك إن نقد من الدنانير التي هي عين حصة الذهب الذي هو في الحلي يريد به أنه نقد من الدنانير التي هي من ثمن حصة الذهب الذي هو في الحلي ولكن لم ينص على أنه حصة الذهب؛ لأن قبض حصة الذهب مستحق في المجلس شرعاً وقبض حصة اللألئ والجواهر ليس بمستحق في المجلس وغير مستحق لا يعارض المستحق.
فجعلنا المنقود حصة الذهب فتبين أن الافتراق فيما هو صرف حصل بعد القبض، فلهذا بقي العقد على الصحة، وإن لم ينقد شيئاً من الدنانير حتى تفرقا، لا شك أن العقد فيما يخص الحلي من الذهب يفسد فيما يخص الجوهر هل يفسد؟ ينظر إن كان الجوهر بحيث لا يمكن تخليصه إلا بضرر يفسد؛ لأن العقد في حصة الجوهر بيع فقد باع ما لا يمكن تسليمه، فكل بيع هذه حالة، لا يكون فاسداً عرف ذلك في موضعه.
فإن قيل: أمكنه التسليم من غير ضرر أن يحلى بين المشتري وبين الحلي كله فيصير قابضاً الجوهر، ألا ترى أنه لو باع نصف الجوهر شائعاً يجوز.
وطريق الجواز: أن تسليم المبيع ممكن من غير ضرر بأن يحلى بين المشتري وبين جميع الجوهر.
قلنا: العقد إذا ورد على الشائع، فالواجب تسليم المبيع مع غيره؛ لأن تسليمه بنفسه لا يمكن؛ لأن الشائع ما يكون مختلطاً بغيره.
فأما إذا ورد على شيء بعينه يجب تسليمه بنفسه ولا يمكن تسليم الجوهر هاهنا بنفسه إلا بضرر.
فإن قيل: البائع رضي بضرر التخليص لما باع مع علمه أن البيع يقتضي التسليم ولا يمكنه التسليم إلا بالتخليص.
قلنا: نعم رضي بالتخليص إلا أنه بدا له الرجوع عن هذا الضرر وله ذلك.
ألا ترى أن من رضي بإتلاف شئ من ماله ثم بدا له قبل الإتلاف أن لا يتلف عليه ذلك كان له ذلك كذا ههنا، وأما إذا أمكن تخليصه من غير ضرر لا يفسد العقد في الجوهر؛ لأنه إذا أمكن تخليصه فهو كالممتاز من حيث الحكم، ولو كان ممتازاً حقيقة وقد اشتراهما بدينار، فإن العقد يفسد في حصة الذهب ولا يفسد في حصة الجوهر كذا هاهنا.
هذا إذا باع الحلي بدنانير يفسد، فأما إذا باع الحلي بدنانير نسيئة فهو على أربعة أوجه:
إن كان المسمى من الدنانير مثل الذهب الذي في الحلي وفي الجوهر؛ لأن الدنانير لو كانت نقداً لا يجوز البيع في الوجوه الثلاث لمكان ربا الفضل؛ فلأنه لا يجوز البيع في مثل هذه الوجوه إذا كانت الدنانير نسيئة وقد اجتمع مع ربا الفضل ربا النسيئة كان أولى، فأما إذا كانت الدنانير أكثر من الذهب الذي في الحلي لا شك أن العقد يفسد فيما يخص الحلي من الذهب؛ لأنه صرف لم يوجد قبض بدله في المجلس.
فأما فيما يخص الجوهر هل يجوز البيع؟ ينظر: إن لم يمكن تخليصه إلا بضرر يفسد البيع في حصة الجوهر؛ لأن ثمن الجوهر، فإذا كان نسيئة أولى وإن أمكن تخليصه(7/198)
من غير ضرر يجب أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة لا يجوز البيع في الجوهر؛ لأن العقد على الذهب كان ربا؛ لأن ربا النساء يحرم بأحد وصفي علة الربا النقد بمجموعها أولى، وإذا فسد البيع على الذهب بسبب الربا فسد في الجوهر؛ لأن الربا صار مشروطاً فيه حكماً ومعنى لاتحاد الصفقة.
فهو نظير ما لو أسلم في كر حنطة كر شعير وزيت، فالعقد يفسد في الزيت عند أبي حنيفة؛ لأن العقد فسد في الشعير لمكان الربا والربا صار مشروطاً في الزيت معنىً لاتحاد الصفقة وعندهما العقد في مسألة السلم لا يفسد في حصة الجوهر.
قال هشام قال أبو يوسف: إذا باع حلية السيف دون السيف لم يجز، إلا أن يبيعه على أن يقلعه المشتري فقلعه فبل أن يتفرقا، وإن باعه ولم يقل على أن يقلعه، ثم قال للبائع قبل أن يتفرقا: قد أديت ذلك في قلعه فأقلعه قبل أن يتفرقا جاز، وإن افترقا قبل أن يقلعه فهو باطل.
قال هشام: قلت لأبي يوسف: وإن كان المشتري قد قبض الثمن قال: لأنه لا يكون قابضاً لحليته حتى يقلعها من السيف، قلت لأبي يوسف: أرأيت إن باعه السيف على أن فيه مئة درهم بمئة وخمسين درهماً فقال البائع: فيه كما شرطت وقال المشتري: فيه خمسون، فالقول قول البائع.
قال أبو الفضل: وهذا الجواب في مسائل السيف على التصادق أو يجيء شئ من ذلك يحيط العلم بأنه لا يكون فيه.
وفي القدوري: وإذا باع السيف المحلى بثمن مؤجل فنقد المشتري قدر حصة الحلية من الثمن جاز استحساناً، وإن لم ينص أن المنقود من حصة الحلية، وقد مر جنس هذا، وكذلك إذا قال هذا المنقود من ثمنها كان من حصة الحلية خاصة، ويكون معنى قوله من ثمنها من جملة الثمن وحصة الحلية من جملة الثمن.
ولو قال: هذا من ثمن النصل والجفن خاصة فسد العقد؛ لأنه بَيّن وأفصح فلا يمكن جمله على وجه آخر، ولو قال: هذا الذي عجلت من ثمن السيف كان المعجل من ثمن الحلية؛ لأن السيف اسم للجملة.
ألا ترى أن الحلية تدخل في بيع السيف بطريق التبع، وإذا كان السيف المحلى بالفضة بين رجلين فباع أحدهما نصيبه من السيف من صاحبه يجوز؛ لأنه لو باعه من أجنبي يجوز فكذا من شريكه إلا أن الشريك إن لم يجد ذا القبض حتى افترقا بطل العقد؛ لأن يد كل واحد منهما في نصيب صاحبه يد أمانة ويد الأمانة لا تنوب عن قبض الشراء.
وإذا اشترى من آخر سيفاً محلى بفضة فيه خمسون درهماً وقيمة السيف (152أ3) وحمائله وجفنه خمسون درهماً اشتراه بمئة درهم وقبض السيف ونقد الخمسين ولم ينقد الخمسين حتى افترقا فهو جائز؛ لأن المنقود يصرف إلى الحلية احتيالاً لبقاء العقد على الصحة؛ وهذا لأن الظاهر من مال العاقد العاقل الدين أن ما ينقد ينقد عن حصة الحلية حتى لا يبطل شئ من العقد بسبب الافتراق، ولم يعارض هذا الظاهر ظاهر آخر؛ لأنه(7/199)
ليس في اعتباره تفويت مقصوده بل فيه تحصيل مقصوده.
وهذا بخلاف ما لو اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بسيف محلى فيه خمسون درهماً وتفرقا من غير قبض، فإنه يبطل العقد ولا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس حتى يبقى العقد جائزاً متى افترقا من غير قبض؛ لأن الاحتيال لتصحيح العقد غير ممكن هناك؛ لأن ظاهر حالهما إن كان يوجب صرف الجنس حتى يبقى العقد على الصحة فقد عارض هذا الظاهر ظاهراً يوجب صرف الجنس إلى الجنس حتى تقابضا في المجلس فيتعجل مقصود كل واحد منهما بالعقد، وإذا تقابضا تعذر الاحتيال لبقاء العقد جائزاً فبطل ضرورة.
ولو اشترى سيفاً ممّوها بفضة أو اشترى لجاماً مموّها بفضة بدراهم بأقل مما فيه أو أكثر يجوز.
فرق بين هذا وبينما إذا باع سيفاً محلى أو لجاماً محلى بفضة بدراهم حيث لا يجوز ما لم تكن الدراهم التي هي ثمن أكثر من الفضة التي في الحلية، واعلم أن الممّوه المطلي بماء الذهب أو الفضة، والذهب ما جعل فيه عين الذهب، والمفضض ما جعل فيه عين الفضة، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن الفضة بالتمويه يصير مستهلكاً، وكذلك الذهب بالتمويه يصير مستهلكاً، ألا ترى أن بعد التمويه لا يمكن تمييزه، وإذا صارت مستهلكة صارت ملحقة بالعدم، ولو انعدمت كان البيع جائزاً على كل حال؛ لأنه يصير بائعاً جديداً بدرهم كذا هاهنا، فأما الحلية لم تصر مستهلكة بل هي قائمة حقيقة، ألا ترى أنه يمكن تمييزها وإذا لم تصير مستهلكاً صار بائعاً جديداً وفضة بدراهم، فلا يجوز البيع ما لم تكن الدراهم أكثر كذا هاهنا.
الفرق الثاني: إن قلنا أن الفضة بالتمويه لا تصير مستهلكة إلا أنها خرجت عن حد لا وزن، لأنه لا يمكن وزنها لا في الحال، ولا في الثاني؛ لأنها لا تخلص، وإذا لم تبق موزونة لم يبق مال الربا كحبةٍ من الحنطة لا يكون مال الربا؛ لأنها ليست مملكة كذا هاهنا، فإما الحلية لا تخرج أن تكون موزونة؛ لأنه لا يمكن معرفتها بالوزن في الثاني؛ لأنها مما يتخلص، إلا أنه إذا زال عنها صفة الوزن في الحال بعارض يتوهم زواله وما زال من الصفات إذا كان بحال يتوهم عوده لا يعتبر زائلاً، فبيعت الحلية موزونة كما كانت، وإذا بقيت موزونة، فهذا موزون بيع بجنسه، فلا يجوز إلا متساوياً.
فإن قيل: الفضة منصوص عليها، والحكم في المنصوص عليه يثبت بالنص لكن يجب النظر في أن المنصوص عليه مادي فيقول المنصوص عليه فضة موزونة وحنطة مكيلة قال عليه السلام: «الفضة بالفضة مثل بمثل وزن بوزن، والحنطة بالحنطة مثل بمثل كيل بكيل» ، معناه بيع الفضة بالفضة مشروع متماثلاً في الوزن، وبيع الحنطة بالحنطة مشروع(7/200)
متماثلاً في الكيل، وإنما يتحقق بيع الفضة بالفضة متماثلاً وزناً، فيما يتأتى فيه الوزن، وكذلك بيع الحنطة بالحنطة، إنما يتحقق متماثلاً كيلاً فيما يتأتى فيه الكيل.
وإذا ثبت أن المراد الفضة الموزونة والحنطة المكيلة صار تقدير الحديث بيع الفضة الموزونة بالفضة الموزونة مشروع متماثلاً وبيع الحنطة المكيلة بالحنطة المكيلة مشروع متماثلاً.
ولو صرح بهذا كان الداخل تحت النص الموزون والمكيل لا غير الموزون والمكيل، وما لا يدخل تحت النص فالحكم يثبت فيه بالعلة لا بالنص. والعلة هي الوزن لم توجد.
ولكن الفرق الأول أصح بدليل أن محمداً رحمه الله قال: لو باع بدراهم إلى أجل كان جائزاً، ولو بقيت الفضة بعد التمويه، ولكنها خرجت عن حد الوزن لكان لا يجوز إذا كان الثمن مؤجلاً؛ لأن الجنس بانفراده يحرم النَّساء، وحيث جوز البيع النسيئة علم أنه جعل الذهب بالتمويه مستهلكاً وألحقه بالعدم، ولو انعدم كان هذا بيع النحاس وبيع الحديد بدراهم فيجوز كيف ما كان.
الفصل الثاني عشر: في الوكالة في الصرف
وإذا وكل الرجل رجلين بدراهم تصرف بها، فليس لأحدهما أن يصرف دون الآخر؛ لأن عقد الصرف أمر يحتاج إلى الرأي وقد فوض ذلك إلى رأيهما، ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى، فإن عقدا جميعاً ثم ذهب أحدهما قبل القبض بطل حصة الذاهب، وهو النصف وبقي حصة الباقي وهو النصف؛ وهذا لأن القبض من حقوق العقد، والوكيل في حقوق العقد كالمالك، ولو كانا مالكين فعقدا عقد الصرف، ثم ذهب أحدهما قبل القبض بطل حصة الذاهب وبقي حصة الباقي كذا هاهنا، فقد جوز قبض أحدهما وإن كانا وكيلين بالقبض.z
وفرق بين هذا وبين الوكيلين بقبض الدين إذا قبض أحدهما دون الأخر حيث لا يجوز.
والفرق: أن الوكيل بالقبض يقبض بحكم الآمر.
ألا ترى أن المالك لو عزله عن القبض صح عزله، والمالك إنما رضي بقبضهما وأمانتهما، فلا يكون راضياً بقبض أحدهما، فأما الوكيل في باب الصرف إنما يقبض لحق المالك، ألا ترى أنه لو عزله، المالك عن القبض لا يعمل عزله، وإذا كان قبضه بحق الملك كان الوكيلان بالصرف في حق القبض كالمالكين.
ولو كانا مالكين فذهب أحدهما، وقبض الآخر جاز كذا هاهنا، وإن ذهب الوكيلان(7/201)
عن مجلس الصرف كل واحد منهما إلى ناحية أخرى فقبض رب المال لا يجوز لما ذكرنا أن الوكيلين في حق حكم القبض بمنزلة المالكين فذهبا عن مجلس العقد كل واحد إلى حيه، ووكلا رجلاً بالقبض فقبض لم يجز كذا هاهنا.
وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها له بدينار، فصرفها الوكيل وتقابضا وأقر مشتري الدراهم باستيفاء الدراهم ثم جاء مشتري الدراهم بدرهم زيف وقال: وجدتها في تلك الدراهم فقبله الوكيل وأقر أنه من تلك الدراهم لزم الوكيل دون الموكل؛ لأن الرد على الوكيل حصل بإقراره، فإنه لولا إقراره أن هذا من تلك الدراهم، وإلا لما تمكن مشتري الدراهم من رده لما أقر بالاستيفاء والرد بالعيب على الوكيل، أو كان بإقراره والوكيل لا يلزم المردود كما في بيع العين.
قال: لو جحد الوكيل (152ب3) أن هذه الدراهم من تلك الدراهم، فأقام مشتري الدراهم بينة أن هذه من تلك الدراهم، ولم يكن أقر مشتري الدراهم بالاستيفاء، فالقاضي يقبل بينته ويرد الدرهم على الوكيل ويلزم الآمر.
فمن المشايخ من قال ما ذكر في «الكتاب» : أن القاضي يقبل بينة مشتري الدراهم أن الدرهم من تلك الدراهم، إذا لم يقر بالاستيفاء حطاً؛ لأن في هذه الصورة القول قول المشتري أن هذه الدراهم من تلك الدراهم استحساناً في مسألة السلم إليه بدرهم زيف.
وقال: وجدت هذا في رأس المال ولم يكن أقر بالاستيفاء، وكما في بيع العين إذا جاء البائع بدرهم زيف، وقال: وجدته في الثمن ولم يكن أقر بالاستيفاء كان القول قوله استحساناً فكذا هاهنا، وإذا كان القول قوله لم يكن في هذه الصورة موضع إقامة البينة في غير موضعها كيف يسمع.
وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله صحح ما ذكر محمد في «الكتاب» فقال: بلى القول (قول) مشتري الدراهم في هذه الصورة استحساناً، ولكن مع اليمين فهو بهذه البينة أسقط اليمين عن نفسه، والبينة لإسقاط اليمين مقبولة، ألا ترى أن المودع إذا أقام البينة على الرد والهلاك فيثبت بينته مع أن القول في الرد والهلاك قوله، إنما قلت لإسقاط اليمين عن نفسه كذا هاهنا.
وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله بن الحسين بن أحمد رحمه الله يقول: ليس في «الكتاب» أن مشتري الدراهم يكلف إقامة البينة، وإنما فيه أنه إذا أقام البينة قلت ببينته، والعلة أقام البينة لدفع اليمين عن نفسه وكان كالمودع قال: وكذلك إن استحلف الوكيل على ذلك ونكل ورد عليه بنكوله لزم الموكل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب خطأ أيضاً؛ لأنه لا يمين على الوكيل في هذه الصورة، وإنما اليمين على مشتري الدراهم أن هذا الدرهم من تلك الدراهم؛ لأن الشرع جعل القول قول مشتري الدراهم في هذه الصورة من جعل القول قوله شرعاً يتوجه عليه اليمين.
فإنما يرد إذا حلف على ذلك، إما أن حلف على ذلك وإما أن يحلف الوكيل فلا،(7/202)
وإنما الصحيح من الجواب أن يحلف مشتري الدراهم، ويرد على الوكيل ويكون ذلك رداً على الآمر؛ لأنه رد على الوكيل بغير اختياره بما هو حجة في حق الآمر فيظهر ذلك في حق الآمر.
قلنا: ما ذكر من الجواب صحيح، ولكن على طريق القياس لا على طريق الاستحسان؛ لأن على طريق الاستحسان: لا يمين على الوكيل، وعلى طريق القياس: على الوكيل اليمين، والقول قول الوكيل مع يمينه كما في بيع العين، فكان ما ذكر من استحلاف الوكيل ونكوله ذكره على طريق القياس.
وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها له بدنانير فصرفها، وتقابضا فليس للوكيل أن يتصرف بعد ذلك في الدنانير نسي؛ لأن الدنانير ملك الموكل؛ لأنهما ثمن دراهمه ولم يأذن الموكل للوكيل بالتصرف فيها بأن يشتري له إبريق فضة بعينه بدراهم فاشتراه بدراهم كما أمر به، ونوى أن يكون المشتري لنفسه كان المشتري للآمر، ولو اشتراه بدنانير وعرض كان المشتري للوكيل.
ولو كان وكله أن يشتري إبريق فضة بعينه ولم يسم له الثمن فاشتراه بدراهم أو دنانير، فالمشتري للموكل.
ولو اشتراه بعرض أو بشيء من المكيل أو الموزون، فالمشترى للوكيل؛ وهذا لأن مطلق التوكيل كيل بالشراء ينصرف إلى الشراء بالنقد، فكأنه صرح به، وهناك إذا اشتراه بالدراهم أو الدنانير كان للموكل، ولو اشتراه بشئ من المكيل والموزون كان المشتري للوكيل كذا هاهنا، ولو وكله بفضة له ببيعها ولم يسم له الثمن فباعها بفضة أكثر منها لم يجز كما لو باعها الموكل بنفسه لا يضمن الوكيل؛ لأنه موافق أمر آمره؛ لأن التوكيل بالبيع منصرف إلى البيع الجائز والفاسد جميعاً.
قال: والذي وكل أحق بهذه الفضة من الوكيل يريد به الفضة التي قبضها الوكيل من مشتري الإبريق؛ لأن الفضة التي قبضها الوكيل ملك الموكل؛ لأنه بدل ملكه؛ إذ البيع قد نفذ على الموكل على ما ذكرنا قال: إلا أنه يأخذ من الوكيل مثل وزن فضة، وإن كان الكل لمكاله؛ لأنه لو أخذ زيادة على ذلك يلزمه أن يرده ثانياً على الوكيل على المشتري فلا يفيد أخذ الزيادة، والشرع لا يرد بما لا يفيد قالوا: تأويل ما قاله محمد رحمه الله: أن الموكل أحق بالفضة التي قبضها الوكيل أن الموكل إذا كان بحال لا يقدر على أخذ فضة بعينها، بأن غاب قابضها، أوكان حاضراً واستهلكها فمتى كانت الحالة هذه كان له أن يأخذ مما في يد الوكيل مثل فضة وزناً؛ لأن فضته صارت ديناً على القابض، وقد ظفر بجنس حقه من مال القابض فكان له أن يأخذ ذلك، فإما إذا كان قادراً على أخذ فضته بعينها، فإنه يأخذ ذلك حتى تزول المعصية ولا يأخذ ذلك حتى تزول المعصية ولا يأخذ ما في الوكيل؛ لأن فيه تقرير الفساد وسبيل الفساد رفعه لا تقريره.
وإذا وكل الرجل رجلاً ببيع تراب الصواغين أو تراب المعادن كان جائزاً؛ لأن الموكل يملك بيع ذلك فيملك التوكيل به، فإن باعه بذهب أو فضة لم يجز، كما لو باع(7/203)
الموكل ذلك بنفسه؛ وهذا لأن الشراء إنما يقع على ما في التراب من الذهب أو الفضة لا على نفس التراب، فإذا لم يعلم أن في التراب شئ من ذلك، لم يكن محل البيع موجوداً بيقين، فلا يمكن القول بجوازه، وإن علم أن في التراب فضة هي مثل الفضة التي ثمن أو ذهب هو مثل الذهب الذي هو ثمن ورضي به المشتري، فإن علما بذلك في مجلس العقد فهو جائز وللمشتري الخيار ليكشف الحال له.
فهو كمن اشترى شيئاً لم يره ثم رآه، فإن رده بغير حكم جاز على الآمر بمنزلة الرد بخيار الشرط والرؤية، وإن علما به بعد ما تفرقا لا يجوز البيع، وإن باعه بعرض، وقد علم أن في التراب ذهب أو فضة أو ذهب وفضة جاز البيع على قول أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأنه وكله بالبيع مطلقاً والوكيل بالبيع مطلقاً بأي ثمن كان عند أبي حنيفة.
وعندهما لا يملك البيع إلا بالنقد، وإن لم يعلم أن فيه أحدهما أو كلاهما فباعه بالعرض جاز عند الكل، أما عند أبي حنيفة فظاهر.
وأما عندهما؛ فلأن في هذه الصورة وهو ما إذا لم يعلم أن فيه أحدهما أو كلاهما لا يجوز البيع لا بالدراهم ولا بالدنانير، وإنما يجوز بيعه بالعرض، ومطلق التوكيل بالبيع ينصرف إلى الجائز والفاسد فيصير (153أ3) البيع بالعرض هاهنا داخلاً تحت التوكيل.
ولو وكله أن يزوجه بهذا التراب امرأة وهو تراب المعدن أو تراب الصواغين فزوجه امرأة، ينظر إن كان فيه عشرة دراهم أو أكثر فلها ذلك، وإن كان أقل من عشرة دراهم يكمل لها العشرة، كما لو تزوج الموكل بنفسه، ولو وكل أن يبيع سيفاً محلى له أو منطقة مفضضة له فباعه بفضة هي أقل فالبيع فاسد، وكذلك لو باعه بنسيئة فالبيع فاسد، وكذلك لو باعه بشرط فالبيع فاسد.
كما لو باع الموكل بنفسه ولا ضمان على الوكيل؛ لأنه لو ضمن ضمن بسبب فساد العقد ولا وجه إليه؛ لأن التوكيل بالبيع يتناول الجائز والفاسد جميعاً، ولو وكله بحلي به ذهب فيه ياقوت أو فيه زبرجد أو لؤلؤة يبيعه له فباعه له بدراهم نقد وتفرقا قبل القبض بطل حصة الحلي به؛ لأنه صرف وبطل حصة اللؤلؤة، والجوهر أيضاً إن كان لا يمكن تسليمه إلا بضرر، وإن أمكن تسليمه بلا ضرر لا تبطل حصة اللؤلؤة، والجوهر أيضاً إن كان لا يمكن تسليمه إلي.
ولو وكله أن يشتري له فلوساً بدرهم فاشتراه وقبضها فكسدت في يد الوكيل قبل أن يدفعها إلى الموكل فهي للذي وكله؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكل من حيث إن الوكيل في القبض عامل للموكل.
ألا ترى أنه لو هلك في يد الوكيل كان بمنزلة ما لو هلك في يد الموكل فكأنها كسدت في يد الموكل.
ولو كسدت قبل أن يقبضها الوكيل، فإن الوكيل بالخيار إن شاء أخذها، وإن شاء ردها هكذا ذكر في «الكتاب» ، قال شيخ الإسلام: وهذا إنما يستقيم طريقه القياس الكساد بمنزلة العيب، ويعيب المبيع قبل القبض يوجب الخيار للموكل، أما لا يستقيم على طريقة الاستحسان؛ لأن على طريقة الاستحسان الكساد بمنزلة الهلاك،(7/204)
ولهذا ينتقض العقد بالكساد قبل القبض، والعقد إذا انتقض لا معنى لإثبات الخيار للوكيل بعد ذلك.
وإذا وكل الرجل رجلاً أن يشتري له طوق ذهب بعينه بألف درهم ودفع إليه الألف فاشترى الوكيل الطوق بألف درهم، ونقد الثمن فقبل أن يقبض الوكيل الطوق في يد البائع، كان للوكيل الخيار، إن شاء أمضى العقد، وأبيع الكاسر بقيمة الطوق مصوغاً من خلاف جنسه.
وإن شاء فسخ العقد ودفع إليه البائع إن شاء عين تلك الدراهم، وإن شاء مثلها، فإن أمضى الوكيل العقد وأخذ من الكاسر قيمة الطوق للموكل أن يأخذ من الوكيل تلك القيمة، وإنما يأخذ من الوكيل مثل تلك الدراهم التي دفع إليه وهذا؛ لأن الوكيل يأخذ القيمة صار بائعاً الطوق من الكاسر؛ لأن ضمان الكسر يفيد الملك للكاسر في المكسور وله التضمين؛ لأن حق قبض الطوق كان له بحكم العقد فيكون له قبض بدله لكون البدل قائماً مقام المبدل، وإذا صار بائعاً الطوق المكسور من الكاسر حكماً بالتضمين يعتبر بما لو باعه منه حقيقة بأن أخذ المكسور فقبل أن يأخذه الموكل منه باعه من غيره.
ولو كان هكذا كان بدل المكسور للوكيل لا سبيل للموكل عليه؛ لأن بدل المكسور على هذا الاعتبار ملك الوكيل؛ لأن الوكيل متى رضي بعيب فاحش يعتبر المشتري مملوكاً له إلا إن شاء الموكل أن يأخذه، كذلك فقبل أن يشاء الموكل أن يأخذه، كذلك كالمشتري ملك الوكيل فيكون البدل ملك الوكيل، فلا يكون للموكل عليه سبيل، وإنما للموكل أن يأخذ من الوكيل مثل الدراهم التي دفعها إليه، فكذا إذا صار بائعاً المكسور من الكاسر حكماً يأخذ القيمة.
وإذا وكل رجلاً بطوق ذهب يبيعه له فباعه وأنقد الثمن، وسلم الطوق إلى المشتري فجاء المشتري بعد ذلك وقال: وجدت الطوق صفراً مموهاً بالذهب وأنكر الآمر، فالمسألة على الوجهين:
الأول: أن يجحد الوكيل ذلك فأقام المشتري عليه البينة بذلك، ولم يكن للمشتري بينة فحلف الوكيل فنكل ورد القاضي الطوق عليه، وفي هذين الوجهين الطوق يلزم الموكل.
الوجه الثاني: أن يقر الوكيل وفي هذا الوجه المسألة على وجهين أيضاً: إن رد عليه بغير قضاء كان ذلك رداً على الوكيل وليس له أن يخاصم الموكل في ذلك، وإن رد عليه بقضاء قاض يلزم الوكيل أيضاً، ولكن للوكيل حق مخاصمة الموكل هاهنا، والكلام في هذا نظير الكلام في الوكيل ببيع العبد إذا باع العبد، وانتقد الثمن ثم طعن المشتري بعيب في العبد ورده على الوكيل، وهناك الجواب على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة الطوق.
وأكره للمسلم أن يوكل ذمياً أن يصرف له دراهم أو دنانير؛ لأنه يستحل الربا وعسى يوقعه في الحرام مع هذا لو فعل جاز الوكيل أهل لما وكل به؛ لأن الأهلية بالمعرفة والتميز وقد وجد.
وإذا وكله بدراهم يصرفها له فصرفها مع عبد للموكل فهذا على وجهين:(7/205)
الأول: لأن لا يكون على العبد دين، وفي هذا الوجه لا يجوز الصرف، الوكيل مع العبد كما لو فعل الموكل ذلك بنفسه ولكن لا ضمان على الوكيل؛ لأنه سلم الأمانة إلى عبد صاحب الأمانة فلا يضمن.
كالمودع إذا دفع الوديعة إلى عبد صاحب الوديعة، وإن كان على العبد دين يجوز كما لو فعل المولى ذلك بنفسه، ولكن لا يسلم الوكيل المبيع إلى العبد حتى يستوفي منه الثمن.
ألا ترى أن الموكل لو باع بنفسه كان له الحبس إلى أن يستوفي الثمن، وإذا سلم يبطل حقه في الثمن فكذا في الوكيل.
وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها بدنانير هي أقل (من) قيمة من الدراهم إن كان النقصان بحيث يتغابن الناس في مثله يجوز، وإن كان بحيث لا يتغابن الناس في مثله لا يجوز.
أما على قولهما؛ لأن الوكيل بالمصارفة إما أن يعتبر وكيلاً بالبيع أو بالشراء ويأتي ذلك ما اعتبرنا لا يتحمل منه الغبن الفاحش عندهما.
وأما على قول أبي حنيفة: فلأن الوكيل بالمصارفة وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه؛ لأن كل واحد من بدلي الصرف ثمن من وجه مثمن من وجه، فمن حيث إنه وكيل بالبيع إن كان يتحمل منه الغبن الفاحش عند أبي حنيفة فمن حيث أنه وكيل بالشراء لا يتحمل منه الغبن الفاحش بالشك، وإن صرفها مع شريك مفاوض للوكيل لا يجوز كما لو صرفها مع نفسه وهذا؛ لأنه بهذا التصرف يثبت للوكيل ملك الرقبة والتصرف (153ب3) في نصف الدراهم؛ لأن الدراهم تصير مشتركاً بين الوكيل وبين الشريك فتصير الدراهم للوكيل رقبة وتصرفاً ويثبت له ملك التصرف في النصف الآخر الذي هو الشريك، وله في التصرف في نصيب شريكه منفعة، فإنه يحصل له الربح، فصار في معنى المصارفة مع نفسه من هذا الوجه، وهو لا يملك المصارفة مع نفسه.
وكذلك لو باعها من شريك مفاوض للآمر لا يجوز، كما لو باع الآمر بنفسه؛ وهذا لأن هذا البيع لا يفيد إلا ما كان ثابتاً من قبل؛ لأن الدراهم المبيعة كانت مشتركة بين الآمر وبين شريكه المفاوض والدنانير التي قبضها الوكيل من المفاوض أيضاً مشتركة بينهما فهذا التصرف لا يفيد إلا ما كان ثابتاً فلا يحكم بجوازه، وإن صرفها مع الشريك الآمر في الصرف غير مفاوض له يجوز كما لو فعل الآمر ذلك بنفسه؛ وهذا لأن مصارفة الآمر مع الشريك له في الصرف مفيد؛ لأن الشريك يستفيد بهذا التصرف في هذه الدراهم، ويخرج به ما كان في الشركة وهو الدراهم، فكان هذا التصرف مفيداً فيجوز، وإذا كان يجوز هذا التصرف من الآمر فكذا من وكيله.
وإذا وكل بألف درهم يصرفها وصار بالكوفة ولم يسم له مكاناً، ففي أي ناحية في الكوفة صرفها فهو جائز؛ لأنه لو صرفها في مصر آخر يجوز فهذا أولى، ولو صرفها ثمة فهو جائز ولا ضمان على الوكيل أما جواز البيع؛ فلأن الآمر بالبيع مطلق فلا يتقيد بمكان الآمر إلا بدليل مقيد ولا دليل فيها لا حمل له ولا مؤنة؛ لأن قيمته لا تختلف باختلاف الأمكنة، ففي أي مكان صرفها كان ذلك بأمره فيجوز، وأما لا ضمان على الوكيل وإن(7/206)
سافر بها، والآمر بالبيع لا يقتضي الأذن بالمسافرة إن لم يثبت مقتضي الآمر بالبيع ثبت مقتضي الآمر بالحفظ؛ لأنه لما دفع الدراهم إليه ليصرفها فقد أمره بحفظها، ولم يقيد الأمر بالحفظ بمكان الآمر نصاً، ولم يتقيد به بدلا له حال الآمر حتى لا يلزمه مؤنة الرد من غير تقصير، ما هو مقصود بالآمر عند الرد عليه إذ ليس له حمل ومؤنة.
فأما إذا كان له حمل ومؤنة كالعبد والطعام وأشباه ذلك فباعها في بلد آخر إن لم ينقلها إلى ذلك البلد جاز البيع قياساً واستحساناً، وإن نقلها إلى بلد آخر وباع ذلك في كتاب الصرف في رواية أبي سليمان أنه إذا نقل الرمكة واستأجر لذلك فإذا ضاع أو سرق منه فهو ضامن.
وإن سلم حتى باع أجزت البيع ولم ألزم الآمر من الآخر شيئاً، وذكر في رواية أبي حفص أجزت البيع إذا باعه بمثل ثمنه في الموضع الذي أمره ببيعه، وذكر هذه المسألة في كتاب الوكالة وقال: استحسن وأضمنه ولا أجيز البيع اتفق عليه رواية أبي سليمان، ورواية أبي حفص، فكان ما ذكر في كتاب الصرف في رواية أبي سليمان: أنه إذا سلم حتى باع أنه يجوز البيع جواب القياس لا جواب الاستحسان، فصار حاصل المسألة أن فيما له حمل ومؤنة إذا باعه الوكيل في مصر آخر جاز قياساً ولا يلزم الآمر شيئاً من الآخر، وفي الاستحسان لا يجوز البيع.
وجه القياس في ذلك: أنه لم يجز البيع في مصر آخر، إنما لم يجز كيلا يلزم المالك الكراء، ولا يلزمه الكراء هاهنا متى جوزنا بيع الوكيل؛ لأن الوكيل في النقل مخالف؛ لأن العرف فيما بين الناس أن من دفع إلى غيره شيئاً له حمل ومؤنة لمبيعهِ قائماً يريد البيع في المكان الذي دفعه إليه حتى لا يلزمه الكراء ومؤنة النقل من غير أن يحصل له مقصوده وهو البيع.
فهو معنى قولنا: أن الوكيل مخالف في النقل فلا يلزم الآمر الكراء فلا يمنع جواز بيعه ولا ترتفع الوكالة بالنقل؛ لأن هذا خلاف من حيث الفعل وبالخلاف من حيث الفعل لا ترفع الوكالة على ما عرف في موضعه.
وجه الاستحسان: لو أخر ما بيعه في مصر آخر، وجعلنا بيعه بأمر الآمر يجب الكراء على الآمر؛ لأن الحمل حصل للآمر فيجب الكراء عليه، ولا وجه إلى إيجاب الكراء على الآمر؛ لأن الآمر لم يرض به.
وبيان: أنه لم يرض به ما ذكرنا من العرف في وجه القياس، بخلاف ما إذا باعه في مصر آخر من غير أن ينقله إلى ذلك المصر؛ لأن هناك لا يلزم الآمر الكراء متى جوزنا بيع الوكيل وهذا هو التخريج لما لا حمل له ولا مؤنة.
وإذا وكل الرجل رجلاً بألف درهم يصرفها له، ثم إن الموكل صرف تلك الدراهم الألف بنفسه فجاء الوكيل بعد ذلك إلى بيت الموكل، وأخذ من بيته ألفاً غيرها وصرفها، فهو جائز على الموكل فلم يجعل الألف التي أضيفت إليها الوكالة متعينة في حق بطلان الوكالة متى صرفها الموكل بنفسه وقال: لو دفع الموكل تلك الألف إلى الوكيل فسرقت من يديه أو هلكت في يده.(7/207)
والوجه في ذلك: أن الوكالة بالشراء بمعنى الشراء من حيث أنها سبب لثبوت الشراء في الثاني بين الوكيل وبين الموكل، حتى حصل الشراء من الوكيل، فإن الوكيل يصير بائعاً ما اشترى من الموكل، وذلك بالوكالة السابقة.
وهذا كان للوكيل جنس المشتري من الموكل بالثمن، وإذا كانت الوكالة بالشراء سبباً للشراء في الثاني ألحق بالشراء والدراهم والدنانير لا يتعينان في الشراء قبل القبض بإضافة الشراء إليهما، ويتعينان بالقبض فكذا في الوكالة بالشراء التي ألحقت بالشراء، هذا بخلاف ما لو أمره ببيع شئ يتعين بالتعيين، ثم إن الموكل باع ذلك الشئ بنفسه، فإنه تبطل الوكالة حتى لا يكون للوكيل أن يأخذ مثله من بيته ويبيعه؛ لأنا ألحقنا الوكالة بالشراء فما يتعين في الشراء يتعين في الوكالة والفلوس بمنزلة الدراهم في أنها لا تتعين في الشراء فكذا في الوكالة.
وإذا وكله بدراهم يصرفها له بدنانير وهما بالكوفة فصرفها بدنانير كوفية مقطعة فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إلا إذا صرفها بدنانير شامية وأراد بالكوفية المقطعة الجفاف التي فيها عسر المكسرة، وأراد بالشامية النعال واعلم بأن الوكالة ينصرف (154أ3) نقد البلد لما ذكرنا أن الوكالة ألحقت بالشراء والشراء ينصرف إلى نقد البلد فكذا الوكالة، وقد كان نقد البلد في زمن أبي حنيفة الكوفية المقطعة والشامية فأفتى على ما شاهد في زمانه، وصرف الشراء والوكالة إلى المقطعة والشامية، وزمن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كان نقد البلد الشامية لا غير، فصرف الوكالة والشراء إلى الشامية وأفتيا على ما شاهدا في زمانهما فهذا في الحقيقة اختلاف عصر وزمان.
وإذا وكله أن يشتري له بهذه الدنانير دراهم غلة ولم يسلم غلة الكوفة أو غلة بغداد فهذا غلة الكوفة يريد به إذا كان التوكيل بالكوفة، وهذا لما ذكرنا أن الوكالة معتبرة بالشراء ولو قال: اشتريت منك هذا بألف درهم، وهما بالكوفة كان الشراء على غلة الكوفة فكذا الوكالة، فإن اشترى بها غلة بغداد أو غلة بصرة، فإن كان مثل غلة كوفة أو فوقها جاز؛ لأنه أتى بمثل المأمور به وزيادة، وإن كان دون غلة الكوفة لا يجوز.l
ولو وكله بأن يبيع هذه الدراهم بكذا ديناراً شامية فباعها بدينار كوفية، فإن كانت الكوفية غير مقطعة وكان وزنها مثل وزن الشامية يجوز على الآمر؛ لأنه أتى بمثل ما أمره به إن لم يأت بعين ما أمره به ثم قال: وليس الدنانير في هذا كالدراهم يريد أن الدراهم لا تعتبر زيادة الوزن بزيادة، وفي الدنانير تعتبر زيادة الوزن بزيادة.
حتى قال: لو وكله بأن يبيع هذه الدراهم بكذا ديناراً شامية فباع بكذا دينار كوفية، فإن كانت الكوفية وزنها مثل وزن الشامية جاز على الآمر وما لا فلا.
وقال: فيمن وكل رجلاً أن يبيع هذه الدنانير بكذا دراهم غلة الكوفة فباعها بغلة بغداد وبغلة بصرة قال: إن كان لوغلة كوفة جاز، ولم يشترط أن يكون بمثل غلة الكوفة، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من الغلة الاتفاق في حوائجه، وإنما يحصل ذلك بغلة(7/208)
الكوفة أو مثلها، والمقصود من شراء الدنانير الربح، وذلك يختلف باختلاف الوزن، فإن رغبة الناس في الدنانير الثقال أكثر، فإن كان وزن الكوفية مثل وزن الشامية فقد حصل المقصود فيجوز وما لا فلا، ولو قال: بعها بدينار عتق، فباعها بشامية لا يجوز على الآمر؛ لأن المقصود لا يحصل هذا لما للعتق ثمن الصرف على الشامية.
وإذا أقرض الرجل رجلاً ألف درهم وقبضها المستقرض ثم إن المقرض قال للمستقرض: اصرف الدراهم التي لي عليك، ولم يبين مع من يصرف لا يصح التوكيل عند أبي حنيفة ويقع الصرف للمستقرض، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يصح التوكيل ويقع الصرف للمقرض.
وهذه المسألة بناء على مسألة معروفة في كتاب البيوع إذا قال رب الدين لمديونه: أسلم مالي عليك من الدين في كذا ولم يبين مع من يسلم فهناك لا يصح التوكيل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما فها هنا كذلك، وأما إذا قال اصرفها ولم يرد عليه لا يصح التوكيل عندهم جميعاً؛ لأن وفي قوله: اصرفها، يجوز أن يكون كناية عن الألف التي قبضها المستقرض، ويجوز أن تكون كناية عن الألف التي صار ديناً للمقرض في ذمة المستقرض فيه إن كان كناية عن الألف التي قبضها المستقرض لا يصح التوكيل؛ لأن تلك الألف صارت ملكاً للمستقرض هذا أمر بالتصرف في ملك الغير، وأنه لا يصح، فإن كانت الكناية عن الألف التي وجبت للمقرض في ذمة المستقرض كان التوكيل صحيحاً؛ لأن هذا أمر بالتصرف في ملك نفسه صحيح فيصح التوكيل على هذا التقدير عندهما مطلقاً وعند أبي حنيفة إذا بين من يصرف إليه وقع الشك في صحة هذا التوكيل، فلا يصح هذا التوكيل بالشك.
الفصل الثالث عشر: في الصرف مع مملوكه وقرابته وشريكه ومضاربه والوصي وما يتصل بذلك
قال محمد رحمه الله: وإذا باع الرجل من عبده درهماً بدرهمين بدرهم فهذا ليس بربا سواء كان على العبد دين أو لم يكن، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ربا بين السيد وبين عبده» .
والمعنى في ذلك: أن الربا اسم لما ملك بعقد المعاوضة، أما إذا لم يكن على العبد دين؛ فلأن شراء المولى منه لا يصح؛ لأن هذا الشراء لا يفيد للمولى إلا ما كان له فصار وجود هذا الشراء وعدمه بمنزلة وصار المولى.
دافعاً إلى العبد درهماً أخذ منه درهمين أو دافعاً إليه درهمين أخذ منه درهماً وهذا لا يكون رباً، وأما على العبد دين؛ فلأن(7/209)
شراء المولى منه في هذه الصورة إن كان مقيداً؛ لأنه يفيد المولى فيما اشترى ملك الرقبة، والتصرف على حسب ما اختلفوا فيه إلا أن للمولى أن يأخذ كسب عبده المديون لقيام ملكه في رقبته من غير شراء، ولكن ببدل يعد له حق الغرماء، وإذا كان له الأخذ على هذا الوجه من غير شراء، فإذا باع المولى منه درهمين بدرهم صار كأنه دفع إليه درهمين، وأخذ منه درهماً من غير شراء وذلك لا يكون رباً، وإذا باع منه درهماً بدرهمين صار كأنه أعطاه درهماً وأخذ منه درهمين فيلزمه رد الدرهم الزائد؛ لأنه أخذه بغير عوض وقد تعلق به حق الغرماء لا لمكان الربا.
وأشار في القدوري إلى أن الربا يجري بين المولى وعبده إذا كان على العبد دين فإنه قال: دين العبد يمنع ملك المولى عند أبي حنيفة، وعندهما إن كان لا يمنع الملك ولكن يوجب حجر المولى عن التصرف فصار المولى بمنزلة الأجنبي فيظهر الربا كما فيما بين الأجانب.
ولو باع من مكاتبه درهماً بدرهمين أو بدرهمين بدرهم لا يجوز وكان ربا؛ لأن الشراء المولى من أكساب مكاتبه وبيع المولى ماله من مكاتبه جائز؛ لأن المكاتب بعقد الكتابة صار أخص بمكاسبه كالحر يداً وتصرفاً في الكسب فيجري الربا بينه وبين مولاه كما يجري بينه وبين سائر الأحرار ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب وعندهما بمنزلة حر عليه دين وبأنهما اعتبرناه تجري الربا بينه وبين مولاه، وكذلك يجري الربا بين الرجل وبين أبيه وابنه وسائر قرابته؛ لأن الشراء يتحقق فيما بين هؤلاء، (154ب3) فيجري الربا بينهم لما ذكرنا أن الربا اسم لما يملك بالشراء من غير عوض، وكذلك يجرى الربا بين الرجل وهي عندهما هؤلاء وبين الرجل ووكيل هؤلاء؛ لأن الشراء من عند هؤلاء من وكيلهم بمنزلة الشراء من هؤلاء، ويجري الربا بين شريكي العنان إذا لم يكن الصرف من تجارتهما؛ لأن كل واحد منهما ليس من تجارتهما بمنزلة الأجنبي ولا يجري بين المتفاوضين؛ لأن المبايعة فيما بينهما لا يصح؛ لأنها لا تفيد شيئاً.
قال القدوري: ولا يجوز فعل القاضي وأمينه لليتيم، والأب لابنه الصغير والوصي، إلا ما يجوز بين الأجنبيين، وكذلك إذا اشترى الأب من مال ابنه لنفسه أو المضارب باع من رب المال لم يجز إلا ما يجوز بين الأجنبيين.
الفصل الرابع عشر: في الصرف في المرض
قال محمد رحمه الله: وإذا باع المريض من وارثه ديناراً بألف درهم وتقابضا، فإنه لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله: إلا بإجازة باقي الورثة ويعتبر وصية للوارث بالعين وكذلك إذا باعه بمثل قيمته أو أقل.
والأصل عند أبي حنيفة: أن نفس البيع من الوارث وصية ولا وصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة.(7/210)
وعندهما: إذا باعه بمثل القيمة أو بأكثر يجوز من غير إجازة باقي الورثة؛ لأن عندهما نفس البيع ليس بوصية، وإنما الوصية في الحط عن القيمة، وإذا كان البيع بمثل القيمة أو أقل لم يوجد الحط فلم توجد الوصية ولم تتمكن التهمة فتجوز، أجازت الورثة ذلك أو لم يجيزوا.
ولو اشترى المريض من ابنه ألف درهم بمائتي دينار وتقابضا وله ورثة كبار فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز إلا بإجازة الورثة سواء كان قيمة ديناره ألف درهم أو أكثر أو أقل.
وعندهما: إن كان قيمة ديناره ألف درهم أو أقل يجوز من غير إجازة باقي الورثة.
وإن كان قيمة دنانيره أكثر من ألف درهم: فإن أجاز باقي الورثة ذلك جاز، وإن لم يجزوا يخير الابن المشتري إن شاء نقض البيع ورد الدنانير وأخذ دراهمه، وإن شاء أخذ من الدنانير مثل قيمة دراهمه ورد الفضل.
وإنما يخير الابن المشتري؛ لأنه إنما بذل الدراهم بمقابلة الدنانير بكمالها، ولم يسلم له الدنانير بكمالها فقد تغير عليه شرطه فيكون له الخيار، فإن شاء رضي به وإن شاء نقض العقد، وسواء هذا رواية أخرى عنها أن أصل العقد يبطل إذا حابى المريض وارثه بشيء.
وإذا باع المريض من أجنبي ألف درهم بدينار قيمته عشرة دراهم وتقابضا ثم مات المريض والدينار عنده ولا مال له غير ذلك، فللورثة الخيار إن شاؤوا أجازوا ذلك، وإن شاؤوا لم يجيزوا؛ لأن المريض حابى بالزيادة على الثلث؛ لأن الثلث ماله ثلاث مئة وثلاثون وثلث وقد حابى بالزيادة على ذلك؛ لأنه حابى مقدار تسعمئة وتسعين، والمحاباة في المرض وصية فصار موصياً بما زاد على الثلث والمريض إذا أوصى بما زاد على الثلث يقف ذلك على إجازة الورثة، فإن أجازوا أجاز وسلم للمشتري جميع الألف والدينار لورثة المريض، وإن لم يجيزوا فالمشتري بالخيار: إن شاء نقض البيع وإن شاء أجاز.
وإنما يخير المشتري؛ لأنه باشر هذا العقد ليسلم له الألف بكماله بمقابلة الدينار ولا يسلم له ذلك هاهنا فيتغير عليه شرطه ومقصوده فيكون له الخيار، فإن نقض البيع أخذ ديناره ورد جميع الألف ولا يسلم له شيء من الوصية كانت في ضمن البيع، فإذا انفسخ البيع بطل ما ثبت في ضمنه، وإن أجاز البيع يأخذ من الألف قيمة الدينار عشرة؛ لأنه لا محاباة بهذا القدر، ويأخذ ثلث مال الميت، وذلك ثلثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأن الدينار إذا كان قائماً في يد ورثة الميت كان جميع مال الميت ألف درهم فيكون له ثلاثة ذلك وثلث الألف ثلاث مئة وثلاثة وثلاثون ويسلم له قيمة الدينار أيضاً، وذلك عشرة فجملة ما سلم له ثلاث مئة وثلاثة وأربعون وثلث، ويرد الباقي على الورثة.
هذا إذا كان الدينار قائماً، وإن كان المريض قد استهلك الدينار، فالجواب فيما إذا كان الدينار قائماً عند المريض إلا في فصل، فإن هذه الصورة إذا لم تجز الورثة ذلك وخير المشتري فلم يجز فسخ البيع قال المشتري يأخذ من الألف قدر قيمة الدينار عشرة(7/211)
بحكم المعاوضة ثم يأخذ بحكم الوصية ثلث الباقي من الألف، وذلك ثلاث مئة وثلاثون وثلث جميع الألف، بخلاف الفصل الأول، فإن هناك المشتري بعد ما أخذ قيمة الدينار يأخذ جميع الألف ثلاث مئة وثلاثون وثلث.
والوجه في ذلك: أن الوصية إنما تنفذ فيما هو ثلث مال الميت عند الموت، وفي المسألة الأولى ثلث مال الميت عند الموت ألف درهم؛ لأن المشتري وإن أخذ من الألف قدر قيمة الدينار عشرة إلا أن الدينار الذي هو عوض عن العشرة قائم في يد الورثة قائم مقام العشرة فكان مال المريض ألف درهم عند الموت فيعطي الموصى له ثلث ذلك.
أما في المسألة الثانية: مال المريض عند موته تسعمئة وتسعون؛ لأن المشتري قد أخذ عشرة عوض عن الدين ديناراً، والدينار ليس بقائم حتى يقوم مقام ذلك فكان مال الميت عند الموت تسعمئة وتسعون فيكون للمشتري ثلث ذلك.
ثم إن محمداً رحمه الله: خير مشتري الدراهم بعد هلاك الدينار في يد المريض، وفرق بين هذا وبينما إذا هلك الألف في يد مشتري ألف ولم تجز الورثة ما صنعه المريض، فإن هناك لا يخير مشتري الألف بين الفسخ والإجازة بل يأخذ قدر قيمة الدينار وثلث جميع الألف يرد الباقي على الورثة.
والفرق: أن الدينار الذي قبضه المريض بدل الصرف من كل وجه؛ لأنه لا محاباة للمريض في ذلك، وهلاك بدل الصرف لا يمنع الفسخ، فإما الألف التي قبضها مشتري الألف بعضها إن كان بدل الصرف، وذلك قدر قيمة الدينار؛ لأنه أعطاه بإزائه عوضاً فما زاد على ذلك لم يكن بإزاء عوض للمريض بل كان وصية وهلاك الدراهم في يد الموصَى له يمنع فسخ الوصية؛ لأن الدراهم تتعين في الوصايا، وكانت الدراهم في الوصايا كالعروض، وإذا امتنع فسخ الصرف؛ لأنا لو فسخنا الصرف تنفسخ الوصية؛ لأنها كانت في ضمن الصرف، فإذا تعذر فسخ الوصية تعذر فسخ الصرف، فشرط قيام الدراهم في يد مشتريها لا مكان فسخ الصرف (155أ3) ولم يشترط قيام الدينار في يد مشتريه لإمكان فسخ الصرف لهذا.
قال: ولو أن المريض باع سيفاً قيمته مئة درهم، وفيه من الفضة مئة درهم، وذلك كله قيمته عشرين ديناراً بدينار وتقابضا، ثم مات المريض وإلى الورثة أن يجيزوا ذلك، فإن المشتري بالخيار: إن شاء نقض البيع ورد السيف وأخذ ديناره ولا شيء له من الوصية، وإن شاء أجاز البيع وأخذ قدر قيمة الدينار من السيف والحلية وثلث السيف تاماً بعد ذلك زاد وهاهنا، فقال: إن شاء زاد في الثمن إلى تمام قيمة ثلثي السيف، ثم قال: في هذه المسألة أخذ المشتري قدر قيمة الدينار من السيف والحلية جميعاً؛ لأن الحلية مع السيف كشيء واحد لا يتأتى إثبات المعاوضة في أحدهما دون الأخر.
وإن كان الدينار قد هلك، فالجواب كذلك إلا في فصل أن الورثة إذا لم يجيزوا ما صنع الميت وخير المشتري بين أن يختار فسخ العقد وأخذ دينار مثل ديناره وبين أن(7/212)
يمضي العقد وأخذ من السيف وحليته قدر قيمة ديناره وثلث ما بقي من السيف والحلية لا ثلث جميع السيف.
وإن كان المشتري قد استهلك ما قبضه أيضاً كان للمشتري قدر قيمة ديناره وثلث الباقي من السيف والحلية وعشر من ثلثي الباقي للورثة؛ لأن تعذر فسخ العقد هاهنا؛ لأن المعقود عليه مستهلك فكان ضمان حصة الورثة من ذلك وهو قيمة ثلثي الباقي بعد قيمة الدينار.
وهذا لأن المقبوض لو كان قائماً في يد المشتري كان لورثة المريض استرداد ذلك، فإذا كان هالكاً كان له استرداد البدل بمنزلة استرداد المبدل، وبقي له تسعمائة درهم لا مال له غيرها باعها بدينار قيمته تسعمائة دراهم وقبض مشتري الدينار الدينار وقبض الأخر مئة درهم وافترقا ثم مات المريض والدينار قائم في يده والدراهم كذلك فإجازة الورثة هاهنا، وعدم إجازتهم سواء.
ويسلم لمشتري الدراهم مئة درهم بتسع الدينار ويرد الورثة عليه بمئة أتساع الدينار وهذا؛ لأن الدينار قوبل بتسعمائة فيكون بمقابله كل مئة تسع دينار، فإذا قبض مشتري الدراهم من الدراهم مئة ولم يقبض الباقي حتى تفرقا فقد انتقض العقد في ثمان مئة درهم بثمانية أتساع الدينار في مئة درهم بتسع الدينار، فيسلم للمشتري مئة درهم بتسع الدينار.
وإن كان قيمة المئة أكثر من تسع الدينار؛ لأن ما زاد على قيمة تسع الدينار محاباة للمشتري، وأنها يخرج من ثلث مال المريض فيسلم ذلك للمشتري أجازت الورثة أو لم يجيزوا، وجب على ورثة المريض رد ثمانية أتساع الدينار على المشتري؛ لأن ذلك في أيديهم بحكم عقد قد فسد.
وكذلك لو كان له مشتري الدراهم قبض من الدراهم مئتي درهم فإجازة الورثة وعدم إجازتهم سواء، ويسلم للمشتري مئتا درهم بتسعي الدينار، وإن كان مائتا درهم أكثر من قيمة تسعي الدينار؛ لأنه محاباة يخرج من ثلث مال المريض.
وكذلك إذا كان مشتري الدراهم قبض من الدراهم ثلاث مئة فإجازة الورثة في هذا وعدمها سواء، يسلم لمشتري الدراهم ثلاث مئة درهم بثلاثة أتساع الدينار؛ لأن المحاباة تخرج من ثلث مال المريض.
وإن كان مشتري الدراهم قبض من الدراهم أربعمئة فهاهنا يحتاج إلى إجازة الورثة؛ لأن المحاباة تزيد على ثلث المال هاهنا، فإن أجازت الورثة ذلك سلم للمشتري أربعمائة درهم وسلم للورثة أربعة أتساع الدينار ولزم الورثة رد خمسة أتساع الدينار على المشتري، وإن لم تجز الورثة ذلك فالمشتري بالخيار، وإن شاء نقض البيع ورد ما قبض من الدراهم وأخذ ديناره، وإن شاء أخذ مما قبض من الدراهم قدر قيمة أربعة أتساع الدينار وثلث جميع المال وذلك ثلاث مئة ورد الباقي على الورثة، وإن لم يقبض مشتري الدراهم شيئاً من الدراهم يرد على الورثة دينارهم؛ لأن العقد قد فسد في جميع الدينار والوصية كانت في ضمن البيع فإذا بطل البيع بطلت الوصية.(7/213)
وهل يجب على المشتري رد ذلك الدينار بعينه أم لا؟ فالمسألة على روايتين، فإن الدينار مقبوض بحكم عقد فاسد وفي تعيين الدراهم والدنانير في البيع الفاسد للرد روايتان، ولو لم يتفرقا ولم يمت المريض المشتري بتسعة وخمسين ديناراً وتقايضا فهو جائز كله إن كان قيمة كل دينار عشرة؛ وهذا لأن قيمة كل دينار متى كان عشرة صار المريض بائعاً تسعمئة بما يساوي ستمئة؛ لأن ثمن الدراهم صار ستون ديناراً لما زاد مشتري الدراهم تسعة وخمسين ديناراً، فتكون المحاباة بقدر ثلاث مئة وذلك يخرج من ثلث ماله فيجوز أجازت الورثة أو لم يجيزوا؟.
وإن كان المريض وكل وكيلاً فباعها من هذا الرجل بدينار ثم مات المريض قبل أن يتقابضا، فقال المشتري: أنا آخذ تسعمئة بتسعين ديناراً فهو جائز إذا رضي به الوكيل؛ لأن الزيادة من المشتري وجدت حال قيام العقد صحت إذا رضي به الوكيل، ما إن أنها حصلت حال قيام العقد لأن العقد قد صح من الوكيل؛ لأنه باع قبل موت المريض، وإنما بقي القبض لا غير، والقبض حق الوكيل؛ لأنه ملكه بحكم العقد كأنه عقد لنفسه والوكيل حي وهو مع المشتري في مجلس العقد بعد فبقي العقد على الصحة بعد موت المريض.
فإذا زاد المشتري في الثمن وقد وجدت الزيادة حال قيام العقد صحت إذا رضي به الوكيل، وإنما شرطنا رضا الوكيل لصحة الزيادة؛ لأن العاقد سَوَّى الوكيل فيتوقف صحتها على رضا الوكيل؛ وهذا لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد وصار كأن العقد من الابتداء ورد على الأصل والزيادة، ثم ابتداء العقد بالزيادة لا تصح إلا برضا الوكيل فكذا هاهنا، وهذا بخلاف ما لو عقد المريض بنفسه ثم مات قبل القبض فأراد المشتري أن يزيد في الثمن حتى تزول المحاباة لا يقدر عليه؛ لأن العقد بطل بموت المريض؛ لأن حق القبض للوكيل وإنه حي فأمكن القول بصحة الزيادة.
قالوا: وتأويل هذه المسألة أن المريض وكل هذا الرجل ببيع الدراهم وفوض الرأي إليه بأن قال: اعمل فيها برأيك، أو قال: ما صنعت فيها من شيء فهو جائز حتى يكون بيع الوكيل جائزاً على المريض مع المحاباة فيكون بمنزلة بيع المريض، فإذا زاد المشتري بزيادة ورفع المحاباة يجوز، فإما إذا لم يفوض إليه الرأي لا يجوز العقد.
وإن زاد المشتري على اختلاف المذهبين أما على (155ب3) قولهما؛ فلأن الوكيل بالصرف وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه، وبأي ذلك اعتبرناه لا يحتمل منه المحاباة الفاحشة، ولا يجوز بيعه على المريض، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأنه وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه فمن حيث إنه وكيل بالبيع إن جاز تصرفه مع المحاباة على المريض، فمن حيث إنه وكيل بالشراء لا يجوز تصرفه مع المحاباة على المريض وقع الشك في جواز تصرفه على المريض فلا يجوز بالشك.
وإذا باع المريض ألف درهم بمئة درهم وتقابضا ثم مات من مرضه ذلك فهذا لا يجوز؛ لأنه ربا، ألا ترى أنه لو كان ذلك من الصحيح لا يجوز لمكان الربا فكذا من المريض.
قال: والذي أعطى المئة أن يمسك مئة من ثمانية ويرد الباقي، قالوا: وهذا على(7/214)
الرواية التي تقول فيها إن المقبوض من الدراهم بحكم عقد فاسد لا يتعين للرد؛ لأن على هذه الرواية حق صاحبه المئة يكون في مئة لا بعينها وقد ظفر بحبس ذلك من مال المريض فيأخذه.
فأما على الرواية التي يقول فيها إن المقبوض من الدراهم بحكم عقد فاسد يتعين للرد على الذي أعطى المئة إن رد جميع الألف المقبوضة على ورثة المريض ويرجع عليهم ثمانية إن كانت مئة قائمة بعينها ولا شيء لصاحب المئة من الوصية هاهنا؛ لأن وصية في ضمن البيع وقد وقع البيع باطلاً فما في ضمنه يكون باطلاً أيضاً.
قال: وإن كان صاحب المئة أعطى مع المئة ثوباً أو ديناراً كان ذلك بيعاً صحيحاً على أن تكون المائة بالمائة، والباقي بإزاء الثوب أو الدينار، فإن مات المريض يجيز ورثته؛ لأنه صار بائعاً تسعمئة درهم بدينار فصار محابياً بأكثر من ثلث ماله فكان للورثة الخيار، فإن أجازوا ما صنع المريض سلم للورثة مئة دينار وسلم لصاحب المئة الألف كلها، فإن لم يجيزوا فصاحب المئة بالخيار لتغير شرطه ومقصوده، فإن شاء نقض البيع ورد الألف وأخذ مئته وديناره على إحدى الروايتين.
وعلى رواية أخرى: إن شاء نقض البيع وأمسك من الألف مئة ثمانية ورجع على ورثة المريض بديناره إن كان قائماً، وإن شاء أجاز البيع وأخذ من الألف مئة وقيمة ديناره؛ لأنه محاباة في ذلك القدر ثم يأخذ ثلث جميع مال المريض إن كان ديناره ومئته قائمةً وثلث ما بقي إن كان هالكاً.
وإذا كان للمريض إبريق فضة فيه مئة درهم وقيمتها عشرون ديناراً فباعه بمئة درهم وقيمتها عشرة دنانير فتقابضا ثم مات المريض من مرضه، وأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فللمشتري الخيار، فإن شاء فسخ العقد ورد الإبريق وأخذ دنانيره، وإن شاء أمضى العقد وأخذ ثلثي الإبريق بثلثي المئة، ويرد ثلث الإبريق على الورثة.
والوجه في ذلك: أن يقول لا وجه إلا أن يصحح هذا العقد بأن يرد مئة أخرى حتى تصير قيمة الإبريق مئتي درهم فتبقى المحاباة؛ لأنه يصير مشترياً مئة درهم، وإنه ربا؛ إذ لا قيمة للصنعة والجودة فيما بين المتعاقدين في أموال الربا، ولا وجه إلى أن يصححه بأن يزيد في الثمن من خلاف جنس الثمن إلى تمام ثلثي الإبريق؛ لأنه في إثبات الزيادة على هذا الوجه إبطالها، لأن الزيادة تصير ثمن الإبريق، فيصير صرفاً ولم يقبض في المجلس، ولا وجه إلى أن يجوز العقد في جميع الإبريق بمائة؛ لأن فيه إبطال حق الورثة في الصنعة والجودة، ولا وجه إلى أن يفسخ العقد في الكل إذا لم يرض به المشتري لما فيه من إبطال الوصية له بقدر الثلث.g
وإذا انتفت هذه الوجوه عيّنا تجويز العقد في ثلثي المائة؛ لأنه يقع الخلاص عن الربا، ولا يبطل حق الورثة في الصنعة، ولا تبطل وصية المشتري ويحصل تنفيذ الوصية بقدر ثلث مال المريض ويسلم للورثة ثلثا مال المريض.
بيانه وهو: أن حق الورثة في ثلثي مال المريض وجميع مال المريض إبريق قيمته عشرون ديناراً ذلك ثلاثة عشر وثلث، فإذا جوزنا العقد في ثلثي الإبريق بثلثي الثمن،(7/215)
ورددنا ثلث الإبريق على الورثة فقد سلم للورثة ثلث الإبريق، وقيمته ستة وثلثان، وسلم لهم من ثمن الإبريق ثلثا المائة ستة وستون وثلثان وقيمته ستة دنانير، فجملة ذلك ثلاثة عشر ديناراً وثلث دينار، وهذا هو تمام حقهم وسلم للمشتري ثلثا الإبريق، وقيمته ثلاثة عشر وثلث بثلثي مائة وقيمته ستة وثلثان فكان السالم للمشتري بطريق الوصية ستة دنانير وثلث دينار فاستقام الثلث والثلثان.
الفصل الخامس عشر: في الاستبدال ببدل الصرف
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدينار فنقد مشتري الدينار لتسعة دراهم وبقي درهم، ونقد مشتري الدراهم الدينار فلم يتفرقا حتى قال مشتري الدراهم لمشتري الدينار يعني بالدرهم لي عليك كذا فباعه، فإن البيع لا يجوز ولا يبرأ مشتري الدينار عن بدل الصرف، وقال زفر رحمه الله: يجوز البيع، ولكن مشتري الدينار لا يبرأ عن بدل الصرف.
واعلم بأن الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز أجمع عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله، غير أن زفر قال: بجواز البيع في هذه الصورة؛ لأنه يجوز هذا البيع بمثل بدل الصرف وتبقى الإضافة إلى بدل الصرف في حق تعلق العقد به وتقررها في حق بيان قدر الواجب وصفته، فلا يكون هذا استبدالاً ببدل الصرف قبل القبض، ونحن نعتبر الإضافة إلى بدل الصرف في حق تعلق العقد به من وجه، فيكون هذا استبدالاً لا ببدل الصرف من وجه، وإنه لا يجوز كالاستبدال من كل وجه.
وإنما لم يجز الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض عندنا لوجهين:
أحدهما: أن الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض يفوت قبض بدل الصرف من حيث الحقيقة، فإنه لا يوجد قبض الدراهم التي هو بدل الدينار من مشتري الدراهم بعد استبدال به، وإنما يوجد قبض بدل الثوب أو الدينار التي اشترى، وفوات قبض بدل الصرف يوجب بطلان الصرف، فيكون الاستبدال ببدل الصرف سبباً لفساد الصرف يكون فاسداً.
الوجه الثاني: إن كل واحد من بدل الصرف ثمن من وجه إما كونه ثمناً فظاهر، وأما كونه مثمناً؛ لأن عقد الصرف بيع؛ لأنه مبادلة مال بمال والبيع ليس إلا مبادلة، ولهذا قالوا: إذا حلف أن لا يبيع فصارف يحنث في يمينه، فثبت أن عقد الصرف بيع.
قلنا: والبيع ما يشتمل على مبيع وثمن، وليس أحد البدلين إذا كانا دراهم أو دنانير بأن يجعل مبيعاً والآخر ثمناً بأولى (156أ3) من الأخر، فجعل كل واحد منهما مبيعاً وثمناً من وجه ضرورة انعقاد البيع، وإن كان كل واحد منهما مبيعاً حقيقة كذا هاهنا.
وإذا صار كل واحد منهما ثمناً من وجه مثمناً من وجه، فنقول: إن جاز الاستبدال به قبل القبض من حيث إنه ثمن لا يجوز الاستبدال به قبل القبض من حيث إنه مثمن، فلا(7/216)
يجوز الاستبدال بالشك، هذا كما في التأجيل في بدل الصرف إنه لا يجوز إن كان يجوز من حيث إنه ثمن لا يجوز من حيث إنه مثمن، فلا يجوز بالشك.
فإن قيل: لو كان بدل الصرف ثمناً من وجه مثمناً من وجه لكان يشترط قيام الملك فيه حالة العقد حتى لا يصير بائعاً ما ليس عنده بالإجماع، لم يشترط قيام الملك في الدراهم والدنانير وقت العقد.
فقد ذكرنا في صدر هذا الكتاب لو باع رجل آخر ديناراً بدراهم، وليس في ملك هذا دينار ولا في ملك ذلك دراهم ثم استقرض هذا ديناراً ودفعه إلى مشتري الدينار واستقرض ذلك دراهم ودفعها إلى مشتريها، فإنه يجوز.
قلنا: الدراهم والدنانير قبل العقد وحالة العقد ثمن من كل وجه، وإنما يعتبر مثمناً من وجه بعد العقد؛ لأن اعتباره مثمناً بسبب العقد ضرورة أن العقد لابد له من مثمن كذا لابد له من ثمن، فيعتبر كونه مثمناً بعد العقد لا قبله ولا يشترط قيام الملك فيه قبل العقد، هذا كما في بيع العرض بالعرض، فإن كونه ثمناً قبل العقد بوجه من الوجوه؛ لأنه مثمن في الأصل، وإنما يصير ثمناً بسبب العقد ضرورة أن العقد لابد له من ثمن، فيعتبر كونه مثمناً قبل العقد حتى يشترط قيام الملك في كل واحد منهما حالة العقد، ويتعلق العقد بهما، ويعتبر كونه ثمناً بعد العقد حتى لا ينفسخ العقد بهلاك أحدهما بعد البيع، كما لو كان ثمناً من كل وجه كذا هاهنا، وإذا اعتبرت المثمنية قبل العقد في البدلين من كل وجه لا يشترط قيام الملك فيهما قبل العقد، فلا يتعلق العقد بالمشار إليه.
فإن قيل: أليس أنه لو اشترى قلب فضة بدراهم، واستبدال بالدراهم قبل القبض لا يجوز عندكم مع أن الدراهم بمقابلة القلب ثمن من كل وجه؛ إذ لا ضرورة إلى جعله مثمناً من وجه؛ لأن القلب بمقابلته مثمن من كل وجه.
قلنا: جواز الاستبدال ببدل القلب إن كان لا يمتنع للوجه الثاني؛ لأن الدراهم بمقابلة القلب ثمن من كل وجه يمتنع للوجه الأول أن الاستبدال ببدل القلب لو صح يفوت قبض بدل القلب، وفوات قبض بدل القلب يوجب فساد الصرف، وإن كان دراهم أو دنانير، وما يكون سبباً لفساد العقد يكون فاسداً في نفسه.
ففي الكلام مع زفر رحمه الله في جواز هذا البيع.
فوجه قوله: إن هذا شراء ضعيف إلى دراهم دين، فيتعلق العقد بمثله لا بعينه كما في سائر الديون سوى بدل الصرف، فإن في سائر الديون لا يتعلق العقد بالدين المضاف إليه حتى لو تصادقا بعد ذلك أنه لا دين لا يبطل البيع، فإذا لم يتعلق العقد بعين بدل الصرف لا يكون هذا استبدالاً ببدل الصرف قبل القبض فيجوز.
ثم فرق زفر رحمه الله بينما إذا أضيف العقد إلى الدراهم الدين، وبينما إذا أضيف العقد إلى الدراهم العين، فقال: إذا أضيف العقد إلى الدراهم العين يتعلق بها، وإذا أضيف إلى الدراهم الدين لا يتعلق العقد بها.
والفرق له: أن في الدين التعيين أضيف إلى غير محله، فيصح التعيين كما في سائر(7/217)
المضافة إلى محالها وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن التعيين أضيف إلى ما هو مثمن من وجه لما ذكرنا أن الدراهم والدنانير إذا قوبل بعضها ببعض وكل واحد من البدلين مثمن من وجه، فصار مشتري الدراهم مشترياً بما هو مثمن من وجه، والشراء المضاف إلى المثمن يتعلق بعينه، وإذا تعلق بعينه جعل المشتري مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض، وإنه لا يجوز بخلاف الشراء المضاف إلى سائر الديون سوى بدل الصرف؛ لأن هناك الشراء حصل بما هو ثمن من كل وجه، والشراء بالمضاف إلى الثمن من كل وجه لا يتعلق بعينه، أما هاهنا بخلافه.
وإذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدنانير وتقابضا إلا بدرهم واحد بقي من العشرة، وليس عند بائع الدراهم الدرهم العاشر، فأراد الذي اشترى الدراهم أن يأخذ عشر الدينار، فله ذلك.
وهذا الجواب على هذا الإطلاق الذي قاله محمد رحمه الله يستقيم بعد ما تفرقا عن مجلس العقد قبل نقد الدرهم العاشر؛ لأنه بعد ما تفرقهما انتقض الصرف بقدر عشر دينار وصار عشر الدينار على مشتري الدينار، فلبائع الدينار أن يطالب المشتري بذلك رضي المشتري أم سخط.
فأما قبل التفرق: إذا أراد أن يأخذ عشر دينار من مشتري الدينار فليس له ذلك إلا برضى مشتري الدينار بذلك؛ لأن الصرف صحيح قبل التفرق في جميع الدينار، وإن لم يكن عند مشتري الدينار الدرهم العاشر، فيكون حق بائع الدينار في الدرهم العاشر وحق مشتري الدينار في جميع الدينار، فإذا قيل له: أعطني عشر دينار، فكأنه قال: أقلني العقد بقدر عشر دينار، فإن رضي مشتري الدينار بذلك جاز وإن لم يرض لا يجوز.
فأما إذا قال له: بعني بعشر دينار فلوساً مسماة أو عرضاً مسماة فباعه بذلك كان جائزاً باعه قبل التفرق أو بعد التفرق، فلا إشكال؛ لأن الصرف انتقض بقدر عشر دينار لفوات قبض بدله، فصار حق بائع الدينار بعد التفرق في عشر الدينار في ذمة مشتري الدينار.
فإذا قال: بعني بذلك شيئاً بعد استبدال ببدل الصرف بعد الفسخ قبل القبض، فإنه جائز، وإن كان قبل التفرق فكذلك يجوز؛ وذلك لأن بائع الدينار كما قال: أعطني بعشر دينار فلوساً فقد طلب منه أن يصير عشر دينار حقاً له في ذمة المشتري حتى يجوز له أخذ الفلس عوضاً عنه، وإن عشر الدينار قبل التفرق حقاً لبائع الدينار إلا بالفسخ، فكأنه قال: أقلني الصرف بقدر عشر دينار حتى لا يصير حقاً لي بالفسخ ثم أعطني بذلك فلوساً أو عرضاً، فإذا رضي الآخذ بذلك انفسخ (156ب3) الصرف بقدر عشر دينار، فصار مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض بعد الفسخ، وإنه جائز.
وهذا بخلاف ما لو قال بائع الدينار: بعني بالدراهم شيئاً، فإنه لا يجوز سواء باعه بالدراهم العاشر شيئاً قبل التفرق أم بعد التفرق، فأما قبل التفرق؛ فلأنه استبدل ببدل الصرف قبل القبض حال بقاء عقد الصرف؛ لأنه طلب منه أن يبيع بالدرهم شيئاً والدرهم(7/218)
حقه بعقد الصرف، فإنه ملك الدرهم بعقد الصرف، وإنما يبقى الدرهم العاشر حقاً له ببقاء الصرف، فلا يكون بيعه الدرهم منه طلباً للفسخ بل يكون استبدالاً ببدل الصرف، وإنه لا يجوز.
وأما بعد التفرق؛ لأنه اشترى شيئاً بدين يعلمان ليس عليه دين، ومن اشترى شيئاً من غيره بدين حاله عليه يعلمان أنه لا دين له عليه، فإنه لا يجوز هذا الشراء، ويكون هذا الشراء بعين الثمن، لأنه سمى ما لا يتصور ثمناً، فكأنه قال: اشتريت بغير ثمن.
وفي كتاب الصرف: إذا اشترى الرجل ألف درهم بعينها بمائة دينار والدراهم بيض، فأعطاه مكانها سوداء، ورضي بها البائع جاز؛ وذلك لأن هذا ليس باستبدال، فالسود والبيض من الدراهم جنس واحد، وإنما البراءة عن صفة الجودة خير يجوز بالسود، فكان مشترياً بهذا الطريق لا مستبدلاً.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ومراده من السود الدرهم المضروب من النقرة السود لا الدراهم البخارية؛ لأن أخذ البخارية مكان الدراهم البيض لا يجوز؛ لأنه يكون استبدالاً لاختلاف الجنس، وكذلك لو قبض مشتري الدراهم وأراد أن يعطي ضرباً أخر من الدنانير سوى ما شرط لا يجوز إلا برضا صاحبه، وإذا رضي به صاحبه كان مستوفياً لا مستبدلاً لا يكون الجنس واحداً قبل هذا إذا أعطاه ضرباً دون المسمى، فأما إذا أعطاه ضرباً فوق المسمى، فلا حاجة إلى رضى صاحبه.
الفصل السادس عشر: فيما يكون قصاصاً ببدل الصرف وما لا يكون
رجل له على رجل عشرة دراهم، فباعه الذي عليه العشرة دنانير وترك العشرة ودفعه الدينار إليه، فهو جائز.
وهذا صرف بدين مسبق وجوده، والصرف بدين مسبق وجوبه جائز لحديث عبد الله ابن عمر، فإنه يروى أنه رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّموقال: إني أكري الإبل بالبقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانير، أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، وربما قال أبيع، فقال عليه السلام: «لا بأس إذا افترقتما، وليس بينكما عمل» .
ومن هذا الجنس ثلاث مسائل: أحداهما هذه.
الثانية: رجل له على رجل عشرة دراهم، فباعه الذي عليه العشرة ديناراً بعشرة دراهم ودفع الدينار حتى وجب لكل واحد منهما على صاحبه عشرة، ثم جعل العشرة التي هي ثمن الدينار قصاصاً، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة.
والقياس: أن لا يصير قصاصاً، وهو قول زفر ولقب المسألة أن المتصارفين إذا(7/219)
جعلا بدل الصرف قصاصاً بدين وجب قبل عقد الصرف استبدال ببدل الصرف وليس باستيفاء؛ لأن علامة الاستيفاء قبض مال مضمون من جنس بدل الصرف بعد عقد الصرف لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، ولم يوجد قبض مثل هذا المال بعد عقد الصرف؛ لأن صاحب آخر الدينين يكون قاضياً لأولهما، وصاحب أول الدينين يكون مقضياً؛ لأن القضاء يتلوا الوجوب ولا يسبقه، ودين الصرف وجب آخراً، فمتى جازت المقاصة صار بائع الدينار قاضياً ببدل الصرف ديناراً كان عليه قبل عقد الصرف، وفي القضاء استبدال؛ لأنه تملك مكان بدل الصرف ما في الذمة والاستبدال ببدل الصرف لا يجوز.
وعن هذا قالوا: إذا سلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم أراد أن يتقاصا رأس مال السلم بدين كان واجباً لرب السلم قبل عقد السلم لا يجوز؛ لأنه استبدال رأس مال السلم، وكذا لو كان للمسلم إليه كر قبل عقد السلم هو مثل السلم ثم حل السلم فأرادا أن يجعلا المسلم فيه قصاصاً بما كان واجباً للمسلم إليه على رب السلم قبل عقد السلم لا يجوز، وإنما لا يجوز؛ لأنه استبدال بالمسلم فيه قبل القبض فيه كذا هاهنا.
وجه الاستحسان من وجهين:
أحدهما: لو أخذ ما على هذه المقاصة فقد قصدا تصحيحهما بتعلق العقد ملك العشرة التي وجبت ديناً قبل عقد الصرف بتلك العشرة جائزاً على ما بينا، ولذلك طريقان:
أحدهما: أن ينفسخ الصرف المرسل وينعقد صرف آخر بتلك العشرة، كما لو باع بألف درهم ثم باع بألفين أو يبقى أصل العقد المرسل، ولكن بتغير وصف، فإنه إلى الآن كان منعقداً بوصف الإطلاق، والآن يتقيد بذلك العشرة، وهما مكان إبطال العقد ويعتبره كما يملكان إبقاءه، فيتضمن على هذه المقاصة والحالة هذه فسخ الصرف المرسل وتحديد صرف الآخر بتلك العشرة أو يعتبر الصرف المرسل وتعليق العقد بتلك العشرة كما في الزيادة في الثمن والمثمن.
ولهذا لم تصح هذه المقاصة إلا بتراضيهما، وإن كان جنس الدين واحداً؛ لأن طريق تصحيح هذه المقاصة فسخ ما عقدا من الصرف المرسل أو يعتبره، وفسخ العقد أو يعتبره لا يصح وجود التراضي منهما بخلاف السلم؛ لأن تصحيح ما قصدا في السلم غير ممكن بالطريق الذي عيناه في الصرف، وهو فسخ السلم المرسل، وإثبات سلم آخر أو يعتبره وتعليق بتلك العشرة، فإنهما لو صرحا بذلك وقالا: فسخنا السلم وحددنا تلك الدين لا يجوز؛ لأن السلم بدين سبق وجوبه لا يجوز. ألا ترى إن قال لغيره: أسلمت إليك العشرة الدين التي لي عليك في كر حنطة لا يجوز، وفي الصرف لو صرحا بذلك لا يجوز؛ لأن الصرف بدين سبق وجوبه وهي المسألة الأولى.
الوجه الثاني: وفي هذا الوجه لا يحتاج إلى التعريض لفسخ العقد المرسل ولا لتغييره ولكن يقول: القياس يأبى جواز هذه المقاصة، وإن تقاصا؛ لأنه استبدال وليس باستيفاء على ما مر، ولكن تركنا القياس فيه لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،(7/220)
فإن فيه أن رسول الله جوّز الصرف بدين وجب قبل عقد الصرف، ومتى جاز الصرف بدين واجب عليه قبل عقد الصرف يصير قاضياً ببدل الصرف ديناً وجب عليه قبل عقد الصرف علمنا أن قضاء دين وجب قبل عقد الصرف ببدل الصرف جائز.
وإذا جاز هذا في الصرف المضاف إلى الدين فكذ (157أ3) في الصرف المرسل إلا أنه لم نجز هذه المقاصة قبل تراضيهما عليها، وإن لم يثبت فسخ ما عقد من الصرف على هذا الوجه؛ لأن جواز هذه المقاصة بحديث عبد الله بن عمر كخلاف القياس، والحديث يقتضي جواز حال وجود الرضا منهما؛ لأن الحديث ورد في الصرف المضاف إلى الدين، والصرف المضاف إلى الدين لا يصح إلا بتراضيهما، فحال عدم التراضي يعمل فيه بقضية القياس.
والقياس يأبى جواز هذه المقاصة بخلاف السلم على هذا الوجه؛ لأن جواز هذه المقاصة في السلم لو كان، كان بدلالة حديث عبد الله بن عمر لا بصريحه، وفي السلم صريح نص بخلافه، وهو قوله عليه السلام: «ولا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ، فكان العمل في السلم بصريح النص أولى.
المسألة الثالثة: رجل باع من أخر ديناراً بعشرة دراهم ودفع الدينار، ولم يقبض العشرة حتى وجب لمشتري الدينار عشرة دراهم على بائع الدينار، فأراد مشتري الدينار أن يحمل ما وجب له قصاصاً بما وجب عليه من بدل الصرف، ووصى به بائع الدينار، ولقب المسألة أن المتعارفان إذا تقاصّا بدل الصرف بدين وجب بعد عقد الصرف.
والجواب فيها: أن ينظر إن وجب هذا الدين بعد عقد الصرف بالغصب أو القرض بأن غصب أو استقرض بائع الدينار من مشتري الدينار عشرة دراهم وقصاصاً تقاصا أو لم يتقاصا؛ لأنه وجد بعد عقد الصرف قبض حقيقي وهو من جنس المستحق بعقد الصرف، وإنه قبض مضمون فيعتبر واقعاً بجهة الصرف.
ألا ترى أن مثل هذا في السلم يجوز حتى أن رب السلم إذا غصب من المسلم إليه بعد عقد السلم وبعد ما حل الأجل كراء هو مثل المسلم فيه أو استقرض كراء هو مثل المسلم فيه يصير قصاصاً أو لم يتقاصا، وكذلك المسلَّم إليه إذا غصب من رب السلم أو استقرض منه دراهم هي مثل رأس المال تقاصا أو لم يتقاصا.
وأما إذا وجب هذا الدين بعد عقد الدين عقد الصرف بسبب الشراء بأن باع مشتري الدينار من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم إن لم يجعلاه قصاصاً لا يصير قصاصاً باتفاق الروايات.
وإن جعلاه قصاصاً ذكر في «الزيادات» وفي كتاب الصرف في رواية أبي سليمان: أنه يصير قصاصاً، وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يصير قصاصاً.
وجه ما ذكر في «الزيادات» وفي رواية أبي سليمان: أنهما لما أقدما على هذه المقاصة فقد أنشأ عقد الصرف على هذا الدين، ومن ضرورته انفساخ الصرف المرسل؛(7/221)
وهذا لأنه لا صحة لهذه المقاصة إلا بعد انفساخ الصرف المرسل، وإنشاء صرف آخر على هذا الدين الواجب بعد عقد الصرف، ولو صرحا بذلك أليس أنه يجوز؟ كذا هاهنا.
وجه ما ذكر في رواية أبي حفص: أن جواز هذه المقاصة بدين وجب قبل عقد الصرف عرف بخلاف القياس بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحديث الوارد في دين وجب قبل عقد الصرف لا يكون وارداً في دين وجب بعد عقد الصرف؛ لأن هذا صريح نصوص أُخر بخلافه يوجب قبض بدلي الصرف وهو آثار الصحابة رضي الله عنهم، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يميل إلى رواية «الزيادات» ورواية أبي سليمان.
حكى ذلك عنه القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد ابن أبي سهل السرخسي رحمه الله يميل إلى رواية أبي حفص رحمه الله.
ومما يتصل بمسائل المقاصة
وإن لم يكن من جنس مسائل هذا الفصل:
ما ذكر في «المنتقى» وصورتها: رجل له عند رجل وديعة وللمودع على صاحب الوديعة دين، هو من جنس الوديعة لم تصر الوديعة قصاصاً بالدين قبل أن يجتمعا عليه وبعدما اجتمعا عليه لا يصير قصاصاً أيضاً ما لم يرجع إلى أهله فيأخذها، وإن كانت في يده فاجتمعا على جعلها قصاصاً لا يحتاج إلى شيء أخر غير ذلك، ومتى صار ديناً صار قصاصاً، وحكم المغصوب إذا كان المغصوب قائماً في يد رب الدين وحكم الوديعة سواء، وحكم الدينين إذا كانا مؤجلين أنه لا تقع المقاصة بينهما ما لم يتقاصا، وكذا إذا كان أحدهما مؤجلاً والأخر حالاً، أو كان أحدهما علة والأخر صحاحاً والله أعلم.
الفصل السابع عشر: في بيع الموزون بجنسه أو بخلاف جنسه وبيع المكيل كذلك وما يتصل بهما
ولا يجوز بيع الإناء المتخذ من الفضة بالدراهم إلا وزناً بوزن، وكذلك لا يجوز بيع الإناء المتخذ من الذهب بالدنانير إلا وزناً بوزن؛ لأن الصياغة فيه بمعنى الجودة ولو كان أحد البدلين جيداً والأخر رديئاً لم يجز ما لم يتساويا وزناً. قال عليه السلام: «جيدها ورديئها سواء» ، فلم يخرج الذهب والفضة عن الوزن بالصفة حتى أثبت الربا بين المصبوغ وغير المصبوغ.
وفرق بين الفضة والذهب، وبين الحديد والرصاص والصفر حيث خرجت هذه الأشياء بالصفة عن حد الوزن حتى يجوز بيع إناء متخذ من حديد بحديد غير مصبوغ كيف(7/222)
ما كان، وجوز بيع إناء متخذ من رصاص برصاص غير مصبوغ كيف ما كان.
والفرق: أن وزن الذهب والفضة ثابت بالشرع فما بقي الذهب والفضة يبقى الوزن معتبراً وبعد الصبغة بقي ذهباً وفضة، فيبقى الوزن معتبراً، فهذا موزون بيع بموزون من جنسه، فلا يجوز إلا متساوياً، فأما الوزن في الحديد والصفر والرصاص ما ثبت بالشرع، وإنما ثبت باصطلاح الناس، وما ثبت باصطلاح الناس يبطل باصطلاح آخر منهم بخلاف الاصطلاح الأول حتى باعوها عدداً وتركوا وزنها مع إمكان الوزن، فخرج عن حد الوزن وصار عدداً، فهو عددي بيع بموزون، فيجوز متساوياً ومتفاضلاً حتى قالوا: لو اعتادوا بيع الأواني المتخذة من هذه الأشياء بالوزن لا بالعدد لا يجوز بيعه بغير المصنوع من جنسه إلا متساوياً.g
وعن هذا قلنا: إن الناس إذا تعاملوا بيع الأواني المتخذة من هذه الأشياء بالعدِّ يجوز بيع الواحد منها بالاثنين، ولكن يداً بيد، وفي الأواني المتخذة من الذهب والفضة لا يجوز بيع الواحد بالاثنين والطريق ما قلنا.
والحديد كله نوع واحد جيده (157ب3) ورديئه سواء، ولا يجوز البيع إلا وزناً بوزن؛ لأن الحكم في الفرع ثبت على الوجه الذي ثبت في الأصل، وفي الأصل وهو الذهب والفضة يجعل أنواع النقرة والذهب نوعاً واحداً فكذا الحديد.
وإن افترقا قبل التقابض لا يبطل البيع؛ لأن هذا بيع وليس بصرف ولكن يشترط أن يكون عيناً بعين لينتفي النَّسَاء، وكذلك هذا الحكم في سائر الموازنات، ولا بأس بالنحاس الأحمر بالشبه الشبه واحد والنحاس اثنان يداً بيد؛ لأن الشبه وإن كان من جنس النحاس إلا أنه جعل فيها الأودية والأخلاط حتى صار شبهاً، فيكون الشبه بمثل وزنه من النحاس والباقي من النحاس بإزاء الأخلاط والأودية.
فإن قيل: الأخلاط التي تجعل في الشبه صارت مستهلكة حتى لو باع الشبه بالأخلاط التي تجعل في الشبه يجوز كيف ما كان، فينبغي أن لا يكون لها عبرة كالذهب إذا موه به اللجام لا يبقى الذهب غيره.
قلنا: على الأخلاط التي في الشبه صارت مستهلكة إلا أن ما اتصل به من الصبغ واللون مال، متقوم يمكن أن يجعل زيادة النحاس بإزاءه كما في مسألة التمويه إذا بيع حديد مموّه بذهب أو فضة بحديد غير مموّه يجوز، فإن كان غير المموّه أكثر يجعل زيادة الحديد بإزاء التمويه.
والحاصل ما صار مستهلكاً من هذا الجنس لا يعتبر لجريان الربا أما يعتبر في حق جعل الزيادة بمقابلته.
وكذلك لا بأس بالشبه بالصفر الأبيض الشبه واحد والصفر اثنان يداً بيد ولا خير في هذا كله نسيئة؛ لأن الجنس والوزن يجمعهما وبأحد الوصفين يحرم النساء فيهما أولى.
قال: والرصاص والقلعي الجيد وإلا صرف الرصاص كله نوع وموزون، ولكن البعض أجود من البعض، فلا يجوز بيع البعض بالبعض إلا مثلاً بمثل.
وإذا باع الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة بسيف محلى بفضة وقبض أحدهما(7/223)
السيف الذي اشتراه، ولم يقبض الأخر السيف الذي اشتراه حتى افترقا فسد العقد من الكل.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن في أموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس في المبادلات إذا لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة، وإن كان في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، وإنما وجب صرف الجنس إلى الجنس عند جواز العقد بالنص، وهذا قوله عليه السلام: «الذهب بالذهب مثل بمثل، والفضة بالفضة مثل بمثل» ، فقد جعل الجنس مستحقاً بالجنس حال جواز العقد، فإنه جعل الجنس بالجنس حالة المماثلة وحال المماثلة في الأموال الربوية حال جواز العقد.
ونوع من المعنى يدل عليه أنا لو صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس احتجنا إلى التقويم بآرائنا واجتهادنا، وإذا صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس استغنينا عن الاجتهاد، فإنه لا مزية لأحدهما على الأخر؛ لأن المالية تنشأ عن الذات، فإذا استويا في الذات استويا في القيمة من حيث القطع، وإنما وجب صرف الجنس إلى خلاف الجنس إذا كان في صرف الجنس فساد المبادلة؛ لأن صرف الجنس إلى الجنس إذا لم يكن فيه فساد العقد بالنص ولا نص فيما إذا كان صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد، فبطلت.
فيه دليل أخر يوجب صرف الجنس إلى خلاف الجنس وهو ظاهر عقلهما ودينهما؛ لأن الظاهر من حال العاقل المتدين مباشرة الصحيح، والجائز من العقود دون الفاسد، والجواز هاهنا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس.
إذا ثبت هذا فنقول ليس في صرف الحلية إلى الحلية هاهنا فساد العقد، أما إذا كانت الحليتان في الوزن على السواء فظاهر، فأما إذا كان أحداهما أقل من الأخرى؛ فلأن أقلهما يكون بمثل وزنها من الأخرى، والباقي من الحلية التي هي أكثر مع حقه ونصله بمقابلة الجفن والنصل من الآخر، فصرفنا الجنس إلى الجنس.
وإذا فعلنا هكذا كانت الحلية فإذا افترقا من غير قبض أحداهما فقد بطل العقد في صحة الحلية لوجود الافتراق قبل قبض البدل الصرف، فيبطل في الكل؛ لأن الكل بمنزلة شيء واحد وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
فإن قيل: إن لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس هاهنا فساد العقد في الحال ففيه فساد العقد في الثاني، وهو ما إذا افترقا من غير قبض إحداهما، وليس في صرف الجنس إلى خلاف الجنس فساد العقد لا في الحال ولا في الثاني؛ لأن العقد حينئذ لا يكون صرفاً أصلاً، وكما يحتال لتصحيح العقد يحتال لإيفاء العقد على الصحة.
ألا ترى أن من اشترى من أخر ثوباً وعشرة دراهم بعشرين درهماً وقبض مشتري الثوب والدراهم الثوب والدراهم ونقد عشرة دراهم ولم يقل: إنها بمقابلة الدراهم أو بمقابلة الثوب يجعل بمقابلة(7/224)
الدراهم، وإنما يجعل بمقابلة الدراهم إيفاء للعقد على الصحة كذا هاهنا.
قلنا: إنما يحتال لبقاء العقد على الصحة إذا أمكن، أما إذا لم يمكن فلا؛ وهذا لأن الاحتيال لإيفاء العقد على الصحة بحكم ظاهر عقلهما ودينهما؛ لأن الظاهر من حال العاقل الدين أنه يقصد مباشرة العقد على وجه يبقى على الصحة، وبقاؤه على الصحة هاهنا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، إلا أن في هذا الظاهر تعارض؛ لأن هذا الظاهر كما يقتضي صرف الجنس إلى خلاف الجنس يقتضي صرف الجنس إلى الجنس حتى يجب التقابض في مجلس الصرف، فيحصل مقصود كل واحد منهما من عقد الصرف؛ لأن مقصود كل واحد منهما من عقد الصرف لا يتم إلا بالقبض، وليس أحد الظاهرين بالاعتبار بأولى من الآخر؛ إذ ليس في اعتبار أحدهما فساد العقد وفي اعتبار الآخر جوازه، فسقط اعتبار كلا الظاهرين ويعمل فيه بظاهر قوله عليه السلام: «الذهب بالذهب مثل بمثل» .
بخلاف ما ذكر من المسألة؛ لأن هناك الاحتيال لإيفاء العقد على الصحة ممكن؛ لأنه لا يعارض فيما ذكرنا من الظاهر؛ لأن في جعل المنقود بمقابلة العشرة إيفاء العقد على الصحة، وليس في جعله بإزاء الثوب تفويت عرض المتعاقدين، فعملنا بالظاهر الذي قلنا في صرف المنقود إلى العشرة إيفاء العقد على الصحة، وأما هاهنا بخلافه على ما ذكرنا.
وإذا اشترى الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة بعينه بثوب وعشرة دراهم وتفرقا قبل أن (158أ3) يتقابضا بطل العقد في الكل؛ لأن العشرة التي مع الثوب مصروفة إلى الحلية إن كانت الحلية مثل وزنها، وإن كانت الحلية أكثر من وزنها يصرف العشرة إلى الحلية بمثل وزنها، والباقي من الحلية والنصل والجفن كله بمقابلة الثوب.
بناء على ما قلنا: إن في أموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس إذا لم يكن فيه فساد العقد، وليس في صرف الجنس إلى الجنس فهاهنا فساد العقد، فصارت العشرة بمقابلة الحلية، فإذا افترقا قبل التقابض بطل العقد في حصة الصرف، فيبطل في الباقي ضرورة لما مر.
ولو باع من آخر ثوباً ونقرة فضة بثوب ونقرة فضة فالفضة تصرف إلى الفضة والثوب؛ إذ ليس في صرف الفضة إلى الفضة فساد العقد ففعلنا كذلك، فإن افترقا قبل القبض التقابض حتى فسد العقد في الفضة بالفضة لا يفسد في الثوب بالثوب؛ لأن العقد في الثوب بالثوب ليس بصرف.
بخلاف مسألة السيف المحلى، فإن هناك لا يمكن تسليم الباقي إلا بضرر، ولهذا المعنى لم يجز بيع النصل والجقن بدون الحلية ابتداءً.
أما في تسليم الثوب ممكن من غير ضرر، والعقد فيه ليس بصرف، ففساد العقد في الحلية لم يوجب فساد العقد في الصرف، أما في مسألة السيف فبخلافه على ما ذكر.(7/225)
ولو أن رجلاً باع من آخر ثوباً وديناراً بثوب ودرهم، وتفرقا قبل التقابض بطل العقد فيما تقابل الدينار من الدرهم والدرهم من الدينار، وجاز العقد في الباقي، ولا يصرف الجنس إلى الجنس الثوب إلى الثوب، وإن لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد؛ لأن صرف الجنس إلى الجنس عرف بالحديث في الأموال الربوية الذهب بالذهب، والثوب ليس بمال الربا، والدرهم والدينار وإن كانا مال الربا إلا أنهما اختلفا جنساً، وإذا لم يجب صرف البعض على التعيين إلى البعض، هاهنا عمل بقضية المقابلة والمقابلة مطلقة وقضية المقابلة المطلقة انقسام كل جزء من أجزاء كل واحد من البدلين على كل جزء من أجزاء البدل الآخر.
قسمنا الدينار والثوب على الدرهم والثوب باعتبار القيمة فما أصاب الدينار من الدرهم يكون صرفاً وما أصاب الثوب من الثوب يكون بيعاً فتبطل حصة الصرف بالافتراق عن المجلس، ولا تبطل حصة الثوب؛ إذ ليس فيه ما يوجب الفساد.
وإذا أردت معرفة طريق قسمة الثوب والدرهم على الثوب والدينار.
فطريقه: أن يقوم الثوب والدينار، فإن كان قيمة كل واحد منهما عشرة دراهم صار نصف الثوب ونصف الدرهم بإزاء الثوب الذي مع الدينار، وصار نصف الثوب ونصف الدرهم بإزاء الدينار، فصار الثوب الذي مع الدينار مشترى بنصف الثوب والدرهم، وصار الدينار مشترى بنصف ثوب قيمته خمسة وبنصف درهم، فجعل كل نصف درهم جزءاً، فصار خمسة دراهم عشرة أجزاء، وصار نصف درهم جزءاً فصار نصف الثوب ونصف الدرهم على أحد عشر جزءاً، وظهر أن الصرف إنما جرى في جزء واحد من أحد عشر جزءاً من الدينار بنصف درهم، فإذا تفرقا قبل القبض بطل هذا القدر من الدينار بنصف درهم وجاز ما سوى ذلك.
وإن أردت أن تقسم الدينار والثوب على الدرهم والثوب، فاقسم بالطريق الذي قلنا، وقوِّم المقسوم عليه وهو الثوب والدرهم، فأما المقسوم وهو الثوب والدينار، فلا حاجة إلى تقويهما، فإذا بطل العقد في حصة الصرف في هذه المسألة لا خيار ولواحد منهما؛ لأن عيب التبعيض بفعل كل واحد منهما، وهو ترك القبض والتسليم، فيكون كل واحد منهما راضياً بعيب التبعيض.
ولو باع درهماً ودينارين بدينار ودرهمين صح العقد عندنا، ولا يصرف الجنس إلى الجنس؛ لأن في صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد.
ولو اشترى رجل من رجل مثقالاً من فضة، ومثقالاً من نحاس بمثقال من فضة وثلاث مثاقيل من حديد، فهو جائز عندنا، ويجعل المثقال من الفضة بمثله من المثقالين، ويجعل النحاس الذي مع هذا المثقال بمثقال فضة وثلاث مثاقيل حديد، وكذلك مثقال صفر ومثقال حديد بمثقال صفر ومثقال رصاص يجوز، ويجعل مثقال صفر بمثقال صفر، والحديد بالرصاص.
وإذا اشترى إناء من نحاس برطل من حديد بغير عينه ولم يضرب له أجلاً وقبض(7/226)
الإناء، فهو جائز إن دفع إليه الحديد قبل أن يتفرقا؛ لأن الحديد موزون، والموزون في الذمة إذا قوبل بعين يصير ثمناً على ما مر في كتاب البيوع خصوصاً إذا صحبه حرف الباء وترك التعيين في الثمن عند العقد لا يضر ولكن يشترط قبض الحديد قبل أن يتفرقا؛ لأن الوزن يجمعهما، والوزن في ثمنين أو في ثمن يحرم النساء إلا أنه في المجلس عفو، وخارج المجلس ليس بعفو.
هكذا ذكر المسألة في «الأصل» وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» تفصيلاً، فقال: إن كان ذلك الإناء يباع في العادة عدداً لا وزناً لا يشترط قبض الحديد في المجلس؛ لأن هذا افتراق عن عين بدين في جنسين مختلفين، وإن ذلك الإناء يباع وزناً في العادة، فلا بد من قبض الحديد في المجلس؛ لأنه بيع موزون بموزون من جنسه، والدينية فيه عفو قبل الافتراق، وليس بعفو بعد الافتراق.
ولو قبض الحديد في المجلس ولم يقبض الإناء حتى افترقا فالعقد صحيح؛ لأن ما كان ديناً قد تعين بالقبض قبل الافتراق والإناء عين، فترك القبض فيه قبل الافتراق لا يضر.
ولو اشترى رطلاً من حديد بعينه برطل من رصاص بغير عينه وقبض الحديد ولم يقبض الرصاص حتى افترقا فسد البيع، ولو قبض الرصاص ولم يقبض الحديد، فالعقد صحيح، والمعنى ما ذكرنا.
وإن كان كل واحد منهما بغير عينه، فالعقد فاسد إن تقابضا قبل الافتراق أو لم يتقابضا؛ لأن أحدهما مبيع وهو الذي لم يصحبه حرف الباء، فيكون بائعاً ما ليس عنده لا على وجه السلم.
وروي عن محمد: إذا باع بالدراهم الدراهم، وفي أحدهما فضل من حيث الوزن وفي الجانب الذي لا فضل فيه فلوس، قال أبو حنيفة: لا بأس به، ويجعل المثل بالمثل والباقي بمقابلة الفلوس.
وقال محمد رحمه الله: ذلك ألف الناس التفاضل واستعملوها فيما لا يحل وسبيل الحديد بالحديد والصفر بالصفر، وما يجري مجرى ذلك مما لا يجري فيه الربا بمنزلة الذهب والفضة (158ب3) في الوجوه كلها إلا في فصل واحد أن التقابض مستحق في بيع الذهب بالذهب أو الفضة غير مستحق في غير ذلك، إذا كان المعقود عليه عيناً.
الفصل الثامن عشر: في تصرف المتصارفين في ثمن الصرف قبل القبض
إذا أبرأ أحد المتصارفين صاحبه الدين الذي وجب له عليه بالعقد أو وهبه منه أو تصدق به عليه، فإن قبل الذي عليه الدين انتقض الصرف، وإن لم يقبل بقي العقد على حاله؛ وهذا لأن المستحق بعقد الصرف القبض الحقيقي والإبراء إسقاط، وليس بقبض،(7/227)
وسقوط الدين يتضمن فوات القبض ويوجب انفساخ العقد، والعقد لا ينفسخ بتصرف أحدهما، وإنما ينفسخ إذا أجمعوا على الفسخ، فإذا قبل صاحبه فقد ساعده على الفسخ فانفسخ، وإن لم يقبل بقي العقد على حاله.
وإذا اشترى منه شيئاً أو قبض عنه شيئاً من غير جنس الدين، فالبيع فاسد وثمن الصرف على حاله بقبضه ويتم العقد، وقال زفر: البيع الثاني جائز؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود في أحد الروايتين عن زفر، فلم يتعلق العقد بعين ذلك الثمن، وكان ما ذكر من بدل الصرف لبيان القدر والجنس كأنه قال ثمة: اشتريت بمثل الدراهم التي في ذمتك، وإما يقول الدراهم، وإن كانت لا تتعين في العقد إلا أن تسليم الثمن واجب عليه، وقد عين بذلك بدل الصرف وقد تعذر إثبات المقاصة من بدل الصرف وبين الثمن؛ لأنه يفوت للقبض المستحق لبدل الصرف فبقيت الإضافة في حق إثبات المقاصة وبقي أثرها في إسقاط وجوب التسليم، وإنه مفسد للعقد يفسد البيع، وبقي الصرف صحيحاً على حاله، ولو أخذ الدراهم أجود أو أردئ مما يخالفه في الوصف، وذلك المقبوض يجري مجرى الدراهم الواجبة بالعقد في معاملات الناس جاز وكان اقتضاء؛ لأنه من جنس حقه، وإن خالفه في الصفه فقد اقتضاه لا استبدالاً.
ولو وهب له فلم يقبل الهبة وأبى الواهب أن يأخذ ما وهب أجبر على القبض؛ لأنه يريد فسخ العقد بالامتناع على القبض، فلا يكون له ذلك وستأتي بعض مسائل هذا في فصل المتفرقات.
الفصل التاسع عشر: في بيع الصرف مرابحة
وإذا باع الرجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار وتقابضا ثم باعه بربح دراهم أو بربح نصف دينار فهو جائز، أما إذا باعه بربح نصف فضة وزنه عشرة ديناراً ونصف دينار وإنه جائز؛ لأن الجنس مختلف فلا يظهر الربح.
وأما إذا باعه بربح درهم فما ذكر من الجواب جواب ظاهر الرواية؛ لأنه يصير بائعاً القلب بدينار ودرهم وذلك جائز؛ لأنه يجعل بإزاء الدرهم من القلب مثله والباقي من القلب بإزاء الدينار، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز؛ لأن الدرهم يقابله مثل وزنه من القلب على ما عليه الأصل، فلو جوزنا ذلك كان الدينار بمقابله تسعة أعشار القلب، والدرهم بمقابلة عشر القلب، فيكون بعض ما سمياه رأس المال ربحاً في تسعة أعشار القلب بعض ما سمياه ربحاً رأس المال في عشر القلب، وذلك تصحيح على غير الوجه الذي صرحا به.
ولو كان قام عليه بعشرة دراهم فباعه بربح درهم لم يجز؛ لأنه يبع العشرة بأحد عشر ولو ضم معه ثوباً أقام عليه بعشرة دراهم فقال: قام عليّ هذان بعشرين درهماً(7/228)
وأبيعهما بربح درهم، فذلك كله في قول أبي حنيفة.
وكذلك إذا باعه بربح ده يازده؛ لأن الربح انصرف إليهما؛ لأنه أنص عمل بيعهما مرابحة، فإذا انصرف الربح إليهما فسد العقد في حصة القلب لأجل الربا أو العقد صفقة واحدة، فتعدى الفساد إلى الباقي وعندهما يجوز في حصة الثوب؛ لأن كل واحد منهما منفصل عن الآخر.
وكذلك لو اشترى جارية وطوق فضة عليها فيه مئة درهم بألف درهم وتقابضا، ثم باعها مرابحة بربح مائة درهم أو بربح ده يازده فالعقد فاسد في قول أبي حنيفة وعندهما يجوز في الجارية دون الطوق وقد ذكر الكرخي رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة في مسألة الطوق واستبدل به على رجوعه في نظائره وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيوع.
وإذا اشترى الرجل من آخر سيفاً محلى بفضة بمائة درهم وحلية السيف خمسون درهماً وتقابضا، ثم إن المشتري باع السيف مرابحة بربح عشرين درهماً أو بربح ده دوا زده أو بربح ثوب بعينه أو ما أشبه ذلك لا يجوز؛ لأن للحلية حصة من الربح فيصير مقابلتها أكثر من وزنها من الفضة أو أقل، وإنه ربا ففسد العقد في حصة الحلية ويفسد في الباقي ضرورة.
فإن قيل: كان يجب أن يصرف الربح إلى الجفن والنصل والحمائل دون الحلية، فإن باع السيف مرابحة؛ لأن اسم السيف ينطلق على النصل بدون الحلية فيجعل كذلك تحرياً للجواز، فيكون العقد على الحلية مساومة على ما وراء ذلك مرابحة.
ألا ترى إلى ما ذكر محمد: أن من اشترى من آخر سيفاً محلى بفضة بمئة درهم وحلية السيف خمسون درهماً ثم إن البائع قال للمشتري: حططت عنك عن ثمن السيف درهماً كان الحط عن ثمن النصل والجفن؛ لأن اسم السيف منطلق على النصل وحده، فيصرف الحط إليه تحرياً للجواز كذا ههنا.
والجواب عن هذه الإشكال من وجهين:
أحدهما: أنا لو جعلنا كذلك صار العقد الواحد عقدين؛ لأن بمقدار الحلية يصير البيع، وبمقدار الجفن والنصل يصير مرابحة وجعل العقد الواحد عقدين خلاف الأصل، ولأنه خلاف ما صرحا به؛ لأنهما جعلا الربح في ثمن السيف ده يازده، وإذا جعلنا جميع الربح بإزاء السيف كان الربح في ثمن السيف ده ده بازده.
الجواب الثاني: أنه إنما يحتال لتصحيح العقد إذا لم يصرح المتعاقدان بالفساد، وههنا صرحا بالفساد، ولما قالا: بيع هذا السيف بربح ده دوا زده؛ وهذا لأن بيع المرابحة بيع بالثمن الأول ويازده.
ولهذا قالوا: في رجلين اشتريا عبداً أحدهما نصفه بمائة، والأخر اشترى نصفه بخمسين، ثم باعاه مرابحة انقسم الثمن عليهما على قدر ثمنهما في العقد الأول، لا على قدر ملكهما في العبد.
وإذا كان بيع المرابحة بيعاً بالثمن الأول وزيادة يصير الثمن الأول مذكوراً من حيث(7/229)
المعنى، فيعتبر بما لو كان مذكوراً أيضاً بأن قال: بعتك هذا السيف بربح ده دو زده على المائة كلها، فكذا إذا صارت المائة مذكورة معنى، (159أ3) فأما في مسألة الحط لم يصرحا بالفساد؛ لأن الحط صحته لا تنبني على الثمن الأول حتى تصير المائة التي هي ثمن مذكورة معنىً، فيكون تنصيصاً على الفساد من حيث إنه أضاف الحط إلى المائة ففي هذا حط عن ثمن السيف من غير ذكر الثمن الأول، واسم السيف يقع على الجفن والنصل والحمائل، كما يقع على النصل، فصرفنا الحط إلى النصل والجفن تحرياً للجواز أما ههنا بخلافه على ما مر.
قال: الجام المموه بالذهب أو الفضة لا بأس ببيعه مرابحة؛ لأن الذهب والفضة كل واحد منهما يصير مستهلكاً بالتمويه، ألا ترى أنه لا يتخلص، فلا يتمكن الربا باعتباره.
ولو أن رجلاً اشترى قلب فضة بعشرة دراهم فيه عشرة دراهم، ثم باعهما جميعاً القلب والثوب مرابحة بربح أحد عشرة درهماً يفسد العقد في حصة الحلية، ويكون الربح مصروفاً إليهما، ولا يصرف إلى الثوب خاصة لما ذكرنا في المسألة الأولى، ولا يتعدى الفساد إلى الثوب، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» ، ولم يحك فيها خلافاً. أما على قولهما: فظاهر.
وأما على قول أبي حنيفة: فلأن الصفقة هاهنا صفقتان؛ لأن ملك كل واحد منهما فيما باع متميز عن ملك صاحبه، وثمن ملك كل واحد منهما ممتاز عن ثمن ملك صاحبه؛ لأن ثمن ملك كل واحد منهما مسيء بسبب البيع مرابحة؛ لأنه بيع بمثل الثمن الأول.
ولو كان المبيع مشتركاً بينهما وباعا جميعاً إلا أن كل واحد منهما سمى لنصيبه ثمناً على حدة، بأن كان عبداً مشتركاً بين اثنين قالا لرجل: بعناك هذا العبد بألف على أن يكون نصيب هذا بكذا، ونصيب هذا بكذا كان صفقتان، فإذا لم يكن الملك في المبيع مشتركاً بينهما وقد سمى كل منهما لنصيبه ثمناً على حدة أولى، وإذا كان العقد صفقتان ففساد إحداهما لا يوجب فساد الآخر.x
قال: وكذلك لو كان القلب والثوب لرجل واحد فقد عطف هذه المسألة على المسألة الأولى، وإنما يصح هذا العطف على المسألة الأولى على قولهما؛ لأن الجواب على قولهما لا يختلف بين هذه المسألة والمسألة الأولى.
أما على قول أبي حنيفة: الجواب مختلف بين هذه المسألة وبين الأولى؛ لأنهما متى كانا لواحد يفسد العقد كله على قول أبي حنيفة؛ لأن الصفقة تكون واحدة؛ لأن ملك المبيع لواحد وقد باعه جملة من واحد، فكانت الصفقة واحدة، فإذا فسد في البعض فسد في الباقي عند أبي حنيفة.
والدليل على أن الجواب في هذه المسألة على قولهما: أنه نص على قول أبي حنيفة بعد هذه المسألة في مثل هذه المسألة بخلاف ما ذكر في هذه المسألة.
وصورة ما ذكر بعد هذه المسألة: إذا اشترى الرجل من آخر ثوباً وقلباً بمائة درهم،(7/230)
ووزن القلب خمسون على أن يكون ثمن القلب نسيئة وثمن الثوب حالة فسد العقد كله عند أبي حنيفة؛ لأنهما صفقة واحدة وقد فسد بعضه لربا النساء، فيفسد الباقي عنده.
وفي مسألتنا فسد البعض لربا الفضل فأولى أن يفسد الباقي؛ لأن ربا الفضل أقوى من ربا النساء، ولو باعهما بصيغة ده يازده بوضعية ده دوا زده، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا باعهما مرابحة؛ لأن الوضعية بيع بمثل الثمن الأول نقصان، والمرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة.
قال: ولو ضم القلب والثوب، وقال: أبيعكما بزيادة درهم على عشرين درهماً كان جائزاً، وتصرف الزيادة كلها إلى الثوب خاصة، ولا يصرف شيء منها إلى القلب بخلاف ما إذا قال: أبيعكهما بربح ده يازده، فإن هناك يصرف الربح إلى القلب والثوب جميعاً.
والفرق: أن في قوله: أبيعكهما بزيادة درهم على عشرين درهماً لم ينسب العشرين إلى رأس المال، ولا إلى ما قاما عليه به، فكان هذا بيع مساومة، وفي بيع المساومة تقابل الفضة بمثل وزنها، ويجعل الربح كله بمقابله الثوب تحرياً للجواز؛ إذ ليس فيه ما يمنعها من أن يجعل بمقابلة الفضة مثل وزنها، وجميع الربح بمقابلة الثوب.
أما في قوله: أبيعكهما بربح ده يازده نص على بيع المرابحة فيهما، وفي بيع المرابحة لابد من اعتبار الثمن الأول، فكأنه قال: بعتكهما مرابحة بربح درهم على العشرين، وعند ذلك لا يمكن جعل جميع الربح بمقابلة الثوب.
الفصل العشرون: في الصرف في دار الحرب
إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغير أمان وعقد مع حربي عقد الربا بأن اشترى درهماً بدرهمين أو اشترى درهماً بدينار إلى أجل، أو باع منهم خمراً أو خنزيراً أو ميتة أو دماً بمال؛ قال أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: ذلك كله جائز، وقال أبو يوسف: لا يجوز بين المسلم وأهل الحرب في دار الحرب إلا ما يجوز بين المسلمين.
والصحيح قولهما؛ لأن مال الحربي على الإباحة الأصلية، إلا أن الذي دخل دار الحرب بأمان التزم أن لا يعترض لهم، ولما في أيديهم إلا بتراضيهم، فحرم عليه الأخذ بدون رضاهم تحرزاً للعذر والخيانة، وإذا أعطى برضاهم فقد انعدم العذر والخيانة فيأخذه المسلم بحكم الإباحة الأصلية وتأثير المعاقدة في تحصيل الرضا بالأخذ لا في التملك.
ورأيت في بعض الكتب أن هذا الاختلاف فيما إذا اشترى منهم درهماً بدرهمين لا يجوز بالاتفاق؛ لأن فيه إعانة لهم بقدر الدرهم الزائد ومبرة في حقهم بذلك.
وإن عاقد هذا المسلم الذي دخل بأمان، ورجل أسلم هناك ولم يهاجر عقد الربا جاز في قول أبي حنيفة، ولم يجز في قول أبي يوسف ومحمد، وهذا فرع اختلافهم في حكم مال من أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا فعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه على(7/231)
حكم الإباحة ما لم يحرزه بدار الإسلام لو أتلفه مسلم لا ضمان عليه، وعندهما: أنه على العصمة كمال المستأمن، والمسألة قد مرت في كتاب السير.
ولو دخل مسلمان دار الحرب، فتبايعا ثمة درهماً بدرهمين لا يجوز؛ لأن كل واحد معصوم في حق صاحبه، فكان التمليك بالعقد، وهذا العقد فاسد.
ولو أسلم حربيان في دار الحرب وتبايعا درهماً بدرهمين، قال أبو حنيفة: كرهت ذلك لهما، ولا آمر هما بالرد.
وقال أبو يوسف ومحمد: يؤمران بالرد، والحكم في حقهما كالحكم في المستأمنين من المسلمين في دار الحرب عندهما، وأبو حنيفة يقول بالإسلام قبل الإحراز ثبتت العصمة في حق الآثام دون الأحكام، ألا ترى أن أحدهما (159ب3) لو أتلف مال صاحبه أو نفس صاحبه لم يضمن هو آثم في ذلك، وإنما نثبت العصمة في حق الأحكام بالإحراز على ما عرف، فلثبوت العصمة في حق الآثام كره لهما هذا الصنع، ولعدم العصمة في حق الحكم قلنا لا يؤمران بالرد.
ولو أن تاجراً من المسلمين أعطى رجلاً من أهل الحرب ألف درهم نسيئة كان جائزاً؛ لأن ربا الفضل لما لم يجز بين المسلم وبين الحربي فربا النسيئة أولى.
ولو أن حربياً باع من حربي درهماً بدرهمين، ثم خرجا إلى دار الإسلام مسلمين أو ذميين أو اختصما إلى القاضي، فإن كان ذلك بعد التقابض فالقاضي لا يتعرض لذلك ولا يبطله؛ لأن الإسلام ورد والحرام بعقد المعاوضة مقبوض فيلاقيه الإسلام قال الله تعالى: {عفا الله عما سلف} (المائدة: 95) وإن كان ذلك قبل التقابض لا يبطله؛ لأن الإسلام ورد والحرام يعقد المعاوضة غير مقبوض فيلاقيه الإسلام بالرد، قال الله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين} (البقرة: 278) ، وقال عليه السلام: «كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، وأول وضعة ربا العباس بن عبد المطلب» ، وكان العباس قد أربى في كفره وأسلم قبل القبض، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك لو عاقدا عقد الربا في دار الحرب ثم خرجا إلى دار الإسلام قبل أن يتقابضا في دار الإسلام، واختصما إلى القاضي فالقاضي يرد ذلك، فكذا إذا أربيا في دار الحرب وتقابضا في دار الإسلام؛ لأن للقبض شبهاً بابتداء العقد.
الفصل الحادي والعشرون: في الصرف في الغصب والوديعة
وإذا غصب رجل من آخر قلب فضة أو ذهب فاستهلكه، فعليه قيمته مصوغاً من خلاف جنسه؛ لأنه تعذر تضمينه بمثلاً؛ لأن القلب ليس من ذوات الأمثال، وتعذر تضمينه من غير جنسه غير مصوغ؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المغصوب منه في الصنعة والجودة، وتعذر تضمينه من جنسه مصوغاً؛ لأنه يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إلى صاحب القلب مثل وزن القلب وزيادة، فإذا تعذر تضمينه بهذه الوجوه تعين تضمينه مصوغاً من(7/232)
خلاف جنسه؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إلى صاحب القلب مثل وزن القلب إلي، ولا إلى تفويت حق المغصوب منه في الجودة ثم إذا ضمنه القاضي قيمته من خلاف جنسه صار القلب ملكاً له بالضمان على ما عرف.
فبعد ذلك ينظر إن كان قبض المغصوب منه القيمة قبل أن يتفرقا بقي التضمين صحيحاً بالإجماع، وإن تفرقا قبل القبض قبض القيمة، فكذلك لا يبطل التضمين عند علمائنا الثلاثة، وكان ينبغي أن يبطل وهو شبهة زفر في المسألة، ووجد ذلك صرف ثبت حكماً لإيجاب الضمان كيلاً يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل، فيشرط التقابض كما لو ثبت الصرف قصداً.
والجواب وهو قول علمائنا: إن قضاء القاضي بقيمة العين عند تعذر رد العين بمنزلة قضائه برد العين حالة قيام العين لكون القيمة قائمة مقام العين، ثم القاضي لو قضى على الغاصب برد عين القلب لا يشترط القبض في المجلس، فكذا إذا قضى برد القيمة؛ لأن هذا صرف ثبت حكماً للضمان الواجب بالغصب لا مقصوداً أو ما ثبت حكماً لغيره لا مقصوداً لا يراعى له من الشرائط ما يراعى له مقصوداً.
ألا ترى أن قيام المضمون حالة التضمين ليس بشرط لصحة التضمين مع أن بالتضمين تثبت المعاوضة؛ لأن هذه المعاوضة ثبتت حكماً للتضمين لا مقصوداً، فلم يشترط لها ما يشترط لو كان ثبتت هذه المعاوضة قصداً.
وبيانه: أن هذه المعاوضة تثبت حكماً أن المعاوضة لابد لها من صنع من جهة المتعاوضين والموجود من الغاصب الغصب، والغصب نفسه ليس بموجب الملك في المغصوب للغاصب، وإنما هو موجب للضمان على الغاصب، ثم من ضرورة وجوب الضمان على الغاصب زوال المغصوب عن ملك المغصوب منه إلى ملك الغاصب كيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد.
فهو معنى قولنا: إن هذه المعاوضة تثبت حكماً لوجوب الضمان؛ لأنها تثبت وبنفس وجوب الضمان من غير أن يتخلل بين الضمان والمعاوضة فعل فاعل مختار، وحكم الشيء ما يثبت عقيب ذلك الشيء من غير تخلل واسطة اختيارية، والتقريب ما ذكرنا.
وكذلك إن اصطلحا على القيمة فهو على الخلاف، ولو أخر القيمة عنه شهراً جاز عند علمائنا الثلاثة أيضاً.
وإذا غصب الرجل من آخر ألف درهم ثم اشتراها بمائة دينار وقبض المائة دينار قبل أن يتفرقا جاز، وإن لم تكن الدراهم في يده وقت الشراء؛ لأن قبض الغصب ينوب عن قبض الشراء.
وكذلك إن صالح منها على مائة دينار وقبض المائة دينار قبل أن يتفرقا؛ لأن الصلح(7/233)
على خلاف جنس الحق بمعنى الشراء فقد وجد قبض البدلين في مجلس العقد أحدهما حقيقة والآخر حكماً.
ثم يستوي في هذا أن تكون الدراهم قائمة في منزل الغاصب، أو كانت مستهلكة، ففي الحالين جميعاً يجوز الشراء بالمائة دينار إذا قبض المائة في المجلس، أما إذا كانت قائمة؛ فلأن الغاصب قابض لها بيده، وإن كانت مستهلكة؛ فلأن قابض لها بذمته.
وكذلك لو كان الذي غصب إناء فضة، ثم اشتراه الغاصب من المغصوب منه أو صالحه على جنس حقه أو على خلاف جنس حقه وقبض المغصوب منه البدل قبل أن يتفرقا، وأما إذا تفرقا قبل أن يقبض المغصوب، منه فالشراء يجوز قياساً واستحساناً، سواء كان المغصوب قائماً أو مستهلكاً، وأما الصلح، فإن المغصوب مستهلكاً حقيقة بأن أحرقه الغاصب، أو حكماً بأن كان معيناً أو حلف الغاصب وتفرقا قبل قبض البدل، القياس: أن يبطل الصلح. وفي الاستحسان: لا يبطل.
ولو كان المغصوب قائماً في يد الغاصب وهو مقر به ولا يمنع المالك من أخذه لا يجوز الصلح قياساً واستحساناً.
وجه الاستحسان: وهو الفرق بين البيع والصلح إذا كان المغصوب مستهلكاً أن في الصلح إن تعذر العمل (160أ3) بلفظ الصلح باعتبار المبادلة من حيث إن قبض البدل قبل الافتراق شرط المبادلة كما في البيع أمكن العمل بمجازه بأن يجعل الصلح كناية عن التضمين.
ويصير معنى قوله: صالحتك بمنزلة قوله: ضمنتك قيمته من خلاف جنسه أو من جنسه بمثل وزنه غير مصوغ، فإن له أن يضمنه مثل وزنه من جنسه غير مصوغ، وقبض القيمة ليس بشرط صحة التضمين عند علمائنا الثلاثة على ما بينا، فيجعل كذلك.
وإنما قلنا: أمكن العمل بمجازه وهو التضمين؛ لأن بين الصلح وبين التضمين موافقة من حيث المعنى الخالص؛ لأن الصلح أخذ بعض الحق وترك البعض؛ لأنه أخذ الحق من حيث المعنى وترك الصورة، وحق المغصوب منه في الصورة معتبر حتى لا يكون للغاصب حال قيام المغصوب أن يمسك المغصوب منه ويعطيه مثله، فيثبت أن في الصلح معنى التضمين.
فعند تعذر العمل به باعتبار المبادلة يجعل كناية عن التضمين تصحيحاً له، والتقريب ما ذكرنا.
بخلاف ما إذا كان المغصوب قائماً بعينه والغاصب مقربه لا يمنع المالك عن أخذه؛ لأن هناك لا يمكن أن يجعل الصلح كناية عن تضمين القيمة؛ إذ ليس له حق تضمين القيمة والحالة هذه، ولا يمكن تصحيحه بطريق المبادلة؛ لأن قبض البدل في المجلس في المبادلات شرط ولم يوجد، ولا يمكن تجويزه بطريق استيفاء البعض والإبراء عن البعض؛ لأن الإبراء عن الأعيان باطل.
فأما إذا كان المغصوب مستهلكاً فللمالك حق تضمين الغاصب، فيمكن تصحيح الصلح باعتبار معنى التضمين فصححناه كذلك.
فأما في فصل البيع كما تعذر العمل بحقيقته وهو المبادلة؛ لأن قبض البدلين في(7/234)
المبادلات شرط، ولم يوجد بعذر العمل بمجازه بأن يجعل أيضاً؛ لأنه ليس في البيع معنى التضمين؛ لأن التضمين أخذ بعض الحق وترك بعض الحق، وليس في البيع هذا المعنى؛ لأن قبل البيع لم يكن لواحد منهما على صاحبه حق، وإنما وجب الحق بالبيع وما وجب بالبيع استوفاه بكماله فليس فيه معنى أخذ بعض الحق وترك البعض، وكما تعذر العمل بحقيقة البيع مبادلة تعذر جعله مجازاً عن التضمين، أما في الصلح معنى التضمين؛ لأن معنى التضمين؛ لأن قبل التضمن إذا كان قائماً وللمالك أخذ العين، وبعد ما هلكت العين وعجز المالك عن أخذ العين إذا ضمنه فقد أخذ بعض الحق وترك البعض.
فكان في الصلح معنى التضمين من الوجه الذي بينا، والتقريب ما مر.
ولو أن رجلاً أودع رجلاً ألف درهم وقبضها المودع، ووضعها في بيته ثم التقيا في السوق فباع صاحب الوديعة دراهم الوديعة من المودع بمائة دينار وقبض صاحب الوديعة الدينار، وافترقا قبل أن يحدد المودع في الوديعة قبضاً فقد بطل البيع؛ لأن الافتراق حصل قبل قبض أحد البدلين؛ لأن المودع بنفس الشراء لا يعتبر قابضاً الوديعة بجملة الشراء؛ لأن قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء وقد مر هذا في كتاب البيوع، بخلاف ما إذا كان مكان الوديعة غصباً؛ لأن هناك الغاصب يصير قابضاً المغصوب بجملة الشراء؛ لأن قبض الغصب عن قبض الشراء؛ لأن كل واحد منهما قبض ضمان، وقد مر هذا أيضاً في كتاب البيوع.
الفصل الثاني والعشرون: يشتمل على الإجارة وعلى الصرف ويدخل فيه استهلاك المشترى في عقد الصرف قبل القبض
وإذا دفع إلى رجل لجاماً مموهة بفضة وزناً معلوماً يكون قرضاً على الدافع أجراً معلوماً على ذلك فهو جائز، يلزمه الأجر والقرض، أما جواز الإجارة؛ فلأنه استأجره بعمل معلوم ببدل معلوم، وأما جواز القرض؛ فلأن استقراض منه فضة معلومة وصار قابضاً لذلك حكماً لإيصاله بملكه، فيكون قرضاً صحيحاً.
والقياس: أن يلزمه قيمة ماء الفضة؛ لأنه إنما يصير قابضاً لماله اتصل بملكه، والمتصل بملكه ماء الفضة لا عين الفضة، فينبغي أن يلزمه قيمة ماء الفضة لا عين الفضة من هذا الوجه، إلا أنا تركنا القياس لمكان التعامل فيما بين الناس أنهم يريدون بهذا استقراض عين الفضة لا استقراض ماء الفضة، والقياس يترك بتعامل الناس.
وإن اختلفا في مقدار ما صبغ فيه من الفضة، فالقول قول رب اللجام مع يمينه على علمه؛ لأن العامل يدعي عليه إيفاء جميع العمل، وإقراض جميع ما استقرض منه صاحب اللجام، وإنما استحلف على العلم؛ لأن استحلاف على فعل الغير.(7/235)
وإن قال مَوِّهْهُ بمائة درهم فضة على أن أعطيك ثمنها وعملك عشرة دنانير فافترقا على ذلك. قال في «الكتاب» : هو فاسد.
واعلم بأن هذه المسألة اشتملت على الصرف والإجارة؛ لأن صاحب اللجام جعل بعض الدنانير بإزاء الفضة، فيكون صرفاً فيفسد بالافتراق قبل قبض البدلين وجعل بإزاء العمل، فيكون إجارة، والإجارة مما تبطل بالافتراق قبل القبض، وليس من ضرورة بطلان الصرف بطلان الإجارة؛ لأن الإجارة ما كانت مشروطة في الصرف بل الصرف كان مشروطاً في الإجارة؛ فبقيت جائزة وبين أن المراد المذكور في «الكتاب» هو فاسد أن الصرف فاسد.
ثم قال في «الكتاب» : فإن عمله كان له على صاحب اللجام فضة؛ لأن صاحب اللجام صار قابضاً الفضة حين اتصلت بملكه بسبب صرف فاسد، والمقبوض بحكم العقد الفاسد واجب الرد، وعند تعذر رد العين يجب رد المثل فيما كان من ذوات الأمثال.
ثم قال: وللعامل على صاحب اللجام أجر مثل عمله، هكذا ذكرها الحاكم الشهيد في المجلس، فقد أوجب أجر مثل العمل، وهذا إنه فساد الإجارة في الأصل يقول أنه أجر مثله من الدنانير إذا قسمت الدنانير على أجر مثله وعلى المائة الدرهم، فقد أوجب بعض المسمى، وإنه دليل صحة الإجارة، وهذا هو الصحيح أن الإجارة جائزة.
وذكر أجر المثل في «الكتاب» : ليس لبيان أن الواجب أجر المثل، وإنما هو لبيان قدر الواجب من المسمى يعني له حصة أجر المثل من الدنانير المسمى.
وتفسير ذلك: أن يقسم الدنانير العشرة على المائة الفضة، وعلى أجر مثل عمله؛ لأن الدنانير العشرة قوبلت بشيئين بالفضة وبعمله، فيقسم عليهما باعتبار القيمة فما أصاب الفضة يكون صرفاً، وما أصاب أجر المثل يكون بمقابلة العمل حتى أنه إذا كان قيمة الفضة وأجر مثل عمله على السواء تنقسم العشرة الدنانير (160ب3) نصفين فأجر المثل اعتبر لمعرفة حصة العمل من المسمى؛ لأن الواجب أجر المثل، هذه الجملة في باب الإجارة في التمويه.
وفي باب الإجارة في الصناعة إذا شرط على العامل ذهب التمويه بأن قال: على أن يموهه بقيراط ذهب، فلا خير فيه، أما إذا لم يبين؛ فلأن مقدار ذهب التمويه مجهول، ولأن ما يدل من الآخر مقابله بل بذهب التمويه والعمل فيما يخص الذهب يكون صرفاً، ولم يوجد فيه قبض أحد البدلين فيفسد، وإذا فسد الصرف فسدت الإجارة؛ لأن هذه إجارة شرط فيها صرف فاسد.
وأما إذا بين مقدار ذهب التمويه، فإنما لا يجوز للمعنى الثاني، قال: إلا أن يقبض الأجير الدرهم ويقبض المستأجر القيراط من الأجير، ثم يدفعه إليه ويقول لهم موهْهُ فحينئذٍ يجوز، وكان ينبغي أن لا يجوز في هذه الصورة أيضاً؛ لأن هذه إجازة شرط فيها صرف فكان صفقة، لكن جوزنا ذلك لعمل الناس.(7/236)
فرع على المسألة باب الإجارة في الصناعة
فقال: لو استأجر بعرض أو ما أشبهه على تموه لجامه وشرط ذهب على الأجير وبين مقداره فهو جائز، وإن لم يتقابضا؛ لأن ما يخص الذهب من العرض يكون بيعاً، وما يخص العمل يكون إجارة، وقبض الثمن والأجرة قبل الافتراق ليس بشرط.
ولو دفع إلى رجل عشرة دراهم فضة، ثم قال: صغها كلها قلباً ولك أجر كذا وكذا ففعل ذلك فهو جائز؛ لأنه استقرض من العامل خمسة دراهم وصار قابضاً لها حكماً للاختلاط بملكه.
ألا ترى لو هلكت بعد الخلط هلك من مال الأمر ثُم استأجره للعمل في ملكه ببدل معلوم، وذلك جائز فقد جعل الخمسة قرضاً في هذه المسألة وفي المسألة الأولى لم يجعل ما كان عند العامل قرضاً، وإنما جعله صرفاً؛ لأن في المسألة نص على الصرف حيث قال: علي أن أعطيك ثمنه وبأجر عملك كذا، وههنا لم ينص على الصرف، فإنه لم يذكر الثمن إنما ذكر لفظاً محتملاً، وهو قوله: اخلط من عندك.
فهذا يحتمل ثلاثه أشياء: الهبة والقرض والصرف، غير أن الهبة منتفية لما فيها من إلحاق الضرر بالعامل مع الاحتمال، فبقي القرض والصرف، وتعيين القرض أولى؛ لأنه أدنى؛ لأنه بمعنى العارية؛ لأنه تمليك المنفعة يرد مثله، وليس فيه الضرر.
وفي الصرف تمليك الرقبة والمنفعة جميعاً فكان القرض أدنى فجعلناه مستقرضاً للخمسة قابضاً لها حكماً لاتصالها بملكه، ولو لم يدفع إليه الفضة ولكن قال له: صغ لي قلباً من عندك بعشرة دراهم، فهذا باطل؛ لأنه استأجر العمل في ملكه؛ لأن القرض لا يفيد الملك إلا بالقبض حقيقة باليد أو حكماً لاتصاله بملكه ولم يوجد.
وإذا اشترى من آخر قلب فضة بدينار ودفع الدينار ولم يقبض القلب حتى جاء رجل وأحرق القلب، واختار المشتري فسخ العقد وفسخه أخذ ديناره من البائع، وكان للبائع أن يبيع المحرق بقيمة القلب، وإن اختار المشتري إمضاء العقد واتباع المحرق بقيمة القلب وأخذ منه القلب قبل أن يفارق البائع المشتري جاز الصرف؛ لأن قبض قيمة القلب كقبض القلب إلا أنه يتصدق بما زاد على الدينار إن كان ثمة زيادة؛ لأنه ربح ما لم يضمن، وإن لم يقبض القيمة حتى فارقه البائع بطل البيع وعلى البائع رد الدينار وابتاع المحرق بقيمة القلب، وهذا قول محمد وكان أبو يوسف يقول أولاً بقول محمد، ثم رجع وقال: لا يبطل الصرف.
الحاصل: إن على قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول اختار المشتري اتباع المحرق لا يكون قبضاً منه، وعلى قول أبي يوسف ذكر قول أبي حنيفة في «الجامع الكبير» في مثل هذه المسألة.
وصورة تلك المسألة: رجل اشترى من آخر عبداً وقبل قبض المشتري، واختار المشتري إمضاء العقد واتباع القابل وقومت القيمة على القابل، فعلى قول أبي يوسف أولاً وهو قول محمد: التوى على البائع ويبطل البيع ولا يكون اختيار المشتري اتباع(7/237)
القائل بالقيمة قبضاً منه، وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة: يكون التوى على المشتري ولا يبطل البيع، فيكون اختيار المشتري اتباع القائل بالقيمة قبضاً..
وإذا اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بمائة درهم أو بعشرة دنانير ونقد الثمن ولم يقبض السيف حتى أفسد رجل شيئاً من حمائله أو جفنه، فاختار المشتري أخذ السيف وتضمين المفسد القيمة فله ذلك، فإن قبض السيف أولاً ثم فارق البائع قبل أن يقبض من المفسد ضمان ما أفسده لم يضره ذلك؛ لأن الواجب على المفسد بدل المبيع قبل افتراق المتعاقدين ليس بشرط إنما ذلك في الصرف خاصة.
وهذا بمنزلة ما لو اشترى ثوباً من أخر وأحرق الثوب رجل قبل قبض المشتري أياه، واختار المشتري إمضاء العقد واتباع المحرق ونقد الثمن، ثم افترق البائع والمشتري قبل أن يقبض المحرق شيئاً لم يفسد البيع.
وطريقة ما قلنا: وإن لم يقبض السيف وفارق البائع فالعقد يفسد في الكل عندهم جميعاً في حصة الحلية لكونه صرفاً لم يوجد فيه قبض البدلين، وإذا فسد العقد في حصة الحلية فسد في الباقي لما قلنا، هذا إذا أفسد شيئاً، أما إذا أفسد الكل بأن أحرقه بالنار واختار المشتري اتباع المحرق إن أخذ منه قيمة الكل أو قيمة حصة الحلية قبل أن يفارق البائع، فالعقد جائز في الكل.
وإن لم يقبض قيمة الحلية حتى فارق البائع فالمسألة على الخلاف على قول أبي يوسف آخراً وهو قول أبي حنيفة: لا يبطل العقد أصلاً، وعلى قول أبي يوسف أولاً يبطل.
ولو أن رجلاً اشترى من آخر قلب فضة بدينار، فقبل أن يقبض المشتري القلب جاء رجل وهشمه فقال المشتري: أنا آخذ القلب وأبيع المفسد بضمان القلب فله ذلك، وهذا مشكل؛ لأنه أثبت للمشتري ضمان النقصان مع أخذ القلب ينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأن بالهشم لا يزول بشيء من الوزن، فيجب الضمان بمقابلة الجودة بانفرادها ولا قيمة للجودة بانفرادها.
ألا ترى أن المشتري إذا أخذ القلب ثم هشمه رجل أو هشم رجل قلباً مملوكاً للغير من الابتداء، واختار المالك بأخذ القلب مع ضمان النقصان ليس له ذلك وطريقة ما قلنا.
والجواب: أن في مسألتنا إذا أخذ المشتري قدر (161أ3) النقصان يصير قدر النقصان مع القلب مبيعاً بالدينار، فكان العقد من الابتداء ورد على القلب مع قدر النقصان بالدينار، فلا يكون سواء، وأما قبضه المشتري ثم يقسمة رجل فالعقد قد انتهى بالقبض فما يأخذ من الهاشم لا يصير مبيعاً، ولا يقابله شيء من الثمن، والمتلف في نفسه معدوم، فيصير ربا.(7/238)
الفصل الثالث والعشرون: في الصرف في المعادن وتراب الصواغين
ويدخل فيه الاستئجار ولتخليص الفضة والذهب من تراب المعادن ذكر الشعبي رضي الله عنه أنه قال: لا خير في بيع تراب الصواغين، وهذا عندنا إذا لم يعلم هل فيه شيء من الذهب أو الفضة أولاً، فإن علم وجود ذلك فباعه بقرض أو بجنس أخر جاز عندنا.
واعلم بأن تراب الصواغين أو المعادن لا يخلو عن أربعة أوجه: أما إن كان تراب ذهب، وفي هذا الوجه إن بيع بذهب وفضة لا يجوز، وإن بيع بفضة لا يجوز، وأما إن كان تراب فضة، وفي هذا الوجه إن بيع بفضة أو بفضة وذهب لا يجوز، وأما إن بيع بذهب يجوز، أما إن كان تراب ذهب وفضة، وفي هذا الوجه إن بيع بذهب أو بفضة لا يجوز، وإن بيع بذهب وفضة يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس، وأما إن كان لا يدرى أن فيه ذهب أو لا يدرى أن فيه كلاهما أو إحداهما، وفي هذا الوجه لو بيع بذهب وفضة لا يجوز، وكذلك إذا بيع بذهب وفضة.
وإذا احتفر الرجل موضعاً في المعدن ثم باع ملك الحفرة، فبيعه باطل؛ لأنه باع ما لا يملك؛ لأنه ما احتفر هذا المكان ليملك رقبته لهما احتفره ليملك ما فيه بخلاف ما لو احتفر حفيرة في أرض موات بأمر الإمام؛ لأن احتفاره كان ليملك رقبة هذا المكان فقد باع ما يملك.
وإذا كان للرجل على رجل دين فأعطاه به تراباً بعينه يداً بيد، فإن كان الدين فضة وأعطاه تراب الفضة لم يجز؛ لأنه لو باع تراب الفضة بالفضة لم يجز فكذا إذا قضى الدين على هذا الوجه.
فرق بين هذا وبين ما ذكر في كتاب الصلح: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم دين، فأعطاه الغريم دراهم مجهولة الوزن على سبيل الصلح، فإنه يجوز استحساناً فقد جوز هذا التصرف على وجه الصلح ولم يجوزه على وجه القضاء، وإن أعطاه تراب ذهب جاز؛ لأنه لو باعه تراب ذهب بفضة جاز كذا هاهنا.
ولو اشترى تراب ذهب بتراب ذهب أو اشترى فضة بتراب فضة لا يجوز، ولو اشترى تراب ذهب بتراب فضة أو على العكس يجوز، وكل واحد منهما بالخيار إذا رأى ما فيه.
وإذا استقرض الرجل من الرجل تراب ذهب أو تراب فضة قائماً عليه مثل ما خرج من التراب؛ لأنه هو المقصود ويكون القول (قول) المستقرض في مقدار ما خرج، ولو استقرضه على أن يعطيه تراباً مثله لا يجوز؛ لأنه يكون بيع فضة بفضة مجازفة، وإنه لا يجوز لما يتوهم فيها من الربا.(7/239)
وإذا استأجر الرجل رجلاً يخلص له ذهباً أو فضة من تراب المعادن أو من تراب الصياغين فهذا على ثلاثة أوجه:
إما أن يقول: استأجرتك لتخلص لي ألف درهم فضة من هذا التراب، أو قال: ألف مثقال ذهب من هذا التراب، ولا يدري ذلك المقدار هل يخرج من هذا التراب المشار إليه أو لا يخرج؛ لأنه لا يجوز.
وإما أن يقول: استأجرتك لتخلص الذهب والفضة من هذا التراب بكذا، وإنه جائز.
وإما أن يقول: استأجرتك لتخلص لي ألف درهم فضة من التراب، ولم يشر إلى التراب، وإنه لا يجوز أصلاً، بمنزلة ما لو استأجر له قميصاً بدرهم ولم يعين الكر باس والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات
قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل من آخر عشرة دراهم فضة بعشرة، فزادت عليها دانق فوهبه له هبة، ولم يدخله في البيع فهو جائز يريد بقوله: لم يدخله في البيع أن الهبة لم تكن مشروطة في الشراء؛ إذ لو كانت مشروطة في الشراء لأفسده الشراء، وإنما جاز هذا التصرف؛ لأنه لو لم يجز، أما لم يجز لمكان الربا، وإذا وهب الدانق منه فقد انعدم الربا.
قالوا: وإنما تصح هبة الدانق إذا كان الدرهم بحيث يضره الكسر؛ لأنه حينئذ يكون هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة، وإنها جائزة فأما إذا كان الدرهم بحيث لا يضره الكسر لا تجوز الهبة، لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة وهبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا يتم قبل القسمة والتميز.
ولا يجوز بيع الذهب مجازفة ولا بيع الفضة بالفضة مجازفة إذ لم يعرف وزنهما أو وزن أحدهما. والأصل فيه قوله عليه السلام: «الفضة بالفضة مثل بمثل وزن بوزن والذهب بالذهب مثل بمثل وزن بوزن» ، فقد جعل المماثلة في الوزن شرط جواز البيع، ولم توجد المماثلة في الوزن هاهنا، فإن وزنا فوجدا متماثلين فهذا على وجهين:
إن وزنا في مجلس العقد، فالبيع جائز، وإن وزنا بعد الافتراق على المجلس لا يجوز العقد، وهو نظير بيع الصبرة بالصبرة مجازفة، وقد مر الكلام فيه قبل هذا.
ويجوز الفضة بالفضة والذهب بالذهب إذا اعتدل البدلان في كفة الميزان إن لم(7/240)
يعلم مقدار كل واحد منهما لتيقننا بالمماثلة وزناً، وأما المماثلة إذا وزن أحدهما بصاحبه المهر إذا وزن كل واحد منهما بالسخات عقد الصرف إذا فسد بسبب الافتراق عن المجلس قبل القبض لا يخرج المشترى عن ملك المشتري قبل الرد على البائع.
بيانه في مسألة ذكرها محمد في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر إبريق فضة بدينار وقبض الإبريق ونقد ديناراً واحداً، ثم تفرقا قبل أن ينقد الدينار الآخر فسد البيع في نصف الإبريق، ولا يتعدى الفساد إلى النصف الآخر، فإن حضر رجل بعدما غاب بائع الإبريق وادعى نصف الإبريق لنفسه كان المشتري خصماً له؛ لأن المشتري مالك جميع الإبريق؛ لأن السبب وإن فسد في النصف لمكان الافتراق لا يبطل ملكه فيه ما لم يرده؛ لأن فساد السبب في الابتداء لا يمنع ثبوت الملك عند اتصال القبض، فأولى أن لا يمنع بقاء الملك في المقبوض فكان كل الإبريق ملكاً للمشتري، فيكون خصماً للمدعي.
هشام قال: (161ب3) سألت أبا يوسف: عمن باع درهماً بدرهم، فرجح أحدهما فحلله صاحب الرجحان، قال: هذا جائز؛ لأنه لا يقسم، الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع خاتم فيه فص بخاتمين فيهما فصان، وكذلك السيف المحلى بسيفين. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع الغشوش إذا بين أو كان ظاهراً يرى، وهو قول أبي يوسف رحمه الله.
وقال في رجل حمل على الفضة النحاس، فلا يبيعها حتى يبين، قال: ولا بأس بأن يشتري بستوقة إذا بين، وأرى للسلطان أن يكسرها لعلها تقع في يدي من لا يبين.
بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف: وأكره للرجل أن يعطي الزيوف والنبهرجة والستوقة والمكحلة والمزيفة والبخارية وإن بين ذلك ويجوز بها عنه الأخذ من قبل أن انفاقها ضرر على العوام، وما كان ضرراً عاماً فهو مكروه، وليس يصلحه تراضي هذين الحاضرين من قبل ما يتجوز فيه من الدلسة على الجاهل به، ومن الفاجر الذي لا يتحرج وقال كل شيء لا يجوز بين الناس، فإنه ينبغي أن يقطع، ويعاقب صاحبه إذا أنفقه وهو يعرفه.
ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا اشترى تراب الصواغين بعرض فلم يكن فيه ذهب ولا فضة فالبيع فاسد من قبل أنه اشترى ما فيه ليس البيع على التراب دون ما فيه.
وإذا كان فيه ذهب وفضة جاز البيع، وليس ينبغي للصائغ أن يأكل من ثمن ما باع من تراب الصياغة من قبل أن ما فيه متاع الناس إلا أن يكون قد زاد في متاعهم حين وفاهم بقدر ما سقط منهم في التراب، فإذا كان كذلك طاب لهم الفضل، وأكره للمشتري أن يشتريه حتى يخبره الضائع أنه قد أوفى الناس متاعهم من قبل أن علم المشتري بحيط بأن الصائغ لا يملك ذلك.
ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا باع عشرة دراهم صح بعشرة مكحلة لم يصح؛ لأن هذه تنقص وما فيها من الكحل ليس له ثمن، فيكون ما زاد من وزن البيض.
في «الإملاء» عن محمد: رجل اشترى من رجل خاتم فضة فيه فص بدراهم أو دنانير وتقابضا، ثم قلع المشتري الفص من الفضة، والقلع لا يضر بواحد منهما، ثم وجد بأحدهما عيباً رده، وأخذ بحصته من الثمن، وكذلك لو وجد بأحدهما عيباً قبل أن يقلع الفص من الفضة وأراد درهماً جميعاً فليس له ذلك، ولكنه يقلع الفصة من الفضة، ثم يرد الذي به العيب منهما.
وإن كان المشتري قد قبضهما ولم يدفع الثمن حتى وجد بأحدهما عيباً، فإن شاء أخذهما وإن شاء ردهما، وإن لم يجد بأحدهما عيباً، ولكنهما افترقا قبل قبض الثمن بطل البيع في الفضة، ولزم المشتري الفص بحصته؛ لأن الذي بطل فيه البيع إنما بطل بترك المشتري دفع الثمن وذلك لا يوجب الخيار.
ثم قال: والفص والفضة إذا كانا مسراً لم يضر ذلك بواحد منهما بمنزلة السمن في الزق يباعان جميعاً، وبمنزلة الدقيق في الجراب، وكذلك السيف المحلى أو المنطقة المحلى أو ما أشبه ذلك من الجوهر يكون في الذهب، فكل شئ من ذلك كان نزعه لا يضر بواحد منهما، فكأنهما شأنان متباينان في جميع ما وصفت لك.
وإذا اشترى خاتم فضة فيه فص بدراهم أو(7/241)
دنانير وقبضهما، ثم ميّزهما قبل الافتراق أو بعده، والتميز يضر به، وافترقا قبل أن يدفع الثمن، فالبيع فاسد في ذلك كله ويرد المشتري على البائع الفص وما نقصه.
وإن كانت الفضة نقصت مع ذلك أو نقصت وحدها لم يقدر المشتري على ردها، ولكنه يغرم قيمتها مصوغة من الذهب إلا أن يشاء البائع أن يأخذها وحدها، ولا يغرم المشتري نقصانهما؛ لأن المشتري حين قبض الخاتم قبل أن يميز الفص منه، والتميز يضر به كان ذلك شيئاً واحداً، فإذا بطل في كله البيع في بعضه بطل في كله.
وفي «المنتقى» : اشترى خاتم فضة فيه فص ياقوت بمائة دينار، فذهب الفص عند البائع، فإن هذا في قياس قول أبي حنيفة يأخذ الحلقة بمائة دينار أو نزع، ولو كان اشتراه بدراهم يأخذ الحلقة بوزنها من الفضة؛ لأنه لا يصلح أن يأخذها بأكثر من ذلك.
أبو سليمان عن أبي يوسف: إذا تصارف الرجلان دراهم بدنانير وتقابضا وتفرقا، فوجد من الدراهم من وصف غير الذي اشترط له، فعلى قول أبي يوسف له أن يستبدلها إذا كانت دون شرط، وإن كانت خيراً من شرطه، فليس له أن يستبدله، وإذا كانت مثل الذي شرط ينفق في جميع البلدان والبيوع، كما ينفق الذي شرط في البيع، وإن كانت لا تنفق في بعض البيوع أو بلد من البلدان، فله أن يستبدلها، وإن شاء تجوز بها.
وأما في قول أبي حنيفة: وإن كان فيها هذا النقصان فهي بمنزلة النبهرجة، فإن كانت أكثر من الثلث انتقص بحساب ذلك.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً بألف درهم وأعطى بها مائة دينار قبل أن يقبض العبد، ثم تفرقا ثم استحق قبل أن يقبضه أو بعد ما قبضه فقد بطل الصرف، وكذلك لو قبضه ثم صارفه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
ولو أن المستحق بعد ما استحق العبد وقضى به أجاز البيع أو لم يجر؛ لأن القضاء به له بعض البيع، ولو أجاز البيع ولم يجز الصرف أيضاً جائزاً في قول أبي حنيفة، ويضمن البائع ألف درهم لرب العبد، ولا يجوز(7/242)
الصرف في قول أبي يوسف، فيرد البائع الدنانير، ويأخذ ألف درهم.
وفي «المنتقى» : رجل صرف لغيره ديناراً بعشرين درهماً وتقابضا، ثم إن بائع الدراهم وجد الدينار الذي قبضه ينقص قيراطاً، قال: له أن يرجع بدرهم حصة القيراط؛ لأن كل دينار عشرون قيراطاً، قال: وله أن يرد الدينار ويأخذ دراهمه إن شاء؛ لأنه تعيب وإن شاء أمسك ولا شيء له غير الدينار بعينه، وأما في قول أبي يوسف، فإنه يرجع بنقصان الدينار، ثم إن شاء أمسك الدينار بعينه، وإن شاء رده ورجع عليه بتسعة عشر جزءاً من الدينار، فيكون لبائع الدينار جزءاً، ولهذا تسعة عشر، فيكون الدينار بينهما على ذلك.
وفيه أيضاً: رجل باع من آخر قلب فضة وزنه عشرة دراهم بعشرة دراهم، فدفع القلب ولم يقبض الدراهم حتى وهب مشتري القلب منه ينظر إن دفع المشتري القلب ثمن القلب قبل أن يتفرقا صح البيع وجازت الهبة، وإن تفرقا قبل أن (162أ3) يدفع ثمنه انتقض البيع وبطلت الهبة ورجع القلب إلى بائعه وصار ذلك مناقضة.
وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل اشترى من آخر ديناراً بعشرين درهماً، وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه، ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم، قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتريه دينار مثله.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى عشرة دراهم بدينار ودفع الدينار ولم يقبض الدراهم ثم إن قابض الدينار للدافع ودفعه إليه أو اشترى به منه فضة تبر وتقابضا، ثم تفرقا قبل أن يقبض الدراهم الأول ففيما إذا وهب الدينار فالهبة باطلة، والبيع الأول باطل ورجع الدينار الموهب إلى صاحب الذي دفعه بانتقاض الهبة، فليس له غيره.
وفيما إذا اشترى به منه فضة تبر وتقابضا فالشراء الآخر جائز والأول باطل، وعلى قابض الدينار الأول مثله لقابض الدينار الآخر.
رجل صارف رجلاً ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا، ثم إن الدراهم وجد فيها دراهم زائفاً فدفعه إلى الصيرفي وأخذ بدله مكانه، قال: لما دفعه إلى الصيرفي صار مناقضاً في الدرهم؛ لأن المصارف غائب فينتقص من الدينار بحصته. ولو قبض درهماً جيداً ولا بدل الزيف ثم دفع الزيف إليه كان جائزاً.
في «المنتقى» : رجل اشترى منطقة بمائة درهم على أن فيها خمسون درهماً حلية وتقابضا وتفرقا وقد شرط له أن حليتها فضة بيضاء، فكسر الحلية، فإذا هي حلية سوداء جاز ذلك عليه ولم يرجع بشيء، وإن وجد بعض الحلية رصاصاً فالبيع فاسد وإن كان قد استهلك الحلية ضمن قيمتها من الذهب وضمن قيمة الرصاص ورد اليسير، وإن كان ذلك بعض اليسير رد ما نقص اليسير، ولو لم يجد فيها رصاصاً ولكن وجد فيها أربعين درهماً الحلية فهو بالخيار، إن شاء ردها وإن شاء رجع بعشرة دراهم، وإن وجد فيها ستين درهماً حلية فالبيع فاسد إذا كان قد تفرقا، وإن لم يتفرقا إن شاء المشتري زاد العشرة وجاز البيع وإن شاء نقض البيع.(7/243)
ولو كان الثمن دنانيراً فتفرقا والمسألة بحالها فالبيع جائز، كأنه باع قلب فضة بدينار على أنه عشرة دراهم، فإذا هو عشرون درهماً باع من أخر قلب فضة فيه عشرون درهماً بدينار على أنها فضة فاستهلكه فضة سوداء، ولم يعلم به المشتري ثم علم لم يرجع بشيء.
رجل له على رجل ألف درهم غلة فأخذها تسعمائة وضح وديناراً، ثم افترقا فاستحق الدينار، فإنه يرجع على الغريم بمائة درهم غلة، وإن استحق الدينار قبل أن يتفرقا يرجع بدينار ومثله، وكذلك الجواب فيما إذا كان مكان الدينار مائة مائة فلس.
ولو أن رجلاً باع صيرفاً ألف درهم غلة تسعمائة وضح وبمائة فلس وتقابضا، ثم استحقت الألف الغلة من يدي الصيرفي رجع الصيرفي على الذي اشترى منه الغلة بالتسعمائة الوضح الذي أعطاه، فرجع عليه بمائة درهم غلة ثمن الفلس الذي أعطاه، وإن لم يتفرقا حتى استحقت الغلة رجع الصيرفي على الرجل بألف غلة مثلها، وإن لم يستحق شيء من ذلك حتى افترقا، ثم استحقت المائة الفلس من الرجل رجع على الصيرفي بمائة فلس مثلها، وإن لم يستحق الفلوس، ولكن استحقت التسعمائة الوضح بعدما افترقا رجع على الصيرفي بتسعمائة غلة ثمن الوضح، ويرجع عليه بمائة فلس بدل الذي استحق.
وإن استحق ما في يد الرجل من الوضح والفلوس واستحق ما في يد الصيرفي من الغلة، فإن كان بعدما افترقا فقد انتقض البيع بينهما في جميع الدراهم والفلوس، وإن كانا لم يفترقا يرجع كل واحد منهما على صاحبه بمثل ما استحق من يده، والبيع تام.
ابن سماعة عن أبي يوسف: أن الرد بالعيب بعد القبض لا يبطل الصرف، وكذلك الرد بخيار الرؤية، والرد بالعيب قبل القبض بمنزلة موت العبد قبل أن يقبضه، وأما في الرد بخيار الشرط بعد القبض يرجع بالدنانير التي أعطاه بدل الألف درهم الثمن.
وفي كتاب الصرف: إذا اشترى ألف درهم بعينها بمائة دينار والدراهم بيض، فأراد المشتري الدراهم أن يتبرع على بائعه بالجودة وإلى بائعه تبرعه فله ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو نظير ما لو أبرأه عن شيء من المقر له ورد من عليه إبراءه كان له ذلك.
قال رحمه الله أيضاً: وهو نظير ما ذكر في «الجامع» : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فأتاه بألف جياد وأبى صاحب الدين أن يقبل ذلك لا يجبر عليه، وإن أتى بجنس حقه وزيادة؛ لأنه تبرع عليه فكان له أن لا يقبل تبرعه ومنه فكذا هاهنا.
قال: وكذلك لو اشترى منه ضرباً من الدنانير وقال للبائع: أعطني دنانير غيرها لم يكن له ذلك وإن كان ما طلب دون حقه إلا أن يرضى الآخر دون حقه.
وفي «المنتقى» : وللذي عليه السود أن يؤدي بيضاً هو مثل السود أو أجود منه، ويجبر من له على القبول، وكذا من عليه البيض إذا أدى سوداً مثله يجبر على القبول عند علماءنا الثلاثة.
قال هشام: سمعت محمداً يقول في رجل له ابن صغير قال: اشهدو أني اشتريت(7/244)
هذه الدينار من ابني هذا بعشرة دراهم، ثم قام الأب قبل أن يرث المشتري، فإنه يبطل بقيامه.
قال: وسمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى ديناراً بعشرة دراهم وقبضه على أن الدينار مثقال وحبة ثم افترقا، فوزن الدينار، فإذا هو ينقص حبة هو مثقال سواء، فإنه يرجع على البائع بحصة الحبة من الدينار، أو يرد الدينار الناقص على البائع ويأخذ منه ديناراً بوزن مثقال وحبة ويكون البائع شريكه في الحبة الزائدة.
المعلى في «النوادر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا.............؟ الدينار ينقص دونه العشر، قالا: وإن كان نقصان الدينار عيباً بالدينار رده المشتري على البائع وأخذ منه ديناراً وأراه أو أخذ منه عشر الثمن، وكان للمشتري في الدينار تسعة أعشاره وللبائع العشر، وإن كان النقصان ليس بعيب في الدينار رجع المشتري على البائع بعشرة الدراهم ولزمه الدينار.
وإذا كان عند الرجل ألف درهم (162ب3) وديعة، فاشترى بها مائة دينار وأجاز صاحب الوديعة الشراء قبل أن يتفرقا جاز له على المستودع ألف درهم، وإن أجازه بعدما افترقا، فإن شاء صاحب الوديعة ضمن ما له المستودع، ويجوز البيع، وإن شاء ضمن بائع الدينار وانتقض الصرف.
الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم، فاشترى منه مائة دينار بألف درهم، ثم تقابضا بما عليه، قال أبو يوسف: إن تقابضا قبل أن يتفرقا جاز، وإن تفرقا قبل أن يتقابضا بطل، وهو قول أبي حنيفة.
وقال المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: رجل دفع إلى رجل درهماً، وقال أبدله لي واحدة منه وضاع منه قبل أن يبدله، قال: هو ضامن له والله أعلم.
رجل دفع إلى رجل ديناراً وأمره أن يبيعه، ودفع إليه آخر ثوبه وأمره أن يبيعه فعمد المأمور فباع الدينار والثوب صفقة واحدة، وقبض بعض الثمن ثم توى ما بقي على المشتري توى من مال صاحب الثوب.
ابن سماعة عن أبي يوسف: اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار فصدق كل واحد منهما صاحبه بالوزن، وتقابضا يعني قبل الوزن فهذا جائز، وينتفع كل واحد منهما بما اشتراه.
ولو قال: بعني هذه الدراهم التي في يديك بهذه الدنانير التي في يدي ولم يسميا عدداً ولا وزناً، وتقابضا جاز لكل واحد منهما أن ينتفع بما اشترى قبل الوزن والعدد هذا بيع مجازفة.
وإن قال بعني ألف درهم بألف درهم وتقابضا بغير وزن وصدق كل واحد منهما صاحبه أن هذا المقبوض ألف درهم ثم وزن كل واحد منهما قبل التفرق أو بعده، فوجد(7/245)
أنها سواء بسواء، فهذا جائز، ولو لم يصدق كل واحد منهما صاحبه وتفرقا ثم وزنا فكانا سواء لم يجز من قبل أنهما قد تفرقا على غير علم بأنهما استوفياه.
ألا ترى أن رجلاً لو باع رجلاً دراهم في كيس بدراهم في كيس، فإن وزناها قبل أن يتفرقا فكانا سواء، فالبيع جائز، وإن تفرقا قبل أن يزناها فالبيع فاسد.
إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم ثم باعها بربح درهم لا يجوز، ولو باعها بربح قيراط جاز، ذهب رجل باع من رجل ثوباً ونقرة فضة بخمسين درهماً على أن النقرة ثلاثون، فإذا هي خمسون، فإنه يقطع له من النقرة ثلاثون، فإن كان مكانها إناء أو قلب، فإن علم بوزنه قبل أن يتفرقا فالمشتري بالخيار إن شاء أعطاه عشرين درهماً أخرى، وإذا كانا قد افترقا كان شريكه في القلب، وللمشتري ثلاثة أخماسه.
بشر عن أبي يوسف: رجل باع سيفاً محلى من رجلين بمائة درهم، وحلية السيف خمسون درهماً فقبض من أحدهما خمسة وعشرين بغير إذن شريكه ثم افترقا، فإن هذا النقد من الناقد وينقد خمسة وعشرون درهماً أخرى، ويكون له نصف السيف، وانتقض البيع في حصة الآخر، وهذا قول أبي يوسف.
وأما في قول أبي حنيفة رحمه الله: فالنقد عنهما جميعاً وفسد البيع كله، ويرجع الناقد على البائع بما أعطاه، وإن شاء رجع على شريكه بنصفه ثم اتبعا البائع بخمسة وعشرين.
وإذا اشترى الرجل من الرجل ألف درهم بمائة دينار وصدق كل واحد منهما صاحبه في الوزن وتقابضا وتفرقا قبل أن يتوازنا فالبيع فاسد، وقد ذكر قبل هذا قول أبي يوسف.
في عين هذه الصورة: أنهما إذا تفرقا وكل واحد منهما مصدق لصاحبه ثم توازنا فهو جائز.
وإذا أقرض الرجل رجلاً ألف درهم وأخذ بها كفيلاً ثم إن الكفيل صالح الطلب على عشرة دنانير وقبضها، فهو جائز؛ لأن الكفيل قائم مقام الأصيل، والأصيل لو صالح عن الألف الدرهم على عشرة دنانير جاز إذا قبض الدنانير في المجلس، فكذا إذا صالح الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بالدراهم؛ لأن الكفيل ملك ما في ذمته بالصلح.
ولو ملك ما في ذمته بالأداء أو بالهبة رجع به على الأصيل، فكذا إذا ملكه بالصلح.
ولو أن الكفيل صالحه على مائة درهم لم يرجع على الأصيل إلا بمائة درهم، وإنما كان كذلك؛ لأن هذا الصلح في معنى إبراء الكفيل عما زاد على المائة، ولو أبرأ الكفيل عن الكل لا يجب على الأصيل شيء، فكذا إذا أبرأه عما زاد على المائة.
فإن قيل: إذا كان إبراء الكفيل عما زاد على التسعمائة، وإبراء الكفيل لا يجب براءة الأصيل كأن يجب أن يكون للطالب حق الرجوع على الأصيل بتسعمئة كما لو قبض من الكفيل مائة، وقال له: أبرأتك عن التسعمائة وليس ذلك بالإجماع.
قلنا: البراءة عن التسعمائة إنما تثبت من حيث إن الصلح يجوز بدون الحق، وفي التجوز بدون الحق معنى استيفاء البعض، والإبراء عن الباقي، فيجعل هذا كالمنصوص عليه كأنه قال: تجوزت بدون الحق، وإنما يقع التجوز بدون الحق إذا برئ الأصيل عما(7/246)
وراء المستوفى، فصرفنا الإبراء إليهما لهذه الضرورة.
وصار كأنه قال للكفيل وقت الصلح: استوفيت منك مائة درهم وأبرأتك والأصيل عن تسعمائة، ولو نص على هذا كان لا يرجع الطالب على المكفول عنه بشيء كذا هاهنا بخلاف ما لو صالحه على عشرة دنانير؛ لأن هناك الكفيل ملك جميع ما (في) ذمته بالدنانير العشرة تصلح بدلاً عن الألف الدرهم، فصار بمنزلة ما لو ملك ما في ذمته بالأداء، وهناك الكفيل يرجع على الأصيل بالألف، فكذا ما في ذمته بالصلح، أما في مسألتنا بخلافه.
هذا الذي ذكرنا إذا صالح الكفيل مع الطالب فأما إذا صالح الكفيل مع الأصيل على عشرة دنانير، وذلك قبل أن يؤدي الكفيل شيئاً إلى الطالب صح الصلح إذا قبض الكفيل الدنانير من الأصيل لما عرف أن الكفالة إذا كانت بأمر يوجب ديناً للكفيل على الأصيل، ولكن مؤجلاً إلى أن يؤدي، فإذا صالح الكفيل مع الأصيل فإنما صالح عن دين له مؤجل، والصلح عن الدين المؤجل صحيح بشرط قبض بدل الصلح في المجلس، ثم صلح الكفيل مع الأصيل لا يوجب سقوط مطالبة الطالب لا عن الكفيل ولا عن الأصيل، فيطالب إن شاء الأصيل، وإن شاء الكفيل، فإن طالب الكفيل وأخذ منه الألف لا يرجع على الأصيل؛ لأن الأصيل ملك ما كان للكفيل في ذمة الأصيل بالصلح، فيعتبر كما لو ملك بالأداء، ولو ملكه بالأداء بأن أدى الأصيل (163أ3) دين الكفيل قبل أداء الكفيل دين الطالب، ثم أخذ الطالب الدين من الكفيل لا يرجع الكفيل على الأصيل بشيء كذا هاهنا.
وإن طالب الأصيل وأخذ منه الألف كان للأصيل أن يرجع على الكفيل بالألف، إلا أن يشاء الكفيل أن يعطي الأصيل الدنانير التي أخذها منه؛ وهذا لأن الكفيل صار مستوفياً الدراهم من الأصيل بهذا الصلح؛ لأنه أخذ الدنانير بدلاً عن الدراهم، والبدل قائم مقام المبدل، فيعتبر بما لو صار مستوفياً الدراهم بجنسه بأن دفع الأصيل إلى الكفيل الألف الدراهم، وهناك الطالب إذا رجع على الأصيل وأخذ منه الألف كان للأصيل أن يرجع بما أدى على الكفيل؛ لأن الأصيل إنما أدى الألف الدراهم إلى الكفيل ليستفيد البراءة عن دين الطالب ولم يستفد، فكان له الرجوع بما أدى كذا هاهنا.
ثم قال: إلا أن يشاء الكفيل أن يعطي الأصيل الدنانير التي أخذها منه، معناه إذا قال الكفيل للأصيل حين أراد الأصيل أن يرجع عليه بالألف الدرهم: أنا أعطيك الدنانير التي أخذتها منك، ولا أعطيك الألف الدرهم وللكفيل ذلك؛ لأن الكفيل يقول للأصيل: أنا أخذت منك الدراهم بطريق الصلح.
ومبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق، وإنما رضيت أنا بالتجوز بدون حق بشرط أن أكون أنا المباشر لقضاء دين الطالب لعلمي أن الطالب رضي عني بدون الحق، فإذا باشرت أنت وأردت الرجوع إليّ بجميع الألف فقد فات غرضي من هذا الصلح، فلا أرضى به وهذا يصلح حجة للكفيل، فلهذا كان له الخيار بين أن يعطي(7/247)
الطالب الألف الدرهم وبين أن يعطيه العشرة الدنانير، وقد ذكر مسألة الإقالة في الصرف في صدر الكتاب.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله في «المنتقى:» روي عن محمد أنه لا تجوز الإقالة في الصرف؛ لأنه ليس هاهنا مشترى والله أعلم بالصواب.
تم كتاب الصرف في منتصف جمادى الأولى سنة ست وثمانين وستمائة.(7/248)
كتاب الشفعة
هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً
1 * فيما تجب فيه الشفعة وما لا تجب.
2 * في بيان مراتب الشفعة.
3 * في طلب الشفعة.
4 * في استحقاق الشفيع كل المشترى أو بعضه.
5 * في الحكم بالشفعة والخصومة فيها.
6 * في الدار إذا بيعت ولها شفعاء.
7 * في إنكار المشتري حق الشفيع وما يتصل به.
8 * في تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع.
9 * في تسليم الشفعة.
10 * في الشفيع إذا أخبر بالبيع، فيسلم ثم يعلم أن البيع كان بخلافه.
11 * فيما يحدث الشفيع مما يبطل شفعته.
12 * في الاختلاف الواقع بين المشتري والشفيع والشهادة في الشفعة.
13 * في التوكيل بالشفعة وتسليم الوكيل الشفعة وما يتصل به.
14 * في شفعة الصبي.
15 * في حكم الشفعة.
16 * في الشفعة في فسخ البيع والإقالة وما يتصل بذلك.
17 * في شفعة أهل الكفر.
18 * في الشفعة في المرض.
19 * في وجوه الحيل في باب الشفعة.
20 * في المتفرقات.(7/249)
الفصل الأول: فيما تجب فيه الشفعة وما لا تجب
قال أصحابنا رحمهم الله: الشفعة لا تجب في منقولات مقصودة، وإنما تجب تبعاً للعقار على ما يأتي بيانه في آخر هذا الفصل، وإنما تجب مقصوداً في العقارات كالدور والكرم وغيرها من الأراضي مما يحتمل القسمة كالحمام والرحى والبئر وغير ذلك، وإنما تجب في الأراضي التي يملك رقابها حتى أن الأراضي التي حازها الإمام لبيت المال ويدفع إلى الناس مزارعة فصار لهم فيها كراء دار كالبناء والأشجار والكنس إذا كنسوها بتراب نقلوها من موضع يملكوها، فإن بيعت هذه الأراضي فبيعها باطل، وإن بيع الكر دار وكان معلوماً يجوز بيعها، ولكن لا شفعة، وكذا الأراضي ... ؟ إذا كانت الأكرة يزرعونها فبيعها لا يجوز، وبيع الكراء إذا كان معلوماً يجوز، ولكن لا شفعة فيها.
في «أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: وإنما يجب بحق الملك حتى لو بيعت دار بجنب دار الوقف، فلا شفعة للوقف، ولا يأخذها المتولي.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا كانت هذه الدار وقفاً على رجل لا يكون للموقوف عليه حق الشفعة بسبب هذه الدار لما قلنا.
في «فتاوى (أهل) سمرقند» : وإنما يجب إذا ملك العقار بعوض هو عين مال إذا ملك بغير عوض أصلاً بأن ملك بالهبة بغير عوض أو بالإرث أو بالصدقة فلا شفعة.
وكذلك إذا ملك بعوض هو ليس بعين مال، كما إذا جعل الدار مهراً في النكاح أو أجرة في باب الإجارة أو بدل خلع أو صلح عن دم العمد فلا شفعة؛ وهذا لأن حق الشفعة بخلاف القياس؛ لأن في الأخذ بالشفعة تملك مال الغير بغير رضاه عرف بالنص في البيع، والملك بالبيع ثبت بعوض هو عين مال، فما وقع الملك فيه بغير عوض أو بعوض ليس هو عين مال يبقى على أصل القياس.
وإذا تزوج امرأة بغير مهر وفرض لها داره مهراً أو قال لها: صالحتك على أن أجعلها لك مهراً، أو قال: أعطيتك هذه الدار مهراً، فلا شفعة للشفيع فيها في الفصول كلها.
فرق (بين) هذا وبينما إذا قال لها: صالحتك من مهرك على هذه الدار، أو قال: مما وجب لك من المهر.
والفرق: أن في الفصول الثلاث جعل الدار مهراً ابتداء لا بدلاً عن المهر، فإنه قال: فرضتك داري هذه مهراً جعلت لك داري هذه مهراً ولم يقل: جعلت لك داري بدلاً(7/251)
من مهرك، وقد أمكن أن يجعل الدار مهراً مبتدئاً؛ لأنه لم يكن في النكاح تسمية، وإنما وجدت التسمية الآن، وإذا صار الدار مهراً مبتدأ يكون بدلاً عن البضع، وإنه ليس بعين مال، فلا تجب فيه الشفعة، كما لو تزوجها ابتداء على الدار، أما في الفصلين جعل الدار بدلاً عن المهر نصاً، والمهر عين مال، فصارت الدار مملوكة بما هو عين مال، فيجب للشفيع فيها الشفعة.
وكذلك لو تزوجها على مهر مسمى ثم باعها بذلك المهر داراً يجب للشفيع فيها الشفعة، وكذلك إذا تزوجها على غير مهر وفرض القاضي مهراً ثم باعها داراً بذلك المفروض يجب للشفيع فيها الشفعة؛ لأن الدار في هذين الفصلين بدل عن المهر لا عن منافع البضع.
رجل تزوج امرأة (163ب3) ولم يسم لها مهرها ثم دفع إليها داراً، فهذا على وجهين: إن قال الزوج: جعلتها مهرك، فلا شفعة فيها؛ لأن هذا تقدير لمهر المثل ولا شفعة في المهور، وإن قال: جعلتها بمهرك ففيها الشفعة؛ لأن هذا عوض عن مهر المثل، فكانت مبيعاً.
في «الفتاوى» : وإذا ملكت بدلاً عما هو عين مال وما ليس بمال، فعلى قول أبي حنيفة: لا شفعة للشفيع أصلاً، وعلى قولهما: تجب الشفعة في حصة المال من الدراهم.
صورته: إذا تزوج امرأة على دار على أن ردت المرأة عليه ألف درهم، أو صالح عن القصاص على دار على أن يرد صاحب الدم عليه ألف درهم.
وإذا وهب داراً من إنسان يشترط أن يعوضه منها كذا وكذا، فلا شفعة فيها للشفيع ما لم يتقابضا، وبعدما تقابضا ففيها الشفعة، وهذا لما عرف في كتاب الهبة أن الهبة بشرط العوض هبة ابتداء وتصير بيعاً بعد اتصال القبض بالبدلين، فقبل اتصال القبض بالبدلين هي هبة، ولا شفعة في الهبة، وبعد اتصال القبض بالبدلين هو بيع وفي البيع الشفعة.
وإذا وهب شقصاً مسمى في دار غير محوز ولا مقسوم على أن يعوضه كذا وكذا فهو باطل، ولا شفعة للشفيع فيه لما ذكرنا أن الهبة بشرط العوض تنعقد هبة ابتداء، والهبة في مشاع يحتمل القسمة لا يجوز، فانعقدت الهبة بصفة الفساد في الابتداء، والتمام بناء على الابتداء، فيكون التمام بيعاً فاسداً.
والجواب في الصدقة والتخلي والعمرى ... نظير الجواب في الهبة، لأن هذه ألفاظ الهبة، والعقد لا يختلف باختلاف الألفاظ، وأما الوصية على هذا الشرط إذا قبل الموصى له ثم مات الموصي، فإنه تجب الشفعة وإن لم يقبضها الموصى له بخلاف الهبة.
ثم قال في «الكتاب» : إذا قال أوصيت بداري بيعاً لفلان بألف درهم ومات(7/252)
الموصي، فقال الموصى له: قبلت يثبت للشفيع الشفعة، وإن قال أوصيت أن يوهب له عوض ألف درهم، فهو مثل الهبة بشرط العوض لنفسه.
وإذا ادعى حقاً على إنسان وصالحه المدعي قبله على دار، فللشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة سواء كان الصلح عن إقرار أو عن إنكار؛ لأن التملك بالشفعة يقع على المدعي، وفي زعم المدعي أنه ملك هذه الدار عوضاً عما هو عين مال فيبني الأمر على زعمه.
وبمثله لو ادعى داراً في يدي رجل، فصالحه المدعي قبله على أن يعطيه المدعي قبله دراهم، ويترك الدار على المدعي قبله.
ينظر: إن كان الصلح على إقرار المدعي قبله، فللشفيع الشفعة، وإن كان الصلح عن إنكار، فلا شفعة للشفيع؛ لأن التملك بالشفعة ههنا تقع على المدعي قبله، فإذا كان الصلح على إقراره، ففي زعمه أنه يملك الدار بعوض أصلاً، وإنما دفع الدراهم فداء عن اليمين، فإذاً في الفصول كلها يعتبر زعم من يقع التملك عليه.
دارٌ بين ثلاثة نفر مثلاً، جاء رجل وادعى لنفسه فيها دعوى، فصالحه أحد شركاء الدار على مال على أن يكون نصيب المدعي لهذا المصالح خاصة فطلب الشريكان الآخران الشفعة، فإن كان الصلح على إقرار شركاء الدار، فإن أقر شركاء الدار بما ادعاه المدعي وصالح المدعي واحد منهم على أن يكون نصيب المدعي له خاصة كان لهم الشفعة في ذلك، وإن كان الصلح عن إنكار الشركاء، فلا شفعة وهو بناء على ما قلناه.
وإن كان المصالح مقراً بحق المدعي، وأنكر الشريكان الآخران أخذ حقه، فالقاضي يسأل الشريك المصالح البينة على ما ادعاه المدعي؛ لأن الشريك المصالح صار مشترياً نصيب المدعي من الدار ونصيب المدعي بعضه في يد الشريكين الآخرين، وهما ينكران ملكه وحقه.
ومن اشترى شيئاً من رجل، وذلك الشيء في يد غير البائع وصاحب الدار ينكر ملكية البائع، فإنه لا يسلِّم المشترى للمشتري حيث يثبت ملكية البائع بالبينة كذا هاهنا، فإن أقام البينة على ما ادعاه المدعي قبلت بينته؛ لأنه مشترٍ أثبت ملك بائعه فيما اشترى حتى يصح شراؤه.
وإذا قبلت بينته صار الثابت بالبنية كالثابت بإقرار الشركاء، وهناك للشريكين الآخرين حق الشفعة فهاهنا كذلك، أكثر ما فيه أن في زعم الشريكين الآخرين أنه لا شفعة لهما، إلا أنهما كذبا في زعمهما لما قضى القاضي، فالملك للمدعي، فالتحق زعمهما بالعدم.
وإذا ادعى حقاً في دار وصالحه المدعي على سكنى دار أخرى، فلا شفعة للشفيع التي وقع الصلح عنهما، لأنها ملكت بعوض هو ليس عين مال.
وإذا اشترى داراً على أن المشتري فيها بالخيار ثلاثة أيام فللشفيع الشفعة في قولهم جميعاً، وإن لم تصر الدار مملوكاً للمشتري عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن حق الشفعة تعتمد انقطاع حق البائع لا ثبوت حق المشتري.(7/253)
ألا ترى أن للشفيع أن يتملك الدار على البائع، ولا يتملك على المشتري، فيراعي زوال ملك البائع، وملك البائع هاهنا زوال بالإجماع، وعن هذا قلنا: إن من أقر ببيع داره من رجل، وأنكر المشتري كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة.
وذكر القدوري في «شرحه» : روى عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا شفعة للشفيع مع شرط الخيار للمشتري.
وفي «القدوري» : أن خيار الرؤية وخيار العيب لا يمنع ثبوت حق الشفعة؛ لأنه لا يمنع زوال ملك البائع، وإن كان المشتري شرط الخيار لنفسه شهراً أو ما أشبه ذلك، فلا شفعة للشفيع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشراء بشرط الخيار زيادة على ثلاثة أيام فاسد عنده، ولا شفعة في الشراء الفاسد على ما تبين، فإن أبطل المشتري خياره قبل مضي ثلاثة أيام حتى انقلب البيع صحيحاً وجب للشفيع الشفعة، وإن كان الخيار لبائع الدار فلا شفعة للشفيع في قولهم جميعاً؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه، فيمنع ثبوت حق الشفعة، وإن كان الخيار لهما يعني للبائع والمشتري، فلا شفعة للشفيع لأجل خيار البائع لا لأجل خيار المشتري.
وإذا اشترى داراً بعبد بعينه أو بعرض بعينه وشرط فيه الخيار لأحدهما، إن شرط الخيار لبائع الدار، فلا شفعة للشفيع قبل تمام البيع سواء شرط الخيار في الدار أو في العبد إن شرط الخيار في العبد؛ فلأن بائع الدار مشترٍ للعبد وثمنه الدار، وخيار المشتري يمنع زوال الثمن عن ملك المشتري بالإجماع، (164أ3) ولو اختلفوا أنه هل يمنع دخول المشترى في ملك المشتري فلم تزل الدار عن ملك البائع بلا خلاف، فكيف يثبت للشفيع حق الشفعة؟
وإن كان الخيار لمشتري الدار، فإنه يجب للشفيع الشفعة قبل أن يجيز البيع سواء شرط له الخيار في العبد، إن شرط له الخيار في الدار؛ فلأن هذا خيار مشتري الدار وخيار مشتري الدار لا يمنع وجوب الشفعة في الدار، وإن شرط الخيار في العبد؛ فلأن مشتري الدار بائع للعبد والثمن هو الدار، وخيار البائع في المبيع لا يمنع زوال اليمين عن ملك المشتري، فتزول الدار عن ملك مشتريه فيثبت للشفيع حق الشفعة فيها، وإن كان الخيار لهما معنى البائع الدار ومشتريها، فلا شفعة لأجل خيار البائع على نحو ما بينا.
إذا اشترى الرجل من آخر داراً على أن المشتري فيها بالخيار ثلاثة أيام فبيعت دار إلى جنبها فللمشترى الشفعة بالإجماع، أما على قولهما فظاهر، وأما على قول أبي حنيفة: فلأنه وإن لم يكن مالكاً للدار المشتري وقت بيع هذه الدار إلا أن له فيها حق الملك.
ألا ترى أن للمشتري أن يمتلكها إذا كان الخيار له وحق الملك يكفي لثبوت حق الشفعة، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة سقط خياره؛ لأنه لو لم يسقط خياره بذلك، فإذا فسخ العقد ينفسخ في حقه من الأصل، فتبين أنه أخذها بالشفعة بغير حق فاللتحرز عن ذلك قلنا بأنه يسقط خياره، وإذا حضر الشفيع بعد ذلك أخذ الدار الأولى بالشفعة ولا(7/254)
شفعة له في الدار الثانية؛ لأن الشفيع إنما صار جاراً للدار الثانية بعد أخذه الدار الأولى وشراء الدار الثانية كان قبل أخذه الدار الأولى.
ولو كان الخيار لبائع الدار فبيعت دار بجنب الدار المبيعة فللبائع فيها حق الشفعة؛ لأن ملك البائع قائم وقت شراء هذه الدار، فإذا أخذها كان هذا منه نقضاً للبيع، وإذا شرط الخيار للشفيع، فإن كان البائع هو الذي له ذلك، فأمضى البيع فلا شفعة له، وإن كان المشتري هو الذي شرط له ذلك، فله الشفعة؛ لأنه قام مقام الشارط في إتمام العقد، ولو كان البائع شفيع الدار، فلا شفعة له، ولو كان المشتري شفيع الدار فله الشفعة.
و «الأصل» : أن من باع أو بيع له بأن كان البيع بحق الوكالة، فلا شفعة له ولا لموكله، ومن اشترى أو اشتري له بأن كان الشراء بحق الوكالة، فله الشفعة ولموكله.d
في «شرح القدوري» : وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله في «الإملاء» : رجل اشترى داراً وشرط الخيار لشفيع ثلاثاً قال: إن قال الشفيع: أمضيت البيع على أن آخذ بالشفعة فهو على شفعته، وإن لم يذكر أخذ الشفعة فلا شفعة له.
رجل توكل عن غيره بشراء دار وهو شفيعها ثبتت له الشفعة، فيطلب من الموكل، علل الصدر الشهيد رحمه الله، فقال: لأن الوكيل لم يملك بالشراء وفيه نظر.
وعن أبي نصر أنه كان يقول: وليس هذا كمن يشتري لنفسه؛ لأن الوكيل اشترى لغيره، قال: ولو أقام أخذ الوكيل مقام الموكل في هذا الشراء لا ينعقد، لكن الطريق الأول أعجب إلي، ولا شفعة في الشراء الفاسد سواء كان المشترى مما يملَك بالقبض أو لا يملك، وسواء كان المشتري قبض المشترى أو لم يقبض، إن لم يقبض فلبقاء ملك البائع وإن قبض حقه في الاسترداد، وهذا إذا وقع البيع فاسداً، أما إذا فسد بعد انعقاده صحيحاً، فحق الشفيع يبقى على حاله.
ألا ترى أن النصراني إذا اشترى من نصراني داراً بخمر، فلم يتقابضا حتى أسلما أو أسلم أحدهما أو قبض الدار ولم يقبض الخمر، فإن البيع يفسد على ما عرف في كتاب البيوع، وللشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة وإن فسد البيع؛ لأنه إنما فسد بعد وقوعه صحيحاً، فإن كان المشتري قبض الدار المشتراة شراء فاسداً وبيعت دار أخرى بجنب هذه الدار، فله الشفعة؛ لأن له جواراً قائماً بحقيقة الملك من وقت الشراء، فإن لم يأخذ الدار الثانية بالشفعة حتى استرد البائع منه ما اشترى لم يكن للمشتري أن يأخذها بالشفعة؛ لأن جواره زال قبل الأخذ، وكذا لا يكون للبائع أن يأخذها؛ لأن جواره حادث، وإن كان المشتري أخذ الدار بالشفعة ثم استرد البائع منه ما اشترى فالأخذ ماض.
وإذا اشترى داراً شراءً فاسداً وبنى فيها بناءً أو غرس فيها أشجاراً فللشفيع أن يأخذها بالشفعة بقيمة الدار، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا شفعة للشفيع، وهذا بناء على أصل مختلف معروف في كتاب البيوع أن حق البائع في الاسترداد ينقطع بالبناء وغرس الأشجار عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا ينقطع، وإذا انقطع حق البائع بالبناء عند أبي حنيفة(7/255)
زال المانع من وجوب الشفعة، فيأخذها الشفيع بقيمتها وينقص بناء المشتري لحق الشفيع.
قال القدوري: فإن بائع المشتري ما اشتراه شراء فاسداً بيعاً صحيحاً من رجل لم يكن للبائع نقض البيع، والشفيع بالخيار إن شاء أخذ بالبيع الثاني بالثمن المذكور فيه، وإن شاء نقض البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بقيمته؛ لأنه اجتمع سببان، فكان له أن يأخذ بأيهما شاء.
فإن قيل: إذا نقض البيع الثاني صار كأن لم يكن، فيعود حق البائع في النقض، فلا يكون للشفيع الشفعة كما قبل البيع الثاني.
قلنا: البيع الثاني ينتقض لحق الشفيع مقتضى يملكه المشتري بالشفعة بالبيع السابق، فلا يثبت الانتقاض على وجه يبطل به حق الشفيع.
إذا أوصى لرجل بدار ولم يعلم الموصى له حتى بيعت دار بجنبها، ثم قبل الوصية وادعى الشفعة، فلا شفعة له؛ لأنه لا يملك الدار وقت (البيع) فلم يتحقق السبب، وإن مات الموصى له قبل أن يعلم بالوصية بيعت دار بجنبها، فادعى الورثة شفعتها فلهم ذلك؛ لأن موت الموصى له بمنزلة قبوله، والمسألة (164ب3) معروفة في الوصايا.
وإذا بيع سفل عقار دون علوه، أو بيع علوه دون سفله أو بيعا معاً وجبت الشفعة.
في «الزيادات» : سفل لرجل آخر فباع صاحب السفل سفله، فلصاحب العلو الشفعة، وإن باع صاحب العلو علوه، فلصاحب العلو الشفعة، فبعد ذلك إن كان طريق العلو في السفل كان حق الشفعة بسبب الشركة في الطريق، وإن كان الطريق في السكة العظمى كان حق الشفعة بسبب الجوار؛ إذ الجوار إنما يعرف بالاتصال، والاتصال بين الملكين ثابت، فإن لم يأخذ صاحب العلو السفل بالشفعة حتى انهدم العلو، فعلى قول أبي يوسف: تبطل شفعته، وعلى قول محمد: لا تبطل.
فوجه قول أبي يوسف: أن الشفعة هاهنا إنما تثبت بالجوار إنما يعرف بالاتصال وقد زال الاتصال قبل قبض الأخذ بالشفعة، فزال الجوار فتبطل شفعته، كما لو باع الدار التي يستحق بها الشفعة قبل الأخذ بالشفعة.
وجه قول محمد: أن استحقاق الأخذ بالشفعة هاهنا بسبب قرار البناء، لا بسبب عين البناء؛ لأن البناء منقول والشفعة لا تستحق بالمنقول وحق القرار هاهنا باق فما يستحق به الشفعة باق.
ولو بيع السفل والعلو متهدم فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا شفعة لصاحب العلو بناء على أن عنده حق الشفعة له بسبب البناء، وعلى قول محمد: له الشفعة؛ لأن عنده حق الشفعة له بسبب قرار البناء لا بسبب نفس البناء، وحق قرار العلو باق في الباب الأول.
من شفعة «المنتقى» : رجلان اشتريا داراً، وأخذها شفيعها فلا شفعة للشفيع فيما صار للأجنبي منهما؛ لأن شراء الأجنبي لم يتم إلا بقبول الشفيع البيع لنفسه، ألا ترى أن(7/256)
البائع حين قال: بعتكما هذه الدار بألف درهم لكل واحد منكما نصفها بخمسمائة، فقال الأجنبي: قبلت نصفها إلي بخمسمائة لم يجز ذلك على البائع، فهو بمنزلة رجل باع داره من رجل واشترط الخيار لرجلين أحدهما شفيع الدار، فأجاز البيع.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا بيع المستأجر قبل مضي مدة الإجارة والمستأجر شفيعها فأجاز المستأجر البيع في حقه كان له أن يأخذ بالشفعة، وإن لم يجز البيع ولكن طلب الشفعة بطلت إجارته؛ لأنه لا صحة للشفعة إلا بعد بطلان الإجارة، فيتضمن طلب الشفعة ببطلان الإجارة.
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا باع من آخر داراً على أن يكفل فلان بالثمن وفلان شفيعها، فكفل حيث لا تثبت له الشفعة.
والفرق: أن في مسألة الكفالة البيع لا يجوز ما لم يكفل إذا كانت الكفالة شرطاً في البيع، فصار الجواز مضافاً إليه، فصار بمنزلة البائع، أما ههنا البيع جائز فيما بين البائع والمشتري من غير إجازة المستأجر، فلم يكن الجواز مضافاً إلى المستأجر فلم يضر بمنزلة البائع.
رجل اشترى من آخر أرضاً فيها نخيل بألف درهم فلم يقبضها المشتري حتى أثمر النخيل ثم حضر الشفيع، فله أن يأخذ الكل بالشفعة. وفي المسألة إشكال من وجهين:
أحدهما: أن حق الشفيع إنما يثبت بالبيع، فإنما يثبت فيما كان موجوداً وقت البيع، والثمر لم يكن موجوداً وقت البيع.
والثاني: أن الثمر يغلى، أما الأول قلنا: حق الشفيع يثبت بالبيع ولكن في جميع ما صار مملوكاً للمشتري بالبيع، والثمر صار مملوكاً للمشتري بالبيع، وإن لم يكن موجوداً وقت البيع، ألا ترى لو قبضه المشتري صار له حصة من الثمن.
وأما الثاني: قلنا الثمر ما دام متصلاً بالنخل والأرض فله حكم النخل والأرض بطريق التبعية، وحق الشفعة يثبت في النخيل والأرض، فكذا بالثمر المتصل بهما، فإن قال الشفيع أخذ الأرض والنخيل بحصتهما، وأترك الثمر أو قال المشتري: أعطيك الأرض والنخل بحصتهما، ولا أعطيك الثمر: لا يلتفت إلى قوله لما فيه من ضرر التفريق بصاحبه.
ولو أن الشفيع حين حضر لم يقض القاضي له بالشفعة حتى جذ البائع الثمر أخذ الشفيع الأرض والنخيل وترك الثمر؛ لأنا إنما أثبتنا حق الشفعة في الثمر قبل الجذ مع كونه تقلباً بطريق التبعية، وبالجذاذ زالت التبعية، فعاد الأمر إلى الأصل، ثم يأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن وتسقط حصة الثمر؛ لأن البائع بالجذاذ صار مستهلكاً حق المشتري قبل القبض، فأوجب سقوط حصته من الثمن، وكما يظهر السقوط في حق الشفيع.
وهو نظير بناء الدار إذا نقضه البائع ثم حضر الشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، وطريقة ما قلنا.
هذا إذا أخذ البائع الثمر، فأما إذا هلك الثمر من غير صنع أحد، فالشفيع يأخذ الثمر والنخيل بجميع الثمن؛ لأنه ملك بالبيع تبعاً، فلا يقابله شيء من الثمن إلا إذا صار(7/257)
مقصوداً بالبيع والجنس، ولم يوجد ذلك هاهنا، إذا أثمر النخيل ولم يقبض المشتري، وإن أثمر بعد قبض المشتري وجذ المشتري ثم حضر الشفيع فلا شفعة له في الثمر ويأخذ النخيل والأرض بجميع الثمن إن شاء؛ لأن الثمر في هذه الصورة لا يقابله شيء من الثمن، لأنه حادث بعد القبض، هذه الجملة من «الزيادات» .
وفي «نوادر ابن سماعة» : وعن محمد رحمهما الله: رجل اشترى نخلاً فيه ثمر اشتراه بأصله وثمره فجذ المشتري الثمر، فحضر الشفيع أخذ النخل بحصته من الثمن، فيقوّم النخيل وفيه الثمر، ويقوّم ولا ثمر فيه، فيأخذه بحصته.
وكذا إذا اشترى أرضاً مبذورة، فنبت الزرع وحصده المشتري، ثم حضر الشفيع أخذ الأرض بحصتها، والطريق ما قلنا في المسألة الأولى من «الزيادات» : في باب شفعة الأرضين.
من «الأصل» إذا اشترى نخلة بأصولها ومواضعها من الأرض ففيها الشفعة، بخلاف ما إذا اشترى نخلة ليقلعها حيث لا شفعة فيها؛ لأن في الفصل الأول إنما أوجبنا الشفعة في النخلة تبعاً للأرض؛ لأنه اشتراها للقلع، ولا يمكن إيجاب الشفعة فيها مقصوداً؛ لأنها نقلي، وكان الجواب في الأشجار كالجواب في البناء إذا اشترى ليقلعه، فلا شفعة للشفيع فيه، وإن اشتراه بأصله فللشفيع فيه الشفعة.
وعلى هذا إذا اشترى الزرع مع الأرض (165أ3) فللشفيع أن يأخذ الزرع بالشفعة، ولو اشترى الزرع ليحصده لم يكن فيه شفعة، وإذا اشترى بيتاً ورحى فيه ونهرها ومتاعها فللشفيع الشفعة في البيت، وفي جميع ما كان من آلات الرحى المركبة ببيت الرحى؛ لأنها تابعة لبيت الرحى.
وعلى هذا إذا اشترى الحمام فللشفيع أن يأخذ بالشفعة الحمام مع آلاتها المركبة من القدر وغيره، ولا يأخذ ما كان مزايلاً من البيت في المسألة الأولى ومن الحمام في المسألة الثانية إلا الحجر الأعلى، فإنه يأخذه بالشفعة استحساناً، وإن لم يكن مركباً؛ لأن الحجر الأعلى مع الأسفل شيء واحد معنى.
ألا ترى أنه يدخل في بيع الرحى استحساناً من غير ذكر مكان كالمركب معنى لهذا يأخذه بالشفعة وإذا اشترى عين ... ونفط أو موضع ملح أخذ جميع ذلك بالشفعة؛ لأن هذه الأشياء متصلة بالأرض معنى؛ لأنها تتبع من ذلك الموضع.
في «فتاوى الفضلي» : اشترى كرماً وله شفيع غائب فأثمرت الأشجار فأكلها المشتري، ثم حضر الشفيع وأخذ الكرم بالشفعة، فإن كانت الأشجار وقت قبض المشتري ذات ورد، ولم يبدوا الطلع من الورد لا يسقط شيء من الثمن، وإن كان قد بدأ الطلع وقت قبض المشتري يسقط بقدر ذلك، ويعتبر قيمته وقت القبض المشتري الكرم؛ لأن في الوجه الأول لا حصة له من الثمن، وفي الوجه الثاني له حصة، وكذا إذا كان المشترى(7/258)
أرضاً فيها زرع لا قيمة، لها فأدرك الزرع وحصد المشتري وأخذ الأرض لا يسقط شيء من الثمن والله أعلم.
الفصل الثاني: في بيان مراتب الشفعة
الشفعة عندنا تستحق على ثلاث مراتب:
أولاً: تستحق بالشركة في عين البقعة، ثم بالشركة في عين حقوق الملك من الطريق والشرب، ثم تستحق بالجوار.
وصورته: منزل بين اثنين في سكة غير نافذة باع أحد الشريكين نصيبه من المنزل، فالشريك في المنزل أحق بالشفعة، فإن سلم فأهل السكة أحق، فإن أسلموا فالجار الملاصق وهو الذي على ظهر هذا المنزل وباب داره في سكة أخرى أحق.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والجار الذي له الشفعة عندنا الجار الملازق الذي داره لزيق الدار الذي وقع الشراء في سكة نافذة.
وفي الوجه وهذه المسألة في الحاصل على وجهين:
إما أن تكون الدار التي وقع فيها الشراء في سكة نافذة وفي هذا الوجه الشفعة للجار الملازق.
وإما أن تكون في السكة غير نافذة، وفي هذا الوجه جميع أهل السكة شفعاء الملازق، والمقابل في ذلك على السواء.
قال محمد رحمه الله: وإن كان فناء منفرجاً أي مائلاً عن الطريق الأعظم زائفاً عن الطريق أو زقاقاً أو درباً غير نافذ فيه دور، فبيعت دار منها، فأصحاب الدور جميعاً شفعاء. قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني: هذا إذا كان الفناء مربعاً فأما إذا كان الفناء مدوراً، فالشفعة للجار الملازق.
صورة الفناء المدور والمربع مدور مربع قال: والمراد من سكة غير نافذة سكة رأسها ضيق وآخرها واسع فيها دور بيعت دار فيها والسكة غير نافذة.
وقد قيل: الشفعة على أربع مراتب عندنا، وذلك في مسألتين:
إحداهما في بيت في دار في غير نافذة والبيت لاثنين، والدار لقوم، فباع أحد الشريكين نصيبه من البيت، فالشفعة أولاً للشريك في البيت، فإن سلم فلشريك الدار، فإن سلم فلأهل السكة الكل في ذلك على السواء، فإن سلموا فللجار الملاصق، وهو الذي ظهر هذا المنزل وباب داره في سكة أخرى.
في «شرح أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: فإن كان لهذه الدار التي هذا البيت الذي هو مبيع فيه جيران متلازقون فالذي هو ملازق هذا البيت المبيع، والذي هو ملازق لأقصى الدار لا لهذا البيت في الشفعة على السواء، هذا التفريع في أخر «شفعة الكافي» .(7/259)
المسألة الثانية: ودار بين شريكين في سكة غير نافذة، فباع أحد الشريكين نصيبه من الدار من إنسان، فالشفعة أولاً للشريك في الدار، فإن سلم فللشريك في الحائط المشترك التي يكون بين الدارين، فإن سلم فلأهل السكة، الكل في ذلك على السواء، فإن سلموا فللجار الذي يكون ظهر هذه الدار إليه باب تلك الدار في سكة أخرى.
في «شرح أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: ثم الجار الذي هو مؤخر عن الشريك في الطريق أن لا يكون شريكاً في الأرض الذي هو تحت الحائط الذي هو مشترك بينهما، أما إذا كان شريكاً فيه لا يكون مؤخراً بل يكون مقدماً؛ لأنه شريك، وإن كان شريك في بعض المبيع.
وصورة ذلك: أن تكون أرضاً بين اثنين مقسومة يبنيا في وسطها حائط، ثم اقتسما الباقي، فيكون الحائط وما تحت الحائط من الأرض مشتركاً بينهما، فكان هذا الحائط الجار شريكاً في بعض المبيع، أما إذا اقتسما الأرض قبل بناء الحائط وخطا خطاً وسطها، ثم أعطي كل واحد منهما شيئاً حتى يبنيا فكل واحد منهما جار لصاحبه في الأرض، شريك في البناء لا غير، وفي الشريك في البناء لا غير لا يوجب الشفعة في آخر أشفعة خواهر زاده رحمه الله.
وذكر القدوري في «شرحه» : في باب الشفعة في الحيطان ومسيل الماء: أن الشريك الذي تحت الحائط يستحق الشفعة في كل المبيع بحكم الشركة عند محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، فيكون مقدماً على الجار في كل المبيع.
وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: يستحق الشفعة في الحائط بحكم الشركة ويستحق الشفعة في بقية الدار بحكم الجوار، فيكون ذلك مع جار آخر بينهما.
وثمرة الاختلاف تظهر في مسائل كثيرة، وفي كل موضع سلم الشريك الشفعة، فإنما يثبت للجار حق الشفعة إذا كان الجار قد طلب الشفعة حتى يدفع البيع، أما إذا لم يطلب الشفعة حتى سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة له، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في أول شرح كتاب الشفعة.
وروايته في «نوادر هشام» رواه عن محمد رحمه الله في صور المسائل: دار كبيرة فيها مقاصير باع صاحب الدار فيها مقصورة أو قطعة معلومة، ففيها الشفعة لجار الدار الكبيرة (165ب3) .
كان جاراً من أي نواحيها؛ لأن المبيع من جملة الدار يكون جار المبيع، فإن سلم الشفيع الشفعة ثم باع المشتري ما اشترى لم تكن الشفعة إلا لجار ذلك القدر المبيع؛ لأن ذلك صار مقصوداً، فخرج من أن يكون بعض الدار.
كذلك لو اشترى رجل بيتاً من دار كلها لواحد، فالشفعة لجار الدار، وإن لم يكن جار ذلك البيت المشترى، فلو أن الشفعة ثم باع مشتري البيت ذلك البيت، فلا شفعة للشفيع الذي سلم الشفعة إن لم يكن جار ذلك البيت لما قلنا.
صاحب العلو مع صاحب السفل إذا لم يكن طريق العلو في السفل بمنزلة جارين.
في «الأصل» : في باب الشفعة أهل الكفر، وفي هذا الباب أيضاً صاحب الطريق(7/260)
أولى بالشفعة من صاحب مسيل الماء إذا لم يكن موضع مسيل الماء ملكاً له.
وصورة هذا: إذا بيع دار ولرجل فيها طريق، ولآخر فيها مسيل ماء، فصاحب الطريق أولى بالشفعة من صاحب مسيل الماء؛ لأن للذي له طريق شركة لصاحب مسيل إذا لم يكن المسيل ملكاً له.
دار ثلاثة نفر موضع بئر أو طريق، فإن ذلك بين اثنين من هؤلاء الثلاثة لا حق للثالث فيه، وباقي الدار بين الثلاث باع الذي له شركة في الدار والبئر والطريق نصيبه، فالشفعة لشريكه الذي له شركة في الدار والبئر.
والطريق هكذا في أول شفعة «الأصل» : قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: لا شك أن الذي له شركة في البئر والطريق أحق بالشفعة في البئر والطريق، والكل في حكم شيء واحد، فإذا صار أحدهما أحق بالبعض كان أحق بالجميع، ويعرف عن هذه المسألة كثير من المسائل وعلى قياس مسألة الشركة في أرض الحائط التي تقدم ذكرها، يجب أن تكون في هذه المسألة روايتان عن أبي يوسف رحمه الله في «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة صاحب السفل أحق بشفعة العلو من الجار الملاصق له إذا لم يكن بينهم شركة في الطريق.
وفي «القدوري» : أنهما يستويان فيها، وإن كانت ثلاثة أبيات بعضها فوق بعض وباب كل بيت منها إلى السكة فبيع الأوسط كان للأعلى والأسفل جميعاً الشفعة، وإن بيع الأعلى فالأوسط أولى بالشفعة.
وفيه أيضاً: دار فيها ثلاثة أبيات ولها الساحة والساحة بين ثلاثة نفر والبيوت بين اثنين منهم، فباع أحد مالكي البيوت نصيبه من البيوت والساحة من شريكه في البيوت والساحة، فلا شفعة لشريكهما في الساحة، ويخرج المسألة على نحو ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في المسألة تقدم ذكرها.
وفيه أيضاً: حائط بين داري رجلين والحائط بينهما، فصاحب الشريك أولى بالحائط من الجار وهما سواء في بقية الدار بأحداثها، يريد بهذا إذا لم يكن ما يخص الحائط من الأرض مشتركاً بينهما، وكذلك البيت من الدار بين رجلين بغير طريق باع صاحب الدار، فالشريك في البيت أولى بالبيت وهو مع الجار سواء في بقية الدار.
درب غير نافذ فيه دور لقوم باع رجل من أرباب تلك الدور بيتاً شارعاً في السكة العظمى ولم يبع طريقاً في الدرب على أن يفتح مشتري البيت باباً إلى الطريق الأعظم، فلأصحاب الدرب الشفعة لشركتهم في الطريق وقت البيع، فإن سلموها ثم باع المشتري البيت بعد ذلك، فلا شفعة لأهل بيت الدرب لانعدام شركتهم في الطريق وقت البيع الثاني، فتكون الشفعة للجار الملازق وهو صاحب الدار.
وكذلك إذا باع قطعة من الدار بغير طريق في الدرب هذه الجملة في «شرح الكافي» في باب الشفعة في البناء غير نافذ في إقضاء مسجد خطة وباب المسجد في الدرب وظهر المسجد وجانبه الآخر إلى الطريق الأعظم، فهذا درب نافذ لو بيع فيه دار، فلا(7/261)
شفعة إلا للجار، وأراد بمسجد الخطة المسجد الذي اختطه الإمام حين قسم الغانمين.
وهذا لأن المسجد إذا كان خطه وظهره إلى الطريق الأعظم وليس حول المسجد سكة بينه وبين الطريق الأعظم، فهذا الدرب بمنزلة درب نافذ، ولو كان حول المسجد دروب يحول بينه وبين الطريق الأعظم كان لأهل الدرب الشفعة بالشركة؛ لأن هذا الدرب لا يكون نافذاً، ولو لم يكن المسجد في الأقصى لكن كان في أول السكة إلى موضع المسجد نافذ لا يثبت فيها الشفعة إلا للجار الملازق، وما وراء ذلك يكون غير نافذ حتى كان لأهل ملك السكة كلهم الشفعة، ولو لم يكن المسجد خطة.
بأن اشترى أهل الدرب من رجل من أهله داراً في أقصى الدرب، ظهرها إلى الطريق الأعظم وجعلوها مسجداً وجعلوها في الدرب بابه، ولم يجعلوا له إلى الطريق الأعظم باباً، أو جعلوا له، ثم باع رجل من أهل الدرب داراً، فلأهل الدرب الشفعة بالشركة.
سكة أو درب غير نافذ في أقصاها دار وباب هذا الدار في الدرب أو في السكة، ولهذا الدار باب آخر يخرج منها إلى الطريق الأعظم، فإن كان هذا الطريق للعامة ليس لأهل الدرب أن يمنعوهم، فهذه سكة نافذة.
لو بيع فيها دار لا تجب الشفعة إلا بالجوار وإن كان طريقاً لأهل الدرب والسكة خاصة بأن أحدثوه ولهم منع العامة، فأهل الدرب شفعاء بالشركة في الطريق؛ لأن الدرب حينئذ غير نافذ من حيث المعنى.h
قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «شرح هذا الكتاب» : فعلى هذا سُكَكُنا وسائر السكك إن كان نفاذها خطة، فلا شفعة فيها إلا بحكم الجوار، وإن أحدثوا النفاذ فالشفعة للكل، وأما الرقيقات التي ظهرها وادٍ لا تخلو من وجهين:
إن كان موضع الوادي مملوكاً في الأصل وأحدثوا الوادي، فهذا والمسجد الذي أحدثوه في أقصى السكة سواء، وإن كان في الأصل وادياً كذلك فهو ومسجد الخطة سواء، هكذا حكى من الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله، وكان يقول الرقيقة التي على ظهرها وادي بخارى إذا بيع في الرقيقات منها دار فأهل الرقيقات كلهم شفعاء، ولا يجعل ذلك كالطريق النافذ، فكأنه عرف أنه مملوك وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يجعل حكم (166أ3) هذه الرقيقات حكم السكك النافذة قبل، ويجوز أن تقاس السكك التي في أقصاها الوادي ببخارى على ما تقدم، ويبنى أمر الشفعة فيها على النفاذ الخطة، وعلى النفاذ الحادث.
سكة غير نافذة فيها عطف مدور يريد بالعطف الذي يقال بالفارسية: خم كرد، وصورة العطف المدور هذا، وفي العطف منازل، فباع رجل منزلاً في أعلى السكة أو في أسفلها أو في العطف، فالشفعة لجميع الشركاء وكان العطف مربعاً بأن تكون سكة ممدودة في كل جانب منها رقيقة، وفي السكة دور، وفي الرقيقة من دون صورته هذا، فباع رجل في العطف منزلاً فالشفعة لأصحاب العطف دون أصحاب السكة.
دار كانوا جميعاً شفعاء، وهو نظير سكة عظمى غير نافذة، فيها سكة صغرى إذا بيع في السكة الصغرى دار، فالشفعة لأهل السكة الصغرى خاصة.(7/262)
ولو بيع دار في السكة العظمى، فالشفعة لأهل السكة.
والحاصل: أن بالعطف المدور لا تصير السكة في حكم سكتين، ألا ترى أن هيآت الدور في هذا العطف لا يتغير كما في سكة دهقان أما العطف المربع يصير في حكم سكة أخرى، ألا ترى أن هيآت الدور في هذا العطف لا تتغير، فتصير فيه بمنزلة سكة في سكة.
في آخر شفعة «الكافي» وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في درب فيه الزائفة مستديرة لجميع الدرب بيعت دار في هذه الزائفة التي عليها الدرب فهم شركاء في الشفعة، وإذا كان درب مستطيل فيه الزائفة ليست على ما وصفت لك ولكنها نسبة السكة، فأهل تلك الزائفة شركاء في دورهم، ولا يشركهم أهل الدرب في الشفعة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: ذلك كله سواء، فهم شركاء في زائفتهم دون أهل الدرب.
وفي «نوادر هشام» : قال أبو يوسف: المدورة والمربعة والمستطيلة سواء، وإذا بيع دار في الزائفة فلهم ولأهل السكة فيها الشفعة لا شركائهم في طريق السكة.
فيه أيضاً: هشام عن محمد: اشترى بيتاً من دار إلى جنب داره وفتح بابه إلى داره، ثم باع هذا البيت وحده، فجاءه هذا الرجل وطلب هذا البيت بالشفعة، قال: إن كان سد باب البيت من تلك الدار وفتح في هذه الدار، حتى عد البيت من هذه الدار، فله الشفعة فيه.
في شفعة أبي الليث رحمه الله: دار بيعت ولها بابان في زقاقين غير نافذة، فإن كانت في الأصل دارين باب أحدهما في زقاق، وباب الأخرى في زقاق الأخرى، فاشتراهما رجل، ورفع الحائط بينهما حتى صارت له كلها دار واحدة كان لأهل كل زقاق أن يأخذ الجانب الذي يليه، لأنهما لما كانتا دارين في الأصل كان لأهل زقاق جوار بأحداهما، وإن كانت في الأصل داراً واحدة ولها بابان، فالشفعة لأهل الزقاقين في جميع الدار بالسوية؛ لأن الدار لما كانت واحدة في الأصل كان جوار تلك الدار ثابتة لأهل الزقاق، والعبرة للأصل دون العارض.
ونظير هذا: الزقاق إذا كان في أسفلها زقاق آخر إلى جانبٍ آخر فرفع الحائط بينهما حتى صار الكل سكة واحدة كان لأهل كل زقاق شفعة في الزقاق الذي لهم خاصة، ولا شفعة لهم في الجانب الآخر، في مثل هذا ينظر إلى الأصل.
وفي الشفعة: للحسن بن زياد سكة غير نافذة، فيها عطفة منفردة نفذت هذه العطفة، فلا شفعة فيها إلا لمن داره لزيق الدار المبيعة، ولو لم تنفذ هذه العطفة إلى السكة كانت الشفعة لجميع أهل هذه العطفة، فإن سلموا الشفعة، فليس لأهل السكة الشفعة فيها.
في آخر شفعة «الأصل» : دار فيها حِجَرٌ، وحجرة منها بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من الحجرة، فهذا على وجهين: إن كانت الحجرة مقسومة بينهما فالشفعة للشركاء(7/263)
في طريق الدار لا للشريك في الحجرة، وقد انقطعت بالقسمة، وصار الشريك جاراً في حق الحجرة بعد القسمة، وبقي شريكاً في طريق الدار، فإن سلم شركاء الطريق كانت الشفعة للجار الملاصق بالدار.
وفي هذا الموضع أيضاً: أرض اشتراها قوم وأقسموها دوراً وتركوا فيها سكة وهي سكة ممدودة غير نافذة، فبيعت دار في أقصى السكة، فهم جميعاً شركاء في شفعتها، الأعلى والأقصى في ذلك على السواء؛ لأن الطريق في هذه السكة بقيت على الشركة الأصلية؛ لأنها لم تدخل تحت القسمة، فيستحقون الشفعة بحكم الشركة في الطريق.
وكذلك إن كانوا ورثوا الدور عن آبائهم كذلك، ولا يعرفون كيف كانوا أصلها، فهذا والأول سواء، علل شمس الأئمة السرخسي، فقال: لأنهم شركاء في الفناء، وهو الطريق الذي في السكة، فيشتركون في استحقاق الشفعة.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والشريك في الفناء أحق من الجار، قال شمس الأئمة السرخسي: فإن كان مراده فناء مملوكاً لهم خاصاً فهذا ظاهر، وإن كان المراد فناء غير مملوكاً.
فوجهه: أنهم أخص بالانتفاع بذلك الفناء، ولهم أن يمنعوا غيرهم عن الانتفاع به فهو بمنزلة الطريق الخاص بينهم في استحقاق الشفعة به.
في شفعة «الأصل» : اشترى بيتاً في داره علو لآخر، وسفله لآخر وطريق البيت الذي اشتري في دار أخرى، فإنما الشفعة للذي في داره الطريق، وهذا إذا كان مفتح العلو خارج الدار، أما إذا كان مفتحه إلى الدار، فصاحب العلو وغيره في الشفعة سواء بسبب الشركة في الطريق.
في «الكيسانيات» : دار ورثوها جماعة عن أبيهم، مات بعضهم ولد أبيهم وترك نصيبه ميراثاً بين ورثته، فهم ثلاث بنين باع أحدهم نصيبه منها، فهم شركاءه في ميراث أبيهم، فهما أبناء الميت الثاني، وشركاء الأب، وهم أولاد الميت الأول شفيعها فيه ليس بعضهم بأولى من البعض؛ لأنه ليس في الدار شيء إلا وهم شركاء فيه؛ لأن نصيب الميت الثاني ليس بعينه.
في الشفعة للحسن بن زياد: قوم ورثوا داراً فيها منازل، فاقتسموها وأصاب كل واحد منها منزلاً، ورفعوا فيما بينهم الطريق، فباع بعض من صار له منزل منزله وسلم الذين لهم المنازل في الدار الشفعة كان للجار الشفعة إذا كان لزيق المنزل الذي بيع، وإن كان لزيق الطريق الذي بينهم وليس لزيق المنزل كان له أن يأخذ المنزل وطريقه بالشفعة، وإن لم يكن لزيق (166ب3) المنزل، ولا لزيق الطريق الذي بينهم وكان لزيق منزل آخر من الدار فلا شفعة، فهذه المسألة دليل أن الشفعة كما يجب لجيران حق المبيع أيضاً.
وفي كتاب الشرب لأبي عمرو الطبري: دار فيها ثلاثة أبيات، وكل بيت لرجل على حدة، وطريق كل بيت في هذه الدار فطريق هذه الدار في دار أخرى وطريق تلك الدار في سكة غير نافذة بيع بيت من البيوت التي في الدار الداخلة كان صاحبا البيتين أولى بالشفعة(7/264)
من صاحب الدار الخارجة؛ لأنهم اشتركوا في الطريق في صحن الدار الداخلة، فإن سلما الشفعة لصاحب الدار الخارجة، فإن سلم هو أيضاً فالشفعة لأهل السكة.
في «العيون» : أرض بين قوم اقتسموها بينهم، ورفعوا طريقاً بينهم وجعلوها نافذة، ثم بنوا دوراً يمنة ويسرة، وجعلوا أبواب الدور شارعة إلى السكة، فباع بعضهم داراً فالشفعة منهم سواء؛ لأن هذه وإن كانت نافذة، فكأنها غير نافذة؛ لأن لهم أن يرجعوا ويسدوا الطريق، وإن قالوا: جعلناها طريقاً للمسلمين، فكذلك الجواب أيضاً.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار؛ لأن لهم أن يرجعوا يسدوا هو المختار في «الزيادات» في باب الشفعة التي يأخذها كلها والتي لا يأخذها.
داران متلازقان كل واحد منهما لرجل ولكل دار جيران، فتبايعا إحدى الدارين بالأخرى، فالشفعة للجيران، وليس لكل واحد منها الشفعة، أما فيما باع فظاهر، وقد مرت المسألة من قبل، وأما فيما اشترى؛ فلأن كل واحد منهما لو استحق الشفعة فيما اشترى استحق بسبب الجوار، وكل واحد منهما أزال جواره ببيع ما كان له مقارناً لثبوت حق الشفعة.
ولو كانت الداران جميعاً بينهما نصفان باع كل واحد منهما نصيبه من هذه الدار بنصيب صاحبه من الدار الأخرى، فلا شفعة للجيران هاهنا؛ لأن كل واحد منهما شريك في الدار التي اشترى نصفها.
رجل اشترى داراً في سكة غير نافذة، ثم اشترى بعد ذلك أخرى كان لأهل السكة أن يأخذوا الدار الأولى، يكونون شركاءه في الثانية؛ لأن وقت شراء الأولى لم يكن المشتري شريكهم في السكة، ووقت شراء الثانية وهو شريكهم في السكة، وكذلك لو كان بين ثلاثة نفر دار؛ فاشترى رجل نصيبهم واحداً بعد وللجار أن يأخذ البيت الأول وليس له على البيتين الباقيتين شركة لما قلنا.
ولو كانت الدار بين أربعة، فاشترى رجل نصيب الثلاثة واحداً بعد واحد، والرابع غائب فله أن يأخذ نصيب الأول وهو في نصيب الآخرين شريك له لما قلنا.
ولو اشترى أحد الأربعة نصيب الاثنين واحداً بعد واحد، ثم حضر الرابع كان المشتري شريكاً في النصيبين جميعاً؛ لأن هاهنا المشتري شريك وقت شراء النصيبين بخلاف ما تقدم.
وفي الهاروني: دار بين ثلاثة نفر اشترى رجل نصيب أحدهم، ثم جاء رجل آخر واشترى نصيب الآخر، ثم جاء الثالث الذي يبع نصيبه كان له أن يأخذ النصيبين جميعاً بالشفعة، فإن لم يحضر الثالث حتى جاء المشتري الأول إلى المشتري الثاني وطلب منه الشفعة كان له ذلك، ويقضى له بها، فيصير له النصيبين جميعاً، فإن جاء الثالث بعد ذلك وكان غائباً وطلب الشفعة أخذ جميع ما اشتراه الأول ونصف ما اشتراه الثاني. ولو لم يقض القاضي للمشتري الأول بما اشتراه الثاني، قضى للثالث بالنصيبين جميعاً.
وأشار إلى الفرق، فقال: إذا قضى القاضي للمشتري الأول بنصيب الثاني صار نصيب الثاني ملكاً للمشتري الأول فإذا جاء الثالث، وأخذ ما اشتراه المشتري الأول صار(7/265)
كأن الأول باع ما اشتراه، وإنه لا يوجب بطلان ملكه فيما أخذ بالشفعة بقضاء القاضي للأول شفعاء في نصيب الأول، الثاني والثالث أيضاً شفيع فيه، فقضى بينهما، فأما قبل قضاء القاضي بذلك نصيب الثاني لم يصر ملكاً للمشتري الأول، بل له حق أن بتملكه بما اشتراه، فإذا أخذ الثالث ما اشتراه الأول فقد زال ملك الأول وحقوقه، فلا يستحق به الشفعة.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الشركاء في النهر الصغير كل من كان له ثبوت أحق من الجار الملازق.
وإن كان نهراً كبيراً تجري فيه السفن، فالشفعة للجار الملازق في باب شفعة الأرضين من شفعة «الكافي» قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله: أراد بالسفن البسماريات التي هي أصغر السفن، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» المذهب عند أبي حنيفة رحمه الله: أن النهر الكبير الذي تجري فيه السقف كدجلة والفرات، فكل ما تجري فيه السفن من الأنهار يكون في معنى الدجلة والفرات، وما لا تجري فيه السفن يكون في حكم النهر الصغير.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في حد النهر الكبير والصغير بعضهم قالوا النهر الكبير: ما يتفرق ماؤه بين الشركاء، وله منفذ إلى المفاوز التي هي لجماعة المسلمين، والنهر الصغير: ما يتفرق ماؤه بين الشركاء ولا يبقى إذا انتهى ولا يكون له منفذ.
وعامة المشايخ: على أن الشركاء على النهر إذا كانوا لا يحصون فهذا نهر كبير، وإن كانوا يحصون فهذا نهر صغير، لكن اختلفوا بعد هذا في حد ما يحصى وما لا يحصى، بعضهم قدر ما لا يحصى بخمسمائة، وبعضهم قدر ما لا يحصى بمائة، وبعضهم قدر ما لا يحصى بأربعين، وبعضهم قدر ما لا يحصى بعشرة.
وبعض مشايخنا قالوا: صح ما قيل فيه إنه مفوض إلى رأي كل مجتهد في زمانهم إن رآهم كثيراً كانوا كثيراً، وإن رآهم قليلاً كانوا قليلاً.
ثم إن عامة المشايخ فرقوا بين النهر والسكة، حيث جعلوا الشركة في النهر إذا كان بين أقوام يحصون خاصة، وإن كان النهر ينفذ في مفاوز هي لجماعة المسلمين ولم يجعلوا الشركة في الطريق الذي له منفذ إلى طريق العامة شركة خاصة، وإن كان أهل السكة مما يحصون.
نهر خاص لرجل في أرض رجل، وعليه رحى ماء لصاحب النهر باع صاحب النهر النهر مع الرحى فالصاحب الأرض أن يأخذ النهر (167أ3) مع الرحى بالشفعة، وإن لم يكن له اتصال بالرحى؛ لأن الرحى مع النهر كشيء واحد؛ إذ الانتفاع بالرحى بدون النهر لا يمكن، فجاز النهر يكون جاز الرحى.
قال: وجميع جيران النهر في الشفعة في النهر والرحى على السواء، ولا يختص الملازق للرحى بالرحى ذكره شيخ الإسلام في «شرحه» .(7/266)
في الشفعة للحسن بن زياد رحمه الله: نهر كبير كالرحى يجري لقوم منه نهر صغير، فصارت شرب أراضيهم من هذا النهر الصغير، فباع رجل من أهل هذا النهر الصغير أرضه بشربها كان للذين شربهم من هذا النهر الصغير أن يأخذوا تلك الأرض بالشفعة، أقصاهم وأدناهم فيها سواء، فإن كانت الأرض التي بيعت قطعة أخرى لزيقة بهذه الأرض المبيعة، وشرب هذه القطعة من النهر الكبير، فلا شفعة لصاحب القطعة مع الذين شربهم من النهر الصغير.
في كتاب هلال البصري: في نهر يلتوي بيع فيه أرضون خلف الالتواء قبله، فإن كان الالتواء فهو كنهرين، فتكون الشفعة للشركاء في الشرب إلى موضع الالتواء خاصة، فإن أسلموا، فهي للباقين من أهل النهر.
قال: وهو كنهر صغير أخذ من نهر كبير مع أرض على هذا النهر الصغير كان أهل النهر الصغير أولى بالشفعة، فإن سلموا كان لأهل النهر الكبير، وإن كان الالتواء باستدارة الجزء كانت الشفعة لهم جميعاً، وجعلوه كالنهر الواحد.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: نهر بين قوم وعليه أرضون وبساتين شربها من ذلك النهر شركاء فيه، فلهم الشفعة فيما بيع من هذه الأرضين والبساتين، فإذا اتخذوا من تلك الأرضين والبساتين دوراً، واستغنوا عن ذلك الماء إلا للشفعة، فإنه لا شفعة بينهم إلا بالجوار إلا بمنزلة دور الأمصار، وإن بقي من هذه الأرضين ما يزرع وما بقي منها بساتين يحتاج إلى السقي، فهم شركاء في الشرب على حال لهم، وشركاء في الشفعة.
وفيه أيضاً: هشام سألت محمداً عن نهر لقوم فيه شرب، وأصل النهر لغيرهم فباع رجل أرضه والماء منقطع في النهر، فلهم الشفعة بالشرب في قول محمد، وفي قياس قول أبي حنيفة: لا شفعة لهم، وفي نسخة، وفي قياس قول أبي يوسف: لا شفعة لهم كقولهم في العلو المنهدم.
اشترى الرجل نهراً بأصله في أعلاه إلى جنبه، ولرجل آخر أرض في أسفله إلى جنبه، فلهما جميعاً الشفعة في جميع النهر من أعلاه إلى أسفله؛ لأن كل واحد منهما جار، فإن ملك كل واحد منهما متصل ببعض المبيع، والاتصال بالبعض يثبت الجوار.
نهر أعلاه لرجل ومجراه في أرض رجل آخر، وأسفله لرجل آخر، فاشترى رجل نصيب صاحب أعلى النهر، فطلب صاحب الأرض وصاحب أسفل النهر الشفعة، فإن لهما الشفعة بحكم الجوار؛ لأنهما جاران للنهر لكن جوار صاحب الأسفل أقل؛ لأن جواره بمقدار عرض النهر، وجوار صاحب الأرض بمقدار طول النهر، ولا عبرة لزيادة الجوار، فلا يصير أحدهما أولى باستحقاق شفعة النهر، وإن كان لأحدهما شرب من هذا النهر ولا شرب للآخر؛ لأن الشركة ليست شركة في حقوق المبيع وهو النهر؛ إذ الشرب ليس من حقوق الأرض إذ لا حاجة إلى الشرب للنهر؛ وإنما يتقدم على الجار من له شركة في رقبة المبيع أو في حقوقه والله أعلم.(7/267)
في «الأجناس» وفي «الشرب» لأبي عمرو الطبري: في قطعة أرض لرجل لها شرب من نهر بين قوم باع صاحب القطعة أرضه بلا شرب، فلشركائه في الشرب الشفعة في القطعة وهم أحق من الجيران وبطل حق البائع من الشرب، وصار ذلك لشركائه، فإن سلم الشركاء الشفعة ثم بيعت هذه القطعة مرة أخرى، فلا شفعة لأرباب الشرب بالشرب؛ لأن الشرب قد انقطع لهما الأرض.
ألا ترى أنه لا شركة للبائع الثاني في الشرب، ولو اشترى البائع الأول هذه القطعة، ثم أراد أن يرجع في نصيبه من الشرب ليس له ذلك؛ لأنه حين باع الأرض بلا شرب فقد بطل حقه عن الشرب، قال «صاحب الأجناس» : وقد رأيت في كتاب الهلال البصري صاحب الوقف: لو باع أرضه بلا شرب، فالشرب للبائع بحاله وعليه يعقد النهر.
وفي «نوادر بن سماعة» لمحمد رحمه الله: دار في سكة خاصة باعها صاحبها من رجل بلا طريق فلأهل السكة الشفعة، وكذلك لو باع أرضاً بلا شرب، فلأهل الشرب الشفعة، ولو بيعت هذه الدار وهذه الأرض مرة أخرى ليس لهم فيها الشفعة؛ لأنه انقطع حق الدار من الطريق وحق الأرض من الشرب.
الفصل الثالث: في طلب الشفعة
قال محمد رحمه الله: إذا علم الشفيع بالبيع، فلم يطلب مكانه، فلا شفعة له يجب أن يعلم بأن الشفعة تجب بالجوار وبالعقد أو بالشركة وبالعقد، وتتأكد بالطلب، ولا يفيد الملك إلا بقضاء والطلب على ثلاثة أوجه طلب مواثبة، وطلب إشهاد وتقرير، وطلب تمليك.
واختلف العلماء مقدار مدة طلب المواثبة. قال علماؤنا في ظاهر الرواية: يشترط فور علمه بالشراء إن طلب يثبت حقه وإن لم يطلب وسكت هنيهة بطل، وإليه ذهب مشايخ بلخ بخارى وروى هشام عن محمد: أن له مجلس العلم إن طلب في مجلس العلم يثبت حقه، وإن لم يطلب حتى قام بطل، وهو اختيار الكرخي وبعض مشايخ بخارى.
وروى ابن رستم عن محمد: أنه إذا سكت هنيهة لا تبطل شفعته، ولم يذكر في شيء من الكتب كيفية طلب المواثبة.
والصحيح: أنه إذا أتى بأي لفظ ما أتي بالماضي أو بالمستقبل إذا كان لفظاً يفهم منه طلب الشفعة إنه يجوز، وإليه ذهب الفقيه أبو جعفر الهندوابي شمس الأئمة السرخسي.(7/268)
والإشهاد ليس بشرط لصحة هذا الطلب، وإنما ذكر أصحابنا رحمهم الله الإشهاد وعند الطلب لا؛ لأنه شرط صحة بهذا الطلب؛ ولكن لأن المشتري لو جحد هذا الطلب، فالشهود يشهدون له على ذلك، وهو نظير ما قال أصحابنا رحمهم الله في الأب: إذا وهب لابنه الصغير هبة وأشهد على ذلك ما ذكروا الإشهاد، ولكونه شرطاً لصحة الهبة، ولكن لو جحد، فالشهود يشهدون، وكذلك ذكروا الإشهاد وفي الحائط المائل (167ب3) لا لكونه شرطاً لصحة طلب التفريع؛ ولكن لأن صاحب الحائط لو جحد، فالشهود يشهدون عليه وبعدما طلب طلب المواثبة يحتاج إلى طلب الإشهاد والتقرير.
وهذا الطلب إنما يصح عند حضرة واحد من الثلاثة إما المشتري، وأما البائع وأما الدار، فإن حضر المشتري يقول: أشتري هذه الدار التي كانت لفلان أَحَدُ حدودها كذا، والثاني والثالث والرابع كذا، وأنا شفيعها بالجوار بداري التي أحد حدودها كذا، وقد كنت طلبت وأطلبها الآن، فاشهدوا على ذلك إلى آخر ما ذكرنا، فاشهدوا على ذلك، وهذا الطلب عند المشتري صحيح، سواء كان الدار في يد المشتري أو في يد البائع.
وكذلك عند البائع إذا كانت الدار في يده، وإن لم تكن الدار في يده ذكر الشيخ أبو الحسن القدوري في «شرحه» وعصام في «مختصره» والناطفي (في) «أجناسه» : أنه لا يصح، وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في «شرحه» أنه صحيح استحساناً، وأحاله إلى «الجامع الكبير» : هكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، ومدة هذا الطلب مقدرة بالتمكن من الإشهاد، وعند حضرة أحد هؤلاء الثلاث حتى لو تمكن ولم يطلب بطل حقه، قال شيخ الإسلام في «شرحه» : في باب شفعة أهل البغي: أن الشفيع إنما احتاج إلى طلب المواثبة، ثم إلى طلب الإشهاد بعده إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة بأن سمع الشراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدار، أما إذا سمع الشراء عند حضرة أحد هؤلاء، فطلب المواثبة وأشهد على ذلك يكفيه ويقوم ذلك مقام طلبين، فإن قصد الأبعد من هؤلاء الأشياء الثلاثة، وترك الأقرب، فإن كانوا جملة في مصر واحد.5
فالقياس: أن تبطل شفعته، وفي الاستحسان: لا تبطل؛ لأن نواحي المصر جعلت كناحية واحدة حكماً، ولو كانوا في مكان واحد حقيقة، وطلب عند أحدهم، وترك الطلب عند الآخرين أليس أنه يصح طلبه؟ كذا هاهنا.
وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف، وفي «واقعاته» : إذا اختار على الأقرب ولم يطلب منه بطل شفعته، لو كان الشفيع بحضرة أحد هذه الأشياء الثلاثة، والآخران في مصر آخر أو في رستاق هذا المصر الذي الشفيع فيه يقصد الأبعد وترك الطلب عند من هو بحضرته بطلت شفعته قياساً واستحساناً؛ لأن مصراً آخر ورستاق هذا المصر مع المصر لم يجعل لمكان واحد، فإذا ترك الطلب عند الأقرب وقصد الأبعد، فقد ترك الطلب مع الإمكان.
ولو كان كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة في مصر على حدة ذكر عصام في(7/269)
«مختصره» : أن الشفيع يذهب إلى أقربهم، وذكر الناطفي في «أجناسه» : أنه إذا ذهب إلى الأبعد لا تبطل شفعته وبعض مشايخنا رحمهم الله أخذوا برواية عصام، وبعضهم برواية الناطفي.
وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الشفعة في باب أهل البغي، حيث قال: وإذا كان الشفيع في غير مصر البائع والمشتري والدار قال أيهم ... فهو على شفعته من غير فصل؛ وهذا لأن الشفيع قد يعجز عن الذهاب إلى الأقرب بسبب من الأسباب، فلا يكون بترك الذهاب إلى الأقرب مبطلاً شفعته، وعلى هذا إذا كان إلى الأقرب طريقان، فترك الطريق الأقرب واختيار الأبعد لا تبطل شفعته على قياس ما ذكر الناطفي، ثم إذا حضر المصر الذي فيه أحد هذه الأشياء بطلت الشفعة بحضرة ذلك، فلا يكفيه حضور البائع والمشتري والدار في ذلك على السواء، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام أبو يزيد الكبير يقول: أيكفيه حضور المصر، وعلى هذا إذا كانت الدار في مصر الشفيع لا بشرط الطلب عند الدار على ما ذكره القاضي الإمام بل إذا طلب وأشهد من غير تأخير في أي موضع طلب جاز.... لو كان البائع أو المشتري في مصر الشفيع لا بد من الطلب بحضرته.
ثم بعد طلب المواثبة وطلب الإشهاد يحتاج إلى طلب التمليك وهو الطلب عند القاضي أن يسلم المشتري الدار إليه.
وصورة ذلك: أن يقول الشفيع للقاضي: إن فلاناً اشترى داراً وبين محلتها وحدودها، وأنا شفيعها بدار لي ويبين حدودها، فمره بتسليمها إلي، وبعد هذا الطلب أيضاً لا يثبت الملك للشفيع في الدار المشفوعة إلا بحكم القاضي أو بتسليم المشتري الدار إليه حتى أن بعد هذا الطلب قبل حكم القاضي بالدار، وقبل تسليم المشتري الدار إليه لا يستحق الشفعة فيها إلي لو بيعت دار أخرى بجنب هذه الدار، ثم حكم له الحاكم أو سلم المشتري الدار إليه لا يستحق الشفعة فيها، وكذلك لو مات الشفيع أو باع داره بعد الطلبين قبل حكم الحاكم أو تسليم المشتري تبطل شفعته، ذكر الخصاف ذلك في «أدب القاضي» .
وللشفيع أن يمتنع من الأخذ بالشفعة وإن بذله المشتري حتى يقضي القاضي له زيادة فائدة، وهو معرفة القاضي بسبب ملكه، وعلم القاضي بمنزلة شهادة شاهدين، فكان الأخذ بقضاء القاضي أحوط في شفعة الاسبيجابي، فإن ترك الشفيع الطلب الثالث يعني بعدما طلب الطلبين لو لم يرفع الأمر إلى القاضي حتى يقضي له بالشفعة هل تبطل شفعته؟.
أجمعوا على أنه إذا ترك هذا الطلب بعذر من مرض أو حبس أو غير ذلك ولم يمكنه التوكيل بهذا الطلب أنه لا تبطل شفعته وإن طالت المدة، وإن ترك هذا الطلب بغير عذر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تبطل شفعته، وإن طالت المدة، وعلى قولهما:(7/270)
تبطل إذا طالت المدة، واختلفت الرواية ههنا ففي رواية عن محمد رحمه الله أنه قدره بثلاثة أيام، وفي رواية أخرى أنه قدره بشهر، فقال: إذا ترك المرافعة شهراً بطلت شفعته، وهو إحدى الروايات عن أبي يوسف رحمه الله.
قال شيخ الإسلام: الفتوى اليوم على هذا، وعن أبي يوسف في رواية مثل قول أبي حنيفة رواه محمد عنه، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا كان الشفيع غائباً فعلم بالشراء، فإنه ينبغي أن يطلب المواثبة ثم له من الأجل على قدر المسير إلى المشتري أو البائع والدار المبيعة لطلب الإشهاد والتقرير، فإذا مضى ذلك (168أ3) الأجل قبل أن يطلب هذا الطلب أو بيعت من يطلب فلا شفعة له، فإن قدم المصر الذي فيه الدار فبيعت المشتري وطلب الشفيع طلب الإشهاد، والتقرير عند البائع إن كانت الدار في يديه أو عند الدار ثم ترك الطلب الآخر، فإنه لا تبطل شفعته وإن طالت، ذلك بلا خلاف؛ لأنه إنما ترك هذا الطلب بعذر؛ لأنه لا يمكنه اتباع المشتري لأجل الخصومة؛ لأنه كلما قدم مصراً فيه المشتري ليخاصمه، ويأخذ منه يهرب المشتري إلى مصر أخر وترك هذا الطلب بعذر لا يوجب بطلان الشفعة.
وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا ترك الطلب الثالث سنة؛ لأنه لم يكن في البلد قاضي فهذا عذر الشفيع إذا علم بالشراء وهو في طريق مكة، فطلب طلب المواثبة وعجز عن طلب الإشهاد بنفسه، يوكل وكيلاً ليطلب له بالشفعة، فإن لم يفعل ومضى بطلت شفعته، وإن لم يجد من يوكله ووجد فيما يكتب على يديه كتاباً ويوكل وكيلاً بالكتاب، فإن لم يفعل بطلت شفعته، فإن لم يجد وكيلاً ولا فيما لا تبطل شفعته حتى يجد الفسخ.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل له شفعة عند القاضي، فقدمه إلى السلطان الذي تولى القضاء، فإن كانت شفعته عند السلطان وامتنع القاضي في إحضاره فهو على شفعته؛ لأن هذا عذر الشفيع إذا علم بالبيع في نصف الليل ولم يقدر على الخروج، فإن أشهد حتى أصبح صح؛ لأن هذا تأخير بعذر.
في «واقعات الناطفي» : اليهودي إذا سمع البيع يوم السبت فلم يطلب الشفعة؛ لأن هذا تأخير بعذر، في «فتاوي أهل سمرقند» ، وفي هذا الموضع أيضاً: الشفيع بالجوار إذا خاف أنه لو طلب الشفعة عند القاضي والقاضي لا يرى ذلك بطلت شفعته فلم يطلب فهو على شفعته؛ لأن هذا عذر يعتبر الطلب من الشفيع في البيع الفاسد وقت انقطاع حق البائع بالاتفاق.
وفي بيع الفضولي والبيع بشرط الخيار للبائع يعتبر الطلب وقت البيع عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله، فيعتبر الطلب وقت الإجازة، هكذا ذكر شيخ الإسلام في الباب الأول من «شرحه» .
وجه قول محمد رحمه الله: أن علة ثبوت حق الشفعة انقطاع حق البائع، وحق البائع ينقطع وقت سقوط الخيار في البيع بشرط الخيار، ووقت الإجازة في بيع الفضولي،(7/271)
وفي البيع بشرط الخيار حق البائع، وإن كان يسقط عند الإجازة إلا أن الإجازة تستند إلى وقت العقد؛ لأن الإجازة إثبات صفة للعقد والصفة لا تقوم بنفسها، وإنما يقوم بالموصوف، فيستند إلى وقت العقد مع حكمه، وهو انقطاع حق البائع، فيكون وقت الطلب وقت العقد بخلاف البيع الفاسد؛ لأن هناك حق البائع، فيكون وقت الطلب وقت العقد بخلاف البيع الفاسد؛ لأن هناك حق البائع إنما ينقطع بتصرف المشتري، وتصرف المشتري لا يستند إلى وقت العقد، بل يتقرر حالة وجوده، فكذا انقطاع حق البائع لا يستند، فيعتبر الطلب وقت تصرف المشتري لهذا.
وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه كان يقول: يعتبر وقت البيع، ثم رجع وقال: سكوته عن الطلب وقت البيع ليس بتسليم. ولو قال: أبطلت الشفعة فذلك تسليم.
وفي الهبة بشرط العوض روايتان: في ظاهر الرواية يعتبر الطلب وقت التقابض؛ لأنها تصير بيعاً في هذه الحالة، وإذا كان البيع بألف درهم إلى سنة يعتبر الطلب وقت العلم بالبيع حتى أن للشفيع لو قال: أنا انتظر الأجل ولم يطلب شفعته كما علم بالبيع بطلت شفعته، رواه الحسن عن أبي حنيفه رحمه الله: أنه قال: كذلك، قال ابن أبي مالك: وقال أبو يوسف أيضاً: إنه على شفعته، وسكوته عن الطلب قبل الأخذ لا يكون تسليماً للشفعة.
في «الأصل» : في باب شفعة أهل البغي: إذا اشترى رجل من أهل البغي داراً من رجل في عسكره، والشفيع في عسكر أهل العدل، فإن كان لا يقدر على أن يبعث وكيلاً ولا أن يدخل بنفسه عسكرهم، فهو على شفعته، ولا يضره ترك طلب الإشهاد؛ لأن هذا ترك بعذر، وإن كان يقدر على أن يبعث وكيلاً أو يدخل بنفسه عسكرهم، فلم يطلب طلب الإشهاد، وبطلت شفعته؛ لأنه ترك طلب الإشهاد بغير عذر.
إذا اتفق الشفيع والمشتري أن الشفيع علم بالشراء منذ أيام، ثم اختلفا بعد ذلك في الطلب فقال الشفيع طلبت منذ علمت، وقال المشتري: ما طلبت، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ولو قال الشفيع: علمت الساعة وأنا أطلبها، وقال المشتري: علمت قبل ذلك ولم يطلب، فالقول قول الشفيع.
وفي «نوادر أبي يوسف» : إذا قال الشفيع: طلبت الشفعة حين علمت، فالقول قوله. ولو قال: علمت أمس وطلبت، أو قال: كان البيع أمس وطلبتها في ذلك الوقت لم يصدق إلا ببينته، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .
حكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله، قال: إذا كان الشفيع علم بالشراء وطلب طلب المواثبة ثبت حقه ولكن إذا قال بعد ذلك: منذ كذا وطلبته لا يصدق على الطلب، ولو قال: ما علمت الساعة يكون كاذباً.
فالحيلة في ذلك: أن يقول لإنسان أخبرني بالشراء، ثم يقول: إلا أن أخبرت ويكون صادقاً، وإن كان أخبر قبل ذلك.
قال: وفي الصغيرة إذا بلغت في نصف الليل واختارت نفسها، وأرادت أن تشهد(7/272)
على ذلك تقول حضت الآن، ولا تقول: حضت في نصف الليل، واخترت نفسي، فإنها لا تصدق في اختيارها نفسها، ولكن تقول على نحو ما بينا، وتكون صادقة في قولها؛ الآن حضت؛ لأن الحيضة اسم لكل دم بدر ساعة بعد ساعة.
وذكر محمد بن مقاتل رحمه الله في «نوادره» : إذا كان الشفيع قد طلب الشفعة من المشتري في الوقت المتقدم ويخشى أنه إن أقر بذلك يحتاج إلى البينه، فقال: الساعة علمت وأنا اطلب الشفعة يسعه أن يقول ذلك، يحلف على ذلك، ويستثني في يمينه وقد احتج على ذلك بما ذكر في وديعة «الأصل» : إن جحد المودع الوديعة، فحصل في يد رب الوديعة من جنس ما أودع عنده من الدراهم أن يأخذ بحقه ويحلف، ويستثني في يمينه إذا قال (168ب3) الشفيع: كنت طلبت الشفعة أمس حين علمت بالبيع، وأنكر المشتري ذلك طلب بالشفيع يمين المشتري ذكر «الهاروني» و «أدب القاضي» للخصاف: أنه يحلف المشتري ما يعلم أنه طلب شفعة ولم يذكر فيه خلافاً. وذكر الفقيه الرازي أن هذا قول أبي يوسف، وقال محمد: أحلفه على الثبات بالله ما طلبت شفعته حين بلغه الشراء، فإن قال المشتري: للقاضي حلفه بالله لقد طلبت هذه الشفعة طلباً صحيحاً ساعة علمت من غير تأخير حلّفه القاضي على ذلك، ذكره موسى بن نصر في شفعته، فإن أقام المشتري بينة أن الشفيع (علم) منذ زمان ولم يطلب الشفعة، وأقام الشفيع بينة أنه طلب الشفعة حين علم بالبيع، فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري، ذكره في «نوادر أبي يوسف» : رواية ابن سماعة.
في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به.
ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته.
وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل.
في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به.
ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته.
وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل.
في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به.
ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته.
وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل.
الفصل الرابع: في استحقاق الشفيع كل المشترى أو بعضه
ابن سماعة عن أبي يوسف: دار بين قوم اقتسموها، وأصاب كل واحد منهم ناحية منها معلومة، إلا أن طريقهم واحد، ولرجل دار ملاصقة نصيب بعضهم، فباع أحدهم نصيبه من رجل وسلم شركاؤه في الطريق الشفعة، فللجار الملاصق لبعض نصيب هؤلاء(7/273)
الشفعة في المبيع، وإن لم يكن لزيقه إن الدار واحدة.
وكذلك القرية والأرضون بين قوم شربها من نهر أقضي في مثله بالشفعة، بيعت منها أقرحة متفرقة أو مجتمعة ولرجل أرض ملازقة بعض هذه الأرضين، فإني أقضي لهذا الجار الملازق بالشفعة فيما بيع من جميع هذه الأرضين، وإن لم تكن ملازقة؛ لأنها أرض واحدة.
ولو كانت أراضي كثيرة وقذف شربها من نهر لا أقضي في مثلها بالشفعة، فبيع من هذه الأرضين شيء، فلا شفعة للجار إلا فيما يلازقه.
فرع على الفصل الأول
فقال: ولو كان الذي بيع منها قراحين يلي أحداهما صاحبه وعلى كل قراح حائط يحيط به ولأحد القراحين جار ملازق، فله الشفعة فيهما، وإن كان الذي بيع بساتين، وعلى كل بستان حائط يحيط به وله باب على حدة، ولرجل أرض تلي أحد البساتين، فإن له الشفعة في البستان الذي يليه، ولا شفعة له في الآخر.
وفرق بين البساتين وبين القراحين.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً: الجواب في مسألة البستان بخلاف هذا، فقال: له الشفعة في البساتين جميعاً، قال في هذه الرواية: ولا يشبه القياس البساتين في القرى والدور في الأمصار، فإنه لو كان لرجل دور يلي بعضها بعضاً، فباعها فللشفيع الشفعة في الدار التي يليها، قال أيضاً في هذه الرواية: البساتين في المصر بمنزلة الدور.
وعنه: وإذا كان له داران في قرية باعها، وأرض من أراضي تلك القرية معها، وله جار يلي إحدى هاتين الدارين، فلهذا الجار أن يأخذ الدارين والأرض، وإن كان لو باع الدارين بانفرادها، فالشفيع لا يأخذ منهما إلا التي تليه، وجعل بيع الدار مع الأرض بمنزلة بيع القرية وأرضها.
وعنه: رجل له بستان عليه حائط وباب، فباع بستانه وأرضين خلف البستان، ولرجل قطعة أرض إلى جانب الحائط الذي على البستان، فالشفعة له في البستان والأرض المتصلة.
وعنه: إذا كان لرجل دور هدمها وجعلها داراً واحدة أو جعلها أرضاً وباعها فللشفيع الشفعة في جميع ذلك؛ لأنها صارت داراً واحدة.
قال: سألت محمداً عن حوانيت ثلاثة تلي بعضها بعضاً، أو باب كل واحد إلى الطريق الأعظم إلى جنب حانوت، فبيع الحوانيت الثلاث، فجاء الشفيع يطلب الشفعة،(7/274)
قال: فله الشفعة في ذلك كلها، قال: وهي بمنزلة البيوت في دار واحدة.
رجل له بيتان في دار يلي أحد البيتين الآخر، ولا طريق لهما في الدار ويلي أحد البيتين دار رجل، فباع صاحب البيتين البيتين لصاحب الدار أن يأخذهما جميعاً، ولو كان البيتان متفرقين أحدهما في ناحية من الدار والآخر في ناحية أخرى من الدار، ولا يلي أحدهما من الآخر فباع صاحب البيتين البيتين، فإن الشفعة للشفيع في البيت الذي يليه دون الآخر.
قال هشام أيضاً: سألت محمداً عن دار فيها بستان، وطريق البستان في هذه الدار ليس للبستان طريق آخر، على الدار والبستان حائط واحد محيط بهما، فباع الدار والبستان صاحبهما، قال: هما بمنزلة الدارين من يلي البستان، فله الشفعة في البستان دون الدار، ومن يلي الدار فله الشفعة في الدار دون البستان.
قال هشام أيضاً: سألت محمداً عن عشرة أقرحة متلازقة لرجل يلي واحد منها أرض إنسان، فبيع العشرة الأقرحة، فللشفيع أن يأخذ القراح الذي يليه، وليس له في بقيتها شفعة؛ لأن كل قراح على حدة، وإن لم يكن بينها طريق، وكذلك لو كانت قرية خالصة منها تلي أرض إنسان، فالشفيع يأخذ القراح الذي يليه.
إذا أراد الشفيع أن يأخذ بعض المشترى دون البعض يجب أن يعلم أن الروايات اتفقت عن أصحابنا رحمهم الله أن المشتري إذا كان واحداً والبائع واحداً، وقد اشترى الدار بصفقة واحدة أنه ليس للشفيع أن يأخذ البعض دون البعض دفعاً للضرر عن المشتري، يعني به ضرر عيب الشركة، وإن كان المشتري واحداً والبائع اثنان أو ثلاثة، وقد اشترى الدار صفقة واحدة، فليس للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين دون الآخر وإن كان المشتري اثنين أو ثلاثة والبائع واحد، فللشفيع (169أ3) أن يأخذ نصيب أحد المشتريين.
والفرق: أن المشتري إذا كان اثنين، فليس في أخذ نصيب أحدهما ضرر عيب الشركة لا على المشتري ولا على البائع، أما على المشتري؛ لأن الشفيع يأخذ تمام نصيبه، وأما على البائع؛ فلأن أحد النصيبين يصير للشفيع والنصف الأخر يبقى للمشتري الآخر، فأما إذا كان البائع والمشتري واحداً ففي أخذ الشفيع نصيب أحد البائعين ضرر عيب الشركة على المشتري في الباقي، وهذا بخلاف ما لو اشترى نصيب كل واحد منهم بصفقة على حدة كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، وإن كان يلحق المشتري ضرر عيب الشركة؛ لأنه رضي بهذا العيب حيث اشترى نصيب كل واحد منهم بصفقة على حدة.
قال القدوري في «شرحه» : وقد روي عنهم بخلاف هذا، فإنه روي عنهم أن البائع إذا كان اثنين، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين قبل القبض، وليس له أن يأخذ من المشتري نصيب أحدهما بعد القبض؛ لأن قبل القبض التملك، وقد أخذ جميع ما خرج(7/275)
عن ملكه، وبعد القبض التملك يقع على المشتري، فيلحقه ضرر عيب الشركة في الباقي.
وروي عنهم: أن المشتري إذا كان اثنين لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما قبل القبض؛ لأن التملك يقع على البائع، فتفرق عليه الصفقة، وله أن يأخذ نصيب أحدهما بعد القبض؛ لأن التملك يقع على المشتري، وقد أخذ منه جميع ملكه.
قال القدوري: وسواء سمى لكل نصف ثمناً أو كان الثمن جملة واحدة، فالعبرة لاتحاد الصفقة دون الثمن، وكذلك لو كان الشراء بوكالة، فوكل رجل رجلين، فاشتريا كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين، وإن كان الموكل رجلين والوكيل رجلاً واحداً لم يكن له أن يأخذ نصيب أحد الموكلين.
والحاصل: أن على ظاهر الرواية ينظر في مثل هذه المسائل إلى المشتري، فإن كان المشتري واحداً اشترى الدار لنفسه أو لجماعة بتوكيلهم إياه والبائع واحداً، أو قد اشترى بصفقة واحدة، فليس للشفيع إلا أن يأخذ الكل أو يدع الكل، ولو كان المشتري جماعة اشترط لأنفسهم ولواحد بتوكيل إياهم بصفقة واحدة أو متفرقة، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم.
وإذا كان المشتري واحد والبائع اثنان وطلب الشفيع نصيب أحدهما دون الأخر هل يكون على شفعته بما صنع؟ ذكر في آخر شفعة «الأصل» أنه على شفعته.
قال بعض مشايخنا: هذا الجواب محمول على ما إذا وجد منه طلب المواثبة وطلب الإشهاد في الكل، ثم أراد أن يأخذ نصيب أحدهما؛ لأن ترك طلب التمليك في النصف لا يربوا على تركه في الكل لا تبطل شفعته عند أبي حنيفة رحمه الله أصلالاً وعندهما إلى شهر، وهو المختار، ففي نصف أولى.
فأما إذا طلب المواثبة وطلب الإشهاد في النصف تبطل شفعته؛ لأنه اجتمع ما يوجب بطلان شفعته وما يمنع بطلانها؛ لأن طلب الشفعة في النصف طلب في الكل؛ لأنها لا تتجزأ فقد وجد الطلب في الكل من هذا الوجه، وإنه يوجب بقاء شفعته، وترك الطلب في النصف ترك الطلب في الكل؛ لأنها لا تتجزأ، وإنه يوجب بطلان شفعته في الكل، فكان حقه في الشفعة من القائم والساقط، فلا يصح للتملك، وإنه غير ثابت؛ لأن غير الثابت لا يثبت بالشك.
وقال بعضهم: هذا الجواب على إطلاقه، وإذا طلب طلب المواثبة والإشهاد في النصف لا تبطل شفعته؛ لأنه اجتمع ما يوجب بقاء شفعته وما يوجب بطلان شفعته، وإنها كانت ثابتة، فلا يبطل بالشك.
وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة شفيعهما واحد، فأراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر، فليس له ذلك، وكذلك لو كانت أرضين أو قرية وأرضها أو قريتين وأرضهما وهو شفيع ذلك كله، فإنما له أن يأخذ جميع ذلك أو يدعه، وسواء كانت الدار متلازقتين أو غير متلازقتين، في مصرين أو قريبتين بعد أن يكون ذلك صفقة واحدة.
في آخر شفعة «الكافي» : ونص على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في(7/276)
مثله مثل هذه المسألة في الشفعة للحسن بن زياد، وإن كان الشفيع شفيعها لإحدهما وقد وقع البيع صفقة واحدة ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يأخذ الدار التي هو شفيعها في ظاهر الرواية، وروى عن أبي حنيفة رواية شاذة أنه ليس له ذلك، إما أن يأخذهما أو يتركهما.u
وعلى هذه الرواية قال أبو حنيفة رحمه الله: لو اشترى المشتري الدار مع متاع فيها صفقة واحدة، فالشفيع يأخذ الدار مع المتاع أو يدع الكل، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولاً له أن يأخذهما جميعاً أو يدع، ثم رجع وقال: لا يأخذ واحدة منهما، ثم رجع وقال: يأخذ التي هو شفيعها خاصة، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وفي الشفعة للحسن بن زياد في مثل هذه المسألة: أن الشفيع يأخذ الكل أو يدع الكل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقد ذكرنا قول أبي يوسف في ابتداء الفصل في القراحين والبساتين، وذكرنا قولي محمد في الأقرحة والحوانيت والله أعلم.
الفصل الخامس: في الحكم بالشفعة والخصومة فيها
قال محمد رحمه الله: ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، وطلب أجلاً أجّله يومين أو ثلاثة ولم يقض له بالشفعة، وإن قضى بالشفعة نفذ قضاؤه، ولا ينقض حتى لو أبى الشفيع أن ينقد الثمن حبسه القاضي.
وفي «المنتقى» : قال هشام عن محمد رحمه الله: إذا قال الشفيع للقاضي: اقض لي بالشفعة ودعها على حالها من غير أن يسلم إلي حتى آتيك بالمال لم يفعل ذلك، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الشفعة أن القاضي يقضي بالشفعة، وإن لم يحضر الشفيع الثمن في قول أبي حنيفة الإمساك وأبي يوسف رحمهما الله، ويكون للمشتري حق الإمساك إلى أن يستوفي الثمن.
قال القدوري: وقد روى الحسن عن أبي حنيفة مثل قول محمد: أن القاضي لا يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، وإذا رفع الشفيع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يقضي له، فهذا على وجهين: إن كانت الدار في يد البائع، فالقاضي لا يسمع خصومته، ولا يقضي له بالشفعة إلا بحضرة البائع والمشتري؛ لأن اليد للبائع والملك للمشتري، فكان القضاء متعرضاً للحقين، فلا بد من حضرتهما، وإن كانت الدار في يد المشتري، فالخصم هو المشتري وحده يشترط حضرته، ولا يشترط حضرة (169ب3) البائع؛ لأنه ليس له ملك ولا يد، فكان كالأجنبي.
فإن أخذ الدار من المشتري، فعهدته وضمان ماله على المشتري.
وإن أخذها من البائع، فعهدته وضمان ماله على البائع عندنا؛ لأن بالأخذ من البائع ينفسخ العقد الذي جرى بين البائع والمشتري، ويقع التملك(7/277)
على البائع هو المذهب عند علمائنا رحمهم الله، ومعنى انتقاض البيع فيما بين البائع والمشتري الانتقاض في حق الإضافة إليه كان قول البائع للمشتري: بعت هذه الدار اتحاد البيع، وقوله منك إضافة إليه، وإذا أخذها الشفيع بالشفعة تقدم على المشتري، فصار ذلك البيع مضافاً إلى الشفيع بعد أن كان مضافاً إلى المشتري، وانتقضت الإضافة إلى المشتري.
ونظيره في المحسوسات من رمى سهماً إلى رجل، فتقدم عليه غيره وأصابه السهم، فالرمي في نفسه لم ينقطع، ولكن التوجيه إلى الأول قد انقطع بتخلل هذا الثاني.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله: أن المشتري إن كان نقد الثمن ولم يقبض الدار حتى قضى القاضي للشفيع بحضرتهما، فإنه يقبض الدار من البائع، وينقد الثمن للمشتري، وعهدته على المشتري، وإن كان لم ينقد الثمن دفع الشفيع الثمن إلى البائع وعهدته على البائع، فلو أن الشفيع في هذه الصورة وجد بالدار عيباً فردها على البائع أو على المشتري بقضاء القاضي، فأراد أن يأخذها بشرائه، وأراد البائع أن يردها على المشتري بحكم ذلك الشراء، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء تركها.
قال: من قبل القضاء الذي حدث للشفيع فيها، فإن أخذ الشفيع الدار من المشتري وأراد أن يكتب كتاباً على المشتري ليكون وثيقة للشفيع على المشترى له ذلك، ويحكى في الكتاب شراء المشتري أولاً ثم يرتب عليه الأخذ بالشفعة؛ لأن الشفعة إنما تثبت فيما ملك بجهة الشراء، فيحكى شراء المشتري أولاً ثم يرتب عليه الأخذ بالشفعة؛ لأن الشفعة إلي حتى لا ينكر المشتري ملكه من جهة بائعه بالشراء يوماً من الدهر، ويأخذ الشفيع من المشتري كتاب شرائه الذي كتب على بائعه، وإن أبى المشتري أن يدفع ذلك إليه فله ذلك؛ لأن الكاغده عنده ملك المشتري، ولكن ينبغي للشفيع أن يحتاط لنفسه، فيشهد قوماً على تسليم المشتري الدار إليه بالشفعة.
وإن كان الشفيع أخذ الدار من البائع يكتب كتاباً على البائع على نحو ما يكتب لواحده من المشتري، ويكتب في هذا الكتاب إقرار المشتري أنه سلم جميع ما في هذا الكتاب وأجازه وإقراره لاحق له في هذا الدار ولا في ثمنه.
وإذا وقع الشراء بسبب بثمن مؤجل إلى سنة مثلاً، فحضر الشفيع ويطلب الشفعة وأراد أخذها إلى ذلك الأجل، فليس له ذلك إلا برضا المأخوذ منه، إما أن ينقذ الثمن حالاً ويصبر حتى يحل الأجل، فإن نقد الثمن حالاً، وكان الآخذ من المشتري يبقى الأجل في حق المشتري على حاله حتى لا يكون للبائع ولاية مطالبة المشتري قبل محل الأجل، وإن صبر حتى حل الأجل فهو على شفعته، وهذا كله إذا كان الأجل معلوماً.
فأما إذا كان مجهولاً نحو الحصاد والدياس وأشباه ذلك، فقال الشفيع: أنا أعجل الثمن وآخذها لم يكن له ذلك؛ لأن الشراء بالأجل المجهول فاسد، وحق الشفيع لا يثبت في الشراء الفاسد.
في «المنتقى» : دار بيعت ولها شفيعان جاران، وأحدهما غائب، فخاصم الحاضر(7/278)
المشتري إلى قاضٍ لا يرى الشفعة بالجوار، فقال له: لا شفعة لك، أو قال: أبطلت شفعتك ثم قدم الشفيع الأخر وخاصم المشتري إلى قاض يرى الشفعة بالجوار، فإنه يقضي له بجميع الدار، وإن طلب الأول القضاء من هذا القاضي لا يقضي له بشيء؛ لأن قاضياً من القضاة قد أبطل حقه، فإن كان القاضي الأول قال للشفيع الأول: أبطلت شفعتك وقضيت بإبطال الشفعة في هذه الدار لكل جار، فإن هذا خطأ منه، وإنه قضاء على الغائب، فهو يجوز على ما يجوز عليه القضاء على الغائب.
وفيه أيضاً: رجل اشترى من آخر داراً بألف درهم، وباعها من رجل أخر بألفي درهم وسلمها، ثم حضر الشفيع وأراد أن يأخذ الدار بالبيع الأول.
قال أبو يوسف رحمه الله: يأخذها من الذي هي في يده، ويدفع إليه ألف درهم، ويقال له طلب صاحبك الذي باعك، فخذ منه ألفاً أخرى، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا حضر الشفيع وقد باع المشتري الدار وسلمها وغاب وأراد أن يأخذها الشفيع بالبيع الأول، فلا خصومة بينه وبين المشتري الآخر.
فالحاصل: أن الشفيع لو أراد أخذها بالبيع الأول يشترط حضرة المشتري الأول عند أبي حنيفة رحمه الله، وهو في قول محمد، وفي قول أبي يوسف: لا يشترط حضرته، وإن أراد أخذها بالبيع الثاني لا يشترط حضرة المشتري الأول بلا خلاف.
إذا قضى القاضي للشفيع بالشفعة وضرب له أجلاً، وقال: إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا شفعة لك، فلم يأت به بطلت شفعته، وكذلك إذا قال المشتري ذلك للشفيع، فإن جاء بالدنانير والثمن دراهم، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تبطل شفعته، وبعضهم توقف في الجواب، فيفتي أنه لا تبطل شفعته، وكذلك إذا قال الشفيع: إن لم أعطيك الثمن وقت كذا، فأنا بريء من الشفعة فهو صحيح، ويبطل حقه إن لم يعط الثمن إلى ذلك الوقت.
في «القدوري» : وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أن قول الشفيع: لا حق لي عند فلان براءة عن الشفعة.
رجل في يده دار جاء رجل وادعى صاحب اليد اشترى الدار من فلان، وأنا شفيعها وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً أودعها إياه قضى القاضي للشفيع بالشفعة؛ لأن صاحب اليد انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه وهو شراؤه هذه الدار من فلان وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثبات أن يده وديعة وإن كان الشفيع لم يدع الشراء على صاحب اليد إنما ادعاه على رجل.
وصورته: أن يقول لصاحب اليد: إن هذا الرجل وأشار إلى غير صاحب اليد اشترى هذه الدار من فلان بكذا وقبضها ونقد الثمن وأنا شفيعها، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينه أن فلاناً أودعها إياه فلا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب؛ لأن صاحب اليد هاهنا انتصب خصماً بحكم ظاهر اليد لا بدعوى الفعل عليه.
وفي مثل هذا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثباته أن يده وديعة، وإذا وقع(7/279)
الشراء بالجياد ونقد المشتري الزيوف فالشفيع يأخذ بالجياد؛ لأن الشفيع (170أ3) إنما يأخذ بما وقع الشراء به، والشراء وقع بالجياد.
في «واقعات الناطقي» : إذا وقع الشراء بما هو من ذوات الأمثال، فالشفيع يأخذ بمثله، وإذا وقع بما هو من ذوات القيمة، فالشفيع يأخذ بقيمة ذلك الشيء، ويعتبر قيمة ذلك الشيء وقت الشراء لا وقت الأخذ بالشفعة.
الفصل السادس: في الدار إذا بيعت ولها شفعاء
إذا كان للدار شفيعان فسلم أحدهما، فإن كان قبل قضاء القاضي بالشفعة بينهما نصفان أخذ الآخر كل الدار، وترك ليس له غير ذلك، يجب أن يعلم بالشفعاء إذا اجتمعوا فحق كل واحد قبل الاستيفاء والقضاء ثابت في جميع الدار، حتى أنه إذا كان للدار شفيعان سلم أحدهما الشفعة قبل الأخذ وقبل القضاء كان للآخر أن يأخذ الكل؛ لأن قبل الاستيفاء القضاء وجد في حق كل واحد منهما بسبب ثبوت حق الشفعة في كل الدار، وأمكن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما ليس إلا الجمع بين حقين في عين واحد كلاً لفائدة أن أحدهما متى ترك أخذ الآخر الكل، وهذا جائز كما لو رهن.... من رجلين، فإنه يصير راهناً كل العين من كل واحد منها بجميع دينه حتى لو قضى دين أحدهما كان للآخر أن يحبس الكل بدينه، وبعد الاستيفاء أو بعد القضاء يبطل حق واحد منها عما قضى لصاحبه حتى إنه إذا كان للدار شفيعان، وقضى القاضي بالدار بينهما، ثم أسلم أحدهما نصيبه لم يكن للآخر أن يأخذ الجميع؛ وهذا لأن القاضي لما قضى بالدار بينهما صار كل واحد منهما مقضياً عليه من جهة صاحبه فيما قضى به لصاحبه، فبطل شفعته فيما قضى به لصاحبه ضرورةً إذا كان بعض الشفعاء أقوى من البعض بقضاء القاضي بالشفعة بطل حق الضعيف حتى أنه إذا اجتمع الشريك والجار وسلم الشريك الشفعة، قبل القضاء له كان للجار أن يأخذ بالشفعة.
ولو قضى القاضي بالدار للشريك ثم سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة للجار، وإذا حضر بعض الشفعاء وغاب البعض، فللشفيع الحاضر أن يأخذ كل الدار؛ لأن حق الحاضر في كل الدار ثابت بصفة التأكيد؛ لأن تأكد الشفعة بالطلب وقد وجد الطلب من الشفيع الحاضر، وحق الغائب لم يتأكد بعد، والحق المتأكد لا يؤخر لحق غير متأكد، ومتى وقع الاستيفاء من الحاضرين، فإنما يبطل من الغائب ما كان يبطل لو كان حاضراً، أما الزيادة فلا.
حتى أنه إذا كان للدار شفيعان أحدهما حاضر، والآخر غائب وقضى القاضي للحاضر بكل الدار كان له أن يأخذ النصف، وإذا جعل بعض الشفعاء نصيبه(7/280)
لبعض لم يصح الجعل ويسقط حقه، وقسمت على عدد من بقي؛ لأن نقل الحق في الشفعة لا يستقيم لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولكن يسقط حقه بدلالة الإعراض فيقع حق الباقين.
وإذا قضى القاضي للحاضر بكل الدار، ثم حضر آخر وقضى له بالنصف، ثم حضر آخر قضي له بثلث ما في يد كل واحد منهما حتى يستويا لهما، فإن قال الذي قضي له بكل الدار أولاً للثاني: أنا أسلم لك الكل، فإما أن يأخذ الكل أو يدع فليس له ذلك، وللثاني أن يأخذ النصف، هكذا ذكره «القدوري» .
ولو كان الشفيع الحاضر يأخذ الدار من المشتري بالشفعة ولكن اشترى الدار منه ثم حضر الغائب، فإن شاء أخذ الدار كلها بالبيع الأول، وإن شاء أخذ كلها بالبيع الثاني، أما بالبيع الأول، فلأن الحاضر أسقط حقه في الشفعة لما أقدم على الشراء وخرج من البين، فكان للآخر أن يأخذ الكل، وأما بالبيع الثاني، فلأن الشريك المشتري أعرض عن الشفعة حيث أقدم على الشراء، ومع الإعراض لا يثبت له حق الشفعة، فخرج هو من البين، فكان للآخر أن يأخذ الكل.
وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن حق الشفعة في البيع الثاني، إنما يثبت بعد تمام البيع الثاني فلا يبطل بالإعراض قبله، والجواب هو معرض بالشراء الثاني، فلا يثبت له بسبب هذا الحق مع تضمن هذا الشراء الإعراض.
بخلاف الشفيع إذا اشترى ابتداء؛ لأن شراء لم يتضمن إعراضاً؛ لأنه مقبل على التملك، وهو معنى الأخذ بالشفعة.
ولو كان المشتري الأول شفيعاً للدار فاشتراها الشفيع الحاضر منه، ثم قدم الغائب، فإن شاء أخذ نصف الدار بالبيع الأول، وإن شاء أخذ الكل بالبيع الثاني؛ لأن المشتري الأول يثبت له حق قبل الشراء حتى يكون شراؤه معرضاً عنه، فبقي هو شفيعها في البيع الأول، فلا يكون للغائب بسبب البيع الأول إلا النصف، وأما العقد الثاني فقد ثبت للشفيع الحاضر حق الشفعة بسبب الأول، فإذا اشترى سقط حقه عن البيع الأول، ولم يتعلق بعقده حق مع كونه معرضاً، فكان للغائب أن يأخذ الكل بالبيع الثاني.
الفصل السابع: في إنكار المشتري حق الشفيع وما يتصل به
في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً عن الشفيع إذا طلب الشفعة بدار في يديه يزعم أنها له، فقال المشتري: ليست هذه الدار لك، قال: فأخبرني أن أبا حنيفة كان يقول: على الشفيع البينة يعني القاضي لا يقضي للشفيع بالشفعة ما لم يقم البينة أن الدار التي في يديه داره، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان في يديه، فله الشفعة بها.
قال هشام: قلت لمحمد: ما قولك، قال: القياس ما قاله أبو حنيفة.
وفي «الأجناس» : بين كيفية الشهادة، فقال: ينبغي أن يشهدوا هذه الدار التي بجوار(7/281)
الدار المبيعه ملك هذا الشفيع أن يشتري هذا المشتري هذه الدار، وهي له إلى هذه الساعة لا يعلمها خرجت عن ملكه.
ولو قال: إن هذه الدار لهذا الجار لا يكفي، وفي «الحاوي» : لو شهدا أن الشفيع كان اشترى هذه الدار من فلان وهي في يديه أو وهبها وقبضها، فذلك يكفي، فلو أراد الشفيع أن يحلف المشتري بالله فله ذلك.
ذكر في «واقعات الناطفي» ؛ لأنه يدعي معنىً لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف.
بعد هذا قال محمد رحمه الله: يحلف على الثبات، وقال أبو يوسف: يحلف على العلم بالله ما يعلم أن هذه الدار ملك هذا؛ لأن هذا يختلف على ملكية دار ليست في يديه، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «المنتقى» أيضاً.
ابن سماعة عن أبي يوسف: في رجل في يديه دار أقام رجل بينه أن هذه كانت في يد والده، وأن والده مات، وهذه الدار في يديه، قال: اجعلها للذي أقام البينة، فإن جاء بطلب الشفعة (170ب3) دار إلى جنبه لم أقض له بالشفعة حتى يقيم البينة على ذلك.
في آخر الباب الأول في «المنتقى» : دار في يدي رجل أقر أنها لأخر فبيعت إلى جنبها دار وجاء المقر له بطلب الشفعة بإقراره الذي أقر له بها فلا شفعة له فيها حتى يقيم البينة أن الدار داره.
وفي الباب الثالث منه رجل اشترى داراً ولها شفيع فأقر الشفيع أن داره التي بها الشفعة لأخر، فإن كان سكت عن الشفعة، ولم يطلبها بعد فلا شفعة للمقر له، وإن كان طلب الشفعة فللمقر له الشفعة؛ لأن في الوجه الأول الشفيع يريد أن يوجب بإقراره حقاً لم يكن ولا كذلك في الوجه الثاني، وقد ذكرنا في الفصول المتقدمة أن الشريك فيما تحت الحائط من الأرض أولى بشفعة بقية الدار والجار، فإن كان صاحب الدار أقر أن الحائط بينه وبين هذا الرجل لم أجعل له بهذا شفعة بمنزلة دار في يدي رجل أقر أنها لأخر، فإنه لا يستحق المقر له بهذا الإقرار الشفعة كذا هاهنا، وذكر الخصاف في إسقاط الشفعة أن البائع إذا أقر بسهم من الدار للمشتري ثم باع منه بقية الدار فالجار لا يستحق الشفعة؛ لأن المشتري شريك بالسهم المقر له به، وكان أبو بكر الخوارزمي يخطئ الخصاف في هذا ويفتي بوجوب الشفعة للجار؛ لأن الشركة لا تثبت إلا بإقراره وكان يستدل بمسألة الحائط.
الفصل الثامن: في تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع
إذا تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع بأن اشترى داراً أو أرضاً وبنى فيها بناءً أو غرس عرساً، ثم حضر الشفيع وطلب الشفعة أمر المشتري برفع بنائه وغرسه وتسليم الساحة للمشتري، وروى أبو يوسف: أنه يخير بين أن يأخذ بالثمن(7/282)
وقيمة البناء والغرس الذي أخذه أو تركه.
ووجه ظاهر الرواية: أنه بنى في محل تعلق به حق الغير ولم يبطل حقه بتصرفه فكان له أن ينقصه كالمشتري إذا باع من غيره أكثر ما فيه أن في نقض البناء ضرر للمشتري إلا أن المشتري هو الذي أضر بنفسه حيث بنى على محل تعلق به حق الغير.
وعلى هذا إذا اشترى داراً وصفها بأشباه كثيرة ثم جاؤوا الشفيع، فهو بالخيار إن شاء أخذها بالشفعة وأعطاه ما زاد فيها، وإن شاء ترك.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : وفيه نظر، فإن المشتري إذا بنى في الدار المشفوعة بناء كان للشفيع أن ينقض البناء ولا يأخذ الدار ولا يعطيه ما زاد فيها.
قيل: إن كان المذكور في «العيون» عن محمد فدعوى النظر صحيح، وإن كان عن أبي يوسف فدعوى النظر لا يصح، فإن الجواب في مسألة البناء على إحدى الروايتين عن أبي يوسف هكذا.
وقيل: يجوز أن يفرق محمد رحمه الله من البناء وبين الصنع؛ لأن البناء إذا أنقض لا يلحق المشتري كثير ضرر؛ لأنه يسلم النقض ولا كذلك إذا نقص الصبغ.
وإذا اشترى الرجل داراً وهدم بنائها أو هدمها أجنبي أو انهدم بنفسه، ثم جاء الشفيع قسم الثمن على قيمة البناء وعلى قيمة الأرض فما أصاب الأرض أخذها الشفيع بذلك يعني المسألة إذا انهدم البناء وبقي النقض على حاله؛ وهذا لأن حق الشفيع ثابت في البناء بيعاً وقد بطل ذلك الحق عن البناء بالهدم والانهدام؛ لأنه صار نقلياً فمتى قلنا: أن الشفيع يأخذ الأرض بجميع الثمن يبقى بعض المبيع في يد المشتري بلا ثمن، وهذا لا يجوز إلا أنه إذا انهدم بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي يقسم الثمن على قيمة البناء.
وإذا انهدم بنفسه يقسم الثمن على قيمته مهدوماً؛ لأن بالهدم دخل في ضمان الهادم، فيعتبر القيمة على الوصف الذي دخل في ضمانه وبالانهدام لم يدخل في ضمان أحد فيعتبر قيمته على حاله التي هو عليه مهدوماً علي حتى أنه إذا كان قيمة الساحة خمسمائة وقيمة البناء خمسمائة فانهدم البناء وبقي النقض وهو يساوي ثلاثمائة، فالثمن يقسم على قيمة الساحة خمسمائة، وعلى قيمة النقض ثلاثمائة أثماناً فيأخذ الشفيع الساحة بخمسة أثمان الثمن.
ولو احترق البناء أو ذهب به السيل ولم يبق غير ثمن النقض يأخذ الشفيع الساحة بجميع الثمن؛ لأنه لم يبقى في يد المشتري شيء له ثمن ولو استحق البناء أخذ الشفيع ما بقي بحصته من الثمن بخلاف ما لو احترق البناء أو ذهب به السيل ولو لم يهدم المشتري البناء، ولكن باعه من غيره من غير أرض ثم حضر الشفيع، فله أن ينقض البيع ويأخذ الكل؛ لأنه ما دام متصلاً فحق الشفيع متعلق به فكان له إبطال تصرف المشتري.
وكذلك النبات والنخيل في الأرض والتمر في النخيل المجود وقت البيع كل ما لم يزائل الأرض فالشفيع أولى به بالثمن الأول وما زائل الأرض بفعل المشتري أو بفعل أجنبي يقسم الثمن على قيمته صحيحاً وعلى قيمة الأرض، وإن زائل الأرض لا بفعل أحد(7/283)
ولم يهلك يعتبر قيمته ساقطاً، وإن هلك الثمن من غير صنع أحد ولم يبق منه شيء سقط حصته من الثمن بخلاف البناء؛ لأن الثمر مبيع مقصود، ألا ترى أنه لا يدخل في البيع إلا بتسمية فيثبت له الحصة لا محالة.
أما البناء بيع فلا يثبت له الحصة أبداً إذا صار وجعل الدار المشتراة مسجداً أو مقبرة، ثم حضر الشفيع قضى له بالشفعة وله أن ينقض المسجد وينبش الموتى يجب أن يعلم أن تصرف المشتري في الدار المشفوعة صحيح إلى أن يحكم الحاكم بالشفعة للشفيع، وله أن يؤاجر ويطلب له الثمن والأجر، وكذا له أن يهدم وما أشبه ذلك من التصرفات؛ لأن نفاذ التصرف وإطلاقه يعتمد الملك، وإنه ثابت للمشتري والثابت للشفيع حق الأخذ لاحق في المحل أصلاً فلهذا يجوز تصرفاته ويطلق فيها غير أن للشفيع أن ينقض كل تصرف إلا القبض وما كان من تمام القبض.
ألا ترى أن الشفيع لو أراد أن ينقض قبض المشتري ليعيد الدار إلى البائع ويأخذ منه لا يكون له ذلك، وكذلك لا يملك نقض قسمة المشتري حتى أن من اشترى نصف دار غير مقسومة وقاسم المشتري البائع، ثم حضر الشفيع ليس له أن ينقض قسيمه سواء كانت القسمة بحكم أو بغير حكم؛ لأن القسمة من تمام القبض لما عرف أن قبض المشاع فيما يحتمل القسمة قبض ما قبض.l
وذكر في «واقعات الناطقي» : أن القسمة إذا كانت بحكم ففي بعض القسمة عن أبي حنيفة روايتان.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : والمختار أنه لا ينقض، وإنما جاء الفرق بين القسمة والقبض وسائر التصرفات؛ لأنه ليس في القبض والقسمة إبطال حق الشفيع في الأخذ (171أ3) بمثل الثمن الأول من المشتري الأول إلا بعد إعادته إلى ملكه ولا يمكن إعادته إلى ملك المشتري الأول ولا ينقض تصرفاته.
ذكر «القدوري» : في «شرحه» ، روى عن أبي حنيفة: أن الشفيع إنما يأخذ النصف الذي أصاب المشتري إذا وقع في جانب الدار المشفوع بها؛ لأنه إذا وقع في غير جانبه وليس له نقض القسمة لا يكون جاراً فلا يستحق الشفعة.
وفي «القدوري» : الدار إذا كانت مشتركة بين رجلين باع أحدهما نصيبه من رجل وقاسم المشتري الشريك الذي لم يبع، ثم حضر الشفيع فله أن ينقض القسمة.
في «العيون» : رجلان اشتريا داراً وهما شفيعان ولها شفيع ثالث فاقتسماها، ثم جاء الثالث فله أن ينقض القسمة اقتسماها بقضاء أو بغير قضاء.
في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى أرضاً قيمتها مائة بمائة فرفع منها التراب وباعها بمائة، ثم جاء الشفيع وطلب الشفعة وأخذ الأرض بنصف المائة وهو خمسون؛ لأن الثمن يقسم على قيمة الأرض قبل رفع التراب وعلى قيمة التراب الذي باعه وقيمتها سواء فيقسم الثمن عليهما نصفان، ولو كيس المشتري الأرض وأراد إعادتها على ما كانت عليه قبل أن يحضر الشفيع ثم حضر، فقال للمشتري: ارفع عنها ما أحدثت؛ لأن ذلك(7/284)
المشتري ثم الجواب كما وصفنا من قبل. وفي «الكيسانيات» : يمنع المشتري عن هدم البناء وحفر البئر ونحوه في «القدوري» .
لو باع نصف دار من رجل ليس بشفيع وقاسمه بأمر القاضي ثم قدم الشفيع ونصيب البائع بين دار الشفيع وبين نصيب المشتري، فإن هذا لا يبطل شفعة الشفيع؛ لأن القسمة تصرف من المشتري فلا يبطل بها حق الشفيع، ولو كان البائع باع نصيبه بعد القسمة قبل طلب الشفيع الشفعة الأولى؛ ثم طلب الشفيع، فإن قضى بالأخير جعلنا بينهما يعني بين الشفيع وبين المشتري الأول؛ لأنهما جاران لهذه البقعة، وقضى بالأولى للمشتري الأول وإن بدأ فقضى بالأولى للشفيع قضى بالأخيرة له أيضاً؛ لأنه لم يبق للمشتري الأول حق يأخذ به الشفعة.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل داراً بألف، وباعها لرجل بألفين فعلم الشفيع بالبيع الثاني ولم يعلم بالبيع الأول فخاصم فيها وأخذها بالشفعة الثاني بحكم أو بغير حكم، ثم علم بالبيع الأول ليس له أن ينقض أخذه الأول وقد بطلت شفعته في البيع الأول، وكذلك لو باعها صاحبها من رجل بألف درهم، ثم إن المشتري ناقضه البيع فيها وردها، ثم إن البيع اشتراها من ربها بالغبن وهو لا يعلم ببيعه إياها قبل ذلك، ثم علم به لم يكن له أن ينقض شراءه في الأصل.
اشترى الرجل دار فهدم بناؤها، ثم بنى فأعظم الذي كان فيها يوم اشتراها فما أصاب البناء يسقط عن الشفيع وما أصاب العرصة يأخذها وينقض بناء المشتري الذي أخذت فيها، وهذا جواب ظاهر الرواية، وعلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله على ما بينا في ابتداء هذا الفصل لا ينقض بناء المشتري، ولكن يقوم قيمة ما بناه المشتري إن شاء ترك.
الفصل التاسع: في تسليم الشفعة
تسليم الشفعة قبل البيع لا يصح وبعده صحيح علم الشفيع بوجوب الشفعة أو لم يعلم؛ وعلم من أسقط إليه هذا الحق أو لم يعلم؛ لأن تسليم الشفعة إسقاط حق، ألا ترى أنه يصح من غير قبول ولا يزيد بالرد وإسقاط الحق يعتمد وجوب الحق أما لا يعتمد علم المسقط ولا علم المسقط إليه كالعتاق والطلاق ثم تسليم الشفعة لا تخلو من ثلاثة أوجه: التسليم والمال لا يجب؛ لأن هذا اعتياض عن حق التملك؛ لأنه لا حق للشفيع في الدار، وإنما له الحق أن يأخذ الدار والاعتياض عن مجرد حق التملك لا يجوز؛ ولأن حق الشفعة أو مرفرف بخلاف القياس فلا يظهر ثبوته في حق جواز الاعتياض عنه، وإما أن يسلم الشفعة على أن يأخذ نصفاً أو ثلثاً منها، وفي هذا الوجه التسليم جائز وهذا ظاهر والأخذ جائز أيضاً؛ لأنه أشياء معلومة من الدار وهو النصف أو الثلث بثمن معلوم؛(7/285)
لأن ثمن نصف الدار أو ثلثه معلوم يتعين، ويكون أحد هذا النصف بحكم الشفعة لا بحكم شراء مبتدء بدليل ما ذكر في «الكتاب» .
وكان لهذه الدار جار أخذ الجار منه نصف هذا النصف ولو كان هذا تسليماً في كل الدار واحداً للنصف أو الثلث بشراء مبتدء لكان الجار أولى بكل هذا النصف، وأما إن سلم الشفعة على أن يأخذ من الدار بيتاً بعينه.
وفي هذا الوجه الصلح باطل، وله أن يأخذ جميع الدار بعد ذلك أو يدع؛ لأن الأخذ حصل بثمن مجهول؛ لأنه إنما يعرف ثمن بيت منها بعينه بالحرز والظن بأن يقسم الثمن على قيمة البيت وعلى قيمة ما في الدار والناس يتفاوتون في ذلك.
فإن قيل: أليس لو اشترى داراً بعبد فالشفيع يأخذ الدار بقيمة العبد وقيمة العبد يعرف بالحرز والظن.
قلنا قضية القياس: أن لا توجد الدار بقيمة العبد إلا أنا تركنا القياس لضرورة؛ لأن بيع الدار بالعبد وقد صح؛ لأنه بيع ما هو معلوم بثمن معلوم، وإذا صح البيع وجبت الشفعة ولا يمكن الأخذ إلا بقيمة العبد أو وجب الأخذ بالقيمة لهذه الضرورة مثل هذه الصورة لا يتأتى هاهنا؛ لأن أخذ البيت بثمن معلوم ممكن للشفيع، وليس إذا سقط اعتبار الحالة لضرورة ما يدل على أنه يسقط اعتبارها لغير ضرورة.
وإذا بطل التسليم وكان الشفيع على شفعة فرق بيت هذا وبينما إذا سلم الشفعة على مال أخر حتى لا يجب المال كان التسليم جائز، وهاهنا قال: التسليم لا يصح والعرض المسمى لم يسلم للشفيع في المسألتين.
والفرق: أن تسليم الشفعة على مال آخر لا يجوز له بحال فكان ذكر المال ولا ذكره بمنزلة، ولو سلم الشفعة ولم يذكر مالاً صح التسليم كذا هاهنا، أما تسليم البعض وأخذ البعض جاز بحال وهو أن يكون بدل المأخوذ معلوماً فلا يصير ذكر العوض ولا ذكره سواء فيجب اعتبار العوض، فإذا لم يسلم العوض يبقى على حقه، وإذا وهب الشفيع الشفعة أو باعها من إنسان لا يكون تسليماً هكذا ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» ؛ لأن البينة لم تصادف محله أصلاً فليغى.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الشفعة قبيل باب الشهادة: إذا باع الشفعة كان ذلك تسليماً للشفعة ولا يحب المال علل فقال حق الشفعة لا يحتمل البيع؛ لأن البيع تمليك وحق (171ب3) الشفعة لا قبل التمليك، فيصير كلامه عبارة عن الإسقاط مجازاً.
كبيع الزوج زوجته من نفسها وهو الصحيح، وقد ذكر محمد رحمه الله في شفعة «الجامع» وما يدل عليه، وسيأتي ذلك بعد هذا في الصحيفة التي تلي هذه الصحيفة إن شاء الله.
إذا سلم الشفيع الشفعة ثم زاد البائع بعد ذلك في المبيع عبداً أو أمة كان للشفيع أن يأخذ الدار بحصتها من الثمن؛ لأن الزيادة ملتحق بأصل العقد، فتبين أن حصة الدار من الثمن أقل مما علم الشفيع في الباب الأول من شفعة «الواقعات» .(7/286)
وفي هذا الباب أيضاً: إذا سلم الشفيع الشفعة ثم حط البائع من الثمن شيئاً فله الشفعة؛ لأن الحط ملتحق بأصل العقد فصار كما لو أخبر بالبيع بألف فسلم، فإذا البيع بألف فسلم، فإذا البيع بخمسمائة إذا قال الشفيع: سلمت شفعة هذه الدار، كان تسليماً صحيحاً، وإن لم يعين أحداً، وكذلك لو قال للبائع: سلمت لك شفعة هذه الدار، والدار في يد البائع ولو قال ذلك للبائع بعد ما سلم الدار إلى المشتري لا يصح التسليم قياساً؛ لأن قبل التسليم إلى المشتري لا يصح التسليم قياساً؛ ولأن قبل التسليم إلى المشتري إنما صح تسليم الشفعة للبائع؛ لأن للشفيع حق أخذ الشفعة من البائع، هذا المعنى لا يتأتى بعد التسليم إلى المشتري.
وفي الاستحسان: يصح التسليم ويكون معنى قوله للبائع: سلمت لك سلمت لك ولأجلك، وكذلك إذا كان المشتري وكيلاً من جهة غيره بشراء الدار، فقال الشفيع: سلمت شفعة هذه الدار ولم يعين أحداً كان تسليماً صحيحاً.
وكذلك لو قال للوكيل: سلمت لك شفعة هذه الدار والدار في يد الوكيل صح التسليم استحساناً؛ لأن الوكيل بالشراء في حق الحقوق كالمشتري لنفسه ثم كالبائع من موكله، ولو سلم الشفيع الشفعة للبائع، كان الجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا كذا هاهنا، إذا قال أجنبي لشفيع الدار: سلم شفعة هذه الدار للآمر أو قال: لهذا المشتري فقال المشتري الشفيع: سلمتها لك، أو قال: وهبتها لك، أو قال: أعرضت عنها لك، كان هذا تسليماً صحيحاً للآمر، وللمشتري استحساناً؛ لأن كلام الشفيع خرج على وجه الجواب، فيتضمن إعادة ما في السؤال، وصار تقدير كلام الشفيع سلمتها للآمر وسلمتها لهذا المشتري.
وقوله لك: معناه لأجلك، ولسبيلك بخلاف، ما لو قال الشفيع: ذلك الأجنبي ابتداء، حيث لا يكون تسليماً؛ لأنه لا يمكن أن يجعل ذلك تسليماً للآمر ليصح إسقاطا، فلو صح صح تمليكاً من الأجنبي، ولا وجه إليه ثم في الفصل الأول ذكر من جملة ألفاظ الشفيع وهبتها لك وذكر أنه تسليم للشفعة فتصير هذه المسألة حجة لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله في مسألة بيع الشفيع الشفعة التي يقدم ذكرها إذا قال أجنبي: صالحتك على كذا على أن تسلم الشفعة فسلم كان التسليم صحيحاً، ولا يحب المال ولو قال: صالحتك على كذا على أن تكون الشفعة لي، كان الصلح باطلاً، فهو على شفعته.
والفرق: أن في المسألة الأولى، الشفيع سلم الشفعة صريحاً بالمال، وتسليم الشفعة بالمال صحيح، وإن لم يجب المال، وفي هذه المسألة ما سلم الشفعة بل أقام الشفيع مقام نفسه في الشفعة، وإنما يقوم الأجنبي مقامه في الشفعة إذا هي له الشفعة، إذا قال البائع: سلمت لك بيع هذه الدار، أو قال للمشتري: سلمت لك شراء هذه الدار فهو تسليم صحيح؛ لأن تسليمه ينصرف إلى ما هو حقه؛ لأن ما ليس بحق له فهو مسلم للبائع والمشتري بدون تسليمه، وحقه في هذا البيع والشراء الشفعة، وصار تقدير كلامه: سلمت لك شفعة هذه الدار، وإذا كان المشتري وكيلاً عن غيره بالشراء فقال له الشفيع: سلمت(7/287)
لك شفعة هذه الدار خاصة دون غيرك، كان هذا تسليماً صحيحاً للأمر، ولو قال: سلمتها لك إن كنت اشتريتها لنفسك، لا يكون تسليماً.
وكذلك لو قال الشفيع للبائع: سلمت الشفعة لك إن كنت بعتها من فلان لنفسك، وكان باعها لغيره لم يكن ذلك تسليماً، هذه الجملة من الباب الأول من شفعة «الجامع» .
في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا قال الشفيع للمشتري: سلمت لك شفعة هذه الدار، فإذا قد اشتراها لغيره فهو على شفعته؛ لأنه رضي بالتسليم إليه لا إلى الموكل.
وفي «فتاوى الفضيل» : أن هذا تسليم للآمر والمختار المذكور في «فتاوي أبي الليث» ، هكذا ذكر الصدر الشهيد.
وفي «الحاوي» «الهاروني» : إذا قال المشتري: اشتريتها لنفسي فسلم الشفيع الشفعة، ثم ظهر أنه اشتراها لغيره، قال محمد رحمه الله: تبطل شفعته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تبطل.
الفصل العاشر: في الشفيع
إذا أخبر بالبيع فسلم ثم علم أن البيع كان بخلافه إذا أخبر الشفيع أن المشتري فلان فسلم الشفعة، فإذا المشتري غيره فهو على شفعته؛ لأنه رضي بجوار شخص معين، فلا يكون راضياً بجوار غيره؛ ولأنه سلم شفعته عقد لم يعقد بعد؛ لأنه سلم شفعة زيد، وزيد لم يعقد فلم يصح تسليمه، ولو كان المشتري فلاناً ومعه غيره بطلت شفعته في نصيب الذي سلم وأخذ نصيب غيره.
ألا ترى أنه لو سلم وكان عالماً بالشريك الأخر لم يكن تسليماً للشريك الأخر، فإذا سلم يعلم أولى، ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم، فإذا الثمن أقل من ذلك فهو على شفعته، ولو كان الثمن ألف أو أكثر، فلا شفعة له؛ لأن الرضا بالتسليم بألف لا يكون رضاً بالتسليم بخمسمائة، أما الرضا بالتسليم بألف رضي بالتسليم بأكثر من الألف، ولو أخبر أن الثمن شيء مما يكال أو يوزن فسلم الشفعة، فإذا الثمن صنفٌ آخر مما يكال أو يوزن، فهو على شفعته على كل حال، سواء كان ما ظهر مثل ما أخبره، أو أقل، أو أكثر من حيث القيمة؛ لأن الشراء إذا وقع بالمكيل أو الموزون فالشفيع يأخذ بمثله من جنسه، لا بالقيمة وقد تيسر على الإنسان إذا حبس، ويتعسر عليه إذا حبس أخر، ولو أخبر أن الثمن شيء من ذوات القيم فيسلم، ثم ظهر أنه كان مكيلاً أو موزوناً فهو على شفعته.
هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» ، فعلى هذا القياس: لو أخبر أن الثمن ألف درهم فإذا ظهر أنه مكيل أو موزون فهو على شفعته على كل حال، ولو أخبر أن الثمن عبد.
فجواب محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه على شفعته من غير فصل قال شيخ(7/288)
الإسلام: هذا الجواب صحيح فيما إذا كان قيمة ما ظهر مثل قيمة ما أخبر أو أكثر؛ لأن الثمن إذا كان من ذوات القيم، فالشفيع إنما يأخذ الدار بقيمة الثمن دراهم أو دنانير، فكأن أخبر أن الثمن ألف درهم أو مائة دنانير فسلم ثم ظهر أن الثمن مثل ما أخبر به (172أ3) أكثر، وهناك كان التسليم صحيحاً، ولا شفعة له، ولو ظهر أنه أقل مما أخبر كان على شفعته كذا هاهنا.
ولو أخبر أن الثمن عبد قيمته ألف درهم أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي هي من ذوات القيم، ثم ظهر أن الثمن دراهم أو دنانير، فجواب محمد رحمه الله: أنه على شفعته من غير فصل بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: هذا الجواب محمول على ما إذا كان ما ظهر كان أقل من قيمة ما أخبر، أما إذا كان مثل قيمة ما أخبر أو أكثر، فلا شفعة له.
ومنهم من قال: هذا الجواب صحيح على الإطلاق، بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأنه وإن كان يأخذ بالقيمة، فقد يصير مغبوناً في ذلك؛ لأن تقويم الشيء بالظن يكون قائماً سلمه حتى لا يصير مغبوناً، ولهذا المعنى ينعدم إذا كان الثمن دراهم، ولو أخبر أن الثمن عبد قيمته ألف وظهر أن قيمته أقل من الألف فله الشفعة، وإن ظهر أن قيمته ألف أو أكثر فلا شفعة.
ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم ثم ظهر أن الثمن شيء هو من ذوات القيم فلا شفعة له، إلا إذا كان قيمة الثمن أقل من ألف درهم، هكذا ذكر في «شرح القدوري» وهذه المسألة يؤيد قول المشايخ: فيما إذا أخبر أن الثمن شيء هو من ذوات القيم، فإذا هو من ذوات القيم ولكن من صنف آخر، ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم، فإذاً الثمن مائة دينار، فلا شفعة له، إلا أن يكون قيمة الدينار ألف من الألف، هكذا ذكر القدوري في كتابه.
وجعل الجواب فيه كالجواب فيما إذا ظهر أن الثمن دراهم.
قال شيخ الإسلام في «شرحه» : وهو قول أبي يوسف رحمه الله وروي عن زفر: أنه على شفعته على كل حال، وهو قول أبي حنيفة، وجعل الجواب فيه كالجواب في الحنطة والشعير، قالوا: ما ذكره أبو حنيفة وزفر قياس، وما ذكره أبو يوسف استحسان.
وجه قول أبي يوسف: إن الدراهم والدنانير اعتبرا جنساً واحداً في أكثر الإيجابات، حتى يكمل نصاب أحدهما بالأخر، والمكره على البيع بالدراهم مكره على البيع بالدنانير.
وإذا باع شيئاً بالدراهم ثم اشتراه بأقل مما باع بالدنانير لا يجوز كما لو اشترى بالدراهم ورب الدين إذا ظفر بدنانير المديون وحقه في الدراهم، له أن يأخذ ومال المضارب إذا صار دنانير عمل نهى رب المال فيه.
كما لو صار دراهم، وإنما اعتبرا جنسين في حق الربا، حتى جاز بيع أحدهما بالأخر متفاضلاً، وفي حق الإجارة حتى إذا استأجر بعشرة ثم أجر بدينار طاب له، وإن كان قيمة الدينار أكثر من عشرة دراهم، كما لو أجره بشعير وقد استأجره بحنطة فيمزج ما(7/289)
يوجب المجانسة بحكم الكثرة، فكان التسليم بالدراهم تسليماً بالدنانير، إذا كانت قيمة الدنانير مثل الدراهم أو أكثر.
وأبو حنيفة يقول: الدراهم والدنانير اعتبرا جنسين مختلفين في الإخبار، حتى أن الإكراه على الإقرار بالدراهم لا يكون إكراهاً على الإقرار بالدنانير، وفي بعض الإيجاب اعتبرا جنساً واحداً وفي الإخبار اعتبرا جنسين مختلفين.
وفي مسألتنا: إخبار وإيجاب؛ لأن تسليم الشفعة إن كان إيجاباً إلا أن التسليم بناء على الأخبار؛ لأنه أخبر أن الثمن كذا، فإذا في أحد النوعين، فهو الإخبار اعتبرا جنسين مختلفين، وفي النوع الأخر وهو الإيجاب اعتبرا جنسين مختلفين في حق بعض الأحكام، فتمزج ما يوجب اختلاف الجنسين، فصار كالحنطة مع الشعير، ولو أخبر بشراء نصف الدار فسلم، ثم ظهر أن المشتري اشترى الكل فسلم، ثم ظهر أن المشتري اشترى النصف فلا شفعة له.
قال شيخ الإسلام في «شرحه» : هذا الجواب محمول على ما إذا كان ثمن النصف مثل ثمن الكل، فإن أخبر أنه اشترى الكل بألف، فإذا ظهر أنه اشترى النصف بألف، فأما إذا أخبر أنه اشترى الكل بألف، ثم ظهر أنه اشترى النصف بخمسمائة يكون على شفعته.
ومما يتعلق بمسائل الأخبار، إذا أخبر الشفيع بالشراء، فإن كان المخبر هو المشتري ثبت الشراء بخبره، سواء كان عدلاً أو لم يكن، رواه الحسن عن أبي حنيفة، حتى لو سكت بعد إخبار المشتري ولم يطلب الشفعة بطلت شفعته؛ لأنه خصم في هذا والعدالة غير معتبرة في الخصومة، وإن كان المخبر غيره.
ففي رواية محمد عن أبي حنيفة: لا يثبت الشراء حتى يخبره بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، وفي رواية الحسن عنه: لا يثبت الشراء حتى يخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أخبره واحد يثبت الشراء بخبره حراً كان المخبر أو عبداً أو صبياً أو امرأة.
إذا كان ذلك الخبر حقاً، وذكر الطحاوي في كتاب الوكالة: أن المخبر إذا كان رسولاً يثبت الشراء بخبره كيف ما كان الخبر، ولكن بعد أن بلغ الرسالة، وإن لم يكن المخبر رسولاً، وإنما أخبر من تلقاء نفسه، فإن كان المخبر رجلين عدلين أو غير عدلين أو كان رجلاً واحداً عدلاً، فإنه يثبت الشراء سواء صدقه الشفيع في ذلك أو كذبه.
إذا ظهر صدق الخبر، فإن كان المخبر رجلاً واحداً غير عدل، فإن صدقه الشفيع في ذلك يثبت الشراء بخبره، وإن كذبه لا يثبت الشراء بخبره، وإن صدق الخبر عند أبي حنيفة وعندهما: يثبت الشراء بخبره إذا ظهر صدق الخبر والله أعلم.(7/290)
الفصل الحادي عشر: فيما يحدث الشفيع مما يبطل شفعته
إذا ساوم الشفيع الدار من المشتري، أو سأل منه أن يوليه، إياه أو استأجرها الشفيع من المشتري، أو كان أرضاً أو كرماً وأخذها مزارعة أو معاملة وذلك بعد العلم بالشراء فهو تسليم الشفعة؛ لأن هذه المعاني دليل الإعراض.
وكذلك لو قال المشتري للشفيع أو ليهكها بكذا، فقال الشفيع: نعم؛ لأن قول الإنسان نعم في موضع الخطاب يتضمن إعادة ما في الخطاب، وكأن الشفيع قال: ولي.
وفي «المنتقى» : مساومة الشفيع بداره لا يبطل معناه، إذا ساومها بالبيع، إذا قال الشفيع: سلمت نصف الشفعة بطلت شفعته في الكل؛ لأن الشفعة لا تتجزء في حق التسليم؛ لأنه لا يملك أن يأخذ البعض دون البعض، وذكر البعض ما لا يتجزء كذكر الكل، هكذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في القدوري: أن الشفيع إذا طلب نصف الدار بالشفعة فهذا تسليم منه في الكل في قول محمد، إلا أن يكون طلب الكل فلم يسلم المشتري فقال: اعطني نصفها على أن أسلم لك النصف، أو قال: اعطني نصفها وأسلم لك نصفها فهذا لا يكون (172ب3) تسليماً، وقال أبو يوسف: لا يكون تسليماً على كل حال.
وتبين ما ذكر القدوري إن ما ذكر في «الأصل» قول محمد، وذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «واقعاته» : دار بيعت ولها شفيعان أحدهما غائب وطلب الحاضر نصف الدار، على حسبان أنه لا يستحق إلا النصف بطلت شفعته، وكذلك لوكانا حاضرين وطلب كل واحد منهما نصف الدار بطلت شفعة كل واحد منهما، ولم يحكم خلافاً، وإن قول محمد على ما ذكره القدوري ذكر رحمه الله في الباب الثاني: أن الشفيع إذا قال: سلم لي نصفها بالشفعة لا يبطل شفعته، وأنه قول أبي يوسف على ما ذكره «القدوري» .
وإذا باع الشفيع داره التي يشفع بها بعد شراء المشتري وهو يعلم بالشراء أو لا يعلم بطلت شفعته؛ لأن الاستحقاق بالجوار وقد زال الجوار قبل الأخذ فبطل الحق ضرورة، فإن رجعت إلى ملكه: بيعت بقضاء أو بخيار رؤية أو يختار شرط فليس له أن يأخذ بالشفعة؛ لأن الحق متى بطل لا يعود إلا بسبب جديد، وإن كان بيع الشفيع داره بشرط الخيار للشفيع، فهو على شفعته ما لم يوجب البيع؛ لأن الجوار لم يزل، وإن كان بيعه نصفه الفساد وقبضها المشتري بطلت شفعته؛ لأن ملكه قد زال، وإن كان الشفيع شريكاً وجاراً فباع نصيبه الذي يشفع به كان له أن يطلب الشفعة بالجوار، هذا إذا باع الشفيع كل داره، وإن باع بعض داره سيأتي ذلك في فصل المتفرقات إن شاء الله تعالى.w
إذا سلم الشفيع على المشتري ثم طلب الشفعة صح طلبه، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: من يقول إذا بدأ الشفيع بالسلام على المشتري يبطل شفعته؟ فأنكر ذلك، ولو كان المشتري واقفاً مع الابن فسلم الشفيع على ابن المشتري بطلت شفعته، بخلاف ما إذا(7/291)
سلم على المشتري محتاج إليه؛ لأنه يحتاج إلى التكلم معه، ومفتتح الكلام السلام قال عليه السلام: «من كلم قبل السلام فلا تجيبوه» فيصير ذلك عذراً، فأما السلام على ابن المشتري غير محتاج إليه، فلا يصير ذلك عذراً.
إذا أخبر المشتري الشفيع بالبيع فقال: من اشتراها وبكم اشتراها، فلما أخبر بذلك قال: طلبت الشفعة صح طلبه في الباب الأول من شفعة «الواقعات» .
وكذلك إذا قال: الحمد لله، أو قال: سبحان الله، أو قال: الله أكبر، أو عطس المشتري فشمته، أو قال: خلصني الله من فلان، أو قال: بكم باعها ومتى باعها، لا تبطل شفعته بعض هذه الألفاظ في «العيون» ، وبعضها في شرح شمس الأئمة لو قال الشفيع للمشتري: أنا شفيعك وآخذ الدار منك فلا شفعة له؛ لأن قوله أنا شفيعك كلام لا يحتاج إليه، فصار كأنه قال: كيف أصبحت فكيف أمسيت.
في «فتاوي (أهل) سمرقند» بأن وكذلك إذا قال الشفيع: الشفعة لي أطلبها وأخذها بطلت؛ لأن قوله: الشفعة لي غير محتاج إليه، فصار كما لو سكت ساعة وعلى قياس ما رواه ابن رستم في «نوادره» عن محمد: أنه إذا سكت هاهنا لا تبطل شفعته، لا يبطل هاهنا أيضاً، وكذا قياس ما روي أن له مجلس العلم، ينبغي أن لا تبطل شفعته؛ لأن هذا القدر لا يتبدل المجلس.
وكذلك لو قال: شفعة مراست خواستم ومافتم فهو على هذا، وفي «نوادر أبي يوسف» رواية أبي الجعد إذا قال الشفيع للمشتري حين لقيه: كيف أصبحت، كيف أمسيت، أو سلم عليه لم تبطل شفعته، ولو عرض حاجة إليه أو سأله عن حاجته تبطل شفعته.
دار بيعت فقال البائع أو المشتري للشفيع: أبرئنا عن كل خصومة لك.
وقلنا: ففعل وهو لا يعلم أنه وجب له قبلهما شفعة، لا شفعة له في القضاء، وله الشفعة فيما بينه وبين الله تعالى إن كان بحال، لو علم بذلك لأمر بهما، وهو نظير ما لو قال رجل لأخر: إجعل لي في حل، ولم يبين ماله قبله فجعله في حل، فإنه يصير في حل ولا يبقى له في القضاء شيء، ويبقى فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان بحال أو علم بذلك الحق لا يريه.
في «فتاوى أبي الليث» : إذ قال الشفيع للمشتري: شفاعة صحواهم بطلت شفعته، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وعلى قياس ما ذكرنا عن الفقيه أبي جعفر: أنه إذا طلب الشفعة بأي لفظ من يفهم طلب الشفعة يجوز، ينبغي أن يقال في هذه المسألة: إذا كان الشفيع من أهل مسلة يطلبون الشفعة بهذا اللفظ لا تبطل شفعة الشفيع، إذا صلى بعد الظهر ركعتين لا تبطل شفعته، وإذا صلى أكثر من ذلك تبطل شفعته، وإن صلى بعد الجمعة أربع ركعات لا تبطل شفعته، وإن صلى أكثر من ذلك تبطل شفعته؛ لأن الأكثر(7/292)
ليس بمسنون، فلا يصير عذراً في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
وفي «واقعات الناطفي» : الشفيع إذا علم بالبيع وهو في التطوع فجعلها أربعاً أو ستاً، فعن محمد رحمه الله: أنه لا تبطل شفعته، قال الصدر الشهيد: والمختار أنه تبطل شفعته؛ لأنه غير معذور، بخلاف ما إذا كان في الأربع قبل الظهر فأتمها أربعاً؛ لأن الأربع مسنون فكان معذوراً.
والدليل على الفرق: أنه إذا طلب المواثبة وترك طلب الإشهاد وافتتح التطوع تبطل شفعته، ولو افتتح الركعتين بعد الظهر والأربع بعد الجمعة لا تبطل والله أعلم.
الفصل الثاني عشر: في الخلاف الواقع بين الشفيع والمشتري والشهادة في الشفعة
إذا اشترى الرجل دارا وقبضها ونقد الثمن، ثم اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع مع المشتري ينزل منزلة المشتري مع البائع، ولو وقع الاختلاف بين البائع والمشتري في الثمن والبيع في يد البائع، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي عليه التملك بألف وهو ينكر، إلا أن البائع والمشتري يتحالفان وهاهنا الشفيع لا يحلف؛ لأن هناك البائع يدعي على المشتري زيادة ألف والمشتري ينكر وهاهنا المشتري لا يدعي على الشفيع شيئاً؛ لأنه لم يجب له على الشفيع شيء حتى يحلف الشفيع، وأيهما ما أقام بينته قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: البينة بينة المشتري.
فوجه قوله: إن الشفيع مع المشتري ينزل منزلة المشتري مع البائع؛ لأن الشفيع يتملك الدار من جهة المشتري كما أن المشتري يتملكه من جهة البائع، ثم إذا وقع الاختلاف على هذا الوجه بين البائع والمشتري، وأقاما البينة بينة البائع؛ لأنها تثبت الزيادة.
ودليله: إذا وقع الاختلاف على هذا الوجه بين البائع والمشتري والشفيع، قال الشفيع: الثمن ألف، وقال المشتري: ألفين (173أ3) وقال البائع: ثلاثة آلاف، وأقاموا البينة، فالبينة بينة البائع؛ لأنها تثبت الزيادة كذا هاهنا.
وكذلك الوكيل بالشراء مع الموكل إذا اختلفوا في مقدار الثمن وأقاما البينة فالبينة بينة الوكيل؛ لأنها تثبت زيادة في الثمن.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله طريقتان:
أحدهما: أن العمل بالبينتين هاهنا ممكن، فلا يصار إلى الترجيح، بيان الإمكان أنا نجعل كأنه اشترى مرة بألف ومرة بألفين، فكان الشفيع أن يأخذ بالألف.
ألا ترى أنه لو ثبت ذلك معاينة، أو بإقرار المشتري بأن أقر المشتري مرة أنه اشترى(7/293)
مرة بألف ومرة أخرى إنه اشترى بألفين، كان للشفيع أن يأخذ بألف، ولا يقال: بأن العقدين إذا ثبتا بالمعاينة، وبالإقرار يجعل كل واحد منهما ثابتاً في حق الشفيع، أما إذا ثبت العقد بالألفين بالبينة لا يعتبر العقد بألف ثابتاً في حق الشفيع ويجعل العقد بألفين ناسخاً له.
ألا ترى أن المشتري لو أقر بالشراء بألف وأخذ الشفيع الدار بألف، ثم أقام البائع بينة إن البيع كان بألفين، كان للمشتري أن يرجع على الشفيع بالألف الأخرى، لأنا نقول: نعم الأمر كما قلتم، إلا أن هاهنا العقد بألفين لم يثبت بالبينة؛ لأن بينة المشتري على العقد بألفين غير منقولة؛ لأن بهذه البينة لا يسقط اليمين عن نفسه؛ لأن اليمين عنه
ألا ترى أن بعد ما أقام الشفيع البينة بألف لا يحلف المشتري، وإن لم يكن للمشتري بينة، ولا يلزم بهذه البينة الشفيع زيادة ألف؛ لأن للشفيع أن يترك الأحد بألفي درهم، وإن لم يكن بينة المشتري مقبولة على البيع بألفين، كان البيع بألفين ثابتاً بإقرار المشتري، فلا ينفسخ بالبيع بألف، فيحمل كلاماً ثابتاً في حق الشفيع بخلاف ما إذا وقع بين البائع والمشتري؛ لأن هناك العقد بألفين ثابت ببينة البائع؛ لأن بينة البائع على العقد بألفين مقبولة؛ لأنه بهذه البينة يلزم المشتري الألف الزائدة، وبخلاف ما إذا اختلفوا جميعاً؛ لأن بينة البائع على الزيادة مقبولة؛ لأنها توجب الزيادة على المشتري فكان البيع بالزيادة ثابتاً بالبينة، فينفسخ البيع بما دونه في حق العاقد والشفيع.
وأما الوكيل مع الموكل، إذا اختلفا فقد روى ابن سماعة عن محمد: أن البينة بينة الموكل، وفي ظاهر الرواية البينة بينة البائع الوكيل؛ لأن الوكيل مع الموكل ينزل منزلة البائع مع المشتري وقد ذكرنا العذر.
ثمة الطريق الثاني: أن بينة الشفيع ملزمة المشتري تسليم المشتري شاء أو أبى، وبينة المشتري، غير ملزمة بل هو مخير بين الأخذ والترك، والبينات في الأصل شرعت للإلزام، فما كانت ملزمة كانت أولى بالقبول، بخلاف البائع مع المشتري، كان هناك بينة كل واحد منهما ملزمة، وبخلاف الوكيل مع الموكل؛ لأن بينة كل واحد منهما ملزمة فاستويا من هذا الوجه، فصرنا إلى الترجيح بالزيادة.
وإذا اختلف البائع والمشتري والشفيع في الثمن قبل نقد الثمن، فهذا على الوجهين:
الأول: أن تكون الدار في يد البائع وفي هذا الوجه ينظر إن كان ما قاله البائع أقل مما قالا: فالقول قول البائع، ويأخذ الشفيع ذلك من غير يمين على واحد، وإن كان ما قاله البائع أكثر مما قالا، فالبائع مع المشتري يتحالفان، فبعد ذلك إن نكل البائع فالشفيع يأخذ بألفين؛ لأن النكول بمنزلة الإقرار، فكأن البائع أقر بالبيع بألفين بعد ما ادعى البيع بثلاثة آلاف، وإن نكل المشتري لزمه ثلاثة آلاف درهم، والشفيع يأخذ بالثلاث آلاف إن شاء، وليس له أن يأخذه بألف درهم، وإن أقر المشتري أن الشراء كان بألفي درهم؛ لأن(7/294)
النكول من المشتري في حق الشفيع بمنزلة البينة، كما أن النكول من الوكيل بالبيع إذا أراد المشتري أن يرد عليه بالعيب بمنزلة البينة، وسيأتي ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو ثبت بالبينتان البيع كان بثلاثة آلاف بعد ما أقر المشتري بالشراء بألفي درهم، أخذ الشفيع الدار بثلاثة آلاف درهم، وليس له أن يأخذه بألفي درهم بإقرار المشتري؛ لأنه صار مكذباً في إقراره كذا هاهنا، وإن حلفا وطلبا الفسخ من القاضي أو طلب الثاني، إذا كانت الدار في يد المشتري.
والجواب فيه نظير الجواب، فيما إذا كانت الدار في يد البائع، وإذا كانت الدار في يد المشتري فقال البائع: بعتها إياه بألف درهم واستوفيت الثمن، وقال المشتري: اشتريتها بألفين، فالقول قول البائع، ويأخذ الشفيع بألف درهم وبمثله لو قال: بعتها منه واستوفيت الثمن وهو ألف درهم، وقال المشتري: اشتريتها بألفين أخذها بألفين.
والفرق: أنه إذا بدأ بالإقرار بالاستيفاء لا يصح منه بيان مقدار الثمن بعد ذلك؛ لأنه لم يبق بعد استيفاء الثمن وتسليم الدار إلى المشتري ذو خط من هذا العقد، بل صار كالأجنبي، ولو أن أجنبياً بين مقدار الثمن لا يصح بيانه كذا هاهنا، وإذا بدأ ببيان مقدار الثمن لا يصح منه الإقرار باستيفاء بعد ذلك؛ لأن قبل الإقرار بالاستيفاء ثبت للشفيع حق الأخذ بذلك المقدار، وبالإقرار بالاستيفاء يبطل ذلك الحق على الشفيع؛ لأن بالإقرار بالاستيفاء تبين أن مقدار الثمن منه لم يصح؛ لأنه لم يبق ذو خط من هذا العقد، فلم يصح الإقرار بالاستيفاء صيانة لحق الشفيع، وإذا لم يصح الإقرار بالاستيفاء، بقي بيان مقدار الثمن صحيحاً؛ لأنه بين مقدار الثمن، وهو ذو خط في هذا العقد؛ لأن له الاستيفاء بحكم هذا العقد.
قال القدوري: وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن المبيع إذا كان في يد البائع فأقر بقبض الثمن وزعم أنه ألف، فالقول قوله؛ لأن التملك يقع على البائع، فيرجع إلى قوله.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل اشترى من رجل داراً، ولها شفيعان، فأتاه أحدهما بطلت شفعته، فقال المشتري: أني اشتريتها بألف، وصدقه الشفيع في ذلك، وأخذها بألف، ثم إن الشفيع الثاني جاء وأقام بينته، أن المشتري اشترى بخمسمائة، فالشفيع الثاني يأخذ من الشفيع الأول نصفها، ويدفع إليه مائة درهم وخمسين، ويرجع الشفيع الأول على المشتري بمائة وخمسين، ويبقى في يد الشفيع الأول نصف الدار بخمسمائة؛ لأنه صدق المشتري على ما أخذها به.
وفيه أيضاً: رجل اشترى من رجل داراً وقبضها، فجاء الشفيع بطلت الشفعة، فقال المشتري: اشتريتها بألفين وقال الشفيع: (173ب3) لا بل اشتريت بألف، ولم يكن للشفيع بينة وحلف المشتري على ما ذكر، وأخذه الشفيع بألفي درهم، ثم قدم شفيع أخر وأقام بينة على الشفيع الأول، أن البائع باع هذه الدار من فلان بألف، فإنه يأخذ نصف(7/295)
الدار بخمسمائة، ويرجع الشفيع الأول على المشتري بخمسمائة، حصة النصف الذي أخذه الثاني ويقال للشفيع الأول: إن شئت أعد البينة على المشتري من قبل النصف الذي في يدك، وإلا فلا شيء لك؛ لأن الشفيع الثاني إنما يستحق ببينته نصف الدار، هكذا ذكر في «الكتاب» .
ومعنى المسألة: أن الشفيع الأول لو قال للمشتري: أن الشفيع الثاني أثبت البينة أن الشراء كان بألف فيكون بمقابلة النصف الذي في يدي خمسمائة، فلي أن أرجع عليك بخمسمائة، ليس له ذلك إلا إذا أعاد البينة أن الشراء كان بألف، لما أشار إليه في «الكتاب» : أن الشفيع الثاني إنما استحق ببينته نصف الدار.
ومعناه: أن بينة الشفيع الثاني لما عمل في نصف الدار ثبت الشراء بألف في حق ذلك النصف الذي استحقه الشفيع الثاني، لا في حق النصف الذي في يد الشفيع الأول فيحتاج الشفيع الأول، إلى إعادة البينة، لثبت الشراء بالألف في النصف الذي في يديه، فيستحق الرجوع على المشتري بالخمسمائة الزائدة.
في القدوري: اتفق البائع والمشتري أن البيع كان يشترط الخيار للبائع، وأنكر الشفيع فالقول قولهما، في قول أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله: ولا شفعة للشفيع؛ لأن البيع ثبت بإقرارهما، وإنما ثبت على الوجه الذي أقربه، وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله: القول قول الشفيع؛ لأن الأصل في البيع البات، فكان الشفيع متمسكاً بالأصل.
وفي «الجامع» : إذا ادعى البائع الخيار وأنكر المشتري والشفيع، فالقول قول المشتري استحساناً؛ لأن الخيار لا يثبت إلا بالشرط والمشتري ينكر، وذكر في «النوادر» : أن القول قول البائع وهو الصحيح، وكذا لو ادعى المشتري الخيار، وأنكر البائع والشفيع ذلك، فالقول قول البائع: ويأخذها الشفيع.
لما قلنا في «فتاوى الفضلي» : رجلان تبايعا، وطلب الشفعة يحضر بهما فقال البائع: سنتابع معاملة، وصدقه المشتري على ذلك، لا يصدقان على الشفيع؛ لأنهما أقرا بالأصل البيع فيكون القول قول من يدعي الجوار، إلا إذا كان الحال يدل عليه، بأن كان المنزل كثير القيمة وقد بيع بثمن لا يباع مثله بمثله، فحينئذ يكون القول قولهما ولا شفعة للشفيع.
ألا ترى أن في الوجه الأول: لو اختلف البائع والمشتري في هذه الصورة فقال البائع: بعت معاملة، وقال المشتري: اشتريت لا معاملة، كان القول قول المشتري، وفي الوجه الثاني: لو اختلفا كان القول قول البائع في «المنتقى» .
باع داراً من رجل ثم إن المشتري والبائع تصادقا أن البيع كان فاسداً، وقال الشفيع: كان جائزاً فالقول قول الشفيع، ولا أصدقهما على فساد البيع في حق الشفيع بشيء لو ادعى أحدهما، وأنكر الأخر جعلت القول فيه قول الذي يدعي الصحة، وإذا زعما أن البيع كان فاسداً، جعلت القول فيه قول من يدعي الفساد، فإني أصدقهما، ولا(7/296)
أجعل للشفيع شفعة، يريد بهذا أن البائع مع المشتري إذا اتفقا على فساد البيع بسبب، لو اختلف البائع والمشتري فيما بينهما في فساد العقد بذلك السبب، فالقول قول من يدعي الجوار.
نحو أن يدعي أحدهما فاسداً، فإذا اتفقا على الفساد بذلك السبب لا يصدقان في حق الشفيع، وإذا اتفقا على فساد البيع بسبب لو اختلفا فيما بينهما في فساد البيع بذلك السبب كان القول. قول من يدعي الفساد، فإذا اتفقا على الفساد بذلك السبب يصدقان في حق الشفيع.
وبين ذلك في «المنتقى» : فقال: لو قال المشترى للبائع: بعتها بألف درهم ورطل من خمر فقال البائع: صدقت، لم أصدقهما على الشفيع، ولو قال: بعت فيها بخمر وصدقه البائع، فلا شفعة للشفيع، هذا هو لفظ «المنتقى» .
وجعل القدوري في كتابه المذكور في «المنتقى» قول أبي يوسف في إحدى الروايتين عنه، قال القدوري: لأن أبا يوسف على هذه الرواية يعتبر هذا الاختلاف بالاختلاف من المتعاقدين، ولو اختلف المتعاقدان فيما بينهما فقال المشتري: بعت منها بألف درهم ورطل من خمر، وقال البائع: لا بل بعتها بألف درهم، فالقول قول البائع.
ولو قال المشتري: بعت منها بخمر وخنزير، وقال البائع: بعتها بألف درهم، فالقول قول البائع؛ لأن البيع بخمر لا جواز له بحال، وإنما يجعل القول قول من يدعي الجواز في عقد له جواز بحال، بخلاف البيع بأجل فاسد، أو بألف ورطل من الخمر، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا اتفقا على الفساد وكذبهما الشفيع فلا شفعة للشفيع على كل حال، كما لو اتفقا على البيع بشرط الخيار للبائع، وكذبهما الشفيع فيه.
في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى من رجل ضيعة عشرها بثمن كثير وتسعة أعشارها بثمن قليل، فللشفيع الشفعة في البيع الأول، ولا شفعة له في البيع الثاني، وهو من جملة الحيل، وسيأتي ذلك في فصل الحيل لأبطال الشفعة إن شاء الله تعالى.
فإن أراد الشفيع أن يحلف المشتري بالله ما أراد به إبطال شفعة لا يحلف؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه، ولو ادعى الشفيع أن البيع الأول كان تلجئة، وأراد أن يحلف المشتري بالله، أن البيع الأول ما كان تلجئة، فله ذلك؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، وهو تأويل ما ذكر في كتاب الشفعة إذا أراد الاستحلاف، إنه لم يرد به إبطال الشفعة، إن له ذلك إذا ادعى أن البيع كان بيع تلجئة.
وقد ذكرنا في الفصل المتقدم: أن المشتري إذا كان واقفاً مع ابنه فسلم الشفيع على المشتري لا تبطل شفعته، فلو سلم الشفيع على المشتري لا تبطل شفعته، فلو سلم على أحدهما بأن قال: السلام عليك ولا يدري على من سلم، سئل الشفيع إنه سلم على الأب أو على الابن، فإن قال: على الأب، لا تبطل شفعته، وإن اختلفا فقال المشتري: سلمت على ابني وقد بطلت شفعتك، وقال الشفيع: سلمت عليك، فالقول قول الشفيع؛ لأن حاصل اختلافهما في بطلان حق الشفيع، فالمشتري يدعي عليه بطلان حقه وهو ينكر.(7/297)
في «المنتقى» : اشترى داراً لابنه (174أ3) الصغير وقبضها، ثم اختلف المشتري والشفيع في الثمن، قال: لا يحلف المشتري.
وفي الدعوى من «الفتاوى» : جاء الشفيع يخاصم المشتري فأنكر الشراء، وأقر أن الدار لابنه الصغير ولا بينة للشفيع على شرائه، قال: لا يمين على المشتري؛ لأنه قد لزمه الإقرار لابنه، فلا يجوز الإقرار لغيره.
في «الأجناس» : إذا قال المشتري: اشتريت هذه الدار لابني الصغير، وأنكر شفعة الشفيع فلا يمين على المشتري إن كان الشفيع أقر أن له ابن صغير.
وفي «الواقعات» : إذا قال الشفيع: إنما قال المشتري ذلك ليدفع اليمين عن نفسه فحلفه أنها القاضي أنه ما اشتراها لنفسه فلا يمين عليه، وأنكر الشفيع أن له ابن، يحلف المشتري بالله ما يعلم أنه له ابن صغير، وإن كان الابن كبيراً وقد سلم الدار إليه، دفع عن نفسه الخصومة، وقبل تسليم الدار هو خصم للشفيع، ذكرها في «الأجناس» .
وفي «الأصل» : إذا اشترى داراً وقبضها وهدم بناؤها أو أحرقه أو فعل ذلك رجل أجنبي حتى سقط عن الشفيع حصة البناء من الثمن، يقيم الثمن على قيمة الأرض أو على قيمة البناء مبنياً يوم اشتراها، فما أصاب الأرض أخذها بذلك، فإن اختلفا في قيمة البناء، فقال: المشتري كان قيمة البناء ألف درهم، وقيمة العرض ألف درهم فسقط نصف الثمن، وقال الشفيع: كان قيمة البناء ألفي درهم، فسقط ثلثا الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه حاصل اختلافهما في ثمن العرصة فالمشتري يقول: اشتريت العرصة بنصف الثمن، والشفيع يقول: اشتريت بثلثي الثمن، فيكون القول قول المشتري مع يمينه.
كما لو اختلفا في مقدار الثمن لا في قيمة البناء كان القول قول المشتري مع يمينه على ما مر كذا هاهنا، وأيهما تفرد بإقامة البينة قبلت بينته، وإن أقام البينة فالبينة بينة المشتري في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
فأبو يوسف مر على أصله، ومحمد فرق فقال: إذا اختلفا في قدر قيمة البناء، وإقامة البينة، فالبينة بينة المشتري، وقال: إذا اختلفا في مقدار الثمن، وأقاما البينة، فالبينة بينة المشتري، وقال: إذا اختلفا في مقدار الثمن وأقاما البينة فالبينة بينته الشفيع، واضطربا في قول أبي حنيفة رحمه الله.
قال أبو يوسف قياس قول أبي حنيفة: إن البينة بينة الشفيع كما لو اختلفا في مقدار الثمن وأقاما البينة، وقال محمد رحمه الله: قياس قوله: أن البينة بينة المشتري، بخلاف ما لو اختلفا في مقدار الثمن، وأقاما البينة في الأصل.
إذا اشترى الرجل داراً من امرأة فلم يجد من يعرفها لا من له الشفعة، فإن شهادتهم لا تجوز عليها إذا أنكرت الشراء، وكذلك إذا كان البائع رجلاً وجحد البيع بعد ذلك وشهد الشفيعان عليه بالبيع، لا تقبل شهادتهما.
وهذا إذا كانا يطلبا الشفعة؛ لأنه إذا كان كذلك كانا جارين إلى نفسهما مغنماً بهذه(7/298)
الشهادة، وهو حق الشفعة؛ ولأنهما إذا طلبا الشفعة فقد صارا خصماً؛ لأنهما أظهرا الخصومة بطلبهما الشفعة، وشهادة الخصم لا يقبل، فأما إذا سلما الشفعة ثم شهدا بالبيع قبلت شهادتهما هكذا ذكر في «الكتاب» ، ولم يفصل قال مشايخنا رحمهم الله: ويجب أن يكون الجواب فيه التفصيل.
إن سلما الشفعة قبل أن يطلبا، ثم شهدا تقبل شهادتهما؛ لأنهما جران إلى نفسهما مغنماً بهذه الشهادة، ولم يصيرا خصماً في هذا الحادث، وإن سلما الشفعة بعد ما طلبها لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما صارا خصماً فيما شهدا؛ لأنهما أظهرا الخصومة حين طلب الشفعة، ومن صار خصماً في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة، وإن لم يبق خصماً فيها كالوصي إذا شهد لليتيم بعد ما عزل، فإنه لا يقبل شهادته، وإن لم يكن خصماً فيما شهد وقت الشهادة؛ لأنه كان خصماً فيه قبل ذلك، فإن قيل قبل الطلب: إن لم يصيرا خصمين حقيقية لعدم الخصومة فهما حقيقة، فقد صار الخصمين حكماً فوجوب حق الشفعة لهما بنفس البيع؛ وهذا لأن الإنسان كما يصير خصماً بوجود الخصومة منه حقيقة يصير خصماً بوجوب الحق له، من غير أن يوجد منه الخصومة كما في الوصي.
فإنه إذا شهد للصغير بمال قبل أن يخاصم في ذلك، فإنه لا يقبل شهادته، وإنما لم يقبل لصيرورته خصماً.
والجواب هذا هكذا إذا كان الحق الذي وجب حقاً لازماً، كما في الوصي، فإن الحق ثابت له فيما شهد بنفس الوصاية، بحيث لا يمكنه دفعه، فأما حق الشفيع ليس بلازم، فإنه مخير بين الأخذ والترك فلا يكفي هذا الحق لصيرورته خصماً، بل يشترط إظهار الخصومة، هذا إذا كان البائع يدعي الشراء والمشتري ينكر.
وإن كان المشتري يدعي الشراء، والبائع ينكر، فشهد الشفيعان بالبيع على المشتري لا تقبل شهادتهما أيضاً، إذا كانا يطلبان الشفعة.
وفي المسألة نوع أشكال؛ لأن حق الشفعة هاهنا ليس تثبت بشهادتهما، إنما يثبت بإقرار البائع، والجواب: أنهما إن كانا لا يثبتان حق الشفعة؛ لأنفسهما، يثبتان؛ لأنفسهما حق الأخذ من المشتري وإلزام المشتري العهدة متى أخذا منه، غير أن في هذه الصورة لهما أن يأخذا الدار بالشفعة بإقرار البائع بالبيع بخلاف الفصل الأول.
وإن شهد أبناء البائع على الشفيع بتسليم الشفعة فهذا على وجهين:
الأول: أن تكون الدار في يد البائع، وفي هذا الوجه وإن كان البائع يدعي تسليم الشفعة لا يقبل شهادتهما، وإن كان يجحد، تقبل شهادتهما؛ لأن هذه الشهادة على أمر للأب فيه منفعة من وجه، بأن كان المشتري أملاء من الشفيع، ومضر من وجه بأن كان الشفيع أملاء من المشتري وترجح جانب النفع بالدعوى، وجانب الضرر بالجحود.
والوجه الثاني: أن تكون الدار في يد المشتري، وفي هذا الوجه يقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة لا يُجران إلى أنهما مغنماً ولا يدفعان عنه مغرماً؛ لأنه خرج من البين، بتسليم الدار إلى المشتري فيقبل شهادتهما.(7/299)
ثم فرق بين شهادة ابني البائع، وبين شهادة البائعين فقال: إذا شهد البائعان على الشفيع بتسليم الشفعة لا يقبل شهادتهما، وإن كانت الدار في يد المشتري.
وقال: إذا شهد ابنا البائع بذلك والدار في يد المشتري يقبل شهادتهما.
والفرق: أن شهادة البائعين إنما لم تقبل؛ لأنهما كانا خصمين في هذه الدار قبل التسليم إلى المشتري، ومن كان خصماً في شيء لا يقبل شهادته فيه، وإن لم يبق خصماً، أما أبناء ما كانا خصمين في هذه الدار حتى لا تقبل (174ب3) شهادتهما من هذا الوجه، لو لم يقبل، إنما يقبل إذا جرى إلى أيهما مغنماً أو دفعا عنها مغرماً، ولم يوجد هذا إذا شهد ابنا البائع على الشفيع بتسليم الشفعة، فأما إذا شهدا على المشتري بتسليم الدار إلى الشفيع، فإنه لا يقبل شهادتهما، سواء كانت الدار في يد الأب أو في يد المشتري؛ لأنهما يبعدان العهدة عن الأب هذه الشهادة، فإنه إذا ورد الاستحقاق على المشتري فالمشتري يرجع على البائع، وإذا ورد الاستحقاق على الشفيع فالشفيع يرجع على المشتري، يرجع على البائع وبتعيد العهدة منفعة، فكانت هذه الشهادة للأب، وسواء ادعى الأب ذلك أو لم يدع لا يقبل شهادتهما؛ لأن بتعيد العهدة منفعة محضة، وما كان منفعة محضة لا يشترط فيهما الدعوى.
وإذا وكل الرجل رجلاً بشراء دار أو بيعها، فاشترى أو باع وشهد ابنا الموكل على الشفيع بتسليم الشفعة، فإن كان التوكيل بالشراء لا تقبل شهادتهما، سواء كانت الدار في يد البائع، أو في يد الوكيل، أو في يد الموكل؛ لأنهما يشهدان لأبيهما بتقرر الملك، فإن حق الشفيع إذا سقط بتقرير الملك لأبيهما، وإن كان التوكيل بالبيع، فإن كانت الدار في يد الموكل أو في يد الوكيل لا يقبل شهادتهما؛ لأن فيه تقرير العهدة لأبيهما على المشتري؛ لأن حق الشفيع متى سقط تقررت العهدة على المشتري.
ومتى لم يسقط وأخذ الشفيع الدار من يد الموكل أو من يد الوكيل ينفسخ الشراء وتسقط العهدة عن المشتري، وربما يكون المشتري أصيلاً، فكان في هذه الشهادة منفعة للأب، وإن كانت الدار في يد المشتري يقبل شهادتهما؛ لأنه منفعة لأبيهما في هذه الشهادة؛ لأن العهدة متقررة على المشتري سقط حق الشفيع أو لم يسقط.
وإذا شهد شاهدان للبائع والمشتري أنه قد سلم شفعته وشهد آخران للشفيع أن البائع والمشتري سلما إليه قضيت بها للذي في يديه، أشار إلى أن بينة الذي في يديه الدار وهو البائع أو المشتري أولى.
وجعل هذه المسألة نظير مسألة الخارج معنى ذي اليد إذا أقاما البينة على النتاج؛ وهذا لأن الشهود شهدوا بالأمرين ولم يشهدوا بالترتيب، ويتصور وقوعهما من غير ترتيب، فيجعل كأنهما وقعا معاً، ولو وقعا معاً كان تسليم الشفعة سابقاً على تسليم الدار بالشفعة؛ لأن تسليم الشفعة وتسليم الدار تمليك والإسقاط أسرع نفاذاً من التمليك، فكان سابقاً معنى.
ألا ترى أنه لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وشهد آخران عليه أنه باعه(7/300)
كانت بينة العتق أولى؛ لأنه سابق معنى، كذا هاهنا أقر المشتري أنه اشترى هذه الدار بألف درهم وأخذها الشفيع بذلك ثم ادعى البائع أن الثمن ألفان، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته وكان للمشتري أن يرجع على الشفيع بألف أخرى، وإن أقر أن الثمن ألف؛ لأنه صار مكذباً في إقراره لما وجب القضاء ببينة البائع.
وكذلك إذا ادعى البائع أنه باعها من هذا المشتري بعرض بعينه وأقام على ذلك بينة، فالقاضي يسمع بينته ويقضي له بذلك على المشتري ويسلم الدار للشفيع بقيمة ذلك العرض، فإن كان ما أخذ المشتري من الشفيع وذلك ألف أقل من قيمة العرض، وإن كان أكثر من قيمة العرض رجع الشفيع عليه بما زاد على قيمة العرض إلى تمام الألف.
وإن كان للدار شفيعان شهد شاهدان أن أحدهما قد سلم الدار ولا يدري من هو، فالقاضي لا يقبل شهادتهما وللشفيعين أن يأخذها بالشفعة؛ لأنه لم يثبت تسليم أحدهما بهذه الشهادة.
فإذا كفل رجلان المشتري الدار بالدرك، ثم شهد الكفيلان على المشتري أنه قد سلم الدار للشفيع لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما يبعدان العهدة عن أنفسهما.
وإذا اشترى الرجل داراً بعرض حتى كان للشفيع أن يأخذ بقيمة العرض على ما يأتي بيانه في موضعه.
واختلفا في قيمة العرض يوم العقد، فإن كان العرض قائماً للحال ينظر إلى قيمته في الحال، ويجعل الحال حكماً على ما قبله؛ وهذا لأن قيمة ما سوى الحيوانات من العروض لا يتغير ساعة فساعة، فيمكن أن يجعل الحال حكماً على ما قبله، وإن كان العرض مستهلكاً، فالقول قول المشترى؛ لأن اختلافهما في مقدار قيمة العرض اختلاف في مقدار الثمن في الحاصل، وإن أقام أحدهما بينته قبلت بينته، وإن أقاما البينة فهذا وما لو اختلفا في قيمة البناء المحترق سواء.
وإذا تزوج امرأة على دار على أن ردت على الزوج ألف درهم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا شفعة للشفيع في شيء من الدار.
وعلى قولهما: له الشفعة فيما ملك بيعاً ولا شفعة فيما ملك مهراً، وقد مر هذا في صدر الكتاب ثم عندهما إذا وجبت الشفعة فيما ملك بالبيع يقسم الدار على مهر مثلها وعلى ألف درهم، فإن كان مهر مثلها ألف انقسمت الدار عليهما نصفان، فيكون نصف الدار مهراً بإزاء البضع والنصف مبيعاً بإزاء الألف.
فإن اختلفا في مهر مثلها وقت البيع، فقال الزوج: كان مهر مثلها ألف وللشفيع نصف الدار، وقال الشفيع: كان مهر مثلها خمسمائة لي ثلثا الدار، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ إما؛ لأن الشفيع يدعي لنفسه استحقاق زيادة سدس والزوج ينكر أو؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار الثمن.
والشفيع مع المشتري إذا اختلفا في مقدار الثمن، فالقول قول المشتري، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المشتري عندهما كما لو اختلفا في مقدار قيمة البناء الهالك.
وإذا ادعى رجل على رجل حقاً في أرض أو دار، فصالحه على دار فللشفيع فيها(7/301)
الشفعة بقيمة ذلك الحق الذي ادعى؛ لأن المأخوذ منه وهو المدعي يزعم أنه ملك الدار بدلاً عما هو مال، فيكون مقراً للشفيع بالشفعة، فيؤاخذ بإقراره في حقه.
فإن اختلفا في قيمة ذلك الحق فالقول قول المدعي وهو المأخوذ منه الدار؛ لأن الحاصل اختلافهما في مقدار الثمن، وإن أقاما البينة على قيمته.
ذكر ههنا أن البينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة إذا اشترى الرجل داراً بألف درهم وقبضها ونقد الثمن، ثم جاء الشفيع، فقال المشتري: قد أحدثت فيها هذا البناء، وكذبه الشفيع وقال: كان هذا البناء فيه، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه ينكر ثبوت حق الشفعة في البناء، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الشفيع؛ لأنه أشبه بالمدعين؛ لأنه يخير بين أن يدعي وبين أن يترك، فهذا هو أحد المدعي، والبينات في الأصل شرعت حجة للمدعين فمن كان أشبه بالمدعين كانت بينته أولى (175أ3) بالقبول.
وإذا اشترى أرضاً فجاء الشفيع يأخذها بالشفعة وفيها أشجار ونخيل، فقال المشتري: أحدثت الأشجار والنخيل فيها، وقال الشفيع: اشتريتها مع هذه الأشجار والنخيل، فإن كان من وقت الأخذ بالشفعة مدة لا يمكن إحداث مثل هذه الأشجار، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لم يثبت كذب ما قاله المشتري في هذه الصورة، بخلاف الصورة الأولى إذا قال المشتري للشفيع: اشتريت الدار أو قال: الأرض بخمسمائة، ثم اشتريت البناء بخمسمائة فلا شفعة للشفيع في البناء، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما معاً، فالقول قول الشفيع مع يمينه على علمه استحساناً يحلف بالله ما يعلم أنه اشتراهما بعقدين؛ لأن المشتري أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع في الأرض والبناء، وهو الشراء وبدعوى تفرق الصفقة ادعى سقوط حق الشفيع في البناء.
ولو قال المشتري: باعني الأرض بغير بناء، ثم وهب لي البناء أو قال: وهب لي البناء ثم باعني الأرض، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما، فالقول قول المشتري في هذه ما أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع في البناء، بل أنكر حقه ولا كذلك الصورة الأولى، وكذلك إذا قال المشتري: وهب لي هذا البيت بطريقه إلى باب الدار وباعني الباقي من الدار بألف درهم، وقال الشفيع: لا بل اشتريت كلها، فالقول قول المشتري في البيت لإ نكاره سبب ثبوت حق الشفعة في البيت، ويأخذ الشفيع الدار كلها غير البيت.
وطريقه: إن شاء؛ لأن المشتري أقر بسبب ثبوت حق الشفيع فيما سوى البيت وطريقه وادعى لنفسه حق التقدم عليه بالشركة في الحقوق، فلا يثبت ما ادعى من غير حجة.
وإن أقر بهبة البيت للمشتري وادعى المشتري أن الهبة كانت قبل الشراء فلا شفعة للجار؛ ولأنه شريك في الحقوق وقت الشراء الثاني، والجار يقول: لا بل كان الشراء قبل الهبة ولي الشفعة فيما اشتريت، فالقول قول الشفيع؛ لأن العقدين قد ظهرا وقد جهل التاريخ، فيجعل كأنهما وقعا معاً.
ولو وقعا معاً كانت الشفعة للجار؛ لأن شريك المشتري في الحقوق بعد الشراء؛(7/302)
لأن الهبة لا تفيد الملك قبل القبض والشراء يفيد الملك بنفسه، فكان شركة المشتري في الحقوق بسبب الهبة حادثة بعد الشراء لا تبطل شفعة الجار، وإن قامت البينه على الهبة قبل الشراء، فإن صاحبها أولى بالشفعة من الجار.
ولو ادعى المشتري أنه اشترى الأرض والبناء بصفقة واحدة، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما بصفقتين ولي أن آخذ الأرض دون البناء، فالقول قول المشتري مع يمينه ولم يذكر الاستحسان، والقياس في هذه المسألة، وفيما إذا ادعى المشتري تفرق الصفقة، فهي المسألة التي تقدم ذكرها ذكر القياس والاستحسان.
وذكر أن القول قول الشفيع مع يمينه استحساناً ويجب أن تكون هذه المسألة على القياس والاستحسان ويكون ما ذكر أن القول قول المشتري.
جواب الاستحسان: رجل أقام بينة أنه اشترى هذه الدار من فلان بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنه اشترى هذا البيت من هذه الدار من فلان منذ شهر بكذا، فإنه يقضي بالبيت لصاحب الشهر وببقية الدار للآخر؛ لأن الشراء حادث، والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات ما لم يؤرخ الشهود، وشهود مشتري البيت أرخوا شراءه أما شهود مشتري الباقي ما أرخوا ... اشتراه، فثبت شراء البيت منذ شهر وثبت شراء الباقي للحال، ثم مشتري البيت منذ شهر أولى بشفعة باقي الدار؛ لأن شراء البيت لما ثبت قبل شراء الباقي من الدار كان مشتري البيت شريكاً في الحقوق منذ شراء الباقي من الدار، والشريك في الحقوق مقدم على الجار، ولو لم يؤقت واحد منهما قضيت بالبيت بينهما، وقضيت بباقي الدار للآخر، ولا شفعة لواحد منهما فيما صار لصاحبه؛ لأنه ظهر كلا الأمرين ولم يعرف التاريخ، فيجعل كأنهما وقعا معاً.
وإذا كانا داران متلازقان ادعى أحدهما منذ شهرين وادعى الآخر شراء الآخر منذ شهر، فالشفعة لصاحب الشهرين، ولو لم يؤقت شهود واحد منهما فلا شفعة لواحد منهما.
الفصل الثالث عشر: في التوكيل بالشفعة وتسليم الوكيل الشفعة وما يتصل به
ويجوز التوكيل بطلب الشفعة؛ لأنه توكيل بالخصومة والشراء، والتوكيل بكلا الأمرين جائز، وإذا أقر المشتري بشراء الدار في يديه وجبت فيها الشفعة وخصمه الوكيل؛ لأنه أقر بثبوت حق الشفعة فيما في يده.
ولو أقر بالملك فيما في يده أليس يصح إقراره؟ فكذا إذا أقر بحق الشفعة، ولا يقبل من المشتري بينة أنه اشتراها من صاحبها إذا كان صاحبها غائباً؛ لأن البينه على الغائب(7/303)
لا تقبل من غير خصم حاضر، ولا خصم عن الغائب ههنا، حتى لو حضر صاحبها بعد إقامة المشتري البينه على الشراء وصدقه فيما أقوله من الملك وكذبه فيما ادعى من المشتري يسترد الدار من يد الشفيع ويسلم إلى البائع؛ لأنهم اتفقوا على أن أصل الملك كان له، ولم يثبت النقل من المشتري، ولكن يحلف صاحبها بالله ما بعتها من هذا المشتري، فإذا حلف حينئذ يرد الدار عليه، فإن قامت بينة لمحضر صاحبها أنه باعه من المشتري ثبت الشراء وسلم الدار للشفيع، ويقبل هذه البينة من المشتري ومن الشفيع؛ لأن المشتري يثبت عقده والشفيع يثبت حقه في الشفعة، وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري والدار في يد البائع قضى بالشفعة لما ذكرنا في جانب المشتري وخصمه الوكيل.
وإن أقر المشتري والبائع بالبيع، ولكن قالا: لا شفعة لفلان فيها، فإن القاضي يسأل الوكيل البينة على الحق الذي وجبت به لموكله الشفعة من شركة أو جوار، فإن أقامها قضي له بالشفعة، وما لا فلا.
وهذا لأن الوكيل قائم مقام الموكل، والحكم في حق الموكل إذا أنكر المشتري والبائع شفعته هذا فكذا في حق الوكيل، وإذا أراد الوكيل إثبات الشفعة لموكله بالجوار ينبغي أن يقيم بينة أن الدار التي إلى جنب الدار المبيعة ملك موكله فلان.
هكذا ذكر محمد رحمه الله، وقد ذكرنا في فصل إنكار المشتري جواز الشفيع كيفية الشهادة (175ب3) في حق الأصيل، فيجب أن يكون في حق الوكيل كذلك، ولو أقام بينة أن الدار التي جنب الدار المبيعة ملك موكله فلان لا يكتفي به كما في حق الموكل، ولو أقام البينة بنفسه، وإذا أراد إثبات الشفعة بالشركة فأقام بينة أن لموكله فلان نصيباً من هذه الدار المبيعة ولم يثبتوا مقداره لا يثبت ذلك، ولا يقضى له بالشفعة؛ لأنه لا يمكن القضاء بالشفعة إلا بالقضاء بالشركة وتعذر القضاء بالشركة لمكان الجهالة.
وهذا بخلاف ما لو أقام المدعي بينة على المحبوس في السجن أنه موسر فإنه يقبل بينته، وإن لم يبينوا مقدار ملكه حتى يجلده القاضي في السجن بينة المدعي وتجليده في السجن لا يستحق إلا باليسار ويساره لا بثبت إلا بملكه.
والفرق: أن في مسألة المديون القضاء بالملك له مع إنكاره غير ممكن، ألا ترى مع بيان مقدار ملكه لا يمكن للقاضي أن يقضي له بالملك بجحوده، وما تعذر القضاء بالملك هناك لم يشترط للقضاء باليسار إمكان القضاء بالملك، وفي مسألة الشفعة أمكن للقاضي القضاء بالملك للشفيع؛ لأنه مدع، فلا يسقط اعتبار اشتراط القضاء بالملك للقضاء بالشفعة لمكان الجهالة.
وإذا وكل الرجل رجلاً بأخذ دار له بالشفعة ولم يعلمه الثمن صح التوكيل، وإذا أخذها الوكيل بما اشتراها المشتري لزم الموكل، وإن كان ذلك ثمناً كثيراً بحيث لا يتغابن الناس فيه سواء أخذها بقضاء أو بغير قضاء، بخلاف الوكيل بالشراء إذا اشترى بثمن كثير لا يتغابن الناس في مثله حيث لا يلزم الموكل.
والفرق: أن في فصل الشفعة الثمن منصوص عليه، وهو الثمن الذي اشتراه(7/304)
المشتري؛ لأن الأخذ بالشفعة لأخذ بمثل ذلك الثمن وقد اشتراه به، فأما في فصل الشراء الثمن غير منصوص عليه، فيعرف المقدار بالعرف.
وإذا وكل رجل هو ليس بشفيع الدار أن يأخذ الدار له بالشفعة، فأظهر الشفيع ذلك فقد بطلت شفعته؛ لأنه قصد التملك من جهة المشتري بغيره، فيعتبر بما لو قصد التملك من جهة لنفسه بأن ساومه، وذلك مبطل شفعته، فإن أسر الشفيع ذلك حتى أخذها ثم علم المشتري بذلك إن سلمها بغير قضاء قاض جاز ذلك، ولم يكن للمشتري أن يأخذها وصار الشفيع مشترياً للآمر؛ لأنه سلم الدار بالشفعة في موضع لا شفعة للشفيع مستأنفاً إذا حصل برضا المشتري.
وإن أخذها بقضاء قاض، فإنها ترد على المشتري؛ لأنه لما لم يكن له أخذ الدار بالشفعة تبين أن القاضي قضى للوكيل بالدار بغير سبب، ولا يمكن أن يجعل شراء مستقبلاً لانعدام الرضا من المشتري، ولا يصح توكيل الشفيع المشتري بأخذ الشفعة سواء كانت الدار في يده أو في يد البائع إن كانت الدار في يده؛ فلأن الأخذ بالشفعة شراء، والإنسان لا يصلح وكيلاً بالشراء من نفسه، وإن كانت الدار في يد البائع؛ فلأنه ساع في نقص ما تم به؛ لأن بالأخذ بالشفعة ينفسخ الشراء الذي جرى بين البائع وبين المشتري، وكذا لا يصح توكيل البائع بذلك.
وإن كانت الدار في يد البائع قياساً، وفي الاستحسان: لا يصح؛ لأنه ساع في نقض ما تم به من وجه؛ لأن الأخذ بالشفعة من المشتري إن كان تمليكاً مبتدأ من جهة، المشتري من وجه فهو بمنزلة الاستحقاق من وجه من حيث إنه يأخذ من غير رضا المشتري بحق سابق له على حق المشتري، فمن هذا الوجه يصير البائع ساعياً في نقض ما تم به.
وإذا وكل رجلاً بطلب الشفعة بكذا كذا درهماً واحدة، فإن كان المشتري اشترى بذلك المقدار أو بأقل فهو وكيل، وإن كان اشترى بأكثر من ذلك، فهو ليس بوكيل؛ لأن الأخذ بالشفعة شراءٌ والوكيل بالشراء بثمن معين بملك الشراء به وبأقل منه، ولا يملك الشراء بأكثر منه، وكذلك إذا قال: وكلتك إن كان فلان اشتراها فإذا قد اشتراها غيره لا يكون وكيلاً.
وإذا وكل وكيلين بأخذ الشفعة، فلأحدهما أن يخاصم بدون الآخر، ولا يأخذ الشفعة بدون الآخر، وإذا وكل وكيلاً بأخذ الشفعة، فليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الأصل أجاز ما صنع، فإن أجاز ما صنع وكل الوكيل وكيلاً، وأجاز ما صنع لم يكن لهذا الوكيل الثاني أن يوكل غيره.
الوكيل بالشفعة إذا سلم الشفعة ذكر في شفعة «الأصل» : أنه إذا سلم في مجلس القاضي صح، وإن سلم في غير مجلس القاضي لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: يصح تسليمه في مجلس القاضي.h(7/305)
فعلى رواية كتاب الشفعة جوز تسليمه في مجلس القاضي، ولم يحك فيه خلافاً، وذكر في كتاب «الوكالة» و «المأذون» : ما ذكر في الشفعة قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وإقراره على موكله بالتسليم في مجلس القاضي صحيح بلا خلاف بين علمائنا الثلاثة وإقراره في غير مجلس القاضي عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول.
في قوله الآخر صحيح، فمحمد رحمه الله، فرّق بين تسليمه في مجلس القاضي وبين إقراره بالتسليم على موكله في مجلس القاضي.
والفرق: أن إقراره إنما صح أنه جواب الخصومة، والتسليم ليس جواب الخصومة بل هو إبطال حق على الموكل والوكيل مأمور باستيفاء الحق لا بإبطاله.
ألا ترى أن الوكيل بالخصومة في الدِّين يملك الإقرار على موكله بالقبض، ولا يملك الإبراء.
الوكيل بالشفعة إذا طلب الشفعة وادعى المشتري التسليم، فهذا على وجهين:
الأول: أن يدعي التسليم على الموكل ويطلب يمين الوكيل بالله ما يعلم أن الموكل قد سلم الشفعة، أو يطلب الموكل بالله ما سلمني الشفعة، فإن طلب يمين الوكيل، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن أصل الدعوى وقعت على الموكل، فإنه ادعى تسليم الموكل واستحلاف غير من توجه عليه الدعوى بمنزلة البدل عن استحلاف من يوجه عليه الدعوى والإنصاف إلى البدل على إمكان المصير إلى الأصل، وما دام الموكل حياً واستخلافه ممكن بخلاف ما لو ادعى ديناً على ميت وأنكر الوارث ذلك وطلب المدعي من القاضي أن يحلف الوارث، فالقاضي يحلفه على علمه؛ لأن هناك وقع العجز عن المصير إلى الأصل، وإن طلب يمين الموكل، فالقاضي يقول له: سلم الدار إلى الوكيل ليأخذها الموكل بالشفعة وانطلق واطلب يمين الموكل.
وهو نظير ما لو وكل (176أ3) رجلاً بقبض الدين فقال المديون: أريد يمين الموكل بالله ما أبرأني، فالقاضي يقضي عليه بالمال، ويأمره بالأداء إلى الوكيل ويقول له انطلق واطلب يمين الموكل، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء إذا وجد بالمشترى عيباً وأراد رده على البائع، وطلب البائع يمين الموكل بالله ما رضي بالعيب كان له ذلك، ولا يرد حتى يحضر الموكل ويحلف الوجه الثاني أن يدعي التسليم على الوكيل ويطلب يمينه فالقاضي لا يحلفه عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف رحمهم الله.
وإذا شهد شاهدان على الوكيل أنه سلم الشفعة عند غير القاضي، فشهادتهما باطلة عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وكذلك إذا شهد شاهدان عليه أنه قد سلم عند القاضي، ثم عزل قبل أن يقضي عليه لم يجز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
ولو أقر الوكيل عند القاضي أنه قد سلم الشفعة عند غير قاض، أو عند قاض آخر فإقراره صحيح، ويكون هذا بمنزلة إنشاء التسليم عند هذا القاضي.(7/306)
وهو نظير ما لو شهد شاهدان على رجوع الشهود وعن شهادتهم في غير مجلس القاضي فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو أقر الشهود عند القاضي أنهم قد رجعوا عن شهادتهم في غير مجلس القاضي صح إقرارهم وجعل ذلك منهم منزلة إنشاء الرجوع عند هذا القاضي.
في «فتاوي (أهل) سمرقند» : ... وإذا وكل رجلاً ببيع داره، فباعها بألف درهم ثم حط عن المشتري مائة درهم وضمن ذلك الأمر، فليس للشفيع أن يأخذها بالشفعة إلا بالألف؛ لأن حط الوكيل لا يلتحق بأصل العقد.
في «فتاوي الفضلي» : الوكيل بشراء الدار إذا اشترى وقبض فجاء الشفيع وأراد أن يطلب الشفعة من الوكيل، فهذا على وجهين:
الأول: أن تكون الدار في يد الوكيل، وفي هذا الوجه الطلب منه صحيح.
الوجه الثاني: أن يكون الوكيل قد سلم الدار إلى الموكل وفي هذا الوجه لا يصح الطلب من الوكيل، هكذا قال، قول الفقيه أبو إبراهيم، هكذا ذكر في «الأجناس» عن محمد قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وقال القاضي الإمام علي السغدي: الصحيح أنه يصح الطلب منه على كل حال؛ لأنه هو العاقد، قال الصدر الشهيد: والجواب في الوكيل مع الموكل كالجواب في البائع مع المشتري إن كانت الدار في يد البائع فالطلب منه صحيح، وإن كانت في يد المشتري لا يصح الطلب من البائع هو المختار غير أن فرق ما بين الوكيل والبائع أن البائع إذا لم يسلم الدار لا يكون خصماً حتى يحضر المشتري، والوكيل إذا قبض فهو خصم، وإن لم يحضر الموكل، هذا هو الكلام في الطلب.
وأما الكلام في تسليم الشفعة وتسليم الشفيع عند الوكيل وقد ذكرناه في فصل تسليم الشفعة في «القدوري» .
قال أصحابنا: إذا قال المشتري قبل أن يخاصم في الشفعة: اشتريت هذه الدار لفلان وسلمها إليه، ثم حضر الشفيع فلا خصومة بين الشفيع وبين المشتري؛ لأن إقراره قبل الخصومة صحيح، فصار كما لو كانت الوكالة معلومة، فإذا خوصم ثم أقر بذلك لم تسقط الخصومة عنه؛ لأنه صار خصماً وهو يريد إسقاط الخصومة عن نفسه ولو أقام بينة أنه قبل شرائه اشترى لفلان لم تقبل بينته؛ لأنه لا يدفع بهذه الخصومة عن نفسه.
قال: وروي عن محمد رحمه الله: أن المشتري إذا قال: أنا أقيم البينة أني أقررت بهذا القول قبل الشراء لم تقبل بينته لإثبات الملك للغائب، ولا خصومة بينه وبين الشفيع حتى يحضر المقر له.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى داراً وأشهد قبل شرائهما معنى قوله أشهد قال بلسانه: أنه اشترى لفلان بماله وأمره وطلب الشفيع الشفعة، فالمشتري خصم في ذلك، ولو كان له شاهدان يشهدان أن فلاناً أمره بشرائهما لم يكن هو خصماً للشفيع والله أعلم.
وأما الكلام في تسليم الشفعة وتسليم الشفيع عند الوكيل وقد ذكرناه في فصل تسليم الشفعة في «القدوري» .
قال أصحابنا: إذا قال المشتري قبل أن يخاصم في الشفعة: اشتريت هذه الدار لفلان وسلمها إليه، ثم حضر الشفيع فلا خصومة بين الشفيع وبين المشتري؛ لأن إقراره قبل الخصومة صحيح، فصار كما لو كانت الوكالة معلومة، فإذا خوصم ثم أقر بذلك لم تسقط الخصومة عنه؛ لأنه صار خصماً وهو يريد إسقاط الخصومة عن نفسه ولو أقام بينة أنه قبل شرائه اشترى لفلان لم تقبل بينته؛ لأنه لا يدفع بهذه الخصومة عن نفسه.
قال: وروي عن محمد رحمه الله: أن المشتري إذا قال: أنا أقيم البينة أني أقررت بهذا القول قبل الشراء لم تقبل بينته لإثبات الملك للغائب، ولا خصومة بينه وبين الشفيع حتى يحضر المقر له.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى داراً وأشهد قبل شرائهما معنى قوله أشهد قال بلسانه: أنه اشترى لفلان بماله وأمره وطلب الشفيع الشفعة، فالمشتري(7/307)
خصم في ذلك، ولو كان له شاهدان يشهدان أن فلاناً أمره بشرائهما لم يكن هو خصماً للشفيع والله أعلم.
الفصل الرابع عشر: في شفعة الصبي
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الصغير والكبير في استحقاق الشفعة سواء؛ لأنهما في سبب استحقاق الشفعة سواء، قال: والحبل في استحقاق الشفعة والكبير سواء؛ لأن الحبل يرث فيثبت له الشركة أو الجوار كما يثبت للكبير، فإن وضعت الأقل من ستة أشهر منذ وقع الشراء فله الشفعة؛ لأنا تيقنا بوجوده يوم البيع وكان وضعه بمنزلة قدومه وهو غائب.
وإن جاءت به لسته أشهر فصاعداً منذ وقع الشراء، فإنه لا شفعة له؛ لأنه لم يثبت وجوده وقت البيع لا حقيقة ولا حكماً إلا أن يكون أبوه مات قبل البيع وورث الحبل منه حينئذ يستحق الشفعة، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً؛ لأن وجوده وقت البيع ثابت حكماً لما ورث من أبيه، ثم إذا وجب الشفعة للصغير فالذي يقوم بالطلب والأخذ من قام مقامه شرعاً في استيفاء حقوقه وهو أبوه، ثم وصي أبيه، ثم جده أب أبيه، ثم وصي نصيبه القاضي، فإن لم يكن له أخذ من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك، فإذا أدرك وقد ثبت له خيار البلوغ والشفعة فاختار رد النكاح أو طلب الشفعة مع الإمكان بطلت الشفعة، حتى لو بلغ الصغير لا يكون له حق الأخذ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: لا تبطل الشفعة، وعلى هذا الخلاف تسليم الشفعة إذا سلم الأب أو الوصي ومن بمعناهما شفعة الصغير صح تسليمه، وأبي يوسف حتى لو بلغ الصبي لا يكون له أن يأخذها بالشفعة؛ لأن تسليم الشفعة وترك طلبها ترك التجارة، ومن ملك التجارة في مال إنسان ملك تركها أيضاً؛ ولأن أخذ الشفعة يكون عوضاً، فبتسليم الشفعة إن كان سقط حق الصغير، ولكن بعوض وإسقاط حق الصغير بعوض داخل تحت ولاية هؤلاء.
ألا ترى أنهم ملكوا بيع مال الصغير، ثم تسليم الأب والوصي شفعة الصغير صحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، سواء كان التسليم في مجلس القضاء أو في غير مجلس القضاء بخلاف تسليم الوكيل في غير مجلس القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنهما نائبان عن الصغير في مجلس القضاء وغيره، فأما الوكيل نائب عن الموكل في مجلس القاضي؛ لأنه وكيل بالخصومة، ومعدن الخصومة مجلس القضاء، فكأن الموكل قال له: أنت وكيلي في مجلس القاضي.
إذا اشترى داراً لابنه الصغير والأب (176ب3) شفيعها كان للأب أن يأخذها بالشفعة عندنا، كما لو اشترى الأب مال ابنه لنفسه، ثم كيف يقول: اشتريت وأخذ(7/308)
بالشفعة، ولو كان مكان الأب وصياً. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه المسألة في «واقعاته» وشوش الجواب المشبع إن كان في أخذ الوصي هذه الدار بالشفعة منفعة للصغير بأن وقع شراء الدار بغبن يسير بأن كان قيمة الدار مثلاً عشرة وقد اشتراها الوصي بأحد عشر، فإن الغبن اليسير يتحمل من الوصي في تصرفه مع الأجانب، ويأخذ الوصي بالشفعة يرتفع ذلك الغبن.
فإذا كانت الحالة هذه كان أخذ الوصي بالشفعة مبتغياً في حق الصغير فإن للوصي أن يأخذ الدار بالشفعة على قياس قول أبي حنيفة وأحد الروايتين عن أبي يوسف كما في شراء الوصي من مال الصغير لنفسه، وإن لم يكن في أخذ الوصي هذه الدار بالشفعة منفعة في حق الصغير بأن وقع شراء الدار للصغير بمثل القيمة لا يكون للوصي الشفعة بالاتفاق.
كما لا يكون للوصي أن يشتري شيئاً من مال اليتيم لنفسه بمثل القيمة بالاتفاق، ومتى كان للوصي ولاية الأخذ يقول: اشتريت وطلبت الشفعة، ثم يرفع الأمر إلى القاضي حتى ينصب قيمة عن الصبي، فيأخذ الوصي منه بالشفعة ويسلم الثمن إليه ثم القيم يسلم الثمن إلى الوصي.
في «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله وفي «الفتاوى» : عن الفقيه أبي بكر: لو اشترى لابنه الصغير داراً والأب شفيعها لا يأخذ بالشفعة ما لم يدرك الابن أو ينصب الحاكم خصماً.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا الجواب في الوصي فأما الأب يأخذ؛ لأن الأب لو اشترى مال ابنه لنفسه صح، كذا هذا يأخذ من غير قضاء وعن شداد: أن الوصي يشهد على طلب الشفعة ويترك حتى يبلغ الصبي، ولو كان الصبي شفيع دار اشتراها الوصي لا يشهد ولا يطلب الشفعة له حتى يدرك الصبي.
اشترى الأب لنفسه داراً وابنه الصغير(7/309)
شفيعها فلم يطلب الأب الشفعة للصغير حتى بلغ الصغير، فليس للذي بلغ أن يأخذها بالشفعة؛ لأن الأب كان متمكناً من الأخذ بالشفعة، فسكوته يكون مبطلاً للشفعة.
ولو باع الأب داراً لنفسه وابنه الصغير شفيعها فلم يطلب الأب الشفعة للصغير، لا تبطل شفعة الصغير حتى لو بلغ الصغير كان له أن يأخذها؛ لأن الأب ههنا لا يتمكن من الأخذ بالشفعة لكونه تابعاً وسكوت من لا يملك الأخذ لا يكون مبطلاً ذكر هذه الجملة شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في باب تسليم الشفعة، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأحاله إلى «نوادر أبي يوسف» .
وأما الوصي إذا اشترى داراً لنفسه أو باع داراً له والصبي شفيعها، فلم يطلب الوصي شفعته فاليتيم على شفعته إذا بلغ؛ لأن الوصي لا يملك البيع والشراء للصغير مع نفسه إلا إذا كان فيه منفعة للصغير، وإذا لم يملك الأخذ لم يكن سكوته تسليماً، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» .
في «نوادر هشام» قال: قلت لمحمد: ما يقول في رجل اشترى داراً وابنه الصغير شفيعها، فلم يطلب الشفعة، قال: أما في قياس أبي حنيفة لا شفعة للصغير؛ لأن تسليم الأب جائز عليه، وأما في الوصي فهو على شفعته؛ لأنه لا يقدر أن يأخذه له من نفسه، ويجب أن يكون الجواب في شراء الأب داراً لنفسه وابنه الصغير شفيعها على التفصيل إن لم يكن للصبي في هذا الأخذ ضرر بأن وقع شراء الأب بمثل القيمة أو بأكثر مقدار ما يتغابن الناس في مثله لا يكون للصغير الشفعة إذا بلغ.
وإن كان للصغير في هذا الأخذ ضرر بأن وقع شراء الأب بأكثر من القيمة مقدار ما لا يتغابن الناس فيه كان له الشفعة إذا بلغ؛ لأن الأب لا يملك التصرف في مال الصغير مع نفسه على وجه الضرر، فلم يكن الأب متمكناً من الأخذ في هذه الصورة، فلا يكون سكوته مبطلاً للشفعة، والذي يريد هذا مسألة ذكرها شمس الأئمه السرخسي في باب تسليم الشفعة.
وصورتها: رجل اشترى داراً بأكثر من قيمتها وصغير شفيعها، فسلم الأب شفيعها لا يصح تسليمه عندهم جميعاً هو الصحيح؛ لأن الأب لا يملك الأخذ ههنا بالاتفاق لكثرة الثمن والسكوت عن الطلب، والتسليم إنما يصح ممن يملك، فيبقى الصبي على حقه إذا بلغ.
ويجب أن يكون الجواب في الوصي إذا اشترى داراً لنفسه والصغير شفيعها، فلم يطلب حتى بلغ الصبي على التفصيل أيضاً: إن كان للصغير في الأخذ بالشفعة منفعة، فلا شفعة للصغير إذا بلغ عند أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن الوصي لو اشترى من مال نفسه شيئاً للصغير وللصغير فيه منفعة ظاهرة جاز عند أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، فكان الوصي متمكناً من الأخذ فكان سكوته مبطلاً شفعته، وإن لم يكن للصغير في الأخذ بالشفعة منفعة ظاهرة كان له الشفعة إذا بلغ بالاتفاق، فلا يكون سكوته مبطلاً.
ولو كان الوصي باع الدار وباقي المسألة بحاله، فالصغير على شفعته إذا بلغ بالاتفاق، كما في الأب إذا قال الأب أو الوصي: اشتريت هذه الدار بألف درهم للصغير، فقال الشفيع: اتق الله فإنك اشتريتها بخمسمائة فصدقة، فإنه لا يصدق ويأخذ الدار بألف درهم حتى يقيم البينة على الشراء بخمسمائة والله أعلم.
الفصل الخامس عشر: في حكم الشفعة إذا وقع الشراء بالعروض
قد ذكرنا قبل هذا أن الشراء إذا وقع ما ليس من ذوات الأمثال، فالشفيع يأخذ الدار بقيمة ما وقع الشراء به.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا اشترى الرجل داراً بعبد بعينه وأخذ الشفيع الدار بقيمة العبد بقضاء القاضي، ثم استحق العبد بطلت الشفعة وأخذ الدار من الشفيع؛(7/310)
وهذا لأن الشراء بالمستحق شراء فاسد، ولهذا لا يفيد الملك في بذل المستحق إلا بالقبض ولا شفعة في الشراء الفاسد، فظهر أن القاضي أخطأ في قضائه حيث قضى بالشفعة ولا شفعة، فيرد قضاؤه وذلك يرد حكمه، فلهذا قال يسترد الدار من يد الشفيع.
فإن قيل: ينبغي أن لا يسترد الدار، وإن ظهر أنه لم يكن له الشفعة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالشفعة قضاء بالشراء، والقاضي متى قضي بالشراء للإنسان ثبت الشراء بقضائه وإن لم يكن بينهما شراء.
قلنا: القضاء بالشفعة قضاء (177أ3) بالشراء من وجه قضاء بالملك المرسل من وجه لما ذكرنا أن الأخذ بالشفعة بمنزلة الاستحقاق من وجه من حيث إن الشفيع يأخذ الدار من غير رضا المشتري بحق سابق والقضاء بالشراء إن كان ينفذ ظاهراً وباطناً عند أبي حنيفة، فالقضاء بالملك المرسل لا ينفذ باطناً، فلا ينفذ القضاء بالشفعة ظاهراً أو باطناً بالشك.
فلهذا قال: يسترد الدار من يد البائع، هذا إذا أخذ الشفيع الدار بقيمة العبد بقضاء القاضي، وإن كان المشتري قد سلم الدار إلى الشفيع بقيمة العبد بقضاء القاضي، وإن كان المشتري قد سلم الدار إلى الشفيع بقيمة العبد بغير قضاء إن كان قد سمى الشفيع قيمة العبد كذا كذا حتى صار الثمن معلوماً من كل وجه.
ثم استحق العبد ليس للمشتري على الدار سبيل ويجعل ذلك بيعاً مبتدأ لوجود حده وهو التملك والتمليك بالتراضي، لما تبين أنه لم يكن له شفعة، ويكون للبائع على المشتري قيمة الدار؛ لأن باستحقاق العبد تبين أن الشراء وقع فاسداً.
وإذا باع ما اشترى نفذ بيعه ويضمن للبائع قيمة ما اشترى، وإن لم يكن سمى للشفيع قيمة العبد كذا وكذا، ولكن قال سلمت الدار لك بقيمة العبد كان للمشتري أن يسترد الدار من الشفيع.
إذا اشترى داراً بعبد وهلك العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة؛ وهذا لأن بهلاك العبد وإن فسد البيع لما عرف أن هناك أحد البدلين في بيع المقايضة يوجب فساد العقد، إلا أنه إنما فسد البيع بعد وقوعه بوصف الصحة، وإنه لا ينافي حق الشفعة ولو لم يمت العبد حتى أخذ الشفيع الدار بقيمة العبد إن أخذها من البائع لم يبق للبائع على العبد الذي جعله المشتري ثمناً لهذه الدار سبيل؛ لأن يأخذ الشفيع الدار من البائع ينفسخ شراء المشتري، وإن أخذها من المشتري ثم مات العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري، فالقيمة التي أخذها المشتري من الشفيع تكون للبائع.
وإذا اشترى داراً بعبد غيره، وأجاز صاحب العبد الشراء، فللشفيع الشفعة؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء ويأخذها بالشفعة بقيمة العبد لما ذكرنا، وإذا وقع الشراء بمكيل أو موزون بعينه واستحق المكيل أو الموزون فقد بطلت الشفعة؛ لأن المكيل أو الموزون إذا كان بعينه فهو والعبد سواء، وإن كان المكيل أو الموزون في(7/311)
الذمة، فأوفاه ذلك ثم استحق ذلك فشفعة الشفيع على حاله؛ لأن المكيل أو الموزون إذا كان في الذمة فهو والدراهم سواء.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل اشترى من آخر داراً بالكوفة بكر حنطة بعينه أو بغير عينه وتقابضا ثم خاصمه الشفيع في الدار بمرو فقضى له عليه بالشفعة والدار بكوفة، قال: إن شاء المشتري أخر الشفيع حتى يأخذ منه حنطة مثلها بالكوفة وسلم له الدار بمرو، وإن شاء سلم له الدار وأخذ منه بمرو قيمة الطعام بالكوفة.
وقال في موضع آخر من «المنتقى» : إذا كان قيمة الكر في الموضعين سواء أعطاه الكر حيث قضي له بالشفعة، وإن كانت القيمة متفاضلة نظر في ذلك إن كان الكر في الموضع الذي يريد الشفيع أن يعطي أعلى، فذلك إلى الشفيع يعطيه ذلك حيث شاء، وإن كان أرخص فرضي به المشتري، فذلك إليه وإن شاؤوا أعطى المشتري قيمة ذلك في الموضع الذي فيه ما يساوي في موضع الشراء.
الفصل السادس عشر: في الشفعة في فسخ البيع والإقالة وما يتصل بذلك
مشتري الدار إذا وجد الدار عيباً بعدما قبضها وردها بالعيب، وكان ذلك بعد ما سلم الشفيع الشفعة فللشفيع أن يأخذها بالشفعة، وإن كان الرد بغير قضاء قاض، فإن الرد بالعيب بغير قضاء بيع جديد في حق الثالث والشفيع ثالث، فصار في حق الشفيع كأن المشتري باع الدار من البائع، ولو كان الرد بقضاء قاض فليس للشفيع أن يأخذها؛ لأن الرد بقضاء فسخ في حق الكل وليس ببيع جديد أصلاً لانعدام حده، والتملك بالتراضي وحق الشفيع إنما يثبت في العقد لا في الفسخ، وإذا كان الرد بالعيب قبل قبض الدار، فإن كان بقضاء فلا شفعة للشفيع، وإن كان بغير قضاء، فكذلك عند محمد رحمه الله؛ لأنه تعذر اعتباره بيعاً جديداً في حق الشفيع؛ لأن بيع العقار قبل القبض عنده لا يجوز، وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: للشفيع الشفعة؛ لأن بيع العقار قبل القبض عندهما جائز، فأمكن أن يجعل هذا الرد بيعاً جديداً في حق الشفيع وبعضهم قالوا: لا شفعة للشفيع؛ لأن رضا البائع قبل القبض لا عبرة به؛ لأن للمشتري حق الرد بالعيب قبل القبض وإن لم يرض به البائع؛ لأن الصفقة لم يتم بعد، ولو انعدم الرضا من البائع لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق الشفيع، فكذا إذا لم يعتبر رضاه.
كما لو سلم المشتري الدار إلى الشفيع باختياره ورضاه لا يعتبر ذلك بيعاً جديداً في حق الثالث، حتى لو كان لهذه الدار شفيع آخر وقد سلم الشفعة لا يتجدد له شفعة أخرى بهذا التسليم؛ لأن للشفيع أن يأخذ منه بغير رضاه، فلم يكن لرضاه عبرة كذا هاهنا.
وإن كان المشتري رد الدار بخيار رؤية أو بخيار شرط لا يتجدد للشفيع حق الشفعة(7/312)
حصل الرد قبل القبض أو بعد القبض، بتراضيهما أو بغير تراضيهما؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه في حق الناس كافة.
وإن اشترى الرجل داراً أو أرضاً فسلم الشفيع الشفعة، ثم إن البائع والمشتري تصادقا أن البيع كان تلجئة ورد المشتري على البائع لا يتجدد للشفيع حق الشفعة، وكان ينبغي أن يتجدد؛ لأن إقرارهما بالتجلئة لا يعتبر في حق الشفيع.
ألا ترى أنهما لو أقرا بذلك قبل تسليم الشفعة لا يعتبر إقرارهما في حق الشفيع حتى كان للشفيع أن يأخذ الدار كذا هاهنا.
وإذا لم يعتبر إقرارهما لم تثبت التلجئة في حق الشفيع فكان الرد بسبب التلجئة فسخاً للعقد في حقه لا رداً بالتلجئة والفسخ متى حصل بالتراضي يتجدد للشفيع حق الشفعة، والجواب إنما لم يعمل إقرارهما بالتلجئة في حق الشفيع قبل تسليم الشفعة؛ لأن البيع الصحيح ظاهر أو ثبت للشفيع حق الشفعة، فهما بهذا الإقرار يريدان إبطال حقه؛ فأما بعد تسليم الشفعة لم يبق للشفيع (177ب3) حق أصلاً، فإقرارهما لا يتضمن بطلان حقه فتثبت التلجئة بإقراره، فكان الرد بسبب التلجئة فلا يتجدد به حق الشفعة.l
في «المنتقى» : رجل اشترى داراً وقبضها وسلم الشفيع الشفعة، ثم إن المشتري قال: إنما كنت اشتريتها لفلان، وقال الشفيع بل اشتريتها لنفسك، وهذا منك بيع مستقبل وأنا آخذها بالشفعة بهذا البيع، فالقول قول الشفيع، وإن كان فلاناً غائباً لم يكن للشفيع أن يأخذ الدار حتى يقدم الغائب من قبل أن الشفيع يدعي أن هذا باع الدار من الغائب، وليس للشفيع أن يأخذ الدار من البائع حال غيبة المشتري.
وإن قال المشتري: أنا أقيم البينة أن فلاناً كان أمرني بذلك، وإني إنما اشتريتها له لم يقبل بينته على ذلك حتى يحضر فلان.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا انفسخ العقد فيما بين البائع والمشتري بسبب هو فسخ من كل وجه لا يبطل حق الشفيع؛ لأن حق الشفعة يعتمد وجود البيع لا بقاؤه والله أعلم بالصواب.
الفصل السابع عشر: في شفعة أهل الكفر
الكافر والمسلم في استحقاق الشفعة سواء؛ لأنهما في سبب استحقاق الشفعة سواء. وإذا اشترى النصراني داراً بميته أو دم، فلا شفعة للشفيع؛ لأن الميت والدم ليس بمال في حقهم، فالشراء حصل بما ليس بمال فلا ينعقد، وهذا بخلاف ما لو اشترى بخمر أو خنزير؛ لأن ذلك مال في حقهم، فالشراء حصل بما هو مال فينعقد.
اشترى الذمي داراً بخمر وتقابضا ثم صار الخمر خلاً ثم أسلم البائع والمشتري، ثم استحق نصف الدار وحضر الشفيع أخذ النصف بنصف قيمة الخمر ولا يأخذ بنصف الخل؛(7/313)
لأن الشفيع إنما يأخذ الدار بمثل الثمن الذي هو مضمون على المشتري، والمضمون على المشتري الخمر دون الخل وقد عجز الشفيع عن الأخذ بصورة الخمر، فيأخذ بمعناها وهو القيمة، ثم يرجع المشتري على البائع بنصف الخل إن كان الخل قائماً في يده.
وإن كان مستهلكاً رجع عليه بمثل نصف الخل؛ لأنه لما استحق نصف الدار ظهر أن نصف الخمر كان في يده بحكم عقد فاسد، والخمر الذي اشتراها الذمي في شراء فاسداً إذا صارت خلاً في يده لا يسعه رد الخل بعينه إن كان قائماً، وإن عجز عن رد عينه رد مثله، فإن عجز عن رد مثله حينئذ رد قيمته، كذا هاهنا.
اشترى الذمي من ذمي كنيسة أو بيعة فللشفيع الشفعة هكذا ذكر في «الأصل» ، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان من ديانتهم أن الملك لا يزول عن المالك بجعله بيعة أو كنيسة إنما يشكل فيما إذا كان من ديانتهم أن الملك يزول عن المالك بهذا الصنع؛ لأنه باع ما لا يملك فلا يجوز بيعه في ديانته، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم وأن يتركهم وما يدينون إلا ما استثني عليهم في عودهم.
والوجه في ذلك: أنه لما أقدم على البيع فقد أدان بديننا؛ لأن من ديننا أن الملك لا يزول عن المالك بما بعده للمعصية والذمي إذا دان بديننا يلزمه ذلك كما في نكاح المحارم إذا طلبا الفرقة من القاضي.
اشترى المرتد داراً ثم مات أو قتل على الردة حتى بطل شراؤه عند أبي حنيفة أو أسلم حتى نفذ شراؤه فللشفيع الشفعة؛ لأن شراء المرتد بمنزلة الشراء على أن المشتري بالخيار؛ لأنه توقف لمعنى من جهة المشتري وهو ردته.
ومن اشترى داراً على أن المشتري بالخيار كان للشفيع الشفعة أجاز المشتري البيع أو فسخ، وإن باع المرتد داراً ثم مات أو قتل على الردة، فلا شفعة للشفيع وإن أسلم فله الشفعة؛ لأن بيع المرتد بمنزلة البيع على أن البائع بالخيار.
ومن باع داراً بشرط الخيار إن أجاز البيع وجبت الشفعة وإن فسخه لا تجب كذا هاهنا عند أبي حنيفة، وإذا كان الشفيع مرتداً أو طلب الشفعة من القاضي، فالقاضي لا يقضي له بالشفعة حتى يسلم عند أبي حنيفة؛ لأن القضاء بالشفعة قضاء بالشراء، وشراء المرتد موقوف عند أبي حنيفة رحمه الله، بين أن ينفذ إذا أسلم، وبين أن يبطل إذا مات أو قتل على الردة، فمتى قضي له بالشفعة صار معرضاً قضاءه للإبطال، وعلى القاضي أن يصون قضاءه عن النقض والإبطال، وإن أبطل القاضي شفعته ثم أسلم بعد ذلك، فلا شفعة له؛ لأن قضاء القاضي قد نفذ لمصادفته محلاً مجتهداً فيه، فإن من العلماء من قال: لا شفعة للمرتد لا على الكافر ولا على المسلم وهو ابن شرمه.
ومنهم من قال: لا شفعة له على المسلم، وله شفعة على الكافر، وهو عثمان اليتي،(7/314)
فهو معنى قولنا: إن قضاءه صادف محلاً مجتهداً فيه فنفذ، وإن أوقفها القاضي حتى ينظر ثم أسلم فهو على شفعته، وإذا كان الشفيع مرتداً فمات أو قتل على الردة أو لحق بدار الحرب فلا شفعة لوارثه؛ لأن وارثه لو استحق الشفعة إما أن يستحق بحكم الإرث ولا وجه إليه؛ لأن الملك للوارث إنما يثبت من حين يموت المرتد أو يلحق بدار الحرب ويقضي القاضي بلحوقه لامن وقت الردة والبيع كان قبل الموت فكان جوار الورثة حادثاً والشفعة لا تستحق بجوار حادث.
ولو كان المرتد لحق بدار الحرب، ثم بيعت الدار قبل قسمة ميراثه كان لورثته الشفعة؛ لأنهم ملكوا ماله من وقت اللحوق بدار الحرب والبيع كان بعد ذلك، فتبين أنه كان للورثة جوار لوقت البيع، فيستحقون الشفعة ابتداء بجوارهم لا بحكم الإرث.
إذا اشترى الحربي المستأمن داراً ولحق بدار الحرب، فالشفيع على شفعته متى لقيه؛ لأن لحاقه بدار الحرب كموته، وموت المشتري لا يبطل شفعة الشفيع، وإن كان الشفيع هو الحربي، فلا شفعة له متى لحق بدار الحرب؛ لأن موت الشفيع يوجب بطلان الشفعة.
وإن كان الشفيع مسلماً أو ذمياً فدخل دار الحرب إن لم يعلم بالبيع فهو على شفعته متى علم؛ لأن دخول المسلم أو الذمي دار الحرب ليس كموته بل هو بمنزلة الغيبة وغيبة الشفيع لا تبطل شفعته، وإن دخل وهو يعلم بالبيع فلم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب.
وإذا اشترى المسلم داراً في دار الحرب وشفيعها مسلم، ثم أسلم أهل الدار، فلا شفعة للشفيع. يجب أن يعلم أن كل حكم لا يفتقر إلى قضاء القاضي لا يثبت ذلك الحكم في حق من كان من المسلمين في دار الحرب بمباشرة سبب ذلك الحكم في دار الحرب.
نظير الأول: جواز البيع والشراء (178أ3) وصحة الاستيلاء ونفاذ العتق ووجوب الصوم والصلاة، فإن هذه الأحكام كلها من أحكام الإسلام ويجري على كل من كان في دار الحرب من المسلمين؛ لأن أحكام هذه الحقوق لا يفتقر إلى القضاء.
ونظير الثاني: الزنى فإن المسلم إذا زنى في دار الحرب، ثم صار دار الإسلام لا يقام عليه الحد؛ لأن الزنى حال وجوده لم يوجب الحد؛ لأن ما هو المقصود من الحد الإقامة والإقامة إلى الإمام، وليس للإمام ولاية الإقامة في دار الحرب فلم يجب الحد لما كانت ولاية الإقامة فائته؛ إذا ثبت هذا فنقول: المقصود من حق الشفعة التملك وذلك يفتقر إلى قضاء القاضي؛ لأن المشتري عسى يرضى وعسى لا يرضى، وقضاء القاضي لا يجري على من كان في دار الحرب.
الفصل الثامن عشر: في الشفعة في المرض
إذا باع المريض داره بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف، ولا مال له غير الدار، ثم مات المريض وابنه شفيع الدار فلا شفعة له؛ هكذا ذكر في «الكتاب» ، وهذا الجواب لا(7/315)
يشكل عندهم جميعاً، متى أراد الشفيع الأخذ بألفي درهم قبل إجازة الورثة؛ لأن المريض كما صار بائعاً من المشتري بإيجاب حقيقة الملك له ببدل صار بائعاً من الشفيع بإيجاب حق التملك له ببدل.
ولهذا قلنا: إن الشفيع لو أقال مع البائع بعد ما أخذ الدار من المشتري بالشفعة صحت إقالته؛ لأنه أقال مع بائعه، ولو باع من وارثه من كل وجه بألفي درهم لا يجوز إجازة الورثة عندهم لما فيه من الوصية للوارث كذا هذا.
فأما إذا أراد أن يأخذ بثلاثة آلاف درهم لا شك أن على قول أبي حنيفة لا يجوز بدون إجازة الورثة لما ذكرنا أنه صار بائعاً من الشفيع من وجه، ولو باع منه من كل وجه بثلاثة ألف درهم لا يجوز عند أبي حنيفة من غير إجازة الورثة فهاهنا كذلك.
وأما على قولهما: فقد ذكر في كتاب الشفعة و «الجامع» والوصايا في رواية أبي حفص والمأذون أنه لا يأخذها بالشفعة، وذكر في الوصايا في رواية أبي سليمان: أنه يأخذها، فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان.
وجه ما ذكر في عامة الروايات: أن الأخذ بثلاثة آلاف يخالف موضوع الشفعة أن الشفيع يأخذ بمثل الثمن الذي هو مضمون على المشتري والمضمون على المشتري ألفا درهم، فلا يجوز أن يأخذ بثلاثة ألف درهم.
وجه ما ذكر في رواية أبي سليمان: أن المريض صار بائعاً الدار من الوارث من وجه، فيعتبر بما لو باعه منه من كل وجه ولو باع منه بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم كان له الأخذ بثلاثة آلاف درهم قبل إجازة الورثة كذا هاهنا.
ومن المشايخ من وفق بين الروايتين، وقال: ما ذكر في عامة الروايات محمول على ما إذا أراد الأخذ من المشتري؛ لأن الألف الزائد حينئذ تكون للمشتري؛ لأنه يملك من جهة المشتري فلهذه العهدة تكون على المشتري، فلا تزول المحاباة في حق الوارث؛ وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا أراد الأخذ من الورثة؛ لأن الألف الزائدة حينئذ تكون للورثة، فتزول المحاباة في حقهم.
وأما إذا أراد الأخذ بألفين بإجازة الورثة إن كان الأخذ من المشتري لا تعمل إجازتهم؛ لأن الشفيع بهذا الأخذ يصير متملكاً من جهة المشتري ومن جهة المريض فباعتبار التملك من المريض إن كانت تعمل إجازتهم، فباعتبار التملك من المشتري لا تعمل إجازتهم، فلا تصح إجارتهم بالشك، وإن كان الأخذ من الورثة تعمل إجارتهم، فإن شراء المشتري ينفسخ ويصير متملكاً على المريض من كل وجه فتعمل إجازتهم، هذا إذا كان المشتري أجنبياً، وإن كان المشتري وارثاً، فإن كان باعها بمثل قيمتها أو بأضعاف قيمتها لا شفعة للشفيع قبل إجازة الورثة عند أبي حنيفة خلافاً لهما، إن باعها بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم لا شك أن على قول أبي حنيفة لا شفعة للشفيع.
وأما على قولهما: فقد ذكر في كتاب الشفعة أنه يأخذها بثلاثة آلاف درهم إن شاء؛ لأن الشفيع قائم مقام المشتري وهو الابن أن يزيل المحاباة ويأخذها بثلاثة آلاف إن شاء،(7/316)
فكذا للشفيع، وذكر في موضع آخر: أنه لا شفعة للشفيع ههنا؛ لأن عندهما بيع المريض من وارثة إنما يصح، إذا لم تكن فيه وصية، وفي بيع المحاباة وصيتة ولا وصية للوارث، فكان البيع فاسداً ولا شفعة في البيع الفاسد، وبأن كان المشتري يتمكن من إزالة المفسد، فذاك لا يوجب الشفعة للشفيع.
كما لو اشترى بشرط أجلٍ فاسد، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن للشفيع أن يأخذها بألفي درهم؛ لأنه يتقدم على المشتري شرعاً، فيجعل كأن البيع من المريض كان معه بألفي درهم.
المريض إذا باع داراً بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف، وشفيعها أجنبي فله أن يأخذها بالشفعة بألفي درهم؛ لأن المحاباة كانت بقدر الثلث، وذلك صحيح من المريض الأجنبي.
فإن قيل: كيف يأخذ الشفيع الدار بألفي درهم والوصية من المريض كانت للمشتري لا للشفيع، ولا يجوز تنفيذ الوصية له لغير الوصي له.
قلنا: الوصية ما حصلت مقصودة ههنا، إنما حصلت في ضمن البيع والشفيع قد تقدم على المشتري شرعاً في البيع، فكذا فيما هو متضمن البيع على (أنه) لما أوجب البيع للمشتري بما سمى مع علمه أن الشفيع يتمكن من الأخذ بمثل ما اشترى به المشتري، كان هذه وصية للمشتري إن سلم الشفيع الشفعة، وللشفيع أن يأخذ بالشفعة إذا باعها بألفين إلى أجل، وقيمتها ثلاثة آلاف درهم، فالأجل باطل؛ لأن المحاباة بالقدر استغرقت ثلث المال، فلا يمكن تنفيذ الوصية بالأجل في شيء ولكن يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع، أو يؤدي الألفين حالة، ليصل إلى الورثة كمال حقهم وأي ذلك ما فعل، فللشفيع الشفعة يأخذها بألفي درهم حالة، وإن باعها بثلاثة آلاف درهم إلى سنة وقيمتها ألفا درهم، ثم مات أجمعوا على أن الأجل فيما زاد على الثلث باطل؛ لأنه بمنزلة المحاباة؛ لأنه براءة مؤقته، فتعتبر بالبراءة المؤبدة، لكن اختلفوا أنه يعتبر الأجل في الثلث باعتبار الثمن أو باعتبار القيمة، قال أبو يوسف: باعتبار الثمن، فيجعل ثلثي الثمن، وذلك ألفا درهم (178ب3) إن شاء والألف الثالثة إلى أجله، وقال محمد رحمه الله: باعتبار القيمة، فيجعل ثلثا القيمة، وذلك ألف وثلثمائة وثلاثة وثلثون وثلث إن شاء، والباقي عليه إلى أجله.
إذا باع المريض داراً وحابى وابنه شفيعها فبرئ من مرضه، فإن كان الوارث الشفيع علم بالبيع، وقد طلب وقت ما علم كان له أن يأخذ بالشفعة، وإن لم يطلب فلا شفعة له؛ لأنه ترك الطلب بغير عذر، أكثر ما فيه أنه لم يكن متمكناً من الأخذ وقت البيع لمرض البائع، لكن هذا لا يمنع سقوط الشفعة عند ترك الطلب، ألا ترى أن الجار إذا لم يطلب الشفعة بعد ما علم بالبيع لمكان الشريك، ثم سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة للجار، وإن لم يكن متمكناً من الأخذ وقت البيع.(7/317)
الفصل التاسع عشر: في وجوه الحيل في باب الشفعة
الحيل في هذا الباب نوعان:
نوع لإسقاطه بعد الوجوب، وذلك أن يقول المشتري للشفيع: أنا أبيعها منك بما أحدث، فلا فائدة لك في الأخذ، فيقول الشفيع: نعم أو يقول المشتري للشفيع اشتراه مني بما أحدث فيقول الشفيع: نعم، أو يقول: اشتريت، فبطل به شفعته وإنه مكروه، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أنه لا يكره إذا لم يكن قصد المشتري الإضرار بالشفيع.
ونوع لمنع وجوبه، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا على قول أبي يوسف: لا يكره، وعلى قول محمد: يكره، وهذا القائل قاس فصل الشفعة على فصل الذكاة وفي كراهية الحيل لمنع وجوب الذكاة خلاف بين أبي يوسف ومحمد، ومنهم من قال: في الشفعة لا تكره الحيلة لمنع وجوبها بلا خلاف، وإنما الخلاف في فصل الذكاة فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد إلى الفرق بين الشفعة وبين الذكاة.
وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت عن محمداً عن رجل جعل بيتاً من داره هبة لرجل، ثم باع بقية الدار منه هرباً من الشفعة قال: كان أبو يوسف لا يرى بذلك بأساً، وأما محمد رحمه الله، فكرهه كراهة شديدة، ولم يحفظ عن أبي حنيفة شيئاً.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل أبو بكر بن أبي أسعد عن ذلك، فقال: بعد البيع مكروه في الأحوال كلها إن كان الجار فاسقاً يتأذى به، فلا يكره.
وقيل: يكره في جميع الأحوال، ثم بعض الحيل يرجع إلى منع وجوب الشفعة، وبعضها يرجع إلى تقليل الرغبة في الشفعة، أما التي ترجع إلى منع وجوبها: أن يهب البائع بيتاً معلوماً من الدار بطريقه أو موضعاً آخر معلوماً من الدار بطريقه فتجوز الهبة؛ لأن ما وهب مقرر معين، والطريق وإن كان مشاعاً إلا أنه لا يحتمل القسمة، وهبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة جائز، فيصير شريكاً في الطريق ثم يبيع بقية الدار منه بثمن الكل، فيصير أولى بالجار، إلا أن هذه الحيلة تصلح لدفع الجار أما لا يصلح لدفع الشريك في الدار.
ومن جملة ذلك
أن يتصدق بطائفة معينة من الدار على المشتري بطريقها ويسلمها، ثم يبيع الباقي منه، فلا يكون للجار الشفعة.
ومن جملة ذلك: أن يهب من المشتري قدر ذراع من الجانب الذي هو متصل بملك الجار حتى يزول جواره عن باقي الدار، ثم يبيع الباقي منه.
ومن جملة ذلك: أن يستأجر صاحب الدار من المشتري ثوباً ليلبثه يوماً إلى الليل(7/318)
بجزء من داره التي يريد بيعها ثم يصير حتى يمضي اليوم أو بشرط التعجيل حتى يملك ذلك الجزء للحال ثم يبيع الباقي منه فلا يكون للجار الشفعة في الجزء الأول؛ لأنه ملك بعقد الإجارة، ولا في الجزء الثاني؛ لأن المشتري في الدار وقت البيع والشريك يتقدم على الجار.
ومنها: أن يؤكل الشفيع ببيعها، فإذا باعها بطلت شفعته.
ومنها: أن يبيعها بشرط أن يضمن الشفيع الدرك أو يضمن الثمن للبائع، فإذا ضمن بطلت شفعته، ومنها أن يبيعها بشرط الخيار للشفيع ثلاثة أيام فلا شفعة له قبل إسقاط الخيار بطلت شفعته.
وأما التي يرجع إلى تعليل الرغبة أن يبيع عشر الدار من المشتري بتسعة أعشار الثمن ثم يبيع تسعة أعشار الدار بعشر الثمن، فلا يرغب المشتري في أخذ العشر لكثرة الثمن، ولا حق له في الباقي؛ لأن المشتري شريك وقت شراء الباقي، فلو أن المشتري في هذه الصورة خاف أنه لو اشترى العشر بتسعة أعشار الثمن لا يبيع الباقي بعشر من الثمن.
فالحيلة في ذلك: أن يشتري العشر على خيار ثلاثة أيام حتى لو أن البائع إن أبى بيع الباقي، فالمشتري ينقض البيع في العشر بحكم الخيار، فلو أن البائع خاف في هذه الصورة أنه إن باع الباقي بعشر الثمن يفسخ المشتري البيع في العشر الأول بحكم الخيار.
فالحيلة للبائع: أن يبيع الباقي بشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام يجيزان البيعين معاً، فإن خاف كل واحد منهما أنه إن أجاز لم يجز صاحبه.
فالحيلة في ذلك: أن يوكل كل واحد منهما وكيلاً بإجازة البيع، ويشترط أن يجيز بشرط أن يجيزان لم يجز صاحبه.
ومنها: أن يشتري الدار بثمن كثير ثم يعطي المشتري بذلك شيئاً من خلاف جنسه هو أقل قيمة منه، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ يأخذ بذلك الثمن الكثير، فلا يرغب فيه لكثرة الثمن.
ومنها: وهو قريب مما تقدم: أنه إذا أراد أن يشتري داراً قيمتها عشرة آلاف درهم وعشرة ينبغي أن يشتريها بعشرين ألف درهم ويعطيه عشرة آلاف درهم وديناراً بعشرة، فإذا أراد الشفيع الأخذ يأخذ بعشرين ألف درهم؛ لأن الشراء وقع بهذا القدر، وإن استحق الدينار رجع على البائع بما أدى من الدراهم والدنانير فقط؛ لأنه لما استحق الدينار رجع على البائع بما أدى من الدراهم بطل الصرف؛ لأنه ظهر أن الثمن لم يكن عليه، فصار كمن اشترى من آخر ديناراً بعشرة عليه ثم تصادقا إنه لا دين عليه، فإنه يبطل الصرف ويرد الدينار كذا هاهنا.
ومنها: أن يبيع البناء من الدار من المشتري ليقلعه بثمن قليل ويبيع الساحة بثمن كثير فلا يجب للشفيع الشفعة في البناء، ويجب في الساحة ولكن لا يرغب في الساحة لكثرة الثمن.(7/319)
ومنها: أن قيمة الدار إذا كانت ألفاً مثلاً يبيع مشتري الدار شيئاً من أعيان ما له قيمته ألف بألفين حتى يجب للمشتري بائع الدار ألفي درهم قيمة ذلك الشيء ثم يشتري المشتري الدار وقيمتها ألف بثمن ذلك الشيء ألفي درهم، فتقع المقاصة بين الثمنين، (179أ3) ويكون ثمن الدار ألفي درهم إذا أراد المشتري أخذ الدار يأخذها بألفي درهم فلا يرغب في أخذها.
الفصل العشرون: في المتفرقات
ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : أن الشفيع إذا باع بعض داره التي يستحق بها الشفعة مشاعاً غير مقسوم بعد بيع الدار المشفوعة لا تبطل به شفعته، في «الأصل» في هذه المسألة وأجناسها: أن الشفيع متى أحدث في الدار التي يستحق بها الشفعة حدثاً بعد البيع والطلب قبل الأخذ، وما لو أحدثه بعد البيع قبل الطلب أو قبل البيع منع الطلب ووجوب الشفعة منع الأخذ، وما لا يمنع الطلب ووجوب الشفعة لا يمنع الأخذ بالشفعة؛ إذ المقصود من الطلب الأخذ.
إذا ثبت هذا فنقول: بيع بعض الدار التي يستحق بها الشفعة مشاعاً قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب لا يمنع وجوب الشفعة، وطلبها لقيام الجوار في نقص الدار، فبعد البيع والطلب لا يمنع الأخذ، وكذلك إذا باع بعضها مقسوماً مما لا يلي جانب الدار المبيعة لا تبطل به شفعته.
وإن باع بعضها مقسوماً مما يلي الدار المبيعة تبطل به شفعته؛ لأن ما أحدث لو أحدثه قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب يمنع وجوب الشفعة، وطلبها زوال الجوار وقت البيع ووقت الطلب، فيمنع الأخذ بالشفعة.
داران طريقهما واحد، وأحد الدارين بين رجلين، والآخر لرجل خاصة باع صاحب الخاصة داره، فللآخرين الشفعة بالطريق، فإن اقتسما الدار المشترك وأصاب أحدهما بعض الدار مع كل الطريق الذي كان لهما وأصاب الآخر بعض الدار بلا طريق، وفتح الذي لا طريق له لنصيبه باباً إلى الطريق الأعظم، وهما جميعاً جاران للدار التي بيعت، فالذي صار الطريق له أحق بشفعتها؛ لأنه بقي في شركة الطريق، فإن سلم هو الشفعة أخذه الآخر بالجوار، ولا تبطل شفعته بسبب هذه القسمة؛ لأن هذه القسمة لو وجدت قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب لا تمنع وجوب الشفعة وطلبها الآخر؛ لأن الجار مع الخليط شفيع إلا أن الخليط مقدم على الجار فلا يمنع الأخذ بالشفعة أيضاً.r
في «الأصل» : إذا بنى الشفيع في الدار التي أخذها بالشفعة بناءً، ثم استحقت الدار من يده رجع على الذي الدار منه بالثمن ولم يرجع بقيمة البناء، والمشتري إذا بنى ثم استحقت الدار من يده، فإنه يرجع بقيمة البناء كما يرجع بالثمن.(7/320)
والفرق: أن رجوع المشتري بقيمة البناء من حيث إن البائع ضمن سلامة البناء للمشتري، وهذا المعنى لا يتأتى في حق الشفيع؛ لأن المأخوذ منه الدار لم يضمن له سلامة البناء؛ لأن الشفيع أخذ الدار على كره منه وضمان السلامة لا يثبت بدون الرضا.
وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الشفيع إن كان أخذ الدار بقضاء لا يرجع بقيمة البناء على كل حال، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً، وكان أبو يوسف يرويه عن أبي حنيفة أيضاً، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقيمة البناء على من أخذ الدار منه، وكتب عليه عهدته؛ لأنه بمنزلة البائع ويستوي فيه الحكم وغير الحكم.
في «الأصل» : رجل زعم أنه باع داره من فلان بكذا ولم يأخذ الثمن، فقال فلان: ما اشتريتها منك كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة؛ لأن في زعم البائع أن البيع ثابت وصدقه الشفيع في ذلك، فكان للشفيع أن يأخذ للبائع في ذلك بزعمه، هذا إذا أقر أنه باع من فلان وفلان حاضر ينكر الشراء، فأما إذا كان غائباً فلا خصومة للشفيع مع البائع حتى يحضر المشتري؛ لأن الشراء من الغائب قد ثبت بتصديق البائع والشفيع، فيعتبر بما لو كان ثابتاً معاينة وغاب المشتري، فلا خصومة للشفيع مع البائع إلى أن يحضر المشتري؛ لأن الملك يستحق عليه، فلا بد من حضرته، فكذا ها هنا.
ذكر في أول باب طلب الشفعة، قال هشام: سألت محمداً عن رجل باع داراً إلى جنب رجل وهو شفيعها، والشفيع يزعم أن الدار المبيعة له، ويخاف أنه إن ادعى رقبتها تبطل شفعته، وإن ادعى الشفعة تبطل دعوى الرقبة، فكيف يصنع؟.
فأجاب، وقال: ينبغي له أن يقول: هذه الدار داري وأنا أدعي رقبتها، فإن وصلت إليها وإلا فأنا على شفعتي فيها، فإذا قال هذا لا يبطل شفعته بدعواه الرقبة.
وفي «النوازل» : دار بيعت وفيها لرجل هو شفيعها حق فأراد أن يطلب الشفعة على وجه لا تبطل دعواه ينبغي أن يقول: طلبت الشفعة إن لم يثبت لي فيها حق الذي ادعى فيها.
وفي «المنتقى» : في آخر باب طلب الشفعة: إذا باع الرجل داره فادعى رجل أنها داري وأنا أقيم البينة، فإن لم يزك بينتي فأنا آخذها بالشفعة؛ لأن داري لزيقها فلا شفعة له فيها من قبل أنه ادعى ملكها وزعم أنه لا شفعة له فيها.
وفيه أيضاً: رجل له دار غصبها غاصب، فبيعت دار بجنبها والغاصب والمشتري جاحدان الدار للشفيع ينبغي أن يطلب الشفعة حتى إذا أقام البينة على الملك يتبين أن الشفعة كانت ثابتة له، فطلب خاصم الغاصب إلى القاضي وأخبره عن صورة الأمر، فبعد ذلك قضى القاضي له بالدار وبالشفعة في الدار الأخرى، وإن لم يقم البينة فالقاضي يحلفهما جميعاً فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن حلفا فالقاضي لا يقضي له بإحدى الدارين، وإن نكلا فالقاضي يقضي بالدارين، وإن حلف الغاصب ونكل المشتري لا يقضي له بالدار المغصوبة، ويقضي له بالشفعة، وإن حلف المشتري ونكل الغاصب يقضي(7/321)
له بالدار المغصوبة، ويقضي له بالشفعة؛ لأن النكول إقرار وإقرار كل مقر حجة عليه خاصة.
ذكر هشام في «نوادره» : سمعت أبا يوسف يقول في رجل صالح رجلاً من دار ادعاها في يديه على مائة درهم وهو جاحد، فأقام الشفيع البينة أنها للذي ادعاها قال: يأخذها.
في «القدوري» : اشترى داراً ولها شفيع، فبيعت دار إلى جنب هذه الدار، فطالب بالشفعة، وقضى له ثم حضر الشفيع قضي له بالدار الأولى لجواره، ويمضي الحكم في الثانية للمشتري؛ لأنه كان جاراً له البيع والحكم له، فبطلان الجوار لا يبطل حكم الواقع كما لو باع المشفوع بها.
ولو كان الأول جاراً للدارين حكم له بالدار الأولى بالجوار وبنصف الدار الثانية؛ لأن الشفيع مع المشتري جاران للدار الثانية، وروي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن اشترى نصف دار ثم اشترى آخر نصفها الأخرى، فخاصمه المشتري الأول فقضي له بالشفعة بالشركة ثم خاصمه جار (179ب3) في الشفيعين، فالجار أحق بالشراء الأول، ولا حق له في الثاني.
وكذلك لو اشترى نصفها ثم اشترى نصفها؛ لأنه شريك وقت شراء النصف الثاني، فكان أولى بالشفعة من الجار، ولو كان المشتري للنصف الثاني غير المشتري للنصف الأول، فلم يخاصمه فيه حتى أخذ الجار النصف الأول، فالجار أحق بالنصف الثاني؛ لأن ملك المشتري الأول قد بطل قبل الأخذ بالشفعة، فيبطل حقه في الشفعة.
ولو أن رجلاً ورث داراً فبيعت دار بجنبها فأخذها بالشفعة، ثم بيعت دار أخرى بجنب الدار الثانية، ثم استحقت الدار الموروثة وطلب المستحق الشفعة، فإنه يأخذ الدار الثانية ويكون الوارث أحق بالدار الثالثة، هكذا ذكر القدوري، ولم يذكر ما إذا لم يطالب المستحق الشفعة، وذكر في القدوري: أن الدار الثانية ترد على المقضي عليه بالشفعة يعني للذي كان اشتراها والدار الثالثة تترك في يد الذي هي في يديه.
في الباب الأول من شفعة «الجامع:» رجل اشترى داراً وقبضها فأراد الشفيع أخذها فقال المشتري: بعتها من فلان وخرجت من يدي، ثم أودعينها لم يصدق، وجعله خصماً للشفيع؛ لأن الشفيع ادعى لنفسه حقاً في هذه الدار وذو اليد أقر أنه كان خصماً له ثم ادعى أنه لم يبق خصماً له، فلا يصدق، فإن أقام البينة على ذلك لا تسمع بينته.
وكذلك لو قال: وهبتها لفلان وقبضها ثم أودعينها لا يقبل قوله، ولو أقام على ذلك بينة، فإن حضر المشتري في الفصل الأول والموهوب له في الفصل الثاني، وكان ذلك بعد قضاء القاضي للشفيع، وأقام البينة على الشراء أو على الهبة لا تسمع بينته، وكان القضاء بالشفعة نقضاً للشراء والهبة؛ لأن صاحب اليد صار مقضياً عليه، فكل من ادعى تلقي الملك من جهة صاحب اليد يصير مقضياً عليه، ألا ترى أنه لو كان مكان دعوى الشفعة دعوى الملك في هذه الدار وقضي القاضي بالملك للمدعي، ثم حضر المشتري والموهوب له وأقام البينة على الشراء والهبة لا يقبل بينته كذا ها هنا.(7/322)
وفي الأبواب المتفرقة قبيل كتاب البيوع من «الجامع» : دار في يدي رجل يدعي أنه اشتراها من فلان ونقده الثمن والدار تعرف لفلان، وادعى فلان أنه وهبها للمدعي، وله أن يرجع في الهبة، فالقول قول فلان؛ لأن التمليك صدر من فلان باتفاقهما، فيكون القول قوله في بيان جهته، فإن لم يقض القاضي للواهب بالرجوع حتى حضر شفيع الدار، فهو أحق بالدار من الواهب؛ لأن صاحب اليد أقر بحق الشفعة للشفيع، وقد صح هذا الإقرار منه؛ لأن صاحب الدار أقر أنه ملك الدار من صاحب اليد، والتمليك تسليط على التصرف، وأن يضمن ذلك إبطال حق الواهب في الرجوع، فيصح الإقرار منه بثبوت حق التملك للشفيع أيضاً، فإن لم يحضر الشفيع قضى القاضي بالرجوع للواهب؛ لأن حقه ظاهر وحق الشفيع لم يظهر بعد فإذا قضي له بالرجوع، ثم حضر الشفيع نقض الرجوع، وردت الدار على الشفيع.
ولو كان صاحب اليد ادعى أنه اشتراها من فلان على أن فلاناً بالخيار ونقده الثمن، وادعى فلان الهبة والتسليم وحضر الشفيع أخذها بالشفعة وبطل الخيار.
وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن صاحب اليد مع صاحب الدار اتفقا على أنه لا شفعة للشفيع؛ لأن صاحب الدار يدعي الهبة وصاحب اليد يدعي البيع بشرط الخيار للبائع.
قلنا: صاحب الدار لما أقر بالهبة والتسليم إلى صاحب الدار فقد أقر بثبوت الملك له، وإقراره بثبوت الملك إسقاط منه للخيار، وصاحب اليد مقر بالشراء، فتثبت الشفعة بإقرار صاحب اليد بالشراء عند سقوط خيار صاحب الدار.
في «الأصل» : إذا كانت الدار في يد البائع، وقضى القاضي للشفيع بالشفعة على البائع، وطلب الشفيع من البائع الإقالة فأقاله البائع فالإقالة جائزة، وتعود الدار إلى ملك البائع ولا تعود إلى ملك المشتري، ويجعل في حق المشتري كأن البائع اشترى الدار من الشفيع، وكذلك إذا كانت الدار في يد (البائع) وقضى القاضي بالدار للشفيع، فقبل أن يقبض الشفيع الدار من المشتري أقال مع البائع صحت الإقالة، وصارت الدار ملكاً للبائع في قول أبي حنيفة.
في «الأصل» أيضاً: إذا مات المشتري والشفيع حي، فللشفيع الشفعة، فإن كان على الميت دين لا تباع الدار في دينه وأخذها الشفيع بالشفعة، وإن تعلق بالدار حق الغريم والشفيع؛ لأن حق الشفيع آكد من حق الغريم، فإن حق الشفعة في الصورة والمعنى، وهو المالية وحق الغريم في المالية دون الصورة، فكان حق الشفيع مقدماً.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا حط (180أ3) البائع عن المشتري بعض الثمن، فهذه المسألة على وجهين:
إما إن كان الحط قبل الثمن من المشتري أو بعده، فإن كان قبل قبض الثمن صح الحط في حق المشتري والشفيع حتى أن الشفيع يأخذ الدار بما وراء المحطوط؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد، فصار العقد القائم للحال عقداً بما وراء المحطوط، فيأخذه الشفيع بذلك.
وكذلك لو وهب بعض الثمن من المشتري أو أبرأه عن بعض الثمن؛ لأن الهبة والإبراء قبل القبض بمنزلة الحط.(7/323)
وأما إذا حط الكل أو وهب الكل أو أبرأه عن الكل صح في حق المشتري؛ لأنه لاقى ديناً ولكن لا يظهر في حق الشفيع حتى يأخذ الشفيع الدار بجميع الثمن إن شاء؛ لأن هذا الحط لا يلتحق؛ لأنه لو التحق بطل من حيث صح؛ لأن العقد بغير ثمن باطلٌ فلا يكون المحطوط ثمناً، فلم يلتحق بأصل العقد، وبقي العقد في حق الشفيع بجميع الثمن كما كان قبل ذلك، وإن كانت هذه التصرفات بعد قبض البائع الثمن من المشتري.
فالجواب في الحط والهبة على ما ذكرنا قبل القبض إن حط البعض أو وهب البعض صح في حق المشتري والشفيع، ووجب على البائع رد مثل ذلك على المشتري وأخذه الشفيع بما وراء المحطوط والموهوب، وإن حط الكل أو وهب الكل يصح ذلك في حق المشتري، فلا يصح في حق الشفيع.
وأما الإبراء بعد القبض لا يصح لا في حق المشتري ولا في حق الشفيع، سواء كان الإبراء عن الكل أو عن البعض.
وفي المسألة نوع إشكال، فإن الثمن بعد القبض إن اعتبر قائماً في ذمة المشتري، فينبغي أن يصح الإبراء كما تصح الهبة والحط كما قبل القبض، وإن لم يعتبر قائماً ينبغي أن لا تصح الهبة والحط كما لا يصح الإبراء، والجواب: الثمن باق في ذمة المشتري بعد القبض؛ لأن البائع ما قبض عين حقه إلا أنه ليس للبائع ولاية المطالبة؛ لأن المشتري يطالبه بمثله، فلا يفيد فمطالبة المشتري مفيد؛ لأن البائع لا يطالبه بمثل ذلك؛ لأن المشتري قد يرى، فيجب على البائع رد مثل ما قبض بعد الحط والهبة، فأما الإبراء، فإنما لم يصح؛ لأن الثمن غير باق في ذمة المشتري ولكن؛ لأن الإبراء نوعان: إبراء لإسقاط الواجب، وإبراء بالاستيفاء.
ولهذا يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء، كما يقال: أبرأه براءة إسقاط، فإذا أطلق البراءة إطلاقاً انصرف ذلك إلى البراءة من حيث الاستيفاء؛ لأنه أقل وصار كأنه نص عليه، فقال: أبرأتك براءة قبض واستيفاء، وهناك لا يسقط الواجب عن ذمته ولا يلزم البائع رد شيء بخلاف الحط والهبة، فإنه نوع واحد وهو الحط والهبة، بطريق إسقاط الواجب.
ولهذا لا يقال: حططت ووهبت حط استيفاء، فكأنه نص عليه، ولو زاد المشتري في الثمن زيادة بعد العقد يأخذ الشفيع الدار بالثمن الأول، ولا تظهر الزيادة في حق الشفيع.
وفرق بين الزيادة وبين الحط، فإن الحط يظهر في حق الشفيع.
والفرق: أن الزيادة تتضمن إبطال حق الشفيع، فإنه يثبت للشفيع حق الأخذ بالثمن الأول؛ لأن لو صحت الزيادة في حق الشفيع لا يتمكن من الأخذ بالثمن الأول، فلم تصح الزيادة في حقه صيانة لحقه، أما الحط لا يتضمن إبطال حق على الشفيع بل فيه منفعة للشفيع؛ لأن بالحط يخرج بعض الثمن عن العقد، فلهذا افترقا.
في «فتاوى (أهل) سمرقند» : أن رجلاً اشترى من رجل أرضاً وقبضها، فجاء الشفيع(7/324)
وطلب شفعتها، فسلمها المشتري إليه، ثم نقد المشتري البائع الثمن فوهب البائع منه من ذلك خمسة دراهم، وقد قبض المشتري من الشفيع جميع الثمن، فعلم الشفيع بالهبة، فليس له أن يسترد شيئاً.
ولو وهب البائع خمسة دراهم من المشتري قبل قبض الثمن كان للشفيع أن يسترد؛ لأن في الوجه الأول الهبة ليست بحط؛ لأنها هبة العين بخلاف الوجه الثاني.
في «المنتقي» : جل اشترى داراً من رجل بألف درهم وتقابضا، ثم زاده في الثمن ألفاً من غير أن يتناقضا البيع، ثم علم الشفيع بالألفين ولم يعلم بالألف، فأخذها الشفيع بألفين بحكم أو بغير حكم، فإن أخذها بحكم أبطله القاضي، ثم قضى له أن يأخذها بشفعته بالألف؛ لأنه كان قضاء له بغير ما وجبت به الشفعة، وإن أخذها بغير حكم، فهذا شراء ولا ينتقض، ولو كان المشتري حين اشتراها بألف وقبضها ناقصة البيع، ثم اشتراها بألفين، ثم علم الشفيع بالبيع بألف وأخذها بالشفعة بألفين بحكم أو بغير حكم، ثم علم بالبيع بألف لم يكن له أن ينتقض أخذه؛ لأنه أخذ بما قد كان وجب له أخذها به.
إذا باع الرجل داره وعبده التاجر شفيعها، فإن لم يكن عليه دين لا يأخذها، وإن كان عليه دين أخذها، وكذلك إذا كان البائع هو العبد والمولى شفيعها.
إذا اشترى الرجل أرضاً وزرع فيها زرعاً، ثم جاء الشفيع فله أن يأخذها ويقلع الزرع قياساً.
وفي الاستحسان: لا يأخذها في الحال، وتترك في يد المشتري إلى أن يستحصد الزرع؛ لأن المشتري محق في الزراعة من وجه، فإنه زرع في ملك نفسه، وكونه محقاً في الزراعة يمنع غيره عن قلع زرعه، ويتعدى في الزراعة من وجه من حيث إنه زرع فيما هو حق الغير، وإنه مطلق القلع لصاحب الحق، الآن لو اعتبرنا كونه محقاً لا يبطل حق الشفيع أصلاً بل يتأخر؛ لأن لإدراك الزرع غاية معلومة.
ولو اعتبرنا جانب كونه متعدياً يبطل حق المشتري في الزرع أصلاً، ولا شك أن التأخير أولى من الإبطال حتى لو كان مكان الزرع بناء أو غرساً أو رطبة يؤمر المشتري بقلع هذه الأشياء؛ إذ ليس لهذه الأشياء نهاية معلومة، والتأخير لا إلى غاية معلومة إبطال، فاستوى الجانبان في معنى الإبطال، فراعينا جانب الشفيع؛ لأنه ليس بمتعد أصلاً، والمشتري متعد من وجه، ثم إذا ترك الأرض في يد المشتري تترك بغير أجر.
وروي عن أبي يوسف: أنه تترك بأجر المثل، وكان أبو يوسف رحمه الله قاس هذا على ما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع لم يستحصد بعد حتى ترك في يد المستأجر يترك بأجر المثل.
وفي ظاهر الرواية فرق بينهما؛ لأن المشتري مالك للرقبة وإيجاب الآخر على مالك الرقبة لا يستقيم، وفي فصل الإجارة يجب الأجر على غير مالك الرقبة وإنه مستقيم،(7/325)
وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد يحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه كان يقول: يسلم المشتري الأرض إلى الشفيع ثم يستأجر منه مدة معلومة يعلم أن الزرع يدرك في مثله نظراً للشفيع والمشتري، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد هذا يقول: ما قاله الشيخ لا يصح على قول محمد؛ لأن الأرض مشغولة بزرع رب الأرض فيمنع التسليم.
وإذا منع التسليم صار الشفيع مؤجراً الأرض قبل القبض، ومن مذهبه إن إجارة العقار قبل القبض لا تجوز، وإنما يصح هذا الجواب على قولهما؛ لأن عندهما إجارة العقار قبل القبض جائزة.
ومن هذا الجنس
في «فتاوى أبي الليث» وصورتها: رجلٌ أخذ أرضاً مزارعة وزرعها، فلما صار الزرع بقلاً اشترى المزارع الأرض مع نصيب رب الأرض من الزرع، ثم جاء الشفيع، فله الشفعة في الأرض وفي نصف الزرع، ولكن لا يأخذ حتى يدرك الزرع؛ لأن نصف الأرض مشغولة بنصيب (180ب3) المزارع ولم يجب فيها الشفعة، فكان المزارع أحق بها حتى يدرك.
في «المنتقى» : رجل اشترى داراً ولها شفيع، فقال الشفيع: أجزت البيع وأنا آخذ بالشفعة أو قال: سلمت المبيع، وأنا آخذ بالشفعة فهو على شفعته إذا وصل، وإذا فصل وسكت ثم قال: أنا آخذ بالشفعة، فلا شفعة له.
في «المنتقى» أيضاً عن محمد: رجل اشترى من آخر داراً وجاء شفيع الدار، وادعى أنه كان اشترى هذه الدار من البائع قبل شراء هذا المشتري، فأقر المشتري بذلك ودفع الدار إلى الشفيع ثم قدم شفيع آخر، وأنكر شراء الشفيع أخذ الدار كلها بالشفعة؛ لأن الأول لم يأخذها بالشفعة ولم يطلب شفعته، فبطلت شفعته لترك الطلب، ولو كان الشفيع حين أقر له المشتري بما أقر به كذبه في إقراره.
معنى المسألة: إذا قال المشتري للشفيع ابتداء: قد كنتَ اشتريت هذه الدار قبل شرائي فهي لك بشرائك قبلي، وقال الشفيع: ما اشتريتها وأنا آخذها بالشفعة، فأخذها الشفيع من المشتري ثم الشفيع الآخر فليس إلا نصفها.
في «الفتاوى» : سئل أبو بكر عمن له ضيعة عليها خراج كثير ومؤن لا يشتري بشيء، فباعها مع دار قيمتها ألف درهم بألف درهم، فجاء شفيع الدار بكم يأخذ الدار؟.
قال: سئل أبو نصر عن هذا، فلم يجب، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أن الضيعة إذا كانت بحال يشتريها أخذها من أصحاب السلطان بشيء يقسم الألف على ما يشتري به الضيعة وعلى قيمة الدار، وإن كانت الضيعة لا يشتريها أحد قسمت الألف على قيمة الأرض في آخر الوقت التي ذهبت عنها رغبات الناس وعلى قيمة الدار؛ لأنه لا بد للقسمة من القيمة، فإذا لم يكن لها قيمة للحال يعتبر قيمتها في آخر الوقت الذي عنها رغبات الناس، ويمكن أن يقال على قياس أبي حنيفة يجعل الألف بمقابله الدار إذا لم يكن للضيعة قيمة أصلاً.(7/326)
أصله: إذا تزوج امرأتين على ألف درهم إحداهما تحل له والأخرى لا تحل له.
رجل ادعى قبل رجل شفعة بالجوار والمشتري لا يرى الشفعة بالجوار، فأنكر شفعته يحلف بالله ما لهذا قبلك شفعة يحلف فيفوت حق المدعي.
في «فتاوى أبي الليث» : وفي هذا الموضع أيضاً: رجل اشترى داراً ولم يقبضها حتى بيعت دار أخرى بجنبها، فللمشتري الشفعة؛ لأنه ملكها بنفس الشراء، فيثبت له الجوار.
وفي هذا الموضع أيضاً: رجل طلب الشفعة في دار، فقال له المشتري: دفعتها إليك فهذا على وجهين:
الأول: إن علم الشفيع بالثمن، وفي هذا الوجه التسليم صحيح وصارت الدار ملكاً للشفيع؛ لأن المشتري ملكها منه وصح التمليك.
الوجه الثاني: إذا لم يعلم الشفيع بالثمن، وفي هذا الوجه لا يصير الدار ملكاً للشفيع، فهو على شفعته؛ لأن التمليك لم يصح.
وفي هذا الموضع أيضاً: رجلٌ أسلم داراً في مائة قفيز حنطة وسلم، فجاء الشفيع فله الشفعة؛ لأنها ملكت بعقد المعاوضة، ولو لم يسلم الدار حتى افترقا بطل السلم لمكان الافتراق، ولا شفعة للشفيع؛ لأن هذا ليس بعقد، وإن لم يفترقا حتى تناقضا السلم ثم افترقا كان للشفيع الشفعة؛ لأن الإقالة عقد جديد في حق الثالث.
في «الجامع» : رجل في يديه دار جاء رجل وادعى شفيعها، وقال للذي في يديه الدار: اشتريتها من فلان وصدقه البائع في ذلك، وقال الذي في يديه الدار: ورثتها عن أبي، فأقام الشفيع البينة أنها كانت لأب البائع مات وترك ميراثاً للبائع، ولم يقم البينة على البيع، فالقاضي يقول للذي في يديه: إن شئت فصدق الشفيع وآخذ منه الثمن وتكون العهدة عليك وإن أبى ذلك أخذ الشفيع الدار ودفع الثمن ويرد البائع الثمن على المشتري والعهدة على البائع، وإنما قبلت بينة الشفيع على إثبات الملك للبائع؛ لأن الملك للبائع سبب ثبوت حقه في الشفعة.
ألا ترى أنه لو ادعى أن هذه الدار ملكه اشتراها من فلان، وفلان يملكه وقال ذو اليد: ورثتها عن أبي، فأقام المدعي بينة أن الدار كانت لأب البائع مات وتركها ميراثاً للبائع والبائع مقر بالبيع، وقبض الثمن من المدعي تقبل بينة المدعي، وإنما تقبل لما قلنا.
وإذا قبلت بينته صار الثابت بها كالثابت عياناً، ولو عاينا أن الدار ملك البائع والبائع يقول بعتها من فلان من ذي اليد بكذا وقبضت منه الثمن كان القول قوله.
وصارت مسألتنا دار مملوكة لإنسان في يد رجل أقر صاحب الدار بيعها من صاحب اليد وقبض الثمن منه، وأنكر صاحب اليد الشراء جاء شفيع الدار وطلب الشفعة وهناك يقال لصاحب اليد: إن شئت فصدق البائع في دعوى البيع حتى يأخذها الشفيع منك، وتكون العهدة عليك، وإن شئت فكذب البائع ورد الدار على البائع حتى يأخذها الشفيع منه وتكون العهدة عليه كذا ههنا، وكذلك لو قال الذي في يديه: وهبها لي فلان، وقال(7/327)
الشفيع: اشتريتها من فلان وصدق البائع الشفيع فهو على ما وصفت لك.Y
وفيه أيضاً: رجل اشترى داراً بعبد فلم يتقابضا حتى اعور العبد ورضي المشتري بالقيمة أو اختار تركه كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة، أما إذا رضي به المشتري فظاهر، وأما إذا تركه؛ فلأن العقد، وإن انفسخ من كل وجه بالرد بالعيب قبل القبض إلا أن حق الشفيع لا يبطل بانفساخ البيع على ما مر، ويأخذها بقيمة العبد صحيحاً، وكان ينبغي أن يأخذها بقيمة العبد معيباً؛ لأن بائع الدار لما رضي بالعبد مع العيب، فقال: حط عن مشتري الدار بعض ثمنها وما يحط عن المشتري يحط عن الشفيع.
قلنا: هذا هكذا إذا كان ما حط على المشتري متبوعاً وأصلاً بنفسه؛ لأنه حينئذ يلتحق بأصل العقد ويجعل كالموجود لذا العقد، إما إذا كان بيعاً ووصفاً من أوصاف الثمن لا يحط عن الشفيع ما حط عن المشتري.
ألا ترى أن من اشترى داراً بألف درهم جياد ونقد ألف درهم زيوف وتجوز به البائع، ثم حضر الشفيع أخذ الدار بألف درهم جياد.
وطريقة ما قلنا: خيار الرؤية يثبت للشفيع بدون الشرط، وكذلك خيار العيب، وخيار الشرط لا يثبت له بدون الشرط حتى أن من اشترى داراً وشرط الخيار لنفسه، فأخذها الشفيع فلا خيار له؛ وهذا لأن الأخذ بالشفعة شراء حكماً، فيعتبر بالشراء حقيقة.
ولو اشتراها الشفيع حقيقة يثبت له خيار الرؤية، وخيار العيب من غير شرط، ولا يثبت خيار الشرط إلا بالشرط، فكذا إذا اشتراها حكماً رجل اشترى داراً لم يرها، فبيعت داراً بجنبها فأخذها بالشفعة لم يبطل خياره بخلاف خيار الشرط؛ وهذا لأنه لو بطل خياره إنما يبطل من حيث إن ما فعل دليل الرضا، إلا أن دليل الرضا لا يربوا على صريح الرضا، وبصريح الرضا قبل الرؤية لا يبطل خيار الرؤية، فبدليل الرضا أولى، هذا إذا كان الأخذ بالشفعة قبل رؤية الدار المشتراة، أما إذا كان بعدها يبطل خيار الرؤية؛ لأن هذا دليل الرضا وبصريح الرضا بعد الرؤية يبطل خيار الرؤية، فكذا بدليل الرضا.
في شرح الطحاوي في «الأصل» : اشترى داراً وهو شفيعها ولها شفيع غائب يصدق الشفيع يثبت منها، وطريقه على رجل، ثم باع ما بقي منها ثم قدم الشفيع الغائب، فأراد أن ينقض صدقة المشتري وبيعه، فهذا على وجهين:
الأول: إذا باع ما بقي من الدار من المتصدق عليه، وفي هذا الوجه ليس له أن ينقض صدقته في الكل إنما ينقض في النصف؛ لأن الدار مشترك بيت المشتري وبين الغائب بحق الشفعة فيعتبر بما لو كان مشتركاً بينهما بحقيقة الملك، ولو كانت مشتركة بينهما بحقيقة الملك باع أحدهما موضعاً منها بعينه، أو تصدق على رجل ثم باع الباقي منه، لم يكن للشريك (181أ3) الآخر أن ينقض تصرفه في الكل، وإنما ينقض في النصف كذا هنا.
الوجه الثاني: إذا باع باقي الدار من رجل آخر كان للغائب أن ينقض تصرفه في الكل، ألا ترى أنها لو كانت مشتركة بينهما شركة ملك، فيصير أحدهما على هذا الوجه(7/328)
كان للآخر أن ينقض تصرفه في الكل؛ لأنه يحتاج إلى أن يقسم مع اثنين، وربما يتفرق نصيبه، فيلحقه زيادة ضرر، ولا كذلك في الوجه الأول.
في «الأصل» أيضاً: تسليم الشفعة في البيع تسليم في الهبة، بشرط العوض حتى أن الشفيع إذا أخبر بالبيع، فسلم الشفعة، ثم تبين أنه لم يكن بيعاً، وكان هبة بالعوض، فلا شفعة له، وكذلك تسليم الشفعة في الهبة بشرط العوض تسليم في البيع، وهذا لما عرف أن الهبة بشرط العوض والبيع سواء، فكان التسليم في أحدهما تسليماً في الآخر.
في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى داراً وهو شفيعها بالجوار، وطلب جار آخر فيها الشفعة، فسلم المشتري الدار كلها إليه كان نصف الدار له بالشفعة والنصف بالشراء.
في «فتاوى أهل سمرقند» : أجمة بين اثنين ورثا عن أبيهما، ولا يعلم أحدهما بعينه أن له فيه نصيباً، فبيعت أجمة أخرى بجوار هذه، فلم يطلب هو الشفعة، فلما أخبر أن له فيها نصيب طلب الشفعة، فلا شفعة له؛ لأنه لم يطلب طلب المواثبه عند العلم بالبيع، والجهل ليس بعذر.
في «فتاوى الفضلي» : إذا قال المشتري للشفيع: رد علي الثمن ولك الشفعة، فهذا لا يكون تسليماً للدار والشفيع على شفعته؛ لأن قوله: ولك الشفعة، إن كان اختار أن له الشفعة فهو صادق في هذا الخبر وإن كان تسليماً معلقاً بأداء الثمن، فالتسليم على هذا الوجه لا يصح يعني التمليك.
فيه أيضاً: رجل له خمس منازل في زقاق غير نافذة باع هذه المنازل، وطلب الشفيع الشفعة في واحد من المنازل، فهذا على وجهين:
الأول: أن يطلب بحق الشركة في الطريق، وفي هذا الوجه ليس له ذلك؛ لأنه تفريق من غير ضرورة؛ لأن السبب عم الكل.
الوجه الثاني: أن يطلب الشفعة بحق الجوار، وجواره في هذا المنزل لا غير، وفي هذا الوجه له ذلك؛ لأن السبب خص هذا الواحد والله أعلم.
وبه ختم كتاب الشفعة، تم الدفتر الخامس من المحيط (181ب3) .(7/329)
كتاب القسمة
هذا كتاب يشتمل على ثلاثة عشر فصلاً.
1 * في بيان ماهية القسمة.
2 * في بيان كيفية القسمة.
3 * في بيان ما يقسم وما لا يقسم وما يجوز من ذلك وما لا يجوز.
4 * فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكره وما لا يدخل.
5 * في الرجوع عن القسمة واستعمال القرعة فيها.
6 * في الخيار في القسمة.
7 * في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي.
8 * في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصى له، وفي ظهور الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارث ديناً في التركة أو عيناً من أعيان التركة.
9 * في الغرور في القسمة.
10 * في القسمة يستحق منها شيء.
11 * في دعوى الغلط في القسمة.
12 * في المهايأة.
13 * في المتفرقات.(7/331)
الفصل الأول: في بيان ماهية القسمة
فنقول: القسمة نوعان: قسمة في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاومة.
وقسمة في غير ذوات الأمثال من العدديات المتقاومة كالنبات والأغنام.
فالقسمة في ذوات الأمثال إفراز وقبض لعين الحق حكماً، مبايعة من حيث الحقيقة من وجه؛ لأن ما قبضه كل واحد منهما نصف ملكه من الأصل حقيقة، ونصفه ملك صاحبه صار له من جهة صاحبه بالقسمة.
فهو معنى قولنا: إنها مبايعة من حيث الحقيقة من وجه، إلا أن ما أخذ كل واحد منهما من نصيب صاحبه مثل ما ترك عليه بيقين وأخذ مثل الحق بمنزلة أخذ عين الحق حكماً.
ألا ترى أن أخذ المثل في الرضى جعل كأخذ العين حكماً حتى لم تثبت المبادلة بين المستقرض وبين المأخوذ.
فهو معنى قولنا: إنها إفراز لعين الحق حكماً، ففي كل موضع لا يمكن العمل بشبه الإفراز والمبايعة يعمل بها، وفي كل موضع لا يمكن العمل بالشبهين يعمل بنسبة الإفراز؛ لأن شبه الإفراز راجح؛ لأنه ثابت حكماً من كل وجه، وحقيقة من وجه. ولهذا كان لكل واحد من الشريكين أن يأخذ نصيبه من غير رضى صاحبه.
وإذا اشترى رجلان مكيلاً أو موزوناً بدراهم وأقسماهما فيما بينهما، فلكل واحد منهما أن يبيع من الحسر بنصف الدرهم.
فإن قيل: أليس محمد رحمه الله ذكر في آخر كتاب القسمة: إذا كان وصي الذمي مسلماً، وفي التركة خمور وخنازير أنه يكره له قسمتها. ولو كان الرجحان في هذه القسمة لشبه الإفراز ينبغي أن يجوز من غير كراهة، فإن الذمي إذا وكل مسلماً أن يقبض خمراً له جاز للوكيل قبضها من غير كراهة.
قلنا: ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه إذا كان في التركة الخمور لا غير لا يكره للوصي المسلم قسمتها، لأن هذه القسمة إفراز محض، ليس فيها شبهة المبادلة، والمسلم يملك قبض خمر الذمّى، وإنما تكره القسمة إذا كان مع الخمور الخنازير؛ لأن القسمة تكون مبادلة.(7/333)
وغيره من المشايخ قالوا: لا، بل تكره قسمة الخمور وحدها للمسلم؛ لأن العمل بالشبهين في قسمة الخمر ممكن بإثبات الكراهة، ومعنى الكراهة ههنا بين الحرام المطلق والحرام المحض؛ لأنها لو كانت إفرازاً من كل وجه كانت حلالاً، ولو كانت مبايعة من كل وجه كانت حراماً، فإذاً كانت مبايعة حقيقية من وجه إفرازاً حكماً بين الحلال المحض والحرام المحض.
وأما القسمة في غير ذوات الأمثال فشبه المبادلة فيها راجح؛ لأنها إفراز حكماً من وجه، ومن حيث الحقيقية هي مبادلة من كل وجه، وأما الحقيقة فظاهر.
وأما الحكم؛ فلأن نصف ما يأخذ كل واحد منهما مثل لما ترك على صاحبه باعتبار القيمة وأخذ المثل كأخذ العين حكماً، فكان إفرازاً إلا أن ما يأخذ كل واحد منهما، ليس بمثل لما ترك على صاحبه بيقين، لأن المقسوم ليس من ذوات الأمثال، فلا تثبت المعادلة بيقين، فالإفراز مع المبادلة استويا في الحكم، ثم ترجحت المبايعة بالحقيقة؛ وهذا لأن الحقيقة وإن كانت لا تصلح حلاً لمقابلة الحكم بنفسها، لكنها تصلح للترجيح، ولهذا كره بيع المرابحة لأن الرجحان للمبايعة في غير ذوات الأمثال، فيكون مشترياً نصف ما أخذ بثلث ما ترك على صاحبه من الثياب.
فإذا قال: اشتريت بالدراهم كان ذلك منه جناية، فإن قيل لو كان الرجحان في هذه القسمة للمبايعة لكان لا يجبر الآتي عليها، وبالإجماع يجبر، وكذلك لا يثبت حكم الغرور فيها، حتى إن الشريكين إذا اقتسما داراً أو أرضاً بينهما، وبنى أحدهما في نصيبه بناء، ثم جاء مستحق واستحق الطائفة التي بنى فيها ونقض بناءه لا يرجع على صاحبه بقيمة البناء.
ولو كان الرجحان لجانب المبايعة لثبت الغرور، كما لو اشترى.
قلنا: الجبر على هذه المبايعة لينقطع ارتفاق الآتي بملك صاحبه، ويجوز أن يجرى الجبر على المبايعة باعتبار حق مستحق للغير.
ألا ترى: أن المشتري يجبر على تسليم الدار إلى الشفيع، وإن كان التسليم إليه مبايعة إنما يجبر لحق الشفيع، وألا ترى أن المديون يحبس حتى يبيع ماله ويقضي الدين، فيجريان الجبر عليها لا تبقى كونها مبايعة، وأما الثاني، فقلنا: إنما لا يثبت الغرور؛ لأن كل واحد منهما مضطر في هذه المبايعة.
لأنه يحتاج إلى تخليص حقه، يمنع صاحبه عن الارتفاق بملكه، ولا يمكنه ذلك إلا بهذه المبايعة لإحياء حقه، والجبر كما يثبت بالإكراه يثبت بالحاجة إلى إحياء الحق، كصاحب العلو إذا بنى السفل، وإذا كان مجبراً على هذه المبايعة لا يثبت فيها حكم الغرور، كالشفيع إذا أخذ الدار من المشتري بقضاء القاضي، والله أعلم.(7/334)
الفصل الثاني: في بيان كيفية القسمة
في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى القسمة على ما كان يصنع ابن أبي ليلى، ولكنه يقوّم الزراع من الأرض دراهم، ويقوّم البناء دراهم، ويقوم الجذوع دراهم.
وكذلك في الأرض والشجر يقسمهما: يعطى كل إنسان ما أصابه، فإن كان في يده فضل أخذه، وإن نقص زاده حتى يوفيه. في «الأصل» كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في العلو الذي لا سفل له، وفي السفل الذي لا علو له بأن كان علو مشترك بين رجلين، وسفل لرجل آخر، وسفل مشترك بين هذين الرجلين، وعلوه لآخر، تجب القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو.
وقال أبو يوسف: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف. وقال محمد رحمه الله: يقسم على قيمة السفل والعلو، فإن كان قيمتهما على السواء يحسب ذراع بذراع، وإن كان قيمة إحداهما ضعف قيمة الآخر يحسب من الذي قيمته على الضعف ذراع بذراعين من الآخر حتى يستويا في القيمة.
قيل: إن أبا حنيفة أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو في السكنى، وأبو يوسف أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى، ومحمد رحمه الله شاهد اختلاف العادة في ذلك في البلدان، فقال: يقسم على القيمة.
وقيل: هذا بناء على أن عند أبي حنيفة لصاحب السفل منفعتان، منفعة بظاهره ومنفعة بباطنه بأن يحفر في السفل سرداباً، فإن له ذلك إذا لم يضر بالعلو، ولصاحب العلو منفعة واحدة، وهو أن يسكن فيه أما ليس له أن يبنى على علوه يقال ضرّ بصاحب السفل أو لم يضر، فكان ذراعاً من السفل بذراعين من العلو من هذا الوجه، أو نقول: العلو ينتفع في حالة واحدة وهي حالة قيام السفل، والسفل ينتفع في حالتين، حالة قيام العلو وحالة قوامه، فكان قوامه مكان منفعة العلو على نصف منفعة السفل فصار ذراع من السفل بذراعين من العلو لهذا.
وعندهما لصاحب العلو أن يتصرف في علوه تصرفاً لا يضر بصاحب السفل، كما أن لصاحب السفل أن يتصرف في سفله تصرفاً لا يضر بصاحب العلو فاستويا في المنفعة، قال أبو يوسف رحمه الله بعد هذا: إذا استويا في المنفعة يجعل ذراع من السفل بذراع من العلو، وقال محمد رحمه الله: مع أنهما استويا في المنفعة تعتبر القيمة في القسمة، لأن في بعض البلدان يكون السفل أكثر قيمة، وفي بعض البلدان يكون العلو أكثر قيمة. (2أ4)
وربما يختلف ذلك باختلاف الأوقات، فلا تتبين المعادلة إلا بالقيمة.(7/335)
وقول محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن على قول أبي يوسف يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، فذلك في مسألة أخرى، فقد ذكرنا في هذه المسألة أن على قول أبي يوسف يجعل ذراع من السفل بذراع من العلو.
وصورة تلك المسألة: سفل مفرد لا علو له، وعلو مفرد لا سفل له،. وبيت كامل له سفل وعلو، وكل ذلك مشترك بين رجلين طلبا القسمة.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: القاضي يحسب ذراعاً من البيت الكامل بثلاثة أذرع من العلو المفرد، ليكون ذراعان من العلو المفرد بإزاء ذراع من سفل البيت الكامل، والذراع الثالث من العلو المفرد بإزاء ذراع من علو البيت الكامل، ويحسب ذراع من البيت الكامل بذراع ونصف من السفل المفرد، ليكون ذراعاً من سفل البيت الكامل بإزاء ذراع من السفل المفرد، وذراعاً من علو البيت الكامل بإزاء نصف ذراع من السفل المفرد.
وعلى قول أبي يوسف: يذرع السفل المفرد والعلو المفرد والبيت الكامل، فإن كان البيت الكامل عشرين ذراعاً، والعلو المفرد كذلك، والسفل المفرد كذلك كان جملة ذرعان السفل المفرد والعلو المفرد أربعون، يجعل الأربعون من العلو المفرد والسفل المفرد عشرون.
فهو معنى قوله: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، وإنما فعل هكذا لتقع المعادلة بين البيت الكامل، وبين العلو المفرد والسفل المفرد، فإن العلو والسفل عنده سواء فعشرون ذراعاً من البيت الكامل بمنزلة أربعين ذراعاً، عشرون منها سفل وعشرون علو. وعلى قول محمد تعتبر القيمة في ذلك كله قال الكرخي: وعليه الفتوى.
فإن قيل: كيف يقسم العلو مع السفل، والبيت الكامل قسمه واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن مذهبه أن البيوت المتفرقة لا تقسم قسمة واحدة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
قلنا: تأويل المسألة وجهان: الأول: أن يكون الكل في دار واحدة والبنيان في دار واحدة يقسمان قسمة واحدة، متلازقين كانا أو متفرقين، فكذا السفل والعل.
الثاني: أن يكون الكل في دور مختلفة، ولكن تراضوا على ذلك إلا أنهم طلبوا المعادلة من القاضي فيما بينهم، وعند أبي حنيفة تجوز القسمة حالة التراضي من الشركاء. وإذا كانت الدور من قوم ميراث، فإن أراد أحدهم أن يجمع نصيبه منها في دار واحدة وأبى الآخر، قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بل يقسم كل دار بينهم على حدة إلا أن يتراضوا على ذلك، سواء كانت الدار متلازقة أو متفرقة، وسواء كانت الدور في محلة واحدة أو محلتين، في مصر واحد أو في مصرين.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كانت الدور في مصر واحد، فالرأي في ذلك إلى القاضي، إن رأى الصلاح في أن يجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بأن(7/336)
رأى ذلك أعدل للقسمة فعل ذلك، وإن رأى الصلاح في قسمة كل دار على حدة فعل ذلك.
وأما إذا كانا في مصرين، روى هلال الرازي عن أبي يوسف رحمه الله: أن القاضي يقسم كل دار على حدة، ولا رأي له في ذلك. قال القدوي رحمه الله: لو كانت إحدى الدارين بالرقة والأخرى بالبصرة، قسمت أحدهما في الأخرى، وبعض مشايخنا رحمهم الله ذكروا قول محمد مع أبي يوسف فيما إذا كانت الدور في مصرين متفرقين.
لأبي حنيفة أن الدور أجناس مختلفة باعتبار المعنى وهو المنفعة وإن كانت في مصر واحد؛ لأن بعضها يصلح للخزانة وبعضها لا يصلح، ولاختلاف المعاني أن في اختلاف المجانسة، كما في الهروي مع المروي.
ولهذا لو وكله بشراء دين في مصر بعينه ولم يبين الثمن لا يجوز، وذكر الحاكم في «المختصر» أنه وإن بين الثمن لا يجوز ما لم يبين المحلة، والأجناس المختلفة لا تقسم قسمه واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولأبي يوسف ومحمد: أن الدور في مصر واحد جنس واحد باعتبار الاسم والمكان، فإن الاسم واحد والمكان كذلك، فصارت كالثياب الهروية والمروية، فإنها اعتبرت جنساً واحداً لاتحاد الاسم والمكان، أجناساً مختلفة باعتبار المعنى على ما قال أبو حنيفة رواية، فيفوض الأمر إلى رأي القاضي، فإن شاء مال إلى جنس واحد وقسمها قسمة واحدة، وإن شاء مال إلى الأجناس المختلفة وقسم كل واحدة قسمة على حدة، بخلاف ما إذا كانا في مصرين مختلفين لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المكان، ألا ترى أن المروي مع الهروي اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف المكان.
ومن المشايخ قال: معنى قول أبي حنيفة رحمه الله: العقار لا يقسمه القاضي قسمة جمع، أن الأولى أن لا يفعل القاضي ذلك، وإن لم يفعل الأولى جاز.
وأما المنازل فإن كانت في دور متفرقة أو في دار واحدة وهي متباينة، فالجواب فيها عندهم جميعاً كالجواب في الدور، وإن كانت في دار واحدة فهي متباينة، فعندهم جميعاً تقسم قسمة واحدة.
وأما البيوت فإن كانت في دار واحدة فإنها تقسم قسمة واحدة، سواء كانت متلازقة أو متفرقة، وإن كانت في دور مختلفة فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في الدور، وفي كل ما ذكرنا من الدور والمنازل والبيوت لا تقسم قسمة جمع، فتأويله إذا لم يكن معها شيء هو محل القسمة الجمع، أما إذا كان معها شيء هو محل القسمة الجمع يقسم الكل قسمة جمع، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة والدور والمنازل والبيوت تبعاً، وسيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا كان في التركة دار أو حانوت والورثة كلهم كبار وتراضوا أن تدفع الدار أو الحانوت إلى واحد منهم من جميع نصيبه من التركة جاز؛ لأن عند أبي حنيفة إنما لا(7/337)
يجمع نصيب واحد منهم من الورثة بطريق الحصر من القاضي، فأما عند التراضي فذلك جائز.
في قسمة «شرح القدوري» : ولو دفع أحد الورثة الدار إلى واحد من الورثة من غير رضا الباقين عن جميع نصيبه من التركة لم يجز، يعني: لا ينفذ على الباقين إلا بإجازتهم، ويكون لهم استرداد الدار، وأن يجعلوها في القسمة إن شاؤوا، وهذا ظاهر، وإنما الإشكال في أن الدافع هل يأخذ نصيبه من الدار بعد استرداد الباقين، وقيل إنه لا يأخذ.
في «المنتقى» : أراد اثنان من قرابته جمع نصيبهما في موضع واحد من الضياع، لم يكن لهما ذلك في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لهما ذلك؛ إذ ليس فيه ضرر على من مرّ حوله.
ولو اختلفوا في قيمة البناء، فقال بعضهم: يجعل قيمة البناء بالذرعان من الأرض، ومعنى المسألة: أن الدار والكرم إذا كان بين قوم، وأرادوا قسمتها في أحد الجانبين بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه من الأرض، فإنما يجعل قيمة البناء بالذرعان من الأرض؛ لأن القسمة إقرار ما هو مشترك بين شركاء الأرض دون الدراهم فمتى جعلنا قيمة البناء بالذرعان من الأرض فقد أقررنا ما هو مشترك بينهما، ومتى جعلنا قيمته بالدراهم فما أقررنا ما هو مشترك بينهما بل حملناها على البيع وللقاضي ولاية القرار لا ولاية الحمل على البيع، ولأن تقويم البناء بالذرعان من الأرض أولى في القسمة؛ لأنه يتعجل حق كل واحد من الشركاء في الحال، ومتى قريناه بالدراهم يتعجل حق الذي يعطي الدراهم، ويتأخر حق الآخر إلى أن يحضر الدراهم ويسلمها، فكان التقويم بالذرعان من الأرض أولى، وإن تعذر اعتبار العادة بتقويم البناء بالذرعان من الأرض قومه بالدراهم.
وإن اتفقوا أن يجعلوا قيمة البناء في الدراهم فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم، وإن اختلفوا في الطريق، فقال بعضهم: نرفع طريقاً بيننا، وقال بعضهم: لا نرفع، نظر فيه الحاكم، فإن كان يستقيم لكل واحد منهم طريق يفتحه في نصيبه قسمه بينهم بغير طريق يرفع لجماعتهم، وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقاً بين جماعتهم؛ لأن (2ب4) .
حاصل اختلافهم في قسمة قدر الطريق، فالمانع من رفع الطريق يطلب قسمته والآخر يأبى، وقسمته في الوجه الأول؛ إذ لا يفوّت بقسمة قدر الطريق ما كان لهم من المنفعة قبل القسمة.
وفي الوجه الثاني قسمته غير ممكن؛ لأن قسمته تتضمن تفويت منفعة كانت لهم قبل القسمة. ولو اختلفوا في سعة الطريق وضيقه، جعل الطريق بينهم على عرض باب الدار، وطوله على أدنى ما يكفيهم، يعني يجعل طوله من الأعلى بقدر طول الباب، لا إلى البناء، وفائدة قسمة ما وراء طول الباب أن أحد الشركاء إذا أراد أن يخرج جناحاً في نصيبه إن كان فوق طول الباب فله ذلك؛ لأن الهواء فيما زاد على طول الباب مقسوم بينهم، فيصير باباً على ما هو خالص حقه، وإن كان فيما دون طول الباب فإنه يمنع من(7/338)
ذلك؛ لأن قدر طول الباب من الهواء مشترك فيما بينهم، والبناء على الهواء المشترك لا يجوز إلا برضا الشركاء، وأما إذا كان أرضاً يرفع من الطريق مقدار ما يمر فيه ثور؛ لأنه يحتاج إليه للزراعة فلا بد منه، ولا يرفع مقدار ما يمر فيه ثوران، لأن منه بد.
ويقسم القاضي الأعداد من جنس واحد من كل وجه بأن كانت المجانسة مجانسة بين الأعداد اسماً ومعنى، كما في الغنم أو البقر أو المكيل أو الموزون أو النبات قسمة جمع عند طلب بعض الشركاء.
وفي الأجناس المختلفة من كل وجه لا يقسم الأعداد قسمة جمع عند طلب بعض الشركاء؛ وهذا لأن قسمة الجمع في الأجناس المختلفة يتضمن تفويت جنس المنفعة على الآبي، فإنه قبل هذه القسمة له منفعة البقر والغنم والثياب، وبعد قسمة الجمع يفوت عليه بعض هذه المنافع، أما منفعة الإبل والغنم والثياب.
والقسمة متى تضمنت تفويت جنس منفعة على الآبي، فالقاضي لا يقسم، أما قسمة الجمع في الجنس الواحد لا يتضمن تفويت جنس المنفعة على الآبي، فيقسم القاضي.
وإن كان جنساً واحداً من حيث الحقيقة، وأجناساً مختلفة من حيث المعنى كالرقيق، فإن كان معه شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، فالقاضي يقسم لكل قسمة جمع بلا خلاف، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة والرقيق تبعاً، ويجوز أن يثبت الشيء تبعاً لغيره، وإن كان لا يثبت بشهود أعرف ذلك في مواضع كثيرة، وإن لم يكن شيء آخر هو محل لقسمة الجمع.
قال أبو حنيفة: القاضي لا يقسمه قسمة جمع، وقالا: القاضي يقسم قسمة جمع هكذا ذكر في «الأصل» : وذكر أبو الحسن على قوله: الرأي في ذلك إلى القاضي، واختلف المشايخ فيه على قولهما بعضهم قالوا: يقسم الرقيق قسمة جمع على قولهما على كل حال، ولا يكون ذلك موكولاً إلى رأي القاضي، وبعضهم قالوا: هو موكول إلى رأي القاضي هما قولان أن الرقيق جنس واحد، إذا كان الكل ذكوراً أو إناثاً من وجه حقيقة وحكماً، أما حقيقة فلا إشكال.
وأما حكماً بدليل: أنه إذا تزوج امرأة على عبد صحت التسمية، كما لو تزوجها على ثوب هروي وأجناس مختلفة من وجه تتفاوت منهم في المعاني قرب يصلح للأمانة، ورب عبد لا يصلح لذلك، ويتفاوتون أيضاً في الذهن والذكاء والعقل والتمييز الذي هو المطلوب من الآدمي. وإذا كان جنساً واحداً من وجه وأجناساً مختلفة من وجه جعلنا الرأي فيه للقاضي، كما في الدور.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العمل بالشبهين متعذر في حالة واحدة؛ لأن أحدهما يقتضي جواز قسمة الجمع، والآخر ينفي، فيعمل بهما في الحالين، فجعلناه جنساً واحداً إذا كان معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وجعلناه أجناساً مختلفة إذا لم يكن معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وإنما فعلنا هكذا لتمكننا العمل بالشبهين، لأنا متى جعلناه أجناساً مختلفة إذا كان معه شيء آخر هو محل لقسمه الجمع يلزمنا أن نجعله أجناساً مختلفة على الانفراد من الطريق الأولى؛ لأن من الأشياء ما لا يجوز قسمته على(7/339)
الانفراد، ويجوز قسمته تبعاً لغيره كالشرب والعيون والآبار، يتعطل العمل بالشبهين.
وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان بيع الرقيق شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، قسم الكل قسمة جمع، تأويله إذا رضي الشركاء بقسمة الكل قسمة جمع.
أما إذا أبى البعض ذلك، فالقاضي لا يقسمه قسمة جمع عنده، قال: لأن الرقيق مع غيره جنسان مختلفان، فإن كان لا يقسم الرقيق عنده عند الانفراد لأن الجنس مختلف، فعند الاجتماع أولى.g
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأمة السرخسي: والأظهر عندي أن القاضي يقسم الكل قسمة جمع عند أبي حنيفة رحمه لله وإن بعض الشركاء ذلك، ويجعل ذلك الشيء الذي مع الرقيق أصلاً في القسمة، ويجعل الرقيق تبعاً، وأبو حنيفة إنما لا يرى قسمة الرقيق قسمة جمع مقصوداً لا تبعاً لغيره.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا كانت الأراضي بين شركاء لأحد هم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم، فأرادوا قسمتها، وأراد صاحب العشرة الأسهم أن تقع سهامه متصلة، ولا يرضى بذلك الذي له سهم واحد قسمة الأراضي متصلة كانت أو متفرقة بينهم على قدر سهامهم عشرة وخمسة وواحد.
وكيفية ذلك: أن تجعل الأراضي على عدد سهامهم بعد أن سويت وعدلت لم تجعل بنادق سهامهم على سهامهم ويقرع بينهم فأول بندقة تخرج ترفع على طرف من أطراف السهام فهو أول السهام، ثم ننظر إلى البندقة لمن هي، فإن كانت لصاحب العشرة أعطاه ذلك السهم وتسعة أسهم متصلة بالسهم الذي وضع البندق عليه، فيكون سهام صاحبها على الاتصال، ثم يقرع بين الستة كذلك، فأول بندقة تخرج توضع على طرف من أطراف الستة الباقية، ثم ينظر إلى البندقة لمن هي فإن كانت لصاحب الخمسة أعطاه ذلك السهم وأربعة أسهم متصلة بذلك السهم، يبقى السهم الواحد لصاحبه، وإن كانت هذه البندقة لصاحب السهم الواحد كان ذلك السهم له والباقي لصاحب الخمسة.
وفيه أيضاً: رجلان بينهما خمسة أرغفة، لأحدهما رغيفان، وللآخر ثلاثة أرغفة، فدعيا ثالثاً وأكلوا جميعاً مستويين، ثم إن الثالث أعطاهما خمسة دراهم، وقال لهما: إقسماها بينكما على قدر ما أكلت من رغيفكما، قال الفقيه أبو بكر الرازي: لصاحب الرغيفين درهم منها لأن كل واحد منهما أكل رغيفاً وثلثا رغيف، فصاحب الرغيفين أكل من رغيفيه رغيف وثلثي رغيف، فإنما أكل الثالث من رغيفيه رغيف وثلث رغيف، فيجعل بمقابلة كل ثلث رغيف درهم، فيصير لصاحب الرغيفين درهم منها، ويصير لصاحب الرغيف الثالث أربعة دراهم.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: فعندي أن لصاحب الرغيفين درهمان، وللآخر ثلاثة دراهم؛ لأن كل واحد منهم أكلوا الثلث رغيف ومن الرغيفين ثلثا رغيف، فيجعل كل ثلث سهماً فيصير أكلا من الرغيفين سهمان ومن الثلاث ثلاثة أسهم، فجملة ذلك(7/340)
خمسة أسهم، فيقسم البدل كذلك.
في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل مات وترك ثلاثة بنين وترك خمسة عشر خابية، خمسة منها مملوءة خلاً، وخمسة منها إلى نصفها خل، وخمسة منها خالية، كلها مستوية، فأراد البنون أن يقسموا الخوابي على السواء من غير أن يزيلونها عن موضعها.
فالوجه في ذلك: أن يعطى أحد البنين خابيتين تعلو مملوءتين وخابيتين خاليتين وخابيه إلى نصفها خل، ويعطى الثاني كذلك من كل خمس خوابي أحدها مملوءة وأحدها خالية وثلاث خوابي إلى نصفها خل، يعطي الثالث ذلك؛ لأن المساواة بذلك تقع.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عن سلطان غرم أهل قرية، فأرادوا قسمة ذلك الغرامة، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تقسم على قدر الأملاك، وقال بعضهم: تقسم ذلك على قدر الرؤوس، قال: إن كانت الغرامة لتحصين أملاكهم يقسم ذلك على قدر الأملاك؛ لأنها مؤنة الملك، فتقدر بقدر الملك وإن كانت الغرامة لتحصين الأبدان يقسم ذلك على عدد الرؤوس؛ لأنها مؤنة الرؤوس، ولا شيء على النسوان والصبيان في ذلك، لأنه لا يتعرض لهم.
سئل حمدان بن سهل عن قسمة العين، قال: يقسم بالكوارجات، قبل: فإن لم يكن، قال: فبالحبال. قال الفقيه أبو الليث: يجوز بالحبال لقلة التفاوت فيها استحساناً.
سئل شيخ الإسلام (3أ4) أبو الحسن عن رجلين بينهما أعناب كرم على الشركة يقسمان ذلك بينهما كيلاً بالسولجة، أو وزناً بالقبان أو الميزان، قال: كل ذلك واسع؛ لأن الناس تعارفوا العنب كيلاً أو وزناً، فثبت التساوي بالطريقين جميعاً، فيجوز والله أعلم.
الفصل الثالث: في بيان ما يقسم وما لا يقسم، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : بيت بين رجلين أراد أحد هما قسمته وأبى الآخر، وارتفعا إلى القاضي، فإن كان البيت كبيراً بحيث لو قسم أمكن لكل واحد منهما أن ينتفع بنصيبه انتفاع البيت كما قبل القسمة، فإن القاضي يقسم بينهما، وإن كان البيت صغيراً بحيث لو قسم لا يمكن لكل واحد منهما أن ينتفع به انتفاع البيت، فإنه لا يقسم إذا كان الآخر يأبى القسمة؛ لأن في هذا الوجه طالب القسمة متعنت في طلب القسمة قاصد للإضرار بنفسه وبشريكه بإتلاف منفعة كانت لهما قبل القسمة، والتعنت مردود، وفي الوجه الأول طالب القسمة قاصد تكميل منافع الكل على نفسه وعلى شريكه، وشريكه في الإباء متعنت.
وإن طلبا القسمة في الوجه الثاني من القاضي، فعنه روايتان: في رواية يقسم(7/341)
القاضي بينهما وإليه أشار محمد في «الأصل» في باب ما لا يقسم من العقار وغيره، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام، وفي رواية قال: لا يقسم القاضي بينهما، ولكن يتركهما وذاك، إن شاء اقتسما بأنفسهما وإن شاء تركا كذلك، وإليه مال كثير من المشايخ؛ لأن في هذه القسمة ضرر للشركاء بإتلاف المنفعة عليها، وليس للقاضي ولاية الإضرار بالغير، وإن رضي به ذلك الغير. وإن كان نصيب أحد هما في البيت شقصاً قليلاً لا ينتفع به إذا قسم البيت، ونصيب الآخر كثير، فطلب أحد هما القسمة، فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يطلب صاحب الكثير القسمة، والحكم فيه أن القاضي يقسمها بينهم، هكذا ذكره محمد في «الأصل» .
وقال في باب ما لا يقسم من العقار: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان الطريق بين قوم إن اقتسموه لم يكن لبعضهم طريق ولا تنفذ، فأراد بعضهم قسمته، وأبى الآخر، قال: لا أقسمه بينهم. بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: المسألة محمولة على أن الطريق بينهم على السواء، وكان بحيث لو قسم بينهم لا يبقى لواحد منهم طريق ومنفذ، فأما إذا كان الطريق بينهم على التفاضل بحيث لو قسم لا يبقى لصاحب القليل طريق ولا ينفذ ويبقى لصاحب الكثير طريق ومنفذ، فالقاضي يقسم إذا طلب صاحب الكثير القسمة، كما في مسألة البيت إذا طلب صاحب الكثير القسمة.
ومنهم من قال: الطريق لا يقسم في الحالين بخلاف البيت، والفرق على قول هذا القائل: أن في قسمة الطريق تعطيل ملك صاحب القليل في داره، لأنه متى قسم الطريق ولا يمكنه التطرق فيما وقع في نصيبه لا يمكن التطرق به إلى داره، فلا يمكنه الانتفاع بداره بعد ذلك، وتعطيل الملك على الغير لا يجوز.
وأما ليس في قسمة البيت تعطيل ملك صاحب القليل في نصيبه، لأنه يمكنه أن يدخل في بنائه ذلك فيتوسع عليه منزله، ألا ترى أنه لا يجوز التهايؤ في الطريق بين الشريكين لما فيه من تعطيل الملك على كل واحد منهما في نوبة صاحبه، فكذا ألا تجوز قسمة رقبة الطريق إذا تضمنت تعطيل الملك على أحدهما ويجوز التهايؤ في مسألة البيت لأن ملك كل واحد منهما لا يتعطل في نوبة صاحبه، لأن صاحبه ينتفع به من جهته، فلو امتنعت القسمة في مسألة البيت إنما تمتنع لما فيها من قطع الارتفاق بنصيب صاحبه، إلا أن ذلك لا يصلح بأنهما. ألا ترى أنه جاز استرداد العارية وإن كان فيها قطع الارتفاف على المستعير بملك المعير.
الوجه الثاني: إذا طلب صاحب القليل القسمة، وأبى صاحب الكثير ذلك، ذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنها تقسم، وإليه ذهب شيخ الإسلام، وذكر الكرخي في «مختصره» : أنها لا تقسم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث وجعل هذا قول أصحابنا رحمهم(7/342)
الله، وإليه مال الحاكم عبد الرحمن والقاضي الاسبيجاني والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والفتوى على الأول؛ لأن الطالب رضي بالقسمة، وهذه القسمة لا تضمن فوات منفعة على الآبي منفعة كانت له قبل القسمة صاحب الكثير ينتفع بنصيبه فيكون هذا في حق الآبي قسمة لا إتلافاً، والقسمة مستحقه بطلب أحدهما، هكذا ذكر في «شرح كتاب القسمة» وذكر هو رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الأصح أن القاضي لا يقسمها.
ووجه ذلك: أن الطالب وإن رضى بالضرر إلا أن رضاه بالضرر لا يلزم القاضي شيئاً إنما الملزم طلب الإنصاف من القاضي وإيصال الطالب إلى منفعة ملكه، وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان بين رجلين حائط طلب أحدهما القسمة من القاضي، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها؛ لأنه لو قسم بعد الهدم كان في الهدم إتلاف المنفعة، ولو قسم قبل الهدم بالمساحة كما تقسم الأرض كان ذلك تسبباً إلى إتلاف المنفعة؛ لأن للطالب أن ينقض نصيبه بعد القسمة لأنه يكون متصرفاً في نصيبه، وكما لا يجوز إتلاف المنفعة لا يجوز التسبب إليه، وكذلك الحمام لا يقسم بطلب بعض الشركاء؛ لأن هذه القسمة إتلاف منفعة الحمام؛ لأنه لا ينتفع به انتفاع الحمام إلا بجميعه، وإن قسموا ذلك فيما بينهم تركهم القاضي وذلك لأن الحق لهم، فيكون التدبير في ذلك إليهم.
في «المنتقى» : في أول الباب الأول من كتاب القسمة: حائط بين دارين سقط حتى بدى أسفله قال أحد الشريكين في الحائط: أقسم، وقال الآخر: لا بل ابني، قال محمد رحمه الله: لا أقسم بينهما؛ فلعله أن يقع نصيب كل واحد منهما إن قسم مما يلي الآخر رواه هشام.
وذكر في آخر هذا الباب ابن سماعه عن محمد رحمها الله: حائط بين رجلين، وأرضه كذلك بينهما انهدم الحائط، وأرض الحائط مما يستطاع قسمته، طلب أحدهما القسمة، فإن كان لهما عليه جذوع لا يقسم أرض الحائط، وإن لم يكن لأحدهما عليه جذوع قسمت أرض الحائط.
وإذا كان بناء بين رجلين في أرض رجل قد بناه فيها بإذنه، فأراد أحدهما قسمة البناء وهدمه، وأبى الآخر وصاحب الأرض غائب لا يكلفهما ذلك، فالقاضي لا يقسمها بينهما؛ لأنه ما لم يكلفهما صاحب الأرض الهدم فلهما حق القرار، فكان بمنزلة ما لو كان البناء في أرض هي ملكهما، ولو كان كذلك وطلب أحدهما من القاضي قسمة البناء وهدمه، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها بينهم كذا ههنا، ولو فعلا ذلك بأنفسهما تركهما القاضي، وذلك لما ذكرنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في دكان في السوق بين رجلين يبيعان فيه بيعاً أو يعملان فيها بأيديهما، فأراد أحدهما قسمته وأبى الآخر، فإن القاضي ينظر في ذلك،(7/343)
إن كان لو قسم أمكن لكل واحد منهما أن يعمل في نصيبه العمل الذي كان يعمله قبل القسمة قسم، وإن كان لا يمكنه ذلك لا يقسم، وإنه يخرج على ما ذكرنا.
وإذا كان زرع بين رجلين، فأرادوا قسمة الزرع فيما بينهم دون الأرض، فالقاضي لا يقسمه، أما إذا بلغ الزرع وتسنبل، لأنه بعد ما بلغ وتسنبل صار مال الربا، وفي القسمة معنى المبادلة فلا يجوز مجازفةً.
فإن قيل: ينبغي أن يصرف حبّ هذا إلى بين ذلك، وبين ذلك إلى حب هذا احتيالاً للجواز، كما لو اشترى قفيز حنطة وقفيز شعير بقفيزي حنطة وقفيزي شعير، فإنه يصرف حنطة هذا الجانب إلى شعير ذلك الجانب، وشعير هذا الجانب إلى حنطة ذلك الجانب إحتيالاً للجواز، والجواب من وجهين:
أحدهما: أن موضوع هذه المسألة أنهما طلبا القسمة من القاضي، ومتى كانت القسمة من القاضي لا يمكن صرف الجنس فيها إلى خلاف الجنس، لأنها تكون مبايعة، وإلى القاضي القسمة عند طلب بعض الشركاء لا البيع. فعلى قول هذا التعليل لو حصلت القسمة بالتراضي يجوز؛ لأن لهما القسمة والمبايعة، فمتى تعذر وتجويزها مقاسمة تجوز مبايعة.
الوجه الثاني: أنه إنما يصرف الجنس إلى خلاف الجنس إذا كان الجنس الآخر محلاً للبيع يجوز إفراد العقد عليه بانفراده، كما في الحنطة مع الشعير أما (3ب4) إذا لم يكن الجنس الآخر محلاً للبيع فإنه لا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس.
ألا ترى أنه لو باع قفيز تمر بقفيزي تمر لا يجوز، ولا يصرف جنس هذا إلى نوى ذلك؛ لأن النوى بانفراده ليس بمحل البيع لو باعه لا يجوز.
إذا ثبت هذا فنقول: الحنطة في سنبلها إن كانت محلاً للبيع فتبنها ليس بمحل للبيع، ألا ترى أنه لا يجوز بيعه، فلا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، فعلى قول هذا التعليل وإن اقتسما بتراضيهما لا يجوز.
وأما إذا كان الزرع بقلاً فإنما لا يقسم القاضي إذا كانت القسمة بشرط الترك؛ لأنه إذا قسم بشرط الترك فقد شرط في القسمة إعارة الأرض، وإنه شرط فاسد، والقسمة لا تصح مع الشرط الفاسد.
وأما إذا أراد القسمة بشرط القلع فله أن يقسم، إذ ليس في هذه القسمة شرط العارية لو لم يصح لهما لا يصح لمكان الضرر وقد رضيا به، وهذا الجواب على إحدى الروايتين، فأما على الرواية الأخرى ينبغي أن لا يقسم القاضي وإن رضيا به كما ذكرنا هذا إذا طلبا القسمة من القاضي، وإن طلب أحدهما وأبى الأخر فالقاضي لا يقسم على كل حال. ولو قسما الزرع بأنفسهما، فإن كان الزرع قد بلغ وتسنبل فالجواب فيه قد مر، وإن كان الزرع بقلاً إن قسما بشرط الترك لا يجوز، وإن قسما بشرط القلع جاز باتفاق الروايات.
وفي «المنتقى» زرع بين رجلين اقتسماه قبل أن يدرك، قال أبو حنيفة: لا يجوز،(7/344)
وقال أبو يوسف: إنه جائز، وقسمة الطلع بدون قسمة النخيل نظير قسمة الزرع قبل البلوغ بدون الأرض، إن اقتسما بشرط القلع جاز، وإن اقتسما بشرط الترك لا يجوز، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يقسمه بشرط الترك، وهل يقسمه بشرط القلع؟ فهو على الروايتين، وإن طلب أحدهما القسمة فالقاضي لا يقسم لا بشرط القلع ولا بشرط الترك.
ولا يقسم الساحة الواحدة واللؤلؤة وكل شيء يحتاج إلى كسر أو شق أو قلع بطلب البعض، إذا كان في قطعه أو شقه أو كسره ضرر، فأما إذا لم يكن في ذلك ضرر يقسم، واللآليء واليواقيت تقسم لأن الجنس واحد، ومنفعة هذا الجنس مما لا تتفاوت تفاوتاً لا يمكن استدراكه بخلاف العبيد على قول أبي حنيفة.
وإذا كان قناة أو نهراً أو عيناً، وليس معه أرض، فأراد بعض الشركاء القسمة، فالقاضي لا يقسم؛ لأن منفعة النهر لا تحصل إلا بالبعض، وكذلك منفعة القناة وأشباهها، وإن كان مع ذلك أرض للشرب لها الماء من ذلك قسمت الأرض وتركت النهر والبئر والقناة على الشركة، ولو كان أنهاراً أو أباراً في الأرضين متفرقة قسمت الآبار والعيون؛ والأراضي لأن الإفرازها هنا ممكن من غير ضرر.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كانت الدار بين ورثة فاقتسموها، وفصلوا بعضها على البعض بفصل قيمة البناء، أو ما أشبه ذلك فهذه القسمة وهذا التفصيل جائز.
وصورته: إذا كانت الدار بين وارثين وهي ثلاثون ذراعاً قيمة عشرة أذرع منها من جانب مثل قيمة العشرين من الجانب الآخر، إما لأجل البناء أو لمعنى من المعاني، فاقتسما أن يكون لأحدهما هذه العشرة وللآخر العشرون، فهذه القسمة جائزة واكتفي فيها بالمعادلة من حيث المعنى، وهو المالية عند تعذر اعتبار المعادلة من حيث الصورة بالذرعان.
وإن اقتسما العرصة بالسوية نصفين وشرطا أن من وقع البناء في نصيبه أعطى نصف قيمة البناء الآخر، فهذا على وجهين:
الأول: أن يقوموا البناء قيمة العدل، وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه أعطى نصف ذلك لصاحبه، بأن قوموا البناء مثلاً مئة درهم، وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه يعطي لصاحبه خمسين درهماً، وأنه جائز لأنهم قسموا الأرض بالسوية، وباع الذي لم يقع البناء في نصيبه نصيبه من البناء ببدل معلوم من صاحبه وكل ذلك جائز وتعين الكل قسمة.
أما على قول أبي حنيفة: لأن البيع مشروط في القسمة، فيكون تبعاً للقسمة فيكون له حكم القسمة بطريق التبعية، وصار كالبيع المشروط في النكاح له حكم النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله بطريق التبعية.
وأما على قولهما: فلأن هذا البيع من ضرورات هذه القسمة، فيكون له حكم القسمة بخلاف البيع المشروط في النكاح على قولهما، لأنه ليس من ضرورات النكاح أما هنا بخلافه.(7/345)
الوجه الثاني: إذا اقتسموا الأرض نصفين وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه أعطي نصف قيمة البناء الآخر إلا أنه لم يعرف قيمة البناء وقت القسمة ولم يتبينوا ذلك، فهذه القسمة.
وهذا بخلاف ما لو باع داراً وأرضاً له وذكر الحقوق فإنه يدخل الطريق والشرب في البيع، وإن أمكن للمشتري فتح الطريق وتسييل الماء من موضع آخر من ملكه؛ لأن العمل باللفظين ممكن في البيع، لأن موجب البيع ملك اليمين، وبعدما دخل الحقوق ويبقى كذلك تمليكا للعين فلا ضرورة إلى إلغاء أحد اللفظين، أما عند عدم ذكر الحقوق في القسمة لم يوجد في القسمة ما يوجب دخول الحقوق.
أما إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن في هذه الصورة لا يدخل الطريق وتسييل الماء مع ذكر الحقوق فبدون ذكر الحقوق أولى وأما إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن الطريق وتسييل الماء لو دخلا في هذه القسمة دخلا بدلالة الحال؛ لأن الظاهر أنهما يباشران قسمة جائزة لا فاسدة، لا أن دلالة الحال إنما يعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها وقد وجد الصريح هنا بخلافها، وهو التنصيص على لفظة القسمة، فإن القسمة للإفراز وخلوص الأنصباء.
وإذا اقتسم الرجلان داراً، فلما وقعت الحدود بينهما، فإذا أحدهما الطريق له، فإن كان يقدر على أن يفتح في حيزه طريقاً فالقسمة جائزة، وإن كان لا يقدر أن يفتح في حيزه طريق فالقسمة جائزة، وإن كان لا يقدر أن يفتح لنصيبه طريقاً، فإن لم يعلم وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة فاسدة؛ لأنها تضمنت تفويت منفعة على بعض الشركاء بغير رضاه.
وإن علم وقت القسمة أن الطريق له فالقسمة جائزة، وإن تضمنت تفويت منفعة على بعض الشركاء لرضاه بذلك، وكذلك لو اقتسما على أن الطريق لأحدهما جازت القسمة لما ذكرنا، وإن كان يقدر على أن يفتح في نصيبه طريقاً يمر فيه الرجل ولا يمر فيه الحمولة فالقسمة جائزة.
فالأصل في الطريق مرور الناس فيه، فأما مرور الحمولة فيه لا يكون إلا نادراً، وإن كان بحيث لا يمر فيه رجل فهذا ليس بطريق، ولا تجوز القسمة فيها من قطع منفعة الملك على أحدهما.
إذا كانت الدار بين رجلين، فاقتسما على أن يأخذ أحدهما الأرض كلها ويأخذ الآخر البناء، ولا شيء له من الأرض، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا شرطا في القسمة على المشروط له البناء قلع البناء وفي هذا الوجه القسمة جائزة؛ لأن القسمة في معنى البيع، ومن اشترى بناء بشرط القلع بأرض له كان جائزاً فكذا هاهنا، وصار المشروط البناء مشترياً نصيب صاحبه من النقص بما ترك على صاحبه من نصيبه من الأرض، وإن سكتا عن القلع ولم يشترطا ذلك جازت القسمة(7/346)
أيضاً؛ لأنه لما شرط لأحدهما البناء من غير الأرض، والإفراز للبناء إلا بالأرض، فكأنه شرط عليه القلع من حيث المعنى.
وإن شرطا ترك البناء فالقسمة فاسدة؛ لأن المشروط له البناء يصير مشترياً نصيب صاحبه من البناء، ومنفعة الأرض بقدر ما يكون عليه مراد البناء بنصيبه من الأرض، فما يقابل منفعة الأرض يكون إجارة.
وهذه إجارة فاسدة لجهالة المدة. فهذه قسمة شرط فيها إجارة فاسدة فتفسد كالبيع إذا شرط فيها إجارة، وإذا وقع الحائط أن يرفع الجذوع عن الحائط ليس له ذلك، إلا أن يكونا شرطا في القسمة رفع الجذوع سواء كان الجذوع لأحدهما على (4أ4) الخصوص قبل القسمة والحائط بينهما، أو كان السقف والجذوع مع الحائط مشتركاً بينهما ثم صار الحائط لأحدهما بالقسمة والسقف والجذوع للآخر.
ووجه ذلك: أن اشتراط الحائط لأحدهما بحكم القسمة إن كان يقتضي خلوص الحائط له عن شغل صاحبه، فاشتراط السقف للآخر يوجب أن يكون الحائط مشغولاً بحق صاحب السقف، ليسلم له ما شرط له من السقف، فأحد الاعتبارين إن كان يوجب رفع البناء فالاعتبار الآخر يمنع رفع البناء فلا يكون له الرفع بالشك، ثم جوز شرط رفع الجذوع في القسمة، وفيه نوع إشكال؛ لأن القسمة فيها معنى البيع.
ولهذا كل شرط يفسد البيع يفسد القسمة، ثم بيع الجذوع في السقف بشرط الرفع لا يجوز، فكذا القسمة بهذا الشرط ينبغي أن لا تجوز، وإذا كان أصل الشركة الميراث فجرى فيها الشراء بأن باع واحد منهم نصيبه يقسم القاضي إذا حضر البعض، وإذا كان أصلها الشراء فجرى فيها الميراث بأن مات واحد من المشترين، فالقاضي لا يقسم حتى يحضر سائر المشتريين لأن في الوجه الأول المشترى قام مقام البائع في الشركة الأولى وكان أصلها وراثة، وفي الوجه الثاني الوارث قام مقام المورث في الشركة الأولى، وكان أصلها شراء، فينظر في هذا إلى الأول.5
في «فتاوى أبي الليث» : وفي هذا الموضع أيضاً: ضيعة بين خمسة من الورثة، واحد منهم صغير واثنان غائبان، واثنان حاضران، فاشترى رجل نصيب أحد الحاضرين، وطالب شريكه الحاضر بالقسمة عند القاضي وأخبراه بالقصة، فالقاضي يأمر شريكه بالقسمة ويجعل وكيلاً عن الغائب والصغير؛ لأن المشتري قام مقام البائع أن يطالب شريكه؛ لأن أصل الشركة كان ميراثاً، والعبرة في هذا الأصل على ما مر.
وفي «الرقيات» كتب ابن سماعه إلى محمد رحمهم الله في قوم ورثوا داراً وباع بعضهم نصيبه من أجنبي، وغاب الأجنبي المشترى، وطلبت الورثة القسمة وأقاموا البينة على الميراث، قال محمد رحمه الله: إذا حضر الوارثان قسمها القاضي حضر المشتري(7/347)
أو لم يحضر؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث الذي باعه.
وفي «الأصل» : إذا كانت القرية وأرضها بين رجلين بالشراء فمات أحدهما وترك نصيبه ميراثاً، فأقام ورثته البينة على الميراث وعلى الأصل، وشريك أبيهم غائب لم يقسم القاضي حتى يحضر شريك أبيهم؛ لأن الوارث قائم مقام الميت، ولو كان الميت حياً وحضر يطلب القسمة، وشريكه غائب فالقاضي لا يقسم، ولو حضر شريك الأب وغاب بعض ورثة الميت قسمها القاضي بينهم؛ لأن حضور بعض الورثة كحضور الميت لو كان حياً، أو كحضور باقي الورثة.
وإن كان أصل الشركة بالميراث بأن كانا أخوين وورثا قرية من أبيهما، فقبل أن يقسما مات أحدهما وترك نصيبه ميراثاً لورثته، فحضر ورثة الميت الثاني وعمهم غائب، وأقاموا البينة على ميراثهم عن أبيهم وعلى ميراث أبيهم عن جدهم قسمها القاضي بينهم ويعزل نصيب عمهم، وكذلك لو حضر عمهم وغاب بعضهم قسمها القاضي بينهم؛ لأن الأصل ميراث، وفي الميراث غيبة بعض الشركاء لا يمنع القسمة.
في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا اشترى رجل من أحد الورثة بعض نصيبه، ثم حضر يعني الوارث البائع والمشتري وطلبا القسمة، فالقاضي لا يقسم بينهما حتى يحضر وارث آخر غير البائع؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث الذي باعه.
ولو اشترى منه نصيبه ثم ورث البائع شيئاً بعد ذلك، أو اشترى لم يكن خصماً للمشتري في نصيبه الأول في الدار حتى يحضر وارث آخر غيره، ولو حضر المشتري من الوارث ووارث آخر وغاب الوارث البائع، وأقام المشتري بينة على شرائه وعلى الدار وعدد الورثة.
فإن هذا على وجهين: إن كانت الدار في يد الورثة ولم يقبض المشتري له، أقبل بينة المشتري على المشتري من الغائب، لأن الوارث الحاضر لا يجحد نصيب الغائب، ولو كان يجحده ويدعيه جعله خصماً، وقبلت بينة المشتري وقسمته.
وإن كان المشتري قبض وسكن الدار معهم ثم طلب القسمة هو ووارث آخر غير البائع، وأقام البينة على ما ذكرنا فالقاضي يقسم الدار، وكذلك إذا طلبت الورثة القسمة دون المشتري، فالقاضي يقسم الدار بينهم بطلبهم، وجعل نصيب الغائب في يد المشتري، ولا يقضي بالشراء، وإن لم يكن المشتري قبض الدار عزل نصيب الوارث الغائب، ولا يدفع إلى المشتري، وإن المشتري هو الذي طلب القسمة وأبى الورثة لم أقسم؛ لأني لا أعلم أنه مالك، ولا أقبل بينته على المشترى والبائع غائب.
وفيه أيضاً عن أبي يوسف: دار بين رجلين باع أحدهما نصيبه وهو مشاع من رجل، ثم إن المشتري أمر البائع أن يقسم صاحبه الدار ويقبض نصيبه، فقاسمه لم تجز القسمة؛ لأن البائع لا يكون قابض للمشتري من نفسه، ولو أخرت القسمة جعلت قابضاً للمشتري، وإذا كان بين رجلين دار ونصف دار اقتسما على أن يأخذ أحدهما الدار ويأخذ الآخر نصف الدار جاز، وإن كانت الدار أفضل قيمة من نصف الدار؛ لأن البيع على هذا الوجه(7/348)
جائز، وكذلك لو كانت سهاماً مسماة من هذه الدار، وسهاماً مسماة من تلك الدار، فاقتسما على أن لهذا ما في هذه الدار من السهام، ولهذا الآخر ما في هذه الدار الأخرى من السهام جاز؛ لأن البيع على هذا الوجه جائز.
ولو كانت مئة ذراع، وهذه الدار ومئة ذراع أو أكثر من الدار الأخرى فاقتسما على أن لهذا ما في هذه الدار من الذرعان، ولهذا ما في هذه الدار الأخرى لا يجوز عند أبي حنيفة؛ لأن البيع على هذا الوجه لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف في كتاب البيوع أن بيع مئة ذراع من الدار لا يجوز، فكذا لا تجوز القسمة على هذا؛ لأنها في معنى البيع.
وإذا كانت الدار بين رجلين ميراثاً أو شراء فاقتسما على أن أحد كل واحد منهما طائفة على أن زاد أحدهما للآخر دارهم مسماة فهو جائز.
واعلم بأن ما يصلح ثمناً في باب البيع يصلح زيادة في القسمة، فالدارهم والدنانير تصلح عوض في باب البيع، حالّة كانت أو مؤجلة فتصلح زيادة في القسمة، والمكيل والموزون يصلح ثمناً في باب البيع، إن كان ثمناً وكان موصوفاً سواء كان حالاً أو مؤجلاً فتصلح زيادة في القسمة تكون على هذا الوجه.
وإن كان عيناً ولم يشترط فيه الأجل يصلح ثمناً في باب البيع، وإن شرط فيه الأجل لا يصلح ثمناً في باب البيع، فالزيادة في القسمة تكون على هذا الوجه أيضاً، وبيان مكان الإيفاء شرط عند أبي حنيفة إذا كانت الزيادة شيئاً لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة، وعندهما بيان مكان الإيفاء ليس بشرط ويسلم عند الدار.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : عقيب هذه المسائل: وهذا والسلم في القياس سواء لكني استحسن في هذا، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: القياس والاستحسان ينصرف إلى فصل الأجل.
يعني القياس: أن لا يجوز شرط المكيل والموزون زيادة في القسمة بغير أجل كما في السلم إلا أنه في الاستحسان يجوز، وهذا هو القياس والاستحسان الذي ذكرنا في كتاب البيوع، إذا اشترى شيئاً بمكيل أو موزون في الذمة حالاً فالقياس أن لا يجوز كما لو اشتراه بالثياب، وفي الاستحسان يجوز كما لو اشترى بالدراهم.
قال جماعة منهم: القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة خاصة، يعني: القياس أن لا تجوز القسمة متى ترك بيان مكان الإيفاء فيما له حمل ومؤنة على قول أبي حنيفة رحمه الله القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز.
ووجه ذلك: أن مكان الإيفاء في القسمة مشروط دلالة، وهو عند الدار مقتضى وجوب القسمة؛ لأن موجب القسمة المعادلة بين الأنصباء ما أمكن، وقد وجب تسليم النصيبين في الدار فيجب تسليم البدل في الدار أيضاً، بخلاف فعل السلم والإجارة؛ لأن موضع العقد لم يتعين مكاناً للإيفاء ثمة لإيفاء، ولا مقتضى يوجب عقد السلم؛ إذ ليس بشيء (4ب4) عقد السلم على المعلق له ألا ترى أن أحد البدلين في السلم يسلم حالاً والآخر يسلم في الثاني.(7/349)
وقال بعضهم: القياس والاستحسان على قولهما خاصة، القياس أن يجب تسليم ما شرط في موضع عقد القسمة كما في البيع والسلم، وفي الاستحسان يجب التسليم عند الدار.
ووجه ذلك: أن في السلم إنما وجب تسليم المسلم إليه في مكان العقد؛ لأن البدل الآخر وهو رأس المال وجب تسليمه في مكان العقد، فيجب تسليم هذا البدل في مكان العقد أيضاً، وها هنا تسليم أحد البدلين وجب في الدار، فكذا تسليم البدل الآخر فصارت الدار في مسألتنا كمكان العقد في مسألة السلم.
إذا كانت الدار بين رجلين اقتسماها فأخذ أحدهما قدر النصف، وأخذ الآخر قدر الثلث، ورفع طريقاً بينهما قدر السدس فذلك جائز؛ لأنهما قسما بعض الدار وبقيت شركتهما في البعض، ولو اقتسما الكل يجوز، ولو بقيا الكل على الشركة يجوز، فإذا قسما البعض وبقيا الشركة في البعض يجوز أيضاً، وكذلك إذا شرطا أن يكون الطريق لصاحب الأقل، وللآخر فيه حق المرور فهو جائز.
قال شيخ الإسلام: هذه المسألة دليل على جواز بيع حق المرور، والحاصل أن في جواز بيع حق المرور روايتان، واتفقت الروايات أن بيع الترب وبيع حق السبيل وبيع قرار العلو على السفل على الانفراد لا يجوز.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح هذا الكتاب من العلة ما يدل على جواز هذه القسمة على الروايات كلها، وإن كان في جواز بيع حق المرور روايتان كان بأن عين الطريق كان مملوكاً لهما، وكان لهما حق المرور، وقد جعل أحدهما نصيبه من رقبة الطريق ملكاً لصاحبه عوضاً عن بعض ما أخذ من نصيب صاحبه، وبقي لنفسه حق المرور هذا جائز بالشرط، كمن باع طريقاً مملوكاً من غيره على أن يكون له فيه حق المرور، وكمن باع السفل على أن له حق قرار العلو فإنه يجوز كذا ها هنا.
وإذا كانت الدار بين رجلين وبينهما شقص من دار أخرى اقتسماها على أن أخذ أحدهما الدار والآخر الشقص، فإن علما أن سهام الشقص كم هو فالقسمة جائزة، وإن لم يعلما فالقسمة مردودة، ولو علم أحدهما ولم يعلم الآخر فالقسمة مردودة.
وهكذا ذكر المسألة في «الأصل» : في هذا الكتاب ولم يفصل الجواب منها على التفصيل إن علم المشروط له الشقص جازت القسمة بلا خلاف، وإن جهل الشارط ذلك، وإن جهل المشروط له وعلم الشارط كانت المسألة على الخلاف.
على قول أبي حنيفة ومحمد تكون القسمة مردودة، وعلى قول أبي يوسف تكون جائزة وهذا القائل يقيس مسألة القسمة على مسألة البيع المذكور في كتاب الشفعة.
صورته: إذا باع الرجل نصيبه من دار من رجل، وقد علم أحدهما بمقدار النصيب ولم يعلم الآخر، إن علم المشتري ولم يعلم البائع جاز البيع بلا خلاف، وإن علم البائع(7/350)
ولم يعلم المشتري فالمسألة على الخلاف، فكان تأويل المذكور في كتاب القسمة: إذا جهل أحدهما؛ إذا جهل المشروط له، وقوله: القسمة مردودة، يعني: في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ومنهم من قال: لا بل الجواب في مسألة القسمة على ما أطلق، والقسمة مردودة في قولهم جميعاً، واختلفوا فيما بينهم.
قال بعضهم: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، موضوع مسألة الشفعة أنه أضاف البيع إلى نصيبه، فيدخل تحت البيع جميع نصيبه بحكم الإضافة فلا يبقى للبائع حق المنازعة بعد ذلك بأن يقول: عينت نصيبي نصيب كذا دون كذا، وموضوع مسألة كتاب القسمة أنهما ذكرا الشقص مطلقاً غير مضاف إليهما، وعند ذكر الشقص مطلقاً إنهما ما جهل يقع بينهما منازعة في مقدار الشقص، الشارط يقول: عينت بالشقص بعض نصيبي، والمشروط له يقول: عنيت جميع نصيبك؛ لأن اسم الشقص كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، فيقع بينهما منازعة مانعة من التسليم والتسلم.
ووزان مسألة البيع في مسألة القسمة ما إذا قال البائع بعت نصيباً من الدار ولم يقل بعت نصيبي وهناك لا يجوز البيع إذا جهل أحدهما النصيب، ووزان مسألة القسمة من مسألة البيع ما إذا قالا: الشقص الذي لنا في الدار الأقوى، وهناك كان الجواب في القسمة كالجواب في البيع.
وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومن المشايخ من فرق بين القسمة والبيع.
والفرق: أن مبنى القسمة على المعادلة في المنفعة والمالية، ولا يصير ذلك معلوماً لكل واحد منهما إلا إذا كان الشقص معلوماً لكل واحد منهما، فأما البيع عند المعاينة يقصد به الاسترباح والمشتري هو الذي يقبض المبيع، فيشترط أن يكون مقداره معلوماً له، فأما حق البائع في الثمن وهو معلوم فيتحقق هذا المعنى.
نظير الفرق: إذا اقتسم الشركاء فيما بينهم، وفيهم شريك غائب أو صغير ليس له وصي لا تصح القسمة، وإن فعلوا ذلك بأمر القاضي صحت القسمة لأن فعلهم بأمر القاضي كفعل القاضي بنفسه ولو قسم القاضي بنفسه وفيهم غائب أو صغير تصح القسمة؛ وينتصب الحاضر خصماً عن القاضي، كذا إذا فعلوا بأمر القاضي، وإن قدم الغائب وأجاز قسمتهم جاز، وكذلك إذا بلغ الصغير وأجاز قسمتهم، لأن هذا تصرف عقد وله مجبر حال وقوعه، فإن الغائب يجبر، وكذلك ابن الصغير أو وصيه بجبر وكل تصرف وله مجبر حال وقوعه يتوقف.
فإن قيل: في هذا توقيف الشراء، ومن مذهبنا أن الشراء لا يتوقف.
قلنا: الشراء إنما لا يتوقف إذا كان شراء محضاً بأن اشترى شيئاً لغيره بدارهم بغير أمره، فأما إذا كان شراء فيه بيع فإنه يقف، كما لو اشترى جارية لنفسه بعبد للصغير، فإن شراء الجارية يقف لأنه بيع في حق العبد، إذا ثبت هذا فنقول: هذه القسمة شراء فيها معنى البيع فجاز أن يقف، فإن مات الغائب أو الصبي فأجاز وارثه عمل بإجازة الوارث(7/351)
عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد تبطل القسمة.
فوجه قول محمد: أن موت من له الإجازة قبل الأداء تبطل العقد كالبيع المحض.
وجه قولنا: أنا لو أبطلنا القسمة بموت من له الإجازة احتجنا إلى إعادة مثلها ثانياً عند طلب بعض الشركاء، فلا يفيد الإبطال بخلاف البيع المحض؛ لأنا لو أبطلنا البيع بموت من له الإجازة لا نحتاج إلى إعادة مثله ثانياً، فكان في الإبطال فائدة، ثم إنما تعمل الإجازة من الغائب أو من وارث أو من الوصي أو من الصبي بعد البلوغ إذا كان ما وقع عليه القسمة قائماً وقت الإجازة، فأما إذا هلك فلا كالبيع المحض الموقوف على الإجازة إنما تعمل فيه الإجازة إذا كان المبيع قائماً وقت الإجازة، وكما تثبت الإجارة صريحاً بالقول تثبت الإجازة دلالة بالفعل كما في بيع المحض.
الفصل الرابع: فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكر وما لا يدخل
وتدخل الشجرة في قسمة الأراضي، وإن لم يذكروا الحقوق والمرافق كما تدخل في بيع الأراضي، لا يدخل الزرع والثمار في قسمة الأراضي، وإن ذكروا الحقوق لأن الثمار والزرع ليست من حقوق الأرض فحقوق الأرض ما لا ينتفع بها بدون الأرض، فيكون من توابع الأرض، والزرع والثمار مما ينتفع بها دون الأرض فلا تكون من حقوق الأرض.
ولهذا لا يدخل في المبيع المحض بذكر الحقوق، وكذلك إن ذكر المرافق مكان الحقوق لا تدخل الثمار والزرع في ظاهر الرواية؛ لأن في العرف يروا المرافق الحقوق، فصار ذكر الحقوق سواء، ولو ذكروا في القسمة بكل قليل أو كثير فيها ومنها، إن قال بعد ذلك: من حقوقها لا تدخل الثمار والزرع، وإن لم يقل من حقوقها يدخل.
والأمتعة الموضوعة فيها لا تدخل على كل حال لأن الأمتعة إن كانت فيها فليست منها بوجه، ما وهو إنما شرط لصاحبه كل قليل وكثير هو فيها ومنها، فما يكون فيها ولا يكون منها لا يكون له بخلاف الزرع؛ لأن الزرع فيها من كل وجه ومنها من وجه، لأن الزرع متصل بالأرض إتصال تركيب بهذا الطريق دخل الزرع في بيع الأرض بذكر كل قليل وكثير فيها ومنها، وأما الشرب (5أ4) والطريق هل يدخلان من غير ذكر الحقوق في القسمة؟.
ذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنهما يدخلان، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : في موضع آخر من هذا الكتاب، فإنه قال: إذا كانت الأرض بين قوم ميراثاً اقتسموها بغير قضاء، فأصاب كل إنسان منهم فراح على حده، فله شربه وطريقه ومسيل مائه وكل حق لها.
والصحيح: أنهما لا يدخلان، ألا ترى أنهما لا يدخلان في البيع من غير ذكر(7/352)
الحقوق فكذا في القسمة؛ لأنها بمعنى البيع إلا أن فرق ما بين البيع والقسمة أن البيع جائز على كل حال، والقسمة جائزة إن أمكنه أن يجعل لأرضه شرباً وطريقاً من موضع آخر، وإن لم يمكنه إن علم وقت القسمة أن لا طريق ولا شرب له، فكذا القسمة جائزة، وإن لم يعلم فالقسمة باطلة؛ لأن البيع وضع لتمليك ما عقد عليه البيع، وقد حصل هذا المعنى على كل حال.
فأما القسمة فكما أن فيها معنى التملك، ففيها معنى الإقرار لما كان لهم من المنفعة والمالية قبل القسمة، وإنما يتحقق الإقرار إذا لم يتضمن لفوات منفعة على بعض الشركاء منفعة كانت لهم قبل القسمة، فبدون ذلك لا تكون قسمة على الحقيقة، فيتوقف على رضاهم إذا ذكر الحقوق والمرافق في القسمة، فلما استحق المشروط له الحقوق الطريق فيما أصاب صاحبه بالقسمة إذا لم يمكنه إيجاد طريق آخر، أما إذا أمكنه فلا، وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم.
ولو كان الطريق في أرض غيرهما استحق كل واحد منهما الطريق بذكر الحقوق أمكنه إيجاد طريق آخر، أو لم يمكن وإن لم يذكر الحقوق والمرافق في القسمة، وإنما ذكر كل قليل أو كثير هو فيها ومنها، قيل: يدخل الطريق والشرب.
ذكر شيخ الإسلام: أن في المسألة روايتين، في رواية لا يدخل لأن هذه الحقوق في البيع ولا منها، وفي رواية هذا الكتاب يدخل بحكم العرف، فإنه كما يراد بهذه الكلمة إدخال أما فيها ومنها يراد بها إدخال هذه الحقوق.
وإذا اقتسم نفر أرضاً على أن لفلان هذه القطعة وهذه النخلة، والنخلة في غير هذه القطعة، وعلى أن لفلان الآخر هذه القطعة الأخرى، ولم يقولوا لكل حق هو لها، وعلى أن للثالث التي فيها تلك النخلة، فالذي شرط له النخلة يستحق النخلة بأصلها من الأرض حتى لم يكن للذي شرط له القطعة التي فيها النخلة أن يقطع النخلة، فالنخلة تستحق بأصلها في القسمة.
وكذلك في الإقرار، إذا أقر لرجل بنخلة فإنه يستحق بأصلها، وإذا باع النخلة أو باع الشجرة مطلقاً، ذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين، وذكر شمس الأئمة السرخسي ذكر في «النوادر» : أن في البيع اختلافاً بين أبي يوسف ومحمد، على قول أبي يوسف يستحق النخلة بأصلها، وعلى قول محمد لا يستحق، فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع وبين القسمة والإقرار.
والفرق: أن في القسمة بعض ما يصيب كل واحد منهما باعتبار أصل ملكه، وأصل ملكه فيها نخلة، وإنما يكون نخله قبل القطع فمن ضرورة استحقاق بعض النخلة بأصلها استحقاق جميع النخلة بأصلها وكذلك في الإقرار؛ لأن الإقرار اختيار تملك النخلة له، فأما البيع إيجاب مبتدأ فلا يستحق به إلا المسمى فيه، والنخلة اسم لما ارتفع من الأرض لا الأرض، فلا يجوز أن يثبت الملك ابتداء في شيء من الأرض بتسمية النخلة في البيع ما لم يسم النخلة بأصلها.(7/353)
والحائط يستحق بأصله في الإقرار والقسمة والبيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» ، وذكر الخصاف في كتاب الشروط أن الحائط والنخلة والشجرة سواء.
ثم ذكر محمد في «الكتاب» : أن الشجرة تستحق بأصلها في القسمة، ولم يذكر مقدار ذلك.
بعض مشايخنا قالوا: يدخل في القسمة من الأرض ما كان بإزاء العروق يوم القسمة عروقاً لو قطعت تثبت الشجرة، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وبعضهم قالوا: يدخل في الأرض بمقدار غلظ الشجرة يوم القسمة، وإليه مال في «الكتاب» فإنه قال: إذا زادت النخلة غلظة كان لصاحب الأرض أن يبحث ما ازداد، فدل أنه قدر ما تحته من الأرض بمقدار غلظ الشجرة وقت القسمة.
فإن قطع النخلة أو الشجرة فله أن يغرس مكانها ما بدا له لأن صاحبها ملك من الأرض بقدر الغلظ الذي كان وقت القسمة، فكان له أن يتصرف فيها ما شاء، فإن أراد أن يمر إليها فمنعه صاحب الأرض عنه، إن ذكروا في القسمة بكل حق هو لها فليس لصاحب الأرض أن يمنعه وله الطريق إلى كله، وإن لم يذكروا ذلك، إن علم وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة جائزة، وإلا فالقسمة مردودة.
وإذا كانت قرية وأرض ورحى ما بين قوم بالميراث، فاقتسموها فأصاب رجلاً الرحى ونهرها وأصاب آخر التنور وأرضاً مسماة، وأصاب آخر أيضاً أرضاً مسماة فاقتسموها بكل حق لها، فأراد صاحب النهر أن يمر إلى نهره في أرض أصاب صاحبه بالقسمة فمنعه صاحبه، فليس له منعه إذا كان النهر في وسط أرض هذا ولا يصل إليه إلا بأرضه، لأن ذكر الحقوق والحالة هذه لاشتراط هذا الطريق، والطريق يستحق بالشرط.
وإن كان يصل إلى النهر بدون أرضه بأن كان النهر متفرجاً مع حد الأرض، لم يكن له أن يمر في أرض هذا، وإن كان الطريق إلى النهر في أرض الغير لا في نصيب صاحبه يدخل في القسمة بذكر الحقوق أمكنه الوصول إلى النهر بدون ذلك الأرض، أو لم يمكنه، وقد مر جنس هذا.
وإن لم يشترطوا في القسمة الحقوق والمرافق وما أشبهها، وكان الطريق في أرض الغير، فإن لم يمكن فتح الطريق في نصيبه فالقسمة فاسدة، إلا إذا علم بذلك وقت القسمة وإن أمكنه فتح الطريق في نصيبه فالقسمة جائزة، وكذلك إذا أمكنه المرور في بطن النهر بأن نضب الماء من موضع منه، وكان يمكن المرور في ذلك، فهو قادر على أن يمر في نصيبه فتكون القسمة جائزة، وإن لم يكن من النهر شيء مكشوف فالقسمة فاسدة؛ لأن المرور متعذر إن كان الماء كثيراً ومتعسر إن كان قليلاً فلا يلتفت إليه، والتحق هذا بما إذا لم يمكنه فتح الطريق في نصيبه.
لا يدخل العلو والكنيف والشارع في قسمة الدار، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق، والظلة لا تدخل بدون ذكر الحقوق والمرافق عند أبي حنيفة، وعندهما تدخل إذا كان(7/354)
مفتحها من الدار، والجواب في القسمة نظير الجواب في البيع.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دار بين قوم اقتسموا، فوقع في نصيب أحدهم بيت فيه حمامات، فإن لم يذكروا الحمامات في القسمة فهي بينهم كما كانت، وإن ذكروها فإن كانت لا توجد إلا لصيد فالقسمة فاسدة لما ذكرنا أن القسمة في معنى البيع، وبيع الحمامات إذا كانت لا توجد إلا لصيد فاسد فكذا القسمة، وإن كانت الحمامات توجد بغير صيد فالقسمة جائزة، لأن بيع الحمامات إذا كانت توجد بغير صيد جائزة، وهذا كله إذا اقتسموها بالليل حتى إذا اجتمعت كلها في البيت، فأما إذا اقتسموها بالنهار بعد ما خرجن من البيت فالقسمة فاسدة كالبيع.
في «مجموع النوازل» : شريكان اقتسما كرماً نصفين، وفيه أعناب وثمار، فإن قالا: على أن هذا النصف لفلان بكل قليله وكثيره، أو قالا: بما فيه الأعناب والثمار تصير الأعناب والثمار مقسومة، وإن لم يقولا ذلك تبقى مشتركة؛ لأن قسمة العقار بيع، وبيع الكرم لا يكون بيعاً للأعناب والثمار إلا بالتنصيص أو بذكر القليل والكثير.
في «فتاوى أبي الليث» : كرم بين اثنين اقتسماه فوقع النصف الأعلى في نصيب أحدهما مع الطريق القديم، ووقع النصف الأسفل في نصيب الآخر مع طريق رفعوه للنصف الأسفل، وفي الطريق الذي رفعوه للنصف الأسفل أشجار، قال الفقيه أبو القاسم: لمن جعل له الطريق، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعل ملك الطريق له فالأشجار له: لأنها بمنزلة بيع الأرض، والشجرة تدخل في بيع الأرض تبعاً، وإن جعلا حق المرور له لا ملك الطريق، فالأشجار مشتركة بينهما كما كانت. فيه أيضاً، لو كان بين شريكين دار فرفعا باباً منها ووضعاه فيها، ثم قسما الدار، فالباب الموضوع لا يدخل في القسمة إلا بالذكر كما في البيع والله أعلم.
الفصل الخامس: في الرجوع عن القسمة (6ب/4) واستعمال القرعة فيها
إذا كان الغنم أو ما أشبهه بين رجلين فأرادا قسمتها، وقسماها نصفين ولم يقصرا عن طلب المعادلة، ثم بدا لأحدهما الرجوع، فإن بدا له قبل تمام القسمة بأن كان ذلك قبل خروج القرعة فله الرجوع؛ لأن المقصود من القسمة وهو تعيين الأنصباء لم يحصل قبل الإقراع، فحال ما قبل الإقراع في القسمة والمقصود لم يحصل، كحال المساومة في باب البيع، وإن بدا له بعد تمام القسمة، بأن بدا له بعد ما خرج قرعتهما، أو بعد ما خرج قرعة أحدهما وتعين نصيب كل واحد منهما ليس له الرجوع؛ لأن القسمة في معنى البيع، والرجوع عن البيع بعد تمامه لا يعمل، فكذا الرجوع عن القسمة.
وإن كان الشركاء ثلاثة، فخرج قرعة أحدهم فلكل واحد منهم الرجوع؛ لأن القسمة لم تتم في كل واحد منهما، وأما في حق من خرج قرعته وإن تعين نصيبه؛ لأن ما يترك(7/355)
على صاحبيه من نصيبه لم يتعين بعد فكأنه وجد إحدى شطري القسمة، وإن خرج قرعة اثنين منهم، ثم أراد أحدهم أن يرجع ليس له ذلك؛ لأنه تعين نصيب كل واحد منهم وتمت القسمة في حقهم؛ لأن بخروج السهمين يتعين السهم الثالث.
ولو كان الشركاء أربعة ما لم تخرج قرعة ثلاث منهم كان لكل واحد منهم الرجوع، وهو بناء على ما قلنا.
وفي «نوادر ابن رستم» : لو كانت القسمة من القاضي أو من قسامه، فليس لأحد الشركاء الرجوع وإن لم تخرج السهام أصلاً؛ لأن القاضي يجبرهم على ذلك فلا يلتفت إلى رجوع واحد منهم لا بعد خروج القرعة ولا قبل خروجها.
وإذا كان غنم بين قوم تشاحوا عليها قبل أن يقسموها، فأيهم خرج سهمه أولاً عدوا له، كذا الأول فالأول فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يدري ما نصيب كل واحد منهم بعد الإقراع، فإنه لا يدري أي عشرة تعد له الجيد أو الوسط أو الرديء، فهذه حياله مفضية إلى المنازعة، فيفيد القسمة كما يفيد البيع.
وإن كان في الميراث إبل وبقر وغنم، فجعلوا الإبل قسماً والبقر قسماً والغنم قسماً ثم تشاحوا عليها وأقرعوا، فهذا جائز لأن ما يصيب كل واحد منهم بعد القرعة معلوم بخلاف الفصل الأول، فإن ما يصيب كل واحد بعد القرعة ثمة ليس بمعلوم.
وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسما على أن أخذ أحدهما الثلث من مؤخرها بجميع حقه، وأخذ الآخر الثلثين من مقدمها بجميع حقه فلكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك ما لم تقع الحدود بينهما، ولا يعتبر رضاهما بما قالا قبل وقع الحدود؛ وهذا لأن الرضا بالقسمة إنما يعتبر وقت وجود القسمة وتمامها، كالرضا بالبيع يعتبر وقت وجود البيع وتمامه، وتمام القسمة بوقع الحدود والتعيين، إما بالنص أو بالإقراع؛ لأن الإقرار به يتحقق.
ذكر في «الأجناس» : القرعة ثلاث: الأولى لإثبات حق وإبطال حق آخر وإنها باطلة، كمن أعتق أحد عبديه بغير عينه، ثم تعين بالقرعة، والأخرى لطيبة النفس، وإنها جائزة كما يقرع بين النساء ليسافر بها، والثالث لإثبات حق واحد وفي مقابلة مسألة ليقر بها كل حق كالقسمة وهو جائز والله أعلم.
الفصل السادس: في الخيار في القسمة
الخيار نوعان: نوع يثبت بالشرط، ونوع يثبت بدون الشرط، والذي يثبت بدون الشرط نوعان: خيار الرؤية وخيار العيب، والقسمة نوعان: قسمة يوجبها الحكم، نعني بها: قسمة يجبر الآبي عليها، وقسمة لا يوجبها الحكم نعني: قسمة لا يجبر الآبي عليها.
وقد أورد محمد رحمه الله في «الأصل» لكل خيار باباً وبدأ بخيار الرؤية، فنحن(7/356)
نبدأ به أيضاً، فنقول: خيار الرؤية يثبت في القسمة التي لا يوجبها الحكم؛ لأن إثباته مفيد، وهل يثبت في القسمة التي يوجبها الحكم؟ ينظر إن وقعت هذه القسمة في ذوات الأمثال من المكيل أو الموزون أو العدديات المتقاربة من جنس واحد لا يثبت؛ لأن إثباته غير مفيد؛ لأنا متى أثبتناه ونقضنا القسمة به يجب إعادتها كما وقعت أول مرة، فلا يفيد الاشتغال به بخلاف القسمة التي لا يوجبها الحكم، لأنا لو نقضناها بخيار الرؤية لا يجب إعادة مثلها ثانياً، فكان الإثبات مفيداً.
وإن وقعت هذه القسمة في غير ذوات الأمثال كالغنم والبقر والإبل والثياب الهروية أو المروية ففيه روايتان، ذكر في رواية أبي سليمان أنه يثبت، وذكر في رواية أبي حفص أنه لا يثبت، والصحيح ما ذكر في رواية أبي سليمان.
ووجه ذلك: أن إثبات الخيار في هذه القسمة مفيد؛ لأن المعادلة في غير المكيل والموزون تعتبر من حيث القيمة، والقيمة تعرف بالحزر والظن فيتوهم جريان الغلط فيها فمتى نقضنا هذه القسمة بخيار الرؤية ربما تعاد على وجه يكون أعدل من الأول، فكان النقض مفيداً بخلاف المكيل والموزون؛ لأن المعادلة فيها تعتبر من حيث الإجراء لا من حيث القيمة، فمتى نقضناها احتجنا إلى إعادة مثلها، ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : الحنطة والشعير وكل ما يكال وكل ما يوزن، وأثبت في قسمتها خيار الرؤية.
قال مشايخنا رحمهم الله: أراد بما قال الحنطة والشعير جميعاً والمكيل والموزون جميعاً، لا أحدهما على الانفراد حتى يكون المقسوم أجناساً، فتكون قسماً لا يوجبها الحكم بتراضيهما، فيثبت فيها خيار الرؤية.
وإن أراد بذلك الحنطة على الانفراد أو الشعير على الانفراد، فهو محمول على ما إذا كان صفتهما مختلفة، بأن كان البعض علكة والبعض رخواً، والبعض حمراء والبعض بيضاء، واقتسما كذلك حتى تكون القسمة واقعة على وجه لا يوجبها الحكم.
أو كانت صفتها واحدة، إلا أنه أصاب أحدهما من أعلى الصبرة، وأصاب الآخر من أسفله، وهكذا الجواب في الذهب التبر والفضة التبر، وكذلك أواني الذهب والفضة والجواهر واللآليء، وكذلك العروض كلها، وكذلك السلاح والسيوف والسروج.
وإذا كانت ألفا درهم بين رجلين، كل ألف في كيس فاقتسما على أن لأحدهما كيساً وللآخر كيساً، وقد رأى أحدهما المال كله، ولم يره الآخر فإنه لا يثبت خيار الرؤية؛ لأنها قسمة وقعت على يوجبها الحكم؛ وهذا لأن الدراهم والدنانير، أثمان من كل وجه، ولا مقصود في عينها إنما المقصود الثمنية وبمعرفة المقدار يصير المقصود معلوماً على وجه لا تفاوت قسم الرضا به قبل الرؤية، بخلاف سائر وجه الأعيان، قال: إلا أن يكون قسم الذي لم ير المال سهماً، فيكون له الخيار إن شاء رد القسمة وإن شاء أمضاها.
واختلف المشايخ في تعليله، قال بعضهم: لأنه إذا كان قسمه سهماً بأن كان زيوفاً كان ذلك عيباً، فيرد بخيار العيب لا بخيار الرؤية، وخيار العيب يثبت في القسمات كلها.
وبعضهم قالوا: لأنه إنما رضي بقسمته على أن يكون في الصفة بمثل ما أخذ(7/357)
صاحبه، فإذا كان دون ذلك لا يتم به الرضا فيتخير في ذلك، كما لو رأى عند الشراء جزءاًمن المكيل أو الموزون، ثم كان ما بقى وإنما رأى، فإنه يثبت له الخيار، وهذا إشارة إلى أن الرد بخيار الرؤية.
وإذا اقتسم الرجلان بستاناً وكرماً فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم ولم ير واحد منهما الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله، وإنما رأى الحائط من ظاهره سقط خيار الرؤية، ورؤية الظاهر كرؤية الباطن.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وبهذه المسألة يتبين ضعف قول من يقول في مسألة الدار: إذا رأى المشترى ظاهر الدار ولم ير داخلها أن جواب محمد: أنه لا خيار للمشتري محمول على دور الكوفه؛ لأنهما لا تتفاوت في السعة والضيق.
ألا ترى أن محمداً رحمه الله في مسألة البستان والكرم اكتفى برؤية الظاهر، مع أن البستان المقصود والكرم المقصود يتفاوت بتفاوت الأشجار والنخيل، ولم يشترط رؤية شيء من ذلك، فعلم أن المعنى في تلك المسألة أن ما يتعذر الاستقصاء برؤية كل جزء منه تقام رؤية جزء منه مقام رؤية الجميع في إسقاط الخيار، وبعض مشايخنا قالوا: تأويل قوله: ولا رأى شجره ولا نخلة، كل الشجر وكل النخيل.
إنما رأى رؤوس الأشجار ورؤوس النخيل، أما لو لم ير رؤوس الأشجار أيضاً لا يسقط (7أ4) خيار الرؤية، وهذا القائل هذا يقول في بيع المحض، ثم إذا ثبت خيار الرؤية في القسمة في أي موضع ثبت يبطل بما يبطل به هذا الخيار في البيع المحض؛ لأن القسمة في معنى البيع، وقد عرف تفاصيل ذلك في كتاب البيوع.
جئنا إلى خيار العيب، فنقول: خيار العيب يثبت في نوعي القسمة جميعاً، لأن إثبات خيار العيب مقيد في النوعين جميعاً، فإن القسمة متى نقضت بسبب العيب لا يحتاج إلى إعادة مثلها على حسب ما وقعت أول مرة، بل تعاد على وجه يزول الضرر عمن وقع العيب في قسمه.
ومن وجد من الشراء عيباً في شيء من قسمه، فإن كان قبل القبض رد جميع نصيبه سواء كان المقسوم شيئاً واحداً، أو أشياء مختلفة كما في البيع، وإن كان بعد القبض، فإن كان المقسوم شيئاً واحداً حقيقة وحكماً كالدار الواحدة، أو حكماً لا حقيقة كالمكيل والموزون، يرد جميع نصيبه، وليس له أن يرد البعض دون البعض، كما في البيع المحض، وإن كان المقسوم أشياء مختلفة حقيقة وحكماً كالأغنام يرد المعيب خاصة كما في البيع المحض، وما يبطل خيار العيب في البيع المحض كذا يبطل به في القسمة؛ لأن في القسمة معنى البيع على ما مر.
وإذا استخدم الجارية بعد ما وجد بها عيباً ردها استحساناً، وإذا دام على سكنى الدار بعد ما علم بالعيب بالدار ردها بالعيب استحساناً أيضاً، وإذا دام على ركوب الدابة، أو دام على لبس الثوب بعد ما علم بالعيب لا يردهما بالعيب استحساناً وقياساً،(7/358)
وللاستحسان في مسألة السكنى طريقان.
أحدهما: أن الدوام على السكنى بعد ما علم بالعلم محتمل بين أن يكون لاختيار الملك فيسقط خياره، وبين أن يكون لعجزه عن الانتقال لأن الانتقال من دار إلى دار لا يمكن إلا بكلفة ومؤنة وربما لا يتهيأ له ذلك فلا يكون اختياراً للملك مع الشك فلا يسقط خياره بخلاف الدوام على الركوب واللبس؛ لأنه اختيار الملك؛ لأنه لا عجز عن النزع والنزول، فكان لاختيار الملك فعلى قول هذه الطريقة، يقول: إذا أنشأ السكنى بعدما علم بالعيب يسقط خياره؛ لأن إنشاء السكنى لا يكون إلا لاختيار الملك؛ لأنه لا يحتمل العجز عن الانتقال، ومحمد رحمه الله لم يذكر فصل إنشاء السكنى في بعض روايات كتاب القسمة، إنما ذكر فصل الدوام.
الطريق الثاني: أن الدوام على السكنى محتمل بين أن يكون بالملك الحادث المستفاد بالقسمة من جهة صاحبه، فيدل على اختيار الملك، وبين أن يكون بملكه القديم؛ لأن كل واحد منهما يملك ذلك بملكه القديم من غير رضا شريكه؛ لأن الناس لا يتفاوتون فيه وعلى هذا الاعتبار لا يكون اختياراً للملك فلا يثبت أنه الاختيار بالشك، بخلاف الدوام على اللبس والركوب؛ لأنه لا يحتمل أن يكون بالملك القديم؛ لأن أحد الشريكين لا يملك ذلك من غير رضا شريكه لما أن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فتعين أن يكون بالملك الحادث، فعلى قول هذه الطريقة نقول: إذا أنشأ السكنى بعد ما علم بالعيب لا يسقط خياره، وإلى هذا أشار في بعض روايات هذا الكتاب.
وأما في البيع المحض هل يسقط خيار العيب بالسكنى دواماً كان أو أنشاءً فلا ذكر لهذه المسألة في كتاب البيوع، وقد اختلف المشايخ فيه.
فمن سلك الطريق الأول في مسألة القسمة يقول: خيار العيب في القسمة والبيع المحض يبطل بإنشاء السكنى ولا يبطل بدوامه، ومن سلك الطريق الثاني يقول: خيار العيب في القسمة والبيع المحض لا يبطل بإنشاء السكنى ولا بدوامه.
ومن المشايخ من فرق بين البيع المحض، وبين القسمة فقال: في البيع يبطل خيار العيب بالسكنى إنشاء ودواماً، وفي القسمة لا يبطل خيار العيب بالسكنى لا إنشاء ولا دواماً.
والفرق: أن السكنى في فصل القسمة دواماً كان أو إنشاء يحتمل أن يكون بالملك القديم، فأما البيع لا يحتمل أن يكون بالملك القديم دواماً كان أو إنشاءً فيتعين أن يكون بالملك الحادث المستفاد بالبيع، فيكون اختياراً للملك، فلهذا افترقا.
وأما في خيار الشرط إذا سكن الدار في مدة الخيار، أو دام على السكنى.
ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيوع: إذا سكن المشتري الدار في مدة الخيار سقط خياره، ولم يفصل بينما إذا أنشأ السكنى وبينما إذا دام على السكنى، فمن فرق من المشايخ بين إنشاء السكنى وبين الدوام عليه في مسألة القسمة يفرق بينهما أيضاً في خيار الشرط.(7/359)
ويقول: خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى ولا يبطل بالدوام عليه إذ لا فرق بينهما، ومن قال: خيار العيب في القسمة لا يبطل لا بإنشاء السكنى ولا بدوامه، قال: بأن خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى وبدوامه.
والفرق بينهما: وهو أن السكنى في خيار العيب يحتمل أن يكون لإمكان الرد بالعيب؛ لأن مدة الرد بالعيب قد تطول؛ لأن الرد بالعيب لا يكون إلا بقضاء أو برضا، وعسى لا يرضى به خصمه، فيحتاج إلى القضاء، والقضاء يعتمد سابقه الخصومة، ومدة الخصومة عسى تطول فمتى لم يسكنها تخرب، لأن الدار تخرب إذا لم يسكن فيها أحد، فيعجز عن الرد فيحتاج إلى السكنى لإمكان الرد بالعيب، فلا يكون اختياراً للملك وعلى هذا الاحتمال؛ فلهذا لا يسقط به خيار العيب.
فأما في خيار الشرط لا يحتاج إلى السكنى لإمكان الرد؛ لأنه يتمكن من الرد بنفسه من غير أن يتوقف ذلك على قضاء أو رضا فلا تطول مدة الرد، فلا يحتاج إلى السكنى لإمكان الرد فكان الاختيار الملك فيوجب سقوط خياره، وإذا باع قسمه الذي أصابه من الدار، ولا يعلم بالعيب، فرده المشتري عليه، إن قبله بغير قضاء فليس له أن ينقض القسمة، وإن قبله بقضاء فله أن ينقض القسمة، كما في البيع المحض.
فإن كان المشتري قد قدم شيئاً من الدار قبل أن يعلم بالعيب لم يكن له أن يردها، ويرجع بنقصان العيب كما في البيع المحض، قال: وليس للبائع أن يرجع بنقصان ذلك على من قاسمه، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف.
فمن مشايخنا من قال: ما ذكر هنا قول أبي حنيفة رحمه الله وحده، أما على قول أبي يوسف ومحمد يرجع بنقصان العيب على قسمته، وقاس هذه المسألة بمسألة ذكرها في كتاب الصلح.
وصورتها: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها وباعها من غيره، فهلكت عند المشتري، ثم اطلع المشتري الثاني على عيب بها، فإن له أن يرجع بنقصان العيب على بائعه وهو المشتري الأول، وهل للمشتري الأول أن يرجع على بائعه؟ ذكر أن على قول أبي حنيفة: لا يرجع.
وعلى قولهما: يرجع فها هنا يجب أن يكون على الخلاف أيضاً، ومن المشايخ من يقول: ما ذكر في كتاب القسمة قول الكل، وفرق هذا القائل بين مسألة كتاب القسمة وبين مسألة كتاب الصلح.
ووجه الفرق: أن في مسألة كتاب القسمة إلتزم ضمان النقصان باختياره، فإنه كان يمكنه أن يقبل المبيع ولا يؤدي النقصان، فهو بمعنى قولنا: التزم ضمان النقصان باختياره فلا يرجع بذلك على غيره.
أما في مسألة كتاب الصلح التزم ضمان النقصان عن اضطرار وجبر، فإن القبول بعد الهلاك غير ممكن، فجاز أن يرجع بذلك على بائعه، ولكن هذا الفرق لا يكاد يصح؛ لأن في مسألة كتاب القسمة لا يمكنه القبول إلا بزيادة عيب يلزمه، فكان مضطراً في التزام(7/360)
ضمان النقصان، فالصحيح أن المسألة على الاختلاف.
جئنا إلى خيار الشرط، فنقول: خيار الشرط يثبت في القسمة حيث يثبت خيار الرؤية، وما يبطل به خيار الشرط في البيع المحض يبطل في القسمة، وإنما يصحّ اشتراط الخيار في القسمة على نحو ما يصح اشتراط في البيع المحض حتى يجوز اشتراط ثلاثة أيام بلا خلاف، وما زاد على الثلاثة يكون على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وإن ادعى المشروط له الخيار بعد مضي مدة الخيار الفسخ في مدة الخيار لا يصدق على ذلك، كما في البيع المحض.
الفصل السابع: في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي
الأصل أن من ملك بيع شيء ملك قسمته؛ لأن في القسمة بيعاً وإفرازاً، ومن ملك بيع شيء ملك إفرازه (7ب4) ضرورة، إذا عرفت هذا فنقول: الأب يقاسم مال ولده الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش لأنه يملك بيع مال ولده الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش فكذا القسمة، ووصي الأب في ذلك بمنزلة الأب، والجد أب الأب حال عدم الأب، ووصي الأب بمنزلة الأب، وأما وصي الأم يقاسم مال ولدها الصغير ما سوى الصغار من تركة الأم إذا لم يكن للصغير أحد ممن سمينا، ولا يقاسم ما له من غير تركة الأم، العقار والمنقول في ذلك على السواء؛ وهذا لأن وصي الأم قائم مقام الأم، والأم حال حياتها كانت تملك بيع منقولاتها التي يرثها هذا الصغير، تحصيناً على نفسها وعلى الصغير، فإنها ما لم تحصن ذلك وتحفظها لا يبقى لها ولا يصير موروثاً للصغير من جهتها، وكانت تملك بأن تحفظ ما ورثها الصغير من غيرها بعينها وما كانت تملك بيعها، العقار والمنقول في ذلك على السواء.
وما كانت تملك بيع عقار أب نفسها التي يرثها هذا الصغير تحصيناً لأنها محصنة بنفسها، وإنما كانت تملك بيعها لحاجتها إلى الثمن، إذا ثبت هذا في حق الأم ثبت في حق وصيها الذي هو قائم مقامها فيملك وصيها بيع المنقولات التي ورثها من الأم تحصيناً، ولا يملك بيع عقاراته التي ورثها من الأم تحصيناً، وإنما يملك بيعها لحاجته إلى ثمنها، بأن كان عليه دين لا وفاء له إلا من ثمنها.
ولا يملك بيع ما ورث الصغير من غير الأم، العقار والمنقول في ذلك سواء.
وإذا عرفت الجواب في البيع ظهر الجواب في القسمة، في كل موضع ملك هذا الوصي البيع يملك القسمة؛ لأن في القسمة تحصين، فإن الإنسان أقدر على تحصين المقسوم، وفي كل موضع لا يملك البيع لا يملك القسمة، وكل جواب عرفته في وصي الأم فهو الجواب في وصي الأخ والعم وابن العم يقاسم ما ورث الصغير من هؤلاء ما سوى العقار، ولا يقاسم العقار ولا يقام ما ورث الصغير من غيرهم، العقار والمنقول في(7/361)
ذلك سواء؛ لأنه لا ولاية لهؤلاء على الصغير كما لا ولاية للأم فكانوا بمنزلة الأم، فكان وصيهم بمنزلة وصي الأم.
ولا تجوز قسمة الأب الكافر على ابنه المسلم، وكذا لا تجوز قسمة الأب المملوك على ابنه الحر، ولا تجوز قسمة الملتقط على اللقيط كما لا يجوز بيعه، ولا تجوز قسمة الوصي بين الصغيرين كما لا يجوز بيعه مال أحدهما من الآخر.p
والوصي إذا قاسم مالاً مشتركاً بينه وبين الصغير لا يجوز، إلا إذا كان للصغير فيها منفعة ظاهرة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد لا يجوز، وإن كان للصغير فيه منفعة ظاهرة، ويجوز للأب أن يقاسم مالاً مشتركاً بينه وبين الصغير، وإن لم يكن للصغير فيه منفعة ظاهرة.
وإن كان في الورثة صغار وكبار فقاسم الوصي الكبار وميز نصيب الصغار جاز، ولا تجوز قسمة الوصي على الكبار الغيب في العقار، وتجوز قسمته في العروض، زاد «البقالي» في كتابه العروض من تركة الأب، وإن كان فيهم صغير وكبير حاضر وكبير غائب فعزل الوصي نصيب الكبير الغائب مع نصيب الصغير، وقاسم الكبير الحاضر.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: جاز قسمته في العقار والعروض، وعلى قولهما: تجوز في العقار ولا تجوز في العروض كما في البيع، ولا يقسم على الموصى له من غير أمر القاضي.
وروى الحسن عن أبي يوسف: أنه يجوز، وهو قول الحسن، وإذا جعل القاضي وصياً ليتيم في كل شيء فقاسم عليه في العقار والعروض جاز، ولو جعله وصياً في النفقة أو في حفظ شيء بعينه فقاسم لا يجوز.
وهذا بخلاف وصي الأب إذا جعل الأب وصياً في شيء خاص، فإنه يكون وصياً في الأشياء كلها فالوصاية من القاضي قابلة للتخصيص، ومن الأب لا تقبل التخصيص، ولا تجوز القسمة على المبرسم والمغمى عليه، والذي يجن ويفيق إلا برضاه، ووكالته في حالة صحته وإفاقته؛ وهذا لأن هذا العارض على شرف الزوال فكان لاحقاً بالعدم إلا أنه موجود حقيقة، فما ثبت للغير عليه من الولاية الثانية بالوكالة حالة الصحة لا يزول، وما لم يكن ثابتاً للغير عليه من الولاية لا يثبت.
الفصل الثامن: في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصي له، وفي ظهور الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارثديناً في التركة أو عيناً من أعيان التركة
قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم الورثة داراً للميت أو أرضاً الميت، وعلى الميت دين، فجاء الغريم يطلب الدين فالقسمة فاسدة قياساً جائزة استحساناً لوجهين:(7/362)
أحدهما: أنهما شرطا في القسمة ما تقتضيه القسمة من غير شرط، فإنهما لو اقتسما الأرض وترك البناء على الشركة وجب على من وقع البناء في نصيبه نصف قيمة البناء لصاحبه، واشتراطها يقتضيه العقد من غير شرط لا يوجب فساد العقد.
فإن قيل: إذا لم يشترط القيمة وقت القسمة فالجهالة طارئة على القسمة، لأن القيمة تجب بعد ذلك حكماً فكانت طارئة، ومتى شرطا القيمة وقت القسمة كانت الجهالة متقارنة للقسمة، والجهالة الطارئة على العقد لا توجب فساد العقد، أما المقارنة تفسد العقد، عرف ذلك في كتاب البيوع، والجواب عن هذا أن يقال: لا بل الجهالة مقارنة للقسمة، وإن لم يشترطا القيمة؛ لأن القيمة واجبه لا محالة لا تنفك القسمة عنها فكانت الجهالة متقارنة، ثم لم يمنع ذلك جواز القسمة، فكذا إذا كانت مشروطة؛ لأنه لا يثبت بالشرط زيادة جهالة لم تكن ثابتة قبل ذلك.
الوجه الثاني: لبيان جواز هذه القسمة: أن العبرة لحال تمام العقد، والعقد تم في المعلوم فلا تضرهم الجهالة في الابتداء، كما لو اشترى أحد الأبواب الثلاثة على أنه بالخيار ويأخذ أيها شاء، وسمى لكل واحد ثمناً.
بيان هذا الكلام: أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة بل يتوقف تمام القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة، فلا تتم القسمة إلا بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه.
فهو معنى قولنا: إن العقد يتم في المعلوم، ثم إذا اقتسما الأرض نصفين وترك البناء على الشركة ووقع البناء في نصيب أحدهما إنما وجب على من وقع البناء في نصيبه نصف قيمة البناء؛ لأنه لا وجه إلى إبقاء البناء مشتركاً كذلك؛ لأن ما تحت البناء من الأرض صار ملكاً لأحدهما، فمتى تركنا البناء كذلك يتضرر من وقعت ساحة الأرض في نصيبه، ولا وجه إلى أن يؤمر الذي لم يقع البناء في نصيبه نقض نصيبه، لأنه لا يمكن نقض نصيبه إلا بعد نقض نصيب صاحبه، وفي ذلك ضرر بصاحبه فلم يبق ههنا وجه سوى أن يتملك الذي لم يقع البناء في نصيبه من الأرض ونصيب صاحبه من البناء، أو يتملك صاحب الأرض من نصيب صاحبه من البناء، وتملك صاحب الأرض نصيب صاحبه من البناء أولى؛ لأن التملك فيه أقل؛ ولأن صاحب الأرض صاحب أصل وصاحب البناء صاحب تبع، وتملك التبع لحق صاحب الأصل أولى على ما عرف.
وإذا كانت الدار في يدي ورثة حضور كبار أقروا عند القاضي أنها ميراث في أيديهم وسألوه قسمتها.
قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يقسم الدور وسائر العقار بإقرارهم حتى يقيموا بينة أن فلاناً مات وتركها ميراثاً بينهم.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: قسمها بإقرارهم بينهم، ويشهد على أنه إنما قسمها بينهم بإقرار منهم لا بالبينة، وعلى هذا الخلاف إذا أقروا أن معهم وارث آخر غائب أو صغير، والدار كلها في يد الذين حضروا عند القاضي، وسألوه القسمة،(7/363)
واجمعوا على أن الدار كلها أو شيء منها إذا كان في يدي غائب أو صغير سوى هؤلاء الذين حضروا عند القاضي وطلبوا من القاضي القسمة، فالقاضي لا يقسمها بينهم حتى يقيموا البينة على الميراث، واجمعوا في العروض إذا أقروا أنها ميراث بينهم، والعروض في أيديهم، وطلبوا من القاضي القسمة أن القاضي قسمها (8أ4) وإن لم يقيموا البينة على الميراث.
وأما إذا قالوا: اشترينا هذه الدار من فلان وطلبوا من القاضي القسمة، فالقاضي يقسمها بينهم بإقرارهم، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، في المشهور من الرواية: القاضي يقسمها بينهم بإقرارهم كما هو مذهبهما، وفي رواية قال: لا يقسمها حتى يقيموا البينة على الشراء من فلان.
وجه قولهما: في فصل الميراث أن إقرارهم أن الدار في أيديهم ميراث إقرار صحيح؛ لأن الدار في أيديهم لا ينازعهم أحد فيها، وقول صاحب اليد فيما في يده عند عدم المنازع مقبول صحيح شرعاً، فلا حاجة إلى إثبات ذلك بالبينة.
والدليل عليه في فصل الشراء وفصل العروض، وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار كلها أو شيء منها في يد الغائب؛ لأن هناك إقرارهم غير صحيح؛ لأنه لا يد لهم فيما أقروا فلا بد من الإثبات بالبينة أما ها هنا بخلافه.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، ألا ترى أن التركة إذا ازدادت قبل القسمة كانت الزيادة للميت؟ حتى تقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه، وبالقسمة ينقطع قدر ما بقي من الملك له حتى يصير الزيادة لمن وقع في سهمه، وقولهم ليس بحجة على الميت بخلاف فصل الشراء على ظاهر الرواية؛ لأن القسمة هناك لا تتضمن بطلان شيء من ملك البائع؛ لأن المشترى بعد القبض ملك المشتري من كل وجه، ولم يبق للبائع فيه حق، ألا ترى أن ما يحدث من الزيادة يحدث على حكم ملك المشتري.
وأما العروض قلنا: القاضي لا يقسم العروض لقطع ما بقي من ملك الميت إنما يقسمها تحصيناً على الميت؛ لأن العروض تخشى التوى والتلف.
ألا ترى أن القاضي يبيع عروض الغائب، وإنما يبيعها تحصيناً عليه، أما العقار محصنة بنفسها فلم يقسمها بطريق التحصين بل كان لإزالة ملك الميت، فلا بد لذلك من حجة تقوم عند القاضي.
ثم على قولهما إذا قسم القاضي الدار بين الورثة بإقرارهم، يشهد أنه إنما قسم بإقرارهم؛ لأن حكم القسمة بالبينة يخالف حكم القسمة بالإقرار؛ لأن حكم القسمة بالبينة يتعدى إلى الغير.
حتى لو ادعى أم ولده هذا الميت أو مدبرة العتق فالقاضي يقضي لهما بالعتق، ولا يكلفهما إقامة البينة على الموت، وحكم القسمة بالإقرار لا يتعدى.
ألا ترى أنه لا يقضي بالعتق في هاتين الصورتين إلا ببينة تقوم على الموت، وإذا(7/364)
كان بعض الورثة حضوراً والبعض غيباً، والدار كلها أو بعضها في يد الغائب وطلب الحاضر القسمة من القاضي، وأقام البينة على الميراث، فإن كان الحاضر واحداً فالقاضي لا يقبل بينته ولا يقسم الدار، وعن أبي يوسف أن القاضي ينصب عن الغائب خصماً ويسمع البينة عليه ويقسم الدار.
وجه ظاهر الرواية: أن التركة قبل القسمة إن بقيت على حكم ملك الميت من وجه على ما مر صارت ملكاً للورثة من وجه، حتى لو أعتق واحد منهم عبداً من التركة قبل القسمة يعد العتق في نصيبه، وكل واحد من الورثة قبل القسمة يرتفق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر بدعوى القسمة كما يدعي إزالة ما بقي من ملك الميت يدعى على شركائه قطع الارتفاق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر ... جاز للقاضي نصب الوصي من حيث إنه دعوى على الميت لا يجوز له نصب الوصي من حيث إنه دعوى على شركائه الغائب، فلا يجوز نصب الوصي بالشك.
وليس كما لو ادعى أجنبي ديناً على الميت، وليس للميت وارث ولا وصي، فإن القاضي ينصب عنه وصيّاً عن الميت، أما هاهنا بخلافه، وإذا لم يكن للقاضي أن ينصب وصياً عن الميت، وهذا الواحد لا يصلح خصماً عن الميت وعن سائر الشركاء؛ لأنه مدعي فلا يصلح مدعياً عليه تعذر قبول البينة؛ لأن البينة من غير الخصم لا تقبل.
وإن حضر اثنان والباقي بحاله، فالقاضي يسمع البينة، ويقسم الدار ويجعل أحد الحاضرين مدعياً والآخر مدعى عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة.
فإن قيل: كيف يجعل أحدهما مدعى عليه وكل واحد منهما مقر بما يدعيه صاحبه، والمقر بما يدعي المدعي لا يصلح خصماً للمدعي.
قلنا: كل واحد منهما إنما يقر على الغير والإقرار على الغير باطل، وجوده والعدم بمنزلة، ألا ترى أن من ادعى على ميت ديناً وأقر به وصيه، فإن المدعي يكلف إقامة البينة وينتصب الوصي خصماً له، وإن كان الوصي مقراً، وإذا حضر أحد الورثة ومعه صغير وطلب القسمة من القاضي، وأراد ن يقسم بينه على الميراث، فالقاضي ينصب وصياً عن الصغير ويسمع البينة عليه ويقسم الدار؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي، ووصيه يقوم مقام الصبي، وكأن الحاضر اثنان بالغان.
وإن كانت الدار بين ثلاثة نفر بالشراء، وأحدهم غائب، فأقام اثنان منهم البينة على الشراء وطلبا من القاضي القسمة فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقسم الدار بينهم؛ وهذا لأن الحاضر من المشترين لا ينتصب خصماً عن الغائب منهم؛ لأن الثابت بالشراء كل واحد منهم ملك جديد بسبب يأمره في نصيبه، فأما في الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد لسبب حادث، وإنما ينتقل إليهم ما كان من الملك للمورث بطريق الخلافة عنه، فيستقيم(7/365)
أن يجعل البعض خصماً عن البعض في ذلك؛ لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت، وسيأتي جنس هذه المسائل بعد هذا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وإذا كانت الدار بين رجلين فيها صفّة، وفي الصفّة بيت وطريق البيت في الصفة، ومسيل ماء ظهر البيت على ظهر الصفة، فاقتسما فأصاب أحدهما الصفة وقطعة من ساحة الدار، وأصاب الآخر البيت وقطعه من ساحة الدار، ولم يذكروا في القسمة الطريق ومسيل الماء، فأراد صاحب البيت أن يمر في الصفة على حاله ومسيل الماء على ظهر الصفة، فالمسألة على وجهين:
أحدهما: أن يكون لصاحب البيت إمكان فتح الطريق ومسيل الماء في نصيبه في موضع آخر، وفي هذا الوجه القسمة جائزة، وليس لصاحب البيت حق المرور في الصفة، ولا حق تسييل الماء على ظهرها سواء ذكر في القسمة أن لكل واحد منهما نصيبه بحقوقه أو لم يذكرا ذلك.
الوجه الثاني: إذا لم يكن لصاحب البيت إمكان فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه من موضع آخر، وفي هذا الوجه إن ذكروا أن لكل واحد منهما نصيبه بحقوقه دخل الطريق ومسيل الماء في القسمة وتجوز القسمة، وإن لم يذكرا ذلك لا يدخل الطريق ومسيل الماء في القسمة، وفسدت القسمة.
والوجه في ذلك: أن عند ذكر الحقوق اجتمع في القسمة ما يوجب دخول الطريق ومسيل الماء في القسمة، وهو اشتراط الحقوق كما في البيع، وما يمنع دخولهما وهو لفظة القسمة، لأن القسمة للإقرار ولقطع كل واحد منهما عن نصيب صاحبه، وإنما ينقطع حق صاحب البيت عن الصفة من كل وجه إذا لم يكن لصاحب البيت حق المرور في الصفة وحق تسييل الماء على ظهر الصفة.
والعمل بهما جميعاً في كل حال متعذر، فعملنا بلفظة القسمة إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وألغينا شرط الحقوق؛ لأن العمل بمقتضى القسمة في هذه الصورة لا يفسد القسمة والقسمة أصل والشروط أتباع، وعملنا شروط الحقوق؛ إذ لا يمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وإن كان الشروط أتباعاً لأنا لو نعمل بشرط الحقوق هاهنا تفسد القسمة؛ لأنها قسمة ضرر، ومتى فسدت القسمة فسد ما شرط فيها، ففي العمل بحقيقة القسمة في هذه الصورة إلغاء القسمة والشرط جميعاً، وفي العمل بالشرط اعتبار الشرط من كل وجه واعتبار القسمة من وجه، فكان هذا أولى، فإن لهم أن ينقضوا القسمة سواء كان الدين قليلاً أو كثيراً.
يجب أن يعلم أن الورثة إذا طلبوا قسمة التركة من القاضي، وعلى الميت دين، والقاضي يعلم به، (8ب4) وصاحب الدين غائب، فإن كان الدين مستغرقاً للتركة، فإن(7/366)
القاضي لا يقسمها بينهم؛ لأنه لا ملك لهم في التركة فلا يكون في القسمة فائدة فلا يقسمها، وإن كان الدين غير مستغرق للتركة فالقياس أن لا يقسمها أيضاً بل يوقف الكل.
وفي الاستحسان يوقف مقدار الدين ويقسم الباقي، ولا يأخذ كفيلاً منهم بشيء من ذلك عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وإن لم يعلم القاضي بالدين سألهم هل عليه دين؟ فإذا قالوا: نعم سألهم عن مقدار الدين؛ لأن الحكم يختلف، فإن فسروه بمقدار لا يستغرق التركة وقف بمقدار الدين وقسم الباقي، وإن قالوا: لا دين فالقول قولهم؛ لأن الورثة قائمون مقام الميت، والميت حال حياته لو قال: ليس علي دين كان القول قوله، فكذا إذا قال ورثته ذلك.
ثم يسألهم هل فيها وصية؟ فإن قالوا: نعم سألهم إنها حصلت بالعين أو من ماله؛ لأن الحكم يختلف، فإن قالوا: لا وصية فيها قسمها القاضي بينهم، فإن ظهر بعد ذلك دين نقض القاضي القسمة؛ لأنه ظهر أنها حصلت في غير أوانها؛ لأن أوان قسمة الميراث ما بعد الدين.
يوضحه: أن حق الغريم متعلق بالتركة، فكانت القسمة مصادفة حقهم فكان لهم النقض إذا كان النقض مفيداً، وفي النقض فائدة فإنه يباع شيء من التركة في دينه ولا يحتاج إلى أن يبيع كل واحد من الورثة بما يخصه، وكذلك لو أن القاضي لم يسأل الورثة عن الدين وقسم التركة بينهم حتى جازت القسمة ظاهراً ثم ظهر الدين فالقاضي ينقض القسمة إلا أن يقضوا الدين من مالهم يعني الورثة فالقاضي لا ينقض القسمة في الفصلين جميعاً، وكذلك لو أبرأ وظهر وارث الغريم الميت عن الدين لا تنقض القسمة لأن الموجب للنقض الغريم وقد زال حقه قبل النقض فيمتنع النقض، وهذا كله إذا لم يعزل الورثة نصيب الغريم ولم يكن للميت مال آخر سوى ما اقتسموا فالقاضي لا ينقض القسمة.
وكذلك الجواب فيما إذا اقتسم الورثة التركة بأنفسهم ثم ظهر الغريم وكذلك آخر ولم يعرفه الشهود، أو ظهر موصى له بالثلث أو الربع وقد قسم الورثة التركة بأنفسهم، فإن القاضي ينقض القسمة ثم يستأنفها بعد ذلك؛ لأنه تبين أنها وقعت بغير محضر من بعض الشركاء.
فإن قيل: أي فائدة في نقض القسمة واستئنافها من ساعته.
قلنا: إذا لم ينقض القسمة يحتاج هذا الوارث أو الموصي له إلى أن يستوفي فما وصل إلى كل واحد منهم مقدار نصيبه فيتفرق نصيبه في مواضع، وإذا استؤنفت القسمة لا يتفرق نصيبه، وهذه فائدة ظاهرة.
فإن قالت الورثة: نحن نقضي حق هذا الوارث والموصى له من مالنا ولا ننقض القسمة لا يلتفت إلى قولهم إلا أن يرضى هذا الوارث أو الموصى له.
فرق بين هذا وبينما إذا ظهر غريم أو موصى له بألف من ماله فقالت الورثة: نحن نقضي حقه من مالنا، ولا ننقص القسمة إن لهم ذلك.(7/367)
والفرق: أن حق الوارث والموصى له بالثلث أو الربع في عين التركة، فإذا أرادوا أن يعطوا حقه من مالهم فقد قصدوا شراء نصيبه من التركة فلا يصح إلا برضاه، ألا ترى أن في الابتداء لو أرادت الورثة أن يقتسموا جميع التركة فيما بينهم، ويقضوا حق وارث آخر وحق الموصى له بالثلث والربع من مالهم ليس لهم ذلك وطريقه ما قلنا، أما حق الغريم والموصى له بألف من ماله ليس في عين التركة بل في معنى التركة من حيث الاستيفاء من مال التركة، وأيضاً حقهم من التركة ومن مال الوارث سواء.
ألا ترى أن في الابتداء لو أردوا أن يقسموا جميع التركة بينهم ويقضوا حقهما من مالهم كان لهم ذلك كذا ها هنا.
قال: وكذلك لو قضى واحد من الورثة حق الغريم من ماله على أن لا يرجع في التركة، فالقاضي لا ينقض القسمة بل يمضيها؛ لأن حق الغريم قد سقط ولم يثبت للوارث دين آخر لما شرط أن لا يرجع، فأما إذا شرط الرجوع أو سكت فالقسمة مردودة إلا أن يقضوا حق القاضي من مالهم؛ لأن دين القاضي في التركة بمنزلة دين الغريم وهذا الجواب ظاهر فيما إذا شرط الرجوع مشكل فيما إذا سكت، وينبغي أن يجعل متطوعاً إذا سكت.
والجواب إنما يجعل متطوعاً لأنه مضطر في القضاء، ألا ترى أن الغريم لو قدمه إلى القاضي قضى القاضي عليه بجميع الدين؛ لأنه لا ميراث إلا بعد الدين.
ثم ما ذكر أن الورثة إذا قسموا التركة وظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو الربع فالقاضي ينقض القسمة فذلك إذا كانت القسمة بغير قضاء قاضي، فأما إذا كانت القسمة بقضاء القاضي، ثم ظهر وارث آخر أو موصى له بالثلث فالوارث لا ينقض القسمة إذا عزل القاضي نصيبه، وأما الموصى له فقد اختلف فيه المشايخ.
قال بعضهم: لا ينقض وإليه أشار محمد في «الكتاب» فإنه قال في فصل الموصى له: له أن ينقض القسمة إذا كانت القسمة بغير أمر القاضي فهذا إشارة إلى أنها إذا كانت بقضاء فالقاضي لا ينقض القسمة، وهذا لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة بمنزلة أحدهم، والوارث لا ينقض القسمة إذا كانت القسمة بقضاء، فكذا الموصى له. وبعضهم قالوا: ينقض، وفرقوا بين الموصى له وبين الوارث والأول أصحّ.
ولو كان للميت وصي يقسم التركة، وعزل نصيب الوارث أو عزل نصيب الموصى له بالثلث صح قسمته على الوارث، ولم يصح على الموصى له، وإذا كان بعض التركة ديناً فاقتسموها، وشرطوا الدين في قسم بعضهم فالقسمة فاسدة؛ لأنهم باعوا الدين من غير من عليه الدين، وكذلك إذا اقتسموا الدين فيما بينهم فالقسمة فاسدة؛ لأن القسمة للإقرار وذلك لا يتحقق في الدين قبل القبض؛ لأن قبل القبض الدين مجتمع في مكان واحد، وإن كان الدين على الميت فاقتسموا على أن ضمن كل واحد منهم أو أحدهم الدين الذي على الميت، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الضمان مشروطاً في القسمة، والحكم فيه أن القسمة فاسدة؛ لأن(7/368)
هذه قسمة شرط فيها كفالة بدين لم تجب القسمة.
الثاني: إذا لم يكن الضمان مشروطاً في القسمة، إنما شرطوا بعد ذلك، والحكم فيه أنه إن ضمن بشرط أن يرجع في التركة لم تكن القسمة نافذة على معنى أن له أن ينقضها؛ لأنه قام مقام الغريم، وإن ضمن على أن لا يرجع في التركة بشيء، وعلى أن يبرأ الغرماء الميت، فهذا جائز إن رضي الغرماء بضمانه وإن أبوا أن يقبلوا ضمانه فلهم نقض القسمة؛ وهذا لأنه لما شرط في الضمان أن يبرئ الغريم الميت صارت الكفالة حوالة تخلف التركة عن الدين، والمانع من لزوم القسمة قيام التركة في الدين وإن لم يشرط، وعلى أن يبرئ الغريم الميت لا تنفذ القسمة وإن رضي الغرماء؛ لأنه يبقى كفالة فلا تخلوا التركة عن الدين.
وإذا ادعى بعض الورثة دينا في التركة بعد تمام القسمة صح دعواه وله أن ينقض القسمة، أما صحة دعواه لأنه لو لم تصح أنها لا تصح لكونه متناقضاً بإقراره بصحة القسمة، ويكون المقسوم ملكاً للميت يقتضي الإقرار على القسمة ولا تناقض؛ لأن الدين لا يمنع صحة القسمة، ولكن يثبت للغريم حق النقض، وكذلك لا ينافي ملك الميت لأن ملك الميت باق بعد الدين، وأما له أن ينقص القسمة؛ لأن المانع من نفاذ القسمة ولزومها الدين، والدين بالقسمة لا يتحول إلى محل آخر، فكان المانع قائماً فيبقى المنع.
ألا ترى أنه لو أجاز القسمة ثم أراد أن ينقصها فله ذلك، وهذا بخلاف لو بيع بالدين فأجاز فإنه تعمل إجازته؛ لأن المانع من اللزوم يزول؛ لأن حقه يتحول من العين إلى الثمن، ولو كان ادعى عيناً من أعيان التركة أنه له اشتراها من الميت أو وهبه الميت له وسلمه إليه، وكان ذلك بعد تمام القسمة لا تسمع دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة أقر بصحة القسمة في هذا العين، ويكون هذا العين متروك الميت ميراثاً لهم، وبدعواه بعد ذلك لنفسه يدعى فساد القسمة في هذا العين، ويدعى أنه ليس بميراث لهم وهذا تناقض ظاهر.
ولو ادعى أحد (9أ4) الورثة بعد تمام القسمة أن الميت أوصى لابنه الصغير بثلث ما له لا تسمع دعواه؛ لأنه صار متناقضاً بدعوى فساد القسمة بعد ما أقر بصحتها، ولو كبر الابن، وادعى الوصي بالثلث لنفسه، وأقام البينة سمعت بينته؛ لأنه لا تناقض منه.
وإذا ادعى أحد الورثة بعد تمام القسمة على قدر ميراثهم عن أبيهم أن أخاً له من أبيه وأمه ورث أباهم معهم، وأنه مات بعد أبيهم فورثه هو، وأراد ميراثه لا تسمع دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة على مقدار ميراثهم عن أبيهم صار مقراً بأن حقه في مقدار معين، وبدعواه الثاني بعد ذلك ادعى أن حقه أكثر من ذلك القدر فهذا تناقض ظاهر.
إذا كانت الأراضي ميراثاً بين ثلاثة نفر عن أبيهم، مات أحدهم وترك ابناً كبيراً، فاقتسم هو وعماه الأراضي على ميراث الجد، ثم إن ابن الابن أقام بينة أن جده أوصى له بالثلث وأراد إبطال القسمة لم تسمع دعواه لمكان التناقض.(7/369)
ولو لم يدع وصية من الجد ولكن ادعى ديناً على أبيه صحت دعواه؛ لأنه لا تناقض في دعوى الدين، فصحت دعواه الدين وثبت الدين بإقامته البينة، وصار الثابت بالبينة كالثابت عياناً، ولو كان الدين ثابتاً معاينة كان له أن ينقض القسمة، وليس لعمه أن يقول: إن دينك على أبيك ليس على الجد، وقد أعطينا نصيب أبيك، فإن شئت بعه بالدين، وإن شئت فأمسكه، وليس لك أن تنقض القسمة؛ لأنه لا فائدة لك في النقض؛ لأن بعد النقض نقض دينك من نصيب أبيك لا من ميراث الجد؛ لأن له أن يقول: لا بل لي في النقض فائدة؛ لأن الثلث مشاعاً ربما يشترى بأكثر مما يشترى به مفرزاً فكان في النقض فائدة؛ لأنه يزداد به مال الميت.
وهذا كرجل مات وأوصى إلى رجل، وفي التركة دين غير مستغرق، وطلب الورثة من الوصي أن يفرز من التركة قدر الدين ويقسم الباقي بينهم كان له أن لا يقسم ذلك بينهم، ويبيع ذلك القدر مشاعاً، لأنه ربما يشترى بأكثر مما يشترى به المفرز؛ فيكون ذلك نظراً للميت كذا هاهنا.
ولو ادعى الوارث أنه كان اشترى نصيب أبيه منه في حياته بثمن مسمّى، ونقد الثمن وأقام البينة على ذلك فهو جائز؛ لأنه غير متناقض في هذه الدعوى؛ لأن شراه نصيب أبيه لا يوجب فساد القسمة، ولا ينافي ملك الجديد يقرره، وتكون القسمة جائزة؛ لأن ما ادعى من الشراء لو ثبت معاينة بقيت القسمة على الصحة كذا إذا ثبت بالبينة.
وإذا أقر الرجل أن فلاناً مات وترك هذه الدار وهذه الدار ميراثاً، ولم يقل لهم، ثم ادعى بعد ذلك أن الميت أوصى له بثلثه أو ادعى ديناً قبلت بينته؛ لأنه لم يصر متناقضاً في الدعوى؛ لأنه لم يسبق قبل هذا الدعوى سوى الإقرار الأول، أن هذه الدار متروك الميت؛ لأن ميراث الميت ما تركه الميت، والدين الوصية لا ينافي كونه متروك الميت؛ لأنهما إنما يقضيان من متروك الميت.
الفصل التاسع: في الغرور في القسمة
يجب أن يعلم أن كل قسمة يوجبها الحكم بأن كانت قسمة يجبر الآبي عليها كالقسمة في جنس واحد لا يثبت فيها حكم الغرور، وإن حصلت بتراضيهما، وكل قسمة لا يوجبها الحكم بأن كانت قسمة لا يجبر الآبي عليها يثبت فيها حكم الغرور كالقسمة في جنسين، أما في كل قسمة يوجبها الحكم، فإنما لا يثبت فيها حكم الغرور؛ إما لأن الحكم إذا كان يوجبها صار من حيث الحكم كالقاضي ألزمها؛ أو لأن كل واحد منهما مضطر في هذه القسمة وإن حصلت بتراضيهما على ما مرّ في مسألة «الكتاب» ، وبالاضطرار ينتفي معنى الغرور إنما يتحقق من المختار.
ألا ترى أن الشفيع عند استحقاق الدار المشفوعة لا يرجع بقيمة ما بنى على(7/370)
المشتري؛ لأن المشتري لم يكن مختاراً في الدفع إليه.
وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه، وعلقت منه واستحقها لم يرجع بقيمة الولد على الابن وطريقه ما قلنا؛ ولأن القسمة فيما عدا المكيل والموزون إذا كانت قسمة يوجبها الحكم إفراز لعين الحق من وجه، ومبايعة من وجه على ما مر في صدر الكتاب.
فباعتبار أنها مبايعة إن كانت ثبت فيها حكم الغرور فباعتبار أنها إقرار لا يثبت فيها حكم الغرور فلا يثبت فيها حكم الغرور بالشك بخلاف البيع المحض، أما على المعنى الأول؛ لأن البائع مختار في البيع وليس بمضطر فيه، وإما على المعنى الثاني؛ فلأنه ليس فيه إقرار الحق بوجه من الوجوه إذا لم يكن للمشتري فيه عن قبل البيع بوجه من الوجوه، أما القسمة بخلافه.
وأما كل قسمة لا يوجبها الحكم فإنما يثبت فيها حكم الغرور؛ لأن كل واحد منهما غير مضطر في هذه القسمة؛ لأن واحد متمكن من تمييز ملكه بقسمة كل جنس على حده؛ ولأن كل واحد منهما غير متوف لعين الحق حقيقة، فلا إشكال، ولا حكماً؛ لأن ما وصل إليه ليس بمثل لما كان له؛ لأن الدار ليست بمثل الأرض، والأرض ليست بمثل الدار حتى يجعل وصول المثل إليه كوصول عين الحق.
وإذا اقتسم الرجلان داراً بينهما بشراء أو ميراث، وبنى أحدهما في قسمه الذي أخذها، ثم استحق من نصيب الثاني الموضع الذي فيه البناء، ورد القسمة وأبطلها لا يرجع على شريكه بشيء من قيمة البناء؛ لأن هذه قسمة يوجبها الحكم.
وإن كان دارين بينهما فاقتسماها هذا واحد هذا داراً أو هذا داراً وبنى أحدهما في داره التي أخذها واستحقت تلك الدار رجع على شريكه بنصف قيمة البناء، ذكر المسالة في «الكتاب» مطلقاً من غير ذكر خلاف.
من مشايخنا من قال: المذكور في «الكتاب» قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا يوجبها الحكم على قوله: أما على قولهما هذه قسمة يوجبها الحكم؛ ولهذا يجبر الآبي عليها فيثبت فيها حكم الغرور.
ومنهم من قال: هذا قولهم جميعاً؛ لأن هذه القسمة لا يوجبها الحكم لا محالة عندهما إنما يوجبها الحكم إذا رأى القاضي الصلاح في أن يلقحها بالجنس الواحد، أما قبل رؤية القاضي ذلك فلا، والجواب في الأرضين كالجواب في الدارين.
ولو كانا خادمين فاصطلحا على أن يأخذ هذا خادماً، وذلك خادماً فعلقت إحدى الخادمين من الذي أصابها، ثم استحقها رجل رجع على شريكه بنصف قيمة الولد، وهذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا يوجبها الحكم على قول من يقول من المشايخ: إن قسمة الرقيق قسمة جمع على قولهما موكول إلى رأي القاضي.
وأما على قول من يقول من المشايخ: إن الرقيق عندهما يقسم قسمة جمع على كل حال لا يثبت حكم الغرور؛ لأن هذه قسمة يوجبها الحكم لا محالة.
وإذا كانت دار واحدة وأرض بيضاء بين ورثة، فاقتسموا بغير قضاء وبنى أحدهما(7/371)
في قسمه بناءً ثم استحق قسمه ونقض بناؤه ورد القسمة، لا يرجع على شريكه بقيمة البناء، ذكر في بعض نسخ كتاب القسمة وهو محمول على ما إذا اقتسما الدار على حده والأرض على حدة، فتكون هذه قسمة يوجبها الحكم، وذكر في بعض النسخ أنه يرجع على شريكه بنصف قيمة البناء، وهو محمول على ما إذا اقتسما فأخذ أحدهما الدار، وأخذ الآخر الأرض فتكون هذه قسمة لا يوجبها الحكم.
وإذا كانت الدار بين قوم فقسمها القاضي بينهم وجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حده، وأجبرهم على ذلك، وبنى أحدهم في الدار الذي أصابه بناءً ثم استحقت هذه الدار وهدم بناؤه، لا يرجع على شركائه بالقيمة.
أما عندهما؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم عندهما متى رأى القاضي الصلاح فيها، وأما عند أبي حنيفة فلأن القاضي لما قسمها قسمة جمع فقد حصل قضاؤه في فصل محتمل فيه فالتحقت الدور بالدار الواحدة عندهم جميعاً.
وفي «المنتقى» : هشام عن محمد: دار بين رجلين جاء رجل إلى أحدهما، وقال: وكلني شريكك أن أقاسمك فلم يصدقه ولم يكذبه فقاسمه ثم بنى فيها (9ب4) صار له بناء يعني الشريك الحاضر، ثم جاء الشريك الغائب، وأنكر أن يكون وكله بذلك، قال: يرجع صاحب البناء على الوكيل بقيمة البناء إن شاء؛ لأنه غره والله أعلم.
الفصل العاشر: في القسمة يستحق منها شيء
في «الأصل» : وإذا وقعت القسمة بين الشركاء في دار وأرض، ثم استحق شيء منها، فالمسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يستحق جزء شائع من الكل بأن استحق نصف كل الدار أو ثلث كل الدار أو ما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه القسمة فاسدة، واختلفت عبارة المشايخ في تعليل المسألة، بعضهم قالوا: إنما فسدت لحق المستحق؛ لأنها لو لم تفسد يحتاج المستحق إلى قسمة ما في يد كل واحد منهما، فيفرق عليه نصيبه في الموضعين.
وبعضهم قالوا: إنما فسدت القسمة؛ لأنها لا يفيد فائدتها؛ لأن فائدة القسمة إقرار الأنصباء، ولما ظهر لهما شريك ثالث في النصيبين ظهر أن الإقرار لم يجعل؛ لأن نصيب الثالث شائع في النصيبين جميعاً.
الوجه الثاني: إذا استحق جزء بعينه فيما أصاب واحد منهم، وفي هذا الوجه القسمة صحيحة فيما بقي بعد الاستحقاق، وكان للمستحق عليه الخيار إن شاء نقض القسمة وعاد الأمر إلى ما كان قبل القسمة، وإن شاء أمضى القسمة ورجع على صاحبه بعوض المستحق، وإن بقيت القسمة على الصحة؛ لأن ما هو المقصود من القسمة وهو الإقرار حاصل هنا، فيما وراء المستحق، لأن ما وراء المستحق لهما ليس لثالث فيه بعيب.(7/372)
ألا ترى أن هذا المستحق لو كان حاضراً وقت القسمة، واقتسما الثاني صح إلا أن المستحق عليه بالخيار؛ لأنه تعيب نصيبه؛ لأن الباقي لا يشترى بمثل ما كان يشترى مع المستحق، فإن نقض القسمة عاد الأمر إلى ما كان قبل القسمة ويستأنفان القسمة فيما وراء المستحق.
وإن أجاز القسمة رجع على صاحبه بعوض المستحق وذلك ربع ما في يد صاحبه مثلاً، إن كان المستحق نصف نصيب المستحق عليه؛ لأنا نعتبر استحقاق البعض باستحقاق الكل، ولو استحق كل نصيب أحدهما رجع على صاحبه بنصف ما في يده؛ لأن الذي أصاب المستحق عليه بالقسمة، نصفه كان له، ونصفه اشتراه من صاحبه بما ترك على صاحبه بما أصابه، فما كان ملكاً له لا يرجع به على أحد، وما اشتراه رجع على صاحبه بحصته، وذلك نصف ما في يد صاحبه، فإذا كان عند استحقاق الكل يرجع بنصف ما في يد صاحبه فعند استحقاق النصف يرجع بربع ما في يد صاحبه وعلى هذا القياس فافهم.
الوجه الثالث: إذا استحق جزء شائع، فيما أصاب واحداً منهم وفي هذا الوجه القسمة لا تفسد عند أبي حنيفة رحمه الله، والمستحق عليه بالخيار على نحو ما بينا، فإن أجاز القسمة وكان المستحق نصف نصيبه مثلاً رجع على صاحبه بربع ما في يده، وقال أبو يوسف: تفسد القسمة ويستأنفان القسمة، وقول محمد رحمه الله مضطرب في نسخ أبي حفص مع أبي حنيفة، وفي نسخ أبي سليمان مع قول أبي يوسف، وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» والأول أصح، فقد روى ابن سماعة وابن رستم قول محمد مع قول أبي حنيفة.
فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المقصود من القسمة الإقرار، وبهذه القسمة إن حصل إقرار نصيب غير المستحق عليه لم يحصل إقرار نصيب المستحق عليه فتفسد القسمة كما لو استحق جزء شائع من جملة الدار.
وجه قولهما: أن هذه قسمة أفادت مقصودها، لأن المقصود من هذه القسمة امتياز نصيب كل واحد من المتقاسمين، وانقطاع الشركة بينهما وبهذه القسمة أمتاز نصيب كل واحد منهما عن نصيب صاحبه إلا أنه ظهر لأحدهما شريك في نصيبه.
ومثل هذه الشركة لو ضرب بعد القسمة لا يوجب زوال الإقرار الحاصل بالقسمة الأولى، فإن كرّي حنطة بين اثنين اقتسماها وأخذ كل واحد كراً فجاء آخر وخلط بكر أحدهما كر حنطة، فإن القسمة الأولى تبقى على حالها، فإذا قارب الإقرار لم يمنع ثبوته، ولو كان باع أحدهما نصف ما أصابه بالقسمة ثم استحق ما بقي له، فإنه يرجع على صاحبه بربع ما في يده، عند أبي حنيفة ومحمد ولا يجيّر بخلاف ما قبل البيع حيث يجيّر؛ لأن قبل البيع قادر على رد ما بقي بعد الاستحقاق، وبعد البيع عجز عن رد ما وراء المستحق؛ فلهذا سقط خياره.
وأما على قول أبي يوسف: فالقسمة فاسدة لو كان ما وراء المستحق في يد(7/373)
المستحق عليه، كان عليه رد نصفه بحكم الفساد، وقد عجز بالبيع عن رده؛ لأن البيع قد صح؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مملوك للقابض، فيرد قيمة نصف ما باع، وذلك قيمة ربع نصيبه على صاحبه، وكان نصيب صاحبه بينهما، وسلم لصاحبه ربع نصيب المستحق عليه لما أخذ منه قيمة ربع نصيبه، وسلم للمستحق عليه أيضاً ربع نصيبه.
وفي كتاب «الشروط» : جعل المسألة على ثلاثة أوجه أيضاً، لكن لم يذكر ثمة ما إذا استحق جزء شائع من كل الدار، وذكر مكانه ما إذا استحق جميع نصيب أحدهما، وذكر أن القسمة باطلة، ويقسم الباقي وهو الذي لم يستحق بينهما إن كان قائماً في يد الآخر لم يبعه، وإن كان باعه فالبيع باقي؛ لأن نصف ما باع قد تم ملكه، ونصفه عوض عما ترك لصاحبه، وتبين أن ذلك كان مستحقاً وبدل المستحق مملوك فبالبيع صارت ملكه، وعليه أن يرد على المستحق عليه نصف قيمة ما باع، وذكر ما إذا باع استحق جزء بعينه من نصيب أحدهما.
وأجاب أن القسمة باطلة في الكل بخلاف ما كتبها في المتن، وذكر ما إذا استحق جزء شائع من نصيب أحدهما، وذكر المسألة خلافاً على ما كتبها في المتن على قول أبي حنيفة لا تنتقض القسمة، ولكن يخير المستحق عليه إن شاء نقض القسمة وضم ما بقي في يده إلى ما في يده إلى ما في يد الآخر، إن كان الآخر لم يبع ما أصابه، ويقسمان ذلك بينهما، وإن كان الآخر باع نصيبه يضم المستحق عليه ما بقى في يده إلى قيمة ما كان في يد الآخر فيقسمانه نصفين.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: ثلاثة إخوة ورثوا دوراً ثلاثة أخذ كل واحد منهم داراً، ثم استحق نصف دار أحدهم، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله، وهو قولنا: المستحق عليه بالخيار إن شاء نقض القسمة كلها واستقبلوها، وإن شاء أمسك النصف ورجع عليهما بقدر ما استحق من يده.
وإن كانت داراً واحدة اقتسموها أثلاثاً، ثم استحق نصف نصيب أحدهم، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: هذا والأول سواء، وقال أبو يوسف: تنتقض القسمة ولا خيار للمستحق عليه وتستوي فيه القسمة بحكم وبغير حكم.
وإذا كانت مئة شاة بين رجلين نصفين فاقتسما، فأخذ أحدهما أربعين منها تساوي خمسمائة درهم، وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة درهم، فاستحق شاة من الأربعين تساوي عشرة، فإنه يرجع على صاحبه بخمسة دارهم في الستين شاة في قولهم، وتكون القسمة جائزة عندهم، ولا يخير المستحق عليه، أما القسمة جائزة فلأن المستحق شيء بعينه وأما لا يخير المستحق عليه لأن الباقي لم يصر معيناً باستحقاق ما استحق، وأما الرجوع بخمسة دراهم لأن المستحق شاة تساوي عشرة دارهم نصفها كان ملكاً له فلا رجوع به على أحد، ونصفها قد اشتراه من صاحبه بما ترك لصاحبه من نصيبه، فإذا استحق ذلك من يده كان له أن يرجع بقدر ذلك مما في يد صاحبه، وذلك خمسة دراهم.(7/374)
الفصل الحادي عشر: في دعوى الغلط في القسمة
يجب أن يعلم بأن دعوى الغلط في القسمة نوعان: دعوى الغلط في التقويم، ودعوى الغلط في مقدار الواجب بالقسمة، فأما دعوى الغلط في القسمة فهو نوعان أيضاً: نوع يصح، ونوع لا يصح، والذي لا يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط في التقويم بغبن يسير بأن (10أ4) كان ما يدعي من الغلط يدخل تحت تقويم المتقومين، فهذه الدعوى لا تصح، ولو أقام البينة عليه لا تسمع بينته، حصلت القسمة بقضاء القاضي أو بتراضيهم لوجهين:
أحدهما: أن الاحتراز عن مثل هذا الغلط غير ممكن.
والثاني: أنه يؤدي إلى مالا يتناهى؛ لأنه يمكنه أن يدعي مثل ذلك في القسمة الثانية والثالثة، والذي يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط في التقويم بغبن فاحش، بأن كان ما يدعى من مقدار الغلط لا يدخل تحت تقويم المقومين، وإنه صحيح إن حصلت القسمة بقضاء القاضي؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى ونقصنا هذه القسمة لا يؤدي إلى ما لا يتناهى؛ لأنه لا يقع مثل هذا الغبن في القسمة الثانية؛ لأنه يتصور التقويم في المرة الثانية على وجه لا يتحقق فيها الغبن الفاحش، وإن حصلت القسمة بالتراضي لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه كان يقول: لقائل أن يقول: لا تسمع هذه الدعوى؛ لأن القسمة في معنى البيع ودعوى الغبن في البيع من المالك لا يصح؛ لأنه لا فائدة فيه، فإن البيع من المالك لا ينقض بالغبن الفاحش.
أما البيع من غير المالك ينقض بالغبن الفاحش كبيع الأب والوصي، ولقائل أن يقول: تسمع هذه الدعوى؛ لأن المعادلة شرط في القسمة، والتعديل في الأشياء المتقاربة يكون من حيث القيمة، فإذا ظهر في القيمة غبن فاحش فما هو شرط جواز القسمة، فاسد فيجب نقضها فكان الدعوى مفيداً من هذا الوجه فيصح.
والصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، كان يأخذ بالقول الأول، وبعض مشايخ عصره كانوا يأخذون بالقول الثاني، وذكر القاضي الإمام الإسبيجابي في «شرح أدب القاضي» : أن دعوى الغبن بعد القسمة غير صحيح إذا كانت القسمة بالتراضي، قال: وبعض المشايخ قالوا: تسمع كما لو كانت القسمة بقضاء القاضي، وذكر في شرح الإسبيجابي دقيقة في هذا الفصل، فقال: وهذا كله إذا لم يقر كل واحد منهما بالاستيفاء، فأما إذا أقر بذلك لا تسمع دعوى الغلط والغبن من واحد منهما بعد ذلك، إنما تسمع دعوى الغصب.
وأما دعوى الغلط في مقدار الواجب بالقسمة فنوعان أيضاً: نوع يوجب التحالف، ونوع لا يوجب التحالف.(7/375)
فالذي يوجب التحالف: أن يدعي أحد المتقاسمين غلطاً في مقدار الواجب بالقسمة على وجه لا يكون مدعياً الغصب بدعوى الغلط.
كمئة شاة بين رجلين اقتسما، ثم قال أحدهما لصاحبه: قبضت خمسة وخمسين غلطاً، وأنا ما قبضت إلا خمسة وأربعين، وقال الآخر: ما قبضت شيئاً غلطاً، وإنما اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين ولك خمسة وأربعين، ولم يقم لواحد منهما بينة، فهذا هو صورة دعوى الغلط في القسمة من غير دعوى الغصب؛ وهذا لأن غصب أحد العاقدين المعقود عليه من العاقد الآخر لا يتصور قبل قبض العاقد الآخر إياه منه، فإن البائع إذا منع المبيع من المشتري بعد نقد الثمن لا يصير غاصباً حتى لو هلك قائماً يهلك بالثمن كما قبل البيع، وإنما وجب التحالف؛ لأن القسمة بمعنى البيع، وفي البيع إذا وقع الاختلاف في مقدار المعقود عليه يتحالفان إذا كان المعقود عليه قائماً، فكذا في القسمة يتحالفان إذا كان المقسوم قائماً بعينه. وهذا كله إذا لم يسبق منهما إقرار باستيفاء الحق، فأما إذا سبق لا تسمع دعوى الغلط إلا من حيث الغصب.
والذي لا يوجب التحالف: أن يدعي الغلط في مقدار الواجب بالقسمة على وجه يكون مدعياً الغصب بدعوى الغلط، بأن قال في المسألة: الشياة قسمتا بالسوية وأخذنا، ثم أخذت خمسة من نصيبي غلطاً، وقال الآخر: ما أخذت شيئاً من نصيبك غلطاً ولكن اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين، ولك خمسة وأربعين، ولا بينة لواحد منهما، فإنهما لا يتحالفان، ويجعل القول قول المدعى عليه الغلط.
وإن اختلفا في الحاصل في مقدار الواجب بالقسمة كما في المسألة الأولى وإنه يوجب التحالف؛ وذلك لأن بهذا الاعتبار إن كان يجب التحالف فباعتبار دعوى الغصب لا يجب التحالف كما في سائر المواضع، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس، فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب؛ ولأنهما تصادقا على تمام القسمة وصحتها، وأحد الاعتبارين يوجب الفسخ بالتحالف، والآخر يمنع فلا يفسخ بالشك.
قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم القوم أرضاً أو داراً بينهم، وقبض كل واحد منهم حقه من ذلك، ثم ادعى أحدهما غلطاً، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في ذلك: لا تعاد القسمة حتى يقيم البينة عل ما ادعى، فإذا أقام البينة اعيدت القسمة فيما بينهم حتى يستوفي كل ذي حق حقه، وكان لا يجب أن لا تعاد القسمة؛ لأن وضع المسألة أن كل واحد قبض حقه، ودعوى الغلط بعد القبض دعوى الغصب.
وفي دعوى الغصب يقضى للمدعي بما قامت البينة عليه، ولا تعاد القسمة، والجواب عن هذا أن يقال: إن محمداً رحمه الله ذكر إعادة القسمة عند إقامة المدعي البينة على دعوى الغلط، ولم يبين كيفية الدعوى، فيحمل دعواه على وجه يجب إعادة القسمة عند إقامة البينة.l
وبيان ذلك الوجه: أن يقول مدعي الغلط لصاحبه: قسمت الدار بيننا بالسوية على أن يكون لي ألف ذراع ولك ألف ذراع من نصيبين من مكان بعينه غلطاً، ويقول الآخر:(7/376)
لا بل كانت القسمة على أن يكون لي ألف ومئة ذراع ولك تسعمئة ذراع، فشهد الشهود أن القسمة كانت بالسوية، ولم يشهدوا أن هذا أخذ مئة ذراع من مكان بعينه في نصيب المدعي، فيثبت بهذه البينة أن القسمة كانت بالسوية، وفي يد أحدهما زيادة، ولا يدري أن حق المدعي في أي جانب، فتجب الإعادة ليستويا، وتكون هذه الشهادة مسموعة وإن لم يشهدوا بالغصب؛ لأن مدعي الغلط في هذا الوجه يدعي بشيئين القسمة بالسوية وغصب مئة ذراع، والشهود شهدوا بأحدهما، وهو القسمة بالسوية.
وإن لم يكن للمدعي بينة على ما ادعى يحلف المدعى عليه الغلط ولا يتحالفان؛ لأن المدعي بدعوى الغلط هاهنا ادعى الغصب، والتحالف لا يجري في مثل هذا، فإن حلف المدعي قبل الغلط لم يثبت الغلط، والقسمة ماضية على حالها، وإن نكل ثبت الغلط فيها والقسمة كما في فصل البينة.
قال: وكذلك كل قسمة في غنم أو إبل أو بقر أو ثياب أو شيء من المكيل والموزون ادعى فيه أحدهم غلطاً بعد القسمة والقبض فهو على مثل ذلك، ولم يرد بهذه التسوية بين جميع هذه المسائل وبين المسألة الأولى في حق جميع الأحكام، وإنما أراد بها التسوية في حق بعض الأحكام، وهو أن لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى.
ألا ترى أن في المكيل والموزون إذا أقام مدعي الغلط البينة على ما ادعى لا تعال القسمة بل يقسم الباقي على قدر حقهما، وفي الغنم والبقر والثياب والأشياء التي تتفاوت يجب إعادة القسمة كما في مسألة الدار، وهذا لأن قسمة الباقي على قدر حقهما في الغنم وأشباهه توجب زيادة ضرر بالمدعي عسى لجواز أن يكون ما أخذ من نصيبه غلطاً كله خياراً، وفي قسمة الثاني لا يصل إليه الجياد فيها، والقسمة نفياً للضرر عن المدعي كما في مسألة الدار.
فإن في مسألة الدار إنما لم يجب قسمة الباقي على قدر حقهما نفياً للضرر عن المدعي؛ لأنا لو قسمنا الباقي على قدر حصتهما ربما يقع له بالقسمة الثانية مئة ذراع في جانب لا يتصل بنصيبه، وكان في أصل القسمة متصلاً بنصيبه فيجب إعادة القسمة نفياً للضرر عن المدعي.
أما في المكيل والموزون متى قسمنا الباقي على مقدار حقهما لا يتضرر به المدعي، فوجب قسمة الباقي عل قدر حقوقهما، ولم يجب إعادة القسمة ثانياً لهذا.
وإذا اقتسم رجلان دارين، فأخذ أحدهما داراً والآخر داراً، ثم أدعى أحدهما لنفسه كذا وكذا ذراعاً من الدار التي في يد صاحبه فضلاً في قسمته، فإن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قالا: يقضى له بذلك (10ب4) ولا تعاد القسمة، وليست كالدار الواحدة في قول أبي يوسف ومحمد، يريد به أن في الدار الواحدة متى ادعى أحدهما أذرعاً مسماة في نصيب صاحبه، فإنه تعاد القسمة.
وأما على قياس قول أبي حنيفة فالدعوى فاسدة سواء كان الدعوى في دار واحدة، أو في دارين، ومعنى هذه المسألة: أن أحد المتقاسمين ادعى على صاحبه أنه شرط له(7/377)
كذا كذا ذراعاً من نصيبه في القسمة، وإنما كانت القسمة فاسدة عند أبي حنيفة؛ لأن الذي شرط زيادة أذرع من نصيبه لصاحبه صار بائعاً لذلك القدر من صاحبه.
وبيع كذا أذرع من الدار لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف ذلك في كتاب البيوع فلا تجوز القسمة، وإذا ثبت فساد الدعوى عند أبي حنيفة رحمه الله يجب إعادة القسمة دفعاً للفساد.
وعندها بيع كذا أذرع من الدار جائز فتجوز القسمة، ثم إنهما فرقا بين الدارين، وبين الدار الواحدة، فقالا: في الدارين لا تعاد القسمة، وقالا: في الدار الواحدة تعاد القسمة، وكان يجب أن لا تعاد القسمة في الدار الواحدة أيضاً، ويقضى للمدعي بذلك القدر من نصيب المدعى عليه كما في الدارين؛ لأن الإعادة لنفي الضرر عن المدعي كيلا يتفرق نصيبه ولا وجه إليه؛ لأنه إن ادعى عشرة أذرع بعينه فلا ضرر عليه، فمتى قضى له بذلك؛ لأنه هكذا استحق بأصل القسمة، وإن ادعى عشرة أذرع شائعاً فكذلك؛ لأنه لما شرط لنفسه عشرة أذرع في نصيب صاحبه شائعاً علمه أنه ربما يتفرق نصيبه متى قسم نصيب صاحبه مرة أخرى صار راضياً بالتفرق، وإنما وجب الإعادة في الدار الواحدة؛ لأن المسألة محمولة على أنه ادعى أن صاحبه شرط له عشرة أذرع من نصيبه، قال: ولا أدري كيف شرط لي عشرة بعينها متصل نصفين أو شائع في جميع نصيب صاحبه؟ وشهد الشهود له بعشرة مطلقة ومتى كانت الحالة نفذه لا يثبت الرضا من المدعي بالتفرق؛ لأنه على تقدير أن يكون المشروط عشرة بعينها متصلة بنصيبه لا يكون راضياً بالتفرق.
فإذا لم يعلم القاضي كيف كان الشرط سمي القضاء على ما هو المستحق لكل واحد منهما في الدار الواحدة بالقسمة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجتمعاً في مكان واحد بخلاف الدارين، فإن في الدارين وإن حملنا المسألة على أن المدعي قال: لا أدري كيف شرط لي العشرة لا تعاد القسمة؛ لأن بإعادة القسمة في الدارين لا يزول ما كان يلحقه من زيادة ضرر بأن كان شرط لنفسه عشرة أذرع من مكان بعينه متصل بداره؛ لأنه ربما لا يقع له في القسمة الثانية عشرة أذرع متصلاً بداره، فلا يفيد إعادة القسمة، فيقضى له بعشرة أذرع شائع كما شهد به الشهود.
وإذا اقتسم رجلان عشرة أثواب فأخذ أحدهما أربعة، وأخذ الآخر ستة، فادعى آخذ الأربعة ثوباً بعينه من الستة أنه أصابه في قسمه، وأقام على ذلك بينة فإنه يقضى له بذلك، سواء أقر بقبض ما ادعى من الزيادة أو لم يقر له، وإن لم يقم له بينة ذكر في «الكتاب» أن صاحبه يستحلف، ولم يوجب التحالف.
وهذا محمول على ما إذا أقر بقبض ما ادعى، ثم ادعى أن صاحبه أخذ ذلك منه غلطاً، فيكون مدعياً الغصب على صاحبه، وفي مثل هذا لا يوجب التحالف، فإن ادعى آخذ الأربعة ثوباً بعينه من الستة إن أصابه في قسمته وأقام الآخر بينة أنه أصابه في قسمته قضي ببينة صاحب الأربعة؛ لأنه خارج فيه.
قال: والإشهاد على القسمة لا يمنع دعوى الزيادة على صاحبه بخلاف الأشهاد(7/378)
على الاستيفاء، والفرق: أن الإشهاد على القسمة لا يتضمن إقرار القبض جميع الحق، فيصير متناقضاً بعد ذلك أنه لم يقبض بعض حقه.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: دار بين رجلين قسمها القاضي بينهما، فقال أحدهما لصاحبه: الذي في يدي هو الذي أصابك، والذي في يدك لي، وقال الآخر: لا بل الذي في يدي هو الذي أصابني، قال: لكل واحد منهما ما في يده، ولا يصدق على صاحبه.
وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد: رجلان بينهما دارين ميراثاً من أبيهما، قال كل واحد منهما لصاحبه: لك هذه الدار، ولي الأخرى على أن كل واحد منهما مئة أذرع، فإذا أحدهما مئة ذراع فلهما أن يبطلا القسمة، ولو قال كل واحد منهما لصاحبه: بعتك نصيبي من هذه الدار بنصيبك من الدار الأخرى على أن كل واحد منهما مئة ذراع أو أكثر جاز؛ لأن هذا بيع والأول قسمه، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر: في المهايأة
يجب أن يعلم بأن المهايأة قسمة المنافع، وإنها جائزة في الأعيان المشتركة التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، واجبة إذا طلبها بعض الشركاء، ولم يطلب الشريك الآخر قسمة الأصل، وإنها قد تكون بالزمان وقد تكون بالمكان.
وتكلم العلماء في كيفية جوازها بعضهم قالوا: إن جرت المهايأة في الجنس الواحد، والمنفعة متفاوتة تفاوتاً يسيراً كما في الثياب والأراضي، يعتبر إقراراً من وجه، مبادلة من وجه، حتى لا ينفرد أحدهما بهذه المهايأة، وإذا طلبها أحدهما ولم يطلب الآخر قسمة الأصل أجبر الآخر عليها.
وإن جرت في الجنس المختلف كالدور والعبيد يعتبر مبادلة من كل وجه، حتى لا يجوز من غير رضاهما، وهذا لما ذكرنا أن المهايأة قسمة المنافع، فيعتبر بقسمة الأعيان وقسمة العين اعتبر مبادلة من كل وجه في الجنس المختلف، واعتبرت مبادلة من وجه، إقراراً من وجه في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتاً يسيراً كالثياب حتى لا ينفرد أحدهما بهذه القسمة؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال، ولكن إذا طلب أحدهما أجبر الآخر عليه؛ لأن التفاوت يسير، فكذا في قسمة المنافع.
وبعضهم قالوا: بأن المهايأة في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتاً يسيراً يعتبر إقراراً من وجه، عارية من وجه، كأن ما يستوفيه كل واحد منهما من المنافع بعضه نصيبه، وبعضه نصيب صاحبه عارية له من صاحبه، ولا تعتبر مبادلة بوجه ما حجّة هذا القائل: أن المهايأة جائزة في الجنس الواحد، ولو كانت مبادلة من وجه لما جازت في الجنس الواحد؛ لأنه يكون مبادلة المنفعة بجنسها، وإنه يحرم ربا النساء؛ لأن لكل واحد(7/379)
منهما نقض المهايأة بعذر وبغير عذر، ولو كانت مبادلة من وجه لما جازت من غير ذكر بيان المدة، والأول أصحّ؛ لأن العارية ما يكون بغير عوض، وهذا بعوض؛ لأن كل واحد منهما ما يترك من المنفعة من نصيبه على صاحبه في ثوبه صاحبه إنما يترك بشرط أن يترك صاحبه نصيبه عليه في ثوبه، وإنما لم يحرم النساء؛ لأن القياس لا يحرم بأحد وصفي علة ربا النقد؛ لأن الدين مع العين يستويان في العدد إلا أن للعين فضلاً من حيث الجودة؛ لأن العين أفضل من الدين وأجود منه إلا أن الفضل من حيث الجودة لا يحرم عند وجود وصفي علة الربا، وهو القدر مع الجنس، فلأن لا يحرم عند وجود أحد وصفي علة ربا أولى، إلا أننا أثبتنا هذه الحرمة عند أحد وصفي علة ربا النقد، وهو القدر أو الجنس بالنص بخلاف القياس، والنص ورد فيما هو مبادلة من كل وجه، وهو البيع والمهايأة إقرار من وجه مبادلة من وجه فيعمل فيها بقضية القياس.
وقوله: بأن لكل واحد منهما بعض المهايأة بعذر وبغير عذر سنبين الوجه فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: بأن المهايأة تجوز من غير بيان المدة، قلنا: إنما جازت لأنها قسمة المنافع، فتكون معتبرة بقسمة العين، ثم قسمة العين جائزة من غير بيان المدة فكذا قسمة المنفعة.
قال أبو حنيفة رحمه الله: دار بين رجلين تهايأ على أن يسكن هذا منزلاً معلوماً، وهذا منزلاً معلوماً، وعلى أن يؤاجر (11أ4) كل واحد منهما منزله، ونأكل عليه فهو جائز كذا ذكر في بعض الروايات، وذكر في بعضها أو على أن يواجه كل واحد منهما منزله فعلى الرواية الأولى هذه مهايأة في السكنى والاستغلال جميعاً من حيث المكان.
وبيان أنهما إذا تهايأ في السكنى، ولم يشترطا الإجارة أن كل واحد منهما لا يملك إجارة منزله؛ إذ لو ملك كل واحد منهما ذلك لم يكن لاشتراط الإجارة بيع السكنى معنى، وإلى هذا ذهب أبو علي الشاسي، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: ظاهر المذهب أن كل واحد منهما يملك إجارة منزله، وإن لم يشرطا الإجارة وقت المهايأة.
وعلى الرواية الثانية تكون هذه مهايأة، إما في السكنى أو في الاستغلال من حيث المكان، وبيان أن المهايأة في الاستغلال تجوز حالة الانفراد مقصوداً كما تجوز تبعاً لمهايأة في السكنى، وإنما ملك كل واحد منهما إجارة منزله من غير الشرط في ظاهر المذهب على ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله؛ لأن المهايأة قسمة المنفعة فما يصيب كل واحد منهما من المنفعة يجعل مستحقاً له باعتبار قديم ملكه؛ لأن المنفعة جنس واحد لا يتفاوت بمنزلة قسمة المكيل والموزون، وهو يملك الاعتياض عن المنفعة المملوكة لا من جهة غير، شرط ذلك أو لم يشترط.
وله أن يقسم العين ويبطل المهايأة إذا بدا لهما أو لأحدهما؛ لأن الأصل فيما هو المقصود وهو تمييز الملك قسمة العين والمهايأة خلف عنه، ألا ترى أن في الابتداء لو(7/380)
طلب أحدهما قسمة العين، وطلب الآخر من القاضي المهايأة، فالقاضي لا يهايئ بينهما فكذا في الانتهاء إذا طلب أحدهما قسمة العين لاستدام المهايأة.
وذكر محمد رحمه الله في باب المهايأة في الحيوان: ولكل واحد منهما نقض المهايأة بعذر وبغير عذر، قال شيخ الإسلام: هذا هو ظاهر الرواية.
وقال شمس الأئمة الحلواني: إنما يكون لأحدهما نقض المهايأة إذا قال: أريد بيع نصيبي من الدار، أو قال: أريد أن نقسم العين حتى يتميز نصيب كل واحد منا، فأما إذا قال: أفسخ المهايأة لتعود المنافع مشتركة بيننا كما كانت فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك،.
وروى ابن سماعة عن محمد: أنه ليس لكل واحد منهما نقض المهايأة من غير رضا صاحبه إلا عند إرادة القسمة، وكان شمس الأئمة الحلواني مال إلى هذه الرواية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما يكون لأحدهما النقض بعذر وبغير عذر على ظاهر الرواية إن حصلت المهايأة بتراضيهما، أما إذا حصلت بحكم الحاكم ليس لأحدهما أن ينقض ما لم يصطلحا على النقص؛ لأنها إذا حصلت بحكم الحاكم لو نقضناها بنقض أحدهما احتجنا إلى إعادة مثلها ثانياً، فأما إذا حصلت بتراضيهما لو نقضناها لا نحتاج إلى إعادة مثلها ثانياً، وإنما يحتاج إلى ما هو أعدل من هذه القسمة، وهي القسمة بقضاء القاضي، وليس لواحد منهما أن يحدث في منزله بناء أو منقضة أو يفتح باباً؛ لأن العين بعد المهايأة باقي على التركة.
وكذلك لو تهايئا على أن يكون السفل في يد أحدهما، والعلو في يد الآخر فهو جائز على ما بينا، هذا إذا تهايئا في دار واحدة من حيث المكان، وأما إذا تهايئا فيها من حيث الزمان، ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلح أنه يجوز سواء تهايئا في السكنى، أو في الاستغلال أو فيهما.
وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» : أنه لا يجوز زماناً، ويجوز مكاناً، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: إنما اختلف الجواب اختلاف الموضوع، وضع المسألة في كتاب الصلح أنهما فعلا ذلك بتراضيهما، وموضوع ما ذكر في «كتاب الرقيات» إن أحدهما طلب المهايأة من القاضي زماناً، وأبى الآخر، فالقاضي لا يجبره عليها، ومن المشايخ من قال: على رواية الرقيات: وإن فعلا ذلك بأنفسهما وتراضيهما لا يجوز فصار في المسألة روايتان.
وأما في الدارين إذا تهايئا على أن يسكن أحدهما هذه الدار، والآخر الدار الأخرى، ويؤاجر كل واحد منهما ما في يده، فهذه القسمة جائزة سواء كانا في مصر واحد أو في مصرين، لأن قسمة العين على هذا الوجه بالتراضي جائزة فكذا قسمة المنفعة، ولو طلب أحدهما المهايأة من القاضي بهذه الصفة وأبى الآخر فالقاضي لا يجبر الآبى عليها عند أبي حنيفة.
هكذا ذكره الكرخي في «كتابه» وإليه مال شيخ الإسلام؛ لأن قسمة الجبر لا تجري في غير الدور بهذه الصفة عند أبي حنيفة، فكذا المهايأة.(7/381)
وذكر شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله: أن القاضي يجبر الآبي على هذه القسمة عند أبي حنيفة أيضاً، بخلاف قسمة العين على قوله.
والفرق: أن القسمة في المهايأة تلافي المنفعة دون العين، ومنفعة السكنى تتفاوت، ولا تتفاوت إلا يسيراً فكانت المهايأة إقراراً لا مبادلة فجاز أن يجري الجبر عليها، بخلاف قسمة العين، فالقسمة هناك ملاقي العين والمالية والدور في المالية تختلف، فكانت القسمة مبادلة فلا يجري الجبر عليها.
فإن غلت إحدى الدارين ولم تفل الدار الأخرى، فليس للذي لم تفل داره أن يشارك الآخر في نحلة داره؛ لأن الذي غلت داره إنما آجر داره لنفسه بإذن شريكه، ولو أجرها لنفسه بغير أذن شريكه كانت الغلة له، فكذا إذا أجرها بإذن شريكه، وتكون الغلة طيباً له؛ لأن الإجارة حصلت بإذن الشريك، وفي الدار الواحدة إذا تهايئا على الاستغلال زماناً، فأغلت في نوبة أحدهما أكثر، فالزيادة والفضل بينهما؛ لأن معنى الإقرار والقسمة في الدارين أرجح على معنى أن كل واحد منهما وصل إلى المنفعة والغلة في الوقت الذي يصل إليها صاحبه، فما يستوفيه كل واحد منهما عوض عن قديم ملكه استوجبه بعقده فيسلم له، وفي الدار الواحدة إذا تهايئا في الاستغلال زماناً، فأحدهما يصل إلى الغلة قبل وصول الآخر إليها، وذلك لا يكون قصة للقسمة فيجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في إجارة نصيب صاحبه، وما يقبضه كل واحد منهما يجعل عوضاً عما يقبض صاحبه من عوض نصيبه، والمعاوضة تقتضي التساوي، فعند التفاضل يثبت التراجح فيما بينهما فيستويا.
وإذا آجر كل واحد منهما الدار التي في يديه، وأراد أحدهما أن ينقص المهايأة ويقسم رقبة الدار فله ذلك، وهذا إذا مضى مدة الإجارة، فأما إذا لم تمض فليس للآخر نقض المهايأة؛ صيانة لحق المستأجر.
والمهايأة في النخل والشجر على أكل الغلة باطلة؛ لأن غلة النخل والشجرة عين تبقى بعد الحدوث، وإنما جوزنا المهايأة فيما لا تتأتى فيها القسمة بعد الوجود، أو ما يكون عوضاً عنه كغلة الدار ونحوه؛ ولهذا لا تجوز المهايأة في الغنم على الأولاد والألبان والأصواف؛ لأنه يتأتى فيها القسمة بعد الوجود حقيقة.
وإذا تهايئا في استخدام عبد واحد على أن يستخدم العبد هذا شهراً ويستخدمه هذا شهراً فالتهايئ جائز، وكذلك إذا تهابئا في استخدام العبدين تهايئا على أن يستخدم هذا هذا العبد شهراً، ويستخدم هذا هذا العبد الآخر شهراً فهو جائز، أما في العبد الواحد؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم، ألا ترى لو طلب أحدهما المهايأة على هذا الوجه، وأبى الآخر يجبر الآبي عليها، ويجوز بتراضيهما ما لا يوجبها الحكم، فلأن يجوز ما يوجبه الحكم أولى؛ ولأن التفاوت من النصيبين إنما يتمكن من وجه واحد من حيث إن نصيب أحدهما بعد ونصيب الآخر بسنة أنها لم يتمكن التفاوت في مقدار الخدمة؛ لأن البادئ منهما إنما يستخدم العبد في نوبته بحكم الملك فلا مانع (11ب4) .
في الاستخدام على(7/382)
نصفه لأنه لا يضر بالعبد المشترك، فالخدمة في الشهر الأول لا يضعفه عن الخدمة في الشهر الثاني، وإذا كان التفاوت من وجه واحد كان يسيراً فلا يمنع اعتبار معنى الإقرار، فكان إقراراً من وجه مبادلة من وجه، فلا يحرم النساء بسبب الجنس.
وهذا بخلاف ما لو وقع التهايؤ في العبد الواحد على الاستغلال تهايئاً على أن يؤاجره هذا شهراً ويأكل غلته حيث لا يجوز بلا خلاف؛ لأن التفاوت بين النصيبين مثال يكن من وجهين من حيث النقد والنسيئة، ومن حيث مقدار الغلة؛ لأن البادئ من المستأجرين يستخدم العبد بحكم الإجارة، فبالغ في الاستخدام فيضعف فلا يستأجر المستأجر الثاني، وقد ضعف بمثل ما استأجره الأول وإذا وقع التفاوت من وجهين كان فاحشاً، ومتى فحش التفاوت لا تعتبر القسمة إقراراً بل تعتبر مبادلة من كل وجه كما في قسمة العين في الجنس المختلف إذا فحش، وإذا اعتبر مبادلة من كل وجه كان هذا مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها واحدهما نسيئة فيكون رباً فلا يجوز، وإن تراضيا عليه.
وأما في العينين فإنما جاز التهايؤ على الاستخدام؛ لأن قسمة العين على هذا الوجه بتراضيهما جائزة عند الكل، وإن كانت لا تجوز من غير تراض عند أبي حنيفة، فكذا قسمة المنفعة على هذا الوجه؛ ولأن العينيين إذا استويا في النظر والمنظر لا يتفاوتان في الخدمة إلا يسيراً فلا يمنع ذلك اعتبار معنى الإقرار، فتكون المهايأة في خدمتهما إقراراً من وجه، فلا يحرم النساء بسبب الجنس لما بينا أن حرمة النساء بسبب الجنس تختص بالمبادلات من كل وجه، ولو تهايئا في العينين على الاستغلال تهايئا على أن يؤاجر هذا هذا العبد شهراً فيأكل غلته، ويؤاجر هذا هذا العبد الآخر شهر فيأكل غلته لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وجاز في قول أبي يوسف ومحمد، هما يقولان: العبدان إذا استويا في النظر والمنظر والحرفة لا يتفاوتان في الغلة إلا يسيراً، فلا يمنع ذلك وقوع الإقرار، والتقريب ما ذكرنا في فصل الاستخدام.
ولأبي حنيفة: أن التفاوت في العينين في الاستغلال تفاوت فاحش فإنا نرى عبدين يستويان في النظر والمنظر، ويستأجر أحدهما بأكثر مما يستأجر به الآخر لزيادة حذاقة في أحدهما، فتعتبر المهايأة فيها مبادلة من كل وجه، فيحرم النساء بسبب الجنس وإن تراضيا عليه.
بخلاف ما لو تراضيا على قسمة العين على هذا الوجه حيث يجوز التهايؤ على استغلالهما مع فحش التفاوت عند أبي حنيفة؛ لأن التفاوت ثمة باعتبار معنى الدارية، فأما باعتبار الأرض فالتفاوت يسير بين الأرض والأرض، ولهذا كان قسمة الأراضين إقراراً من وجه مبادلة من وجه، فيمكن اعتبار معنى الإقرار في هذه المهايأة باعتبار معنى الأرض، ومهما أمكن اعتبار معنى الإقرار لا تثبت حرمة النساء بسبب الجنس، فأما ليس في العبد سنان يكون التفاوت باعتبار أحدهما فاحشاً وباعتبار الآخر يسيراً إنما هو شيء واحد خلق في الأصل على التفاوت تفاوتاً فاحشاً، فتعتبر المهايأة فيه مبادلة من كل وجه.g
في «المنتقى» : جاريتان بين رجلين لهما ابن تهايئا على أن ترضع هذه ابن هذا(7/383)
سنتين وترضع هذه ابن هذا سنتين كان جائزاً، قال: ولا يشبه هذا لبن البقر والإبل والغنم علل فقال: لأن ألبان بني آدم لا قيمة لها، وألبان هذه الأشياء لها قيمة.
وإذا تهايئا في الدابتين ركوباً واستغلالاً على أن يركب هذا هذه الدابة شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى، وتهايئا على أن يؤاجر هذا هذه الدابة شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى شهراً، فهذا جائز في قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، والكلام في التهايؤ في استغلال الدابتين نظير الكلام في التهاني في استغلال العبدين، وقد مرّ هذا في الكلام في التهايىء في الركوب، فوجه قول أبو حنيفة أن التفاوت في الركوب تفاوت فاحش.
ولهذا لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين الراكب لا يجوز، فتعتبر المهايأة مبادلة من كل وجه فيتمكن الربا؛ لأنه مقابلة منفعة بمنفعة من جنسها، ولهما أن التفاوت من وجه واحد وهو الراكب لا من حيث النقد والنسيئة، فكان يسيراً فتعتبر المهايأة إقراراً من وجه، فلا يتمكن الربا، وأما في الدابة الواحدة لا يجوز التهايؤ استغلالاً بلا خلاف، وهل يجوز التهايؤ ركوباً للشك أن على قول أبي حنيفة لا يجوز، وأما على قولهما ذكر شيخ الإسلام: أنه لا يجوز لأن التفاوت يمكن من وجهين، فتعتبر المهايأة مبادلة من كل وجه.
وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يجوز، وإذا تهايئا في مملوكين استخداماً فمات أحدهما، أو أبق انتقضت المهايأة؛ لأن كل واحد منهما إنما رضي بسلامة الخدمة للآخر بشرط أن يسلم له خدمة الذي في يديه، ولم يسلم، ولو استخدمه الشهر كله إلا ثلاثة أيام نقص الآخر من شهره ثلاثة أيام؛ لأنا لو زدناها زدناها بحكم الإتلاف لا بحكم العقد؛ لأن المهايأة لم تتناول ما زاد على الشهر، والمنافع لا تضمن بالإتلاف من غير عقد، فأما إذا نقضت ثلاثة أيام فلو نقضناها، نقضناها بحكم العقد؛ لأنه فات بعض المعقود عليه قبل القبض في مدة العقد فلا سلم الآخر ما بإزائه من البدل بحكم العقد، ولو أبق أحدهما الشهر كله، واستخدم الآخر الآخر الشهر كله فلا ضمان ولا أجر، وكان يجب أن يضمن أجر المثل؛ لأن المهايأة مبادلة من وجه والمبادلة من كل وجه لا تنفسخ بهلاك أحد العوضين قبل القبض بل تفسد.
ولهذا قالوا: من استأجر داراً بعبد وقبض الدار ولم يسلم العبد حتى هلك العبد ثم سكن الدار كان عليه أجر المثل؛ لأن بهلاك العبد فسد العقد، ولم ينفسخ، فصار مستوفياً سكنى الدار بحكم عقد فاسد.
والجواب: المهايأة مبادلة من وجه إقرار من وجه، فباعتبار المبادلة أن يتقوم المنافع، وباعتبار الإقرار لا يتقوم، فلا يتقوم بالشك، ولو عطب أحد الخادمين في خدمة من شرط له هذا الخادم فلا ضمان عليه؛ لأنه عطب من عمل مأذون فيه.
وكذلك المنزل لو انهدم من سكنى من شرط له فلا ضمان لما قلنا، وكذلك لو احترق المنزل من نار أوقدها فيه فلا ضمان؛ لأن هذا من جملة السكنى، ألا ترى أن(7/384)
المستأجر والمستعير يملكان ذلك والسكنى مأذون فيه.
وكذلك لو توضأ فيها فزلق رجل بوضوئه، أو وضع فيه شيء فعثر به إنسان فلا ضمان، ولو بنى فيها بناء أو احتفر بئراً فيها ضمن بقدر ما كان يملك صاحبه، حتى أنه إن كان ملك صاحبه الثلث ضمن الثلث.
وعندهما يضمن النصف على كل حال فقد جعله جانياً بالحفر، والثاني نصيب صاحبه وإن كان مأذوناً بالسكنى فيه، ومن أصحابنا من قال: هذا الجواب غلط في البناء، لأن البناء ليس إلا وضع الآجر والطين واللبن على بعض، ولو وضع جميع ذلك في الدار لا على وجه البناء لم يضمن كذا ها هنا.
قال شمس الأئمة الحلواني: فإن كان ما قال هؤلاء حقاً يجب أن يكون الجواب في المستأجر هكذا إذا بنى فيها بناء فعطب بها إنسان لا يضمن كما لو وضع فيه شيء.
قال رحمه الله: والرواية هاهنا بخلاف قولهم، والرواية هاهنا تكون رواية في فصل الإجارة إنه يكون مضموناً عليه.
أمة بين رجلين فخاف كل واحد منهما صاحبه عليها، فقال أحدهما: تكون عندك يوماً وعندي يوماً، وقال الآخر: بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل واحد منهما يوماً ولا أضعها على يدي عدل.
قال مشايخنا رحمهم الله: ويحتاط في باب الروح في جميع المواضع نحو العتق في الجواري والطلاق في النساء في فصول الشهادة وغير ذلك، إلا في هذا الموضع فإنه لا يحتاط لحسن ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي أن فلاناً يأتي جواريه في غير المأتي، أو يستعملهن في البغاء ويطأ زوجته في حالة الحيض وأمته من غير استبراء لا يكون (12أ4) للقاضي عليه سبيل لحسن ملكه هكذا، فإن تشاحا في البداية فالقاضي يبدأ بأيهما شاء وإن شاء أقرع، قال شمس الأئمة السرخسي: والأولى أن يقرع بينهما تطييباً لقلوبهما، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
عبد وأمة بين رجلين فتهايئا فيهما على أن تخدم الأمة أحد هما ويخدم العبد الآخر على أن كل واحد منهما طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة، فاعلم بأن ها هنا ثلاث مسائل في كل مسألة قياس واستحسان.
أحدهما: إنهما إذا سكتا عن ذكر الطعام، في القياس يجب طعام العبد والأمة عليهما نصفان، وفي الاستحسان يجب على كل واحد طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة، وفي الكسوة إن سكتا عن ذكرها يجب كسوة العبد والأمة عليهما نصفان، قياسا واستحساناً.
والثانية: إذا شرطا في المهايأة أن يكون على كل واحد منهما طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة ولم يقدر الطعام، القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز، وفي الكسوة إذا لم يبينا المقدار لم يجز قياساً واستحساناً.
والثالثة: إذا بينا مقدار الطعام فالقياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز،(7/385)
وكذلك في الكسوة إذا شرطا شيئاً معلوماً لا يجوز قياساً ويجوز استحساناً.
والمهايأة في رعي الدواب جائزة عندنا، وكذلك لو تهايئا على أن يستأجرا لهما أجيراً جاز، والمهايأة في دار وأرض على أن يسكن هذا الدار ويزرع هذا الأرض جائزة.
وكذلك المهايأة في دار وحمام والمهايأة في دار ومملوك على أن يسكن هذه الدار سنة ويخدم هذا المملوك سنة جائزة، وعلى الغلة باطلة عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
الفصل الثالث عشر: في المتفرقات
يجوز للقاضي أن يأخذ على القسمة أجراً ولكن المستحب له أن لا يأخذ، وهذا لأن القسمة ليست بقضاء على الحقيقة حتى لا يفترض على القاضي مباشرتها، وإنما الذي يفترض عليه جبر الآبي على القسمة إلا أن لها شبهاً بالقضاء من حيث إنها تستفاد بولاية القضاء حتى ملك جبر الآبي ولم يملك الأجنبي ذلك، فمن حيث إنها ليست بقضاء جاز أخذ الأجر عليها، ومن حيث إنها تشبه القضاء يتسحب أن لا يأخذ الأجر عليها.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: أجر قاسم الدور والأرضين على عدد الرقمين، وقالا: على قدر الأنصباء.
وصورته: دار بين ثلاثة نفر، لأحدهم نصفها وللأخر ثلثها وللآخر سدسها.
وجه قول أبي حنيفة: أن عمل القيام واقع لهم بالسوية، لأن عمل القيام تعيين نصيب كل واحد منهم ولا يمكنه ذلك إلا بمساحة الكل، فهو معنى قولنا: عمل القيام واقع لهم بالسوية، فيكون الأجر عليهم بالسوية، وهما يقولان: عمل القيام في نصيب صاحب الكثير أكثر لأن عمله المساحة والذرع، وأنه يكثر بكثرة المحل.
قالوا: وهذا إذا طلبوا من القاضي القسمة بينهم فقسم بينهم قاسم القاضي، فأما إذا استأجروا رجلاً بأنفسهم فإن الأجرة عليهم بالسوية وهل يرجع صاحب القليل على صاحب الكثير بالزيادة، قال أبو حنيفة: لا يرجع، وقالا: يرجع، وكذلك إذا وكلوا رجلاً ليستأجر رجلاً يقسم بينهم فاستأجر الوكيل فإن الأجرة على الوكيل، واختلفوا في الرجوع قال أبو حنيفة يرجع عليهم بالأجرة على السواء، وقالا: يرجع على كل واحد منهما بقدر الملك، وإذا استأجروا ليبني حائطاً مشتركاً أو يطبق سطحاً مشتركاً أو يكري نهراً أو يصلح قناة فالأجر بينهما على قدر الأنصباء بالإجماع.
وإذا استأجروا رجلاً لكيل طعام مشترك، أو لذرع ثوب مشترك إن كان الاستئجار للقسمة فهو على الخلاف الذي بينا، وإن كان الاستئجار على نفس الكيل والذرع ليصير الكل معلوم القدر فالأجر على قدر الانصباء.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في أكرار حنط بين رجلين، فأجر الكيال على الانصباء وأجر الحساب على الرؤوس، قال: ما كان من عمل فهو على الأنصباء، وما(7/386)
كان من حساب فهو على الرؤوس في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما على الأنصباء، وإذا طلب أحد الشريكين القسمة وأبى الآخر فأمر القاضي قاسمه ليقسم بينهما، روى الحسن عن أبي حنيفة أن الأجرة على الطالب لأن القسمة واقعة للطالب، وعلى الآبي لأن الطالب إنما يطلب القسمة عادة لمنفعة له فيها، والممتنع إنما يمتنع عنها عادة لضرر يخافه، وقال أبو يوسف: الأجر عليهما.
في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: قاسم قسم داراً بين اثنين، وأعطى أحدهما أكثر من الآخر غلطاً، وبنى بعضهم في نصيبه قال: يستقبلون القسمة فمن وقع بناءه في قسم غيره رفع بناءه ولا يرجعون على القاسم بقيمة البناء، ولكن يرجعون عليه بالأجر الذي أخذ.
وفيه أيضاً هشام عن محمد: أرض بين رجلين بناها أحدهما فقال الآخر للباني: ارفع بناءك عنها، قال: يقسم الأرض بينهما فما وقع من البناء في نصيب غيره يرفع.
وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة في أجرة أحد الشريكين إذا بنى في أرض مشتركة بغير إذن شريكه فلشريكه أن ينقص بناءه لأن له ولاية النقض في نصيبه والتمييز غير ممكن.
وفيه أيضاً: عبدان بين رجلين غاب أحد الرجلين فجاء أجنبي إلى الشريك الحاضر، وقال: قاسمني هذين العبدين على فلان الغائب فإنه سيجيز قسمتي فقاسمه الحاضر وأخذ الحاضر عبداً وأخذ الأجنبي عبداً، ثم قدم الغائب وأجاز القسمة ثم مات العبد في يد الأجنبي فالقسمة جائزة، وقبض الأجنبي له جائز ولا ضمان عليه فيه، وإن مات قبل الإجازة بطلت القسمة وللغائب نصف العبد الباقي، فهو بالخيار في تضمين حقه من العبد الميت، إن شاء ضمن الذي مات في يده وإن شاء ضمن شريكه، وإنما ضمن لا يرجع على الآخر بما ضمن.
قال في «نوادر ابن رستم» في المتقاسمين: إذا ميز نصيب أحدهما بالقسمة وفيه شجر أغصانها مطلة على قسم الآخر فله أن يطالبه بقطع الأغصان، رواه عن محمد، وروى ابن سماعة عنه أنه ليس له ذلك لأن الذي أصابه الشجر استحق الشجرة بجميع أغصانها.
قال في «الأصل» : وإذا أصاب الرجل في القسمة ساحة لا بناء فيها وأصاب الآخر البناء فأراد صاحب الساحة أن يبني ساحته ويرفع بناءه فقال صاحب البناء: إنك تسد علي الريح والشمس فلا أدعك ترفع بناءك فلصاحب الساحة أن يرفع بناءه ما بدا له، وليس لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، وقال نصر بن يحيى وأبو القاسم الصفار: لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، والوجه بظاهر الرواية أن صاحب البناء كان ينتفع بهواء ملك صاحب الساحة قبل البناء فصاحب الحائط إذا سد الهواء بالبناء فإنما حقه من الانتفاع يملكه ولم يتلف عليه ملكاً ولا منفعة ملك، ولا يمنع من ذلك.
فصار كما لو كان لرجل شجرة يستظل بها جاره أراد قلعها لا يمنع منه، وإن كان(7/387)
فيه ضرر للجار؛ لأن صاحب الشجرة بالقلع يمنعه عن الانتفاع بملك نفسه، وتصير هذه المسألة رواية في فصل لا رواية لها في الكتب.
وصورتها: دوخانة است حريكي يك سنية يكي راروزن نيست طاخمها است به روى بام خانه ويكن خدا وندد يكرسهدا مدتا خان حوشي رادو سنية كندا بن خدا وند طافحها بازمي داروش سيكريد طافحها من ستة ميشود هل له أن يمنعه؟ ينبغي أن لا يكون له المنع على قياس هذه المسألة، لأن صاحب البيت الآخر يجعل بيته ذي سقفين يمنع صاحب الطافحات عن الانتفاع بهواء ملك نفسه كما في هذه المسألة.
وقد ذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» : إن كان البنيان في القديم لسقف واحد، فلصاحب الطافحات أن يمنعه من ذلك، وإن كانا في القديم بسقفين فليس له أن يمنعه.
قال رحمه الله: وحد القديم أن لا يحفظ أقرانه وراء هذا الوقت كيف كان، فجعل أقصى الوقت الذي يحفظه الناس حد القديم، ويبنى عليه الأمر فعلى ما ذكره الصدر الشهيد يحتاج إلى الفرق بين المسألتين.
والفرق: أن في مسألة البيتين الذي يريد البناء يمنع صاحبه عن الضوء والضوء من الحوائج الأصلية، وفي مسألتنا يمنعه عن الشمس والريح وذلك من الحوائج الزائدة، وكذلك لصاحب الساحة أن (12ب4) يتخذ فيها حماماً أو تنوراً أو بالوعة أو بئر ماء، لأنه يتصرف في خالص ملكه وينتفع به انتفاع مثله، وإن نزّمن بئره حائط جاره لا يجبر على تحويله ولا يضمن ما سقط من حائط جاره، وكذلك لو أراد أن يجعل فيها رحاً أو حداداً أو قصاراً فليس لصاحبه منعه.
وحكي عن بعض مشايخنا: أن الدار إذا كانت مجاورة لدور، فأراد صاحب الدار أن يبني فيها تنوراً للخبز الدائم، أو رحاً للطحن، أو مدقاة للقصارين لم يجز لأنه يضر بجيرانه ضرراً فاحشاً، وإن أراد أن يعمل في داره تنوراً صغيراً على ما جرت به العادة جاز.
وكان أبو عبيد الضميري إذا استفتي عمن أراد أن يبني في ملكة تنوراً للخبز في وسط البزازين تارة كان يفتي بأن له ذلك وتارة كان يفتي بأنه ليس له ذلك، والحاصل في هذه المسائل في أجناسها أن القياس أن من تصرف في خالص ملكه لا يمنع منه في، وإن كان يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير، لكن ترك القياس في موضع يتعدى ضرر يعود إلى غيره ضرراً بيناً.
وقيل: بالمنع، وبه أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله وعليه الفتوى.
إذا كانت الدار في سكة غير نافذة مات صاحب الدار وتركها ميراثاً بين ورثه فاقتسم ورثته فيما بينهم على أن يفتح كل واحد منهم في نصيبه باباً إلى السكة كان لهم ذلك، وإن أبى أهل السكة ذلك لأن الورثة قائمون مقام الميت، والميت لو كان حياً كان له أن يفتح باباً آخر إلى السكة وأن يكبر جميع الحائط الذي يلي السكة، لأنه يكبر جدار هو خالص(7/388)
ملكه ويمر في طريق هو طريق هذه الدار فكذا ورثته، وإذا كانت مقصورة بين ورثته بابها في دار مشتركة ليس لأهل المقصورة فيها إلا طريقهم فاقتسموا المقصورة على أن يفتح كل واحد منهم باباً في نصيبه في هذه الدار، فإنه ينظر إن كان الطريق المرفوع للمقصورة ملازقاً لحائط المقصورة طولاً حتى يجعل فتح كل واحد منهم باباً في نصيبه إلى طريق المقصورة في الدار كان لهم ذلك.
وإن لم يكن طريق المقصورة ملازقاً لحائط المقصورة طولاً بل كان بحذاء باب المقصورة طولاً إلى الباب العظمى من الدار لا يكون لهم ذلك؛ لأنهم بفتح الباب إلى الطريق لا يأخذون أكبر من حقهم من الدار التي فيها طريق المقصورة، أما بفتح الباب إلى ناحية أخرى من الدار سوى طريق المقصورة يأخذون أكثر من حقهم.
يوضحه: أن لهم طريقاً واحداً في موضع معلوم من عرصة الدار، وهم يريدون أن يجعلوا جميع العرصة ممراً فيمنعون من ذلك.
بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: معنى قوله في «الكتاب» في هذه الصورة أنهم يمنعون من ذلك أنهم يمنعون من التطرق في غير الموضع المعروف طريقاً لهم في صحن الدار ما لا يمنعون عن نفس فتح الباب، لأنهم يتصرفون في خلاص ملكهم.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة؟: بل يمنعون عن فتح الباب؛ لأنهم لو فتحوا فإذا تقادم العهد لا بما يدعون أن لهم طرقاً في صحن الدار ويبدلونها على ذلك بالباب المركب، فلهذا يمنعون عن فتح الباب، فإن كان لصاحب المقصورة دار أخرى إلى جنب هذه المقصورة بابها إلى سكة أخرى فصارت المقصورة والدار ميراثاً بين ورثة فوقعت المقصورة في قسم أحدهم والدار في قسم آخر، وحائط الدار لزيق طريق المقصورة فأراد صاحب الدار أن يفتح طريقاً إلى طريق المقصورة حتى يمر ويتطرق فيه إلى الدار منع منه.
فإما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً بأن كان الذي أصابه المقصورة اشترى الدار، أو كان الوارث للمقصورة والدار واحد، فأراد أن يفتح باباً لهذه الدار إلى طريق المقصورة ليس له ذلك نص عليه في كتاب الشرب، وهذا لأن متى فتح باباً إلى طريق المقصورة صار طريق المقصورة صار طريق المقصورة طريقاً للدار، وفي ذلك ضرر في الثاني على الشركاء في طريق المقصورة فإنه إذا بيع هذه الدار بحقوقها يدخل هذا الطريق في بيع الدار فيزداد شريك آخر في هذا الطريق بعد ما لم يكن، وفيه ضرر على أصحاب الطريق.
فأما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً، وأراد أن يفتح باباً من الدار إلى هذه المقصورة حتى يتطرق في الدار من طريق المقصورة، فإنه لا يمنع من ذلك إذا كان هو الساكن في الدار غير الساكن في المقصورة بأن أجر الدار من غيره وترك المقصورة لنفسه، فأراد أن يفتح للدار باباً في المقصورة حتى يمرّ المستأجر في طريق المقصورة إلى المقصورة ثم يمر إلى الدار يمنع عنه، لأنه يريد أن يزيد في طريق المقصورة شريكاً في(7/389)
الحال.
وإن كان أجر الدار والمقصورة جميعاً من رجل، ثم أراد أن يفتح للدار باباً في المقصورة لا يمنع؛ لأن الساكن في هذه الصورة واحد وهو المستأجر لأنه لا يبقى للآخر حق المرور فلا يزداد الشريك في طريق المقصورة.
دار بين رجلين اقتسماها بينهما وفيها طريق لغيرهما، فأراد صاحب الطريق أن يمنعهما عن القسمة ليس له ذلك لأن الطريق إن كان محدوداً فهما إنما يقسمان ما وراء ذلك، وذلك حقهما على الخصوص، وإن لم يكن مقداره معلوماً يترك للطريق قدر عرض باب العظمى إلى باب منزل صاحب الطريق، ويقسمان ما وراء ذلك ولاحقّ لصاحب الطريق فيما وراء ذلك.
ولو أراد بعضهم قسمة هذا الطريق وأبى البعض لا يقسم، لأن هذه القسمة تتضمن تفويت منفعة الطريق، وهو التطرق وإن باعوا هذه الدار وهذا الطريق برضاهم فالثمن يقسم بينهم أثلاثاً، ثلثاه لصاحبي الطريق وثلثه لصاحب الممر يريد به حصة الطريق من الثمن؛ لأن الثمن بدل الطريق، والطريق بينهم أثلاثاً إذا لم يعلم مقدار الأنصباء فيه فيكون ثمنه بينهم أثلاثاً أيضاً هكذا ذكر في «الأصل» .
وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان رقبة الطريق مشتركة بينهم، فأما إذا كان رقبة الطريق مشتركاً بين الشريكين، ولصاحب الطريق حق المرور لا غير، كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: الثمن لهما وقد سقط حق صاحب الاختيار، لأنه حق لا يجوز الاعتياض عنه ولهذا لا يجوز بيعه، فلما أذن في البيع أسقط حقه، وهذا إشارة إلى الرواية التي لا يجوز فيها بيع حق المرور على الانفراد.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح هذا الكتاب: أن الثمن بينهما أثلاثاً وإن كان لصاحب الطريق حق المرور، قال: لأن حق المرور وإن كان منفعة حقيقة فقد أعطي له حكم العين ولذلك جاز بيعه، ولو كان عيناً على الحقيقة كان الثمن بينهما أثلاثاً كذا هاهنا، وهذا إشارة إلى الرواية التي يجوز بيع حق المرور فيها بانفراده.
وروي عن محمد في هذه الصورة: أن كل واحد من شريكي الطريق بحصته والبقعة وصاحب الطريق مضرب بحق الاستطراق.
وطريق معرفة ذلك: أن ينظر إلى قيمة البقعة والطريق فيها وينظر إلى قيمتها وفيها طريق فيضرب صاحب الطريق بفضل القيمة فيما بين ذلك، ويضرب واحد من شريكي الطريق بنصف قيمة البقعة إذا كان فيها طريق. وإذا كانت الدار فيها طريق لرجل وطريق لآخر من ناحية أخرى، أراد أهل الدار قسمتها ومنعهم أهل الطريق، فإنه يترك لهما طريق واحد كما لو كان الحق لواحد، لأن الطريق إنما يرفع للمرور، والطريق الواحد يكفي لهما للمرور وصار هذا وما لو كان حق المرور للواحد سواء. والله تعالى أعلم بالصواب.(7/390)
كتاب الإجارات
هذا الكتاب يشتمل على أربعة وثلاثين فصلاً:
1 * في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة، وفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها وما يصلح أجرة وما لا يصلح.
2 * في بيان أنه متى تجب الأجرة.
3 * في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة.
4 * في تصرف المؤجر في الأجرة.
5 * في الخيار في الإجارة والشرط فيها.d
6 * في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر.
7 * في إجارة المستأجر.
8 * في انعقاد (13أ4) الإجارة بغير لفظ وفي الحكم ببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ماينافيها.
9 * فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه، وما لا يكون.
10 * في إجارة الظئر.
11 * في الاستئجار للخدمة ويتصل به إجارة الصبي والاستئجار له.
12 * في صفة تسليم الإجارة.
13 * في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك.
14 * في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها.
15 * في بيان ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز وإنه يشتمل على أنواع نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة، ونوع يفسد العقد فيه لمكان الشرط، ونوع في قفيز الطحان وما هو في معناه، ونوع في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره، ويتصل به مسائل الشيوع في الإجارة، ونوع في الاستئجار على الطاعات، ونوع في الاستئجار على المعاصي، ونوع في المتفرقات.(7/391)
16 * فيما يجب على المستأجر، وفيما يجب على الأجير، ويتصل به فصل التوابع.
17 * في الرجل يستأجر فيما هو شريك فيه.
18 * في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما يصلح.
19 * فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخاً.
20 * في إجارة النبات والأمتعة، والحلي والفسطاط وأشباهها.
21 * في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر.
22 * في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنها والتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر.
23 * في استئجار الحمام والرحى.
24 * في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه.
25 * في الاختلافات الواقع بين الآجر والمستأجر وفي الدعاوى في الخصومات وإقامة البينات وإنه يشتمل على أنواع: نوع منه في الاختلاف الواقع بين الشاهدين في الأجر، وفي اختلاف الواقع بين الآجر والمستأجر في المبدل أو في البدل.
26 * في استئجار الدواب.
27 * في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والصياع والتلف وغير ذلك.
28 * في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك، وإنه أنواع: نوع في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، نوع في الحمال ومكاري الدابة والسفينة، نوع في النساج والخياط، نوع في المسائل العائدة إلى الحمام، نوع في البقار والراعي والحارس، نوع في القصار وتلميذه، نوع في المتفرقات.
29 * في التوكيل في الإجارة.
30 * في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى.
31 * في النصيف.
32 * يقرب من المسائل التي هي بمعنى قفيز الطحان.
33 * في الاستصناع.
34 * في المتفرقات.(7/392)
الفصل الأول: في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارةوفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها
فأما بيان لفظها فنقول الإجارة إنما تنعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي نحو أن يقول أحدهما أجرت، ويقول الآخر: قبلت استأجرت، ولا تنعقد بلفظين أحدهما يعبر به عن المستقبل نحو: أجرتني، فيقول: أجرت، وهذا لأن الإجارة بيع المنفعة فتعتبر العين وفي بيع العين إنما ينعقد العقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي، ولا تنعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل كذا هاهنا، وتنعقد بلفظ العارية أيضاً حتى أن من قال لغيره: أعرتك هذه الدار شهراً بكذا، أو قال: كل شهر بكذا، وقبل المخاطب كان ذلك إجارة صحيحة.
ذكر شيخ الإسلام في كتاب الهبة في باب العطية: فأما العارية لا تنعقد بلفظ الإجارة حتى أن من قال لغيره: أجرتك داري هذه بغير شيء كان إجارة فاسدة لا عارية.
وفي باب العوض في الهبة من شرح الصدر الشهيد رحمه الله: إذا وهب منفعة الدار من آجر شهراً بعشرة دراهم أو أعاره عيناً شهراً بعشرة دراهم حكى أبو طاهر الدباس رحمه الله عن أبي حنيفة رضى الله عنه أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة، وبعد استيفاء المنفعة يعتبر إجارة.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: أن الإجارة تنعقد بلفظ الهبة والصلح، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الهبة أيضاً، والإجارة بلفظ الهبة
وفي العطية من هبة «الأصل» إذا قال: داري هذه لك هبة إجارة كل شهر بدرهم، أو قال: إجارة هبة فهي إجارة في الوجهين، ولم يذكر في الكتاب أن هذه الإجارة هل تكون لازمة، وذكر الجصاص رحمه الله أنها لا تكون لازمة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع قبل القبض، ويكون لكل واحد منهما أن يفسخ قبل القبض، وإذا سكنها يجب عليه أجر المثل وإذا قال لغيره بعت منك منافع هذه الدار كل شهر بكذا، أو قال: شهراً بكذا ذكر في «العيون» : أن الإجارة فاسدة.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن فيه اختلاف المشايخ، وهذا لأن القياس يأبى جواز الإجارة لأن محل حكم الإجارة المنفعة، وإنها معدومة والمعدومة لا تصلح محلاً لحكم العقد ولإضافة العقد إليه إلا أن الشرع ورد بجوازها إذا باشر العقد على العين بلفظي الإجارة، أو باشر على المنفعة بلفظ الإجارة، ولفظ الإجارة لا يختص بتمليك الأعيان ولا يلحق بلفظ الإجارة.
والبيع يختص بتمليك الأعيان فلا يلحق به(7/393)
العارية والهبة، والتمليك يختص بملك الأعيان فيلحق بها، وعن هذا قلنا: إذا قال أجرتك منافع هذه الدار شهراً بكذا، وهبت لك منافع هذه الدار شهراً بكذا، ملكتك منافع هذه الدار شهراً يجوز فيبقى لفظ البيع على القياس، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح في آخر باب الصلح في العقار: إذا ادعى رجل شقصاً من دار في رجل وصالحه المدعى عليه على سكنى بيت معلوم من هذه الدار عشر سنين جاز، فلو آجره يعني هذا البيت المصالح عليه من الذي صالحه جاز عند أبي يوسف خلافا لمحمد.
وهذا بناء على أن محمداً رحمه الله يعتبر هذا العقد إجارة، وليس للمستأجر أن يؤاجر من الآجر وأبو يوسف يقول: إن المدعي مالك منفعة هذا البيت بعقد بل ترك بعض حقه وقنع بالبعض، فإنما بقيت المنفعة على أصل ملكه فيملك أن يؤاجر من كل أحد، ولو باع المدعي هذا السكنى بيعاً من رجل لم يجز.
بعض مشايخنا قالوا: إنما لم يجز بيع السكنى لترك التوقيت لا؛ لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وقال بعضهم: لا يجوز بيع السكنى وإن كان موقتاً، لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع. قال شيخ الإسلام: فصل بيع السكنى يشكل عندي، لأن لفظ البيع تمليك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة فكان ينبغي أن يجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة به مجازاً.
قال رحمه الله: والوجه في ذلك أن المنفعة معدومة في الحال واتخاذها ليس في وسع البشر، والمعدوم لا يصلح محلاً لإضافة العقد إليه إلا أن الشرع أقام العين الموجود وهو الدار المنتفع بها مقام المنفعة في جواز إضافة الإجارة إليها.
إذا ثبت هذا فنقول: لفظ البيع إن أضيف إلى الدار فهو صالح لتمليك عينها فلا يجعل مجازاً عن غيره، وإن أضيف إلى المنفعة فالمنفعة معدومة والمعدوم لا يصلح لإضافة العقد إليه حتى لو قال لغيره: بعتك نفسي شهراً بكذا بعمل كذا فهو إجارة، لأنه لا يصلح لتمليك عين الحر فيجعل مجازاً عن تمليك المنفعة، هكذا ذكر رحمه الله وجه التخريج وإنه مشكل عندي، لأن علة عدم جواز البيع ها هنا لو كانت هي العدم ينبغي أن لا تنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك وبالإجماع تنعقد.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح الحل: أن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وذكر ثمة عن الكرخي أنه كان يقول: الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، ثم رجع وقال: تنعقد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: أعطيتك هذا العبد لخدمتك منه بكذا جاز. وفيه أيضاً عن أبي يوسف رجل دفع إلى رجل ثوباً ليبيعه على أن ما زاد على كذا فهو له، قال: هذا على جهة الإجارة، وهذه إجارة فاسدة لو ضاع الثوب من يده ضمن.
وتنعقد الإجارة بالتعاطي فيما ذكر محمد في إجارات الأصل في باب إجارة النبات إذا استأجر (13ب4) قدوراً بغير أعيانها لا يجوز للتفاوت بين القدور من حيث الصغر والكبر، فإن جاء بقدور وقبلها منه على الكراء الأول جاز، ويكون هذه إجارة مبتدأة بالتعاطي.(7/394)
وأما بيان وقوعها فنقول: إنهما نوعان نوع يرد على منافع الأعيان كاستئجار الدور والأراضي والدواب والنبات وما أشبه ذلك، ونوع يرد على العمل كاستئجار المحترفين للأعمال نحو القصارة والخياطة وما أشبه ذلك.
وأما بيان شرائطها فنقول يجب أن تكون الأجرة معلومة، والعمل إن وردت الإجارة على العمل، والمنفعة إن وردت الإجارة على المنفعة، وهذا لأن الأجرة معقود به والعمل أو المنفعة معقود عليه، وإعلام المعقود به وإعلام المعقود عليه شرط تحرزاً عن المنازعة كما في باب البيع، وإعلام المنفعة ببيان الوقت، وهو الأجل أو بيان المسافة.
وإعلام العمل ببيان محل العمل، وإعلام الأجرة إن كانت الأجرة دراهم أو دنانير ببيان القدر، وببيان الصفة أنه جيد أو رديء وتقع على نقد البلد إن كان في البلد نقد واحد، وتقع على نقد البلد الذي وقع فيه الإجارة.
حتى أن من استأجر دابة بالكوفة إلى الري بدراهم فعلى المستأجر نقد الكوفة، وإن كان في البلد نقود مختلفة، فإن كانت النقود في الرواج على السواء أولا فضل للبعض على البعض، أي: لا صرف للبعض على البعض فالعقد جائز، ويعطى المستأجر أي النقود شاء.
وإن كانت الأجرة مجهولة، لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، وإن كانت النقود في الرواج على السواء وللبعض صرف على البعض فالعقد فاسد، لأن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وإن كان أحدهما أروج فالعقد جائز وينصرف إلى الأروج، وإن كان الآخر فضلاً عليه بحكم العرف.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا كانت الأجرة فلساً فغلى أو رخص قبل القبض فلأجر الفلس لا غير، وإن كسد فعليه قيمة المعقود عليه، وكذلك كل شيء مما يكال أو يوزن فما ينقطع إذا كان استأجر بشيء منه وجعل أجله قبل انقطاعه فهل مثل الفلس، وإن كانت الأجرة مكيلاً أو موزوناً أو عددياً متقارباً فإعلامها ببيان القدر والصفة، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء إذا كان له حمل ومؤنة وإن لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج إليه، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا يحتاج إلى ذلك في الأحوال كلها.
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في السلم لأن الأجرة دين لا يجب تسليمها عقيب العقد فصار نظير المسلم إليه غير أن عندهما في باب السلم يتعين موضع العقد للتسليم، وهاهنا لا يتعين في إجارة الأرض والدار سلم عند الأرض والدار المستأجرة، وفي العمل بيده حيث تم فيه العمل.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف: رجل استأجر أرضاً بطعام إلى أجل ولم يسم أين يقبض الطعام، قال: هو جائز في قولي وقول أبي حنيفة، وقال محمد: هذا بخلاف السلم في قول أبي حنيفة.
وإذا كانت الأجرة عروضاً أو ثياباً يشترط فيه جميع شرائط السلم لأن الأجرة نظير(7/395)
المسلم فيه على ما مر، فيشترط فيه جميع شرائط السلم.
يوضحه: أن وجوب الثياب ديناً في الذمة عرف بالشرع بخلاف القياس، وإنما جاء الشرع به بطريق السلم فيشترط فيه جميع شرائط السلم، وفي هذا كله إذا كانت الأجرة عيناً فإعلامه بالإشارة، لأن الإشارة أبلغ أسباب التعريف.
وإذا كانت الأجرة حيواناً لا يجوز إلا إذا كان عيناً، لأن الحيوان لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال، وإذا كانت الأجرة منفعة إن كانت من جنس المعقود عليه لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وإن كان من خلاف جنس المعقود عليه جاز بلا خلاف.
بيان الأول: إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة، والمسألة بيننا وبين الشافعي فرع مسألة أخرى عرفت في كتاب البيوع أن الجنس في المثمنين يحرم النساء عندنا خلافاً للشافعي، حتى لو أسلم فرهياً في مرمي لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وبيع المنفعة بمنفعة من جنسها بمنزلة بيع العين بجنسه نساء، لأن النساء من البدل ما لا يكون عيناً والمنفعة ليست بمعين، لأنها معدومة فكان نساء، والجنسية في المثمنين تحرم النساء بخلاف ما إذا اختلف الجنس لأن النساء في الجنس المختلف ليس بحرام كما في بيع العين، حتى إنه لو أسلم فرهياً في مروي جاز، فهاهنا كذلك.
فإن قيل: إذا اختلف الجنس إن كان لا يفسد من العقد من هذا العقد يفسد من وجه آخر، لأن المنفعة دين من الجانبين والدينية من الجانبين توجب الفساد، وإن اختلف البدل.
قلنا: كلا البدلين من حيث الحقيقة إن لم يكن عيناً، لأنها معدومة إلا أن التي لم يصحبها حرف الباء تعتبر عيناً حكماً لأنها معقود عليه، ولا بد لانعقاد عقد المعاوضة من قيام المعقود عليه حالة العقد إذا لم يكن سلماً، وإذا كان كذلك أقيم محل المنفعة فيما لم يصحبه حرف الباء مقام المنفعة فيكون عيناً ولا ضرورة فيما صحبه حرف الباء، لأن ما صحبه حرف الباء يجوز أن يكون غير عين، ولا ضرورة بنا أن نعتبره عيناً ففي غير عين حقيقة وحكماً، والآخر اعتبر عيناً حكماً فكان بمنزلة بيع العين نساء بخلاف جنسه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : لا حتى في معاوضة الشران بالشران للأكداس لأنها استبدال منفعة بمنفعة من جنسها، ثم إذا قوبلت المنفعة بمنفعة من جنسها حتى فسد العقد واستوفى الآخر المنفعة كان عليه أجر المثل في ظاهر الرواية، وعن أبو يوسف أنه لا شيء عليه لأن المنفعة إنما تتقوم إذا قوبلت بالمتقوم.
وجه ظاهر الرواية: أن لفظة الإجارة لفظة معاوضة، فصار كما لو استأجر داراً ولم يسم الأجر، ويسكنها هناك بحسب أجر المثل فهاهنا كذلك.
ولو كان عبد واحد بين اثنين فتهايئا فخدم أحدهما يوماً ولم يخدم الآخر فلا أجر له، وقال أبو الحسن في «جامعه» : إذا كان عبد واحد بين اثنين آجر أحدهما نصيبه من صاحبه ليخيط معه شهراً على أن يصوغ نصيبه مع هذا شهراً، فإن هذا لا يجوز في العبد الواحد، ولا يجوز في العملين المختلفين إذا كان في عبدين.(7/396)
وأما بيان حكم الإجارة فنقول: حكم الإجارة وقوع الملك في البدلين كما في بيع العين يقع معاً كما فرعا من العقد إلا لمانع، وفي الإجارة يقع الملك في البدلين ساعة فساعة عندنا، لأن المعاوضة تقتضي التساوي لأن الظاهر من حال العاقدين أن لا يرضيان بالتفاوت، والملك في المنفعة يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة، وهذا لأن حكم العقد مبني على انعقادها والعقد ينعقد على المنفعة شيئاً فشيئاً على حسب حدوثها، لأن المنافع فيما يستقبل معدومة حالة العقد.
وشرط انعقاد العقد في حق الحكم إضافته إلى محل موجود، والأصل أن الشروط إذا تعذر اعتبارها إما أن يسقط اعتبارها، أو يقام غيرها مقامها كما في حق النائي عن الكعبة أقيمت جهة الكعبة مقام عين الكعبة وكما في حق عادم الماء أقيم التيمم مقام الماء، فكذا هاهنا محل المنفعة وهو الدار مقام المنافع في حق إضافة العقد إليها، ثم العقد في المنافع ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها وهذا كله مذهبنا، وينبني جواز الإجارة على مذهبنا انعقاد العقد فيما بين المتعاقدين، وهو الدرجة الأولى وانعقاده في حق الحكم وهو الدرجة الثانية.
ألا ترى أن البيع بشرط الخيار ينعقد فيما بين المتعاقدين ولا يعد الحكم في الحال، وتفسير انعقاد العقد في حق المتعاقدين أن يصير كلاهما.... وبعد الحكم في الثاني وكونه سبباً صفة للكلام والكلام مفتقر إلى وجود المتعاقدين لا إلى المحل.
وتفسير انعقاد العقد في حق الحكم في المحل لا بد له من المحل ومحل الحكم وهو المنافع معدومة في الحال فلأجل ذلك قلنا: لأن الإجارة في الحال غير منعقدة في حق الحكم بل هي تنعقد في حق المتعاقدين (14أ4) كالمضاف إلى وقت وجود المنفعة والمنعقد غير والمضاف غير.
ألا ترى أن من نذر وقال: لله علي أن أتصدق بدرهم يكون ناذراً في الحال ويلزمه ذلك، ولو قال: لله علي أن أتصدق يوم الخميس بدرهم لا يكون ناذراً في الحال بل يكون مضيفاً النذر إلى يوم الخميس كذا هاهنا العقد في حق الحكم مضاف إلى وقت وجود المنفعة، وليس بمنعقد في الحال أكثر ما فيه أن الصيغة مرسلة، إلا أنها مرسلة صورة أما مضافة معنى، وهذا لأن الأجر بعقد الإجارة تملك المنفعة لأن الإجارة لتمليك المنفعة وصار تقدير هذا العقد: ملكتك منافع هذه الدار والمنافع معدومة للحال فكان العقد مضافاً إلى وقت وجود المنفعة.
إذا ثبت هذا فنقول: إضافة العقد إلى زمان يستدعي وجود المحل في ذلك الزمان، أما لا يستدعي وجوده في الحال إذا ثبت أن الملك في المنافع يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة تحقيقاً للتساوي بين المتعاقدين على ما مر.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح.(7/397)
والأصل فيه: أن ما يصلح أن يكون ثمناً في البياعات يصلح أن يكون أجرة في الإجارات، وما لا يصلح أن يكون ثمناً في البياعات لا يصلح أجرة في الإجارات إلا المنفعة فإنها تصلح أجرة إذا اختلف الجنس ولا تصلح ثمناً، وإنما اعتبرنا الإجارة بالبيع لأن الإجارة بيع كسائر البياعات إلا أن سائر البياعات ترد على العين والإجارة ترد على المنفعة.
وإنما وقع الفرق بينهما في المنفعة، لأن الثمن يجب أن يكون مملوكاً بنفس البيع إذا لم يكن فيه خيار، والمنفعة لا تصير مملوكة بنفس العقد، لأنها معدومة أما الأجرة فليس من شرطها أن تملك بنفس العقد وكانت الإجارة كالنكاح فإن المنفعة تصلح مهراً في النكاح؛ إذ ليس من شرط المهر أن يملك بنفس العقد، فإن تسمية عبد الغير مهراً صحيح.
ومما يتصل بهذا الفصل
بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح، إذا أضاف العقد إلى وقت في المستقبل بأن قال: أجرتك داري هذه غداً وما أشبهه، وأنه جائز بناء على الأصل الذي ذكرنا أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، فالعقد في حق الحكم كالمضاف إلى وجود المنفعة فمبنى الإجارة في حق الحكم على الإضافة كيف تكون الإضافة مانعة صحة الإجارة، فلو أراد نقضها قبل مجيء ذلك الوقت، وعن محمد روايتان في رواية قال: لا يصح النقض، وفي رواية قال: يصح.
وجه هذه الرواية: أنه لم يثبت للمستأجر حق في هذا العقد إليه غير منعقد أصلاً، ولهذا لا يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة.
وجه الرواية الأولى: أن العقد قد انعقد فيما بين المتعاقدين، وإن لم ينعقد في حق الحكم فالآجر بالنقص يريد إبطال العقد المنعقد حقاً للمستأجر فلا يقدر على ذلك، وعلى هذه الرواية يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة، وكذلك إذا أراد الآجر بيع الدار قبل مجيء ذلك الوقت فيه روايتان، في رواية تنفذ إجارته ويبطل المضاف، وفي رواية قال: لا تنفذ كما في البيع كذا ذكره الطحاوي.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله إذا قال لغيره: إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك هذه الدار، إذا جاء غد فقد أجرتك هذه الدار يجوز وإن كان فيه تعليقاً، وإذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد فاسختك هذه الإجارة لا يجوز.
الفصل الثاني: في بيان أنه متى يجب الأجر
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر بيتاً شهراً بدرهم، قال: كلما سكن يوماً أخذ من الأجر بحساب ذلك، وكذلك الكراة إلى مكة، وكذلك في(7/398)
إجارة الأرض. يجب أن يعلم بأن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤه إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط التعجيل، والأجرة سواء كانت الأجرة عيناً أو ديناً.
هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» وفي كتاب «التحري» ، وذكر في الإجارات أن الأجرة إذا كانت عيناً لا تملك بنفس العقد، وإن كانت ديناً تملك بنفس العقد وتكون بمنزلة الدين المؤجل، عامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب «التحري» ، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الإجارات قول محمد أولاً، وما ذكر في «الجامع» «والتحري» قوله آخراً، وهذا لما ذكرنا أن الإجارة عقد معاوضة فتوجب المساواة بين المتعاقدين ما أمكن ما لم يغير بالشرط، كما في بيع العين.
ومتى قلنا إنه يجب إيفاء الأجر قبل استيفاء المنفعة تزول المساواة، ويفضل المؤاجر على المستأجر؛ لأن المؤجر يملك الأجرة بالقبض رقبة وتصرفاً، والمستأجر إن ملك المنفعة بقبض المستأجر تصرفاً لم يملك رقبة لما ذكرنا أن وقوع الملك في المنفعة يتأخر حال وجودها.p
فلهذا قلنا: إن إيفاء الأجر يتأخر إلى ما بعد استيفاء المنفعة، وإذا ثبت أن إيفاء الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع عندنا فنقول: كان أبو حنيفة أولاً يقول: لا يجب إيفاء شيء من الأجر إلا بعد استيفاء جميع المنفعة سواء كانت الإجارة معقودة على المدة كما في إجارة الدار والعبد، أو على قطع المسافة كما في كراء الدابة إلى مكان، أو على العمل كما في القصار والخياط والصباغ، فهو قول زفر ثم رجع.
وقال: إن وقعت الإجارة على المدة كما في إجارة الأرض والدواب والعبد، أو على قطع المسافة كاستئجار الحمال والدابة، فإنه يجب إيفاء الأجر بحصة ما استوفى إذا كان لما استوفى حصة معلومة من الأجر ففي الدار يوفي أجر يوم فيوم، وفي قطع المسافة إذا سار من حلة من حلة يجب عليه حصة ما استوفى.
قال القدوري: وهو قول أبي يوسف ومحمد وفي الإجارة التي تنعقد على العمل ويبقى له أثر في العين، فإنه لا يجب عليه إلغاء الأجر إلا بعد إيفاء العمل كله وإن كان حصة ما استوفى معلومة إلا أن يكون يعمل الخياط والصباغ في بيت صاحب المال يكون الجواب فيه كالجواب في الحمال على قوله الأجر، يجب على المؤجر إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة إذا كان له حصة معلومة من الأجر كما في الحمال.
فوجه قوله الأول: أنه ثبت من أصلنا أن إيفاء الأجر لا يجب إلا بعد استيفاء المنفعة، والأصل أن إيفاء أحد البدلين في العقد إذا كان لا يجب إلا بعد استيفاء البدل الآخر، فإنه لا يجب إيفاء شيء منه إلا بعد وجود استيفاء جميع البدل، كما في باب البيع فإنه لما وجب تسليم البيع بناء على إيفاء الثمن لا يجب تسليم شيء من المبيع قبل إيفاء جميع الثمن كذا هاهنا.
وجه قوله الآخر: أن القياس في باب البيع أن يجب على البائع تسليم المبيع بقدر ما استوفى من الثمن، حتى يستويا في ملك التصرف لأن المعاوضة تقتضي التساوي في(7/399)
المسألتين جميعاً وقد استويا في ملك الرقبة فيجب أن يستويا في ملك التصرف، لا أنا تركنا هذا القياس في بيع العين لما فيه من معنى الرهن وهو حبس المبيع بالثمن، وحكم الرهن حبس الرهن بالدين، ومن حكم الرهن أن لا يجب على المرتهن تسليم شيء من الرهن ما لم يوجد إيفاء جميع الدين فتركنا هذا القياس في البيع لما فيه من معنى الرهن.
وهذا المعنى لا يتأتى في كل إجارة ليس للمؤاجر حق الحبس بعد الفراغ من العمل وبعد إيفاء المنفعة لأن معنى الرهن إنما يثبت بثبوت حق الحبس للمؤاجر فكل إجارة ليس للمؤاجر فيها حق الحبس، كانت العبرة الحقيقة القياس.
وحقيقة القياس أن يستويا في ملك الرقبة وإنما يستويا في ملك الرقبة إذا وجب إيفاء الأجر بقدر ما يستوفي من المنفعة كان القياس أن يجب إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة، وأن قل ذلك حتى يستويا لكن تركنا القياس في القليل لأنه لا يعرف حصته من الأجر، وفيما لا يعرف حصته من الأجر أخذنا بالقياس وفي كل إجارة للمؤاجر حق الحبس حتى يثبت فيه منفعة الرهن كان بمعنى البيع.
وفي باب البيع إذا وجب (14ب4) تسليم المبيع بناء على إيفاء الثمن يعين وجوب التسليم بإيفاء جميع الثمن، ولا يجب تسليم شيء منه بإيفاء بعض الثمن فكذا في إجارة البيت للأجير حق الحبس وإيفاء الأجر في الإجارة بناء على إيفاء العمل، فيعلق إيفاء الأجر بإيفاء جميع العمل ولم يجب بإيفاء البعض.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: فيمن استأجر داراً يسكنها شهراً قال: لا يلزمه شيء من الأجر حتى يستكمل سكنى الشهر، وهو قياس ما لو استأجر حمالاً ليحمل له شيئاً من السوق إلى منزله فإنه لا يلزمه شيء من الأجر حتى تبلغ الحمولة إلى منزله، وكان القياس فيما إذا تكارى دابة إلى مكة بكذا، ولكن استحسن وقال: إذا سار نصف الطريق أو ثلثه لزمه التسليم بحساب ذلك.
قال القدوري: وهو قوله الآخر، وإذا شرط في عقد الإجارة تعجيل البدل وجب تعجيله، لأنه بدون الشرط إنما لا يجب تحقيقاً للتساوي، فإذا شرط التعجيل فقد أبطل التساوي، وإنه مما يقبل البطلان فيبطل.
ألا ترى أن في باب البيع وجب نقد الثمن قبل تسليم المبيع تحقيقاً للتساوي، ثم لو باع بثمن مؤجل يجب تسليم المبيع، لأنه أبطل التساوي، قال: وللمؤاجر حق حبس المنافع إلى أن يستوفي الأجر، لأن المنافع بمنزلة المبيع فكان له حبسها بما يقابلها من البدل كما في البيع، وله حق فسخ العقد إن لم يعجل، وكذا إذا عجل الأجرة من غير شرط ملكها؛ لأنه إذا عجل فقد أبطل ما يقتضيه مطلق العقد وذلك يحتمل البطلان، لأنه أثبت حقاً له وكما يجب الأجر باستيفاء المنافع يجب بالتمكن من استيفاء المنافع إذا كانت الإجارة صحيحة، حتى إن من استأجر داراً أو حانوتاً مدة معلومة ولم يسكن فيها في ذلك المدة مع تمكنه من ذلك يجب الأجر ولو لم يتمكن من السكنى بأن منعه المالك أو أجنبي لا تجب الإجارة.(7/400)
وكذلك إذا أجر داراً وسلمها إليه فارغاً إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر أو سلم إليه جميع الدار ثم انتزع بيتاً منها من يده رفع عن الأجر حصة البيت ولكن يشترط التمكن من الاستيفاء في المدة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد، فأما إذا لم يتمكن من الاستيفاء أصلاً أو تمكن من الاستيفاء في المدة في غير المكان الذي أضيف إليه العقد، أو تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف العقد خارج المدة لا يجب الأجر.
حتى أن من استأجر دابة يوماً لأجل الركوب فحبسها المستأجر في منزله ولم يركبها حتى مضى اليوم، فإن استأجرها للركوب في المصر يجب عليه الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لأن المكان الذي أضيف إليه العقد من المصر.
وإن استأجرها للركوب خارج المصر إلى مكان معلوم لا يجب الأجر إذا حبسها في المصر لعدم تمكنه من استيفاء المنافع في المكان الذي أضيف إليه العقد، لأن المكان الذي أضيف إليه العقد خارج المصر، ولا يتحقق التمكن خارج المصر من الركوب والدابة في بيته، فإن ذهب بالدابة إلى ذلك المكان في اليوم ولم يركب لا يجب الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد في المدة، وإن ذهب إلى ذلك المكان خارج المصر بعد مضي اليوم بالدابة ولم يركب لا يجب الأجر، وإن تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لهذا إنه تمكن بعد مضي المدة.
في «النوازل» : إذا استأجر دابة إلى مكة فلم يركبها بل مشى راجلاً، فإن كان بغير عذر في الدابة فعليه الأجر، لأن المعقود عليه ممكن الاستيفاء، وإن لم يركبها لعلة في الدابة أو لمرض بها بحيث لم يقدر على الركوب لا أجر عليه.
وهكذا ذكر في «العيون» عن أبي يوسف، وفي «نوادر» هشام قال: سألت محمداً عمن اكترى محملاً ليركبه إلى مكة فخلفه في أهله من غير عذر ولم يركبه فلا أجر لعدم التمكن من استيفاء المنفعة في مكان الاستيفاء وهو ضامن للمحمل أن أصابة شيء، لأن صاحب المحمل لم يرض بإمساكه على وجه لا يجب به الأجر فيصير بإمساك المحمل في منزله مخالفاً عاصياً، وكذلك لو استأجر المحمل شهراً ليركبة إلى مكة فقد جمع في المسألة التالية بين الوقت وبين العمل وهو الركوب، ومع هذا بنى الحكم على العمل إذ لو بنى الحكم على الوقت لوجب الأجر هاهنا.
كما لو استأجر حلياً يزين به عروسه فأمسك الحلي ولم يزينها يجب الأجر، إنما فعل كذلك لأن الغالب في هذه الصورة أن يراد بهذا العمل وهو الركوب إلى مكة، هذا كله في الإجارة الصحيحة.
أما في الإجارة الفاسدة يشترط حقيقة استيفاء المنفعة لوجوب الأجر وبعدما وجد الاستيفاء حقيقة إنما يجب الأجر إذا وجد التسليم إلى المستأجر من جهة المؤاجر، أما إذا لم يوجد التسليم لا يجب الأجر.
بيانه فيما ذكر في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً فلم يقبضه حتى أجره من(7/401)